دور التديّن في حياة أطفال المسلمين في الغرب
يحيى أبو زكريا
21/4/1426
ارسل تعليقك ...
لا توجد تعليقات ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
يعترف المسلم الملتزم وغير الملتزم في الغرب بأنّ تدينّ الأسرة المسلمة في الغرب هو الضمانة الأساسيّة للحفاظ على السلوك القويم للأطفال المسلمين الذين تستغرقهم الحياة الاجتماعية الغربيّة أكثر من آبائهم، باعتبار أنّ الأطفال المسلمين في الغرب وتحديداً الذين ولدوا في الغرب تستوعبهم المؤسسّات الغربية بدءاً من الحضانة وإلى المدرسة فمجمل مفاصل المجتمع الغربي وفي كل التفاصيل.
وبحكم الإيقاع الغربي السريع والضاغط، وبحكم أنّ المرأة المسلمة كالرجل المسلم مجبرة على الخروج من بيتها والتوجّه إلى مكان العمل أو الدراسة فإنّ الوقت المخصصّ للأولاد ضئيل للغاية، وللإشارة فإنّ العائلة المسلمة التي تعيش بفضل المساعدة الاجتماعية – أكثر من سبعين بالمئة من المسلمين في الغرب يعيشون بفضل المساعدة الاجتماعية التي تقدّم لهم من المؤسسّات الاجتماعية، وخصوصاً في دوّل شمال أوروبا السويد والدانمارك والنرويج وفنلندا وإيسلندا – مجبرة على أن تخضع لمّا تقررّه لها المؤسسّة الاجتماعية، حيث قد تجبر الأم على العمل في التنظيفات، والأب في المطاعم ويعد هذا العمل تطبيقيّاً يسمح باستمرار حصول هذه العائلة المسلمة على المساعدة الاجتماعية.
ويبقى القول: إنّ العوائل العربيّة والإسلامية وإن وجدت في خارطة غربيّة تعيش تحديّات قد تكون شبيهة بالتحديّات المحدقة بأبنائنا في العالم العربي والإسلامي، لكنّ تبقى التحديّات الغربيّة ذات شأن خطير
وبناءً عليه فإنّ العائلة المسلمة لا تقضي وقتاً كاملاً مع أولادها الذين تضطلع الحضانات والمدارس تلقينهم المبادئ الحضاريّة، و في هذا السيّاق يشار إلى أنّ مفردات الحضارة الغربية تاريخاً وحاضراً، ثقافة وسياسة وفنّاً واقتصاداً وأدباً يدرسها الأطفال في المدارس الغربيّة مع شيء من الخصوصيّة في كل دولة غربيّة، ففي السويد مثلاً عندما يدرس الطفل تاريخ أوروبا يتمّ التركيز على الدور السويدي في هذا التاريخ، وفي الدانمارك يجري التركيز على الدور الدانماركي وهكذا دواليك، فينشأ الطفل ينهل من الحضارة الغربيّة ومفرداتها وتبدأ ذاته الحضاريّة بالتلاشي وعقيدته الإسلاميّة في الذوبان ولا يبقى منه غير الاسم الإسلامي، والذي يتلاشى مدلوله مع مرور الأيّام.
وكثير من العوائل المسلمة وبحكم انهماكها في الإيقاع الغربي السريع وصعوبة العيش وامتداد ساعة العمل إلى وقت متأخّر من الليل، فإنّ صلة الآباء بأبنائهم تتضاءل، ويحدث أن يغادر الأبناء آباءهم عندما يصلون إلى السن الثامنة عشر تماماً(115/1084)
لينفصلوا بشكل نهائي عن ذويهم تماماً كما يفعل الشاب الغربي الذي يضطّر إلى ترك والديه في هذه السنّ ويعد ذلك من الضروريّات بل من الواجبات، وحتى إذا تقاعس الشاب الغربي عن القيّام بمثل هذه الخطوة يجبره والداه على الذهاب بعيداً عنهما ليعيش وحده وليعتمد على نفسه باعتبار أنّهما سلكا الدرب نفسه ولا فرق هنا بين الذكر والأنثى.
وممّا يزيد في ضياع أطفال المسلمين هو أنّ نسبة الأميّة الحضاريّة والدينيّة والعقائديّة والفقهيّة مرتفعة بين العوائل المسلمة بشكل مذهل، وهو الأمر الذي يفقد هذه العوائل آليات تحصين أبنائهم. وكثير من العوائل تشرع في التخليّ عن الالتزام ببديهيّات الأحكام الشرعيّة بالتقسيط، فتبدأ المسألة بترك الصلاة، ثمّ بترك الصيّام ثمّ عدم السؤال عن شرعيّة اللحوم وما إلى ذلك، وينتهي الأمر بشرب الخمرة والذهاب إلى المراقص على اعتبار أنّ ذلك من مظاهر التحضّر في الغرب.
وتشير معلومات ميدانيّة أنّ العوائل المتدينّة هي أكثر من غيرها في الحفاظ على أبنائها، حيث يضطّر الأب الملتزم والمتدين والأم الملتزمة والمتدينّة إلى متابعة الطفل في كافة تفاصيله الحياتيّة بدءاً من المدرسة وإلى المفاصل الأخرى، وكثيراً ما تذهب الأم الملتزمة إلى المدرسة التي يدرس فيها ابنها أو ابنتها فتطلب أن يكون الطعام المخصصّ لأولادها شرعيّاً، وتفهم المشرفين على المدرسة بأنّ لحم الخنزير محرّم أكله على المسلمين، كما أنّ بعض المواد الجنسيّة على وجه التحديد تقدّم بطريقة خاطئة للطفل، وكثيراً ما يساهم هذا الالتزام الديني الأسري في تسييج الطفل من الذوبان في واقع ملئ بالشهوات والمغريّات.
وحرص الأسر المسلمة على تعليم أبنائها الصلاة والصيّام وبقيّة الواجبات الإسلاميّة، واصطحاب الأطفال إلى المساجد كل ذلك يؤدّي إلى تماسك شخصيّة الطفل، وقد تبينّ أنّ هذا الالتزام يساعد الطفل المسلم في التفوّق في مدرسته، وتجنبّه كل الرذائل.
وفي شمال العالم على وجه التحديد بدأت المؤسسات الغربيّة تولي أهميّة للإسلام بل تحرص على تدريسه لأبناء المسلمين، إذ وجدت هذه المؤسسّات أنّ من ينشأ على المعتقد الإسلامي الصحيح سيكون خير عون للمجتمع الغربي، فالغرب الآن مبتلى بآفة المخدرّات والإسلام يحارب هذه الآفة ويحرمّها حرمة شرعيّة لا شبهة فيها، والغرب يحارب الاغتصاب الذي أبتليّ به حيث بات الاغتصاب يطاول حتى الفتيات اللائي لم يبلغن السن العاشرة والإسلام يحارب هذه الآفة، بل جريمة الزنا بشكل عام، والغرب يعلّم تلاميذ المدارس بأنّ الكذب والسرقة والقتل والسطو والتزوير والاعتداء على كرامة الإنسان صفات يمقتها الإنسان السويّ، والإسلام أقرّ بأنّ الكذب محرّم وجعل سمة المؤمن عدم الكذب وما إلى ذلك.
ومازلت أتذكّر أننّي التقيت يوما بأحد المسؤولين الغربيين وقلت له بأنّه من الخطأ الشنيع والفظيع أن تضعوا استراتيجيات لمحاربة الإسلام، بل عليكم أن تلوذوا به إذا أردتم القضاء على الآفات التي تعصف بكم وبواقعكم الاجتماعي على وجه التحديد، وقلت له: إنّ الطفل المسلم الذي ينشأ على عقيدة الإسلام هو شخص مثالي بالنسبة للغربيين، وأنتم تصبون إلى إنشاء جيل من هذا القبيل، بينما الطفل المسلم الذي لا(115/1085)
ينشأ على الالتزام يواجه خطر المخدرات والسرقة وغيرها من الآفات، فالحكمة تقتضي عدم الوقوف في وجه الإسلام إذن!!
ونظراً لدور الالتزام الديني في توجيه الأطفال توجيهاً صحيحاً فإنّ كثيراً من الآباء المسلمين غير الملتزمين يبعثون أولادهم إلى المدارس العربيّة والإسلامية التي أقامها بعض المسلمين لمساعدة الأطفال المسلمين على تعلّم لغتهم ودينهم. وقد تجد الأب مبتلى بالخمرة والأم بما هو أعظم إلاّ أنّهما يبعثان ابنهما إلى مثل هذه المدارس لتدارك ما فات.
وقد ازداد هذا التوجّه بعد أن ابتليت بعض الأسر العربيّة والإسلاميّة غير الملتزمة بالدين بضياع أبنائها لجهة توجّه الأولاد إلى المخدرات أو السرقة، وضياع مستقبلهم العلمي والتربوي وغير ذلك.
ويبقى القول إنّ العوائل العربيّة والإسلامية وإن وجدت في خارطة غربيّة تعيش تحديّات قد تكون شبيهة بالتحديّات المحدقة بأبنائنا في العالم العربي والإسلامي، لكنّ تبقى التحديّات الغربيّة ذات شأن خطير.
ـــــــــــــــــــ
البصيرة الإيمانية وإيجابية السلوك الشخصي
خالد السيد روشه
14/4/1426
ارسل تعليقك ...
تعليقات سابقة ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
يستشعر مسلم هذا العصر في لحظات متتابعة تمر به بنوع طمس لنورانية قلبه التي بها يرى الأشياء على حقيقتها، ويظل ذاك المسلم يشكو مما يشعر باحثاً عن رؤية صحيحة لما حوله، أن يرى الهدف، ويستبصر الطريق، ويعرف الحقائق الغائبة التي بها يتوقى الزلل والارتكاس...
وهو في بحثه ذاك قد لا يدرك ماهية ما يفقد في الحقيقة ولا أهمية ما يرتجي العثور عليه الذي هو مفتاح الصواب ومقوم النجاح ومميز الطريق.. إنها البصيرة الإيمانية التي تضيء الطريق وتبصر إلى الاستقامة..
فالبصيرة التي نتحدث عنها هي نور في القلب يقذفه الله للمؤمنين المخلصين له _سبحانه_، المتجردين عن التشبث بمتاع الدنيا الزائل...
كيف تعمل البصيرة في قلب المؤمن؟
إن عمل البصيرة الإيمانية في قلب المؤمن كعمل كشاف ضوء منير في وسط ظلمة حالكة، فهي التي تكشف الأشياء على حقيقتها فيراها المؤمن كما هي، ولا يراها كما زينت في الدنيا ولا كما زينها الشيطان للغاوين ولا كما زينها هوى النفس في الأنفس الضعيفة..(115/1086)
البصيرة الإيمانية هي التي تكشف الأشياء على حقيقتها فيراها المؤمن كما هي، ولا يراها كما زينت في الدنيا ولا كما زينها الشيطان للغاوين ولا كما زينها هوى النفس في الأنفس الضعيفة..
- يقول الله _سبحانه_: " أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله.." (الزمر: 22)
- ويقول _سبحانه_: " أومن كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها.." ( الأنعام: 122 ).
يقول الإمام ابن القيم: " أصل كل خير للعبد – بل لكل حي ناطق – كمال حياته ونوره، فالحياة والنور مادة كل خير.. فبالحياة تكون قوته وسمعه وبصره وحياؤه وعفته.. كذلك إذا قوي نوره وإشراقه انكشفت له صور المعلومات وحقائقها على ما هي عليه فاستبان حسن الحسن بنوره وآثره بحياته وكذلك قبح القبيح " (إغاثة اللهفان 1/24).
فما يكاد نور القرآن ونور الإيمان يجتمعان حتى لكأن النور الهادئ الوضيء يفيض فيغمر حياة المرء كلها ويفيض على المشاعر والجوارح، وينسكب في الحنايا والجوانح، تعانق النور، وتشرفه العيون والبصائر، فيشف القلب الطيب الرقراق، ويتجرد من كثافته ويتحرر من قيد العبودية غير عبودية الله الكبير المتعال، فإذا القلب المؤمن المبصر غاية في القوة والثبات وغاية في الطاعة والإخبات وغاية في التضحية والبذل بكل المتاع الزائل..
كيف تتكون البصيرة الإيمانية؟
البصيرة الإيمانية فضل ونعمة ينعم بها الله _سبحانه_ على عباده الطيبين، وتتكون جوانبها وأطرها من آثار خمسة أساسية:
الأثر الأول: هو أثر كلمة التوحيد " لا إله إلا الله " وأثر العلم بها نفيا وإثباتا وتطبيق شروطها بالحقيقة والإخلاص لها والإقبال عليها وحبها فمن قام بذلك فقد خرج من ظلمة الغفلة إلى نور التوحيد، ودليل ذلك وعلامته طاعة التشريع في أمره ونبذ الشرك والمبتدعات بجميع الأشكال
الأثر الثاني: هو أثر ترك الذنب والندم عليه وكرهه والعهد على عدم العودة إليه ودليل ذلك المسارعة إلى توبة نصوح متجددة دائما..
الأثر الثالث: هو أثر تحقيق عبودية القلب والجوارح، فينظر المرء إلى كل جارحة من جوارحه ويقيمها على استقامة العبودية لله وحده.
الأثر الرابع: هو أثر العلم بالشريعة العظيمة وبالقرآن وسنة النبي _صلى الله عليه وسلم_ والفقه فيهما.
الأثر الخامس: هو أثر التضحية بالطاقة والمجهود والمال والمحبوب لأجل نشر الفضيلة وعلو راية الحق والعدل والديانة.
وباختلاف قوة تلك الآثار الخمسة في قلب المؤمن تختلف قوة بصيرته ومن ثم تختلف رؤيته للحقائق ومعرفته للحق والباطل.
قال ابن القيم – رحمه الله – " قال الله _تعالى_: " إن في ذلك لآيات للمتوسمين " قال مجاهد يعني للمتفرسين وفي الترمذي من حديث أبي سعيد الخدري قول النبي(115/1087)
_صلى الله عليه وسلم_: " اتقوا فراسة المؤمن فإنه يرى بنور الله "، والتوسم التفرس ولهذا خص الله بالآيات والانتفاع بها هؤلاء...وبعث الله الرسل مذكرين ومنبهين ومكملين لما عند الناس من استعداد لقبول الحق بنور الوحي والإيمان فيضاف إلى ذلك نور الفراسة فيصير نوراً على نور فتقوى البصيرة " ( مدارج السالكين 1/110 )
البصيرة وإيجابية السلوك:
لقد كان من دعاء النبي _صلى الله عليه وسلم_ " اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه " ويعنى هذا الدعاء طلب البصيرة بذاك المعنى الذي نذكره هنا، وسؤال الله _تعالى_ أن يمن على صاحب تلك البصيرة تطبيق ما يراه صواباً وحقاً والسعي إليه كما يعنى سؤال اجتناب ما يراه باطلاً ومجاوزته أو البعد عنه.
والحياة يكتنفها في كل موقف من المواقف الإنسانية ظلال كثيفة من غيوم تمنع الرؤية الحقيقية لما ينبغي أن يكون عليه المرء من الإنجاز أو التأثير أو حتى التطبيق الصائب لما تعلمه.. فترى المرء وقد اختلطت عنده المقاييس واهتزت عنده الثوابت لأجل حطام زائل أو لأجل أمل براق لا يلبث أن يفاجئه بالرحيل أو الزوال..
فكم نرى من عالم قد رضي بالدون من الفعال وبالجبن بدلا من الشجاعة وبقول الزور بدلاً من قول الحقيقة وبممالأة الملوك والسلاطين بدلاً من الصدع بالحق في كل موقف لأجل بريق يرتجيه أو خوف يفزعه.. وما ذاك إلا لانعدام البصيرة أو ضعفها..
وكم رأينا من داعية قد كبر عمره واقترب من لقاء ربه وهو رغم ذلك مكبل بقيود الأرض الزائلة، وكم رأينا من مسلم قد أثقلته عبودية الأشياء فلم يعد يرى غير الصور من دون الذوات..
ومن أشهر النواقص والشينات التي ابتلى بها كثير من الدعاة إلى الله قصر نظرهم في الإصلاح على أنفسهم، أو على ما يظنونه من دعوة الناس إلى الأمور الخاصة بذوات الأفراد بحسب، غافلين عما يهم الأمة بأجمعها وعما يحصل به التغيير الكامل للأمم ورقي الشعوب الإسلامية جمعاء..فالبصيرة عند الدعاة إلى الله تجعلهم لا يرون لأعمالهم قيمة بغير السعي إلى إصلاح الأمم وتعميم الأرض كلها بالخير والفضيلة والعدل والإيمان مهما كلفهم ذلك من إنكار ذواتهم أو بذل كل ما يملكون حتى ذات أنفسهم...
ومن نظر للحياة بمنظار البصيرة الإيمانية السليمة رأى أنه لا قيمة حقيقية إلا للعبودية التامة لله _سبحانه_، قال ابن تيمية – رحمه الله–: " من أراد السعادة الأبدية فليلزم عتبة العبودية "..
ومن هنا كانت الحياة بأجمعها لا قيمة لها بغير الإنجاز الحقيقي على مستوى التأثير للتغيير إلى الخير والعدل والفضيلة التي يدعو إليها هذا الدين القويم.. فلا قيمة لساعة لهو أو لغو، ولا فائدة للحظات الغفلة، إنما يقود الركب أصحاب البصائر الإيمانية النافذة أولئك أكثر الناس أثراً في الناس وأولئك الذين سيذكرهم التاريخ مهما نكرهم الناس...(115/1088)
ـــــــــــــــــــ
خاطفو شبابنا!!
ياسر بن علي الشهري
7/4/1426
ارسل تعليقك ...
تعليقات سابقة ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
تتجرع المجتمعات المسلمة غصص الخيانة والغدر "المتأنق" بلغتنا العظيمة، وعبر واحد من أشد وأمكر الأسلحة المعاصرة فتكاً "التلفزيون" الذي أسيء استخدامه؛ حتى باتت ثقافته المستوردة "الساقطة" قيماً لدى كثير من الشباب، وباتت الانفتاحات التقنية "المهرولة" فتحاً جنسياً في أذهان كثير منهم بدليل أنماط استخدامهم لمستحدثاتها.
وسبب ذلك أن جماعة الشاب التي يتبنى قيمها ومعارفها واتجاهاتها وسلوكياتها لم تعد هي جماعته المحيطة به من الأسرة والأقارب والمجتمع الصغير الذي يعيش فيه، فقد استطاعت " الفضائيات" أن تنقل شبابنا ليعيشوا ضمن جماعات مغايرة لنا في الثقافة والفكر، من خلال تبنيها لقضايا مشتركة بين فئات مختلفة من الناس -دون اعتبار للدين- وهي قضايا المتعة –الجنس- والترفيه التي تجذب "حيوانية" الإنسان وتهمه عادةً خاصة الشباب.
وزاد من تعميق هذا الاتجاه في مجتمعنا المحلي تزايد المتناقضات في البيئة المحيطة بالشباب، نتيجة اختراق هذه الثقافة لبعض أفراد المجتمع وتأثيرها عليهم؛ حتى أصبح مصدر التناقض إما أحد الوالدين أو كلاهما أو الأصدقاء أو الزملاء، مما يثير لدى الشباب مقارنة هذه الصور الواقعية في حياتهم مع الصور التي تقدمها الفضائيات، وهو ما يسمى "التعلم بالملاحظة"، وخلاصة ذلك كله أن "الفضائيات" توفر كماً هائلاً من المعرفة الجنسية للشباب تدعمها الإنترنت وغيرها، ووجود نماذج "مجاهرة" بين الأقران والزملاء، يبقى بعدها شبابنا في حالة من الضغوط والاستبطان النفسي الذي يجعلهم –من توافرت لديه المعرفة الكافية- في حالة من ترقب الفرصة "الهدف" ليحاكي تخيلاته ويتبنى الفكرة "الملحة"،،،،،،، خاصة وأن تقدير الأمور ووزنها ليست من سمات هذه المرحلة العمرية حتى بدون الضغوط الخارجية.
لن نستطيع أن نحكم السيطرة على أذهان شبابنا، لكننا نستطيع أن نجعل معرفتهم الدينية والاجتماعية والأخلاقية تردع هذه القذرات والفيروسات، وعندما نكون مخلصين في تربيتنا سيبارك الله جهودنا
هذه المقدمة أوردتها لنعرف جميعاً كيف يمكن أن يحدث تأثير هذه "الفضائيات" إذ ما تم التركيز فيها على قيمة معينة، أما محور الموضوع ولبه فهو الحديث عن القيمة الأبرز في "الفضائيات" -إلا ما رحم ربي- وهي التركيز على أن جمال المرأة(115/1089)
وقيمتها في جسدها، وبقدر ما تمتلكه من الجمال الجسدي الملفت للأنظار تكون مكانتها وقدرها، وفي المقابل فإن سعادة الرجل مرهونة بمدى ما يحققه من هذه المكاسب المتاحة أمام المتنافسين، وهذه الفكرة "الخبيثة" تسوق عبر وسائل وبرامج وأساليب متعددة لخطف شبابنا، وما تحول حجاب بعض المسلمات إلى زينة في ذاته إلا نتيجة طبيعية لما تسوقه هذه الفضائيات من أفكار في هذا الجانب.
العجيب أننا نسمع من أعداء الفضيلة والعفة –القائمين على هذه القنوات وأولياهم- تهماً وافتراءات هدفها في المقام الأول تشويه صورة دعاة الفضيلة والشرف -"خصومهم"- منها أن "الإسلاميين" ينطلقون في تعاملاتهم مع قضايا المرأة من نضرة شهوانية للمرأة، وهذا أسلوب من أساليبهم في إشاعة الفاحشة في المجتمعات المسلمة لإقصاء الغيورين والتفرد بساحة التخطيط والتنظير لمستقبل الأمة، و لا عجب فالمولى _سبحانه وتعالى_ يقول: "أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ" (الجاثية:23).
وحتى لا يكون حديثنا مثل حديثهم قائم على الهوى والأقوال التي لا تستند إلى دليل، فهذه أدلة تدين إعلامهم العربي وكيف يصور المرأة من خلال عدد من الدراسات العلمية وهي جزء من أعمالهم الكثيرة لخرق سفينة الأمة، أترككم مع خلاصة نتائجها، مع العلم أن هذه الفضائيات الآن قد ازداد عددها وإسفافها عن تلك الفترات التي أجريت فيها هذه الدراسات، فحسبنا الله ونعم الوكيل.
الأولى: دراسة عن صورة المرأة في الفلم المصري (منى الحديدي, جامعة القاهرة,كلية الإعلام ,1977م)، حيث توصلت إلى نتائج من أبرزها: تقديم المرأة بصورة جنسية في أغلب الأفلام المصرية، وفي أدوار غير لائقة تؤدي فيها دور العاهرة أو عضوة في عصابة.
الثانية: دراسة عن صورة المرأة في الصحف والمجلات العربية (عواطف عبد الرحمن، القاهرة، العربي للنشر والتوزيع1981 م، ص29-86) وكان من أبرز نتائجها أن الصحف والمجلات تميز المرأة الجميلة ويتم التركيز على الجوانب الأنثوية فيها على حساب الصور الأخرى، مع تجاهل كامل لقضايا نساء الأرياف والمناطق الأخرى.
الثالثة: دراسة عن صورة المرأة في الإعلان التلفزيوني (عصام الدين احمد فرج، جامعة القاهرة، كليه الإعلام 1986م) بينت هذه الدراسة التي درست حوالي 356 إعلاناً أن الإعلانات تركز على الدور الأنثوي للمرأة حيث تم استخدام صوت المرأة وصورتها فيما نسبته 3, 84% من الإعلانات من قبيل الإثارة و مخاطبة الغريزة الجنسية واستخدمت المرأة "كوتر إعلاني" في صورة تحط من قيمتها وكرامتها.
الرابعة: دراسة لأخلاقيات الإعلان التلفزيوني (عدلي السيد محمد, القاهرة, دار الفكر العربي ,1988م )، حيث كشفت الدراسة عن اتجاه الإعلانات التلفزيونية إلى استخدام المرأة بشكل غير لائق بهدف الإثارة الجنسية كأداة جذب إعلامي للإعلانات بالإضافة إلى أن الدراسة رصدت تصوير المرأة ببعض القيم السلبية كالشراهة والتبذير والعنف والعدوانية والتفاخر.(115/1090)
خامسا: دراسة لصورة المرأة في الإعلام العربي(أديب خضور، دمشق،1997م )، وقد خلص الباحث بعد عرضه لصورة المرأة في الإعلام العربي (عينة من المرئي والمسموع ومن المطبوع) إلى أن أبرز ملامح صورة المرأة التي عكسها الإعلام العربي هي الجوانب الأنثوية الجميلة المغرية، وأكدت الدراسة أن صورة المرأة في الإعلام العربي مشوهة، وأن هناك قدراً كبيراً من عدم التناسب بين ملامح هذه الصورة وبين الصورة الحقيقية والفعلية للمرأة العربية المسلمة.
سادساً: دراسة عن تأثير القيم التي تعكسها الإعلانات التلفزيونية (نجوى الجزار، جامعة القاهرة، كلية الإعلام عام 1998م ) أكدت على تعمد الرسالة الإعلانية تشوية صورة المرأة و النظر إليها على أنها أداة جذب إعلاني حيث أن أكثر من 54% من الإعلانات كانت الشخصيات المحورية فيها نساء، مع الاتجاه الواضح للتركيز على الإثارة الجنسية من خلال دور المرأة في الإعلان.
سابعاً: صورة المرأة المصرية في الأفلام السينمائية (محمود يوسف، مجلة كلية الإعلام، جامعة القاهرة 2001م) حيث أكدت الدراسة على أن الأفلام السينمائية رسمت صورة سلبية للمرأة المصرية، كان أبرز ملامح هذه الصورة هي التبرج والسفور وإظهار العورات بطريقة مبالغ فيها، فغالبية الأفلام - كما ترى الدراسة- مليئة بمشاهد العري والزينة وتجسيد العورات وكثيراً ما أظهرت المرأة شبة عارية، ولعل هذا يؤكد اتجاه الأفلام لاستخدام المرأة كمصدر للإثارة الجنسية.
وأشارت الدراسة إلى أن هذه الأفلام أظهرت للمرأة ثمار الحرية (المزعومة) المطلوبة لها؛ من خلال حريتها في الكسب الحرام، وركزت على تزيين الفاحشة وتجميل السقوط الأخلاقي، كما أظهرتها شاربة للخمر ومرتادة لأماكن السكر، بدعوى الحرية والتحضر.
خاتمة:
لن نستطيع أن نحكم السيطرة على أذهان شبابنا، لكننا نستطيع أن نجعل معرفتهم الدينية والاجتماعية والأخلاقية تردع هذه القذرات والفيروسات، عندما تصطدم بـ"أترضاه لأمك؟" وعندما يؤدي كل منهم "حق أسرته" ويتحمل مسؤولياته لحماية عرضه، ويكون ارتباطه بأسرته "ارتباط عاطفي"، وعندما نكون مخلصين في تربيتنا سيبارك الله جهودنا.
ـــــــــــــــــــ
رسالة من فقير
محمد علي القحطاني
29/3/1426
ارسل تعليقك ...
تعليقات سابقة ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
فضيلة إمام وخطيب الجامع/(115/1091)
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد:
لنا صوت خافت انتظرنا من الناس أن يسمعوه فلم يسمعوه، ولنا حال نحيل انتظرنا من الناس أن يبصروه فلم يبصروه، ونعلم أنهم إخواننا يسعدهم ما يسعدنا ويضيمهم ما يضيمنا غير أنهم ساهون عنا فقد شغلتهم أموالهم وأهلوهم، فأما أموالهم فسلبت جل وقتهم بين واقف على أبواب البنوك هذا يُودِع وذاك يسحب وآخر يساهم أو يستثمر، وبين متنقل في الأسواق إما بائع أو مبتاع، وبين ساع في شؤون ماله بشتى الطرق كيف ينميه ويرى زهرته.
وأما أهلوهم فسلبوا بقية وقتهم، فبنوا لهم المنازل الفخمة وزودوها بأحسن الأثاث، وخصصوا الغرف الفخمة لكل فرد من أفراد العائلة، ووفروا بها جميع وسائل الراحة ووسائل الترفيه ووسائل التعليم، بل وعندما أعيتهم الحيلة ماذا يوفرون راحوا يملؤونها بأنواع الزينات وجميل التحف، وهكذا وفروا لأهليهم الخدم والسائقين، ووفروا لأبنائهم السيارات.
وأما الملابس فلم يُلبسوهم إلا الجديد وما لبسوه مرة فلا يرى عليهم بعدها أبدا فقد صار من ثقافة العيب عندهم ألا يراهم أحد مرتين في ثوب واحد، ثم أنهم زادوا في إسعاد أهليهم فهم ينتظرون الإجازات بفارغ الصبر ليسافروا في عمرة أو حج أو نزهة ولا نكاد نراهم إلا وهم يركبون سياراتهم أو ينزلون منها ونحن ماكثون أبد الدهر لا نغدو ولا نروح، وأما طعامهم فهو معد وفق أحدث طرق الطبخ وبأحدث الوسائل وسُفَرُهم عظيمة متنوعة لو حضرناه لما عرفنا كيف نأكل وماذا نأكل.
فنحن قوم ذكَرَنا الله في سبعَ عشرة آية في كتابه كلها تحض على الإحسان إلينا، نحن الفقراء والمساكين، نعيش بينكم وفي أوساطكم، لكنكم لم تسمعوا نداءنا ولم تبصروا حالنا؛ لأننا لم نقف يوما على باب أحد ولم نتسول في مسجد فنحن أخفياء كبَّلنا الحياء
وأما أطفالهم فلم تزدد مصانع الحلوى وتتنوع و مصانع الألعاب والترفيه إلا لتلبي حاجتهم المتزايدة.
وأما في مجال الصحة فلم نرهم يوما قد وقفوا معنا في الطوابير الطويلة ولم يبصروا التنويم في عنابر المرضى في المستشفيات العامة ولم يصرف لهم ذات الدواء في كل مرة يراجعون فيها المصحة ولا تراهم إلا في المستشفيات الخاصة ودواؤهم من الصيدليات يصرفون في ذلك المبالغ الطائلة ولا يبالون..
وهكذا في كل شؤونهم نسأل الله أن يبارك لهم، فلسنا لهم حاسدين؛ لأننا بالله مؤمنين ولقدره مسلِّمين فقد قدر الأرزاق وبيّن ذلك، وقال: "وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ" (النحل: من الآية71).
أما من نحن؟! فنحن قوم ذكَرَنا الله في سبعَ عشرة آية في كتابه كلها تحض على الإحسان إلينا، نحن الفقراء والمساكين، نعيش بينكم وفي أوساطكم، ولا تظنوا أننا قليل بل نحن كثيرون وكثيرون جداً لكنكم لم تسمعوا نداءنا ولم تبصروا حالنا؛ لأننا لم نقف يوماً على باب أحد ولم نتسول في مسجد فنحن أخفياء كبَّلنا الحياء، وقد أرشدكم الله إلينا وأبلغكم عنا ولكنكم ربما نسيتم فنذكركم بقول الله فينا: "لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ(115/1092)
التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لا يَسْأَلونَ النَّاسَ إِلْحَافاً وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ" (البقرة:273).
ونذكركم بقول رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ فيما رواه البخاري عن أبي هريرة _رضي الله عنه_ : "ليس المسكين الذي يطوف على الناس ترده اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان، ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه ولا يُفطن به فَيُتَصدق عليه ولا يقوم فيسأل الناس".
ثم وعظكم الله، وقال: "اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ" (الحديد:20).
وها نحن قد وضعنا قضيتا بين أيديكم واثقون بعمق إيمانكم وصدق أخوتكم ونحن في انتظاركم، وسلام الله عليكم.
التوقيع: فقير ومسكين
ـــــــــــــــــــ
اصنع قرارك بنفسك
إسلام داود
22/3/1426
ارسل تعليقك ...
لا توجد تعليقات ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
على الرغم من أنه يمكن اكتساب الكثير من المهارات عن طريق التعلم، فإنه ليس سهلاً تعلم صنع القرارات، فهناك من القياديين من يتقن هذه العملية أكثر من غيره وفي غياب المعلومات الكافية، تصبح هذه العملية أكثر صعوبة وكثيراً ما يتعامل صناع القرار مع ظرف الشك وعدم اليقين لكنهم ملزمون بالاجتهاد والتحرك واتخاذ القرارات في حدود وقت معين، ولو ترتب على ذلك ارتكاب بعض الأخطاء، فعدم اتخاذ القرار أسوأ الأخطاء.
إن سعة الأفق أمر جوهري في صنع القرارات، فهي عملية متحركة وليست ساكنة، وعلى المرء أن يراقب ويتابع نتائج قراراته ليعدلها عند الحاجة وبالكيفية السليمة، فإن الأسلوب الفعال لاتخاذ القرار لا ينشأ من عقلية ضيقة ولا يفترض صحة منهج حل واحد فقط وخلل ما عداه، وعليه فمن الضروري الاهتمام منذ البداية بفهم القضية والاستفادة من اختلاف وجهات النظر للتأكد من إعطاء جميع الجوانب الرئيسة للقضية ما يناسبها من العناية والاهتمام.
إن سعة الأفق أمر جوهري في صنع القرارات، فهي عملية متحركة وليست ساكنة، وعلى المرء أن يراقب ويتابع نتائج قراراته ليعدلها عند الحاجة وبالكيفية السليمة(115/1093)
إن صنع القرار فن وعلم في آن واحد، حيث تبنى عملية اتخاذ القرار على جمع المعلومات وتحليلها ومعالجتها بطريقة علمية، الأمر الذي يؤدي إلى تحديد البدائل الممكنة للحل كما أن اختيار أحد البدائل غالباً ما يتطلب أخذ الحس الإنساني في الحسبان عند تفحص ما يترتب على مختلف البدائل المتعارضة من نتائج تتفاوت في ميزاتها فصنع القرار الناجح يعتمد على التقدير السليم كاعتماده على المعلومات الموثقة.
ومن ناحية أخرى يمكن اعتبار عملية المخرجات في صورة قرارات، وتقوم هذه العملية ببحث وتمحيص مختلف البدائل وتقويمها واختيار الأنسب منها وهذه العملية عبارة عن سلسلة من العمليات الأصغر المؤدية إلى اتخاذ سلسلة متكاملة من القرارات الجزئية التي تكون في مجموعها القرار النهائي.
وللوصول للقرار المرجو أضع بين يديك خطوات عملية لكي تستطيع أن تصنع قرارك بنفسك:
- عليك أن تقوم بتحديد سلسلة الأفعال البديلة التي يمكن تنفيذها والنظر في العواقب المترتبة على اتباع تلك الأفعال، وهذه خطوة واضحة ومباشرة نسبياً، ففي هذه الخطوة توضع قائمة بالبدائل المتوافرة لمعالجة وضع معين مع افتراض إتمام تشخيص هذا الوضع وتعرفه، إلا أن هذه المشكلة قد تكون أكثر تعقيداً من أن تعالج ببدائل سهلة وهنا قد يحتاج المرء إلى اللجوء إلى إعمال الفكر والتدبير العميق والابتكار من أجل الوصول إلى القرار المناسب.
- الخطوة التالية هي جمع المعلومات ذات الصلة التي تعين في تحديد ماهية النتيجة المترتبة على تصرف معين، علينا بعد ذلك تقويم دور هذه المعلومات في تكييف العلاقة بين العمل وما يمكن أن يتمخض عنه من نتائج فالمعلومات أحياناً تعين في استبعاد بعض الاحتمالات تماماً بينما تنشأ الحاجة في أحيان أخرى إلى أنواع مختلفة من المعلومات المساعدة في الحل التي قد يوسع بعضها مجال البحث بدلاً من التوصل إلى نتائج، ومن أكثر المشكلات شيوعاً في هذا الصدد تدفق معلومات كثيرة جداً لا تكون كلها نافعة في الحل أو ذات علاقة به.
- يتم بعد ذلك تقويم فائدة كل نتيجة من النتائج المترتبة على البدائل المختلفة وأفضليتها ويحبذ أن يتم ذلك بواسطة النقاش بين عناصر واعية ومدركة لطبيعة الموقف وأن يتم تكوين الرأي المشترك عن طريق الشورى، فالقرآن الكريم يحث على الانفتاح والأمانة والإخلاص في التعبير عن الرأي وينهى عن المجاملة والمخادعة والمناورة في التشاور، وهنا يلزم دراسة خطوات العمل المتاحة وما يترتب عليها من نتائج موقعها من وجهة النظر الإسلامية، واتباع عملية مراجعة متدرجة لتحديد صلاحية مختلف البدائل.
- بعد ذلك يتم اتخاذ القرار بشأن اختيار أحد البدائل الأنسب للحصول على النتائج المرجوة ويتم اتخاذ هذه الخطوة الأخيرة في صنع القرار في إطار أهداف المؤسسة وتحديد الغايات التي تسعى من أجل الوصول إليها بذلك يمكن مقارنة مزايا القرار الذي وقع عليه الاختيار ومساوئه، وذلك بعرضها على أهداف المؤسسة وغايتها(115/1094)
ومما يزيد في الاطمئنان لاتخاذ القرار المناسب مبدأ الاستخارة بشرط أن يطبق بالطريقة الصحيحة التي علمها الرسول _عليه الصلاة والسلام_ لأصحابه الكرام.
ـــــــــــــــــــ
القدوة.. وبكاء حكيم
محمد سعد
15/3/1426
ارسل تعليقك ...
لا توجد تعليقات ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
للقدوة الصالحة دور كبير في توجيه الناس وبناء المجتمع، فصفات الشخص القدوة يراها الناس فيتأثرون بها، ويتبعونه فيها؛ لأنهم رأوها صفات صالحة متميزة، وتظل صفات الشخص القدوة مؤثرة كلما استحضرها الناس بين الحين والحين، وتكون حافزاً لهم إلى الصلاح والعمل والنجاح.
وقد حرص الإسلام على استثمار هذه الوسيلة، ورفع من شأن من يستحقون أن يكونوا قدوة للمجتمع، ليهتدي الناس بهداهم، ويسيرون بسيرتهم، فجاءت آيات وأحاديث تحث على الاقتداء بأهل القدوة الصالحة.
ولأن أمر القدوة خطير وعظيم، لما له من تأثير كبير في المجتمع، وفي الكبير والصغير والرجال والنساء، ولا سيما النشء والشباب؛ وضع الإسلام لنا صورة واضحة لمن يستحق أن يُرفع إلى مقام القدوة في الناس، ويستحق أن يهتدي الناس بهداهم، وبين لنا الصفات التي يجب أن تتوافر فيمن يتخذه الناس قدوة.
وأساس الصفات للشخص القدوة هو الإيمان والهدى والصلاح، وأولى الناس بتلك المكانة هم الأنبياء _عليهم السلام_، قال _تعالى_: "أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ" (الأنعام: 90).
للقدوة الصالحة دور كبير في توجيه الناس وبناء المجتمع، فصفات الشخص القدوة يراها الناس فيتأثرون بها، ويتبعونه فيها؛ لأنهم رأوها صفات صالحة متميزة
قال الطبري: "يقول _تعالى ذكره_: (أُولَئِكَ): هؤلاء القوم – الأنبياء المذكورون قبل هذه الآية - الذين وكلنا بآياتنا وليسوا بها بكافرين، هم الذين هداهم الله لدينه الحقّ، وحِفْظ ما وُكِّلوا بحفظه من آيات كتابه، والقيام بحدوده واتباع حلاله وحرامه، والعمل بما فيه من أمر الله، والانتهاء عما فيه من نهيه، فوفقهم _جلّ ثناؤه_ لذلك.
"فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ": يقول - تعالى ذكره -: فبالعمل الذي عملوا، والمنهاج الذي سلكوا، وبالهدى الذي هديناهم، والتوفيق الذي وفقناهم؛ اقتده يا محمد: أي فاعمل وخذ به واسلكه، فإنه عملٌ للَّه فيه رضا، ومنهاجٌ من سلكه اهتدى..." (تفسير الطبري، سورة الأنعام).(115/1095)
وقال البغوي: ("أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ"؛ أي: هداهم الله، "فَبِهُدَاهُمُ"؛ فبسنتهم وسيرتهم – "اقْتَدِهْ" -).
وقال - سبحانه – يرشدنا إلى قدوتنا وأسوتنا لكي نسير على نهجه ونهتدي بهداه: "لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً" (الأحزاب: 21).
وأرشدنا الرسول _صلى الله عليه وسلم_ إلى نماذج من القدوة الصالحة في الدين، من الصحابة الكرام، لنتبع نهجهم ونستن بسنتهم، كما في حديث: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ" رواه أبو داود والترمذي، فوصفهم الرسول _صلى الله عليه وسلم_ بالراشدين المهديين إبرازاً لأساس القدوة فيهم، وهو أنهم أفضل الناس رشداً وهدى في الدين، ولذلك حث على الاقتداء بهم.
وأخرج الترمذي عَن حُذَيْفَة قَالَ: "كُنّا جُلُوساً عِنْدَ النّبيّ _صلى الله عليه وسلم_ فَقَالَ: إنّي لاَ أدْرِي مَا قَدْرُ بَقَائِي فِيكُمْ فَاقْتَدُوا باللّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي. وَأَشارَ إِلى أبي بكْرٍ وَعُمَرَ، وَاهْتَدُوا بِهَدْيِ عَمّارٍ. وَمَا حَدّثَكُم ابنُ مَسْعُودٍ فَصَدّقُوهُ"، (سنن الترمذي، حديث رقم 3959، ورقم 1233 في السلسلة الصحيحة، المجلد الثالث).
قال المباركفوري في شرح الحديث: (قوله: (اقتدوا باللذين من بعدي)؛ أي بالخليفتين اللذين يقومان من بعدي (أبي بكر وعمر)... أي لحسن سيرتهما وصدق سريرتهما... (واهتدوا بهدي عمار)؛ أي ابن ياسر. والهدي - بفتح الهاء وسكون الدال- السيرة والطريقة، والمعنى أي سيروا سيرته، واختاروا طريقته، وكأن الاقتداء أعم من الاهتداء حيث يتعلق به القول والفعل، بخلاف الاهتداء فإنه يختص بالفعل).
قال المناوي: (وسبب الحث على الاقتداء بالسابقين الأولين ما فُطروا عليه من الأخلاق المرْضية... فلذلك كانوا أفضل الناس بعد الأنبياء).
القدوة في مجتمعاتنا المعاصرة:
وعلى الرغم من خطورة شأن القدوة، وأنه لا يصح أن يوضع في مقام القدوة إلا أهل الهدى والصلاح؛ تجد في مجتمعات المسلمين فئات من العلمانيين أو المتأثرين بالمنهج العلماني، يزيفون للناس رموزاً يعظمونها ويرفعونها إلى مكان القدوة، وهي من أكبر الشخصيات هدماً للدين، فيرفعون شخصيات، مثل: قاسم أمين الذي كان سبباً من أسباب تدهور أخلاق المجتمع حينما نادى بتحرير المرأة، أو زعامات مزيفة، مثل: كمال أتاتورك أكبر علماني في القرن العشرين سعى في هدم الدين ومحوه، ومع هذا تجد الفئات العلمانية المتسلطة في تركيا تجعله رمز الحرية والانتصار والشجاعة والقدوة.
وتجد كثيراً من المستشرقين خصوصاً - والغرب عموماً - يرفعون من شأن شخصيات ضالة أو ذات منهج منحرف، سواء من الماضي أو الحاضر، ويعيدون نشر تراثها ليفتحوا بها باب فتنة على المسلمين، وتصير هي القدوة في حياتهم وثقافتهم، ويجعلون منها العلامات البارزة في تاريخ الأمة الثقافي أو الأدبي وغيره، فتجدهم يرفعون مثلاً من شأن الحلاج، وجماعة إخوان الصفا، والمعتزلة، وابن عربي، والسهروردي، ويصورونهم كأنهم أعلام الأمة، ويتجاهلون في الوقت نفسه(115/1096)
أعلام الأمة من أهل الفضل والعلم والصلاح، وقد يتعمدون تشويه صورتهم وإثارة الشبه حولهم.
وقد تأثر بالمستشرقين عدد من الباحثين والأدباء العرب وغيرهم، فساروا على نهج المستشرقين في تعظيم تلك الشخصيات والجماعات، ولم يتخذوا منهجاً علمياً منصفاً في وزن تلك الشخصيات والتيارات، يميز الخبيث من الطيب للناس، بل عملوا برأي المستشرقين مباشرة، فتجد مثلا كاتباً أديباً يؤلف مسرحية لتخليد ذكرى الحلاج الحسين بن المنصور الذي قتل بسبب قوله: "أنا الحق" يقصد الله، ويُظهره فيها بمظهر المظلوم المقهور، وعرضت هذه المسرحية عدة مرات. وكما حاول بعضهم إبراز ابن رشد الفيلسوف في فيلم، مسقطاً قصته مع العلماء على الواقع، ومصوراً علماء الدين في صورة المتحجر المتعصب الذي يكره انطلاق الفكر وتحرير العقل.
وفي جانب آخر، وهو جانب الثقافة الشعبية الاجتماعية، تجد اليوم أهل الغناء والتمثيل والتهريج، هم الذين يوضعون رغماً عن الناس في مكان القدوة، فحياة الممثل ومأكله ومشربه وملبسه وأول أخباره وآخر أخباره، وعلاقاته الغرامية.. حتى موته، هي الأمور التي ترفع في مكان القدوة للناس في كثير من وسائل الإعلام. وصار السؤال الذي يوجه في المجلات ووسائل الإعلام في ختام برامج الحوار: من هو ممثلك المفضل؟ من هو المغني أو المغنية المفضلة عندك؟ ولم يقف العبث عند هذا الحد بل تجد لدى بعض الشباب القدوة شخصاً من فسقة الكفار وماجنيهم.
والخطير في ذلك ليس مجرد تشبه الشباب بهذا الممثل أو ذاك المغني أو تلك المغنية في الملبس والشكل، بل هو وضع هؤلاء في مكان ذي الرأي والمشورة فيؤخذ برأيه أو رأيها في كل شيء حتى في الأحكام الشرعية.
صناعة.. القدوة:
كان الناس في الماضي يعرفون القدوة الصالحة بعلمه أو صلاحه أو حسن سمته وأخلاقه، وكان هذا هو المعيار والميزان في معرفة القدوة من غيره، ولذلك قلّ انخداع الناس بالقدوات المزيفة والمزورة في الماضي.
وأما بعد التقدم الذي أحرزته البشرية في وسائل الاتصال والإعلام، فقد تغيرت الأحوال كثيراً، وصار عدد غير قليل من وسائل الإعلام ببريقها ومؤثراتها الكثيرة القوية تزيف الحقائق، وتصنع من الرموز ما تريد، عن طريق التلميع الإعلامي الخادع، فترفع من ترغب في رفعه ولو كان فاسقاً من أرذل الناس، وتضع من ترغب في وضعه ولو كان تقياً من أفاضل الناس.
وهذه ورطة كبيرة للأجيال الناشئة، حيث يقفون حائرين بين تلميع الإعلام لشخصيات فاسدة، وبين ما يسمعونه من حقيقة تلك الشخصيات، ولا يجدون من يدلهم على المعايير الصحيحة للقدوة، ويميز لهم الصالح من الطالح من بين هذا الكم العظيم من الركام الإعلامي من النجوم والمشاهير.
حماية منزلة القدوة..:
القدوة تؤثر في قطاع كبير من الناس، فهي محرك نفسي عظيم في المجتمع، لا يقل دوره عن باقي العوامل المشاركة في بنية المجتمع وتقدمه، فحينما نضع أمام المجتمع الشخصيات الصالحة والناجحة ليقتدي بها الناس، فسيعود ذلك على المجتمع بتأثير(115/1097)
إيجابي كبير، فيكثر الصالحون والعلماء والناجحون ويقوى المجتمع ويتقدم؛ وحينما تكون القدوة من أهل الفساد والسفهاء والفساق وأهل المجون؛ فسيكثر الفساد، وتتربى الأجيال على شاكلة النماذج التي اتخذوها قدوة، فيزداد المجتمع ضعفاً، وتتسارع إليه عوامل الانهيار.
ولذا فمسؤولية المجتمع كبيرة في حماية مكانة القدوة، وقصرها على أهلها من الصالحين، ورفض كل قدوة سيئة وحماية الأجيال منها، فلا ينبغي إذن أن نترك تلك المكانة الشريفة والمنزلة الرفيعة لأهل الفساد يعبثون بها كما يشاؤون، والموقف الإيجابي إزاء ما نراه من عبث بهذه المنزلة هو تفعيل عملية الإحياء لمكانة القدوة الصالحة، وبذل مزيد من الجهد في إبراز قدوات الأمة الحقيقيين، من الأنبياء والصالحين، ومن أهل الصلاح والتقوى، ومن أهل الخير والنفع وتقديم الخدمات الجليلة للأمة، ومن أهل العلم في كل مجال من دين وطبيعة وطب، وإبرازه صفاتهم ومميزاتهم وهديهم، بشتى وسائل المعرفة والاتصال بالناس من كتب وصحف وبرامج وغيرها، ولا سيما الموجهة إلى النشء.
وفي الوقت نفسه نجتهد في التحذير من تلك الجهات التي ترفع من شأن المنحرفين، من صحف ومجلات وقنوات، حتى لا يتمكن أهل الفساد من الوصول إلى منزلة القدوة في المجتمع، كما تشير بذلك الآية الكريمة في قوله – تعالى -: "وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ" (البقرة: 124).
قال ابن جرير: "قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ": هذا خبر من الله _جل ثناؤه_ عن أن الظالم لا يكون إماماً يقتدي به أهل الخير؛ لأن الإمامة إنما هي لأوليائه وأهل طاعته دون أعدائه والكافرين به..."، (تفسير الطبري، سورة البقرة).
حكيم بن حزام - رضي الله عنه – يبكي بسبب القدوة الفاسدة:
إن أثر القدوة الفاسدة خطير، فقد يضل من يتبع القدوة الفاسدة ويقلدها، أو تؤدي به إلى التأخر أو التخلف عما فيه خيري الدنيا والآخرة، وضياع العمر والوقت، قال عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما -: "لا يزال الناس بخير ما أَخذوا العلم عن أَكابرهم، فإِذا أَتاهم من أَصاغرهم فقد هلكوا"، قيل: "الأَكابر أَهل السنّة، والأَصاغر أَهل البدع. قال أَبو عبيد: ولا أُرى عبد الله أَراد إِلا هذا".
وقد بكى حكيم حزام - رضي الله عنه - يوماً على أنه اتبع قدوات سيئة كانت في مجتمعه، وأضاعت عليه خيراً كبيراً، وفاتته فرصة عظيمة، وهي شرف الإسلام مع من أسلم مبكراً، قال ابن الجوزي في صفة الصفوة: "إن حكيم بن حزام بكى يوماً، فقال له ابنه: ما يبكيك؟ قال: خصال كلها أبكاني، أما أولها: فبطء إسلامي حتى سُبقت في مواطن كلها صالحة... وذلك أني أنظر إلى بقايا من قريش لهم أسنان – رجال كبار السن - متمسكين بما هم عليه من أمر الجاهلية؛ فأقتدي بهم، ويا ليت أني لم أقتد بهم، فما أهلكنا إلا الاقتداء بآبائنا وكبرائنا، فلما غزا النبي _صلى الله عليه وسلم_ مكة جعلت أفكر... فجئته فأسلمت – يعني أسلمت متأخراً –" (صفحة: 162).
ـــــــــــــــــــ
حصاد السنين(115/1098)
نيّرة بنت محمد عبد العليم
8/3/1426
ارسل تعليقك ...
لا توجد تعليقات ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
ذات يوم كنت في زيارة إحدى صديقاتي..
ابنة السبعة عشر عاماً.. أمها تصرخ وتشتكي من عدم طاعتها وعدم برها.
الابنة تدير وجهها وترمي حقيبتها على جنب، وتذهب بكبريائها إلى حجرتها.
صوت الأم وهي تصرخ:
أما تريدين أن تسمعي كلامي، لقد أصبح عمرك سبع عشرة سنة..
فكرت في كلماتها.. سبع عشرة سنة! إنني لا ألوم البنت على كبريائها.. ولا يعني ذلك أنني أؤيدها على ذلك فعلاجها غير.. لكن اللوم ليس علاجها..
نعم لقد كبرت البنت وأصبح عمرها سبع عشرة سنة، ولكن كيف كبرت؟ وماذا أثمرت؟
هي أو ابنها الذي يلحقها في السن وتشتكي منه في أحيان كثيرة بسهره أو صحبته السيئة أو عدم بره..
أبدت لي فرحتها بزيارتي لها، وبأنها كانت في همٍّ قد لحق بها، همُّ أبنائها الذين كبروا، بعد أن ترعرعوا في أحضانها...
سألت نفسي: لماذا الهم؟ فالهمُّ لا يأتي إلا بالتعلق، قد تكون قد علقت آمالاً كبيرة بهم ؟!!!
وهنا يكمن منشأ الخطأ.. أن نعلق آمالنا بأبنائنا بدلاً من أن نعلقها بإلهنا..
وهنا يظهر مبدأ الإخلاص.. أن نخلص تربيتنا لهم من كل ما يتعلق بها من شوائب الهوى، وأن نعلقها بكل ما يبدي فيه مراقبة الله _عز وجل_ لينشؤوا على مبدأ الإخلاص لله كما ينبغي، ويراقبوا الله كما ينبغي
وهنا يظهر مبدأ الإخلاص.. أن نخلص تربيتنا لهم من كل ما يتعلق بها من شوائب الهوى، وأن نعلقها بكل ما فيه مراقبة لله _عز وجل_ لينشؤوا على مبدأ الإخلاص لله كما ينبغي ويراقبوا الله كما ينبغي..
إنهما حصاد السنين.
نعم..
هي وهو/ شجرة الآن، لكنك أنت التي غرستها وسقيتها
وكل يوم من هذه السنين السبع عشرة هي بمثابة شربة تشربها ابنتك أو ابنك بما رويتهما أنت وزوجك .
حيناً أخلاق، وحيناً عبادات، وحيناً آخر معاملات، وحيناً رابع توجهات... ولا تنسيا أنكما أحطتما ذلك بـ: العلاقات، والعواطف والمشاعر..
علاقتكما بهما وعلاقتهما بكما..(115/1099)
والإشباع العاطفي له دور كبير في لجوئهما إليكما في كل شيء، وكونهما كتاباً مفتوحاً أمامكما في كل حين.
وضرورة الاهتمام بهما في نعومة أظفارهما كان من أهم ما كان يشغل بالكما..
أتذكرين ذلك اليوم الذي كنت لا تبالين تركهما منفردين مع الخادمة أو السائق، وأنت لا تدركين خطورة ذلك..
أتذكرين ذلك اليوم الذي كنت تفتخرين فيه بجمال ابنتك وتختارين لها ما تشائين من اللباس الذي ينافي الحياء الحشمة.
ثم أتذكرين ذلك اليوم الذي كنت تفتخرين بتدليل ابنك وتلبية جميع الرغبات له، وأن والدهما لا ينقصه شيء..
الانضباط في تلبية رغبات البنين والبنات لا يعني نقص شيء من المال أو الجاه لديك..
ولكن يعني تقويم الذات، وغرس الصفات..
و من جهة أخرى كنت لا تبالين بأوقات نوميهما واستيقاظهما، وبكيفية تدريسهما ودراستهما سوى شراء متطلبات المدرسة، أتعتقدين أن الشجرة التي لا راعي لها تثمر؟
تأوهت.. ووضعت اللوم على أبيهما حيناً وعلى الصحبة حيناً آخر.. وكأنها أدركت خطأهما في سنين الزرع..
قلت لها: نحن لسنا بحاجة إلى دواء اللوم.. بل اللجوء إلى الله بصدق وعزيمة هو الخلاص الوحيد مما وقعنا فيه كلنا
ثم: الشعور بالمسؤولية- الاهتمام- الحرص- الانضباط –
من أجل الأمور التي على كل واحد وكل واحدة منا تفهمها،
ويأتي ذلك كله في الحديث الذي رواه ابن عمر- رضي الله عنهما-عن النبي- صلى الله عليه وسلم- : "كلكم راع و مسؤول عن رعيته؛ الإمام راع ومسؤول عن رعيته، والرجل راع في أهله ومسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها [وفي رواية مسلم: في بيت بعلها وولده...]، والخادم راع في مال سيده ومسؤول عن رعيته، والرجل راع في مال أبيه ومسؤول عن رعيته، وكلكم راع ومسؤول عن رعيته" رواه البخاري .
ـــــــــــــــــــ
كيف تصنع رسالة دعوية؟
أحمد بن عبد المحسن العساف
1/3/1426
ارسل تعليقك ...
تعليقات سابقة ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...(115/1100)
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على إمام الدعاة وقدوة العباد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً؛ وبعد :
هذه طريقة مقترحة لكيفية إيصال الرسالة الدعوية إلى المتلقي؛ اقتضتها الحاجة وكثرة السؤال ممن بذلوا أوقاتهم لخدمة دين الله ونفع عباده؛ وقد جاءت في اثنتي عشرة خطوة كما يلي:
*اجعل لطرحك مسوغاً:
فذلك أدعى لقبوله ولفت الانتباه إليه؛ وحتى لا يتسلل الشك إلى نفس المخاطب بأنه المقصود بالحديث خاصة في بعض المسائل، وهذا المسوغ:
إما أن يكون موجوداً: كأن يبدأك بسؤال أو ذكر حادثة فتجيب أو تعلق بما يناسب، أو أن ترى منظراً لرجل مصاب فتذكره بنعمة الله وحقوقها، أو تشاهد مستغرباً في لباسه فتحدثه عن نعمة الإسلام والتدين وتعمق مفاهيم الولاء والبراء لديه، ومثله أن تستغل التزامك بقوانين المرور وأنظمته للتذكير بضرورة الالتزام بأوامر الله ونواهيه وتعزيز مفاهيم الأمانة وحفظ الضرورات الست عنده، وكأن تستغل انضباطه بمواعيده للثناء عليه وذكر فضيلة الوفاء بالوعد والعهد ثم تتخذ ذلك منطلقاً للحديث عن الصلاة ومواقيتها وجماعتها وتعرج على المنافقين بفضح خلائقهم وصفاتهم دون أسمائهم.
أصلح نفسك وتعاهد سريرتك وتفقد نيتك يصلح الله لك مَنْ معك، ويجعل لكلامك نورانية تخترق حُجُب النفوس _ حتى لو كانت غليظة _ إلى حيث موقعها من قلب المدعو
أو تسعى لإيجاده: كأن تورد القصة من باب التسلية ثم تعلق عليها، أو تستمع معه إلى شريط نافع أو برنامج ماتع وتناقشه فيه، أو تبادره بالسؤال عن الامتحانات لتحدثه عن فضيلة الصبر أو الشكر؛ أو تستخبره عن والديه لتعقب بحديث عن حقهما ووجوب برهما وطاعتهما في غير معصية، وهكذا حتى لا يشعر صاحبك أنك تعتسف الحديث اعتسافاً.
*لا تشعره بأنك تلقي محاضرة:
وذلك بأن تكون على سجيتك أثناء الطرح؛ متوسط اللغة غير متقعر ولا مسفٍ ولا مغرقٍ في العامية؛ ولا تبدأ حديثك بما تبدأ به المحاضرات بالرغم من فضل تلك البداية وأجرها، ولتكن معانيك واضحة قريبة سهلة المأخذ وحاذر الرمزية وكن مباشراً دفعاً للظنة والفهم الخاطئ.
*اجعل لطريقة عرضك خطة قبل اللقاء:
وذلك بالتزام منهج تسلكه لبلوغ الهدف المنشود من اللقاء معتمداً على ترتيب الأفكار ومراعاة الأولويات، فلا تذكر للمدعو صوراً من الربا قبل ذكر تعريفه وبعض أدلة تحريمه؛ وتذكر أن إيجاد المسوغ من أهم مهمات خطة الطرح.
*احرص على رؤوس الأقلام المهمة:
فقد لا يسعفك الوقت أو شخصية المقابل، فلا تطل واكتف بذكر رؤوس الأقلام المهمة لكونها أرسخ في الذهن وأبعد عن الملل؛ ولا مانع حسب حالة المتلقي من تكرارها؛(115/1101)
وتذكر قول المبرد: " من أطال الحديث وأكثر القول فقد عرض أصحابه للملال وسوء الاستماع ".
*لا تذكر الشبهة نقداً وتجعل ردها نسيئة:
والصواب ذكر المفهوم الصحيح والتأكد من فهمه ورسوخه ثم ذكر الشبهة وتفنيدها؛ وسيكون نجاحك أكيداً باهراً لو شاركك المدعو بتفنيد الشبهة ودحضها بناءً على قولك الأول.
* ليس ضرورياً أن يكون لكل لقاء موضوعاً خاصاً:
ويتأكد ذلك في الجلسة الأولى؛ ويكتفى بذكر الله حينما تعرض مناسبة كالآذان أو العطاس أو القيام من المجلس أو الفراغ من طعام أو شراب، وعند البخاري من حديث ابن مسعود _رضي الله عنه_ " كان النبي _صلى الله عليه وسلم_ يتخولنا بالموعظة في الأيام كراهة السآمة علينا " وقد علق الحافظ ابن حجر على ذلك بقوله: " ويستفاد من الحديث استحباب ترك المداومة في الجد في العمل الصالح خشية الملال " ثم قال: " ويختلف باختلاف الأحوال والأشخاص؛ والضابط الحاجة مع مراعاة وجود النشاط".
*نوِّع خطابك:
فلا تجعله محصوراً في العلم أو العاطفة أو الفكر أو الأدب؛ بل شكله حسب المقام والمستهدف، ومن تنويع الخطاب أن يكون مرة بلسانك وأخرى عبر شريط أو إذاعة وثالثة من خلال كتاب أو مجلة، وهكذا...
*لا يكن حديثك متشائماً:
فلا تشحن خطابك بالسلبيات ولا تصيره مكتظاً باليأس والقنوط والهزائم فذلك أدعى لرفضك ورد مقولك وقطع العلائق معك، ولا يعني هذا الإغراق في الإيجابيات والتفاؤل المفرط الساذج؛ لأن كثرتها خلاف الواقعية والموضوعية؛ والتوسط مطلوب في كل شيء.
*لا تشغله بالجزئيات:
فلعله لا يستفيد شيئاً من التوسع في ذكر اختلافات الأئمة _ رضوان الله عليهم _ في مسألة ما مثل ما يستفيده من الاقتصار على القول الراجح أو من ترسيخ حكم أساسي في ذهنه ، ثم إن شغله بالجزئيات مدعاة لتشتيت الذهن وعدم شعوره بالفائدة ثم الانقطاع.
*لا تسرد موضوعاتك مرة واحدة:
فلن يستفيد ولن تجد ما تحدثه به مستقبلاً إلا المعاد المكرر، وستكون كصاحب بيض وضعها في سلة واحدة وقطع بها أرضاً وعرة ثم عثر ! فما ظنك بالبيض ؟
*ليكن خطابك مما يحتاجه المدعو:
فلا تحدث فقيراً عن الإسراف وخطره مثلاً؛ ولا ترشد آخر غير سالكٍ إلى أهمية النظر في كتب شيخ الإسلام ابن تيمية مثلاً، وإذا علمت عمن معك أنه يرافق صحبة سيئة فحدثه عن الصحبة الصالحة وبركتها، وليكن حديثك عن الأشياء الظاهرة عليه أو المعلومة عنه حديثاً غير مباشر خصوصاً في بدايات المعرفة، ويدخل ضمن هذه الفقرة مراعاة اهتمامات المدعو حتى يأنس بالجلوس إليك؛ ومنها أيضاً تحديث(115/1102)
المدعوين على قدر مداركهم واستيعابهم كما روي عن ابن مسعود _رضي الله عنه_: " ما أنت بمحدث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة "، وإياك إياك أن تطب زكاماً فتحدث جذاماً، والسلامة لا يعدلها شيء.
*تجنب متاهات السياسة ولا تدخل في موضوعات حرجة:
وذلك أجلب لاطمئنانه وأضمن لاستمراره، ومن نفيس كلام الإمام الشاطبي _رحمه الله_ قوله: " وليس كل ما يُعلم مما هو حق يطلب نشره، وإن كان من علم الشريعة ومما يفيد علماً بالأحكام ". وليكن موقفك واضحاً في رفض الأخطاء واستنكارها كأعمال التفجيرات بنفس الدرجة التي تنكر بها المخالفات الأخرى.
وأخيراً؛ أصلح نفسك وتعاهد سريرتك وتفقد نيتك يصلح الله لك مَنْ معك، ويجعل لكلامك نورانية تخترق حُجُب النفوس _ حتى لو كانت غليظة _ إلى حيث موقعها من قلب المدعو؛ وأحثك على مزيد من العلم ومزيد من الثقافة ومزيد من المهارة فلا يحسن أن يكون المدعو أميز من الداعية في واحدة مما ذكرت؛ وكن قدوة بسمتك وبقولك وبفعلك؛ سددك الله ووفقك وأعانك؛ ولله الأمر من قبل ومن بعد؛ والسلام.
* كتب مقترحة:
• مقدمات للنهوض بالعمل الدعوي. د. عبد الكريم بكار.
• ثقافة الداعية. د. يوسف القرضاوي.
ـــــــــــــــــــ
فن تكوين العلاقات
إسلام داود
24/2/1426
ارسل تعليقك ...
تعليقات سابقة ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
إن عملية تكوين العلاقات ليست مسألة خارقة للطبيعة، إذ يستطيع كل منا أن يجند الآخرين لمساعدته في الوصول إلى أهدافه الشخصية، أو لمساندة قضية فقط إذا كان مستعداً للعيش وفق المفاهيم البسيطة التالية التي يمكن لأي إنسان أن يكتسبها.
إن أول قاعدة لتكوين علاقة هي أن يؤمن كل إنسان منا بأنه يستحق الثقة والاحترام والصداقة من الآخرين، مهما كان رأيك تجاه ذاتك، وكيفما كان رأيك في نفسك، وبغض النظر عن شكوكك ومخاوفك، فأنت مؤهل لهذه الأشياء ويجب أن تنتظرها من الآخرين.
هل قابلت شخصاً ذات يوم وكرهته فوراً، وبغض النظر عن الجهد الجاد الذي بذلته، فقد كنت عاجزاً عن تغيير انطباعك السلبي عنه؟ ربما يكون هناك أسباب لتلك التفاعلات الفطرية السريعة، فقد ينتج هذا الانطباع السيئ عن مجموعة من التجارب الأليمة الحبيسة في أعماق الذاكرة، وربما يكون السبب هو أن هذا الشخص يذكرنا(115/1103)
بلا وعي بشخص آخر عشنا معه تجربة سيئة، أو ربما يكون ببساطة بسبب الانطباع الأول الذي قام على تعليق غير لطيف منه.
إن أول قاعدة لتكوين علاقة هي أن يؤمن كل إنسان منا بأنه يستحق الثقة والاحترام والصداقة من الآخرين، مهما كان رأيك تجاه ذاتك
على العكس، فقد كان لمعظمنا أيضاً رد فعل معاكس تماماً، حيث انسجمنا مع أفراد من اللحظة الأولى التي تعرفنا فيها عليهم، فقد كانوا مرحين، وبارعين، وجذابين وأذكياء، أي أنهم يملكون كل السمات التي نحبها في الشخص الذي نتعامل معه، إن الأفراد قد يصبحون شركاء في العمل في بعض الأحيان، وقد يصبحون أعداء لدودين لبعضهم البعض.
غالباً ما يكون السبب وراء تفاعلنا مع أفراد معينين بقوة شديدة هو أننا نرى فيهم سمات نحبها أو نكرهها بشدة، أو أننا نجد فيهم السلوكيات التي نرغب فيها ونود أن نقوم بها، إننا لا نتعامل مع الآخرين بسبب ما هم عليه، ولكننا ننجذب إليهم؛ لأنهم يعكسون ما نحن عليه، أو ما نحب أن نكون عليه.
عندما تحس بهذه المشاعر القوية في المرة القادمة – إيجابية أو سلبية – التي تقابل فيها شخصاً لأول مرة، فكن حذراً فقد تؤدي هذه المشاعر إلى مشكلات خطيرة، أو توقعات غير واقعية، اطرح على نفسك هذه الأسئلة: ماذا يوجد في هذا الشخص مما أحبه حقاً؟ ما سلوكياته أو سمات شخصيته التي تجذبني إليه أو تبعدني عنه؟ إلى أي مدى يشبهني هذا الشخص؟ إلى أي مدى يختلف عني؟ هلا أنظر حقاً إلى صورة تعكس نفسي في هذا الشخص؟
تحكم في مشاعرك حتى تشعر بأنك جدير بصداقة ذك الفرد، بدلاً من أن ترغب في هذه الصداقة فقط لأنك معجب به، أو لأنك تشعر بالذنب لأنك تكره هذا الشخص، ولأنك غير متأكد من سبب هذا الكره.
أما المبدأ الثاني لتكوين علاقات ناجحة، فهو: أننا لا بد أن نقبل أن معظم الناس خيرون بفطرتهم، ربما يكون كل منهم – بين الحين والآخر – وقحاً أو عنيداً أو طائشاً أو سريع الغضب، لكنه خيّر في جوهره، إنها مسألة لا يمكن إثباتها علمياً، ففي عالم التجارة – مثلاً – نجد أن رجل الأعمال الأناني والقاسي – لأنه طموح – يتقدم باستمرار على حساب الآخرين سعياً إلى تحقيق هدفه، وربما يصل إلى أعلى المناصب في الشركة، ولكن مدة ولايته لهذا المنصب قصيرة عادة، إن هؤلاء الذين لا يستطيعون أن يدفعوا الآخرين على العمل معهم لا يصبحون قادة أبداً قد ينجح التخويف في حفز الآخرين، ولكن أثره يزول سريعاً.
المبدأ الثالث في تكوين العلاقات، هو: أن معظم الناس يحبون مساعدة الآخرين، إنها حقيقة أخرى لا يمكن إثباتها علمياً، ولكن إذا كنت تشك في صحتها، فحاول أن تطلب من الآخرين العون أو النصيحة، يعارض معظم الناس التطوع في تقديم العون للآخرين؛ لأنهم لا يريدون أن يفرض عليهم، ولذا فبمجرد طلب المساعدة فإنهم يحطمون هذه الحدود.
ـــــــــــــــــــ
التفوق والنجاح(115/1104)
د. عبد الكريم بكار
17/2/1426
ارسل تعليقك ...
لا توجد تعليقات ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
كل واحد منا عبارة عن مخطوطة فريدة، يتمتع بخصائص عقلية ونفسية متميزة، كما إنه يتعرض لتربية، ويعيش في ظروف، ويحمل ذكريات وطموحات أيضاً متفردة وخاصة؛ مما يعني أيضاً تفرد نظرة كل واحد منا للحياة، وتفرده في التفاعل مع أحداثها واغتنام فرصها والاستجابة لتحدياتها، وهذا لا يلغي بالطبع القواسم المشتركة التي بين البشر، ولا سيما أبناء العقيدة الواحدة.
لو تأملنا ملياً في الفوارق الجوهرية بيننا لما وجدناها كبيرة، لكن إذا نظرنا في الإنجازات والنجاحات التي يحققها الأشخاص المتشابهون، فإننا سنجدها متباينة إلى حدٍّ بعيد؛ وما ذلك إلا لأن وعينا بذواتنا يختلف اختلافاً كبيراً من شخص إلى شخص آخر.
وإن من الثابت أن خطأ واحداً كبيراً، كاحتقار الذات، أو الغرور، أو الكسل، أو الفوضى، أو عتمة الرؤية.. يمكن أن يصيب فاعلية الواحد منا بالشلل التام، ويُقعده عن تحقيق أمور كثيرة، كان بإمكانه الوصول إليها لولا العطب الذي أصاب جانباً من جوانب شخصيته، وهذا كله يدل على أن الشروط المطلوبة للتفوق العظيم كثيرة؛ ولهذا فإن السواد الأعظم من الناس عبارة عن أشخاص عاديين، فأنت ترى عشرات الألوف من المهندسين والمدرسين والأطباء الشديدي التشابه والمتقاربين في أدائهم، ولا تكاد تجد المتميزين منهم يصلون إلى 5%، أما المتميزون جداً جداً، فهم قد لا يصلون إلى 5 بالألف. وعلى مقدار ما تدعو هذه الوضعية إلى التشاؤم، تدلنا على وجود إمكانات هائلة للتحسين، وأكثر مما نتخيل إذا توافر لنا شرطان أساسيان:
لو تأملنا ملياً في الفوارق الجوهرية بيننا لما وجدناها كبيرة، لكن إذا نظرنا في الإنجازات والنجاحات التي يحققها الأشخاص المتشابهون، فإننا سنجدها متباينة إلى حدٍّ بعيد؛
الأول: وعينا بذاتنا، بالمدلول الواسع لهذه الكلمة.
الثاني: امتلاكنا الإرادة الصلبة التي تساعدنا على تجسيد رُؤانا في سلوكنا.
والآن ما أسرار التفوق، وما سمات المتفوقين؟
للجواب على هذا التساؤل، يمكن أن نذكر بعض النقاط التي تنير هذه المسألة، على النحو الآتي:
1 – يؤمن المتفوقون إيماناً قوياً بالارتباط بين الأسباب والنتائج، فهم يعتقدون أن العالم كله يتحرك من خلال تنظيمات قائمة، على أن لكل نوع من النتائج نوعاً يناسبه من المقدمات والأسباب، ولذا فهم يتقنون كل ما عليهم أن يفعلوه، وينتظرون النتائج التي يتوقعونها. إنهم يعتقدون أن المِقْوَد في أيديهم، ومصيرهم لا يقرره الحظ أو(115/1105)
الصدفة، والمسلم المتفوق يقرن ذلك بالتوكل على الله – تعالى – والرضا بالنتائج التي يمنحها، مما يجعله في غمرة من الارتياح في كل الأحوال.
وانطلاقاً من هذا، فإن الناجحين لا يعترفون بما يسميه الناس الإخفاق، وإنما يعترفون بوجود نتائج غير جيدة في بعض الأحيان، وهم لخبرتهم بطبيعة العلاقة بين المقدمات والنتائج يجدون أنفسهم قادرين على قراءة الأسباب التي أدت إلى النتائج السيئة واكتشاف مواطن الخلل فيها؛ ثم ينطلقون إلى تكرار المحاولة من جديد.
2 – المتفوقون والناجحون يعرفون أن ما يسميه المتقاعسون والكسالى مستحيلاً، لا يعدو أن يكون شيئاً عسير الحصول في المدى القريب، لكنه من خلال المثابرة على استخدام الذكاء والمعرفة في معالجته، لا يتحول إلى ممكن فحسب، بل قد يتحول إلى نموذج فذّ للنجاح والتقدم المدهش على المدى البعيد، وحين يظن الأشخاص العاديون أن الساحة مزدحمة بالأقوياء، وأنه لم يبق فيها متسع للمزيد يرى الناجحون شيئاً آخر، فهم يتمتعون بعقلية (الوفرة) ويعتقدون أن في فضل الله – تعالى – ما يكفي الجميع، وأن هناك إمكانية دائمة للإضافة والتطوير في كل مجالات الحياة؛ ولذا فإنهم يقدمون حين يحجم الآخرون، ويغامرون حين يتخوّف العاديون.
3 – المتفوقون يثقون في قدراتهم الذاتية، ويتوقعون من أنفسهم النجاح، ويتصرفون على أساس ذلك. وهم لثقتهم في أنفسهم يجعلون الناس يشقون فيهم، وهذا يتيح لهم فرصاً كثيرة لا تتاح عادة للذين يحتقرون أنفسهم، أو يجهلون إمكاناتهم الشخصية.
4 – الناجحون يركزون جهودهم فيما يُحسنونه، فعلى حين تتشتت جهود الأشخاص العاديين، يعرف الناجحون كيف يكتشفون المجال الأكثر مناسبة لقدراتهم وتطلعاتهم؛ ولذا فإن النتائج التي يحصلن عليها تظل متميزة.
5 – الإصرار والدأب والقدرة على الاستمرار في بذل الجهد من أهم ما يمتاز به المتفوقون والناجحون. وهذه السمة تعادل في كثير من الأحيان الذكاء الخارق الذي يتمتع به بعض الموهوبين؛ بل إن ذوي العزيمة – ولو كانوا متوسطي الذكاء – يجدون من فرص النجاح أكثر بكثير مما يجده الأشخاص المتفوقون ذهنياً، لكنهم كسالى وفوضويون.
6 – طموحات الناجحين واسعة، وكلما حققوا نجاحاً تطلعوا إلى نجاحٍ أكبر منه، فهم أقوام لا يرضون من أنفسهم بالقليل، وقد أثبت عدد من الدراسات أن أسوأ ما تتركه البيئة المحطمة في أبنائها أنها تحطِّم طموحاتهم وأمانيهم، وتجعل آفاقهم وتطلّعاتهم محدودة؛ مما يجعلهم يبحثون عن مجرد العيش، ويرضون بأي شيء يأتيهم.
فإذا أحببت أن تصبح واحداً من اللامعين الممتازين، فهذا متاح بإذن الله – تعالى – وقد يهب الله لبعض المتأخرين ما حجبه عن كثير من المتقدمين، ولكن عليك أن تعلم أنه ليس لدى أحد وصفة سريعة لك، ولا بد لك من أن تصبر، وتدخل إلى عالم الناجحين، لتتعلم منهم ما يؤهلك للنجاح.
وهنا نتساءل تساؤلاً ثانياً، يتركز على علامات النجاح، إذ قد يكون المرء ناجحاً وهو يظن أنه مخفق، وقد يكون مصنفاً لدى الناس بين الأشخاص العاديين، وهو يظن في نفسه أنه من الرواد الأفذاذ.
ويمكن أن نذكر من علامات النجاح الآتي:(115/1106)
1 – الشعور بالسكينة وهدوء البال والراحة النفسية، وعدم الإحساس بالخوف أو الذنب؛ لأن النجاح الحقيقي هو النجاح الذي يحرزه المرء في إطار عقيدته ومبادئه، ولذا فالمسلم الناجح لا يشعر أن نجاحه على حساب دينه أو كرامته أو أسرته، فهو مع نجاحه يحقق التوازن المطلوب.
2 – من علامات النجاح القدرة على بذل مستوى عالٍ من الجهد؛ حيث يملك الناجح الهدف، ويملك القوة النفسية التي تمكنه من بذل الثمن الذي يستحقه ذلك الهدف.
3 – تحقيق علاقات طيبة مع الناس، والشعور بالتلاؤم والانسجام معهم، واستيعاب ما يصدر عنهم من مزعجات وشذوذات.
4 – وجود أهداف ذات قيمة عالية في حياة المرء، أهداف سامية تستحق العناء، وتستحق التضحية. أهداف تحفز على العمل وتستنهض الهمة، وتحفز الطاقات الكامنة. إنها أهداف تتحدى صاحبها لكنها لا تعجزه. إن الناجح يشعر دائماً أنه يقترب من أهدافه، وأنها باستمرار تتحول من شيء في الذهن أو على الورق إلى شيء ملموس تُتفيأ ظلاله.
5 – عدم الاحتياج المالي، ولا يعني هذا أن الناجحين أثرياء كبار، أو ينفقون الكثير من المال، المهم أنهم أشخاص قادرون على تلبية احتياجاتهم المادية دون أن يستدينوا من أحد، أو يكونوا عالة على ذويهم ومجتمعهم.
ـــــــــــــــــــ
خيانة الرخاء..!
أحمد بن عبد المحسن العساف
10/2/1426
ارسل تعليقك ...
لا توجد تعليقات ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
يغلب على بني آدم الآنية والانغماس في اللحظة الحاضرة والتفاعل مع الصورة القائمة ولو كانت قاتمة؛ لأن الإلف والعادة يغلبان الإنسان ويضعفان الشعور؛ وينسى بنو أبينا الشيخ الكبير آدم _عليه السلام_ الغد والمستقبل وتباغت كل صورة أختها بالمسح والإزالة؛ وبسبب هذه الخلة ينخفض مستوى إنتاجية وفعالية الإنسان وينتقل من أسر لحظة أو حالة أو صورة إلى أسرٍ آخر دون أن يشعر بهذا القيد أبدا أو يفطن له أو يخطر له على بال؛ فيتبلد حسه وتنعدم ملاحظته فلا يقوى على التمييز والإدراك كما ينبغي؛ ويحدِث هذا التبلد تكيفاً غير منطقي يرى الإنسان بموجبه أن أوضاعه طبيعية مستقرة وغير قابلة للتغير أو التحول؛ فلا يفكر بالمراجعة والتجديد بله الشروع في التغيير.
وقد حثنا النبي _ صلى الله عليه وسلم _ على تجاوز أغلال الحاضر إلى التفكير بالمستقبل حين أمرنا قائلاً: " اغتنم خمساً قبل خمس... " الحديث، كما أرشدنا _ عليه(115/1107)
الصلاة والسلام _ إلى ضرورة الإمساك بزمام المبادرة حين قال: " بادروا بالأعمال سبعاً... " الحديث...، ولي مع هذين النصين الكريمين وقفات، هي:
يغلب على بني آدم الآنية والانغماس في اللحظة الحاضرة والتفاعل مع الصورة القائمة ولو كانت قاتمة؛ لأن الإلف والعادة يغلبان الإنسان ويضعفان الشعور
أولاً: من شروح هذين النصين الشريفين ما قاله القاري _رحمه الله_ في مرقاة المفاتيح: " اغتنم من الاغتنام وهو أخذ الغنيمة خمساً أي من الأحوال الموجودة في الحال قبل خمس أي من العوارض المتوقعة في الاستقبال شبابك أي زمان قوّتك على العبادة قبل هرمك بفتحتين أي قبل كبرك وضعفك عن الطاعة وصحتك أي ولو في هرمك قبل سقمك بفتحتين وبضم فسكون أي مرضك وغناك أي قدرتك على العبادات المالية والخيرات والمبرات الأخروية في مطلق الأحوال ومن أعم الأموال قبل فقرك أي فقدك إياه بالحياة أو الممات فإن المال في صدد الزوال وفراغك قبل شغلك سبق بيان مبناه ومعناه وحياتك ولو في الكبر المقرون بالمرض والفقر الممكن فيه الإِتيان بذكر الله قبل موتك أي وقت إتيان أجلك وانقطاع عملك... " انتهى.
وقال الحكمي _رحمه الله_ في (معارج القبول): " يعني أن هذه الخمس أيام الشباب والصحة والغنى والفراغ والحياة هي أيام العمل والتأهب والاستعداد والاستكثار من الزاد فمن فاته العمل فيها لم يدركه عند مجيء أضدادها ولا ينفعه التمني للأعمال بعد التفريط منه والإهمال في زمن الفرصة والإمهال فإن بعد كل شباب هرما وبعد كل صحة سقما وبعد كل غنى فقرا وبعد كل فراغ شغلا وبعد كل حياة موتا.. " انتهى كلامه. وقال المباركفوري _رحمه الله_ في (تحفة الأحوذي): " قوله قال بادروا بالأعمال سبعا أي سابقوا وقوع الفتن بالاشتغال بالأعمال الصالحة واهتموا بها قبل حلولها.. " إلخ.
ثانياً: تدلنا هذه النصوص الشريفة إلى أن التفكير بالمستقبل واستشرافه ومن ثم التخطيط له والاستعداد للتعامل معه مطلب شرعي وواجب معيشي ؛ وإهمال هذا الجانب يجعل مستقبل الإنسان مسرحاً لصدمات عنيفة قد يحار في التعامل معها بسبب ركونه إلى رغد العيش ورخائه؛ وكم لهذا الرخاء من خيانة وكم سبب الرغد من ترهل وجمود، كما ينبهنا الحديث الثاني إلى ضرورة أن تكون أفعالنا ابتدائية أو استباقية وألا تكون ردود أفعال نتحرك حسب ما تقتضيه تحركات الطرف المقابل؛ فلا مناص من أن نكون مختارين لاستجابتنا بمحض إرادتنا دون أن نقع تحت سيطرة و تحكم عن بعد من عدو أو خصم.
ثالثاً: أن من الرخاء ما يكون شدة قياساً لغيره؛ ومن الشدة ما تكون رخاءً قياساً على غيرها، وقد تختلف الموازين باختلاف الأزمان والأماكن والأحوال ولكل حالة لبوسها ووصفها الذي يقدره أهل الشأن من الأمناء الصادقين.
رابعاً:كم يعاني أهل الإسلام من خيانات الرخاء وهجمات الشدائد من غير عبرة تؤخذ أو فائدة تكتسب أو سياسة تتبع لجلب نفع أو دفع مضرة! فمن الرخاء أن تكون بلاد الإسلام عزيزة منيعة ثم تأتي سنون يصير منها المحتل والمهدد والمضطرب والمحصور والمقهور فلم نستفد من رخائنا ولم نتفاعل مع شدتنا بالحكمة والحزم الذي يتطلبه الموقف. ومن الرخاء أن تكون الشريعة مصانة والدين حمى مقدس(115/1108)
والفضيلة حصن مكين ثم تذهب الهيبة من النفوس بتلاعب السفلة وظهور الفسقة فيلغ كل جاهل ومتعالم في منهل الشريعة المطهرة ويصير الدين والمتدينون كلئاً مباحاً سائغاً لكل عيي وغاو وشيطان مريد، وينادى على الرذيلة بصوت جهير وراية مرفوعة؛ ويصبح حملة الشرع المطهر والذابين عنه من السابقين أو المعاصرين مادة سهلة التناول من الصحفيين والكتبة بغير تؤدة ولا تحقق أو استحياء. ومن الرخاء أن يكون للفتيا جهابذتها وأشياخها الكبار حتى إذا ما مضوا لربهم _ عليهم رحمة الله _ تصدى للتوقيع عن رب العالمين طلاب الدنيا والشهرة بفتاوى تصف الغرور والتدليس والبهتان ويضج من قبحها عامة المسلمين بله أهل العلم والمعرفة. ومن الشدة عقب الرخاء الاضطراب في مفهوم التدين ما بين الغلاة والجفاة حين يقصى أتباع الوسط والقسطاس المستقيم فينجم النفاق ويظهر الغلو وفيهما من الشناعات والمخازي مالا يخفى.
خامساً: ومن واجب أهل البصيرة من المسلمين الاتحاد في رابطة عالمية لدراسة تاريخ المسلمين ومراقبة حاضرهم واستشراف مستقبلهم لاستنباط السنن ومقارنة الأحداث ببعضها مستفيدين من حالات الرخاء والشدة ليصنعوا _ بعد فضل الله وتوفيقه _ رؤية مستقبلية طموحة يخرج بها أهل الدين الحق من التيه والهوان والتأخر إلى حيث مكانهم الذي أراده الله لهم حين يتبعون أمره ويسعون في مرضاته ويجتنبون نهيه ويبتعدون عن مساخطه فيكونوا سادة الدنيا وقادة البشرية وحماة الحق والفضيلة.
سادساً: أن على كل واحد من المسلمين واجب لاانفكاك من أدائه على الوجه الأكمل؛ ويشمل هذا الواجب العالم والحاكم والجندي والعامل والتاجر والرجل والمرأة والطفل وصاحب المهارة والحرفة وذا الفكر والأدب والثقافة؛ فيجب على كل فرد منهم أن يكون مشروع نهضة ورمز مقاومة وممانعة وديوان عزة وسجل كرامة ومجد ولن يمضي الواحد من هؤلاء إلى ربه راشداً مرضياً إلا بأداء ما استوجبه الله عليه؛ فالله الله في نفوسكم وفي أمة محمد _صلى الله عليه وسلم_ وبلاد المسلمين.
وأخيراً؛فالتحدي يوجد الاستجابة؛ والحاجة أم الاختراع؛ غير أن التفوق يتحقق حين تكون التحديات غير مفاجئة ولا مباغتة؛ بل متوقعة ومستعد لها بالتصرفات الملائمة والحلول العملية بما يجعلها فرصة لمزيد من المكاسب لا مصدراً للشقاء والتعاسة، وكم من شدة كانت طريقاً للرخاء؛ وكم من رخاء كان سبباً للشدة، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون
ـــــــــــــــــــ
الوقت.. والاستفادة القصوى
إسلام داود
3/2/1426
ارسل تعليقك ...
لا توجد تعليقات ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...(115/1109)
طباعة ...
لا بد أنك سمعت بالسؤال "ما الشيء الأطول والأقصر في آن واحد، والأسرع والأبطأ معاً، والذي نهمله جميعاً ثم نأسف عليه، ولا شيء يمكن أن يتم بدونه، إنه يبتلع كل ما هو صغير وينمي كل ما هو عظيم؟ نعم، إنه الوقت!!!
الوقت هو الأطول؛ لأنه قياس الخلود، وهو الأقصر؛ لأنه ليس بيننا من يملك الوقت اللازم لإنجاز كل أعماله، وهو الأسرع بالنسبة إلى السعداء، والأبطأ بالنسبة إلى التعساء، ولا يمكن عمل أي شيء بدونه؛ لأنه هو المسرح الوحيد الذي نعيش فيه إنه مادة الحياة يبتلع في طي النسيان كل تافه وينمي كل ما هو عظيم.
إن الوقت عند الناجحين غالٍ؛ لذلك فإنهم يقضون أوقاتهم في تأدية الأعمال التي لا يرغب الخائبون في عملها؛ والشخص العادي يجد من الأسهل أن يتكيف مع متاعب الإخفاق بدلاً من تقديم التضحيات التي تؤدي إلى النجاح. إن حقيقة أن يكون لدينا أهداف وتوجهات معينة في الحياة تعني القليل إذا لم يكن لدينا جدول زمني ببرمجتها؛ عندئذ فقط يمكننا أن نبدأ التحرك نحو تحقيق أهدافنا والوصول إلى مبتغانا.
إن الوقت عند الناجحين غالٍ؛ لذلك فإنهم يقضون أوقاتهم في تأدية الأعمال التي لا يرغب الخائبون في عملها؛ والشخص العادي يجد من الأسهل أن يتكيف مع متاعب الإخفاق بدلاً من تقديم التضحيات التي تؤدي إلى النجاح
ويصنف البشر ضمن واحدة من فئتين: الأولى سيئة الحظ غير موفقة تحاول القيام بعمل شيء ما يظل دائماً في الغد، أما الفئة الثانية التي تثير الإعجاب فهي المجموعة المستعدة للعمل على الفور؛ لأن الغد بالنسبة إلى هؤلاء غير مضمون.
إن قتل الوقت لا يعد جريمة عادية، إنه اغتيال متعمد؛ فإذا كان لزاماً على المرء أن يقتل الوقت فلماذا لا يقتله استغلالاً حتى الموت؟ حينما تقول: "أنا ليس لدي الوقت" فإنك تعني أن لديك شيئاً آخر أهم منه.
إن الوقت يعني لبعضنا اللحظة التي تكون فيها الفرصة في أوجها إنهم يؤكدون كثيراً على التوقيت الجيد وللوقت حينما تكون الفرصة أكثر من مواتية مغزى خاص عند كثير من الناس، ويعلمنا خبراء الإعلان أنه ليس هناك شيء أثمن من فكرة وردت في الوقت المناسب إذا كان بوسعك أن تتعلم إدراك اللحظة المناسبة حينما تأتي وأن تغتنمها قبل أن تذهب فإن مشكلات الحياة تصبح في منتهى اليسر.
إن الوقت عند بعضنا يمثل مجرد مقياس للثواني والدقائق والساعات والسنوات، وحينما يفكر أولئك في الوقت فإنهم يرون إما ساعة أو تقويماً ويستشعرون بعداً واحداً فقط هو الفترة الزمنية، لكن هذا المفهوم للوقت هو أكثر المفاهيم ضحالة، فأصحابه لم يبدعوا شيئاً مذكوراً؛ إن مأساة هذا المفهوم للوقت هو أنه يدمر روح المبادرة ويحبط البواعث الإبداعية، ولا يحقق إنجازاً في الوقت المخصص فإذا كان لدينا أسبوع لإنجاز مهمة من المهام فإنها سوف تستغرق أسبوعاً وإذا ما منحنا عشرة أيام لإنجازها فإنها سوف تستغرق عشرة أيام، فالمهمات تتمدد وتنكمش لاستيعاب كل الوقت المخصص لها.
وهناك الذين يعطون معنىً حقيقياً للحياة، وذلك من خلال إعطاء الوقت صفة العمق العظيمة، فالوقت لديهم ليس حبيس الساعة ولا أسير التقويم إن إنجازات هؤلاء(115/1110)
تحطمها روح الإخلاص والحماسة لا الساعات أو الأسابيع فهم يؤمنون جداً بما يفعلون وينجذبون تجاه الهدف باندفاع روحي قوي لا يعترف بالوقت، لقد ألزموا قلوبهم بمهمة يحبونها، وعملهم ليس إلا تعبيراً عن رسالة تشع بالأهداف والغايات، وهذا الفهم للوقت يعد بكل تأكيد أحد البنود الأولى في أية صيغة من صيغ النجاح، ومن أكثر المهام صعوبة بين المجموعات جعل الناس ينظمون أوقاتهم، لذلك أصبح من الضروري على كل فرد أن يقضي بعض الوقت في بداية الأسبوع ليخطط بالتفصيل الجدول الدقيق لأعمال ذلك الأسبوع
ـــــــــــــــــــ
البديل الإسلامي بين الانضباط والتسيب 1/3
بقلم: خباب بن مروان الحمد
11/1/1426
ارسل تعليقك ...
لا توجد تعليقات ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
حدَّثتني إحدى الصالحات أنَّ ثلاث فتيات في مدرستها اتفقن على قيام الليل - ولكن من نوع آخر- إنَّ برنامج ستار أكاديمي قد خلب لبَّهم، وسحر فكرهم، ولأجل ذا فقد تواعدن على أن يقسِّمن الليل إلى ثلاثة أثلاث كلُّ واحدة منهن تنظر في هذا البرنامج وتقوم بتسجيله، ثمَّ تتصل على زميلتها بعد أن تنتهي ورديتها في ملازمة التسجيل لهذا البرنامج وتقوم الثانية بهذا الدور، وهكذا العمل مع الزميلة الثالثة إلى أن ينتهي البرنامج).
بهذا المنطق يتفاعل الكثير من الشباب والفتيات المنتسبين للإسلام حين يريدوا مشاهدة هذه البرامج الهابطة، والتي بثَّت أخيراً عبر الفضائيات، وجعلت لدى الشباب نوعاً من الهوس لإعجابهم بهذه البرامج المباشرة، وكأنَّها مغناطيس يجذبهم بقوَّة وقهر، وليس لهم إلَّا تلبية رغبات النفس، وخطرات الروح.
أما آن للمصلحين أن يفيقوا من نومهم العميق، لإنقاذ شبابنا وفتياتنا من مأساة فكرية وشهوانية تعصف بهم ذات اليمين وذات الشمال، وقد جعلتهم يتطايرون على الشَّاشات كالفراش وهم لا يشعرون!!
إنِّ من الأولويات الهامة للعمل في حقل الدعوة الإسلامية؛ الفهم الناضج لدى طلبة العلم، ومتعلمي الشريعة بالذات، ليخرجوا لنا بمحصِّلات مدروسة، ونتائج محروسة في فقه البديل الإسلامي المواكب لروح هذا العصر ومتطلباته
ودعونا أيها الفضلاء أن نراجع أنفسنا، وننقد ذاتنا!فجزى الله علمائنا خيراً حين أفتوا بتحريم هذه البرامج، وبينوا بلا لبس أو غموض حكم مشاهدتها، والنظر إليها، فقد أثَّرت تلك الفتاوى في البعض وأقلعوا عن مشاهدتها _ولله الحمد والمنَّة_..
ولكن هل نكتفي بهذا، ومازال الكمُّ الهائل من شباب الأمَّة يشاهدون ويصفِّقون، ويحلمون في منامهم ويقظتهم في ذكريات البرنامج الشبابي!(115/1111)
ألا يوجد لدينا حلولٌ وافرة، وأكفٌ رفيقة ليِّنة تحتضن الشباب والفتيات في برامج إسلامية مشوقة، ومشاريع تربوية وترفيهية، وبدائل عن تلك المُثُلِ منضبطة بميزان الشريعة؟
أين أصحاب الحلول المنتجة، أين أهل الثراء والمال والغنى، أين أصحاب الأفكار الإبداعية، والمشاريع الابتكارية؟
أين هم من الذي يحاك لشباب هذه الأمَّة، ويخاط لهم وينسج في مواخير الفساد، وأندية الظلام، والكواليس الخفية لتعليمهم دروساً في العربدة والشهوات؟
ترى لو أنَّ جيشاً عرمرماً أحاط ببلدة من بلاد الإسلام، وأثخن فيها وأكثر من القتل والتعذيب لأبناء الإسلام، ثمَّ خرج علينا رجل يبيِّن خبث هذا العدو ومكره، وحذَّر المسلمين من استقباله أو احتضانه... ثمَّ وقف إلى هذا الحد، واكتفى بهذا القدر.
هل سيؤدِّي هذا إلى دحر العدو وإنقاذ النَّاس؟ أم أنَّ هناك لوازم ينبغي إضافتها على ذلك الحدث!!
وبعد:
إنَّ المراقب لهذه الأوضاع، وتلك الأحداث، ينبغي عليه أن يعرف أنَّ من أسباب وجوده في هذه الأرض دعوة الناس لدين ربِّ العالمين، وتقريبه إلى قلوبهم،فليست كلًّ الدعوة بالمحاضرات ولا بالخطب، وليست كلُّها بالدروس أو الفتاوى فحسب، بل لا بد من استخدام جميع الوسائل المشروعة والمتاحة فالدعوة إلى الله لا تحدُّ بحدود، ولا تقيد بقيود.
وحيث إنَّني شرعت في المقصد فإنِّ من الأولويات الهامة للعمل في حقل الدعوة الإسلامية؛ الفهم الناضج لدى طلبة العلم، ومتعلمي الشريعة بالذات، ليخرجوا لنا بمحصِّلات مدروسة، ونتائج محروسة في فقه البديل الإسلامي المواكب لروح هذا العصر ومتطلباته، وكيفية إنقاذ هذه الأمَّة المنكوبة من الأزمات التي تحلُّ بها سواء أكانت تعليمية أو تربوية أو اقتصادية أو سياسية أو اجتماعية أو عسكرية وغيرها من ألوان المشاكل، وأشكال المحن.
والعالم الحق هو من وصفه الإمام أبو العباس ابن تيمية ـ رحمه الله ـ بأنَّه (الذي يعرف الحق، ويرحم الخلق) وأنَّه (كلَّما اتسعت معرفته بالشريعة وروحها، كان أرحم بالعباد وأعظم الناس تيسيراً عليهم ورفقاً بهم).
وحين يتأمل الإنسان الهدي الربَّاني في القرآن الكريم يجد أنّه ـ سبحانه وتعالى ـ ما حرَّم على عباده شيئاً إلَّا وأبدلهم عوضاً عنه ما هو خير منه، بل وصل ذلك إلى الألفاظ فإنَّه _تعالى_ قال: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ" (البقرة:104)، فقد نهاهم ـ تعالى ـ عن ذلك؛ لأنَّ فيه شبهاً بيهود حين كانوا يقولون ذلك لمحمد ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ ويقصدون بذلك السخرية به ـ عليه الصلاة والسلام ـ فنهى الله صحابة رسوله أن يقولوا هذه الكلمة لمحمد ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ وأبدلهم بأن يقولوا له: (انظرنا).
كذلك من تدبر سيرة المصطفى ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ يجد ذلك واضحاً في منهجيته في التربية والتعليم، فإنَّه كان إذا حرَّم شيئاً أتى بالبديل المشروع مقابل ذلك الأمر(115/1112)
المُحَرَّم؛ لأنَّه يعلم أنَّ النفوس ضعيفة، ومجبولة على حبِّ العوض والبديل، وخذ أمثلة على ذلك.
فعن أبي سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ قال: جاء بلال إلى النبي ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ بتمر برني، فقال له: النبي ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ من أين هذا؟ قال بلال: كان عندنا تمر رديء، فبعت منه صاعين بصاع لنُطعم النبي ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ فقال ـ عليه السلام ـ أوَّه أوَّه عين الربا عين الربا لا تفعل، ولكن إذا أردت أن تشتري فبع التمر ببيع آخر ثمَّ اشتره" رواه البخاري(2201) ومسلم (1593).
أتأملت أيها المبارك كيف أنَّه ـ عليه الصلاة والسلام ـ حين حرَّم فعل بلال ـ رضي الله عنه ـ نقله نقلة توعوية بديلة ومشروعة قبالة ذلك الأمر المحرم، وتلك صفة العالم الرباني، والبصير بالواقع الذي حوله ولهذا قال الإمام ابن القيِّم في ذلك:"من فقه المفتي ونصحه إذا سأله المستفتي عن شيء فمنعه منه،وكانت حاجته تدعوه إليه،أن يدلَّه على ما هو عوض له منه،فيسد عليه باب المحظور، ويفتح له باب المباح، وهذا لا يتأتى إلَّا من عالم ناصح مشفق قد تاجر الله وعامله بعلمه، فمثاله في العلماء مثال الطبيب النَّاصح في الأطباء يحمي العليل عمَّا يضره، ويصف له ما ينفعه، فهذا شأن أطباء الأديان والأبدان، وفي الصحيح عن النبي ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ أنّهَ قال: "ما بعث الله من نبي إلأَّ كان حقَّاً عليه أن يدلَّ أمَّته على خير ما يعلمه لهم، وينهاهم عن شر ما يعلمه لهم" وهذا شأن خلق الرسل وورثتهم من بعدهم، ورأيت شيخنا ـ قدَّس الله روحه ـ يتحرَّى ذلك في فتاويه مهما أمكنه، ومن تأمَّل فتاويه وجد ذلك ظاهراً فيها ) (أعلام الموقعين 4/121ـ 122) و سأنقل كلاماً للشيخ ابن تيمية في ذات الموضوع الذي مدحه به تلميذه ابن القيِّم، حيث قال ابن تيمية:"إذا أراد تعريف الطريق الَّتي يُنَالُ بها الحلال، والاحتيال للتخلص من المأثم بطريق مشروع يقصد به ما شرع له، فهذا هو الذي كانوا يفتون به ـ أي السَّلف الصالح ـ، وهو من الدعاء إلى الخير، والدَّلالة عليه، كما قال ـ صلَّى الَّله عليه وسلَّم ـ بع الجمع بالدراهم، ثمَّ ابتع بالدراهم جنيباً" وكما قال عبد الرحمن بن عوف لعمر الخطَّاب:" إنَّ أوراقنا تُزيَّفُ علينا أفنزيد عليها ونأخذ ما هو أجود منها؟ قال: لا ولكن ائت النقيع فاشتر بها سلعة، ثمَّ بعها بما شئت" بيان الدليل على بطلان التحليل (صـ133).
ومن الأمثلة على ذلك من هدي المصطفى ـ عليه الصَّلاة والسلام ـ في أنَّه إذا منع شيئاً فتح لمن منعه باباً آخر من الأمر المشروع، والبديل المنضبط بمعيار الشَّريعة، ما رواه أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ قال: قدم النبي ـ صلى الله عليه وسلَّم ـ ولأهل المدينة يومان يلعبون فيهما في الجاهلية، فقال: "قدمت عليكم ولكم يومان تلعبون فيهما في الجاهلية، وقد أبدلكم الله بهما خيراً منهما: يوم النحر، ويوم الفطر" أخرجه أحمد في المسند(3/103ـ178ـ235) وأبو داود(1134) والنَّسائي(3/179) بسندٍ صحيح.(واليومان الَّذين يلعبون فيهما أهل الجاهلية هما / يوم النيروز ويوم المهرجان. وللمزيد انظر/ عون المعبود(3/485) للعظيم آبادي).
أرأيت ـ أخي القارئ ـ إلى هديه ـ عليه الصلاة والسَّلام ـ في ذلك، حيث إنَّه لا يرضى بوقوع المنكر، ولا أن يؤلف، ولكنَّه ـ عليه الصلاة و السَّلام ـ يبيِّن خطر الشيء المحرَّم، ومن ثمَّ يبين البديل الشرعي عن ما حرَّمه الله، ومن هنا فطن علماء الإسلام(115/1113)
لتوضيح هذه القضيَّة في مدوناتهم، ورسائلهم ومنهم شيخ الإسلام / ابن تيمية ـ طيَّب الله ثراه ـ فقد بيَّن بأنَّ المبتلى بالمنكر أو البدعة فإنَّه يتوجب على ناصحه أن يدعوه للإقلاع عن هذا الأمر المحرَّم ولو كان في ظاهره الخير، ومثَّل لذلك ابن تيمية، بالبدعة، فقال:"إذا كانت في البدعة من الخير فعوِّض عنه من الخير المشروع بحسب الإمكان، إذ النفوس لا تترك شيئاً إلَّا بشيء...فالنفوس خلقت لتعمل لا لتترك، وإنَّما الترك مقصود لغيره" (اقتضاء الصراط المستقيم2/125)
ومن هذا المنطلق فإنَّ البحث المضني من العالم أو المربي أو المفكر لما يخدم به أمَّة الإسلام من برامج جذَّابة تكون بديلاً عما هو متاح ويستطاع الوصول إليه بأسرع الوسائل، وأدنى السبل؛ من الضرورة بمكان وخاصَّة في هذا العصر الراهن فأمتنا تحتاج لبدائل كثيرة في عدَّة مضمارات، وتحتاج للبدائل المفيدة عن القنوات الفاسدة التي تنشر الغثَّ بلا سمين، وتلهي النَّاس عن دين ربِّ العالمين، وإيقاعهم بفتن الشبهات أو الشهوات، وما البرامج الأخيرة التي نشرت في هذه القنوات الفضائحية كسوبر ستار، وستاركلوب، وستار أكاديمي، وتحدي الخوف، وغيرها إلَّا شاهداً قويَّا على أنَّ أهل العلمنة والكفر والفجور يريدون إلهاء الأمة وشبابها عن قضاياها الكبرى، وشؤونها المصيرية، بل كانت تعرض بعض هذه البرامج العاهرة في الوقت الذي تضرب فيه بلاد الرافدين (العراق) بالصواريخ، وتقصف بالطائرات، وتجتاح بالدبَّابات والمجنزرات، وكذلك في فلسطين المباركة في أزمة الحصار المشدد على مدنها وقراها، وعمليات الاغتيال الصهيوني لقادة الجهاد والصمود، في الوقت الذي كان فيه كثير من شباب العالم الإسلامي قد أطلق بصره، وأرخى سمعه لما يعرض في هذه الفضائيات من مشاهد مخزية، يستحيا والله من ذكرها.
إنَّ البحث المضني من العالم أو المربي أو المفكر لما يخدم به أمَّة الإسلام من برامج جذَّابة تكون بديلاً عن ما هو متاح ويستطاع الوصول إليه بأسرع الوسائل، وأدنى السبل؛ من الضرورة بمكان وخاصَّة في هذا العصر الراهن
إنَّ شباب وفتيات المسلمين اليوم يعانون من أزمة الفراغ المدقع، فليس لهم من الأعمال التي تشغلهم أيُّ أثر، ولذا يحاول الكثير منهم أن يفرَّ إلى هذه الشاشة ويسمِّر عينيه صوبها، لعَّلَّهم يلبون بعض رغبات النفس وهواها، وكما هو معلوم فإنَّ الفراغ للرجال غفلة، وللنساء غلمةـ أي تحريك للشهوة ـ وصدق من قال:
لقد هاج الفراغ عليه شغلاً ... ...
وأسباب البلاء من الفراغ
وإذا كنَّا قد علمنا مكمن الدَّاء، وموطن الخلل، فليت دعاة الإصلاح والتغيير أن يستشعروا المسؤولية الفردية والجماعية، والتأهل للإنقاذ وللمشاريع الإصلاحيَّة لهذا الشباب التائه، الذي قلَّ من أخذ بيده، وبيَّن له طريق النَّجاة، والحلول المثمرة، والبدائل النافعة والإيجابيَّة.
في الوقت نفسه فنحن لا نريد حلولاً مستوردة من الغرب الكافر، ولا بدائل غير شرعيَّة، أو فيها تنازلات عن سنَّة خير البرية، فمعاذ الله أن ينصح بذلك، وقد قال الإمام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ شيئاً من هذا القبيل ثمَّ أعقبه قائلاً:"لكن لا يجوز لأحدٍ أن يغيِّر شيئاً من الشريعة لأجل أحد" (اقتضاء الصراط المستقيم2/133).(115/1114)
بيد أنَّ من أراد أن يحمل نفسه على تجنُّب البدائل المباحة، والالتزام بالأوامر والنَّواهي الشرعية فله ذلك، وصاحب العزمات يأخذ بالأقوى، وقد يكون في جانبه أفضل، إلَّا أنَّ عليه أن لا يقارن نفسه بغيره من الناس، ويفرض رأيه على ضعفاء الدين، وقليلي الإيمان، ومن المعلوم بأنَّه إذا أردت أن تطاع فأمر بالمستطاع .
ولن يستطيع الداعية بقدر ما أوتي من فصاحة وإقناع أن يصنع ذلك المجتمع المثالي المتخيل في الذهن، وخاصَّة أننا نعيش في هذا العصر المنفتح، والذي تعجُّ فيه الفوضى الفكرية، والمتنوعات الثقافيَّة، وكلٌّ منها تضغط بطرف على العقول والأمزجة محاولة أن تقنعها بمثلها ومبادئها.
فمهمَّة الدعاة إذن أن يأتوا البيت من بابه، ويضعوا الحقَّ في نصابه، ويرشدوا أبناء هذا الجيل مبيِّنين لهم مخطَّطات الغرب، ووسائل المجرمين بالإطاحة بهذا الجيل عن غاياته النَّبيلة وأهدافه السَّامية.
وثمة نقاط أحبُّ أن أذكِّر بها نفسي ومن سلك طريق الدعوة، وكل قارئ لهذا المقال، يجدر التنبيه إليها، والتلويح بها:
1ـ يجدر بدعاة الإسلام وأهل التربية أن لا يخاطبوا الناس من برج عاج، أو صومعة فكرية، بل ينزلوا في ميدان الناس، وواقع البشرية، ويتداخلوا معهم، ويتأملوه حقَّ التأمل فما كان فيه من خير أثنوا عليه وأشادوا به، وما كان فيه من خطأ فلينبهوا الناس له، ويرسموا لهم طريق الصلاح، ويزنوا جميع الأمور بمعيار الشريعة، ويعطوهم البدائل المباحة بقدر الإمكان، وإيجاد الحلول والمخارج الشرعيَّةلا الحيل الباطلة البدعيَّة.
فأمَّا التشديد على الناس في أمورهم فهذا لا يليق بدعاة الحق والرشاد، بل هو أمر يحسنه كلُّ أحد، وقد قال الإمام سفيان الثوري ـ رحمه الله ـ :"إنَّما العلم عندنا الرخصة من ثقة فأما التَّشدد فيحسنه كلُّ أحد" (جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر1/784). وقال الإمام أحمد بن حنبل:"من أفتى ليس ينبغي أن يحمل النَّاس على مذهبه ويشدِّد عليهم" (الآداب الشرعية لابن مفلح2/45) ولا يعني ذلك أن نكون مماثلين لدعاة العصرنة والمسايرة لهذا العصر، والتراجع تحت ضغط الواقع، والَّذين يتبنون تتبع رخص العلماء وزلَّاتهم ويبنون عليها أحكاماً يقنِّنونها للناس حتَّى يتعاملوا بها فإنَّ هذا غير هذا، ولاشكَّ أنَّ التفريط أخٌ للإفراط، فالمطلوب أن يكون الدَّاعية وسطياً في فتاويه وآرائه على وسطيَّة أهل السنَّة والجماعة، ورحم الله من قال:
عليك بأوساط الأمور فإنَّها نجاةً ... ...
ولا تركب ذلولاً ولا صعبا
ولهذا فإنَّ العالم الذي جمع بين العلم والتربية لن يغفل عن دراسة نفسيَّات النَّاس، وإعطاء كلَّ ذي حقٍ حقَّه من الحكم الملائم له، ورضي الله عن الإمام ابن تيمية حين علَّق على حديث رسول الله ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ :" كلُّ لهو يلهو به الرجل فهو باطل، إلَّا رميه بقوسه، وتأديبه فرسه، وملاعبته امرأته فإنَّهنَّ من الحق" أخرجه ابن ماجه (2/940) والنَّسائي،انظره مع شرح السيوطي(6/185) بسند صحيح.
فقد علَّق ابن تيمية على هذا الحديث تعليقاً نفيساً مبيناً خلاف ما يعتقده البعض من قارئي هذا الحديث بأنَّ كلمة (الباطل) فيه يعني (المحرَّم) فقال:(115/1115)
"والباطل من الأعمال هو ما ليس فيه منفعة، فهذا يرخص للنفس الَّتي لا تصبر على ما ينفع، وهذا الحقُّ في القدر الذي يحتاج إليه في الأوقات الَّتي تقتضي ذلك: الأعياد والأعراس وقدوم الغائب ونحو ذلك" الاستقامة(1/277)، وقد كان في هذا الموطن يتكلَّم عن ضرب الدف وأنَّه للنساء فقط وأنَّ الرجال لم يكن منهم أحد يفعل ذلك في عهده ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ ولهذا ذكر ابن تيمية أثراً عن أبي الدرداء ـ رضي الله عنه ـ يقول: إنِّي لأستجمُّ نفسي بالشَّيء من الباطل لأستعين به على الحق" (مجموع الفتاوى 28/368).
ومن هنا نستنتج أنَّ معرفة الدَّاعية لنفسيات المدعوين وأهل المعصية ومراعاتها كلٌ بحسبه، بأنَّه من أهمِّ المهمات ليتدرج معهم في إزالة ما لديهم من قصور ديني، فهو خبير بأنَّ الخروج عن المألوفات من أشق الأشياء على النفوس، ولذا فإنَّه يعطيهم من البدائل المباحة الَّتي تجعلهم يتناسون ما كانوا عليه، متدرجاً بهم بهذه الطريقة إلى مرحلة القناعة والطمأنينة بما هم فيه،ومن أقوى ما يحتجُّ به لذلك، ما قاله عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز لأبيه يوماً منكراً عليه عدم إسراعه في إزالة كلِّ بقايا الانحراف والمظالم والتعفية على آثارها ورد الأمور إلى سنن الراشدين:
مالك يا أبتِ لا تنفذ الأمور؟ فوالله ما أبالي، لو أنَّ القدور غلت بي وبك في الحق!!
وتأمل كيف كان جواب الأب الفقيه عمر بن عبد العزيز ـ رضي الله عنه ـ"لا تعجل يا بني، فإنَّ الله ذمَّ الخمر في القرآن مرتين وحرَّمها في الثالثة، وإنِّي أخاف أن أحمل النَّاس على الحقِّ جملة فيدعوه جملة، فيكون من ذا فتنة" (الموافقات للشاطبي2/94).
ولهذا فإنَّ التدرج في الوصول إلى الحقِّ بهذه التربية سببٌ أكيد لقناعة المدعوين، وليأخذوا بهذه الأحكام بتمام الرضا والفهم العميق لمقاصد الشريعة الإسلامية، قال الإمام ابن القيِّم: "إنَّ حكمة هذا التدريج؛ التربية على قبول الأحكام، والإذعان لها، والانقياد لها شيئاً فشيئاً" (بدائع الفوائد3/184).
2ـ التشجيع للشباب المخلصين بإيجاد البدائل الشرعية، وإنتاج المشاريع والبرامج المعينة والجذَّابة لمن ابتلي بمتابعة الصور الهابطة، والأصوات المحرَّمة، وإنَّ من أهمِّ الأمور في ذلك بثُّ روح الإبداع والتفكير والابتكار والطُّموح لصناعة البدائل وإيجادها والموافقة لروح الشَّريعة والاستفادة من المعطيات الجديدة، وتنمية الحس لأهمية الإطلاع والقراءة، وكسر جميع الحواجز الَّتي تحول للإتيان بالجديد، وبورك في الشباب الطَّامحينا.
وما قتل البعض منَّا إلَّا الترديد لتلك المقولتين القائلتين، ليس بالإمكان أحسن مما كان، وما ترك الأولون للآخرون شيئاً، فإنَّ هاتين المقولتين أصبحتا سمَّاً يلوكه كلُّ يائس أو كسول أو رجل ألف التقليد، مع الضَّحالة العلمية والعقم الفكري " وحين يكون هناك جدب ثقافي، وضحالة فكرية فإنَّ الإنسان لا يهتدي إلى كثير من البدائل الَّتي تتاح لأهل الثَّراء الفكري" من كتاب (خطوة نحو التفكير القويم ـ ثلاثون ملمحاً في أخطاء التفكير وعيوبه) لعبد الكريم بكَّار، ص59.
وقد أحسن الأستاذ المفكِّر جمال سلطان ـ وفقه الله ـ حين كتب" فإذا لم يكن لدى الأمة ومشروعها الحضاري، بديل جاد ومتفوق يمتلك الجاذبية الفنِّية العالية، ويتحرك على تقنيات فنِّية رفيعة المستوى، أو إذا لم يكن بمقدور المشروع الحضاري أن يحقق(115/1116)
موازنة جديدة بين النشاط العلمي، والنشاط الترفيهي، أو لم يكن بمقدوره إعادة صياغة المدركات العامَّة للأمة، بما يحقق وعياً جديداً لمفهوم الوقت، وتقسيمه وقيمته ودوره، أو تباين ذلك كلِّه بين الأمم، حسب متطلَّباتها الإنسانية، وحسب مناهجها الفكرية العقائدية (الآيديولوجية)، وحسب مكانتها الحضارية، وحسب تحدياتها التاريخية والمستقبلية، أي أنَّه ـ بوجه عام ـ إذا لم يكن لدى المشروع الحضاري خططه وبرامجه للسيطرة على وقت الفراغ فسيكون ذلك بمثابة تأشيرة دخول مفتوحة للتَّيارات الثقافية والقيمة والأخلاقية والأجنبية، لكي تنفذ إلى صميم الأمَّة من خلال ثقب (وقت الفراغ)" (مقدمات في سبيل مشروعنا الحضاري صـ62ـ63).
3ـ عدم الدوران في فلك الذات، وإغلاق منافذ البصيرة في وجه أيِّ جديد بحجَّة أنَّ هذه العولمة المعاصرة أكثرها شرٌ وفساد، بل ينبغي أن ننفتح على كلِّ جديد ونوازنه بالشرع فما وافقه فحيَّ هلا، وما خالفه فإن استطعنا أن نبيد مادَّة الحرام منه فعلنا، وإن لم نستطع فلنضرب به عرض الحائط ولا نبالي، ورحم الله من قال:
والشرع ميزان الأمور كلها ... ...
وشاهد لأصلها وفرعها
ومن جميل كلام أبو حفص النيسابوري"من لم يزن أفعاله وأقواله كلَّ وقت بالكتاب والسنَّة، ولم يتهم خواطره فلا تعده في ديوان الرجال" (الاستقامة لابن تيمية /96ـ99).
شاهد ذلك أنَّه قبل أن نحكم على أي شيء فعلينا أن نعرف حقيقته وماهيته، ثم يُطلق الحكم الشرعي المناسب له، والقاعدة الأصولية تقول: "الحكم على الشيء فرع عن تصوره".
4ـ لا يعني أنَّه إذا نودي بإيجاد البديل المنضبط، أن يكون هذا ديدن الدعاة، بل ينبغي أن ينادي الدعاة بأنَّه ليس كلُّ شيء حرِّم يستطاع أن يؤتى ببدائل تحل عنه، وأنَّ هذا البديل الذي استهلك العقل البشري في التفكير لإيجاده، ليس شرطاً أن يكون فيه كلُّ مظاهر اللذَّة والمتعة عن الشيء المحرَّم، إلَّا أنَّه ينبغي أن تكون فيه مادَّة تصرف من تعلقت نفسه بالماضي، وتكون فيه روح شفَّافة جذَّابة ليتعلق بها.
لكن من المهم جدَّاً أن يواكب هذا التغيير لتلك النفس البشرية التي نشأت من قريب على طاعة الله بأن تربى هذه النفس على طاعة الله، وأن يكون ديدنها لأوامر الله ونواهيه بكلمة (سمعنا وأطعنا) و إذا كان البديل ليس على مستوى درجة الجاذبية لما ألفته النفس في الماضي، أو في أيام الجاهلية فلا يعني ذلك أن ترجع النفس لماضيها؛ لأنَّ ذلك من تبديل نعمة الله على العبد والتنكر لها.
بل يكون على لسان المسلم الأثر المعروف " من ترك شيئاً لله عوَّضه الله خيراً منه"، وهذا التعويض كما ذكر علماء الشريعة إمَّا أن يكون في الحياة الدنيا، أو أن يكون ذلك في دار الآخرة وجنَّة الرضوان.
5ـ أن يتعدى الدعاة والمصلحون مرحلة المدافعة والتحذير، إلى مرحلة المواجهة والتبشير، ولقد كانت هذه وصيَّة رسول الله ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ لبعض أصحابه، فقال: "بشِّروا ولا تنفروا، ويسروا ولا تعسروا" أخرجه البخاري في كتاب العلم(2001)، ومسلم في كتاب الجهاد(251).(115/1117)
فالعقلية الإسلامية تحتاج في هذا الزمن الصعب أن تكون داعية خير وتبشير، أمَّا مجرد النقد اللاذع، والإبقاء على هذا المنهج فلن يوصل المسلمين إلى مرحلة سبَّاقة، بل يجعلهم ذلك يرجعون للوراء ؛لأنهم لم يعرفوا كيف يواجهوا هذا العصر بتقنياته، وما هي اللغة المناسبة له، ولذا فإنَّ المثل القائل بأنَّ إيقاد شمعة خير من لعن الظلام؛ مثل رائع، يحتاجه دعاة هذا العصر، فإنَّ مجرد التشكي من أبناء هذا الزمان وهذا الدهر لن يفيد شيئاً، والغريب أنَّ كثيراً من الشباب الصالح قد صار ديدنه في بعض اللقاءات التحدث بمآسي هذا الجيل، على حدِّ قول الشاعر:
كلُّ من لاقيت يشكو دهره ... ...
ليت شعري هذه الدنيا لمن
لكنَّ القليل من يحاول أن ينقي الواقع الاجتماعي الذي يعيش فيه، ويبين الخلل والاهتراءات التي حلَّت في وسطه، محاولاً التغيير والإصلاح بالحكمة الحسنة والكلمة الطيبة، حتى يتم المقصود، وينال المراد.
إننا نحتاج حاجة ماسة لإعادة النظر في الطرق التربوية التي أَلِفَهَا بعض المربين أكثر من أربعة عقود من هذا الزمان، أو وسائل الدعوة التقليدية والتي كانت منذ عشرات السنين وبقي الكثير على نمطها.
نحتاج لوسائل البلاغ المبين، ولجميع المنابر التي نتواجه بها مع أبناء الجيل المسلم، والاستفادة من المعطيات الحديثة التي تتناسب مع طبيعتنا الشرعية، ومثلنا العقدية " ومن خلال معرفتنا بسنن الله ـ تعالى ـ والتي تبرز لنا طبائع الأشياء، يرتقي لدينا ما أسميه بـ(فقه الطرق المسدودة ) وهو فقه عظيم لا نجده في أي كتاب، وإنَّما في سفر الوجود الهائل والمترامي، حيث إننا من خلال الممارسة العملية نكتشف الهائل والمترامي، وما لا يمكن الوصول إليه، وبذلك الاكتشاف نقترب من معرفة ما هو متاح، كما أنَّنا نوفر على أنفسنا عناء (الحرث في البحر)، حيث ألف الكثيرون منَّا تبديد الجهد والوقت والمال في محاولات الوصول إلى أشياء ليس إلى الحصول عليها أي سبيل" جزء من كلام الدكتور:عبدالكريم بكَّار في كتابه (تشكيل عقلية إسلامية معاصرة، ص78).
إنَّ الداعية ـ باختصار ـ من ينفع أمته، ويبين لها طرق الخير، فهو كما قال الشاعر:
واضح المنهج يسعى دون غش أو نفاق راضي النفس، كبير القلب يدعو للوفاق
قلبه المؤمن بالخالق مشدود الوثاق نبضه الذاكر يمتد إلى السبع الطباق
وهنا تنبيه وهو في الحقيقة أمر وقع فيه بعض الإخوة الدُّعاة ـ هداهم الله ـ في قضيَّة البديل، فالمراقب لبعض البدائل التي أتيح نشرها داخل الأوساط الإسلامية يجد أنَّها قد تجاوزت ـ وللأسف ـ الحدود الشرعية، وصار فيها من التنازلات عن الشريعة الشيء الذي ينذر بوقوع حالة مكارثية ممن لهم توجهات إسلامية، فأكثرهم لم يدرسوا هذا الدين على حقيقته، وإن كانوا من (محبي الإسلام) ولا شك، لكنهم يتصرفون بعض التصرفات المخلة بهذا الدين؛ لأنَّ كثيراً منهم ينتج إنتاجه الإعلامي أو الاقتصادي أو التربوي ولا يستشير إلاَّ أمثاله من قليلي العلم، وضحلي المعرفة في الجذور الإسلامية، أضف على ذلك قلَّة استشارتهم لأهل العلم وفقهاء الشريعة الربانيين، في عرض مثل هذه المنتجات، وأخذ آرائهم تجاهها، ومن ذلك:(115/1118)
1ـ ما يسمى بفيديو كليب فقد شاهد البعض من طلبة العلم مثل هذه البرامج، وما يعرض فيها من الأناشيد وما يصاحبها من تكسر وتميع، وحركات لا تمت إلى الرجولة بِصِلة، بل فيها من مشابهة بعض الفسقة من المغنين في حركات الرجل وضرباتها الخفيفة على الأرض، أو حركات اليد والتي تدغدغ مشاعر الرجال فضلاً عن الفتيات (المراهقات) ثمَّ يسمَّى هذا العمل إنتاجاً (إعلامياً إسلامياً).
ونبقى نقول نعم للبديل ولكنْ بالضوابط الشرعية، والالتزامات العقدية، وتحت استشارة أهل الشريعة، ولا للبديل المتسيب، والذي شطَّ عن الصواب، وانخرط في دوائر الانفلات، وأُقْحِمَ في الشبهات
فهل هذا من البديل الذي اشتُرِطَ أن يكون منضبطاً بميزان الشريعة، ومأموناً لجميع شرائح المجتمع؟!
2ـ ما صار يصاحب بعض أشرطة الأناشيد الإسلامية من ضرب بالدف ويرافقه أصوات الصلاصل والمزاهر والخلاخيل، دع عنك أن يرافق بعضها الضرب بالطبل، والجهاز المسمى بجهاز(السامبر)، وأجهزة الكمبيوتر، والتي سجِّل في بعضها بعض النغمات من الكمنجة، والبيانو، كلُّ ذلك بحجة أنَّ هذا من البديل [الإسلامي]، وأنَّه إذا لم نضع مثل هذه الملحقات مع الأناشيد فإنَّ السامعين للأناشيد الإسلامية سيكون تعدادهم قليلاً!! وأنَّ أفضل وسيلة لجذبهم هي هذه الطريقة ولأجل الارتقاء بالفنِّ الإسلامي البديع!!
والإجابة عن هذه الحجَّة الباطلة قد يطول ولكنَّنا نقول: إنَّ من أراد أن يقدِّم للناس بديلاً مشروعاً فعليه بأن يتقي الله ـ سبحانه وتعالى ـ ويرضيه قبل إرضاء إيِّ طرف من الناس، وليتذكر المرء حديث رسول الله ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ " من أرضى الناس بسخط الله وكله الله إلى الناس، ومن أسخط النَّاس برضا الله كفاه الله مؤونة الناس" أخرجه ابن حبَّان بسند جيد ـ انظر:السلسلة الصحيحة (2311).
والحقيقة أنَّ هؤلاء القوم المنتسبون للدعوة ويصاحبون في أعمالهم ما حرَّم الله بحجة اجتماع الناس عليهم وللمصلحة العقلية الموهومة فإنَّهم وكما قيل في المثل: يريد أن يطبَّ زكاماً فيحدث جذاماً، فلا هم للبديل نصروا، ولا للمعصية كسروا ـ نسأل الله لنا ولهم الهداية ـ.
3ـ لا شكَّ أنَّ العالم الإسلامي اليوم، يحتاج لمصارف إسلامية، وبنوك تتعامل مع الطبقات البشرية بالشريعة الإسلامية، ونحن نحمد الله ـ تعالى ـ أن صار لهذه البنوك وجوداً ولو كان بطيئاً في شوارع بعض الدول الإسلامية والتي تلبي رغبات التجَّار، وتعين المساكين وتقدِّم لهم البذل والمعونة، وتقرضهم القروض التي لا تجر نفعاً، وتتعامل مع من يريد تنمية ماله بالمعاملات المشروعة كالمضاربة والمشاركة والمساهمات التجارية.
بيد أنَّ هناك ـ وللأسف ـ بنوكاً أرادت أن تسوق بضاعتها بزيادة (الإسلامي) على كلمة ( البنك) للتغرير بعوام المسلمين، وعقول البسطاء والمساكين، ليتعاملوا معهم ويشتركوا في معاملاتهم المالية وأكثرها ـ عياذاً بالله ـ من أبواب الحيل الباطلة، والتي يتمُّ معظم معاملاتها المصرفية بالتحايل على أبواب الشريعة، جاعلين زلَّات العلماء(115/1119)
المتقدمين، ورخص المعاصرين المتساهلين ديدنهم في الترويج للالتحاق بهم والتعامل معهم.
فيا سبحان الله!! وهل أصبحت البدائل المسماة إسلامية بهذا الشكل المرعب، وأصبح البعض الذي ليس له من الثقافة الإسلامية رصيداً ولو يسيراً، يسوِّق لما يريد فعله ويضيف عليه كلمة)إسلامية) أو(إسلامي)أو على ( الشريعة الإسلامية) على طرفة السمك المذبوح على الطريقة الإسلامية! وإذا كان البعض هكذا؛ فليحذروا من عقوبة تحلُّ بهم من الله ـ عزَّ وجل ـ ونقمة شديدة يوم القيامة إن لم يتوبوا ويتداركوا أمرهم.
4ـ ومن ذلك بعض فتاوى المنتسبين للعلم والدعوة بأنَّه يجوز للمرأة أن تشترك مع الرجل في التمثيل على شاشات الرائي(التلفاز) بحجة أن الرسول ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ قال:" النساء شقائق الرجال"، وأنَّ المرأة نصف المجتمع ولها دورها فيه، فلا بأس عليها أن تشارك في التمثيل بشرط أن يكون (إسلامياً).
والحقيقة أنَّ هذا يفتح باباً كبيراً لأهل العلمنة والفسق في محاولة التدرج بمن أردن التمثيل من النساء المنتسبات للخير والدعوة في مهاوٍ توقعهم في الردى، وفي أصعب الظروف وأحلك المواقف، هذا عدا أكثر من عشرة مخالفات شرعية في هذا الباب.
5ـ ومن ذلك ما يسمَّى بالأفلام المدبلجة، والتي أنتجتها بعض الشركات الإعلامية الكافرة،أو الشركات الفاسقة، فما كان من البعض إلَّا وأن حذف منها أصوات الأغاني والموسيقي، وظّنََّ أنَّ تسمية هذه الأفلام بأفلام إسلامية هو الهدف الرئيس، مع أنَّ البعض من هذه الأشرطة فيها من التلوثات العقدية، والآراء الهدَّامة ما يقشعرُّ له البدن، ويهتز له الفؤاد، من بعض الألفاظ الشركية، والعادات المخالفة للقيم الإسلامية، كالشرب بالشمال، والنوم على البطن، وعدم تشميت العاطس، والسخرية بمن ابتلي بسمنة أو داءٍ في جسده، ومظاهر الاختلاط بين الرجال والنساء، وعرض بعض صور النساء كاشفات لشيء من شعورهن وإبراز بعض مفاتن جسدهن، ومع ذلك تبقى أشرطة إسلامية!!
فأين المراقبة الإعلامية المتخصصة، وأين المراجعة والتدقيق الشرعي على مثل هذه الأشرطة المدبلجة؟
بل ظهرت بعض الأفلام الإسلامية!! يقمن فيها فتيات جميلات قد قارب أكثرهنَّ البلوغ في السنِّ العاشرة والحادية عشرة، يقمن بالإنشاد الإسلامي، مع بعض حركات الرقص المرافقة لإيقاع الدف، ويكون بالطبع معهن بعض الأحداث الفتيان ينشدون جميعاً عند بحر، أو تلٍّ، وتقدِّم إحدى الفتيات وردة حمراء لأحد الأحداث الذكور وهي تبتسم ابتسامة ساحرة!!
حدَّثني بذلك ـ والله ـ جمع من الشباب الذين كانوا على طريق الغواية ثمَّ منَّ الله عليهم بهدايته ـ سبحانه ـ فأقلعوا عمَّا حرَّم الله، وقالوا لي جميعاً اشترينا هذه الأشرطة من التسجيلات الإسلامية! ورأينا أناسا يشترونها! وكنَّا نتناوب على مشاهدة هذه الأفلام! لما فيها من الصور (الإسلامية)!!!
بل قرأت لأحد هؤلاء المنتسبين للإسلام مقالاً كتبه في إحدى الجرائد يطالب فيه بديسكو إسلامي! وما أدري والله ماذا زوَّر أمثال هؤلاء في صدورهم بعد ذلك من البرامج(الاستسلامية للواقع).(115/1120)
وصدق من قال في هذا الزمن:
زمان رأينا فيه كلَّ العجائب ... ...
وأصبحت الأذناب فوق الذوائب
والآن... أسائل أصحاب هذه البدائل الظالمة... أسائلهم بالله العلي العظيم أذلك كلُّه من باب البديل الإسلامي المنضبط، عن أشرطة الفسق والمعصية؟ "إنَّ هذا لشيء عجاب".
لقد تعدى الأمر حدَّه، وخرج عن أصله، وبلغ السيل الزبى، والله المستعان..
فليتدارك أمثال هؤلاء القوم منهجهم، وليصلحوا أمرهم، وليتوبوا إلى ربهم، ويعودوا إلى بارئهم، ولا يكونوا سبباً لإفساد الشباب، وهم يظنون أنهم مصلحون.
ونبقى نقول نعم للبديل ولكنْ بالضوابط الشرعية، والالتزامات العقدية، وتحت استشارة أهل الشريعة، ولا للبديل المتسيب، والذي شطَّ عن الصواب، وانخرط في دوائر الانفلات، وأُقْحِمَ في الشبهات، فإنَّ هذا ليس له مكان في قلوب أهل الإيمان، ويبقى الحقُّ عليه دلائل الإشعاع الربَّاني، والباطل عليه دلائل التحايل العصياني" فأمَّا الزَّبد فيذهب جفاءً وأمَّا ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب اللَّه الأمثال" ومن الله الحول والطول، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وصلَّى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلَّم أجمعين، والحمد لله رب العالمين..
ـــــــــــــــــــ
وصية شاب توفي
اللجنة التربوية
4/1/1426
ارسل تعليقك ...
لا توجد تعليقات ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
فهد شاب جامعي ملتحق بحلقة تحفيظ القرآن الكريم يعيش كما يعيش الشباب، لكن همّه إصلاح الأمة.
كان متألقاً نشيطاً يحب الخير والطاعة، وفي رمضان من عام 1425هـ اعتكف مع الشباب في المسجد الحرام في المدينة المنورة.
عاش فرحة عيد الفطر مع أقاربه وزملائه، وفي يوم الأحد 22/10/1425هـ صلى الفجر خلف الإمام، وفي العصر من ذلك اليوم عندما كان خارجاً من جامعة الملك سعود وهو يستمع لشريط: "توبة صادقة" للشيخ خالد الراشد.
وفي أحد منعطفات الجامعة كانت الوفاة إثر حادث أليم – رحمه الله-.
والعجيب أنه عندما عُثِر على الوصية كانت مؤرخة بـ14/10/1424هـ أي قبل الحادث بسنة وأسبوع فقط!!(115/1121)
أخي القارئ أَدَع فهد – رحمه الله – يبث شجونه ووصاياه لعلنا نقف وقفة تأمل وعبرة مع من يوصي وهو تحت الثرى ولندعوا له.
وكم في هذه الوصية من عبر دع خاطرك يسجلها..
ويسعدنا مشاركتك وتعليقك على هذه الوصية فكم فيها من الفوائد والعبر لمن اعتبر.. وإليك نص الوصية.
الحمد لله الذي جعل الموت راحة للأبرار لينقلهم من دار الهموم والغموم والأكدار إلى دار الفرح والسرور والاستبشار... وبعد..
أوصيكم بالتمسك بكتاب الله وعدم الانقطاع عنه بانقطاع أو توقف التحفيظ بل اجعل لك ورداً محدداً أو خصص له وقتاً وستجد الثمرة بإذن الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،
فأشهد الله على أني أحبكم فيه.. وأسأل الله أن تجمعنا بهذه المحبة تحت ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله..
هاهي سنّة الحياة أفراح وأحزان، لقد أمضيت معكم أجمل الأوقات وأمتعها واستفدت منكم استفادة كبرى، أسأل الله أن تكون حجة لنا لا علينا.
إخواني.. تشبثوا بالصحبة الصالحة، فوالله إنها لنعمة كبرى، واحذروا من وسواس الشيطان في الإغراء بالتفريق بين الإخوان وبث النزاع والفرقة.
إخواني احرصوا على نشر الدعوة ولا تنتظر تلقي الأوامر فقط، ولتكن لديك ذاتية ومرجعية لأعمالك.
إخواني أوصيكم بالتمسك بكتاب الله وعدم الانقطاع عنه بانقطاع أو توقف التحفيظ ، بل اجعل لك ورداً محدداً أو خصص له وقتاً وستجد الثمرة _بإذن الله_.
إخواني أطلب منكم أن تسامحوا وتعفوا وتصفحوا عن أخيكم المقصر.. فمن آذيته بكلمة أو بلمزٍ أو غيره أو دينٍ فليعفوا وليصفحوا "وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ" (النور: من الآية22) خاصة في الدين، من أراد حقه فليرجع للأهل، ومن سامح، فإن الله لا يضيع أجر المحسنين.
كم أحذركم من الفتور واتباع الهوى والخوض في الفتن وفي لحوم العلماء.. فإن هذه ظاهرة منتشرة بين شباب الصحوة. وتمثل في قول الرسول _صلى الله عليه وسلم_: "قل خيراً أو اصمت".
إخواني ادعوا لي بالثبات عند السؤال، وأكثروا من الدعاء فإني – والله – بحاجة لدعائكم..
وأنا أخبركم أني قد عفوت عن كل من تكلم في عرضي، أو أساء إليّ أو استدان مني.. طلباً فيما عند الله.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد
أخوكم
فهد
14/10/1424هـ
إذا لم نلتقِ في الأرض يوماً ... ...
وفرق بيننا كأس المنون(115/1122)
فموعدنا غداً بدار خلدٍ ... ...
بها يحيى الحنين مع الحنون
ـــــــــــــــــــ
آليات النهضة في العالم الإسلامي
يحي أبوزكريا
27/12/1425
ارسل تعليقك ...
لا توجد تعليقات ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
تعالت الصيحات في عالمنا العربي والإسلامي بأنّه لا بديل لأوجاع العالم الإسلامي ومشكلاته غير الإسلام، وقد أقلقت هذه الصيحات وهذه الأطروحة العديد من النظم القائمة في خطّ طنجة – جاكرتا (خطّ عرض العالم الإسلامي)، وراحت هذه النظم تكيد بأصحاب هذا الطرح وتزجّ بهم في غياهب السجن، وقد دافع أصحاب الطرح الإسلامي عن هذا الطرح بقولهم لقد جربنّا الاشتراكية فلم ننجح، وجربناّ الرأسماليّة فلم ننجح فعلام لا نجرّب الإسلام.
وحتى المفكرّون الغربيّون الذين تنبأّوا باندراس الحضارة الغربيّة الوشيك، راحوا يشيرون إلى الخريطة الممتدّة من طنجة وإلى جاكرتا وبأنّها ستلعب دوراً مهمّا في العقود المقبلة، ويملك العالم الإسلامي البديل الحضاري لمشكلات الإنسانيّة، وكما يقول أحد المفكرّين المسلمين فإنّ مشكلة العالم العربي والإسلامي ليست فكريّة، وما نحتاج إليه هو أن يدرك الفرد المسلم المسؤوليّة الحضاريّة الملقاة على عاتقه، وينطلق من هذا المنطلق لإحقاق النهضة، وقد أدرك الغرب هذه المعادلة، ولذلك راح يبعث برسائل إلى العواصم العربيّة والإسلاميّة بضرورة الحدّ من الظاهرة الإسلاميّة بل و القضاء عليها.
إنّ مشكلة العالم العربي والإسلامي ليست فكريّة، وما نحتاج إليه هو أن يدرك الفرد المسلم المسؤوليّة الحضاريّة الملقاة على عاتقه، وينطلق من هذا المنطلق لإحقاق النهضة
النهضة والواقع العربي والإسلامي:
لقد ورثنا من الماضي أثقالاً تلو الأثقال من الترسبّات الفكريّة، ولجأنا إليها في حلّ كل مشكلة تطرأ على واقعنا، ناسين أو متناسين أنّ الفكر وليد البيئة، والتراث الذي وصلنا إنّما عالج مشكلات كانت مطروحة في الحقبة التي وجد فيها، وتلك الحقب الماضيّة التي نستلهم منها كلّ علاج لجميع مشاكلنا، إنّما اكتنفتها ظروف خاصّة وحالا معينّة ومحددّة، وليس المفكّر هو الذي يعالج الواقع من منطلق كتاب دوّن في الطور الأوّل من العصر العبّاسي، بل الصحيح أن ينطلق هذا المفكّر من الواقع لحلّ المشكلة، دون التخلّي عن الثوابت الشرعيّة، وعن الكتاب والسنّة الصحيحة، إنّه من الخطأ بمكان أن ينطلق المفكّر من كتب عالجت المشاكل الاجتماعية في حقبة(115/1123)
المماليك والتتّار ليستخرجّ منها الدواء الشافي لمجتمعاتنا، وتجدر الإشارة هنا أننّا لا نقصد البتّة لدى حديثنا عن الموروث الحضاري الكتاب والسنّة الصحيحة، بل المقصود هو النتاج الفكري الإسلامي الذي أنتجته العقول الإسلاميّة من صدر الإسلام وإلى يومنا هذا.
وليس المطلوب على الإطلاق التخلّي عن التراث، بل المطلوب إعمال العقل ومحاولة الإبداع في كل المجالات، ولعلّ تقصيرنا في مجال الإبداع وصياغة خطاب إسلامي عصري أدّى إلى ارتماء النخب العربية والإسلامية في أحضان مدارس فكريّة لا تمّت بصلة إلى واقعنا العربي والإسلامي، وقد وجدت هذه النخب في الخطاب الغربي سهولة في الفهم وعصريّة في الطرح واستيعاباً لتفاصيل الحياة. وحجم الآفات التي تعصف بعالمنا الإسلامي من قبيل الأميّة والفقر و الجهل والمديونيّة وأزمة التغذيّة وكثرة الوفيّات وسوء توزيع الموارد الأوليّة والبطالة وقتل الوقت والبيروقراطيّة وما إلى ذلك، تتطلبّ فكراً يستوعب كل تفاصيل هذه الأدواء ويقدّم دواء شافيّا واقعيّا لا طوباويّاً، وفي هذا السيّاق يلاحظ أنّ المفكرين المسلمين قد تنوعّت معالجتهم لمثل هذه القضايا بتنوّع مشاربهم الفكريّة، فهذا يقول: إنّ المسألة تكمن في الصراع المذهبي، وآخر يراها في النظم السيّاسية، وثالث يراها في انعدام المشروع التربوي، وما إلى ذلك من الآراء. ولا مخرج من كل هذا التوزّع إلاّ بثقافة جديدة قوامها كما قال المفكّر الجزائري الأستاذ مالك بن نبي: إمّا أن نتغيرّ و إمّا أن نغيّر، ولابدّ لكي نبنيّ نهضة أن ننظر إلى واقعنا المعيش بدقّة وموضوعيّة، ونكفّ عن المدلهمّات التي أودت بفاعليتنا وإرادتنا، وكفانا تعطيلاً للفكر والإبداع.
والثقافة الصحيحة هي تلك التي تجعل صوب أعيننا ضرورة إنقاذ الإنسان المسلم من المصائب والمشاكل العويصة التي يتخبّط فيها اليوم ، وعلينا أن نركزّ على حقيقة الأزمة وصلب الإشكاليّة، وأن نتجنبّ المشاكل غير الواقعيّة التي استنفذنا فيها الجهد والطاقة الفكريّة، فأيّهما أولى بالتفكير فيه القضاء على الأمراض المؤدية بملايين الأطفال في العالم الإسلامي، وإقامة صناعة تكفل لنا أن نعيش معتمدين على سواعدنا أم الاسترسال في الخلافات الفقهيّة المفرّقة لكيّان المسلمين.
بين التعليم الكلاسيكي والمعاصر:
لقد وجدت في عالمنا العربي والإسلامي العديد من المعاهد التراثيّة التي كان لها الفضل الواسع في الحفاظ على الأصالة و تمطيط حركة الاجتهاد لتواكب العصرنة، ومن هذه المعاهد القرويين في المغرب الأقصى، وزوايا الجزائر والأزهر الشريف في مصر و جامع الزيتونة في تونس، ولا يتناقش اثنان في أنّ هذه المعاهد أدّت دورها في الحفاظ على كيّان الأمّة الإسلاميّة وشخصيتها مقابل التغريب اللغوي والفكري، وأدّت دورها كذلك على مستوى تهييج النفوس وتثوير العزائم والهمم لمجابهة الهجمات الصليبيّة على عالمنا العربي والإسلامي.
ومازال تاريخنا يذكر بجلال شخصيات من قبيل الأمير عبد القادر الجزائري، وعبد الكريم الخطابي، وعمر المختار، ومحمّد عبده، وجمال الدين الأفغاني، وخير الدين التونسي وما إلى ذلك من الشخصيّات العربيّة والإسلاميّة التي كان لها الباع الطويل(115/1124)
في إقامة صرح النهضة المعاصرة، ويلاحظ على هذه المعاهد بعض الملاحظات نذكرها بإيجاز.
أولاً: هذه المعاهد مازالت من حيث البرمجة التربويّة مقتصرة على ما كتبه القدامى، وفي هذا المجال ينبغي إدخال مواد علميّة في البرمجة لها صلة مباشرة بمشكلات العالم الإسلامي الراهنة.
ثانيّا: يتمّ الاقتصار في هذه المعاهد على ترديد ما يرد في المتون، دون أدنى محاولة لإثارة العقل، وإذا كان السلف قد أبدعوا فيحق للخلف أن يبدعوا أيضاً.
ثالثاً: بعض المعاهد لا تولي الاهتمام الكامل بالقرآن الكريم، فالقرآن مازال ولحدّ الآن مصدر الانطلاق، ومصدر الثقافة الإسلاميّة، ولذلك ينبغي أن يعود دوره الذي كان له أيّام السلف الصالح من هذه الأمّة.
رابعاً: ضرورة تشجيع النبوغ والعبقريّة والتكفّل بأصحاب المواهب والملكات.
والنوابغ والعباقرة في معاهدنا التعليميّة هم الكفالة الوحيدة لإيصال هذا التراث الهائل لأجيالنا المستقبليّة.
أمّا التعليم العصري وإن حاكى المناهج التغريبيّة بحذافيرها، فإنّ له مساوئ ومحاسن من حيث المحاسن، يمكن أن نتحدث عن الجانب العلمي والتكنولوجي الذي صار يدرّس في جامعات العالم العربي والإسلامي، ولكن الذي حدثّ أنّ التركيز على الجانب النظري أكثر منه على الجانب العملي، ويمكننا في هذا السيّاق أن نتحدثّ عن الأديب المصري طه حسين، الذي ترك الأزهر الشريف والتحق بالجامعة المصريّة الحديثة، وأبدى إعجابه الشديد بالمناهج المعاصرة، والمجموعة التي تركت الأزهر الشريف والتحقت بالجامعة المصريّة إنّما فعلوا ذلك سأماً من مناهج قالوا وقلنا، ذكروا وذكرنا التي كانت سائدة في الأزهر الشريف.
ويمكن حصر مساوئ الجامعات في كونها خرجّت جيلاً من المستغربين الذين دعوا إلى الانسلاخ التام عن التراث ونبذ الثقافة الإسلاميّة، وضرورة محاكاة الغرب حذو القدّة بالقدّة، ومن اطلع على كتاب (مستقبل الثقافة في مصر) لطه حسين يدرك ما أشرت إليه.
كما أنّ العديد من المناهج التعليميّة الجامعيّة لم نساهم لا من قريب ولا من بعيد في وضعها، خاصّة العلوم الإنسانيّة التي تضجّ برؤى المفكريّن الغربيين والذين فرضوا علينا فرضاً بسبب القحط الثقافي الذي يلّف واقعنا والحركة الاستعمارية التي أخرتنا على مدى قرون.
وقد هجرت العديد من الجامعات العربيّة والإسلاميّة الثقافة الإسلاميّة، بل هجرت اللغة العربيّة كما هو الحال في كثير من جامعات المغرب العربي،حيث اللغة الفرنسيّة هيّ سيدّة الموقف. وكثيراً ما يكون الأساتذة المستعارون من الغرب أعضاء فاعلين في دوائر الاستخبارات العالميّة، فهم يؤدّون من ناحيّة وظيفة تغريب الأمة، وفي نفس الوقت يكتشفون النوابغ في بلادنا الإسلاميّة ليتم استيرادهم إلى الغرب، ليساهموا في بناء النهضة الغربيّة، الذين ينجون من هذه الإغراءات ينالهم ما نال علماء الذرّة المصريين الذين تمّت تصفيتهم من قبل الموساد الإسرائيلي.(115/1125)
وبناءً عليه فالتعليم الكلاسيكي فيه محاسن ومساوئ، والتعليم الجامعي العصري فيه محاسن ومساوئ أيضاً، وهنا لابدّ من تصحيح المنظومة التربويّة كشرط محوري لبناء النهضة المرتقبة، فعلى صعيد التعليم الكلاسيكي علينا أن نخرج من دائرة التقوقع، وإيجاد خطاب بنّاء يسير يصل إلى العقول بيسر شديد، ويجب تنظيف التراث مما علق به من أشواب.
وفيما يخصّ التعليم العصري فينبغي أن ينسجم مع التعليم التراثي ويشكلان سويّة خطّا متكاملاً باتجّاه البناء الحضاري، كما أنّ التعليم العصري يجب أن يخرج من دائرة الانبهار بالغرب، ومن الناحيّة النظريّة فنحن نعد نتجين للفكر النظري والفلسفي وفق الكتاب والسنّة الصحيحة، ويبقى القول:إن الاستفادة من الغرب تكون على صعيد الجنبة الصناعية والتقنيّة، ولكن دون أن يكون ذلك مدخلاً باتجّاه السيطرة على قرارنا السياسي أو تحركنا الدولي.
ـــــــــــــــــــ
الظاهرة الإنسانية والمنهج الغربي
عبد الله بن محمد السهلي
20/12/1425
ارسل تعليقك ...
تعليقات سابقة ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
إن المتأمل في الفكر الغربي المعاصر فيما يتعلق بالنتاج البشري في العلوم الاجتماعية والإنسانية يجد أنها وإن حققت شيئاً من النجاحات على أرض الواقع بالنسبة لمجتمعاتهم الغربية إلا أن ثمة إشكالاً كبيراً في نقلها إلى المجتمعات الإسلامية والعربية، ويمكن إجماله في علاقة الأصول الفلسفية للعلوم بنتائجها وتطبيقاتها في شتى مجالات العلوم الإنسانية التربوية والإدارية والاقتصادية.
إذ لا يمكن بحال الفصل بين النظرية والتطبيق؛ لأن الأخير ما هو إلا شجرة تمتد بجذورها في أعماق النظرية.
وإن هذا الأمر بالذات غائب أو مغيب عند كثير من المفكرين والتربويين والاقتصاديين، ولذا لابد من تقريره كمقدمة لهذه المقالة.
ومن خلالها يمكن أن نتعرف على أسباب كثير من الجدل حول أهلية بعض العلوم الوافدة في مثل ما يسمى بالبرمجة اللغوية العصبية، أو غيرها من التطبيقات التربوية التي أكلنا وشربنا عليها ردحاً من الدهر، خذ على سبيل المثال البرجماتية الأمريكية، وتأمل الطرح التربوي في العالم الإسلامي والعربي تجد ما هو إلا صدى لتطبيقاتها بل تجاوز هذا مجال التربية إلى الاقتصاد والأدب والإدارة.
إن المتأمل في الفكر الغربي المعاصر فيما يتعلق بالنتاج البشري في العلوم الاجتماعية والإنسانية يجد أن ثمة إشكالاً كبيراً في نقلها إلى المجتمعات الإسلامية والعربية(115/1126)
ولعل من أبرز إشكالاتنا وجدلنا بل ومعالجتنا لكثير من مشاكل المجتمع أننا نقع في فخ مناقشة التطبيقات أوالظواهر في المشكلات، ونغفل ونتجاهل - بل نجهل بمعنى أدق- معالجة ومناقشة الأصول سواء في الجدل حول أهلية العلوم أو معالجة مشكلاتنا المعاصرة، فتجدنا نتناول الظواهر والتطبيقات لتتفرع بنا الأمور وتأخذنا بنيات الطريق وإن وجدنا علاج فهو كالمهدئات اليسيرة للحرارة أو الصداع الذي يشكو منه مريض السرطان، إننا ما لم نصل إلى أس المشكلة وجذورها فلا تنتظر قطع أو استئصال ظواهرها.
ولذا لابد من تقرير أمور متعلقة بالنتاج البشري الغربي سيما في المجالات الإنسانية الاجتماعية وهو أن الغرب المتمثل في أوربا وأمريكا مر بثلاث حلقات متعاقبة زمانياً، الحلقة الأولى هي سيادة النص الشرعي - الوحي - وهذا هو الأصل وفيها جاءت النصرانية كديانة مؤقتة ليست خالدة، ولأن الله _عز وجل_ لم يقدر لها الخلود لم يقدر لها الحفظ، وكل الرسالات قبل الإسلام كانت محددة زماناً وأحياناً زماناً ومكاناً، ولكن النصارى أرادوا لها الخلود وأن تحكم النصرانية الحياة في الوقت الذي لم تكن مؤهلة لذلك ولم يكن السقف المعرفي لرجالات الدين النصرانى سوى اجتهادات بشرية صرفة صادمت بها العلماء واختلفت مع المفكرين سيما علماء الطبيعة.
ثم ظهرت الثورة الفرنسية وأعقبها التقدم الملحوظ في جوانب العلوم الطبيعية، مما أدى إلى دخول أوربا باستثناء المجمعات الكنسية إلى دخول في حلقة ضياع النص، حيث فرخت وعششت العلمانية اللادينية كردة فعل لهيمنة الكنيسة وانزلقت المجتمعات الغربية في مستنقع الرذيلة والانحلال في الجانب الأخلاقي، أما الجانب القيمي العقدي فقد سرت موجة الإلحاد.
يقول العالم الألماني نتشه: "لقد آن للإنسان أن يفعل كل شيء لقد مات الإله ووجد السوبرمان"، بعد هذا الفراغ العقدي في حلقة ضياع النص، دخلت أوربا و الغرب بشكل عام في حلقة تلمس البدائل في نسقٍ علماني، وازدهرت الفلسفات الوضعية التي تحاول الإجابة عن الأسئلة والقضايا الكبرى في ظل تغييب وإقصاء الدين عن المساهمة في صياغة فلسفة الوجود، جاءت هذه الفلسفات بتعاقب زمني كل فلسفة ردة فعل لما سبقها "كلما دخلت أمة لعنت أختها" هذه اللادينية التي فصلت الدين عن الحياة أدت إلى انطلاق العلماء والمفكرين بدون قيود وبدون ضوابط في جميع الميادين الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، ولذا يمكن القول: إن هذه العلوم خرجت من عباءة الفلسفة.
نتيجة لهذا الأمر تسارع إيقاع التغييرات الاجتماعية والاقتصادية على شكل الحياة المدنية بصورة فيها جوانب إيجابية فيما يتعلق بالعلوم الطبيعية صاحبها تقدم مضطرد للدول الغربية، مما جعل الغرب برمته يربط بين التقدم في العلوم الطبيعية وبين العلمانية ممتطياً في ذلك الفلسفة الوضعية الطبيعية التي تتبنى حتمية قوانين الكون وجبرية العالم وما العلم – في نظرها - إلا أداة لكشف هذه القوانين وتفسيرها ومن ثم التحكم بها سواء في ذلك العلوم الطبيعية أو الإنسانية، وتقدم الغرب في العلوم الطبيعية سائغ لتعاملهم مع الجماد والآلة المتحررة من الثقافة والفكر، خلافاً للظاهرة(115/1127)
الإنسانية التي هي نسيج مترابط من الجوانب النفسية والعقدية والاجتماعية، والتي حاول فيها الغرب تطبيق المنهج التجريبي التحليلي الذي لا يفرق بين الإنسان والآلة يزعمون فيه القدرة على ضبط المتغيرات وتحييدها وإخضاع الإنسان للتجربة – متجرداً من كرامته – والخروج بالنتائج وتفسيرها، ومن ثم التنبؤ والتحكم به وبمعنى أدق السيطرة على الإنسان. هذه المنهجية الغربية في العلوم الإنسانية تم نقلها بحذافيرها إلى العالم الإسلامي والغربي، وما زال الأكاديميون التربويون منذ ما يزيد على عقدين يلوكونها ويجترون منهجيتها وتمتشق في التنظير لها الأقلام وتسّود الصحف دون أدنى نظر أو تفكير!!
لقد أصاب محمد إقبال كبد الحقيقة عندما قال:
أرى التفكير أدركه خمولٌ ... ...
ولم تعد العزائمُ في اشتعالِ
ومن أدرك هذه الحقيقة من الأكاديميين جانب الصواب في تلمس الحلول لها سيما فيما يسمى بأسلمة العلوم التي يكون فيها الأساس المنهج الغربي وغاية عملهم أن هذا لدينا في الإسلام!! وهذا جاء به القرآن! ثم تلوا أعناق النصوص لتتعانق أقوال ديكارت وسارتر مع أقوال السلف زعموا.
وصرنا مع هؤلاء الأكاديميين التربويين بين أمرين أحلاهما مر بين صنفٍ مغفل يجتر ما تلقاه على موائد الغرب وصنفٍ عرف الداء وأخطأ الدواء ليصدق في هذين الصنفين قول الأول:
إن كنت لا تدري فتلك مصيبةٌ ... ...
وإن كنت تدري فالمصيبةُ أعظمُ
ـــــــــــــــــــ
المرجعية العلمية ومحددات الإطار الحركي في العمل الإسلامي
خالد السيد رُوشة
13/12/1425
ارسل تعليقك ...
تعليقات سابقة ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
في الظروف الآنية التي تمر بها الأمة الإسلامية يرى المراقب اختلافاً بيناً بين مناهج العمل الحركي الإسلامي في مختلف الأرجاء، وقد ينحى ذلك الاختلاف بالبعض لتبني أساليب حركية مثيرة للجدل من جهة تأثيرها الإيجابي أو السلبي على العمل الإسلامي ككل، الأمر الذي يحدو بكثير من شباب الأمة في لحظات الحماس أو لحظات الضغط إلى تبني مناهج حركية تحتاج قبل تطبيقها إلى دراسة متأنية على المستوى الشرعي و العملي والخبروي.
ومن أجل توضيح محاور تلك القضية نتوقف عند عدة مفاهيم لازمة:(115/1128)
أولاً: تقوم المنظومة العملية الإسلامية عامة على العلم الشرعي الثابت من الكتاب والسنة الصحيحة، ويمثل العلماء في العمل الإسلامي الإطار المرجعي لتلك الخطوات العملية بشكل عام، يقول النبي _صلى الله عليه وسلم_: " العلماء ورثة الأنبياء " رواه أحمد وأبو داود والترمذي، فهم الذين ورثوا ميراث النبوة من العلم الذي تهتدي به الأمم وتستنير به طريقها وتستوضح به منهجها السوي المستقيم.
في الظروف الآنية التي تمر بها الأمة الإسلامية يرى المراقب اختلافا بينا بين مناهج العمل الحركي الإسلامي في مختلف الأرجاء
فالعلماء هم الذين يناط بهم الفهم الصحيح والتام لنصوص الشريعة من الكتاب والسنة، وهم القادرون على توصيل تلك المفاهيم إلى الناس، فمن أخذ منهم العلم فقد أخذ بحظ وافر، ومن أهمل الأخذ بالعلم ظل متخبطاً في تيهه مهما جمع من علوم الثقافات المختلفة أو ألم بخبرات عملية متكاثرة في مناحي الحياة.
ومن ثم لزم الاتجاهات الإسلامية أن تجعل لها منهجاً علمياً واضحاً بيناً متكاملاً يتربى أبناؤها من خلاله على مقدار من العلم يكفيهم في طريق دعوتهم، وأن يقوم بتعليم هذا المنهج وتدريسه والإشراف عليه أهل علم أثبات وعلماء ربانيون.
كذلك ينبغي للدعوات أن يكون لها مراجعها العلمية من أولئك العلماء الربانيين من أهل السنة والجماعة، والذين عرفتهم الأمة بعلمهم، وفضلهم، وصلاحهم، وبذلهم، وثباتهم، وحرصهم على خير أمتهم.
ثانياً: يرتبط المنهج الحركي في العمل الإسلامي بالمنهج العلمي والمرجعية العلمية ارتباطاً وثيقاً، ويعود إلى العلماء تحديد صحة الوسائل المستخدمة في الدعوة أو فسادها، وكذلك تقييم ضررها ونفعها وما يترتب عليها من مصلحة للأمة أو مفسدة (والعلماء في ذلك يحكمون على تلك الوسائل بطرق شرعية معتمدة وبعد استشارة ذوي الخبرة والفهم الواقعي وأهل الرأي والفهم في الشؤون المختلفة، ومن ثم يبنون حكمهم وفتاواهم).
ومن ثم صار الطريق الصائب في الحركة بالمنهج الشرعي هو الطريق الذي يتلقاه علماء الأمة بالقبول ويدلون على نفعه وصوابه.
وصارت الوسائل الحركية التي نقدها العلماء أو كرهوها أو بينوا خطأها أو حكموا بضررها على الأمة أو على الأفراد هي ما يجب اجتنابه أثناء التحرك بالدعوة لهذا الدين أو جلب نفع له أو دفع ضر عنه.
ومن ثم كانت قاعدة اعتبار المصالح والمفاسد في الفتاوى والأحكام الشرعية وغيرها من المسائل العملية في الشريعة قاعدة هامة للغاية في الحركة واتخاذ الوسائل الدعوية ومواقف الدفاع والمبادرة بشكل عام.
وقد قعد النبي _صلى الله عليه وسلم_ معنى هذه القاعدة بقوله لعائشة _رضي الله عنها_: " لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية لهدمت الكعبة وجعلتها على قواعد إبراهيم " رواه البخاري، فبين _صلى الله عليه وسلم_ اعتبار المفسدة التي قد تحصل من قريش والقبائل المختلفة عند هدم الكعبة رغم وجود المصلحة الكبيرة التي يمكن أن تحصل عند هدمها وجعلها على قواعد إبراهيم وجعل لها بابان.(115/1129)
كذلك بنهيه _صلى الله عليه وسلم_ عن قتل المنافقين رغم ما في ذلك من مصلحة كبيرة متوقعة من تميز الصف وردع الناس عن النفاق، مخافة أن يشيع بين الناس أن محمداً _صلى الله عليه وسلم_ يقتل أصحابه فيخشى الناس من الإسلام ويتهربون منه وتكون مفسدة كبيرة من الإعراض عن الدين... إلى غير ذلك من الأدلة المتكاثرة على اعتبار تلك القاعدة.
ثالثاً: ينبغي أن تحرص الحركات الإسلامية على توقير علمائها وأن تبث فيهم ضرورة الرؤية الشرعية في جميع الأعمال التي يقوم بها المسلم الصالح، وأن تحسن الظن بهم، وتطمئن إلى فتواهم وتوجيههم وحكمهم، خصوصاً إذا اتفقوا أو اتفق غالبهم على قول واحد أو على حكم واحد أو وجهة نظر واحدة، كما ينبغي ألا يتجرأ شباب حركة ما على علمائهم بتجريح أو تخطيء أو اتهام، مع اعتبار الآداب الشرعية التي ينبغي أن يعامل بها العلماء ويختلف معهم (والعلماء في ذلك يجب أن يكونوا قدوة صالحة ثابتة راسخة، وأن يبينوا للأمة ما خفي عنها، وأن يجلوا الحقائق، ويبينوا الصواب غير عابئين بمصالح شخصية وغير خائفين من تخويف الناس؛ لأن الأمة تقوم عن قولهم، وتستضيء بأقوالهم فيجب أن يكونوا أهلاً لتلك المكانة العالية).
ومن أغرب ما يراه المراقب لبعض الشباب المتحمس أنهم قد يستفيدون من عالم ما استفادة كبيرة فيجلونه ويعظمون شأنه، ويرفعون قدر فتاواه على غيرها ، ويأتمرون بأمره ويذكرون من فضائله الكثير والكثير، ثم إذا بهم يقلبون ذلك رأساً على عقب إذا قضى بغير مراداتهم أو رأى غير رؤيتهم للوسائل المختلفة، أو حكم بغير ما تهواه نفوسهم، فيصير توقيره سخرية وتصير فتاواه أضعف الفتاوى من وجهة نظرهم، محتجين في ذلك برؤياهم الخاصة أو بقول طالب علم مبتدئ، أو عالم متفرد؛ لأنه وافق ميولهم، وكأن أهل العلم ينبغي أن يتخذوا فتاواهم من رغبات الشباب من حولهم أو أن يبنوا أحكامهم من خلال هوى المحيطين بهم.
وإنما وجب أن يظل توقير أهل العلم سلوكاً ثابتاً، وأن يظل احترام أقوالهم ورؤياهم باقياً، حتى لو اختلف أهل العلم أنفسهم فيما بينهم على قصية ما، فما بالك في قضايا قد تجد فيها عشرات العلماء متفقين على رأي واحد وقول واحد.
ذكر ابن عبد البر في (جامع بيان العلم وفضله) عن أبي وائل أن ابن مسعود رأى رجلاً قد أسبل إزاره، فقال له: ارفع إزارك، فقال: وأنت يا ابن مسعود فارفع إزارك، فقال: إن بساقي حموشة، وأنا أؤم الناس، فبلغ ذلك عمر بن الخطاب، فجعل يضرب الرجل، ويقول له: أترد على ابن مسعود؟!
وقال الشافعي _رحمه الله_: " الحر من راعى وداد لحظه أو انتمى لمكن علمه لفظة " .
فعلينا أن نعلم أبناء أمتنا هذا المعنى الهام من الوفاء والأدب مع العلماء، وأن يحفظوا لهم قدرهم، وأن يلتفوا حولهم، ويسترشدوا بعلمهم، وأن يستروا خطأهم، وأن ينصحوا لهم إذا زلوا، وأن يدعوا لهم بالثبات والتوفيق والسداد.
ـــــــــــــــــــ
الحج وتربية الذات
أحمد بن عبد المحسن العساف(115/1130)
6/12/1425
ارسل تعليقك ...
لا توجد تعليقات ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعى آله وصحبه ؛ وبعد:
من عظيم فضل الله علينا ومنته أن جعل عقيدتنا وشريعتنا من الروافد الأساسية في تربية النفس وتقويم أودها والرقي بالذات نحو مدارج الكمال ومعالي الأمور، فالإيمان بالله كفيل بغرس الهيبة في النفوس لعظمته وجلاله _سبحانه_ والإيمان بالملائكة يربي فينا المراقبة الذاتية وتأمل معاني الأسماء الحسنى والصفات العلى يفيض على النفس شعوراً بقرب السميع العليم البصير فلا تجنح نفس المؤمن للخطأ ويطرد اليأس عنا معاني الحكيم العليم الخبير؛ وهكذا في سلسلة من النور والبهاء والعزة تستمد من هذه الأسماء والصفات لله الكبير المتعال، وهي جديرة بالدراسة والتأمل من العلماء المسلمين.
وأما الشريعة الغراء فلها ما للعقيدة من أثر سامٍ؛ فالصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر وتعود على الانضباط والإتقان، والزكاة مدرسة للبذل والعطاء وطهرة للنفوس، والصيام يعلم الصبر بأنواعه ويوحد مشاعر المجتمع في حالة يعز نظيرها. وهذه القضية عامة في جل العبادات غير أن لها ظهوراً ومزيد جلاء في عبادة عظيمة تعاقب على أدائها الأنبياء والصالحون وسيبقى ولع المسلمين بها وشوقهم إليها إلى أن يأتي أمر الله _سبحانه_ وهذه العبادة هي الحج التي تجعل للعبد فرصة الخروج من ذنوبه وآثامه كيوم ولدته أمه كما صح بهذا الخبر عن النبي _صلى الله عليه وسلم_.
فمن عظيم فضل الله علينا ومنته أن جعل عقيدتنا وشريعتنا من الروافد الأساسية في تربية النفس وتقويم أودها والرقي بالذات نحو مدارج الكمال ومعالي الأمور
فمن آثار الحج التربوية على الفرد والأمة ما يأتي:
1 - تأصيل قضية التوحيد في النفوس وتأكيدها:
وبهذا يتحقق الإخلاص وهو شرط صحة العبادة الأول؛ فنية الحج خالصة لله _سبحانه_:"وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ..." (البقرة:من الآية196)، وقال _سبحانه_ في أثناء آيات الحج:" فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ..." (الحج:30-31). وفي التلبية وهي شعار الحج جاء إفراد الله بالنسك صريحاً "لبيك اللهم لبيك؛ لبيك لا شريك لك لبيك....".
2 - توحيد المتابعة:
وهو شرط صحة وقبول العبادة الثاني؛ وتكون المتابعة للنبي _صلى الله عليه وسلم_ في أقواله وأفعاله وتقريراته، وبذلك يتحقق للعبد توحيد المتابعة وينجو من شرك الطاعة وشَرَك الابتداع وقيد العوائد وتغلب الأهواء؛ إذ عن شخص النبي _صلى الله عليه وسلم_ فقط تؤخذ المناسك.
3 - البراءة من المشركين ومخالفتهم:(115/1131)
وهذا مطلب شرعي، حيث خالفهم النبي _صلى الله عليه وسلم_ في مواضع مختلفة من الحج، مثل:الإهلال بالعمرة في أشهر الحج، التلبية ، الوقوف بعرفة، الدفع من مزدلفة، فليتنا نأخذ درساً في العزة والبراءة من تقليد المشركين التي ابتلي بها فئام من أبناء المسلمين فتراهم مستهترين بالعدو الغازي مولعين بتقليد حثالة رجاله ونسائه في أمور أقل ما يكون فيها انعدام الفائدة، فكيف بخزايا الأعمال ومساوئ الأخلاق؟
4- تعظيم شعائر الله:
وهي من أعظم غايات الحج، حيث يتربى العبد على تعظيمها وإجلالها ومحبتها وإكرام أهلها والتحرج من المساس بها أو هتك حرمتها، ويزداد التعظيم والخضوع بترك تغطية الرأس؛ قال _جل شأنه_ في ثنايا آيات الحج: "ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ" (الحج:32).
5 - التربية على الأخلاق الحسنة والخلال الحميدة:
ومنها العفة وكظم الغيظ وترك الجدال كما في قوله _عز وجل_: "الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ" (البقرة: من الآية197). فالرفث هو الجماع ودواعيه من قول أو فعل. والجدال:أن تجادل صاحبك حتى تغضبه ويغضبك.
ومنها: اللين والرفق والسكينة كما قال _عليه الصلاة والسلام_ حين سمع جلبة وصخباً في الدفع لمزدلفة: "أيها الناس عليكم بالسكينة، فإن البر ليس بالإيضاع" والإيضاع، هو: الإسراع.
ومنها إنكار الذات وتجاوز أغلالها والاندماج في المجموع في اللباس والهتاف وفي التنقل والعمل.
ومنها: التربية على التواضع حين لا يمتاز أحد عن أحد وليس لحاج خاصية أو ميزة عن غيره من الحجاج في الأمور الدينية، فالأركان والواجبات والمسنونات متماثلة في حق الجميع.
ومنها: التربية على الصبر بأنواعه؛ صبر على مشقة الطاعة، وصبر عن المعصية خاصة مع التزاحم وكثرة الناس، وصبر على قضاء الله الذي يعرض للحاج.
ومنها: التربية على البذل والسخاء فالحج عبادة بدنية مالية، وفي المشاعر تتسامى المشاعر فيبذل الموسر من ماله لسقيا الحجاج أو تفريج كربهم وسد حاجتهم.
ومنها: تحقيق معاني الأخوة وحصول المحبة والتآلف والتضحية خاصة حين يكون الحج مع رفقة وصحبة.
6 - التربية على تحمل تبعات الخطأ:
ويظهر ذلك جلياً في وجوب الفدية على من ارتكب محظوراً من محظورات الإحرام أو ترك واجباً، ولاشك أن الشعور بالمسؤولية وتحملها علامة نضج وكمال الإنسان وهي غاية من غايات التربية لا جرم.
7 - التذكير باليوم الآخر:
في مواقف تحصل للحاج، منها:
خروجه من بلده ومفارقته أهله: يذكر بالفراق حال الخروج من الدنيا.(115/1132)
التجرد من المخيط وترك الزينة: يذكر بالكفن وخروج العباد من قبورهم حفاة عراة غرلاً.
الترحال والتعب والازدحام مع العطش والعرق: يذكر بمواقف عرصات القيامة وحشر العباد.
8 - التربية على الاستسلام والخضوع لأمر الله _تعالى_ والمجاهدة فيه:
ويكون هذا بإيثار محاب الله ومرضاته على رغبات النفوس وشهواتها؛ مما يقود إلى مرتبة أعلى ومنزلة أسمى حين لا يكون للعبد إيناس ولا استئناس إلا بما يرضي الرب _سبحانه_ وحينها يبلغ إيمان المسلم درجة عالية عزيزة بفضل الله وتوفيقه.
9 - تعميق معاني الأخوة الإيمانية والوحدة الإسلامية:
فالحج مؤتمر إسلامي عالمي كبير، تتحقق فيه الوحدة في مصدر التلقي وفي قصد القلب وعمل الجوارح وفي الزمان والمكان واللباس والذكر والمناسك ، وتذوب فوارق اللغة واللون والإقليم بين المسلمين في حالة هي الأصل المتخلف ولله وحده المشتكى.
10 - ربط الحجيج بأسلافهم:
حيث تحمل أعمال الحج في مضامينها ذكرى أبينا إبراهيم _عليه السلام_ ورحيله بزوجه هاجر وابنه الرضيع إسماعيل _عليه السلام_ إلى مكة وما كان من أمرهم مروراً بباقي الركب الميمون من الأنبياء والرسل _عليهم الصلاة والسلام_ وصولاً إلى حجة الوداع مع خير الرسل وخاتمهم ُثم استكمالا للمسيرة مع الصحابة والتابعين والعلماء والصالحين إلى وقتنا هذا؛ وكم في سير أولئك الكبار من دروس وعبر وكم فيهم من قدوة ومعتبر.
11 - الإكثار من ذكر الله _تعالى_:
والحج شعيرة يملؤها الذكر ويمنحها مزيداً من الجلال والبهاء؛ قال _سبحانه_: " فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ" (البقرة: من الآية198). وفي الحديث "إنما جعل الطواف بالبيت وبين الصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله في الأرض".
12 - التعود على النظام والانضباط:
فللمناسك ترتيب ونظام لا يقبل الإخلال بهما، وكم في الناس من مزاجية واضطراب لا تنضبط إلا بالحج.
13 - التربية الإيمانية:
ومنها:
التربية على النفرة من المعاصي واجتناب الذنوب: "الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ" الآية.
التربية على الاجتهاد في الطاعات واستغلال الوقت: "وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ" (البقرة: من الآية197).
التربية على الدعاء والمسألة ولذة مناجاة الله: "خير الدعاء دعاء عرفة" وفي الحج ست مواضع قمينة بإجابة الدعاء فضلاً من الله ومنة، وهي:الطواف، الصفا والمروة، يوم عرفة، عند المشعر الحرام، بعد رمي جمرة العقبة الصغرى، بعد رمي جمرة العقبة الوسطى؛ علماً أن الحج كله سوق رائجة رابحة للدعاء والابتهال والاستغفار.(115/1133)
التربية على الاستقامة بعد الحج وغفران الذنوب وتبييض الصحائف. قال الحسن البصري _رحمه الله_ :" الحج المبرور أن يرجع زاهداً في الدنيا، راغباً في الآخرة، ويشهد لذلك قوله _تعالى_: "وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ" (محمد:17)".
14 - تربية النفس على الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
فاجتماع الناس وجهل بعضهم أحكام الحج فرصة سانحة لدعوتهم وتصحيح مفاهيمهم وتقويم سلوكهم؛ كما أن وجود البدع والمنكرات وربما الشركيات يحتم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. قال شجاع بن الوليد:" كنت أحج مع سفيان؛ فما يكاد لسانه يفتر من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ذاهباً وراجعاً ".
15 - وفي الإحرام تربية:
حين يحرم المسلم نفسه ما أباحه الله من متع الدنيا ومتاعها وزينتها لغير المحرم، فكيف بالمحرمات على الدوام؟ ولم ينغمس البعض في حرام لا مرية فيه بينما يتحرز من حلال حرم عليه مؤقتاً؟
16 - وفي التلبية تربية:
ففيها تحقيق توحيد القصد وإجابة أمر الله ومعاهدة على الطاعة إثر الطاعة ومخالفة لطريق المشركين؛ فإذا لبى الواحد داعي الله السنوي فما باله يتكاسل عن داعي الله اليومي؟
17 - التربية على صدق العزيمة وقوة الإرادة:
فمن حج البيت فقد أرغم هواه وغالب لذة الراحة والدعة ومضى لأمر يعلم مشقة غير ملتفت لمخذل أو مرجف أو صارف؛ وما أكثر الصوارف! وما أعلى صياح المخذلين بالحجج الواهيات والتوهيمات الساقطات!.
18 - التربية على هجر العوائد وقطع العلائق وتغيير نمط الحياة:
فالعوائد ما اعتاده الواحد من سكون ورخاء ، والعلائق ما تتعلق به القلوب من دون الله من ملاذ الدنيا وأناسها، ويكون هجرها بقوة التعلق بالمطلب الأعلى وهو رضا الله _سبحانه_ وسلعته الغالية.
19 - وفي الحج تدريب عملي:
فالحاج هو المسؤول عن إتمام المناسك لا غيره؛ وقد يكون في حملة أو رفقة فيتولى بعض أمرهم ويتاح له من التطبيق العملي والتدريب المكثف ما لم يكن متاحاً له بغير الحج.
20 - وفي الحج تربية على التعلم والتعليم:
فالحاج يتعلم مناسك الحج ومحظوراته، وقد يحضر دورة قبل الحج أو يسأل مفتياً في أثناء الحج وحسن السؤال نصف العلم؛ وقد يضبط الأحكام والفتاوى بإحكام يؤهله لنقلها لغيره مبلغاً ومعلماً.
اللهم يسر لنا حجاً مبروراً وسعياً مشكوراً واغفر اللهم ذنوبنا وخطايانا؛ والله _تعالى_ أعلم.
ـــــــــــــــــــ
إلى البيت العتيق(*)(115/1134)
أحمد الصويان
28/11/1425
ارسل تعليقك ...
تعليقات سابقة ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
الشيخ الحاج عثمان دابو - رحمه الله – من جمهورية جامبيا في أقصى الغرب الإفريقي، تجاوز الثمانين من عمره، زرته في منزله المتواضع في قريته الصغيرة قرب العاصمة بانجول، وحدثني عن رحلته الطويلة قبل خمسين عاماً إلى البيت العتيق، ماشياً على قدميه مع أربعة من صحبه من بانجول إلى مكة قاطعين قارة إفريقيا من غربها إلى شرقها، لم يركبوا فيها إلا مرات قليلة متقطعة على بعض الدواب، إلى أن وصلوا إلى البحر الأحمر ثم ركبوا السفينة إلى ميناء جدة.
رحلة مليئة بالعجائب والمواقف الغريبة التي لو دُوِّنت لكانت من أكثر كتب الرحلات إثارة وعبرة، استمرت الرحلة أكثر من سنتين، ينزلون أحياناً في بعض المدن للتكسب والراحة والتزود لنفقات الرحلة، ثم يواصلون المسير.
سألته: أليس حج البيت الحرام فرضاً على المسلمين، وأنتم في ذلك الوقت غير مستطيعين؟! قال: نعم، ولكننا تذاكرنا ذات يوم قصة إبراهيم الخليل – عليه الصلاة والسلام – عندما ذهب بأهله إلى واد غير ذي زرع عند بيت الله المحرم، فقال أحدنا: نحن الآن شباب أقوياء أصحاء، فما عذرنا عند الله _تعالى_ إن نحن قصَّرنا في المسير إلى بيته المحرم، خاصة أننا نظن أن الأيام لن تزيدنا إلا ضعفاً، فلماذا التأخير؟! فهيَّجنا واستحثنا على السفر مستعينين بالله – تعالى-.
رحلة مليئة بالعجائب والمواقف الغريبة التي لو دُوِّنت لكانت من أكثر كتب الرحلات إثارة وعبرة، استمرت الرحلة أكثر من سنتين، ينزلون أحياناً في بعض المدن للتكسب والراحة والتزود لنفقات الرحلة، ثم يواصلون المسير
خرج الخمسة من دُورهم، وليس معهم إلا قوتاً لا يكفيهم أكثر من أسبوع واحد فقط، والدافع الرئيس لذلك هو تحقيق أمر الله – تعالى – لهم بحج بيته العتيق، وأصابهم في طريقهم من المشقة والضيق والكرب ما الله به عليم، فكم من ليلة باتوا فيها على الجوع حتى كادوا أن يهلكوا؟! وكم من ليلة طاردتهم السباع وفارقهم لذيذ المنام؟! وكم من ليلة أحاط بهم الخوف من كل مكان، فقطاع الطرق يعرضون للمسافرين في كل واد؟!
رُب ليلٍ بكيت منه فلمَّا ... ...
صرتُ في غيره بكيت عليه
قال الشيخ عثمان: لُدغت ذات ليلة في أثناء السفر، فأصابتني حمَّى شديدة وألم عظيم أقعدني وأسهرني، وشمت رائحة الموت تسري في عروقي:
وإني لأرعى النجم حتى كأنني ... ...
على كل نجم في السماء رقيب(115/1135)
فكان أصحابي يذهبون للعمل، وكنت أمكث تحت ظل شجرة إلى أن يأتوا في آخر النهار، فكان الشيطان يوسوس في صدري: أمَا كان الأَوْلى أن تبقى في أرضك؟! لماذا تكلف نفسك ما لا تطيق؟! ألم يفرض الله الحج على المستطيع فقط؟!
فثقلت نفسي وكدت أضعف، فلما جاء أصحابي نظر أحدهم إلى وجهي وسألني عن حالي، فالتفت عنه ومسحت دمعة غلبتني، فكأنه أحس ما بي! فقال: قم فتوضأ وصلِّ، ولن تجد إلا خيراً _بإذن الله_ "وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ" (البقرة:45، 46). فانشرح صدري، وأذهب الله عني الحزن _ولله الحمد_.
كان الشوق للوصول إلى الحرمين الشريفين يحدوهم في كل أحوالهم، ويخفف عليهم آلام السفر ومشاق الطريق ومخاطره، مات ثلاثة منهم في الطريق، كان آخرهم في عرض البحر، واللطيف أن وصيته لصاحبيه أن قال لهما: إذا وصلتما إلى المسجد الحرام، فأخبرا الله – تعالى – شوقي للقائه، واسألاه أن يجمعني ووالدتي في الجنة مع النبي _صلى الله عليه وسلم_.
قال الشيخ عثمان: لما مات صاحبنا الثالث نزلني همٌّ شديد وغمٌّ عظيم، وكان ذلك أشد ما لاقيت في رحلتي، فقد كان أكثرنا صبراً وقوة، وخشيت أن أموت قبل أن أنعم بالوصول إلى المسجد الحرام، فكنت أحسب الأيام والساعات على أحر من الجمر.
إذا برقت نحو الحجاز سحابة ... ...
دعا الشوق مني برقها المتطامن
فلما وصلنا إلى جدة مرضت مرضاً شديداً وخشيت أن أموت قبل أن أصل إلى مكة المكرمة، فأوصيت صاحبي أنني إذا مت أن يكفنني في إحرامي، ويقربني قدر طاقته إلى مكة، لعل الله أن يضاعف لي الأجر، ويتقبلني في الصالحين.
فيوشك أن يحول الموت بيني ... ...
وبين جوار بيتك والطوافِ
فكم من سائل لك رب رغباً ... ...
ورهباً بين منتعل وحافي
أتاك الراغبون إليك شعثاً ... ...
يسوقون المُقلَّدة الصَّوافي(1)
مكثنا في جدة أياماً، ثم واصلنا طريقنا إلى مكة، كانت أنفاسي تتسارع والبِشْر يملأ وجهي، والشوق يهزني ويشدني، إلى أن وصلنا إلى المسجد الحرام.
وسكت الشيخ قليلاً.. وأخذ يكفكف عبراته، وأقسم بالله – تعالى-: أنه لم ير لذة في حياته كتلك اللذة التي عمرت قلبه لمّا رأى الكعبة المشرفة! ثم قال: لما رأيت الكعبة سجدت لله شكراً، وأخذت أبكي من شدة الرهبة والهيبة كما يبكي الأطفال، فما أشرفه من بيت وأعظمه من مكان!
ثم تذكرت أصحابي الذين لم يتيسر لهم الوصول إلى المسجد الحرام، فحمدت الله – تعالى – على نعمته وفضله عليّ، ثم سألته أن يكتب خطواتهم وألا يحرمهم الأجر، وأن يجمعنا بهم في مقعد صدق عند مليك مقتدر.(115/1136)
خرجت من بيت الشيخ وأنا أردد قول الله – تعالى-: "وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ" (آل عمران:133). إقبال جاد على الطاعة، إقبال لا يعرض له التكاسل أو التسويف، إقبال تتساقط تحته العراقيل والعقبات.. إقبال بهمّة صادقة وعزيمة عالية تنبع من قلب متعلق بمحبة الله والامتثال لأمره.
خرجت وأنا أردد قول الله – تعالى-: "وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ" (الحج:27).
ثم تأمّلت في حال كثير من المسلمين في هذا العصر ممن تحققت فيهم الشروط الشرعية الموجبة لحج بيت الله الحرام ومع ذلك يُسوِّفون ويتباطؤون عن الحج..! ألا فليتذكر أولئك قول النبي _صلى الله عليه وسلم_: "من أراد الحج فليتعجل؛ فإنه قد يمرض المريض، وتضلّ الضالة، وتعرض الحاجة"(2).
____________
(*) من كتاب (في البناء الدعوي).
(1) من شعر ابن شبرمة، انظر: أخبار مكة للفاكهي، (2/283).
(2) أخرجه: أحمد، (3/332)، رقم (1833، 1843)، وابن ماجة، في كتاب المناسك، رقم (2883)، وحسنه الألباني في الإرواء، رقم (990)، والأرناؤوط في تخريجه لمسند الإمام أحمد
ـــــــــــــــــــ
خطوات نحو الكتابة الراقية
أحمد بن عبد المحسن العساف
21/11/1425
ارسل تعليقك ...
تعليقات سابقة ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه، وبعد:
لقد فشا في زماننا القلم وكثر الكتاب مصداقاً لخبر النبي _صلى الله عليه وسلم_، ونتج عن هذه الكثرة الكاثرة سلبيات جمة، منها: تكلم الرويبضة في أمر العامة وانتشار غثاء الكتابة من كتابٍ يريدون العلو والظهور ولو على طريقة الأعرابي الذي لطخ الكعبة_ شرفها الله _ بالقاذورات قائلاً: "أحببت أن أذكر ولو باللعنة". وقد أردت أن أرقم بعض ما يعين الناشئ والشادي على إتقان صناعة الكتابة راجياً من القراء التفاعل الإيجابي وإبداء ما لديهم من ملحوظات.
خطوات الكتابة الأدبية والفكرية الراقية:
1. إخلاص النية لله _تعالى_ ونبل المقصد ذوداً عن الحق ودحضاً للباطل؛ مع الدعاء بالسداد والقبول والاستعانة الدائمة بالله والتوكل عليه في بلوغ الغايات العالية.(115/1137)
2. حدد ما هو الهدف من الكتابة: تعليمي، إخباري، حواري...، و اختر الطريقة المناسبة لعرض الموضوع: رمزية، مباشرة، مقالة، خاطرة...
لقد فشا في زماننا القلم وكثر الكتاب مصداقاً لخبر النبي _صلى الله عليه وسلم_، ونتج عن هذه الكثرة الكاثرة سلبيات جمة، منها: تكلم الرويبضة في أمر العامة وانتشار غثاء الكتابة
3. ما هي نوعية الكتابة: علمية، أدبية، فكرية، جادة، ساخرة...؛ ومن هي الشريحة المستهدفة؟ ثم يطول الموضوع أو يقصر حسب نوعه وطبيعة المتلقي والمساحة المتاحة.
4. لا تنشر الكتابة مباشرة؛ فلا بد من تنقيحها وقراءتها في أحوال مختلفة خاصة قبل النوم "لإعمال العقل الباطن"، ثم اعرضها على الثقات للمشورة خصوصاً في بدايات الكتابة. وعلى الكاتب متابعة تصحيحات الناشر ليستفيد منها إن كانت من ثقة معتبر.
5. تعرف على الأحوال المناسبة للكتابة: زمانية ومكانية ونفسية وجسدية؛ ولكل كاتب طبع وطبيعة يحسن به مراعاتها حتى لا يختنق إبداعه وتجف منابع عطائه.
6. كتابة التاريخ في نهاية كل موضوع ليتتبع الكاتب مراحل تطوره الكتابي ورقيه الفكري، وكم من كتابة كنا نراها فريدة عصرها فلما قرأناها بعد مدة عجبنا من سذاجتها.
7. حتى تكتب بتفوق لا بد أن تقرأ بتذوق؛ فلن تكون كاتباً بارعاً حتى تصير قارئاً مميزاً. واعلم _ غير معلم _ أن القراءة وظيفة يومية ينبغي إتقانها. انظر _ غير مأمور _ (كيف تقرأ كتاباً) للمنجد؛ (القراءة المثمرة) لبكار؛ (معالم في طريق الطلب) للسدحان؛ (المشوق إلى القراءة) للعمران، وغيرها في بابها كثير. واتخذ كتباً لتنظر فيها إن استغلق عليك فكر أو عجزت عن بيان أو قصرت مفرداتك عن بلوغ غاياتك.
8. استقرئ أساليب الكتابة عند مشاهير الكتاب وكبارهم – قديماً وحديثاً -؛ لتستفيد منها دون تقليد أحد منهم حذو القذة بالقذة؛ وابحث عن أمراء البيان وأساطينه ولا تضع وقتاً مع من دونهم.
9. استخدم أفصح لغة دائماً وابذل وسعك وجهدك في ذلك، وقد قيل: "لم يسمع من الشافعي كلمة وفي العربية أحسن منها في مكانها " وقريب منه ما حُكي عن المتنبي في بعض شعره. ولا يكن معناك تابعاً للفظك ولا تتكلف ما يثقل القارئ ويشق عليه من سجع ومحسنات .
10. كن حريصاً على تطبيق قواعد النحو محافظاً على قانون اللغة وسنن اللسان العربي القويم؛ وحاذر اللحن والهجين والعامية فهي أقبح من الجدري في الوجه الحسن. وللمزيد انظر (معجم الأخطاء الشائعة) لمحمد العدناني و(تذكرة الكاتب) لأسعد داغر.
11. العناية بالإملاء وعلامات الترقيم؛ فهي زينة الكاتب وحلية الكتابة، ولتنظر في ذلك: (قواعد الإملاء والترقيم) لعبد السلام هارون؛ (علامات الترقيم) لأحمد زكي باشا؛ (التحرير العربي) للفريح وشوقي.(115/1138)
12. يحسن بالكاتب ألا يتخم مقاله بعلامات الاستفهام والتعجب والنقط المتتابعة والأقواس الفارغة وأمثالها، وإن كان لا بد فلتكن ملح طعام لا طعاماً بلا ملح. وسبب النهي عن الإكثار منها كونها كالبهرج الزائف يخدع بها الغر دون الحصيف وتدل _ غالباً _ على غوغائية الكاتب وخوائه وفراغه، حيث يتقاطع مع الطبل في الانتفاخ الخارجي والفراغ الداخلي.
13. تزيين الكتابة بالشواهد من القرآن والسنة والأقوال الخالدة والأمثال والشعر؛ مع ضرورة العناية بصحة النقل وتمييز المنقول. ويلاحظ أن الأمثال والحكم غدت بياناً غائباً عن الساحة الثقافية خاصة لدى جيل الشباب؛ ولذا أنصح بقراءة هذه الكتب: (معجم الأمثال العربية) د. عفيف عبد الرحمن؛ (قاموس الأمثال والحكم العالمية) سمير شيخاني؛ (معجم التراكيب اللفظية) د.أحمد أبو سعد، (معجم الأمثال والتراكيب) د. محمد حسن الشريف، (موسوعة الأمثال العربية) د.إميل يعقوب، وكذلك الكتب التي اعتنت ببيان كنايات العرب ككتاب (المنتخب من كنايات الأدباء وإشارات البلغاء) للقاضي أبي العباس الجرجاني,وغيرها.
14. احرص على تكوين ثروة لغوية واسعة، وليكن لك نظر دائم وإطلاع مستمر في المعاجم كـ(القاموس المحيط) " طبعة الرسالة "،و(اللسان) " طبعة دار صادر "،و(تاج العروس) " الطبعة الكويتية "، و(معجم المقاييس) لابن فارس " طبعة دار الجيل "، و(فقه اللغة) للثعالبي، و(إكمال الإعلام) لابن مالك " طبعة جامعة أم القرى "، و(جواهر الألفاظ) لقدامة بن جعفر، و(الألفاظ الكتابية) للهمداني، وغيرها. وانظر في مقامات الحريري والسيوطي ففيهما كنز لمن طلبه.
15. كن دقيق الملاحظة بعيد النظر متجاوزاً الحدث إلى ما وراءه، واستفد من الأحداث المألوفة لكتابة غير مألوفة، وانظر مثالاً على ذلك مقالتين بعنوان "بين خروفين" و"بين هرين" للرافعي في وحي القلم؛ واستمع إلى خطبة رمضانية عجيبة عبر منبر الحرم عن الشيطان للشيخ د. سعود الشريم.
16. لا تطرح فكرة إلا بعد وضوحها في ذهنك وإلمامك بكافة جوانبها مع الإيمان القوي بمضمونها؛ وحتى يتحقق ذلك فلابد من استيعاب الموضوع من خلال مراجعه ودراساته؛ ولا تتكئ على نفسك دون النظر في المصادر المعتمدة لتدرك أبعاد الموضوع والآراء المختلفة حوله.
17. اهتم بالتجديد والإبداع ولا تكن كابنة الجبل _ الصدى _، وتجنب تكرار الكلمات والجمل والأفكار إلا ما كان لضرورة ملحة؛ لأن التكرار مجلبة للملل.
18. التزم جانب الهدوء وحسن الأدب وابتعد عن التشنج والانفعال؛ وتوقع المعارضة والمخالفة لرأيك وربما سوء الفهم لمقالك.
19. ابذل وسعك واستفرغ جهدك لاختيار عنوان جذاب مميز؛ وكن لطيفاً في الاستهلال وقوياً في الختام؛ ولا تحرم قارئك من وسيلة للتواصل بسؤال أو اعتراض أو استيضاح.
20. دع القلم يجري خاطاً مداده على القرطاس، وإياك إياك والتوقف؛ فإن الماء إذا ركد أسن، ولا تستعجل النشر أو تستبطئ الثمرة؛فمن كانت همته عالية؛ فسيبلغ حتماً مكانة عالية.(115/1139)
ـــــــــــــــــــ
أمة اقرأ لا تقرأ
جماز بن عبد الرحمن الجماز
14/11/1425
ارسل تعليقك ...
لا توجد تعليقات ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فكم هو محزنٌ حقاً، ومؤسف جداً، أن ينصرف بعض الأمة إلى الاشتغال بتفاهات عقيمة، وملهيات مذمومة، وجدالات ممقوتة، تاركين وراء ظهورهم الحِمْل الثقيل الذي ليس له إلا العظماء من هذه الأمة.
تراهم يشتغلون بعيوب الناس، وتناسوا عيوبهم، تراهم يعزون في أعراض إخوانهم، وسلم أعداؤهم منهم، لا هَمَّ لهم إلا فتل عضلاتهم أمام الناس بالقيل والقال، إنْ صدقاً وإنْ كذباً.
وكل ذلك والله، بسبب إعراضهم عن العلم والتعلم، ولو للتأسيس، ومعرفة ما يجب تعلمه على كل مسلم ومسلمة، وصادَف ذلك ركونٌ للشهوات، وتلبّس بالسيئات. وإن تعجب فعجبٌ أن الريادة والقيادة كانت في الأمة الإسلامية عربها وعجمها، في القرون الماضية، ولهذا صارت أمة متفوّقة شامخة في فنون العلم وطرائقه، في كافة مستوياته، والأمم الأخرى عيالٌ عليها في ذلك كله.
فكم هو محزنٌ حقاً، ومؤسف جداً، أن ينصرف بعض الأمة إلى الاشتغال بتفاهات عقيمة، وملهيات مذمومة، وجدالات ممقوتة، تاركين وراء ظهورهم الحِمْل الثقيل الذي ليس له إلا العظماء من هذه الأمة
ولكنها الحقيقة "إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ" (الرعد: من الآية11). وهذا لعمر الله عقوبة من الله _عز وجل_ لهذه الأمة، لمّا فرّطت في دينها وكتاب ربها.
وما التأخر العلمي والقيادي والتخلف التقني الذي تعيشه الأمة إلا ثمرة من ثمرات الجهل في عدد من الميادين.
وعلى صعيد آخر تجد على مساحات شاسعة، انتشار واسع للعلم في كافّة فنونه، وتنوّع سبله، ويجهد الكثير في الإفادة والاستفادة، والعمل على تسخير الطاقات المادية والبشرية.
ومع ذلك كله، يُلحظ الجهل على فئام من الناس كثير، بل تعداه إلى أفراد ومؤسسات.
وعند تشخيص المشكلة، تجد خللاً واضحاً يتمثّل في إهمال التحلِّي بأساسات التعلم والتربي، الإخلاص مثلاً، والمنهجية الهرمية مثلاً آخر، وعدم الأهلية للمربي أيضاً ومتى فُقِد الإخلاص، لا ترى أثراً يُذكر أحياناً، لعملٍ ما، فبركته تكاد تكون منزوعة.(115/1140)
وبعض الناس في هذا الزمن، وخاصة ممن وهبهم الله عقولاً متميزة، قلّت رغبتهم في العلم والتفرغ له في كافة فنونه، وانصرفوا إلى الدنيا، فاشتغلوا بها فنسوا العلم، واندثرت آثاره إن لم تُعدم.
وبعضهم إذا تزوج أو اشتغل بكسب لقمة العيش من وظيفة أو نحوها من متطلبات الحياة، أعرض عن العلم اختياراً بلا سبب، فلا يسأل إذا اشتبه عليه شيء، ولا يتوقى إذا خشي الوقوع في الإثم، بل لا يتعنّى أن يتعرّف على الحلال فيُقبل عليه، ويتعرّف على الحرام فيهرب منه.
وما روى قول سعيد بن جبير _رحمه الله_: "لا يزال الرجل عالماً ما تعلّم، فإذا ترك التعلّم، وظن أنه قد استغنى فأسوأ جهلٍ ما يكون".
والمعنى أي أجهل ما يكون هو، في تلك الحالة التي ظن أنه في مرحلة ليست بحاجة إلى علم، ومن أعرض عن تعلم أحكام الشرع، فهو مبغض عند الله _عز وجل_، وقد صحَّ في الحديث أن النبي _صلى الله عليه وسلم_ قال: "إن الله _تعالى_ يُبغض كل عالمٍ بالدنيا، جاهلٍ بالآخرة"، وليته يقف عند هذا، بل إنه بفعله هذا شابه الصوفية التي تفضّل علم الخِرق على علم الورق، فالصوفية هؤلاء استجابوا لأذواقهم، حتى أعطوها سلطة المُشرِّع، يأتمرون بأمرها، وينتهون بنهيها.
وقد قيل لبعضهم: ألا ترحل حتى تسمع من عبد الرزاق، فقال: "ما يصنع بالسماع من عبد الرزاق، من يسمع من الخلاّق".
أيها القارئ الكريم:
إن الاهتمام بالقراءة والكتابة، والعلم والتعلم، لازمة لكل مسلم، فالله _تبارك وتعالى_ قد امتن على عباده المؤمنين بذلك، فقال: "اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ" (العلق:1-5)، فمِن كَرَمه _جل وعلا_ أنْ علَّم الإنسان ما لم يعلم، فشرّفه وكرّمه بالعلم، والعلم تارة يكون في الأذهان، وتارة يكون في اللسان، وتارة يكون في الكتابة بالبنان، ذهني ولفظي ورسمي.
فالاستمرار في طلبه وتعلّمه لا حدَّ له، قال ابن أبي غسّان – رحمه الله-: «لا تزال عالماً ما كنت متعلماً، فإذا استغنيتَ كنتَ جاهلاً».
وشرف العلم لا يخفى على أحد، إذْ هو المختص بالإنسانية؛ لأنّ جميع الخصال سوى العلم، يشترك فيها الإنسان وسائر الحيوانات، كالشجاعة والجرأة، والقوة والجود والشفقة وغيرها، إلا العلم.
وبه أظهر الله _تعالى_ فضل آدم _عليه السلام_ على الملائكة، وأمرهم بالسجود له، ولهذا صار التعبد لله على غير علم من أكبر المفاسد التي تقع فيها الأمة، وما المعالم الغائبة، والأخلاق الضائعة، والبدع الرائجة إلا بسبب الجهل الذي نرزح تحت وطأته، وأي ضلالة أكبر، أن يتصدّر في الأمة، في مشارقها أو مغاربها عالماً لا خلاق له، يبيع دينه بدراهم معدودة، أو رئيساً مطاعاً لا يعرف كوعه من كرسوعه، حقاً، إنها فتنة لكل مفتون.(115/1141)
وقد صحَّ في الحديث أن النبي _صلى الله عليه وسلم_ قال: "إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من الناس، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالماً اتخذ الناس رؤساء جهالاً، فسُئِلوا فأفتوا بغير علم، فضَلّوا وأضلّوا".
ومهما بلغ الأفراد والناس والمؤسسات العلمية ونحوها، وحققّوا نشاطاً ملموساً، وعملاً دؤوباً، فإن قليل العمل ينفع مع العلم، وكثير العلم لا ينفع مع الجهل.
وما نلحظه في بعض الأحايين من أقوالٍ مخالفة، أو أعمالٍ خاطئة، سواء في تعليم الناس أو دعوتهم أو تربيتهم، سببها الجهل الذي نعيش في لظاه، قال عمرو بن ضرار - رحمه الله-: "والذي لا إله غيره، ما عمل عامل قط على جهل، إلا كان ما يُفسد أكثر مما يُصلح"، والعلماء وروّاد العمل الإسلامي هم أكثر الناس حاجة للعلم، وخطأهم أعظم الأخطاء، وقد قيل: "زلة العالم مضروبٌ لها الطَّبْل".
وقد سُئِل سفيان بن عيينة: من أحوج الناس إلى طلب العلم، قال: "أعلمُهم؛ لأن الخطأ منه أقبح".
أخي القارئ الكريم:
إنها دعوة جادة لتصحيح المسار الذي نسلكه، والأمة الآن مطالَبة بأن تُشمِّر عن ساعد الجد، وتسعى سعياً حثيثاً لأن تستعيد أمجادها، فتراجع أحوالها، وسبل تنفيذ سياساتها، وتنفض الغبار عن قراراتها العتيقة، وتعمل جادّة على إنشاء دور العلم وحلقات الذكر، وتحرص على إقامة مراكز للدراسات والبحوث، النظرية منها والتطبيقية، ومعاهد أخرى للتدريب والاستشارات في كافّة التخصّصات.
إننا نستحث المسلمين أجمعين في كل مكان أن يسعوا إلى وضع آليات متاحة، وفي مقدور كل أحد، لنشهر هذا العلم الأصيل لأمة أصيلة مرحومة.
والمشاركة والمساهمة في وضع لبنات لهذا الإصلاح المنشود.
ونحن بهذا لا نُزري في وصف حالنا، بل إن أحوال العالم الإسلامي، وعلى مرِّ الأزمان، تتقهقر حيناً، وتشمخ حيناً آخر، وهكذا دواليك.
والناظر لأحوال المسلمين في كل مكان وزمان، يُدرك أن الأمر في كلٍ مختلف، وإلا فالحال على سبيل العموم، وصف النبي _صلى الله عليه وسلم_ فيما صحّ عنه "لا يأتي عليكم عامٌ ولا يومٌ إلا والذي بعده شرٌّ منه، حتى تلقوا ربكم".
وبالله التوفيق، وصلى الله وسلم على نبينا محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه أجمعين.
ـــــــــــــــــــ
النفوس الكبيرة 1/2(*)
أ.د. عبد الكريم بكار
29/10/1425
ارسل تعليقك ...
لا توجد تعليقات ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...(115/1142)
بين أفكارنا ومشاعرنا صلات قوية ومعقدة، وما هو مستتر منها ما زال أكثر مما هو ظاهر ومحدد. إن الأفكار التي نحملها عن الحياة والأحياء والأشياء تولّد المشاعر التي تنسجم معها، فحين تحدث قناعة عند شخصٍ ما بأن صديقه الفلاني يغشه، ويكذب عليه، ويحيك له المكائد، فإن مشاعره نحوه تأخذ بالفتور والتغير إلى أن تنقلب مشاعر كراهية وعداء، ويحدث العكس من هذا حين يعلم الواحد منا بأن فلاناً الذي يكِنُّ له البغض والعداء دافع عنه في مجلس من المجالس، وأثنى عليه، أو سدد عنه ديناً كان صاحبه يطلبه بشدة وإلحاح.
ومن وجه آخر فإن المشاعر الراسخة تدفع العقل في اتجاه إنتاج الأفكار التي تدعم تلك المشاعر، وتضفي عليها المشروعية والمنطقية، وهكذا فحبنا لشيء من الأشياء يوجِّه عقولنا على نحو خفيّ إلى اكتشاف الميزات التي يتمتع بها ذلك الشيء، وطمس العيوب والنقائص التي يمكن أن تكون فيه، ويحدث العكس في حالة البغض والكراهية، وهذا أمر مسلَّم به.
إن أصحاب النفوس الكبيرة يملكون قدراً ما من عظمة العقل واستقامة الفكر، كما أنه يؤمل من أصحاب النضج العقلي أن يهتدوا إلى المواقف الشعورية والاستجابات السلوكية الراشدة والصحيحة
هذا كله يعني أن أصحاب النفوس الكبيرة يملكون قدراً ما من عظمة العقل واستقامة الفكر، كما أنه يؤمل من أصحاب النضج العقلي أن يهتدوا إلى المواقف الشعورية والاستجابات السلوكية الراشدة والصحيحة؛ بل يمكن أن يقال – كما هو في الرؤية الإسلامية-: إن ما نملكه من مشاعر وسلوكات يعد بمثابة معايير لصفاء الأفكار، ونظراً لهذا الارتباط الحميم فإنك لا تستطيع أن تتحدث عن نفس فلان وما فيها من ميزات وعيوب بعيداً عن الحديث عن نوعية الأفكار والرؤى التي يؤمن بها.
وانطلاقاً من هذا يمكن القول: إن النجاح في علاج أمراض النفوس، كثيراً ما يتوقف على النجاح في معالجة أخطاء الأفهام وانحراف التصورات. كلما تحسَّن وعي الناس بمتطلبات العيش بكفاءة وأمان واطمئنان تحسَّن وعيهم بالشروط والتفاصيل التي يجب توفرها في بناهم النفسية والشعورية، والحقيقة أن التقدم الذي تم إحرازه على هذا الصعيد يعد جيداً ومهمّاً؛ ولكن لا بد من القول: إن الإيمان بالله _تعالى_ والالتزام الصحيح بأوامره ونواهيه يوفران الإطار التوجيهي لأفكارنا، والتي توفر بدورها الإطار التوجيهي لمشاعرنا وأحاسيسنا.
ولدى المفكرين والعلماء من تخصصات شتى قناعات راسخة بأن مشكلة الإنسان مع ما حوله لا تتمثل في طبيعة الصعوبات والمشكلات والضغوط التي يواجهها على مقدار ما تتمثل في نوعية علاقتنا بها، وتلك العلاقة تتأسس على نظرتنا وتفسيرنا لها.
ونحن لا يخامرنا أدنى شك بأن الإنسان لا يملك كل مفردات المنظومة الفكرية والعقدية التي تجعله مطمئناً لصحة رؤيته وتفسيره للأحداث والمواقف المختلفة التي يتعرض إليها، ودين الإسلام وحده هو الذي يوفر لنا العقائد والأفكار والأحكام والأدبيات التي تشرح لنا نوعية علاقتنا بخالقنا_سبحانه_ وبمصيرنا بعد الموت، والتي تصوغ رؤيتنا للحياة الدنيا وكل ما فيها من مسرات ومكدرات، كما تصوغ نوعية العلاقة التي يجب أن تسود بين بني البشر، ولا أريد أن أستفيض في هذا الشأن(115/1143)
فهو واضح ومعروف؛ لكن أريد أن أشير إلى التوازن النفسي والشعوري الذي يوفره الإيمان من خلال تحديد نظرتنا للدنيا وعدها شيئاً مؤقتاً ومحدوداً وصغيراً إذا ما قارناها بالحياة الآخرة، حيث إن كل شيء هناك عظيم وممتد وأبدي.
إن هذه النظرة تجعل المسلم لا يعبأ بكل صعوبات الحياة ومصائبها؛ لأن له الأجر العظيم إذا صبر عليها، ولأنها في النهاية تظل صغيرة؛ لأنه ما دامت الدنيا صغيرة فإن كل ما فيها هو في النهاية صغير، وفي المقابل فإن المسلم لا تغرُّه الإمكانات الهائلة التي قد تصبح بين يديه؛ لأنه يعرف أنها مؤقتة، وأنه مسؤول عن استخدامها، ولذا فإنه يجد القدرة على التحرر من مشاعر الغرور والبطر والكبر والتسلط والانتقام. وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا حيث يقول _سبحانه_: "مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ" (الحديد:22، 23).
إن معرفة المسلم أن ما يصيبه من خير وشر مقدر ومكتوب وواقع بإرادة الله _تعالى_ ومشيئته يجعله يتماسك، وينصرف إلى الاهتمام بنوعية الموقف الذي يجب عليه أن يتخذه حيال ما هو فيه من سراء أو ضراء، على حد قول ابن عباس _رضي الله عنهما_: "إن المؤمن يجعل مصيبته صبراً وغنيمته شكراً". إن المصائب مهما كانت، تظل قابلة لأن تواجَه برؤية إيمانية تهوّن من شأنها، وتخفف من وطأتها، بل قد تحولها إلى نوع من النعمى، على حد قول عمر – رضي الله عنه-: "ما أصابتني مصيبة إلى وجدت فيها ثلاث نعم: الأولى: أنها لم تكن في ديني؛ الثانية: أنها لم تكن أعظم مما كانت، الثالثة: أن الله _تعالى_ يعطي الثواب العظيم والأجر الكبير عليها".
أما الآن فإنني سأستعرض بعض السمات التي إذا اتصف بها شخص من الأشخاص أمكننا أن نقول: إنه من أصحاب النفوس الكبيرة، وذلك من خلال المفردات التالية:
1 – على مدار التاريخ كانت مشكلة (التوازن) النفسي والسلوكي مثار جدل واختلاف، كما كانت مثار ارتباك وحيرة لدى السواد الأعظم من الناس، وما ذلك إلا لأن الشخص حين يريد أن يكون متوازناً يعمد إلى إيقاف الفضائل والإيجابيات عند حدود معينة؛ كيلا تنقلب في النهاية إلى رذائل وسلبيات، وبما أن تلك الحدود غير واضحة فإننا كثيراً ما نختلف في موقف ما: هل هو ممدوح أم مذموم؟
أصحاب النفوس الكبيرة يملكون البصيرة والخبرة التي يتمكنون من خلالها من إقامة التوازن المنشود في أنفسهم، والذي ينعكس بالتالي على سلوكياتهم ومواقفهم؛ ويملكون ما هو أهم من ذلك، وهو الإرادة الصلبة التي تمكنهم من إيقاف نزعاتهم ونزواتهم عند الحدود الطبيعية والمقبولة، بالإضافة إلى الإصرار على محاولة البقاء على الخط الذي يرون فيه مؤشرات توازنهم النفسي، ولعلّي أوضح كل هذا من خلال المثالين التاليين:
أ – موقف الإنسان من ذاته يحتاج إلى نوع من التوازن، إذ يمكن أن ينظر أحدنا إلى مجموعة النقائص التي في ذاته ومجموعة الأخطاء الكبرى التي ارتكبها في حياته، فينتهي إلى احتقار نفسه وازدرائها وإصدار الأحكام القاسية عليها،كما أنه سيكون في إمكانه أن ينظر إلى خصائصه النفسية الجيدة وإلى مواقفه الحميدة فيصاب بنوع من(115/1144)
الكبر والغرور. المطلوب هو أن يعرف الإنسان ما يمكن أن يكون لديه من نقاط ضعف وما لديه من أمراض وعاهات نفسية، ويتعامل معها دون تضخيم ودون شعور بالإحباط واليأس من الخلاص منها.
ومن وجه آخر فإن على الإنسان أن يحترم ذاته، ويثق بها؛ لأن احترام المرء لذاته يدفعه نحو صونها عن الرذائل؛ والثقة بها تشجعه على الارتقاء بها وتدعيمها. قد يكون من المهم أن نتذكر أن في إمكاننا دائماً أن نرى أنفسنا على أنها ممتازة وسامية، وذلك إذا قارناها بالأشخاص السيئين، كما أن في إمكاننا أن نراها متدهورة ومنحطة وذلك إذا قارناها بالصفوة الممتازة من البشر، وقد يكون من الخير أن نخرج من دوامة المقارنات، وأن نعمل بجدٍّ على اكتساب الخصال والأخلاق الحميدة، لنشعر بالتقدم المستمر، ويتأكد لدينا أن غدنا خير من يومنا مهما يكن من أمر، فإن الحصول على هذا التوازن ليس بالأمر اليسير، إذ إن الغالب أن يكون تعاملنا مع أنفسنا من أفق (اللاشعور)، وهذا ما يولد الاتجاهات المتطرفة في نظرة الناس إلى أنفسهم.
ب – كثيراً ما يجد الإنسان نفسه حائراً في الموقف النفسي الذي يجب أن يكون له حيال بعض المفاهيم والأدبيات التي تحمل فيما بينها درجة من التعارض والتصادم؛ ومن ذلك على سبيل المثال مفهوم النجاح والربح، ومفهوم الزهد والاستخفاف بشأن الدنيا، حيث إننا نجد من يستولي عليه حب تكديس الأرباح والفوز بالمزيد من المكاسب إلى درجة انشغاله بذلك عن أهله وأولاده وعن أداء واجباته المختلفة. وهو من أجل ذلك يغير الكثير من عاداته، ويحرم نفسه من كثير من المسرات الروحية والأدبية، إنه في حالة من الاستغراق التام مع محبوبه الأثير... والوقوع في أي خسارة أو تراجع في أرباحه المتوقعة يشكل بالنسبة إليه كارثة حقيقية، يصعب احتمالها وتجاوزها!
ونجد في المقابل من تغلب عليه الاستهانة بأي خسائر يمكن أن يتعرض لها على صعيد أعماله ومشروعاته المختلفة، فهو يملك استعداداً عظيماً للانتقال من مشروع خاسر إلى آخر خائب، مهما ترتب على ذلك من ديون وتبعات ومشكلات!
التوازن المطلوب والذي نجده عند أصحاب النفوس الكبيرة، يقوم على حب النجاح وحب الخير والسعي إلى الحصول على المال الذي يغطي الحاجات، ويفيض منه شيء للصدقة والصلة والاستثمار الجديد، لكن ذلك يظل في إطار القيام بالواجبات الشخصية والاجتماعية المختلفة.
وفي إطار التوازن العام للشخصية وبعد بذل الجهد والأخذ بالأسباب، فإن صاحب النفس الكبيرة، لا يتحطم إذا وقع في خسارة كبيرة أو إخفاق ذريع في عمل من الأعمال المهمة، إنه يعلم أن مجرد بذل الجهد المطلوب يؤدي إلى إغناء الحياة وتحرير القوى الكامنة لدى المرء، والوقوع في خسارة لا يعني نهاية العالم، وإنما يعني ضرورة أَخْذ الحذر من الوقوع في مغامرة جديدة غير محسوبة، كما يعني ضرورة الدراسة الجيدة لأي مشروع قادم.
إن أصحاب النفوس الكبيرة لا يرون في الربح شيئاً يملأ وجودهم فيغرقون أنفسهم في السعي إليه، كما أنهم لا يرون في الخسارة خسراناً للذات، فذواتهم أكبر من أن(115/1145)
يستنفذها المال أو يقلل من شأنها احتياجهم إلى أثاث أو متاع؛ لأن وجودهم الدنيوي موصول بعالم الآخرة الرحيب، حيث تبدو كل الأشياء بالنسبة إلى ما فيه تافهة ومؤقتة.
____________
(*) من كتاب (جدد عقلك).
النفوس الكبيرة 2/2(*)
أ.د. عبد الكريم بكار
7/11/1425
ارسل تعليقك ...
لا توجد تعليقات ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
يواصل الدكتور عبد الكريم بكار – حفظه الله – حديثه عن سمات أصحاب النفوس الكبيرة بعد أن ذكر السمة الأولى، وهي: التوازن في النفس والسلوك لينتقل إلى السمة الثانية، وهي:
2 – لا تكون النفس كبيرة إذا لم تكن (لوامة)، تلوم صاحبها على بعض ما يقول ويفعل، إنها نفس تسكن في ذات متفتحة على مفردات المنهج الذي تؤمن به، ومتفتحة على خبرات الحياة ودروس التاريخ. في داخل تلك الذات حوار دائم بين العقل والنفس، وذلك الحوار يتغذى على المفاهيم التي يؤمن بها الشخص: مفاهيم ما يجوز وما لا يجوز، وما يليق وما لا يليق، حيث المقارنة المستمرة بين المحاسن والمساوئ والميزات والعيوب، وحيث الاستفادة من الأخطاء والسعي المستمر إلى ما هو أحسن وأجمل وأكيس.
إن من أخطر ما نواجهه في حياتنا مشكلة (الاسترسال) والمضي إلى آخر الطريق دون امتلاك أي قدرة على المراجعة والنقد والتوقف أو التراجع إذا اقتضى الأمر، والله – جل وعلا – شرع التوبة لتكون حاجزاً لنا عن الاستمرار في السير نحو الهاوية، وأصحاب النفوس الكبيرة يسألون أنفسهم باستمرار عن مدى سلامة الوضعية النفسية والسلوكية التي هم عليها؛ لأنهم يعتقدون أن التدحرج نحو القاع يظل خطراً كامناً في الطريق، كما يعتقدون أن آفاق التحسن في كل الأمور تظل ممتدة إلى آخر لحظات العمر.
لا تكون النفس كبيرة إذا لم تكن (لوامة)، تلوم صاحبها على بعض ما يقول ويفعل، إنها نفس تسكن في ذات متفتحة على مفردات المنهج الذي تؤمن به، ومتفتحة على خبرات الحياة ودروس التاريخ
النفوس الصغيرة تولد مرة واحدة، ثم تنمو نمواً عشوائياً تحث تأثير الظروف العمياء والحاجات والضرورات الخرساء، ولذا فإنها نفوس مشوهة ومثقلة بالقبائح والنقائص. وأصحابها سادرون غافلون، وهم غير قادرين على إصلاح ما يلمسونه في أنفسهم من عيوب؛ لأن إرادتهم مشلولة وعزائمهم خائرة.(115/1146)
أما النفوس الكبيرة فشأنها مختلف، إنها تنمو وتنضج وتكبر مستجيبة للنمو العقلي والخبرات المتراكمة؛ ومع الأيام يتضاءل ارتهانها للظروف والدوافع والحاجات، وتصبح في تبعية الروح والقرار الحكيم والتسامي نحو الفضيلة، إنها تكتسي حلة النفس المطمئنة الراضية، ومع أن اللوم لا يفارقها إلا أن نوعية ما تلوم صاحبها عليه ترتقي وتدق، حيث المحاسبة على أمور لا يرى فيها أكثر الناس شيئاً يستحق العتاب. يقول الحسن البصري – رحمه الله-: «إن المؤمن والله ما تراه إلا يلوم نفسه: ما أردت بكلمتي، ما أردت بأكلتي، ما أردت بحديث نفسي... وإن الفاجر يمضي قدماً ما يعاتب نفسه».
3 – من سمات النفوس الكبيرة أنها تختزن في داخلها طاقة جيدة على الحضور، حيث يوجد صاحبها وحيث يكون. الحضور القوي والملائم لمتطلبات الزمان والمكان والمناسبة، يدل على يقظة القوى الروحية والعقلية والشعورية لدى صاحبه، وهو ما يحتاجه المسلم المعاصر أشد الاحتياج، حيث ارتفعت وتيرة التحديات، كما زادت فرص النمو والارتقاء، ولا يمكن مواجهة تلك والاستفادة من هذه إلا عن طريق امتلاك درجة عالية من الفاعلية الشاملة.
قد مضى الزمان الذي يستطيع فيه الإنسان تحقيق ذاته وإثبات وجوده مع قلة الاكتراث ومع الفوضى النفسية والشعورية، وأظلنا زمان مختلف كل الاختلاف، ولعلِّي أشرح ما أريده من قوة الحضور في النقاط التالية:
أ – اهتمام المرء بالأحداث الجارية، ومحاولة استخلاص العبرة منها، والاهتداء إلى سنة الله – تعالى– فيها، والاهتمام كذلك بالأفكار والطرق الجديدة التي تحسِّن نوعية الحياة.
ب – التركيز في العمل، بمعنى إعطاء العمل الذي ندب إليه الواحد منا نفسه الجهد المطلوب، حتى يتمكن من الوصول إلى إنجازات ونتائج جيدة. وهذا كثيراً ما يفرض على المرء أن يضحي بشيء من راحته ونومه وترفيهه، كما يقتضي العودة إلى التعلم والتدرب واكتساب مهارات جديدة ودخول بعض الدورات... وعلينا أن نفعل هذا بحماسة وعن طيب خاطر حتى نستفيد منه الفائدة المرجوة.
النفوس الصغيرة تولد مرة واحدة، ثم تنمو نمواً عشوائياً تحث تأثير الظروف العمياء والحاجات والضرورات الخرساء، ولذا فإنها نفوس مشوهة ومثقلة بالقبائح والنقائص
ج – متابعة الشخص للأعمال والمشروعات التي أسسها، حيث تثبت التجربة أن كثيراً من أشكال الإخفاق يأتي من وراء الإهمال وضعف المتابعة، وكثيراً ما يتجسد الفرق بين الإداري الناجح والإداري غير الناجح في أن الأول منهما يملك القدرة على متابعة موظفيه والتأكد من إنجاز المهام المسندة إليهم.
د – الدقة في التعبير عما نريد والدقة في فهم مرادات الآخرين وفي تصوير المشكلات وفي التخطيط والبرمجة... إن زماننا هو زمان الأشياء الدقيقة، ولن نستطيع أن نعيش فيه على النحو المطلوب من غير أن نجعل من الدقة روحاً يسري في حياتنا الفكرية والشعورية والسلوكية.
هـ - الإصغاء الجيد من خلال التحفز الكامل وصرف الانتباه إلى كل كلمة يقولها مَن يتحدث أمامنا في أمور جادة، ولا يكفي أن نحاول فهم دلالات الألفاظ التي يستخدمها،(115/1147)
بل لا بد من الوقوف على الدلالات الإضافية التي تشي بها خلفية المتحدث عمّا يتحدث فيه، وتلك التي يحاول المتحدث إيصالها إلينا من خلال حركة اليدين وتعبيرات الوجه.
والحقيقة أن حسن استماعنا لشخص لا يعبر عن احترامنا له فحسب، وإنما يعبر إلى جانب ذلك عن حبنا للمعرفة والاستفادة مما لدى الآخرين. إن الاستماع الجيد عبارة عن فاعلية سلبية لكنها مهمة؛ لأنه لا قيمة لكلام المتكلمين بدونها.
4 – من أكبر الفوارق بين الإنسان والحيوان أن الحيوان لا يعرف شيئاً اسمه (تأجيل الرغبات)، حيث إن الخطوط الغريزية لديه تدفعه باستمرار نحو الإرضاء المباشر لكل رغبة تلحُّ عليه، أما الإنسان فإنه كما يملك القدرة على المغايرة والمخاطرة يملك القدرة على تأجيل الرغبات، ويملك القدرة على تأجيل بعض مشتهيات النفس ومقاومة إلحاحها إلى الوقت الملائم.
وهكذا كلما كانت النفوس كباراً استطاع أصحابها الفكاك من أَسْر الرغبات والعمل على تلبيتها بالقدر وفي الوقت المناسبين، وبما أن كثيراً من الرغبات يتسم بالجموح والطلب لإرواء غير محدود، فإن صاحب النفس الكبيرة يلبي رغباته في إطار المشروع والمباح، وعلى العكس من هذا فإنه كلما غلبت الغرائز على إنسان وجد نفسه قريباً من الحيوان، يسارع إلى العبّ من الشهوات دون رادع من دين أو عقل أو مروءة ودون خوف من جزاء أو عاقبة.
ومن الواضح أن الحضارة الحديثة أضعفت إرادات الناس بما أحاطتهم به من المغريات والملهيات، وبما زينته لهم من المتع والملذات، وبات على المسلم أن يزيد في تصليب إرادته وأن يحسِّن في مستوى مقاومته لنزوات النفس وإلا جرفه التيار وغمرته أمواجه العاتية!
إن من المهم جداً أن ندرك أنه من غير تأجيل الرغبات نستطيع أداء واجباتنا الشرعية، كما أننا لن نستطيع أداء أعمالنا على الوجه المنتج والمثمر، ولو أن الواحد منا حَسَب استجاباته للأمور التافهة التي تصرفه عن الاستمرار في عمله كل يوم لوجد أنها قد لا تقل عن عشر، وقد تصل إلى ثلاثين! أعمار وأوقات طويلة تهدر وتضيع من غير أن ندرك حجم الخسائر الفادحة التي نتكبدها!
5 – التوثب والانفتاح والإقدام سمات مهمة من سمات النفوس الكبيرة، إنهم يتمتعون بقدرات واضحة على تجاوز الأمراض والمفاهيم التي تنبت في البيئات المتخلفة، وتلك الأمراض كثيراً ما تحوِّل من يصاب بها إلى إنسان مشلول نفسياً، حيث يبدو كأنه مغزو في داخلة ومسكون بالكثير من الخوف والقلق.
أصحاب النفوس الكبيرة يعبرون عن ذواتهم بوضوح على حين يُشعرك الآخرون بأنهم أنانيون نرجسيون، يعشقون ذواتهم إلى حد الهوس. حين تلتقي بواحد من أصحاب النفوس الكبيرة فإنك تلمس الاستقلالية في الأحكام، كما تلمس الحرية والموهبة في مواجهة المشكلات، والتماسك والتطلع نحو الأحسن، كما تلمس الامتلاء الداخلي.
أما أصحاب النفوس الصغيرة فإنك تلمس منهم في مقابل هذه الصفات التبعية والسلبية والانتظار والهروب من المشكلات والقوقعة والخوف والقلق والانطواء(115/1148)
على الذات والفراغ الداخلي، وهذه الوضعيات والحالات النفسية تنشأ نتيجة التربية الخاطئة والظروف السيئة والصعبة والموروثات الثقافية البالية.
وبما أن كل ما ذكرناه من سمات حسنة وخلال سيئة هو شيء نسبي، فإن لنا أن نعتقد أن كل أوضاعنا النفسية قابلة للمعالجة والاتجاه بها نحو الأفضل، والأحسن إذا أدركنا حجم المسؤولية والأمانة التي يتحملها كل واحد منا.
____________
(*) من كتاب (جدد عقلك).
ـــــــــــــــــــ
توظيف المعلومة
إبراهيم بن صالح الدحيم
22/10/1425
ارسل تعليقك ...
تعليقات سابقة ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
لابد من أجل نجاحنا في التعليم أن نسخِّر تعليمنا لتحقيق عقيدتنا وتأكيد أهدافنا. إننا وإن تخصصنا في التعليم فكان من بيننا معلم الشريعة، واللغة العربية، والعلوم، والرياضيات، والاجتماع، واللغة الإنجليزية، والتربية الفنية، والتربية البدنية، فإننا لا نزال جزء من جسد واحد ومن أمة واحدة، وعلى عقيدة واحدة هي عقيدة الإسلام، وعلى كل واحد منَّا أن يسخر علومه وقدراته لخدمة أمته وأن يربي تلاميذه على ذلك، عليه أن يستغل كل فرصة تمر عليه من خلال تدريسه لمواد الدراسة للتأثير عليهم..
إن عملية صب المعلومات في ذهن الطالب فقط لن تنبت كلأً ولن تنجح عملاً، فعلى المعلم أن يوظف المادة توظيفاً مثمراً، وأن يعرضها على تلاميذه عرضاً حياً يؤتي أكله ضعفين:
- فيا معلم التاريخ علم الطالب قصص الأنبياء وأمجاد الآباء واغرس في نفسه محبتهم والسعي للتشبه بهم، اكشف لهم زيف المستشرق وتحريفه وعبثه بالتاريخ، حدثهم عن أسباب النصر وطريق العزة من خلال التفسير الصحيح للتاريخ.
إن عملية صب المعلومات في ذهن الطالب فقط لن تنبت كلأً ولن تنجح عملاً ، فعلى المعلم أن يوظف المادة توظيفاً مثمراً، وأن يعرضها على تلاميذه عرضاً حياً يؤتي أكله ضعفين
- وأنت يا معلم الجغرافيا قف بالطالب مع قدرة الله الباهرة المتجلية في تضاريس البلاد، حدثهم عن حقيقة الحدود بين الدول الإسلامية وأنها لا تَعْد أن تكون حدوداً جغرافيةً لا توهن بسببها روابط الأخوة ولا روح الجسد الواحد، أما الحدود مع الدولة الكافرة فهو أعظم من أن تكون حدوداً جغرافيةً فحسب، بل هي فاصل بين دار(115/1149)
الإسلام ودار الكفر ولكل دار أحكامها الخاصة، زد على ذلك أنها تؤكد البراءة من الكافر.
- لا يصح لمعلم العلوم الطبيعية وغيره أن ينقل هذه العلوم للطلاب على أنها علوم دنيوية معرفية بحتة، بل عليه أن يستخرج منها مواطن التأثير ومواضع التربية والتوجيه، عليه أن يعلم تلاميذه منهج الإسلام في التعامل مع ما في هذا الكون مما سخره الله لنا وخلقه من أجلنا، وأنه لا يصح لأحد أن يستغل شيئاً مما في هذا الكون لغرض الفساد والإفساد، عليه أن يربي فيهم عظيم التفكير في مخلوقات الله وعظيم صنعه.
وعليه وهو يدرس طلابه أن يهمس في آذانهم عن أثر علماء المسلمين في إيجاد كثير من هذه العلوم - بادي الأمر- وأنهم أول من بدأ العلوم التجريبية التطبيقية، وأن ما تنعم به أوربا من تقنية وتطور مادي فهو بفضل الله ثم بفضل ما أخذوه من المسلمين أيام نهضتهم، عندها سنبعث في نفس الطالب عزة سفى عليها التراب وأملٌ لفه اليأس.
- وأنت يا معلم الرياضيات حين تعلم تلاميذك الرقم ( واحد ) فاغرس في نفوسهم وحدانية الله، وأنه واحد في ملكه، واحد في تدبيره وقدرته وقهره، واحد في أمره ونهيه.
وإذا ذكرت من الأرقام ما لانهاية له فاخبرهم أن ذلك بالنسبة لعلمنا، أما الله فإنه يعلم نهاية كل شيء "وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً" (الطلاق: من الآية12).
وحين تحسب معهم أنواع الفواكه التي في السلة فاغرس مع الحساب معاني جميلة بنّاءة: فبدلاً من أن تقول أكلت ثلاث تفاحات قل له: خذ ثلاث تفاحات وأعطها الفقير أو قدمها بأدب لوالديك أو أكرم بها ضيفاً أو اجعله يحسب التسبيحات أدبار الصلوات 33+33+34 100، والفطن لا يعدم الأسلوب..
- وعلى معلم التربية الفنية أن يوجه رسومات الطلاب إلى أشياء معبرة وكتابات مؤثرة تخدم الإسلام وقضاياه، فبدلاً من أن يغرق في رسم السيارات والبيوت والأشجار علمه كيف يرسم المسجد الأقصى مسرى نبيه _صلى الله عليه وسلم_ وابعث في نفسه الشوق إليه.
اجعله يرسم مآثر المسلمين في الأندلس وغيرها.. وإذا رسم شجرة طبيعة خلاَّبة فاغرس في قلبه تعظيم الله وكيف يبعث فيها الحياة، ثم امنعهم عن رسم ما فيه روح وأخبرهم أن ذلك من كبائر الذنوب «من صور صورة فإن الله معذبه حتى ينفخ فيها الروح وليس بنافخ».
- وكذا ينبغي لمعلم التربية البدنية أن يؤكد على الطلاب استحضار النية في الرياضة، وأن يتقووا بها على طاعة الله، وألا يكون نشيطاً عند اللعب كسلاناً عند الصلاة، وعليه أن يتابع لباسهم بأن يكون ساتراً ويجنبهم ما فيه الصور والدعايات الفاجرة والكتابات المضللة، ثم عليه أن يذكرهم بنعمة الله عليهم بالقوة والشباب، وأن من أترابهم من لا يجاوز السرير، ومنهم من لا يستطيع أن يطرد عن وجهه الذباب، منعهم المرض فعليهم أن يشكروا الله على ما أعطاهم من نعمة.(115/1150)
أما أنتما يا معلمي الشريعة واللغة، فالمسؤولية عليكما أعظم، والجهد المطلوب منكما أكبر.
- فيا معلم الشريعة عليك أن تغرس في نفوس طلابك تعظيم النصوص الشرعية والتسليم للأمر والنهي، عليك وأنت تعلمه العقيدة أن تحكم عقدها في قلبه وأن تشد رباطها في نفسه، علمه ما في الوضوء والصلاة والزكاة والحج والجهاد من حكم ومحاسن عظيمة، حبب في نفسه قراءة القرآن وحفظ السنة، وأنه يرتفع عند الله وعند خلقه بهذا العلم "يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ" (المجادلة: من الآية11).
- ويا معلم اللغة العربية: عليك أن تحدَّث طلابك أنك تعلمهم لغة هي أفضل اللغات وأوسعها، كما قال ابن فارس، وأنها هي لغة القرآن التي بها يعرف خطاب الرحمن جل جلاله..
عليك أن تحبب إليهم المادة وتسهلها عليهم بحسن العرض وجميل الشرح، أبعد عنهم الأغاليط واختلافات النحويين إلى حين، اختر الأمثلة المعبرة والقطعة المؤثرة ودعنا من (زيد يضرب عَمراً) وأسمعهم بدلاً منها: (زيد يكرم عَمْراً، أو يحمي خالداً، أو يكسو زينب)، فالمسلم عن بعد يبكي
يتساءل تعلوه الحيرة
لو زيد يرسل أحزانه
خير أم يضرب إخوانه!
لم نسمع في هذا العصر
بأن زيداً يضرب حناً.. أو يضرب أشكول..
إن مسؤولية التعليم مسؤولية ضخمة عظيمة، ومهمة كريمة نبيلة، وحين نوجه جهودنا إلى استثمار التعليم والمواد الدراسية فإننا بذلك نحافظ على أوقات التعليم عن الضياع، ونسارع في خطوات النهوض، ولا نقع في فصام يفصل الدين عن الدنيا والعلم عن والسلوك "وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ" (المؤمنون:52).
ـــــــــــــــــــ
تعب السعداء(*)
أحمد الصويان
16/10/1425
ارسل تعليقك ...
لا توجد تعليقات ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
روى البخاري في قصة نزول الوحي على النبي _صلى الله عليه وسلم_ أن ورقة بن نوفل لمّا أخبره رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ خبر ما رأى قال: "ليتني أكون حياً إذ يُخرجك قومك! فقال رسول الله _صلى الله عليه وسلم_: أَوَمُخرجيَّ هم؟ قال: نعم! لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي"(1).(115/1151)
عجيب أمر المصلحين.. يُواجَهون بكل أنواع الظلم والمحاربة والاستهزاء، ومع ذلك فهم صابرون محتسبون..!!
عجيب أمر المصلحين، يخرج المصلح منهم وحيداً فريداً يقف بمفرده أمام الأمة بمجموعها لا يضره من خذله ولا من خالفه، يتألب عليه الخاصة وينفر منه العامة، يصفونه بأقذع الصفات ويتهمونه بأبشع الأخلاق، ومع ذلك فهو رافع الرأس، عالي الهمة، صادق العزيمة..! ينظر المصلح إلى الناس من حوله فيجد الانحراف والضلال والبعد عن شرع الله فيتحرك قلبه، ويهتز ضميره، ويصبح ويمسي مفكراً في هموم الأمة وأحوالها، يظل قلق النفس حائر اللب، لا يهدأ باله بنوم أو راحة، ولا تسكن نفسه بطعام أو شراب.. وكيف يقوى على ذلك أو يرضى به وهو يرى أمته تسير إلى الهاوية، وفصول الهزيمة والاستكانة تتوالى تباعاً..!!
عجيب أمر المصلحين.. يُواجَهون بكل أنواع الظلم والمحاربة والاستهزاء، ومع ذلك فهم صابرون محتسبون..!!
إنّ المصلح صادق مع نفسه، صادق مع الآخرين، يجهر بالحق، ويُسمِّي الأشياء بأسمائها، ويكره التدليس والخداع وتزوير الحقائق، ولا يرضى بالمداهنة أو المداورة، وهذا ما لا يرضي العامة الذين ألهتهم شهواتهم وأهواؤهم عن ذكر الله، كما لا يرضي المتنفذين الذين يستمدون وجودهم ومكانتهم من غفلة العامة وسكرتهم.
ينطلق المصلح مستعيناً بالله – تعالى – يجوب الآفاق رافعاً صوته بكلمة التوحيد الخالص لا يعتريه فتور ولا خَوَر، ولا يقعده عن أمانة البلاغ رغبة ولا رهبة ولا خوف؛ لأن القلب العامر بنور الإيمان يكتسب قوة وثباتاً يستعلي بها على زخرف الدنيا وبطش الجبابرة.
إن عظمة المصلح تتجلى في ثباته ورباطة جأشه وقدرته على مواجهة الناس، بدون كَلل أو ملل، فالحق يمكن أن يصل إليه الكثيرون، ولكن الصدع به والثبات عليه والصبر على الأذى فيه منزلة شامخة لا يصل إليها إلا المصلحون الأفذاذ.
إن عظمة المصلح تتجلى في رعايته لهموم الأمة كبيرها وصغيرها، دينيها ودنيويها، فهو يعيش للأمة يذب عن بيضتها ويحمي حماها، ولا يتعلق قلبه بشكر الناس أو حمدهم، أو ترهب نفسه من غضبهم أو ظلمهم، يقولها صادقاً: "يَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ" (هود:51).
إنّ المصلحين هم صانعو الحياة، وباعثو الأمل في الأمة، هم حرسها وقادتها وحداتها إلى كل خير، في زمن عزّ فيه الأحياء، وندر فيه الصادقون.
____________
(*) من كتاب (في البناء الدعوي).
(1) أخرجه: البخاري، في كتاب بدء الوحي، باب (3)، (1/23)، رقم (3).
ـــــــــــــــــــ
بين الداعية والدعيّ
شادي الأيوبي
8/10/1425
ارسل تعليقك ...(115/1152)
لا توجد تعليقات ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
كثير من الناس في هذا الزمن يخاطبون العامة في المساجد، ويرفعون أصواتهم بالدعوة إلى الله بين الجماهير، ويسمون أنفسهم أو يصفهم غيرهم بالدعاة إلى الله، لكنهم أبعد ما يكونون عن الدعوة إلى الله من حيث يشعرون ولا يشعرون، وما الشكاوى التي تنطلق اليوم ضد الكثير من القائمين على المساجد والجمعيات الإسلامية، والنفور من التعامل مع بعضها الآخر إلا صورة للأزمة التي يسببها هؤلاء بإبعادهم الناس عن العمل الدعوي، بل عن الالتزام بالدين في أحيان أخرى.
ومن المعروف اليوم أن كثيراً من الناس ولأسباب كثيرة وإن كانت غير صحيحة لا يفرقون كثيراً بين المبدأ والشخص الذي يدعو له، ويخلطون بين الأمرين بشكل كبير؛ مما يوجب على الداعين إلى الله أن ينظروا كثيراً في تصرفاتهم، وأن يقدروا أن أفعالهم وأقوالهم تحسب عليهم من قبل الكثيرين، وأنها تنعكس سلباً أو إيجاباً على من يعرفهم، ومن الأمور السيئة أن الكثيرين من أصحاب القلوب المريضة لا همّ لهم إلا تتبع عثرات الناس خصوصاً الذين يدعون إلى الله والتشهير بهم وتسليط الأضواء على أخطائهم وعيوبهم.
كثير من الناس في هذا الزمن يخاطبون العامة في المساجد، ويرفعون أصواتهم بالدعوة إلى الله بين الجماهير، ويسمون أنفسهم أو يصفهم غيرهم بالدعاة إلى الله، لكنهم أبعد ما يكونون عن الدعوة إلى الله من حيث يشعرون ولا يشعرون
والفرق بين الدعاة والأدعياء يمكن أن يلاحظ للعارفين عند مسائل، منها:
التعامل المالي:
فالأدعياء مهما تكلفوا في مصانعة الناس تراهم عندما يتعلق الأمر بالمعاملات المالية يضيقون صدراً ويبتعدون عن المسامحة ويطالبون بكامل حقوقهم، وربما أخذوا أكثر من حقوقهم في كثير من الأحيان، ويا له من تناقض فج بين الدعوة إلى التسامح والتعامل بمبادئ الإسلام السمحة في البيع والشراء والقضاء والواقع الذي يعيش فيه هؤلاء.
الانتقام للنفس:
وعندما يتعلق الأمر بحق شخصي مادي أو معنوي فهم لا يتساهلون بأي شكل وتثور ثائرتهم لأقل خطأ من الطرف المقابل؛ بينما يتفننون في تبرير تصرفاتهم وأخطائهم ويتبجحون بتهجمهم على الآخرين وكأنهم حققوا بذلك نصراً عظيماً.
الانتصار للرأي:
والأدعياء يضيقون صدراً بسماع الرأي المقابل؛ فضلاً عن أن يقتنعوا أو يعملوا به، ويقعون في جدالات عقيمة تدوم أوقاتاً طويلة لا فائدة عملية منها، لكن الكبر المسيطر في نفوسهم يجعل من المستحيل عليهم التسليم بصحة الرأي الآخر.
إساءة التصرف عند الخلاف:(115/1153)
وهذا داء مرير يقع به الكثير من الناس، فتراهم عندما يصادقون شخصاً ما يبجلونه ويعظمونه أيما تعظيم وكأنما صار خالياً من العيوب والمثالب، فإذا انقلبت الصداقة إلى سوء فهم أو خصومة، طووا صفحة الحسنات ونشروا صحيفة السلبيات، وأمعنوا في ذكر المساوئ وأفحشوا في الكلام، حتى يخيل للسامع أن الطرف الذي يجري الكلام عنه شيطان من المردة جدير بأن يختفي عن الأرض حالاً.
عدم الغيرة على الإسلام:
والدعاة الحقيقيون إلى الله يظهرون حقاً عند اشتداد الأزمات والحاجة إلى مواقف الرجال الحقة، حينها فقط يبدو من بكى ممن تباكى، أما الأدعياء فساحات نضالهم فارغة خاوية، وعندما تحتاج الأمور لوقفة حق وكلمة صدق فهم إما يتهربون وإما يقعون في فخ الترغيب والترهيب ويبررون الأوضاع غير السليمة.
الاستغراق في التنظير والبعد عن الأمور العملية:
والدعي لا يمكن أن يكون رجلاً عملياً، ولا أن يقدم للأمة شيئاً عملياً أبداً، فتراه في المجالس، بل جل ما يقدمه أن يغرق السامعين في النظريات والفلسفات التي لا تسمن ولا تغني من جوع .
الكبر الواضح في الأقوال والأعمال:
والناس لا يخفى عليهم المتكبر من المتواضع، والمتصنع لا يمكن أن يتصنع أبد الدهر، بل لا بد أن يظهر من مواقفه ما يدل على حقيقة نفسه.
ولا بد في النهاية من الإشارة إلى أن الموضوع على قدر من الأهمية؛ لأن النتائج لا تأتي على الأدعياء وحدهم، بل تنعكس على العمل بأجمعه وترجع به إلى الوراء، بل إن تصرفات خاطئة لا يحسب فيها حساب الجماعة وينتصر فيها للنفس كثيراً ما تأخذ أعمالاً استغرق بناؤها سنوات عديدة، وهذا ما حدث ويحدث في الكثير من الأماكن على الساحة الإسلامية اليو
ـــــــــــــــــــ
التخطيط: رؤية أخرى!
أحمد بن عبد المحسن العساف
1/10/1425
ارسل تعليقك ...
لا توجد تعليقات ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
التخطيط هو أول العمليات الإدارية الأربعة المشهورة وأهمها، وعليه ينبني ما بعده من تنظيم وتوجيه ورقابة، ويقع تحت التخطيط بعض الخطوات والتدابير، أهمها: تحديد الأهداف، ووضع السياسات والبرامج، وتقدير الموازنات، ورسم الجدول الزمني، وللأهداف والبرامج مواصفات، منها: الواقعية والقابلية للتنفيذ، والقياس، والوضوح، والزمن المحدد.(115/1154)
وقد رأيت الاختصار في الحديث عن التخطيط بما سبق لسبب سيأتي بيانه فيما بعد؛ ولعلي الآن أن أشير إلى وقفات مهمة، وهي:
*لابد من التوكل على الله في كل شيء، وألاّ نركن للتخطيط ونعلق القلوب به دون الله حتى لا نعاقب بالخذلان، والمنهج الوسط في هذا الشأن اعتبار التخطيط سبباً في بلوغ المآرب والغايات.
*يجب الموازنة بين التحدي والواقعية؛ فلا يجنح بنا الخيال إلى متاهات من الفكر أو السلوك، ولا يقعد بنا الواقع المحيط كالسجين لا يستطيع خلاصاً؛ وتبقى الوسطية والتوازن المخرج الآمن الفاعل للجمع بين الأضداد.
التخطيط هو أول العمليات الإدارية الأربعة المشهورة وأهمها، وعليه ينبني ما بعده من تنظيم وتوجيه ورقابة
*من الأمور المهم استصحابها أثناء التخطيط الارتقاء بالمعايير والمقاييس دفعاً للسآمة الناشئة عن الرتابة، وإشعالاً للحماسة والمنافسة ومواكبة للظروف والأحوال.
*ويستتبع ما سبق حتماً تغيير القناعات والأفكار؛ وتضييق نطاق المستحيل ووضعه قيد الإقامة الإجبارية بعيداً عن العقول والعزائم.
*تغيير الاستراتيجيات وطرائق العمل حسب تغير المعايير والقناعات المتأثرة بالتقلبات والتغيرات الحسنة أو السيئة، فربما نجع أسلوب في وقت ومكان وحال لكنه عديم الفائدة مع اختلاف الأزمان وتغير الأماكن وتبدل الأحوال.
*ضرورة اعتماد المراجعة المرحلية والرقابة الدائمة لسير العمل؛ حتى لا يكون البذل جهاداً في غير عدو ولتجنب الحيدة عن الأهداف.
*يلزم الانطلاق من الأهداف لتحديد رؤية للعمل تحَّفز الهمم وتبعث على النشاط والتحدي، كما يلزم إيضاح الرسالة السامية للعمل لتجنب الانحرافات وملاحظتها إذا وقعت.
*ينبغي على فريق التخطيط اعتماد سياسة " الوفرة "، وتجنب سياسة " الندرة "، فإن عزَّ مكان فغيره ألف ؛ وإن نبا مكان فأرض الله واسعة ؛ وإذا تمنع فرد استجاب غيره ، وهكذا .
*حتى ينجح التخطيط يجب اتخاذ القرار بحزم وعزم على التنفيذ وتحمل النتائج، والالتزام باتخاذ السبل الكفيلة بالوصول للمطلوب.
*يبقى كل ما نقرؤه ونسمعه ترفاً علمياً خالصاً ما لم ننقله من حيز التنظير والمعرفة إلى فضاء التطبيق والعمل، حيث المعترك الحقيقي لاختبار فاعلية المخزون المعرفي والتراكمات الذهنية؛ وإذ ذاك فقط يعلم واحدنا حقيقة الأرضية التي يقف عليها !
وأخيراً؛ أعود لموضوع التخطيط الذي اختصرته في البداية ناصحاً القراء باقتناء كتاب مفيد عن التخطيط أو حضور دورة مميزة فيه للاستفادة النظرية عن التخطيط كما يطرحه الإداريون الأفاضل _نفع الله بهم
ـــــــــــــــــــ
جامعة المفاهيم
ياسر بن علي الشهري
20/9/1425(115/1155)
ارسل تعليقك ...
لا توجد تعليقات ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
المراقبون لنهضة الأمة، والمجاهدون لتوجيهها الوجهة الصحيحة نحو الهدف والغاية، يدركون أكثر من غيرهم خطورة المفاهيم إن أصابها الخلط والاضطراب، ويدركون قوتها ومكانتها في فكر الأمة ونهضتها.
وجامعة رمضان التي تستهدف بناء الأمة بناء متكاملاً، والكشف عن قواها الكامنة، تنطلق في ذلك من مرتكز رئيس، هو تصحيح المفاهيم حتى تكون حركة الحياة مؤسسة على أسس متينة تمكن من النهوض والسير بالأمة في طريق الرقي والتقدم المادي والسلوكي.
المفاهيم التي نتعلمها في جامعة رمضان متعددة وكثيرة، في مقدمتها أن كل فرد من أفراد الأمة "الصائمة" يكون على معرفة وإدراك بالغاية التي يتغياها المسلم من شهره ومن ثم حياته كلها، فيترتب على ذلك أن يقف الإنسان مع نفسه في حالة من المحاسبة والمراجعة قد تكون نتائجها عاجلة أو آجلة –إن مد الله في العمر- إلا أنها –كمنهج حياة للمسلم- وإن تأخر ظهور ثمارها تعد إيجابية بكل المقاييس، فالمسلم الذي يدرك حجم بعده عن المنهج الرباني حتى وإن لم يستقم أمره يتكون لديه مفهوم سيؤدي يوماً ما –بإذن الله- إلى وضوح في الروية والفكر، فتصح وجهته وتتضح له معالم الطريق ويستقيم أمره.
المراقبون لنهضة الأمة، والمجاهدون لتوجيهها الوجهة الصحيحة نحو الهدف والغاية، يدركون أكثر من غيرهم خطورة المفاهيم إن أصابها الخلط والاضطراب
وتكمن قوة الصيام على تصحيح المفاهيم في إذكاء جذوة الإيمان والتوحيد في نفس كل مسلم صائم، فالإخلاص لله هو أساس كل المفاهيم التي تُكون فكرنا ورؤيتنا للحياة والكون، ولا يمكن أن يتحقق الصيام بدون الإخلاص، الذي يعني الاقتناع الفكري والعاطفي، ويعني الرضا، والقبول، والاطمئنان، ومن ثم تحول المفاهيم والأفكار إلى واقع سلوكي في الحياة.
الجميع داخل هذه الجامعة ينهل من المفاهيم والأفكار السديدة، سواء شعر أم لا يشعر، وبقدر الاجتهاد يكون النصيب، أما أولئك الذين يعانون من اضطراب في المفاهيم، واختلاط في الفكر،-عافانا الله- فإنهم يقفون داخل جامعة رمضان مبهوتين أمام تلك الجموع القائمة، الداعية، المتصدقة، المتضرعة، في صور تبدد الاضطراب والتشتت، ووضوح يكشف التقصير والتناقض، وتمييز بين قوى الخير والشر، وكل نفس بعد ذلك بما كسبت رهينة.
هكذا هو رمضان وسيبقى يأتي في كل عام لتصحيح المفاهيم التي شوهها أعداء الإسلام، وترسيخ المفاهيم الإسلامية المغيبة، يتجلى فيه الصف الذي يجب أن نقف فيه، ونسد الثغر المنوط بنا فيه، ونحسن إلى من يقف معنا فيه، ونستثمر كل قوى البشر ليقفوا معنا فيه.(115/1156)
اللهم بارك لنا في رمضان، وأعده علينا أعواماً عديدة وأزمنة مديدة، إنك سميع مجيب.
ـــــــــــــــــــ
حتى لا يأتي الإعصار...!
تأملات في آية
أحمد بن عبد المحسن العساف
16/9/1425
ارسل تعليقك ...
تعليقات سابقة ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
الحمد لله رب العالمين؛ وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيراً؛ وبعد:
هذا مزارع طاعن في السن وعنده جنة من عمل يده: كثيرة الزروع، وافرة الثمار، وارفة الظلال، ماؤها عذب زلال وهواؤها نسيم عليل معطر بشذى الزهر والورد، منظرها يسحر العين فلا تكاد تنصرف عنه البتة ويأسر النفس فلا تنساه أبداً.
وذات ليلة ظلماء أصاب هذه الجنة إعصار فيه نار فاحترقت، وعادت أرضاً خراباً يباباً: ماتت زروعها وتلفت ثمارها وغار ماؤها وفسد هواءها وأنتنت رائحتها وزال بهاؤها وذهبت نضرتها، فلم تعد منظراً بهيجاً يسر الناظرين . وعندها أسقط في يد صاحبها المسن وأخذ يتفكر! فإذا به أمام جهد عقود من الزمن أضناه أيام شبيبته قد ضاع واندثر ؛ ثم نظر أخرى فإذا أولاده صبية صغار لا يجلبون نفعاً ولا يدفعون ضرراً، بل هم على التحقيق همٌّ آخر، ثم نظر ثالثة إلى نفسه حيث يرزح تحت أثقال ثمانين عاماً أو أزيد، وقد ناوشته الأمراض والعلل من كل جانب وتزاحم عليه الضعف والكبر والمرض من كل حدب وصوب، ثم بلغ منه الألم والحسرة كل مبلغ؛ لأنه لا يستطيع إعادة جنته لضيق الزمان وضعف الحال وقلة المعين.
فينبغي للإنسان المسلم – وهو مذنب لا محالة – أ لا يجاهر بمعصيته ولا يصر عليها، ولا يوقع غيره فيها؛ كما يجب عليه أن يبادر معصيته بالحسنة
أفيتمنى أحد أن يكون كهذا الرجل؟ إني أظن أن لا، ولنستمع لقول ربنا _عز وجل_: "أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ" (البقرة:266).
روى البخاري في صحيحه في كتاب التفسير ( حديث رقم 4538 ) أن عمر _رضي الله عنه_ قال يوماً لأصحاب النبي _صلى الله عليه وسلم_: فيم ترون هذه الآية نزلت؟قالوا: الله أعلم، فغضب عمر، فقال: قولوا نعلم أو لا نعلم، فقال ابن عباس: في نفسي منها شيء يا أمير المؤمنين! قال عمر: يابن أخي قل ولا تحقر نفسك، قال ابن عباس: ضربت مثلاً لعمل، قال عمر: أي عمل؟ قال ابن عباس: لعملٍ، قال عمر:(115/1157)
لرجل غني يعمل بطاعة الله _عز وجل_ ثم بعث الله له الشيطان فعمل بالمعاصي حتى أغرق أعماله، وفي روايات أخرى عند ابن جرير عن عمر: "هذا مثل ضرب للإنسان يعمل صالحاً حتى إذا كان عند آخر عمره أحوج ما يكون إلى العمل الصالح عمل عمل السوء ". وعن ابن عباس: " معناه أيود أحدكم أن يعمل عمره بعمل الخير حتى إذا كان حين فني عمره ختم ذلك بعمل أهل الشقاء فأفسد ذلك؟" (فتح الباري 9 / 62 طبعة الباز).
إذن فللعمل الصالح مبطلات ومحبطات تذهب به كلية أو تذهب بجزء منه؛ ومن هذه المبطلات:
أولاً: الكفر: قال _سبحانه_: "وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ" (البقرة: من الآية217).
ثانياً: الرياء: وهو شوب النية ولا يقبل الله من العمل إلا ما كان خالصاً، والإخلاص مطلب عزيز، وهو أشبه ما يكون بالميزان الدقيق الحساس .
ثالثاً:البدعة: وهي شوب العمل ؛ فمع شرط الإخلاص لا يقبل الله من العمل إلا ما كان صواباً ولا صواب إلا بإتباع النبي _صلى الله عليه وسلم_، والإخلاص والمتابعة هما تفسير بعض السلف لأحسن العمل في قوله _تعالى_: "لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً" (الملك: من الآية2). ومن ضرورات قبول العمل إيقاعه دون خلل بأركانه أو تفويت متعمد لواجباته، ومما يؤسف له تساهل الناس في بعض الأعمال كمناسك الحج خاصة مع بعض الفتاوى " العصرية "، مما يذهب بتعظيم الشعيرة وينزع روحها.
رابعاً: السيئات والمعاصي، وقد وردت أحاديث تحذر من محقرات الذنوب ومن الغيبة وظلم الناس ومن انتهاك محارم الله في الخلوات؛ لأنها تذهب بالحسنات وتنقصها.
خامساً:الإتيان بمبطل للعمل من أذى وعجب وإفشاء وإدلال، ومن فعل ذلك كان كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً.
سادساً: دسائس السوء الخفية في النفس التي توقع في سوء الخاتمة كما صح في الخبر ما معناه أن الرجل يعمل بعمل أهل الجنة فيما يرى الناس وهو في كتاب الله من أهل النار.
سابعاً:الإخلاد إلى الدنيا وإتباع الهوى كما ذكر الله عن صالح بني إسرائيل وعالمهم: "وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ" (الأعراف: 175، 176)
فإذا كان ذلك كذلك فكيف نحافظ على أعمالنا؟
أولاً: أن نموت على الإسلام: قال _سبحانه_: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ" (آل عمران:102). قال بعض العلماء: الموت على الإسلام يكون بالمداومة على الأعمال الصالحة؛ لأن الإنسان يموت على ما كان يكثر منه ويبعث على ما مات عليه، ومن الأدلة الواضحة على ذلك حديث المحرم الذي(115/1158)
وقصته دابته فمات محرماً بالحج، فقال النبي _صلى الله عليه وسلم_: " إنه يبعث يوم القيامة ملبياً ".
ثانياً: تعاهد إخلاص العمل لله وتفقد النية عند كل فعل أو ترك حتى لا تكون أعمالنا عادة أو مجاملة أو غير ذلك مما يذهب بأجرها خاصة في العبادات التي يمكن أن تأخذ أبعاداً أخرى تطغى على الجانب التعبدي أو تلغيه تماماً ؛ والله ربنا _سبحانه_ أعنى الشركاء عن الشرك.
ثالثاً: تحري اتباع السنة في أداء العبادة وإيقاعها على الوجه الصحيح الذي يرضي ربنا، ويكون ذلك بالتفقه فيها قبل الإقدام عليها تجنباً لغائلة البدعة وحذراً من نقصان العمل أو الإخلال به، وكم في سؤالات المستفتين عن الحج والعمرة خاصة من جهالات وبدع ماكانت لتكون مع التفقه والعلم.
والإخلاص ومتابعة رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ هما ساقا الإسلام كما يقول ابن القيم _رحمه الله_ وبدونهما لا يكمل عمل العامل ولا يقبل.
رابعاً: مبادرة السيئة بالحسنة لمحوها مصداقاً لقوله _سبحانه_: "إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ" (هود: من الآية114). واتباعاً لقول النبي_ صلى الله عليه وسلم_: " واتبع السيئة الحسنة تمحها " الحديث. ويجب على الإنسان تزكية نفسه وتربيتها على العمل الصالح ومحاسبتها وتنقيتها من علائق الدنيا حتى تزكو للمؤمن نفسه ويجد لذة العبادة وأنس الطاعة وروح اليقين بالله _عز وجل_.
خامساً: الدعاء بالثبات حتى الممات، ومن الأدعية الجامعة التي كان النبي_ صلى الله عليه وسلم_ يرددها في سجوده "اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك" ومنها أيضاً "ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب" وغيرها كثير من الوارد في الكتاب العزيز والسنة الشريفة.
سادساً: الحيطة والحذر من مداخل الشيطان على النفس البشرية، وهذه المداخل كما ذكرها ابن القيم _رحمه الله_، هي: الكفر والبدعة والكبائر والصغائر والمباحات ثم الانشغال بالمفضول عن الفاضل، حيث يحاول عدونا -أعاذنا الله منه- أن يغوي الإنسان بواحدة منها مبتدئاً بالكفر ومنتهياً بحيلته التي يلبس فيها على كثير من الصالحين وهي الانشغال بالعمل المفضول عن العمل الفاضل، وقد يبدأ الشيطان _ نعوذ بالله منه _ بالصغرى متدرجاً حتى يقذف بصاحبه إلى هاوية الكفر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
سابعاً: صح في الحديث أن لكل عمل شرَّة أي اجتهاد فيه وإقبال عليه، ثم لكل شرَّة فترة أي فتور عن العمل وتراخٍ فيه فمن كانت فترته إلى السنة فقد هُدي أي من كان فتوره لا يرده عن الفرائض ولا يقحمه في الكبائر فقد هُدي ونجا_ بفضل الله_، ومن كانت فترته إلى غير ذلك فقد هلك أي من كانت فترته إلى ترك الفرائض وفعل الكبائر فقد هلك وباء بسخط الله واستحق عقابه، وليكن حاضراً في خلدنا أن أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل.
ومن الأمور المعينة على التغلب على الفتور حين وقوعه ما يلي:
1. فعل طاعات غير مجهدة للجسد مثل الذكر والدعاء والصدقة وإماطة الأذى عن الطريق والتبسم في وجه المسلم والتفكر بعظمة الله_ سبحانه_، وهي عبادة جليلة لا(115/1159)
تحتاج إلى زمان أو مكان أو نظام معين ؛ وجسم الإنسان وهذا الكون الفسيح ومجرى الأحداث كل ذلك ميدان خصب للمتفكرين.
2. استشعار المعاني التعبدية لكل عمل كالدراسة والطعام والنوم والجماع والترويح عن النفس بالمشروع المباح ؛ إذ الترويح مقصود ليس لذاته، بل لإجمام النفس حتى تنشرح للعمل وتقبل عليه بلا تلكؤ أو تردد.
وللمزيد حول موضوع الفتور أنصح بالرجوع لكتاب فضيلة الشيخ د. ناصر العمر بعنوان (الفتور).
ثامناً: أن يكون للواحد منا خبيئة من عمل بينه وبين الله لا يطلع عليها أحد من الناس، فعمل السر أدعى للإخلاص، وفيه دليل على محبة الله والرغبة فيما عنده، ومن القصص المعبرة حول العمل الخفي قصة النفر الثلاثة ممن قبلنا الذين باتوا في غار ثم حبستهم صخرة عن الخروج منه فدعوا الله بصالح أعمالهم فاختاروا أعمالاً خفية ليس لها من دافع سوى رجاء ما عند الله أو خوف عقابه.
تاسعاً: اتخاذ صحبة صالحة تعين على الخير وتحجز عن الشر ويكون منهم قدوات في التأله والتعبد يقبس منها الإنسان خيراً لنفسه ؛ ومن الصحبة الحاضرة إلى صحبة سلفنا الكرام من خلال مدونات السير نعيش معهم ما يحقر واحدنا معه القليل الذي يفعله، ولله المشتكى.
عاشراً: كن واثقاً بالله لا بعملك متوكلاً عليه_ سبحانه وحده_ وناظراً إلى عملك – مهما كثر- أنه جهد المقل الذي ترجو قبوله من ذي الإحسان الدائم والنعم التي لا تحصى.
فوائد متفرقة:
• قال الحافظ ابن حجر: " وفي الحديث قوة فهم ابن عباس وقرب منزلته من عمر وتقديمه له من صغره، وتحريض العالم تلميذه على القول بحضرة من هو أسن منه إذا عرف فيه الأهلية لما فيه من تنشيطه وبسط نفسه وترغيبه في العلم ".
• تضرب الأمثال في القرآن لتقريب المعاني وتيسير الفهم والتفكر، وقد كان أحد السلف يبكي إذا لم يفهم مثلاً من أمثال القرآن؛ لأن الله يقول: "وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ" (العنكبوت:43)، وقد بين سياق الآية الحكمة من ضرب هذا المثل، وهي التفكر لأخذ العبرة والعظة التي تستلزم أعمالاً صالحة وقربات متنوعة.
• فضل العلم الذي جعل ابن عباس مقدماً عند عمر على كثير من أشياخ المهاجرين والأنصار _ رضي الله عنهم جميعاً _.
• أن كلمة " لعل " في القرآن تأتي بمعنى لأجل؛ لأن الله_ سبحانه وتعالى_ لا يرجو شيئاً.
• الجنة في القرآن هي الحديقة؛ غير أن الجنة تتميز بوجود النخيل والأعناب.
وبالجملة فينبغي للإنسان المسلم – وهو مذنب لا محالة – أ لا يجاهر بمعصيته ولا يصر عليها، ولا يوقع غيره فيها، وألا تكون معصيته من النوع الذي يبقى كمن يكتب الباطل أو يقوله أو يؤسسه أو يبقيه ؛ كما يجب عليه أن يبادر معصيته بالحسنة، وأن(115/1160)
يكثر من الصالحات خاصة الأعمال التي ثبت عظم أجرها أو كان نفعها متعدياً أو يبقى أثرها على مر العصور ومضاء الزمان.
هذا والله _تعالى_ أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
ـــــــــــــــــــ
القرآن والصيام(*)
د. خالد اللاحم
10/9/1425
ارسل تعليقك ...
لا توجد تعليقات ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
عن عبد الله بن عمرو _رضي الله عنه_ أن رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ قال: "الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيام: أي رب، منعته الطعام والشهوات بالنهار فشفعني فيه، ويقول القرآن: منعته النوم بالليل فشفعني فيه قال: فيشفعان"(1).
إن بين القرآن والصيام علاقة متينة، فمن أعظم وأهم الحكم من مشروعية صيام نهار رمضان هو تهيئة القلب لتدبر القرآن حين القيام به في الليل، والمشاهد أن كثيراً من الناس يفوتون على أنفسهم هذه المصلحة العظيمة حينما يسرفون في الطعام والشراب وقت الإفطار والعشاء.
لقد أثبت الطب الحديث، والطب البديل أهمية الصيام لصفاء القلب وقيامه بوظائفه المادية والمعنوية.
ولا أريد التفصيل في هذه القضية، فالمقام لا يسمح لكني أرشد إلى بعض المراجع(2) وإن كنت على يقين من حكمة تشريع الصيام بدون عناء الرجوع إلى تلك الكتب وصرف الوقت والجهد في قراءتها يكفينا في هذا قول الله _تعالى_: "وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ" (البقرة: من الآية184) إنها رسالة من رب العالمين تحمل الكثير والكثير من الإشارات والإرشادات.
إن بين القرآن والصيام علاقة متينة، فمن أعظم وأهم الحكم من مشروعية صيام نهار رمضان هو تهيئة القلب لتدبر القرآن حين القيام به في الليل
إن الله _تعالى_ يقرر لنا هذه القاعدة العظيمة: أن الصيام خير لنا، وإن من بعض خيره ما تم إثباته بالتجارب المخبرية ومن تجارب العلماء الذين يؤكدون على أهمية هذه العلاقة بين الصيام وبين التفكير والفهم والتدبر إن شواهد صحتها وأقوال أهل التجربة وأحوالهم من علماء المسلمين وغير المسلمين لا يتسع له كتاب، وما لم ينقل عنهم من أقوال وأحوال أكثر وأكثر، فالقليل منهم عبر عن حاله وذكر ما وجد وغيرهم كثير وجد ولم يذكر.
فإن أردت حقاً تدبر القرآن والتأثر به فعليك بهذا المفتاح العجيب ، وخاصة في رمضان إنه الصيام، الصيام الصحيح الذي يحرص فيه الصائم على تطبيق ما جاء(115/1161)
في حديث المِقْدام بن مَعْدي كرِب قال: سمعت رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ يقول: "ما ملأ ابنُ آدم وعاءً شرّاً من بطنٍ، بحسب ابن آدم لقيماتٌ يقِمْن صلبَه، فإن كان لا محالة فثُلُثٌ لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنَفَسِه" رواه الإمام أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه، وقال الترمذي : حديث حسن صحيح .
وهذا الحديث أصل جامع لأصول الطب كلها، وقد روى أن ابن أبي ماسويه الطبيب لما قرأ هذا الحديث في كتاب أبي خيثمة قال: لو استعمل الناس هذه الكلمات لسلموا من الأمراض والأسقام، ولتعطلت المارشايات ودكاكين الصيادلة.
ليس معنى الصوم أن تمسك عن الطعام والشراب مدة ثم تلتهم أضعاف ما أمسكت عنه؛ هذا بكل تأكيد ليس صوماً نافعاً.
إن الصوم الذي ينفع صاحبه هو ما يقترن معه عدم الشبع حال الإفطار، إن بعض الشباب يقول: قد صمت فما وجدت الوجاء الذي أخبر به النبي _صلى الله عليه وسلم_؟ نقول: نعم إن كنت في وقت فطرك تتقاضى من وقت صومك وترد الصاع صاعين، فهذا ليس بصوم على الحقيقة، بل هو إرهاق للبدن وتعذيب له؛ لأن الهدف من الصوم حماية الجسد عامة والقلب خاصة من سموم الأطعمة والأشربة، وهذا معنى قول النبي _صلى الله عليه وسلم_: "فإنه له وجاء" ذلك أن القلب إذا استراح من سموم الأطعمة صفا ورق.
قال المروزي: قلت لأبي عبد الله: يجد الرجل من قلبه رقة وهو شبع قال: ما أرى، وروى ابن أبي الدنيا في كتاب الجوع بإسناده عن نافع عن ابن عمر قال: "ما شبعت منذ أسلمت"، وروى بإسناده عن محمد بن واسع قال: "من قل طعمه فهم وأفهم وصفا ورق، وإن كثرة الطعام ليثقل صاحبه عن كثير مما يريد"، وعن أبي سليمان الداراني قال: "إذا أردت حاجة من حوائج الدنيا والآخرة فلا تأكل حتى تقضيها، فإن الأكل يغير العقل"، وعن قثم العابد قال: "كان يقال: ما قل طعم امرئ قط إلا رق قلبه ونديت عيناه" ، وروى أيضاً بإسناده عن أبي عمران الجوني قال: "كان يقال: من أحب أن ينور قلبه فليقل طعمه"، وعن عثمان بن زائدة قال: "كتب إليّ سفيان الثوري: إن أردت أن يصح جسمك ويقل نومك فأقلل من الأكل"، وعن إبراهيم بن أدهم قال: "من ضبط بطنه ضبط دينه، ومن ملك جوعه ملك الأخلاق الصالحة، وإن معصية الله بعيدة من الجائع قريبة من الشبعان، والشبع يميت القلب، ومنه يكون الفرح والمرح والضحك"، وقال أبو سليمان الداراني: "إن النفس إذا جاعت وعطشت صفا القلب ورق، وإذا شبعت ورويت عمي القلب"، وقال: "مفتاح الدنيا الشبع، ومفتاح الآخرة الجوع"، وقال الحسن بن يحيى الخشني: "من أراد أن يغزر دموعه ويرق قلبه فليأكل وليشرب في نصف بطنه". وقال أحمد بن أبي الحواري: فحدثت بهذا أبا سليمان فقال: إنما جاء الحديث "ثلث طعام، وثلث شراب" وأرى هؤلاء قد حاسبوا أنفسهم فربحوا سدساً، وعن الشافعي قال: ما شبعت منذ ستة عشر سنة إلا شبعة أطرحها؛ لأن الشبع يثقل البدن ويزيل الفطنة ويجلب النوم ويضعف صاحبه عن العبادة، وقالت عائشة _رضي الله عنها_: "أول بدعة حدثت بعد رسول الله _صلى الله عليه وسلم_: الشبع، إن القوم لما شبعت بطونهم جمحت بها نفوسهم إلى الدنيا".(115/1162)
________________
(*) منقول من كتاب (التفوق والنجاح في القرآن الكريم).
(1) مسند أحمد بن حنبل ج2/ص174 (6626)، وصححه أحمد شاكر، مستدرك الحاكم: 1-470 وقال صحيح على شرط مسلم، مصنف ابن أبي شيبة ج6/ص129 (30044)، صحيح الترغيب والترهيب للألباني: 1-483 (969).
(2) من ذلك: كتاب ريجيم الصوم نشر: دار طويق، الصوم والصحة، نجيب الكيلاني، صوموا تصحوا – دراسة علمية لفوائد الصوم: الشيخ سعيد الأحمري – دار المعارف، عالج نفسك بالصيام: محيي الدين عبد الحميد.
ـــــــــــــــــــ
لذة المناجاة
أحمد الصويان
3/9/1425
ارسل تعليقك ...
لا توجد تعليقات ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
إن من أعظم أسباب الطمأنينة وسكينة القلب: الأنس بمناجاة الله _تعالى_، والتلذذ بذكره والثناء عليه، قال الله – تعالى-: "الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ" (الرعد:28)، إذا هدأت العيون وهجعت النفوس، واسودت ظلمة الليل، نشط لذكر الله يسكب العبرات، ويظهر الحاجة والافتقار إلى مولاه، ويعترف بعجزه وضعفه، ويلح عليه بالثناء والتسبيح والتهليل، يرفع العبد يديه بقلب مخبت منيب يسأل الله – سبحانه وتعالى – ويستعينه، "أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ" (الزمر: من الآية9)، "تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً" (السجدة: من الآية16). إنها لذة المناجاة، لذة من أعظم لذائذ الدنيا، تعمر القلوب وتسكن لها الجوارح، ولا يجدها إلا من ذاق طعم الإيمان، وحلاوة القرآن، وبرد اليقين، وصَدَق المصطفى _صلى الله عليه وسلم_: "مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه مثل الحي والميت".
إن من أعظم أسباب الطمأنينة وسكينة القلب: الأنس بمناجاة الله – تعالى-، والتلذذ بذكره والثناء عليه
تأمَّل موسى – عليه السلام – وقد أنهكه السفر، يستظل بظل شجرة، ويقولها من قلبه، نفثات عابد مستجير بربه: "فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ" (القصص:24). تأمل أدعية النبي _صلى الله عليه وسلم_ ومناجاته لربه، تجد فيها أجمل التضرع والإنابة والانكسار بين يدي الله – تعالى-، وتجد فيها أبلغ الالتجاء والاستعانة به – عز وجل-، يُعفّر وجهه في التراب، ويقوم تالياً وراكعاً حتى تتورم قدماه، ويُسمَع لصدره أزيز كأزيز المرجل، وتتحدّر الدموع من عينيه الشريفتين، ويستغفر الله ويتوب إليه في اليوم مئة مرة، ومع ذلك كله يقول في دعائه(115/1163)
العبق الكريم: "اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي، وإسرافي في أمري، وما أنت أعلم به مني، اللهم اغفر لي جدّي وهزلي، وخطئي وعمدي، وكل ذلك عندي، اللهم اغفر لي ما قدمتُ وما أخرتُ، وما أسررتُ وما أعلنتُ، وما أنت أعلم به مني أنت المقدم وأنت المؤخر، وأنت على كل شيء قدير".
غاية في التضرع والسكينة والافتقار إلى الله – تعالى-، لا يغتر بعمله، أو يتبختر بفعله، بل يطأطئ رأسه إخباتاً ومهابة لربه، ويسأله الثبات والسداد، ويناجي ربه بقوله: "اللهم مُصرِّف القلوب صرِّف قلوبنا على طاعتك".
يخلو العبد بربه، ويرطب لسانه بالذكر وتلاوة القرآن، مخلفاً وراءه الدنيا بغربتها وهمومها، فمهما ادلهمت به الخطوب، وتكالبت عليه الفتن، وتكاثرت عليه الهموم، إلا أنه يجد في قلبه سكينة عامرة، ويقيناً راسخاً.
إن الدعاء عبادة عظيمة تتجلى فيه كريم الصلة بين العبد وخالقه، يُرى فيه العبد منكسراً بين يدي مولاه، منطرحاً على بابه، يستغيث به ويستجير، والله – تعالى-، يحب العبد الملحاح، ولهذا قال النبي _صلى الله عليه وسلم_: "من لم يسأل الله يغضب عليه".
ودعوات المؤمنين الصادقة هي الطاقة الحية المعطاءة التي تبعث الروح في قلوب المؤمنين، وتدفعها إلى البذل والعطاء بصدق وإخلاص، فهي الجند الذي لا يُغلب، والسلاح الذي لا يقه
ـــــــــــــــــــ
السلوك(*)
د. عبد الكريم بكار
26/8/1425
ارسل تعليقك ...
تعليقات سابقة ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
ليس في الأرض أمة تفتخر أن سلوكها لا يخضع لأي قيم أو مبادئ تؤمن بها، كما أنه ليس في الأرض أمة تخطط لتدمير قواعد السلوك لديها عن عمد، لكن الذي يحدث دائماً هو أن الناس خلال حركتهم اليومية يخضعون لأهوائهم وشهواتهم، وتضغط عليهم مصالحهم، فيجورون على مبادئهم، وتصبح حركتهم اليومية غير منضبطة على الوجه المطلوب بما يؤمنون من مثل وقيم ونظم.
الذين يدَّعون أنهم أخلاقيون ومثاليون كُثُر، بل إن كل المتنافسين وفي مختلف المجالات، يتخذون من ادعاء التسامي الخلقي الذي لديهم وسيلة لترجيح كفتهم على كفة منافسيهم، لكن السلوك الفعلي هو المحك الذي يكشف كل الدعاوى الرائفة، ولهذا فلا يكاد يذكر الإيمان في القرآن إلا ويقرن بالعمل ليرتكز في حسّ كل مسلم أن العمل الصالح هو البرهان الحقيقي على صدق الإيمان وحيويته، وقد شدد القرآن الكريم النكير على أولئك الذين تختلف أعمالهم عن أقوالهم حين قال: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ(115/1164)
تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ" (الصف:2)، وفي حديث مسلم: "إن أول الناس يُقضى يوم القيامة عليه رجل استُشهد، فأتي به، فعرَّفه نعمه فعرفها. قال: فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت. قال: كذبت، ولكنك قاتلت لأن يقال جريء؛ فقد قيل، ثم أُمر به فسحب على وجهه حتى أُلقي في النار». وهكذا يقال للذي تعلَّم العلم ليُقال هو عالم، والذي أتاه الله المال فتصدق ليُقال هو جواد، ويُفعل بهما ما فُعل بالأول.
ليس في الأرض أمة تفتخر أن سلوكها لا يخضع لأي قيم أو مبادئ تؤمن بها، كما أنه ليس في الأرض أمة تخطط لتدمير قواعد السلوك لديها عن عمد
السلوك هو مجموعة من العادات؛ والذي يحدد نوعية سلوك الواحد منا هو نوعية الأعمال والأنشطة الصغيرة التي يقوم بها في كل يوم، وإن عَشر عادات سيئة كافية لنقل أي إنسان من مستوى الإنسان العادي إلى مستوى الإنسان السيئ. كما أن عَشر عادات جيدة كافية لنقل أي إنسان إلى مستوى الإنسان الجيد. هذا يعني أن علينا أن نتعلم كيف نتخلص في كل سنة من بعض العادات السيئة ليحل محلها بعض العادات الحسنة؛ لنرى أن أوضاعنا قد اختلفت كلياً خلال خمس سنوات.
من الطرق الجيدة للتخلص من العادات السيئة أن نربط بين الآلام والعواقب الوخيمة التي يمكن أن تحدث لنا، وبين ما لدينا من عادات سيئة؛ فالمسلم يربط بين عذاب القبر – مثلاً – وبين المشي بالنميمة، أو بينه وبين ترك الصلاة، أو الامتناع عن أداء الزكاة، كما يمكن أن يربط المفرط في تناول الطعام بين هذه العادة وبين الأمراض والمشكلات الصحية التي تسببها السمنة، وهكذا... والتفكير والتدبر والنظر إلى المستقبل هو الذي يُغذِّي الحماسة للتغيير واتّقاء سوء العاقبة، من خلال التخلص من الأسباب والمقدمات المؤدية إليها. في زماننا هذا يتراجع الوازع الديني لدى كثير من الناس، وتنفتح شهية الكثيرين نحو تحقيق المزيد من المكاسب، وقد كثر الذين يتغنون بالإنجازات والنجاحات التي لم يحققوها وفق أي قاعدة أخلاقية، ولا في إطار أي تشريع أو قانون، وعلى هؤلاء أن يعلموا أن اللصوص أصحاب إنجازات أيضاً، وأن كل الإنجازات التي تتم خارج إطار المشروعية والنظام هي شكل من أشكال اللصوصية! نحن بحاجة إلى ردم الهوّة بين مبادئنا وسلوكاتنا عن طريق رفع سويّة ما نطلبه من أنفسنا، وعن طريق رفع مستوى الجودة والنوعية لأعمالنا وإنجازاتنا؛ فالمحافظ على صلاة الجماعة يطلب من نفسه الحرص على أن يكون في الصف الأول وفي بداية الصلاة، والذي يدرس كل يوم ساعتين يُلزم نفسه بأن يقرأ كل يوم ثلاث ساعات، والذي تعود إخراج الزكاة فحسب، يحمل نفسه على بذل شيء من الصدقة، وهكذا... ولا ريب أن مثل هذا الارتقاء ليس سهلاً على النفس، ولكن مَنْ قال: إن القيام بالتكاليف والواجبات هو شيء محبب إلى النفوس؟!
التغيير دائماً ينطوي على قدر من المشقة، ولكن حلاوة النصر على النفس، ونشوة اجتياز العقبات تُنسي المرء طعم المعاناة، وهو ينتظر إلى جانب ذلك من الله حُسْنَ العاقبة.
بقي أن أقول: إن أمة الإسلام بأمسّ الحاجة اليوم إلى منارات تضيء الطريق، ويتخذ الناس منها أسوة وقدوة في مختلف مجالات الحياة. ومن الواضح أن من العسير أن يجعل المرء من نفسه قدوة في جميع شأنه، فليحاول الواحد منا أن يكون قدوة في(115/1165)
جانب من جوانب شخصيته ومسيرة حياته، كأن يقدم نموذجاً راقياً في بِرِّ والديه، أو خدمة إخوانه، أو المحافظة على الوقت، أو إتقان التخصص، أو التفوق الدراسي.. وإذا فعل ذلك 5% من المسلمين فإن تغييرات جذرية ستطرأ على حياة أمة الإسلام، وسنلمس آنذاك نهضة اجتماعية هي أعظم مما نتصور، فهل من مُجَرِّب؟
______________
(*) من كتاب (اكتشاف الذات).
ـــــــــــــــــــ
داعية فاشل.. لماذا؟!
شادي الأيوبي
19/8/1425
ارسل تعليقك ...
لا توجد تعليقات ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
هذه كلمات لكل من يصدع بالدعوة إلى الله، ثم يقلب ذات يوم كفيه، وينظر في أمره بعد سنين من الدعوة- كما يظن- فلا هو غير شيئاً فيمن حوله، ولا أضاف شيئاً، ولا أنقص شيئا، بينما يحالف التوفيق غيره خلال مدة قليلة، فترى الناس التفت حوله، واجتمعت عليه، وسمعت كلامه، فسبحان الذي مَنَ على أفضل خلقه بمحبة الناس له، وتوددهم إليه.
الدعوة إلى الله _سبحانه وتعالى_ تُبتلى من حين لآخر بمن يفرضون أنفسهم عليها دون أن يكونوا أهلاً لدعوة ولا لصحبة ولا حتى لكلمة واحدة تقال في مجال الوعظ بين الناس.
والله _سبحانه وتعالى_ لا يوفق لهذه الدعوة من لم يحكموا بينهم وبين غيرهم بالإنصاف، أما الذين يرفعون أو يميزون أنفسهم قليلاً عن الناس، فهؤلاء مرفوضون لا شك وإن اغتر بهم الناس لمدة ما، فهذه هي الدعوة الوحيدة التي لا تقبل في صفوفها إلا من جعل من نفسه سهلاً منبسطاً للناس، وقبل منهم الطبائع المختلفة، وسعى في خدمتهم والسؤال عنهم دون أن يرى بذلك أي فضل لنفسه، ودون أن يطلب منهم أي جزاء مادي أو معنوي.
إذا فتشت نفسك بعد طول وعظ وإرشاد فما وجدت لنفسك مكاناً في قلوب الناس، وما وجدت لكلامك صدى في أفعالهم وأقوالهم، فجدير بك أن تقف مع نفسك وقفة صدق تسأل فيها عن السبب
الدعوة إلى الله سر؟؟
نعم الدعوة إلى الله سر، لكنه سر غير خفي، على أنه رغم وضوحه لا يُوفَّقُ إليه غير القليلين القليلين، ممن توافرت فيهم صفات كثيرة، وهذه بعض أسرارها الخفية الظاهرة:(115/1166)
من جميل هذه الدعوة أنها تعطي صاحبها طالما تعفف، فإذا تطلع إلى شيء من الكسب أو التكسب منها، نفرت منه الدعوة ونفر منه المدعوون.
وأنها ترفعه طالما تواضع للناس، فإذا رأى لنفسه شيئاً من الفضل، نبذته الدعوة وتخلصت منه قبل المدعوين..
وأنها تجعل الناس في خدمته طالما كان خادماً للناس، فإذا طلب من الناس خدمته نفروا منه وتركوه ونسوا كلامه..
وأنها تجعله مطاعاً مسموع الكلام طالما كان مطبقاً لما يدعو إليه، فإذا تحول إلى مُنظِر لا يفعل ما يقول، ولا يلتزم بما يدعو إليه، فلا سمع ولا طاعة بل لا ود ولا محبة..
وأنها تجعل كلامه محبوباً طالما تجنب التشدق والتعجرف والكلام عن نفسه، فإذا طلب تنميق الكلام وزخرف القول، صار واحداً من خطباء الكلام يخاطب الأسماع، لكن كلماته لا تصل إلى القلوب...
الأخ الداعية..الأخ الخطيب أو الواعظ.... اسمع كلمات تخرج من قلبٍ مشفق محب، لم يجمعه بك غير الحب لهذه الدعوة، وحب الخير للناس:
هذه الدعوة مدرسة عظيمة.....
لا يوفق إلى دخولها إلا المخلصون،
ولا يستمر فيها إلا الأشد إخلاصاً،
ولا يتخرج منها إلا من لا يرون لأنفسهم أي فضل،
ولا يتميز من خريجيها إلا من يرون الفضل لكل أحد من الناس إلا لأنفسهم..
إذا فتشت نفسك بعد طول وعظ وإرشاد فما وجدت لنفسك مكاناً في قلوب الناس، وما وجدت لكلامك صدى في أفعالهم وأقوالهم، فجدير بك أن تقف مع نفسك وقفة صدق تسأل فيها عن السبب أو عن الأسباب..
كيف تفهم من أنت في قلوب الناس؟؟
إن من جميل الأمور أن العامة لا يخفون مشاعرهم، أو لا يمكنهم إخفاؤها، فإن كان فيهم مدارٍ واحد ففيهم الكثيرون من المفطورين على الإفصاح بمكنونات أنفسهم دون مواربة، وهذا قد يكون جارحاً في بعض الأحيان، لكنه من أصدق المعايير وأوضحها..
هناك موهبة جميل بالداعية إلى الله أن يمتلكها، وهي قراءة القلوب، وقراءة القلوب تعني فهم ما يشعر به الناس نحو هذا الداعية، هل يحبونه أم يبغضونه أم لا يبالون به؟ وبما أن القلوب لا يعلم أمرها إلا الله، فعليه أن يقرأها من خلال علامات الوجوه وزلات الألسنة، فهذه من الصعب إخفاؤها.
فإذا رأيت من العامة الحب لك والتعلق بكلامك، ومحاولة تطبيقه فاعلم أنك في فضل من الله، فاسع إلى المزيد منه، بالإخلاص التام في القول والعمل.
أما إذا رأيت منهم الجفاء عنك والإعراض عن كلامك ففتش: من أنت؟ وما تقول؟ وما تفعل؟
نعم من أنت؟؟ هل أنت حقاً داعية إلى الله بحق أم أنك تجرب أن تضيف إلى نفسك موهبة الخطابة بين الناس؟؟(115/1167)
وما تقول؟؟ هل كلامك كلام من داعية إلى الله أم أنه كلام أديب أو فصيح أو متشدق لا علاقة له بالدعوة و الدعاة؟؟
وما تفعل؟؟ هل أفعالُك تسبق أقوالك، أم أنك لا تجعل صلة بين هذه وتلك؟؟
بعد هذا هناك أمور جدير بالداعية الإنتباه لها تخص الخطبة نفسها منها:
إياك أن تجعل من نفسك موضوع الحديث!!!!
بعض الكلمات قد لا تكون مدحاً مباشراً للنفس، لكنها تفصح عن اعتداد كبير بها، وهي مزعجة للسامع، منفرة من الخطيب ومنها، على سبيل المثال: أنا أعلم أن بعضكم يفعل كذا، بلغني أن أحد الناس قال عني كذا، رأيي أن، أنا أقصد كذا، أنا لا أخاف أحداً في الله، وغيرها كثير كثير..
التعريض بالناس ممنوع:
بعض الخطباء يعرضون بالناس أو ببعضهم بعد حوادث معينة، ويظنون أنهم ببعض المواراة لن يعرف أحد من يقصدون، فيتكلمون بكلام جارح فاضح، ويظنون أنهم يحسنون صنعاً، وهكذا يتناقص المستمعون حسب الظروف؛ لأن الخطيب المفوه، لا يترك فرصة للتعريض بالناس والتنديد بأخطائهم..
لا تتكلم في الهلاميات والفلسفات والكلام غير المفهوم:
وهذه مسألة صار لبعض الناس شغف بها، فهم مولعون بالتفصح الذي يصل إلى الكلام غير المفهوم، وبعضهم يلجأ إلى كتب الأدب ليحفظ منها العبارات الغريبة العجيبة، ليظهر للناس أنه قادر على الإتيان بكلام لا يستطيعون فهمه، وحبذا لو نظر هؤلاء إلى النبي _عليه الصلاة والسلام_ فقد أوتي جوامع الكلام، ومع هذا فكلامه يفهمه البدوي والحضري، والمتعلم والأمي، والشاب والعجوز.
لا تكلف الناس بما لا يطيقون:
لا ينبغي للخطيب أن يكون مثالياً إلى درجة السذاجة، فيطالب الناس أن يكونوا ملائكة لا يخطؤون ولا يزلون، بل إن من الحكمة والواقعية توقع الأخطاء والزلات، والتعامل معها بسمو وبعد نظر، وتوصيف العلاج لها من بعد النظر العميق في حال صاحبها، فقد كان الرجال يأتون إلى النبي _عليه الصلاة والسلام_ فيسألونه عن الأمر الواحد فيجيب كل واحد منهم بما يناسب حاله وفهمه وعقله.
ليست العبرة بطول الخطب ولا بكثرة الكلام لكن في تأثيره:
بعض الناس يظنون أنهم بخطبة في مسجد أو درس عام، يؤدون واجبهم، وأنهم قد فعلوا الشيء الكثير الذي يستحقون عليه الحمد والشكر، ويسمون أنفسهم بهذا دعاة إلى الله، لكن من الجدير بهؤلاء أن ينظروا إلى ما تركوه وراءهم، بكلام آخر هل تغير شيء في السامعين، أم أنهم يسمعون الخطيب لعدم وجود غيره، هل لو ترك مكانه ورحل إلى مكان آخر فلن يترك وراءه من يذكره بالخير ويدعو له؟؟
المهمة لا تنتهي بالانتهاء من الخطبة أو الدرس:
من الخطأ أن يسرع الخطيب أو المحاضر بالمغادرة بعد كلامه، فالناس لديهم أحوال وحاجات وشكاوى وهموم واستفسارات، وهم معتادون أن يبوحوا بها لمن يرون من أهل الصلاح والخير، لذلك يجدر بالخطيب أن يبقى بعد الصلاة ليسلم على الناس(115/1168)
ويسمع منهم، فهو بهذا يتيقن من تأثير كلامه، ويسمع تعليقاتهم واستفساراتهم، ويعيش همومهم وقضاياهم، بدل التحليق في فضاء النظريات والكتب التي يقرؤها.
لا تحرم من كلمة طيبة ومن بسمة صادقة:
الكلام الطيب والبسمة الصادقة مفتاح تملك به القلوب، فمن كان عديم البضاعة منهما ليس له حظ في حب الناس أو التأثير فيهم، الناس قد يسمعون من أي خطيب، وقد يتأثرون بكلامه نوعاً ما احتراماً لأمر الله، لكن الله_ سبحانه_ يجعل في قلوب الناس حب المرء المبتسم الوجه، الطيب الكلام، السهل في غير ذلة، والألوف في غير تزلف، وهذه مواصفات يجعلها الله فيمن يشاء من عباده، ليكونوا دعاة إلى الله وشهداء على الناس.
احترم المكان الذي تتكلم فيه:
الذي يعتلي المنبر يجب أن يفهم أن الأمر تكليف لا تشريف، وأن هذا المنبر هو منبر النبي _عليه الصلاة السلام_ فلا يحق له إهانته أو الحط من شأنه، فعليه أن يصبر على أذى الناس، وعليه تحمل شكاويهم، وعليه السعي بينهم بالخير، والصلح بين المتخاصمين منهم، والمباركة للمحتفل، والتعزية للحزين، وعليه أن يفهم أنه مثل الطبيب تماماً، فلا يحق له أن يغلق بابه دون الناس، أو أن يقفل الهاتف، أو أن يجيب بجفاف على متصل أو مستفسر.
أما إن كان مبتلى بخلق ضيق، وقلة صبر على العامة، وتسرع في الكلام، وحدة في الطباع، فعليه أن يجاهد نفسه حتى يتعلم اللين للناس، والتواضع لهم، والصبر على مسائلهم، فإن نجح في الأمر فذلك فضل من الله، وإلا فخير له أن يتركه؛ لأنه سيصبح فتنة للناس لا هادياً لهم.
ومن المفيد إيراد ما ذكره البعض في تفسير قوله _تعالى_ من سورة الغاشية: "أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْأِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ" (الغاشية:17- 22). قال: عليك أن تكون بصبر الجِمال، ورفعة السماء، وثبات الجبال، وسهولة الأرض وانبساطها، ثم بعد امتلاك هذه الميزات أن تصدع بالدعوة، مع هذا فلن تكون مسيطراً عليهم، فإنما أنت مجرد مذكر، أما الهداية فهي هدية الله لمن شاء من عباده.
لك الأجر في الدنيا قبل الآخرة:
في الختام، الخطيب والداعية المخلص ينتظر الأجر من الله، على أنه ينال من حب الناس ودعائهم ورفعهم من مكانته وتقديمهم له، ما يجعله في خير كثير، وقد قال ابن القيم _رحمة الله عليه_:" طوبى لمن بات وألسن الناس تدعو له، والويل لمن بات وألسن الناس تلعنه".
وحب الناس للمرء ودعاؤهم له من عاجل بشرى المؤمن، فنسأل الله أن يعجل لنا البشرى في الدنيا قبل الآخرة.
ـــــــــــــــــــ
الأسرة: نقطة البداية ومهدداتها1/2
أسماء عبدالرازق(115/1169)
20 / 7 / 1425
ارسل تعليقك ...
لا توجد تعليقات ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
الإنسان أطول المخلوقات طفولة، فمتوسط أعمار هذه الأمة بضع وستون عاما والطفولة اثنا عشر عاما تقريبا، فهي تمثل نسبة (5:1)، وتلك نسبة كبيرة لا تكاد توجد مثلها بين المخلوقات، فطفولة القط مثلا نحو شهرين بينما متوسط عمره عشر سنوات وهذا ما نسبته (60:1)، وقد جعل الحكيم الخبير الإنسان مستخلفاً في الأرض، ولأنه حامل الأمانة التي أبت السماوات والأرض والجبال أن يحملنها وأشفقن منها، فكان لابد من اكتسابه خبرات طويلة، وإعداده لحمل الأمانة بدنياً ونفسياً وعقلياً واجتماعياً، وقبل ذلك كله إيمانياً وخلقياً.
وأداء واجب الخلافة في الأرض يكون بنشر دين الله الذي ارتضاه بين الناس، ولما كانت المبادئ النظرية لا تعيش فضلاً عن أن تنتشر إلاّ على أجساد الأجيال، فتكون سلوكا تطبيقياً يحرك الأجسام، كان من الأهمية بمكان أن يكون كل فرد نموذجاً مجسّماً للإسلام، يراه الناس فيرون الإسلام، وهذا ما فعله المربي الأعظم عليه أفضل الصلاة والسلام، "لقد كان هدفه الأول أن يصنع رجالاَ لا أن يلقي مواعظا، وأن يصوغ ضمائر لا أن يدبج خطباً، وأن يبني أمة لا أن يقيم فلسفة، لقد صاغ من فكرة الإسلام شخوصاً، وحول إيمانهم بالإسلام عملاًَ، وطبع من المصحف عشرات النسخ، بل مئات وألوف، لكنه لم يطبعها بالمداد على صحائف الورق، بل طبعها بالنور على صفحات القلوب، ثم أطلقها تعامل الناس تأخذ منهم وتعطي، وتقول بالفعل والعمل ما هو الإسلام الذي جاء به محمد بن عبدالله عليه الصلاة والسلام"(1) . وهذه هي مهمة أمة الرسالة. أن تصوغ من الإسلام شخوصاً تمشي على الأرض وقلوبها متعلقة برب السماء.
الإنسان أطول المخلوقات طفولة، فمتوسط أعمار هذه الأمة بضع وستون عاما، والطفولة اثنا عشر عاما تقريبا، فهي تمثل نسبة (5:1)،
ولتحقق ذلك لابد من سلوك سبيل تربية طويل للنشء، زاد قاصده حصيلة أعوام من التربية الذاتية، أو موروث ثمين من المؤن التربوية.
والخطوة الأولى في طريق التربية بناء الأسرة المسلمة التي تعرف ما الذي يراد منها، وتملك من الوسائل ما يبلغها الغايات. وهذه هي أهم الخطوات، ولذا كان التشريع للأسرة يشغل حيزاً كبيراً من تشريعات الإسلام, وقدراً ملحوظاً من آيات القرآن. فالتربية تبدأ من هنا.. جاء أحدهم إلى مالك بن نبي يسأله كيف يربي ولده، فسأله كم عمره؟ قال: بضعة أشهر فقال له: لقد تأخرت كثيراً يا أخا العرب!
إن الطفل يقضي أشد فترات عمره حساسية بجانب أمه، فالسنوات الخمس الأولى تتشكل فيها الملامح العامة لشخصية الطفل، وأي خطأ تربوي، وكل هزة نفسية فيها تحدث شرخاً عميقاً ربما عزّ علاجه. لذا كان من حق الولد على أبيه أن ينتقي أمه،(115/1170)
فالناكح مغترس، والعرق السوء قلما يَنْجُب، فلينظر امرؤ حيث يضع غرسه. كما يحسن أن يغترب ما استطاع لئلا يُضوِ، فكلما تباعدت الخريطة الجينية كان أصح للولد وأنجب.
كما أن على المرأة كذلك ألا ترضى بغير ذي دين يعرف حقها، وذي خلق يحسن صحبتها، ويكرم بنيها، وما عدا ذلك عرض تأتي به الأيام وتذهب، وبيت أبيها خير لها من زوج شكسٍ غضوب، وابن عاق عاص.
إن أعداء الأمة يعلمون أن السبيل لإضعاف الأجيال المسلمة هو خلخلة قواعدها وإضعاف أساسها، فلا غرو أن تراهم في عمل دءوب يرمي إلى تصديع كيان الأسرة وإشاعة التوتر والاضطراب فيها، باسم تحرير المرأة تارة، ودعاوى مناهضة التمييز تارة أخرى. يستغلون لذلك الإعلام والمنظمات الدولية، ويعقدون من أجله المؤتمرات الإقليمية والعالمية، ويبتكرون وسائل شتى في سبيل إعادة تشكيل العقول وصياغة المبادئ من ناحية، وإرغام المارقين على المخطط الأثيم من ناحية أخرى.
إن صيحات المساواة والحرية والانفلات من قبضة الرجل كما يحلو للمستغربين أن يقولوا لتهز كيان الأسرة هزاً، وتمزق نفسيات الصغار تمزيقاً. فالمرأة التي تنازع زوجها القوامة إنما تجني على نفسها أولاً، ثم على بنيها وزوجها. إنها تخطئ ألف مرة حينما تتصور أن القوامة تعني التسلط والسيطرة كما يردد أدعياء الحرية والتمدن، واللغة والشرع يشهدان بغير ذلك. فالقيم على الشيء هو الذي يصلح أمره، ويقيم أوده، ويلم شعثه.
إن أعداء الأمة يعلمون أن السبيل لإضعاف الأجيال المسلمة هو خلخلة قواعدها وإضعاف أساسها، فلا غرو أن تراهم في عمل دؤوب يرمي إلى تصديع كيان الأسرة وإشاعة التوتر والاضطراب فيها
والشريعة ناطت خيرية الرجال بإحسانهم إلى أهلهم، ونبي الإسلام كان أرفع مثل في ذلك. والله العليم الحكيم جعل المرأة والرجل شطرين لنفس واحدة، ليسكن أحدهما للآخر، ويكمل أحدهما صاحبه. فالعلاقة بينهما ليست علاقة تصارع وتغالب، لكنها علاقة تكامل وتعاون.
أما الآية الوحيدة التي تعجب المتحررين المشفقين على المرأة من شرع خالقها، فهي التي يرددون جزءها: (فاهجروهن في المضاجع واضربوهن) بمناسبة وغير مناسبة، ولا يعلمون أنها جاءت في مقابل تقصير المرأة في أوجب واجباتها وإصرارها على ذلك بعد وعظها وتذكيرها. أو يعلمون ويتجاهلون!
إن المرأة كسائر عناصر الطبيعة مخلوقة بمواصفات معينة، يصلحها ما يناسب الذي فطرها عليه أحسن الخالقين، فإذا انقلبت على خِلقَتها وأبت إلاّ أن تكون خلقاً آخر شقيت وتعست وربما أشقت وأتعست وكانت عاقبة أمرها خُسرا. إن التشريع الرباني يراعي عند توزيع الأعباء على شطري النفس الواحدة، يراعي الاستعدادات الفطرية الموهوبة لكل منهما.
إن الصراع على السلطة في مملكة البيت كما يقولون والتي هي عبء يثقل مطا الرجال، ليخلق صراعاً مدمراً محتدماً في نفوس الأطفال، حتى ولو حاول الوالدان إبعاد الطفل عن هذه المعارك أو حاولا إخفاءها عنه، "فالذي ينشأ في أسرة مضطربة(115/1171)
يتوقع دائما أن تكون حياته الزوجية مليئة بالنكد والخلافات والصراع وجرح كرامة الآخر، بل يسعى دون أن يشعر لخلق المشاكل في حياته العامة والخاصة. إن الذي كان يلعب في طفولته دور الضحية لخلافات الأبوين ويتألم لذلك يصبح في الكبر جلاداً، ويجد لذة في ممارسة هذا الجلد النفسي للآخرين"(2).
أما إذا انتهى الصراع بفوز الأم واستطاعت أن تثبت أنها شرسة قوية! ليست بحاجة إلى وصاية، وأن قبضتها الحديدية لن يفلت منها صغير ولا كبير فما أتعسها وما أتعس بنيها!
لقد أثبتت دراسة نفسية أن الولد يولد بذكورة فطرية ويسعى لاكتساب صفات الرجولة بتقليد صاحب السلطة في البيت، فإن كان قيم الأسرة أباه كمّلت صفاته الرجولية المكتسبة ما فطر عليه، وإلا اكتسب من صفات أمه وعاش وفيه شيء من أنوثة، وقد قرر علماء الاجتماع أن نسبة الشذاذ بين هؤلاء أكبر من غيرهم.
وبالمقابل تولد البنت رقيقة لطيفة لينة فإن صادفت أما متسلطة تأثرت بأبيها وجاءت مسترجلة "وهذه ستجد نفسها غير قادرة على احترام الرجال أو الثقة بهم مهما حققوا من نجاح في حياتهم العملية"(3).
____________
(1) سيد قطب: دراسات إسلامية، فصل انتصار محمد بن عبد الله، بتصرف يسير.
(2) د.سبوك: حديث إلى الأمهات، مشاكل الآباء في تربية الأبناء، ص327، بتصرف.
(3) د. سبوك، المصدر السابق، ص330
الأسرة: نقطة البداية ومهدداتها2/2
أسماء عبد الرازق
12/8/1425
ارسل تعليقك ...
لا توجد تعليقات ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
الأمر الثاني الذي يهدد بيوت المسلمين في زماننا هذا: عمل المرأة الخالي من القيود.
إن ذلك العمل الذي يُصَوَّر على أنه حق أصيل للمرأة يحقق ذاتها، ويدلل على إنسانيتها، ويحررها من التبعية لزوجها الذي يسخرها في بيته بأجر الكسوة والإطعام.. ماهو إلاّ عبء أرادوا أن يثقلوا به مطاها، أو يتخذوه ذريعة لعبثهم! أو يُعقل أن العالم المتحضر لا يستثير عطفه ولا يستدر شفقته شيء مثل المرأة الشرقية الكسيرة المهيضة الجناح، التي تنقل من حبس أبيها لسجن زوجها ثم حفرة قبرها! وهل أنت أيتها المسلمة كذلك؟ أحقاً أنت خاملة في بيتك، وبقاؤك فيه تعطيل لنصف المجتمع؟ أصدقوا يوم قالوا بأن دورك في بيتك يمكن أن تؤديه أية خادمة؟ أتعتقدين أن دُور الحضانة –كما زعموا- فيها متخصصات أكثر منك إدراكاً لنفسيات أبنائك، وأكثر علماً بحاجات فلذات أكبادك؟(115/1172)
لا.. لا تعليق ولا جواب...
إن العنصر البشري أثمن ما في الدنيا على الإطلاق، ومؤسسة الأسرة أهم مؤسسات الدنيا قاطبة، ولذا كان لابد من تحديد المسؤوليات فيها على نحو دقيق جداً، وهذا ما أحكمته شريعة الإسلام، "فالله _تعالى_ أوجب على الرجل النفقة وجعلها فريضة، كي يتاح للأم من الجهد ومن الوقت ومن هدوء البال ما تشرف به على الفراخ الزغب، وما تهيئ به للمثابة نظامها وعطرها وبشاشتها، فالأم المكدودة بالعمل للكسب المرهقة بمقتضيات العمل المقيدة بمواعيده المستغرقة الطاقة فيه، لا يمكن أن تهب للبيت جوه وعطره، ولا يمكن أن تمنح للطفولة النابتة فيه حقها ورعايتها.
فحقيقة البيت لا توجد إلا أن تخلقها امرأة وأريج البيت لا يفوح إلا أن تطلقه زوجة، وحنان البيت لا يشيع إلا أن تتولاه أم
فحقيقة البيت لا توجد إلا أن تخلقها امرأة وأريج البيت لا يفوح إلا أن تطلقه زوجة، وحنان البيت لا يشيع إلا أن تتولاه أم"(1).
والأطفال لهم وراء حاجات المأكل والملبس والعناية الطبية حاجات نفسية لا تلبيها دُور الرعاية والمحاضن الاصطناعية، وهذه حقيقة يقر بها اختصاصيون راسخون. يقول الدكتور (راي ليفي)، والأستاذ (بيل أوهانلون) في تعليقهما على السلوكيات المضادة للمجتمع، والتي أخذت في التفشي في مدارس الولايات المتحدة: "خصص وقتاً أكثر لطفلك. إن قضاء كمية كبيرة من الوقت يعد هاماً بصفة خاصة مع الطفل العنيد. حتى قضاء وقت دون عمل شيء معين مع الطفل يعد مفيداً. ربما تكون قد سمعت عن نوعية وجودة الوقت، ولكننا لا نتحدث عن ذلك. إننا نتحدث عن كمية الوقت التي تقضيها مع الطفل"(2).
إن المربيات في دور الحضانة في أحسن الأحوال أمهات صناعيات، يشترك فيهن مع الطفل عشرون غيره. والفرق بين الأم والأم الصناعية مثل الفرق بين حليب الأم والحليب الاصطناعي!
أما الخلفية الثقافية والعقدية للمربية وما يمكن أن تقدمه للطفل من هذا الباب فذاك ما يجب أن يدفع كل أم على التفكير ألف مرة قبل أن تقذف بابنها في واحدة من تلك الدور مهما كانت الأسباب. إن المسلمة ينبغي أن تعي جيداً أن مهمتها الحقيقة تبدأ بعد الإنجاب، وأن صياغة ضمير الأمة وتشكيل عقلها مهمة وأي مهمة! فلا ينبغي أن تتركها أبداً لخادمة أو موظفة من أجل أن تتفرغ لجمع دريهمات أو تحصيل شهادات لا تدفع بالأمة شبراً واحداً إلى الأمام. إن أبناءنا يجب أن يُصنعوا على أعيننا، ولا ينبغي أن نترك للخادمة من أمر الطفل شيء البتة. حتى مجرد تنظيف الطفل ليس عملاً آلياً، بل يعده الطفل مِنَّة كُبرى لا ينبغي أن يتفضل عليه بها أحدٌ غير أبويه، ولقد رأيت أطفالاً يتوسلون إلى أمهاتهم ألا يُنِبْنَ غيرهنّ في ذلك، وآخرين يرفضون رفضاً حاسماً أن تمتد إليهم يد غريبة بمنة لغير حاجة ملحة!
إن الله _تعالى_ لم يعف المرأة من الضرب في مناكب الأرض لتتطوع هي بذلك تاركة دورها الذي تعبدها الله به لغيرها، وأقلّ ما يمكن أن يقال في هذا: إنه تنكبٌ للطريق، وإعراض عن الجادة، ما لم تدع حاجتها أو حاجة أمتها إليه شريطة أن لا تضيّع مَنْ تَلي من أولاد، وإلاّ كان عملها: "كارثة على البيت قد تبيحها الضرورة،(115/1173)
أما أن يتطوع بها الناس وهم قادرون على اجتنابها، فتلك هي اللعنة التي تصيب الأرواح والضمائر والعقول، في عصور الانتكاس والشرور والضلال.. فأما خروج المرأة لغير العمل، خروجها للاختلاط ومزاولة الملاهي، والتسكع في النوادي والمجتمعات... فذلك هو الارتكاس في الحمأة الذي يَرُدُّ البشر إلى مراتع الحيوان"(3).. إن على المسلمة أن تضع نصب عينيها دائماً وظيفتها الأساسية التي تبين قيمتها الحقيقية ألا وهي إصلاح الدنيا بتربية الذرية، وتهيئة السكن والطمأنينة لهم ولزوجها في عالم مضطرب، فواجب المرأة إذن إصلاح العالم، لا جمع الدراهم.
إن المرأة في الغرب تعمل لتعيش، فالقانون لا يلزم أحداً بالإنفاق عليها وحمايتها ما دامت غير قاصرة، وبنظرة منصفة إلى حال المرأة في المجتمعات المادية وهي بنتٌ يعبث بها العابثون، وهي زوجةٌ تكدح ولا تكاد تأوي إلى بيتها إلا وهي كالة مكدودة لتشارك زوجها إيجار المسكن وأقساط السيارة، وهي أمٌ يرميها أبناؤها في النهاية –يوم ترد إلى ضعف أرذل العمر- في إحدى دور المسنين، كما قذفت بهم في البداية –يوم كانوا في ضعف أول العمر- في إحدى دور الحضانة. حالها لا يداني أبداً حال المسلمة التي يحميها أبوها ويصونها زوجها ويبرها أبناؤها ولا مِنَّة، بل هي حقوق كفلتها لها شريعة ربانية سمحة، أما ما تتعرض له المسلمة في بعض المجتمعات من ظلم أو قهر فسببه أن تلك المجتمعات حادت عن الإسلام إما فهماً أو تطبيقاً.
أما التحدي الثالث الذي يواجه الأسرة المسلمة فإنها دعوات تحديد النسل، وقد لعب الإعلام دوراً بارزاً في تشويه صورة المرأة الولود، وأفلح في ربط ذلك عند كثيرٍ بالتخلف وعدم المدنية. والمشكلة ليست تسخير الإعلام، فذلك شأن الجاهليات، جميعاً وقد لقي أنبياء الله عنتاً من الحملات الإعلامية التي روج لها أكابر المجرمين، ولكن المشكلة أن تسقط المسلمة أمام الدعاية وتنطلي عليها الخدعة. حتى صار من المألوف أن تردد الواحدة منهن بملء فيها في المجامع أنها تكتفي باثنين أو ثلاثة، وتتباهى بالفرق الكبير بين أبنائها، وترى الواحدة منهن وهي تردد مثل هذا الكلام الذي يدل على قلة ثقافتها الإسلامية وضعف ارتباطها بسنة نبيها، تراها جذلة متباهية؛ لأنها ببساطة ليست همجية كما تظن، بل بالأصح كما جعلتها (المسلسلات) تظن، والمسكينة لا تدري أنها سقطت بذلك في مخططٍ خبيث يجتمع عليه اليهود والنصارى والهندوس.. وغيرهم بأذنابهم!
"لقد صار تحديد النسل المسلم بنداً مهماً في المعاهدات والاتفاقيات والبروتوكولات التي توقع بين الدول الكبرى ودول المسلمين عامة، ومصر بصفة خاصة، والمتتبع للعلاقات المصرية الأمريكية كنموذج، يجد أن موضوع تحديد النسل المصري المسلم متداخل مع موضوع المعونات الاقتصادية، وأقول النسل المصري المسلم؛ لأن الكنيسة المصرية أعلنت مراراً وتكراراً أن موضوع تحديد النسل غير وارد في ملتهم، ولا يجوز لأتباع المسيح أن يفكروا فيه"(4).
إن الكلام عن مجرد تنظيم النسل –لا تحديده- ينبغي أن ترمي به إلى مراعاة مصلحة الرضيع، وصحة الأم إن نصح الطبيب بذلك، أما فقط لأن الأم مَلّت، أو أنها تحب أن تكون رشيقة أو أنيقة فذاك أمر لا ينبغي أن يكون على حساب زينة الدنيا من البنين.(115/1174)
والأم كما يقول أهلنا: "لا تشتغل بالمجان!" فإن الوهن الذي يصيبها في الحمل والمخاض، والعنت الذي تلقاه في السهر والإرضاع هو أجر مذخور، وعمل متقبل مبرور، إن هي أخلصت وصبرت واحتسبت، والجنة تحت أقدام الأمهات.
فلنحرص على بناء أسر قوية، ولنجعلها كما أراد الله لها أن تكون آية من آياته، وواحدة من أعظم منَنِه وهباته، ولنتعهد غرسنا ليثمر صلاحاً ننعم به ما حيينا، ونلقاه مذخوراً لنا إن فنينا، بل يتعدى نفعه للإنسانية جميعاً، إعماراً للأرض بالعلم والسعي في مناكبها، وأخذاً بيد الحيارى الضالين الشاردين من رحمة الله، المحرومين من نعمة الإيمان.
ولنجعل بيوتنا محاريب طاعة وبيوت دعوة، ولنلهج بدعاء الأنبياء والصالحين، "رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ" (آل عمران: من الآية38)، "رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً" (الفرقان: من الآية74)، "رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ" (إبراهيم:40).
___________
(1) سيد قطب: في ظلال القرآن، آية الأحزاب "وقرن في بيوتكن".
(2) راي ليفي وبيل أوهانلون: حاول أن تروضني، ص102،103، بتصرف.
(3) سيد قطب: الظلال، الأحزاب (وقرن في بيوتكن).
(4) د.زيد بن محمد الرماني: المرأة المسلمة بين الغزو والتغريب، ص38-39.
ـــــــــــــــــــ
مزالق الطريق(*)
د. محمد العبدة
5/8/1425
ارسل تعليقك ...
لا توجد تعليقات ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
ليس المصلح من يُعلِّم الناس الخير، ويلقنهم حب الفضائل، ويتعلمون منه أنواع العلوم فيحفظونها ويطبقونها، ولكن من يحتاط ويحترس، ويخشى من زغل العلم ودخائل النفس وخباياها، فينبه إلى المزالق، ويقطع على تلامذته طرائق الفهم الخاطئ، أو وضع الكلام على غير مواضعه؛ وذلك لأن للنفوس عاهات تعتريها من شغف بالغرائب، وحب للظهور والتعالم، فالمربي هو الذي يحرس هذا العلم من أن تتلاعب به الأهواء فتحمله على ما تريد وتصل به إلى مدى لا تحمد عقباه، كما يحرسه من أنصاف المتعلمين الذين لم يرسخوا فيه.
وعندما تطلق العبارات العامة أو المجملة دون تخصيص أو تفسير فإن الناس يحملونها على غير محملها؛ وهذا ما يربك الأفهام، وخاصة إذا تعلقت بأمر من أصول العقائد كالولاء والبراء، أو الإيمان والكفر أو بالمفاهيم الأساسية للإسلام،(115/1175)
ومن هنا ينشأ التفرق والاختلاف، وتتشعب الآراء والأفكار، وذلك لنقص العملية التربوية.
إن منهج الاحتراس وسد الكُوى منهج قرآني جاءت به آيات كثيرة، قال _تعالى_: "لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً" (النساء:95)، وقال _تعالى_: "فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى" (الأنفال: من الآية17).
ليس المصلح من يُعلِّم الناس الخير، ويلقنهم حب الفضائل، ويتعلمون منه أنواع العلوم فيحفظونها ويطبقونها، ولكن من يحتاط ويحترس، ويخشى من زغل العلم ودخائل النفس وخباياها، فينبه إلى المزالق
وهو منهج نبوي، فقد كان _صلى الله عليه وسلم_ إذا تكلم يعيد الكلمة ثلاثاً لتُعْقَل عنه، ومن صفة كلامه أنه بَيِّنٌ فَصْل يحفظه من جلس إليه، وقد عَلَّم المسلمين التأدُّب مع الأنبياء حتى لا تقع منهم الهفوة ولو كانت غير مقصودة، قال _صلى الله عليه وسلم_: "ما ينبغي لعبد أن يقول: إني خير من يونس بن متى"، وعندما قال له رجل: يا رسول الله يا خير البرية! قال: "ذاك إبراهيم".
وهذا منهج سلفي، فقد خشي التابعي الفقيه عبيدة السلماني أن يضع الناس كتبه على غير مواضعها، فدعا عند موته إلى محوها ورعاً، وقد تكلم الحسن البصري بكلمة حملت على أنها مغايرة لمنهج أهل السنة، قال ابن عون: "لو علمنا أن كلمة الحسن تبلغ ما بلغت لكتبنا برجوعه كتاباً وأشهدنا عليه شهوداً، ولكن قلنا: كلمة خرجت لا تحمل".
إن في العالم الإسلامي اليوم نهضة علمية، وطلبة علم حريصين كل الحرص على تلقيه وحفظه، وهم حريصون على لقاء العلماء والمربين، فإذا لم يكن العالم ربانياً عارفاً بدخائل النفوس، يعطي طالب العلم ما يحتاجه ويعيه كان عاقبة ذلك الغلو والتفرق، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، وهذا أمر لا يسر من كان همه مصلحة الدعوة وانتشار الإسلام، وإذا كانت هذه الآفات موجودة في واقعنا اليوم، فكم نتمنى على المربين التنبه لها، وسد هذه الثغرة ليكون البناء سليماً.
قلت في خاطرة سابقة: إن شبكة العلاقات الاجتماعية بين المسلمين واهية ضعيفة، وإن لم تكن بعض حبالها قد تقطعت، ومن الظواهر البارزة التي يعرفها الجميع، مما يمارسه بعض العاملين في مجال الدعوة من سياسة (الإهمال) لإخوانهم، سواء أكان هذا عن عمد أو غير عمد.
وهي سياسة فاشلة من جميع الوجوه؛ لأن الأصل في عقد الأخوة المصارحة والمناصحة، والأمر بالمعروف والشفقة والرحمة، وتفقد الأحوال كما كان يفعل رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ حين وصف بأنه يتفقد أصحابه، حتى أنه يسأل عن المرأة العجوز التي كانت تقُمُّ المسجد حين افتقدها.
وهي سياسة فاشلة؛ لأن الأخ (المُهمَل) سيتألم جداً، بل ربما أصيب بعُقَد نفسية وإحباط شديد – وهذا قد وقع – إلا إذا كان قوي النفس، قوي الإيمان كما فعل كعب(115/1176)
بن مالك – رضي الله عنه – عندما هُجِر من الرسول _صلى الله عليه وسلم_ والصحابة بسبب تخلفه عن غزوة تبوك، فقد كان يحضر الجماعة، ويسلم على المسلمين ولكن لم يكن أحد يرد عليه، وأراد ملك الروم استغلال ذلك، ولكن كعباً كان مستعلياً بإيمانه فصبر حتى جاء الفرج من السماء.
وهي سياسة فاشلة؛ لأنها تعني أن الدعوة لم تستطع معرفة الرجال ومعرفة القدرات والطاقات، ووضع كل إنسان موضعه، مهما يملك من قدرات قليلة.
وهي سياسة فاشلة؛ لأنها دليل على التخلف الحضاري والأخلاقي، ففيها روح الأنانية والفردية، فالذي يفعل هذا لا يبقى معه أحد، وكأنه يقول: أنا ومن حولي نكفي للدعوة.
إن هذا (الإهمال) ليس وليد هذه الأيام، بل هو من أمراض الدعوة في العصر الحديث، والحزبية والأنانية تغذيانه، وإن التحدي الذي يواجهه المسلمون يفرض عليهم أن يكفوا عن هذه السياسة البلهاء، وأن يستفيدوا من كل طاقة، وإن الوسائل الحديثة تساعد على تصنيف القدرات، وإذا لم يفعلوا فما هو إلا الهوى الذي يخفي وراءه التخلف والضعف.
______________
(*) من كتاب (خواطر في الدعوة).
ـــــــــــــــــــ
الدعوة الفردية
د. عبدالرحمن العايد
27/7/1425
ارسل تعليقك ...
تعليقات سابقة ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد:
فموضوع الدعوة الفردية موضوع جدير بالبحث والكتابة فيه، وتظهر أهميته من معرفة أسباب اختيار هذا الموضوع للكتابة فيه، والتي تتلخص فيما يلي:
أولاً: إن هذا الموضوع أوشك أن ينسى في أرض الواقع، وأصبح شيئاً نظرياً يذكر للعلم به.
ثانياً: ضعف الدعوة العامة الجماعية في هذا الوقت، مما أبرز أهمية الدعوة الفردية.
ثالثاً: أهمية الدعوة عموماً، ومن جوانبها الدعوة الفردية.
رابعاً: عن طريق الدعوة الفردية بدأت دعوة الرسول – صلى الله عليه وسلم – ولمدة ثلاث سنوات حتى كوَّن قاعدة صلبة من الرجال المخلصين.
خامساً: ما تتمتَّع به الدعوة الفردية من ميزات سيأتي ذكرها – إن شاء الله_.
وسأتكلم عنه في النقاط التالية:(115/1177)
1. أهمية الدعوة: يبيِّن أهمية الدعوة أن الشارع أَمَر بها وقَدَحَ مَن اتَّصف بها، وحذَّر من تركها، فقال الله _سبحانه وتعالى_ آمراً بها:"وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ "(آل عمران: من الآية104).
الدعوة الفردية هي ممارسة الدعوة إلى الله _سبحانه وتعالى_ مع فرد أو فردين لتنتشله أو تنتشلها مما هو فيه إلى ما هو أفضل من حاله
2. جوانب الدعوة: للدعوة جوانب مختلفة، فمنها دعوة الكفار، ومنها دعوة المسلمين، ثم هذه الدعوة قد تكون بالكتابة، وقد تكون بالمحاضرة، وقد تكون بتوزيع الكتيبات والأشرطة.
3. معنى الدعوة الفردية: ما الذي نريده؟ وما الذي نقصده من الدعوة الفردية؟ الذي أقصده بالدعوة الفردية هو ممارسة الدعوة إلى الله _سبحانه وتعالى_ مع فرد أو فردين لتنتشله أو تنتشلها مما هو فيه إلى ما هو أفضل من حاله..
4. ميزات الدعوة الفردية: الحقيقة أن للدعوة الفردية ميزات كثيرة يجدر بنا أن نعرفها في هذا المقام ما دمنا نتكلم عن الدعوة الفردية ومن هذه المميزات:
1- أن الدعوة الفردية تنعم بالحرية المطلقة في كل الأحوال والظروف فلا تتعرض للتضييق.
2- أنها تحدث صلة بين المدعوة والداعية.
3- أنها تتيح للمدعو الاستفسار عما يريد.
5- الدعوة الجماعية تأثيرها وقتي.
6- يمكن عن طريق الدعوة الفردية الوصول إلى من لم تصله الدعوة الجماعية.
7- عن طريق الدعوة الفردية يمكن للداعية أن يتدرج في توصية المدعو..
8- أن الدعوة الفردية يمكن القيام بها في كل مكان وفي أي وقت..
9- الدعوة الفردية تكسب الداعية خبرة ومعرفة بأحوال الناس، وأيضاً كسر الحاضر الوهمي الذي يضعه بعض الداعين وبين الآخرين.
10- الدعوة الفردية تدفع من يعمل بها إلى العلم والعمل.
11- الدعوة الفردية تتيح للداعية أن يطبق ما تعلَّمه من مفاهيم الصبر والتحمُّل والإيثار.
5. كيفية الدعوة الفردية: لابد من التنبيه إلى أن الناس يختلفون، فمنهم الغافل اللاهي، ومنهم من هو أفضل حالاً، وإن كان عليه بعض التقصير، ومنهم من هو ملتزم ولكن التزامه أجوف، وغير ذلك من الأًصناف، ولذا فإن لكل واحد من هؤلاء طريقة قد لا تسلك مع الآخر؛ لأنهم درجات، فالأول قد يحتاج إلى شيء قد لا يحتاجه الثاني... وهكذا، ونحن هنا سنفترض أن المدعو هو أدنى الدرجات، وهو الإنسان الغافل اللاهي، وسنذكر مراحل الدعوة معه، وأما غيره فينظر ما يناسبه من المراحل ويبدأ بها، وهذه المراحل هي:
1- عقد الصلة بينك وبينه: بحيث تصادقه وتحسن إليه، وتسأل عنه إذا غاب عنك، وتبدي له اهتمامك به، وتهديه هديه _إن تيسر لك_، وتطلب منه أن يزورك في البيت...(115/1178)
2- تقوي إيمانه بطريق غير مباشر: مثلاً تتحدث معه في موضوع معين فتحاول أن تربطه بالدين، تنتهز أي فرصة لتقوي إيمانه كأن تكوناً مثلاً تتحدثان عن متوفى تعرفانه، فتربط هذا بحسن الخاتمة أو سوئها...
3- تحاول أن تقوي إيمانه بطريق مباشر: كأن يهدي إليه كتيباً أو شريطاً فيه ترقيق للقلب، أو فيه سيرة رجل صالح أو فيه قصص ترقق القلب..
4- تحاول ربطه بجماعة طيبة: تعينه على الخير والاستمرار في هذا الطريق ولا بد أن تتابعه...
5- تحاول توسيع مفهوم الإسلام عنده إلى ما هو أشمل من أداء الصلاة والصوم والحج، بحيث يعرف أن الإسلام يشمل نواحي الحياة المختلفة..
6- تشجيعه على القيام بالعمل للإسلام والدعوة إليه، وكما قلت: هذه المراحل قد تحتاجها كلها وقد لا تحتاج لبعضها، وبإمكانك أن تتجاوز مرحلة إلى غيرها أو تضيف مرحلة لم نذكرها إذا تطلَّب الأمر ذلك.
6. عقبات في طريق الدعوة الفردية: تواجه الدعوة الفردية عقبات لابد من بيانها حتى نكون على بينة، منها:
1- الخجل: حيث يخجل الداعية من محاولة عَقْد الصلة بمن لا يعرفهم، خشية ألا يقابلوه بترحيب...
2- كثرة الانشغال بأي أمر من الأمور، سواء كان أمراً دنيويَّاً كالاشتغال بأمور الدراسة والوظيفة.. أو كان أمرأً أُخروياً كأن يكون منشغلاً مع الجماعة التي هو معها، فانشغال بالبرنامج ومعهم في كل وقت لذلك لا يجد الوقت الكافي لممارسة الدعوة الفردية...
3- عدم الصبر والتحمل من قبل الداعية: وذلك لأن هذا العمل يحتاج إلى صبر وقوة تحمل حتى يؤدي ثماره.
4- أن الدعوة الفردية تحتاج إلى نفسية طيبة، وتعامل من نوع خاص قد لا يجيده كل شخص.
5- أنها في الحقيقة تحتاج إلى وقت طويل حتى تؤتي ثمارها، فليس في يوم وليلة تبني فرداً متكاملاً...
7. عيوب الدعوة الفردية: لاشك أن كل جانب من جوانب الدعوة له محاسن وسلبيات، ومن عيوب هذه الطريقة:
1- أنه ربما يكون إنتاجها قليلاً: ربما تعمل لمدة سنة كاملة مع شخص واحد فقط...
2- أنها تحتاج إلى نوع خاص من المعاملة: المحاضر في الدعوة الجماعية يلقي محاضرته وينصرف، لكن في الدعوة الفردية الأمر يختلف، حيث يحتاج إلى معاملة خاصة مع المدعو.
8. الصفات المطلوبة في الداعية الذي يمارس الدعوة الفردية:
1- الإخلاص: ليكن قيامك بهذا العمل خالصاً لله _عز وجل_.
2- الصلة بالله _تعالى_: كثرة العبادة من قبل الداعية، والاستعانة به وطلب العون منه والتوفيق والسداد.
3- العلم: لابد من العلم في الدعوة حتى لا يكون ضررها أكبر من نفعها...(115/1179)
4- الصبر: لابد من الصبر في الدعوة، ولابد من الصبر على الأذى والعقبات.
5- الحكمة: بأن تنزل الأشياء منازلها، فليس من الحكمة أن تريد من المدعو أن ينقلب عن حاله في يوم وليلة.
6- أن يتخلق بالأخلاق الفاضلة حتى يكون قوله أقرب إلى القبول: لابد أن يكون صادقاً لا يكذب، متواضعاً بعيداً عن الكبر...
7- أن يكون قدوة صالحة في كل شيء حتى في الأعمال الدنيوية المباحة، فالاجتهاد في الدراسة مطلوب، وينبغي أن تكون قدوة في هذا المجال...
8- الرفق: ما كان في شيء إلا زانه، وما نزع من شيء إلا شانه، لابد للداعية أن يرفق بمن يدعوه حتى يتقبل منه الحق...
9- أمور لابد من الإشارة إليها:
9. أمور لابد من الإشارة إليها:
1- لا تقتصر على الدعوة الفردية، بل اعمل في كل مجال تستطيع أن تعمل فيه من مجالات الدعوة.
2- لا تكن الدعوة الفردية سبباً في تركك الاهتمام بنفسك من ناحية العلم والعمل.
3- لا تكن الدعوة الفردية سبباً في ابتعادك عن رفقتك الطيبة...
4- لا يكن قيامك بالدعوة الفردية حاملاً لك على المجاملة على حساب دينك..
5- إذا رأيت أنك ربما تتأثر أنت بالمدعو فيسبب لك الانتكاس والسقوط فدعه وانجُ بنفسك...
6- لابد من التنسيق بين الدعاة، بحيث لا يجتمع داعيتان على مدعو واحد.
7- انتبه يا أخي لذوي القربى، فالله _سبحانه وتعالى_ يوصي رسوله – صلى الله عليه وسلم –، ويقول: "َأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ" (الشعراء:214).
8- لا بد من النظر إلى ميول المدعو ومواهبه وعمله وظروفه.
9- لا تواجه المدعو بالانتقاد المباشر؛ لأنه ربما ينفر منك لعدم وجود الإيمان الكافي.
10- لا تظهر له أنك أعلم منه، وأنك أتقى لله منه، وأخشى لله منه.. لا لا تظهر له هذا...
11- لا تتبع عثراته؛ لئلا يكون ذلك مخذلاً لك عن العمل.
12- لابد من التدرج وعدم الاستعجال، لا تضع في ذهنك أنه سينقلب في يوم وليلة، لابد من التدرج قليلاً قليلاً حتى يتحسن ويرجع إلى الله...
13- لا تتركه بلا متابعة، إذا رأيت منه شيئاً من الصلاح فزد عليه من المتابعة.
14- لابد من مراعاة الفروق الفردية بين المدعوين.
15- التأدب بأدب الزيارة إذا زرته تأدب بأدب الزيارة من حيث الزمن والوقت.
16- اقتصد في الموعظة...
17- احتفظ بشخصيتك ولا تشوهها بكثرة المزاح...
18- أن يكون المدعو ممن يعشق الرياضة...
مشروع مقترح:
يتلخص هذا المشروع في أن يحاول كل واحد منا أن يبدأ الدعوة الفردية مع شخص جديد يحدده من الآن، ويضع له مدة معينة يكون فيها قد استطاع بتوفيق الله قد ضم(115/1180)
هذا الشخص إلى قافلة الملتزمين، ويجعل هذا الأمر بمثابة الاختبار له حتى يحدد مدى نجاحه فيه من الآن، ابدأ بهذا الأمر، حدد شخصاً واحداً، ضعه في ذهنك، سجله في ذاكرتك، أخبر به رئيس مجموعتك، ومن الآن ابدأ العمل مع هذا الشخص، وحدِّد مدة ثلاثة أشهر، أو ستة أشهر أو سنة كاملة، ثم اعمل مع هذا الشخص بكل ما تستطيع من جهد بالطرق التي سبق عرضها مع مراعاة ما ينبغي مراعاته..
أخي الحبيب... لو عمل كل واحد منا هذا الشيء كم سيكون عدد الملتزمين بعد عام واحد، لاشك أنه سيتضاعف، وبعد عامين أو ثلاثة أو أربعة لاشك أن العدد سيكون مفرحاً جداً، حتى لو افترضنا أن نصفهم قد انتكس أو نصفهم لم يفد معه هذا العمل.
وتذكر _بارك الله فيك_ أن هذا الشخص سيكون في ميزان حسناتك إذا أخلصت العمل لله _سبحانه وتعالى_، وربما يصوم وأنت مفطر، وربما يقوم وأنت نائم، وربما يجاهد وأنت عند أهلك، فيكون لك مثل ما عمل دون أن ينقص من أجره شيئاً...
ـــــــــــــــــــ
وسائل الاستخلاف في الأرض
شادي الأيوبي
16/7/1425
ارسل تعليقك ...
لا توجد تعليقات ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
"وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ" (البقرة:30).
إن استخلاف الله للإنسان كان أمراً من الله _سبحانه_ للبشر بعمارة الأرض وخلافته فيها، وتطبيق ما أمر بتطبيقه الله من شرائع وأحكام لتسير عليها البشرية إيماناً منها بأن في هذه التعاليم الخير والسعادة لها.
ووجود الإنسان على الأرض لمدة من الزمن إنما هو تهيئة لمرحلة ما بعد هذه الحياة وهو البعث والحساب، حيث يكون الميزان يومئذ "فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره".
بهذا الكلام البسيط يستطيع المرء شرح أهداف الاستخلاف في الأرض ومن دون الخوض في الفلسفات القديمة والحديثة لتعليل الوجود، والتي لم يستطع أصحابها الوصول إلى جواب حاسم يقنعون به أنفسهم فضلاً عن أن يقنعوا به سواهم، ذلك أن الاعتماد على العقل بمحدوديته المعروفة في مسائل تدخل فيها مسائل الميتافيزيقيا أمر غير سليم ولا يؤمن معه من الخوض في متاهات لا حدود لها.(115/1181)
إن استخلاف الله للإنسان كان أمرا من الله _سبحانه_ للبشر بعمارة الأرض وخلافته فيها وتطبيق ما أمر بتطبيقه الله من شرائع وأحكام لتسير عليها البشرية إيمانا منها بأن في هذه التعاليم الخير والسعادة لها
ولكن إذا نظرنا إلى الحياة وما فيها من تجارب مريرة وصعوبات ومشاق نجد أن البعض من هذه الصعاب كان كافياً لثني هذا المخلوق بإرادته الضعيفة عن الاستمرار في هذه المهمة الشاقة، فكيف وقد اجتمعت كلها معاً وعاونها ضعف البشر وعجزهم ؟
وهذه الحقيقة يقر بها القرآن الكريم، حيث يقول عن حياة البشر وصعوبتها :
"لَقَدْ خَلَقْنَا الْإنْسَانَ فِي كَبَدٍ" (البلد:4).
وكذلك يصف القرآن الكريم البشر وصفاً دقيقاً، فيقول فيهم:
"وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَؤُوساً" (الإسراء:83).
لذلك يحق لنا التساؤل: ما الذي جعل من هذا المخلوق الضعيف سريع اليأس يتعايش مع هذه الصعوبات وهذا الكبد؟
لقد كان لابد من طريقة لدفع هذا الإنسان باتجاه الاستمرار في الوجود والرغبة في حفظ النوع البشري، ولولا وسائل مختلفة جعلها الخالق من صميم تكوين البشر لكانت البشرية منذ عهد بعيد في خبر كان، هذه الوسائل كفلت استمرار البشر أنفسهم واستمرار العوامل الضرورية لوجودهم من الرزق والأشغال وغيرها، وكفلت إلى حد ما توازن اختياراتهم المختلفة .
استمرار الجنس البشري: الحاجة الفطرية للقاء بين الرجل والمرأة
ومن أول الوسائل لاستمرار البشر ذلك اللقاء الذي تنادي به الفطرة البشرية وتسير عليه الإنسانية منذ القدم وإلى أن يرث الله الأرض وما عليها ولا يشذ عن ذلك إلا القليل القليل الذي لا يعتد به ولا يقاس عليه، لذلك كانت الدعوات للتبتل والزواج الأحادي الجنس خطراً لا يتهدد المبادئ الدينية والأخلاقية وحسب، بل ويهدد الوجود البشري بأكمله بالزوال.
والناظر إلى طبيعة كل من الرجل والمرأة يحكم بطبيعة الحال أنهما لم يكونا إلا ليلتقيا ويجتمعا، فالطباع الموجودة لدى كل منهما لا توجد بطبيعة الحال لدى الآخر، وهذا هو التنوع الذي يعطي الحياة غناها المطلوب لاستمرارها فقوة الرجل وجلده على العمل الشاق والسعي في الأرض تقابله صبر المرأة على أمور الأطفال والبيت، وحاجة الرجل إلى امرأة يأوي إليها بعد التعب ويشعر في عشها بالعناية يقابلها حاجة المرأة إلى رجل تعيش في كنفه وتشعر بالأمان في حماه، وحب الزينة والجمال لدى المرأة يقابله طبع الخشونة والتحمل لدى الرجل، وهذا ليس عيباً في المرأة ولا الرجل، ولكنه _كما سبق الحديث عنه- من وسائل الملاءمة بين الجنسين.
حب التكاثر:
إن من أهم الدوافع التي تدفع البشر نحو الاستمرار والتكاثر هو تلك الرغبة الفطرية الموجودة في قلوب الجميع من رجال ونساء بتكوين ذرية ترث الآباء والأمهات، ورغم أن أقصى المطامح والرغبات المأمولة من هذه الذرية لا تعدو الصلاح والبر(115/1182)
بالوالدين- وفي حالات كثيرة يكون جزاء الإحسان الإساءة ويكون مقابل البر الجحود - مع ذلك فلا يتحدث أحد عن ترك التكاثر لوجود هذه الاحتمالات.
كل ميسر لما خلق له:
لا شك أن الله _سبحانه_ قد جعل في كل من المرأة والرجل رغبة الفطرة، ولكن الأمر ليس بالقدر والمفهوم نفسه عند المرأة والرجل فلكل منهما ما يتناسب مع طبيعة الدور الذي سيقوم به في هذه العملية.
فبالنسبة للمرأة وهي التي تتحمل الجزء الأكبر والأشق، من الحمل ومشاقه، والولادة وأخطارها وآلامها التي لولا قدرة الله _سبحانه_ لما استطاعت تحملها بضعفها الظاهر، وهي آلام لو وزعت على آلاف الرجال لما استطاعوا تحملها، وتلك من عجائب قدرة الله ومن أبدع أسراره في خلقه.
بناء على هذا كان لا بد من أن تكون المرأة أشد عاطفة وحباً للذرية؛ لأنها لو استجابت لصوت المنطق ومنهج السلامة، فما الذي يدفعها إلى تعريض حياتها للخطر أكثر من مرة من أجل ولد قد يكون براً بها أو قد لا يكون كذلك، وكم من مرة تسمع من امرأة خرجت من عملية الوضع بعد مخاض عسير، وهي تتعهد بعدم تكرار التجربة مهما كانت الظروف، ثم تجدها بعد ذلك بسنة أو أشهر قد نسيت آلامها واستجابت من لنداء الفطرة من جديد.
وكذلك كان لا بد للمرأة أن تكون أكثر صبراً على تحمل تربية الأطفال وما فيها من تعب وسهر قد يصل أحياناً كثيرة إلى ليال بأكملها الأمر الذي يضيق به الرجل مع ما فيه من جلد على أمور أصعب وأشق.
أما بالنسبة للرجل فهو الآخر يتحمل الصعاب المختلفة ويعمل في المهن الخطيرة ويسافر إلى أقاصي الأرض من أجل مستقبل مجهول لهذا الطفل الناشئ، والذي لا يعرف عن طباعه وأخلاقه أي شيء.
الأمل: دافع البشر إلى كل تضحية
إن الأمل هو الدافع الأول لكل من الأب والأم للمزيد من العطاء والبذل والتضحية، ومن طريف هذا الأمل أنه لا يعرف حدوداً ولا منطقاً، ولا يفكر إلا في مستقبل زاهر وواعد، من منا لم ير أماً تداعب وليدها وتخاطبه بألقاب ومسميات دون تفكير أو تقدير، وتتمنى له أن يصبح يوماً من الأيام مهندساً أو طبيباً أو غير ذلك من المهن، ولكن هل سبق لأحد منا أن رأى تلك الأم تحمل وليدها ويخطر ببالها ولو لحظة أن هذا الوليد شأنه شأن سائر البشر يعيش ويكبر ويمرض ويتكدر ويموت بعد ذلك إن هذه الأفكار وإن كانت من المسلمات فمن الصعب جداً أن تخطر ببال تلك الأم؛ لأن الأمل يشغلها تماماً عنها، وذلك أيضاً من الوسائل التي جعلها الله لاستمرار الحياة.
النسيان من عوامل استمرار الوجود:
كثير من الناس يشكون من النسيان المتكرر، والذي يسبب الكثير من المشاكل والمصاعب، ولكن هذا النسيان نفسه هو من النعم التي أنعم بها الله على الإنسان ليستمر في الحياة، ذلك أن الإنسان يتعرض في حياته للكثير من المصائب والأحزان بفقدان قريب أو حبيب أو مصيبة في النفس أو المال، ولولا عامل النسيان -وكذلك(115/1183)
الصبر – لكان من الصعب على البشر نزع تلك الأفكار المؤلمة عن تلك المصيبة، وبهذا تنضم خاصية ظاهرها مزعج إلى أهم عوامل استمرار الوجود.
التوازن في المجالات المختلفة:
التوازن في المفاضلة بين الجنسين:
إن الله _سبحانه_ لم يعط واحداً من متماثلين كل صفات الكمال دون الآخر، فلكي يستمر كل نوع من الأنواع لا بد أن يكون له مميزات تجاه النوع الأخر ليوجد دائماً مجال للمقارنة واختلاف الآراء، وإذا نظرنا إلى المعتبر في كثير من المجتمعات في المقارنة بين الأولاد الذكور والبنات وجدنا أن الأهل-خاصة في دول العالم غير المتطور - يفضلون في كثير من الأحيان الأولاد الذكور على الإناث؛ لأنهم أقدر على النهوض بأعباء البيت وغير ذلك، فكان لا بد من لفت نظر الأهل إلى أن موضوع الأرزاق ليس رهناً بكون الولد ذكراً أو أنثى، بل إن القرآن الكريم في حديثه عن الأولاد يقدم الأنثى على الذكر لرفع قيمتها:
"لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ" (الشورى:49).
وكان القرآن الكريم أراد بهذا الكلام أن يقول للمغالين في هذه القضية: إن هذا المخلوق الذي أخرتموه في حساباتكم هو مقدم عند الله، وحسابات الله مقدمة على حساباتكم.
لذلك فقد جعل الله _سبحانه_ خاصية المحبة والعطف في الأنثى منذ ولادتها، وجعل قلوب الأهل تخصها بالمحبة والعطف أكثر مما تخص الذكر لإحساسهم بهذا الضعف المركب فيها، وحاجتها إليهم أكثر من الذكور، وكذلك كان نموها وإدراكها أسرع وكانت حركاتها ونبراتها وتصرفاتها الطفولية أجمل بكثير من حركات الذكور، وكل ذلك من الأسرار التي جعلها الله فيها لتكسب القلوب وتغير من أفكار المفاضلة بين وبين إخوانها الذكور.
التوازن في استعمار الأرض:
وكان لا بد للبشر من أن ينتشروا في الأرض ويعمروها كلها أو معظمها، والمتأمل في طبيعة المناطق المختلفة وما يعتريها من عوامل مناخية وغيرها يعجب لحال الكثير من الشعوب التي تقطن بلادا ذات مناخ غير مناسب، فما الذي يجعل شعباً مثل الإسكيمو يعيش إلى أيامنا هذه في تلك الأصقاع المتجمدة بما فيها من قسوة وبرد لا يحتمل، قد يجيب قائل: إن هذا الشعب قد اعتاد على هذا النمط من الحياة، وهذا الجواب قد يكون صحيحاً، ولكنه لا يمثل كل الحقيقة ولا يجيب على السؤال بشكل مقنع، فالإنسان يستطيع التأقلم مع مناخ مختلف عن ذلك الذي نشأ فيه، وقد يكون الأمر صعباً في البداية، ولكنه يسهل فيما بعد، وتختفي المشكلة بشكل شبه كامل مع الجيل الثاني الذي لم يعش في الجو القديم، فما الذي جعل هؤلاء يتمسكون بتلك النواحي الجليدية؟ إنه الحب الذي جعله الله _سبحانه_ في قلوب البشر للأرض التي نشئوا فيها والحنين إليها ولولا هذه العاطفة الفطرية لوجدنا البشرية كلها تتجمع في مناطق معتدلة مناخياً أو غنية مادياً، وأصبحت الأرض عبارة عن مساحات صغيرة جداً مكتظة بالبشر مقابل مساحات واسعة خالية منهم.(115/1184)
التوازن في استمرار المهن المختلقة:
وكان لا بد من أن تستمر المهن جميعها وتزيد مع تطور الحياة وتقدم الأيام، والمهن ليست كلها بمنزلة واحدة من حيث المكانة والخطورة والتعب والعائد المالي، فمنها مهن ذات دخل مرتفع ومنها مهن خطيرة جداً ومنها مهن سهلة، فلماذا لا يتجه كل البشر أو معظمهم إلى المهن الأسهل أو الأكثر أجراً؟
إن الله _سبحانه_ قد جعل في كل نفس قدرات معينة وميلا نحو مجال معين، وكثيراً ما تتجلى هذه الرغبات في البشر منذ الصغر وإن كانت غير واضحة تماماً في تلك المرحلة، لكنها فيما بعد تتجه نحو مهنة معينة.
وهكذا يساهم اختلاف الطباع في توزيع البشر على مهن مختلفة ولتستمر الحرف جميعها مع ملاحظة اندثار مهن وقيام مهن أخرى تبعاً لتطور الحياة وتغير الحاجات.
ثم إن المهن المختلفة كان لا بد أن تتمايز بعضها عن بعض ليتسع مجال الاختيار والتناسب مع الميول والقدرات، وكان لا بد لكل مهنة أن تكتسب ميزة ما تجعلها محل رغبة لدى فئة من الناس ويقابلها نقيصة بشكل أو بآخر يجعل فئة أخرى تنصرف عنها إلى سواها، فالمهن الخطرة غالباً ما تتميز بأجر مرتفع والمهن السهلة بأجر أقل والمهن الحرة قابلة للخسارة والربح في آن واحد، ثم إن القدرة على الحصول على مهنة معينة كان ولا يزال من عوامل توزع البشر مهنياً فليس كل مهنة مرغوبة مقدوراً عليها للجميع حيث تدخل سنة التدافع والمنافسة في هذا المجال.
كفالة الأرزاق: حاجات البشر أقوات البشر:
إن الإنسان الفرد –كما هو معلوم للجميع - لا يمكن أن يستقل عن غيره لحاجاته الاجتماعية من مادية ومعنوية، وخصوصاً في أيامنا هذه حيث تعددت التخصصات وتشعبت وصارت المهن تعد بالعشرات، وأصبح كثير من كماليات الماضي من الضروريات التي لا غنى عنها لذلك فمن المستحيل أن يستغني أحد ما عن الآخرين، وحاجة البشر بعضهم إلى بعض هي في حد ذاتها من وسائل كفالة الرزق وتبادل المنافع بين الناس يتساوى في ذلك الغني والفقير والشريف والوضيع.
لذلك ترى الذي يعمل في مجال البناء مثلا ويكسب منه رزقه ينفق من ماله على الطعام ليستفيد منه كل من ساهم في تحضير الطعام وبيعه، كذلك ترى الغني الذي يعمل بالتجارة مثلاً يحتاج للفقير ليشتري منه بضاعته، وهكذا حتى نقول: إن حاجات الناس أرزاق الناس.
أهواء البشر أقوات البشر:
والبشر لا ينفقون أموالهم فقط على الحاجات الضرورية فاليوم تحتل الكماليات ووسائل الترفيه جزء كبيراً من حصص الإنفاق –وإن كان هذا الأمر غير محبب دينيا – وترى استفادة الكثير من الناس من أعمال ووظائف ليس لها أهمية كبيرة في الحياة لكنها مع ذلك مستمرة؛ لأنها تمد استمرارها وبقاءها من استمرار وجود الأهواء في البشر وهو الأمر الباقي ببقائهم.
مصائب قوم عند قوم فوائد:
ويحتل العمل في هذا القطاع مساحة لا بأس بها من المهن والوظائف والتي تعتمد في وجودها على الظروف غير العادية للبشر لاستمرارها، وإن كانت هذه المهن في حد(115/1185)
ذاتها مهناً شريفة ولا غبار عليها، بل هي ضرورة من الضرورات التي لا يمكن الاستغناء عنها، فمن منا يستطيع الاستغناء عن الطبيب؟ بالطبع الجواب لا أحد، ولكن أحداً منا لن يرغب بزيارة للطبيب إلا إذا أحس أنه لا خيار له إلا ذلك، ولا نبالغ حين نقول: إن الكثير من العاملين في هذه المهن ينظرون إلى الحالات التي بين أيديهم من منظور مهني أكثر من منظور إنساني، فصانع النعوش مثلاً ينظر إلى الموت أنه مسألة عمل وكسب أكثر منها مسألة موت وانتقال من دنيا إلى دنيا أخرى، وذلك من تأثير الصنائع في طباع الذين ينشغلون بها.
الفقر والغنى ليسا فقط من قبيل ابتلاء البشر بعضهم ببعض:
والفقر والغنى بالمعنى المتبادر للأذهان عبارة عن ابتلاء الغني بالفقير وابتلاء الفقير بالغني، ولكن يمكن أن يضاف إلى هذا المعنى معنى آخر وهو تكامل كل منهما لاستمرار الحياة ذلك أن الفقير بحاجة إلى مال الغني ليعيش بكرامة،ولكن الغني أيضا بحاجة إلى عمل الفقير وجهده للقيام بمصالحه وتسيير أعماله، ومن هنا نرى أن الفقر والغنى في وجه من الوجوه،هما من وسائل إعمار الأرض،فلو كان جميع البشر من الفقراء لما وجدوا من يؤمن لهم فرصة العمل ولو كان جميعاً من الأغنياء لاستغنوا جميعاً عن السعي لغناهم واكتفائهم بما لديهم من مال، ولما وجد من يقوم بأمور الدنيا ومصالحها .
وهكذا كان لا بد للحياة أن تستمر بحلوها ومرها، وأن يسير الأمل مع الألم، والحزن مع الابتسامة في معادلة غريبة جداً لكن معتادة تماماً، وليتحقق وعد الله بالاستخلاف في الأرض رغم كل المعوقات التي تبدو للوهلة الأولى أنها قد توقفه أو تعيقه، وذلك أن الوعد صادر عن من قال عن نفسه: "إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ". (آل عمران: من الآية47).
ـــــــــــــــــــ
لا لزيادة الحاجات المادية
أ.د.عبدالكريم بكار
28/06/1425
ارسل تعليقك ...
لا توجد تعليقات ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
الوعي الإسلامي في حاجة مستمرة تجديد نفسه و التأكيد من الخطوط الرئيسة التي توجهه ، و الاهتمامات الأساسية التي تشغله ، وتستحوذ عليه ، و إلا فمن السهل أن نجد أنفسنا وقد انجرفنا مع النموذج الذي تقدمه العولمة للإنسان المعاصر .
بناء عقلية معاصرة لا يعني تكوين العقلية التي تتفهم مطالب العصر فحسب ، ولكنه يعني أيضاً تكوين العقلية التي ترى مدى الانحراف الذي يتعرض له الإنسان المعاصر ومدى الجور و الحيف الذي يقع على المبادئ و القيم الأساسية .(115/1186)
من الواضح أن أصحاب المؤسسات المالية الكبرى و أصحاب المصانع والشركات يفرضون على العالم من خلال رسائلهم الدعائية الجبارة و النافذة الرؤية التي تخدم مصالحهم و تنمي ثرواتهم .
و تلك الرؤية تقوم على نحو جوهري على حث الناس على المزيد من الاستهلاك وزرع مشاعر العوز والحاجة و الخوف في نفوسهم ، كي يبحثوا دون ملل عن الامتلاء و التشبع المادي الذي لا يتم إلا من خلال جمع المال و اقتناء الأشياء .
بناء عقلية معاصرة لا يعني تكوين العقلية التي تتفهم مطالب العصر فحسب ، ولكنه يعني أيضاً تكوين العقلية التي ترى مدى الانحراف الذي يتعرض له الإنسان المعاصر ومدى الجور و الحيف الذي يقع على المبادئ و القيم الأساسية .
هذه الرؤية تخترق حياة الإنسان في الدول الصناعية الأكثر تقدماً نتيجة فلسفة متكاملة تقوم على حذف شيء اسمه العالم الأخروي بما يعنيه ذلك من توجيه أنشطة الحياة كلها نحو تحقيق الذات في الدنيا من خلال المزيد من السيطرة و الشهر و المتعة ، و هذا مصادم على نحو جذري للمنطق الذي قامت علية كل دعوات الأنبياء – عليهم السلام – عبر التاريخ ، ذلك المنطق الذي لا يرى في الدنيا ، وكل ما يتصل بها من نجاح ونفوذ و متعة الشيء الذي يستحق أن يكرس الإنسان حياته من أجله ، فالدنيا هي مزرعة الآخرة ، أو هي الفرصة الذهبية و الوحيدة التي يجب أن نستغلها من أجل السعي إلى الفوز بالسعادة الأبدية في الآخرة .
إن الدنيا في الرؤية الإسلامية تأخذ طابع الوسيلة و طابع المؤقت و العابر ، و الآخرة تأخذ طابع الغاية و النهائي و الدائم ، و النصوص في هذا كثيرة جداً ، منها قول الله – جل وعلا_ : "زين للناس حب الشهوات من النساء و البنين و القناطير المقنطرة من الذهب و الفضة و الخيل المسومة و الأنعم و الحرث ذلك متع الحيوة الدنيا و الله عنده حسن المئاب" .
أصحاب المصالح التجارية وأرباب رؤوس الأموال يريدون من كل إنسان أن يزيد في استهلاكه حتى يزيدوا هم في إنتاجهم ، ولذا فإن المبدأ الذي يقوم عليه الإعلان التجاري هو المزيد من الاستهلاك من أجل المزيد من الإنتاج ، أي أن المزيد من الإنتاج صار هو الهدف الذي يجب أن تسخر له كل الإمكانات المعنوية والمادية، وهذا في الحقيقة مباين لجوهر الرؤية التي سادت على مدار التاريخ، والتي كانت أقرب إلى الرؤية الإسلامية، وقد كانت تلك الرؤية تقوم على مبدأ ( الإنتاج من أجل الاستهلاك ) أي أن الإنسان ينتج ليلبي حاجاته الاستهلاكية .
هذا الانقلاب المخيف أدى إلى أن يصبح الإنسان من حيث لا يشعر مسخراً للعمل و زيادة الإنتاج ، وترتب على هذا تراجع الأنشطة الروحية والأدبية التي تميز حياة البشرة عن حياة السوائم الذليلة و عن وضعية الآلة الصماء ، كما ترتب علية تلوث البيئة و إجهاد الأرض و استنفاد سريع لمصادر الطاقة غير المتجددة .
إنها في حقيقة الأمر مأساة كبرى يتعرض لها الإنسان ، ويتعرض لها كوكب الأرض أيضاً .
و إليك بعض الملاحظات المختصرة حول هذه القضية:(115/1187)
1 – نفوسنا مجبولة على حب الدنيا و الاستكثار من متاعها و أشيائها، ومهما نال المرء من المال و ما يشترى بالمال ، فإنه سيظل يشعر بعدم الاكتفاء ، إنه – كما قالوا – كشارب ماء البحر كلما شرب ازداد عطشاً، وقد قال – علية الصلاة والسلام - : " إن أكثر ما أخاف عليكم ما يخرج الله لكم من بركات الأرض" قيل : ما بركات الأرض ؟ قال : " زهرة الدنيا". وقال منبهاً إلى ما تنطوي عليه ميولنا إلى الدنيا من ابتلاء و تحدًّ : " إن الدنيا حلوة خضرة ، وإن الله مستخلفكم فيها ، فناظر كيف تعملون " .
هذا المعنى قد غاب عن السواد الأعظم من المسلمين اليوم ، حيث إن من النادر أن تجد من يخاف ألا يقوم بواجب النعمة التي يسعى ليل نهار إلى الحصول عليها ، ومن يشعر أنه من خلال تكديس الأموال و التوسع في امتلاك الأشياء – داخل في امتحان من نوع جديد قد ينجح فيه وقد لا ينجح ، كما أنك لا تكاد تجد من يخطط لإيقاف السعي وراء الدنيا عند حدود معينة حتى لا يؤثر في أنشطته الروحية والتعبدية وفي واجباته الدعوية و الاجتماعية .
2 – الحرية في الرؤية الإسلامية من القيم العظيمة جداً ، وهي لا تعني حرية التعبير وحرية التملك والتنقل فحسب ، وإنما تعني التحرر من وطأة الرغبات و العادات السيئة ووطأة الميول نحو الترفّة و التمتع ، والتحرر من استعباد الذات للشهرة و النفوذ ؛ لأن الانغماس في هذه الأمور يتقاطع مع العبودية الخالصة لله – تعالى - .
إن المسلم حين يستطيع إيقاف رغباته المادية عند حد معين يوفر لنفسه الفرصة لتحقيق الذات عن طريق الرفاهية الروحية و الشعور بنشوة الانتصار و الغلبة ونشوة العبودية لله – تعالى – والثقة بأنه يعمل ما عليه أن يعمله ، مما يولد في النهاية الشعور بالاستمرارية على النهج القويم وتوقع الفوز برضوان الله _تعالى_ .
الوسيلة لذلك هي القناعة و الاقتصاد في الإنفاق و حذف بعض الكماليات ، وغض الطرف عمن يتمتع بمستويات معيشية أعلى .
وقد ورد الثناء على هذه الوضعية في قوله – علية الصلاة والسلام -: " ليس الغنى من كثرة العرض ، ولكن الغنى غنى النفس " . وقوله : " قد أفلح من أسلم ورزق كفافاً ، وقنّعه الله بما آتاه " .
3- زيادة الحاجات المادية وتحول الكثير من الكماليات إلى حاجيات ، وتباري الناس في إظهار القدرة على شراء الأغلى والأنفس ، أوجد لدى الأمة العديد من الأمراض الخلفية و الاجتماعية ، وضخم من المشكلات الاقتصادية والبيئية ، وعلى سبيل التمثيل لا لحصر فإن الشعور بالعوز للمزيد من تكديس الأشياء وتلبية الميول إلى الاستمتاع بالمرفهات من الأمور التي أشاعت في الناس الحسد و التسخط على الله – تعالى – كما أشاعت مرض المظهرية و الشكلية واللذين يُعبّر بهما غالباً عن طريق الأشياء و الممتلكات ، وهذه كلها أمور مقلقة و مزعجة ، كما أنها تدفع إلى الكذب والتباغض والتزوير ...
أما على الصعيد الاقتصادي فأمة الإسلام لا تمتلك الكثير من الأموال التي توفر بها حاجاتها الأساسية على مستوى الغذاء والدواء والتعليم ... ، وهي إلى جانب هذا تتمتع بزيادة سكانية عالية ، وهي في حاجة – حتى لا تتدهور أوضاع الأجيال(115/1188)
الجديدة أكثر فأكثر – إلى إيجاد فرص وظيفية جديدة ، وتلك الفرص لا تأتي إلا من خلال توفير بعض الدخل من أجل إعادة استثمار في دورة اقتصادية جديدة ، و إذا علمنا أن أكثر ما نترفه به يستورد من خارج البلاد الإسلامية أدركنا الخطورة البالغة التي يشكلها التمادي في الإنفاق الترفي على الاقتصادات الوطنية !
4 – أرجو ألا يفهم من الكلام السابق أنني أدعو المسلم الملتزم إلى القعود عن طلب الرزق ، وإلى التكاسل و ترك شأن المال و الاقتصاد و الاستثمار للآخرين يتخذون منه وسائل للسيطرة والإفساد والمزيد من الضياع ... إن هذا ليس وارداً، فالمسلم مطالب بأن يؤمن الكفاية لنفسه ولمن يعول ، و إذا استطاع أن يكسب أكثر من حاجته على نية التصدق وصلة الأرحام ، أو على نية توفير فرص عمل جديدة لإخوانه المسلمين ، فإنه بذلك الكسب يخرج من دائرة المباح إلى دائرة العبادة و التقرب إلى الله – تعالي - .
يقول سبحانه - : " فإذا قضيت الصلوة فانتشروا في الأرض و ابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون " .
ويقول – عليه الصلاة والسلام - : "لأن يأخذ أحدكم أحبله فيحتطب على ظهره خير من أن يأتي رجلاً أغناه الله من فضله فيسأله ، أعطاه أو منعه " . وقال : " الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله " قال أبو هريرة : وأحسبه قال : " وكالقائم الذي لا يفتر ، وكالصائم الذي لا يفطر ".
إن الإنتاجية لدى الأمة منخفضة إذا ما قيست بالأمم المتقدمة ، ومع هذا الانخفاض فإننا مكبلون بعادات إنفاقية وبذخية ليست موجودة أيضاً لدى عدد كبير من أبناء الأمم الثرية . والنظرية الإسلامية معاكسة تماماً لهذه الوضعية، وتصور معي لو أن مستوى إنتاجية الإنسان المسلم ارتفع ليصل إلى مستوى إنتاجية الإنسان في الغرب في الوقت الذي نقوم فيه بترشيد سلوكنا الإنفاقي ، إن النتيجة ستكون مذهلة لصالح العناصر الضعيفة في المجتمع ، و لصالح الاقتصاد الوطني و صالح مركز الأمة على الصعيد العالمي .
(من كتاب( جدد عقلك
ـــــــــــــــــــ
لهيب الشهوات
سلمان بن يحيي المالكي
21/6/1425
ارسل تعليقك ...
لا توجد تعليقات ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
لقد حرص الإسلام على أن ينأى بالناس عن الشهوات الحيوانية والأخلاق الشيطانية ، والنفس بطبيعتها كثيرة التقلب والتلون تؤثر فيها المؤثرات وتعصف بها الأهواء والأدواء ، فالنفس أمارة بالسوء، تسير بصاحبها إلى الشر ، فإن لم تُستوقف عند(115/1189)
حدها وتلجم بلجام التقوى والخوف من الله وتؤطر على الحق أطراً ، وإلا فإنها داعية لكل شر وهوى ومعصية ، والنفس بطبيعتها إذا أُطعمت طعمت ، وإذا فوضتَ إليها أساءت ، وإذا حملتها على أمر الله صلحت ، وإذا تركت إليها الأمر فسدت، والناظر بعين بصره وبصيرته في عالم اليوم ، يرى حقيقة ما وصل إليه أبناء هذا العصر مما يسره الله لهم من اكتشافاتٍ واختراعات في وسائلِ الاتصالات والتقنية من أنواعِ الهواتف وشبكات المعلومات وقنواتِ البث وغيرها من وسائل الاتصال والإعلام من مسموع ومقروء ومشاهد، مما حدا بالقائمين عليها إلا ما رحم ربي بتسخيرها واستغلالها فيما يثير مكامن الشهوة ويخمر العقل ويفسد الروح من نشر للأغاني الساقطة، والأفلام الآثمة، والقصص الداعرة، وإشاعة الفاحشة، ونشر بواعثها ومثيراتها، وتعرية المرأة وتحريرها واستعبادها، وإخراجها من بيتها ، حتى هلك الكثير من بني الإنسان في مستنقع الرذيلة ومغريات الشهوة ، وانسلخت من النفوس المروءة والعفة والغيرة والطهر والعفاف ، نعم .. إنها الشهوة الباعثة على مفارقة المنكرات وإتيان المعاصي واقتراف المحرمات، إنها الشهوة الفطرةٌ الغريزية البشرية و اللذة الجثمانيةٌ الجسدية ، نعم .. تلك الشهوة ، إن لم تُضبط بضابط الشرع والعقل فإنه يزداد سعارها ويتأجج نارها وتهوي بصاحبها في مهاوي الردى وتلبسه لباس الحيوانات والبهائم التي تحركها غرائزها وتدفعها شهواتها ، إنها الشهوة إذا انفلت سعارها وانخرط خطامها، فإنها ما تزال تعظم وتعظم حتى تقع الفواحش، وتنتشر الأمراض، وتكثر المحن " فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غياً "
لقد حرص الإسلام على أن ينأى بالناس عن الشهوات الحيوانية والأخلاق الشيطانية ، والنفس بطبيعتها كثيرة التقلب والتلون تؤثر فيها المؤثرات وتعصف بها الأهواء والأدواء ، فالنفس أمارة بالسوء ، تسير بصاحبها إلى الشر ، فإن لم تُستوقف عند حدها وتلجم بلجام التقوى والخوف من الله وتأطر على الحق أطرا ، وإلا فإنها داعية لكل شر وهوى ومعصية ، والنفس بطبيعتها إذا أُطعمت طعمت ، وإذا فوضتَ إليها أساءت ، وإذا حملتها على أمر الله صلحت ،
* لماذا الشهوة؟
الشهوة من نعم الله _تعالى_ على العبد ، والمحظور فيها صرفها في المحظور ، يقول ابن تيميه _رحمه الله تعالى_: " إن الله _تعالى_ خلق فينا الشهوات واللذات لنستعين بها على كمال مصالحنا ، فخلق فينا شهوة الأكل واللذة فيه ، فإن ذلك في نفسه نعمة وبه يحصل بقاء جسومنا في الدنيا ، وكذلك شهوة النكاح واللذة به هو في نفسه نعمة، وبه يحصل بقاء النسل ، فإذا استعين بهذه القوى على ما أَمَرَنا ، كان ذلك سعادة لنا في الدنيا والآخرة ، وكنا من الذين أنعم الله عليهم نعمة مطلقة ، وإن استعملنا الشهوات فيما حَظَرَه علينا بأكل الخبائث في نفسها ، أو كسبها كالمظالم ، أو بالإسراف فيها ، أو تعدينا أزواجنا أو ما ملكت أيماننا، كنا ظالمين معتدين غير شاكرين لنعمته" [ الاستقامة 1/341 ]
* أثر الشهوات على الإنسان .(115/1190)
الشهوة إما أن يُحكم توجيهها فتأخذ ثمارها، وإما أن يغفل الإنسان عن توجيهها فتدمر صاحبها ، يقول ابن القيم _رحمه الله_ : الصبر على الشهوة أسهل من الصبر على ما توجبه الشهوة ، فإنها إما أن توجب ألماً وعقوبة، وإما أن تقطع لذة أكمل منها ، وإما أن تضيع وقتاً إضاعته حسرة وندامة ، وإما أن تثلم عرضاً توفيره أنفع للعبد من ثلمه، وإما أن تذهب مالاً بقاؤه خير من ذهابه ، وإما أن تضع قدراً وجاهاً قيامه خير من وضعه ، وإما أن تسلب نعمة بقاؤها ألذ وأطيب من قضاء الشهوة ، وإما أن تطرق لوضيع إليك طريقاً لم يكن يجدها قبل ذلك ، وإما أن تجلب هماً وغماً وحزناً وخوفاً لا يقارب لذة الشهوة ، وإما أن تنسي علماً ذكره ألذ من نيل الشهوة ، وإما أن تشمت عدواً وتحزن ولياً ، وإما أن تقطع الطريق على نعمة مقبلة ، وإما أن تحدث عيباً يبقى صفة لا تزول ...إلخ "
* أسباب تفشي الشهوات:
1. ذهاب خوف الله _عز وجل_ من القلوب، وقلة الحياء منه "استحيوا من الله حق الحياء " [ رواه الترمذي ]
2. غياب العصمة الإيمانية وقلة المراقبة في الخلوات والجلوات، وتقوية الإيمان في القلب بزيادة الطاعات واجتناب المنكرات.
3. التهاون بالصغائر وعدم الدقة في التزام أوامر الله _جل وعلا_ والانتهاء عما نهى عنه " ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن "
4. غياب التربية الأسرية في البيوت، فالآباء في شهواتهم وأعمالهم وتحصيل أرزاقهم ، والأمهات مشغولات بمتابعة الإذاعات ومشاهدة الشاشات والزيارات والجديد من الأزياء والموضات .
5. وسائل الإعلام بأنواعه من مرئي ومسموع ومقروء، والتي غزت العقول والقلوب والنفوس .
6. تيسير المحرم وتكثير سبل الغواية وطرق الفاحشة وتنوعها في الأسواق والطرقات والمحلات والمراكز الضخمة والشركات الهائلة إلى غير ذلك ..
7. الأسواق العامة وما فيها من اختلاط وتبرج ودعوة إلى الإثارة والإغراءات المحرمة من كشف للوجه وتجميل له وإبداء لمفاتن الجسد .
8. غياب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر والتساهل فيه وعدم الاهتمام به، والرفع من شأنه، وأنه صمام المجتمع .
9. إدخال ما يثير مكامن الشهوة ويخمر العقل ويفسد الروح من آلات وأجهزة وفضائيات تحرف الشباب وتثير الفتيات وتفسد ذوات الخدور .
10. أصدقاء السوء والفراغ والتساهل بالحرام والبحث عن مثيرات الشهوة من مجلات وصحف وجرائد وإنترنت وفضائيات ، مع الإمكانية من الخلوة بالمرأة ومعاكستها ومكالمتها ، فكل هذه من أسباب تفشي الشهوة وزيادتها .
* قواعد في التعامل مع الشهوات .
1. التربية الإيمانية المتكاملة التي تتضمن معاني التقوى والمراقبة والخوف والرجاء والمحبة ، حتى يصبح العبد إنساناً سوياً شاباً تقياً نقياً لا تستهويه مادة ولا تستعبده(115/1191)
شهوة " قال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي "، " ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال ، فقال : إني أخاف الله " .
2. الحذر من النظرة المسمومة ، فهي رائدة الشهوة وسهم من سهام إبليس ، فالنظرة تولّد خطرة ، والخطرة تولد الفكرة ، والفكرة تولد الشهوة ، فاحذر هذه النظرة ، وقديماً قيل : "حبس اللحظات أيسر من دوام الحسرات" ، وصدق القائل :
كل الحوادث مبداها من النظر ومعظم النار من مستصغر الشرر
3. التفطن لمدافعة الخطرات إذا تولدت في الذهن ؛ لأنها مبدأ الخير والشر ، ومنها تتولد الإرادات والهمم والعزائم ، ومن ثم توجب التصورات ، والتصورات تدعوا إلى الإرادات ، والإرادات تقتضي الفعل ، ولذلك فإن من راع خطراته ملك زمام نفسه وقهر هواه وشهوته .
4. لزوم الاستقامة والسعي الجاد في تحقيقها ، والاستعانة قبل ذلك بالحي القيوم الذي لكمال حياته وقيوميّته لا تأخذه سنة ولا نوم .
5. التعفف والاستعانة بالصوم ، فإنه يكسر جماح الشهوة ، ويخفف من لهيبها " يا معشر الشباب ، من استطاع منكم الباءة فليتزوج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء " [ رواه البخاري ] .
6. المسارعة إلى الزواج وتحصين الفرج واختيار الزوجة الصالحة فبها تحصل العفة ويتزن العقل وتخبو الشهوة " ثلاثة حق على الله عونهم .. ومنهم: والناكح الذي يريد العفاف " [ رواه الترمذي ]
7. الابتعاد عن كل ما يثير مكامن الشهوة من ألفاظ غزلية ، ونكت فاحشة ، وقصص هابطة وروايات تافهة " ليس المؤمن بالطعّان ولا باللعان ولا بالفاحش ولا بالبذيء " [ السلسلة الصحيحة 320 ]
8. الفرار من الأماكن العامة ومنتديات الترفيه والأسواق لما فيها من اختلاط وتبرج ودعوة إلى الإثارة والإغراءات المحرمة ، والقاعدة في هذه قصة يوسف _عليه الصلاة والسلام_ " واستبقا الباب وقدت قميصه من دبر " فالفرار الفرار فإن كان لا بد وارتياد هذه الأماكن فليكن الوقت على قدر الحاجة .
9. النفس إن لم تشغلها بالطاعة شغلتك بالمعصية ، وهذه قاعدة لا مناص للنفس منها ، وإن كان أهل الجنة يتحسرون على ساعة لم يذكروا الله فيها ، فكيف بمن أضاع وقته وأمضى عمره في المعاصي والشهوات .
10. الدعاء، فهو وربي السلاح الذي لا يخون ، وخاصة في زمن يُسِّرت فيه الفاحشة وكُثِّرت فيه سبل الغواية ، ولا تيأس وأكثر فالله أكثر، وعليك بقول: " يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك " و " اللهم إني أسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى "
وحتى لا تنساق وراء الشهوات فاحذر ..
1. الوعيد الأليم والعذاب الرهيب في الدنيا والبرزخ ويوم العرض على الله " .. ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما * يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا "
2. الشيطان وتعهده بإضلال بني آدم " قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين * إلا عبادك منهم المخلصين "(115/1192)
3. السير وراء الشهوات ، فإن حال من يجري وراء الشهوة كالذي يشرب من ماء البحر ..أتراه يروى ..؟
4. فساد القلب وموت الضمير وذهاب الورع وسواد الوجه وقلة الغيرة ومحق البركة وقلة الهيبة وغضب الرب _تبارك وتعالى_ .
5. سوء الخاتمة ، فليس شيء أصعب على العبد من أن يُختم له بخاتمة سيئة ، والتعلق بالشهوات واستيلاؤها على القلب من أكبر أسباب سوء الخاتمة _والعياذ بالله_ .
6. المخاطر والأدواء والأوجاع قبل الممات ، فهي وربي سنة ماضية تلاحق أهل الفجور الشهوات و " ... لم تظهر الفاحشة في قوم حتى يُعلنوا بها ، إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا " [ رواه ابن ماجة ] .
7. تحقق العقوبة الإلهية على منتهكي أعراض المسلمين ، فالجزاء من جنس العمل ، وهذه وربي قاعدة شرعية وسنة لا تتخلف ، ورحم الله الشافعي يوم قال :
عفوا تعفَّ نساؤكم في المحرم ... ... وتجنبوا ما لا يليق بمسلم
إن الزنا دين فإن أقرضته ... ... كان الوفا من أهل بيتك فاعلم
من يزن يُزن به ولو بجداره ... ... إن كنت يا هذا لبيباً فافهم
وأخيراً ..
فإن من أرضى الجوارح باللذات والشهوات ، فقد غرس لنفسه شجر الحسرات والندامات .
ـــــــــــــــــــ
حسن الاتصال بالجماهير
د. أحمد الصويان
17/6/1424
ارسل تعليقك ...
لا توجد تعليقات ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
نجاح الداعية في تحقيق أهدافه ونشر رسالته مرتبط ارتباطاً وثيقاً بقدرته على الاتصال بالناس؛ فالدعوة إلى الله _تعالى_ تفاعل تبادلي بين الداعية والمدعوين.
وتنمية مهارات الاتصال للدعاة في غاية الأهمية؛ لأنها هي – بعون الله تعالى – الأداة الفاعلة للنجاح الدعوي.
ويعتمد حسن الاتصال على أمور رئيسة، من أهمها:
أولاً: القدرة على نقل المبادئ والعلوم بإتقان:
ويتطلب ذلك قدرة فائقة على ضبط المعلومات وفهمها فهماً صحيحاً، ثم ترتيبها حسب الأولى، ثم نقلها إلى الناس بدقة واتزان، وهذا مصداق قول النبي – صلى الله(115/1193)
عليه وسلم – : " نضر الله امرأً سمع مقالتي فوعاها، ثم أداها كما سمعها، فرُبَّ حامل فقه غير فقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه"(1).
والحرص على ذلك يحُول – بإذن الله – دون سوء الفهم، أو تداخل العلوم.
قال إبراهيم بن محمد : " كفى من حظ البلاغة ألا يؤتى السمع من سوء إفهام الناطق، ولا يؤتى الناطق من سوء فهم السامع"(2).
نجاح الداعية في تحقيق أهدافه ونشر رسالته مرتبط ارتباطاً وثيقاً بقدرته على الاتصال بالناس؛ فالدعوة إلى الله _تعالى_ تفاعل تبادلي بين الداعية والمدعوين.
ثانياً: معرفة أحوال المخاطبين:
إن معرفة اتجاهات الناس الفكرية، والنظم الاجتماعية السائدة بينهم، تعين على التزام الأسلوب العلمي المناسب في التواصل البنَّاء معهم، ولهذا لما أراد النبي – صلى الله عليه وسلم – أن يرسل معاذاً – رضي الله عنه – إلى اليمن قال له: " إنك تقدم على قوم أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله، فإذا عرفوا الله؛ فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في يومهم وليلتهم... الحديث"(3). فعرَّفه أولاً بالبيئة التي أرسله إليها، ثم بيَّن له سبيل التواصل معهم، فالاتصال بالناس يتطلب مخاطبتهم على قدر عقولهم وفهومهم؛ ليكون ذلك أبلغ إلى التأثير فيهم، كما قال علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – : " حدّثوا الناس بما يعرفون؛ أتحبون أن يُكذَّب الله ورسوله؟!"(4).وقال ابن مسعود – رضي الله عنه –: " ما أنت بمحدِّث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة".(5)
ثالثاً: القدرة على الإقناع:
وهذه مهمة صعبة لا يتقنها كل أحد؛ فكم من متحدث متقن للعلوم التي يتحدث عنها، لكنه يُخفق في إقناع الناس بما عنده؟! وربما تجد شخصاً أقل بضاعة وأضعف فهماً، لكنه أَلْحن حجة وأحسن بياناً، وهذا المعنى أحد فوائد قول النبي – صلى الله عليه وسلم – : " إن من البيان لسحراً"(6). فالعرْض الجيد يملك القلوب، ويؤثر في النفوس، ولهذا عرَّف بعضهم البلاغة بقوله: " إهداء المعنى إلى القلب في أحسن صورة من اللفظ"(7).
وإذا أردت أن تقف على أمثل درجات الإقناع وأعلاها منزلة، فاقرأ سيرة النبي – صلى الله عليه وسلم – فهي عامرة بالشواهد والأمثلة، ومن ذلك أنه لما أفاء الله على رسوله – صلى الله عليه وسلم – يوم حنين قسم الفيء في المؤلفة قلوبهم، ولم يعط الأنصار شيئاً، فكأنهم حزنوا إذ لم يُصبهم ما أصاب الناس، فخطبهم، فقال: " يامعشر الأنصار! ألم أجدكم ضلالاً فهداكم الله بي؟! وكنتم متفرقين فألَّفكم الله بي؟! وعالة فأغنكم الله بي؟!"، قال: كلما قال شيئاً، قالوا: الله ورسوله أمنّ. قال: " لو شئتم قلتم جئتنا كذا وكذا، أترضون أن يذهب الناس بالشاة والبعير وتذهبون بالنبي – صلى الله عليه وسلم – إلى رحالكم، لولا الهجرة لكنت امرأً من الأنصار، ولو سلك الناس وادياً وشِعْباً لَسَلَكْتُ وادي الأنصار وشِعْبَها، الأنصار شعار، والناس دثار، إنكم ستلقون بعدي أَثَرة فاصبروا حتى تلقوني على الحوض"(8).
فانظر إلى عظيم حكمة النبي – صلى الله عليه وسلم – وكيف أنه ربَّى الأنصار – رضي الله عنهم – أحسن تربية، ونقلهم من التطلع إلى فيء الدنيا وزخرفها الزائل،(115/1194)
إلى عظيم أجر الله – تعالى – لهم ونعيمه الدائم، ولهذا جاء في بعض روايات الحديث: أن الأنصار بكوا بعد سماع كلامه – صلى الله عليه وسلم –، وقالوا: رضينا برسول الله قَسَماً وحظاً(9).
ولأهمية الإقناع في إيصال المبادئ والأفكار إلى السامعين أضحت وسائله علماً يُدرس، ووضعت له قواعد وأصول، فإذا كان التلقين المجرَّد عن البرهان قد يستسلم له طائفة من الناس، فإن طوائف أخرى كثيرة لن تقبل إلا ما تؤمن به وتطمئن إليه، وأحسب أن الدعاة إلى الله أولى الناس بدراسة هذا العلم ومعرفة فنونه وطرائقه؛ فهم حَمَلَةُ رسالة عظيمة،"وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ" (فصلت:33). وسلامة المنهج الذي يحملونه ليس كافياً وحده في إقناع الناس، بل لابد من سلامة العرض وقوة الإقناع.
رابعاً: الجاذبية الشخصية:
وهي عامل رئيس في مخاطبة الناس والتأثير فيهم، فإذا لم يحب الناس من يدعوهم إلى الخير ويألفوه؛ فإنهم لن يسمعوا منه أو يلتفتوا إليه.
ومن أهم مقومات الجاذبية الشخصية:
1. صدق العاطفة، والحماس المعتدل للطروحات والأفكار التي يتبناها(10).
2. إظهار المحبة والشفقة على الناس، حتى على المقصرين منهم؛ فالداعية الصادق همُّه أن يهتدي الناس إلى الحق، ولا يظهر الشماتة أو التشفي أو الرغبة في الانتصار.
3. حسن الخلق في تواصله مع الناس: فذلك يجعل الداعية يألف ويؤلف، والكلمة الطيبة مفتاح القلوب، وعنوان النجاح، ورب كلمة لطيفة يسديها الداعية إلى بعض الناس لا يلقي لها بالاً تفعل فعلها في نفوسهم، وتثمر خيراً كثيراً، وما ظنك بذلك الأعرابي الذي بال في المسجد؛ فثار عليه الناس ليقعوا به، لو أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عنَّفه وشدَّد عليه، فهل كان من الممكن أن يبقى على دين الإسلام..؟! ولكن تأمَّل موقف النبي – صلى الله عليه وسلم – لمَّا غلَّب جانب الهداية على جانب الطهارة، حتى يُعلِّم الأعرابي ويفقهه في الدين، ثم انظر أثر ذلك في قلب الأعرابي عندما قال: " اللهم ارحمني ومحمداً، ولا ترحم معنا أحداً"(11).
4. الحلم وسعة الصدر: فالإنسان المتشنج الغضوب سريع الانفعال لن يجد من المدعوين إلا النفرة والإعراض، أما الحليم الذي يصبر على جهل الجهول وأذاه فهو الذي يفلح في تبليغ رسالته البلاغ المبين، وينجح في استمالة الناس إليه، ومن الدلائل اللطيفة على ذلك مارواه معاوية بن الحكم – رضي الله عنه – قال : " بينا أنا أصلي مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إذ عطس رجلٌ من القوم، فقلت: يرحمك الله. فرماني القوم بأبصارهم! فقلت: واثُكْل أمِّياه! ما شأنكم تنظرون إليَّ؟! فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم، فلما رأيتهم يصمِّتونني، لكني سكت، فلمَّا صلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم–، فبأبي هو وأمي؟ ما رأيتُ معلِّماً قبله ولابعده أحسن تعليماً منه، فوالله ما كَهَرني، ولا ضربني، ولا شتمني، قال: " الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن". أو كما قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – (12).(115/1195)
خامساً: القدرة على التفاعل الإيجابي مع المدعوين:
أحسب أن كثيراً من الناس يأسرهم ويشدهم إلى قلب المتحدث تفاعله الحي معهم، وكثير من الإخفاق الدعوي الذي يعرض لبعض الدعاة من أسبابه الرئيسة قصورهم في التجاوب مع آراء الناس ومشكلاتهم، وقصورهم في إدراك ردود الأفعال بحجمها الصحيح؛ فهو لا يعرف: أَفَهِم السامعون مراده، وآمنوا برسالته، أم أنه يتحدث في وادٍ والناس في واد آخر...!
لقد رأينا دعاة يعتقدون أنهم أدوا الواجب وأبرؤوا الذمة بمجرَّد وقوفهم أمام الناس متحدثين، وهدَّهم ما عندهم هدّاً، دون أن يُكلفوا أنفسهم عناء النظر في نتائج ذلك العمل، ومقدار احتفاء الناس به وتفاعلهم معه.
لقد كان من هدي النبي – صلى الله عليه وسلم – الحرص على كسب قلوب الناس، ولهذا قال عبدالله بن مسعود – رضي الله عنه – : " كان النبي – صلى الله عليه وسلم – يتخوَّلنا بالموعظة في الأيام؛ كراهة السآمة علينا"(13). ووصفت عائشة – رضي الله عنها – حديث النبي – صلى الله عليه وسلم – بقولها : " كان يتكلم بكلام بيِّن فصل، يحفظه من جلس إليه"(14).
إن ثمة حقيقة ناصعة الوضوح يجب على الدعاة أن يستصحبوها في جميع مناشطهم الدعوية، وهي أن الساحة الحالية ساحة منافسة وسباق مع شتى التيارات الفكرية، والأقدر على تحسين أدوات الاتصال بالناس؛ هو الذي سوف يحظى – بلا شك – بقلوبهم.
---------------------------
الهوامش:-
(1) أخرجه: أبوداود، في كتاب العلم، رقم (36660)، والترمذي، في كتاب العلم، رقمم( 2656). وقد رجح عبدالمحسن العباد أنه حديث متواتر في كتابه: ( دراسة حديث نضَّر المرأً سمع مقالتي، رواية ودراية).
(2) مقدمة ابن خلدون، ( ص35).
(3) أخرجه : البخاري، في كتاب الزكاة، رقم (1458)، ومسلم في كتاب الإيمان، رقم (16/31).
(4) أخرجه : البخاري معلقاً، في كتاب العلم، رقم (124).
(5) أخرجه: مسلم في المقدمة، (1/11).
(6) أخرجه البخاري في النكاح، رقم _ 5146، وفي الطب، رقم (5767).
(7) البيان والتبيين، (1/136)، وقال أحد الكتاب الغربيين: " إن طريقة التعبير عن فكرة معينة لا تقل أهمية عن الفكرة نفسها". فن الاتصال، لبرت دكر، ترجمة الدكتور. عبدالرحمن الشمراني.
(8) أخرجه: البخاري في المغازي، رقم (3985"، ومسلم في الزكاة، رقم (1758).
(9) سيرة ابن هشام، (3/67، 76 – 77 )، ومن طريق ابن إسحاق، بإسناد حسن لذاته، انظر السيرة النبوية الصحيحة، (2/514).
(10) انظر: مقالاً للشيخ محمد الدويش بعنوان: ( الاعتدال في الحماس للفكرة)، مجلة البيان، العدد (154).(115/1196)
(11) أخرج هذا المقطع من الحديث: البخاري، في كتاب الأدب، رقم (5551).
(12) أخرجه : مسلم، في كتاب الماسج، باب تحريم الكلام في الصلاة، (1/381 – 382 ) .
(13) أخرجه : البخاري، في كتاب العلم، رقم (68).
(14) أخرجه : أحمد (6/257)، والترمذي، في كتاب المناقب، رقم (3639).
ـــــــــــــــــــ
عفة يوسف عليه السلام
عقيل الشمري
7/6/1425
ارسل تعليقك ...
لا توجد تعليقات ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
الحمد لله وكفى ، وصلاة وسلاماً على النبي المصطفى ، وبعد ،،،
إن أنبياء الله جميعاً مضرب مثل للعفة والنزاهة ، ولا عجب فهم حملة الرسالة وأمناء الوحي ، اصطفاهم الله واختارهم فظهرت فيهم حكمة الله " الله أعلم حيث يجعل رسالته " .
ولأن الأحداث تحتم الكلام على العفة؛ لأنها في موطن التهمة هذه الأيام، وقد ذكرت عفة موسى _عليه السلام_ سابقاً ، أذكر الآن عفة يوسف _عليه السلام_، وذلك من خلال الآيات التي ذكرت قصته مع امرأة العزيز ، فأقول مستعينا بالله :
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم " وراودته التي هو في بيتها عن نفسه وغلقت الأبواب وقالت هيت لك قال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون * ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين * واستبقا الباب وقدت قميصه من دبر وألفيا سيدها لدى الباب قالت ما جزاء من أراد بأهلك سوء إلا أن يسجن أو عذاب أليم * قال هي راودتني عن نفسي وشهد شاهد من أهلها إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين "
لأن الأحداث تحتم الكلام على العفة؛ لأنها في موطن التهمة هذه الأيام، وقد ذكرت عفة موسى _عليه السلام_ سابقاً ، أذكر الآن عفة يوسف _عليه السلام_، وذلك من خلال الآيات التي ذكرت قصته مع امرأة العزيز
وكذلك قوله _تعالى_ :
" وقال نسوة في المدينة امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه إنا لنراها في ضلال مبين * فلما سمعت بمكرهن أرسلت إليهن وأعتدت لهن متكأ وقالت اخرج عليهن فلما رأينه أكبرنه وقطعن أيديهن وقلن حاشا لله ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم * قالت فذلكن الذي لمتنني فيه ولقد راودته عن نفسه فاستعصم ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن(115/1197)
وليكونن من الخاسرين * قال ربي السجن أحب إلي مما يدعونني إليه وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين *
وأما مظاهر عفة يوسف _عليه السلام_، فهي كما يلي :
1- لا بد أن نتصور الإغراءات التي حصلت ليوسف _عليه السلام_ حتى نعرف مدى العفة التي تحلى بها ، وهو لها أهل :
الإغراء الأول : أن امرأة العزيز هي التي تقوم بالمراودة ، والعادة أن الرجل هو الذي يراود المرأة لكن ما حدث ليوسف _عليه السلام_ عكس ذلك تماماً، فالمرأة هي التي تراوده، ولذلك الله نسب الفعل إليها، فقال _تعالى_ : " وراودته " (يعني: هي) .
الإغراء الثاني : أنه كان _عليه السلام_ في بيتها قال _تعالى_ : " التي هو في بيتها " فتعرف مداخل البيت ومخارجه ، وإغلاقه وإحكامه .
الإغراء الثالث : كثرة رؤيته لها ورؤيتها له ؛ لأنه في بيتها ولم يكن في حي آخر لا يراها أولاتراه حتى يتم الموعد بينهما ، بل كان في بيتها تراه دائماًً، وهذا مما يزيد يوسف بلاء فليس هناك مجال لكي تنساه أو أن يغيب عن ناظرها ، فعلى هذا يوسف يتعرض للبلاء يومياً، بل في كل أحيانه من دخول وخروج، قال
_تعالى_ : " التي هو في بيتها " .
الإغراء الرابع : أن لها عليه ولاية فهي سيدته ، امرأة سيد عزيز مصر ، بإمكانها إقالته أو قطع ماله الذي يأتيه أو طرده ، ومع ذلك لم يعط يوسف _عليه السلام_ لنفسه التهاون .
الإغراء الخامس : أنها عازمة على مرادها منه ، حتى أنها هي التي بدأت بالمراودة، وهي التي قامت وأغلقت الأبواب، وهي التي دعته كما قال _تعالى_ : " وغلقت الأبواب وقالت هيت لك " .
الإغراء السادس : أنها أحكمت إغلاق الباب كما قال الله: " وغلقت الأبواب " بالتشديد فكأنها تعطيه الأمان بذلك ، وعادة ما يردع الشخص الذي يريد الوقوع بالفاحشة إلا خوف الدخول عليه وافتضاح أمره ، فعرفت ذلك وضمنتها بالفعل وليس بالقول فقط .
من عفة يوسف أنه يعرف حقيقة السجن خاصة، وأنه جرب الجب قديماً ، فالسجن يرتبط به عدم النوم والتلذذ بالأكل ، ونقص الراحة ، وكبت الحرية وضيق المكان .
الإغراء السابع : كلمتها " هيت لك " بحد ذاتها جذابة !!
الإغراء الثامن : أنها هي التي ركضت خلفه _غفر الله لها_ .
الإغراء التاسع : من شدة رغبتها أنها قدت قميصه قال _تعالى_ : " وقدت قميصه " ، فدل ذلك على أن عرضها المراودة ليس عرضاً عادياً وانتهى بإعراض يوسف _عليه السلام_، بل متابعة ومحاولة حتى وصل الحال إلى تمزيق الثوب .
الإغراء العاشر : أنها لم تنفِ كلام النسوة ، بل زادت الفتنة فتنة ، أنها عرضته على نسوة أخر إضافة للإغراءات السابقة .
الإغراء الحادي عشر : اعترافها بملء لسانها زيادة على فعلها، فقالت : "أنا راودته عن نفسه " فاجتمع على يوسف _عليه السلام_ فعلها وقولها .(115/1198)
الإغراء الثاني عشر : أنها لم تيأس منه ، فحتى بعد رفضه السابق _عليه السلام_ وبعد هروبه منها ما زالت متعلقة به ، فجمعت النسوة وأرتهن إياه ، واعترفت بمراودتها إياه، ثم قالت : " ولئن لم يفعل ما آمره
ليسجنن وليكوناً من الصاغرين " فما زالت نفسها متعلقة به ، وهذا يزيد الابتلاء فتنة .
الإغراء الثالث عشر : تهديدها له حتى يواقع الشهوة، فقالت : " ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن وليكوناً من الصاغرين " .
فسبحان من عصم يوسف _عليه السلام_ حتى تحت واقع التهديد والسجن ، فلم يرخص لنفسه رخصة
المضطر ، ولا إكراه المكره .
الإغراء الرابع عشر : الغربة التي هو فيها ، ولا شك أن الغريب يمادي نفسه فعل مالا يفعله المقيم؛ لعدم خوفه من اشتهار وافتضاح أمره فهو غير معروف ، ولا يخاف كذلك من الطرد والإبعاد، فالدار أصلاً ليست بداره ، هذه
كلها مقياسات العرف ، فإذا جاء الشرع انتهت جميع المقاييس غيره لمن كان في قلبه مثقال إيمان .
الإغراء الخامس عشر : منصبها الذي يحمي المعصية لو حدثت فهي امرأة العزيز ، وقد غلقت الأبواب فمن الذي يستطيع أن يتجرأ بفتحها ، وإن فتحها ورأى ما رأى فمن الذي يستطيع أن يخبر بكل مار رأى ، لكنها والله عصمة الله .
الإغراء السادس عشر : جمالها ، وهذا مجرد استنباط؛ لأنها امرأة العزيز ، وما الظن بها غير الجمال ؟!
الإغراء السابع عشر : عمره المناسب ، فليس صغيراً لا يعرف هذه الأمور وليس كبيراً قد ضعف ، بل في عنفوان شبابه قد تخطر الشهوة بمجرد الخاطر فكيف إذا حفته إغراءات .
الإغراء الثامن عشر : حتى كلام النسوة في آخر المطاف هو مدعاة لإثارة الشهوة عندما قلن: " حاشا لله ما هذا بشراً إن هذا إلا ملك كريم " ، فإن لم يثر الشهوة فهو جالب للعجب بالنفس وهو مرض آخر .
فهذه ثمانية عشر إغراءً حصل ليوسف _عليه السلام_ وهو صامد مجاهد نفسه ، ويتذكر ربه فخاف حق الخوف ذكرتها حتى يتبين لنا أن صبره عن مواقعة المعصية كان باختياره لكنه ليس خياراً عادياً ، وحتى تظهر لنا جلية عفة يوسف _عليه السلام_ .
2 ـ قمة عفة يوسف _عليه السلام_ تجلت في هروبه، فلم يكن مجرد رفض، بل هروب من نوع خاص سريع، ولذلك قال الله : " واستبقا الباب " فكان يهرب هروباً من تلك الدعوة المجرمة ، وفرق والله جذري بين من يهرب للفاحشة وبين من يهرب عنها .
3 ـ امرأة العزيز استخدمت جميع الأساليب لأجل أن يحصل مرادها :
الفعل " وغلقت الأبواب " .
القول " هيت لك " .(115/1199)
الترجي " هيت لك " .
الحوار " وراودته " .
أخذ الضمانات له بالأمان " وغلقت الأبواب " بالتشديد الذي يدل على زيادة في الحرص .
التهديد " ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن وليكوناً من الخاسرين " .
ومع ذلك عصم الله يوسف _عليه السلام_ من أن يقع في أدنى أمر يخدش الحياء فضلاً عن الوقوع فيما تريد المرأة ، فهذه والله العفة التي افتقدها أهل تحرير المرأة اليوم والدعاة لها ، ولم يجدوا ريحها وإن ريحها لا يجده إلا المؤمن .
4 ـالصحيح في قوله _تعالى_: " وهم بها " أنه الهم الفطري البشري من الرجال للنساء ، كما قال: " زين للناس حب الشهوات من النساء " وهذا القول ليس اتهاما لمقام الأنبياء، بل بالعكس هو من باب المدح أقرب من الذم؛ لأننا إن قلنا بأن الأنبياء معصومون من ذلك الهم فليس لهم إذن مدح إذا لم يقع الواحد في مجاهدة الغريزة .
أما إن قلنا: هم كسائر البشر في باب الشهوة ، بل إن النبي _صلى الله عليه وسلم_ أعطاه الله قوة مئة من الناس في الجماع ، ورأى مرة إمرأة فدعا زوجته وقضى حاجته منها ، فعلى هذا القول يظهر كمال الأنبياء في مجاهدتهم لأنفسهم في شهواتهم ، وعفتهم عندما يغضون الطرف ويهربون عن مواقع الفتن كما هو حال يوسف _عليه السلام_ .
ثم هذا صريح القرآن عن يوسف _عليه السلام_ " وهم بها " ولا لوم عليه ما دام أن القضية فطرية بشرية ، وظهرت عفته _عليه السلام_ في قول الله عنه: " لولا أن رأى برهان ربه " فهنا يتفاوت الناس عفة وفحشاً ، إيماناً وغفلة ، فكم من شخص عرف برهان ربه لكنه غلبت عليه شهوته ، أو غفل عن برهان ربه ، أو اتبع هواه .
5 ـ من عفته _عليه السلام_ أن أول كلمة قالها ، وتلفظ بها بعد المراودة والدعوة ، أن قال: " معاذ الله " .
6 ـ معنى " معاذ الله " بحد ذاتها دليل على عفته _عليه السلام_ ، ففيها معنى " الالتجاء إلى الله ـ الاعتصام به ـ الاستعاذة بربه " .
7 ـ الاستعاذة من الفاحشة قالها يوسف _عليه السلام_: " معاذ الله " وقالتها مريم _عليها السلام_ " أعوذ بالرحمن منك " .
8 ـ قول يوسف _عليه السلام_: " معاذ الله " ليست بمنزلة رفض الفاحشة فحسب ، بل قطع حتى للتفكير وقبول المساومة عليها ، ففرق بين أن يقول الشخص: " لا لا أفعل الفاحشة " وبين أن يقول: " أعوذ بالله منها "؛ لأن الاستعاذة تقتضي رفض حتى التفكير فيها .
9 ـ في قول يوسف _عليه السلام_ " معاذ الله " تفسير لتعظيم حرمات الله ، وأن ينظر المؤمن للمحرم على أنه عظيم ليس من السهولة فعله ، ومنزلة تعظيم حرمات الله من أعمال القلوب .
10 ـ الفساد في الأعراض : خيانة للناس ، وخيانة لله .
وهذا على القولين في قوله _تعالى_: " إنه ربي "، سواء قلنا: إن المراد به : السيد عزيز مصر فيكون خيانة للناس .(115/1200)
أو أن المراد به : الله _سبحانه_ فيكون الفساد خيانة لله .
11 ـ الفساد في الأعراض : ظلم للناس ، وظلم للنفس .
وهذا على القولين في قوله _تعالى_: " إنه لا يفلح الظالمون "، سواء قلنا: إن المراد به : الظالمون الذين يخونون الأعراض .
أو أن المراد به : الظالمون لأنفسهم بالوقوع بالزنا .
12 ـ من عفته _عليه السلام_ أن خبر تعلق إمرأة العزيز به قد انتشر حتى في وسط نساء المدينة " وقال نسوة في المدينة " ولا شك أن انتشار الخبر يعطي الشخص تبلد الحس ، ومع ذلك لم يؤثر فيه .
13 ـ حتى نتصور عفة يوسف _عليه السلام_ لا بد أن نتصور الحالة التي وصلت إليها امرأة العزيز، والتي وصفها الله بقوله: " قد شغفها حبا "، والشغف، هو : الوصول إلى شغاف القلب وهو منتهاه وغايته بحيث لم يترك حبه في قلبها أي موضع إلا دخله .
فما الرأي بامرأة وصلت لتلك الحالة ؟! وما العفة التي أمكن أن تقف في وجهها ؟!!
14 ـ من عفته قول الله: " فاستعصم "، وهو اعتصام وزيادة لزيادة الألف والسين والتاء ، ويكفي أن المرأة هي التي وصفته بهذا ، مع أن المتعلق يرى خطأ حبيبه عين الصواب ، ويبرر أفعاله .
15 ـ قمة العفة تظهر في قوله _تعالى_ عن يوسف: " رب السجن أحب إلى مما يدعونني إليه " .
فما أعظم العفة التي تجعل السجن أفضل وأحب من الوقوع في الفاحشة .
16 ـ من عفة يوسف أنه يعرف حقيقة السجن خاصة، وأنه جرب الجب قديماً ، فالسجن يرتبط به عدم النوم والتلذذ بالأكل ، ونقص الراحة ، وكبت الحرية وضيق المكان .
ومع ذلك قال: " السجن أحب إلي "، ويوسف _عليه السلام_ عاقل يعرف معاني الألفاظ .
17 ـ الذي يظهر ـ والله أعلم وأحكم ـ أن يوسف _عليه السلام_ تعرض لمراودة من غير امرأة العزيز، وذلك من النسوة الآتي رأينه ، بدليل قوله: " يدعونني إليه " فاتضح أن الداعي أكثر من واحد ، ومع ذلك استعف عن الجميع .
18 ـ سياق الآيات يدل على أن يوسف _عليه السلام_ تعرض لأكثر من محاولة كيد لإسقاطه في فخ الفاحشة ، بدليل قوله _تعالى_: " وإلا تصرف عني كيدهن " فاتضح أن هناك كيد ومحاولات وخطط .
19 ـ من عفة يوسف _عليه السلام_ أنه وصف الذين يقعون في الفاحشة بالجهل، كما قال: " وأكن من الجاهلين "؛ لأنهم خانوا الله ، وخانوا الناس ، وظلموا أنفسهم ، وآثروا شهوة فائتة ، واتبعوا هوى أنفسهم .
20 ـ يوسف _عليه السلام_ يذكر في الآيات علاج الافتتان بالنساء ، ويتلخص ذلك بما يلي :
أ ـ عدم تعريض النفس للفتنة ، كما قال: " رب السجن أحب إلي " .
ب ـ الهروب من مواقع الفتن ، كما قال: " واستبقا الباب " .(115/1201)
ج ـ الاستعانة بالله _سبحانه_ وعدم الثقة بالنفس كما قال: " وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن " .
د ـ الحرص على الدعاء ، كما قال: " فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن " .
هـ ـ عدم قبول التنازلات في هذا المجال أبداً ، كما قالت امرأة العزيز عن يوسف _عليه السلام_: " فاستعصم " .
و ـ الاستعاذة بالله _سبحانه_ ، كما قال: " معاذ الله " .
ز ـ استحضار عظمة الله، كما قال: " لولا أن رأى برهان ربه " .
ح ـ تذكر أنه خيانة لأعراض الناس ، كما قال: " إنه ربي أحسن مثواي " على القول بأن المراد به السيد .
ط ـ تذكر عاقبة الفاحشة، وأنها تقديم لذة فانية زائلة تعقبها حسرة باقية ، وهذا هو الجهل ، كما قال: " وأكن من الجاهلين " .
ي ـ لا بد من الصبر على الحلول التي قد يكون فيها نوع تعب وتحتاج لصبر ومصابرة ، حتى لو كان السجن ، كما قال: " رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه " .
فهذه حلول واقعية عملية طبقها يوسف لحل مشكلة الافتتان بالنساء ، وعلاج لمن ابتلي بمثل ما ابتلي به .
21 ـ من عفته _عليه السلام_ أنه لم يتكلم بأمر امرأة العزيز ولم يفضحها بين أهل السجن والعبيد والناس لا قبل السجن ولا في أثنائه ولا بعده ، بل كان لا يذكر أمرها إلا إذا استدعى الأمر إلى ذكر ، كما هو الحال حينما أتهم فقال: " هي راودتني عن نفسي " ثم لم يذكر غير ذلك .
بل حتى لما رجع إليه الرسول من العزيز لما عبر الرؤيا لم يقل: " ما بال امرأتك تراودني "، بل عمم فقال: " ما شأن النسوة الآتي قطعن أيديهن " .
22 ـ من تمام عفته _عليه السلام_ أنه ورغم المحاولات الكثيرة من امراة العزيز والنسوة إلا أنه لم يخنع ولا مرة واحدة ولم يتنازل ولم يتهاون ، ولو بموعد عفيف مثلما يقال ، أو حتى نظرة بعين ، أو كلمة بلسان ، أو غير ذلك مما قد يهونه عدو الله إبليس .
23 ـ من عفته _عليه السلام_ أنه قطع الأسباب التي تقود وتؤول لفعل الفاحشة ، والتي تحرم من باب سد الذرائع ، فلم يفتح مع امرأة العزيز الحوار أو المناقشة أو حتى الدفاع بالكلام عن نفسه ، ولم يسألها لماذا قلبت عليه القضية يوم أن جاء زوجها ؟
بل حتى ولم يذكرها وينصحها ، لعلمه أن هذه وسائل تقود لما بعدها من المحرمات ، وإن لم تحرم لذاتها .
فهذه خمسون فائدة من عفة يوسف _عليه السلام_ في الآيات التي تكلمت عن هذا الجانب فقط ،
فصلى الله وسلم على يوسف _عليه السلام_ الذي رسم العفة بكاملها ، وأتت قصته لتكون رداً على أهل دعوة التحرير الذين يشجعون ما هرب منه يوسف _عليه(115/1202)
السلام_ ، ويميعون ويهمشون ما عظمه يوسف _عليه السلام_ ، فيعيدون محاولات امرأة العزيز ، وكيد النسوة .
والله أعلم وأحكم وصلى وسلم على نبينا .
ـــــــــــــــــــ
أزمتنا الأخلاقية(*)
د. محمد العبدة
1/6/1425
ارسل تعليقك ...
لا توجد تعليقات ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
أزمتنا الأخلاقية(1)
خلل كبير نعاني منه في حياتنا الإسلامية المعاصرة أيما معاناة، ذلك هو النقص في الأخلاق الأساسية التي يجب أن تتوافر في كل مسلم؛ لأنها إن ضعفت أو نقصت فلن تقوم للأمة قائمة، هذه الأخلاق كانت موجودة أو كثير منها عند العرب عندما جاءهم رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ بالنبوة والهداية. كان خلق الوفاء والصدق والشجاعة والتذمم للصديق والجار شائعاً، وكان العربي يجد غضاضة في أن يوصم بالكذب أو الغدر، ولذلك لم يُتعب الرسول _صلى الله عليه وسلم_ نفسه في تأديب هؤلاء وتربيتهم على هذه الأخلاق والدعوة إلى ممارستها، فالإشارة منه لهذه الأخلاق كانت تكفي؛ لأنها ارتبطت بالتوحيد الذي جاءهم به، وهو الذي كان ينقصهم فلما تمثلوا به وأصبحت العبودية تامة لله _سبحانه_ كملت هداية الفطرة وهداية الوحي فكانوا كما قال _تعالى_: "نُورٌ عَلَى نُورٍ" (النور: من الآية35).
وفي هذه الأيام ابتلي المسلمون وابتليت الدعوة بمن تجرد من هذه الأخلاق، فالكذب – وهو أسوأ الأخلاق الرديئة – يقع فيه هؤلاء، سواء في أحاديثهم العادية أم في تجريح إخوانهم من الدعاة، ولا أدري بم يعللون هذه الفعلة الشنيعة، هل بمصلحة الدعوة؟! أما الحقيقة فهي أن معادنهم رخيصة، وليس عندهم أخلاق الفطرة؛ لأنها فسدت بسبب البيئة التي عاشوا فيها، ولا أخلاق الإسلام؛ لأنهم تربوا على الأنانية والحزبية الضيقة، ويتبع هذه الخصلة السيئة قلة الإنصاف في الحكم على الآخرين، فالتهم تكال كيلاً دون أدنى تحر للعدل والإنصاف، ويتناقل هذه التهم المغفلون والسذج دون أي تحرج أو تأثُّم، فكيف تستقيم حياتنا الإسلامية وفينا هذه الأخلاق، انظر إلى هذا الذي يقول عن إخوانه الذين يتصدون للظلم والقهر والإرهاب السافر، يقول عنهم في لقائه مع رئيس مجلس الدولة: "جئنا لتهدئة الأوضاع والخروج من الأزمة التي سالت فيها الدماء، فأصبح المقتول لا يعرف لماذا قُتِل، والقاتل لا يعرف لماذا قَتَل؟".
خلل كبير نعاني منه في حياتنا الإسلامية المعاصرة أيما معاناة، ذلك هو النقص في الأخلاق الأساسية التي يجب أن تتوافر في كل مسلم(115/1203)
أهكذا أيها الداعية؟! المقتول لا يعرف لماذا قتل؟ الذين يجاهدون الظلم ويدفعون عن أنفسهم العدوان لا يعرفون لماذا يجاهدون؟ هل هذه أخلاق رجال؟ هل الذي يشمت بما يفعل بإخوانه يملك الأخلاق الأساسية التي هي من مقومات نهضة الأمة، وكان قد أظهر شماتته في أحداث سبقت وأيد نزول الجيش لإنهاء ما سماه (الفتنة).
إنها مصيبة – والله – أن يكون بعض من لا يتبنى الإسلام عنده من الجرأة والرجولة أكثر من هذا الذي يملك نفساً أنانية ولا يريد إلا التسلق على حساب مصائب إخوانه، ولذلك نقول: إن أزمتنا في بعض جوانبها أزمة أخلاقية.
أزمتنا الأخلاقية(2)
كم هو مؤلم للنفس أن يشكو إليك أخ مسلم حال بعض المنتسبين للدعوة، فيذكر من جفائهم وبعدهم عن تطبيق ما يأمر به الإسلام من الرفق واللين والكلمة الطيبة، والسؤال عن الحوائج وتفقد الأحوال، والزيارة الأخوية، ويتابع هذا الشاكي فيقول: "دخلت المستشفى فلم يزرني الإخوة الذين أعرفهم، وزارني زملاء العمل الذين هم أقرب لأن يكونوا من عوام المسلمين، وبعضهم يعرض عليَّ المساعدة المالية، أو أي خدمة يمكن أن يؤديها".
ونحن نسمع ونرى كيف يخدم أهل الباطل بعضهم، أو من يريدون وقوعه في شباكهم، مع أن المسلمين هم أوْلى الناس بكل مكارم الأخلاق ومحاسن العادات، ولا يجوز أن يسبقهم سابق في هذا المضمار، وإننا نذكِّر المسلم بحديث: "اشفعوا فلتؤجروا وليقض الله على لسان نبيه ما أحب"، وحديث العاهر التي سقت كلباً في يوم قائظ فغفر الله لها، وحديث المرأة التي عُذِّبت في هرة لها حبستها، وحديث الذي كان يقام عليه حد الخمر فلعنه أحدهم، فقال له رسول الله _صلى الله عليه وسلم_: "لا تلعنه إنه يحب الله ورسوله" كما نذكِّرهم بقصة الإمام أبي حنيفة مع جاره السكِّير الذي دخل السجن فشفع له أبو حنيفة، ثم تاب وأناب.
إن من أسباب هذا الجفاء والجفاف عند بعض المنتسبين إلى الدعوة هو ضيق عطنهم، وجهلهم بحال المدعو وبطريقة الرسول _صلى الله عليه وسلم_ وحاله في تأليف الناس، وطريقة العلماء الربانيين من هذه الأمة، ولذلك تجدهم إذا رأوا من هو مقصر في بعض السنن عاملوه بازدراء واستخفاف، وقد لا يسلمون عليه إلا بصوت منخفض، ولا يهتمون به ولا يحاولون استمالته بالكلمة الطيبة أو بصنع المعروف حتى يميل قلبه إلى محبة السنة وأهلها.
وهذا الذي ينظر إلى المقصرين بعين الازدراء وقع في داء أشد وهو العجب بالنفس والاستطالة على الخلق، وهؤلاء غالباً ما يقعون في الغيبة باسم النقد والتقويم، وهذا المرض أصبح فاشياً، فتُذكر معايب المسلم وقد لا تكون فيه، وأكثرها من الأوهام والظنون، ولا تسأل كذلك عن المكر الذي يستعمله بعضهم مع إخوانه ويعد هذا من الذكاء والكياسة، وينظر للمسلم الذي لا يستعمل هذا المكر على أنه مغفل مسكين.
وبعد هذا كله، ألا يحق لنا أن نصف بعض جوانب أزمتنا بأنها أخلاقية، وهي فرع ولا شك من تخلفنا العام الذي طال مكثه فينا، ونحن نحاول من هنا وهناك الخروج من هذا المأزق؟!
____________(115/1204)
(*) من كتاب (خواطر من الدعوة)
ـــــــــــــــــــ
أفكار يجب أن تتغير(*)
أ.د. عبد الكريم بكار
9/5/1425
ارسل تعليقك ...
لا توجد تعليقات ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
يحيا كل إنسان في بيئة مشحونة بالأفكار والعقائد والتقاليد والرموز والمعلومات، ومن مجموع تلك الأمور تتكون ثقافته العامة، ومن تلك الثقافة تتولد رؤيته لأمور كثيرة، كما تتشكل لديه الصور الذهنية التي يرى من خلالها نفسه والعالم من حوله، وإن كل صورة ذهنية تبدأ بالتشكل نتيجة الخواطر التي يتكرر ورودها على الواحد منها، وكثيراً ما تأتي الأحداث اليومية لتؤكد صحة تلك الخواطر، ومن هنا فإن الواحد منا مطالب بأن يعي الصور الذهنية الخاطئة حتى يتمكن من مجابهة الخواطر التي تؤدي إلى تشكيل تلك الصور وقطع الطريق عليها.
تؤكد الكثير من البحوث التي أجريت في علم النفس المعرفي على أن تتغير الأفكار هو المدخل الصحيح لتغيير الاستجابات الشعورية والسلوكية لدى الإنسان، والحقيقة أن الصور الذهنية التي تحتاج إلى التغيير، أو نحتاج إلى التخلص منها على نحو نهائي كثيرة جداً؛ لكن أكثرها حيوية وتأثيراً في مسار حياتنا الشخصية هي تلك الصور التي كوّناها عن أنفسنا وذواتنا؛ إذ إنها تؤثر على نحو جوهري في أسلوب رؤيتنا للحياة وفي نوعية مبادراتنا ونوعية ردود أفعالنا.
إن جوهر التقدم العقلي يرتكز إلى حدٍّ بعيد على مدى قدرتنا على امتحان الأفكار والمفاهيم والمشاعر الموروثة، والتأكد من الوضعية المناسبة لها في منظوماتنا الثقافية والقيمية الجديدة
ولعلّي أشير هنا إلى بعض تلك الصور والمفاهيم في الآتي:
1 – كثيرون أولئك الذين تسيطر عليهم مشاعر الإحباط، ومشاعر عدم الأهلية للقيام بالأعمال التي يقوم بها نظراؤهم من الناس؛ ولذا فإنهم بالتالي يشعرون أنهم لا يستحقون النجاح والتفوق، وينعكس هذا الشعور بالضآلة على نفسياتهم وسلوكاتهم، حيث إنك تجد الواحد منهم فاقداً للحيوية، فهو يؤدي أعماله بتثاقل وتباطؤ ومن غير أي حماس أو اندفاع، وإذا بدأ بإنجاز عمل أو مشروع فإنه قلَّما ينهيه، وإذا أنهاه لم ينجزه على الوجه المطلوب، وحين يفكر الواحد منهم، فإن تفكيره يفقد المسحة الإبداعية، ويتسم بالرتابة والتكرار؛ إذ لا حافز يدعو إلى التجديد، وهذا الصنف من الناس كثيراً ما يحدثك عن العقبات التي تعترض سبيله، وكثيراً ما يزعم أنها عقبات طارئة وغير متوقعة.(115/1205)
وأخيراً فإن الذين يفقدون الشعور بالأهلية للقيام بالأعمال الجيدة يحملون في نفوسهم الكثير من مشاعر اللوم للآخرين والعتب عليهم؛ لأنهم في توهمهم يخذلونهم ويحجبون عنهم العون الذي كان ينبغي أن يقدموه إليهم؛ وهذا يؤدي إلى عزلتهم، وابتعاد الناس عنهم مما يضاعف في مشكلاتهم، ويشعرهم بالاغتراب.
أنا لا أشك أن مواهب الناس وإمكاناتهم وظروفهم متفاوتة، لكن أعتقد مع هذا أن هناك دائماً أكثر من طريقة ووسيلة لإدخال تحسينات على كل ذلك، لكن السلبية التي ورثها الكثيرون منا من بيئاتهم تمنعهم من رؤية الآفاق الممتدة التي أمامهم، وأظن أن تخفيض الطموحات سوف يقرب المسافة بين الأهداف وبين الإمكانات المتوافرة، مما يحفز الإنسان على العمل والدأب، كما أن توضيح ما يريده الإنسان على نحو جيد يساعد هو الآخر على إزالة الأوهام التي تعشش في أذهان الناس، وتصبح مصدراً لتوليد الإحساس بصعوبات غير موجودة، ومن المؤسف في هذا السياق أن معظمنا يفكرون غالباً في الأشياء التي لا يريدونها، مما يجعلهم يشعرون بالمشكلات أكثر من شعورهم بالنتائج الجيدة.
أخيراً فإن العزيمة على إنجاز أشياء محددة في زمان محدد، تجعل المرء يضع قدمه على بداية طريق النجاح، وبمجرد أن يشعر بأنه بدأ يتقدم تتولد لديه طاقات جديدة، تساعده على المضي نحو الأمام باطمئنان وثبات.
2 – بعض الناس يحملون صوراً ذهنية مبالغاً فيها حول الكفاءة الشخصية والإنجاز العالي، ويعتقدون أن الإنسان إذا لم يحقق نجاحات كبرى، فإنه لن تكون له قيمة بين الناس، وهذا غير صحيح، فالمرء لا يحترم لإنجازاته فحسب؛ بل إن هناك الكثير من السمات التي ترفع من قدر الواحد منا في عيون إخوانه أكثر مما يرفع النجاح، وذلك مثل: الطيبة والتعفف وحب الخير للناس وبذل المعروف والاستقامة على أمر الله – تعالى – وما شابه ذلك.
3 – يغلب على كثير من الناس مفهوم يقضي بأن تسير الأمور على ما يشتهون ويرغبون، وإذا لم يحدث ذلك فإن الحياة تصبح شيئاً لا يطاق، وهذا وهم كبير، فنحن لا نملك زمام الأحداث، ولسنا نحن الذين نحرك الأشياء، ولذا فإن علينا أن نتوقع دائماً أن يحدث ما ليس في الحسبان.
ومن وجه آخر فمن الذي يزعم أن عدم حدوث ما نرغب فيه يشكل كارثة أو انتكاسة؟ إن الله – جل وعلا – وحده هو الذي يعلم خواتيم الأمور وعواقب الأحداث والأوضاع، ولذا فإننا طالما خشينا من وقوع الكثير من الأحداث، لكن بعد أن تقع نلمس فيها من لطف الله – تعالى – ورحمته وخيره، ونرتاح لذلك ونسرّ به، وإذا تأملت حياة الناس وجدت أعداداً لا تحصى منهم استاؤوا – مثلاً – عند فصلهم من وظائفهم، وعدُّوا ذلك مصيبة كبرى، لكن بعد أن انطلقوا في الأعمال الحرة عدوا وقت فصلهم بداية رائعة لمرحلة مثمرة وعظيمة.
يقول الله – جل وعلا – معلماً لنا هذه الحقيقة الناصعة: "وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ" (البقرة: من الآية216)، ثم إن الله – تعالى – أعطانا قدرة هائلة على التكيف مع الأمور الصعبة، وحين يقع ما لا نحبه أو نتوقعه، فإننا إذا استطعنا امتصاص الصدمة الأولى، سنجد(115/1206)
أنفسنا متوافقين مع الأشياء الجديدة، وسنجد إذا استخدمنا البصيرة أنها لا تخلو من إيجابيات وحسنات.
4 – الحضارة الحديثة مكّنت الإنسان من السيطرة على الكثير الكثير من مظاهر الطبيعة، ورسخت في عقله ومشاعره أن هناك دائماً العديد من الخيارات، كما أن من حقه أن يتطلع إلى ما هو أكثر وأمتع وأرفه وأجود... وهذا كله جعلنا كلما واجهنا مشكلة طلبنا لها حلاً مثالياً كاملاً، وإذا لم نجد ذلك الحل، فإننا نشعر بالكثير من الأسى والفجيعة!
لا ريب أن التطلع إلى ما هو أحسن وأكثر، شيء ليس خاطئاً من حيث المبدأ؛ لكن يجب علينا أن ندرك أن ذلك لا يخلو في كثير من الأحيان من المثالية والمبالغة، ولذا فإن الإصرار على الحصول على الأفضل دائماً يجب أن يصحب بالاعتقاد أن لله – تعالى – الكلمة العليا والنهائية في هذا الوجود، وأنه لن يحدث إلا ما أراده وقدَّره، وهذا الذي أراده قد يوافق رغباتنا، وقد لا يوافقها، ثم إن الوصول إلى أي حل عاجل أو آجل لمشكلة صغيرة أو كبيرة، لا يمكن إلا أن يظل خاضعاً للبيئة والمعطيات السائدة، وبما أن شروط حياتنا الشخصية وشروط الحياة العامة تظل دائماً دون طموحاتنا وتطلعاتنا، فإننا سنظل نشعر أن الوسط الذي نعيش فيه هو أقل مما نريد، وأقل مما ينبغي أن يكون؛ وهذا يعني أننا لن نصل أبداً إلى حلول كاملة ومثالية؛ لأن الحل الكامل يتطلب وسطاً كاملاً، ولذا فإن علينا دائماً أن نتوقع حلولاً منقوصة ونتائج محدودة، والناس الذين لا يعرفون هذا المعنى سيظلون يشعرون بالخيبة والسخط!
5 – لو تساءلنا لماذا يعيش أشخاص في مركز الضوء وفي لُجَّة الأحداث، على حين يظل آخرون على هامش الحياة أخذاً وعطاءً وتأثراً وتأثيراً، لوجدنا أن لذلك العديد من الأسباب، لكن قد يكون من أهمها أن كثيرين منا يختارون تجنب المشكلات والتحديات، والابتعاد عن دائرة الضوء قدر الإمكان، ولهم في ذلك فلسفتهم الخاصة، وأعتقد أن هذا المفهوم يحتاج إلى تغيير، حيث إن مواجهة الصعوبات والقيام بالمهمات والمسؤوليات، كثيراً ما يكون السبيل الوحيد لتنمية الشخصية وبلورة الإمكانات والقدرات، وفتح مجالات جديدة للعطاء والنفع العام، تصور معي ماذا كان يحدث لو أن رجلاً مثل أبي بكر أو عمر – رضي الله عنهما – رفض إمرة المؤمنين، ولو أن رجلاً مثل خالد بن الوليد رفض قيادة جيوش المسلمين، ولو أن رجلاً مثل الشافعي أو أحمد أو أبي حنيفة اشتغل بالزراعة، ولم يدخل المجال العلمي...؟؟
إن المتوقع آنذاك أن يكون كل واحد من هؤلاء العظماء في وضعية أقل أهمية وأقل ملاءمة للعطاء الكبير الذي قدموه. إن التاريخ يُصنع من وراء التصدي للمهمات الجليلة، ومن وراء التغييرات الكبيرة التي نُدخلها على حياتنا الشخصية من أجل الاضطلاع بالأعمال العظيمة. لا ريب أن البعد عن تحمُّل المسؤوليات والإعراض عما يسبب الصعوبات، يجلب لنا الكثير من الراحة والهدوء، ويجعلنا أقل احتياجاً لاستنفار الإمكانات وتحرير الطاقات، كما أنه لا يتطلب منا كثيراً من التعديل في برامجنا الخاصة؛ لكن علينا أن نتذكر أن البعد عن مركز النشاط الحضاري والرضا بالعيش الهادئ الهانئ، كثيراً ما يتسبب في الضمور والترهل، وفقدان البيئة التي(115/1207)
تمكِّن الإنسان من النمو والعطاء، وعلينا ألا ننسى أيضاً أن تواري الصالحين والأكفاء عن محاور الحركة في الحياة، يتيح للآخرين التقدم إليها وملء الفراغ الذي تركه الأخيار بالأمور السيئة والضارة.
6 – لو سألنا الناس الذين لم يحققوا إنجازات جيدة عن الأسباب التي حالت دون ذلك، لوجدنا أن السواد الأعظم منهم يُحيل ذلك إلى عوامل وأسباب خارجية لا يستطيع الإنسان السيطرة عليها، وتلك الأسباب قد تكون مادية أو اجتماعية أو أسرية... وقليلون جداً أولئك الذين يقولون: إنهم لم يحققوا تقدماً أو تفوقاً على أقرانهم بسبب عدم امتلاكهم الاهتمام أو التنظيم الذاتي أو العادات الجيدة أو الآفاق الرحبة... وهذا يعود على ما يبدو إلى أن إدراك العوامل الحسية أسهل من إدراك العوامل المعنوية؛ ثم إن لدينا ميلاً غريزياً إلى جعل أسباب قصورنا أو إخفاقنا تتعلق بالآخرين، أو بأشياء خارجة عن سيطرتنا أو مسؤوليتنا، وهذه الفكرة تحتاج إلى تعديل، فنحن مع أننا لا نتجاهل تأثير العوامل البيئية والظرفية إلا أنا نعتقد أن المشكلة الأساسية تكْمُن في عقولنا ونفوسنا وسلوكاتنا، وحين يحدث تحسن جيد على هذه الأصعدة، فإن تأثير العوامل الخارجية يتضاءل، بل إن الظروف المعاكسة تتحول من معوقات للتقدم إلى محفزات ومحرضات عليه، وكثيرون أولئك الذين صنعت منهم الأوضاع الصعبة رجالاً عصاميين من الطراز الرفيع.
7 – نحن – على نحو ما – جزء من الماضي، وكثير مما نحمله من أفكار ومشاعر وعادات موروثة من أزمنة الطفولة والمراهقة والشباب، ونحن نتمسك بذلك الموروث؛ لأننا نرى فيه استمرارية وجودنا ورسوخ ذواتنا، وهذا يجعلنا نعتقد أن الماضي بكل أحداثه ومؤثراته ومعطياته هو الذي يصوغ سلوكنا في الحاضر، وربما في المستقبل، والحقيقة أن معظم الناس يخضعون لتأثير أحداث الماضي وما أبقته في النفوس من مشاعر وصور وانطباعات، وربما تعاملوا معها على أنها نوع من الخبرة العزيزة التي يجب الاستفادة منها والسير على هديها.
ويمكن القول: إنه كلما امتدت المساحات التي أفلتت من قبضة الوعي، فصار التعامل معها عن طريق (اللاشعور)، وجدنا أنفسنا في أَسْر المشاعر والأفكار القديمة، المشكلة تتمثل في أن تلك المشاعر والانطباعات كثيراً ما تكون غير صحيحة، أو غير ناضجة، أو تكون قد تكونت في ظروف مغايرة كثيراً لما نحن فيه اليوم، وتؤدي الأمثال والمقولات الشعبية المأثورة عن السابقين دوراً سيئاً في هذا المقام؛ لأن كثيراً منها كان عبارة عن إطلاقات بَدَهية لا تستند إلى خبرة عريقة، ولم تتعرض لأي دراسة أو تمحيص جيد.
إن انطباعي عن زيد من الناس بأنه مهمل أو حقود أو كذاب أو سريع الغضب، قد يكون تولد من موقف واحد معه أو نتيجة إخبار بعض الناس لي، ويكون ذلك الموقف استثنائياً، لا يمثل وضعيته العامة، أو يكون الذي أخبرني غير صادق أو غير دقيق فيما يقول، وقد يكون الرجل أقلع عما كان عليه، وحسن حاله، وحينئذ فإن انطباعاتي وأحاسيسي عنه قد تكون متخلفة وظالمة!
بعض الأفكار الموروثة نشأ بسبب وجود الأمية، أو بسبب أسلوب متصلب في التربية، أو بسبب عرف اجتماعي غير صحيح؛ وعلى سبيل المثال فإن قول العامة:(115/1208)
"أكبر منك بشهر أعرف منك بدهر" نشأ نتيجة انتشار الأمية، حيث يكون لكبر السن أثر كبير في حصيلة الإنسان العلمية، أما اليوم فإن العلم الغزير ليس مرتبطاً بالأعمار على نحو مطرد... إلخ.
نحن في حاجة ماسة إلى غربلة ما ورثناه من مفاهيم ومقولات ومشاعر وانطباعات عن طريق النقد الدقيق والتأمل العميق والتحاكم إلى الخبرات الجديدة، وأعتقد أننا إذا فعلنا ذلك فإننا سنكتشف زيف الكثير من ذلك، كما أننا سنكتشف أن خضوعنا له قد غمرنا بالكثير من الأوهام!
إن جوهر التقدم العقلي يرتكز إلى حدٍّ بعيد على مدى قدرتنا على امتحان الأفكار والمفاهيم والمشاعر الموروثة، والتأكد من الوضعية المناسبة لها في منظوماتنا الثقافية والقيمية الجديدة.
____________
(*) من كتاب (جدد عقلك).
ـــــــــــــــــــ
الترف وأثره في الدعاة والصالحين
د. محمد موسى الشريف
2/5/1425
ارسل تعليقك ...
تعليقات سابقة ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
اسم الكتاب: الترف وأثره في الدعاة والصالحين.
المؤلف: د. محمد موسى الشريف.
الطبعة: الأولى، 1421هـ.
تصدر عن دار الأندلس الخضراء ضمن سلسلة "معالم على طريق الصحوة" برقم (31).
الترف داء عضال، ومرض مهلك إن استشرى في أمة ذهب بعزمها، وأورثها تباطؤاً وخمولاً وكسلاً ودعة، وعلقها بالحياة الدنيا وحببها إليها، والترف إن التصق بشخص ما حتى صار يوصف به كان ذلك إيذاناً بضعفه، وإعلاماً بوهنه، ودليلاً على تراخي شأنه، وعدم ضبطه أمره، وأنه أكثر لذائذ الحياة على الجد والاجتهاد، هذا هو الترف وما يجره على العامة، لكن كيف هو إن صار علامة على عدد من الصالحين وشارة لبعض الدعاة والمتصدرين؟ هنا يعظم الخطب ويستشري الفساد.
تلك بعض الكلمات التي ذكرها المؤلف – وفقه الله – في مقدمة هذه الرسالة التي يقول إنه كتبها تذكيراً للمبتدي وتبصيراً للمنتهي، وتحذيراً للسادر في شهواته الغوي، وعبرة وعظة للمقتدي المؤتسي، وقد جعلها في خمسة مباحث سنتعرض لها إجمالاً لنُعرِّف بهذه الرسالة المفيدة.(115/1209)
الترف داء عضال، ومرض مهلك إن استشرى في أمة ذهب بعزمها، وأورثها تباطؤاً وخمولاً وكسلاً ودعة، وعلقها بالحياة الدنيا وحببها إليها
تحدث المؤلف في المبحث الأول عن معنى الترف فخلص إلى أنه يدور على التنعم وسعة العيش والتوسع في ملاذ الدنيا وشهواتها، وقد يؤدي إلى الطغيان وعدم شكر النعم، وأما عن العلاقة بين الترف والغنى، فقد بين أن الغنى ليس متعلقاً بالترف ضرورة، فالغنى قد يؤدي إلى الترف ويسوق إليه، لكن ليس ذلك حتماً فكم من غني شاكر بعيد عن الترف مترفع عنه، وقد أوضح أن العلاقة بين الترف والإسراف علاقة وثيقة مترابطة فالترف هو أول علامة على الإسراف.
المبحث الثاني ذكر فيه المؤلف بعض ما جاء عن الترف في الكتاب والسنة والآثار، ثم انتقل إلى المبحث الثالث، وبين فيه أثر الترف في ضعف الدول والشعوب قديماً وحديثاً، وقد أوضح أن للترف أثراً بالغ السوء في الدول والشعوب، بل هو معول هدم لطاقاتها وقدراتها، حيث يُغري بالإخلاد إلى الأرض، والإكثار من المباذل والشهوات والخوض في سفاسف الأمور ودناياها، والتعلق بالمناصب والجاه والمال، وقد ذكر المؤلف أمثلة لأثر الترف في الدول والشعوب القديمة فتحدث عن الرومان والفرس وعن اليونان وعن الأندلس وعن دولة بني العباس، وبيّن المؤلف مظاهر الترف وكثرتها في هذه الدول مما كان له دور كبير في سقوط هذه الدول وفنائها، ثم انتقل المؤلف إلى موضوع الترف في الدول والشعوب في العصر الحديث، فمثل على ذلك بفرنسا وحالها في الحرب العالمية الثانية، ومثل أيضاً بواقع وحال الدول العربية وما أثره الترف فيها، ثم بين المؤلف حال أهل المدن وانغماسهم في الترف وأثر ذلك عليهم.
بعد هذا كله وصل المؤلف إلى أهم المباحث في كتابه؛ لأنه المقصود في بيان أثر هذا الداء "الترف" على العاملين من الدعاة وطلبة العلم والعلماء وسائر الصالحين مبيناً أن الخطر كل الخطر أن يهاجم الترف أولئك وهم صفوة الأمة وخلاصتها ووجهها المضيء ومتعلق آمالها ومكمن قوتها، وقد بين المؤلف – وفقه الله – أن آثار الترف كثيرة متنوعة، وأنه سيذكر أبرزها وأهمها، ومن ذلك:
الأثر الأول: الغفلة عن درجات الآخرة العالية:
وهذا مرض عظيم، وذلك أن المترف لا يعود يرى إلا لذائذه وشهواته، قال ابن القيم – رحمه الله تعالى-: "قال لي شيخ الإسلام – قدس الله روحه – في شيء من المباح: هذا ينافي المراتب العالية، وإن لم يكن تركه شرطاً في النجاة، فالعارف يترك كثيراً من المباح برزخاً بين الحلال والحرام".
الأثر الثاني: التعلق بمباهج الحياة ونسيان الهدف منها:
وذلك أن المرء إن تقلب في المباهج وذاقها تعلق بها أيما تعلق وملكت عليه حياته، وللتعلق بمباهج الحياة صور، منها:
أولاً: التوسع في المآكل والمشارب:
وقد أوضح المؤلف أن من أسباب الترف التوسع في المآكل والمشارب، ثم انتقل إلى بيان أن حال عظماء الأمة خلاف ذلك فتحدث عن حال النبي - صلى الله عله وسلم - مع الطعام وصحابته - رضي الله عنهم - وعلماء الأمة؛ كالشافعي، وسفيان الثوري،(115/1210)
وإبراهيم الحربي، وكيف أن هؤلاء العظام قد ملكوا أنفسهم وتغلبوا على شهوة تناول الطيب من الطعام والحسن من الشراب والإكثار منهما، فاستطاعوا أن يرتقوا ارتقاءً عجيباً في العلم، ويرتفعوا إلى أعظم منازله، وقد بين المؤلف محاذير أخرى في التوسع في المآكل والمشارب، منها:
- التعود على نظام الوجبات الثلاث.
- عدم القدرة على صيام التطوع أو التهاون في شأنه.
- ضعف الورع.
- تضييع بعض المواعيد أو التأخر عنها.
ثانياً: التوسع في النوم:
وهذا الأمر من أكثر ما يصد الدعاة والصالحين عن المعالي، وهناك جوانب مهمة في قضية النوم إن أُسيء فهمها أو تجاوز المرء فيها ضيعت عليه جانباً مهماً من حياته، فمن ذلك:
1- الاعتقاد بوجوب النوم ثماني ساعات لا تنقص.
وهذا منقوض باختلاف حال الأشخاص واختلاف البيئات، واختلاف الأعمار، واختلاف الأعمال، ويناقضه كذلك المشاهدة والتجربة.
2- عدم فهم قضية البركة في الأوقات.
3- عدم مغالبة النعاس الخفيف إن وجد والاستجابة لدواعيه.
4- الإكثار من جوالب النعاس.
والأمثلة على الترف وأثره في قضية النوم وتوسع الدعاة والصالحين في الأخذ به كثيرة متعددة، ومن ذلك التأخر عن المواعيد بسبب النوم، وكذلك عدم قبول المواعيد المبكرة من أجل النوم خاصة مواعيد ما بعد صلاة الفجر.
ثم ذكر المؤلف أمثلة رائعة على سهر الصالحين ومغالبتهم النوم، ومن ذلك ما كان من الفضيل بن غزوان – رحمه الله تعالى – في قوله: "كنا نجلس أنا ومغيرة – وعدَّد ناساً – نتذاكر الفقه فربما لم نقم حتى نسمع النداء بصلاة الفجر" وكذا ما كان من الإمام مالك - رحمه الله - في أنه دوام خمسين سنة يصلي الفجر بوضوء العشاء.
ثالثاً: حب التكثر من المال:
وهذا الجانب الثالث من صور التعلق بمباهج الحياة الدنيا، فعلى من ابتلي بالمال الوافر أن يحذر من أن يجره إلى الترف والتوسع في الطيبات، فإن ذلك مقعد له عن الدرجات العاليات، سالك له في سلك أهل الترف والبطالات.
رابعاً: التوسع في المركوب.
خامساً: التوسع في المسكن.
سادساً: التوسع في الملبس:
وهناك بعض الدعاة ونفر من الصالحين قد توسعوا توسعاً عظيماً في الأخذ بهذه النعم، حتى أشبهوا أهل الترف والبطر والثراء العريض، ومعاذ الله أن نقول: إن هذا التوسع حرام! ولكن ألم يقل النبي - صلى الله عليه وسلم-: "كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل" ولعل من مظاهر التوسع في الأخذ بزينة الحياة الدنيا المغالاة في هذه الأمور الثلاثة المركوب والمسكن والملبس".(115/1211)
سابعاً: التوسع في النكاح:
وقد تحدث المؤلف هنا عن صور من الترف في النكاح – تراجع لمن أراد التفصيل – ونجملها بما يلي:
- مؤونة النكاح.
- طاعة الزوج في مطالبها الدنيوية والتوسع في ذلك.
- التعدد بلا حاجة.
الأثر الثالث: التباطؤ في قضاء الأمور:
الترف والانغماس فيه واعتياده والميل إليه جالب للتباطؤ في قضاء الأمور، والقعود عن إتمامها على وجهها الذي ينبغي لها؛ إذ المترف غالباً يميل إلى التسويف في الشؤون التي يراها صعبة أو ستجر عليه شيئاً من التعب والمعاناة، ويخشى من ملابستها والتعرض لها، فتراه يقضي الأمر – الذي يتم في يوم – في شهر، ويستغرق الأمر اليسير من حياته زمناً طويلاً، هذا إن فرغ منه أصلاً!! وهكذا تراه دوماً وأبداً يتخبط في شؤونه ويسوف في قضائها، فتنقضي حياته وهو لم يقدم شيئاً ذا بال، ولم يرتق في سلم المجد الدرجات التي كان ينتظر من مثله أن يرتقيها.
ولله در عمر - رضي الله عنه - حيث قال: "القوة في ألا تؤخر عمل اليوم لغد".
الأثر الرابع: الدعة والكسل:
إن من أعظم ما يجره الترف على صاحبه هو أن يعوده الدعة والكسل والإخلاد إلى الأرض، وهذا مرض عُضال وداء خطير، يقعد بصاحبه عن طلب المعالي، ويصعب عليه أموره كلها، ويجعله أقرب إلى المُقعد منه إلى الإنسان النشيط العامل، ولقد كان سلفنا - رضي الله عنهم - على غاية من النشاط والحيوية؛ وذلك لبعدهم عن الترف ومقدماته ومسبباته.
لذلك كله ذم الشارع الكسل، وعده نقصاً، ففي كتاب الله - تعالى - المجيد جاء قوله في معرض الذم للمنافقين: "وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى" (التوبة: من الآية54).
وكان - صلى الله عليه وسلم - يتعوذ من الكسل، فعن أنس - رضي الله عنه - قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، والعجز والكسل، والجبن والبخل".
الأثر الخامس: ضعف الجسد وخَوَر العزيمة:
وهذه قضية خطيرة؛ إذ لا يعود المترف يحتمل المشاق، ولا يصبر على اللأواء، ويصبح أشبه بالنساء منه بالرجال، فخطرات النسيم تجرح خديه، ولمس الحرير يدمي بنانه، "والمترف مريض بالنعمة، لا يستطيع أن يقابل الحياة بما هي عليه من شدة ورخاء، وسعة وقسوة، ومنافع وشرور، وظِل وحَرور، والمال وحده لا يدفع ضرراً ولا يجلب سعادة، والحياة صبر، ولم يتعوده المترف، والحياة تغلب على المصاعب والمترف لا يعرفها، فأقل شيء يصيبه يعده صدمة، ورجل الحياة لا بد أن يلابس الحياة كما هي في جميع أوضاعها، وبجميع تقلباتها".
ثم ذكر المؤلف شيئاً من قصص العلماء والصالحين في هذا الباب.
الأثر السادس: تعاطي بعض المعاصي والإصرار عليها:(115/1212)
إن من آثار الترف الواضحة تعاطي بعض المعاصي والإصرار عليها، وربما جرت متعاطيها إلى شيء من الكبائر - والعياذ بالله تعالى-؛ وذلك لأن المترف غالباً كثير السفر والانتقال، وقد يجره هذا إلى ما لا يحمد عقباه، ومن أوضح الأمثلة على ما كرته من تعاطي بعض الصغائر والإصرار عليها هو تكرار النظر المحرم والتلذذ به، وطلبه، والاسترواح إليه، وهذا الأمر إن تمكن من شخص ما فهو على خطر كبير، والخوف أن يجره هذا الأمر إلى شيء من الكبائر - والعياذ بالله تعالى-.
الأثر السابع: حب الحياة وكراهية الموت:
لقد عُرف المسلمون الأوائل - رضي الله عنهم - أنهم يحرصون على الموت في سبيل الله - تعالى - حِرْص أعدائهم على الحياة، فكان هذا الحرص دافعاً لهم إلى تسطير أعظم صفحات التاريخ نصاعة وعظمة وجلالاً، وصار لهم بهذا المكانة العالية بين الأمم، وأنشؤوا لهم هيبة في قلوب أعدائهم مكنتهم بها من رقابهم، ودفعت عنهم شرور المفاسد طويلاً، فلما أخلد كثير من المسلمين إلى الأرض وارتضوا الحياة الدنيا وأحبوها غلب عليهم كراهية الموت وكراهية ترك ما هم فيه من متع وترف، وهذا هو عين ما نشاهده اليوم عند أكثر المسلمين، لكن دعني من الحديث عن عامة المسلمين، ولنتحدث عن خاصتهم، فإن أخشى ما أخشاه على خاصة المسلمين أن يكونوا – بسبب ترفهم – قد تمسكوا من الدنيا بأسباب، وارتضوا ما فيها من المتع والشهوات، وأوغلوا فيها، لكن ليس برفق، وأحبوها حُبَّ من لا يستطيع فراقها، ويكره الانتقال عنها.
الأثر الثامن: ضعف في الجانب الإيماني:
والترف قد يؤدي إلى جملة من أمراض القلوب والجوارح، فإذا اجتمعت على المرء ذهبت بقوته، وأضعفت إيمانه، وربما أهلكته - والعياذ بالله-، فأصبح كآحاد الناس وعوامهم، ومثال ما يصيب القلب من أمراض بسبب الترف:
1- ضعف الخشوع أو انعدامه.
2- قلة الورع أو انعدامه.
3- ضعف التلذذ بالعبادات والطاعات واستثقالها.
4- قسوة القلب، وقلة تأثره بما يلقى عليه من المواعظ والتذكير.
5- ضعف أو انعدام عبادة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
6- حسد الآخرين على ما وهبهم الله من نعم مادية ومعنوية.
إلى آخر ما هناك من أمراض قلبية يطول الحديث عنها.
ومثال القسم الآخر؛ وهو الأمراض التي تصيب الجوارح بسبب الترف:
1- الكسل والدعة والفتور.
2- عدم الحرص على الانتظام في أداء الصلوات في جماعة، خاصة أوقات البرد الشديد أو الحر الشديد.
3- عدم استطاعة تأدية صلاة الفجر.
4- قلة الاهتمام بصلاة الليل عامة، والوتر خاصة.
5- قلة أو ندرة ختم القرآن.
6- قلة الحرص على أذكار الصباح والمساء.(115/1213)
7- قلة صيام التطوع.
8- عدم المبادرة إلى فعل الخيرات ذوات النفع المتعدي، مثل: الدعوة إلى الله – تعالى-، وبذل النصح، وإغاثة الملهوف، والوقوف على مشكلات الناس... إلخ.
وهي قائمة طويلة تشمل عبادات مضيَّعة، وحقوقاً مُفَرَّطاً فيها، وإخلاداً إلى الأرض، أسأل الله أن يحمينا مما هنالك، ويقينا شر تلك المهالك.
الأثر التاسع: ضعف في الجانب التربوي:
قد يورث الترف ألواناً من الضعف في التربية، والانغماس في أمور تنافي الجدية والانضباط، ومن ذلك:
1- عدم الاكتراث بالدعوة إلى الله – تعالى-، وبذل المجهود فيها، وضعف المداومة عليها.
2- قلة الاهتمام بأحوال المسلمين، والوقوف على أخبارهم ومشكلاتهم.
3- ضعف الارتباط بتكاليف العمل الدعوي.
4- ضعف القناعة بالسمت التربوي، وإبداء الضيق منه بدعوى التشدد والغلو.
5- قلة الالتفات إلى السنن النبوية، ضعف الأخذ بها وتطبيقها على النفس والأهل.
6- ضعف التمسك بالسنة في الهدي الظاهر.
7- كثرة النقد غير المبرر غالباً.
8- إثارة البلبلة في مجالات الأنشطة الإسلامية المختلفة؛ بسبب عدم قدرته على مجاراتها.
9- الجري وراء رخص العلماء وزلل الأقوال والأعمال.
10- التساهل في النظر إلى العورات في وسائل الإعلام المختلفة من مقروء ومرئي.
ثم انتقل المؤلف بعد هذا إلى المبحث الخامس، وذكر فيه أنواعاً من الترف لها تعلق بموضوع الكتاب، وهي: الترف الفكري، والترف الثقافي، والترف العلمي، ثم ختم المؤلف – وفقه الله – كتابه العظيم الفائدة في بابه باقتراحات تزيد وتكمل الاستفادة القصوى من الكتاب، ولمن أراد الاستزادة الرجوع إلى أصل الكتاب، جزى الله المؤلف خير الجزاء، ونفعنا وإياكم بما قرأنا، والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.
ـــــــــــــــــــ
الطلاق العاطفي.. مشكلة وحل
مسعود صبري
25/4/1425
ارسل تعليقك ...
لا توجد تعليقات ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
إن الحديث عن الانفصال العاطفي بين الزوجين، أو يمكن تسميته مجازاً "الطلاق العاطفي" يتطلب معرفة منهج الإسلام في الزواج، فكثير من الناس يظن أن الزواج(115/1214)
في الإسلام لا يقوم على العاطفة، وإنما ينظر الرجل إلى المرأة، أو لا ينظر إليها في بعض الأوساط، فإن أعجبته ذهب إلى بيت أبيها ليطلب زواجها، ويتم الاتفاق على المهر والتجهيز ثم يكون البناء، وتبدأ عجلة الحياة الزوجية.
ومن المعلوم أن معرفة أي حكم يرجع فيه إلى كتاب الله، وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - كمصدرين للأحكام الشرعية في الإسلام، بل وكمنهج حياة للمسلمين؛ لأن حصر فائدة القرآن والسنة في معرفة الحكم الشرعي ضرب من التقييد المرفوض.
وحين نستنطق القرآن الكريم في آيات الزواج يكاد ينطق بإقامة الحياة الزوجية على الحب والعاطفة، وعلى الاحترام المتبادل بين الزوجين، ليفضي كل منهما إلى الآخر بمشاعره وأحاسيسه ووجدانه في جو من النظافة النفسية، ولتتغذى الأرواح بكل الحب الذي يثاب عليه الزوجان.
إن الحديث عن الانفصال العاطفي بين الزوجين، أو يمكن تسميته مجازاً "الطلاق العاطفي" يتطلب معرفة منهج الإسلام في الزواج، فكثير من الناس يظن أن الزواج في الإسلام لا يقوم على العاطفة
ومن ذلك قول الله – تعالى-: "ومِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ"، فالقرآن يشير إلى بناء الأسرة على السكن والمودة والرحمة، وكلها معانٍ تدخل في دائرة العاطفة والحب.
وتكرر هذا المعنى في آية أخرى، حيث قال الله – تعالى-: "هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا"، فليس هناك ألفة بين اثنين، كألفة الزوجين.
ولذا جعلها الله – تعالى - آية من آياته التي يجب أن يتدبر فيها.
قال الإمام ابن كثير:
"لو أنه – تعالى - جعل بني آدم كلهم ذكوراً وجعل إناثهم من جنس آخر من غيرهم، إما من جان أو حيوان لما حصل هذا الائتلاف بينهم وبين الأزواج بل كانت تحصل نفرة لو كانت الأزواج من غير الجنس، ثم من تمام رحمته ببني آدم أن جعل أزواجهم من جنسهم، وجعل بينهم وبينهن مودة، وهي: المحبة. ورحمة، وهي: الرأفة فإن الرجل يمسك المرأة إما لمحبته لها أو لرحمة بها بأن يكون لها منه ولد أو محتاجة إليه في الإنفاق أو للألفة بينهما، وغير ذلك "إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ". انتهى
وقيل معنى المودة والرحمة: عطف قلوبهم بعضهم على بعض.
وقال ابن عباس: قال: المودة: حب الرجل امرأته، والرحمة: رحمته إياها أن يصيبها بسوء.
والعاطفة تأتي من خلال الارتياح النفسي لكل من الرجل والمرأة، ولذا أباح الشارع الحكيم النظر إلى المخطوبة قبل خطبتها، ويعلو شأن النظر في الشريعة حين يرفض الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يتزوج رجل امرأة دون أن يراها ولا أن يتأكد من نفسه الأنس بها، وكأن هناك تصحيح لعادة مغلوطة، وهي الزواج دون دراسة و معرفة، فيخبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - أحد أصحابه:" انظر إليها، فإنه أحرى أن يؤدم بينكما".
وذلك أن النظر أولى رسائل القبول بين الرجل والمرأة.(115/1215)
ويتأكد هذا المعنى في حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي يرويه النسائي:" خير نسائكم التي إذا نظر إليها زوجها سرته،....".
ولئن كان الحب لابد فيه من التعبير، فقد كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يظهر هذا الحب لأزواجه، ويظهر هذا في كثير من أحاديثه، فمن ذلك:
العاطفة لها شأن كبير في الحياة الزوجية في الإسلام، وأن العيش مع الانفصال العاطفي هو أشبه بالموات أو الفراق، ولئن كان الإنسان روحاً وجسداً، فإن انفصال الروح يأذن بانفصال الجسد
" يا عائش هذا جبريل يقرئك السلام".
و عن عائشة، قالت: أول سورة تعلمتها من القرآن (طه) فكنت إن قلت: "طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى" إلا قال - صلى الله عليه وسلم-: لا شقيت يا عائش".
بل يصرح الرسول - صلى الله عليه وسلم - بحبه لنسائه على ملأ من الصحابة، فعن عمرو بن العاص قال: قيل: يا رسول الله! أي الناس أحب إليك؟ قال: عائشة، فقال: من الرجال؟ قال: أبوها، قال: ثم من؟ قال: ثم أبو عبيدة"
ويلاحظ أن أول ما سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أحب الناس إليه، قال:عائشة،ثم لما أخبره عمرو - رضي الله عنه - أنه يقصد الرجال، عدد رجالاً من أصحابه.
ولقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - قدوة في إثراء مظاهر الحب بين الزوجين، فقد كان يلاعب عائشة، بل ويترك لها أحياناً لعباً تلعب بها، مراعاة لسنها، بل لما قام الأحباش في المسجد يلعبون وقفت عائشة - رضي الله عنها - خلفه لتشاهدهم، فلما ملت استأذنت الرسول - صلى الله عليه وسلم - وفي ذلك مراعاة للزوجة الصغيرة.
وكانت إذا شربت من الإناء، أمسكه ووضع فمه في موضع فمها وشرب.
بل كان يمسك العظم الذي به اللحم بعد أن تأكل عائشة، فيضع فمه في موضع فمها، وكان كثيراً ما ينام في حجرها.
بل ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يجري مسابقة جري بينه وبين عائشة أكثر من مرة، فسبقته أول مرة، ثم سبقها في مرة أخرى، فداعبها قائلاً: هذه بتلك.
وكان - صلى الله عليه وسلم - ربما رأى ما يحدث بين أزواجه من مشاحنات، فيبتسم مما يفعلن، كما يحدث بين الضرائر.
وكان - صلى الله عليه وسلم - يهدي إليهن بعض الهدايا؛ ترقيقاً لقلوبهن، وتطييباً لخاطرهن، فتظن كل منهن أن لها الصدارة في قلبه - صلى الله عليه وسلم-.
فإن كان هذا شأن نبي الأمة - صلى الله عليه وسلم - مع ما كان عليه من أعباء الدعوة والجهاد في سبيل الله، والسعي لإخراج الناس من الظلمات إلى النور، وقيامه الليل،فإن من الأولى أن يكون الأمر أكثر فسحة بين المسلمين، فقد أرشدهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى منهج الحب بين الزوجين، وأعطاهم نماذج ليست للحصر، و لكن للاقتداء والزيادة.
وهذا يعني أن العاطفة لها شأن كبير في الحياة الزوجية في الإسلام، وأن العيش مع الانفصال العاطفي هو أشبه بالموات أو الفراق، ولئن كان الإنسان روحاً وجسداً، فإن انفصال الروح يأذن بانفصال الجسد، غير أن هذا لا يعني أن الحياة بين الزوجين(115/1216)
مستحيلة، كما لا يعني عدم جواز المعاشرة، فقد أمر الإسلام الزوجين أن يصبر كل منهما على الآخر.
وأن ينظرا إلى وسائل العلاج التي تعيد الحب بينهما، وتقويه في حياتهما، ليهنئا بحياة سعيدة كما أرادها الإسلام
ـــــــــــــــــــ
هل حقّاً يا أماه حفظتُ كتابَ الله؟!!
مريم الأحيدب
11/4/1425
ارسل تعليقك ...
تعليقات سابقة ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
في إحدى الليالي .. وبعد فراغي من كتابة واجباتي و ترتيب كراساتي.. أويت إلى فراشي..
وقبل أن يطرق الكرى الأجفان.. أخذت أقلّب الأفكار.. وأستعرض الخواطر فيما قد جرى وصار..
عندها بدأت مخيلتي تسبح في أغوار الماضي مقتبسةً منه أروع الصور، وأجمل الذكريات..
استوقفتني إحداها.. ولعلها كانت من أكثر الصور في ذهني رسوخاً.. وأشدها ثباتاً!!
قبل بضع عشرة سنة.. وتحديداً عندما بلغت السابعة..
أمسكتِ يا أمي الحبيبة بيدي الصغيرة.. تسابقين الخطى.. يسألك الرائح والغادي.. أين يا أم الأشبال؟!!
تردين بكلّ فخرٍ وَ اعتزاز : سألحق ابنتي بمدارس تحفيظ القرآن..
الجميع باستنكار: مالكِ ولهذه المدارس يا أم الأشبال؟!!
فحصص القرآن فيها كثيرة.. ومناهجها كثيفة.. ارفقي بالبنية فهي مازالت صغيرة..
كنت تردين بكلّ عزة وإباء .. وصمود وكبرياء: "على قدر أهل العزم تأتي العزائم "
يؤسفني كثيراًً.. عندما أعقد بعض المقارنات بيني وبين بعض الأقران..ممن لم ينفقن أعمارهن في حفظ سورة من القرآن.. بل قد لا يقرأنه إلا في رمضان .. فأجد الفروق بيننا ليست بالكبيرة!!..
أماه.. كنتِ بالفعل جبارة.. قاومتِ المجتمع والأقارب وأهل الحارة..
لم يثنيكِ عن عزيمتكِ تثبيط مثبط.. ولا تخذيل متخاذل..
تهافتت الذكريات..
دلفت بوابة المدرسة متأبطةً حقيبتي.. كنتِ برفقتي تشدين أزري، وتقيلين عثرتي..
رمقتني بنظرات كلها حنانٌ وعطف.. ربتِّ على كتفي بلطف..
وعدتني بالبقاء.. وألا تتركيني وحيدة...(115/1217)
أدخلتني غرفة الصف، وجلست خارجه.. عيناكِ كانتا تراقباني.. وكفاكِ كانتا تدعوان لي..
مرّت الأيام والسنون..
كانت سعادتكِ بي غامرة.. وفرحتكِ بي بالغة..
كلما طرق مسمعي حديث رسولنا الكريم _عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم_ أن حامل القرآن يُوضع على رأسه يوم القيامة تاج الوقار، ويكسي والديه حلتين لا يقوم لهما أهل الدنيا.. فيقولان: بم كسينا؟!!.. فيقال: بأخذ ولدكما القرآن..
تخيّلت ذاك المشهد.. وسألت الله أن يبلغني إياه..
إنه العز الحقيقي والراحة السرمدية التي تذوب فيها جميع المصاعب، وتتكسر أمامها كلّ التحديات..
أمي الحبيبة.. عندما أردتِ أن أكون متميزة.. أردتِ أن تصنعي مني فتاة صالحة، وداعية ناجحة، ومربية فاضلة..
عندما أردتِ أن أكون متميزة.. اخترتِ لي العيش في ظلال القرآن حيث الأمان والاطمئنان..
أردت أن تحافظي علي كما يُحافظ على الدرّ والياقوت والمرجان..
لكن بقي في ذهني سؤال.. سؤال صال في خاطري وجال..
بعد مضيّ هذه السنوات الطوال .. هل أنا حقاً حفظت القرآن ؟!!
أكان حفظي للقرآن يعني فقط تجويدي لحروفه، و ضبطي لمخارجه؟!!
أكان حفظي للقرآن يعني فقط ترديدي لآياته، وإتقاني لحركاته وسكتاته؟!!
أم هناك للحفظ معنىً آخر.. أعمّ وأشمل!!!..
كما طرحت هذا السؤال..فأنا من سيتولى الإجابة..
إن حفظي للقرآن يعني لي الكثير.. الكثير..
يعني لي الحفظ بكافة صوره.. فأجوّد حروفه، وأقف عند حدوده.. أردد آياته، وأعمل بأحكامه..
أن أُعرف به بين الناس عِلماً وعملاً وسلوكاً.. مظهراً ومخبراً..
يؤسفني كثيراً.. عندما أعقد بعض المقارنات بيني وبين بعض الأقران..ممن لم ينفقن أعمارهن في حفظ سورة من القرآن.. بل قد لا يقرأنه إلا في رمضان .. فأجد الفروق بيننا ليست بالكبيرة!!
فالاهتمامات متشابهة.. والطموحات متقاربة.. حتى الشكل واحد.. لا فرق يُذْكر!!
أين بصمات كتاب الله على سلوكي ومظهري؟!! لقد قضيت في حفظي لكتاب الله عُمُراً.. فأين التحصيل؟!!
أين الثمرة التي تعاهدتها بالسقاية والرعاية يا أمي؟!!
أمي الحبيبة:
عندما أدخلتني المدرسة قاومتِ كلام الكثيرات.. استسهلتِ الصعاب في سبيل التحاق ابنتكِ بركب الحافظات..
هيأتِ لي السبل كي أحفظ كتاب الله، فأرجوكِ ثم أرجوكِ واصلي معي المسير..(115/1218)
إن دورك يا أماه لا ينتهي عند بوابة المدرسة.. أو عند انخراطي مع الطالبات في الصف.. لا يا أمي..
إن متابعتك إياي وخاصّة فيما يتعلق بسلوكياتي أمر في غاية الأهمية، فأنتِ أقرب الناس إليّ..
قد تشغلك مهام الحياة ومتطلباتها عني.. ولكن تذكري دائماً أنكِ برعايتك إياي لا تبنِينَ فرداً بل تصنعينَ أمّة..
قد ينتابني ما ينتاب بنات جنسي من لحظات العناد، و تقلبات المراهقات فتعاملي معي بحكمة..
حذريني من الانسياق خلف رغباتي التي لا حدود لها، فلا تغضّي الطرف عنها، ولا تنساقي خلفها..
بل اعرضيها معي على الشرع.. على الشرع يا أمي..
اصنعي داخلي ميزاناً حساساً أميّز به الغث من السمين.. أذكي في داخلي روح العزة والكرامة..
ذكّريني بمن أكون.. ذكريني أنني ابنة عائشة وحفصة وزينب وأم عمارة..
أشعلي في داخلي الحماس والرغبة في طلب العلم..
ذكريني دائماً بما يجب عليّ تجاه ديني ومجتمعي وبالأخصّ بنات جنسي..
فأنا الآن في مقام المسؤولية.. الكلّ يشير إلىّ بالبنان.. فأنا ابنة القرآن..
واعلمي يا أماه أن تاج الوقار الذي طالما تمنيتُه ثقيل الميزان.. لن تناله إلا من اتسمت بالوقار وكان خُلُقها القرآن..
التميز مطلب عظيم.. تتمناه كلّ أم لابنتها.. ولا أشك لحظة يا أماه أنك تطلبينه لي..
فاجعليه تميزاً في الحياة وفي الممات!!.. في الدنيا والآخرة!!..
ودائماً اسألي الله لي الثبات.. وألّحي عليه بالدعاء أن يجعلني ممن يَصدق قوله فعله.. إنه سميعٌ مجيب الدعوات..
ـــــــــــــــــــ
بناء الإنسان(*)
أحمد الصويان
27/3/1425
ارسل تعليقك ...
لا توجد تعليقات ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
شرَّف الله الإنسان، وكرمه على سائر المخلوقات بنعمة العقل، وجعل ذلك مناطاً للأمر والتكليف، ولذا فليس غريباً أن يوجد في كتاب الله – عز وجل – عشرات الآيات التي تدعو إلى التفكر والتعقل، والنظر في ملكوت الله – سبحانه وتعالى-، من مثل قوله – عز وجل-:(115/1219)
"إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ"(آل عمران:190).
ولكن هل يجوز أن يكون عقل الإنسان انعكاساً لأفكار المجتمع من حوله، فيتأثر بنمط التفكير السائد، ولا يفكر إلا فيما يفكر فيه الناس، ولا يعمل إلا ما يعمله الناس..؟
إن البيئة الاجتماعية والفكرية التي يعيش فيها الإنسان تؤثر تأثيراً بالغاً على تصوراته وأفكاره، وهي التي تصنع في الغالب أطروحاته وهمومه، والأمة الإسلامية تعاني من فراغ مدهش، جاء نتيجة تخلف عقود متتابعة، وزاد في ترسيخه وتعميق جذوره الغزو الثقافي الغربي، قبل الاستعمار وبعده، وإننا نعاني من أدواء عديدة في البيئة التي نعيش فيها، ومن ملامح ذلك على سبيل المثال:
إن بناء الإنسان المفكر القادر على التمييز والنظر من أصعب الصناعات التربوية، ولكنها في الوقت نفسه من أهم الصناعات
- قصور بيِّن في طريقة التفكير.
- قصور في نوعية المسائل التي يفكر فيها الإنسان، ويشغل نفسه بها.
- قصور في طريقة بحث الأفكار ومناقشتها مع الآخرين.
- قصور في توظيف الأفكار في ميادين العمل والبناء.
وأبناء الصحوة الإسلامية جزء من هذا المجتمع، يتأثرون به كغيرهم سلباً وإيجاباً، ومن مهمات الحركة الإسلامية انتشار هذه الإيجابيات وتنميتها، ومقاومة السلبيات وتقليلها قدر الإمكان، ولقد قامت الحركة الإسلامية بجهد مبرور مشكور في هذا الميدان، ولكنه أقل بكثير ممّا يجب، وأقل بكثير من الإمكانات التي تملكها، وكما قال الشاعر:
ولم أرَ في عُيوب الناس عيباً ... ...
كنقصِ القادرين على التمام
إن بناء الإنسان المفكر القادر على التمييز والنظر من أصعب الصناعات التربوية، ولكنها في الوقت نفسه من أهم الصناعات، ومهما كثرت الضغوط على الصحوة الإسلامية، وتزايدت عليها المحن، وتكالب عليها الأعداء، وتشعبت بها دروب العمل؛ فيجب أن يكون ذلك من أولويات البناء والتكوين، حتى تضمن بفضل الله – تعالى – بقاءها وصلابتها من جهة، ونقاءها وسلامة توجهها من جهة أخرى. وإن غياب المنهج العلمي، وفقدان الضوابط الشرعية في الفهم، والتلقي، والعمل يؤدي جزماً إلى هذا القصور والخلل الذي نعيشه، والنهوض بالأمة من هذه الكبوة لن يكون إلا وفق الأسس والقواعد الشرعية المبنية على الكتاب والسنة ومنهج السلف الصالح، والعاملون للإسلام لا ينقصهم – في الغالب – الصدق والإخلاص، وإنّما يحتاجون إلى العلم الدقيق بمحكمات الشرع وأصوله؛ ليتسنى لهم تنزيلها على مقتضيات العصر، ولذا كان التحدي الكبير الذي تواجهه الصحوة الإسلامية هو بناء الإنسان المفكر!
ـــــــــــــــــــ
ثلاثون درسا من أمثلة الحياة الدنيا في القرآن 1/2
عقيل بن سالم الشمري(115/1220)
13/3/1425
ارسل تعليقك ...
لا توجد تعليقات ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
الحمد لله وكفى ، وصلاة وسلام على النبي المصطفى ، وبعد ،،،
قد ذكر الله لنا في كتابه عدة آيات بين لنا فيها أمثلة للحياة الدنيا ، وهي في الحقيقة وإن كانت عدة آيات في عدة سور إلا أنها في الواقع مثال واحد ، فحاولت أن أستخرج الدروس والعبر من هذه الآيات مستعيناً بالله _سبحانه_ فهو الفتاح الكريم .
آيات أمثلة الحياة الدنيا :
هناك عدة آيات كما يلي :
1 ـ قال _تعالى_: " إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلاً أو نهاراً فجعلناها حصيداً كأن لم تغن بالأمس كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون " يونس " 24 " .
2 ـ قال _تعالى_: " واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيماً تذروه الرياح وكان الله على كل شيء مقتدراً " (الكهف 45) .
3 ـ قال _تعالى_: " اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفراً ثم يكون حطاماً وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور " (الحديد 21) .
فقد ذكر الله لنا في كتابه عدة آيات بين لنا فيها أمثلة للحياة الدنيا ، وهي في الحقيقة وإن كانت عدة آيات في عدة سور إلا أنها في الواقع مثال واحد
الدروس والعبر المستفادة من الآيات :
1 ـ مجرد تأمل اسم الحياة الدنيا يوحي بحقيقة معناها ، فاسمها " الدنيا " سواء قيل في معنى ذلك :
أ ـ إنها أولى وستعقبها أخرى .
ب ـ إنها فانية وهناك دار باقية .
ج ـ إنها في المنزلة الدنية .
فكل هذه الأمور موجودة في الحياة الدنيا حقيقة فهي أولى من حيث الزمن وستعقبها أخرى وهي فانية ، وهي كذلك دنية المنزلة .
2 ـ في الأمثلة التي ذكرها الله نلاحظ أن الفناء أصل فيها لا ينفك عنها ، فمثلاً :
نزول الماء من السماء له بداية ونهاية .
الغيث وتكونه ونزول الأمطار فيه له بداية ونهاية .(115/1221)
النبات واخضراره ثم اصفراره له بداية ونهاية .
وكذلك الحياة الدنيا ركبها الله على الفناء ولها بداية ونهاية .
3 ـ في الأمثلة المذكورة يغتر الإنسان بذلك المنظر الخلاب ، والخضرة البهية والروض الباسم فهي أشياء تدعو للاغترار؛ لأن الأرض أخذت زينتها وزخرفها وازينت ، وكذلك الحياة الدنيا لها من البهرج والزينة والمنظر ما يدعو للاغترار حتى فسر بعض أهل العلم قوله _تعالى_: " ولا يغرنكم بالله الغرور " بأنها الدنيا .
4 ـ قد تلبس الأرض ثوباً أخضر فيه من كل أنواع الزينة والأعشاب والأزهار الطبيعية وجدوال الماء فأشجار تتعانق في العلو ، وأعشاب تتسابق في فرش الأرض بمنظر يزيل الهم حتى يصل الأمر إلى أن الحقائق التي عند بعض الناس قد تتزعزع فيظن المسكين أن هذا المنظر لا فناء له ، فمتى يفنى منظر بهذه الصورة، وكيف ؟ ! كما قال الله عن بعض المخدوعين: " وظن أهلها أنهم قادرون عليها " فتبدلت حتى حقيقة الفناء التي يؤمن بها الجميع لكن لم تتبدل تلك الحقيقة إلا لمؤثر أكبر، وهو شدة ما رأى مما يبهر العقل من ذلك المنظر .
وكذلك الدنيا قد تقبل على شخص وتنفتح عليه حتى يظن أنها لن تدبر ، بل وكيف تدبر ؟! وفي النهاية يتبين أنها غرور وخداع لا يملك منها شيء .
5 ـ الأمثلة المذكورة فيها سرعة تغير حال الأرض من الاخضرار إلى الاصفرار إلى الحطام الذي تذروه الرياح.
وكذلك الحياة الدنيا تتغير من حال إلى حال، وتتبدل من سرور إلى حزن في مدة وجيزة قد تفوق تبدل الأرض، فسبحان العليم الخبير .
6 ـ الأمثلة المذكورة فيها شدة تبدل الأرض لما أذن الله بتبدلها حتى " كأن لم تغن بالأمس " فبالأمس تلك الخضراء الفاتنة ، واليوم حصيداً هشيماً بالية لا تشابه الماضي في لون ولا وصف .
وكذلك الحياة الدنيا إذا أدبرت عن شخص وولت ما كأنها يوماً من الأيام كانت بين يديه يفعل فيها ما يشاء ويملك منها ما يريد ، فعجباً كيف يركن لها ؟ ويطمئن بها ؟! وهي بهذه الصفة .
7 ـ الأمثلة السابقة في كتاب الله نلاحظ فيها قصر مدة ذلك الروض الأخضر، فما هي إلا أيام أو بالأصح شهور ما بين خضرته وتحطمه .
وكذلك الحياة الدنيا مهما طالت فهي قصيرة سواء كان المراد أن عمر الشخص فيها قصير أو كان المراد عمرها بذاتها .
8 ـ الأمثلة نلاحظ فيها تنوع المتاع فيها والملذات ويؤخذ هذا من قوله _تعالى_: " مما يأكل الناس والأنعام " أي: أخرج الله بذلك الماء أنواع النباتات والأشجار التي يأكل منها الناس والحيوانات، فكم ياترى أنواع ذلك المتاع والأشجار؟!!
وكذلك الحياة الدنيا فيها من أنواع المتاع والملذات ما لا يحصى ويدرك، ومع ذلك كما أن متاع ذلك المطر له أجل وسيفنى ويتحطم فكذلك متاع وملذات الحياة الدنيا؛ لأنها ممثلة بها .(115/1222)
9 ـ من خلال الأمثلة نلاحظ أن الله لم يخرج بذلك المطر نباتاً مباشرة هكذا ، وإنما تكون الغيث ثم نزل الماء من السماء ثم اختلط بالأرض ثم بقي مدة ثم أخرجت الأرض نباتها، ففي ذلك من تعاقب المراحل ما يظهر ويعلم .
وكذلك الحياة الدنيا فيها من العناء والتعب الشيء الكثير، بل إن قيل لا يأتي شيء أبداً إلا بعناء يناسبه كان القول صحيحاً .
10 ـ الأمثلة خاصة آية سورة يونس دلت على وجوب بذل الأسباب الممكنة ، فأهل ذلك البستان حرثوا وزرعوا وبذروا وعملوا وجدوا، ولذلك قال الله عن أهلها: " وظن أهلها أنهم قادرون عليها " فسبب ذلك أنهم عرفوا مقدار العمل الذي بذلوه وفعلاً تم لهم ما أرادوا قبل أن يأتيها أمر الله _سبحانه_ .
وكذلك الحياة الدنيا تعمر بأفعال أهلها وأعمالهم وجدهم ، أما بدون عمل ولا كدح فقدح في العقل .
11 ـ الله شبه الدنيا بالغيث ، ومعلوم أن الغيث فيه رعد وبرق وصواعق وعواصف وغرق ، وفيه مطر ونبات ونفع .
وكذلك الدنيا فيها من الخير الشيء الكثير ومن ضد ذلك ما يثبت به حكمة الله _سبحانه وتعالى_ .
12 ـ الأصل في الحياة الدنيا عدم الاستقرار والتبدل كما في المثال الذي ذكره الله في الروض الأخضر، فالأصل أنه لا يبقى على حاله، بل التبدل هو الأصل الأصيل .
وهذا إذا فقه خرج حب الحياة الدنيا من قلب المسلم العارف بحقيقتها .
13 ـ الأمثلة المذكورة تربي في النفس المؤمنة قصر الأمل ، وهو مطلب شرعي دل عليه قوله _صلى الله عليه وسلم_: " كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل " رواه الترمذي .
فدنيا لا تستقر على حال ولا تستمر عند شخص وقصيرة المدة وركبت على التعب والنصب تجعل الشخص المؤمن قصير الأمل فيها .
14 ـ دلت الأمثلة أن كل ما كان من شيء حسن في الحياة الدنيا غير عبادة الله فهو من زينتها وزخرفها ، ولفظ الزينة والزخرف يوحي بالزوال؛لأنه ليس من ذات الشيء بل زائد عنه .
15 ـ دلت الأمثلة المذكورة في الآيات أن الحياة الدنيا تخدع من يركض وراءها، فانظر كيف خدعتهم في زينتها حتى أن أهلها ظنوا " أنهم قادرون عليها " وفي ليلة واحدة أنكرتهم وتبدلت لهم بوجه آخر لا مقارنة بينه وبين السابق، فمن بعد ذلك يطمئن لها ويرضى بها؟!
16 ـ تلك الآيات تجعل المسلم يعرف مع من يتعامل، فهو يتعامل مع " فان، زائل، زينة، زخرف، هشيم، تذروه الرياح".
وهذه هي حقيقة الحياة الدنيا، فمعرفة ذلك يعطي المسلم تصوراً في طبيعة التعامل مع الطرف الآخر، فلا يحزن لفوات شيء منه ولا يتبع نفسه لحصول آخر.
17 ـ الأمثلة المذكورة تجعل المسلم يعرف كيف يتعامل مع الحياة الدنيا، فيتعامل معها كما يتعامل مع أي زينة أخرى.(115/1223)
يعمل المسلم ويتاجر ويكدح ويجمع الأموال، لكن الدنيا تجتمع في يديه دون قلبه، ولذلك لا يحزن لفوت شيء منها ولا يفرح باجتماعها؛ لأنها لم تدخل قلبه، فضلاً أن يوالي لها ويعادي، ويغضب ويرضى لأجلها
18 ـ تصوير تلك الأمثلة للحياة الدنيا بصفاتها وتغريرها يخرج من قلب المؤمن الحب لأجلها والبغض لأجلها، وهذا الأمر من أصول العقيدة فيجعل المحبة خالصة لله وفي الله وبغضه أيضاً لله وحده – سبحانه-.
19 ـ الأمثلة تربي النفس على التفكر والتدبر وقياس الأمور بعضها على بعض، ولذلك ختم الله الآيات بقوله – تعالى-: "لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ".
20 ـ من تأمل هذه الأمثلة المضروبة عن الدنيا تهون الدنيا بعينه رغم كنوزها وأموالها وأرضها وجميع ما فيها إلا ذكر الله وما والاه.
21 ـ لا مقارنة أبداً بين الدنيا والدار الباقية دار السلام " الجنة "، ومن تأمل النصوص ظهر له ذلك جلياً، فمثلاً:
أ ـ قال - صلى الله عليه وسلم-: "موضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها" رواه مسلم.
ب ـ قال - صلى الله عليه وسلم - عن الحور العين: "ولنصيفها على رأسها خير من الدنيا وما فيها" رواه مسلم.
ج ـ قال - صلى الله عليه وسلم-: "يؤتى بأشد الناس بؤساً في الدنيا فيصبغ في الجنة صبغة، فيقال: هل مر بك بؤس قط؟ فيقول: لا، والله ما مر بي بؤس قط" رواه مسلم.
والأدلة الصريحة بذلك كثيرة فضلاً عن الأحاديث التي تذم فيها الدنيا.
22 ـ الآيات تربي في النفس المسلمة الحذر من الحياة الدنيا ولو ضحكت وأقبلت، ما دام الأصل تقلبها وتبدلها، وزينتها فانية.
23 ـ الأمثلة المذكورة تجعل المسلم يسير على طريقة تجار الصحابة كعثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف، وملخص هذه الطريقة:
"أنهم لا يفرحون بما أتى ولا يحزنون بما فات".
فيعمل المسلم ويتاجر ويكدح ويجمع الأموال، لكنها تجتمع في يديه دون قلبه، ولذلك لا يحزن لفوت شيء منها ولا يفرح باجتماعها؛ لأنها لم تدخل قلبه، فضلاً أن يوالي لها ويعادي، ويغضب ويرضى لأجلها.
24 ـ الآيات المذكورة تبين أن الحياة الدنيا جميعها لا تساوي أن يعصى الله لأجلها فما بالك ولذة المعصية المزعومة جزء لا يذكر من الحياة الدنيا، فتصور ذلك يقلل شهوة الحصول على المعصية وهو أمر مقصود شرعاً.
25 ـ الله خلق الحياة الدنيا لعباً ولهواً وزينة، هذا من حيث الأصل فجاء الشرع فوظفها التوظيف الحسن وجعلها مزرعة للآخرة يتسابق فيها أهل الإيمان، ويتنافس فيها المتنافسون، فإذا كانت الآخرة حصدوا ما بذروا، وسروا بما رأوا من فضائل ربهم.
26 ـ الله جعل الحياة الدنيا لهواً ولعباً، والعرب تطلق على ـ المرأة والولد والنكاح والمال ـ لهواً كما ذكره ابن منظور، وكل هذه الأمور من مكونات الحياة الدنيا، بل من شهواتها كما قال – تعالى-: "زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ(115/1224)
وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ" (آل عمران: من الآية14).
27 ـ جاء ذكر "متاع" مقترناً بذكر الحياة الدنيا كثيراً في القرآن مما يدل على أن حقيقتها أنها متاع، كما قال - تعالى-: "إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ" (غافر: من الآية39)، وقال: "وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ" (الرعد: من الآية26)، وقال: "قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ" (النساء: من الآية77).
28 ـ الآيات التي صورت الحياة الدنيا ذلك التصوير تربي المسلم على التوازن في حياته، وبيان ذلك كما يلي:
قررت الآيات أن الدنيا فانية متاع زائل لا قيمة لها، لا تطلب ولا يركض وراءها.
ومع ذلك جاءت آيات تحث المسلم على العمل والكدح وطلب الرزق والضرب في الأرض.
فهذان الخطابان يربيان في المسلم كيف يوازن بين الأمور والأدلة، فيعيش في الحياة الدنيا ويطلب رزقه ومع ذلك لا تدخل الدنيا قلبه ولا يتعلق بها.
29 ـ المثال المذكور في الآيات لم يأت معقداً صعباً لا يدركه إلا خواص الناس أو العلماء، بل جاء واضحاً بيناً سهلاً يدركه حتى الأعرابي في باديته؛ وذلك لأن القصد تبصير الناس بحقيقة الدنيا، فكان المثال " ماء، ثم زرع، ثم هشيم، ثم تذروه الرياح".
30 ـ الآيات المذكورة فيها دليل لمذهب أهل السنة والجماعة في إثبات أن لفظ السماء قد يراد بها العلو وليس بالضرورة أن يقصد بها السماء المعروفة، ولذلك في حديث الجارية التي سألها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "أين الله؟ قالت: في السماء" رواه مسلم.
مرادها العلو كما في الآيات المذكورة؛ لأن المطر ينزل من الغيث كما في آية سورة الحديد، والغيث في العلو.
31 ـ الناس مع الأرض الخضراء على أنواع مختلفة:
فمنهم من يلهو ويلعب فقط.
ومنهم من يغتر بظاهرها وينسى أنها ستفنى ويرجع إلى ما كان عليه حالها قبل الغيث، ومنهم من يريد أن يأخذ جميع زينتها فمن دوحة إلى دوحة، ومن خضراء إلى أخضر فلم يستقر في مكان وضاع عليه الوقت ولم يتمتع المتاع الحقيقي من تلك الزينة.
ومنهم من تلذذ بمتعتها وأدى حق الله فيها من عبادته وشكره فجمع بين الدنيا والآخرة، وكذلك الناس بالنسبة للحياة الدنيا:
منهم من "يريد الحياة الدنيا وزينتها".
ومنهم من فتنوا بها حتى قالوا: "يا ليت لنا مثلما أوتي قارون".
ومنهم من "يحسبون أنهم يحسنون صنعاً".
ومنهم من قالوا: "ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار".
وهم أفضل الأصناف أدوا حق أنفسهم وحق الله - سبحانه وتعالى-.
أسأل الله أن يعيذنا من فتنة الحياة الدنيا، وأن يغفر لنا تقصيرنا، إنه ولينا.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد.(115/1225)
ـــــــــــــــــــ
أدب الحوار
سلمان بن فهد العودة
6/3/1425
ارسل تعليقك ...
لا توجد تعليقات ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
اسم الكتاب: أدب الحوار.
المؤلف: سلمان بن فهد العودة.
الطبعة: الأولى، 1424هـ.
الناشر: مكتبة الرشد.
موضوع أدب الحوار مع الآخرين كبير وخطير، فالخلاف بين الناس أمر طبعي مشهور، وللخلاف في أمور الدين والشرع أسباب كثيرة، منها:
1- أن دلالة بعض النصوص الشرعية ظنية، وليست قطعية فتحمل أكثر من اجتهاد في تجديد معناها.
2- اختلاف العقول والأفهام، وتفاوت المدارك.
3- تفاوت العلم؛ فهذا عالم، وهذا أعلم، وهذا أقل.. قال _تعالى_: "وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ" (يوسف: من الآية76).
4- عدم بلوغ الدليل فيقول العالم القول ولو بلغة الدليل في المسألة لما قال به.
5- الهوى والتعصب لقول، أو مذهب، أو رأي، أو شيخ.
كانت هذه الكلمات من مقدمة مؤلف هذه الرسالة المهمة الشيخ سلمان بن فهد العودة – جزاه الله خيراً – وقد بيّن المؤلف مسالك الناس في حل الخلاف وذكر منها الحرب أو الحوار، وفي هذه الرسالة سيتحدث المؤلف عن الحوار، سواء مع الكافر بهدف دعوته إلى الإسلام أو مع المسلم، وذلك من خلال المباحث التالية:
موضوع أدب الحوار مع الآخرين كبير وخطير، فالخلاف بين الناس أمر طبيعي مشهور، وللخلاف في أمور الدين والشرع أسباب كثيرة
المبحث الأول: الحوار أقوى من البندقية
إن الحوار يكون – أحياناً – أقوى من الأسلحة العسكرية كلها؛ لأنه يعتمد على القناعات الداخلية الذاتية؛ بل ربما أفلح الحوار فيما لا تفلح فيه الحروب الطاحنة.
وفيما يلي حادثتان تاريخيتان قديمتان تدلان على ذلك، وكلا الحادثتين تتعلق بطائفة من الخوارج، ومن المعروف في تاريخ الإسلام أن الخوارج من أكثر الناس ضراوة وقوة، وشجاعة وبسالة في الحروب، مما جعل الناس يرهبونهم.
حتى نساء الخوارج، كن يبدين من ضروب البسالة والشجاعة في الحروب ما تدهش العقول له:
فلننظر كيف فعل بهم الحوار؟!(115/1226)
ذكر الشيخ – حفظه الله – موقف الصحابي الجليل ابن عباس مع الخوارج في زمن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه – فليراجع، وسنذكر هنا الموقف الثاني للخوارج مع الخليفة العادل عمر بن عبدالعزيز – رحمه الله – وقد كتب إليهم ينكر خروجهم، ويقول لهم: "أنتم قليل أذلة"، فردّوا عليه، وقالوا: أما قولك: إنا قليل أذلة، فإن الله _تعالى_ يقول لأصحاب نبيه _صلى الله عليه وسلم_: "وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ" (الأنفال:26)، فردوا عليه بذلك.
فوجَّه إليهم عمر بن عبد العزيز فقيهاً اسمه: عون بن عبد الله، وهو أخو عبيد الله بن عبد الله بن عتبة _رضي الله عنهم ورحمهم أجمعين_.
فقال لهم عون بن عبد الله: إنكم كنتم تطلبون حاكماً في مثل عدالة عمر بن الخطاب – رضي الله عنه- فلمّا جاءكم هذا الحاكم كنتم أنتم أول من نفر عنه وحاربه.
قالوا: صدقت، ولكنه لم يتبرأ ممن قبله ولم يلعنهم، فلم يلعن علي بن أبي طالب، ولا معاوية، ولا بني أمية؛ لذا فنحن نحاربه – وهذا هو مذهب الخوارج-.
قالوا: ما لعنّاه قط!
قال: أيسعكم أن تتركوا لعن وزير فرعون الطاغية، والمنفذ لأوامره، والذي بنى صرحه بأمره، ولا يسعكم أن تتركوا لعن أهل قبلتكم، إن كانوا أخطؤوا في شيء، أو عملوا بغير الحق؟!!
فسكتوا ورجع منهم طائفة كبيرة.
والشاهد هنا كما يقول السكوني في (عيون المناظرات): "فكانت حجة عمر أبلغ من قتالهم بالسيف".
وهكذا يتبين أن الحجة القوية، والحوار الهادئ المقنع الرزين من صاحب عقل وفهم وعلم يفعل في كثير من الأحيان ما لا تفعله السيوف ولا المدافع والطائرات.
إن الحوار يكون – أحياناً – أقوى من الأسلحة العسكرية كلها؛ لأنه يعتمد على القناعات الداخلية الذاتية؛ بل ربما أفلح الحوار فيما لا تفلح فيه الحروب الطاحنة
المبحث الثاني: أهمية الحوار
في هذا المبحث بيّن الشيخ – وفّقه الله – أن أهمية الحوار تبرز في جانبين أحدهما: دعوة الناس إلى الإسلام والسنة بحيث تعقد محاورات مع غير المسلمين أو مع مبتدعين منحرفين لدعوتهم للإسلام والسنة والقرآن الكريم حافل بنماذج من الحوارات بين الأنبياء وأقوامهم فيظهر إذن أن الهدف الأول من الحوار هو دعوة الكفار إلى الإسلام أو دعوة الضالين من المبتدعة إلى السنة.
أما الجانب الثاني الذي يبين أهمية الحوار هو كما ذكر الشيخ – وفقه الله – فصل الخلاف في الأمور الاجتهادية التي لا نص صريح فيها ولا إجماع فيتحاور المختلفان للوصول إلى اليقين والحق في هذه المسألة الاجتهادية.
المبحث الثالث: قواعد الحوار وأصوله
ذكر الشيخ – حفظه الله – في هذا المبحث ضرورة أن يتلقى المسلم – وخاصة الداعية إلى الله – أسس الحوار وأصوله، وأن الحوار أصبح فناً وعلماً لا بد للداعية أن يتعلمه، ومن ثم ذكر الشيخ ثلاث قواعد للحوار هي كالتالي إجمالاً:(115/1227)
1- تحديد موضوع الحوار.
2- مناقشة الأصل قبل الفروع.
3- الاتفاق على أصل يرجع إليه.
المبحث الرابع: صفات المُحاور
تحدث الشيخ – وفقه الله – في هذا المبحث المهم عن الصفات التي ينبغي على المُحاوِر مراعاتها والاتصاف بها، وهي:
1- جودة الإلقاء وحسن العرض وسلاسة العبارة.
2- حسن التصور، والمقصود به ألا تكون الأفكار عند المتحدث مشوشة أو متداخلة أو متضاربة.
3- ترتيب الأفكار، وربط بعضها ببعض، وهذا مما يثبت حجة المحاور ويقويها.
4- العلم.
5- الفهم مع العلم.
6- الإخلاص، والتجرد في طلب الحق.
7- التواضع.
المبحث الخامس: آفات في الحوار
في هذا المبحث تطرّق الشيخ إلى العيوب والأخطاء الظاهرة في كثير من الحوارات بين المسلمين، وهي كما يلي:
1- رفع الصوت.
2- أخذ زمام الحديث بالقوة.
3- تهويل مقالة الطرف الآخر كأن يصف قول الآخر بالكفر أو الفسق أو البدعة أو مصادمة النص دون أن يثبت ذلك بالدليل الواضح.
أهمية الحوار تبرز في جانبين أحدهما دعوة الناس إلى الإسلام والسنة، والجانب الثاني هو فصل الخلاف في الأمور الاجتهادية التي لا نص صريح فيها ولا إجماع
4- الاعتداء في وصف الطرف الآخر بحيث تصفه بما لا يليق من الأوصاف كأن تقول: هذا جاهل سخيف حقير متسرع أو أنه ليس أهلاً لهذا الأمر أو تتهمه بسوء النية وخبث المقصد وغير ذلك مما لا دليل عليه.
المبحث السادس: آداب الحوار الصحيح
وهذا المبحث من أهم مباحث هذه الرسالة القيّمة، فقد جمع فيه الشيخ – حفظه الله – آداب الحوار الصحيح الذي لا بد من التحلي بها لكل محاور يريد الخير والنفع، وهي كالتالي:
1 - حسن المقصد:
فليس المقصود من الحوار العلو في الأرض، ولا الفساد، ولا الانتصار للنفس، ولكن المقصود الوصول إلى الحق.
والله _تعالى_ يعلم من قلب المحاور ما إن كان يهدف إلى ذلك أم يهدف إلى الانتصار، والتحدث في المجالس أنه أفحم خصمه بالحجة.
فعلى المسلم أن يطلب الحق بحسن نية، وألا يكون هدفه وهو يسمع كلام خصمه أن يرد عليه متى سكت؛ بل هدفه الوصول إلى الحقيقة، ولهذا كان الإمام الشافعي –(115/1228)
رحمه الله – يقول: "ما ناظرت أحداً قط إلا أحببت أن يوفق ويُسدَّد ويعان، ويكون عليه رعاية من الله وحفظ، وما ناظرت أحداً إلا ولم أبال بيَّن الله الحق على لساني أو لسانه".
وهذه – والله – أخلاق أتباع الأنبياء؛ لأنه يبتغي إحقاق الحق لا إسقاط الخصم.
2 – التواضع بالقول والفعل.
3 – الإصغاء وحسن الاستماع:
الإصغاء إلى الآخرين فن قَلَّ من يجيده، فأكثرنا يجيد الحديث أكثر من الاستماع، والله _سبحانه وتعالى_ جعل لك لساناً واحداً، وجعل لك أذنين حتى تسمع أكثر مما تتكلم، فلا بد أن تستمع جيداً، وأن تستوعب جيداً ما يقوله الآخرون.
ووضع أذنك للمحدِّث، وحملقة عينيك بوجهه، وتأملك لما قال، يمكن أن يكون دليلاً على قوتك، وقدرتك على الحوار، وإذا وجدت ملاحظات، فيمكن أن تسجلها في ورقة لتتحدث فيها بعدما ينتهي من حديثه.
وهكذا كان الرسول _صلى الله عليه وسلم_ فربما تحدّث معه بعض المشركين بكلام لا يستحق أن يُسمع، فيصغي النبي _صلى الله عليه وسلم_ حتى إذا انتهى هذا الرجل وفرغ من كلامه، قال له _صلى الله عليه وسلم: "أَوَقَد فرغت يا أبا الوليد؟" قال: نعم. فتكلَّم النبي _صلى الله عليه وسلم_ بشيء من القرآن.
4 – الإنصاف:
وهو أن تكون الحقيقة ضالتك المنشودة، تبحث عنها في كل مكان، وفي كل عقل.
فلتستخلص الحق من خصمك، ولو من بين ركام الباطل الكثير الذي ربما جاء به.
إن الاعتراف بالحق وإعلانه – أيضاً – لا ينقص من قيمة الإنسان، فكونك تقول في مناظرة أو محاورة أو محاضرة: أنا أخطأت في كذا، هذا لا يعيبك؛ بل هذا يرفع منزلتك عند الناس، ويدل على شجاعتك وقوتك، وثقتك بنفسك.
5 – البدء بمواضع الاتفاق والإجماع والمسلَّمات:
فمن المصلحة ألا تبدأ الحوار بقضية مختلف فيها، بل ابدأ بموضوع متفق عليه، أو بقاعدة كلية مسلَّمة أو بدهية، وتدرج منها إلا ما يشبهها أو يقاربها، ثم إلى مواضع الخلاف.
فممّا يذكر عن سقراط – وهو أحد حكماء اليونان- أنه كان يبدأ مع خصمه بنقاط الاتفاق بينهما، ويسأله أسئلة لا يملك الخصم أن يجيبه عليها إلا بنعم، ويظل ينقله إلى الجواب تلو الآخر، حتى يرى المناظر أنه أصبح يُقر بفكرة كان يرفضها من قبل.
6 – ترك التعصب لغير الحق:
فلو حاورت إنساناً، فتناول معهداً تعمل فيه، أو مقالة كتبتها، أو كتاباً ألَّفته، أو محاضرة ألقيتها، أو تناول جهة – تُحسب أنت عليها – بالانتقاص والسب وتتبع الأخطاء، فإياك أن تتعصب لهذا الشيء الذي تنتمي وتنتسب إليه، ثم تبادر بالرد، وتقوم بتقديم كشف بالإيجابيات والحسنات في مقابل الكشف الذي قدمه هو بالأخطاء والسلبيات لا بل عليك بالأمور التالية:
أولاً: دع زمام الحديث بيده حتى ينتهي – كما اتفقنا قبل قليل-.
ثانياً: اعترف بصوابه فيما أصاب فيه، والحق ضالة المؤمن – كما سبق-.(115/1229)
ثالثاً: إذا انتهى فانقد الخطأ بطريقة علمية، بعيدة عن العواطف.
وما أعز وأصعب وأندر أن يتخلص الإنسان من التعصب – أي لون من ألوان التعصب، فإن الحزبيات قد أثَّرت في المسلمين تأثيراً كبيراً جداً.
7 – احترام الطرف الآخر:
فنحن مأمورون أن نُنزل الناس منازلهم، وألا نبخس الناس أشياءهم،
فيا أخي المسلم الداعية، ليس النجاح في الحوار والمناظرة مرهوناً بإسقاطك لشخصية الطرف الآخر الذي تناظره، ولا إسقاطك لشخصيته يعني أنك نجحت في المناظرة؛ بل ربما يرتد الأمر عليك، ويكون هذا دليلاً على إفلاسك وعجزك، وأنك لا تملك الحجة، فاشتغلت بالمتكلِّم عن الكلام.
ولهذا قال النبي _صلى الله عليه وسلم_: "ليس المؤمن بالطعَّان، ولا اللعَّان، ولا الفاحش، ولا البذيء".
8 – الموضوعية:
الموضوعية تعني: رعاية الموضوع، وعدم الخروج عنه.
فمن الموضوعية: عدم الهروب من الموضوع الأساسي إلى غيره.
كذلك من الموضوعية: عدم إدخال موضوع في آخر.
كذلك من الموضوعية: عدم النيل من التحدث باتهامه في نيته أو الكلام على شخصه، فبعض الناس يقول: من هذا الإنسان؟ ما هدفه؟ ما تاريخه؟ من وراءه؟ ما درجته من العلم؟ ما قدره؟
كذلك ليس من الموضوعية: الاشتغال بالأيمان المغلظة، والله _سبحانه وتعالى_ ذمَّ الذين يكثرون من اليمين، قال _تعالى_: "وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ" (القلم:10- 13).
وفرقٌ بين أن تكون مقتنعاً قناعة مطلقة بأنه هو الحق، فتحلف على ذلك، فإذا حلفتَ أنت عرفتُ أنك تعتقد أنه هو الحق، ولكن لا يلزم أن يكون هو الحق، فقد تراه حقاً وتحلف عليه، والواقع أن الحق بخلافه.
كذلك من الموضوعية: تجنب الكذب في الحديث، فإن المناظر قد يكذب أحياناً، فهذا ليس من الموضوعية في شيء، وإذا لم يكتشفه الخصم حال المناقشة فسيكتشفه فيما بعد، ويبين أنك كنت كاذباً فيما ادعيت.
ومثل الكذب وأخوه بتر النصوص، وهو أن تنقل نصاً طويلاً، فتجتزئ الكلام الذي يصلح لك، ويدل على ما تريد، وتترك الباقي، فهذا ليس من الأمانة؛ بل عليك أن تنقل الكلام كاملاً حتى يشاركك الناس فيما استنتجته، فإما أن يقرُّوك، وإما أن يخالفوك في الفهم،
كما أن من الموضوعية: إذا لم تعرف مسألة ما أن تقول: لا أدري، وإذا ترك العالم لا أدري، أصيبت مقاتله، كما كان السلف يقولون: ويجب على العالم أن يعلم تلاميذه وطلابه قول: "لا أدري"؛ حتى يلجؤوا إليها فيما لا يعلمون.
ومن الموضوعية: التوثيق العلمي، يعني إذا استدللت فلا تستدل بشائعات أو ظنون أو أوهام استقرت في عقلك أو في عقل من أمامك من الناس، بل استدل بالنصوص، والأدلة الواضحة، والبراهين الثابتة، والإحصاءات الدقيقة.(115/1230)
9 – عدم الإلزام بما لا يلزم أو المؤاخذة باللازم:
فإذا خالف إنسان أحد العلماء في قول، تأتي فتقول له: يا أخي، أنت خالفت فلاناً العالم، وهذا يلزم منه أنك ترى نفسك أعلم منه.
وهذا غير صحيح، فلا يلزم من قوله وخلافه للعالم الفلاني ذلك، فقد يخالفه في هذه المسألة باجتهاده، وهو يعرف أن هذا العالم أعلم منه في كل المسائل، لكن هذه المسألة لا يسعه أن يقلده فيها، كما لا يلزم من مخالفته له أن يخطِّئه أو يضلِّله.
والإلزام – بأن تلزم إنساناً بمقتضى كلامه – من المشكلات؛ لأن اللازم يصلح في كلام الله _تعالى_، فتقول: الآية يلزم منها كذا، واللازم يعد دليلاً من أنواع الدلالات، فهذا يصح في كلام الله وكلام رسوله _صلى الله عليه وسلم_، أما كلام الناس فلا إلزام فيه بشيء ما، تقول: يلزم من كلامه كذا وكذا، رغم أنه ما خطر في باله هذا الكلام، ولا فكَّر فيه يوماً من الأيام، وقد لا يوافقك على أنه لازم، ولو وافقك على أنه لازم قد لا يُقر به، فلماذا تلزم الناس بشيء لم يلتزموا به؟
10 – اعتدال الصوت:
فلا تبالغ في رفع الصوت أثناء الحوار، والمثل يقول: الماء العميق أهدأ".
ثم ختم الشيخ – حفظه الله – رسالته بالمبحث السابع بذكر أمثلة من الحوارات فذكر حواراً جرى بين إسحاق بن راهوية – رحمه الله – والشافعي - رحمه الله – وذكر حواراً آخر بين أبي علي بن شاذان وشيعي، وفي الختام نسأل الله أن يجزي الشيخ خير الجزاء، وأن ينفعنا بهذه الرسالة.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وأتباعه أجمعي
ـــــــــــــــــــ
سعة الأفق(*)
أحمد الصويان
28/2/1425
ارسل تعليقك ...
لا توجد تعليقات ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
من نعمة الله – تعالى – على العبد أن يرزقه سعة في الأفق، وعمقاً في النظر، فيتسع فكره، وينطلق في آفاق رحبة واسعة، ويؤتيه الله بصيرة نافذة تجعله ينفذ إلى أعماق الحقائق وأبعادها، فيقدرها بقدرها، ويضعها في مواضعها.
ومما يعين الإنسان على سعة الأفق:
1 – حرصه على طلب العلم والجدّ فيه، وأخذه من أهله الأثبات الراسخين، والصبر على تتبع مسائله في مظانها المختلفة، وحرصه في بدء الطلب على أن يأخذ من كل فن أصوله وقواعده لكي تتكامل معارفه وتتألف علومه، والعلم هو الركيزة الأساس التي تبني عقل الإنسان وتجعله يستقيم على الجادة؛ ألم ترَ أن الجاهل يعيش في ظلمة فلا يبصر طريقه، فإذا عرض له عارض صار يتخبط ويضطرب؟ بينما ترى(115/1231)
صاحب العلم والفهم حاذقاً فطناً يفتح الله عليه من أبواب العلوم ما يجعله قادراً على رؤية أبعاد واسعة لا يراها من هو دونه.
2 – تنوع ثقافاته، وتعدد قراءاته في مختلف أنواع المعرفة العلمية، فالمتخصص في الدراسات الشرعية – مثلاً – لا ينحصر في هذا التخصص؛ بل تمتد عنايته واطلاعه إلى الدراسات الأدبية والفكرية والإنسانية الأخرى؛ فهو يتنقل في حقول العلم والفكر، ويمتص رحيق الأزهار بألوانها وأشكالها المتنوعة، وهكذا بقية المتخصصين في فروع أخرى من العلم.
من نعمة الله – تعالى – على العبد أن يرزقه سعة في الأفق، وعمقاً في النظر، فيتسع فكره، وينطلق في آفاق رحبة واسعة، ويؤتيه الله بصيرة نافذة تجعله ينفذ إلى أعماق الحقائق وأبعادها
3 – كثرة محاورته ومجالسته لأهل العلم والرأي؛ فبالحوار العلمي الجاد تتسع مدارك الإنسان، ويقف على أشياء قد لا تخطر بباله على الإطلاق، وقديماً قال عمر بن عبد العزيز – رحمه الله-: "إني وجدتُ لقاء الرجال تلقيحاً لألبابهم"(1). وقال الزهري: "العلم خزائن ومفاتيحها السؤال"(2). وقال أيوب السختياني: "إنّك لا تعرف خطأ معلمك حتى تجالس غيره"(3).
ولهذا كان السلف يحثّون طالب العلم على الرحلة والسفر لملاقاة العلماء واكتساب مختلف أنواع العلوم والمعارف، وفي هذا يقول ابن خلدون: "على كثرة الشيوخ يكون حصول الملكات ورسوخها"(4).
4 – حرصه على التأمل والنظر والتفكر، وشحذ الذهن وتنشيطه في دراسة المباحث والمسائل، والفكر الحي المعطاء هو الفكر المتّقد الذي ينبض بحيوية ونشاط، فلا يكسل ولا يعجز ولا تصيبه السآمة والملل، وكثرة التفكر تنمي المَلَكة، فـ(كثرة المزاولات تعطي الملكات، فتبقى للنفس هيئة راسخة وملكة ثابتة)(5)، كما أنّ الفكر المنظم المدروس هو الذي يبني العقل ويجعله يستقيم على الطريق، وأما العشوائية والارتجالية في التفكير فإنها تشتت الذهن وتفرّق الهم.
أما الإنسان الذي لا يفكر، أو يفكر بطريقة راتبة أو عشوائية، فإنه بالضرورة إنسان عاجز لا يقوى على إعطاء التصور الصحيح للمسائل، بل قد يقوده تفكيره أحياناً إلى التخبط والاضطراب.
5 – اطّلاعه على التجارب والخبرات البشرية في القديم والحديث محاولاً قدر الطاقة اختزانها في عقله لكي يستطيع توظيفها التوظيف الأمثل إذا دعت الحاجة إلى ذلك، والحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق بها.
6 – تحرره من التقليد الأعمى بكل صوره وأشكاله؛ فهو يستفيد من أشياخه وأقرانه وأصحابه وغيرهم، ثم ينطلق بفكره الحرّ يتلمّس مختلف السبل بعقلية ناضجة مستقلة؛ وليس كل الناس يقوى على ذلك؛ فأصحاب الفكر هم المعادن الكريمة النادرة، وهم القادرون على توجيه الأمة، وأما عامة الناس فهم همج رعاع أتباع كل ناعق، وبين هؤلاء وأولئك فئام من الناس أخذوا من كل فريق بطرف.
ضيق الأفق:(115/1232)
من الأدواء الفكرية المنتشرة عند كثير من الناس: ضيق الأفق، والنظر إلى المسائل المختلفة بسطحية مفرطة؛ فكم ينقبض صدر المرء حينما يرى من بعض الناس أن القضايا المصيرية العظيمة في مسيرة الأمة تؤخذ بعين الغفلة والسذاجة وقلة الفهم والبصيرة!
من الأدواء الفكرية المنتشرة عند كثير من الناس: ضيق الأفق، والنظر إلى المسائل المختلفة بسطحية مفرطة
ومن أبرز أسباب ضيق الأفق:
1 – الجهل وقلَّة البضاعة؛ فكم جرَّ الجهل على أصحابه من المهالك والمفاسد! والجهل دركات بعضها أسوأ من بعض، وكلما ازداد المرء جهلاً ازداد تهالكاً وانحرافاً، وهل رأيت جاهلاً يقوى على إدراك حقائق الأشياء ومقاصدها، أو يقدر على قراءة الواقع واستشراف المستقبل؟!
2 – قلة الفهم والوعي؛ وهما أمران زائدان على مجرَّد الجهل، فرُبَّ صاحب علْم لا يفيده علمه كبيرَ فائدةٍ بسبب ضعف فهمه وعسر إدراكه؛ لأنّه وقف عند حروف الألفاظ، ولم ينفذ إلى معانيها ومراميها، والفهم بضاعة نادرة لا يؤتاها إلا أصحاب العقل الراسخ والبصر النافذ، وصاحب الفهم يفتح الله عليه من إدراك النصوص والوقائع ما لا يخطر على بال غيره، قال ابن القيم – رحمه الله-: "ربّ شخص يفهم من النص حكماً أو حكمَيْن، ويفهم منه الآخر مائة أو مائتين"(6).
3 – الرتابة في التفكير ورؤية المسائل، والاعتماد على المألوف المعتاد فقط، وهذا بالتأكيد يجعل الإنسان أسيراً في بيت مغلق، كما يجعله في عزلة فكرية يحبس فيها عقله، فلا يقوى على النظر والإبداع والتجديد.
4 – التربية التقليدية الهزيلة التي تنتشر في كثير من المحاضن التربوية، وتشكل عقول الناس تشكيلاً يقتل معظم ملكات الإبداع والتفكير.
5 – التقليد الأعمى الذي يسد منافذ التفكير، ويجعل المرء مجرد تابع لغيره، فلا يستطيع أن يبني رأيه وفكره بناءً صحياً متجرداً؛ ولهذا تجد أنّ المقلد لشيخ أو لمذهب أو لطائفة من أكثر الناس ضيقاً في الأفق؛ وذلك لأنه لم ينظر إلا من نافذة واحدة، ولم يفكر إلا من زاوية محدودة، وتراه يتنقل بين سراديب ضيقة تنتهي به أخيراً إلى بلادة ذهنية تعصف بتفكيره وتجعله أحياناً يقتنع بالشيء ونقيضه في آن واحد..!
6 – الاكتفاء بالنظر إلى ظواهر الأمور المجردة، والتعلق بقشورها القريبة، دون النفاذ إلى أعماقها، أو النظر إلى أبعادها ومقاصدها، ويؤدي ذلك إلى الاغترار بالشكل والبهرج على حساب الحقائق والمضامين؛ مما يحجب الرؤية بغمامة معتمة تطغى على البصيرة، وكم من الأشياء من حولنا نراها في مظهرها الخارجي رؤية معينة؛ ولكننا إذا تجاوزنا ذلك إلى دواخلها، وأزلنا القشرة الرقيقة التي تحيط بها تبينت لنا صورة أخرى مختلفة وبعيدة كل البعد عن الصورة الأولى.
وانظر إلى صفة المنافقين في القرآن: "وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ" (المنافقون: من الآية4)؛ فهل تكفي هذه الصفة الظاهرية لأجسامهم وأقوالهم في إعطاء تصور صحيح متكامل عن هؤلاء القوم؟! بالتأكيد لا تكفي؛ فالقرآن يوضح(115/1233)
حقيقة هذا المظهر: "هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ" (المنافقون: من الآية4).
ونظير ذلك أيضاً: الاغترار بالكم على حساب الكيف، وانظر مثلاً إلى قول الله – تعالى-: "وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً" (التوبة: من الآية25)، ثم قارن ذلك بقوله – تعالى-: "إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ" (الأنفال: من الآية65)، ويتضح من ذلك أن معاني الأمور ومقاصدها الصحيحة تتجلى في حقائقها ومعادنها الأصيلة.
وليس المقصود هنا أن الشكل الظاهري أو الكم مرفوضان كلية؛ ولكن المقصود التحذير من الاكتفاء بهما، أو الوقوف عند حدودهما فحسب.
7 – النظرة الجزئية الضيقة التي تختزل المسائل الكبيرة إلى إطار محدود صغير؛ مما يؤدي – بالتأكيد – إلى تكوُّن تصور هزيل مبتور لا يمثل إلا جزءاً يسيراً من الحقيقة؛ بل قد يؤدي هذا التصور إلى تشويه الحقيقة بسبب نقصها وافتقارها للنظرة الشمولية المتكاملة.
8 – الخلط في تقدير المصالح والمفاسد، والجهل في ترتيب الأولويات؛ مما قد يؤدي إلى التعلق بالمصلحة القريبة العاجلة، وإن ترتب عليها مفاسد كبيرة في العاجل والآجل، أو يؤدي إلى تقديم المصالح المفضولة على حساب المصالح الفاضلة.
____________
(*) من كتاب (في البناء الدعوي).
(1) المعرفة والتاريخ (1/619).
(2) جامع بيان العلم (1/379) رقم (534).
(3) جامع بيان العلم (1/418) رقم (613).
(4) مقدمة ابن خلدون (ص: 541).
(5) مفتاح دار السعادة (1/284).
(6) مفتاح دار السعادة (1/60).
ـــــــــــــــــــ
أماه.. دعيني أحبكِ..
21/2/1425
ارسل تعليقك ...
لا توجد تعليقات ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
أمي الحبيبة.. أحبك يا أمي..
فلطالما أحطتني بالرعاية والحنان.. فلكِ علي من الفضل الشيء العظيم..
كيف لا!! وقد كنتِ السبب بعد الله في وجودي في هذه الحياة..
أمي الغالية.. حبي الكبير لكِ يدفعني دفعاً، وبقوّة كي أصارحك بمكنونات نفسي..(115/1234)
أماه لقد تعبت في بنائي أنا وإخوتي الشيء الكثير، حتى اشتدت سواعدنا، وأصبحت تريدين أن تقطفي ثمرة هذا الجهد والتعب، وهذا حق من حقوقك لا نغفله بل نشيد به، ونفخر بأن الله قيّض لنا أماً مثلكِ، يهمها حال أبنائها وصلاحهم..
ولكن أماه.. أرجوك ثم أرجوك.. لا تنظري إليّ دائماً من زاوية واحدة..
لا تطلبي مني الكمال في كلّ الأوقات، لا تقارني بيني وبينك في كلّ الأحوال..
فلطالما سمعت منكِ عبارة: ( عندما كنت في مثل عمركِ كنت ُ.. وكنتُ.. )..
أمي الحبيبة.. لكلّ منا جيله الذي وُجد فيه، ولكلّ منا مجتمعه الذي درج فيه.. عالم المثاليات لا وجود له على أرض الواقع.. ربما عشتِ ظروفاً أحسن مني، وواقعاً أفضل من واقعي بكثير، ولا تنسي أماه أننا الآن في زمن نكابد فيه شتى ألوان الغزو الفكري والعقدي.. فتلطفي عليّ قليلاً..
أماه .. دعيني أحبكِ .. أشتاق إليكِ .. فأنا اليوم في أشد الحاجة إليكِ من أيّ وقتٍ مضى ..
احتويني كي أبوح لكِ بأسراري.. سلّحيني بسلاح الثقة وتوقفي عن تحطيمي..
أخرجيني إلى المجتمع فتاة ناضجة التفكير، ثابتة الخطوات.. لا أريد أن أخرج إلى المجتمع فتاة محطمة القدرات، هشة التفكير..
صدقيني أماه.. أنتِ من سيدفعني إلى طريق النجاح بكلماتكِ العذبة.. وأسلوبكِ اللين..
اربتي على كتفي.. عانقيني.. قبليني.. فلن تتخيّلي حجم السعادة التي سأشعر بها أثناء قربك مني..
أمي الحبيبة.. أقرّ وأعترف بأنه لا يوجد على سطح الأرض من سيخاف علي كخوفكِ أنتِ..
ولا يوجد من سيحرص عليّ كحرصكِ أنتِ، فمَن سيحبني كحبكِ ؟!!.. بل مَن سيتمنى لي الخير مثلكِ ؟!!..
لذلك تغضبين عندما أقع في الخطأ ولا ألومك، ولكن تلطّفي.. تلطّفي.. ولا تعنّفي..
لا توبّخيني أمام إخوتي الصغار، أو الأقارب أو الجيران، فلطالما بكيت وبكيت..
ظننت أنك لا تحبينني، بل تصورّتك تكرهينني.. أعرف أني أخطأت حينها وندمت، لكن قد لا ينفع الندم في معظم الأحيان.. لا أريد أن أندم بعد أن أكون قد وقعت فريسة سهلة لرفيقات السوء أو لسماعة الهاتف!!!!..
أماه.. دعيني أطلب منكِ أمرين مهمين:
الأمر الأول: أن تجلسي معي جلسة صفاء.. لا أقول كلّ يوم ولكن كلّما سنحت لكِ الفرصة..
تقبلي كلماتي بالقبول ولو بشكل مبدئي.. دعيني أتحدّث فأنا بحاجة إلى أن أتحدّث..
استمعي إليّ.. ناقشيني بهدوء ولا تظهري التضجر، فلطالما شرعت في الكلام ونويت مصارحتكِ بأمور فأفاجأ منكِ بقذيفة صاروخية من الكلمات الجارحة تخترق قلبي الصغير و تلجم لساني عن الكلام.. عند ذلك أهرب بحثاً عن صدرٍ حنون، ولكن قد يكون في غير مظانّه!!
الأمر الثاني: إذا كلفتيني بعمل فشاركيني فيه..(115/1235)
أرجو ألا تفهميني خطأ.. أنا لا أريد زيادة أعبائك.. لكن لن تتخيلي حجم السعادة التي ستحوطني عندما تساهمين معي في الإنجاز..
ما رأيك أن نشترك في حفظ سورة من سور القرآن ؟!!
ما رأيك أن نشترك في تفريغ شريط وطباعته ونشره ؟!!
شاركيني هواياتي.. أشركيني معك في الرأي.. أثني علي أمام والدي وإخوتي..
أخبريهم أنني صديقتك المقربة، بل والخاصّة جداً..
أماه.. دعيني أحبكِ.. أشتاق إليكِ.. فأنا اليوم في أشد الحاجة إليكِ من أيّ وقتٍ مضى..
التوقيع: ابنتك التي تحبك كثيرا
ـــــــــــــــــــ
الملل من كواذب الأخلاق(*)
د. محمد العبدة
14/2/1425
ارسل تعليقك ...
تعليقات سابقة ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
جاء في صحيح ابن حبان عن عائشة – رضي الله عنها – خُلُقٌ من أخلاق الرسول – صلى الله عليه وسلم-، قالت: "كان عمله ديمة"(1) وفي حديث آخر قالت: "كان أحب الأعمال إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – الذي يدوم عليه صاحبه"(2).
أراد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – تعويدنا على المثابرة والدأب على العمل الذي نبدأ به، وأن يكون نَفَسُنا طويلاً فلا ننقطع لأي عارض، ولا شك أن هذا الخُلُق وهذه العادة من أكبر أسباب نجاح الأمم والأفراد.
لقد افتقدنا هذا الخُلُق في الأزمنة المتأخرة فما أن نبدأ بعمل أو مشروع ما حتى ننقطع، وما أن نسير خطوات حتى نملّ ونتعب، وكم من مشاريع علمية أو اقتصادية بُدئ بها ثم انقطعت، سواء كانت مشاريع فردية أم جماعية، وبعد الانقطاع تتغيّر الوجهة من جديد، والسبب في هذا هو أن الطبع ملول، ولم نتعلم بعدُ (فن التعاون) فيما بيننا، ونريد قطف الثمرة بسرعة.
ولو تصفحنا التاريخ لوجدنا أن كبار علمائنا لم يصلوا إلى ما وصلوا إليه إلا بالمثابرة والمصابرة، وكم عانى علماء الحديث من الترحل ومشقة الأسفار، وغيرهم من العلماء ما تسنموا هذه المنازل إلا بعد أن جثوا على الركب سنين، وكان أحدهم يسهر أكثر الليل يفكر بالمسألة ويقلّب فيها وجهات النظر.
أراد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – تعويدنا على المثابرة والدأب على العمل الذي نبدأ به، وأن يكون نَفَسُنا طويلاً فلا ننقطع لأي عارض
وإذا جاز لنا التعلّم من أعدائنا، فإن هذا الخلق موجود عند الغربيين؛ يستقرّ المبشر بالنصرانية في قرية منقطعة في غابات آسيا أو أدغال أفريقيا سنوات وهو يدعو إلى(115/1236)
باطله، وتكون النتائج غالباً ضئيلة، فلا يخرج إلا بالآحاد الذين تنصروا ومع ذلك لا يسأم ولا يمل.
وقد يتعجب المرء إذا علم أن بعض الصحف والمجلات الغربية لا تزال تصدر من مئة سنة أو أكثر وبالاسم نفسه ودون انقطاع، وبعض مؤسساتهم عمرها مئات السنين لم تتغير حتى في شكلها، فمقر رئاسة الوزراء في بريطانيا "10دواننغ ستريت" عمره "250" سنة ولم يفكّروا بالانتقال إلى مكان أوسع وأرحب.
وأما مشاريعهم العلمية الطويلة الأمد فيعرفها كل طالب علم؛ فالمعجم المفهرس لألفاظ الحديث، وكتابة المستشرق "دوزي" لتاريخ المسلمين في الأندلس استغرقت عشرين سنة، وكذلك مشروع تاريخ التراث العربي.
إن هذا الاستمرار الطويل يعطي رسوخاً وتجربة، ويخرج أجيالاً تربت من خلال هذه الاستمرارية، والانقطاع لا ينتج عنه إلا الخيبة والندامة، وقد نهانا الله – سبحانه وتعالى – أن نكون "كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثاً" (النحل: من الآية92).
وهذا عمرو بن العاص – رضي الله عنه – عندما كان أميراً على مصر وقد ركب بغلة قد شمط وجهها، واجتاز بها منزل أمراء الصحابة وكبار القواد في الفسطاط، فقال له أحدُهم: "أتركب هذه البغلة وأنت من أقدر الناس على امتطاء أكرم ناخرة (أي: فرس) بمصر؟" فقال: "لا مللَ عندي لدابتي ما حملت رحلي، ولا لامرأتي ما أحسنت عشرتي، ولا لصديقي ما حفظ سرّي؛ فإن الملل من كواذب الأخلاق".
______________
(*) من كتاب (خواطر في الدعوة).
(1) صحيح ابن حبان (2/27) بتحقيق الأرنؤوط. قال ابن الأثير: الديمة: المطر الدائم في سكون.
(2) المصدر السابق (2/28).
ـــــــــــــــــــ
أخطاؤنا في التربية
د. عبد الرحمن العايد
7/2/1425
ارسل تعليقك ...
لا توجد تعليقات ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
اسم الكتاب: أخطاؤنا في التربية.
المؤلف: د. عبد الرحمن العايد.
الطبعة: الأولى، 1424هـ.
إصدار: دار الوطن للنشر.
التربية عمل شاق، وجهد يحتاج إلى وقت، وتعنى بتنشئة المسلم وإعداده إعداداً كاملاً من جميع جوانبه لحياتي الدنيا والآخرة في ضوء الإسلام، وللتربية جوانبها المختلفة،(115/1237)
منها: التربية الإيمانية، والتربية العلمية والعقلية، والتربية الخلقية، والتربية الجسمية، والتربية النفسية، والتربية الاجتماعية، وللتربية فوائدها ووسائلها ومعوقاتها وأخطاؤها.
كانت هذه الكلمات من مقدمة رسالة (أخطاؤنا في التربية) للشيخ الدكتور عبد الرحمن العايد – وفقه الله – وهو الكتاب الذي سنعرضه إليكم أيها الإخوة، وهو يتحدث عن أخطاء المربين الذين يتولون تربية الشباب في المحاضن التربوية، وقد تطرق الشيخ – حفظه الله – إلى ذكر هذه الأخطاء، ومن ثم أسباب الوقوع فيها، وختم رسالته ببيان الصفات المطلوبة في المربي.
التربية عمل شاق، وجهد يحتاج إلى وقت، وتعنى بتنشئة المسلم وإعداده إعداداً كاملاً من جميع جوانبه لحياتي الدنيا والآخرة في ضوء الإسلام
ذكر المؤلف في هذا الكتاب ثلاثاً وخمسين خطأً في التربية نذكرها ونفصل في بعضها، وهي كالتالي:
1 – عدم مراعاة جوانب التربية المختلفة، فهناك الجانب الروحي الإيماني، وهناك الجانب الخلقي، وهناك الجانب العلمي.
ومن الأخطاء التركيز على جانب وترك الجوانب الأخرى، أو عدم التوازن بينها.
2 – عدم التدرج في التربية.
3 – أحياناً يحدث الخطأ بحجة التدرج؛ وذلك أن هناك مَن يعرف أن التدرج سُنّة كونية فيستمر على حاله التي هو عليها، ولا ينتقل إلى مرحلة تليها.
فعدم التدرج خطأ، وترك التطور بحجة التدرج خطأ أيضاً.
4 – ومن الأخطاء أيضاً: عدم اكتشاف المواهب؛ فالناس لكل منهم موهبة في مجال معين، وربما كان بعضها يفيد الدعوة.
واكتشاف الموهبة لدى الإنسان يشجعه على الاستمرار معك؛ لأنك أشبعت رغبته في مزاولة هذه الموهبة.
5 – من الأخطاء أحياناً: ربما تكون الموهبة ظاهرة لا تحتاج إلى اكتشاف، ولكننا نخفق في المحافظة عليها.
6 – ومن الأخطاء: عدم اعتراف المربي بالخطأ إذا أخطأ، فهناك من تجده يعمل على تبرير موقفه الخاطئ، ويجادل ويناقش لكي لا يقال: إنه أخطأ، وربما تذرع بأن من عنده لا يفهمون معنى الخطأ، فيقول: إذا قلت لهم إني أخطأت ربما لم يعودوا يثقوا بي، وهذا خطأ.
إذا أخطأت فقل: أخطأت، واستغفر الله، وتأكد أن هذا يزيدك قدراً عند مَن تربيهم، والرسول - صلى الله عليه وسلم - اعترف بخطئه عندما أمرهم بترك تأبير النخل.
7 - عدم إغضاء المربي عن الهفوات والزلات الصغيرة التي تحدث من بعض الشباب.
8 – القصور في معالجة الخطأ، فكما أننا نقول: إن عدم الإغضاء عن بعض الهفوات خطأ، فكذلك ترك معالجة الخطأ أو التقصير في معالجته إذا انتشر ورأيت أنه سيكون له تأثير على الآخرين وعدم إعطاء كل ذي حق حقه خطأ، والتوازن مطلوب.(115/1238)
9 – إرادة عدم الخطأ من المدعوين أبداً فيما يوكل إليهم من أعمال، فتجد أن المربي يغضب لو فشل الشاب في تحضير الدرس أو البرنامج الثقافي مثلاً، وربما لم يكرر هذه التجربة مع هذا الشاب أبداً، ويريد أن الجميع ينجح من أول مرة.
10 – من الأخطاء: سوء الظن واتهام الآخرين، فإذا رأى مثلاً الشاب تغيَّب عن البرنامج ظن أن هذا التغيب بسبب عدم مبالاة هذا الشخص، مع أن هذا الشاب ربما يكون قد حبسه عذر قاهر، أو يظن أنه تغيب بسبب متابعته لمباراة مثلاً، وهذا اتهام قد يكون في محله أحياناً، وقد يكون في غير محله في أحيان كثيرة.
11 – كثرة التقريع والتوبيخ لأفراد المجموعة واتهامهم بالتقصير.
12 – اعتقاد أن جميع من عنده لا بد أن يكونوا طلبة علم وإلا لا فائدة منهم، وربما أبعد الشاب عن المكتبة أو الحلقة؛ لأنه قليل الحفظ لا يراجع الدروس، وهذا خطأ، فمن قال إنه لا بد أن يكون جميع شباب الصحوة علماء، أنا لا أعرف أن هذا حدث في جيل من أجيال الأمة الإسلامية بعد الرسول - صلى الله عليه وسلم-.
ليس صحيحاً أبداً أن الشاب لا بد أن يكون عالماً أو طالب علم متمكن وإلا نخرجه من دائرة الشباب الملتزم.
13 – وضع برنامج موحَّد للجماعة كلها دون مراعاة الفروق الفردية.
14 – التكليف قبل النضج: ربما يعجبك شاب بأخلاقه وحكمته وجِدِّه في التزامه، فتسند إليه مهمة قيادية هو بالنسبة لها غير متمكن، فهذا فيه خطأ على هذا الشاب، وخطأ أيضاً على بقية الشباب في إضاعة هذه المهمة وجَعْلها في يد من لا يحسنها.
15 – اتهام مَن تربيهم بعدم النضج: ويستمر هذا الاتهام طويلاً، فلا تسند لهم أي مهمة، وتقول: أريد أن ينضجوا، لا يا أخي، التوازن مطلوب، لا تكلف شخصاً قبل أن ينضج، وعوِّد مَن ينضج على القيادة.
16 – عدم مراعاة المرحلة التي يمرُّ بها المدعو، وهذا يؤدي بدوره إلى أننا إما أن نجلسه في المرحلة التي نعتقد أنه بها، وربما أنه قد تجاوزها، أو يجعلنا نقفز به قفزات قد تكون محطمة لاعتقادنا أنه أهل للمرحلة الجديدة، وربما يكون لم يصلها.
17 – عدم مراعاة الظروف الاجتماعية للشاب المدعو: قد يكون للشاب ظروف لم يصرح بها للمربي كأن يكون فقيراً أو من بيت فقير، أو يكون هناك شِجار ومشكلات دائمة بين أبيه وأمه، أو يكون أبوه طلّق أمه، أو أن هذا الشاب يعاني من الفراغ الكثير، أو يكون أبوه يحتاجه كثيراً بحيث يكون معه دائماً، أو غيرها من الظروف، ومع ذلك يغفل المربي عنها وهذا خطأ.
18 – قطع العلاقة مع والد المدعو وحصرها في المدعو فقط، أو قُل: عدم التعرف على والد المدعو أو أخيه الأكبر.
إذا تعرفت على والد المدعو أو أخيه الأكبر بعثت الاطمئنان في نفس هذا الأب، إذ إنه عرف مع من يمشي ولده فيطمئن لذلك، كما أن التعرف على ظروف المدعو الاجتماعية، وربما قال لك والده: ما الذي يعاني منه هذا الشاب، وما أعماله في البيت، أو ما أخطاؤه ليمكن معالجتها.
أما أن الشباب يأخذون هذا الشاب من بيته، ويتحاشون أحياناً التعرف على والده فهذا خطأ.(115/1239)
19 – عدم مراعاة العادات والتقاليد التي لم يحرمها الشارع، فكيف بالتي يأمر بها؟!
20 – قصر الشباب على المكتبة بحيث لا يعمل إلا من خلال المكتبة.
21 – اعتماد المربي على بعض الشباب وإهمال الآخرين تماماً.
22 – من الأخطاء: عدم فتح فرصة للأشخاص الذين معه للانفراد، بل يريدهم معه طوال الوقت.
23 – عدم الاعتماد على بعض الشباب في تجهيز بعض الأعمال أو إعداد الدروس أو البرامج الثقافية، بحجة أنهم لا يستطيعون، ويستمر عدم الثقة فيهم وقتاً طويلاً، وهذا خطأ، فلا بد أن نربيهم على تحمل المسؤولية حتى ولو وقعوا في الخطأ، وماذا في ذلك؟! يخطئ مرة أو مرتين ثم يصيب - إن شاء الله-.
24 – من الأخطاء أن تشعر الشباب أن الأعمال التي أوكلتها إليهم ليست ذات فائدة، كأن تطلب منهم مثلاً تحضير جدول للشباب ثم تحضره أنت وتفرضه عليهم.
25 – إشعار الفرد من الشباب أنه لا يتقن إلا هذا العمل ولا يتقن غيره.
26 – ربط الشباب بشخص معين، كان يربطهم المربي بنائبه بحيث لو غاب هذا الشخص لم يستطيعوا أن يتصرفوا بشيء.
27 – من الأخطاء: عدم التخطيط والتنظيم، فتلاحظ أن هناك ارتجالية في هذا الأمر، بل أحياناً قد لا يكون لهم أهداف يسعون للوصول إليها، ووضع الأهداف التي يراد تحقيقها مهمٌ لإنجاح العمل.
28 – من الأخطاء أيضاً: أن يكون هناك أهداف يسعى للوصول إليها ولكنها غير واقعية، كأن يكون مثلاً من الأهداف حفظ القرآن الكريم بكامله في ستة أشهر لجميع الشباب، أو يراد إصلاح الحي بكامله في سنة واحدة.
29 – التعسف في استخدام الحق، فتجد المربي يصدر أوامره، وويل لمن يعصيه، ويل له ليس بالضرب ولكن بالتوبيخ والسخرية وغيرها من الأساليب المغطاة بغطاء النصح والإرشاد.
30 – أنه يريد من الشباب التسليم له دون مناقشة.
31 – أن المربي لا يستشير.
32 – زرع القناعات المسبقة في أفراد المحضن التربوي، وبالتالي لا يتكون تفكيرهم وآراؤهم إلا من خلال تفكير المربي فقط، فكأنه وضع لهم إطاراً يجب ألا يتجاوزوه.
33 – المجاملة لبعض الأشخاص وعدم مصارحتهم لتقصيرهم.
34 – المركزية في العمل: أي أن المربي يريد أن يعمل كل شيء بنفسه ولا يتعلق بالآخرين مما يؤدي إلى تراكم الأعمال عليه، وهذا خطأ، وفيه إضاعة للوقت وعدم تربية الآخرين على تحمل المسؤولية.
35 – الاتكالية: فبعض المربين يوعز إلى نائبه بأن يعمل كل شيء، ويكون هو بعيداً عن الوضع، وهذا فيه خطأ.
36 – ازدواجية التوجيه، بحيث يكون للمكتبة أو المحضن التربوي أكثر من شخص يتلقى منه الأفراد التوجيه، وهذا خطأ إذ إنه يوقع المدعو في حيرة من أمره.
37 – التربية على العزلة والانفراد وعدم المشاركة في النشاطات العامة.
38 – الإفراط في الخلطة، وهذا عكس السابق، والمطلوب هو التوازن.(115/1240)
39 - الاهتمام بالكثرة على حساب التقصير، فيهمه أن يكون العدد كثيراً، ولا يهمه أن يكون هؤلاء الأشخاص على مستوى جيد من الالتزام.
40 – عدم التربية على النقد الهادف البنّاء وتبيينه لهم.
41 - التربية على نقد كل شيء سواء كان نقداً بنّاء أم لا.
42 – التثبيط عن العمل.
43 – إغفال مبدأ الثواب والعقاب، إذ إنه من وسائل التربية، وإغفاله خطأ في التربية.
44 – التفاعل الوقتي مع الأحداث، فنكون كسعفة النخلة تشتعل ناراً ولكن لمدة مؤقتة ثم سرعان ما تنطفئ.
45 – إطلاع المدعو على سوء التفاهم بين الدعاة.
46 - جَعْل الدعوة حكراً على نوع معين، ويربي الشباب على ذلك، فبعض المربين يجيد نوعاً من أنواع الدعوة، كأن يكون مثلاً يحب توزيع الأشرطة والكتيبات على الناس، فيربي الشباب على أن الدعوة هي هكذا فقط، فمن لم يقم بهذا لم يقم بالدعوة، وهذا خطأ.
47 – قلة الدروس التربوية.
48 – الاستعجال: يريد المربي من المدعو أن يكون في أعلى القمة في يوم وليلة، وهذا خطأ، فلا بد من الصبر والتحمل، والطريق طويل.
49 – الظهور بمظهر الفكاهي بحجة جذب الشباب، وترك الجدية في الالتزام لهذه الحجة خطأ، والمطلوب التوازن، وفي رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة.
51 – عدم التشجيع على التفوق الدراسي.
52 – الغفلة عن التربية الذاتية: فينبغي على المربي أن يحث الأفراد على أن يربوا أنفسهم إذ لا يمكنهم الاستفادة من البرامج المقدمة لهم إن لم يكن ذلك منهم.
53 – ضعف المتابعة.
ثم انتقل المؤلف – وفقه الله – إلى ذِكْر جملة من أسباب الوقوع في الأخطاء، وذلك لكي يتجنبها العاملون في حقل التربية الميدانية، فمن ذلك:
1 – تولي غير المؤهلين عملية التربية:
عندما يتولى غير المؤهلين عملية التربية تنتج الأخطاء وتكثر، حتى إنه أحياناً ربما أدت هذه الأخطاء إلى عكس المراد، وهذا أمر خطير ينبغي التنبه إليه.
2 – عدم الفهم الصحيح لكيفية التربية:
التربية لها مناهج، ولها أساليب ووسائل، يحتاج إلى معرفتها المربي، فإذا كان المربي لا يعرف استخدام الأسلوب المناسب، ولا يعرف استخدام الأسلوب المناسب، ولا يعرف كيف يعالج أخطاء المتربين؛ فإنه من الطبيعي أن يقترف الأخطاء.
3 – عدم وجود النقد البنّاء.
4 – عدم الاستشارة.
5 – تفسير النقد البنّاء والتصحيح الموجه إليه على أنه وجهة نظر للناقد لا يلزم الأخذ بها.(115/1241)
6 – التبرير لأخطائه بأن هذا أفضل الممكن، وأنه إنما أخطأ؛ لأن هذا الخطأ هو الأصلح لهؤلاء المتربين في هذا الوقت أو هذه المرحلة.
7 – تولي عملية التربية أناس تربوا على أخطاء سابقة من مربيهم، فهو يمارس الخطأ السابق الذي مُورس عليه، أو قد يكون لم يترب أصلاً، ولذا فهو لا يحسن عملية التربية.
ثم ختم المؤلف كتابه الممتع ببيان صفات مطلوبة في المربي نذكرها إجمالاً:
1– الإخلاص.
2- القدوة الحسنة.
3- الصبر وسعة الصدر.
4- رجاحة العقل وسداد الرأي.
5- العدل.
6- الوعي بطرق التربية الصحيحة وما يتعلق بها.
7- محاولة الاطلاع على تجارب الآخرين من المربين.
وختاماً بعد عرضنا لهذا الكتاب (أخطاؤنا في التربية) فإنه حري بكل من يمارس الدعوة والتربية في المحاضن التربوية والتعامل مع الشباب أن يقتني هذا الكتاب فيقرأه ويتأمله ويفيد منه ويستفيد.
والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
ـــــــــــــــــــ
حين يكون التقدم مغامرة(*)
أ.د. عبد الكريم بكار
30/1/1425
ارسل تعليقك ...
لا توجد تعليقات ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
التقدم المادي والعمراني يشكل في حد ذاته قيمة إنسانية، إنه دليل على فعالية الإنسان وجدارته وزيادة وعيه وتأثيره في البيئة المحيطة، وذلك التقدم مهم من وجه آخر لمواجهة الزيادة السكانية، حيث إن كثيراً من الموارد هو بطبيعته محدود، ولا يمكن تنميته إلا من خلال المزيد من الجهد البشري والمزيد من التنظيم العمراني، وأعتقد أن هذا لم يعد اليوم موضع جدال لدى شعوب العالم أو لدى معظمها على الأقل، لكن علينا دائماً أن نتذكر أن العظمة الحقيقية للإنسان لا تكمن في عظمة الرفاهية التي يحققها، أو في رقي الإنتاج المادي الذي يصل إليه، وإنما تكمن في مدى ما يمكن أن يصل إليه من سمو روحي وخلقي، وفي مدى انسجام أوضاعه وأحواله مع أهدافه وغاياته الكبرى، وفي مدى التوازن الذي يستطيع الاحتفاظ به على صعيد شخصيته وعلى صعيد علاقاته بمفردات الوجود.(115/1242)
قد بات من الواضح اليوم أن العالم الإسلامي يحقق إنجازات عمرانية متتالية، وتلك الإنجازات تنقله خطوة خطوة نحو فلك الحياة الغربية، أو قل – على نحو أدق – نحو المفاهيم الأساسية التي تحكم الحياة في الغرب، وهذا يشكل خطورة بالغة على رؤيتنا للحياة، وعلى علاقتنا بمجمل الإنجازات الحضارية. إن الحضارة الحديثة تقدم ما تقدمه من مفاهيم للحياة العصرية من أفق علماني لا ديني، يرى في (الدنيا) المرحلة الوحيدة التي يمكن للإنسان أن يحقق فيها ذاته، ويصل فيها إلى رغائبه وطموحاته.
علينا دائماً أن نتذكر أن العظمة الحقيقية للإنسان لا تكمن في عظمة الرفاهية التي يحققها، أو في رقي الإنتاج المادي الذي يصل إليه، وإنما تكمن في مدى ما يمكن أن يصل إليه من سمو روحي وخلقي
ويمكن القول: إن هذه الوضعية تشكل قطيعة صارخة مع مفاهيم ما قبل عصر النهضة؛ فقد كان مفهوم وجود حياة أخرى يجب عمل شيء من أجلها واضحاً في الذهنية الغربية، وكانت النصرانية – على ما فيها من تشويه وتحريف – قادرة على توليد مثل ذلك المفهوم، لكن منذ بدايات عصر النهضة بدأ الأمر يختلف حيث أخذت المفاهيم الأساسية التي تشكل الحياة المعنوية في الغرب بالتبدل على نحو شبه كلي، فقد كانت أوروبا تستمد من النصرانية روح (الشهيد) الذي يضحي في سبيل غيره، وفي سبيل نيل حياة أخروية أفضل من حياته الدنيوية، ثم حدث تحول رمزي مخيف، حيث صارت أوروبا تستوحي من التراث الإغريقي روح (البطل)، البطل مستكشفاً، والبطل فناناً، ومكافحاً وغازياً ونهاباً ومفسداً وجامعاً للثروة...، وصار من غير الممكن لأي إنسان أن يحقق نجاحاً يُذكر له من غير قدر معترف به من البطولة والتفوق الظاهر.
التحول من استيحاء روح الشهيد إلى استيحاء روح البطل، هو التحول الذي بات يظلل حياة كثير من المسلمين اليوم، ولكن نظراً لأننا نعاني من الكثير من القصور، والكثير من الفوضى في مختلف جوانب حياتنا، فإن كثيراً من الناس اليوم صاروا بالمقاييس الغربية أبطالاً، حيث حققوا النجومية الاجتماعية، وجمعوا الثروات، وصاروا – كما يقال – يشكلون رقماً صعباً يُحسب حسابه؛ لكن بطولتهم تتحقق خارج القانون، وخارج الرؤية الإسلامية للحياة، وخارج التوازن المطلوب، أي عن طريق تضييع الواجبات والحقوق وسلوك طرق اللصوصية والرشوة والغش والتحايل والخداع والكذب.
كلما تقدم العمران وتعقدت المصالح، وكثرت الحاجات التي يُنظر عليها على أنها أساسية، شعر الناس بأنهم يغوصون أكثر فأكثر نحو قاع (الدنيوية)، حيث يصبح العالم الذي يعيشون فيه – بما فيه من متطلبات وتحديات ومرفهات – مطبوعاً بطابع حسي مادي مصلحي، وبذلك تتضاءل شيئاً فشيئاً مشاعرهم وهمومهم الدينية، حيث يتم إعطاء دور أكبر للتمتع وتلبية الرغبات الحسية، وحيث تتم إدارة الحياة بعيداً عن التضامن الأخوي عن طريق مؤسسات كثيراً ما تفتقر إلى الشفافية والرحمة والشفقة على الضعفاء والمحرومين.
أضف إلى ذلك أن اتساع دور (العقل) في الحياة يولّد لدى الناس انطباعات كاذبة بالسيطرة على الحياة، مما يقلل من دور العقيدة في تغذية مشاعر العبودية والافتقار(115/1243)
لله – تعالى – ورجاء ما عنده مما هو في مكنون الغيب، هذه سنة الله في الخلق، سواء أكانوا مسلمين أو غير مسلمين، والنجاة من هذه الوضعية تحتاج إلى تركيز ومجاهدة وعمل مستمر؛ وقليل من الناس من يفعل ذلك!
هذا كله يدعونا إلى القول: إننا معاشر الدعاة والمربين والإعلاميين قد نوقع الجيل الجديد في مغامرة خطيرة وغير محسوبة، حين ننمي فيه روح الفردية والاستقلال الشخصي، وحين نحثه دون هوادة على تحقيق أكبر النجاحات وإقامة أوسع العلاقات بواسطة سلوك أقرب السبل، تلك المغامرة الخطيرة تتمثل على المستوى النفسي في دفع الناشئة إلى رسم أهداف كبيرة، لا تساعدهم الإمكانات والوسائل المتاحة على بلوغها، مما يؤدي إلى أن يتحللوا من الضوابط الأخلاقية التي يجب على كل مسلم أن يقيد سلوكه بها، وتتمثل تلك المغامرة على المستوى الاجتماعي في نشر نوع من الأنانية المقيتة ونوع من التصدع الاجتماعي والأسري؛ لأن النجاح الواسع قد لا يتحقق إلا من خلال السحب من رصيد المصلحة العامة وحقوق الأهل والأرحام، وهذا ما حصل فعلاً لدى أمم كثيرة، وهذا ما بدأت بوادره لدى شباب اليوم بالظهور!
ليس أمامنا لمواجهة هذه الوضعية الآخذة في الانتشار سوى تقوية الوازع الداخلي، وتعزيز النظام الأخلاقي، وإعطاء تنمية حب الخير للناس، والالتزام بأوامر الشرع والوقوف عند نواهيه أولوية مطلقة.
إن القيم الإسلامية تحتاج إلى نوع من الاكتشاف الجديد من خلال وضعها في سياقات فكرية وتربوية وإصلاحية جديدة، ومن خلال إرساء تقاليد ثقافية، تعطي للاستقامة السلوكية أبعاداً جديدة.
إننا إذا حفَّزنا الأجيال الجديدة على النجاح والتفرد من غير تدعيم شامل للجانب الروحي والأخلاقي نكون كمن جاء إلى هيكل، فوضع له محرك طائرة وكوابح دراجة! ولست أبالغ إذا قلت: إن أمة الإسلام في أمسِّ الحاجة إلى ثورة روحية وأخلاقية جديدة حتى تستطيع النجاة من فخاخ الحضارة الحديثة، وحتى تستطيع المحافظة على خط سيرها الصحيح.
______________
(*) من كتاب (جدد عقلك).
ـــــــــــــــــــ
غاص الشيخ... فهل نغوص معه
عبدالرحمن بن عبدالعزيز اليحيى
23/1/1425
ارسل تعليقك ...
تعليقات سابقة ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
الحمد الله رب العالمين والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد :(115/1244)
(شيخنا أبو حامد غاص في بطون الفلاسفة وما قدر أن يخرج منها ) عبارة قالها أحد تلاميذ أبي حامد الغزالي في شيخة عندما أراد الغزالي أن يرد شبهات الفلاسفة في بغداد في ذلك الوقت .
وهذه الحالة قد تتكرر في أي وقت وأي زمن لكنها تختلف أشكالها وصورها فضلاً عن أشخاصها ، ولو فتشنا في التاريخ لوجدنا صورة تشبه حالة أبي حامد بل قد تكون أخطر منها من الناحية العملية ، مثل حالة الشيخ الأزهري محمد عبده ، فقد عاش الشيخ - رحمه الله - في قرن ساد في العالم الإسلامي التخلف العقدي والعلمي والاجتماعي ، فأصبح سمة ذلك العصر ، حتى قال الشيخ محمد عبده عن الأزهر: "لبثت سنين أكنس زبالة الأزهر من رأسي" وإن كان في العبارة مبالغة إلا أن من يعرف ذلك العصر لا يستغرب، في المقابل كانت أوربا تعيش ثورة علمية فكرية وثقافية وصناعية، في نفرة من دينها المحرف أو في كل ما له صلة بالدين ، مع تقديس للعقل فكل ما ليس ملموساً أو محسوساً فهو خرافة ودجل لا يستحق النظر إليه ، وقدست الطبيعة وجعلتها معبوداً خالقاً من دون الله.
(شيخنا أبو حامد غاص في بطون الفلاسفة وما قدر أن يخرج منها ) عبارة قالها أحد تلاميذ أبي حامد الغزالي في شيخة عندما أراد الغزالي أن يرد شبهات الفلاسفة في بغداد في ذلك الوقت
في هذا العصر عاش الشيخ محمد عبده تتنازعه الهموم والآمال ، هموم مجتمعة الذي يرى أنه متخلف في كل شيء وخاصة الأزهر ، وآمال إصلاحه و تطويره ، لكنه اصطدم بمجتمع محافظ على دينه يشك في كل ما هو قادم من الغرب الكافر ، وأراد أن يقدم الإسلام للغرب فواجهه واقع يعيش تطوراً علمياً وثقافياً وصناعياً، متمرداً على دينه، ومنسلخاً من كل قيم ومبادئ يقدس العقل والطبيعة .
فسعى الشيخ لوضع منهج يجمع فيه بين الحضارة الغربية وما تملكه من علوم وثقافة وتكنولوجيا وفكر مبنية على إنكار الدين والغيبيات ، والإسلام الذي يأخذ الإنسان بكليته عقلاً وروحاً وجسداً، ويشمل الحياة بجوانبها المتعددة .
وهنا و قع فيما وقع فيه شيخ الإسلام أبو حامد الغزالي ، وإن كانت الحالة النفسية عند محمد عبده تختلف عن حالة الغزالي ، حيث إن الغزالي لما غاص في بطون الفلاسفة كان ينطلق من نفس عالية ورفيعة ، يرى أن الإسلام وما شرعة هو مصدر العز والتقدم والسعادة في هذه الحياة ، أما حالة الشيخ محمد عبدة فكانت مزيجاً من التردد والاضطراب ، فالصدمة النفسية لحملة نابليون ما زال تأثيرها حياً في النفوس ، و لا زالت صورة التفوق الغربي وتطوره العلمي مسيطرة على النفوس، وخاصة المفكرين وبعض العلماء ، عند ذلك لجأ الشيخ لتأول بعض الآيات و بعض الآراء الفقهية لتتوافق مع ما هو سائد في الغرب من آراء وأفكار .
من هذا المنهج و هذا المنطلق ، حصل الفصام النكد ، وظهرت إفرازات نكدة يعاني منها العالم الإسلامي حتى هذا الوقت ، ظهر تلاميذ كانوا هم القنطرة التي عبرت عليها العلمانية لدخول العالم الإسلامي أمثال : علي عبد الرازق ، وسعد زغلول ، ولطفي السيد ، أو ممن جاء بعدهم ممن أسسوا العلمانية في طورها الجديد في هذا الزمن .(115/1245)
و هذا المنهج الذي انطلق منه الشيخ ، هو حالة شعورية قد لا يدركها صاحبها عندما يريد الإصلاح ، يغذيها الإحساس بالدونية والانهزام النفسي الداخلي، والإعجاب بما لدى الآخر، وضغط القوي على الضعيف ، فيلجأ إلى محاباة الآخر ومجاملة مجتمعه - المتمسك بقيمه ومبادئه و لا يرضى عنه بديلاً-، فيلفق مفاهيما وقيما غير صحيحة ، ليتحاشى الصدام مع كلا الطرفين .
الذي دعاني لذكر هذه الإشارات السابقة هو ما اطلعت عليه في ورقة العمل المقدمة للحوار الوطني الثاني المنعقد في مكة المكرمة خلال المدة من : 4 وحتى : 8 / 11 / 1424 هـ بعنوان : المقررات الدراسية الدينية أين الخلل ؟ قدمها الأستاذان : إبراهيم السكران (المعد الرئيس)، و عبد العزيز القاسم (معد مساعد).
لقد ذكرا السبب الداعي لإعداد هذه الورقة والدافع لها بأنه "الظروف الدقيقة على رأسها حملات الإعلام الغربي ضد بلادنا، وتحميل المناهج الدينية مسؤولية العنف المسلح ضد الغرب" (ص4).
وأما الوسائل التي اعتمدا عليها، فهي:
1- استيعاب مجمل النصوص في القواعد التي يقررها المنهج خاصة في قضايا العلاقة مع الآخر.
2- مراعاة المنهج لتدرج الأولويات والكليات الشرعية.
3- مدى مراعاة المنهج لمبادئ العدل، خاصة في الحقوق الشرعية الأساسية للإنسان.
4- عناية المنهج للقواعد الشرعية في التعامل مع الحضارات والمعارف.
5- عناية المنهج بالمشاركة المدنية.
6- مدى وضوح المنهج في تكوين توازن لدى المتلقي وهو الطالب طبعاً بين توظيف وسائل البناء و تحقيق الأهداف . (ص1 وما بعدها).
ولكن حين تقرأ ورقة العمل هذه ولو بصورة عابرة تتذكر حالة الشيخ محمد عبدة النفسية والشعورية عندما أراد إصلاح الأزهر ، من حيث المنطلقات التي انطلقا منها، أو من حيث الأوصاف التي وصفا بها المقررات الدراسية ، أو الذين أعدوا المقررات أو المصادر التي اعتمدوا عليها، أو وصف المقرر نفسه وذاته .
أما المنطلقات التي انطلق منها المعدان، فهي كالتالي:
أن المناهج سبب من أسباب تصعيد العنف المسلح ضد الغرب، ولكنه ليس السبب الرئيس، و أن التصعيد موجود لكن مبالغ فيه "تحميل المناهج الدينية مسؤولية تحريك العنف المسلح ضد الغرب أمر مبالغ فيه، إذ لا يمكن أن يكون السبب الرئيس" (ص4).
والمقرر الدراسي الديني سبب في أذية المسلمين بعضهم مع بعض "ذلك أن أخطاء المناهج الحالية تؤذي علاقة المسلمين بعضهم مع بعض" (ص4).
والمقررات الدراسية تعبئ الطالب وتدفعه ضد الآخر "إن تقديم المقررات نصوصاً تدفع باتجاه تعبئة الطالب في حداثة سنه ضد المخالف المجهول الغائب عنه" (ص6) ترى من هو الآخر؟ ، ثم هل الآخر مغيب عنه؟(115/1246)
والتحذير من تأويل أسماء الله وصفاته - سبحانه وتعالى-، ونفي ما تدل عليه من المعاني هو (تصعيد للموقف الفقهي) (ص7).
• و القومية العربية والوطنية مبادئ حميدة تساعد على تمتين الروابط والوحدة وتطوير للثقافة والمشاركة مع الآخر، ولكن المقرر "قد بالغ في التصوير السلبي للدعوات القومية، حيث وصفها بأنها دعوة جاهلية إلحادية" (ص12).
الرأسمالية هي نظرية اقتصادية فقط كأي نظرية أخرى لا علاقة لها بالكفر والإيمان تقوم على الملكية الفردية، وأن من ينتمي لها هم مختلفو الأديان "ومع ذلك عدّ المقرر الديني أن أي مسلم يتبنى النظرية الرأسمالية فهو منافق نفاقاً أكبر مخرجاً من الملة حتى لو أعلن انتمائه للإسلام" (ص13).
تعميق أخلاقيات التواضع الفكري....، وتعميق الإيمان بالتعددية ......، وتعميق أخلاقيات التواضع الفكري.......، وتكريس قيم التعايش .......، كما احتضن المجتمع الإسلامي في تاريخه المديد شتى أنواع الطوائف والملل، فضلاً عن خلافات الداخل الإسلامي" (ص18)، وحتى تعرف نوع الاختلاف ومع من نختلف انظر ما سبق.
الشرك الأكبر مبالغة تكفيرية ومبالغة في تضييق أشكال العلاقة بغير المسلم، وإبراز جوانب العداء عندما يقول المقرر: "الشرك الأكبر يوجب العداوة الخالصة بين صاحبه وبين المؤمنين، فلا يجوز للمؤمنين محبته وموالاته ولو كان أقرب قريب" (ص14).
أما صورة ووصف معدو هذه المقررات الدراسية فإليك صفتهم في الورقة المقدمة:
المجازفة في التكفير وتجاهل الأعذار، وأنهم لا نصيب لهم من الموضوعية، حيث يقول المؤلفان: "وبعد هذه المجازفات التكفيرية التي لا نصيب لها من الموضوعية والدقة" (ص13) ، ويقولان: "كما يتجاهل عذر المتأول فيوحي بإطلاق الكفر على كثير من المذاهب المخالفة كما في موضوع الموقف من الصفات الإلهية" (ص27).
القصور في التأصيل والتعميق للمسائل العلمية تجاه الحضارة والمدنية المعاصرة و "لم يحاول المقرر الديني تقديم تكييف فقهي لمفهوم الحضارة"، ويقولان: "كما لم يحاول المقرر تعميق شرعية القيم المدنية المشروعة" (ص26).
التردد والاضطراب، فقد "قدم المقرر موقفاً مضطرباً متردداً، فتارة يؤكد .......، وتارة يتجاهل الإيجابيات ...." (ص27) ويقولان: "إلا أن المقرر يضطرب مرة أخرى فيقدم صورة قاتمة عن المجتمع" (ص20).
التهور والمبالغة في إطلاق بعض الأوصاف، حيث "إن المقرر أحياناً يتهور في إطلاق بعض الأوصاف التي تحمل قدراً من التهويل ضد المؤسسات الاجتماعية" (ص20)، ويقولان: "ويبالغ المقرر أيضاً في تصوير الخلل والثغرات التي يرتكبها الإعلام" (ص21).
التعميم في الأحكام وعدم العدل وتوريط الطالب "ومن نماذج تعميم أحكام المحاربين ما يقوله المقرر" (ص15)، ويقولان: "كما أدى إلى توريط الطالب في نيران معارك فكرية لا حاجة له بدراسة ظروفها وإجاباتها" (ص 42).
وكل من درس في مدارس المملكة منذ تأسيسها يعلم أن من ألف المقررات الدينية في جميع المراحل هم من العلماء، بل من هيئة كبار العلماء .(115/1247)
أما وصف مصادر المقررات الدراسية في السعودية، فهي على النحو التالي :
• افتقارها للعدل وأخلاق الاختلاف "وأقل ما يقال في هذه الرسالة التي أحال إليها أنها تفتقر إلى الحد الأدنى من قواعد العدل وأخلاق الاختلاف المقررة في الشريعة" (ص8).
التناقض مع الأسس الشرعية "وهذه العبارات نقلت من بعض المصادر المولودة في ظروف استثنائية، ولا تصلح قاعدة عامة لمناقضتها جملة من الأسس الشرعية" (ص14).
أن مصادر المقرر كتب كتبت للمجادلات الفكرية والمعارك السياسية والدينية "ذلك أن المقررات تعتمد حالياً على مصنفات جرى تدوينها في ظروف المجادلات الفكرية والمعارك الدينية والسياسية" (ص42).
والكل يعرف ويعلم أن المقررات الدراسية، وخاصة مقرر التوحيد في جميع المراحل تعتمد على كتب شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله - وأئمة الدعوة السلفية .
أما وصف المقرر نفسه في ورقة العمل، فإليك هذه النماذج:
الاضطراب الشديد في المنهج العلمي والقضايا الجوهرية، ومخالفة أصول الشريعة، فهو يقدم "اضطراباً شديداً يموج بمحتوياتها في قضايا جوهرية تمس طمأنينة الطالب وحقوق المسلمين وأصول التعامل مع غير المسلمين من أهل الكتاب والمشركين، وقواعد التعامل مع المعارف والحضارات، وهو اضطراب يخالف أصول الشريعة" (ص4)، وأما من ناحية الاضطراب في المنهج العلمي فإن "الخلل في المنهج إعطاء العبارات التلقائية والعضوية أبعاد أضخم من حجمها الطبيعي أو تحميلها بالدلالات الشركية" (ص40)، ويضيف "وكثير من الأحكام التي يضطرب فيها المنهج العلمي وتحمل تعنتاً في التفسير تكون مدفوعة في الغالب بقلق عقائدي" (ص38)، وأضاف "ومن ظواهر الاضطراب في المنهج العلمي أن المقرر عقد درساً لموانع التكفير، وهي: الجهل، والخطأ، والتأويل، والإكراه، وقدم فيها مجموعة من التفصيلات والأدلة ...... إلا أنه في التطبيق العملي يتجاهل" (ص37) لكن ما هو التطبيق الذي يقوم به الطالب في المقرر الدراسي.
التكفير والتعنت العقدي "ومن نماذج التعنت العقائدي أيضاً أن المقرر يجعل من صور اتخاذ الأنداد مع الله من يقول: لولا الحارس لأتانا اللصوص" (ص40)، ولذا يجب "تنقية المقررات من النزعات التكفيرية التي يضطرب بها" (ص 43)، والمقرر "يجازف أحياناً برسم صورة تكفيرية شمولية عن العالم الإسلامي" (ص 11)، بل إن المقرر يهدر الدماء "ويلقي الكثير من عبارات إهدار الدماء واستباحة الممتلكات وينثرها في ثنايا المقرر بشكل فوضوي غير منظم المعنى والمعايير" (ص11).
المقرر يغرس مفهوماً خاطئاً تجاه الدول المتقدمة والحضارة المعاصرة" (ص29) "كما يدعو المقرر إلى تعميق الكراهية ضد المسلم المقصر" (ص 10) "وفي مناسبات أخرى يقدم خطابا تصعيدياً متوتراً يركز فيه على الإدانة، ويختصر الآخر في السلبيات فيرتبك الطالب إزاء هذا الاضطراب" (ص 27).(115/1248)
المبالغة وتعبئة الطالب "ويبالغ المقرر أيضاً في تصوير الخلل والثغرات" (ص 21) و "يحاول المقرر دوماً إشعار الطالب بأنه يسير بين المزالق والبدع، ويحوم على شفير الردة" (ص 24) "والحقيقة أن مثل هذه المبالغة في تصوير الانحراف تهز انتماء الطالب لعالمه الإسلامي" (ص20) "كما أدى إلى توريط الطالب في نيران معارك فكرية لا حاجة له بدراستها" (ص42) كما أنه "يحاول في مواضع أخرى المبالغة في تضييق أشكال العلاقة بغير المسلم" (ص14).
أما النتيجة من هذا المقرر الذي أعده كبار العلماء في هذا البلد ، واعتمدوا فيه على كتب أئمة الدعوة السلفية، فإننا "نستخلص مما تقدم أن المقرر لم يعط أصول الاختلاف وقواعد التعامل مع المخالفين" (ص ) "كما أنه لم يحاول تقديم تكييف فقهي لمفهوم الحضارة" (ص 26) "ولم يحاول تعميق شرعية القيم المدنية المشروعة" (ص 26) و "لم ينجح في تقديم رؤية متسقة في هذه القضايا، بل كان الاضطراب والتناقض فيما عرضه من أصول وتعليمات" (ص5)، بل إنه "يقدم ما يكاد يناقض هذه المبادئ ويتعارض مع ما قررته قواعد الشريعة" (ص 6) "فأي أخلاق إسلامية يقدمها المقرر للطالب في هذا المقام" (ص 30).
وبعد هذا الاستعراض الذي يصيب الرأس بالصداع والغثيان نتذكر قول الشاعر:
وظلم ذوي القربى أشد مضاضة ... ... على المرء من وقع الحسام المهندِ
لأن من كتب وأعد هذه الورقة لتقدم في الحوار الوطني الثاني ، هما أستاذان من هذا البلد عاشا وتربيا على أرضه وتلقيا العلم من كبار العلماء وطلبة العلم في مدارسه وجامعاته ، وعرفا أن عقيدة معلميه وعلمائه عقيدة أهل السنة والجماعة التي هي الوسط الخيار لهذه الأمة .
فإن كان هذا الخلل والاضطراب الذي ذكراه كله موجود، فإننا ومنذ عشرات السنين نعيش في اضطراب وخلل عقدي وعلمي، وهذا مالا يقوله عاقل ومنصف ، مع الاعتراف أن العصمة لا تكون إلا لمحمد - صلى الله عليه وسلم - إذن من أين استنتج الأستاذان هذه الملاحظات المجحفة والمبالغ فيها مبالغة عظيمة حادت عن طريق الحق والعدل والإنصاف ؟
والجواب - مع إحسان الظن بالأخوين الأستاذين الكريمين - هو :
أنهما غاصا كما غاص الشيخ محمد عبده وقبله الشيخ أبو حامد الغزالي - رحمهما الله تعالى - لما أرادا ا أن يدفعا التهمة عن الإسلام.
فالأستاذان وقعا كما وقع غيرهما و من قبلهما ، ممن غاص في بطون الفلاسفة أو انبهر وغاص في بريق وضغط الحضارة الغربية ، فإنك تلمح من خلال استعراضك للورقة الحالة النفسية المضطربة والمرتبكة لهما في محاولة الإصلاح وكسب ود ورضاء الآخر ، ولكن الله - سبحانه وتعالى - خلق عادات وسنناً في هذا الكون لا تتبدل ولا تتغير، ومنها الحق و الباطل لا يجتمعان في قلب رجل واحد ، وصراعهما أزلي حتى يرث الله الأرض ومن عليها، وأن أهل الباطل لن يرضوا عن أهل الإيمان حتى ولو تنازلوا عن بعض ما أنزل الله إليهم ، حتى يتركوا دينهم بالكلية، قال الله – تعالى-: "وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ" (البقرة: من(115/1249)
الآية120)، ويمكن تحديد ذلك الاضطراب والارتباك النفسي من خلال النماذج التالية:
1- المجاملة ومحاولة دفع التهمة بالاعتراف بجزء من التهمة، مثل: قول الكاتبين: "يأتي في ظروف دقيقة على رأسها حملات الإعلام الغربي ضد بلادنا ، وربما أوضحت هذه الدراسة أن تحميل المناهج الدينية مسؤولية تحريك العنف المسلح ضد الغرب أمر مبالغ فيه إذ لا يمكن أن تكون السبب الأساسي، (ص4)، فهذا اعتراف بأن العنف والتطرف موجود في مناهجنا الدينية لكن الإعلام الغربي بالغ فيه، وأن المناهج سبب من الأسباب ولكنه ليس السبب الرئيس .
وقولهما: "فنحن بحاجة للتصحيح لمصلحتنا أكثر من حاجتنا لتحقيق ما يغضب مراكز القوى" (ص4)، وأقول: نعم التصحيح واجب ولكن ما هذا التصحيح؟ إن كان التنازل عن مبادئنا ومفاهيمنا لمرضاة الكفر وأهله فلا وألف لا .
2- المبالغة في مجاملة غير المسلمين وأهل البدع، مثل قولهما : عندما ذكر المقرر تأويل أسماء الله وصفاته عن ظاهرها، ونفي ما تدل عليه من المعاني الصحيحة إلحاد فيها ، قالا: "وفي إطلاق مصطلح الإلحاد في هذا المقام بهذا الإجمال ما يؤدي إلى تهوين حقوق المخالف وتصعيد للموقف الفقهي معه دون انضباط علمي" (ص7) أقول : نعم إن صرف وتأويل أسماء الله وصفاته عن معانيها الصحيحة إلحاد فيها كما قال الله تعالى: "وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ" (الأعراف:180) وأنه ليس اختلافاً فقهياً، وإنما خلاف عقدي .
ويضيفان فيوردان أن المقرر ذكر أن "الشرك الأكبر يوجب العداوة الخالصة بين صاحبه وبين المؤمنين فلا يجوز للمؤمنين محبته وموالاته ولو كان أقرب قريب" فيعلقان على هذه العبارة "وهذه العبارة نقلت من بعض المصادر المولودة في ظروف استثناثية ولا تصلح قاعدة عامة لمناقضتها جملة من الأسس الشرعية" (ص14)، فهل قاعدة الولاء والبراء تتغير من زمان إلى آخر أم المجاملة وضغط الواقع ؟ "كما يتجاهل عذر المتأول فيوحي بإطلاق الكفر على كثير من المذاهب المخالفة لدرجة أنهم في موضوع الموقف من الصفات الإلهية أو الموقف من الصحابة" (ص37) يا ترى من له موقف من الصحابة أليسوا هم الرافضة ؟ وأما الاحتفال بالمولد النبوي، والذي هو تشبه بالنصارى وما فيه من المنكرات، فهو "عرض لبعض ممارسات المسلمين بمبالغة وتهويل تنطلق بالأخطاء إلى مستويات مشبعة بالتضليل" (ص 8) لا بل إنهما يدعوان إلى أكثر من ذلك، عندما يقولان: "تعميق الإيمان بالتعددية بما يعني الإقرار في الاختلاف ومسؤولية الإنسان عن حرية اختيار" (ص 17)، ويقولان: "نبذ الزهو المذهبي عبر تعميق أخلاقيات التواضع الفكري" (ص 17)، ولعلك لا تنس ماذا يقصدان بالاختلاف مع من ؟ عندما تمر على ما سبق .
3- و أما المبادئ والمذاهب الكفرية فهي نظريات علمية لا تعدو عن ذلك، فالرأسمالية "تعد نظرية اقتصادية تقوم على فكرة الملكية الفردية" (ص13) فقط لا دخل للإيمان والكفر فيها ، وأما القومية العربية في العالم العربي، فهي "تمتين(115/1250)
للروابط القومية و ما يتبع ذلك من تبادل اقتصادي ومواقف سياسية وعلاقات ثقافية وهموم مشتركة" (ص 13).
4- عدم ذكر محاسن و مميزات للمقرر الديني في هذا البلد - الذي تميز بها عن بقية المناهج الأخرى على وجه الأرض، والذي شهد به أهل العدل والإنصاف-، إلا على استحيا منهما، مثل: "قدمت المقررات نصوصاً منضبطة فقهياً لعرض يغض الآداب العامة وأخلاقيات التعامل في المستوى النظري" (ص4) انظر عرض بعض الآداب الفقهية النظرية لكن المسائل العقدية في المقرر فهي توتر وقلق عقدي، ويقولان: "يقدم المقرر أحياناً الدعوة إلى الالتحام بالمجتمع والاندماج بمؤسساته، ويوضح أهمية ذلك لنهضة الأمة" (ص 19) أحياناً فقط ، أو يقولان في موضع آخر: والحقيقة أن المقرر يقدم في كثير من الأحيان تفصيلات جيدة في دراسة القضايا وشروط دقيقة لبعض المفاهيم، لكنه يرتبك في أحيان أخرى" (ص 35) أقول: يا ليته سكت!
بعد هذا الاستعراض والذي أطلت فيه يذكرني عمل الأخوين بطريقة بعض الكتاب الإسلاميين المستنيرين أصحاب المدرسة العقلية الذين غاصوا مع شيخهم الشيخ محمد عبده في بداية عصر النهضة ، عندما دافعوا عن بعض المبادئ والمفاهيم الشرعية الإسلامية المقررة في الدين المعروفة أحكامها والمسلم بها ، مثل: الجهاد، والرق، وحقوق المرأة، فهم في ردهم ينطلقون من محاولة إرضاء الآخر وهو الغرب المبهورين به ابتداءً ، مبررين تحبيب الإسلام وتقريبه للآخر مع خشيتهم من الاستعمار الذي يجثم على بلادهم بعساكره ، ومن ضغط واقعهم المحافظ الذي يتمسك بدينه ولا يرضى عنه بديلاً ، ولو تكابلت عليه الدنيا بجحافلها ، فكانت النتيجة مسخاً من الأفكار والمبادئ لا تصلح ولا ترضي إلا القس زويمر عندما قال: " نحن لا نريد أن يكونوا مسيحيين ، وإنما نريد جيلاً لا يعرف دينه ويعيش بلا دين".
ـــــــــــــــــــ
ارفع رصيدك العائلي
مريم عبد الله النعيمي
16/1/1425
ارسل تعليقك ...
لا توجد تعليقات ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
جرت العادة أن تكون الدعوة لرفع رصيد المال في البنوك، فلِمَ اليوم ندعو إلى رفع رصيد من نوع آخر أسميناه الرصيد العائلي، إن هذا السؤال جدير بالإجابة عنه في زمن تغلبت فيه النظرة المادية للأشياء على النظرة الجوهرية والقيمة لأمور الحياة، فبتنا نقيّم الأمور بمقياس المادة حتى ولو كانت في حقيقتها تحتاج إلى تقييم من نوع آخر.(115/1251)
نعم إن الرصيد الذي ندعوك إلى زيادته أيها الأب هو حب أبنائك لك من خلال قربك منهم، والنظر في أحوالهم وتفقد أخبارهم، والجلوس معهم، والتواصل مع أفكارهم، والتحليق مع أحلامهم في أجواء تملؤها المحبة ويسودها الوئام والدفء والاطمئنان.
ترى هل خطر ببال أحد الأبوين أن يناقش هذه القضية مع نفسه، ليكتشف هل هو قريب من نفوس أبنائه، أم أنه بعيد عنهم؟!
إن لم يكن ذلك وارداً على أذهان بعض الآباء والأمهات، فقد آن الأوان ليبحثوا ويكتشفوا بأنفسهم عن مقدار حب أبنائهم لهم، فإن وجدوا رصيدهم عالياً في قلوب أبنائنا فليحمدوا الله، فإن ذلك نصف الطريق إلى بلوغ الأهداف الأسرية وتحقيق السعادة العائلية مع الأبناء والأسرة.
جرت العادة أن تكون الدعوة لرفع رصيد المال في البنوك، فلِمَ اليوم ندعو إلى رفع رصيد من نوع آخر أسميناه الرصيد العائلي؟!!
وإن كان رصيد الحب قليلاً أو متواضعاً أو ضئيلاً، فإن الطريق إلى بلوغ السعادة مع الأبناء سيكون أكثر حاجة إلى بذل المزيد من الجهد والطاقة في سبيل الالتقاء مع الأبناء نحو الهدف الواحد والغاية الواحدة، ليحيوا حياتهم متقاسمين الأدوار متعاونين، يسودهم الوئام ويشملهم الانسجام.
بداية على من يكتشف أن رصيده من حب أبنائه ضعيف ومحدود أن يسأل نفسه عن السبب وراء هذا الاكتشاف الخطير والغريب كذلك!!
إن اعتزاز الأبناء بالآباء هو الصورة الطبيعية لنوعية العلاقة الخاصة التي تربط الأبناء بآبائهم.
وهو التعبير الأمثل والظاهر، عن الحب الذي يغمر قلوب الصغار تجاه والديهم، ويحضرني في هذا موقف طريف دار بين الفرزدق وبين الكميت بن زيد حينما كان زيد صبياً.
فلقد أنشد الفرزدق أبياتاً من الشعر بجامع البصرة، وكان الكميت حاضراً يحسن الإصغاء والإنصات لأبيات الفرزدق!!
يقول الفرزدق: فأعجبني حسن استماعه، فقلت له: يا غلام أيسرك أنني أبوك؟
فقال الغلام على الفور: أما أبي فلا أبغي له بديلاً، ولكنني وددت لو تكون أمي!!
قال الفرزدق: فأخجلني.
وهذا موقف آخر معبر عن ذات المعنى، دار بين أحد الصبيان والمنصور، فجعل يسأله عن أبيه، وكلما سأله عن أمر من أموره يقول: فعل أبي _رحمه الله_ كذا، وصنع أبي _رحمه الله_ كذا!!
فزجره الربيع حاجب المنصور، وقال: إلى متى تترحم على أبيك في مجلس أمير المؤمنين؟
فالتفت الصبي إليه، وقال: إنك لا تعرف حلاوة الآباء.
إن هذين الشاهدين هما مثال حي على ما يعتلج في نفوس الأبناء من حب غامر لآبائهم، ولكن من سوء حظ الكثيرين من أبناء هذا الزمن بالتحديد أنه ليس هناك مجال للتعبير عن هذا الحب، فالكل مشغول إلا ما رحم ربي.(115/1252)
حتى بلغ من انشغال الأبوين بأعمالهما أنهما لم يعودا يجدان الفرصة المناسبة للتعبير عن هذا الحب المتبادل بينهم وبين أبنائهم، ظناً من الأبوين أن الترجمة الحقيقية للعواطف الأبوية هي في المزيد من الانشغال، والمزيد من الانهماك وراء الأعمال.
إني والحق يقال أخشى لتلك المشاعر الغضة من الانطفاء في أجواء مشحونة بالانهماك وراء الأعمال التي استولت على كل الأوقات دون أن نعي أن ذلك لا يصح ولا ينبغي، فإن الإفراط في الانهماك بأداء الأعباء الوظيفية مذموم، شأنه شأن التفريط.
لذلك لا بد من إعادة جدولة لأوقات الوالدين، ولا بد من إعادة توزيع الحصص بين الأعمال والعائلة بما يكفل تحقيق الأهداف الكبرى للوالدين، ويضمن لهما ألا يضربا رأسيهما في الحائط حينما يكبران ويصيبهما الهرم، فيتلفتان حولهما باحثين عن أولادهما، فإذا المعادلة تنقلب وبالحال يبدو قاتماً مؤلماً حين يكتشف الأبوان أن أولئك الأبناء قد انشغل كل واحد منهم بنفسه، ونسي في الطريق أبويه من شدة الانهماك بالأعمال والجري وراء تحقيق الأهداف الشخصية.
نعم أيها الأبوان لا بد لكما من الآن أن تنشغلا برفع رصيدكما من محبة أبنائكما لكما، بدلاً من أن يهبط ذلك الرصيد إلى مستوى ضعيف لا ترضيان به، ولا تتوقعانه على الإطلا
ـــــــــــــــــــ
أخيتي.. كفى عجزاً!
أحمد الصويان
2/1/1425
ارسل تعليقك ...
لا توجد تعليقات ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
المرأة المسلمة قلعة من قلاع الإسلام، وحصن من حصونه المنيعة، لها دور عظيم في صيانة الأمة وتربيتها وحمايتها من كل ألوان الفساد والرذيلة. استقامتها على الحق صيانة للمجتمع كله، وصلاحها وعفتها رعاية للأمة من الانحدار والتردي في دروب الهوى.
لذا حرص أعداء الله – تعالى - من المستغربين والعلمانيين على انتهاك هذا الحمى الكريم، واستباحة هذه البيضة العفيفة، وأجلبوا بخيلهم ورجلهم لانتزاع البقية الباقية من ديانة المرأة وتقواها، وسعوا إلى اختراق إعلامي واسع النطاق يقوم على تزيين الفواحش، ونشر ثقافة الرذيلة، والمتاجرة بالأعراض، ويهدف إلى تغيير البنية الاجتماعية والفكرية للأمة المسلمة.
وذلك كله ليس بغريب على الإطلاق؛ فذلك ديدنهم وهجِّيرهم(1)، ولكن: ألا يحق لنا أن نتساءل بكل صدق: أين دعاتنا من هذا الحِمَى الكريم؟! وأخصّ بالذكر ها هنا نساءنا الصالحات؛ فهن أوْلى بذلك من غيرهن.(115/1253)
إن علينا أن نعترف بأن واقعنا الاجتماعي والدعوي أدّى إلى إهمال جلي واضح للدعوة في أوساط النساء، فغلب على صالحاتنا – فضلاً عن عامة نسائنا – العجز والقعود، وأصبح كثير منهن يتعذرن بمعاذير واهية يُسوِّغهن به قصورهن وتفريطهن.
المرأة المسلمة قلعة من قلاع الإسلام، وحصن من حصونه المنيعة، لها دور عظيم في صيانة الأمة وتربيتها وحمايتها من كل ألوان الفساد والرذيلة
نعم.. أُدرك أن العوائق التي تواجه المرأة أضخم من تلك التي تواجه أخاها الرجل، ولكن أيصح أن يكون ذلك حابساً للمرأة عن الإقدام والنهوض؟! أيصح أن تغفل المرأة الداعية وتصاب بالوهن والفتور..؟!
دعينا نتأمل خبر أبي هريرة – رضي الله عنه – حينما يحدثنا: "أن أسود – رجلاً أو امرأة – كان يقمُّ المسجد فمات، ولم يعلم النبي - صلى الله عليه وسلم - بموته، فذكره ذات يوم، فقال: ما فعل ذلك الإنسان؟ قالوا: مات يا رسول الله. قال: أفلا آذنتموني؟! فقالوا: إنه كان كذا وكذا – قصته -. قال: فحقَّروا شأنه. قال: فدِلّوني على قبره، فأتى قبره فصلى عليه"(2).
سبحان الله.. امرأة – كما جاء في بعض الروايات – ربما كان بعض الناس يزدريها وينظر إليها نظرة لا مبالاة.. ولكنها عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عزيزة كريمة يسأل عنها ويصلي عليها.
قامت هذه المرأة بعمل – قد نظنه يسيراً – ولكنه عند الله – تعالى - عمل عظيم يستحق تقدير النبي - صلى الله عليه وسلم - واهتمامه.
إنها الفاعلية التي دفعت هذه المرأة لخدمة المسلمين والسعي في حاجتهم، صورة عظيمة يتجلى فيها عمل هذه المرأة المستضعَفة عند الناس، لكن قلبها العامر بالطاعة حفَّزها على البذل والعطاء دون أن تهن أو تضعف.
إنها الفاعلية التي اطمأنت بها ذوات القوب المرهفة الحية، فقدَّمْن ما يَقْوَيْن عليه ابتغاء وجه الله تعالى دون أن يشعرن بالاتكالية والاعتماد على الآخرين.
وكم يحزُّ في النفس أن يرى المرء ذلك التمرد الأخلاقي الذي يعصف بنا من كل صوب، ثم يجد من بعض صالحاتنا عزوفاً أو انشغالاً عن تلك المسؤولية العظيمة؟!
فيا سبحان الله!.. لمن تتركن الميدان؟! ومن تنتظرون أن يقوم بهذا الدور؟!
ألا يكتوي قلبكِ حين ترين تلك الوحوش الكاسرة التي كشَّرت عن أنيابها الفضائية ومخالبها الصحفية، وراحت تعبث في أخواتك، وتنتهك عفتهن وكرامتهن؟!
ألا يتفطر فؤادكِ وأنت ترين التفسخ والانحلال يستشري في نسائنا، وينتشر في بيوتنا انتشار النار في الهشيم؟!
أيطيب لكِ طعام أو شراب وأنت ترين الفتاة تلو الفتاة، وقد رَمَت بحجابها وراحت تركض هنا وهناك ملبية نداء تلك الأبواق الخاسئة التي مُلئت بكل ألوان الدهاء والفتنة..؟!
يا الله...!! كيف تقوى نَفْسُكِ على القعود وأنت تملكين – بفضل الله – القدرة على تحصين أخواتك من حبائل المفسدين ومكايد العابثين..؟!
أيرقأ لكِ دفع؟ أم هل يسكن لكِ قلب؟ آلله - تعالى - يرضى لكِ بذلك..؟!(115/1254)
أخيتي في الله:
إما أن تتقدمي أنتِ.. وإلا فإن أولئك القوم لنا بالمرصاد، وبقدر تقصيركِ يكون إقدامهم، ومن أيقنت بعظيم مسؤولياتها هانت عليها كل العقبات التي تواجهها.. ومَن صدق اللهَ صدقه.
ومَنْ رعى غنماً في أرض مسبعة
...
...
ونام عنها تولّى رَعْيَها الأسدُ
_______________
(1) الهجيرى والهجير، والإهجيرى: الدأب والعادة، (لسان العرب).
(2) أخرجه: البخاري، في (كتاب الصلاة، باب كنس المسجد 1/552، رقم 458)، ومسلم بنحوه، في (كتاب الجنائز، باب الصلاة على القبر 2/659 رقم 956).
ـــــــــــــــــــ
ضع نفسك مكان أخيك!
عبد العزيز الجليّل
24/12/1424
ارسل تعليقك ...
تعليقات سابقة ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين، وبعد:
روى الذهبي – رحمه الله – في السير عن عقيل، ومَعْمَر، عن الزهري، حدثني عروة أن المسْوَر بن مخرمة أخبره أنه وفد على معاوية، فقضى حاجته، ثم خلا به، فقال: يا مسور! ما فعل طعنُك على الأئمة؟ قال: دعنا من هذا وأحسن. قال: لا، والله، لتكلمني بذات نفسك بالذي تعيب عليَّ. قال مسور: فلم أترك شيئاً أعيبه عليه إلا بينت له، فقال: لا أبرأ من الذنب، فهل تعُدُّ لنا يا مسور ما نلي من الإصلاح في أمر العامة؛ فإن الحسنة بعشر أمثالها، أم تعُدُّ الذنوب، وتترك الإحسان؟ قال: ما تُذكر إلا الذنوب، قال معاوية: فإنا نعترف لله بكل ذنب أذنبناه؛ فهل لك يا مسور ذنوب في خاصتك تخشى أن تُهلك إن لم تُغفر؟ قال: نعم! قال: فما يجعلك الله برجاء المغفرة أحقَّ مني؛ فوالله ما أَلِي من الإصلاح أكثر مما تلي، ولكن والله لا أخيَّر بين أمرين: بين الله وبين غيره، إلا اخترت الله على ما سواه، وإني لعلى دين يُقبَل فيه العمل ويجزى فيه بالحسنات، ويجزى فيه بالذنوب إلا أن يعفو الله عنها. قال: فخصمني. قال عروة: فلم أسمع المسور ذكر معاوية إلا صلى عليه.
وعندما يمارس الواحد منا هذا الأسلوب التربوي في عتابه للناس ومعالجة أخطائهم فإن الوئام والألفة ستحل محل الفرقة والشحناء والبغضاء(115/1255)
من هذا الحوار الجميل المؤدب بين صحابيين جليلين من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - قد كان في نفس كل منهما شيء على الآخر نستنبط أمراً مهماً في التربية ومعالجة الأخطاء لو سرنا عليه في عتاب بعضنا لبعض لاختفت كثير من مفسدات الأخوة وذات البين، ولسلمت القلوب المخلصة من الإحَن والأحقاد والشحناء والأهواء.
وهذا الأسلوب التربوي المعني هنا مأخوذ من الحوار السابق؛ وذلك لما ذكر المسور بن مخرمة لمعاوية – رضي الله عنهما – كل ما يعرفه من أخطاء معاوية. قال له معاوية – رضي الله عنه -: فهل لك يا مسور ذنوب في خاصتك تخشى أن تهلكك إن لم تُغفَر؟ قال: نعم! فقال معاوية: فما يجعلك برجاء المغفرة أحق مني؛ فوالله ما ألِي من الإصلاح أكثر مما تلي... إلخ.
فهذا هو الشاهد من هذا الحوار المناسب لهذه المقالة المعنون لها بـ(ضع نفسك مكان أخيك).
وعندما يمارس الواحد منا هذا الأسلوب التربوي في عتابه للناس ومعالجة أخطائهم فإن الوئام والألفة ستحل محل الفرقة والشحناء والبغضاء، وهذا الأسلوب ينفع مع مختلف طبقات الناس وشرائحهم كما يتضح ذلك من الصور الآتية:
• ما يكثر من الخلافات العائلية في كثير من البيوت، وذلك بين الزوج وزوجته، أو بين الوالد وولده، أو بين الأخ وأخيه، أو بين الرجل وقرابته، حيث تؤدي كثير من هذه الخلافات بفعل الممارسات الخاطئة لعلاج الخطأ، والأسلوب الغالط للعتاب إلى نهايات مؤسفة قد تكون طلاقاً أو قطيعة أو ظلماً أو عدواناً.
بينما لو أُخذ بالأساليب الشرعية لمعالجة الخطأ، ومن بينها هذا الذي طبقه معاوية – رضي الله عنه – وعبرت عنه بمصطلح (ضع نفسك مكانه) أقول: لو طبق هذا الأسلوب مع الأساليب الشرعية الأخرى، واختفت حظوظ النفس لساد الوئام، ووضع الخطأ في حجمه الطبيعي، وأمكن محاصرته وعلاجه.
فمثلاً لو أن زوجة أخطأت بحق زوجها أو في بيتها خطأً معيناً، وتأكد الزوج من ذلك فإن مما يخفف غضب الزوج وشدة عتابه لزوجته أن يبحث عن الملابسات التي أحاطت بالزوجة حتى وقعت فيما وقعت فيه من الخطأ، ثم يضع نفسه مكان زوجته عندما أحاطت بها هذه الملابسات، فماذا عساه أن يعمل؟ ثم ينظر إلى توجهات عقل المرأة وطبيعتها، ثم يحاسب نفسه فيما لو وقع في نفس الخطأ الذي وقعت فيه زوجته هل محاسبته ومعاتبته لنفسه بنفس القوة والنقد الذي يوجهه إلى زوجته؟ إن كل هذه التساؤلات ستقلل من حجم الخطأ، وتدفع الزوج إلى معالجته معالجة شرعية تتسم بالعدل والتأني والرغبة في الإصلاح، وليس لمجرد التشفي وتنفيس الغيظ.
ولا يعني هذا التغاضي عن الأخطاء وتسويغها وعدم إصلاحها لا، ولكن المقصود معالجتها بعدل وإنصاف، ووضع النفس مكان من صدر منه الخطأ والملابسات التي أحاطت بصاحب الخطأ حتى توضع الأمور في حجمها الطبيعي من غير تهويل وتضخيم.(115/1256)
ومثل هذا يقال للزوجة في معالجتها لخطأ زوجها، وللوالد مع ولده، والقريب مع قريبه، وكذلك ما يحصل بين عامة الناس وأصحاب المهن المشتركة من خلافات وأخطاء.
• ما يحصل من بعض الأخطاء التي يقع فيها بعض العلماء أو طلبة العلم أو الدعاة التي ينجم عنها – لغياب المعالجة الشرعية العادلة – كثير من العدوان والشحناء والغيبة والأحقاد.
ولو أننا طبقنا هذا الأسلوب المشار إليه آنفاً في معالجة الخطأ، ووضع الناقد نفسه مكان صاحب الخطأ وبحث عن الملابسات التي أحاطت به في خطئه لتطامن الناقد، وعذر صاحب الخطأ إن وجد له عذراً، أو أنه يضع خطأه في حجمه الطبيعي من غير تضخيم وتهويل، وكذلك لو حاسب الناقد نفسه فيما لو صدر منه الخطأ الذي صدر من العالم أو الداعية الفلاني، فهل مؤاخذته لنفسه بنفس القوة التي يوجهها لغيره؟ لأن مثل هذه المحاسبة تعد من أسباب التطامن والإنصاف، وكما قال معاوية للمسور – رضي الله عنهما – عندما عرَّفه ببعض أخطائه قال له: فهل لك يا مسور ذنوب في خاصتك تخشى أن تهلك إن لم تُغفر؟ قال: نعم!
فكذلك الدعاة وأهل العلم في معالجتهم لأخطاء بعضهم، فلو أن الناقد انتبه لنفسه وما هي عليه من الأخطاء والذنوب لكان في ذلك من التطامن والتواضع مع صاحب الخطأ ما يجعل الناقد يضع الخطأ في حجمه المعقول، ويعامل صاحب الخطأ في حجمه المعقول، ويعامل صاحب الخطأ بالعدل والمحبة والإصلاح بعيداً عن حظوظ النفس والأهواء؛ فإذا انضاف إلى ذلك وجود الخير الكثير والإصلاح عند الشخص المنتقد صار هذا أيضاً من دواعي اضمحلال خطئه في بحر حسناته.
وهذا ما أشار إليه معاوية – رضي الله عنه – بقوله للمسور – رضي الله عنه -: فوالله ما ألي من الصلاح أكثر ما تلي.
ولا يعني هذا – كما تقدم – تمرير الأخطاء وتسويغها، وإنما يعني معالجتها معالجة عادلة تضع الخطأ في مكانه الطبيعي، فلا تُنسى حسنات المخطئ كما لا ينسى الناقد أن له عليه ذنوباً كما على غيره، والسعيد من لم تشغله عيوب الناس عن عيوب نفسه.
• ما يصدر من أهل الابتلاء كالمرضى والفقراء والمسجونين والمهمومين والمحزونين وغيرهم من المواقف التي يعدها أهل الرخاء والعافية مواقف خاطئة؛ لكن ما أن تطبق القاعدة المشار إليها آنفاً في معالجة الخطأ، وهي قاعدة (ضع نفسك مكانه) فيضع من هو معافىً في دينه ودنياه نفسه مكان المبتلى، ويحاول أن يتصور الظروف التي تحيط بصاحب المصيبة إلا كان لذلك أثره على النظرة إلى هذه المواقف التي يعدها خاطئة؛ فإما أن يظهر له أنه معذور بسبب الملابسات التي أحاطت به كما قيل: ويل للشجي من الخلي، والشاهد يرى ما لا يرى الغائب؛ أو أنه يظهر له الخطأ في حجمه الطبيعي، فيعالجه معالجة من يعرف ملابساته وأسبابه التي أدت إلى ضعف المصاب وقيامه بمواقف خاطئة تقدر بقدرها، وتعالج معالجة من يعرف ضعف الإنسان أمام الأقدار المؤلمة إلا من رحم الله – تعالى-، ولا يدري المعافى لو كان مكان المصاب ماذا عساه أن يفعل؟
نسأل الله – عز وجل – الثبات والعافية.(115/1257)
• كما تنفع هذه القاعدة في مساعدة المحتاجين والملهوفين ممن تعوزهم الحاجة إلى المال أو الجاه، أو تفريج همٍّ، أو إغاثة ملهوف قد انقطعت به السبل، أو جائع أو عطشان، أو غريب تائه عن الطريق، أو مسافر قد تعطلت راحتله... إلخ.
ذلك أن الإنسان عندما يضع نفسه مكان أصحاب هذه الحاجات، وبتصور حجم المعاناة التي يعانيها الملهوف والمكروب والجائع والمنقطع... إلخ. كما يتصور أيضاً وقع الإعانة لهؤلاء في نفوسهم وأثرها علهم وأجرها عند الله - عز وجل - كل ذلك مما يجعل الإنسان يهبُّ لقضاء حاجات الملهوفين والمحتاجين.
ولا يظهر التفاعل مع حاجات المحتاجين كما يظهر عند من مرت به حاجة من الحاجات في حياته كمرض احتاج فيه إلى من يواسيه ويقوم برعايته فيه، أو فقير احتاج إلى من يساعده ويهتم بحالته فيه، أو انقطعت به دابته أو سيارته فاحتاج من يصلحها له ويساعده على مواصلة الطريق... إلخ.
إن كل من مرت به حاجة من الحاجات ثم عافاه الله منها، ورأى بعد ذلك من وقع فيما وقع فيه من الحاجة فإن هذا من أكبر الدوافع التي تدفع إلى مساعدة المحتاج وإغاثة الملهوف؛ لأنه قد وضع نفسه مكان المحتاج، وتصور الظرف الذي يمر به المحتاج وأنه قد مر عليه مثله.
إن هذه القاعدة تنفع مع كل ذي كبد رطبة وليست مع الإنسان وحده، وإذا أخلص العبد في إعانته للمحتاج وأراد وجه الله – عز وجل – فإن الله – سبحانه – يشكر له صنيعه ويجازيه عليه الجنة؛ فعن أبي هريرة – رضي الله عنه – أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "بينما رجل يمشي بطريق اشتد عليه العطش، فوجد بئراً فنزل فيه فشرب، ثم خرج؛ فإذا كلب يلهث، يأكل الثرى من العطش، فقال الرجل: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي بلغ مني، فنزل البئر فملأ خفه ماءً، ثم أمسكه بفيه حتى رقي، فسقى الكلب، فشكر الله له فغفر له، قالوا: يا رسول الله! إن لنا في البهائم أجراً؟ قال: في كل كبد رطبة أجر".
وكما يظهر من هذا الحديث نلاحظ أن الرجل الذي سقى الكلب قد طبق القاعدة التي نحن بصددها وهي (ضع نفسك مكانه).
فهل يعني هذا الأمر أولئك الذين لا يبالون بحاجات المحتاجين، ولا بإغاثة الملهوفين المكروبين؟ وهلاّ حمدوا الله – عز وجل – وشكروه على العافية، ووضعوا أنفسهم مكان المحتاجين ومعاناتهم؟ فإن الله – عز وجل – قادر على أن يعافي غيرهم ويبتليهم.
نسأل الله العافية والسلامة
ـــــــــــــــــــ
مقاومة الإخفاق
أ.د. عبد الكريم بكار
17/12/1424
ارسل تعليقك ...
لا توجد تعليقات ...
ارسل الصفحة ...(115/1258)
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
في عصور الانحطاط يغلب على الناس التفكير الجبري، حيث يشعرون أنه لا حول لهم ولا طول، وحيث يشعرون بانسداد الآفاق وضيق المخارج، أما في عصور الازدهار فإن كل شيء ينتعش، حيث تسيطر على الناس المفاهيم والمشاعر التي تحفزهم على مقاومة الإحباط، وتلك التي تحدوهم إلى تلمس آفاق جديدة للحركة وحقول جديدة للممارسة، وإن مما يذكر للحضارة المعاصرة أنها وفّرت الكثير من المفاهيم التي تساعد المرء على تحليل مشكلاته والوقوف على أوجه قصوره الذاتي، كما وفرت الكثير من الطرق والأساليب التي يمكن أن تستخدم في تجاوز العقبات وحل المشكلات.
عقيدة الإسلام توفر بنية عقدية ونصوصية ممتازة للاستمرار في طلب النجاح ونيل شرف المحاولة، لكن معظم الناس لا يستفيدون من المبادئ الكبرى إذا لم تتجسَّد لديهم في نماذج، وإذا لم تشرح من خلال مفاهيم جزئية وطرق عملية، وهذا ما أنجزه الناجحون والمبدعون والمخترعون في العصر الحديث من خلال دأبهم في البحث وإصرارهم على الوصول إلى نتائج جيدة، ومقاومتهم لليأس والإحباط، وقد أشاعوا حقيقةً في العالم الروح التي عبر عنها أحد الزعماء حين قال: إن الإجابة الوحيدة على الهزيمة هي الانتصار.
عقيدة الإسلام توفر بنية عقدية ونصوصية ممتازة للاستمرار في طلب النجاح ونيل شرف المحاولة، لكن معظم الناس لا يستفيدون من المبادئ الكبرى إذا لم تتجسَّد لديهم في نماذج، وإذا لم تشرح من خلال مفاهيم جزئية وطرق عملية
وهذه بعض النقاط التي تساعدنا على الوقوف في وجه الإخفاق:
1- أول خطوة على طريق مقاومة الإخفاق أن يدرك المرء أنه مخفق، وأن النتائج التي حصل عليها هي أقل بكثير مما كان في إمكانه أن يصل إليه، وليس هذا بالأمر اليسير؛ حيث إن كل واحد منا يعرف أشخاصاً كثيرين لا يعرفون حقيقة ما هم عليه من إخفاق وخسران وتخلف، إنهم يفقدون المرآة التي يرون فيها أنفسهم، ويفقدون الحسّ الذي يساعدهم على تحديد موقعهم على خارطة الخير والشر، وتحديد موقعهم بين الأقران والنظراء على حد قول الله – جل وعلا -: "قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً" (الكهف:104).
لا ريب أن الإخفاق درجات، فالطالب الذي أخذ صفراً في مادة مخفق، والذي أخذ ثلاثين درجة من مئة مخفق، والذي كان يسعى لأن يكون الأول بين زملائه ثم كان ترتيبه الخامس مخفق... إلخ؛ كل هؤلاء من المخفقين، لكن هناك فرق بين إخفاق وإخفاق، ولا بد من القول: إننا في تقويمنا لنجاحاتنا وإخفاقاتنا مدينون للمجتمع الذي نعيش فيه، فهو الذي يحد العتبة والسقف، أي أفضل ما يمكن أن نبلغه وأسوأ ما يمكن أن ننحدر إليه؛ ولهذا فربَّ ناجح في معايير بيئة هو في معايير بيئة أخرى مخفق كالذي يدرس في جامعة ضعيفة، ثم ينتقل إلى جامعة قوية جداً. هذا كله يعني أن النجاح والإخفاق شيئان نسبيان.(115/1259)
2- لا بد أن ننظر إلى الإخفاق نظرة جديدة إذا ما أردنا مقاومته، وهذه النظرة يجب أن تقوم على عدد من المفاهيم، منها: أن الإخفاق شيء طبعي في الحياة، وهو شيء مشتق من القصور البشري، فنحن لا نعرف أنفسنا تمام المعرفة، ولا نستطيع على وجه التحديد تقدير حجم إمكاناتنا الكامنة، كما أننا لا نستطيع أن نخمِّن على النحو المطلوب طبيعة الظروف التي سننفذ فيها مشروعاتنا ولا العقبات التي ستواجهنا. إننا نعمل تحت تأثير عدد من النظم المفتوحة، والتي تأتينا دائماً بالمفاجآت؛ ولهذا فإنه لا ينبغي أن نتعجب ممن يخفق ولكن ممن ينجح بصورة دائمة، ولكن هل هناك فعلاً من لم يذق طعم الإخفاق؟ لا أظن ذلك، ففي حياة كل الناجحين وكل الأبطال نقاط ضعف ونتائج سيئة لم يكونوا يتوقعونها، لكن الوضعية العامة لهم تغطي على ذلك، وتجعل آثاره غير منظورة.
من المفاهيم التي يجب أن نمتلكها بالنسبة إلى الإخفاق: أن الإخفاق يدل على فضيلة المحاولة والشروع في عمل ما، حيث إن كثيراً من الناس يعيش في حالة من البؤس، لا لأنه أخفق، ولكن لأنه محدود الطموحات، مشلول الإرادة، محروم من نيل شرف التجربة والمحاولة! علينا ونحن في حالة الإخفاق أن نتخلص من الهالة الشعورية السيئة التي تطبق علينا نتيجة شعورنا بضعف الكفاءة وبالتفاؤل، وهذا لن يكون إلا بالانصراف مباشرة إلى التفكير في النهوض بعد كل كبوة والشروع في عمل جديد نعوِّض به ما فاتنا. إن أي هزيمة يمكن تجاوزها – مهما كانت – إذا استطعنا أن نعالج ندوبها في نفوسنا، وذلك بالتطلع إلى المستقبل، وبالثقة بمعونة الله – تعالى – للجادين المثابرين، وعلى العكس من هذا فإن إخفاقاً صغيراً قد يؤدي إلى تدمير بنيتنا الشعورية إذا سبحنا في الأوهام، ونظرنا إليه على أنه بداية لإخفاقات لا نهاية لها.
3- لن يكون هناك فائدة ذات قيمة يمكن أن نستفيدها من وراء معرفتنا بإخفاقاتنا إذا أدمنا البحث عن الأعذار التي تجعل الإخفاق شيئاً خارج إرادتنا وإمكاناتنا، وقد دلت التجربة على أن كل واحد منا يملك قدرة مدهشة على إيجاد المسوِّغ لأخطائه وتقصيراته، حتى عتاة المجرمين فإنهم يملكون منطقاً يمكنهم من جعل الوضعية التي هم فيه قابلة للشرح وقابلة للتصديق من قبل أنفسهم – على الأقل – ومن قبل بعض الناس أيضاً، ولطالما سمعنا من يقول: أخفقتُ في دراستي الجامعية بسبب الخلافات المستمرة بين أبي وأمي، والتي كانت تحرمني من نعمة الهدوء والاستقرار، ومن يقول: لو تلقيت المساعدة من رئيسي في العمل لنجحت في مهمتي، ومن يقول: لو كنت في بلدي لأسست أفضل مشروع خيري هناك، ومن يقول: لو أُعطيت الفرصة المناسبة لأظهرت براعتي في الأمر الفلاني، وهكذا...
لو تأمل أصحاب هذه الأعذار وأمثالها في أوضاعهم لوجدوا أن هناك أشخاصاً كثيرين أنجزوا أموراً عظيمة وتجنبوا الإخفاق، وخرجوا من وضعية التمني والتشهي مع أنهم يعيشون في ظروف أسوأ من الظروف والأحوال التي مروا أو يمرون بها.
حتى نكف عن اختلاق الأعذار نحتاج إلى مواجهة صريحة مع النفس من خلال امتلاك الشجاعة التي تمكننا من رؤية أنفسنا على حقيقتها، وحين نحوز ذلك فسنجد أن المشكلة الأساسية في كل إخفاقاتنا تعود إلينا شخصياً، وأن دور الآخرين كان في معظم الأحيان هامشياً، ولو تعمقنا أكثر فأكثر لوجدنا أن تأثير الظروف المحيطة هو(115/1260)
تأثير نفسي في المقام الأول، وهو تأثير لا يكون إلا عندما يكون الواحد منا في وضعية شعورية وعقلية تتسم بالهشاشة وعدم السواء.
4- لنحاول حين نخفق في أمر من الأمور أن نقوم بتحليل جيد لأسباب الإخفاق، وذلك التحليل لا ينفعنا من خلال المعطيات التي قد يوفرها لنا فحسب، وإنما يفيدنا أيضاً من خلال بناء هيكلية نفسية وشعورية تتأبى على الاستسلام للنتائج الصعبة، وبناء عقلية واعية بذاتها وقادرة على التمييز بين الأعذار الوهمية وبين الأسباب الحقيقية للإخفاق، حين يواجه الواحد منّا حالة إخفاق فإن عليه أن يمعن النظر فيها، ويحاول أن يسجل على الورق إجابات للأسئلة الآتية:
- لماذا حدث ذلك؟
- هل حدث بسبب أن طموحاتي أكبر من إمكاناتي، أم بسبب أن توقيت الإنجاز كان غير ملائم، أم بسبب سوء التخطيط والإعداد، أم بسبب حدوث أمور لم آخذها في الحسبان...؟
- إذا عزمت على تكرير العمل الذي أخفقت فيه، فما الطريقة التي يجب أن أؤديه بها، وما التعديلات التي يجب إدخالها على الطريقة السابقة؟
- الأمور التي سببت الإخفاق السابق، هل يمكن فعلاً تجنبها في المحاولة الجديدة أم أن هناك احتمالاً لتكررها؟
- هل الأولى الإعراض عما أخفقت فيه والبدء بعمل جديد قد يكون نجاحي فيه أكبر؟ وإذا كان الأمر كذلك، فهل أنا متأكد أنني عزمت على ذلك من خلال رؤية واضحة، أم بدافع من الإحباط الذي ولّده الإخفاق السابق؟
- ما الدروس والعبر التي لم أكن لأتعلمها لولا الإخفاق الذي وقعت فيه؟
- هل أنا واثق من أنني قادر على تجاوز آثار الإخفاق السابق.
لا ريب أن أجوبة هذه الأسئلة لن تكون واضحة وحاسمة دائماً، ومع هذا فنحن بحاجة إلى عمل ذلك حتى لا يتوالى مسلسل المشروعات المخفقة.
5- قد تعودنا أن نتحدث عن أسباب النجاح وشروطه، وهذا شيء جيد، لكننا إلى جانب هذا في حاجة إلى أن نثقف أنفسنا بثقافة الإخفاق أيضاً، ولا أقصد بالإخفاق هنا خوض تجربة غير ناجحة فحسب، وإنما أعني إلى جانب ذلك الوضعيات السيئة التي يعيش فيها الأشخاص العاديون ومن هم دونهم من أولئك الذين لم ينجزوا في حياتهم إلا أقل القليل.
إن معظم الناس يقعون في الأزمات والمشكلات بسبب قلة خبرتهم بالأسباب التي توقعهم فيها، ومع أن كثيراً من أسباب الإخفاق قد يكون معلوماً لدى القارئ الكريم إلا أنني أود أن أجمع شتات المهم منها هنا، حتى تترسخ في الأذهان، ومنها:
- عدم وجود هدف واضح في الحياة، يجعل التحفيز على العمل الجاد شبه معدوم.
- نقص في الطموحات، والرضا بالقليل من كل شيء، وهذا مدعاة إلى عدم الشعور بالحاجة إلى التطوير وبذل الجهد.
- التدني في مستوى ما ناله الشخص من تعليم منهجي وسوء التربية الأسرية، وهذان العاملان من أكبر العوامل التي تجعل المرء عادياً أو أقل من عادي.(115/1261)
- عدم امتلاك خلق الصدق وخلق الأمانة مما يُضعف الثقة بالمرء، ويحرمه بالتالي من كثير من الفرص.
- الاتصاف بصفة الكِبْر، حيث يجد المتكبر صعوبة في الاعتراف بالخطأ وفي التعلم من غيره.
- الإسراف في الشهوات والانحراف عن الطريق القويم؛ مما ينهك العقل والجسد.
- النقص في تركيز الجهد في أمر أو تخصص معين، إذ يتوقف كثير من النجاح في بعض الأحيان على الاهتمام بقضية صغيرة والتعمق فيها.
- عدم القدرة على التعاون مع الآخرين، وعدم امتلاك روح الفريق، وهذا سبب خطير من أسباب الإخفاق؛ ولا سيما في عصرنا الحاضر.
- النقص في الانضباط الذاتي، حيث يصبح الإنسان في حالة من الفوضى الشعورية والسلوكية.
- إرجاء الأمور المهمة والتسويف في أداء الواجبات، وتفويت الفرص في انتظار الوقت الملائم، والذي قد لا يأتي أبداً!
- الاعتماد على الظن والتخمين عوضاً عن التفكير، واتخاذ قرارات مصيرية من غير توافر قاعدة معلومات جيدة.
- عدم القدرة على المثابرة والاستمرار في أداء الأعمال.
- الرغبة الجامحة في الحصول على أشياء مهمة من غير بذل الجهد الذي يجب أن يبذل في سبيلها، كما يفعل المغامرون والمقامرون.
- الاختيار الخاطئ للمهنة أو التخصص الذي يمارسه الشخص مدى حياته؛ مما يؤدي إلى التشتت وفقد الحماسة والانسجام.
المهم دائماً في مقاومة الإخفاق ألا نهرب من تحمل مسؤولياتنا عن أعمالنا، وألا نظن أن الإخفاق في أمر من الأمور يعني نهاية العالم وطي صفحة الوجود!
ـــــــــــــــــــ
تأملات في مظاهر العفة
عقيل بن سالم الشمري
10/12/1424
ارسل تعليقك ...
تعليقات سابقة ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
هذه تأملات في مظاهر العفة التي وردت في قصة المرأتين مع موسى - عليه السلام - أذكرها على ما يلي :
1 ـ أن المرأتين وقفتا بعيداً عن الرجال ، ولذلك قال الله: "وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ" (القصص: من الآية23).
2 ـ أنهما حرصتا كل الحرص على قطع أي سبب يؤدي لاختلاطهما بالرجال ، ولذلك كانتا "تَذُودَانِ" غنمهما؛ لئلا تختلط بغنم القوم .(115/1262)
3 ـ من مظاهر العفة كذلك ، اختصارهما الكلام وعدم تطويله مع الرجل الأجنبي موسى - عليه السلام - حيث قالتا: "لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ" (القصص: من الآية23)، بدون أخذ وعطاء، وزيادة ورد.
4 ـ من عفتهما عدم فتحهما الحوار مع موسى - عليه السلام -؛ لأنه أجنبي عنهما ، حيث جمعتا في كلامهما الجواب على جميع الأسئلة المحتملة ، فكان الأصل أن موسى - عليه السلام - يسأل هذه الأسئلة :
س1 : لماذا تذودان غنمكما ؟
س2 : لماذا لا تسقيان ؟
ولا عجب فمع العفة في عدم المخالطة واختصار الكلام، هناك حياء حتى في الألفاظ، والعناية بها.
س3 : إذن متى تسقيان ؟
س4 : أليس عندكما ولي رجل ؟
س5 : إذن لماذا لا يأتي ويسقي لكما ؟
ولأجل ذلك سيطول الكلام بين المرأتين والرجل الأجنبي ، فجمعتا في كلامهما الإجابة على جميع الأسئلة المحتملة ، بجملة واحدة مختصرة عفيفة .
5 ـ عفة موسى - عليه السلام - أكمل من عفتهما ، فإذا كانت عفة المرأتين تمثلت في جملة واحدة، فإن عفة موسى تمثلت في كلمة واحدة "ما خطبكما؟" ثم لم يذكر الله عنه بعد ذلك مع المرأتين ولا كلمة واحدة إلى أن تم لقاءه بأبيهما ففتح الكلام على مصراعيه " وقص عليه القصص " .
6 ـ عفة موسى – عليه السلام - كذلك ظهرت في قيامه بالسقي لهما بدون سؤال :
هل تريدان ذلك أم لا؟
فالوضع وظاهر الحال لا يحتاج إلى سؤال ، ثم السؤال يحتاج إلى كلام وجواب ، وهذا مالا يريده موسى - عليه السلام -، فقام وسقى لهما.
7 ـ كذلك أنه لما سقى لهما توجه مباشرة إلى الظل ، ولم ينتظر شكراً منهما ، وهذه فرصة لمرضى القلوب أن يزداد مرضهم ،وتبادلوا أطراف الحديث ، وكلمات الشكر والعرفان ، فقد صنع لهن معروفاً وبدون طلب منهما ، ووقف معهن ، وسقى لهن .
8 ـ حرص المرأتين على عدم الاختلاط بالرجال ، مع وجود المبررات التي نسمعها اليوم ، مثل :
أ ـ حاجتهما إلى الخروج .
ب ـ عدم وجود رجل ذكر قادر يخرج معهن .
ج ـ الناس عند البئر كثير ، فلا خلوة .
د ـ ظروف الحياة .
هـ ـ سيؤدي انتظارهما إلى تأخرهما .
والغريب أنه ومع كل هذه الأسباب إلا أنهما لم تختلطا بالرجال ، فكيف ببعض الظروف اليوم التي هي أقل من ذلك بكثير؟ لكنها العفة .(115/1263)
9 ـ من عفة المرأتين تقديمهما النفي في كلامهما ، فقالتا: "لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ" ، ولم تقدما الإثبات ، فلم تقولا: "سنسقي بعد قليل"، وتقديم النفي أبلغ في الجزم، وأن الأمر لا يقبل النقاش.
10 ـ من عفة المرأتين أنهما جعلتا غاية وقوفهما وعدم اختلاطهما بالرجال صدور الرعاء، وليس أن تخف الزحمة فحسب أو يقل الرعاء.
11 ـ من عفة المرأتين أن التي أتت موسى - عليه السلام - اختصرت الكلام معه مرة ثانية فعرفت الأسئلة التي يتضح أن موسى - عليه السلام - سيسألها إياها ، فأعدت الجواب مباشرة حتى لا ينفتح الحوار للمرة الثانية .
فشيء بدهي أن موسى – عليه السلام - وبعد رجوع المرأة سيسأل :
أ ـ ما الذي أتى بك ؟
ب ـ من أرسلك ؟
ج ـ ماذا يريد ؟
فأعدت جواباً يقطع جميع الأسئلة، فقالت: "إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا" (القصص: من الآية25).
فشملت هذه الجملة جواب جميع الأسئلة السابقة .
12 ـ من مظاهر العفة في هذه القصة مشي إحدى المرأتين بحد ذاته فقد خلا تماماً عن :
أ ـ تسكع.
ب ـ تبرج .
ج ـ تبختر .
د ـ تكسر وتثني .
هـ ـ التفات .
و ـ إغراء .
فجمع الله هذه الأشياء بقوله: "استحياء".
لفظ "استحياء" يختلف عن لفظ "حياء"؛ لأنه يحتوي على معنى الحياء وزيادة كما تقتضيه زيادة الألف والسين والتاء في لغة العرب .
13 ـ أنه لما طلب أبوهما أن يحضر موسى - عليه السلام - ، لم تخرجا جميعاً كما خرجتا في السقي؛ لأن الحاجة لا تستدعي ذلك، وهذا هو تقدير الضرورة بقدرها، فسبحان الله مع العفة فقه.
14 ـ أن التي أتت موسى - عليه السلام - لم تنسب لنفسها الكلام ، فقالت: "إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ"، ولم تأت بلفظ يحتمل معان، أو فيه تعريض بنفسها .
15 ـ أن جلوسهما خلف الرجال، وعدم اختلاطهما لم يكن في أوقات دون أخرى، بل ذلك عادة مستمرة لهما ، ولذلك قالتا: " لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ" يعني هذه عادة لنا في الماضي، ونستمر عليها في المستقبل ، كما يقتضيه دلالة الفعل المضارع "نَسْقِي" .
16 ـ أنهما لم يصرحا بموسى، بل أشارتا إليه كل ذلك حياء، فقالت إحداهما: "إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ" (القصص: من الآية26).(115/1264)
ولم تقل: إنه قوي أمين فعل كذا وكذا، بل جاءت بصفات الأجير الناجح، وهو من جمع بين "القوة والأمانة " .
ولا عجب فمع العفة في عدم المخالطة واختصار الكلام، هناك حياء حتى في الألفاظ، والعناية بها.
17 ـ قال عمر - رضي الله عنه -: "جاءت تمشي على استحياء قائلة بثوبها على وجهها ليست بسلفع من النساء ولاجة خراجة" قال ابن كثير: "إسناده صحيح".
18 ـ قيل في سبب قول المرأتين عن موسى: "الأمين":
لأنه قال لهما وهما آتيتان إلى أبيهما : "كونا ورائي فإذا اختلفت علي الطريق فاحذفا لي بحصاة أعلم بها كيف الطريق" .
فأي عفة فوق هذه العفة التي تمنع حتى إرشاده إذا ضل الطريق باللسان، فصلى الله عليه وعلى رسولنا الكريم.
19 ـ لما كان موسى مع المرأتين في البداية، ثم مع إحداهما بعد ذلك كانت كلماته مختصرة جداً، فلما التقى الرجل بالرجل، موسى بأبيهما، لم يقتصر على جملة واحدة أو قصة، بل "وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ" (القصص: من الآية25).
والله أعلم وأحكم، وصلى الله عليه وسلم.
ـــــــــــــــــــ
معالم تربوية للنهوض بالأجيال
د. حسن عبد الغني أبو غدة
3/12/1424
ارسل تعليقك ...
لا توجد تعليقات ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
مقدمة:
لا يخفى على الإنسان المنصف ما اشتمل عليه الإسلام من محاسن وخصائص عديدة، منها: أنه جاء بمنهج شامل قويم، في تربية النفوس وتنشئة الأجيال، وتكوين الأمم وبناء الحضارات. قال الله - تعالى -: "يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ" (المائدة:15، 16)
برنامج شامل وبداية مبكرة:
يتصف المنهج الإسلامي في التعامل مع الناشئة بأنه يبتدئ مع نمو الطفل في أسرته التي هي الخلية الاجتماعية الأولى؛ حيث يرتب له برنامجاً عملياً شاملاً، يهدف إلى تحقيق التربية الإسلامية الصحيحة ضمن معالم وعناصر صالحة لكل زمان ومكان.(115/1265)
لا يخفى على الإنسان المنصف ما اشتمل عليه الإسلام من محاسن وخصائص عديدة، منها: أنه جاء بمنهج شامل قويم، في تربية النفوس وتنشئة الأجيال، وتكوين الأمم وبناء الحضارات
أهم هذه المعالم التربوية:
تقوم رعاية الأبناء ومعاملتهم في مراحلهم العُمْرية الأساسية على مجموعة أصول ومبادئ، من أهملها ما يلي:
أولاً: تهذيب نفوسهم، وتربية وجدانهم، وتقويم ألسنتهم.
ثانياً: تمكين كل فرد منهم من أن يعمل بمقدار طاقته عملاً يمكن للمجتمع أن يستفيد منه مستقبلاً.
ثالثاً: غرس روح الجماعة في نفس كل فرد منهم؛ ليقوم – على أكمل وجه – بإعداد وإنجاز النشاطات الاجتماعية ولو بعد حين.
رابعاً: تعويدهم على حياة البساطة وعلى تحمل الخشونة، وشحذ إرادتهم للتحكم في رغباتهم؛ حتى يكونوا على المستوى المأمول في بناء المجتمع وتنميته وحمايته.
هذه أهم معالم وعناصر تربية الناشئة في المنظور الإسلامي.
متطلبات المرحلة العمرية الأولى:
يجدر بالأسرة – في المرحلة الأولى من عمر الناشئ – التركيز على تهذيب أخلاقه وسلوكه، وتقويم لسانه، وإيقاظ نباهته وحثه على التفكر والتأمل، وتنشيط قدرته على الحفظ، ولفت نظره إلى ما يقع تحت بصره من الأمور والأشياء المتوافقة والمختلفة، في حقائقها وصفاتها وألوانها وأحجامها ووظائفها، وبعث كل ما اختزن في عقله وقلبه ونفسه وطاقاته من ينابيع صالحة معطاءة، وتطلعات وآمال مفيدة، وبخاصة أن الدراسات النفسية والتربوية المعاصرة تؤكد على أن معالم شخصية الطفل المستقبلية، إنما تكون في السنوات الأولى من بداية عمره.
هذا وقد ذكر الإمام الغزالي في كتابه (إحياء علوم الدين) أن سهلاً بن عبد الله التستري (أحد الأئمة الصالحين والفضلاء الأخيار المتوفى سنة 283هـ) قال: "كنت وأنا صبي ابن ثلاث سنين أقوم في الليل، فأنظر إلى خالي محمد بن سوار، فقال لي يوماً: ألا تذكر الله الذي خلقك؟ فقلت: كيف أذكره؟ قال: قل ثلاث مرات من غير أن تحرك لسانك: الله معي، الله شاهدي، الله ناظر إليَّ، فقلت ذلك ليالي ثم أعلمته، فقال: قل ذلك في كل ليلة سبع مرات، فقلته وأعلمته، فزادني إلى إحدى عشرة مرة، فقلته، ووقع في قلبي حلاوته، فلما كان بعد سنة قال لي خالي: احفظ ما علمتك وداوم عليه، ثم قال لي: يا سهل! من كان الله معه وناظر إليه هل يعصيه؟ قلت: لا. قال: إياك والمعصية، ثم لما بلغت ست سنين حفظت القرآن كله، وكنت أصوم الكثير من الأيام"، وفي هذه المرحلة العُمْرية أيضاً يحتاج الأبناء إلى إكسابهم عادة النطق الصحيح، وتزويدهم بعدد وافر من الألفاظ اللغوية الجميلة، والمفردات والعبارات والجمل اللطيفة ذات الدلالات الكريمة الفاضلة، وأفضل وأقصر طريق لذلك ربطهم بالقرآن الكريم، تلاوة وحفظاً وفهماً يناسب هذه المرحلة. قال عتبة بن أبي سفيان (أمير مصر من أخيه معاوية) لمعلم أولاده: "يا عبد الصمد! علِّم أولادي كتاب الله،(115/1266)
ولا تُمِلَّهم فيه فيتركوه، ولا تقطعهم عنه فيهجروه، واقرأ لهم من الحديث أفيده وأنسبه لهم، ومن الشعر أعفَّه".
وهذه المرحلة الأولى تتطلب أيضاً تعليم الأبناء فرائض الإسلام وأركان الإيمان، وترغيبهم بالصلاة والصدق والأمانة والنظافة والطهارة ونحوها من الأخلاق والقيم الفردية والاجتماعية الفاضلة، ومن هذا المنطلق قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين..." رواه أبو داود والحاكم.
ومع هذا المنحى التربوي ينبغي على الأسرة الاهتمام بالرياضة البدنية المفيدة، وترغيب الأبناء فيها وحثهم عليها، وتيسير أسبابها لهم ضمن حدود الآداب الإسلامية والأهداف السامية. يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "روِّحوا القلوب ساعة وساعة" رواه الديلمي.
بل إن المأثور أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان ينظِّم بعض مسابقات الجري بين الأطفال؛ حيث روى الإمام أحمد عن عبد الله بن الحارث – رضي الله عنه – قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصفُّ عبد الله وعبيد الله وكثيِّراً أبناءَ العباس، ثم يقول: من سبق إليّ فله كذا وكذا، قال: فيتسابقون إليه فيقعون على ظهره وصدره، فيقبِّلهم ويلزمهم".
وقد أدرك عمر – رضي الله عنه – قيمة الألعاب الرياضية في صياغة شخصية الطفل وصقل نفسه وعقله وجسمه، فقال: "علِّموا أولادكم السباحة، والرماية، وركوب الخيل". وكانت هذه الألعاب هي المتاحة والمنتشرة في ذلك الزمان.
ولا شك أنه إذا التزمت الأسرة بما سبق بيانه حققت لأبنائها منذ نعومة أظفارهم ديناً قوياً راسخاً، مع استقامة في الخلق والسلوك، وعقلاً ناضجاً واسعاً، وإرادة حازمة، مع بناء نفسي وجسمي صحيح متكامل.
متطلبات المرحلة العمرية الثانية:
أما في المرحلة العُمْرية الثانية من أعمار الناشئة، فينبغي أن تراعى فيها الميول والاتجاهات النفسية المناسبة، وتستثمَر في الأبناء المراهقين القدرات الذهنية والعضلية والإبداعية النظرية أو العملية؛ فمن ظهرت ميوله نحو الثقافة والتعلم شُجِّع عليه ورُغِّب فيه وسُهِّلت له أسبابه، ومن بدت ميوله نحو الميادين والمهارات العملية أو الصناعية أو الفنون الدقيقة أُعين على ذلك، ومن وقف به ذكاؤه وميله دون هذا أُرشِد إلى ما يناسبه من أعمال يدوية أو عضلية؛ لأن المجتمع بحاجة إلى كل هذه الاختصاصات والاهتمامات. قال الله - تعالى -: "وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ" (النحل:78). وشُكْر الله - تعالى - إنما يكون بالعمل فيما يرضيه وينفع عباده، وقد جاء في الحديث الذي رواه الطبراني: "اعملوا فكل ميسَّر لما خُلِقَ له".
وهكذا تكون المرحلة العُمرية الأولى من حياة الأبناء لبعث مواهبهم وتنشيطها، فضلاً عن تثقيفهم وتسديد سلوكهم في المجالات والميادين الشخصية والاجتماعية، وتكون المرحلة الثانية من أعمارهم لتوجيههم وإرشادهم نحو المسارات العملية في الحياة المستقبلية، كل ذلك بالقدر الذي يناسب ويوازي ميولهم النفسية وإمكاناتهم الجسمية.
متطلبات المرحلة العمرية الثالثة:(115/1267)
وأما في المرحلة العمرية الثالثة من نشأة الأبناء، فهي مرحلة التعمُّق والتخصص، وهي تكون غالباً لمن بزغت شمس ذكائهم، وبدا نورها يبشِّر بأن هذا الشاب ستكون للمجتمع منه فائدة عظيمة محققة إذا تابع تخصصه الذي نبغ فيه، راغباً في الاستزادة والتعمّق فيما لا يستغني عنه المجتمع.
وينبغي أن يعتمد أولاً على ميول الشاب في هذه المرحلة، من أجل استقرار التوجيه والتوزيع في الاختصاصات، مع ملاحظة مدى قدرة الشاب على متابعة السير في هذا التخصص، ويمكن أن يطلق على هذه الطريقة في المرحلة العُمرية الثالثة من أعمار الأبناء (طريقة الانتخاب الطبيعي) التي هي بعيدة كل البعد عن التوجيه الذي نشاهده غالباً في حياة أبنائنا وبناتنا اليوم، علماً بأنه لا ينبغي لأحد أن يكلف نفسه معاكسة طباعه واتجاهاته، والسير ضد ميوله وقدراته الذاتية؛ لأنه لن يفلح في تحقيق الغاية التي أُكره على ركوب مسارها.
كل التخصصات والأعمال مطلوبة، وهي عبادة في الإسلام:
مما ينبغي أن يكون واضحاً في أذهان الآباء والأبناء وكافة أفراد المجتمع: أن التخصص والتعمق في شتى مجالات الثقافات والعلوم والفنون والاختراعات والأعمال والمهن، هي من فروض الكفاية على مجمل أفراد المجتمع؛ لأنه يجب أن يكون في المجتمع المسلم علماء دين، وقضاة، ورجال دفاع، ورجال أمن، وأطباء، ومهندسون، وتجار، وخبراء، ومهنيون، وعمال، وغير ذلك مما يحتاجه المجتمع.
هذا، ولا يخفى أن جميع النشاطات والميادين السابقة هي في منظور الإسلام من العبادات التي يتقرب بها المسلم إلى الله - تعالى - ما دام يقصد من ورائها طاعة الله - تعالى -، ونفع خلقه، وصيانة نفسه عن الحاجة إلى الآخرين. روى الطبراني: أنه مر بالنبي - صلى الله عليه وسلم - رجل، فرأى الناس من جَلَده ونشاطه وقوّته، فقالوا: يا رسول الله! لو كان هذا في سبيل الله؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إنْ كان خرج يسعى على وُلْده صغاراً فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على أبوين شيخين فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على نفسه فهو في سبيل الله".
وبهذا نرى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعطى كل عمل نافع يبذله المسلم بُعداً دينياً واجتماعياً وإنسانياً، بل وجعله نوعاً من الجهاد الذي يثاب عليه فاعله إن أخلص النية وابتغى طاعة الله فيما يقوم به.
الخاتمة:
وهكذا يتضح مما سبق: أن المنهج الذي رسمه الإسلام في رعاية الأبناء ومعاملتهم وتنشئتهم، ابتداءً من انطلاقهم الأسري فالاجتماعي، هو منهج موضوعي متكامل يناسب عموم الزمان والمكان، وهو في تدرُّجه يشبه الهرم؛ حيث تتسع قادته العريضة لأفراد الأمة كلهم؛ فإذا علا ضاق واقتصر على ذوي المواهب، وكلما علا اقتصر على أصحاب النبوغ الأرقى والمواهب الأغزر، حتى إذا علا إلى قمته لم يتسع إلا لذوي الكفاءات العالية النادرة الذين ينهضون بالمجتمع وبالإنسانية إلى معارجها السامية، على أن عظمة المجتمعات تكون بكثرة نابغيها وقوتهم وجَوْدة نوعيتهم، لا بعدد المتعلمين ووفرتهم.
ـــــــــــــــــــ(115/1268)
وأهلها مصلحون
26/11/1424
ارسل تعليقك ...
لا توجد تعليقات ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
في أحد المجالس النسائية، وبينما كان الجميع يتجاذب أطراف الحديث..
جالت أسماعنا هنا وهناك، فإذا بنا نرى ونسمع العَجَب العُجاب..
حيث لاحظنا تناقضاً عجيباً في ردّات فعل بعض الحاضرات تجاه ما يُقدّم لهن من نصائح وعظات..
وإليكِ بعضاً منها:
أحد الزوايا:
سعاد: مالي أراك مرتدية هذا ا لفستان؟!
رجاء: ما به؟!
سعاد: ألا ترين أن (موديله) قديم، وأنّ الدهر قد أكل عليه وشرب..
صدّقيني من يراكِ ترتدينه يقول عنكِ: مُتخلّفة، وليس عندكِ (ذوق).
ردّة الفعل المتوقعة!!!
رجاء: بصراحة أشكرك من كل قلبي على هذه النصيحة..
هل تصدقين كنت سأرتديه لحضور حفل الخميس المقبل، لكن
الحمد لله أنك أخبرتيني بذلك قبل أن ألبسه...
زاوية أخرى:
هند: لِمَ يا هدى لَم تغيّري لون عدساتك، فهي لم تناسب لون بشرتك إطلاقاً؟!
بصراحة كنت مترددة في إخبارك لكن وجدت واجبي كصديقة يُحتّم عليّ ذلك.. حتى لو كان في الأمر ما يضايقك..
المجتمع الذي لا تُرفع فيه راية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مجتمع يُخشى عليه من الهلاك.. ويا ليتنا نحرص على التناصح في أمور ديننا الذي هو عصمة أمرن كحرصنا على التناصح في أمور دنيانا...
ردّة الفعل المتوقعة!!!
هدى: بل العكس هو الصحيح، لو لم تخبريني لعتبت عليك أشدّ العتب، و إلا فما فائدة الصداقة إذان؟!
زاوية أخرى:
حصة: تعلمين يا منى كم أُكِنّ لك من الحُب والاحترام..
كيف لا وأنت الصديقة وابنة العم الغالية...
منى: حتى أنا – يعلم الله – أني أبادلك هذا الشعور بمثله...
حصة: ولكن هذا كله لا يمنعني من إخبارك بأمرٍ جال في صدري ، ولولا فرط حبي لك وخوفي عليك لما أخبرتك به.(115/1269)
منى: تفضّلي.. فكلّي آذانٌ صاغية.
حصة: من المؤكّد يا أخيّة أنك سمعت حديث المصطفى – صلى الله عليه وسلم -: "لعن الله النامصة والمتنمصة...".
منى: نعم.. لقد تناولناه بالدراسة في المرحلة المتوسطة.
حصة: إذاً.. فأنت تعرفين النمص، وتعرفين حكمه!..
أتعرفين أن من تقع فيه تعرّض نفسها للطرد والإبعاد عن رحمة الله؟
أخيتي ارفعي يديك عن حاجبيك، فلا أظنك مستغنية عن رحمة ربك، ولا أظن جسدك يقوى على النار..
منى – محاولة إنهاء الحوار -: حسناً.. حسناً.... ثمّ انصرفت.
أحد الزوايا!!!
منى: أرأيت يا سعاد ماذا فعلت حصة؟
سعاد: ماذا فعلت؟
منى: أخذت تمطرني بوابلٍ من النصائح.. كل هذا لأنني أخذت جزءاً من شعر حاجباي، ولا أدري أهي حاجباي أم حاجباها؟
سعاد: غير معقول، تصرّفٌ غير لائق.
لا أدري لماذا بعض الناس لا يفهمون أن هذه مسائل شخصية، وينبغي عدم التدخل بها! (انتهى).
لا بد أن العجب والدهشة قد أخذت منكم كل مأخذ!!!!
لكن و_للأسف الشديد_ هذه وقائع متكررة في مجالسنا..
تصرفات متناقضة.. ردود فعل متاضدة.. إن دلت على شيء فإنما تدل على ضعف الإيمان، ونقص التقوى ، حتى أصبح المنكر معروفاً، والمعروف منكراً، ونسوا أن الإصلاح من أهم مستلزمات الصلاح، وأنه من أسباب دفع العقوبات، قال _تعالى_: "وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ" (هود:117).
ثم إن ترك التناهي عن المنكر من أسباب الوقوع في اللعن – والعياذ بالله – حيث ذكر الله ذلك في معرض ذمه لبني إسرائيل.. قال _تعالى_: "لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ" (المائدة:78، 79).
فالمجتمع الذي لا تُرفع فيه راية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مجتمع يُخشى عليه من الهلاك، ويا ليتنا نحرص على التناصح في أمور ديننا الذي هو عصمة أمرنا كحرصنا على التناصح في أمور دنيانا...
فيا معشر النساء.. أفِقْن من سُباتكن، واتقين الله فيما استخلفكن عليه، فكلكم راعٍ وكلكم مسؤولٌ عن رعيته..
ـــــــــــــــــــ
أطفال الديجيتال والذائدون عن الحياض!
إبراهيم الأزرق
19/11/1424
ارسل تعليقك ...(115/1270)
لا توجد تعليقات ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
رأيته يتمايل بشكل حاد ماداً ذراعية ضاماً قبضتيه يسير،وهو يقول: "تتش كهههع سسس..."، وللأمانة أو نحو ذلك، فلما رآني وقف مشدوهاً ينظر إلى، ووقفت متعجباً أنظر إليه، لا لكونه كائن قادم من الفضاء الخارجي، ولكنه فيما يبدو صبي راشد سوي!
وتمضي السنوات.. ولم يعد ضرباً من الجنون لدى من كان دون سن الخامسة عشرة إصدار أصوات غريبة، أو حركات بهلوانية عجيبة، أو إشارات وإيماءات غير مفهومة!
ولكن الآبدة الغريبة هي تلك النقلة العجيبة بين الأمس واليوم، فكم سمعنا من آبائنا وأجدادنا، قولهم: "والله ما كنا كذلك"، وصدقوا والله وبروا في ذلك، فقد حدثنا الآباء عن الأجداد، وأنبأنا الأجداد عن الأبناء، فشتان شتان بين الواقع الحاضر، والتاريخ القريب المعاصر، كان أحدهم في صباه ما بين الكُتَّاب أو الحقل، يقرأ أو يزرع، يعين أباه ويحمل جزءاً من هم أسرته الصغيرة، يعيش واقعه، يعرف للكبير قدره، وللمعلم حقه، وللجار حرمته، فلا غرابة أن يفقده الحي إذا عرض له مايشغله، فتراهم يسألون أين ذهب فلان بن فلان، وكأنه أحد الأعيان، ومع ذلك كان لهم حظهم من ذكريات الصبا الجميلة وعوارض الطفولة ومشاغباتها البريئة الطريفة، وكم كان لتلك العهود في نفوسهم من معان شهدناها في آثارهم، ولعل منها ما أشار إليه الأول:
فرق بين من نشأ معتزاً بدينه وقيمه وأخلاقه، وبين من شكلت أخلاقه وقيمه –منذ نعومة أظفاره- الأفلام الكرتونية والثقافة الغربية.
وحبب أوطان الرجال إليهم ... ...
مآرب قضاها الشباب هنالكا
إذا ذكروا أو طانهم ذكَّرَتْهُم ... ...
عهود الصبا فيها فحنوا لذلكا
وحق لمثل هذا أن يقول بملء فيه:
ولي وطن آليْتُ ألا أبيعه ... ...
وألا ألفي له الدهر مالكا
عهدت به شرخ الشبابِ ونعمةً ... ...
كنعمة قوم أصبحوا في ظلالكا
و لذلك ذاد المستعمرَ الغربي عن ربوع وطننا العربي العربي الإسلامي، الآباءُ والأجداد بينما تحالف عليه الأبناء والأحفاد.
وإذا تركنا التاريخ القريب ورجعنا بالذاكرة نحو تاريخ بعيد، زاد البون واتسع الفرق بين صبية جيلنا وبين الكبار: صبية جيل الخالدين..
وليس الخلد مرتبة تقلى ... ...
وتؤخذ من شفاه الجاهلين(115/1271)
ولكن منتهى همم كبار ... ...
إذا ذهبت مصادرها بقين
لك أن تقارن بين الصورة المعاصرة، وصورة ذلك الغلام الذي أجاد المشي وتعلمه من قريب، يقول له أبوه لما بلغ معه السعي: "يابني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى قال يا أبت افعل ماتؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين" قل لي بربك أي عقل هذا وأي غلام! _عليه وعلى أبيه أفضل الصلاة والسلام_.
فإن قيل: تلك أمة خلت، قلنا جاء ابن عمر –رضي الله عنهما- متطوعاً يوم أحد وله من العمر أربعة عشر عاماً فرُدَّ لصغره، فتولى وبه هم مقيم مقعد، ومثله عمير قال سعد بن أبي وقاص _رضي الله عنه_: عُرض على رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ جيش بدر، فرَدّ عمير بن أبي وقاص، فبكى عمير، فأجازه رسول الله _صلى الله عليه وسلم_، وعقد عليه حمائل سيفه، أهولاء غلمة، وأبناء اليوم غلمان؟
من الذي قتل رأس الكفر أبا جهل، أليسا غلامين من الأنصار؟
في الصحيح عن عبدالرحمن بن عوف _رضي الله عنه_ أنه قال: بينا أنا واقف في الصف يوم بدر فنظرت عن يميني وعن شمالي فإذا أنا بغلامين من الأنصار حديثة أسنانهما تمنيت أن أكون بين أضلع منهما، فغمزني أحدهما، فقال: يا عم هل تعرف أبا جهل؟ قلت: نعم ما حاجتك إليه يا ابن أخي؟ قال: أخبرت أنه يسب رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ والذي نفسي بيده لئن رأيته لا يفارق سوادي سواده حتى يموت الأعجل منا، فتعجبت لذلك فغمزني الآخر، فقال لي مثلها فلم أنشب أن نظرت إلى أبي جهل يجول في الناس قلت: ألا إن هذا صاحبكما الذي سألتماني فابتدراه بسيفيهما فضرباه حتى قتلاه، ثم انصرفا إلى رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ فأخبراه، فقال: أيكما قتله؟ قال كل واحد منهما: أنا قتلته، فقال: هل مسحتما سيفيكما؟ قالا: لا فنظر في السيفين، فقال: كلاكما قتله.
مثال آخر ذلك الغلام الذي كان في حجر الجلاس فلم يمنعه كونه ابن زوجه، من أن يأمره بالمعروف إذ زل، ولم تمنعه سِنُّه من النصح لله ولرسوله.
ومجال آخر .. إذا تأملت طلب أولئك للعلم وروايتهم له وجدت العجب العجاب، فهذه عائشة _رضي الله عنها_ توفي رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ وهي ابنة ثمانية عشرة سنة، فروت عنه أكثر من ألفي حديث فلله درها كيف كان صباها.
وقد ترجم البخاري بابٌ: متى يصح سماع الصغير، على حديث محمود بن الربيع: عقلت من رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ مجة مجها من وجهي وأنا ابن خمس سنين، ليصحح به التحمل عن ابن خمس سنين أو من كان دون البلوغ، وقد أورد الخطيب -رحمه الله- جملة آثار حفظها جمع من الصحابة ومن بعدهم في الصغر، وحدثوا بها بعد ذلك وقبلت عنهم.
وقال الإمام أحمد: إذا عقل ما يسمع صح تحمله الرواية، وهو الذي رجحه ابن جماعة في المنهل الروي، وقال: اعتبار كل صبي بحاله، وكأني بيحيى بن معين خمّن حال عامة الأجيال المقبلة فاشترط بلوغ الخمس عشرة سنة، ولا أدري إذا رأى جيلنا، فأي سنٍ يشترط!(115/1272)
قارن بين تلك النماذج وبين ما أضحت عليه الحال، وقل لي أي بون أبعد: هذا أو الثرى من الثريا؟
كان مخلد بن الحسين والعالم المجاهد ابن المبارك -وهما هما- إذا ذكر لهما من ذكرت ونحوهم تمثلوا، فقالوا:
لا تعرضنَّ لذكرنا في ذكرهم ... ...
ليس الصحيحُ إذا مشى كالمقعدِ
فماذا نقول؟! أولئك قوم شهدوا الوحي وعاينوا التنزيل، فلا سبيل للمقارنة أو التمثيل.
نزلوا بمكةَ في قبائلِ نوفَلٍ ... ...
ونزلتُ بالبيداءِ أبعد منْزِلِ!
ولكن السؤال: ما الذي أوجد هذا الفرق؟ أليست العلوم تزداد يوماً بعد يوم؟ أليست العقول تتفتح على آفاق جديدة حيناً بعد حين؟
الجواب: بلى، ولكن!
فرق بين من هداه الوحي فأبصر الطريق وسار نحو هدف ربي عليه، وبين من تفتحت عيناه على كابتن ماجد وأبطال الديجيتال والرمية الملتهبة، ولا يفوتني ذكر البكيومونات وغيرها من الخُزَعْبِلات والسخافات الحديثة المعاصرة.
فرق بين من شُكلت نفسيته وفقاً للفطرة السوية، وبين من شَكلت عقله الفضائيات المرئية التي استغرقت الأوقات وذهبت بالطاقات.
فخير جليسٍ (في الزمان!) كتاب ... ...
وخير أنيس (في الحديث) قناة!
فرق بين من نشأ معتزاً بدينه وقيمه وأخلاقه، وبين من شكلت أخلاقه وقيمه –منذ نعومة أظفاره- الأفلام الكرتونية والثقافة الغربية.
إنه من الطبعي أن يكون الأول غصة في حلق المستعمر لا تجمعه به رابطة، كما أنه من الطبعي أن يكون الأخير أداة طيعة في يد المستعمر، سواءً أكان الاستعمار عسكرياً أو ثقافياً يكفي به المنافقون القتال.
ـــــــــــــــــــ
رسالة إليك يا أبي
بدرية الغنيم
12/11/1424
ارسل تعليقك ...
لا توجد تعليقات ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
بعد أن أنهت الطالبات كتابة الدرس أقبلت وبيدها ورقة جميلة، وقالت : أريد أن تساعديني في كتابة رسالة لوالدي أضعها مع هدية اشتريتها له، فقلت لها: امسكي القلم واكتبي:
أبي الحبيب(115/1273)
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته....
أبي.. إني لم أنسك يوماً و كيف أنسى ذلك الركن الحنون أم كيف أنسى أياديك البيضاء بالعطاء.
أبي.. كيف أنسى غامر فضلك وإحسانك وصلابتك في الحق، فأنت شمسي التي تشرق صباحاً فتنشر الدفء والنشاط في بيتنا لنستقبل يومنا بعزم ونشاط وسعادة مقبلين على الحياة، والأمل يحدونا لاستقبال يوم جديد بعزم وثبات، وفي المساء أنت قمري المضيء الذي ينير البيت بتلك الحكم الباهرة التي تتعهدنا بها فتنقلنا من خميلة إلى خميلة بين الآيات والأحاديث والسير في حديث عذب تعشقه الآذان وتصغي له القلوب، وأرشدتنا إلى حياة في الليل هي جنة المؤمن في الدنيا والآخرة، حينما أسرجت ليلنا بتلك الركعات في ظلمة الليل البهيم وبذلك الصوت العذب حينما ترتل الآيات، وكنت الدفء يشع في جوانحي حينما تلفحني الحياة بتياراتها الباردة فأتوق إلى لفتة حانية منك تقشع عني غيوم وساوسي، فقربك وعذب حديثك أنس مجالسي وضحكاتك متانة في جدار بيتي وأمني.
قل لي يا أبي، بل علمني كما كنت تعلمني وتشاطرني تفكيري، علمني كيف أترجم حبي لك، بل كيف أعبر لك عن امتناني وفخري بك.
أبي.. حينما تبدو الحياة مواتية وتسير بي مراكبها إلى شواطئ آمنة إلى الفضيلة والعفة أجد أنفاسك إلى جواري، فأنت سر من أسرار نجاحي، فأسير في تلك الطرقات المعشبة، وأحس نظراتك تتابعني، وأظنها نظرات الرضا هكذا شعرت بها؛ لأنني أرى التوفيق يحالفني وأجدني معها أشق طريقي بثقة وثبات، متحملة تلك التغييرات في سني الحرجة - كما يصفها علماء النفس - لكنني لا أجدها كذلك، بل هي السن التي اكتشفت فيها مدى النعمة العظيمة التي أمتن الله بها علي أن جعلني ابنة لك، واكتشفت مدى قصور فهمي حينما كنت صغيرة وكانت بعض توجيهاتك يضيق بها صدري فتتبادر دموعي فتتلقاها بيدك الحانية كجوهرة تخشى من وقوعها أرضاً ، لكنني الآن أكثر تفهماً لها وأكبر فيك ثباتك وصمودك لأجل تربية إسلامية تطمح بها لابنتك بعيداً عن كل المؤثرات الخارجية.
أحطتني وإخوتي بستار متين وكأننا نعيش في جنة من جنات الدنيا، وإذا خرجنا منها فتلك الدروع الواقية التي وفقك الله لصناعتها كانت تقينا _بإذن الله_ من صوارف الحياة ومفسداتها فاختصرت علي طريق التجارب الطويل، والذي قد لا يوصل في النهاية إلى ما نتمنى.
أبي.. إن حجابي الذي أفاخر به أحد انتصاراتك، كما أن تسابق إخوتي للصلاة في المسجد لهو نصر عظيم لتلك التربية الجادة التي سعيت لها باكراً ووهبتها الكثير من جهدك وأوقاتك وإمكاناتك، فهنيئاً لك ربح تجارتك مع الله، وهل هناك أعظم تجارة من صلاح الولد؟ فبه قرة العين في الدنيا والرفعة في الآخرة.
لله ما بذلت يا أبي لا أضاع الله لك جهداً ولا حرمك نعيم بر أبنائك.
ولتعلم يا أبي أنني لا زلت أطمع منك بالمزيد، ولتعلم أبي أن السر الذي اكتشفته فيك أنك لم ترَ يوماً أن أحاديثي سمجة أو تافهة حتى إنك لتجيد الإنصات للصغير الذي بدأ يُرَكِّب جملة من ثلاث كلمات، وحتى أنك لتأخذ برأيي في بعض الأمور مما يشعرني(115/1274)
بقيمتي عندك أولاً واحترامك لطريقة تفكيري ثانياً ،فتتقبل آرائي وتناقشني حتى نصل إلى حل أمثل.
أبي.. إنني ألح أحياناً في طلب بعض الأمور ليس لذاتها بل لأستمتع بردودك التي تنم عن رحابة صدرك ورجاحة عقلك، إذ تستطيع أن تتفهم رغبات الأولاد والبنات والصغار والكبار فأصنع ذلك لأتعلم فاعذرني..
أبي.. إن للتربية الجيدة عندك فنون، أبي.. تلك الخطوط الرئيسة التي جعلتني وأفراد أسرتنا نشارك في صناعتها مستلهمين ذلك من مصدر عزتنا وقوتنا من ديننا الحنيف جعلت الرؤيا للحياة واضحة لا أراها بذلك الغبش الذي تجده كثير من الفتيات، فيتقلبن مع المتغيرات، وقد ينتكسن إن لم يجدن يداً خيرة تمسح دموعهن وترعى ضعفهن، وكلمة حانية تواسيهن، وقلوباً دافئة تشاركهن أفراحهن وأحزانهن، وقد لا يجدن ذلك في بيوتهن فيتعلقن بعدها بمن يمنحهن ذلك .
أبي.. أنت لا شك تفهم معنى حديثي وتدرك بأن قرب الأب من ابنته في هذه السن مصدر أمن لها وثبات لثمرات التربية التي تتلقاها في المنزل أو على يد الخيرات من المربيات . حفظك الله يا أبي من كل مكروه، وأمد في عمرك في طاعته، ووفقك لغرس الفضائل في أسرتك، وجعلك مثالاً وقدوةً تُحتذى للآباء في التربية الإسلامية الجادة .
ـــــــــــــــــــ
الارتقاء بالخطاب
أ.د. عبد الكريم بكار
22/10/1424
ارسل تعليقك ...
لا توجد تعليقات ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
من الواضح أن اجتماع الناس بعضهم مع بعض يولّد بينهم التوترات والمنازعات وسوء الفهم، وقد شاء الله – جل وعلا – أن يجعل اختلاف العقول والأمزجة والأذواق وعدم تطابق المصالح – معقد الابتلاء في الحياة الاجتماعية، وسيزداد الأمر تعقيداً حين نتعامل مع بعضنا على قاعدة: لكل شيء مقابل.
في عصرنا الحاضر تحسن وعي الناس بحقوقهم، كما ترسخ لديهم شعور بضرورة تمتع كل واحد منهم بالكرامة والتقدير وتكافؤ الفرص على النحو الذي يتمتع به كل فرد في المجتمع، وقد تجسَّد كل ذلك بانتظار كل واحد منا مزيداً من الإحساس به وبرغباته ومشاعره ومصالحه من قبل الآخرين، وهذا التوقع نفسه زاد من حساسيتنا تجاه ما يمكن أن يُرتكب معنا من أخطاء، أو ما يجري نحونا من تقصير، ومن وجه آخر فإن الإنسان كلما ارتقى في سُلَّم الحضارة، وأمعن في تذوق طعم الرفاهية بات أكثر إحساساً بالمجال الحيوي الذي يخصصه لنفسه، وبات أكثر حرصاً على توسيع ذلك المجال، فهو يتضايق أكثر فأكثر من كل الأقوال والتصرفات والمواقف التي(115/1275)
يشعر أنه لم يصاحبها ما تفرضه اللبابة والكياسة من عناية واهتمام، وهذه بعض الإضاءات حول الارتقاء بالخطاب واستخدام اللغة، أسوقها في المفردات الآتية:
من الواضح أن اجتماع الناس بعضهم مع بعض يولّد بينهم التوترات والمنازعات وسوء الفهم. وقد شاء الله – جل وعلا – أن يجعل اختلاف العقول والأمزجة والأذواق وعدم تطابق المصالح – معقد الابتلاء في الحياة الاجتماعية.
1- الإسلام دين يحرص أشد الحرص على أن يسود الوئام في المجتمع المسلم، والذي يتأمل في كثير من الآداب ذات الصلة بالمواقف الكلامية يتأكد لديه أن الإسلام يرى في إلانَةِ القول وفي استغلال المناسبات للتعبير عن الاهتمام بالآخرين، وسائل مهمة لتخفيف البغضاء والشحناء بين الناس، ولإضفاء البهجة والحميمية على أشكال التواصل بينهم، وهذا واضح جداً في الآداب التالية:
- إفشاء المسلم للسلام وحرصه على أن يبدأ أخاه به، وقد قيل للنبي _صلى الله عليه وسلم_: الرجلان يلتقيان أيهما يبدأ بالسلام؟ فقال: "أولاهما بالله".
- تشميت العاطس والدعاء له بالرحمة، وقد ورد أن ذلك من حق المسلم على المسلم.
- خفض الصوت وعدم رفعه على حد الحاجة؛ لأن في رفعه نوعاً من العدوان على الآخرين؛ وقد أوصى لقمان ابنه بقوله: "وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ" (لقمان: من الآية19).
البعد عن الكلام البذيء والفاحش، والبعد عن اللعن والشتم وكل ما يأباه أهل الديانة والمروءة من مرذول القول وقبيح الكلام؛ وقد قال – عليه الصلاة والسلام -: "ليس المسلم بالطعان ولا اللعان ولا الفاحش ولا البذيء"، وقال: سباب المسلم فسوق وقتاله كفر"، وقال: "ما كان الفحش في شيء إلا شانه، وما كان الحياء في شيء إلا زانه".
- تحري الكلمة الطيبة أثناء الجدال والالتزام بآداب الحوار والنقاش، والبعد عن الاتهام وتحميل كلام المخالف ما لا يحتمل؛ وقد قال _سبحانه_: "وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ" (النحل: من الآية125).
إن المسلم حين يلتزم بهذه الآداب يسهم في رفع مستوى اللغة الاجتماعية السائدة، ويضفي على أساليب الكلام ملامح التسامي والتهذيب، ومن خلال هذا وذاك ترتقي مفاهيم الناس عن اللياقة الاجتماعية، كما ترتقي معايير الاتصال بين الناس؛ مما يشيع الشعور بالتأنق والرفاهية الروحية.
2- الإنسان في العصر الحديث يعاني من أمور كثيرة لم يكن يشعر بها الناس في الماضي، ومن تلك الأمور: الزحام والضجيج وكثرة الأعباء التي تفرضها الحياة العصرية، بالإضافة إلى سعة الطموحات التي تقصُر عن بلوغها إمكاناتُ معظم الناس؛ ولهذا فأعصاب الناس اليوم أكثر إرهافاً نحو الإزعاج أكثر من أي وقت مضى، ولم يعد في إمكان أكثر الناس أن يتحملوا المزيد، وفي العديد من الدول تزداد أعداد المشاكسات في الصيف والتي قد تصل إلى حد المشاجرات بسبب ارتفاع درجات الحرارة، وهنا يأتي دور الكلمة الناعمة الندية في تخفيف شيء من عناء الناس وفي تخفيف شيء من الضغوط التي يواجهونها، والحقيقة أن طريقة تناول الحديث ونوعية المفردات التي يتم استخدامها ونبرات الصوت والنظرات التي تصاحب عمليات الكلام... إن كل ذلك يعبر تعبيراً دقيقاً عن الوضعية الفكرية(115/1276)
والنفسية والثقافية والخلقية التي يتلبَّس بها المتكلم، وبما أن اللغة ونتيجة قصورنا في استخدامها – أمر غير مستغرب؛ فقد بات علينا أن نكون دقيقين جداً في تعبيراتنا، وأن نصبغ كلامنا باللطف واللين والتودد؛ وهكذا فقد صار قول كلمة (عفواً) مطلوباً عند أدنى خطأ قولي أو حركي، يقع فيه الواحد منا، كما صار شكر الناس على أدنى التفاتة يبدونها نحونا أيضاً مطلوباً، وصار من غير المقبول أن يقول أي واحد منا لغيره: أعطني، أو أجبني، أو اشرح لي، أو ابتعد عني... من غير أن يرفقها بكلمات ملاطفة، من نحو: (إذا سمحت) و(من فضلك) و(من بعد إذنك) و(لو تكرمت)، وحين يدلي أحدنا برأي ما فإن من المستحسن إلا يسوقه على سبيل القطع والتأكيد، وإنما يقول معه أو بعده: آمل أن أكون مصيباً في ذلك، أو هذا ما أعرفه، وقد يكون لدى غيري ما هو أدق منه أو أصوب منه...
التكلم بهدوء دون سرعة ومن غير رفع صوت هو الآخر مطلوب، وإن من المؤسف أننا نرى بعض المحاورين الذين يتحدثون في البرامج التفاعلية في الإذاعات والفضائيات، يرفعون أصواتهم على نحو لافت ومزعج .
التكلم بهدوء دون سرعة ومن غير رفع صوت هو الآخر مطلوب، وإن من المؤسف أننا نرى بعض المحاورين الذين يتحدثون في البرامج التفاعلية في الإذاعات والفضائيات، يرفعون أصواتهم على نحو لافت ومزعج ظناً منهم أنهم بذلك يقنعون الناس بما يقولون، أو يتغلبون على محاوريهم ومناظريهم، وهذا شيء ربما كان مقبولاً في بعض الأزمان أو العصور، أما الآن فإنه يعد شيئاً خارجاً عن اللباقة فضلاً على أنه مؤشر ضعف لا قوة!
من سمات الإنسان المهذب في كلامه أنه يحاول أن يبتعد عن اتهام الآخرين ومعاملتهم على أساس الظنون والاحتمالات، كما أن من سماته أنه يكبح نفسه عن الانسياق وراء شهوة الهذر والسيطرة على المجلس من خلال الكلام المتتابع الذي ينطوي على الكثير من التكرار والكثير من التفصيلات غير المهمة، مما يحرم الآخرين من فرصة المشاركة.
أخيراً فإن الصدق مطلوب في كل ذلك، فالمجاملة والملاطفة من غير مشاعر صادقة، قد تنقلب إلى مداهنة ونفاق، والجليس يكتشف ذلك بسرعة. الحصول على الصدق في كل ذلك ليس أمراً صعباً، إذ إننا بمجرد أن نتذكر أن هناك من هو أكيس منا في توجيه الخطاب، ومن هو أكثر منا دماثة وملاطفة ومصداقية في محادثاته، فإن حالة من الشعور بالصدق والتواضع تصبغ عقولنا ونفوسنا.
3- ليست حاجتنا إلى الارتقاء بخطابنا ولغتنا مقصورة على المواقف الاجتماعية فحسب، وإنما تمتد إلى نواح شخصية بحتة؛ إذ من الواضح أن هناك صلة ما بين الهدوء النفسي واعتدال المزاج وبين السمو اللغوي، كما أن هناك صلة ما بين المزاج الانفعالي والطبع الحاد وبين الإسفاف اللغوي، وكأن للمفردات والأساليب اللغوية دوراً في تغذية الطباع الرديئة والأمزجة السوداوية، ولم لا ونحن نعلم أن اللغة ليست وسيلة لنقل المعلومات فحسب، وإنما هي أداة لتشكيل أفكار الإنسان وانطباعاته أيضاً.(115/1277)
ومن وجه آخر فإن الخطاب الشخصي غير المتزن وغير المهذب وغير العقلاني كثيراً ما يسبب لصاحبه المتاعب؛ لأنه يملي عليه صراعات ويورطه في مآزق قد يسلم منها لولا سلاطة لسانه ولولا تحدثه عما لا يحسن، وقد رأينا أشخاصاً كثيرين من هذا النمط، وقد دخلوا معارك خاسرة واستمروا فيها رغم قناعتهم بضرورة الانسحاب؛ لأنهم أسرى لشهوة الحديث عن انتصار وغلبة أو صمود ومقاومة، وحتى يتمكنوا من ذلك، فلا بد من القيام بشيء ما يوفر لهم مادة للكلام. عند هذه النقطة نجد أن الحيوان أكثر عقلانية ومنطقية من بعض الناس الذين حُرموا من عقلانية الخطاب ومنطقية الطرح، فقد أشار أحد العلماء إلى أن العدوان بين الذئاب لا يدوم بمقدار ما يدوم عند الإنسان، فالذئاب تتقاتل بكل شراسة، ولكن حين يتقاتل ذئبان، ويرى أحدهما أنه مغلوب لا محالة، فإنه يقوم في الحال بعمل حركات استرضائية للذئب الغالب، وينتهي القتال، وليس من المعتاد أن يستمر القتال حتى الموت، كما أن الذئب الظافر لا يعدو على أنثى الذئب المغلوب ولا على جرائه، ولعل السبب في ذلك أن الذئب إنما يقاتل فحسب، ولا يتحدث فيما بعد عن بطولاته للذئاب الأخرى، وليس لديه لغة مشحونة بالانفعالات، يستطيع بواسطتها أن يبقى دوافع العدوانية ناشطة فعالة حتى بعد أن يكون السبب المباشر للعدوان قد انقضى!
الارتقاء باللغة الشخصية هو نوع من الارتقاء بالذات. والعمل على بلورة خطاب جديد ومعاصر هو نوع من العمل على صياغة ذاتٍ جديدة، تصنع المعاصرة، وتتغذى عليها.
وهكذا فإن الارتقاء باللغة الشخصية هو نوع من الارتقاء بالذات، والعمل على بلورة خطاب جديد ومعاصر هو نوع من العمل على صياغة ذاتٍ جديدة، تصنع المعاصرة، وتتغذى عليها.
ـــــــــــــــــــ
أمة (اقرأ) لماذا لا تقرأ؟
أحمد بن عبد العزيز العامر
29/9/1424
ارسل تعليقك ...
تعليقات سابقة ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
الحمد لله الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم، والصلاة والسلام على نبينا محمد _صلى الله عليه وسلم_، وبعد:
إن المتأمل في واقع أمتنا العربية والإسلامية وما يحفل به من أدواء يلمس أول ما يلمس تفشي الأمية في قطاع كبير من شعوبنا؛ مع أن ديننا الإسلامي الحنيف هو دين العلم والمعرفة، وأول ما نزل من القرآن الكريم على الرسول _صلى الله عليه وسلم_ المبعوث رحمة للعالمين قوله _تعالى_: "اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ" (العلق:1- 5).(115/1278)
ولا شك أن تلقي سلفنا الصالح من الصحابة الكرام والتابعين ومن تبعهم بإحسان لتلك الآيات كان تلقياً بالأخذ بأسباب العلم والتعلم، ومن هنا كنا أمة العلم والعرفان، فسادت أمتنا الدنيا. إلا أنه كلما بعدت هذه الأمة عن مشكاة النبوة أدى ذلك إلى انحرافها عن الصراط المستقيم مما ينشأ عنه ضعفها، وتداعي أعدائها عليها حتى بلغ الجهل من أمتنا مبلغه فأسقطها في الشقاق والنفاق وسوء الأخلاق حتى صرنا أمة تابعة لا متبوعة.
الحالة الثقافية أصبحت من أسوأ ما يكون؛ لانتشار الأمية واضمحلال المؤسسات التعليمية، وضعف الموجود منها مما أدى إلى الانهزامية أمام أعدائنا واتباعهم حذو القذة بالقذة
والحالة الثقافية أصبحت من أسوأ ما يكون لانتشار الأمية واضمحلال المؤسسات التعليمية، وضعف الموجود منها مما أدى إلى الانهزامية أمام أعدائنا واتباعهم حذو القذة بالقذة، وهذا ما قاله المفكر المسلم عبد الرحمن بن خلدون في مقدمته الشهيرة: "المغلوب مولع أبداً بتقليد الغالب".
ولا شك أن القراءة هي عنوان الحضارة، ودلالة بارزة على أي مجتمع متحضر، ولكننا نصاب بالخيبة حينما نقرأ ما ذكرته منظمة مختصة هي (اليونسكو) في تقرير لها عن القراءة في الوطن العربي؛ حيث جاء في التقرير: "المواطن العربي يقرأ (6) دقائق في السنة، وفي الوطن العربي يصدر كتاب لكل (350) ألف مواطن؛ بينما يصدر كتاب لكل (15) ألف مواطن في أوروبا، كما أن كل دور النشر العربية تستوعب من الورق ما تستهلكه دار نشر فرنسية واحدة هي (باليمار)".
ونعتقد أن التقرير فيه مبالغة واضحة في دعوى أن المواطن العربي لا يقرأ إلا (6) دقائق في السنة؛ لأن أمتنا بغض النظر عما ينتشر فيها من (الأمية) إلا أن القراءة فيها ليست من الضعف حتى تصل إلى تلك النسبة المتدنية؛ إلا إن كانت الدراسة على عينة عشوائية؛ فقد يكون لذلك نوع من الصحة، لكن ذلك له جانب آخر مقبول، وهو في نظري تسليط الضوء على ظاهرة بارزة في مجتمعاتنا، وهي ضعف القراءة في كتب العلم والمعارف الكثيرة لا سيما بعد ا نتشار وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة آلياً التي شغلت الكثير من الناس عن القراءات الجادة ولا سيما وسيلة (الإنترنت) التي يغلب عليها الأخبار والإثارة والحوارات، مع أن هناك إمكانية الاستفادة منه بشكل أكثر فاعلية.
وقد يكابر بعضهم بأن اتهام فئات منا بعدم القراءة هو تحامل لا سيما بعدما أُثر عن وزير الدفاع الصهيوني (دايان) أن العرب لا يقرؤون لكونه نشر خطة عسكرية هزم بها العرب فيما بعد، وعندما سئل: ألم تخش كشف الخطة؟ قال: "إن العرب لا يقرؤون)، وكلامه هذا والحال ما ذكر صحيح، ولا تجدي المكابرة عن هذه الكارثة.
ولا يغيب عن الذهن ظاهرة انهماك فئات من الناس في مجتمعاتنا بالانكباب على قراءة المواضيع السطحية والتافهة أمثال قراءة الشؤون الرياضية والمسائل الفنية، وصدق من قال: "على قدر أهل العزم تأتي العزائم"، وأحسب أن هذه الظاهرة من أسباب ضعف الأمة؛ لأن هذا مظهر من مظاهر ضعفها.(115/1279)
تلك الحال التي لا تسر؛ بينما العلم هو الذي يحقق صحة المجتمع ليكون متوازناً وسوياً، فلا يعتريه انحراف عن الجادة، ومن هذا المنطلق جاء القول المأثور: "من عمل بما علم أورثه الله علم ما لا يعلم"، ولا شك أن الأمية وصمة عار علينا معشر المسلمين ونحن الذين حث ديننا على العلم والتعلم، ومن هنا عد القرآن الكريم أن الأمية ليست أمية القراءة والكتابة فحسب، بل أمية الأفكار، يقول الله _تعالى_: "وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ" (البقرة: من الآية78) أي: لا يعلمون الكتاب إلا تلاوة فقط على أحد وجوه التفسير، ونقل شيخ الإسلام ابن تيمية عن ابن عباس وقتادة عن الآية "وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ..." أي: غير عارفين بمعاني الكتاب يعلمونها حفظاً وتلاوة بلا فهم ولا يدرون ما فيه، وقوله: "إِلَّا أَمَانِيَّ" أي: تلاوة بلا فهم لا يعلمون فقه الكتاب إنما يقتصرون على ما يسمعون بشكل عام.
فلماذا لا نقرأ؟ ولماذا لا نداوم على القراءة؟ مع ما لها من فوائد شتى ذكرها أحد الباحثين، ويمكن إجمالها في الآتي:
1- أن القراءة مع شقيقتها الكتابة هما مفتاح العلم.
2- أنها الأسلوب الأمثل لمعرفة الله _سبحانه وتعالى_، وعبادته وطاعته، ومعرفة الإسلام بالأدلة.
3- أنها من أقوى الأسباب لعمارة الأرض والوصول إلى العلوم النافعة المؤدية لذلك.
4- تعرف القارئ على أخبار الأمم الماضية، والاستفادة من أخبارهم وأحوالهم.
5- تطلعك على اكتساب المهارات ومعرفة الأساليب النافعة.
6- أنها سبب لمعرفة ما ينفع الإنسان وما يضره من العلوم والفنون.
7- أنها تعرفك وتدلك على اكتساب الأخلاق الحميدة، والصفات النبيلة، والسلوك المستقيم.
8- ينال القارئ بفضلها الأجر والمثوبة لما فيها من العلم النافع والعلم الصالح.
9- أنها سبب لرفعة الإنسان للمقامات العليا، وصدق الله العظيم: "يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ" (المجادلة: من الآية11).
10- أنها تعرفك على مكائد الأعداء، وتدلك على حقيقة الفِرَق المنحرفة لتعرفها فتجتنبها.
11- أنها سبب للأنس والترويح عن النفس.
12- أنها أسلوب أمثل لقضاء وقت الفراغ بما يعود على القارئ بالنفع والفائدة.
فإذا كانت هذه هي فوائد القراءة ، فلماذا لا نقرأ ولا تكون هذه العادة السليمة ديدناً لنا. لا شك أن هناك معوقات تدعو إلى النفور عن القراءة ، فما أسباب ذلك؟
لا شك أن لذلك أسباباً تُجمَل فيما يلي:
1- عدم معرفة قيمة القراءة وفضلها؛ فإن الإنسان عدو ما جهل.
2- عدم وجود القرين الجيد المحب للقراءة، والذي يشجع عليها.
3- الانشغال بالغث عن السمين بقراءة الصحف والمجلات التافهة.
4- غلاء أسعار الكتب، وعدم وجود مكتبات تجارية لهذا الغرض في بعض القرى والهجر.(115/1280)
5- عدم معرفة الأسلوب الأمثل للبدء بالقراءة؛ فربما يقرأ في كتاب ذي أسلوب عالٍ فينصدم القارئ من القراءة لأول وهلة.
لماذا ينصدم القارئ بما يقرأ؟
وذلك لما يلي:
1- قراءة الكتب المتخصصة صعبة الفهم.
2- الاطلاع على الموسوعات ذات المجلدات المتعددة.
3- ضعف اللغة العربية لدى القارئ، ومن ثم عدم فهم الأساليب الراقية.
4- عدم فهم بعض المصطلحات التي قد يتناولها الكُتّاب فيما يكتبون.
5- عدم التركيز أثناء القراءة مما لا يساعد على الفهم والاستيعاب.
6- دنو الهمة، وضعف الطموح، فلا يفكر إلا بأكله وشربه.
قد هيؤوك لأمر لو فطنتَ له فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل
7- الانشغال بالملهيات من وسائل الإعلام، وخاصة المسموعة والمرئية.
8- الانشغال بأنشطة أخرى رياضية أو مهنية.
9- الافتقار إلى الخبرة في اختيار الكتاب المناسب للبداية.
كيف تقرأ وتعتاد القراءة؟
كثير من الناس لا يعرفون كيف يقرؤون، وهذا لا يتوقف على مدى تذوقهم أو تعلمهم أو حتى معرفة المادة التي يقرؤونها، إنما يتوقف ذلك أساساً على الأسلوب الذي يتناول به القارئ أي كتاب يقع بين يديه، سواء كان كتاباً تاريخياً، أو عملاً فكرياً، أو رواية طويلة، أو ديوان شعر... فأكثر الناس يتناولون الكتاب وعقولهم غير مهيأة له، فهم يعجزون عن أن يضعوا أنفسهم مكان الكاتب، ولا يملكون الصبر على أن يتركوا الكاتب يستكمل أقواله، وسرعان ما يعبرون عن سخطهم وغضبهم بقولهم: إن هذه كتابة قديمة جامدة، أو هذا هراء المولعين بالجديد، وهم في هذا يشبهون رجلاً جاهلاً أعطي يوماً كتاباً يناقش بعض النظريات الاقتصادية، ولكنه أعاده، وهو يقول: "لن أقرأ هذا الكتاب؛ لأن أي كتابة ضد هذه النظريات تغضبني" ولا يعني مثل هؤلاء القراء ما إذا كان الكاتب قد أوضح الغرض من كتابته في لغة سليمة أم لا؟ فما دام هو لم يساير المبادئ أو الأفكار التي يعتنقونها، سواء كانت قديمة أو حديثة فهو كاتب تافه لا قيمة له، بينما تكون موهبة الكاتب ذات قيمة فعلاً، أما موهبة القارئ في هذه الحالة فهي التي تحتاج حقاً إلى وضوح، لماذا؟
ربما لأن قراء اليوم قليلو الاحتمال، نافدو الصبر لا يملكون قوة الخيال، والمقصود بالخيال هو (النشاط الذهني) وليس الخيال العاطفي؛ فذلك هو الذي يهيئ للقارئ أن يضع نفسه كلية مكان العقول والقلوب الأخرى يكتشف فيها الحب والتعاطف لا البغض والكراهية، وكثير من القراء يبدؤون القراءة وفي أذهانهم حكم مسبق مما يجعلهم يتحاملون أو يتحيزون ضد ما يقرؤون، فبدلاً من أن يسألوا أنفسهم: ما الذي يقوله هذا الكتاب؟ إذا بهم يتساءلون: ما رأيي في هذا الكتاب؟ والمفروض أن يقول القارئ لنفسه: لعل الكاتب ذو موهبة فنية، أو لعله كاتب فاشل؛ ومع ذلك فإني سأقرؤه وكأنه أول كتاب تم تأليفه، وبانتهاء قراءته يصل فيه إلى رأي محدد،(115/1281)
وأحياناً يتأثر القارئ بصورة الغلاف، أو باسم المؤلف، أو بطريقة الطباعة، أو بنوع الورق، أو بحجم الكتاب، وكل هذا لا يهم؛ فالمهم هو أن يضع القارئ نصب عينيه ما جاء في الكتاب من أفكار وأساليب، وألا يتأثر بأي شيء غيرها. ويجب أن يستكشف القارئ بنفسه ما يعتبره طيباً أو سيئاً في الكتاب دون التقيد بخلفية معينة، ودون مشايعة لكاتب بعينه على حساب كاتب آخر كما يفعل كثير من نقاد اليوم.
فإذا كان هناك من لا يعرفون كيف يقرؤون فيجب أن نرشدهم ونوضح لهم الطريق، ونهيئ لهم السبل حتى يمكنهم القراءة بعقول مفتوحة.
من كل ما سبق تتضح لنا القراءة الحقة، والقراءة الراسخة، والقراءة المتفتحة التي تصل بنا في الأخير إلى ما يريده المؤلف؛ فإن نجح في إيصال المعنى لنا كان ناجحاً، والعكس بالعكس.
ماذا نريد من القراءة؟
لم تعد القراءة هي مجرد فك الحرف كما يقال، فلقد تطور مفهومها من ذلك المعنى البسيط السهل، والمتمثل في التعرف على الحروف والكلمات والنطق بها نطقاً صحيحاً إلى العملية التعليمية المعقدة التي تشمل الإدراك والتذكر والاستنتاج والربط ثم التحليل والمناقشة، والقراءة الناقدة تحتاج إلى إمعان النظر في المقروء، ومزيد من الانتباه والدقة.
أما القراءة المقصودة في هذا المقام فهي قراءة الرموز التي يتلقاها القارئ عن طريق عينيه أو عن طريق ملامسة أصابعه للرموز الممثلة للحروف والكلمات – بالنسبة لمكفوفي البصر – وتختزن المعارف والمعلومات في بطون الكتب، والتي ما تزال أداة رئيسة لاكتساب المعرفة والاتصال بالآخرين، باعتبارها وسيلة للرقي والتقدم.
ولأهمية القراءة يلزم كل مسلم الانكباب والاستمرار عليها، ومن العجب أن يضرب المثل اليوم بغير المسلمين في حب القراءة، واستعمال الوقت في القراءة سواء في الحدائق العامة، أو وهم راكبون في الحافلات وغيرها، بينما سلفنا الصالح قد فاقوا في هذا المجال كل الأمم قاطبة، وضربوا أروع الأمثلة في هذا الباب، لكن مشكلتنا أننا نجهل حال سلفنا، ونستشهد بغيرهم، وفاقد الشيء – كما قيل – لا يعطيه. ولكننا لو راجعنا أمهات الكتب في تراثنا الإسلامي لوجدنا العجب العجاب، ومن ذلك ما يلي:
1- كان الخطيب البغدادي (392هـ - 463هـ) يمشي وفي يده جزء يطالعه.
2- كان أبو بكر الخياط النحوي يدرس في جميع أوقاته حتى في الطريق، وكان ربما سقط في جرف، أو خبطته دابة وهو يقرأ.
3- ويقال عن الجاحظ الأديب المعروف: "إنه لم يقع كتاب في يده قط إلا استوفى قراءته حتى إنه كان يكتري دكاكين الكتبيين ويبيت فيها للمطالعة".
4- كان الفيروزبادي صاحب معجم (لسان العرب) قد اشترى بخمسين ألف مثقال من ذهب كتباً، وكان لا يسافر إلا وبصحبته منها عدة أحمال، ويخرج أكثرها في كل منزل، فينظر فيها، ثم يعيدها إذا ارتحل.
فما أحوجنا للاقتداء بسلفنا الصالح في حب القراءة، واختيار الصالح منها، واستغلال أوقاتنا بالنافع المفيد، وصدق الشاعر:(115/1282)
أعزُّ مكانٍ في الدُّنا سَرْجُ سابِحٍ وخيرُ جليسٍ في الأنامِ كتابُ
ـــــــــــــــــــ
الدعاة بين رجل ورويجل
أحمد الصويان
25/9/1424
ارسل تعليقك ...
تعليقات سابقة ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
الأحداث في العالم الإسلامي تتلاحق، والمتغيرات السياسية تتابع، والصراع بين الإسلام والكفر ينتقل من طور إلى طور، ومن دائرة إلى أخرى، والمسلمون في جميع الأحوال كالأيتام على موائد اللئام!
ولقد ورثت الصحوة الإسلامية المعاصرة تركة مهترئة من الانحراف والتخلف الذي أصاب الأمة الإسلامية بعامة، نتيجة قرون متتابعة من العجز والضعف، ولن ينهض بها من هذه الكبوة جهود أفراد معدودين مهما بلغت إمكاناتهم وقدراتهم، بل هي في حاجة لكل الطاقات والجهود يُكمل بعضها بعضاً، ويُسدّد بعضها بعضاً... والعمل الإسلامي _بفضل الله تعالى_ سائر بكل ثقة واطمئنان، يشق طريقه على الرغم من كثرة العراقيل والعقبات، ولكن ألم يسأل الواحد منا نفسه في يوم من الأيام: ما دوري في هذه المسيرة؟! وماذا قدّمت لخدمة هذا الدين؟!
هل يكفي أن يبقى الإنسان مشاهداً، متابعاً لمسيرة الصحوة الإسلامية من بُعد، لا يتجاوز دوره التشجيع والتعاطف..؟! هل يكفي أن يكون دور الإنسان تكثير سواد الصالحين فحسب..؟! أيجوز أن يقتصر الدور على الحوقلة والاسترجاع إذا أصاب الدعوة ما أصابها؟!
هل يكفي أن يبقى الإنسان مشاهداً، متابعاً لمسيرة الصحوة الإسلامية من بُعد، لا يتجاوز دوره التشجيع والتعاطف..؟! هل يكفي أن يكون دور الإنسان تكثير سواد الصالحين فحسب..؟! أيجوز أن يقتصر الدور على الحوقلة والاسترجاع إذا أصاب الدعوة ما أصابها؟!
لا شك بأن هذه سلبية مفرطة، أقعدت كثيراً من الناس عن الإنتاج والعطاء، وإننا نملك طاقات هائلة _بحمد الله تعالى_ ولكنها طاقات كامنة خاملة، لم تُسخر التسخير الأمثل لخدمة الأمة، ولقد كُبِّلت كثير من هذه الطاقات بأسار من العجز والضعف، حتى أصبحنا نرى جموعاً غفيرة من الصالحين، ولكن _مع الأسف الشديد_ حالهم كما وصفهم الشاعر:
يُثقلون الأرض من كثرتهم ... ... ثم لا يُغنون في أمر جلل
ومثله قول الشاعر:
وبعضُ الرجال نخلةٌ لا جنى لها ... ... ولا ظل إلا أن تُعَدَّ من النخل(115/1283)
إن الثروة الحقيقية التي تملكها الأمة ليست في الأموال أو الأجهزة والمعدات ونحوها، وإنما هي في الإنسان المؤمن الجاد الذي يشعر بالمسؤولية وعظم الأمانة.
إن الثروة الحقيقية في تلك النفوس الحية المتقدة النابضة بروح العطاء والبذل، وما أروع تلك الصورة التي جاء وصفها في حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – عن النبي _صلى الله عليه وسلم_ أنه قال: "من خير معاش الناس لهم رجل ممسك عنان فرسه في سبيل الله يطير على متنه، كلما سمع هَيْعَة أو فَزْعة طار عليه يبتغي القتل أو الموت مظانه"(2).
فهو رجل حي نَذَر نفسه لله _تعالى_ قد هيأها للانطلاق في سبيله، لا تحده الحدود، ولا تعوقه العوائق، وتأمل قوله _صلى الله عليه وسلم_: "يطير على متنه"، وقوله: "طار عليه"، فهما جملتان تدلان على سرعة المبادرة، وحيوية الحركة.
إننا في مرحلة تقتضي أن يُفكر الإنسان كيف يستطيع أن ينتج، بل كيف ينتج بأكثر من طاقته..! ولن يكون ذلك ممكناً إلا إذا وُجدت الهمة العالية والعزيمة الصادقة التي تتطلع إلى أفق عال وقمّة سامقة من العطاء والإبداع، ولا ترضى بالقليل من العمل.
فكُنْ رجلاً رِجْلُه في الثرى ... ... وهامةُ همَّته في الثريا
قال الإمام ابن القيم: "النفوس الشريفة لا ترضى من الأشياء إلا بأعلاها وأفضلها وأحمدها عاقبة، والنفوس الدنيئة تحوم حول الدناءات وتقع عليها كما يقع الذباب على الأقذار"(3).
وقال الإمام ابن الجوزي – رحمه الله -: "ينبغي للعاقل أن ينتهي إلى غاية ما يمكنه، فلو كان يُتصور للآدمي صعود السماوات لرأيت من أقبح النقائص رضاه بالأرض، ولو كانت النبوة تحصل بالاجتهاد رأيت المقصر في تحصيلها في حضيض، غير أنه إذا لم يمكن ذلك فينبغي أن يطلب الممكن، والسيرة الجميلة عند الحكماء خروج النفس إلى غاية كمالها الممكن لها في العلم والعمل"(4).
فلا يقتل الطموحات إلا استصغار الإنسان نفسه، يُكبلها بالعجز، حتى يصل إلى حد الشلل الذي يعوقه عن الحركة والإنتاج، وإن طاقة الإنسان تتآكل غالباً حينما يزدري الإنسان نفسه، ويشعر أنه ضعيف لا يستطيع أن ينجز عملاً أو يبدع أمراً، وفي كثير من الأحيان لا يكتشف الإنسان طاقاته ومواهبه إلا من خلال التجارب.
وإنتاج المرء غالباً يعتمد على مقدار طموحه وهمّته، فالإنسان الطموح هو الذي يجعل أمامه هدفاً عالياً، حتى لو كانت قدراته لا تؤهله لذلك الآن؛ لأنه سوف يحرص على تنمية قدراته للوصول إلى هدفه، فإذا نمت القدرات فإنه لن يبقى عند هدفه الأول، بل سوف تنمو طموحاته وتزداد، وما أجمل قول شيخ الإسلام ابن تيمية: "العامة تقول: قيمة كل امرئ ما يُحسن، والخاصة تقول: قيمة كل امرئ ما يطلب"(5).
ومَنْ يتهيَّب صعودَ الجبال ... ... يعش أبد الدهر بين الحُفَر
وقال حوط بن رئاب الأسدي:
دببتَ للمجد والساعون قد بلغوا ... ... جَهْد النفوس وألقوا دونه الأُزُرَا
فكابَروا المجدَ حتى ملَّ أكثرهم ... ... وعانق المجدَ مَن أوفى ومَن صَبَرَا
لا تحسبِ المجدَ تمراً أنت آكله ... ... لن تبلغ المجدَ حتى تلعق الصَّبِرَا(115/1284)
وقال أبو القاسم الشابي:
إذا صغرت نفسُ الفتى كان شوقُه ... ... صغيراً فلم يَتْعَب ولم يَتَجشَّم
ومَن كان جبَّار المطامع لم يزل ... ... يلاقي من الدنيا ضراوة قَشْعَم
************************
الهوامش:
(1) قال رجل للعباس بن محمد: "إني أتيتك في حاجة صغيرة، قال: اطلب لها رجلاً صغيراً" (عيون الأخبار 3/153)، وقيل لرجل: لنا حويجة، فقال: "اطلبوا لها رجيلاً!" (صيد الخاطر ص251).
(2) أخرجه: مسلم، في كتاب الإمارة، باب فضل الجهاد والرباط (3/1503) رقم (1889). والهيعة: الصوت عند حضور العدو، والفزعة: النهوض إلى العدو.
(3) الفوائد (ص198).
(4) صيد الخاطر (ص159).
(5) نقله عنه ابن القيم في (مدارج السالكين 3/3)، وقال ابن القيم في موضع آخر: "العامة تقول: قيمة كل امرئ ما يحسنه، والخاصة تقول: قيمة المرء ما يطلبه، وخاصة الخاصة تقول: همة المرء إلى مطلوبه" (مدارج السالكين 3/147).
ـــــــــــــــــــ
كتاب " أدب الموعظة"
مشرف النافذة
19/9/1424
ارسل تعليقك ...
لا توجد تعليقات ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
اسم الكتاب: أدب الموعظة.
المؤلف: محمد بن إبراهيم الحمد.
الطبعة: الأولى، 1421هـ.
إصدار دار ابن خزيمة للنشر والتوزيع.
كلنا نعلم أن المواعظ إنما هي رسائل ونصائح توجيهية غايتها محبة الخير والرغبة في الإصلاح، ولهذه المواعظ أثرها البالغ على الرجل والمرأة، على الشاب والفتاة، بل على المجتمع عموماً، وكما قيل: المواعظ سياط القلوب؛ تذكر الناسي، وتنبه الغافل، وتوقظ النائم، وتوجه الجميع لالتزام الصراط المستقيم والسير على نهج المصطفى _صلى الله عليه وسلم_، وهكذا دين الإسلام يدعو الناس إلى أقوم محجة وينبههم إلى مكان الفضيلة والخير.
وفي هذا الكتاب اللطيف (أدب الموعظة) يحدثنا مؤلفه – وفقه الله – عن آداب شاملة في المواعظ نحو أدب الواعظ في نفسه وأدبه في موعظته، وطريقة عرضه.(115/1285)
وقد بدأ المؤلف أولاً بتعريف الموعظة ونقل كلام ابن منظور _رحمه الله_: "الوعظ والعظة والموعظة: النصح والتذكير بالعواقب. قال ابن سيدة: "هو تذكيرك للإنسان بما يلين قلبه من ثواب وعقاب".
إن المواعظ إنما هي رسائل ونصائح توجيهية غايتها محبة الخير والرغبة في الإصلاح، ولهذه المواعظ أثرها البالغ على الرجل والمرأة، على الشاب والفتاة، بل على المجتمع عموماًً
وقول الراغب الأصفهاني _رحمه الله_: "الوعظ زجرٌ مقترنٌ بتخويف، قال الخليل: هو التذكير بالخير فيما يرق له القلب".
ثم تحدث عن ورود الموعظة في القرآن الكريم وبيّن أن لفظ الموعظة ورد على ثلاثة عشر وجهاً، ثم ذكرها، ثم بيّن المؤلف بعض مقاصد الموعظة وحكمها، وذكر إجمالاً لتلك المقاصد والحكم بما يلي:
1- إقامة حجة الله على خلقه.
2- الإعذار إلى الله – عز وجل – والخروج من عهدة التكليف.
3- رجاء النفع للمأمور.
4- رجاء ثواب الله _عز وجل_.
5- الخوف من عقاب الله _تبارك وتعالى_.
6- النصيحة للمؤمنين.
7- إجلال الله وإعظامه ومحبته.
وبعد ذلك انتقل المؤلف إلى لب الكتاب ومقصوده، فذكر خمسة وخمسين أدباً من آداب الموعظة، سنذكرها إجمالاً، وسنقف مع بعضها، وهي كما يلي:
1- التحلي بالتقوى وإخلاص النية.
2- العلم:
فَعِلْم الواعظ بما يقول هو الذي يجعل الموعظة نقيةً من إيراد الأحاديث الموضوعة، أو القصص المنبوذة، أو تحسين البدع، أو إضلال الناس.
قال الله _عز وجل_: " قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ" (يوسف:108).
فلا بد للواعظ أن يكون على بصيرة فيما يدعو إليه من فعل أو ترك.
3- لين الجانب، وبسط الوجه، والإحسان إلى الناس:
فالناس يحبون لين الجانب، وبسط الوجه، والقلوب تُقْبل على من يتواضع لها، وتنفر ممن يزدريها، ولا يكلمها إلا من عَلُ.
ومن الوسائل التي لها أثر في تَألُّف الجاهلين أو المفسدين، وتهيئتهم إلى قبول الإصلاح: بسط المعروف في وجوههم، والإحسان إليهم بأي نوع من أنواع الإحسان، وإرضاؤهم بشيء من متاع هذه الحياة الدنيا.
وكان النبي _صلى الله عليه وسلم_ يُؤثِر بعض حديثي العهد بالإسلام بجانب من المال؛ للاحتفاظ ببقائهم على الهداية.
ولهذا يحسن بالواعظ أن يكون ليِّن العريكة، وممن يَألَف ويُؤلَف، وألا يكون جافي الطبع، قاسي القلب، متعالياً على السامعين.(115/1286)
ويجدر به أن يترفع عن العبارات المشعرة بتعظيم النفس، كحال من يكثر من إدراج ضمير المتكلم (أنا) أو ما يقوم مقامه كأن يقول (في رأيي)، أو (حسب خبرتي)، أو (هذا ما توصلت إليه)، ونحو ذلك.
وبدلاً من ذلك يحسن به أن يستعمل الصيغ التي توحي بالتواضع، وعزو العلم لأصحابه، كأن يقول: (ويبدو للمتأمل كذا وكذا)، أو يقول: (ولعل الصواب أن يقال: كذا وكذا)، ونحو ذلك من العبارات المشعرة بالتواضع، واهتضام النفس.
4- الصبر والحلم:
فالواعظ محتاج لذلك أشد الحاجة؛ إذ هو مُعَرَّض لما يثيره، ويحرك دواعي الغضب فيه.
ومن مواعظ لقمان – عليه السلام – لابنه وهو يعِظه: " وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ" (لقمان: من الآية17).
فلا يحسن بالواعظ أن يكون ضيِّق الصدر، قليل الصبر؛ ذلك أن الجماعات التي استشرى فيها الفساد كالمريض، والواعظ لها كالطبيب.
5- التجمل والعناية بالمظهر بلا إسراف.
6- استعمال المداراة والبعد عن المداهنة.
7-أخذ الأُهبة والاستعداد، خصوصاً إذا كان الواعظ في بداياته.
8- رباطة الجأش:
وهذه الخصلة تولد مع الإنسان، ويكتسبها أيضاً بالممارسة، والمران، والدِّرَبة، كما أنها تتقوى بموجبات الإيمان.
فيجمل بالواعظ أن يتصف بهذه الخصلة الحميدة؛ حتى يعتاد لقاء الجمهور، والحديث إليهم بطلاقة ويسر.
9- قوة الملاحظة:
لأجل أن يدرك الواعظ أحوال المخاطبين حال إلقاء موعظته أهُم مقبلون عليه فيسترسل في قوله، ويستمر في نهجه؟ أم هم معرضون عنه، فيتجه إلى ناحية أخرى يراها أقرب إلى قلوبهم وأدنى إلى مواطن التأثير فيهم.
10- حضور البديهة:
لأن الواعظ قد تمر به أحوال تُجبره على العدول عن كلمة إلى أخرى؛ فقد يُعِدّ كلمةً، ويظن أنها تناسب هؤلاء القوم؛ فإذا رآهم، أو رأى بعضهم أدرك أنها لا تناسبهم.
11- مراعاة المدة الزمنية للموعظة.
12- التخول بالموعظة:
فذلك أدعى للاشتياق، وأحرى لقبول الموعظة والانتفاع بها؛ فجدير بالواعظ ألا يكثر من وعظ أناس بأعيانهم، أو يتابع عليهم الوعظ مراراً قريباً بعضها من بعض؛ فإن النفس شرود، وإن كثرة الوعظ تفقده أثره.
أورد البخاري _رحمه الله_ في كتاب العلم من صحيحه بابين في هذا الشأن.
أحدهما: "باب ما كان النبي _صلى الله عليه وسلم_ يتخولهم بالموعظة والعلم؛ كي لا ينفروا" ، وتحت هذا الباب ساق بسنده حديثين، أحدهما عن ابن مسعود _رضي الله(115/1287)
عنه_ قال: "كان النبي _صلى الله عليه وسلم_ يتخولنا بالموعظة في الأيام كراهة السآمة علينا".
والثاني عن أنس _رضي الله عنه_ عن النبي _صلى الله عليه وسلم_ ،قال: "يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا".
والباب الثاني: "باب من جعل لأهل العلم أياماً معلومة".
عن أبي وائل قال: كان عبد الله – يعني: ابن مسعود – يذكّر الناس في كل خميس، فقال له رجل: يا أبا عبد الرحمن! لودِدْت لو ذكرتنا كل يوم.
قال: أمَا إنه يمنعني من ذلك أني أكره أن أُمِلَّكم، وإني أتخولكم بالموعظة كما كان النبي _صلى الله عليه وسلم_ يتخولنا بها؛ مخافة السآمة علينا".
13- ترك الوعظ عند من لا يرغب.
14- التجوُّز في الموعظة عند ملاحظة الملل والفتور.
15- مراعاة حال الجو:
فقد يكون شديد الحرارة، أو شديد البرودة، فإذا اجتمع هذا إلى ثقل الموعظة وطولها قل الانتفاع.
فهذا يحمل الواعظ على أن يقتصد في كلامه خصوصاً إذا كان الناس على غير موعدٍ معه، أو كانوا قد أدوا الصلاة، ويرغبون في الخروج من المسجد.
16- معرفة النفوس، ومراعاة العقول.
17- تحسس الأدواء، والبداءة بالأهم فالمهم.
18- الرفق في القول، واجتناب الكلمة الجافية:
فإن الخطاب اللَّيِّن قد يتألف النفوسَ الناشزة، ويدنيها من الرشد، ويرغبها في الإصغاء للحجة أو الموعظة.
قال _تعالى_ في خطاب هارون وموسى _عليهما السلام_: "اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى" (طه:43، 44).
ولقّن موسى _عليه السلام_ من القول اللين أحسنَ ما يخاطب به جبار يقول لقومه: أنا ربكم الأعلى، فقال _تعالى_: "فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى" (النازعات:18، 19).
فأخرج الكلام معه مخرج السؤال والعرض، لا مَخْرج الأمر، وقال: "إِلَى أَنْ تَزَكَّى" ولم يقل: "إلى أن أزكيك".
فنسب الفعل إليه هو، وذكر لفظ التزكّي دون غيره؛ لما فيه من البركة، والخير، والنماء.
ثم قال: "وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ" أكون كالدليل بين يديك الذي يسير أمامك.
وقال: "إِلَى رَبِّكَ" استدعاءً لإيمانه بربه الذي خلقه، ورزقه، ورباه بنعمه صغيراً وكبيراً.
ولهذا فإن الموعظة التي تُلقى في أدب، وسعة صدر، تسيغها القلوب، وتهش لها النفوس، وترتاح لها الأسماع.
19- نزاهة اللسان.
20- صرف الإنكار على غير معين.(115/1288)
21- أن يوجه الواعظ الإنكار إلى نفسه تصريحاً، وهو يعني السامع تلميحاً:
كأن يقول: ما لنا لا نتّقي الله، ونمتثل أوامره، ونجتنب نواهيه، ونحو ذلك...
ويشير إلى هذا الأدب قوله _تعالى_ فيما يقصه عن رجل يدعو قومه إلى الإيمان بالله: "وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ" (يّس:22).
فإنه أراد تقريع المخاطبين؛ إذ أعرضوا عن عبادة خالقهم، وعكفوا على عبادة ما لا يغني عنهم شيئاً، فأورد الكلام في صورة الإنكار على نفسه؛ تلطفاً في الخطاب، وإظهاراً للخلوص في النصيحة؛ حيث اختار لهم ما يختار لنفسه.
22- مراعاة المشاعر:
ومن ذلك ألا يكثر الواعظ من صيغة فعل الأمر كأن يكثر في كلامه من قول: افعلوا واتركوا، ونحو ذلك؛ لأن الأمر ثقيل على النفوس خصوصاً إذا كان الواعظ صغيراً، أو ليس معروفاً عند السامعين.
ومن المراعاة للمشاعر ألا يلفظ بالكلمات التي يمجُّها الذوق، وتتأذى منها الأسماع، وألا يواجه الناس بما يكرهون، وألا يكثر من لومهم ونقدهم، وتقريعهم، وتحميلهم ما لا يطيقون.
ومن المراعاة للمشاعر أن يرفع الواعظ من قيمة السامعين، وأن يذكرهم بما عندهم من الخير؛ حتى تنشرح صدورهم لما يلقى عليهم.
23- التثبت مما يقال، والنظر في جدوى نشره.
24- ألا يحرص على إبداء رأيه في كل أمر، وألا يقول كل ما يعلم.
25- التمهيد والتدرج في العرض:
مثال ذلك: أن يقصد الواعظ إلى أمر فيه مشقة، فيضع أمامه تمهيداً يخفف وقعه، ويقلل شأنه، حتى لا تكبره النفوس، وترتخي دونه العزائم خوراً.
ومثال هذا ما سلكه التنزيل في التكليف بفريضة الصيام.
26- براعة الأسلوب، ومراعاة مقتضيات الأحوال.
27- حسن الاستفتاح.
28- حسن الختام:
فالخاتمة هي آخر ما يلقيه الواعظ من كلامه، ولها الأثر البالغ الباقي؛ إذ هي آخر ما يَعْلَق بالنفس، وأكثر ما يتصل بالقلب،
ومما يحسن في الخاتمة أن تشتمل على جمال العبارة، وإصابة الغرض، وأن تتضمن إيجازاً لما ألقي، وأن تكون محركة للعاطفة.
29- التنويع في أساليب الخطاب.
30- الترسل في الكلام وإلقاؤه مفصلاً دون إبطاء أو تعجيل.
31- ملاحظة نبرة الصوت.
32- حسن الاستخدام للتكرار.
33- توشيح الموعظة بالقرآن الكريم والأحاديث الصحيحة.
34- سَوْق القصص الصحيحة المؤثرة.
35- توشية الموعظة بالحكم الرائعة، والأشعار الجميلة الرائقة.
36- صوغ التشابيه، وضرب الأمثلة:(115/1289)
فمن الأساليب الناجعة النافعة في الوعظ صوغ التشابيه البديعة، وضرب الأمثلة الرائعة.
وللتشبيه، والتمثيل أثر كبير في جعل الحقائق الخفية واضحة، والمعاني الغريبة قريبة مألوفة.
وعلى هذا النحو تجري كثير من نصوص الوحيين.
37- الحرص على الإعراب، والبعد عن اللحن قدر المستطاع.
38- التذكير بمآلات الأمور.
39- إعطاء الوسائل صورة ما تُفضي إليه من الخير والشر.
40- قرن القول ببعض الإشارات الحسية التي تناسب ا لمعنى،
فهذا مما يزيد المعنى جلاءً، ويأخذ في النفس صورةً غير صورته المجردة عن الإشارة.
ولقد كان النبي _صلى الله عليه وسلم_ يستعين في تثبيت المعنى بالإشارة بيده إشارة مناسبة للمعنى، مما يجعل للموعظة أثراً بليغاً في النفوس.
والأمثلة على ذلك كثيرة، منها: ما جاء في الصحيحين عن أبي موسى عن النبي _صلى الله عليه وسلم_ قال: " المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً" وشبك بين أصابعه.
41- توجيه السؤال للمخاطبين:
وذلك بسؤالهم عن الشيء الذي يريد تعليمهم إياه، أو تذكيرهم به؛ لما في السؤال من تهيئة النفوس للإصغاء إلى ما يقال بعد ذلك، ولما فيه أيضاً من تشويقها إليه؛ فيقع منها في قرار مكين.
ولقد كان النبي _صلى الله عليه وسلم_ يأخذ بهذا الأسلوب كثيراً.
والأمثلة على ذلك كثيرة جداً، ومنها على سبيل الإجمال: قوله _صلى الله عليه وسلم_: "أتدرون أي شهر هذا؟".
وقوله: "أتدرون أي يوم هذا؟".
وقوله: "أتدرون ما الإيمان بالله وحده؟".
وقوله: "أتدرون ماذا قال ربكم؟".
وقوله: "أتدرون أين تغرب الشمس؟".
43- إثارة العواطف ومخاطبة الوجدان:
ذلك أن مرمى الإقناع في الوعظ ليس هو الإلزام والإفحام فحسب، وإنما مرماه حمل المخاطب على الإذعان، والتسليم بطوعه وإرادته.
وذلك لا يتسنى بسوق الدلائل المنطقية جافة، ولا بإيراد البراهين العقلية عارية، بل بذلك وبإثارة العاطفة، ومخاطبة الوجدان.
بل قد يستغني الواعظ عن الدلائل العقلية، ولا يمكنه بأية حال أن يستغني عن المثيرات العاطفية؛ إذ هي من أعظم الأدوات التي تعينه على التأثير في السامعين.
44- استعمال أسلوب النداء، ومناداة المخاطبين بما يحبون.
45- الجمع بين الخوف والرجاء.
46- مراعاة المصالح والمفاسد:(115/1290)
فلا يكفي مجرد سرد النصوص، وتنزيلها على أحوال معينة، خصوصاً عند الفتن واشتباه الأمور.
ولا يكفي إلقاء الكلمة دونما نظر في عواقبها، وما تحدثه من أثر،
بل لا بد من الرواية، والاستنارة بأقوال أهل العلم، واستشارة أهل الفقه والبصيرة، ولا بد من النظر في المصالح والمفاسد.
قال الشيخ السعدي _رحمه الله_: "قوله: "فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى" مفهوم الآية أنه إذا ترتب على التذكير مضرة أرجح تُرِك التذكير؛ خوف وقوع المنكر".
47- تحديث الناس بما يعقلون.
48- الاعتدال في الطرح، والحذر من المبالغة وتضخيم الأمور.
49- انشراح الصدر للنقد الهادف:
فالواعظ المخلص من يسعى لإرضاء الله - جل وعلا – فتراه يبذل كل سبب في سبيل نفع الناس؛ ابتغاء الأجر من الله ، ولهذا لا تراه يتأذى من ملحوظة تقدم إليه ولو صاغها مقدَّمها في جفاء وغلظة، بل تراه يفرح بالنقد الهادف كفرحه بالثناء الصادق، بل ربما طلب ذلك من غيره، وهذا مما يرفع قدره، ويرتقي بعلمه ووعظه.
وهذا هو دأب الأكابر والعظماء.
50- الإقبال على الله، وإحسان معاملته _عز وجل_.
51- احتساب الأجر.
52- ألا ينتظر الواعظ الشكر إلا من خالقه.
53- الحذر من الورع الخادع الكاذب.
54- الحذر من اليأس:
فربما بذل الواعظ نصحه، وحرص على هداية الناس،
وبعد ذلك قد لا يرى نتيجة الوعظ.
وهذه فرصة الشيطان التي تجعله يلقي في رُوع الواعظ أنْ لا فائدة مما تقول، وأنه خيرٌ لك أن تدع الوعظ.
فيحسن بالواعظ أن يتفطن لهذا المدخل، وأن يحسن ظنه بالله، وأن يستحضر أن الموعظة الحسنة والعمل الصالح – عموماً – لا يذهبان سدىً.
فإذا لم تظهر النتائج عاجلاً ظهرت آجلاً، وإذا لم يذهب الشرُّ كلُّه خف وقْعُه، ولم يستطر شررُه.
55- أن يستشعر الواعظ أنه هو المقصود الأول من موعظته، وأنه مفتقر إلى الله _عز وجل_:
فذلك يدعوه إلى ربط القول بالعمل، ويردعه عن التمادي في الإعجاب، ويبعثه إلى الانطراح بين يدي الله _عز وجل_ وسؤاله ألا يكله إلى نفسه طرفة عين.
كما أن ذلك يقوده إلى التواضع، والزراية على النفس.
وكل ذلك من أسباب توفيقه وتسديده.
فما أجمل أن يكون الواعظ كثير الانكسار والتذلل له _عز وجل_.
وما أروع أن يستحضر معنى قوله – عندما يقول في مستهل موعظته -: "أوصيكم ونفسي بتقوى الله _عز وجل_".(115/1291)
وبذلك انتهى المؤلف من ذكر الخمسة وخمسين أدباً للموعظة، ومَن أراد الزيادة فليرجع إلى الكتاب.
نسأل الله أن ينفعنا بما علمنا وأن يعلمنا ما ينفعنا، وجزى الله المؤلفَ خير الجزاء، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
ـــــــــــــــــــ
رسالة من طالبة إلى أمها
بدرية الغنيم
7/9/1424
ارسل تعليقك ...
لا توجد تعليقات ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ....وبعد:
رأيتها في الفصل تداري وجهها بكثرة حركتها وعبثها بأدواتها وبشعرها الذي أرسلته على وجهها وكأنها تخفيه عني، تركت النظر إليها لتهدأ وتسمع الدرس، وكنت أختلس النظر إليها فإذا بي أرى دمعةً تشق طريقاها على خدها، وبعد انتهاء الدرس وانصراف الفتيات بقيت في مكانها فأقبلت إليها فبادرتني قبل سؤالي، اشترى والدي الدش بعد أن هزم أمي، قلت لها: لا تيأسي وامسكي القلم واكتبي هذه الرسالة .
أمي وحبيبتي .... كم كنت أكبر فيك صمودك حينما رغب والدي في إحضار الدش لمنزلنا ، فكنت أراك الصخرة العاتية التي تحطمت عليها آمال الشيطان لإفساد بيتنا، فشعرت حينها بالأمن والاطمئنان؛ لأن هناك من تهتم لأمر ديننا وصلاحنا، وتعي خطورة إدخال هذا الجهاز على بيت مليء بالفتية والفتيات في عمر الزهور و ميعة الصبا، وأدركت حينها ضخامة المسؤولية التي تحملتها، وأكبرت فيك مجاهدتك فأنت أم صالحة وزوجة صالحة فهنيئاً لنا بك، ولن نتخلى عن مساعدتك بقدر طاقتنا، ولكن اليوم وقد دخلت الفتنة دارنا ورضي أبي بأن يجمعنا على مائدة الشيطان، فإني يا أمي أبكي من أعماقي لتلك البطولات التي كنت عليها ثم هاهي تذهب أدراج الرياح، فأنا يا أمي لا ألومك الآن ولكن أشعر بالحزن يقطع أوصالي أن أرى والدي وقد رضي بأن يحضر الفساد لنا في دارنا وقد أغمض عينيه عن النتائج السيئة لدخول الدش على الأبناء والبنات، فهل يريد والدي أن نتخلق بأخلاق هؤلاء القوم الذين نراهم أمامنا أم هل يتوقع صمودنا وبقاءنا على أخلاق الإسلام ونحن في عمر حرجة سريعة التقلب والتغيير والتطبع؟!
أمي وحبيبتي ..كم كنت أكبر فيك صمودك حينما رغب والدي في إحضار الدش لمنزلنا ، فكنت أراك الصخرة العاتية التي تحطمت عليها آمال الشيطان لإفساد بيتنا.
فها نحن يا أماه نغمض أعيننا لننام وتتراقص أمام أعيننا تلك المناظر التي رأيناها لأول مرة، وربما تحدثنا عنها في خجل أنا وأخواتي ثم بعد ذلك اعتدنا الحديث عنها،(115/1292)
والذي أقلقني الآن أنني أتعجب من ذبول خصلة من أعظم خصال الإسلام كنت أجدها لدي ولدى أخواتي ( الحياء ).
وها نحن نتحدث عن أمور كنا نخجل من مجرد التفكير فيها، فأنا الآن أعاني حيرة ً شديدة وقلق على إيمان أتشبث به وأخشى أن يفر، وإغراء يسوقني يوماً بعد يوم ليخلع عني حيائي، فبالله عليك إن خسرت إحدى بناتك، فما أنت فاعله؟ وماذا عسى والدي أن يفعل؟ ألهذا الحد أرخصنا أبي، وأبدل أخلاقنا بهذا الخراب؟ أيبيع الأخلاق التي علمنا إياها وأدبنا منذ صغرنا عليها ؟ أيبيعها؟ أيضعف والدي عن مقاومة إغراء الدش، ويحضره ويتوقع منا الصمود؟ ونحن في سن حرجة، فأنا أرسل لك رسالتي هذه علّك أن تنتشلينني من الضياع؛ لأنك ربما لا تسمعين صوتي مرةً أخرى في إنكار المنكر؛ لأنني أكتب إليك رسالتي وأشعر بضعف شديد، أجدني فقدت الأب والأم؛ لأنك أنت أيضاً ما عدت في صمودك السابق أرى لهذا الجهاز أثراً عليك بالرغم من كرهك له لأول وهلة، ولكن أرى متابعتك لما يعرض فيه من باب الفضول أولاً ثم بعد ذلك اعتدتِ عليه، وأخشى على قلبك من حبه مما يدل على ضعف الإيمان ونقصه.
فها أنا أكتب لك رسالتي أناديك يا أمي ولم تزل بي بقايا تلك الأخلاق الإسلامية الفاضلة التي حرصت أنتِ وأبي على غرسها في نفوسنا، فأنا أذكرك يا أمي ولا أنسى فضلك، أسألك هل مررت بالمرحلة العمرية التي مررت بها؟
حتما سيكون الجواب نعم، ولكن الفرق بيني وبينك أنك لم تتعرضي للفتن التي أتعرض لها صباح مساء، فهاهي قضيتي أطرحها بين يديك لثقتي في اهتمامك بنا أنتِ وأبي، ولعِظَم الأمانة التي تحملتماها، والله سائل كل راعٍ عما استرعاه يوم القيامة أحَفِظَ أم ضيع ؟ كما أني أخاف عليك وعلى والدي من التفريط في أمانة الأبناء والبنات بعد أن قرأت حديث النبي _صلى الله عليه وسلم_ "من استرعاه الله رعية ثم لم يحطها بنصحه إلا حرم الله عليه الجنة" أخرجه البخاري
ـــــــــــــــــــ
المناهج في العالم الإسلامي
29/8/1424
ارسل تعليقك ...
لا توجد تعليقات ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله _صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين_ أما بعد:
المقدمة:
ففي مناهج الغرب تطرف وإساءة للعرب والمسلمين، فلم نسمع مَن يطالب بتغييرها، وأما مناهج المسلمين فقد دأب الكفار على محاصرتها، وكانت المخططات لإفسادها قديمة، وكانت تُعدُّ على نار هادئة، غير أن ظهورها الإسلامي وانتشاره، والذي(115/1293)
تجلّت فيه قوة المسلمين وما تبعها من أحداث عالمية هزت العالم بأسره كأحداث الحادي عشر من أيلول، عجّلت بتنفيذ المخطط، فكانت تلك الهجمات الشرسة المسمومة، التي تصف المناهج بأنها متطرفة، كان نتاجها أفراد متطرفون.
والكفار وأمثالهم من بني جلدتنا، عملوا على تغيير المناهج في المدارس الإسلامية، يزعمون أن العقل هو جوهر الإسلام، وأن القرآن يحث على العقلانية وإعمال العقل والفكر وقبول الآخر والتسامح والأخلاق والرحمة.
في مناهج الغرب تطرف وإساءة للعرب والمسلمين، فلم نسمع مَن يطالب بتغييرها، وأما مناهج المسلمين فقد دأب الكفار على محاصرتها، وكانت المخططات لإفسادها قديمة، وكانت تُعدُّ على نار هادئة غير أن ظهور الإسلامي وانتشاره والتي تجلّت فيها قوة المسلمين وما تبعها من أحداث عالمية هزت العالم بأسره كأحداث الحادي عشر من أيلول، عجّلت بتنفيذ المخطط.
ونقول لهؤلاء وأمثالهم: إنْ هذه إلا أجندة أمريكية جديدة، لتصنع عقلاً خاصاً وتسامحاً خاصاً تجاه الأعداء، وإنساناً غير متطرف، لا يشعر بالهوية ولا يعترف بالقيم، وإنما يؤمن فقط بالمصلحة إنسان البراجماتية والنفعية، إنه الإنسان الأمريكي، إنه الإنسان الشرق أوسطي.
ونتفق جميعاً على وجود ثغرات في مناهج التعليم، وأنها بحاجة لتطوير ومراجعة وسواد مناهج التعليم بعامة، أو مناهج العلوم الشرعية بخاصة.
وحسبنا في هذه المقالة أن نأتي على معنى المناهج، وسبب تدخل الكفار في إعادة صياغتها، وبيان طريقتهم المثلى في تغيير المناهج، والملاحظات على المناهج القائمة والمقترحات لتطوير المناهج.
أسأل الله العلي العظيم أن يكلل أقوالنا وأعمالنا بالنجاح، إنه جواد كريم.
معنى المناهج:
المنهج، هو: وسيلة المدرسة لتحقيق أهدافها ووظائفها التربوية، وكثير من وظائفها الاجتماعية، ويُعرّف المنهج بأنه "مجموع الخبرات والنشاطات التي تقدمها المدرسة – تحت إشرافها – للتلاميذ بقصد احتكاكهم بها وتفاعلهم معها، ومن نتائج هذا أن يحدث تعلم أو تعديل في سلوكهم، ويؤدي هذا إلى تحقيق النمو الشامل المتكامل، الذي هو الهدف الأسمى للتربية".
وهذا التعريف فيه أن المنهج لا يقتصر على الكتاب المدرسي، وإنما يمتد ليشمل عناصر كثيرة، منها: الخطة الدراسية، وطرق التدريس، والمواقف التعليمية والتربوية والنشاطات الصفية وغير الصفية، وكثير من عناصر البيئة المدرسية،
ويجدر التنبيه على أن المنهج المقرر للمسلمين يحمل في طياته نواحي عقدية وتربوية ترسم منهج الحكم، وأسلوب التعامل، وطريقة الحياة، وهذه التي يسعى الغرب إلى تغييرها.
سبب تدخل الكفار في صياغة المناهج:
إن أمريكا خصوصاً تسعى اليوم عبر التدخل في مناهج التعليم الديني على وجه الخصوص، للتأثير على الأجيال القادمة للأمة الإسلامية، أي: أنها تعمل للسيطرة(115/1294)
على المستقبل في العالم الإسلامي، وهي تشعر أنها لا يمكنها السيطرة على هذا المستقبل إلا عن طريق السيطرة على عقول شبابه وأبنائه، وهذا لا يمكن تحقيقه إلا عن طريق العبث بمناهج التعليم الديني خاصة.
لذا فهم يحاولون الهيمنة والسيطرة عبر تغيير مناهج التعليم الديني في مصر والسعودية وباكستان واليمن، وعبر القضاء على المدارس الدينية والمعاهد الشرعية والجمعيات الخيرية التي تدعمها.
ويرى بعض الساسة الغربيين أن في انتشار المراكز والمدارس الإسلامية خطراً كامناً يهدّد المجتمعات الغربية، ويمثّل فيروساً داخلياً ينخر في بنيان المجتمع الغربي الذي يقوم على ثوابت وأسس لا تتوافق مع النظرية الإسلامية، بل هما نقيضان من الدرجة الأولى، ولذلك لا بد من التصدي لأي تمثيل للمد الإسلامي داخل المجتمعات الغربية وتعزيمه، ومن أجل ذلك ظهرت تقارير تشجع الحكومات الغربية على الضغط على المراكز والمدارس الإسلامية وتحديد أدوارها بحجة أنها مفرخة للإرهاب ومصدر له، وتشير عامة تقارير أجهزة المخابرات الغربية، أن هذه المدارس تمارس أنشطة إرهابية، وتلقن فكراً متطرفاً يشكل تهديداً مباشراً لبنية المجتمعات الغربية، وأن مناهج هذه المدارس تحتوي على نصوص متشددة تنظر إلى الغرب على أنه عدو يستحق القتل والتشريد.
وذهب بعض الكتّاب الغربيين إلى أن التعليم الإسلامي في الغرب، يمكن أن يُسبّب أزمات سياسية بسبب تطرفه ونظرته للغرب.
هذا مصداق قوله _جل وعلا_: "وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ" (آل عمران: من الآية118).
إن التدخّل الصارخ للكفار تتزعمه أمريكا، ويغري أمريكا بهذا صداقتها لهذه البلدان؛ لأنها تحاول توظيف هذه الصداقة عبر ترويج فكرة السلام في اختراق وتسميم هذه المجتمعات الإسلامية.
فالخطر داهم على الأمة حكاماً وشعوباً، ولذا يجب على الكل أن يستيقظ ويرفض المساومة على الثوابت أو التلاعب بالقصائد، والحمد لله أن هذه الهجمة الأمريكية واكبت في الأمة حياة ووعياً مؤثراً، وأجيالاً جديدة حية، تدرك وتسعى، قال _تبارك وتعالى_: "وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ" (يوسف: من الآية21)، والحمد لله على كل حال.
طريقتهم المثلى في تغيير المناهج:
هي حرب تضرب في الجذور، وسوف تسعى أمريكا بشكل أساسي لتجنيد العملاء، لكنهم هذه المرة من قلب المحتل الذي تريد أن تحطّمه، كما قال "زويمر":
"الشجرة لا يقطعها إلا أحد أبنائها" فالعملاء لن يكونوا يساريين أو علمانيين، سيكونون من علماء الدين والمتخصصين في العلوم الشرعية من المفتين والقضاة والرؤوس في علوم الإسلام وأمريكا، سوف تمنح وتعطي وتغري، كالمسيح الدجال، الذي يتلاعب بظواهر الأشياء ويقلب المسميات ويصوّر للناس أنه يملك الجنة والنار.
لذا فالأمر خطير، وليحذر كل امرئ وخاصة العلماء من فتنة أمريكية عمياء.(115/1295)
إن الدهشة سوف تلجمنا إذا علمنا أن مؤسسة تُسمّى "كير" تتبع المخابرات المركزية الأمريكية هي التي تقوم بالتخطيط للمناهج في وزارة التربية والتعليم المصرية، وإن وفد الـF.B.I قد التقى شيخ الأزهر.
الملاحظات على المناهج:
المناهج القائمة في المعاهد والمدارس الشرعية لا تخلو من نقص، وقلما تسلم من الخطأ، ولهذا فمراجعتها بعد كل مدة وأخرى، وتطويرها مصاحبة العصر بين كل حين وآخر، مطلب رئيس، بل هو سبيل نجاحها وملاءمتها.
ولعلنا في هذه العجالة أن نقف على بعض الملحوظات، ومن أهمها:
1- الطريقة التي يوضع بها المنهج، سواء النظرية أو التطبيقية، قد تكون قديمة لا تجدي، أو حديثة لا تناسب السن والمستوى العلمي لدى المتلقي.
2- الطريقة التي يُدرس بها المنهج، هي طريقة واحدة قديمة وهي الإلقاء أو الإملاء.
3- موقع مناهج المواد الشرعية من حيث الحصص في اليوم الدراسي، فغالباً تكون آخر اليوم وقد أرهق الطالب وبدأه النوم وعدم الاستيعاب.
4- الحط من قيمة مدرس العلوم الشرعية ولمزهم بالألقاب السيئة حتى يكونوا من المعلمين المكروهين.
5- عدم ملاءمة الحصص أو الساعات لأفراد المنهج، فأحياناً تكثر الحصص أو الساعات والمنهج قصير، وأحياناً تقل الحصص أو الساعات والمنهج طويل.
6- إدخال مناهج لبعض المواد غير الشرعية، وباسم التطوير، جعلها تزاحم مناهج المواد الشرعية، ثم طالب واضعوها تخفيض حجم المواد الشرعية تخفيفاً على الطالب.
7- إقرار مواد سافلة بغية زيادة جرعة الإفساد في المناهج، مثل: مادة الثقافة الجنسية في المرحلة الثانوية للطلاب والطالبات.
8- احتواء المناهج الحديثة على حياة كثير من المغنين، وتضمينها عبارات ماجنة، لإشاعة حياة الرقص والاختلاط والموسيقى والغناء.
9- إقرار مواد مناهضة للغة العربية كاللغة الإنجليزية من السنة الأولى الابتدائية، ومعلوم أن إتقان اللغة الأجنبية لا يتم إلا على حساب اللغة الأم لغة العرب، وهذا ما يريده العدو، ومتى أتقن الشاب لغته وبدأ يهتم بالعالم الخارجي فهذا هو الوقت المناسب لدراسة اللغة الأجنبية.
10- تعميم سياسة المدارس التجريبية في تدريس شطر المواد أو غالبها باللغة الإنجليزية.
11- عدم توضيح حقيقة الإسلام من خلال المناهج المقررة بعامة، وذلك بحذف ما يتعارض مع السياسات الدولية كبغض اليهود والنصارى وتكفيرهم وغيرهم من الكفار، وإقامة شعيرة الجهاد في سبيل الله، أو إذابة بعض المفاهيم كالولاء والبراء، أو إشاعة روح التسامح بين الأديان، والترويج لفكرة "الإنسان الكوني" يعني الإنسان الذي لا يشعر بأي انتماء خاص لدين أو وطن أو عقيدة أو قضية.
12- التحريف والتغيير في بعض أفراد مناهج المواد الشرعية، مثل: حادثة اغتيال رأس الكفر كعب بن الأشرف، وردّها وأنها باطلة؛ لأنها تعكس أن الدين تطرف(115/1296)
وجفاء وخيانة، وأنّ الثناء ليس حكراً على زوجات النبي _صلى الله عليه وسلم_؛ لأن التاريخ مليء بسيرة بعض النساء في الحقبة الفرعونية أو القبطية، مما يستدعي ضرورة دراسة سيرتهن،
وأن القصائد التي ترغّب في الحجاب لا يجب أن تحفظ، بل هي للدراسة؛ صوناً لوحدة الوطن، وحذف بعض النصوص كقوله _تعالى_: "لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ" (المائدة: من الآية78)، وقوله _تعالى_: "وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ..." (النور: من الآية31)، وقوله _صلى الله عليه وسلم_: "ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء"؛ لأن ذلك لا يروق لأهواء الأعداء من الداخل والخارج.
وفي بعض الكتب المقررة سؤال "اذكر قصة الثلاثة المتطرفين الذين نهاهم النبي _صلى الله عليه وسلم_ عن التطرف" كل ذلك لإظهار الفهم المغلوط للنصوص عند بعض المسلمين.
13- تفريغ المقررات من الموضوعات التي تعزّز الروح الإسلامية، وما يوجد هو تعبير عن قيم فردية يتفق عليها غالباً الجميع، ولا تتعارض مع أهداف العلمنة.
14- تعبئة المقررات والمناهج بالقيم المادية التي تربط بين حركة الإنسان، وزيادة الأفكار التي تدعو إلى الخرافة، كالتعامل مع العرافين الكهنة، ومعرفة الأبراج والحظ.
15- تركيز المقررات الحديثة على الترويج لثقافة السلام، وقد جاء ذلك في مقرر مادة القراءة للصف الثاني الابتدائي بعنوان "قرية السلام"، وهي عبارة عن قصة لثلاثة جيران بينهم عداوات تاريخية موروثة، وفيها أن المصلحة تقتضي تناسي العداوة ويبدؤوا صفحة جديدة وهي تُدرّس في سن مبكرة لتكون أكثر المعلومات رسوخاً في الذاكرة ولتكن قريتهم الكبرى الشرق الأوسط "قرية سلام".
16- إشاعة روح التفسخ والانحلال بين الأجيال، وقد لِيمَ أحد وزراء التعليم في ذلك، فقال: سأجعلكم لا تفرِّقون بين البنت والولد.
17- كون التطوير في المقررات والمناهج يرضخ لتحقيق رغبات خارجية من أجل تخدير الشعوب الإسلامية، وشغلها عن واقعها بالتفاهات.
18- تضخيم الجانب النظري في المواد الدراسية على حساب الجانب التطبيقي العملي وهذا هدف من أهداف الأعداء، حيث حُذِفت كثير من التجارب والتطبيقات العلمية من كتب الفيزياء والكيمياء التي تنمّي في الطالب روح البحث والتطوير وحب الابتكار والإبداع، أو التي تلْفِت نظره إلى الاستفادة من ظواهر الكون المحيطة به، وتسخير قوانينها لخدمة الإسلام.
19- زيادة الحشو في الكتب، مما يستدعي إلى مضاعفة المقررات، ومزاحمتها للمقررات الأخرى، وهذا يخضع المناهج بعد مدة الزمن للاختزال والحذف، وقد يكون النصيب الأكبر للمحذوف هو الذي يشير إلى الإسلام والعروبة ولو من بعيد.
20- رداءة الأساليب المتّبعة والمقرّرة في التدريس مما أضعف أداء المعلم، فأدى إلى انتشار الدروس الخصوصية والمذكرات المدرسية عوضاً عن المقرّر.(115/1297)
21- كثرة التجارب حول نظام الشهادة الثانوية، وفي كل عام تتراجع الوزارة عن بعض قراراتها السابقة، مما يصيب أولياء الأمور بحالة من الدهشة حين يتحول مستقبل أولادهم إلى حقل تجارب لقرارات لم تأخذ حقها من التفكير.
22- التدخل في شؤون المعاهد المتخصصة في تدريس العلوم الشرعية، وتخريج متخصّصين في العلوم الشرعية الإسلامية، بحيث يُدخل فيها مناهج لعلوم مدنية وطبيعية تزاحم الأساس مع سلب الصلاحيات من مديري المعاهد وإقامة معاهد أخرى مناهضة لضرب المعاهد الشرعية أو وضع بعض الضوابط لافتتاحها بغرض التضييق عليها.
المقترحات حول المناهج:
1- إثراء المنهج بالمعارف والخبرات التي من شأنها أن تُعرّف الطالب بغاية وجوده، وتُنمّي فيه الاتجاه لتحقيقها.
2- أن يٌعنَى بتأصيلها – ثقافة المجتمع المسلم –، وذلك بربطها بأصولها التي تنامت منها، وبتسهيلها وتيسيرها حتى يفهم الطالب عناصرها ويتشربها وينصبغ بصبغتها ويعتز بحمله لها وانتمائه إليها.
3- أن يُسهم المنهج في حل المشكلات الاجتماعية، مثل: ارتفاع معدلات البطالة ومعدلات الطلاق ومعدلات حوادث المرور وتفشي المخدرات وانخفاض معدلات الإنتاج وغيرها.
4- اهتمام المنهج بمراحل نمو الطالب، وتزويده بالمعلومات التي تُمثِّل معطيات يقدمها علم النفس للتربية وتشكل أسساً نفسية تتناسب مع احتياجات المتعلمين ومشكلاتهم.
5- التفكير الجاد العملي في إيجاد برامج تسهم في خدمة المجتمع، وتسعى للدخول في مؤسسات المجتمع؛ ليتفاعل معنا ويقف في صفنا ويكون لنا حضور الفاعل فيها.
6- تشكيل اتحاد عالمي إسلامي لصياغة الأسلوب في المناهج والمقررات للمعاهد والمدارس الشرعية، وتوحيد الجهود بين المؤسسات التعليمية والجمعيات الخيرية وتنسيق الخطوات الفنية وتبادل الخبرات والتجارب بينها.
7- العمل على فتح المدارس والمعاهد الخاصة، واستغلاليتها في مناهجها وأسلوبها ونظامها يساعد على نشر الإسلام وتربية المسلمين تربية جادة مع ضرورة تنسيق المعادلة بين شهاداتها، والتنسيق في تخصصاتها، والتقليل من تكرار الجهود وازدواجيتها.
8- الاهتمام بمناهج ومقررات المدارس الإسلامية في الغرب، فبعضها ضعيف، وقد أخذت من مناهج المدارس في بعض دول الخليج والباكستان، ولا تتناسب والأسس النفسية والاجتماعية لمسلمي الغرب، فضلاً عن أن تكون حسب تقرير المخابرات الأمريكية مناهج متطرفة وتدعو إلى الإرهاب بجميع صوره.
9- ضرورة تطوير المناهج والأخذ بالمفهوم الحديث للمنهج، والتطوير، يجب أن يشمل كافة عناصر المنهج من أهداف ومحتوى وطرق تدريس ووسائل وتقنيات وأنشطة وكتاب مدرسي.(115/1298)
10- أن يتولى تطوير المناهج المتخصِّصون، وكلٌّ في تخصصه، ولا تكون المناهج ألعوبة في يد كل من تعلَّم أو برز إعلامياً أو تولى منصباً وليس أهلاً له.
11- العناية التامة بالبحث العلمي بطريقة إجراء الدراسات والاستبانات حول المناهج والمقررات؛ لأن للبحث أثره البالغ في صنع القرار وتوجيهه وتجاوز الآراء الشخصية.
12- طرح الأفكار والرؤى حول المناهج وصياغتها عبر وسائل الإعلام، حتى يمكن التأثير في الرأي العام وتوجيهه.
13- احتضان أصحاب القرار وتوثيق الصلة بهم في دوائر إعداد المناهج وتطويرها وبحث فرص التعاون معهم.
أسأل الله _تبارك وتعالى_ أن يجنبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأن يعز دينه ويعلي كلمته وينصر أولياءه، إنه جواد كريم، وبالله التوفيق، وصلى الله وسلم على نبينا محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه أجمعين.
ـــــــــــــــــــ
العجز مصدر شرور
أ.د.عبد الكريم بكار
25/8/1424
ارسل تعليقك ...
لا توجد تعليقات ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
لو عدنا بذاكرتنا إلى الوراء وتلمّسنا الأدبيات التربوية التي كانت شائعة لدى أسلافنا لوجدنا أن هناك نوعاً من الارتياح لما يمكن أن نسميه انحسار الذات وتضاؤل المجال الحيوي لحركة الإنسان، وتجد في ثقافة أهل الزهد والعبد تحبيذاً قوياً للعزلة والصمت وتخفيض الطموحات والبعد عن الأضواء إلى أقصى حد ممكن، وأنا لا ألوم السابقين على ذلك، إذ ربما نشأت الدعوة إلى هذه المعاني في ظروف انتشرت فيها اللصوصية والنهب والسلب والجشع والأثرة والترف والإغراق في كل ما هو دنيوي، أي: أن الدعوة إلى سلوك العاجزين كانت من أجل إيجاد نوع من التوازن الاجتماعي، واستمرت تلك المعاني لتشكل في النهاية جزءاً من البنية العقلية والشعورية للأمة مع تغير الأحوال والأوضاع التي سوغت الدعوة إلى سلوكات العجز التي أشرنا إليها!
لست أميل إلى إطلاق الأحكام والنظر بعين واحدة، ولذا فإني لا أستطيع القول: إن كل حركة بركة، والقول: إن النشاط والحيوية والاندفاع لاصطياد الفرص وتحقيق النجاحات الكبرى والعلاقات الواسعة... هي دائماً أمور جيدة ومحمودة ومطلوبة؛ فالسلوكات لا تمدح لدينا – نحن المسلمين – ؛لأنها تبدو جالبة لمنفعة أو مصلحة مادية فحسب، وإنما ينظر إليها من زاوية مقاصدها، أي: النيات الدافعة إليها، ومن زاوية مشروعيتها، أي: كونها أنشطة مباحة في نظر (الفقيه)، كما ينظر إليها من(115/1299)
منظار التوازن العام للشخصية، إذ لا يصح أن ينهمك الإنسان في عمل صالح على حساب عمل آخر عليه أن يؤديه.
إن هناك ضرورة ملحة لأن ننشر ثقافة التخلص من الوهن والانحسار والقعود عن احتلال المواقع التي نستحقها، والتي تليق بنا. وأول ما علينا أن نقوم به في عملية نشر تلك الثقافة هو تنبيه الناس إلى مخاطر ضعف الإنتاجية.
وتأمل معي قول الله – جل وعلا -: "ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرّاً وَجَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ" (النحل:76).
إن الله – جل وعلا – لم يضع في مقابل الضعيف الذي لا يقدر على شيء ذلك الرجلَ القوي الكفء واسع النشاط، وإنما وضع في مقابله الرجلَ الذي آتاه الله المال فأنفقه في الخير سراً وجهراً؛ كما أنه لم يضع في مقابل الأبكم الرجل المنطيق البليغ الذي يسحر الناس ببيانه، وإنما وضع في مقابله رجلاً فصيحاً يأمر بلزوم الطريق المستقيم، وهو مع ذلك مستقيم على طريق الهداية، وهكذا فالقوة مقيدة بالخلق والمشروعية،
إذا اتضح هذا أمكننا أن ننتقل إلى التساؤل التالي: هل الأضرار الفردية والاجتماعية التي تحدث بسبب الانحسار والتكاسل والتقاعس والعجز أكبر، أم الأضرار التي تحدث نتيجة الحركة والفاعلية والجدية والطموحات المديدة..؟
بعد أخذ الملحظ السابق بعين الاعتبار، والأخذ بالاعتبار أيضاً الأوضاع والأحوال التي يعيش فيها المسلمون، يمكن القول: إن الأضرار والشرور التي تترتب على العجز وقلة الحيلة.. أكبر بكثير من الأضرار التي تترتب على الفاعلية والنشاط، ويحضرني في هذا المقام ما ذكره ابن خلدون في (مقدمته) عن مزايا الأجير الماهر الذي تنقصه الأمانة، والصانع الأمين الذي لا مهارة لديه ولا إنتاجية جيدة، فقد رأى الرجل أن الشخص الذي تستأجره إذا كان ماهراً في عمله، فإن في الإمكان أن تجد بعض الطرق التي تحول إلى حد بعيد بينه وبين السرقة والخيانة، وبذلك يمكن أن تنتفع به، أما الأجير غير الماهر فإنك لا تدري كيف ستنتفع به، وحينئذ فلن تستفيد أيضاً من أمانته.
وهكذا فالإنسان المعطاء المتحرك المنتج يمكن توجيهه، ويمكن أحياناً الأخذ على يديه، كما يمكن وضعه ضمن سياق تنظيمي يحد من الأضرار التي يمكن أن يسببها لنفسه أو لغيره بسبب عدم التزامه، أما الإنسان الكَلُّ المحطم العاجز، فإن وجوده ضمن مجموعة قد يغريها بالتكاسل والتسيب، بالإضافة إلى أن ما يرجى من وراء عمله يظل قليلاً أو معدوماً، ومع ذلك فإن هذا الحكم ليس مطلقاً، ولا ينطبق على كل أحد، ولكل واحد منا أن يتأمل في أوضاعه الخاصة، ويتخذ القرار المناسب، لكن يمكن القول مع ذلك: إن هذه الرؤية تتسم بقدر كبير من القابلية للتعميم على كثير من الناس.(115/1300)
روي عن عمر – رضي الله عنه – أنه قال: "إلى الله أشكو جَلَد الفاجر وعجز الثقة"، وتلك الشكوى من ذلك الرجل العظيم تعبير عن وجه خطير من وجوه الخلل في حياتنا الاجتماعية، حيث يسيطر في كثير من الأحيان على الحياة العامة أولو القوة والتفوق والنشاط والكفاءة، فيوجهونها توجيهاً سيئاً ومدمراً؛ وحيث يتوارى الثقات المؤتمنون على عقيدة الأمة ومصالحها بسبب عجزهم وكسلهم وفوضويتهم وقلة خبرتهم وضعف كفاءتهم!
إذا تأملت في الشرور والمفاسد التي يجرها عجز العاجزين على أنفسهم ومجتمعاتهم لوجدت أنها كثيرة، ولأمكنك أن تعد منها الآتي:
- انتشار مشاعر الإحباط وانسداد الآفاق، وذلك لأن إحساس المرء بالدونية والعجز عن القيام بما يقوم به أقرانه يُربك وعيه ويفقده ثقته بنفسه، ولو أننا استطعنا قراءة أفكار أولئك العاجزين وانطباعاتهم عن أنفسهم لوجدنا أنهم يعتقدون بأنهم أشخاص لا أهمية لهم ولا قيمة، وأن نصيبهم من الحمق والضعف العقلي ليس قليلاً، وكثيراً ما تأتي الوقائع وشواهد الأحوال لتزيد في محنتهم، ولتؤكد صدق الصور التي كوَّنوها عن أنفسهم، والنتيجة لكل ذلك هي العزوف عن المحاولة، وانقطاع الرجاء من حدوث أي تقدم.
- الحسد وسيطرة روح الانتقام، حيث يتصور الشخص الذي يشعر بالعجز والضعف أن ما هو فيه بسبب ظلم الآخرين له أو تخليهم عنه، ولذا فإن صدره يغلي بالحقد، ويتمنى أن ينزل بالآخرين مصائب لا نهاية لها!
- سلوك سبل الاحتيال والكذب والخداع بوصفها وسائل للخروج من الأزمات التي تحل بمشلولي الحركة وضعيفي الكفاءة والقدرة، وبوصفها وسائل لتوسيع المجال الحيوي الذي توفره عادة اللياقة العامة، وهذا واضح لدى العديد من الشعوب الإسلامية التي صار الفقر فيها عبارة عن وباء مستوطن.
- انهيار البيئة الطبيعية، حيث إن الأرض التي نعيش عليها لا تحافظ على قدرتها على العطاء إلا من خلال العناية المستمرة، وحين يتقاعس الناس عن القيام بذلك، فإنها تتآكل يوماً بعد يوم كما يتآكل كل منزل هجره أهله، وكفوا عن صيانته، وقل مثل هذا في حياتنا الاجتماعية.
- هيمنة الأعداء وطمع المنافسين، حيث يغري العجز والضعف الأعداء بالتسلط والعدوان، وهذا بدوره يجعل الناس يشعرون بأنهم مقهورون مغلوبون، وهذا ما تعاني منه أمة الإسلام منذ أمد ليس بالقصير!
- نحن في عصر التنافس الأممي، فلا يكفي أن تكون على الطريق الصحيح، بل لا بد من أن تسير فيه بجد وإلا داسك الآخرون، ونظراً لانتشار الظلم والفساد واستخدام القوة والنفوذ، بالإضافة إلى تدني مستوى الوازع الخلقي لدى كثير من الأشخاص وكثير من الأمم أيضاً، فإن السيطرة والقدرة على الاستمرار لم تعد ملكاً للأصلح، وإنما للأنجح والأقوى، والمطلوب من مسلم اليوم أن يكون بحق الأصلح والأنجح حتى يستطيع القيام بحمل رسالة الإسلام وعيش عصره بجدارة.(115/1301)
إن هناك ضرورة ملحة لأن ننشر ثقافة التخلص من الوهن والانحسار والقعود عن احتلال المواقع التي نستحقها، والتي تليق بنا، وأول ما علينا أن نقوم به في عملية نشر تلك الثقافة، هو: تنبيه الناس إلى مخاطر ضعف الإنتاجية، فنحن أمة تعاني من أشكال عديدة من التخلف ولا سيما في المجال التقني والصناعي، ولا خلاص لنا من هذا إلا بارتفاع كبير في نسبة الأفراد القادرين على مساعدة الضعفاء وسد الثغرات ورفع السوية العامة للأمة.
نحن نريد أن نتخلص من الحياة المحفوفة بالضرورات، وهذا لا يكون من غير أن نمتلك جرأة كجرأة البحّار، وأن نمتلك الإرادة الماضية التي لا ترى في الحصول على هدف سوى نقطة انطلاق صوب أهداف جديدة.
إنه مهما شعرنا بعدم تكافؤ الفرص، ومهما شعرنا بوجود ظلم اجتماعي فاقع، فإن علينا أن نحافظ على اعتقادنا بأنه ستظل هناك أبواب مفتوحة يلج منها ذوو الموهبة والجد والمثابرة، وإن الله – جل وعلا – لا يحرم أي إنسان من ثمار عمله وكفاحه، ولو كان ذلك الإنسان غير مسلم.
إن الإنسان العاجز لا يبحث عن الفرصة التي يحقق من خلالها ذاته، وإذا جاءته الفرصة لم يستطع التعرف عليها؛ لأن وضعيته العقلية والنفسية وخبراته الضحلة تلقي باستمرار بالأغشية على بصره وبصيرته، فلا يرى ما يراه غيره!
أما الأكفاء الجادون ذوو الهمم العالية، فإنهم لا يستفيدون من الفرص المتاحة فحسب، ولكنهم باجتهادهم يوجدون الفرص، ويشكِّلون الظروف التي تخدمهم وتساعدهم، وقد علَّمنا نبينا _صلى الله عليه وسلم_ أن المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وأن اليد العليا خير من اليد السفلى، كما أنه كان يستعيذ من العجز والكسل والجبن والبخل وقهر الرجال، وهي أدواء تحل بالإنسان حيث تتقاصر مفاهيمه عن إدراك طبيعة التكليف الرباني وطبيعة متطلبات العيش في زمان مثل زماننا.
هذا ما أردت قوله في هذا الكتاب، وهو جهد المقلّ الكليل، لكن أسأل الله – جل وعلا – أن يبارك فيه، وأن ينفع به المسلمين إنه وليُّ ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم على عبده ونبيه محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
ـــــــــــــــــــ
القضايا النفسية في سورة يوسف
أ.د.ناصر بن سليمان العمر
16/8/1424
ارسل تعليقك ...
لا توجد تعليقات ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...(115/1302)
حفلت هذه السورة في مواضع عدة بالقضايا النفسية، مما يبين عناية الإسلام بهذا الجانب، وأنه ليس علماً غيبياً، بل علماً بشرياً أولاه الإسلام مايستحقه من رعاية واهتمام.
ومن أبرز القضايا النفسية في سورة يوسف مايلي :
1. مراعاة الصغار، وإعطاؤهم مزيداً من العناية والرعاية والحب، وهو بارز في قصة يوسف وأخيه وحبّ والدهما لهما.
2. العناية بمن ماتت أمه وهو صغير، على القول بوفاة والدتهما.
3. الحب والشفقة لمن ينتظره مستقبل قاسٍ وشاقٍ، مع قرب مفارقته لأهله، حيث علم يعقوب ذلك من الرؤيا.
4. التهيئة النفسية للأمور الكبيرة، كما في تعبير يعقوب لابنه، والإيحاء إليه في البئر، وإرسال القميص لأبيه، وإخباره لأخيه بما يريد أن يفعله لاستبقائه عنده.
5. عنصر المفاجأة في سورة يوسف ورد في قرابة عشرين موضعاً:
• مفاجأة الرؤيا.
• مفاجأة إلقاء يوسف في البئر.
• دعوى أكل يوسف.
• السقاة.
• المراودة .
• وجود السيد عند الباب.
حفلت هذه السورة في مواضع عدة بالقضايا النفسية، مما يبين عناية الإسلام بهذا الجانب، وأنه ليس علماً غيبياً، بل علماً بشرياً أولاه الإسلام مايستحقه من رعاية واهتمام.
• خروج يوسف على النسوة .
• رؤيا الملك.
• رفض الخروج من السجن.
• طلب يوسف من إخوانه أخاهم.
• وجود بضاعتهم.
• طلب بنيامين من أبيه.
• مفاجأة بنيامين بوجود يوسف.
• الاتهام بالسرقة.
• قولهم: إنه يسرق.
• وجود الصواع في رحل بنيامين.
• بقاء بنيامين في مصر، وأخذ العزيز له ( بالنسبة ليعقوب).
• تعريف يوسف بنفسه.
• مفاجأة العفو من يوسف.
• مفاجأة القميص.
• رجوع البصر.(115/1303)
6. الحب، والحزن، والفرح، والسرور، والغضب، والخوف، والكظم، والأسرار،كلها مسائل نفسية تدخل في دائرة الانفعالات، إطلاقاً وتحكماً، وتأثيرها على السلوك، وأثر الإيمان في ذلك.
7. تصاريح الخير والشرّ في مشاهد عدة، كالحسد والغرام، والإباء والعفاف.
8. الانفعالات الإيجابية والسلبية، وأسلوب تهذيبها والتحكم بها.
9. الغيرة والحسد، كما في قصة إخوته ونسوة المدينة .
10. ترتيب الأبناء مؤثر في سلوكهم ومعرفة مفاتيح شخصياتهم.
11. الأسلوب النفسي مؤثر في تغيير اتجاه الجماعة إلى مايريده الواحد، كما في تأثير أحدهم في قصة الجب.
12. بسبب بعض الضغوط النفسية تأتي الحقائق مقلوبة فيظهر الحب بدل الكراهية، والحماية والرعاية بدلاً من الإيذاء والتآمر، والأمان بدلاً من الغدر، والنصح بدلاً من المكر والشماتة، والبكاء بدلاً من الفرح والسرور.
13. برز في سورة يوسف مدى ضبط يوسف لجانبه الوجداني عند الخوف والغضب، والفرح والترقب، ومدى تحكمه في انفعالاته.
14. الهروب سواء كان جسمياً أو قولياً أو نفسياً وسيلة من وسائل التخلص من المواقف المحرجة.
15. هناك فرق بين رد الفعل الناجم عن الحزن وعن رد الفعل الناجم عن الغضب.
16. الدهشة والانبهار والمفاجأة تجعل الإنسان يتصرف تصرفات لايحس بها؛ كتقطيع أيدي النساء، فقوة الحدث تشغل عن الإحساس بألم الفعل، ومثل ذلك مايفعله الرافضة في عاشوراء.
17. تمرير المشاريع والأمور الصعبة والمستغربة يحتاج إلى وضع الشخص في حالة تعطل ملكة تفكيره أو تضعفها، كما فعلت امرأة العزيز مع النساء لإقناعهن في مشاركتها في المراودة وإعانتهن لها، وهذا من الاستغراق في اللحظة الحاضرة، ولذلك اختلف موقعهن من الإنكار والشماتة إلى الدعم والتأييد.
18. التهديد بالسجن والإهانة ونحوها قد تؤدي إلى إثارة انفعالات قوية تأتي بعكس المقصود، حيث تستثار الحمية والتحدي.
19. بروز صفة القيادة عند الملمات والشدائد، كما برزت عند يوسف وهو يقابل الملك.
20. التجارب والأحداث عامل مهم ومؤثر في الانفتاح فيوسف الذي ألقى في الجب، وعانى مع امرأة العزيز ثم كان السجن كل هذه الأحداث وغيرها كانت سبباً في بلوغه الرشد والقوة والنضج [ وقبل ذلك الوحي].
21. استعمال الترغيب أهم من استعمال الترهيب في تحقيق المراد،ومع ذلك لابد من الأمرين، ولا تستقيم الحياة بدونهما كالجنة والنار، والوعد والوعيد.
22. الأمور الكبيرة والصعبة تحتاج إلى مراحل وأساليب مناسبة من أجل تحقيقها، وبخاصة إقناع ذوي الشأن من أجل اتخاذ القرارات المهمة.(115/1304)
23. لم يتخل يعقوب عن أبوته في جميع المراحل مع مافعله أبناؤه، وبقي مع ذلك هو الأب الرحيم الشفيق الذي يسعى لمصلحة أبنائه مع مافعلوه، فلم يفقد توازنه، ولم يخرجه الغضب أو الحزن عن اتخاذ المواقف المناسبة في الوقت المناسب.
24. للجانب الانفعالي والوجداني تأثير في الجانب الحسي صحة وفرضاً، وسقماً وعافية، كما حدث ليعقوب عندما حزن على يوسف فذهب بصره، وشدة فرحه بيوسف كانت سبباً في إعادة بصره.
25. كبت الانفعالات يؤثر في الجسم كالقرحة والاكتئاب وغيرها، ولذلك يحسن أن يشكو المرء كربه، وأن يبث همومه – دون شكوى – لمن يسليه ويخفف عنه .
26. خطورة استغلال ضعف أخيك لتزيد من جراحه، والأولى هو انتشاله من حالة الضعف، وتقوية جانبه النفسي، وقد أصاب يوسف في ذلك مع إخوته عندما عرفوا أنه يوسف، وأخطؤوا عندما ذكر لهم أبوهم يوسف، فتأمل الموقفين؟
27. الصدمات القوية، وبخاصة النفسية عامل مؤثر في الشفاء، والخروج من الأزمات النفسية كما في قصة القميص عندما ألقي على وجهه فجأة .
28. تعالج الأشياء بأشباهها، كما في قصة القميص، والخبر السيّئ بالخبر الإيجابي حتى يزول أثر الشيء.
29. الأخبار السارة جداً من أهم وسائل العلاج، كما أن الأخبار السيئة قد تحدث العاهات والأمراض.
30. الاعتراف بالحقيقة يخلص النفس البشرية من الصراع النفسي، ويزيل عن كاهل المعترف هماً لاتتحمله الجبال، وهذا الذي يفسر لنا أن كثيراً من المجرمين يسلمون أنفسهم طواعية ليتخلصوا من هموم وأثقال كالجبال؛ لما في ذلك من إراحة ضمائرهم ودواخلهم، ولو نالت أجسامهم العقاب، فعذاب النفس أقوى من عذاب الجسد.
31. النفس السوية السليمة هي التي تتخذ القرارات الاستراتيجية، والمواقف الصائبة حتى في أشد الأزمات، وأقسى الظروف والأحوال.
32. النفوس البشرية تتشابه طباعها وأخلاقها ومستوى تفكيرها، وإن تباعدت ديارها وبلادها وأزمانها، مالم يصرفها صادق عن فطرتها التي فطرها الله عليها .
33. التفاؤل الإيجابي حالة نفسية تتمازج مع النفوس السوية، ذات المزاج المعتدل، والنظر البعيد، والاستقرار الوجداني ، ويأباه النفوس المريضة والمتعبة ذات القلوب المضطربة والأهداف الآنية
ـــــــــــــــــــ
الطاقات المهدرة
أحمد الصويان
10/8/1424
ارسل تعليقك ...
لا توجد تعليقات ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...(115/1305)
بسم الله الرحمن الرحيم
يسّر الله _تعالى_ لي حضور المؤتمر السنوي الذي أقامه التجمع الإسلامي في أمريكا الشمالية(1)، وكان عامة الحضور من الطلاب الدراسيين في مرحلَتَي الماجستير والدكتوراه في تخصصات تجريبية وإنسانية متعددة، وسألني أحدهم: أليس من الممكن أن يستغل هذا الاجتماع المبارك ثلةٌ من المفكرين والمشايخ لرسم خطة دعوية يعتمد عليها الدعاة في أمريكا الشمالية؟
ويبدو هذا السؤال جميلاً.. لكن صدري ضاق به جداً، فإلى متى ننتظر التلقين من الآخرين..؟!
إلى متى تدار المشروعات الإسلامية بفردية.. وبقية الجموع تتحرك بآلية ساذجة لا تعي ولا تُدرك، ولا تجيد إلا فن المحاكاة والاجترار..؟!
لقد ضاق صدري؛ لأنني أرى أن مسؤولية هذا الدين ليست حكراً على أحد، بل هي قضية كل مسلم في أي مكان ذهب، وفي أي ثغر عمل، كل بحسب طاقته وقدرته، وكما قال الشاعر:
وتزعم أنك جِرْمٌ صغيرٌ ... ... وفيك انطوى العالَمُ الأكبرُ!
إلى متى تدار المشروعات الإسلامية بفردية.. وبقية الجموع تتحرك بآلية ساذجة لا تعي ولا تُدرك، ولا تجيد إلا فن المحاكاة والاجترار..؟!
لقد ضاق صدري لأنني أرى أن مسؤولية هذا الدين ليست حكراً على أحد، بل هي قضية كل مسلم في أي مكان ذهب، وفي أي ثغر عمل
ولا يعني هذا ألاّ يستفيد الإنسان من خبرات الآخرين وعلمهم وسابقتهم؛ فهذا أمر محمود مأمور به شرعاً، فالتناصح والتعاون أصل من أصول الشرع، ولكن لا يجوز الانكفاء عليهم، والاعتماد المطلق على خبراتهم..!
كما لا يعني أن تتحول كل الجموع إلى قادة ومفكرين، ولكن لا يجوز أن تختزل الأمة كلها وتذوب في آحاد من الناس، هم وحدهم الذين يفكرون ويخططون ويبدعون..!
إنّ الإبداع والابتكار لا يأتي في يوم وليلة، ولكنه محصلة لسلسلة من الإنجازات والتجارب، فالميدان وسيلة خصبة لإثراء المعارف وصقل الخبرات، وقد يخفق الإنسان المرة بعد الأخرى، ولكنه سوف ينجح في النهاية، وسوف تصير الإخفاقات رصيداً تراكمياً من الخبرة ينضج مع علو الهمة وطول العزيمة.
وإن الخوف من الإخفاق، والتردد قبل الإقدام، نتيجته الحتمية هي المراوحة في المكان نفسه، بل والتراجع إلى الخلف، والذي لا يخطئ هو الإنسان الميت الذي لا يتحرك، والخلفية التربوية الهزيلة لها أثر كبير في وأد طموح الإنسان، وشل حركته ومحاصرة عقله، كما أن المحاضن التربوية الناضجة لها دور كبير في بناء الإنسان، وشحذ همته، وتوسيع معارفه وآفاقه(2).
وبعد كل هذا الحديث يسألني أحدهم ثانية: نحن طلاب أشغلتنا الأبحاث والمعامل، ولا نملك الوقت للتفكير والتجريب..؟!
لقد آلمتني هذه المداخلة الباردة المخذلة، ألهذه الدرجة يتدنى الهم الإسلامي فيكون في هامش الهموم..؟!
لن تنجح دعوة إذا كان رجالها هواة يشغلون بها وقت فراغهم!(115/1306)
ولن تنجح دعوة إذا كانت نزوة طارئة تغدو وتروح، وتتحكم بها التقلبات النفسية والتغيرات الاجتماعية..!
إن الدعوة عند أبنائها المخلصين البررة هي الهمُّ الأكبر، والشغل الشاغل، وكل ما سواها يجب أن يُسخَّر لخدمتها ويَصُبَّ في قناتها.
************************
الهوامش:
(1) في سنة (1415هـ).
(2) أشار عالم النفس الأمريكي "هاورد قاردنر" إلى أن: (المبدعين يتميزون بالخصائص التالية:
أ- قضاء وقت في التأمل والتفكر.
ب- تقوية ما يتقنون ويحسنون.
ت- تحويل الإخفاق إلى تجربة تعليمية مفيدة).
انظر: مجلة المعرفة، العدد (32)، ذو القعدة 1418هـ، (ص49).
ـــــــــــــــــــ
ماذا نريد من التعليم?
د. مصطفى السيّد
19/7/1424
ارسل تعليقك ...
لا توجد تعليقات ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
بسم الله الرحمن الرحيم
نريد من التعليم:
• أن يسهم في إيجاد مكانة للمسلمين تعكس مكانتهم بوصفهم خير أمة أخرجت للناس، يُهاب جانبهم، وتُحترم كلمتهم، ويشعر أبناء الإسلام قبل غيرهم بالتوازن بين إسلامهم وحياتهم، فلا يكون الإسلام في السماء والمسلمون في الحضيض.
• أن يردم الهوة الواسعة بين المسلمين وعصرهم، لا سيما في العلوم الاجتماعية والآداب والتقنية واستعمالاتها في المجالات كلها، فكيف نكون "الأعلين" ونحن ضعفاء في قوتنا فقراء في ثقافتنا بلداننا مشرق النبوات ومستودع المواد الخام، وشعوبنا أكثرهم ضحايا الجهل والفقر والمرض.
• أن يؤكد على الحوار، وأن يشجع على النقاش، وأن يحفظ للمرء حقه في الكلام وإبداء الرأي ضمن المسؤولية الأدبية والمصلحة العامة، وألا يحرم من أي حق أدبي أو مادي بسبب اختلاف الرأي فضلاً عن إبدائه.
التعليم الذي نريده هو الذي يسهم في إيجاد مكانة للمسلمين تعكس مكانتهم بوصفهم خير أمة أخرجت للناس ، والذي يردم الهوة الواسعة بين المسلمين وعصرهم.(115/1307)
• أن يعمل على تنشيط العقل وبعثه من مرقده ليثري النقل بالنقاش، وذلك لجعل هذا النقل – كما هو في الأصل – يعمل لصالح المسلمين، بل إن تحرير سلطة العقل من عقلية السلطة بكل صورها: سياسية، أو اجتماعية، أو اقتصادية... إلخ، وذلك باعتماد مصلحة الوطن خاصة والأمة عامة فوق كل مصلحة ومرجع كل إصلاح هو الذي يخرج العقل من جموده ويستخرج منه كامل طاقاته.
• أن يؤكد للناس أنه لا عيب أن يكون بعض المسلمين فقيراً، ولكنه عار وتعطيل لدوره أن يكون جاهلاً أمّياً.
• أن يؤكد للناس أهمية التحرر من كل ما يحول بين المسلمين وعبوديتهم لله، فلا تستعبدهم الوظيفة أو الزوجة أو الجهل أو اجتراء ثقافة هامشية، حيث يثرثرون ولا يقولون شيئاً.
• أن يرتبط بالمشاكل الحقيقية للوطن والأمة، وذلك عندما تحدد أجهزة التخطيط الرسمية وأجهزة الإعلام المشاكل البنيوية والمفصلية ثم تطلب من الجامعات أن تضع أوليات في منهاجها وخريجيها ليسهموا في تقديم الحلول المرحلية لهذه المشكلات.
• نريد التعليم الذي يزرع في قلوب الطلاب والشباب فضيلة النقد المهذب والعميق لكل أساليب الحياة عامة أو خاصة؛ لأن النقد هو الذي يؤمِّن _بإذن الله_ لكل فكر ومفكر ديمومة التطور، ويحميهما من التآكل والاهتراء القيمي والمعرفي.
• نريد من التعليم أن يجعل الثقافة والعلم خيراً ضرورياً وليس كمالياً لكل أفراد الوطن والأمة، قال ابن المبارك _رحمه الله_: "عجبت لمن لم يطلب العلم كيف تدعوه نفسه إلى مكرمة" فهذا قول عميق يرى ارتباط القيم بالعلم، وكيف سنوطِّن المنهجية العلمية والبحوث التقنية في أمة تعاني من أمية تلامس أعماق الأعماق فيها؟
• نريد العلم الذي يجعل من العلم الشرعي والتقني مرجعيتنا في الحياة والنقاش والكتاب والقراءة والحكم؛ لأن حياة الفرد والوطن والأمة إذا اعتمدت الجهل والوهم مرجعاً لها جنت التخلف والتخبط، وعانت من التهميش والهشاشة في كل شؤونها (حقوق الإنسان، الإبداع).
• نريد من تعليم المرأة التوكيد على خصوصيتها وعلى عضويتها في الوطن والأمة، وعلى تأهيلها أدبياً ومادياً لتنهض بأعباء مسؤوليتها ذات الأبعاد المختلفة من زوجية وأمومة، تكون في جسمها في جزء من البيت، وتكون في روحها في البيت كله، تراعي ظروف الزوج المادية والوظيفية، تتكامل معه لبناء صرح أسرة متكافلة متضامنة، إن أنجبت بنتاً هيّأتها علمياً وعملياً ووجدانياً لتكون زوجة صالحة في بيتها ومصلحة في حيها وعملها ووطنها وأمتها، وإن أنجبت فتى حببت إليه معالي الأمور ومكملات الرجولة ليكون عامل بناء في الدائرة التي يوجد فيها، تحبب إليه المسلمين أنى كانوا وعلى أي حال وجدوا، وتلقنه حب الخير للبشرية كلها، وتبين له خدمته للوطن، ودعمه للأمة من مكملات إسلامه ومقومات إيمان ما دامت تلك الخدمة وما كان ذلك الدعم يعتمد الإسلام مرجعاً ومصدراً ومورداً.
إن تعليم المرأة قطع أشواطاً لا بأس بها فـ_جزى الله خيراً_ كل من أسهم في ذلك من مسؤول أو مواطن أو خبير أو عالم، ولكن من الإنصاف أن نقول: إن جهداً كبيراً(115/1308)
يجب أن يبذل _إن شاء الله_ إذا كنا نريد للمرأة حضوراً بحجم التحديات التي تعيشها أسرة ووطناً وأمة.
ـــــــــــــــــــ
التفاعل التربوي 1 / 2
د . عبدالعزيز بن محمد النغيمشي
8/4/1424
ارسل تعليقك ...
لا توجد تعليقات ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
مدخل :
المقصود بالتفاعل التربوي هو حدوث اقتناع وتجاوب نفسي بين طرفي العملية التربوية ( المربي والمتربي ) يؤدي لاستجابة الطرف الثاني المعرفية والسلوكية للطرف الأول وللتأثر به .
ويمثل التفاعل التربوي عنصراً مهماً في العملية التربوية ، حيث يعكس العمق والحيوية التي تكتسبها المعلومات والخبرات المنقولة للمتعلم ، ويعكس المدى البعيد لأثر المتربي استيعاباً وتطبيقاً ، هذا إضافة إلى الإسراع في العملية التربوية .
والمربون من آباء ومعلمين ودعاة وغيرهم يعانون – في كثير من الأحيان – من عدم القدرة على التأثير في أولادهم أو طلابهم أو مدعويهم ومن عدم استجابتهم ، بل إنهم – أحياناً – يعاندون ويعرضون ويحولون بين المربي والتأثير فيهم . ومن أهم الركائز لمعالجة هذه الشكوى اختبار المربي لدى حرصه على التفاعل مع المتربي ، واهتمامه لإقامة علاقة جيدة معه ، وهذه أول خطوة جوهرية في طريق التأثير .
قواعد التفاعل :
أصَّل المنهج التربوي الإسلامي المبني على الفقه الشامل لطبيعة النفس البشرية هذه القواعد مبكراً ، وأثراها وخصوصاً في الجانب التطبيقي . ونشير هنا إلى بعض هذه القواعد :
قاعدة التبادل في العلاقات :
إن حسن التجاوب ، وحرارة الاتصال بين طرفين والتفاعل بينهما يعتمد اعتماداً كبيراً على مفهوم "التبادل في العلاقات" ، فعلى قدر ما يبذل كل طرف من جهده وماله ومشاعره نحو الطرف الآخر ، تقوم العلاقة وتتصاعد إلى أعلى .
التفاعل التربوي هو حدوث اقتناع وتجاوب نفسي بين طرفي العملية التربوية ( المربي والمتربي ) يؤدي لاستجابة الطرف الثاني المعرفية والسلوكية للطرف الأول وللتأثر به ، ويمثل عنصراً مهماً في العملية التربوية.
وعلاقة المربين بالمتربين قائمة على ذلك ، فمثلاً : في علاقة الآباء بالأبناء ، بقدر ما يقدم الآباء للأبناء من عناية ورعاية ونفقة ويبذلون من رحمة وشفقة ، وبقدر ما يحيطون به أبناءهم من نصرة ومعونة وحماية ، بقدر ما يعيد هؤلاء الأبناء هذا(115/1309)
العطاء والبذل براً وطاعة ومعروفاً وخفضاً للجناح ، والعكس بالعكس : فالشدة والقسوة والجفاء ، وعدم النفقة أو تقتيرها أو المن بها ، وعدم العناية بالتربية والتعليم ، والسخرية والاستهزاء ، والإهمال والنبذ والطرد ، والغفلة والبعد، كل ذلك يؤدي إلى الجفاء والشدة وعدم الاهتمام ، ويورث النبذ والبعد والقسوة على الآباء من قبل الأبناء .
والمربي أو الداعية إذا كان بارد الأحاسيس، جاف المشاعر، رسمي المعاملة، ساخر اللسان، الغافل أو المتغافل ، البعيد أو المتباعد ، قد يقابل من المتربين في معاملتهم ومسالكهم ومشاعرهم بالرفض والكره والاشمئزاز .
ومما يدل على هذه القاعدة ، قوله تعالى : (هل جزاء الإحسان إلا الإحسان) [ الرحمن: 60 ] ، وقوله تعالى : (إن هذا كان لكم جزاءً وكان سعيكم مشكوراً) [ الإنسان : 22 ] ، وقوله تعالى : (وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها) [ النساء : 86 ] ، وقوله صلى الله عليه وسلم : (من استعاذ بالله فأعيذوه ، ومن سأل بالله فأعطوه ، ومن دعاكم فأجيبوه ، ومن صنع إليكم معروفاً فكافئوه ، فإن لم تجدوا ما تكافئونه فادعوا له حتى تروا أنكم قد كافأتموه ) [ سنن أبو داود : 1672 ] .
قاعدة الحقوق والواجبات :
هذه القاعدة تحكم العلاقات بين الناس ، فالحقوق لفرد معين في مجال معين هي واجبات الشريك الآخر "المقابل" ، والعكس كذلك ، فحقوق المتربي هي واجبات المربي ، وحقوق المربي هي واجبات المتربي .
والرضا بين الطرفين المعنيين أمر ضروري لحدوث التداخل والتفاعل بينهما على وجه مقبول ، ورضا أحد الطرفين وإقباله يعتمد على رضا الطرف الآخر وإقباله ، وذلك وفق قيام كل منهما بواجباته تجاه الآخر .
وإذا مارس الفرد سلوكه بالطريقة التي تتفق مع ما يتوقعه الآخرون منه ( أي بقيامه بواجباته تجاههم ) فإن الآخرين يحمدون له ذلك ويقومون بأداء ما يستحقه أو ما يتوقعه هو منهم.
والعكس بالعكس ، فهو عندما يسلك بخلاف ما يتوقعه الآخرون منه ، يقطع على الآخرين الطريق لتحقيق المتوقع منهم ، فيغضبون منه ويحجبون الثقة عنه .
وقيام المربي بواجباته تجاه المتربين من تعليمهم وتربيتهم ، وتفقد أحوالهم ، وتشجيعهم بالسبل المختلفة ، ومعالجة الحالات الخاصة فردياً ، ومخاطبتهم على قدر عقولهم مع تقديرهم ، كل ذلك يؤثر على مسالك المتربين تجاه المربي محبةً أو كرهاً ، طاعةً أو عناداً ، احتراماً أو احتقاراً ، صلةً أو قطيعةً .
ومن الأدلة على هذه القاعدة القصة التالية : " جاء رجل إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه يشكو إليه عقوق ابنه، فأحضر عمر الولد وأنَّبه على عقوقه لأبيه ونسيانه لحقوقه ، فقال الولد : يا أمير المؤمنين : أليس للولد حقوق على أبيه ؟ قال : بلى . قال : فما هي يا أمير المؤمنين ؟ قال عمر : أن ينتقي أمه ، ويحسن اسمه ، ويعلمه الكتاب (أي: القرآن) . قال الولد : يا أمير المؤمنين ، إن أبي لم يفعل شيئاً من ذلك ، أما أمي فإنها زنجية كانت لمجوسي ، وقد سماني جَعَلاً (أي: خنفساء) ، ولم يعلمني من(115/1310)
الكتاب حرفاً واحداً . فالتفت عمر إلى الرجل وقال له : جئت تشكو عقوق ابنك ، وقد عققته قبل أن يعقَّك ، وأسأت إليه قبل أن يسيء إليك " .
قاعدة رأي المربي في المتربي له أثر على شخصيته :
وهذه القاعدة تقول " إن فكرة الفرد عن نفسه هي انعكاس مباشر لفكرة الآخرين عنه ، وأن الفرد يبني كثيراً من علاقاته على أساس من الرأي السائد فيه " .
فالمتربي يتأثر بأقوال وآراء المربي عنه ، ويبني الآراء عن نفسه وفقاً لما يقوله الآخرون عنه ، فإذا كان المتربي محلاً لثقة المربي ، ومعروفاً أو مذكوراً عنده بالقدرة والنشاط والمبادرة ، وموكولاً إليه من المهمات والأعمال ما يتطابق مع الرأي فيه ، وإذا كان يلقى من التشجيع والتأييد ومن التوجيه والتكليف ما يمثل اتجاها ورأياً يتناسب مع قدراته وإمكاناته ، فإنه يسعى لتأصيل ذلك في ذاته ، وجعله صفة من صفاته وسمة من سمات شخصيته ما أمكن . وكذلك الصفات السلبية تتأصل من خلال مسالك وآراء المربي فيه .
وهكذا فالمتربي يقدم أو يحجم ، وينشط أو يجبن ، ويجتهد أو يكسل ، ويجرؤ أو يسكت ، وفق ما يعلمه من رأي المربي فيه ، ووفق ما يقوم به من معاملة مبنية على ذلك .
ومن الأمثلة على هذه القاعدة : أن المربي إذا كلف المتربي بمراقبة بعض الأعمال ، أو إدارة عمل تربوي ، أو قيادة مجموعة معينة ، أو متابعة قضية معينة ، فإنه يُكوِّن فكرة عملية عن ذاته ، وعن قدراته الإدارية والعلمية .
ومن الأمثلة عليها في الجوانب العبادية ، استثارة النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمر رضي الله عنهما لقيام الليل بناءً على رأيه فيه ، فعنه قال : كان الرجل في حياة النبي صلى الله عليه وسلم إذا رأى رؤيا قصّها على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فتمنيت أن أرى رؤيا فأقصّها على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فرأيت في النوم كأن ملكين أخذاني فذهبا بي إلى النار ، فإذا هي مطوية كطي البئر ، وإذا لها قرنان ، وإذا فيها أناس قد عرفتهم ، فجعلت أقول : أعوذ بالله من النار ، قال : فلقينا ملك آخر ، فقال لي : لم تُرَعْ. ومعنى "لم تُرَعْ": لا خوف عليك بعد هذا ولا ضرر.
فقصصتها على حفصة، فقصّتها حفصة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " نعم الرجل عبدالله لو كان يصلي من الليل" ، فكان بعد لا ينام من الليل إلا قليلاً . [صحيح البخاري: 1122].
ـــــــــــــــــــ
التفاعل التربوي 2 / 2
د . عبدالعزيز بن محمد النغيمشي
14/4/1424
ارسل تعليقك ...
تعليقات سابقة ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...(115/1311)
طباعة ...
أساليب وأنواع التفاعل
يمكن أن نقسم الأساليب والإجراءات التي تمهد أو تحدث التفاعل والاندماج بين المربي والمتربي إلى مجالين هما: مجال المشاعر والمفاهيم ، ومجال السلوك والأعمال .
أولاً : مجال المشاعر والمفاهيم :
وهي أنواع وأساليب التفاعل المتعلقة بمشاعر الإنسان وتوجهاته الداخلية ، وبرصيده من الوعي والمعرفة حول مبادئ التفاعل وقواعده .
ويشمل هذا المجال الأعمال الآتية :
1 ) التوجه والسعي للحصول على محبة الله ورضاه :
فإن محبة الله للعبد ورضاه عنه يورثان محبة الناس له ورضاهم عنه ، وقد ورد ذلك نصاً في خبر المصطفى صلى الله عليه وسلم ، فعن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من التمس رضا الله بسخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس ، ومن التمس رضا الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس" [تحفة الأحوذي : 7 / 97].
يمكن أن نقسم الأساليب والإجراءات التي تمهد أو تحدث التفاعل والاندماج بين المربي والمتربي إلى مجالين هما: مجال المشاعر والمفاهيم ، ومجال السلوك والأعمال .
وكذلك محبة الملأ الأعلى للعبد تنتج محبة الله العباد له ، ورغبتهم فيه وإقبالهم عليه . فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "إذا أحب الله عبداً نادى جبريل إن الله يحب فلاناً، فيحبه جبريل، فينادي جبريل في أهل السماء : إن الله يحب فلاناً فأحبوه ، فيحبه أهل السماء ، ثم يوضع له القبول في الأرض " [البخاري : 6640] .
فعلى العبد أن يتقرب إلى الله ويطيعه بأنواع الطاعات المفروضة والمستحبة ، وسيجد لذلك أثراً واضحاً في اتجاه الناس إليه ، وقربهم منه ومحبتهم له ، وهذا مرتكز أساس للتفاعل والاندماج في العملية التربوية .
2 ) الإخلاص والصدق في العلاقة بالناس :
فالإنسان الذي يريد أن يبني علاقة مؤثرة ومثمرة مع الآخرين لا بد أن يخلص في هذه العلاقة، والإخلاص عمل قلبي ينبعث من قلب الإنسان ومشاعره تجاه الآخرين ، حيث يحس بأهمية العلاقة وعمقها ، ويصدق في إقامتها من داخله أولاً ، ومن ثم ينعكس هذا الإخلاص والصدق على أقواله وأعماله عند الاحتكاك بالآخرين ، فيبادلونه الشعور ذاته ، ويتفاعلون معه .
وإذا كان المربي غير صادق أو كان إخلاصه للآخرين مشوب بدخن ، رأيت الناس ينفرون منه ، ولا يثقون به ، وذلك من علامات ضعف التفاعل أو فقده في العملية التربوية .
ومن نواتج الإخلاص المؤثرة في التفاعل التربوي تطابق أقوال المربي مع أفعاله ، فالناس تتفاعل مع المربي العامل ، وتبتعد عن المربي الذي يخالف قوله فعله .(115/1312)
ومن نواتج الإخلاص – أيضاً – المبادرة بالأعمال ، والسَّبق في الطاعات ، والناس يتفاعلون مع من يسبقهم إلى الميدان ومع من يأخذ بزمام المبادرة .
3 ) الوعي بالقواعد التربوية التي تنشئ التفاعل :
في كل عمل تربوي يحتاج المرء إلى زاد فكري وقاعدة من المعلومات المتعلقة به ، وللتفاعل التربوي نظريات وقواعد وأساليب ، لا بد أن يلم بها من كان حريصاً على قيام تربية متفاعلة ومؤثرة.
وقد أشرنا إلى هذه القواعد في الحلقة الأولى ، ونضرب بعض الأمثلة على هذه القواعد : التيسير مقابل التعسير ، الرحمة والشفقة مقابل القسوة والشدة ، التأني مقابل العجلة ، التواضع والتبسُّط مقابل التكبر والتكلف.
ثانياً : مجال العمل والسلوك :
وهي أساليب التفاعل المتعلقة بالسلوكيات التي يمكن أن يمارسها الفرد لإحداث الاندماج والتفاعل مع الآخرين . وهذه السلوكيات التفاعلية كثيرة جداً ومتداخلة ، بل إنها في بعض الأحيان متماسكة بحيث لا ينفك بعضها عن بعض ، إلا أننا سنتناول كل سلوك منفرداً ليسهل توضيح وتحديد هذا المجال ، ولكي يكون المربي على علم جيد بجزئيات سلوكه – مهما صغرت – وأثرها في عملية التفاعل والاندماج مع المتربي.
وفيما يلي بيان هذه الأنواع السلوكية :
1 ) السلوك اللغوي :
ويتعلق بلغة الفرد وطريقة تخاطبه مع الآخرين ، وأساليبه في السؤال والجواب والحوار ، ونوع الكلمات المستخدمة . فالفرد كلما كان سليط اللسان ، أو كثير الكلام ، أو متكلفاً متفيهقاً ، أو فظاً غليظاً ، أو متعصباً متنطعاً ، أو مستخدماً للكلمات النابية والألفاظ القاسية كلَّما تدنى أو فقد تفاعله مع الآخرين.
قال تعالى : ( ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك ) [آل عمران: 159].
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم سباباً ولا فحّاشاً ولا لعاناً ، كان يقول لأحدنا عند المعتبة : " ما له تربت جبينه " [ البخاري : 6031 ] .
وكلما كان المرء لين الحديث ، بعيداً عن المراء ، غير جارح في حديثه وخطابه ، ينتقي الكلمات اللطيفة والأجوبة الرفيقة ، كلما كان متفاعلاً محبوباً مقبولاً لدى الآخرين .
2 ) سلوك السيما والهيئة :
ويتعلق بهيئة الفرد وملامح وجهه ، والطابع المميز لقسماته ، والسيما التي تغلب عليه عند ملاقاة الآخرين، والفرد إما أن يعرف بأريحيته وطلاقة وجهه وانبساط أساريره ، فيكسب الناس ويملك مشاعرهم ، وإما أن يكون مقطب الجبين ، عابس الوجه أو صلباً جامداً غير متفاعل في هيئته ، فيعرض عنه الناس ويجتنبوه ، أو يتعاملوا معه تعاملاً رسمياً وفق الحاجة ، أما التعامل التربوي المؤثر فلا بد فيه من مراعاة سلوك الهئية والسيما واعتبار ملامح الإنسان وقسمات وجهه عنصراً مهماً في التفاعل ، ورسالة لا غنى عنها للإذن بالاندماج أو عدمه .(115/1313)
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم ، ولكن يسعهم منكم بسط الوجه وحسن الخلق " [ أخرجه البزار بسند حسن ، وانظر ابن حجر ، فتح الباري : 10 / 474 ] .
وعن أبي ذر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "تبسُّمك في وجه أخيك صدقة" [ الترمذي : 2022 ] .
3 ) السلوك التعاملي العادي :
ويتعلق بطريقة الفرد المعتادة في التعامل ، وأسلوبه المتبع عند الاحتكاك بالآخرين من حيث الأمر والنهي ، والتوجيه والتكليف ، والنصح والتعليم ، ومن حيث مدى مراعاة اختلاف الأحوال والقدرات والإمكانات .
فالفرد إذا اعتاد أن يكون سهلاً ميسراً ورفيقاً شفيقاً ، وإذا لمح فيه الناس الميل إلى اليسر والسماحة ، وكان دائماً يختار الطريق الأرفق ، والبديل الأحسن ولو على حساب نفسه ، أحبه الناس وتقربوا إليه وتفاعلوا معه وشاركوه مشاعره ، بل ربما صار العدو ولياً حميماً بسبب هذا التعامل .
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك ، فقد اعتاد التيسير والسماحة ، وكان رفيقاً شفيقاً سهلاً ليناً حسن التعامل ، يرأف بالناس ويبتغي التيسير عليهم ، ويختار الأرفق بهم .
عن عائشة رضي الله عنها قالت: "ما خُيِّر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا أخذ أيسرهما ، ما لم يكن إثماً ، فإن كان إثماً كان أبعد الناس منه ، وما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه في شيء قط إلا أن تنتهك حرمة الله ، فينتقم بها لله" [ البخاري : 6126 ] .
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو لاتخاذ هذا الأسلوب والاعتياد عليه في دعوة الناس وتربيتهم ومعالجة قضاياهم، وفي توجيههم والتعامل معهم .
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم: " يسروا ولا تعسروا ، وسكنوا ولا تنفروا " [ البخاري : 6125 ] .
4 ) السلوك العلاجي :
وهو السلوك الذي تواجه به المشكلات المستجدة والمواقف المفاجئة ، ويتعلق بطبيعة معالجة المربي لما يحدثه الناس من أمور غير متوقعة ، ولما يتخذونه من مواقف أو يقومون به من أعمال تثير الغيظ وتوغر الصدر أو تحمل على التشفي وإيقاع العقاب ، ويدخل في هذا ما يقع فيه المبتدئون والصغار والجهال من مخالفة للعرف أو تساهل بالنظام أو عدم اكتراث بمقامات الناس .
والفرد كلما كان قادراً على مواجهة هذه المواقف والتعامل معها تعاملاً مناسباً من الناحتين النفسية والموضوعية كلما نجح في إقامة العلاقة وبناء الصداقة وتأليف الناس وكسبهم ومن ثم التأثير فيهم ، ومن ذلك القدرة على تقدير ظروفهم وإنزالهم منازلهم ، ومخاطبتهم على قدر عقولهم ، واعتبار مستوياتهم العمرية والثقافية والنفسية ، فليس المتربي الجديد كالقديم ، ولا المبتدئ كالمتمكن ، ولا الصغير كالكبير ، ولا الهادئ كالغضوب والجاهل كالعالم وهكذا .(115/1314)
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن أعرابياً بال في المسجد ، فثار إليه الناس ليقعوا به ، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : "دعوه وأهريقوا على بوله ذَنوباً من ماء – أو سجلاً من ماء – فإنما بُعثتم ميسرين ولم تُبعثوا معسرين" [البخاري: 6128].
5 ) السلوك التعاوني :
ويتعلق بطريقة المربي في التعامل مع احتياجات الآخرين المادية والصحية والنفسية والاجتماعية ، وبمدى إيجابيته في مجالات البذل والصلة والتفقد ، وبمدى مبادرته وكفاءته في أنشطة التكافل الاجتماعي ، فالفرد كلما كان عطوفاً متعاوناً بذولاً لماله وجاهه ووقته وجهده ، كلما مالت إليه قلوب الناس ، وأقبلت عليه وأحبته .
والمجال التعاوني يعد من أهم وأوضح المجالات السلوكية المرتبطة بدعوة الناس وتربيتهم ، والمؤثرة في تقبلهم وتفاعلهم مع المربي ، كثيرة هي الآيات القرآنية ، والأحاديث النبوية ، والنماذج، والسِّيَر التي تبين هذا وتحث عليه . كما أن رجال التربية وعلم النفس والاجتماع أشاروا إلى دور السلوك التكافلي في التربية .
ومن السلوكيات التعاونية التي عُني بها المنهج الإسلامي : الصدقة ، والهدية ، والمكافأة ، والقرض الحسن ، والشفاعة ، والزيارة ، وعيادة المريض ومواساة المصاب ، ونصرة المظلوم ، وقِرى الضيف ، وإجابة الدعوة ، والإيثار ، والسعي في حاجات الآخرين ، وحسن الجوار ، والنصيحة والمشورة ، والدعاء في ظهر الغيب ، وغير ذلك من أنواع البر والإحسان .
وشواهد وأدلة الأنشطة التعاونية في الإسلام كثيرة جداً ، يعقد لها العلماء فصولاً كبيرة في كتبهم تحت عنوان : الآداب أو الأخلاق أو البر والصلة أو الفضائل .
6 ) السلوك التكميلي ( الترفيه والدعابة والمزاح ) :
ويتعلق بكماليات السلوك وملطفاته ، حيث يُتخذ من أساليب الترفيه ، وأنواع الترويح ما يُخَفف به ثقل التربية وجفافها وقسوة البيئة العلمية والعملية وجديتها .
من ذلك الدعابة ، والممازحة بين الحين والحين ، والملاطفة والتورية في الحديث على سبيل الإلغاز ، والمعاتبة ، والتعليق دون جرح للمشاعر ، والملاعبة بما لا يذهب الهيبة ولا يغلب على المربي .
ولا بد من مراعاة الناس في هذا ومدى حاجتهم إليه ، فالحاجة إليه عند الحديث إلى الصغار أكثر من الكبار ، وإلى العامة أكثر من الخاصة ، وإلى المبتدئين أكثر من المتمكنين ، والكلّ يحتاج ذلك بقدر .
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قالوا : يا رسول الله : إنك تداعبنا ؟ قال : "إني لا أقول إلا حقاً" [الترمذي: 2058].
ـــــــــــــــــــ
الأمن النفسي
اللجنة التربوية
19 /3 /1424
ارسل تعليقك ...
لا توجد تعليقات ...
ارسل الصفحة ...(115/1315)
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
• اسم الكتاب : الأمن النفسي
• المؤلف : د . محمد موسى الشريف (?).
• الطبعة الثانية ( 1424 هـ )
• إصدار : دار الأندلس الخضراء – جدة : المملكة العربية السعودية .
كتاب الأمن النفسي هو الكتاب رقم ( 30 ) ضمن سلسلة معالم على طريق الصحوة ، التي تصدرها الدار .
بدأ المؤلف المقدمة ببيان أن الأحداث المحيطة بالأمة أحداث عظيمة ، والمتربصين بها كُثُر ، والتهديدات التي تتهددها متنوعة من حَدَب وصوب ، وهذا كله أمر يدعو للقلق والخوف واليأس والإحباط والوسوسة والتوهم ، لكن الله لم يكن ليترك عبيده يتخبطون في هذه الظلمات ، فقد ورد عن رسولنا صلى الله عليه وسلم جملة من المبشرات والمثبتات متفرقة في بطون كتب السنة والسيرة ، وقام المؤلف بجمعها ، مع مزجها بأحوال السلف .
وقد توصل المؤلف إلى ثمانية أركان تحقق الأمن النفسي ، وترسخ الثقة بنصر الله .
وإليكم عرض مختصر لتلك الأركان التي أسماها المؤلف ( مقومات الأمن النفسي ) .
الأمن النفسي وأهميته
المراد بالأمن النفسي :
هو أن تكون النفس آمنة مطمئنة عند وقوع البلاء أو توقعه ، بحيث لا يظهر عليها قلق معيب أو جزع كثير ، ولا اضطراب في الأحوال ، أو ترك للأعمال ، أو التهويل من شأن المصائب ، أو التعظيم لمخططات الأعداء تعظيماً يفضي إلى اليأس والهوان ، والإحباط والانزواء .
أهمية الأمن النفسي :
تتمثل أهميته في الجوانب التالية :
1 ) الثبات .
2 ) البعد عن مرضي اليأس والإحباط .
3 ) إكتمال الشخصية الإسلامية .
4 ) الثقة الكاملة بمعية الله ونصره .
مقومات الأمن النفسي :
أولاً : الإيمان العميق :
الإيمان العميق بالله تبارك وتعالى ، ومعيته لعبيده المؤمنين ، وتثبيته لهم في الشدائد ، وإعانته إياهم في النوائب ، يكسب المؤمنين أماناً واطمئناناً عجيبين ، إذ شعورهم بأنهم موصولون بالقوة العظمى في الكون شعور رائع يملأ جوانحهم بالرضى والتسليم والطمأنينة .
هو أن تكون النفس آمنة مطمئنة عند وقوع البلاء أو توقعه ، بحيث لا يظهر عليها قلق معيب أو جزع كثير ، ولا اضطراب في الأحوال ، أو ترك للأعمال ، أو التهويل(115/1316)
من شأن المصائب ، أو التعظيم لمخططات الأعداء تعظيماً يفضي إلى اليأس والهوان ، والإحباط والانزواء .
وقد ذكر المؤلف شواهد وأدلة عديدة من القرآن والسنة على علاقة الإيمان بالأمن النفسي من قصص الأنبياء ، ومواقف من سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم .
ونذكر هنا مثالاً واحداً فقط من الشواهد مما ذكره المؤلف : فبنو إسرائيل لما لحقهم فرعون وجنوده ، وضاقت بهم الأرض ، وظنوا أنهم مأخوذون لا محالة ، كانت لدى موسى عليه السلام طمأنينة عجيبة مستولية عليه ، وثبات كبير : (فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ) [ الشعراء : 16 – 66 ] .
فقول موسى عليه السلام (إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ) علامة على الإيمان العميق بالله تعالى ، ودلالة على الطمأنينة والأمن النفسي اللذين إن تحققا للعبد فاز وسعد .
ثانياً : التوكل على الله :
والتوكل مهم جداً في باب الأمن النفسي ، لأن العبد إذا قدم كل ما يستطيع ، وبذل ما يقدر أن يبذله من أسباب ، فإنه لا يبقى له إلا أن يفزع إلى مولاه ، ويلقي بنفسه بين يديه ، ويطمئن إليه ، ويثق تمام الوثوق بأن الله تعالى حافظه ومانعه من أعدائه .
و من الأدلة على علاقة التوكل بالأمن النفسي قوله تعالى : (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) [ آل عمران : 173 – 175 ] . وقد قال ابن عباس – رضي الله عنهما – في بيان أهمية التوكل في تحقيق الأمن النفسي : " حسبنا الله ونعم الوكيل ، قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار ، وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قالوا (إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ... الآية ) .
ثالثاً : ذكر الله تعالى :
وقد ورد في كتاب الله ما يدل على ذلك ، فقد قال سبحانه : (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) [ الرعد : 28 ] .
وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديثه أثر الذكر في تحقيق الأمن النفسي في :
1 ) أذكار الصباح والمساء .
2 ) أحاديث مخصوصة في باب الذكر جالبة للأمن النفسي :
أ – دعاء الهم والكرب .
ب – الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم .
ج – قول : الله ، الله ربي ولا أشرك به شيئاً .
د – ذكر الخروج من المنزل .(115/1317)
هـ - الذكر المطلق .
وقد ذكر المؤلف الأدلة على ذلك ، ونذكر منها حديث أسماء بنت عُميس رضي الله عنها قالت : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ألا أعلمك كلمات تقولينهن عند الكرب – أو في الكرب – الله، الله ربي ولا أشرك به شيئاً". [أخرجه أبو داود في سننه ، وانظر عون المعبود : 4/386].
رابعاً : الدعاء :
والمطلوب أن يتعلق المؤمن بالدعاء في أحوال الرخاء حتى يستجيب الله له في الشدائد ، فقد قال صلى الله عليه وسلم : "من سره أن يُستجاب له عند الكرب والشدائد فليكثر الدعاء في الرخاء". [أخرجه الحاكم وقال : صحيح الإسناد ، وأقره الذهبي : 1 / 729 ] .
وقد ذكر المؤلف جملة من الأدلة القرآنية والنبوية على أنواع من الأدعية تحقق الأمن النفسي ، مثل : لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين ، فعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " دعوة ذي النون إذ دعا وهو في بطن الحوت : لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين ، إنه لم يدع بها مسلم في شيء قط إلا استجاب الله له بها " ، وفي زيادة : فقال رجل : يا رسول الله صلى الله عليه وسلم : هل كانت ليونس خاصة أم للمؤمنين عامة ؟ فقال صلى الله عليه وسلم : " ألا تسمع إلى قول الله تعالى : (وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ)" . [ أخرجه الحاكم وقال صحيح ، ووافقه الذهبي : 1 / 684 – 685 ] .
كما ذكر المؤلف ست قصص جميلة مروية عن السلف في أثر الدعاء في جلب الأمن النفسي والتخلص من الشدائد ، يحسن الرجوع إليها في الكتاب .
خامساً : معرفة شأن القضاء والقدر :
هناك بعض القواعد في قضية القضاء والقدر مفيدة جداً في تحقيق الأمن النفسي ، وهي :
1 ) مقادير الخلائق فُرغ منها .
2 ) ما نزل بالعبد من بلاء لم يكن ليتجنبه ، وما هُدد به من مخاوف وبلاء لا يصيبه منه إلا ما قدره الله عليه .
3 ) كل قضاء الله تعالى وقدره خير وإنما الشر بالنسبة للعبد .
4 ) القضاء والقدر قائمان على حقيقتين عظيمتين وهما : العدل الكامل والعلم الشامل .
وقد ذكر المؤلف الأدلة على تلك القواعد ، وبين أثرها في تحقيق الأمن النفسي .
سادساً : معرفة شأن الابتلاء :
المؤمنون معرضون للابتلاء ، وذلك سنة من سنن الله تعالى .
قال سلطان العلماء العز بن عبدالسلام : فحال الشدة والبلوى مقبلة بالعبد إلى الله تعالى ، وحال العافية والنعماء صارفة للعبد عن الله تعالى .
والمطلوب أن يتعلق المؤمن بالدعاء في أحوال الرخاء حتى يستجيب الله له في الشدائد ،(115/1318)
وقال الغزالي : إذا رأيت الله تعالى يحبس عنك الدنيا ، ويكثر عليك الشدائد والبلوى ، فاعلم أنك عزيز عنده ، وأنك عنده بمكان ، وأنه يسلك بك طريق أوليائه وأصفيائه ، وأنه يراك ... أما تسمع إلى قوله تعالى : (وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا) [الطور : 48] ، بل اعرف منته عليك فيما يحفظ عليك من صلاتك وصلاحك ، ويكثر من أجورك وثوابك ، وينزلك منازل الأبرار والأخيار والأعزة عنده .
وقال الأستاذ عبدالله علوان : إن الذين يتصدون للدعوة ، ويسيرون في طريق الإصلاح والتغيير والهداية لابد أن يتعرضوا للمحنة ، ولا بد أن يواجهوا بأس الحياة وضرَّاءها ويخطىء من يظن أن طريق الدعوة دائماً محفوف بالورود والرياحين ، ومفروش بالزينات والسجاجيد ، ومغتص بالمودعين والمستقبلين ، بل على الداعية أن يعلم أن الطريق قد تكون مفروشة بالصخور الكبيرة العاتية ، والأشواك اليابسة المؤذية ، والأشقياء العتاة المجرمين ، فإن لم يكن معتاداً على الثبات والاحتمال ، متروضاً على الصبر والمصابرة ، فإنه ينهزم في أول لحظات المحنة ، ويتقهقر في أول لمحات البلاء ، ويقعد مع القاعدين اليائسين المثبطين .
وقال سيد قطب : إنها سنة الله القديمة في تمحيص المؤمنين وإعدادهم ليدخلوا الجنة وليكونوا لها أهلاً : أن يدافع أصحاب العقيدة عن عقيدتهم ، وأن يلقوا في سبيلها العنت والألم والشدة والضر ، وأن يتراوحوا بين النصر والهزيمة ، حتى إذا ثبتوا على عقيدتهم لم تزعزعهم شدة ولم ترهبهم قوة ، ولم يهنوا تحت مطارق المحنة والفتنة .
سابعاً : الصبر على المصائب والمكروهات :
فالصبر يحقق الأمن النفسي كما قال تعالى : ( وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) [البقرة : 155 – 157] .
والصبر طريق النصر كما وعد الله تعالى بقوله : ( وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا) [السجدة: 24] .
والصبر يهون من كيد الكافرين ، كما قال تعالى : (وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) [ آل عمران : 120 ] .
وجعل الله الصبر أحد شروط النصر الخمسة ، كما قال تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) [الأنفال : 45 – 46 ] .
ثامناً : الاطلاع على المبشرات المثبتات :
وهي كثيرة ، فأما الأدلة عليها في القرآن ، فمنها :
1 ) قوله تعالى : (إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ) [ محمد : 7 ] ، فنرى اليوم جماعات وهيئات ودولاً وأفراداً ينصرون الله بما يستطيعون ، ودائرة النصر في اتساع ، وهي تكسب مواقع جديدة في جوانب السياسة والإعلام والاقتصاد والتعليم .
2 ) قوله تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ(115/1319)
مَعَ الصَّابِرِينَ) [ الأنفال : 45 – 46 ] ، فنحن نرى اليوم جماعات كثيرة من المجاهدين تنطبق عليها هذه الأوصاف في فلسطين والشيشان وكشمير .
ثم ذكر المؤلف أدلة أخرى من القرآن الكريم .
وأما الأحاديث النبوية فهي – أيضاً كثيرة ، منها :
عن أبي قبيل قال : كنا عند عبدالله بن عمرو فسئل : أي المدينتين تُفتح أولاً : القسطنطينية أو رومية ؟ قال : فدعا عبدالله بصندوق له حَلَق فأخرج منه كتاباً ، فقال عبدالله : بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم نكتب إذ سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم : أي المدينتين تُفتح أولاً : القسطنطينية أو رومية ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مدينة هرقل أولاً ، يعني القسطنطينية " . [ أخرجه أحمد ، ورجاله ثقات ، وانظر مجمع الزوائد : 6 / 222 ] .
ثم ذكر المؤلف أدلة أخرى من السنة .
وأما الدراسة التاريخية التتبعيّة فتدل دلالة أوضح من الشمس في رابعة النهار أن الإسلام قادم بقوة ، ومن النقاط الدالة على ذلك :
أ – وعي المسلمين بالمؤامرات الدولية والمكائد التي تحاك ضدهم .
ب – السير الحثيث للتخلص من الربا والمعاملات غير الإسلامية في كثير من الدول الإسلامية ، وإنشاء المؤسسات المالية الإسلامية التي تقارب المائتي مصرف وشركة إسلامية .
ج – التزام كثير من أفراد الجيوش العربية والإسلامية بالإسلام ضباطاً وجنوداً .
د – التزام النساء بالإسلام .
هـ - انتشار الثقافة الإسلامية الصحيحة الواعية والكتب الكثيرة التي تتحدث عن عظمة الإسلام ، وانتشار المفاهيم الإسلامية الصحيحة .
و – انتشار الإعلام الإسلامي انتشاراً عجيباً .
ز – بزوغ الصحوة الإسلامية في العقد الأخير من القرن الرابع عشر الهجري .
ح – الرغبة العارمة لدى ملايين الشباب والشابات في عمل شيء لرفع الذل عن الأمة ورفعها إلى سدة السيادة العالمية من جديد .
وختم المؤلف كتابه الرائع ، الصغير في حجمه ، الكبير في محتواه بهذه الوصية : إخواني ، لا يفت في عضد أعداء الإسلام شيء أكثر من تفاؤلكم بالنصر ثم العمل على تحقيقه ، ولا يفرحهم شيء قدر فرحهم إذا يئستم وأعرضتم وتوليتم ، فالله الله ، فهذه أيام من أيام الله تعالى شديدة ، العامل فيها ليس كالعامل في أيام الرخاء ، فأروا الله تعالى من أنفسكم نصرة وحماساً وعملاً صالحاً مبروراً ، عسى الله أن يمن علينا بأن يقر أعيننا بنصر الإسلام وأهله ، إنه ولي ذلك والقادر عليه .
جعل الله الصبر أحد شروط النصر الخمسة
------------------------------------------------
(?) هو محمد بن حسن بن عقيل بن موسى الشريف ، من مواليد جدة عام ( 1381 هـ ) وأسرته من المدينة المنورة ، ويتصل نسبه إلى بيت النبي صلى الله عليه وسلم ، حصل على الدكتوراه عام ( 1417 هـ ) في الكتاب والسنة من جامعة أم القرى ، عضو في العديد من اللجان الدعوية ، وله دروس في المساجد ، وله كتب عديدة ،(115/1320)
ومن كتبه التربوية : التنازع والتوازن في حياة المسلم ، والهمة طريق القمة ، والثبات ، وعجز الثقات ، والتدريب وأهميته في العمل الإسلامي ، والعاطفة الإيمانية وأثرها في العمل الإسلامي ، والعبادات القلبية وأثرها في حياة المؤمنين ، والقدوات الكبار بين التحطيم والانبهار .
ـــــــــــــــــــ
الجدية في تربية الأبناء
أم أسامة الفدّا
24 / 4 /1424
ارسل تعليقك ...
لا توجد تعليقات ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
إن من الواجب اللازم على أولياء الأمور اتخاذ أسلوب الجدية في تربية الأبناء لكي ينشأ جيل قوي متحمل للمسئولية ولديه إحساس بواجبه نحو إخوانه المسلمين في الداخل والخارج من أمر بمعروف ونهي عن منكر وتقديم يد العون لهم بالمساعداة الحسية والمعنوية إما بالمال أو الجهد في تبليغ هذا الدين والحرص كل الحرص في تنمية الشعور لدى أبنائنا أنهم جزء من الأمة الإسلامية وعضو منها ويلزمهم واجبات اتجاه هذه الأمة لكي تنهض وتستعد لمواجهة الأعداء الذين يتربصون بنا فإن أبناءنا هم عماد الأمة والطاقة الشابة التي نرجو أن تكون همهم عالية في السعي لردع أعدائنا وحماية ديننا والنهوض بأمتنا وأني جعل الله على أيديهم لنصرة هذا الدين وإعلاء كملة الله.
ولكن الذي نراه في هذا الوقت هو التساهل والتهاون من المربين في توجيه الأبناء الوجهة السليمة وإحياء الشعور لديهم بواجبهم ليكون بهم عز الإسلام ورفعة شأنه. فلا نجد من الأولياء إلا محاولة إشباع رغبات أبنائهم من الأكل والشرب والملبس وغير ذلك من الحاجات الدنيوية والمبالغة في صرف الأموال لتوفيرها. ولا نقول إن ذلك محرم ولكن المبالغة فيه تخرج جيلاً لا يحس ولا يهتم بنفسه وتلبية رغباتها فيصير عبداً لشهواته لا يشعر بمسئولية ولا بواجب اتجاه إخوانه.
نحن بحاجة إلى أن ننشىء جيلاً قوياً متحملاً للمسئولية ولديه إحساس بواجبه نحو إخوانه المسلمين في الداخل والخارج من أمر بمعروف ونهي عن منكر وتقديم يد العون لهم بالمساعداة الحسية والمعنوية إما بالمال أو الجهد في تبليغ هذا الدين وإنما يكون هذا بالجدية في التربية
والجدية في التربية تشمل الأبناء والبنات كل حسب ما جبل عليه فالأبناء هم القوة الصامدة لمواجهة الأعداء وهم العتاد الذي تعتمد عليه الأمة بعد اعتمادها على الله تعالى فيجب تربيتهم على القيام بحقوق الله تعالى عليهم وعدم التهاون فيها وأول ذلك الصلاة التي هي عماد الدين وجعلها أكبر همهم والحرص على أدائها على أكلم وجه من الصغر وتعظيم شأنها في نفوسهم وما يليها من شعائر هذا الدين من زكاة وصيام(115/1321)
وحج وجميع التكاليف الدينية والبنات هن مربياتٍ ومحاضن للأجيال القادمة وهن عماد الأسرة المسلمة فالواجب تربية الشعور لديهن بأهمية موقعهن في الحياة ومسئولتيهن في قيادة المجتمع وحمايته من الفساد ويحرصهن على الستر والعفاف وعدم الاهتمام بتوافه الأمور والاهتمام بالحياة الأسرية والشعور بتحمل المسئولية.
وهذا يبدأ منذ الصغر حيث ننمي هذا الجانب في حياة الطفل على حسب عمره حتى تُخرج نساءً ورجالاً أقوياء يتحملون المسئولية ويكونون صرحاً شامخاً صامداً أمام أعداء الدين.
ـــــــــــــــــــ
معلم في تربية النفس
مشرف النافذة
28/4/1424
ارسل تعليقك ...
لا توجد تعليقات ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
اسم الكتاب: معلم في تربية النفس.
المؤلف: عبد اللطيف بن محمد الحسن.
الطبعة: الأولى، 1421هـ.
إصدار المنتدى الإسلامي – الرياض، ضمن سلسلة "كتاب المنتدى".
النصوص من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم هدايات ربانية وتوجيهات تربوية ومعالم في طريق الإنسان إلى الفلاح والنجاح والرفعة والمكانة العالية في الدنيا والآخرة وما ذاك إلا لأنها من الله رب العالمين هو خلق الناس وهو مربيهم وهو سبحانه أعلم بما يصلحهم وينفعهم.
وفي هذا الكتاب الشيق نقف مع المؤلف ليتحفنا بمعلم من معالم تربية النفس ومع نص من النصوص التربوية، وقفة مع حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم – إمام المربين وسيد الأولين والآخرين -: "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه" وهذا الكتاب كما قال المؤلف أشبه بدراسة موضوعية تربوية لموضوع "ما لا يعني" من حيث معناه وضابطه ومداخله وأمثلته وغير ذلك.
في هذا الكتاب الشيق نقف مع المؤلف ليتحفنا بمعلم من معالم تربية النفس ومع نص من النصوص التربوية، وقفة مع حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم – إمام المربين وسيد الأولين والآخرين -: "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه" وهذا الكتاب كما قال المؤلف أشبه بدراسة موضوعية تربوية لموضوع "ما لا يعني" من حيث معناه وضابطه ومداخله وأمثلته وغير ذلك.
ذكر المؤلف بداية أهمية هذا الحديث وأنه مشتمل على معان عظيمة لا غنى للمسلم عن فهمها وامتثالها وهو من جوامع كمله صلى الله عليه وسلم وقد أفصح أهل العلم(115/1322)
عن أهمية هذا الحديث ومنزلته نظرياً وعملياً فقد تعددت عبارات الأئمة في بيان منزلته من الدين وأنه من أصول الأحاديث كقول الشافعي:
وعمدة الخير عندنا كلمات ... ... أربع قالهن خير البرية
اتق الشبهات وازهد ودع ما ... ... ليس يعنيك واعملن بنية
وذكر ابن القيم – رحمه الله – أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع الورع كله في هذا الحديث وقال ابن رجب – رحمه الله – عن الحديث "أصل عظيم من أصول الأدب" وأهل العلم جعلوا هذا الحديث أصلاً مرجعياً يعرف به ما يسوغ وما لا يسوغ من الأقوال والأعمال وعمموا مدلوله في سائر المجالات العلمية والعملية.
ثم تحدث المؤلف عن حسن الإسلام معناه وفضائله وبيّن أن المراد بحسن الإسلام في هذا الحديث هو كمال الالتزام بالإسلام والترقي في مراتب الدين حتى بلوغ مرتبة الإحسان وذكر المؤلف أن لمن حسن إسلامه فضل ومزية على غيره ومن ذلك:
- محبة الله عز وجل، قال تعالى: (وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (البقرة: من الآية195).
- زيادة مضاعفة الحسنات كما ورد بذلك الحديث.
- تبديل السيئات حسنات كما في آية الفرقان.
- بشرى للمحسنين في قوله عز وجل: (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ) (يونس: من الآية26).
وفي معرفة الفضائل السابقة حافز للسعي نحو مرتبة الإحسان، والمسلمون منقسمون في الإسلام إلى قسمين: فمنهم المحسن في إسلامه ومنهم المسيء، وهذا الحديث يدل على أن ترك ما لا يعني المرء من حسن إسلامه فإذا ترك ما لا يعنيه وفعل ما يعنيه كله فقد كمل حسن إسلامه،، وترك ما لا يعني صفة الجادين المحسنين كما قال تعالى في وصف المؤمنين: (وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ) (المؤمنون:3)، وقوله: (وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً) (الفرقان: من الآية72) فالمعرضون عن اللغو معرضون عن العبث واللهو والفضول والتكلف والتنطع وكلها يدخل في معانيها الانشغال بما لا يعني.
سأل المؤلف سؤالاً مهماً هو: أي شيء هو الذي لا يعنيك؟ فكان من إجابته أن بين أن قول الحبيب صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: "ما لا يعنيه" أي ما لا يهمه ولا يفيده في دينه ودنياه، والشيء الذي يعني المرء هو ما تتعلق عنايته به ويكون من مقصده ومطلوبه، والمرء ينبغي له أن يهتم أصلاً بما به نجاته وخلاصه وسعادته وهذا ما دعا إليه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "احرص على ما ينفعك" وما لا يعني جزءان:
الجزء الأول: أمور لا تعني الإنسان ولا تهمه في أصلها كشؤون الآخرين وخصوصياتهم في كيفيات معايشهم ووجهات ذهابهم وإيابهم ونحوها وكذا الانشغال بالقصص والوقائع والمشاهدات التي لا تتعلق بقصد صحيح، ومن ذلك تصنيف الناس وتقسيمهم فرقاً وأحزاباً وطوائف وجماعات والاهتمام بالحكم عليهم حكماً واحداً لا يقبل التفصيل مع ما يصاحبه من غيبة وتنقص وتتبع للعورات واتهام للبنات وهذا خلاف منهج سلف الأمة. ومما لا ينبغي السؤال عنه من أحوال الناس عباداتهم(115/1323)
التي يسرون بها بينهم وبين خالقهم لأنه يعرض المسؤول إما للرياء أو الكذب أو للاستحقار ونحوه وكذا السؤال عن معاصيهم وما يستحيون من ذكره، ومما لا يعني أيضاً السؤال عن أحوال الناس الحسنة التي لا يحبون إظهارها خشية الحسد مثلاً كنبوغ أولادهم وذكائهم.
الجزء الثاني: يقع في حاجات تهم الإنسان في أصلها كشؤون المعايش من الطعام والنكاح والكلام والخلطة والنظر ونحوها وما لا يعني فيها: هو الزيادة فيها على قدر الحاجة وهو ما يعرف بـ"فضول المباحات" ثم ذكر المؤلف أمثلة لهذا النوع يحسن الرجوع إليها وقد ساق المؤلف هنا كلام ابن القيم رحمه الله تعالى في مدارج السالكين حين قال: "وقد جمع النبي صلى الله عليه وسلم الورع كله في كلمة واحدة فقال: "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه" فهذا يعم الترك مما لا يعنى من: الكلام والنظر والاستماع والبطش والمشي والفكر وسائر الحركات الظاهرة والباطنة فهذه الكلمة كافية شافية في الورع".
أوضح المؤلف الضابط في معرفة ما يعني وما لا يعني وأنه الشرع المطهر وليس الهوى وطلب النفس، واليوم يفهم كثير من الناس أن المراد بما لا يعني شؤون الغير على الإطلاق، وهو خلط في المفاهيم فإن من شؤون الغير ما يعني الإنسان مباشرة ومن ذلك:
- ما كان من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك.
- شؤون المسلمين وقضاياهم في أي صقع كانوا فإن "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً" وقد فصّل المؤلف في هذين الجانبين فليراجع.
وهكذا نرى أن الانحراف في فهم الحديث والخلل في معرفة ضابط ما يعني وما لا يعني سبَّب إفراطاً وتفريطاً ومشكلات ومفاسد عظيمة، وحول تحديد ما يعني مما لا يعني بين المؤلف أنه يصعب القول بأن ما يعنى الإنسان هو الضروريات فقط، لأن الشريعة جاءت برعاية مصالح العباد كلها ومصالح العباد تشمل الضروريات والحاجيات والتحسينات، فأما الضروريات فهي ما لا تقوم حياة الناس إلا به من إقامة الدين والنفس والنسل والمال والعقل والعرض وحفظها مما يفسدها، وأما الحاجيات فهي ما يحصل بها التوسعة والتيسير ورفع الحرج والرفق، وأما التحسينات فراجعة إلى العمل بمكارم الأخلاق وما يحسن في مجاري العادات فهذه كلها مما يعني الإنسان ويهمه، ولذا فيمكن القول في ضابط ذلك بأن الذي لا يعنيه: كل ما لا تعود عليه منفعة لدينه ولا لآخرته والذي يعنيه ما يخاف فيه فوات الأجرن والأخذ بالمباحات – دون مغالاة وهو مما يهم العبد في دينه ودنياه، والمؤمن يرى في المباحات ترويحاً عن نفسه وتنشيطاً لها على الخير.
ومن مسائل العلم ما لا يعني!! حول هذا الموضوع بين المؤلف أنه من المتقرر أن على كل عبد معرفة ما يعنيه، فعموم أفراد الأمة يعنيهم من العلم العيني ما يعرف به ربه عز وجل ويقيم به أركان دينه التي لا يعذر بالجهل بها، والأمة في مجموعها يعنيها من العلم الكفائي ما تقيم به شريعة الله وكل ما من شأنه عمارة الأرض، إذا تقرر ما يعني الناس من العلم عُرف أن هناك أموراً لا تعني ولا تفيد في دراستها في(115/1324)
شيء ولا تعدو أن تكون ضرباً من إضاعة الوقت والاشتغال عن المهم فهي من العلم الذي لا ينفع وقد استعاذ النبي صلى الله عليه وسلم منه، وتتفاوت درجات ما لا يعني ما بين محرم ومكروه ومتفاوت بينهما، فمن المحرم: القول على الله بلا علم ويدخل فيه الكلام في ذات الله – سبحانه – وكيفيات صفاته ومنه الاشتغال بالفلسفة وكثير من مسائل علم الكلام المحرم.
وذكر المؤلف مما لا ينبغي الاشتغال به من أمور العلم:
- الاشتغال ببحث ما أخفي علينا من أمور الآخرة كموعد قيام الساعة أو صفة الميزان.
- بعض ما أخفي علينا علمه – لعدم فائدته – كأسماء وأعداد وأوصاف أشياء ذكرت في القرآن كعدد أصحاب الكهف.
- تتبع الأغلوطات والغرائب والخوض في المتشابهات والمشكلات.
- الخوض في الفتن ونصب النفس حكماً بين المختلفين.
- المسائل الفرضية التي يستحيل أو يندر حدوثها في العادة.
ثم تحدث المؤلف عن حفظ الأبواب الأربعة وفصل عن كل واحد منها وساق كلام ابن القيم رحمه الله في الجواب الكافي "من حفظ هذه الأربعة أحرز دينه: اللحظات والخطرات واللفظات والخطوات، فينبغي أن يكون بواب نفسه على هذه الأبواب الأربعة يلازم الرباط على ثغورها، فمنها يدخل العدو فيجوس خلال الديار ويتبر ما علا تتبيراً..." وقد تحدث حول كل واحدٍ منها بكلام لطيف عن النظر وعن الخواطر والأفكار وعن اللسان وعن الحركات والخطوات فكان مما وضحه حول النظر أنه لا غنى للإنسان عن نظر يبصر به طريقه ويعرف به مكانه، لكن المتأمل في واقعنا يرى مدى التجاوز بهذه النعمة العظيمة إلا ما لا يعني، ومن النظر الذي لا يعني النظر للقراءة في غث الكتب والمجلات كالقصص الخيالية والبوليسية، وكالزوايا الفارغة من المحتوى المفيد كأخبار الرياضة والفن وأخبار الكلاب ونحوها، وإذا كان كذلك فإن النظر إلى المحرمات هو مما لا يعني من باب أولى، وخاصة النظر إلى العورات ومحارم الناس فإن ذلك أشد قبحاً عند من يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور. ولمتابعة حديث المؤلف عن باقي الأبواب فعليك الرجوع للكتاب.
الانشغال بما لا يعني ماذا يعني؟ إنه يدل في الدرجة الأولى على التفرغ من الانشغال بما يعني ويفيد، فهذا إنسان فارغ بطل لا في أمر دينه ولا في أمر دنياه، وهو يدل على جهل الإنسان بمصالحه وجهله بحقيقة نفسه وحقيقة الخلق والكون والحياة ولو تساءلنا لماذا الانشغال بما لا يعني؟ إنما هو لأسباب منها:
- جهل الإنسان بما يعنيه وغفلته عن هويته ورسالته في الحياة.
- صحبة البطالين وهم من ليسوا في شغل نافع من أمر دينهم أو دنياهم.
- المناهج التربوية والمنابر الإعلامية والثقافية التي حملت لواء الإشغال بما لا يعني.
- ورسالة هذه المناهج والمنابر فارغة المحتوى عقيمة الجدوى، وحين نعلم أنها هي المؤثر الأقوى في عقول الناشئة وسائر الناس ندرك حجم القضية وعمق المشكلة.
- الانشغال بما يظن أنه يعني وليس كذلك نحو الانشغال بالكلام الذي لا ينفع وكثرة الشكوى من الواقع وغيرها.(115/1325)
- تزجية الأوقات وقضاء الفراغ الناتج عن ضعف فهم حقيقة العبودية وغاية الخلق، قال الغزالي: "رأس مال العبد: أوقاته ومهما صرفها إلى ما لا يعنيه، ولم يدخر بها ثواباً في الآخرة فقد ضيع رأس ماله".
وقد بيّن المؤلف أن للمسلم شغلاً شاغلاً عما لا يعنيه وهو القيام بما كلف به وعساه أن يقوم به "إن لقلب المؤمن ما يشغله عن اللغو واللهو والهذر.. له ما يشغله من ذكر الله وتصور جلاله وتدبر آياته في الأنفس والآفاق".
عبارات رائعة وكلمات قيمة نقلها المؤلف في كتابه منها قول شيخ الإسلام ابن تيمية: "فإذا خاض فيما لا يعنيه نقص من حسن إسلامه، فكان هذا عليه إذ ليس من شرط ما هو عليه أن يكون مستحقاً لعذاب جهنم وغضب الله، بل نقص قدره ودرجته عليه ولهذا قال تعالى: (لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ) (البقرة: من الآية286)، فما يعمل أحد إلا عليه أو له فإن كان مما أمر به كن له وإلا كان عليه ولو أنه ينقص قدره" وقال الحسن البصري: "من علامة إعراض الله عز وجل عن العبد: أن يجعل شغله فيما لا يعنيه" وسئل مظفر: ما خير أعطي العبد؟ قال: "فراغ القلب عما لا يعنيه ليتفرغ إلى ما لا يعنيه" وقال ذو النون: "من تكلف ما لا يعنيه ضيع ما يعنيه وقال أبو عبيدة: "من شغل نفسه بغير المهم أضر بالمهم" وقال سهل التستري: "من اشتغل بما لا يعنيه نال العدو منه حاجته في يقظته ومنامه".
وفي ختام هذا الكتاب الجميل ذكر المؤلف أن ترك ما لا يعني والاشتغال بما يعني ليس بالأمر اليسير وذكر ما يعين على ذلك:
1- الاستعانة بالله تعالى ودعاؤه والتضرع إليه ولا بد من ذلك للسالكين وقوله تعالى: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) (الفاتحة:5) يتلى في كل ركعة وها هو نبي الهدى صلى الله عليه وسلم يقول: "احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز".
2- استفراغ الوسع في معرفة ما يعني المرء – دون ما يعني غيره – والاجتهاد في أدائه قال شميط العنسي: "من لزم ما يعنيه أوشك أن يترك ما لا يعنيه".
3- دوام مجاهدة النفس فإن الذي يجاهد نفسه مثاب على مجاهدته وسيبلغ مقصوده بإذن الله.
4- محاسبة النفس على الدوام وتذكر الأعمال والنظر في مقدار ما يعنيه مما لا يعنيه من أعماله التي قام بها.
5- التربية الجادة لعموم الأمة رجالاً ونساءً، شيباً وشباناً، خاصة وعامة.
6- مصاحبة الأخيار الجادين المشتغلين بما يعنيهم، فإنه على قدر ضرر صحبة البطالين تكون ضرورة صحبة الجادين.
7- التناصح بين الإخوان بتنبيه بعضهم بعضاً عند تدخل أحدهم فيما لا يعنيه.
8- استحضار عظمة الله – عز وجل – ودوام مراقبته وتدبر أسمائه الحسنى وصفاته العلى، والخوف من غضبه والحياء منه عز وجل أن يطلع على قلب عبده أو عمله فيجده مشغولاً بغير ما خلقه له مهتماً بغير ما أراده منه.
9- الإقبال على كتاب الله الكريم تلاوة وحفظاً وتدبراً وعملاً وتحاكماً فذلك شغل شاغل للعبد وكفى بالقرآن شغلاً.(115/1326)
10- استلهام القدوة والأسوة من سيرة خير الورى محمد صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام – رضي الله عنهم – وأتباعهم والتابعين لهم بإحسان في هذا الأمر.
11- العناية بالمتربين والناشئة في مقتبل أعمارهم وأساس نشأتهم بتوجيههم علماً وعملاً إلى ما يهمهم.
12- تذكر الموت والحساب والجزاء واستشعار العبد أنه في مرحلة سيجزي بعدها بما عمل فيها.
من راقب الموت لم تكثر أمانيه ولم يكن طالباً ما ليس يعنيه
والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه أجمعين.
ـــــــــــــــــــ
القدوات الكبار بين التحطيم والانبهار
د. محمد موسى الشريف
29/6/1424
ارسل تعليقك ...
لا توجد تعليقات ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
اسم الكتاب: (القدوات الكبار بين التحطيم والانبهار).
المؤلف : د. محمد موسى الشريف.
الطبعة الأولى، 1423هـ.
إصدار : دار الأندلس الخضراء – جدة : المملكة العربية السعودية .
بدأ المؤلف كتابه بتمهيد حول القدوات وبيان أهمية القدوة في حياة الناس، فكان مما ذكر " أن الله – تبارك وتعالى – فطر الناس على مراتب ومواهب متنوعة، وأودع في بعضهم من القدرات والمزايا ما جعلهم بها قادة للآخرين وقدوات، فصنع الله _تعالى_ بهم أحداث الزمان، وجعل كلامهم وفعالهم من التأثير بمكان.
ولا ريب أن أعظم القدوات قاطبة هم الرسل العظام والأنبياء الكرام الذين نصبهم الله _تعالى_ قدوات للناس، وهداة لهم، فمهما صنعوا فالناس بهم مقتدون، ولهم متبعون ولآثارهم وأعمالهم مقتفون، وقد بيَّن الله _تعالى_ ذلك للناس أحسن البيان، فقال _جل من قائل_: "أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ" (الأنعام: من الآية90)، وخص الحبيب المصطفى والنبي المجتبى _صلى الله عليه وسلم_ بقوله _سبحانه_: "لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً" (الأحزاب:21)
ان الله – تبارك وتعالى – فطر الناس على مراتب ومواهب متنوعة، وأودع في بعضهم من القدرات والمزايا ما جعلهم بها قادة للآخرين وقدوات.
ولقد مَنَّ الله _تعالى_ على الأمة الإسلامية العظيمة الخيار الوسط بأعظم رسول _صلى الله عليه وسلم_ وقَفّى على أثره بجملة وافرة من القدوات العظام من الصحابة(115/1327)
الكرام والتابعين ومَن تبعهم إلى يوم الناس هذا لم يكن للأمم الأخرى عشر معشارهم ولا بعض أعمالهم وآثارهم، أنار الله _تعالى_ بهم الدنيا، وقشع بهم الظلام، وجعلهم قدوة لجميع الأنام.
هذا وإنه لم ينقطع سيل أولئك القدوات في تاريخ الأمة الإسلامية، نعم إنهم كانوا جملة وافرة عظيمة في القرون الثلاثة الأولى المفضلة، وذلك مصداقاً لقول نبينا الأعظم محمد _صلى الله عليه وسلم_: "خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم" لكن ذلك لا يمنع أن يكون سيلهم مستمراً وعطاؤهم متتابعاً منهمراً في القرون التي تلت تلك القرون الفاضلة إلى يوم الناس هذا، ولقد تركوا من الآثار، وعملوا من الأعمال ما خُلد في صفحات الدهر، وبقي على مرّ الزمان مضيئاً مهيباً.
والعجيب أن الأمم الأخرى يمجدون اليوم رجالاً ونساءً لا يستحقون هذا التمجيد الطويل؛ إذ يقيمون لهم التماثيل، ويصورون أحوالهم للأجيال تصويراً مبالغاً فيه، ويرتفعون بهم فوق ما ينبغي لهم؛ فهذا نابليون رمز للفرنسيين وتاريخه تاريخهم، ولو نُظر للرجل بعين الإنصاف لعلم أن حاله لا يستحق كل هذه الهالة التعظيمية؛ فالرجل باختصار قاد بلاده للفوز في معارك وأخفق في أكثرها، وانتهى أمره إلى أن يموت منبوذاً منفيّاً، أما أخلاقه ومنهجه فيكفيه سوء صنيعه في مصر وفلسطين، وقتله آلاف الأسرى فيها، هذا ولم يعرف للرجل علم ولا فن اختص به، فكيف صار حاله كذلك؟!
لكن قومه يفتقدون القدوات الحقيقيين فصنعوا لأنفسهم وهماً وصدَّقوا هذا الوهم حتى صار يُدرَّس للأجيال، وللقوم إعلام قويّ يساعد على تأسيس مثل هذا الوهم وترسيخه في النفوس.
هذا وإنه يستبد بي العجب ويأخذ مني كل مأخذ عندما أقارن مَن عندنا من القدوات الذين يعدُّون بالآلاف وبين ذلك الرجل الذي تعرفه الدنيا كلها وتجهل حال قدواتنا؛ الذين لو كان للدنيا كلها شيء من فضائلهم لملؤوا وسائل الإعلام وسائل الإعلام ضجيجاً، ونشروها بكل ما يمكنهم، أما نحن فالأجيال عندنا تجهل حال قدواتها جهلاً شنيعاً، والتقصير ظاهر من قِبَلنا في إظهار قدواتنا وتعريف أبنائنا وبناتنا بهم ثم تعريف العالم كله بأحوالهم " .
أهمية القدوة في حياة الناس:
ذكر المؤلف جملة من جوانب أهمية القدوة نذكرها ونقف مع بعضها
1- حسن الاقتداء.
2- بث العزة في النفوس: إن تبيين عظمة القدوات يبث العزة في نفوس الأجيال، ويوضح للعالم أجمع أنا نرتكز على موروثات رائعة فريدة نادرة لم ولن تتكرر في أمة من أمم الأرض، وذلك يورثنا الاحترام والتقدير، والأمر المهم في هذا هو أن مَن عرف أن له ماضياً عظيماً ورجالاً عظماء فإنه يُرجى له أن يعود إلى المجد والسيادة من جديد.
والعجيب أنه في الوقت الذي تبحث فيه الأمم عند قدوات ليتبعوها، وعظماء ليظهروهم فلا تكاد أمم كثيرة تجد منهم أحداً، نعمد نحن إلى عظمائنا فنهدمهم وإلى قدواتنا فنحطمهم بأعذار واهية غير مقبولة.
3- ضرب المثل للأجيال.(115/1328)
4- إحسان العمل: إن المطلع على سير عظماء المسلمين في جوانب شتى من العظمة فستلحقه رغبة جامحة في الاقتداء وإحسان العمل؛ فمَن سمع بحسن صلاة السلف وطويل قنوتهم فيها وجميل خشوعهم فسيعمل على إحسان صلاته التي تكتنفها عيوب جمّة.
5- الدلالة على مكامن العظمة من هذا الدين وإمكان تطبيقه مرة أخرى.
6- الإعجاب المؤدي للاتباع.
7- النيابة عن الدول والمؤسسات الرسمية في الدعوة إلى الله _تعالى_.
حال الناس مع القدوات
وبعد هذا التمهيد قرر المؤلف إن الناس قد انقسموا حيال قدواتهم إلى أقسام، وهي :
1- قسم انبهر بهم انبهاراً أقعده عن الأخذ بفوائد الجوانب الإيجابية في حال أولئك العظام.
2- وقسم نذر نفسه لهدم هذه القدوات وتحطيمها بأسباب بعضها أعجب من بعض.
3- وقسم ثالث توسّط فاستفاد من الإيجابيات الجمّة، ونأى بنفسه عن مواطن الخطأ القليلة وغير المقصودة.
الانبهار بالقدوات
ثم انتقل المؤلف إلى المبحث الأول في كتابه، وهو: الانبهار بالقدوات، فقال: " ليس الانبهار أمراً سيئاً، ولا شيئاً مرذولاً، بل هو أمر يكاد يكون ضرورياً لاتباع أولئك القدوات والتأسي بهم، لكني أقول: إن المحذور هو الانبهار المؤدي إلى القعود عن اللحاق بالقدوات والتسليم المطلق بعدم إمكان عمل شيء مقارب لعملهم ولا جزء منه، وهنا ينقلب الانبهار إلى سلبية كبرى ومرض عُضال " ،
وهذه نماذج لبعض الأخبار التي أوردها المؤلف عن بعض القدوات العظام التي قد تؤدي إلى الانبهار السلبي بهم:
"كان سهيل بعدُ كثير الصلاة والصوم والصدقة، خرج بجماعته إلى الشام مجاهداً، ويقال: إنه صام وتهجد حتى شهب لونه وتغيَّر، وكان كثير البكاء إذا سمع القرآن".
"كان صفوان بن سُليم يصلي في الشتاء في السطح، وفي الصيف في بطن البيت، يتيقظ بالحر والبرد حتى يصبح ثم يقول: هذا الجهد من صفوان وأنت أعلم، وإنه لترمَ رجلاه حتى يعود كالسِّقط من قيام الليل، ويظهر فيه عروق خضر".
قال الإمام السبكي _رحمه الله تعالى_:
"فإذا كان الرجل ثقة، مشهوداً له بالإيمان والاستقامة فلا ينبغي أن يُحمل كلامه وألفاظ كتاباته على غير ما تُعوِّد منه ومن أمثاله، بل ينبغي التأويل الصالح، وحسن الظن الواجب به وبأمثاله".
وهذا ابن أبي ذئب كان يصلي الليل أجمع ويجتهد في العبادة، ولو قيل له: إن القيامة تقوم غداً ما كان فيه مزيد من الاجتهاد.
الواجب إزاء هذه الأخبار ومثيلاتها
ثم بين المؤلف الواجب إزاء هذه الأخبار ومثيلاتها وأنه ينبغي أن يلاحظ الآتي:
أولاً: إن سردها في كتب السير له أعظم الأثر في حث الناس على طرق أبواب الخير والتنافس فيها، وهذا مقصود مهم من إيرادها ولا شك.(115/1329)
ثانياً: ينبغي على المرء العاقل ألاّ يسارع بالرد والتكذيب لمثل هذه الأخبار؛ إذ إن كثرة ورودها وتعدد طرقها وتنوع الأفعال الصالحة فيها يدل على صحتها في الجملة.
ثالثاً: إن الذين وردت عنهم هذه الأخبار هم عدد قليل جداً بالنسبة لمجموع الصالحين والعاملين، فكأن الله _تعالى_ نصب أولئك العظماء ليكونوا علامات فارقة متميزة في دنيا الناس، فهم حتى بين السلف العظام قلة قليلة، فهذا سفيان الثوري، وهو مَن هو، يقول عن أحد أقرانه العظماء: عبد الله بن المبارك مقالة مهمة، وتلخص هذا الذي أردت بيانه، إذ يقول _رحمه الله تعالى_:
"إني لأشتهي من عمري كله أن أكون سنة مثل ابن المبارك فما أقدر أن أكون ولا ثلاثة أيام".
آثار الانبهار السلبي بالقدوات
ثم تحدث المؤلف – وفقه الله – عن آثار الانبهار السلبي، ومنها :
أولاً: الإحباط واليأس من الوصول إلى ما وصل إليه أولئك العظام أو شيء مما وصلوا إليه.
ثانياً: قتل الإبداع ، وهذا مرض يصيب بعض المنبهرين من أصحاب المواهب والطاقات والقدرات؛ إذ يظنون أنه ليس بالإمكان أن يأتوا بشيء بعد صنيع فلان وفلان، وأنه لم يترك أولئك لهم شيئاً يصنعونه، وهؤلاء يتصورون القدوات الكبار جبالاً مانعة لهم من التقدم، حاجزة إياهم عن الرؤية، ويسلمون تماماً بأنه ليس بالإمكان أبدع مما كان، وهذا مكمن الخطر.
ثالثاً: الغلو في تعظيمهم، وهذا ظاهر في عدد من أتباع أولئك القدوات، وأتباع أتباعهم إلى يوم الناس هذا، إذ قد صدرت بعض العبارات التي يُفهم منها غلو ظاهر في التعظيم لا يتماشى مع قواعد الشرع المطهّر، فمن أمثلة ذلك:
أ- قال يونس بن عبد الأعلى يصف الإمام الشافعي:
"لو جمعت أمة لوسعهم عقله" ولا ريب أن هذا غلو في الشافعي الإمام.
ب- وهذا غلو آخر فَجّ، حيث قال أحد الفضلاء:
"لَسَوْطٌ ضربه أحمد بن حنبل في الله أكبر من أيام بشر بن الحارث".
وهذا غلو غير مقبول، وقد قال الذهبي _رحمه الله تعالى_ ضابطاً هذه المسألة:
بشر عظيم القدر كأحمد، ولا ندري وزن الأعمال إنما الله يعلم ذلك.
تحطيم القدوات
ثم انتقل المؤلف إلى المبحث الثاني المقابل للمبحث الأول، فكان مما قال: " وهذا عنوان غريب عجيب؛ إذ كيف يمكن لأمة أو لأفراد منها يحسبون ضمن قافلة عقلائها أن يقوموا بهذا العمل العجيب، حيث إن القدوات للأمم أعظم كنوزها وثرواتها، وهم عنوان للأمة بهم تُعرف، وبآثارهم تشتهر، وعلى خطواتهم تسير، وبجهادهم وعملهم تستنير، لكن طائفة منا لم ترضَ بهذا ولم تقنع به فأخذت على عاتقها القيام بمهمة غريبة مريبة عجيبة إلا وهي تحطيم أولئك القدوات، وهدمهم، والعمل على تشويه تاريخهم، والحط من شأنهم، ووصمهم بتهم هم منها براء، ووصفهم بصفات النقص.(115/1330)
والعجيب أنه في الوقت الذي تبحث فيه الأمم عند قدوات ليتبعوها، وعظماء ليظهروهم فلا تكاد أمم كثيرة تجد منهم أحداً، نعمد نحن إلى عظمائنا فنهدمهم وإلى قدواتنا فنحطمهم بأعذار واهية غير مقبولة " .
الأسباب الباعثة على هذا التحطيم:
ثم ذكر المؤلف أسباب هذا الفعل وجعلها ظاهرة وخفيه، فأما الأسباب الظاهرة المغلفة بغلاف الشرع، فمنها :
1- تبيان الحق وإظهاره:
وهذه دعوى مجردة يعهد إليها كل مَن يريد تحطيم قدوة أو هدمه؛ إذ يتباكى على حال الناس، وضعف دينهم، ويظهر أن فلاناً وفلاناً ممن يهدم الشرع ويضعف سلطان الدين في النفوس، ويشيع مقالة السوء عمن يريد تحت هذا الادعاء.
2- بيان خطر أولئك على الناشئة:
وتحت هذه الدعوى المجردة من البرهان ومن التعقُّل يهدم من القدوات عدد كبير؛ ولو كان هذا الهادم صادقاً لانبرى لمصدر الخطر الحقيقي ليهدمه على رؤوس أصحابه من علمانيين وماسونيين وأرباب صنائع الفحش والفجور والفسق.
والعجيب أن بعض الناس المحطمين الهادمين يقسم بالله أن فلاناً وفلاناً أخطر على الأمة من اليهود والنصارى، وهذا المسكين قد أُتِيَ من قلة عقله، إذ لو عقل لما تفوّه بمثل ما تفوّه به.
وأما الأسباب الخفية التي قد تكون الأسباب الحقيقية الباعثة على هذا الصنيع، فمنها :
1- الحسد والحقد والغل:
وهو داء دفين، ومرض خفيّ، يسري في نفوس بعض الصالحين لما يرونه من إقبال الناس على غيرهم وانقطاعهم عنهم، وهو من أشد العوامل فتكاً في النفوس وأصعبها، وليس هو بأمر جديد، بل هو قديم قدم البشرية.
2- الاستهانة والتحقير:
إن من الأسباب القوية لتدمير القدوات وتحطيمها هو الاستهانة بهم وبمصنفاتهم ونتائجهم، وعده كلا شيء، وهذا ناتج عن الغرور العلمي، وإغماض العين عن الإيجابيات والفوائد، وشغفها بالسلبيات والنقائص.
ثم ذكر المؤلف صوراً من تحطيم القدوات والإقلال من شأنهم قديماً وحديثاً تبين بوضوح وجود هذه المشكلة و يحسن الرجوع إليها في الكتاب .
الموقف الصحيح من القدوات
ثم بعد الحديث عن هذين المسلكين الخاطئين في التعامل مع القدوات بين المؤلف الموقف الصحيح من القدوات نعرضه مختصراً بما يلي :
1- التعريف والإشادة بهم والاعتناء بتراثهم:
إن من الحقوق التي للقدوات على الأمة أن تُعرف الأجيال بهم، وأن يشاد بذكرهم، ويُعنى بتراثهم حصراً ونشراً؛ إذ هؤلاء هم تواريخ الأمة على الحقيقة، ووجهها الناصع، وسجلها المشرِّف، وأياديها البيضاء على العالمين، وهم أهل الثقافة والحضارة، والعلم والمعرفة، فمتى ما فرطنا في تعريف الناس بهم وإطلاعهم على مآثارهم ونتاجهم فإننا نُعد مفرّطين في حضارتنا وثقافتنا.(115/1331)
2- عدم قبول ذم كل شخص لهم:
إذ ينبغي التوقف والنظر، والحمل على أحسن المحامل، وأفضل المخارج، وذلك لأن مَن ثبتت ثقته بيقين فإنها لا تزول إلا بيقين، وهذه قاعدة معلومة معروفة، أما المسارعة إلى قبول الذم وترداده فإنه ليس من منهج العقلاء ولا الصالحين.
ثم ساق المؤلف كلاماً جميلاً للعلامة الشيخ عبد الرحمن بن سعدي _رحمه الله تعالى_ يقول فيه :
"من الغلط الفاحش الخطر قبول قول الناس بعضهم ببعض، ثم يبني عليه السامع حباً وبغضاً ومدحاً وذماً، فكم حصل بهذا الغلط أمور صار عاقبتها الندامة، وكم أشاع الناس عن الناس أموراً لا حقائق لها بالكلية، أو لها بعض الحقيقة فنميت بالكذب والزور، وخصوصاً مَن عُرفوا بعدم المبالاة بالنقل، أو عُرف منهم الهوى، فالواجب على العاقل التثبُّت والتحرُّز وعدم التسرُّع، وبهذا يُعرف دين العبد ورزانته وعقله".
3- الحذر من كلام الأقران بعضهم في بعض في باب الهدم والتشهير:
والأقران،هم: الجماعة المتماثلون أو المتقاربون سناً وقدراً، وكثيراً ما يحصل بينهم حسد أو غَيرة أو تنافس مذموم، فإن تكلم بعضهم في بعض بغير بيِّنة واضحة وبرهان فإن كلامه لا يقبل عند علماء الجرح والتعديل ?كما هو معلوم?.
4- حمل كلامه على أحسن المحامل:
إذ لو أن كلاماً احتمل الخطأ والصواب والزيغ والاستقامة، فما الداعي لأن يحمل على أسوأ المحامل؟ وقال الإمام السبكي _رحمه الله تعالى_:
"فإذا كان الرجل ثقة، مشهوداً له بالإيمان والاستقامة فلا ينبغي أن يُحمل كلامه وألفاظ كتاباته على غير ما تُعوِّد منه ومن أمثاله، بل ينبغي التأويل الصالح، وحسن الظن الواجب به وبأمثاله".
5- تقويم القدوة بجملة ما له من أعمال .
6- وجوب إجلال مَن جاز القنطرة وتجاوز ما أخطأ فيه:
وأعني بجواز القنطرة أن القدوة قد بلغ مبلغاً من الأعمال الصالحة والآثار الرائعة والعمل المتواصل للإسلام ما حصل به التوثيق له والطمأنينة به، فمَن كان كذلك ينبغي أن يُجَل ويُعَظَّم، وتُدفن بعض السيئات التي بدرت منه.
7- عدم اجتماع الناس على إجلال شخص منهم، إنما العبرة بالأكثر:
ينبغي ألا ننسى أبداً أنه لا يمكن أن تقف الأمة من القدوات موقفاً واحداً إلا ما ندر؛ فلا نجد قدوة اجتمع الناس عليه كلمة واحدة، لكن العبرة بحال الأكثر الأغلب فمَن أطبق أكثر الناس على الثناء عليه واعتبار حاله فهذا هو القدوة الذي ينبغي أن تُغمس سيئاته وسلبياته في بحر حسناته.
8- نقد الخطأ دون الحَطِّ والهدم:
وينبغي لمَن تصدّى لتقويم الناس وإقامتهم على الحق ووزن أعمالهم بميزان الشرع المطهر – ويا لعظم ما تصدّى له – أن يعتني كل الاعتناء بإحقاق الحق وبيانه ونصرته دون العناية بالحط على الناس، والتشهير بهم، والتشفي منهم، وإنقاص أقدارهم، ومحاولة صرف وجوه الناس عنهم.(115/1332)
وما أجمل أن يورد الناقد نقده مصاحَباً بالثناء على المنقود، وإظهار حسناته، وحسن بلائه، وجميل صنعه، وعظيم ما قدم للإسلام والمسلمين.
9- عدم قصر القدوات على زمان معين أو أشخاص معينين:
وهذه قضية مهمة؛ إذ يَعْمد بعض الناس إلى ألوان من التخصيص في حق القدوات زماناً ومكاناً وأسماء.
العناية بالقدوات الأحياء
ثم خص المؤلف الحديث عن القدوات الأحياء، فقال " مما ينبغي على الأمة أن تُعنى بهؤلاء وتكرمهم أحياء على الوجه المقترَح الآتي:
1- تعريف الأجيال المعاصرة بهم عن طريق وسائل الإعلام المختلفة.
2- فسح الطريق أمامهم لإلقاء ما يريدون إلقاءه على المجتمع.
3- العناية بنشر ما لهم من نتاج مقروء أو مسموع أو مرئي، وبيان فائدته وعظيم أهميته.
4- تكريمهم وهم أحياءفإنه أدعى إلى لفت الأنظار إليهم والعناية بشأنهم ونتاجهم .
وختم المؤلف كتابه الرائع ، الصغير في حجمه ، الكبير في محتواه بهذا الاقتراح : أن يكون هناك مجمع من العقلاء والصالحين والعلماء والمشايخ يكون من مهمته حماية القدوات من التحطيم والهدم ، ومعاقبة من يصنع ذلك بل منع الكلام فيهم وقطع دابر ذلك تماماً .
جزى الله المؤلف خير الجزاء، ونفعنا الله بما علمنا، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
ـــــــــــــــــــ
ضعف الوازع الديني لدى النساء: مسؤولية مَنْ؟
بقلم/رهام أديب الزعبي (*)
26/6/1424
ارسل تعليقك ...
لا توجد تعليقات ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الإنسان المسلم يقوم بتطبيق شرع الله ومنهجه على قدر إيمانه وعلمه وثقته بالله _سبحانه وتعالى_ فهناك صلة وثيقة بين ما يلتزم به المسلم في سلوكياته وأفعاله وبين درجة إيمانه، فكلما ازداد إيماناً وعلماً كان تطبيقه للشرع على قدر ذلك الإيمان وقوته، وكلما ضعف إيمانه وقلَّ علمه انعكس على التزامه فابتعد عن طريق الشرع وركن إلى نفسه وأهوائها، وذلك تصديقاً لقوله _تعالى_: "إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ" (فاطر: من الآية28).
"ولما كان الجهل بالشرع ومقاصده أحد الأسباب الكبيرة التي تؤدي إلى الفتن وغوائلها فإن الفقه في الدين وتجريد اتِّباع الرسول _صلى الله عليه وسلم_ هما(115/1333)
الواقيان _بإذن الله تعالى_ من شر الفتن قبل وقوعها، كما أنهما الدواءان والعلاجان للفتن بعد وقوعها؛ كل ذلك على افتراض الإخلاص ونبذ الهوى؛ لأن دور العلم هو كشف الشبهات وبيان الغي من الرشد والحق من الباطل".
فمن الحقائق المؤسفة التي أريد التحدث عنها هي حقيقة الضعف العام في الالتزام وعدم التفقه في الدين في المجتمع النسائي، فالمرأة تشكل نصف المجتمع ولكن تأثيرها ينعكس على المجتمع بكامله، أليست هي مربية الأجيال؟ فالأم مدرسة كما قال الشاعر:
الأم مدرسة إذا أعددتها ... ... أعددت شعباً طيب الأعراق
ولكي تساهم في بناء المجتمع الإسلامي القائم على الأسس الشرعية فلا بد من إعدادها إعداداً جيداً، وذلك من خلال تأصيل العلم الشرعي في نفسها وتطبيقه سلوكياً، ومن ثم تشجيعها للقيام بمهمة الدعوة لهذا الدين في مجتمعها؛ فالمرأة المسلمة مأمورة بالدعوة إلى الله ونشر الدين والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: "وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ" (التوبة: من الآية71).
إن الإنسان المسلم يقوم بتطبيق شرع الله ومنهجه على قدر إيمانه وعلمه وثقته بالله سبحانه وتعالى؛ فهناك صلة وثيقة بين ما يلتزم به المسلم في سلوكياته وأفعاله وبين درجة إيمانه
فكلما كان المجتمع النسائي المسلم ملتزماً راشداً ومستنيراً أعان على بناء المجتمع الإسلامي وزاده قوة وتماسكاً، ويصبح بذلك نسيجاً متكاملاً لا يمكن فصل أجزائه بعضها عن بعض.
إذن لا بد من تقييم لوضع المرأة المسلمة من قِبَل أصحاب الخبرة والمسؤولية في هذا المجال لوضع الحلول المناسبة لكل ما تعانيه من تقصير وتقهقر ولا مبالاة، وإن لم يتدارك هذا الأمر فسوف يؤدي إلى انحلال المجتمع بكاملة.
إن ما نشاهده اليوم في بعض المجتمعات العربية والإسلامية من انحلال خلقي ما هو – في كثير من جوانبه – إلا نتيجة لعدم التزام المرأة بالأحكام الشرعية كما أرادها الدين الإسلامي، وكل من ينكر هذه الحقيقة فإنه يخادع نفسه؛ فللمرأة دور كبير وتأثير شديد في ضبط أي مجتمع أو انحلاله وفساده، ألم يقل رسول الله _صلى الله عليه وسلم_: "ما تركت من بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء"؟.
فلا يمكن أن يستقيم المجتمع النسائي المسلم إلا من خلال تطبيقه للمنهج الإلهي؛ لأن تغييب ذلك المنهج عن حياته يعرضه للزلل والانسياق وراء أهواء النفس الأمارة بالسوء في كل زمان ومكان؛ فكلما ضعف الوازع الديني وانتشر الجهل بالشرع في أي مجتمع إسلامي أدى إلى خلل في العقائد والسلوك، ومن ثَمَّ تنتشر البدع والخرافات، وتجد لها تربة خصبة لنموها وترعرعها، وكم نرى من النساء اللواتي يعانين من ضعف في الوازع الديني يمارسن سلوكيات تمس عقيدتهن وإيمانهن وتوحيدهن لله _عز وجل_، فكم من النساء من تؤمن بالسحر والشعوذة والخرافات وتتفاعل معها كأنها حقائق مسلَّم بها؛ فمنهن من تطوف بالأضرحة وتطلب العون من أصحابها وكشف الضر عنها، ومنهن من تؤمن وتصدق ما تقوله قارئة الفنجان(115/1334)
وضاربة الودع، حيث تخبرها بأشياء لا يعلمها إلا الله – سبحانه وتعالى – عالم الغيب والشهادة، فتلقى وجه ربها وهي على هذا الشرك _والعياذ بالله_، وأما بالنسبة لأداء العبادات فحدث ولا حرج عن الأخطاء الكبيرة التي ترتكبها النساء.
ولنا أن نتساءل: من المسؤول عن هذا الوضع؟ إن المسؤولية متعددة الأطراف وأولها الأسرة؛ لأنها المحضن الأول للأبناء والمسؤولة عن توجهاتهم. يقول رسول الله _صلى الله عليه وسلم_: "كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو يمجسانه أو ينصرانه".
إن غرس العقيدة وتعميقها في نفوس الأبناء، وكذلك المفاهيم والقيم والسلوكيات الحسنة التي دعا إليها الإسلام تبدأ من الأسرة؛ فإن لم يقُم الأبوان بهذه المسؤولية الملقاة على عاتقهما على الوجه الأكمل فسيؤدي بالأبناء إلى الاعتقاد بكل ما في المجتمع من سلبيات، أو تستقطبهم بعض التيارات الدينية المخالفة لعقيدة أهل السنة والجماعة؛ وما أكثرها في زمننا هذا، وعلى سبيل المثال ظهور من يسمون بعبدة الشيطان في بعض البلاد العربية، وهذه حقائق لا يمكن لأحد إنكارها.
فعلى الأُسر أن تتقي الله وتلتزم بقوله _تعالى_: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ" (التحريم:6).
ثم يأتي دور الإعلام في المسؤولية، فإن للإعلام دوراً كبيراً في زمننا المعاصر، وله من الأهمية ما يجعله في المرتبة الثانية بعد الأسرة في تنشئة الأجيال وتربيتها.
إن وسائل الإعلام من تلفزيون وإذاعة وصحف ومجلات وأخيراً الإنترنت استطاعت أن تحدث تأثيراً كبيراً في تشكيل مضمون الفكر الإنساني وسلوكه، وذلك من خلال ما يتلقاه يومياً من تلك الوسائل المهمة والخطيرة، وهذا ما أدركه أعداء الإسلام وأذنابهم من أبناء جلدتنا؛ فهم يبذلون كل ما في وسعهم ولا يدخرون جهداً في التأثير على الرأي العام باتهام الشباب المسلم بالتطرف والإرهاب، والمرأة المسلمة بالتخلف والرجعية.
لم يصل المجتمع الإسلامي إلى ما وصل إليه من الانحلال والتفسخ إلا عندما تخلت المرأة عن دورها، ولم يستطع الغرب التأثير على المجتمع الإسلامي إلا من خلال تخاذل المرأة وتراجعها وعدم التزامها وتفقهها في الدين وانبهارها بزخرف الحياة ولهوها، وعدم السعي إلى صلاح نفسها.
وبدلاً من أن يقوم العاملون على الإعلام في بلاد المسلمين بتوجيه المرأة الوجهة النبيلة وإثرائها فكرياً وثقافياً ومساعدتها على تعلُّمها العلوم الشرعية من فقه وغيره، نراهم قد بذلوا جُلَّ وقتهم في السعي لتكوين رأي عام ضد القيم الإسلامية، والترويج للقيم والسلوكيات الغربية؛ فقد تم قصر دورها وحصره في الاهتمام بشكلها وشعرها وبشرتها وجسدها مما ساعد في إلهائها وتخلفها وإذاعة وقتها في أمور تبعدها عن أي تقدم أو تطور. هذا هو دور الإعلام الآن الذي أثَّر كثيراً في تراجع المرأة عن أداء دورها ومشاركتها في إعداد الأمة التي هي خير أمة أخرجت للناس تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر.(115/1335)
من المؤسف حقاً أن تجد من أبناء جلدتنا من يلوون الثوابت على حسب أهوائهم وأهواء أعداء هذا الدين؛ ينادون ويؤيدون كل ما جاء من الغرب دون وعي أو تفكير حتى لو أدى بهم ذلك إلى الكفر _والعياذ بالله_ "وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ" (البقرة:11، 12).
إن من أكبر المهمات التي يقوم بها هؤلاء هي تنفيذ خطط الغرب في إبعاد المرأة المسلمة عن دينها؛ لعلمهم أن للمرأة دوراً كبيراً في إصلاح المجتمع أو فساده.
لقد تداعت علينا الأمم من كل فج عميق تبث سمومها من خلال وسائل الإعلام؛ والحقيقة المرّة أنه ليس بمقدورنا كأفراد أن نمنع هذا الأمر؛ فالمسؤولية تقع أولاً على الحكومات بشكل عام، ووزراء الإعلام بشكل خاص، فهم مسؤولون أمام الله – سبحانه وتعالى – عن المساهمة في إصلاح مجتمعاتهم. يقول _صلى الله عليه وسلم_: "كلكم راع ومسؤول عن رعيته".
ومن خلال هذا الواقع الأليم أستطيع أن أقول: إن المسؤولية تضاعفت في عصرنا الراهن على الأسرة عامة والمرأة خاصة للمشاركة في مجابهة وسائل الإعلام للحفاظ على دينها وقيمها وعلى أبنائها، والحفاظ على هويتهم الإسلامية وبث روح الاعتزاز بأننا خير أمة أخرجت للناس.
فالمرأة المسلمة مطالبة بأن لا تكون المعول الذي يستخدمه أعداؤها لتقويض بناء المجتمع الإسلامي وتدميره.
إن الموقف السلبي للمرأة المسلمة في هذا الزمان وتقهقرها وتراجعها عن أداء دورها ساعد كثيراً في نجاح المخططات الغربية؛ ولها من جداتها المؤمنات العالمات خير قدوة في أن تحذو حذوهن في طلب العلم الشرعي ثم نشره بين النساء، وبذلك تتخلص من سلبيتها وتقهقرها وتراجعها.
لقد كان للمرأة دور كبير في عهد النبوة وما بعده في الدعوة إلى الله وتبليغ الأحكام الشرعية، وكم بذلت المرأة المسلمة من الجهد في إشاعة العلم ورواية الحديث الشريف وحفظه، وتعليم النساء الأحكام الشرعية التي تخصهن، وقد ذكر لنا التاريخ كثيراً من النساء المحدِّثات اللائي شاركن في نهضة الأمة العلمية ورقيها الخلقي؛ فهذه عالمة فاضلة فقيهة بالدين فاطمة بنت أحمد بن يحيى كانت تستنبط الأحكام الشرعية وتتباحث مع والدها في مسائل فقهية حتى شهد لها والدها مع علمه وفضله، فقال: إن فاطمة ترجع إلى نفسها في استنباط الأحكام، وكان زوجها يدخل عليها فيستفتيها فترشده إلى الصواب، ثم يخرج إلى تلاميذه فيشرح لهم ما أشكل عليه فيقولون: ليس هذا منك بل من خلف حجاب.
إن الموقف السلبي للمرأة المسلمة في هذا الزمان وتقهقرها وتراجعها عن أداء دورها ساعد كثيراً في نجاح المخططات الغربية؛ ولها من جداتها المؤمنات العالمات خير قدوة في أن تحذو حذوهن في طلب العلم الشرعي ثم نشره بين النساء؛ وبذلك تتخلص من سلبيتها وتقهقرها وتراجعها.
وهناك كريمة بنت همام، وهي من راويات الحديث الشريف، روت عن عائشة أم المؤمنين، وروى عنها يحيى بن كثير وعلي بن المبارك، وروى لها أبو داود والنسائي.(115/1336)
ومما يشير إلى دور المرأة العلمي ومكانتها في المجتمع الإسلامي أن نجد أن شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – على ما كان يتميز به من العلم قد تلقى الحديث عن امرأة مسلمة عالمة صالحة، فقال – رحمه الله -: أخبرتنا الشيخة الصالحة أم الخير ستُّ العرب بنت يحيى بن قايماز بن عبد الله التاجية الكِندية قراءةً عليها وأنا أسمع في رمضان سنة 681هـ، وأبو العباس بن شيبان، وابن العسقلاني، وأبو الحسن ابن البخاري... عن القاسم، عن عائشة: "أن رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ كان يغتسل من جنابة، فيأخذ حَفنة لشِقِّ رأسه الأيمن، ثم يأخذ حفنة لشق رأسه الأيسر".
هذه هي المرأة المسلمة كما يريدها دينها، وهذا هو دورها وليس كما يريده أعداؤنا.
لم يصل المجتمع الإسلامي إلى ما وصل إليه من الانحلال والتفسخ إلا عندما تخلت المرأة عن دورها، ولم يستطع الغرب التأثير على المجتمع الإسلامي إلا من خلال تخاذل المرأة وتراجعها، وعدم التزامها وتفقهها في الدين، وانبهارها بزخرف الحياة ولهوها، وعدم السعي إلى صلاح نفسها.
ولا ننسى هنا أن للزوج دوراً أيضاً في تربيتها وتوجيهها وتعليمها، ومحاولة إثراء فكرها بالعلوم الشرعية، ومن المؤسف أن نرى أن الرجال قد انشغلوا بأنفسهم عن إفادة النساء في أمور دينهن وعدم تشجعيهن والأخذ بأيديهن إلى الطريق الصحيح.
وهنا أود أن ألفت نظر الرجال عامة والدعاة خاصة إلى أنهم إذا لم يقفوا إلى جانب المرأة ويساعدوها ويقدموا لها العون والنصح والإرشاد لكي تقوم بدورها، بل تركوها تركن إلى نفسها وإلى شياطين الجن والإنس فإن الضرر سيلحق ليس بالمرأة فقط، وإنما بالمجتمع الإسلامي برجاله ونسائه ومكامن قوته؛ فـ"إن ترك الزوجة جاهلة بدينها دون تعليم لها وتربية وبخاصة فيما يجب عليها معرفته كالتوحيد وأركان الإسلام والأحكام التي تخصها في الحيض والنفاس واللباس وغير ذلك مما يؤدي الجهل به إلى الإخلال بدين المرأة وعبادتها لربها وسلوكها وأخلاقها، وإهمال الزوج لزوجته في هذه العلوم الواجبة مع قدرته على تعليمها يعد ذلك منه ظلماً لامرأته ومنعاً لها من حقوقها".
والله – سبحانه – يقول: "وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ" (المائدة: من الآية2) لأنه لا بد من تضافر الجهود من قِبَل الجميع: الأسرة ثم المؤسسات الدعوية والإعلامية والتربوية كالمدارس والجامعات؛ لأن من أكبر العوامل في تضامن الأمة الإسلامية وحفظ وحدتها من التمزق والانحراف هو شعور الجميع بالمسؤولية وبالخطر الذي يحيط بالجميع.
تلك كانت بعض الأسباب المهمة التي جعلت المرأة تعاني من ضعف في الوازع الديني وعدم التفقه بالدين، ولنا أن نسأل: ما هو الحل؟ إذا عرفنا السبب فالحل واضح وهو علاج تلك الأسباب.
------------
(*) مجلة آفاق -العدد الأول والثاني
ـــــــــــــــــــ
قضايا يكرهها الناس
د. عبدالله الخاطر (رحمه الله).(115/1337)
8/6/1424
ارسل تعليقك ...
لا توجد تعليقات ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
الناس يكرهون النصيحة في العلن:
لا يختلف اثنان في أن النصيحة في العلن يكرهها الناس؛ لأن كل الناس يكرهون أن تُبْرَز عيوبهم أمام غيرهم، كل الناس؛ مسلمهم وكافرهم لا يحبون أن يُنْصَحوا في العلن، ولكن إذ أُخِذ الرجل جانباً ونُصِح على انفراد فإن ذلك أدعى للقبول، وأدعى لفهم المسألة، ولأحبَّك الرجل؛ لأنك قدمت إليه معونة، وأسديت إليه خدمة، بأن نصحته وصححت خطأه، ويُعَبِّر الإمام الشافعي – رحمه الله – عن ذلك بقوله:
تعَمَّدْني بنُصْحك في انْفرادي ... ... وجَنِّبْني النصيحةَ في الجماعه
فإن النصح بين الناس نوعٌ منَ ... ... التوبيخ لا أرضى استماعه
فإن خالَفْتني وعصيْتَ قولي ... ... فلا تجْزَع إذا لم تُعْطَ طاعه
الناس كل الناس، لا يحبون أن تقال لهم الأوامر مباشرة: افعل كذا، لا تفعل كذا. فطبيعة البشر تأبى ذلك، نعم قد ينفذ الشخص الأمر الموجه، لكن لو قدم له هذا الأمر بطريقة ألطف فإن ذلك أدعى للقبول، حتى ولو كان الأمر من رئيس إلى مرؤوسيه.
أي: إذا أنت خالفتني في أمر من الأمور وجئت بنصيحتي أمام الناس، فلا تغضب ولا تتضايق إذا لم أستجب لك ولم أطعك هذه طبيعة النفس البشرية إلا من تجرد ووصل إلى حد من التجرد، بحيث يقبل النصيحة وإن كان ينزعج أيضاً للأسلوب، وكم من الناس عندهم ذلك التجرد؟!
وكذلك بعض الناس يريد أن تكون النتائج فورية؛ فيُحِبُّ من الناس أن يغيِّروا ما بهم بمجرد أن يُنصَحوا، يريد أن ينصح في المجلس ويريد أن يستجيب الناس ويغيروا ما بهم في ذلك المجلس! فيكون مخطئاً في تقديره وغير فاهم لطبيعة البشر، إذ لا بد أن يأخذ الناس مدة كافية للتفكير، وفرصة مناسبة للانسحاب.
الناس يكرهون الأسلوب المباشر في النقد:
الناس كل الناس، لا يحبون أن تقال لهم الأوامر مباشرة: افعل كذا، لا تفعل كذا، فطبيعة البشر تأبى ذلك، نعم قد ينفذ الشخص الأمر الموجه، لكن لو قدم له هذا الأمر بطريقة ألطف فإن ذلك أدعى للقبول، حتى ولو كان الأمر من رئيس إلى مرؤوسيه.
وعلى الرغم من أن أفعال الرسول _صلى الله عليه وسلم_ وأقواله كان منها أوامر مباشرة إلى أن الرسول _صلى الله عليه وسلم_ كان يستخدم أساليب أخرى، مثل: أسلوب الخبر يقدم الخبر فيفهم الناس ماذا يريد.
ومن ذلك ما ورد في قصة القوم الفقراء الذين جاؤوا وكانوا كلهم من مُضَر، وتأثر الرسول _صلى الله عليه وسلم_ لحالهم من الفقر، فقام وخطب الناس، ثم قال: "تَصَدَّق رجل من ديناره، من درهمه، من ثوبه، من صاع تمره"(1). تصدق صيغة ماضٍ لم يقل النبي_ صلى الله عليه وسلم_: تصدقوا، بل قال: تصدِّق من صاع تمره،(115/1338)
فجاء رجل من الأنصار بصُرَّة كادت تعجز يده عن حملها؛ بل عجزت، وقدمها للرسول _صلى الله عليه وسلم_ فاستهل وجهه، وقام الناس وتصدقوا حتى أصبح عنده كومة من الصدقات، وفرح الرسول _صلى الله عليه وسلم_، فقال: "من سن في الإسلام سنة حسنة..." الحديث(2).
فهناك قضايا لم يأمر الرسول _صلى الله عليه وسلم_ فيها أمراً مباشراً، وإنما تكلم بصيغة الخبر، كما في ذلك الحديث حيث قال: تَصَدَّق، ثم بعد أن فعل الرجل كافأه بتشجيعه، فقال: من سن سنة حسنة... وهذا يؤدي إلى دعم العمل الصالح.
هنا طريقتان للحياة: طريقة سلبية قائمة على رؤية مساوئ الرجال والأعمال، تُرى الأخطاء ليس لإصلاحها بل لاستغلالها بشكل هدام والعودة إليها بمناسبة وبدون مناسبة، وطريقة أخرى تنظر إلى الأمور بعين الرضا وتبحث عن محاسن الرجال لتنميتها وتحسينها، وترحم ضعفهم وأخطاءهم، وتعمل على إصلاحها
وهناك أمثلة لمرويات في البخاري: جمع رجل عليه ثوبه – صلى رجل في إزار ورداء – يعني: صلوا في إزار ورداء، فهناك فرق بين أن تطرح الأمر أو تطرح الرأي.
والصيغة لها دور: فرقٌ بين أن يقول أحد المسؤولين: أنا أرى أن (أ) أفضل من (ب)، فيستجيب الموظفون ويطبقون (أ)، وبين أن يقول: (أ) أفضل فطبِّقوها، وهناك مثال قد يكون أكثر إيضاحاً: مدرس يريد أن ينقل طاولته، ويريد من الطلبة أن ينقلوها معه، فهناك فرق بين أن يقول: ما رأيكم لو نقلنا الطاولة هذه إلى مكان كذا، أو أن يقول: انقلوا معي الطاولة إلى مكان كذا، فطريقة السؤال أدعى للقبول، وإن كانت النتيجة قد تتساوى في الحالتين.
والقضية الأخرى هي أن تُشْعِر الإنسان بمحبة الأمر حين تعطيه إياه، وكان ذلك هو دأب الرسول _صلى الله عليه وسلم_ فكان يشوِّق الناس لما سوف يأمرهم به، فلما أراد أن يسيِّر جيشاً، قال: "لأعطين الراية غداً رجلاً يحبه الله ورسوله"(3)، فصار كل فرد يتمنى أن يكون ذلك الرجل، وكما نصح _صلى الله عليه وسلم_ أحدَ أصحابه بقوله: "إني أحب لك ما أحب لنفسي، لا تأمَّرن على اثنين"(4)، فهو يُضَمِّن الأمر نقاطاً تجعل المأمور يحب الأمر، وكذلك فإن قول رئيس لمن يأمره: كلي ثقة بأنك قادرعلى التنفيذ أدعى للتنفيذ من قوله: افعل كذا وكذا، فالمأمور يريد أن يكون عند الثقة التي أولاها له رئيسه؛ فلا يكون داعيةً طيباً، ولا زوجاً طيباً إلا إذا كان أسلوبه طيباً.
ولقد ثبت بالتجربة أن التنفيذ يكون جيداً إذا فهم المرؤوسون فكرة الرئيس، بأن فهموا الفكرة وعرفوا غاياتها فيزداد الحماس لها، وأيضاً إذا عدَّ المنفذون القضية العامة قضيتهم الشخصية، وكون الإنسان يصل بالناس إلى أن يجعل القضية محل التعامل رغبةً من رغباتهم يدل دلالة واضحة على أنه: داعية جيد، بل زوج جيد، بل هو – كائناً من كان – إنسان جيد.
وإذا جاء بعض الناس ضيوفاً إلى بيته، فإن هناك فرقاً بين أن يأمر زوجته أمراً مباشراً بقوله: اطبخي كذا، ثم يعقب لعد ذلك بالتركيز على السلبيات، فيقول: نسيتم البرتقال، لماذا لم تحضروا كذا؟ – نعم هناك فرق بين ذلك – وبين أن يقول: إن(115/1339)
ضيوفاً سوف يأتون إلينا، ونريد أن تبيِّضوا وجوهنا، ولا تنسوا أن قضية الطعام هي انعكاس لأهل البيت، فتشعر الزوجة عندئذ أن المسألة قضية شخصية، وأن إتقان العمل انعكاس لوضعها في البيت، فيكون ذلك أدعى إلى الإتقان.
وكذلك فإن إبراز دور المأمور يعطي نتائج طيبة، فقد حدَّث أحد القادة جنوده قائلاً: إنكم ستتلاكون مهاجعكم في وضعية ممتازة حتى أتمكن من تقديمها كمثل صالح للجنود الجدد، ولقد كنتم جنوداً ممتازين، وستظلون كذلك حتى آخر لحظة، لقد جعل القائد قضية ترتيب المهاجع وتنظيفها قضيةً شخصيةً للجنود، وكانت النتيجة أنهم تركوا السكن في اليوم التالي في أحسن حال وأجمل حلة.
الناس يبغضون من لا ينسى زلاتهم ولا يزال يُذكِّر بها ويَمُنّ على من عفا عنه؛ فالناس يكرهون ذلك الإنسان الذي يذكِّر الناس بأخطائهم، ويعيدها عليهم مرة بعد مرة
الناس يكرهون من يركز على السلبيات دون الحسنات:
الناس يكرهون الإنسان الذي ينظر إلى عيوبهم ويترك الحسنات، بل وأحياناً ينساها.
خذ مثلاً علاقة المرأة المسلمة بزوجها المسلم، والتي يمكن أن يعمم مغزاها في كل قضايا التعامل. يقول _صلى الله عليه وسلم_: "لا يَفْرَك مؤمن مؤمنة إن كره منها خلقاً رضي منها آخر"(5)، فما أحد يسلم من العيوب فلا توجد زوجة بلا عيوب، ولا صديق بلا عيوب، ولا رئيس ولا مرؤوس بلا عيوب، يقول سعيد بن المسيب: "ليس من شريف ولا عالم ولا ذي فضل إلا فيه عيب، ولكن من الناس من لا ينبغي أن تذكر عيوبه"، فمن كان فضله أكثر من نقصه ذهب نقصه لفضله، ولا تذكر عيوب أهل الفضل تقديراً لهم. يقول الشاعر:
لا يُزْهِدنَّك في أخٍ لكَ ... ... أنْ تراهُ زَلَّ زلَّهْ
ما مِنْ أخٍ لك لا يُعابُ ... ... ولو حَرِصتَ الحِرْصَ كُلَّهْ
وقد نكره أشياء في بعض الناس، ولكن عندما نفتقدهم ونخالط من هم أسوأ منهم ندرك الخير الذي كان فيهم ولم نعبأ به.
يقول الشاعر:
بكيت من عمرٍو فلما تركته ... ... وجربت أقواماً بكيت على عمرِو
وفي كتاب (لمحات في فن القيادة) لكورتو وهو عسكري، وقد ضمَّن كتابه خبرات يمكن الاستفادة منها. يقول في كتابه: "هنا طريقتان للحياة: طريقة سلبية قائمة على رؤية مساوئ الرجال والأعمال، تُرى الأخطاء ليس لإصلاحها بل لاستغلالها بشكل هدام والعودة إليها بمناسبة وبدون مناسبة، وطريقة أخرى تنظر إلى الأمور بعين الرضا وتبحث عن محاسن الرجال لتنميتها وتحسينها، وترحم ضعفهم وأخطاءهم، وتعمل على إصلاحها".
والرسول _صلى الله عليه وسلم_ يعطينا المثل فيُذَكِّر بفضل الأنصار؛ لأن البشر بطبعهم ينسون الحسنات، فقد أخرج البخاري قوله _عليه الصلاة والسلام_: "أوصيكم بالأنصار، فإنهم كرشي وعيبتي (يعني: بطانتي وخاصتي) فقد قضوا الذي عليهم (يقصد أنهم وفوا بما تعهدوا به في بيعة العقبة) وبقي الذي لهم؛ فاقبلوا من محسنهم، وتجاوزوا عن مسيئهم"(6) إن هذا قمة الإنسانية والعدل.(115/1340)
هناك أناس إذا قدم لهم مسؤول أو موظف معروفاً فسرعان ما ينسون المعروف وصاحبه بعد تقاعده، ولكن الرسول _صلى الله عليه وسلم_ يؤكد أن الذي أدى المعروف وهو من أهل الفضل يُذكر فضله ويُغض الطرف عن مساوئه.
الناس يكرهون من لا ينسى الزلات:
الناس يبغضون من لا ينسى زلاتهم ولا يزال يُذكِّر بها ويَمُنّ على من عفا عنه؛ فالناس يكرهون ذلك الإنسان الذي يذكِّر الناس بأخطائهم، ويعيدها عليهم مرة بعد مرة، والله يقول: "وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ" (آل عمران: من الآية134) إنه _سبحانه_ يمتدح الذين يعفون عن الناس وينسون أخطاءهم والذي أُسْدِيَ إليه المعروف لا ينساه، والعافي عن الناس يستر من يعفو عنه.
ويقول الرسول _صلى الله عليه وسلم_: "من ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة"(7)، وهذا حديث صحيح.
وهناك مثل أضربه لكم: في مجلس لحاكم قديم شم الحاكم ريحاً من أحد الجالسين، فقال: عزمت عليك أن تخرج – يقصد من أخرج الريح وهو لا يعرفه – وتتوضأ، فقال رجل عالم فاضل: بل اعزم علينا جميعاً فنقوم ونتوضأ، فعزم عليهم وقاموا، وانتهت القضية. إن هذا الموقف الحكيم معروف كبير وإحسان تجاه الشخص الذي أخرج الريح، فقد انتشله من موقف صعب.
الناس يكرهون من يعاملهم باستعلاء:
الناس يكرهون من يعاملهم باحتقار واستعلاء مهما كان هذا الإنسان، حتى لو كان من كان، داعية، عالماً، معلماً؛ لأنهم لا يحبون مَنْ ينظر إليهم نظرة استعلاء، ولذلك كان هناك حث على أن يكون الإنسان متواضعاً، وإن كان في مقام التعليم أو الرئاسة.
روى هارون بن عبد الله الجمال، فقال:"جاءني أحمد بن حنبل بالليل – انظروا كيف يكون التصرف – يريد أن يصحح خطأ، فدقَّ عليِّ الباب، فقلت: من هذا؟ فقال: أنا أحمد، لم يقل الشيخ أحمد، فبادرت وخرجت إليه فمسَّاني ومسَّيته.
فقلت: حاجة أبي عبد الله؟ (أي: ما حاجتك؟)
قال: شغلتَ اليوم قلبي.
فقلت: بماذا يا أبا عبد الله؟
قال: جُزت عليك اليوم وأنت قاعد تحدث الناس في الفيء (الظل) والناس في الشمس بأيديهم الأقلام والدفاتر، لا تفعل مرة أخرى، إذا قعدت فاقعد مع الناس".
انظر كيف كانت النصيحة – والذي روى الحادثة ليس الإمام أحمد، وإنما ذلك الشخص الذي تأثر بالنصيحة – انظروا إلى هذا السلوك الطيب يزوره بالليل، ثم يبدي مشاعره وحرصه عليه – شَغَلْتَ قلبي – لم يقل: أسأت للناس، وهذه وسيلة من الوسائل أن تتحدث عن مشاعرك أنت، فتقول: أنا أشعر أن الموضوع ليس كذا. عندئذ يشعر الشخص بالخطأ ويكون أدعى لقبول النصيحة، وهكذا فإن النظرة إلى الناس يجب أن تكون نظرة إشفاق ورحمة، نظرة الطبيب إلى مريضه، فقد أكون مشفقاً على شخص كنت أنا مثله، أو أن غيري مثله ولا تكون نظرة احتقار وازدراء.
الناس يكرهون من يتسرع في التوبيخ والتأنيب:(115/1341)
الناس يكرهون من يؤنب ويوبخ في غير محل التأنيب، ومن غير تأنٍّ ودون السؤال والاستفسار، وقد يكتشف بعد السؤال والاستفسار أن هناك اجتهاداً صحيحاً، وهناك ظاهرة اجتماعية غير حسنة، وهي أن بعض الناس يظن الصواب في أن يقابل من يعده مقصراً باللوم الشديد بقوله: لماذا لا نراك؟ طالت المدة! سنتان لا نراك!
وإذا اعتذر الشخص المُعاتَب فإن صاحبنا يستمر في اللوم والتأنيب، وينسى أن اللوم يمكن أن يوجه إليه أيضاً، وهذا يتأتى من شخص قد تدرب على مثل هذه الطريقة.
وهذا الرجل يفعل ذلك وهو يظن أن ذلك من حسن العلاقة على الرغم من أن هذه القضية ليست صحيحة في نفسها، فمن طبيعة البشر أنهم يجتمعون ويتفرقون، والود ليس بالضرورة مقصوراً على من تكثر رؤيته، وقد يضيق الإنسان بتكرار رؤية الذي لا يحبه؛ فقد تتكرر الرؤية لمن لا نحب:
ومن نَكَد الدنيا على الحُرِّ أن يرى ... ... عدواً له ما مِن صَدَاقته بُدُّ
وقد يكون الأمر أخف إذا كان الذي يلوم أكبر سناً من المُلام، أما إن كانا قرينين، أو كان الذي يلوم هو الأصغر فتلك كبيرة، ومن عواقب ذلك أن يخسر الشخص الناس فيتجنبوه، ويبتعدوا عنه، وهناك من يلوم بأسلوب لاذع، فيكون أشد من ذلك كأن يقول: "خّربَ بابُنا من كثرة دقك عليه، أو خرب هاتفنا من كثرة سؤالك".
وفي القصة الآتية تجلية لذلك الأمر: "ذهب أبو عبيد بن سلام لأحمد بن حنبل، فقال: يا أبا عبد الله، لو كنت آتيك على نحو ما تستحق لأتيتك كل يوم، فقال أحمد بن حنبل: لا تقل هذا، إن لي إخواناً لا ألقاهم إلا كل سنة مرة أنا أوثق بمودتهم ممن ألقى كل يوم".
فليس معنى المودة أن نلتقي كل يوم، وليس عدم اللقاء هو عدم المحبة، ولو تفرغ الإنسان لزيارات الأصدقاء لما وجد وقتاً لأداء واجبات أخرى، مثل: طلب العلم أو تربية الأبناء.
ولقد أجرى مهندس سويسري دراسة على عدد كبير من العمال فوجد أن عدداً كبيراً من هؤلاء يعدون أن التأنيب بدون ذنب أمام الأصدقاء أصعب ما يلاقون من متاعب، وهذه الأمور هامة جداً للذين يتعاملون مع البشر في أي مجال: مجال الدعوة، مجال العمل، ولذلك فقد عُمِلَت دراسات إدارية خلصت إلى أن هناك شيئاً هاماً جداً،هو:الارتياح الوظيفي، فزيادة على توافر الاحتياجات الغريزية من طعام وشراب ومسكن، والتي قد تحقق شيئاً من الاطمئنان، إلا أنه لا بد للإنسان أن يكون مرتاحاً في وظيفته، ويشعر بأن له دوراً يرضى عنه، وقد يترك الشخص عملاً إلى آخر أقل راتباً بسبب ذلك الارتياح الذي افتقده في الوظيفة الأولى.
الناس يكرهون من يتمادى في الخطأ رغم وضوح الخطأ:
الناس يكرهون الذي إن أخطأ تمادى في الخطأ، والذي لا يعترف بخطئه برغم وضوح الخطأ، والشخص الذي لا يعترف بالخطأ ويبادر إلى الرجوع عنه بسرعة ليس شجاعاً، وكلما ارتقى الشخص في تربيته وفي علمه اعترف بالخطأ وانسحب بسرعة، فلا يطيل الذيل في الحديث بغية التسويغ، ومن الملاحظ أن كبار العلماء كالشيخ ابن باز لا يتحرج من قول: "سأنظر، سأبحث المسألة" ولا يحط ذلك من(115/1342)
قدره، وقد يتسرع من هو دونه بالفتيا والحديث، وليس من العيب أن يقال: لا أدْري، أو يقال: أخْطَأْتُ.
الناس يكرهون من ينسب الفضل لنفسه:
الناس يكرهون دائماً من ينسب الفضل لنفسه، وإذا حدث إخفاق أو خطأ ألقى بالتبعة على الآخرين، وإذا حدث نجاح نسبه إلى نفسه؛ فكل الناس يبغضون ذلك الإنسان ويكون منبوذاً، يكون زوجاً منبوذاً، رئيساً منبوذاً، صديقاً منبوذاً.
والرئيس بحق هو الذي يسأل عند الإخفاق، وليس الذي ينسب النجاح لنفسه، فإذا أردت أن تعرف من هو الرئيس في أي مؤسسة اقتصادية، أو تجارية، أو دعوية فاسأل: من الذي يكون مسؤولاً عند الإخفاق؟ والإنسان السوي يسعد إن أخذ الناس أفكاره، ويعمل دون الحديث عن ذاته. يقول سيد قطب – رحمه الله – في كتيب هو عبارة عن رسالة أرسلها إلى أخته: "التجار وحدهم هم الذين يحرصون على العلاقات التجارية لبضائعهم حينما يستغلها الآخرون ويسلبونهم حقهم من الربح، أما المفكرون وأصحاب العقائد فكل سعادتهم أن يتقاسم الناس أفكارهم وعقائدهم ويؤمنوا بها إلى حد أن ينسبوها إلى أنفسهم لا إلى أصحابها الأولين، ولذلك يجب على المرء أن يحرص على أن يدع الناس يشعرون أن الفكرة فكرتهم ويتبنونها هم كي يتحمسوا لها ويعملوا بها".
******************************
الهوامش:
(1) رواه أحمد في مسنده، من حديث المنذر بن جرير عن أبيه.
(2) رواه مسلم في صحيحه، من حديث المنذر بن جرير عن أبيه.
(3) متفق عليه من حديث سلمة بن الأكوع.
(4) رواه مسلم من حديث أبي ذر الغفاري – رضي الله عنه -.
(5) رواه مسلم من حديث أبي هريرة.
(6) رواه البخاري من حديث أنس بن مالك.
(7) رواه مسلم من حديث أبي هريرة – رضي الله تعالى عنه -.
ـــــــــــــــــــ
رسالة إلى داعية تعب في دعوته ثم كسل فقعد عن أمته
بقلم :سعد الداعج
26/5/1424
ارسل تعليقك ...
تعليقات سابقة ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
بسم الله الرحمن الرحيم
أخي الكريم: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:(115/1343)
قد أوجب الله علينا جميعاً التواصي بالحق والتواصي بالصبر، ولا نجاة لنا من الخسر إلا بهذا، ومن هنا جاءت هذه الرسالة.
• إن مما يراه المرء في هذا الزمن – زمن الفتن من شبهةٍ، أو شهوةٍ، أو بدعة – يرى بعضاً من الدعاة إلى الله_ تعالى_ يصول ويجول في دعوته إلى الحق، ويحرص على هداية الناس ما يترك شاذةً ولا فاذةً إلا عملها أو شارك فيها؛ حرصاً على اكتساب الأجر واغتنام الفضل، ينعصر قلبه حرقة لهذا الدين القويم، ويتألم إذا أهين عباد الله المتقون، وتمضي به السنون وهو على هذا المنهاج القويم والصراط المستقيم.
• ثم.. ثم بعد هذا النشاط يدب الفتور والبرود إليه، ويتخلى عن دعوته، لا انتكاساً ولكن تقاعداً وانشغالاً بالولد والرزق وكثرة الارتباط_كما يزعم_ ظاناً أنه صاحب الفضل على هذه الدعوة وأهلها،وأنه سيفتح المجال لغيره، أما هو فقد بلغ في نظره من الكِبَر عتياً، مقتصراً على الأجور العظيمة والفضائل الكثيرة التي عملها من قبل إن كان مخلصاً نقياً.
أخي الكريم: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد:
فقد أوجب الله علينا جميعاً التواصي بالحق والتواصي بالصبر، ولا نجاة لنا من الخسر إلا بهذا، ومن هنا جاءت هذه الرسالة.
• وبعد هذا الانقطاع يرى أنه سينعكف على تربية أولاده وبناء نفسه التي في نظره أنه أهملها كثيراً من خلال ما تقدم من سنوات في دعوته.
• وبعد ذلك يبدأ نشيطاً في برنامجه الجديد مصمماً السير على منهجه الذي وضعه لنفسه، وبعد حين يتوسع في المباح وتتزعزع تلك المبادئ الشرعية التي لا يمكن أن يفتح المجال للكلام والخوض فيها في عز دعوته،حتى إن البعض منهم ما بينه وبين الانتكاس إلا ما هو أقل من خيط بيت العنكبوت.
• إن المرء ليحزن قلبه ويضيق صدره حينما يرى ويشاهد أعداء هذا الدين وقد عكفوا على محاولة هدم هذا الدين وإفساد أخلاق أهله ليل نهار،ويعجب من صبرهم وجَلَدهم على باطلهم، بينما صاحب الحق والدعوة الناصعة والحجة البينة الواضحة قد تقاعس في دعوته وبخل على أمته في أشد ما تكون حاجتها إليه.
• إن على المرء المؤمن أن يسأل نفسه ماذا قدمت لهذا الدين،وخدمة عباد الله المؤمنين أمام هذا السيل الجارف من الفساد في العقائد والأخلاق.
• لقد كان أهل العلم قبل سنوات ليست بالكثيرة يحذّرون الأمة من التلفاز وخطره على الأولاد والأخلاق، ثم جاء الكفار بما هو أشد خطراً وأعظم أثراً وهو الفيديو، جاءت بعده الأطباق الفضائية،ثم أنتج هؤلاء الأعداء المعتدون الإنترنت بشره وخيره...،هكذا.. فهم ماضون في محاولة هدم هذا الدين وتغيير أخلاق أهله.. إنهم يفكرون ثم ينتجون ما يخدم أهدافهم، وينتجون ما هو أشد فتكاً وأسرع خطراً على هذا الدين وأهله.
• لقد بخل هذا الداعية على أمته بشيء من عمله اليسير وجُهده القليل بينما هي قدمت له الشيء والشيء الكثير.(115/1344)
• كيف يبخل ويقعد عن أمته ونصرتها بعد أن ذاق حلاوة الدعوة إلى الله، ولذة الحرص على هداية عباد الله؟ كيف يقعد عن الدعوة مَنْ يرى أمته تهوي في مكانٍ سحيق وتقرب من عذاب الله الأليم،وهو متبلد الإحساس، فاقد الضمير،لا يأمر ولا ينهى،ولا يدل ولا يرشد، همه جيبه ومصلحته، غايته هندامه ومركبه، قرة عينه ولده وزوجه؟؟! أما أمته التي غُزيت من كل جانب فقد خذلها في أشد ما تكون حاجتها إليه.
• لقد نسي هذا القاعد عن دعوته أو تناسى أن دين الله وإن حدث له ما حدث فإنّ النهاية له، والنصر حليفه حقاً ويقيناً لا مرية فيه، فهذا الدين لا ينتظره لينصره فنصره ليس واقفاً عليه،ولكن لهذا المرء الشرف والعزة والرفعة أن يكون من المشاركين في نصرة هذا الدين.
• إن مشاركة الإنسان لنصر الأمة ليس متوقفاً في حلقةٍ أو مكتبةٍ بل كل مجالٍ للخير فهو مشاركة للأمة في نصرتها مهما كان وأينما حل وصار، فالحرص على هداية الأهل والأقارب أو الجيران وأبنائهم أو الزملاء والأصدقاء أو العمال والجاليات أو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو غيرها هي من طرق الدعوة وسبلها الكثيرة والكثيرة جداً.
• ليت الذي تكاثر عمله وجهده يقارنه بعلماء الأمة العاملين ليعلم ضآلة عمله وقلة جهده، فمنذ أن كان في بطن أمه أو ظهر أبيه كان هؤلاء يدعون إلى الله_تعالى_ولا زالوا حتى الآن إنهم لم يملوا ولم يكلوا، بل ليس هناك سبيل في المشاركة في أي عمل إلا أسهموا بسهمهم وأدلوا بدلوهم، إنهم يحملون همَّ الإصلاح ويستشعرون عِظَم المسؤوليةمع كثرة أعمالهم،وزحمة أشغالهم،وكبر سنهم،وقلة صحتهم، ومع ذلك فهم يسألون الله الثبات حتى الممات على هذا الدرب القويم.
• ليت الذي قعد عن دعوته يدخل أحد المقاهي المنتشرة لينظر بأم عينه همة شباب المسلمين وقد عكفوا على فيلم فاضح وصوَّبوا النظر إلى وجهٍ داعر، وأعجبوا بمغنٍ فاسق.
• ليت الذي زهد في دعوته يدخل أحد أسواق المسلمين لينظر كيف أصبح الحجاب الشرعي غريباً وحل محله كل موضة وصرخة جديدة.
• ليت الذي تكاسل عن دعوته يقرب من شباب المسلمين لينظر فيم يفكرون أو يتكلمون.
قال شيخٌ كريمٌ وداعيةٌ مشهور:
لئن كنَّا نعطي الدعوة جزءاً من وقتنا،فيجب أن نعطيها الآن أضعاف تلك الأوقات، وذلك لقلة العاملين وكثرة المتكاسلين والمرجفين بل والقاعدين.
أخي الداعية:
امضِ في طريقك غير ملتفتٍ لصيحات المخذلين والراضين بالدون من العمل، واعلم أنك على ثغر من ثغور هذا الدين، فالله الله لا يُؤتينَّ الإسلام من قِبَلِك،فجدِّد الأسلوب وغيِّر الطريقة، ونوِّع الطرح،وحذِّر من الفتن، وركِّز على مراقبة الله في السر والعلن، والجدية في الالتزام، فنحن لسنا بحاجة إلى كثرة عدد وقلة عمل، وإياك ثم(115/1345)
إياك أن تحتقر أحداً من المدعوين فربَّ إنسان احتقرته ثم أهملته ولو التزم لنفع الله به الأمة.
أخي الكريم:
إن الداعية إلى الله_تعالى_ينبغي ألا يفوّت على نفسه فرصة للدعوة إذا سنحت له إلا وقد استغلها، يلقي خلالها كلمة ولا يحتقرها،فربما وقعت في قلبٍ خاوٍ تائهٍ فغيّرت المسار وحُطَّ عنك بها الأوزار وأرضت العزيز الجبار.
أخي:
إننا معشر الدعاة إلى الله_تعالى _حمل رسالة في هذه الحياة وفي أعناقنا أمانة يجب أن نؤديها كما أمر الله، فضع يدك في أيدينا، وضم صوتك إلى أصواتنا، ننادي بالخير وندعوا إلى السعادة، نُرشد إلى الهداية، ونُحذر من الضلالة.
ثبتنا الله وإياك على دينه حتى يأتينا اليقين، وإلى لقاءٍ في عليين، في مقعد صدق عند مليكٍ مقتدر، وصلى الله وسلم وبارك على خير الداعين والعاملين لهذا الدين محمد بن عبد الله_عليه أفضل صلاة وأزكى تسليم_
ـــــــــــــــــــ
درس لا ينسى
أحمد الصويان
19/5/1424
ارسل تعليقك ...
لا توجد تعليقات ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
بسم الله الرحمن الرحيم
كنت في رحلة إلى مدينة (وجير) في الشمال الشرقي لجمهورية كينيا، وبعد تجوال طويل بين القرى المختلفة، توقفت بجوار مجموعة من الصبيان تحلقوا لقراءة القرآن الكريم بين يدي شيخهم تحت ظل شجرة، هرباً من لهيب الشمس المحرق، رأيتهم يكتبون القرآن الكريم بالفحم على ألواح خشبية بطريقة بدائية، ويرددون مقطعاً من سورة (ق) بصوت متخشّع يأسر القلوب.
ورأيت شيخهم يُمسك نسخة قديمة ممزقة الأوراق من كتاب: (الأصول الثلاثة) باللغة السواحلية، ذكر أنه استعارها من صاحب له، فسألته عن طلابه وحرصهم على الدرس والحفظ، فطأطأ رأسه قليلاً، ثم تنهد بعمق، وقال: جاءت إلينا إحدى الإرساليات الكنسية العريقة منذ أكثر من عشرين عاماً، وهاهي الآن تتعاهد أبناءنا بالقصص المصورة الموجهة بلغتهم المحلية، فتشدّهم بألوانها البراقة وأساليبها الجذابة، كما توزع الإنجيل والكتب والمجلات التنصيرية، وتقيم الاحتفالات والبرامج الشبابية المتعددة لاحتواء المسلمين وفتنتهم.(115/1346)
لقد تعلمت في التربية درساً لا يُنسى.. فالبذل لهذا الدين والتضحية من أجله ليست شعاراً يُرفع أو دعوى يُتشدق بها، وإنما هي وليدة عقيدة راسخة في القلب تثمر الصدق والفاعلية.
ثم نظر إليّ نظرة ملؤها الأسى والعتب، وقال لي بحياء: أين المسلمون؟! حتى أنت تصافح الصبية بحرج حتى لا تتسخ يدك! ولكن دع النصارى يفعلون ما يريدون فنحن على ثقة من ديننا، حتى ولو كنا تحت شجرة ولم نجد إلا ألواح الخشب..!!
غادرت المنطقة وقد اغرورقت عيناي بالدموع، وأنا أحمد الله – تعالى – حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه الذي حفظ كتابه العزيز وحفظ دينه الكريم، فعلى الرغم من الفقر والمرض والجهل، وعلى الرغم من العزلة والانقطاع والبعد في تلك المناطق النائية والأدغال الوعرة تجد هؤلاء الصبية يتحلقون لتلاوة كتاب الله _تعالى_ بكل اطمئنان وثقة.
لقد تعلمت في التربية درساً لا يُنسى، فالبذل لهذا الدين والتضحية من أجله ليست شعاراً يُرفع أو دعوى يُتشدق بها، وإنما هي وليدة عقيدة راسخة في القلب تثمر الصدق والفاعلية.
لقد تعلمتُ في التربية درساً لا يُنسى، فكم هي الأموال التي ننفقها في الإسراف والبذخ والتوسع في المباحات، فضلاً عن الملاهي والمحرمات؟!
ولم أعجب من جهود المنصرين وأنا أقرأ قول الله _تعالى_: "إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ" (الأنفال:36).
ولكنني عجبت أشد العجب من تقصيرنا وتفريطنا – نحن المسلمين – فكتاب الله _عز وجل_ لم نستطع إيصاله لعموم المسلمين، فضلاً عن ترجمة معانيه وتفسيره، فضلاً عن تقريب السنّة النبوية وترجمتها، وتيسير العقيدة الصحيحة المبرأة من الشركيات والبدع..!!
ما أعظمها من أمانة..!
وما أجلها من مسؤولية..!
ـــــــــــــــــــ
الجهاد بالقرآن
16/5/1424
ارسل تعليقك ...
لا توجد تعليقات ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا(115/1347)
شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد:
فلقد ميز الله عز وجل هذه الأمة وفضلها على سائر الأمم بأنها أمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأمة الجهاد في سبيل الله عز وجل، قال تعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ) (آل عمران:110). وأنزل الله عز وجل القرآن على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم تبياناً لكل شيء وهدى ورحمة للمؤمنين، وأمره ربه عز وجل منذ أن بُعث أن يجاهد به الكفار ويقيم الحجة به عليهم، فآمن به من آمن منهم وأذعنوا لسلطان القرآن وما فيه من الآيات الباهرة والنور العظيم والخير العميم في الدنيا والآخرة. ومنهم من كفر به واستكبر عناداً وحسداً مع إقرارهم في داخل نفوسهم أنه الحق وأنه من عند الله تعالى ومع ذلك جحدوا به ظلماً وعلواً. قال الله عز وجل آمراً نبيه صلى الله عليه وسلم بالجهاد بالقرآن (وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبِيراً) (الفرقان:51-52).
والجهاد بالقرآن من أفضل أنواع الجهاد وأهله هم أهل الله وخاصته وينبغي للمجاهد بالقرآن أن يكون حافظاً لآياته ومعانيها حتى يسهل عليه الاستشهاد بها وتفهيمها للمدعوين كما يجب عليه أن يكون ممتثلاً لما في القرآن من أمر ونهي حتى يكون قدوة للناس ودافعاً له إلى دعوتهم.
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: "لما كان الجهاد ذروة سنام الإسلام وقبّته، ومنازل أهله أعلى المنازل في الجنة، كما لهم الرفعة في الدنيا، فهم الأعلون في الدنيا والآخرة، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في الذروة العليا منه، واستولى على أنواعه كلها فجاهد في الله حق جهاده بالقلب، والجنان، والدعوة، والبيان، والسيف، والسنان، وكانت ساعاته موقوفة على الجهاد، بقلبه، ولسانه، ويده. ولهذا كان أرفع العالمين ذِكراً، وأعظمهم عند الله قدراً.
وأمره الله تعالى بالجهاد من حين بعثه، وقال: (وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبِيراً) (الفرقان:51-52)، فهذه سورة مكية أمر فيها بجهاد الكفار، بالحجة، والبيان، وتبليغ القر’ن، وكذلك جهاد المنافقين، إنما هو بتبليغ الحجة، وإلا فهم تحت قهر أهل الإسلام، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) (التوبة:73). فجهاد المنافقين أصعب من جهاد الكفار، وهو جهاد خواص الأمة، وورثة الرسل، والقائمون به أفراد في العالم، والمشاركون فيه، والمعاونون عليه، وإن كانوا هم الأقلين عدداً، فهم الأعظمون عند الله قدراً"(1) ا.هـ.
مما سبق من كلام ابن القيم رحمه الله تعالى يفهم أن الجهاد بالقرآن هو جهاد الدعوة والبيان وهو أمر لا بد منه قبل الجهاد بالسنان، وهو مطلوب مع الطوائف التالية:
1- الكفار: فدعوتهم إلى الإسلام وإقامة الحجة عليهم قبل مجاهدتهم بالسنان.
2- المنافقون: بالحجة والبيان والفضح.
3- أرباب البدع والضلالات: بالبيان والحجة وبكف ضلالتهم عن الناس ولو بالقوة.(115/1348)
4- أرباب المعاصي والمنكرات.. بالبيان والوعظ والبيد إن وجدت القدرة.
فكل هذه الطوائف يجاهدون بالقرآن ويسمعهم الداعي مواعظ القرآن ووعده ووعيده وأمثاله وقصصه وأحكامه.
والجهاد بالقرآن من أفضل أنواع الجهاد وأهله هم أهل الله وخاصته وينبغي للمجاهد بالقرآن أن يكون حافظاً لآياته ومعانيها حتى يسهل عليه الاستشهاد بها وتفهيمها للمدعوين كما يجب عليه أن يكون ممتثلاً لما في القرآن من أمر ونهي حتى يكون قدوة للناس ودافعاً له إلى دعوتهم.
والجهاد الحقيقي بالقرآن ليس أمراً هيناً يقوم به كل أحد، وإنما يحتاج أهله إلى صبر عظيم لكي يبينوا للنناس الحق وسبيل المؤمنين ويحذروهم من الباطل وسبيل المجرمين، وهذا النوع من البيان سيعرضهم للأذى من أرباب الكفر والنفاق والبدع والمعاصي فإن لم يكن لديهم من الصبر واليقين ما يدفعون به الأذى ويتحملون به الابتلاء وإلا ضعفوا وتوقفوا أو تنازلوا وسقطوا.
والجهاد بالقرآن يسبق الجهاد بالسنان والجهاد بالقرآن يكون مستمراً في حياة الداعية إلى الموت، أما الجهاد بالسنان فهو في أوقات محددة، وما يتعرض له المجاهد بالدعوة والبيان من الأذى والصدود قد يفوق ما يتعرض له المجاهد في ساحات القتال. ولا يعني هذا التهوين من شأن الجهاد وقتال الكافرين،كلا فهو ذروة سنام الدين، وبه يرفع الله الذلة والمهانة عن المسلمين ويكون الدين كله لله. وإنما أردت لفت النظر إلى أهمية الجهاد بالقرآن وبيانه للناس وأن من قام بهذا الأمر حق القيام فهو مجاهد ومصابر ولا يقل فضل عمله هذا عن جهاد الكفار وذلك حتى لا يهضهم حق الدعاة والمصلحين الذين يجاهدون بالقرآن ويتحملون في سبيل ذلك ما يصيبهم من الأذى والتنكيل. بل يجب حفظ حقوقهم وذكر بلائهم في الدعوة والبيان، يقول الإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى - وهو يرد على من قال إن علياً رضي الله عنه كان أشجع الناس-: "... فمعلوم أن الجهاد ما يكون بالقتال باليد، ومنه ما يكون بالحجة والبيان والدعوة، قال تعالى: (وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبِيراً) (الفرقان:51-52)، فأمره الله سبحانه وتعالى أن يجاهد الكفار بالقرآن جهاداً كبيراً.وهذه السورة مكيّة نزلت بمكة، قبل أن يهاجر النبي صلى الله عليه وسلم، وقبل أن يُؤمر بالقتال، ولم يؤذن له. وإنما كان هذا الجهاد بالعلم والقلب والبيان والدعوة لا بالقتال. وأما القتال فيحتاج إلى التدبير والرأي، ويحتاج إلى شجاعة القلب، وإلى القتال باليد. وهو إلى الرأي والشجاعة في القلب في الرأس المطاع أحوج منه إلى قوة البدن. وأبو بكر وعمر رضي الله عنهما مقدّمان في أنواع الجهاد غير قتال البدن.
قال أبو محمد بن حزم: وجدناهم يحتجّون بأن علياً كان أكثر الصحابة جهاداً وطعناً في الكفّار وضرباً، والجهاد أفضل الأعمال. قال: وهذا خطأ، لأن الجهاد ينقسم أقساماً ثلاثة: أحدها: الدعاء إلى الله تعالى باللسان. والثاني: الجهاد عند الحرب بالرأي والتدبير. والثالث: الجهاد باليد في الطعن والضرب. فوجدنا الجهاد باللسان لا يلحق فيه أحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر ولا عمر. أما أبو بكر فإن أكابر الصحابة أسلموا على يديه، فهذا أفضل عمل، وليس لعليّ من هذا كثير حظ. وأما(115/1349)
عمر فإنه من يوم أسلم عزّ الإسلام وعُبِدَ الله علانية، وهذا أعظم الجهاد. وقد انفرد هذان الرجلان بهذين الجهادين اللذين لا نظير لهما، ولا حظ لعليّ في هذا.
وبقي القسم الثاني، وهو الرأي والمشورة، فوجدناه خالصاً لأبي بكر ثم لعمر.
بقي القسم الثالث، وهو الطعن والضرب والمبارزة، فوجدناه أقل مراتب الجهاد ببرهان ضروري، وهو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا شك عند كل مسلم في أنه المخصوص بكل فضيلة، فوجدنا جهاده صلى الله عليه وسلم إنما كان في أكثر أعماله وأحواله بالقسمين الأوّلين من الدعاء إلى الله عز وجل والتدبير والإرادة. وكان أقل عمله الطعن والضرب والمبارزة، لا عن جبن، بل كان أشجع أهل الأرض قاطبة نفساً ويداً، وأتمهم نجدة، ولكنه كان يؤثر الأفضل فالأفضل من الأعمال، فيقدّمه ويشتغل به، ووجدناه يوم بدر – وغيره – كان أبو بكر معه لا يفارقه، إيثاراً من النبي صلى الله عليه وسلم، واستظهاراً برأيه في الحرب، وأُنْساً بمكانه، ثم كان عمر ربما شُورك في ذلك، وقد انفرد بهذا المحل دون عليّ ودون سائر الصحابة، إلا في الندرة"(2) ا.هـ.
------------------------
(1) زاد المعاد 3/5.
(2) منهاج السنة 8/86-88.
ـــــــــــــــــــ
فبهداهم اقتده
عبدالمجيد بن عثمان الزهراني
5/5/1424
ارسل تعليقك ...
لا توجد تعليقات ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
معنى القدوة في أصلها :
هي " متابعة من المقتدي للمقتدى به في فعله " ( أبو لاوي ، 1423 هـ ) .
معنى القدوة في التربية الإسلامية :
هي " إحداث تغيير في سلوك الفرد في الاتجاه المرغوب فيه عن طريق القدوة الصالحة ، وذلك بأن يتخذ شخصاً أو أكثر تحقق فيهم الصلاح ، ليتشبه بهم ويأخذ عنهم سلوكه " ( أبو لاوي ، 1423 هـ ) .
ويمكن من التعريف السابق أن نستنبط أركان هذا الأسلوب التربوي ، وهي :
1 ) المقتدي : وهو المتربي .
2 ) القدوة : وهو المربي .
3 ) هدف القدوة : وهو إحداث تغيير في سلوك المتربي باقتدائه بالمربي .
مسميات القدوة :(115/1350)
تسمى القدوة ، ويرادفها في المعنى : الأسوة ، والتقليد ، والمحاكاة ، والتشبه ، والتمثل أو المثل ( أبو لاوي ، 1423هـ ) ( مكانسي ، 1422 هـ ) .
منهج القرآن في الدعوة إلى الاقتداء :
إن حاجة الناس إلى القدوة نابعة من غريزة تكمن في نفوس البشر أجمع ، هي التقليد ، وهي رغبة ملحة تدفع الطفل وهو يخضع للتربية إلى تقليد والديه ومعلميه وتمثل سلوكهم ، وذلك لأنه حاجة نفسية تدفع الناس إلى أن يتشبهوا بالأشخاص الذين يحبونهم ويقدرونهم
يمكن عرض منهج القرآن الكريم في النقاط التالية :
1 ) أمره أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم قدوة لنا ، كما قال تعالى : (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً) [ الأحزاب : 21 ] . وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) [ الأنفال : 64 ] . وقال تعالى: (فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ) [ آل عمران : 20 ] .
2 ) أمره لنا باتباع الأنبياء والاقتداء بهم ، كما قال تعالى : (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ ... الآية ) [ الممتحنة : 4 ] . وقال تعالى : (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ ... الآية ) [ الممتحنة : 6 ] .وقال تعالى : (وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً) [ النساء : 125 ] . وقال تعالى: (وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ..) [يوسف : 38 ] . وقال تعالى : (أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ ... الآية) [الأنعام : 89 – 90 ] .
3 ) يجب الاقتداء بمن يصل معه المقتدي إلى الهداية والاستقامة ، كما قال موسى عليه السلام للرجل الصالح : (هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً) [ الكهف : 66 ] .
ويجب الحذر من الاقتداء بأهل الضلال ، كما قال تعالى : (وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ) [ المائدة : 48] . ( مكانسي ، 1422 هـ ) .
الأهمية التربوية لأسلوب القدوة :
1 ) أنه الطريق الأكثر فعالية إلى تحويل المنهج التربوي إلى حقيقة واقعة ، " فمن السهل تخيل منهج ... ولكن هذا المنهج يظل حبراً على ورق ... يظل معلقاً في الفضاء ... ما لم يتحول إلى حقيقة واقعة تتحرك في واقع الأرض ... ما لم يتحول إلى بشر يترجم بسلوكه وتصرفاته ومشاعره وأفكاره مبادئ المنهج ومعانيه ، عندئذ فقط يتحول المنهج إلى حقيقة ، يتحول إلى حركة ، يتحول إلى تاريخ " ( محمد قطب ، 1409 هـ ، ج : 1 ، ص : 180 ) .
ولأن المنهج التربوي المتكامل لا يغني عن وجود واقع تربوي يمثله إنسان مُربٍّ يحقق بسلوكه كل الأسس والأساليب والأهداف التي يراد إقامة المنهج التربوي عليها ، لذلك بعث الله الرسول صلى الله عليه وسلم ، ليكون قدوة للناس يحقق المنهج(115/1351)
التربوي الإسلامي ، كما قال تعالى : (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) [ الأحزاب : 21 ] ( النحلاوي ، 1403 هـ)( محمد قطب، 1409 هـ ، ج : 1 ) .
والتربية الإسلامية تعطي قيمة لأسلوب التربية بالمواقف والأفعال ، وتعتبر ذلك أقوى تأثيراً من التوجيه بالوعظ والقول ( عبود ، عبدالعال ، 1990 م ) .
2 ) أنه يوافق رغبة الفطرة الإنسانية في التعلق بالقدوة والبحث عن الأسوة ، ليكون للمقتدي نبراساً يضئ له سبيل الحق ، ومثالاً حياً يبين له كيف يطبق شرع الله ، لذلك كان الطريق لتبليغ رسالات الله هو إرسال الرسل ، ليبينوا للناس ما أنزل الله من شريعة ، قال تعالى : (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) [ النحل : 43 – 44 ] ( النحلاوي ، 1403 هـ ) .
3 ) أن حياة المربي المسلم هي حياة الداعية إلى الله ، يحتاج أن يكون قدوة أمام المتربين والمقتدين به ( النحلاوي ، 1403 هـ ) .
4 ) أن الحياة العامة تجدب إذا خلت من المثل الطيبة التي تظل حية في ضمائر الشعوب ، تستحضرها إذا احتاجت إليها ، وحياة الفرد لا يكون لها طعم إذا انعدم منها المثل ، فأصبحت تافهة ، لا تحقق هدفاً ، ولا تترك بعدها أثراً ( صبح ، 1413 هـ ) .
5 ) أن الجانب السلوكي العملي أوقع في النفس وأكثر طمأنينة لها من القول في كثير من الأحيان ( أبو لاوي ، 1423 هـ ) .
6 ) تعتبر التربية بالقدوة أفضل الوسائل في إعداد المتربي خلقياً ، ونفسياً ، واجتماعياً ، فالقدوة لها أثر كبير في نفسية المتعلم ، وفي تقبله للخبرة والمعرفة ، واستجاباته للمثيرات ، وتفاعله مع الأنشطة ( الدخيل ، 1422 هـ ) .
7 ) أن القدوة عامل أساسي في بناء شخصية المتربي ، وفي صلاحها أو فسادها (الدخيل ، 1422 هـ ) ( عبود ، عبدالعال ، 1990 م ) ( أبو العينين ، 1408 هـ ) .
8 ) إذا وجدت القدوة في شخصية المربي ، فإن كثيراً من الجهد المطلوب لتنشئة الطفل على الإسلام يكون ميسوراً ، وقريب الثمرة في ذات الوقت ، لأن الطفل سيتشرب القيم الإسلامية من الجو المحيط به بطريقة تلقائية ، بمعنى : إن القدوة الطيبة هي دائماً قيمة موجبة ، يحذف بإزائها قدر مساو من الجهد الذي يجب بذله ( مدكور ، 1411 هـ ) .
الأسس النفسية لاتخاذ القدوة :
إن حاجة الناس إلى القدوة نابعة من غريزة تكمن في نفوس البشر أجمع ، هي التقليد ، وهي رغبة ملحة تدفع الطفل وهو يخضع للتربية إلى تقليد والديه ومعلميه وتمثل سلوكهم ، وذلك لأنه حاجة نفسية تدفع الناس إلى أن يتشبهوا بالأشخاص الذين يحبونهم ويقدرونهم ( عبود ، عبدالعال ، 1990 م ) ( النحلاوي ، 1403 هـ ) .
والتقليد يرتكز على ثلاثة عناصر :
1 ) الرغبة في المحاكاة والاقتداء : فالطفل مدفوع برغبة خفية لا يشعر بها نحو محاكاة من يعجب به ، وهذا التقليد غير المقصود لا يقتصر على حسنات السلوك ، بل يتعداها إلى غيرها .(115/1352)
ولذلك نبه القرآن الآباء إلى أن الاستمتاع بالأطفال والحنان والعطف عليهم ، يجب ألا يشغلهم عن أن يكونوا قدوة صالحة لهم ، فقال في وصف عباد الرحمن : (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً) [ الفرقان : 74 ] .
2 ) الاستعداد للتقليد : فلكل مرحلة من العمر استعدادات وطاقات محدودة ، لا بد من مراعاتها عندما نطلب من الطفل تقليد أحد أو الاقتداء به .
3 ) الهدف : لكل تقليد هدف ، قد يكون معروفاً لدى المقلد وقد لا يكون ، والهدف الأول لدى الطفل هو غرض دفاعي ، للدفاع عن الكيان الفردي في ظل الشخص القوي ، فإذا ارتقى الوعي عند المقلد عرف الهدف من التقليد ، فأصبح التقليد عملية فكرية ، يمزج فيها بين الوعي والانتماء والمحاكاة والاعتزاز ، ويصبح له في التربية الإسلامية اسم آخر هو الاتباع ، وأرقى أنواعه ما كان على بصيرة ، أي معرفة بالغاية والأسلوب ، وفي هذا المعنى يقول الله تعالى : ( قل هذه سبيلي أدعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين ) [يوسف : 108 ] ( النحلاوي ، 1403 هـ ) .
التطبيقات التربوية لتلك الأسس النفسية :
إذا فهم المربي تلك الأسس النفسية فإنه يمكن له أن يدرك أبعادها التربوية ، المتمثلة في :
1 ) أن المتربي في المراحل الأولى من عمره يتأثر بالمربين من دون تمييز ، لوجود الرغبة والاستعداد للتقليد ، ثم تستمر هذه النزعة النفسية في المراحل المتأخرة من عمره ، ولكنه يميز بين من يتلقى عنهم التربية ، ولذا فإنه ينبغي للمربي استغلال المراحل الأولى من عمر المتربي بصورة إيجابية ، وأن يكون شخصية مقنعة للمتربين الكبار .
2 ) أن المتربي في تقليده لا يقتصر على حسنات السلوك ، بل يتعدها إلى غيرها ، فالشخص المتأثر يتقمص شخصية المربي كلها أو جُلها ، ولذلك كان من الخطورة ظهور الضعف في سلوك القدوة .
3 ) أن المربي يتحمل نتائج سلوكه ، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم : ( من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة ، من غير أن ينقص من أجورهم شيء ، ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة من غير أن ينقص من أوزارهم شيء ) [ مختصر مسلم : 533 ] .
4 ) إقتداء المتربي بمن حوله مبني على هدف ظاهر أو خفي ، فينبغي تربيته على معرفة أهمية الأهداف والغايات في حياة المسلم بما يناسب مستواه العمري .
مجالات التربية بالقدوة :
أولاً : العبادة :
وتتعين التربية بالقدوة في مجال العبادة في أمرين ، هما :
أ – أن يكون قيام المربي بأداء العبادات حافزاً للناشئ على التشبه بالمربي : وهذا يعني أن يتأثر الفرد المستهدف بالمربي من خلال قيامه بأداء العبادات وحرصه(115/1353)
عليها ، واهتمامه بها بطريقة غير مباشرة ، بحيث يكون ذلك حافزاً وحاثاً له أن يختار هذا السلوك لنفسه طالما أن مربيه الذي يحبه ويكبره يفعل ذلك ويحرص عليه ، والذي يشكل جزءاً من حياته وجانباً من شخصيته .
ب – أن يأخذ الناشئ عن المربي كيفية أداء العبادة وآدابها الشرعية : وهذا يراد به أن يكون أداء العبادة أم الناشئين أسلوباً من أساليب تدريبهم وتربيتهم على أدائها صحيحة وتامة بحسب الكيفية التي أدى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه العبادة أو تلك .
ثانياً : الأخلاق :
القيم الأخلاقية تكتسب عن طريق القدوة والأسوة الصالحة ، لأن السلوك الأخلاقي من أكثر القيم السلوكية تأثراً بالمخالطة والصحبة .
ولا بد أن تكون تلك القيم الأخلاقية نابعة من ذات المربي ، بلا تكلف ، لأن الناشئ المستهدف بالتربية يدرك مدى صدق المربي ، وفي حال توصل الناشئ إلى أن مربيه يتكلف السلوك تكلفاً ، فإنه سيكون أمام أحد أمرين ، أحدهما : فقدان الثقة بمربيه بالشعور أنه متناقض ، والثاني : سقوط وقع القيم من نفسه والقفز عنها إذا اعتقد ضرورة ذلك ، وفي كلا الحالين تقويض لأسس العملية التربوية .
ومما يدل على أهمية ذلك : لوم الناس مريم على غير فهم للمعجزة التي جاءت بها فقالوا كما في قوله تعالى : (مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً) [ مريم : 28 ] .
ثالثاً : المعاملة :
وهي تشمل محيطاً واسعاً من العلاقات المختلفة ، كعلاقة المسلم بربه وأسرته وأقاربه وجيرانه وأمته ، وهي لا تقوم على أساس الإسلام إلا بالتربية الإسلامية ، والتي من أساليبها القدوة الصالحة . ( أبو لاوي ، 1423 هـ ) .
أساليب التربية بالقدوة :
أولاً : أساليبها من حيث طريقة انتقال تأثيرها :
ينتقل تأثير القدوة إلى المقتدي بأسلوبين :
1 ) التأثير العفوي غير المقصود : وهنا يقوم تأثير القدوة على مدى اتصافه بصفات تدفع الآخرين إلى الاقتداء به ، كتفوقه في العلم أو الرئاسة أو الإخلاص .
2 ) التأثير المقصود : فيقرأ المعلم قراءة نموذجية ليقلده الطلاب ، ويجوّد الإمام صلاته ليعلم الناس الصلاة الكاملة ( النحلاوي ، 1403 هـ ) .
ومن تطبيقاتها التربوية :
أ – استثمار النوعين من التأثير بطريقة تربوية متدرجة ومدروسة .
ب – اتصاف المربي بالصفات التي تؤهله للتأثير ، ويشمل : محاسبة النفس وتخليصها من جوانب النقص الخفية والظاهرة ، وتنمية وتعزيز الصفات الإيجابية .
ثانياً : أساليبها من حيث مصادرها :
1 ) التربية بالقدوة عن طريق دراسة سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم :(115/1354)
" ينبغي أن تكون سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم جزءاً دائماً من منهج التربية ، سواءً في المنزل أو المدرسة أو الكتاب أو الصحيفة أو المذياع ، لتكون القدوة دائمة وحية وشاخصة في المشاعر وفي الأفكار " .
والله تعالى جعل رسوله صلى الله عليه وسلم القدوة الدائمة للبشرية ، " يقبسون من نوره ، ويتربون على هديه ، ويرون في شخصه الكريم الترجمة الحية للقرآن ، فيؤمنون بهذا الدين على واقع تراه أبصارهم محققاً في واقع الحياة " .
" وإذ يجعل الإسلام قدوته الدائمة شخصية رسوله ، فهو يجعلها قدوة متجددة على مر الأجيال ... متجددة في واقع الناس . إنه لا يعرض عليهم هذه القدوة للإعجاب السالب ، والتأمل التجريدي في سبحات الخيال . إنه يعرضها عليهم ليحققوها في ذوات أنفسهم ، كل بقدر ما يستطيع أن يقبس ، وكل بقدر ما يصبر على الصعود ، ومن ثم تظل حيويته دافقة شاخصة ، ولا تتحول إلى خيال مجرد تهيم في حبه الأرواح دون تأثير واقعي ولا اقتداء " ( محمد قطب ، 1409 هـ ، ج : 1 ، ص : 185 ، 187 ) .
2 ) التربية بالقدوة عن طريق دراسة السير والتراجم والتاريخ :
قد تكون القدوة تاريخاً ، ومواقف ، وبتحليلها والاقتناع بقوتها وأثرها وملاءمتها ، يمكن أن تكون قدوة ( صبح ، 1413 هـ ) .
وجيل الصحابة رضي الله عنهم أعظم من يقتدى بهم ، " فالجماعة الأولى التي رباها الرسول صلى الله عليه وسلم على عينه ، وحقق فيها منهج التربية الإسلامية بتمامه كله ، هي القدوة الدائمة لنا بعد شخص الرسول صلى الله عليه وسلم .. وصورتها الواقعية هي المرجع الدائم لنا في منهج التربية بعد كتاب الله وسنة رسوله .. وهذه الجماعة – مع اختلاف بعض أحوالنا عن حالها ، واختلاف ظروفها عن ظروفنا – ستظل لأجيال المسلمين كلها – بل لأجيال البشرية كلها – هي النور الذي يستضيئون به ، ويحاولون أن ينسجوا على منواله ... " ( محمد قطب ، ج : 2 ، ص : 87 ) .
وفي تطبيق الأسلوبين السابقين ينبغي للمربي مراعاة الآتي :
أ – اختيار الطريقة المناسبة للمرحلة العمرية التي يتعامل معها :
ففي مرحلة الطفولة : الطريقة المناسبة لعرض السير هو عرض المواقف وليس السرد التاريخي ، مثل : العبادة ، الصدق ، الجهاد ، العلم ، وغيرها .
وفي مرحلة الشباب : يمكن الجمع بين السرد التاريخي للسير وعرض المواقف .
ب – التحضير والعرض الجيد للمواقف والأحداث ، وعدم الاقتصار على القراءة خاصة مع مرحلة الطفولة .
ج – إبراز الدروس والعبر من المواقف والأحداث ، مع إعطاء المتربي الفرصة بأن يستنبطها بنفسه .
د – اختيار الكتب المناسبة للمرحلة العمرية ، ليقوم المتربي بقراءتها ، مع تنويع الأساليب التي تدفعه لقراءتها ، مثل : إلقاءه لبعض الدروس منها ، والمسابقات .
3 ) التربية بالاقتداء بالأسرة :
" الأسرة هي المحضن الذي يبذر في نفس الطفل أول بذوره ، ويكيّف بتصرفاته مشاعر الطفل وسلوكه ، ومن ثم ينبغي أن تكون أسرة نظيفة ، أسرة مسلمة ، حتى(115/1355)
ينشأ جيل مسلم يحقق في نفسه مبادئ الإسلام ، يأخذها بالقدوة المباشرة ، المنقولة عن قدوة الرسول صلى الله عليه وسلم "(محمد قطب ، 1409 هـ ، ج : 1 ، ص : 186 ) .
4 ) التربية بالاقتداء بالمعلم :
لا بد أن تكون أقوال المعلم توافق أفعاله ، دون نقص أو تناقض بين الواقع الذي يعيشه والمبادئ والشعارات التي ينادي بها في دروسه ، وذلك لأن الطلاب يتأثرون بشخصيته ، ومظهره وحركاته ، وسلوكه وتصرفاته ( الدخيل ، 1422 هـ ) ( صبح ، 1413 هـ ) ( صلاح ، الرشيدي ، 1420 هـ ) ، هذا من جهة .
ومن جهة أخرى : " فإن الطالب في المدرسة لا بد له من قدوة يراها في كل معلم من معلميه ، ليقتنع حقاً بما يتعلمه ، وليرى فعلاً أن ما يطلب منه من السلوك المثالي أمر واقعي ممكن التطبيق ، وأن السعادة الحقيقية الواقعية لا تكون إلا في تطبيقه " ( النحلاوي ، 1403 هـ ) .
5 ) التربية بالاقتداء بالصالحين :
تبرز رغبة المتربي بتكوين العلاقات في مرحلة الشباب بصورة خاصة ، ولذلك فلا بد للمربي من التهيئة لهذه المرحلة بعدة أساليب ، مثل : البدء في بيان فضائل مصاحبة الصالحين ، والتحذير من أصحاب السوء ، وبيان كيفية التمييز بينهم ، وربطهم بالمحاضن التربوية التي يكثر فيها الصالحين ، مثل : حلقات تحفيظ القرآن ، وغيرها .
------------------------
المراجع
1 . أبو لاوي ، أمين ، أصول التربية الإسلامية ، 1423 هـ ، ط 2 ، دار ابن الجوزي ، الدمام .
2 . الدخيل ، محمد عبدالرحمن فهد ، مدخل إلى أصول التربية الإسلامية ، 1422 هـ ، ط 2 ، دار الخريجي ، الرياض .
3 . صبح ، محمد أحمد جاد ، التربية الإسلامية : دراسة مقارنة ، ج 1 ، 1413 هـ ، ط 1 ، دار الجيل ، بيروت .
4 . صلاح ، سمير يونس أحمد ، والرشيدي ، سعد محمد ، التربية الإسلامية وتدريس العلوم الشرعية ، 1420هـ ، ط 1 ، مكتبة الفلاح ، الكويت .
5 . عبود ، عبدالغني ، وعبدالعال ، حسن إبراهيم ، التربية الإسلامية وتحديات العصر ، 1990 م ، ط 1 ، دار الفكر العربي ، القاهرة .
6 . قطب ، محمد ، منهج التربية الإسلامية ، 1409 هـ ، ط 12 ، دار الشروق ، القاهرة وبيروت .
7 . مدكور ، علي أحمد ، منهج التربية في التصور الإسلامي ، 1411 هـ ، دار النهضة العربية ، بيروت .
8 . مكانسي ، عثمان قدري ، من أساليب التربية في القرآن الكريم ، 1422 هـ ، ط 1 ، دار ابن حزم ، بيروت .(115/1356)
9 . النحلاوي ، عبدالرحمن ، أصول التربية الإسلامية وأساليبها ، 1403 هـ ، ط 2 ، دار الفكر ، دمشق .
ـــــــــــــــــــ
واجب المسلم عند الفتن
مشرف النافذة
30 / 3 / 1424
ارسل تعليقك ...
لا توجد تعليقات ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
اسم الكتاب: واجب المسلم عند الفتن "أزمة ومواقف".
المؤلف: باسل بن سعود الرشود.
الطبعة الأولى (1424هـ)
إصدار: المنتدى الإسلامي – الرياض.
هذا الكتاب يأتي ضمن سلسلة تصدر عن المنتدى الإسلامي تحت عنوان "كتاب المنتدى" ويقع الكتاب في 78 صفحة من القطع الصغير.
تحدث المؤلف في هذا الكتاب عن أزمة ومواقف لا يختلف اثنان أن الأمة اليوم تعيش زماناً صعباً، وامتحاناً شاقاً، ومواجهة شرسة مع أعدائها، والمسلمون أنفسهم يواجهون رياح الفتن المتعاقبة التي أخبر عنها النبي صلى الله عليه وسلم، والتي تعصف بالناس يمنة ويسرة. فما واجب المسلم عند الفتن؟ هذا ما يحدثنا به مؤلف هذا الكتاب.
ذكر المؤلف في مقدمته أن الأزمة تكون كالكير وكالنار وكالحمى وكالصدمة الكهربائية.
كالكير الذي يُذهب خبث الحديد.
كالنار التي تحرق الأرض فتعود أخصب من أخصب منها.
كالحمى تأخذ الجسد وتطرحه وتمتصه لتطهره من الذنوب.
كالصدمة الكهربائية التي تنفض الأمة وتحرك دماءها الساكنة.
فإذا جاءت الأزمة كان لا بد للمسلم من موقف يواجه به الفتن، والأزمة ليست ضرراً على الأمة بل تحت طيات الأزمات تأتي الخيرات.
لعل عتبك محمود عواقبه ... ... وربما صحت الأجسام بالعلل
فإذا جاءت الأزمة كان لا بد للمسلم من موقف يواجه به الفتن، والأزمة ليست ضرراً على الأمة بل تحت طيات الأزمات تأتي الخيرات.
ذكر المؤلف أحد عشر موقفاً يلتزمها المسلم أوقات الأزمات وزمان الفتن، وهي مجملة: الثبات وتثبيت العلماء وترسيخ الإيمان وتوضيح الدين واستشعار الأزمة واستنهاض الهمم وتجميع الصفوف وتفعيل الأمة والاحتساب وإشاعة الوعي والدعوة إلى الله .(115/1357)
وإليكم عرضاً موضحاً لتلك المواقف التي ذكرها المؤلف.
أولاً: الثبات والتثبت
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا) (الأنفال: من الآية45) فالأزمات عواصف تهز الأمة ولا بد للأمة من تثبيت، والقلوب الضعيفة عرضة للمد والجزر ولجذب الشياطين.
وذكر المؤلف قصة النبي صلى الله عليه وسلم مع صاحبه في الغار "أبي بكر الصدّيق" وثباته على المحنة وشدة البلاء في قوله صلى الله عليه وسلم: "ما ظنك باثنين الله ثالثهما" وقوله: "لا تحزن إن الله معنا" وذكر كذلك قصة ثبات المسلمين بقيادة خالد بن الوليد رضي الله عنه يوم اليرموك حين ثبتوا فثبتهم الله.
ثانياً: وتثبيت العلماء
والعلماء بشر تعصف بهم الفتن كما تعصف بالناس، ويرتفع الإيمان وينخفض وتشتد العزيمة وترتخي ويميل ويثبت، فكُن مع العلماء، وإذا كانت كلمة العلماء تعني شيئاً وقت الرخاء فهي أعظم وقت الأزمة، وذكر المؤلف قصة ذلك الأعرابي الذي ثّبت الإمام أحمد زمن المحنة فقال له: يا أحمد إن يقتلك الحق مت شهيداً وإن عشت عشت حميداً فقوِّ قلبك. فلم تكن هناك كلمة أقوى منها في قلب الإمام أحمد.
ثالثاً: ترسيخ الإيمان
علينا أن نحرص على بث الإيمان في قلوبنا وقلوب الآخرين عند الأزمة لأمور منها:
أ- في الأزمة تقبل القلوب على خالقها، وعلى الدعاة أن يضخوا في القلوب معاني الإيمان والتوكل والرغبة والرهبة والإنابة والتوبة.
ب- أن الأزمة لا تخلو من فتنة وظلمة وجفاف وتيه، وفي الإيمان نور وغيث وهداية، ونقل المؤلف كلام ابن حجر رحمه الله في استحباب الإسراع إلى الصلاة عند خشية الشر والفزع إليها عند ا لفتن، وهذا ما أرشد إليه النبي صلى الله عليه وسلم وفعله وأكد عليه بقوله: "العبادة في الهرج كهجرة إلي" رواه مسلم.
ت- أن الإيمان أمان، فالله تبارك وتعالى يدافع عن الذين آمنوا، فبقدر الإيمان تكون المدافعة وبقدر الإحسان تكون المعية وبقدر العبادة تكون الكفاية.
رابعاً: توضيح الدين
في الأزمات يكثر السؤال والقيل والقال ويُفجر الموقف الواحد ألف سؤال وسؤال، وتلتفت الأمة إلى العلماء ليسمعوا الكلمة، والكلمة هنا غالية، قد تكلف الإنسان رأسه أو وظيفته، وحينئذ فلا بد من قيام لله بتوضيح الدين خاصة إذا مست الأمة في عقيدتها وشوش التوحيد وهمشت الثوابت ونطق الرويبضة، وقد تكون المسألة بغاية الوضوح وقت الرخاء، فإذا وقعت الواقعة فكأنما غشيتها غمامة! ولا يكفي مجرد التنظير لهذه المسائل، بل يجب تنزيل هذه الأحكام الشرعية على ما يلائمها من الواقع بكل رسوخ وتحقيق كما فعل علماؤنا الأفاضل.
خامساً: استشعار الأزمة
تمر الأزمة بالأمة، فلا يبالي الرجل بما كان وما يكون، لم يتغير جدوله، ولم يعد نفسه، ولم يضع بصمته في صفحة الأزمة، ولقد عرض للأمة نازلة توجب الاشتغال بما هو أعظم من نوافل التحديث وأعظم من ذلك أن ترى ذا العلم، وذا الدعوة يرى(115/1358)
الأزمة تركض إليه وإلى قومه ولم يحرك ساكناً ليس لغفلة أو جهالة أو لعجز، فيُعذَر، بل تعامياً وتماوتاً، ثم ذكر المؤلف كلاماً جميلاً طويلاً لابن القيم يحسن الرجوع إليه.
سادساً: استنهاض الهمم
على الأمة أن تستنهض هممها وأن تشكلها بل تفجرها تفجيراً؛ لأن السيوف والقنابل قبل أن تقصف الرؤوس تقصف الهمم، واستنهاض الهمم بالآي والحديث وبالخطبة وبالقصة وبالشعر وبالموقف الشجاع، ثم ذكر المؤلف شواهد على ذلك من التاريخ كما فعل عبد الله بن رواحة رضي الله عنه في مؤتة، شجع الناس وأيقظ هممهم وذكّرهم أنه إما الشهادة أو ا لنصر فقال الناس والله صدق ابن رواحة، وذكر المؤلف أيضاً أحداث معركة عين جالوت وكيف واجه المظفر قطز رحمه الله التتار وشجع الناس وسما بهممهم حتى هزموا الأعداء شر هزيمة.
سابعاً: تجميع الصفوف
نحتاج إلى رص الصفوف والقلوب والجهود، ونحتاج إلى نشر أدب الخلاف وفقه الأخوة مع قاموس نظيف للألفاظ، ونحتاج إلى النصح والتصحيح وبيان الحق والصبر على ذلك، فالمقصود الاجتماع على الحق، والله يقول: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا) (آل عمران: من الآية103) وأول ما نحتاج إلى الالتفاف حوله ورص الصف معه العلماء العاملون، والمجاهدون المؤمنون، والدعاة الصادقون، نحتاج إلى ترشيد الجهود، إلى التسامي عن المعارك الهامشية حول اسم أو رمز أو المجادلة عن حظ النفس باسم الدفاع عن الدين أو الأنانية الفكرية الضيقة في "أنا" الفردية أو "نحن" الحزبية، كذلك نحن بحاجة إلى التسامي عن توزيع التهم، فلا نشق الصف بتعيير الآخر بشق الصف.. إلى آخر ما ذكر المؤلف تحت هذا الموقف المهم والمطلب الأهم.
ثامناً: تفعيل الأمة.. كل الأمة
كل الأمة، الصغير والكبير، والرجل والأنثى، الغني والفقير، وما بينهما، الصحيح والمريض، والأعرج والمشلول، حتى البر والفاجر، وآخرين خلَّطوا، والجماعات الإسلامية بكل الأسماء وفي كل الاتجاهات.
تريد مهذباً لا عيب فيه ... ...
وهل عود يفوح بلا دخان
العمل للأمة واجب الجميع؛ لأنها أزمة الجميع، ولأننا نحتاج كل الطاقات وهي أوسع من فئة أو أفراد صالحين، نحتاج إلى إيقاظ الأمة، نحتاج إلى تجييش الأمة، نحتاج إلى التغاضي شيئاً ما وتأجيل الخلافات والخصومات الداخلية وذكر المؤلف دلائل وشواهد تاريخية منها أن جيش سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه خرج إلى القادسية جهاداً ودفاعاً للباطل وفي الجيش أبو محجن الثقفي رضي الله عنه شرب الخمر و جلد الحد ولكنه يحب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
تاسعاً: الاحتساب
وكما أن الخفافيش العلمانية تخرج في الليل وتضغط وتستنفر، فلا بد للمرابطين الساهرين على حصون الأمة أن يصطادوا الخفافيش، أن يطاردوا اللصوص، وأن يفعلوا شيئاً، وذكر المؤلف من صور الاحتساب:(115/1359)
- الاحتساب على المرأة وحياطتها وصيانتها وحراسة فضيلتها.
- الاحتساب على منع الظلم، وهذا من أعظم الأعمال المتوجبة على أهل العلم، خاصة إذا ماتت الأمانة وفرخت الأنانية وعاش الناس في طبقية بشعة، يفتقر فيها الفقير ويفحش فيها الغني وتمتص دماء الناس هنا وهنا... إلى آخر ما ذكر المؤلف عند هذه النقطة.
- الاحتساب على رعاية الناس وحفظ أمنهم وتدبير معيشتهم، كل بحسب موقعه وقدرته، في أهله أو قرابته، في مسجده أو حيّه أو بلده، خاصة إذا اشتدت الأزمة وارتخت القبضة التي تنظم الأمر وتدفع اللصوص وذكر المؤلف قصصاً لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في هذا المجال، فلتراجع.
عاشراً: إشاعة الوعي
إن كانت الأزمة ضربة، فلا بد أن نستيقظ، لقد نامت الأمة نومة شتوية طويلة عن سنن الله وعادة الحياة وكيد الأعداء، نومة جلبها الخمول وحب الدنيا، نعم الوعي ثقيل أحياناً، شعور مؤلم أن تشعر بأن الحياة لا تصفو، أن تشعر بقسوتها، أن تشعر بمخططات الأعداء، بل وتنفيذهم، ليس هذا فقط بل وأن عليك أمام كل هذا واجبات وحركة وثمن وأنه لا بد أن تتعلم وتخطط وتنفذ، ومن صور الوعي التي تحدث عنها المؤلف:
- أن تشعر ببعدك عن الله وحاجتك إليه وفقرك إليه وتقصيرك في حقه وحق دينه وحق عباده.
- الوعي بالمنافقين، الخفافيش البشرية التي تكمن في نهار الرخاء وتخرج في ليالي الأزمة، وما وقع من المنافقين في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم شاهد على ذلك.
- الوعي بعداوة الكفار، الكفار الذين لن يرضيهم شبر الأرض ولا برميل النفط ولا الكلمة والبسمة، فضلاً عن السكون والسكوت، والله يقول لك: (وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ) (البقرة: من الآية120).
- الوعي بسنن الله في المدافعة (وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً) (الحج: من الآية40).
- الوعي بأنفسنا، بمواضع قوتنا وضعفنا، بمشكلاتنا، الأحداث محك تجربة لمناهجنا، لعلاقتنا، لصبرنا، لتفكيرنا، وأهم من ذلك كله لإيماننا.
- الوعي بمعنى الصبر وحقيقته، وبسبيل النصر وطريقته، وبأن الثبات في سبيل الله نصر، والوعي بأن الله يبتلي المؤمنين ويزلزلهم حتى يقول الرسول صلى الله عليه وسلم والذين آمنوا معه متى نصر الله؟
الحادي عشر: إلى الله
وأخيراً.. إلى الله، وما جعلت هذا الموقف أخيراً إلا لتذكره فلا تنساه، ولتحفظه حفظاً وتحفره في ذاكرتك، وتكتبه في يدك، وتجعله في خاتمك.
إلى الله، فالخير بيديه، والشكوى إليه، والأمر منه وإليه، إلى الله بالدعوات واللهفات والاستغاثات، بقنوت وصلوات، بقائمة من الأدعية حال الفتن والكرب وخوف الأعداء نحفظها ونحفِّظها أبناءنا ومَن وراءنا.(115/1360)
وقد ذكر المؤلف عدة نماذج من التاريخ ومنها أن قتيبة بن مسلم سأل عن محمد بن واسع يوم قتال الترك فقيل له: هو ذاك في الميمنة جامع على قوسه يبصبص بأصبعه نحو السماء، فقال قتيبة: تلك الأصبع أحب إلي من مائة ألف سيف شهير وشاب طرير.
ثم يختم المؤلف كتابه متفائلاً بكلمات جميلة، نذكر منها: وبعد، فهذه أزمة، وهذه مواقف جاءت إليك، والعدو يجوس في الديار، وبغداد يدب عليها التتار، التتار الجدد، أزمة كما تدعوك لأن تهتم وتجدّ، فهي تدعوك لأن تتفاءل.
تفاءل، التف إلى الله، وأبشر، اثبت وثبّتن ازرع الإيمان ووضح الدين، إهتم وأشعل الهمة، رص الصف وفعّل الأمة، وانشر الوعي وفِرّ إلى الله.
يا رفيق الطريق هوّن عليك الأمر ... ...
لا بد من زوال المصاب
وليالي الأحزان ترحل فالأحزان ... ...
مثل المسافر الجواب
ـــــــــــــــــــ
مفهوم التربية
د. سعد الشدوخي
23/3/1424
ارسل تعليقك ...
لا توجد تعليقات ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
بسم الله الرحمن الرحيم
كلمة "تربية" من حيث مدلولها اللغوي تنتمي إلى الجذر الثلاثي " رَ بَ وَ" والفعل منه "ربى" وهو في جميع تصاريفه يدل على معاني النمو والزيادة، يقول الله تعالى:"وما آتيتم من ربا ليربو في أموال الناس فلا يربو عند الله" (الروم 39) أي ليزيد في أموال الناس فإنه لا يزيد عند الله. وسمي الربا ربا لما فيه من الزيادة على رأس المال.
ويقول الله تعالى: "يمحق الله الربا ويربي الصدقات" (البقرة276) أي ينمي الصدقات ويزيدها بمضاعفة أجرها الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف كما ورد في الحديث الصحيح. والربوة ما ارتفع من الأرض، وسميت بذلك لما فيها من الزيادة التي بها ارتفعت عما جاورها.
والفعل "ربّى" مضعّف يتضمن معنى التدرج والتعهّد المستمر؛ يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لاَ يَتَصَدَّقُ أَحَدٌ بِتَمْرَةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ إِلاَّ أَخَذَهَا اللَّهُ بِيَمِينِهِ فَيُرَبِّيهَا كَما يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ أَوْ قَلُوصَهُ حَتَّكُونَ مِثْلَ الْجَبَلِ أَوْ أَعْظَمَ " (مسلم239وتربية الفلو إنما تكون بتعهّده بما يصلحه في غذائه وصحته ورياضته(115/1361)
على ما يريده منه مربيه حتى يصل في نموه وإتقانه إلى منتهاه، يقول أبو الطيب واصفا موافقة جواده لمراده:
رجلاه في الركض رجل واليدان يدٌ ... ... وفعله ما تريد الكف والقدمُ
التربية :عملية يتم بها الانتقال بالفرد من الواقع الذي هو عليه إلى المثل الأعلى الذي ينبغي أن يكون عليه
وتربية الإنسان بتعهّده بالرعاية بكل ما من شأنه أن يحقق نموه في كل مجالات النمو، وقد ورد ذكر التربية بهذا المعنى في القرآن الكريم؛ يقول الله تعالى على لسان فرعون مخاطبا موسى عليه السلام: " أَلم نربِّك فينا وليدا ولبثت فينا من عمرك سنين؟" (الشعراء18)
ويقول الله تعالى أيضاً: "وقل ربّ ارحمهما كما ربياني صغيرا" (الإسراء 24)
أما التربية في اصطلاح التربويين فقد عرّفت بتعريفات كثيرة بينها تقارب وتباعد، وليس هذا مقام تتبع تلك التعريفات، غير أن التعريف الذي أراه هو أنها "عملية يتم بها الانتقال بالفرد من الواقع الذي هو عليه إلى المثل الأعلى الذي ينبغي أن يكون عليه" ولنا مع هذا التعريف عدد من الوقفات:
الأولى: أن التربية "عملية" تتضمن مجموعة من الإجراءات المتداخلة، ومن ثم فإنها ليست محصلة لعامل واحد بحيث يمكن التحكم فيها إذا أمكن التحكّم فيه، وإنما تتفاعل فيها عناصر متعددة ( عناصر الموقف التربوي) من مثل خصائص متلقي التربية العمرية وخصائصه الفردية، والسياق النفسي والاجتماعي الذي يقدّم فيه المحتوى التربوي ومدى مناسبة ذلك السياق لمتلقي التربية من جانب وللمحتوى التربوي من جانب آخر ومدى مناسبة المحتوى التربوي ذاته لمتلقي التربية، ومن مثل شخصية المربي و مدى قبول متلقي التربية له ... إلى غير ذلك مما له علاقة بالموقف التربوي وعناصره.
الثانية: أنها عملية "انتقال" وهذا يتضمن أنها عملية "تغيير"، وهذا التغيير يتمثّل في النمو المتحصل في متلقي التربية نتيجة لمروره بالخبرات المتضمنة في عملية التربية.
الثالثة: أن "الواقع" الذي عليه متلقي التربية عند بداية تلقيه لها له أهمية كبيرة، وإدراك المربي له ضروري لمعرفة أين يقع متلقي التربية مما يراد الوصول به إليه، وما احتياجاته التربوية؟ وكيف يمكن ترتيبها من حيث أولويتها أو كون بعضها سابقا بالضرورة لبعض لكونه شرطا له أو نحو ذلك؟
الرابعة: أن هذا الانتقال هادف وليس عفويّا، وبهذا تختلف التربية عن كثير من صور التنشئة الاجتماعية تلك التي يتشرب فيها الناشئ مفاهيمه وتصوراته وأنماط سلوكه من المجتمع المحيط به بصورة تلقائية كما تتشرب الاسفنجة ما يحيط بها من بلل. التربية عملية هادفة توجهها إرادة وقصد؛ يعي فيها المربي أين يقف متلقي التربية الآن وإلى أين ينبغي أن يصير.
الخامسة: أن هذا الانتقال يسير باتجاه "المثل الأعلى" الذي ينبغي أن يكون عليه متلقي التربية، والمقصود بالمثل الأعلى هنا الإنسان في حالته المثلى، وهي تختلف من مجتمع إلى مجتمع ومن أمة إلى أمة ومن فلسفة إلى أخرى، وتحديد "المثل(115/1362)
الأعلى" للإنسان هو الذي يعطي للتربية هويتها. ولكل أمة من الأمم مصادرها التي تستمد منها رؤيتها للإنسان في وضعه الأمثل، ونحن المسلمين إنما نستمد الصورة المثلى للإنسان من كتاب الله ومن سنة نبيه صلى الله عليه وسلم. والإنسان الأمثل عندنا هو من تحققت فيه غاية وجوده وهي العبودية لله سبحانه وتعالى؛ إذ هي حكمة خلق الله للجن والإنس، يقول الله تعالى: "وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون" (الذاريات56)، وهي المهمة التي جاء الإنسان إلى هذا الوجود من أجل إنجازها، و خروجه من هذه الحياة دون أن ينجزها هو الخسران الحقيقي كما قال تعالى: "قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا ذلك هو الخسران المبين" (الزمر15)
السادسة: أن الانتقال بمتلقي التربية إلى هذه الغاية انتقال منظم؛ يتعامل مع واقع متلقي التربية ويدرك فيه المربي المسافة بين الواقع وما ينبغي أن يصار إليه، ومن ثم فإنه يدرك أيضا أن الغاية القصوى للتربية ينبغي أن يشتق منها أهداف متدرّجة تمثّل سلّما يترقى فيه متلقي التربية من الواقع الذي هو عليه باتجاه "المثل الأعلى" الذي ينبغي أن يكون عليه، ويمثّل المحتوى التربوي والمناشط التربوية جسورا تربط أهداف التربية بعضها ببعض..
ـــــــــــــــــــ
في ثقافة الحوار
د. مصطفى السيد
17 / 3 / 1424
ارسل تعليقك ...
لا توجد تعليقات ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
في البدء كانت الكلمة أساساً للتعاون والتعارف، ومنطقاً للتعايش والتآلف. وإذا كانت في الماضي وسيلة النبوة والأنبياء في خطاب أممهم، وأداة الدعوة والدعاة إلى المدعوين، والعلم والعلماء مع المتعلمين؛ فهي كذلك اليوم وغداً، ستظل مرتكزاً للحوار، ومستودعاً لمباهج الحياة ومآسيها وأوجاعها وإبداعها، وسيبقى الناس في سعة من دينهم ويسر في دنياهم ما شهروا سلاح الكلمة وشحذوه بالثقافة والاطلاع والقراءة المنتجة، وما آثروا الحوار والكلام على الصمت واللغو، الذي لا يكون سوى الصمت المقنع عندما يتكلم الإنسان فلا يقول شيئاً.
والحوار الحق هو الذي:
{ تحدد فيه نقطة الخلاف أو نقاط الخلاف.
{ يحدد فيه مرجع الفصل ومرجعيته عند الخلاف.
{ تتساوى فيه حقوق المتحاورين صورة وصوتاً ووقتاً.
{ يكون لطلب الحق والحقيقة وليس للغلبة أو النصر.(115/1363)
إن مثل هذه الشروط يجب أن تكون جزءاً من ثقافتنا، وشعاراً ومشروعاً أيضاً للثقافة والمثقفين، والمعلمين والمتعلمين، بل لجميع من يمارسون مسؤولية في أي موقع كانوا.
كما يجب أن يكون الحوار عنصراً أساساً في حياتنا، لا عنصراً تجميلياً أو تكميلياً أو موسمياً نردّه إن لاحت لنا بوادر تشير إلى نتيجة في غير صالحنا، وإن يكن لنا الحق فيه نأت إليه مذعنين.
الحوار بين الزوجين؛ منطلق لبناء حياتهما على أسس صلبة، والحوار بين أفراد الأسرة، يؤسس لعلائق الاحترام والتقدير، وينأى بها عن النكد والتكدير.
الحوار بين المدرس وطلابه يجسّد الصلة بينهم، وهو أوثق مؤهلات المعلم والمتعلم فيما بعد.
الأنبياء – جميعهم – عليهم الصلاة والسلام، دعوا أقوامهم إلى الحوار، وكانت المناقشات أكثرها في الهواء الطلق (وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحىً)، وأن تستغل كل وسائل الإعلام للحضور والتحضير، (وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ).
في البدء كانت الكلمة أساساً للتعاون والتعارف، ومنطقاً للتعايش والتآلف. وإذا كانت في الماضي وسيلة النبوة والأنبياء في خطب أممهم، وأداة الدعوة والدعاة إلى المدعوين، والعلم والعلماء مع المتعلمين؛ فهي كذلك اليوم وغدا، ستظل مرتكزاً للحوار، ومستودعاً لمباهج الحياة ومآسيها وأوجاعها وإبداعها،
الحوار أسلوب الواثقين، ولغة المتمكنين، اعتمده "سقراط" في استراحة تلميذه "أكاديموس" الذي نسبت إليه كلمة "أكاديمي" فيما بعد.
كان يبدأ الحوار حول نقطة معينة، يحاور سقراط طلبته لينتهوا إلى تقرير ما أمكن من الحقائق عن الموضوع محل الخلاف، لعل هذا الكلام يؤهل استراحتنا والمستريحين إلى التشوق لذلكم الأسلوب "السقراطي".
المحاور الحق ليس عنده ما يخفيه أو يخاف عليه، إنه يخاف الصمت، ولكن يتقوى بالصبر، يعد نفسه منتصراً إذا ظهرت الحقيقة ولو على لسان خصمه، ولله درّ إمامنا الشافعي – رحمه الله – القائل: "ما حاورت أحداً إلا وتمنيت أن يظهر الحق على لسانه، حتى يكون أدعى لقبوله به، فطلب الحق هو الغاية، وليس طلب النصر أو الكسر.
لما انشق نفر من جند علي – رضي الله عنه – عن جيشه بعد صفين؛ أرسل إليهم حبر الأمة وترجمان القرآن ابن عباس رضي الله عنهما، فما زال يحاورهم "حتى رد سوادهم إلى معسكر أهل السنة والجماعة"(*).
إنها رسالة مفتوحة لنا جميعاً، نقرأ فيها:
الحوار أولاً وثانياً وثالثاً؛ لأن فواتير الحوار مهما كانت باهظة الثمن؛ تظل أقل كلفةً وسلبيةً من غيرها من الأساليب.
وأخيراً؛ فإن تبادل الإدانات لا يفضي إلى شيء، أما تبادل الأفكار والحوار؛ فإنهما يفضيان إلى المستقبل.
---------------------------------(115/1364)
(*) حوار ابن عباس رضي الله عنهما مع الخوارج غني بالفكر وحب هدايتهم. انظر فيه جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر 2/127.
ـــــــــــــــــــ
التربية الجهادية
في ضوء الكتاب والسنة
تأليف
عبد العزيز بن ناصر الجليل
التربية الجهادية
في ضوء الكتاب والسنة
تمهيد
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين•
وبعد:
فيقول الله عز وجل: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (آل عمران:104).
ومما لا شك فيه أن الجهاد في سبيل الله تعالى ضرب مهم من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ إذ لا بد منه للأمة التي تدعو إلى الله عز وجل وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؛ وذلك في مرحلة من مراحلها؛ وذلك إما بجهاد الدفع عندما تبتلى الأمة بمن يفتنها في دينها أو دمائها أو أعراضها فيفرض عليها المدافعة فرضًا حسب الإمكان وإلا الفناء والهلاك، أو بجهاد الطلب ونشر دين الله تعالى عندما تكون قادرة على ذلك؛ إذ إن من سنن الله تعالى أن يجد الدعاة أنفسهم وهم يتقدمون بالدعوة إلى الناس أن الطواغيت يحولون بينهم وبين وصول الحق إلى الناس وأن يكون الدين كله لله، فيشرع حينئذ جهاد المفسدين الصادين عن سبيل الله تعالى حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله تعالى• وهذا فرع عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي تقوم من أجله الدعوة وتبذل فيه التضحيات في سبيل الله تعالى•
وإن الأمة الإسلامية اليوم تمر بظروف عصيبة تكالب فيها الأعداء وتنادوا من كل صوب، وتداعوا على حرب الإسلام وأهله الصادقين؛ وذلك في حملة شرسة وحقد دفين يريدون من ورائه مسخ الإسلام في قلوب أهله، وجر المسلمين إلى التبعية للغرب الكافر• وساعدهم في ذلك المنافقون من بني جلدتنا؛ فجاءت الحرب شاملة من خارج الأمة ومن داخلها: (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) (التوبة:32).
ومع إيماننا بحتمية الصراع بين الحق والباطل، ومع أن جهاد الكفار أصبح أمرًا مفروضًا على المسلمين دفاعًا عن الدين والعرض حتى لا تكون فتنة، إلا أن المسلم الناظر في أحوالنا اليوم وما هي عليه من ضعف إيمان، وركون إلى الدنيا، وترهل في الهمم والأجسام، ويأس وإحباط ليَشعُر بالخطر على نفسه وعلى أمته، ويفرض عليه ذلك المبادرة مع إخوانه في وضع برامج علمية وعملية لإعداد النفوس وانتشالها من نومها أو موتها، وإحياء الجهاد وتحديث النفس به. فلقد قال رسول الله: "من لم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من شعب النفاق"(1).(115/1365)
وتحديث النفس بالغزو ليس المراد منه خاطرة تمر في النفس ثم تدفن في أودية الدنيا وزينتها التي سيطرت على كثير منا؛ وإنما المراد به العزيمة الصادقة على ذلك، ومن علاماتها الأخذ بالأسباب، وإعداد العدة الشاملة للجهاد في سبيل الله تعالى علماً وعملاً وحالاً• قال الله تعالى: (وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً ...) (التوبة: من الآية46).
وفي المقابل لأحوال المفرِّطين في إعداد العدة لجهاد الكفار وتربية النفوس على ذلك، توجد طائفة أخرى قد أفرطت وتعجَّلت في مواجهة الكفار والمنافقين بالصدام المسلح دون إعداد شامل لهذه المواجهة، وقبل أن يأخذ البلاغ العام للناس حقه كي تستبين لهم سبيل المؤمنين وسبيل المجرمين، ويزول اللبس والاشتباه بينهما ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حيَّ عن بينة•فنشأ من جراء ذلك مفاسد عظيمة على الدعوة وأهلها وعلى عامة المسلمين الذين لبس الأمر عليهم ولم يستبينوا سبيل المجرمين•
وعندما نذكر المستعجلين للجهاد قبل الإعداد له فإنما نقصد أولئك الذين بادروا إلى المواجهة مع الأنظمة الكفرية المستقرة المتمكنة قبل الإعداد لذلك، وقبل وضوح الراية الكفرية للناس في هذه الأمكنة• أما الساحات الجهادية التي قد اتضحت فيها رايات الكفار فهذا جهاد مشروع ومطلوب كما هو الحال في كشمير وأفغانستان والشيشان وفلسطين•
والمقصود مما سبق أن كلا الفريقين: سواء المهملون للتربية الجهادية في برامجهم ومناهجهم وسيطرة حياة الترف والترهل على حياتهم، أو المستعجلون للجهاد المسلح قبل استكمال عُدته في النفس والواقع؛ أن كلا الفريقين محتاج لإعداد العدة للجهاد في سبيل الله تعالى بمفهومه الشامل، وهو ما دفع إلى كتابة هذه الأوراق التي أرجو أن تكون فاتحة خير في هذا الموضوع المهم، ولعلها أن تفتح الباب للمهتمين بالدعوة والجهاد كي يدلوا بدلوهم في هذا المجال المهم من مجالات التربية والإعداد للجهاد ويكملوا ما نقص منه حتى يجد المربون فيه بغيتهم من البرامج العلمية والعملية لإعداد شباب الصحوة وبقية الأمة للجهاد في سبيل الله تعالى•
وقبل الدخول في ذكر الوسائل والبرامج التي تُحيي في النفوس الجهاد والاستعداد له يحسن الحديث عن بعض المقدمات المهمة التي تتعلق بالجهاد والغزو في سبيل الله تعالى•
المقدمة الأولى: المعنى العام للجهاد ومراتبه•
المقدمة الثانية: أقسام الجهاد في سبيل الله عز وجل•
المقدمة الثالثة: غاية الجهاد في سبيل الله عز وجل•
المقدمة الرابعة: ثمرة الجهاد في سبيل الله عز وجل في الدنيا والآخرة•
المقدمة الخامسة: مخاطر إهمال الجهاد في سبيل الله عز وجل وترك الاستعداد له•
المقدمة الأولى
المعنى العام للجهاد ومراتبه
المعنى اللغوي:
قال الراغب في مفردات القرآن: (الجَهْد والجُهْد: الطاقة والمشقة• وقيل الجَهْد بالفتح: المشقة، والجُهْد: الوسع)(2).(115/1366)
وقال ابن حجر: (والجهاد بكسر الجيم: أصله لغة: المشقة)(3).
المعنى الشرعي:
يدور المعنى الشرعي عند أغلب الفقهاء: على قتال المسلمين للكفار بعد دعوتهم إلى الإسلام أو الجزية ثم إبائهم•
فهو عند الأحناف: (بذل الوسع والطاقة بالقتال في سبيل الله عز وجل بالنفس والمال واللسان أو غير ذلك أو المبالغة في ذلك)(4).
وبأنه: (الدعاء إلى الدين الحق وقتال من لم يقبله)(5).
وعند المالكية هو: (قتال مسلم كافرًا غير ذي عهد لإعلاء كلمة الله تعالى)(6).
وعند الشافعية كما قال الحافظ ابن حجر: (وشرعًا: بذل الجهد في قتال الكفار)(7).
وعند الحنابلة: (قتال الكفار)(8).
وكل هذه التعريفات يُرى أنها قد حصرت الجهاد في قتال الكفار، وهذا هو تعريف الجهاد عند الإطلاق• وهناك أنواع أخرى قد أطلق عليها الشارع اسم الجهاد مع خلوها من القتال كجهاد المنافقين، وجهاد النفس•
ولذا فإن لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى تعريفًا عامًا للجهاد قال فيه: "والجهاد هو بذل الوسع - وهو القدرة - في حصول محبوب الحق، ودفع ما يكرهه الحق"(9).
وقال أيضاً: "••• وذلك لأن الجهاد حقيقته الاجتهاد في حصول ما يحبه الله
من الإيمان والعمل الصالح، ومن دفع ما يبغضه الله من الكفر والفسوق والعصيان"(10).
وتحت هذا المعنى العام للجهاد يدخل جهاد النفس في طاعة الله تعالى وترك معاصيه، وجهاد الشيطان وجهاد المنافقين، وجهاد الكفار، ومن ذلك جهاد البيان والبلاغ، ومدافعة الفساد والمفسدين؛ بل إن جهاد الكفار بالسنان إن هو إلا جزء من القيام بفريضة الأمر بالمعروف الأكبر - وهو نشر التوحيد - والنهي عن المنكر الأكبر - وهو الشرك بالله عز وجل والكفر به - وذلك بعد دعوة الكفار إلى التوحيد ورفضهم له أو لدفع الجزية•
ويبين الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى حقيقة الجهاد بمعناه العام وأنواعه فيقول: "لما كان الجهاد ذروة سنام الإسلام وقُبَّتَه، ومنازلُ أهله أعلى المنازل في الجنة، كما لهم الرفعةُ في الدنيا، فهم الأعلون في الدنيا والآخرة، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في الذِّروةِ العُليا منه، واستولى على أنواعه كلِّها فجاهد في الله حقَّ جهاده بالقلب والجَنانِ، والدعوة والبيان، والسيف، والسِّنَانِ، وكانت ساعاته موقوفة على الجهاد، بقلبه، ولسانه، ويده• ولهذا كان أرفعَ العالمين ذِكرًا، وأعظمهم عند الله قدرًا•
وأمره الله تعالى بالجهاد من حين بعثه، وقال: (وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبِيراً) (الفرقان:51-52). فهذه سورة مكية أمر فيها بجهاد الكفار، بالحُجة، والبيان، وتبليغ القرآن• وكذلك جهادُ المنافقين إنما هو بتبليغ الحُجَّة، وإلا فهم تحت قهر أهل الإسلام؛ قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) (التوبة:73).(115/1367)
فجهادُ المنافقين أصعبُ من جهاد الكفار، وهو جهادُ خواصِّ الأمة، وورثة الرُّسل، والقائمون به أفرادٌ في العالم، والمشاركُون فيه، والمعاونون عليه، وإن كانوا هُم الأقلين عددًا، فهم الأعظمون عند الله قدرًا•
ولما كان من أفضل الجهاد قولُ الحقِّ مع شدة المُعارِضِ، مثلَ أن تتكلم به عند من تُخاف سَطوتهُ وأذاه، كان للرسلِ - صلواتُ الله عليهم وسلامُهُ - مِن ذلك الحظُّ الأوفَرُ، وكان لنبينا - صلوات الله وسلامه عليه - من ذلك أكملُ الجهاد وأتمُّه•
ولما كان جهاد أعداءِ الله في الخارج فرعًا على جهادِ العبد نفسه في ذاتِ الله؛ كما قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: (المجاهِدُ مَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ في طَاعَةِ الله، والمُهاجِرُ مَنْ هَجَرَ ما نَهَى الله عنه)(11). كان جهادُ النفس مُقدَّماَ على جهاد العدوِّ في الخارج، وأصلاً له؛ فإنه ما لم يُجاهد نفسه أولاً لتفعل ما أُمِرَتْ به، وتترك ما نُهيت عنه، ويُحارِبها في الله، لم يمكنه جهادُ عدوه في الخارج، فكيف يُمكِنُهُ جهادُ عدوه والانتصاف منه، وعدوُّه الذي بين جنبيه قاهرٌ له، متسلطٌ عليه، لم يُجاهده، ولم يُحاربه في الله، بل لا يُمكنه الخروجُ إلى عدوه، حتى يُجاهد نفسه على الخروج•
فهذان عدوَّانِ قد امتُحِنَ العبدُ بجهادهما، وبينهما عدوٌ ثالث، لا يمكنه جهادُهما إلا بجهاده، وهو واقف بينهما يُثَبِّطُ العبدَ عن جهادهما، ويُخَذِّلُه، ويُرجِفُ به، ولا يزالُ يُخَيِّل له ما في جهادهما من المشاق، وترك الحظوظ، وفوت اللذات، والمشتهيات، ولا يُمكنه أن يُجاهِدَ ذَيْنكَ العدويْنِ إلا بجهاده، فكان جهادُه هو الأصل لجهادهما، وهو الشيطان؛ قال تعالى: (إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً )(فاطر: من الآية6). والأمر باتخاذه عدوًا تنبيه على استفراغ الوسع في محاربته ومجاهدته، كأنَّهُ عدو لا يفتر،ولا يُقصِّر عن محاربة العبد على عدد الأنفاس•
فهذه ثلاثة أعداء، أُمِرَ العبد بمحاربتها وجهادها، وقد بُلي بمحاربتها في هذه الدار، وسُلِّطت عليه امتحاناً من الله له وابتلاء، فأعطى الله العبد مدداً وعُدَّةً وأعوانًا وسلاًحًا لهذا الجهاد، وأعطى أعداءه مددًا وعُدَّةً وأعوانًا وسلاحًا، وبَلاَ أحدَ الفريقين بالآخر، وجعل بعضهم لبعض فتنة ليبلُوَ أخبارهم، ويمتحن من يتولاه، ويتولى رسله ممن يتولى الشيطان وحزبه؛ كما قال تعالى: (وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً)(الفرقان: من الآية20) ، وقال تعالى: (ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ)(محمد: من الآية4)، وقال تعالى: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ) (محمد:31).
إذا عُرِفَ هذا فالجهاد أربع مراتب:
جهاد النفس - وجهاد الشيطان - وجهاد الكفار - وجهاد المنافقين•
فجهاد النفس أربع مراتب أيضاً:
إحداها: أن يجاهدها على تعلُّم الهُدى، ودين الحق الذي لا فلاح لها، ولا سعادة في معاشها ومعادها إلا به، ومتى فاتها عِلمُه، شقيت في الدَّارين•
الثانية: أن يُجاهدها على العمل به بعد علمه، وإلا فمجرَّدُ العلم بلا عمل إن لم يَضُرَّها لم ينفعْها•
الثالثة: أن يُجاهدها على الدعوة إليه وتعليمه من لا يعلمه، وإلا كان من الذين يكتمون ما أنزل الله من الهُدى والبينات، ولا ينفعه علمُهُ، ولا يُنجِيه من عذاب الله•(115/1368)
الرابعة: أن يُجاهدها على الصبر على مشاقِّ الدعوة إلى الله، وأذى الخلق، ويتحمَّل ذلك كله لله• فإذا استكمل هذه المراتب الأربع، صار من الرَّبَّانِيينَ؛ فإن السلف مجمِعُونَ على أن العَالِمَ لا يستحقُّ أن يُسمى ربانيًا حتى يعرف الحقَّ، ويعمل به، ويُعَلِّمَه، فمن علم وعَمِلَ وعلَّمَ فذاك يُدعى عظيماً في ملكوت السماوات•
وأما جهاد الشيطان، فمرتبتان:
إحداهما: جهادُه على دفع ما يُلقي إلى العبد من الشبهات والشكوكِ القادحة في الإيمان•
الثانية: جِهادهُ على دفع ما يُلقي إليه من الإرادات الفاسدة والشهوات• فالجهادُ الأول يكون بعُدة اليقين، والثاني يكون بُعدة الصبر؛ قال تعالى: (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ) (السجدة:24). فأخبر أن إمامة الدين إنما تُنال بالصبر واليقين؛ فالصبر يدفع الشهوات والإرادات الفاسدة، واليقين يدفع الشكوك والشبهات•
وأما جهاد الكفار والمنافقين ، فأربع مراتب:
بالقلب، واللِّسان، والمال، والنفس، وجهادُ الكفار أخصُّ باليد، وجهادُ المنافقين أخصُّ باللسان•
وأما جهاد أرباب الظلم، والبدع، والمنكرات، فثلاث مراتب:
الأولى: باليد - إذا قَدَرَ - فإن عَجَزَ انتقل إلى اللسان، فإن عَجَزَ جاهد بقلبه، فهذه ثلاثة عشر مرتبة من الجهاد، و (من مات ولم يغزُ، وَلَمْ يُحَدِّثْ نَفْسَهُ بالغَزْوِ، مَاتَ عَلَى شُْعبَةٍ من النفاق)(12).
وأكملُ الخلق عند الله، من كمَّلَ مراتِبَ الجِهاد كُلَّهَا، والخلق متفاوتون في منازلهم عند الله، تفاوتهم في مراتب الجهاد، ولهذا كان أكمل الخلق وأكرمهم على الله خاتمُ أنبيائه ورُسُلِهِ؛ فإنه كمَّل مراتبَ الجهاد وجاهد في سبيل الله حقهَ جهاده ••"(13).
وقال أيضاً: "لا ريب أن الأمر بالجهاد المطلق إنما كان بعد الهجرة، فأما جهاد الحجة فأمر به في مكة بقوله: (فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ) أي: بالقرآن (جِهَاداً كَبِيراً) (الفرقان:52) فهذه سورة مكية والجهاد فيها هو التبليغ"(14).
من هذا الكلام النفيس حول المفهوم العام للجهاد وأنواعه يمكن الخروج بالفوائد التالية:
الأولى: أن الجهاد بمفهومه العام يشمل جهاد النفس والشيطان في طاعة الله عز وجل وترك معصيته، كما يشمل جهاد الكفار والمنافقين بالحجة والبيان، وجهاد أهل البدع والمنكرات باليد أو باللسان أو بالقلب حسب الاستطاعة، كما يعني جهاد الكفار بالسيف والسنان إما جهاد دفع أو طلب وجهاد الكفار بالسيف هو الذي ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أنه ذروة سنام هذا الدين وهو المراد من الجهاد في سبيل الله عند الإطلاق•
الثانية: أن جهاد الكفار في المعارك هو قمة الجهاد وكماله، بل هو قمة الإيمان وهو ثمرة جهاد طويل مع النفس والشيطان وتربية لها على الصبر والتضحية وقوة الصلة بالله عز وجل، ولا يصبر على جهاد الكفار وينتصر عليهم إلا أولئك الذين انتصروا على أنفسهم والشيطان في جهادهم لهما وكان لهم نصيب من جهاد البيان وقول الحق(115/1369)
والصبر على الأذى فيه؛ إذ إن معركة الجهاد مع الكفار إن هي إلا ساعات أو أيام حاسمة لكنها ثمرة لمعركة سبقتها مع النفس والشيطان، وجهاد بالعقيدة مع الباطل بفضحه وبيان ما يضاده من الحق وقد يستغرق ذلك سنوات أو أجيال، وهذا أمر لا بد منه وهو ضرب من ضروب الجهاد وإعداد للجهاد الحاسم مع الكفار•
الثالثة: أن الكُمَّل من الناس في باب الجهاد من قام بمراتب الجهاد كلها وأعد نفسه بجميع متطلبات الإعداد للانتصار على النفس والهوى؛ والذي هو ممهد للانتصار على الكفار في ساحات الوغى، وممهد للدخول في ذروة سنام هذا الدين، والثبات أمام الأعداء، والاستجابة لداعي الجهاد، والتضحية في سبيل الله عز وجل بالمال والنفس عند النداء، لتكون كلمة الله هي العليا وليكون الدين كله لله، ولكن لا يسارع إلى ذلك إلا من كان له جهاد سابق مع نفسه وهواه وكان النصر له عليها•
وفي ذلك يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: "••• إن جهاد الهوى إن لم يكن أعظم من جهاد الكفار فليس بدونه؛ قال رجل للحسن البصري رحمه الله تعالى: يا أبا سعيد أي الجهاد أفضل؟ قال جهادك هواك• وسمعت شيخنا يقول: جهاد النفس والهوى أصل جهاد الكفار والمنافقين؛ فإنه لا يقدر على جهادهم حتى يجاهد نفسه وهواه أولاً حتى يخرج إليهم"(15).
المقدمة الثانية
أقسام الجهاد في سبيل الله
بعد أن تعرفنا على المعنى العام للجهاد ومراتبه نأتي فنتعرف على أقسام الجهاد مع الكفار حيث ينقسم إلى قسمين: جهاد الدفع، وجهاد الطلب•
1- جهاد الدفع: وهو جهاد الصائل والمعتدي - سواءً كان فردًا أو طائفة - ومنعه من فتنة المسلمين في دينهم والاعتداء على الأنفس والأعراض أو الاستيلاء على بلاد المسلمين•
وهذا القسم من الجهاد فرض عين على كل مسلم مكلف قادر؛ وذلك عندما يهاجم الكفار المسلمين في عقر دارهم أو يحصل الاعتداء من الصائل على مال المسلم أو عرضه، أو نفسه، وقد يكون الصائل كافرًا أو محاربًا مسلمًا، وفي هذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد، ومن قتل دون دينه فهو شهيد، ومن قتل دون حرمته فهو شهيد)(16).
وعن مدافعة الصائل يقول شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: "وهذا الذي تسميه الفقهاء "الصائل" وهو الظالم بلا تأويل ولا ولاية، فإذا كان مطلوبه المال جاز دفعه بما يمكن، فإذا لم يندفع إلا بالقتال قوتل، وإن ترك القتال وأعطاهم شيئًا من المال جاز، وأما إذا كان مطلوبه الحرمة - مثل أن يطلب الزنا بمحارم الإنسان أو يطلب من المرأة، أو الصبي المملوك أو غيره الفجور به - فإنه يجب عليه أن يدفع عن نفسه بما يمكن، ولو بالقتال، ولا يجوز التمكين منه بحال؛ بخلاف المال فإنه يجوز التمكين منه؛ لأن بذل المال جائز، وبذل الفجور بالنفس أو بالحرمة غير جائز• وأما إذا كان مقصوده قتل الإنسان، جاز له الدفع عن نفسه• وهل يجب عليه؟ على قولين للعلماء في مذهب أحمد وغيره• وهذا إذا كان للناس سلطان، فأما إذا كان - والعياذ بالله - فتنة، مثل أن يختلف سلطانان للمسلمين، ويقتتلان على الملك، فهل يجوز للإنسان،(115/1370)
إذا دخل أحدهما بلد الآخر، وجرى السيف، أن يدفع عن نفسه في الفتنة، أو يستسلم فلا يقاتل فيها؟ على قولين لأهل العلم، في مذهب أحمد وغيره"(17).
وقد عد شيخ الإسلام مدافعة الصائلين ومقاتلة المحاربين من المسلمين من أنواع الجهاد في سبيل الله عز وجل وذلك بقوله: "لا يحل للسلطان أن يأخذ من أرباب الأموال جعلاً على طلب المحاربين وإقامة الحد، وارتجاع أموال الناس منهم، ولا على طلب السارقين لا لنفسه ولا للجند الذين يرسلهم في طلبهم، بل طلب هؤلاء من نوع الجهاد في سبيل الله فيخرج فيه جند المسلمين كما يخرج في غيره من الغزوات التي تسمى (البيكار) وينفق على المجاهدين في هذا من المال الذي ينفق منه على سائر الغزوات"(18).
ويفصل الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى أقسام الجهاد فيقول: "فمن المعلوم أن المجاهد قد يقصد دفع العدو إذا كان المجاهد مطلوباً والعدو طالبًا، وقد يقصد الظفر بالعدو ابتداء إذا كان طالباً والعدو مطلوبًا، وقد يقصد كلا الأمرين، والأقسام ثلاثة يؤمر المؤمن فيها بالجهاد•
وجهاد الدَّفع أصعب من جهاد الطلب؛ فإن جهاد الدفع يشبه باب دفع الصائل، ولهذا أُبيح للمظلوم أن يدفع عن نفسه - كما قال الله تعالى: (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا)(الحج: من الآية39).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من قُتِل دون ماله؛ فهو شهيد، ومن قُتِل دون دمه؛ فهو شهيد)(19) - لأن دفع الصائل على الدين جهاد وقربة، ودفع الصائل على المال والنفس مباحٌ ورخصة؛ فإن قتل فيه فهو شهيد•
فقتال الدفع أوسع من قتال الطلب وأعمُّ وجوبًا، ولهذا يتعيَّن على كل أحد أن يقوم ويجاهد فيه: العبد بإذن سيده وبدون إذنه، والولد بدون إذن أبويه، والغريم بغير إذن غريمه؛ وهذا كجهاد المسلمين يوم أحد والخندق•
ولا يشترط في هذا النوع من الجهاد أن يكون العدو ضعفي المسلمين فما دون؛ فإنهم كانوا يوم أحد والخندق أضعاف المسلمين، فكان الجهاد واجبًا عليهم؛ لأنه حينئذ جهاد ضرورة ودفع، لا جهاد اختيار، ولهذا تُباح فيه صلاة الخوف بحسب الحال في هذا النوع، وهل تُباح في جهاد الطلب إذا خاف فوت العدو ولم يخف كرَّته؟ فيه قولان للعلماء هما روايتان عن الإمام أحمد•
ومعلوم أن الجهاد الذي يكون فيه الإنسان طالبًا مطلوبًا أوجب من هذا الجهاد الذي هو فيه طالب لا مطلوب، والنفوس فيه أرغب من الوجهين•
وأما جهاد الطلب الخالص؛ فلا يرغب فيه إلا أحد رَجُلين: إما عظيم الإيمان يقاتل لتكون كلمة الله هي العليا، ويكون الدين كلُّه لله، وإما راغبٌ في المغنم والسبي•
فجهاد الدفع يقصده كل أحد، ولا يرغب عنه إلا الجبان المذموم شرعاً وعقلاً، وجهاد الطلب الخالص لله يقصده سادات المؤمنين، وأما الجهاد الذي يكون فيه طالباً مطلوباً؛ فهذا يقصده خيار الناس؛ لإعلاء كلمة الله ودينه، ويقصده أوساطهم للدفع ولمحبة الظَّفَر"(20).
وقد جعل أهل العلم جهاد الدفع فرض عين على كل مسلم ذكر مكلف حتى يندفع العدو عن ديار المسلمين•(115/1371)
المقدمة الثالثة
غاية الجهاد في سبيل الله تعالى
الجهاد في سبيل الله تعالى عبادة من العبادات العظيمة التي يتعبد لله تعالى بها، وهو كما ذكرت سابقًا يعد من لوازم القيام بشعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإبلاغ التوحيد للناس وإزالة ما يضاده من الشرك•
فما أعظمه وأشرفه من عبادة؛ حيث لا ينحصر نفعها على القائم بها ولكنها تتعداه إلى الناس بهدايتهم إلى الخير والسعادة في الدنيا والآخرة وإنقاذهم بإذنه تعالى من الشر والشقاء في الدنيا والآخرة•
ويمكننا حصر الغاية من الدعوة والجهاد في الأهداف التالية:
1- التعبُّد لله عز وجل بهذه الشعيرة العظيمة؛ شعيرة الجهاد في سبيل الله تعالى؛ فشعور المجاهد أنه عبد لله عز وجل يحب ربه سبحانه، ويحب ما يحبه من الجهاد في سبيله، ويبغض ما يبغضه من الشرك والفساد، ويبغض من يبغضهم الله من أعدائه الكفرة، ويجاهدهم حتى تكون كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا السفلى• إن هذا الشعور لمن أعظم الدوافع إلى بذل الجهد والجهاد في سبيل الله تعالى• ولو لم يحصل الداعية في دعوته وجهاده إلا على شعوره بالعبودية لله عز وجل والتلذذ بذلك لكفى بذلك دافعًا وغاية عظيمة(21).
كما أن في مصاحبة شعور العبادة لله تعالى في جميع تحركات المجاهد أكبر الأثر في التربية على الإخلاص وتحري الحق والصواب واللذان هما شرطا قبول العبادة، وعلى العكس من ذلك عندما ينسى أو يغفل المجاهد أنه متعبد لله تعالى بدعوته وجهاده، فإنه بذلك يضعف إخلاصه وتبدأ حظوظ النفس والهوى يسيطران على القلب، مما ينتج عنه في نهاية الأمر فتور المجاهد أو مزلة قدمه عياذًا بالله تعالى•
وإن بذل النفس والمال في سبيل الله عز وجل ليعد من أكبر العلامات على محبة الله تعالى ودينه، وعلى العكس من ذلك فيما لو تقاعس المسلم عن الجهاد في سبيل الله تعالى وبخل بماله أو نفسه عندما يوجد داعي الجهاد؛ فإن هذا دليل على ضعف المحبة لله تعالى ولدينه•
وفي ذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "فمن كان محبًا لله لزم أن يتبع الرسول فيصدقه فيما أخبر، ويطيعه فيما أمر، ويتأسى به فيما فعل، ومن فعل هذا فقد فعل ما يحبه الله، فيحبه الله• فجعل الله لأهل محبته علامتين: اتباع الرسول، والجهاد في سبيله؛ وذلك لأن الجهاد حقيقته الاجتهاد في حصول ما يحبه الله من الإيمان والعمل الصالح؛ ومن دفع ما يبغضه الله من الكفر والفسوق والعصيان وقد قال تعالى: (قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ )(التوبة: من الآية24).
إلى قوله: (حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ) فتوعد من كان أهله وماله أحب إليه من الله ورسوله والجهاد في سبيله بهذا الوعيد ••• والجهاد هو بذل الوسع - وهو القدرة - في حصول محبوب الحق ودفع ما يكرهه الحق، فإذا ترك العبد ما يقدر عليه من الجهاد كان دليلاً على ضعف محبة الله ورسوله في قلبه• ومعلوم أن المحبوبات لا تنال غالبًا إلا باحتمال المكروهات، سواء كان محبة صالحة أو فاسدة؛ فالمحبون للمال والرئاسة(115/1372)
والصور لا ينالون مطالبهم إلا بضرر يلحقهم في الدنيا مع ما يصيبهم من الضرر في الدنيا والآخرة لله(22).
وقال في موطن آخر: " والنصوص في فضائل الجهاد وأهله كثيرة، وقد ثبت أنه أفضل ما تطوع به العبد• والجهاد دليل المحبة الكاملة ••• فإن المحبة مستلزمة للجهاد؛ لأن المحب يحب ما يحب محبوبه، ويبغض ما يبغض محبوبه، ويوالي من يواليه، ويعادي من يعاديه، ويرضى لرضاه ويغضب لغضبه، ويأمر بما يأمر به وينهى عما ينهى عنه، فهو موافق له في ذلك، وهؤلاء هم الذين يرضى الرب لرضاهم ويغضب لغضبهم؛ إذ هم إنما يرضون لرضاه ويغضبون لما يغضب له"(23).
2- الفوز برضوان الله تعالى وجنته في الدار الآخرة؛ وهذا هو ثمرة التعبُّد لله عز وجل السابق ذكرها، وهي الغاية العظمى التي وعد الله عز وجل بها عباده الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، والمجاهدين في سبيله على بصيرة• ولقد تكاثرت الآيات في كتاب الله عز وجل التي تمدح المجاهدين في سبيله سبحانه والصابرين على ما أصابهم في سبيله وما أُعد لهم في الدار الآخرة من الرضوان والنعيم المقيم• وعندما ينْشَدُّ الداعية إلى هذه الغاية وتنجذب نفسه إليها فإنه يستسهل الصعاب ويمضي في طريقه بقوة وعزيمة وثبات، كما أنه عندما يتعلق بهذه الغاية العظيمة ولا ينساها، فإنه بذلك لا يلتفت إلى أعراض الدنيا الزائلة ولا ينتظر جزاء عمله ودعوته وجهاده في الدنيا، وإنما يروض نفسه ويربيها على أن تعطي من صبرها وجهدها وجهادها، ولا تأخذ منه شيئًا في الدنيا، وإنما تنتظر العطاء والثواب في الدار الآخرة من ربها الكريم في دار النعيم المقيم• ولذلك فإن أصحاب هذه النفوس المخلصة لا يتطرق إليهم الوهن ولا الفتور الذي يتعرض له أصحاب الأغراض الدنيوية القريبة، الذين إن حصلوا على أهدافهم في الدنيا رضوا وواصلوا العطاء، وإن تأخرت عليهم فتروا وكلوا وتوقفوا•
أما أصحاب الغاية العظيمة فهم لا يفترون ولا يتوقفون، لأن وقت ومكان توفية الأجر ليس مجاله الدنيا وإنما في الآخرة - دار الحساب والجزاء - ولذلك فهم يعملون ويجاهدون حتى يأتيهم اليقين•
3- تعبيد الناس لرب العالمين عز وجل، وإنقاذهم - بإذنه تعالى - من الظلمات إلى النور، وإخراجهم من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده لا شريك له، ومن جور الأديان والمذاهب إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا وشقائها إلى سعتها وسعادتها، ومن عذاب النار يوم القيامة إلى جنات النعيم•
وهذا لا يتأتى إلا بإزالة الشرك وأربابه الذين يحولون بين الناس وبين أن يصل التوحيد إلى قلوبهم، ومن أجل ذلك شرع الجهاد لإزالة هذه الحواجز والعوائق التي تعترض طريق الحق وتمنعه من الوصول إلى قلوب الناس؛ وذلك حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله؛ قال الله تعالى: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (الأنفال:39).
وعندما يتذكر المجاهد هذه المهمة الجسيمة وهذا الهدف الأساس من دعوته وجهاده، فإنه يضاعف من جهده ولا يقر له قرار وهو يرى الشرك المستشري في الناس(115/1373)
والفساد المستطير والظلم العظيم في حياتهم والذي يؤول بهم إلى الشقاء والعنت وكثرة المصائب في الدنيا وإلى العذاب الأليم في الآخرة• ولذلك فلا ترى المجاهد المدرك لهذه الغاية من جهاده إلا خائفًا على نفسه وعلى الناس من عذاب الله عز وجل في الدنيا والآخرة، ولا تراه إلا ناصحًا للعباد رحيمًا بهم يريد من دعوته وجهاده هداية الناس وإنقاذهم بإذن الله تعالى من الظلمات إلى النور ومن عذاب الله عز وجل في الدنيا والآخرة•
ولذلك فإن الجهاد في الإسلام إنما شرع رحمة بالناس، ولو كان فيه ما فيه من المشقة وبذل الأرواح والجراحات؛ فإن هذه المشقات والمكاره لا تساوي شيئًا في مقابلة ما يترتب على الجهاد من المصالح العظيمة وذلك من نشر التوحيد وتعبيد الناس لربهم سبحانه، وإزالة الفتنة والشرك والظلم عنهم•
وبعد هذا التفصيل في غايات الجهاد يمكن القول بأنها كلها ترجع إلى غاية في الدنيا، وغاية في الآخرة•
فأما غاية الجهاد في الدنيا:
فهي نشر التوحيد وتعبيد الناس لربهم سبحانه، ورفع الفتنة والشرك عنهم؛ وذلك لتكون كلمة الله هي العليا ويكون الدين كله لله وحده•
وأما الغاية من الجهاد في الآخرة:
فهي الفوز بمرضاة الله عز وجل وجنته، والنجاة من سخطه وعذابه•
والغاية من الجهاد في الدنيا إن هي في الحقيقة إلا وسيلة عظيمة لتحقيق الغاية العظمى في الآخرة؛ فعاد الأمر إلى غاية الغايات وهي رضوان الله وجنته•
ويوضح شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى مقصود الجهاد وغايته فيقول: "والجهاد مقصوده أن تكون كلمة الله هي العليا وأن يكون الدين كله لله؛ فمقصوده إقامة دين الله لا استيفاء الرجل حظَّه، ولهذا كان ما يصاب به المجاهد في نفسه وماله أجره فيه على الله؛ فإن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة"(24).
وسواء كان الجهاد جهاد دفع أو جهاد طلب فإن المقصود من الجهادين واحد؛ فهو في جهاد الدفع لرفع الفتنة عن المسلمين المعتدى عليهم في ديارهم؛ لأن في استيلاء الكفار على ديار المسلمين تعريضًا للمسلمين للفتنة في دينهم وأعراضهم وأموالهم، وفيه علو لكلمة الكفر على كلمة التوحيد• إذًا فجهاد الدفع شرع حتى لا تكون فتنة على المسلمين فيكفروا بتسلط الكفار عليهم، وحتى لا تعلو شعائر الكفر في بلد كان يرفع فيه شعار التوحيد•
وأما جهاد الطلب فالأمر فيه واضح وجلي؛ حيث إن مقصود المسلمين في طلبهم للكفار وفتح ديارهم إنما هو لرفع الفتنة - وهي الشرك - عن الناس في بلدانهم وليكون الدين فيها لله عز وجل وليس للكافرين والمشركين والطواغيت الذين يستعبدون الناس ويظلمونهم ويدعونهم إلى عذاب النار•
شبهة وجوابها :
يثير بعض المهزومين روحيًا وعقليًا من أبناء المسلمين - وتحت ضغط الواقع اليائس وتحت الهجوم الاستشراقي الماكر - قولهم بأن الجهاد في الإسلام إنما شرع للدفاع(115/1374)
عن النفس والأوطان وليس لإكراه الناس على الدخول فيه بالسيف والاستيلاء على ديار غير المسلمين بالقوة• ولقد ظهرت هذه الشبهة بشكل جلي في السنوات الأخيرة وبالأخص في هذه الأيام بعد الحملة الصليبية واليهودية على ديار المسلمين بحجة ما يسمى مكافحة الإرهاب، مما دفع بعض المهزومين من أبناء المسلمين بل - ويا للأسف - من بعض دعاتهم إلى أن يركزوا على أن الإسلام دين سماحة وسلام ومحبة للناس، وليس دين إرهاب ولا قتال ولا غلظة على الكفار، وصاروا يكررون الآيات والأحاديث التي فيها ذكر الصفح والسماحة والسلام، ويضربون صفحًا عن النصوص التي فيها جهاد الكفار والإغلاظ عليهم حتى يكون الدين كله لله، وحتى يسلم الكفار أو يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون•
وللرد على هذه الشبهة أورد جوابين: أحدهما مجمل والآخر مفصل:
أما المجمل :
فهو القول بأن دوافع الجهاد في الإسلام تختلف عن تلك الدوافع التي تنشأ عنها الحروب من أجل الملك فحسب؛ فالجهاد في الإسلام إنما شرع لتكون كلمة الله هي العليا وليكون الدين كله لله في جميع المعمورة، فمتى كان في المسلمين قوة وجب عليهم أن ينشروا هداية الله عز وجل في العالم، ولا يتركوا مكانًا تعلو فيه كلمة الكفر إلا فتحوه وأعلو كلمة التوحيد فيه• فإن لم يكن بهم قوة فلا أقل من أن يدافعوا عن بلادهم التي تحت أيديهم حتى لا يعلوا فيها الكفر ويفتن الناس في دينهم، مع إعدادهم لجهاد الفتح والطلب• وبناء على هذه الغاية الشريفة للجهاد تسقط كل بنود هيئة الأمم المتحدة الكافرة، وما يسمى بإعلان حقوق الإنسان التي تدعو إلى احترام حدود الغير، والسلام الدائم، والتعايش بين أصحاب الملل، وإلى حرية الاعتقاد لجميع الأفراد•
وأما الجواب المفصل :
فيكفينا فيه ما سطرته يد الداعية المجاهد سيد قطب رحمه الله تعالى في ظلال القرآن الكريم؛ حيث لم أعثر حسب اطلاعي القاصر على من تكلم في هذا الموضوع المهم بكل عزة وصراحة كما تكلم هذا الرجل عليه رحمة الله•
وفيما يلي مقتطفات متفرقة من رده الحاسم على هؤلاء المهزومين: يقول رحمه الله تعالى: "إن الذين يلجأون إلى تلمس أسباب دفاعية بحتة لحركة المد الإسلامي إنما يؤخذون بحركة الهجوم الاستشرافية في وقت لم تعد للمسلمين شوكة ••• فيبحثون عن مبررات أدبية للجهاد في الإسلام• والمد الإسلامي ليس في حاجة إلى مبررات أدبيه له أكثر من المبررات التى حملتها النصوص القرآنية (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ) (الأنفال:38-40).
إنها مبررات تقرير ألوهية الله في الأرض، وتحقيق منهجه في حياة الناس، ومطاردة الشياطين ومناهج الشياطين، وتحطيم سلطان البشر الذي يتعبد الناس، والناس عبيد لله وحده، لا يجوز أن يحكمهم أحد من عباده بسلطان من عند نفسه وبشريعة من هواه ورأيه! وهذا يكفي •• مع تقرير مبدأ: "لا إكراه في الدين" •• أي لا إكراه على(115/1375)
اعتناق العقيدة بعد الخروج من سلطان العبيد والإقرار بمبدأ أن السلطان كله لله، أو أن الدين كله لله بهذا الاعتبار•
إنها مبررات التحرير العام للإنسان في الأرض، بإخراج الناس من العبودية للعباد إلى العبودية لله وحده بلا شريك •• وهذه وحدها تكفي •• ولقد كانت هذه المبررات ماثلة في نفوس الغزاة من المسلمين؛ فلم يُسأل أحد منهم عما أخرجه للجهاد فيقول: خرجنا ندافع عن وطننا المهدد! أو خرجنا نصد عدوان الفرس أو الروم علينا نحن المسلمين! أو خرجنا نوسع رقعتنا ونستكثر من الغنيمة!
لقد كانوا يقولون كما قال ربعي بن عامر، وحذيفة بن محصن، والمغيرة بن شعبة، -رضي الله عنهم - جميعًا لرستم قائد جيش الفرس في القادسية، وهو يسألهم واحدًا بعد واحد في ثلاثة أيام متوالية، قبل المعركة: ما الذي جاء بكم؟ فيكون الجواب: الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام •• فأرسل رسوله بدينه إلى خلقه، فمن قبله منا قبلنا منه ورجعنا عنه، وتركناه وأرضه• ومن أبى قاتلناه حتى نفضي إلى الجنة أو الظفر ••••
حقًا إنه لم يكن بد لهذا الدين أن يدافع المهاجمين له؛ لأن مجرد وجوده، في صورة إعلان عام لربوبية الله للعالمين، وتحرير الإنسان من العبودية لغير الله، وتمثل هذا الوجود في تجمع تنظيمي حركي تحت قيادة جديدة غير قيادات الجاهلية، وميلاد مجتمع مستقل متميز لا يعترف لأحد من البشر بالحاكمية؛ لأن الحاكمية فيه لله وحده •• إن مجرد وجود هذا الدين في هذه الصورة لا بد أن يدفع المجتمعات الجاهلية من حوله، القائمة على قاعدة العبودية للعباد، أن تحاول سحقه، دفاعًا عن وجودها ذاته• ولا بد أن يتحرك المجتمع الجديد للدفع عن نفسه•
هذه ملابسة لا بد منها؛ تولد مع ميلاد الإسلام ذاته، وهذه معركة مفروضة على الإسلام فرضًا، ولا خيار له في خوضها، وهذا صراع طبيعي بين وجودين لا يمكن التعايش بينهما طويلاً•
هذا كله حق •• ووفق هذه النظرة يكون لا بد للإسلام أن يدافع عن وجوده، ولا بد أن يخوض معركة دفاعية مفروضة عليه فرضًا••
ولكن هناك حقيقة أخرى أشد أصالة من هذه الحقيقة •• إن من طبيعة الوجود الإسلامي ذاته أن يتحرك إلى الأمام ابتداء؛ لإنقاذ "الإنسان" في "الأرض" من العبودية لغير الله• ولا يمكن أن يقف عند حدود جغرافية، ولا أن ينزوي داخل حدود عنصرية؛ تاركًا "الإنسان" •• نوع الإنسان •• في "الأرض" •• كل الأرض •• للشر والفساد والعبودية لغير الله•
إن المعسكرات المعادية للإسلام قد يجيء عليها زمان تؤثر فيه ألا تهاجم الإسلام إذا تركها الإسلام تزاول عبودية البشر للبشر داخل حدودها الإقليمية، ورضي أن يدعها وشأنها ولم يمد إليها دعوته وإعلانه التحريري العام! •• ولكن الإسلام لا يهادنها، إلا أن تعلن استسلامها لسلطانه في صورة أداء الجزية، ضمانًا لفتح أبوابها لدعوته بلا عوائق مادية من السلطات القائمة فيها•(115/1376)
هذه طبيعة هذا الدين، وهذه وظيفته بحكم أنه إعلان عام لربوبية الله للعالمين، وتحرير الإنسان من كل عبودية لغير الله في الناس أجمعين!
وفرق بين تصور الإسلام على هذه الطبيعة، وتصوره قابعًا داخل حدود إقليمية أو عنصرية، لا يحركه إلا خوف الاعتداء! إنه في هذه الصورة الأخيرة يفقد مبرراته الذاتية في الانطلاق!
إن مبررات الانطلاق الإسلامي تبرز بوضوح وعمق عند تذكر أن هذا الدين هو منهج الله للحياة البشرية، وليس منهج إنسان، ولا مذهب شيعة من الناس، ولا نظام جنس من أجناس!•• ونحن لا نبحث عن مبررات خارجية إلا حين تفتر في حسنا هذه الحقيقة الهائلة •• حين ننسى أن القضية هي قضية ألوهية الله وعبودية العباد •• إنه لا يمكن أن يستحضر إنسان ما هذه الحقيقة الهائلة ثم يبحث عن مبرر آخر للجهاد الإسلامي! •• والإسلام ليس مجرد عقيدة حتى يقنع بإبلاغ عقيدته للناس بوسيلة البيان• إنّما هو منهج يتمثل في تجمع تنظيمي حركي يزحف لتحرير كل الناس• والتجمعات الأخرى لا تمكنه من تنظيم حياة رعاياها وفق منهجه هو، ومن ثم يتحتم على الإسلام أن يزيل هذه الأنظمة بوصفها معوقات للتحرير العام• وهذا - كما قلنا من قبل - معنى أن يكون الدين كله لله؛ فلا تكون هناك دينونة ولا طاعة لعبد من العباد لذاته، كما هو الشأن في سائر الأنظمة التي تقوم على عبودية العباد للعباد!
إن الباحثين الإسلاميين المعاصرين المهزومين تحت ضغط الواقع الحاضر، وتحت الهجوم الاستشراقي الماكر، يتحرجون من تقرير تلك الحقيقة لأن المستشرقين صوروا الإسلام حركة قهر بالسيف للإكراه على العقيدة• والمستشرقون الخبثاء يعرفون جيدًا أن هذه ليست هي الحقيقة، ولكنهم يشوهون بواعث الجهاد الإسلامي بهذه الطريقة •• ومن ثم يقوم المنافحون - المهزومون - عن سمعة الإسلام، بنفي هذا الاتهام! فيلجأون إلى تلمس المبررات الدفاعية! ويغفلون عن طبيعة الإسلام ووظيفته، وحقه في "تحرير الإنسان" ابتداء•
وقد غشي على أفكار الباحثين العصريين - المهزومين - ذلك التصور الغربي لطبيعة "الدين" •• وأنه مجرد "عقيدة" في الضمير؛ لا شأن لها بالأنظمة الواقعية للحياة •• ومن ثم يكون الجهاد للدين، جهادًا لفرض العقيدة على الضمير!
ولكن الأمر ليس كذلك في الإسلام؛ فالإسلام منهج الله للحياة البشرية• وهو منهج يقوم على إفراد الله وحده بالألوهية - متمثلة في الحاكمية - وينظم الحياة الواقعية بكل تفصيلاتها اليومية! فالجهاد له جهادٌ لتقرير المنهج وإقامة النظام• أما العقيدة فأمرها موكول إلى حرية الاقتناع، في ظل النظام العام، بعد رفع جميع المؤثرات •• ومن ثم يختلف الأمر من أساسه، وتصبح له صورة جديدة كاملة•
وحيثما وجد التجمع الإسلامي، الذي يتمثل فيه المنهج الإلهي، فإن الله يمنحه حق الحركة والانطلاق لتسلم السلطان وتقرير النظام، مع ترك مسألة العقيدة الوجدانية لحرية الوجدان •• فإذا كف الله أيدي الجماعة المسلمة فترة عن الجهاد، فهذه مسألة خطة لا مسألة مبدأ، مسألة مقتضيات حركة لا مسألة مقررات عقيدة• وعلى هذا الأساس الواضح يمكن أن نفهم النصوص القرآنية المتعددة في المراحل التاريخية(115/1377)
المتجددة، ولا نخلط بين دلالتها المرحلية، والدلالة العامة لخط الحركة الإسلامية الطويلة"(25).
ويقول في موطن آخر: "والمهزومون روحيًا وعقليًا ممن يكتبون عن "الجهاد في الإسلام"ليدفعوا عن الإسلام هذا "الاتهام!" •• يخلطون بين منهج هذا الدين في النص على استنكار الإكراه على العقيدة، وبين منهجه في تحطيم القوى السياسية المادية التي تحول بين الناس وبينه، والتي تعبد الناس للناس وتمنعهم من العبودية لله •• وهما أمران لا علاقة بينهما ولا مجال للالتباس فيهما •• ومن أجل هذا التخليط - وقبل ذلك من أجل تلك الهزيمة! - يحاولون أن يحصروا الجهاد في الإسلام فيما يسمونه اليوم: "الحرب الدفاعية" •• والجهاد في الإسلام أمر آخر لا علاقة له بحروب الناس اليوم، ولا بواعثها، ولا تكييفها كذلك •• إن بواعث الجهاد في الإسلام ينبغي تلمسها في طبيعة "الإسلام" ذاته، ودوره في هذه الأرض، وأهدافه العليا التي قررها الله؛ وذكر الله أنه أرسل من أجلها هذا الرسول بهذه الرسالة، وجعله خاتم النبيين، وجعلها خاتمة الرسالات ••
إن هذا الدين إعلان عام لتحرير "الإنسان" في "الأرض" من العبودية للعباد - ومن العبودية لهواه أيضاً وهي من العبودية للعباد - وذلك بإعلان ألوهية الله وحده - سبحانه - وربوبيته للعالمين •• إن إعلان ربوبية الله وحده للعالمين معناها: الثورة الشاملة على حاكمية البشر في كل صورها وأشكالها وأنظمتها وأوضاعها، والتمرد الكامل على كل وضع في أرجاء الأرض الحكم فيه للبشر بصورة من الصور •• أو بتعبير آخر مرادف: الألوهية فيه للبشر في صورة من الصور •• ذلك أن الحكم الذي مرد الأمر فيه إلى البشر، ومصدر السلطات فيه هم البشر، هو تأليه للبشر، يجعل بعضهم لبعض أربابًا من دون الله •• ترى لو كان أبو بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم قد أمنوا عدوان الروم والفرس على الجزيرة أكانوا يقعدون إذن عن دفع المد الإسلامي إلى أطراف الأرض؟ وكيف كانوا يدفعون هذا المد، وأمام الدعوة تلك العقبات المادية من: أنظمة الدول السياسية، وأنظمة المجتمع العنصرية والطبقية، والاقتصادية الناشئة من الاعتبارات العنصرية والطبقية، والتي تحميها القوة المادية للدولة كذلك؟!
2- جهاد الطلب: وهو طلب العدو الكافر والظفر به وبأرضه حتى تخضع البلاد والعباد للإسلام، ويقضى على الشرك، ويكون الدين كله لله وتكون كلمة الله هي العليا•
وهو الذي قال عنه ابن القيم في الفقرة السابقة: "وجهاد الطلب الخالص لله يقصده سادات المؤمنين"•
بينما قال عن جهاد الدفع: "فجهاد الدفع يقصده كل أحد، ولا يرغب عنه إلا الجبان المذموم شرعًا وعقلاً)•
قال الله تعالى عن جهاد الطلب: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ) (الأنفال: من الآية39).
وعند القدرة على جهاد الطلب فإنه يكون على الكفاية إلا إذا استنفر الإمام جميع المسلمين للجهاد فلا يسوغ لأحد أن يتخلف، بل يصبح الجهاد عينًا على كل مسلم•(115/1378)
ولا يعني كون جهاد الطلب كفائيًا أن يزهد المسلم فيه ويفرط في أن يكون من أهله؛ فإنه من شأن أولياء الله المتقين• ويكفي في فضل أهله وعلو منزلتهم على القاعدين قوله تعالى: (لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً) (النساء:95). إنها سذاجة أن يتصور الإنسان دعوة تعلن تحرير "الإنسان" •• نوع الإنسان •• في "الأرض"•• كل الأرض •• ثم تقف أمام العقبات تجاهدها باللسان والبيان! •• إنها تجاهد باللسان والبيان حينما يخلى بينها وبين الأفراد؛ تخاطبهم بحرية، وهم مطلقو السراح من جميع تلك المؤثرات •• فهنا: "لا إكراه في الدين" •• أما حين توجد تلك العقبات والمؤثرات المادية، فلا بد من إزالتها أولاً بالقوة، للتمكن من مخاطبة قلب الإنسان وعقله؛ وهو طليق من هذه الأغلال!"(26).
تنبيه:
إن الحديث السابق عن غاية الجهاد في الإسلام لا يعني التغافل عن مراحل الجهاد ومدى قوة المسلمين وضعفهم وهل لهم شوكة وتمكين أو لا•
إن بيان غاية الجهاد لا يتعارض مع كف اليد في مراحل الاستضعاف، أو الاقتصار على جهاد الدفع في بعض الأمكنة أو الأزمنة؛ فهذا من باب السياسات الشرعية وترجيح المصالح أو المفاسد• وكل هذه الاعتبارات ما هي إلا أسباب مؤقتة يجب على المسلمين أن يتجاوزوها لينتقلوا من مرحلة إلى غيرها، وأن يأخذوا بالأسباب التي تؤول بالمسلمين إلى غايات الجهاد ومراحله الأخيرة التي يكون الدين فيها كله لله، ويخضع الناس لسلطان الإسلام، ويتحدد مواقف الناس فيها: إما مسلم مؤمن بدين الإسلام، وإما مسالم آمن يدفع الجزية، وإما محارب خائف•
يقول شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -: "كان النبي صلى الله عليه وسلم في أول الأمر مأمورًا أن يجاهد الكفار بلسانه لا بيده فيدعوهم ويعظهم ويجادلهم بالتي هي أحسن •• وكان مأمورًا بالكف عن قتالهم لعجزه وعجز المسلمين عن ذلك، ثم لما هاجر إلى المدينة صار له بها أعوان أذن له في الجهاد، ثم لما قووا كتب عليهم القتال ولم يكتب عليهم قتال من سالمهم؛ لأنهم لم يكونوا يطيقون قتال جميع الكفار، فلما فتح الله مكة ووفدت إليه وفود العرب بالإسلام أمره الله بقتال الكفار كلهم إلا من كان له عهد مؤقت وأمره بنبذ العهود المطلقة"(27).
وهذا ما أوضحه الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه القيم "زاد المعاد" وهو يستعرض مراحل الدعوة والجهاد منذ بعثته صلى الله عليه وسلم حتى نزلت سورة براءة حيث يقول: صلى الله عليه وسلم أول ما أوحى إليه ربه تبارك وتعالى: أن يقرأ باسم ربه الذي خلق وذلك أول نبوته فأمره أن يقرأ في نفسه ولم يأمره إذ ذاك بتبليغ، ثم أنزل عليه (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ) (المدثر:1-2)؛ فنبأه بقوله: (اقْرَأْ) وأرسله بـ (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ)، ثم أمره أن ينذر عشيرته الأقربين، ثم أنذر قومه، ثم أنذر من حولهم من العرب، ثم أنذر العرب قاطبة، ثم أنذر العالمين، فأقام بضع عشرة سنة بعد نبوته يُنذر بالدعوة بغير قتال ولا جزية، ويؤُمر بالكف والصبر والصفح•(115/1379)
ثم أُذِنَ له في الهجرة، وأُذن له في القتال، ثم أمره أن يقاتل من قاتله، ويكف عمن اعتزله ولم يُقاتله، ثم أمره بقتال المشركين حتى يكون الدين كله لله، ثم كان الكفارُ معه بعد الأمر بالجهاد ثلاثة أقسام: أهل صلح وهدنة، وأهل حرب، وأهل ذمة، فأمر بأن يتم لأهل العهد والصلح عهدهم، وأن يوفي لهم به ما استقامُوا على العهد، فإن خاف منهم خيانة، نبذ إليهم عهدهم، ولم يقاتلهم حتى يعلمهم بنقض العهد، وأُمِرَ أن يقاتل من نقض عهده• ولما نزلت (سورة براءة) نزلت ببيان حكم هذه الأقسام كلها؛ فأمره فيها أن يُقاتل عدوَّه من أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية، أو يدخلوا في الإسلام، وأمره فيها بجهاد الكفار والمنافقين والغلظة عليهم؛ فجهاد الكفار بالسيف والسنان، والمنافقين بالحجة واللسان•
وأمره فيها بالبراءة من عهود الكفار، ونبذ عُهودهم إليهم، وجعل أهل العهد في ذلك ثلاثة أقسام: قسمًا أمره بقتالهم - وهم الذين نقضوا عهده، ولم يستقيموا له - فحاربهم وظهر عليهم، وقسمًا لهم عهد مُؤقت لم ينقضوه، ولم يظاهروا عليه، فأمره أن يتم لهم عهدهم إلى مدتهم• وقسمًا لم يكن لهم عهد ولم يحاربوه، أو كان لهم عهد مطلق، فأمر أن يؤجلهم أربعة أشهر، فإذا انسلخت (فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ )(التوبة: من الآية2).
قاتلهم؛ وهي الأشهر الأربعة المذكورة في قوله: وهي الحُرُمُ المذكورة في قوله: (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ )(التوبة: من الآية5).
فالحرم هاهنا: هي أشهر التسيير، أولها يوم الأذان - وهو اليوم العاشر من ذي الحجة، وهو يوم الحج الأكبر الذي وقع فيه التأذين بذلك - وآخرُها العاشر من ربيع الآخر، وليست هي الأربعة المذكورة في قوله: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ) (التوبة: من الآية36) ؛ فإن تلك واحد فرد، وثلاثة سرد: رجبٌ، وذو القعدة، وذو الحجة، والمحَرَّمُ• ولم يَسِرْ المشركين في هذه الأربعة؛ فإن هذا لا يمكن لأنها غير متوالية، وهو إنما أجلهم أربعة أشهر، ثم أمره بعد انسلاخها أن يقاتلهم، فقتل الناقض لعهده، وأجّل من لا عهد له، أو له عهد مطلق أربعة أشهر، وأمره أن يُتمَّ للموفي بعهده عهدَه إلى مدته، فأسلم هؤلاء كُلُّهم، ولم يُقيموا على كفرهم إلى مدتهم، وضَرَبَ على أهل الذمة الجزية•
فاستقر أمرُ الكفار معه بعد نزول براءة على ثلاثة أقسام: محاربين له، وأهل عهد، وأهل ذمة، ثم آلت حالُ أهل العهد والصلح إلى الإسلام، فصاروا معه قسمين: محاربين، وأهل ذمة، والمحاربون له خائفون منه، فصار أهلُ الأرض معه ثلاثة أقسام: مسلم مؤمن به، ومسالم له آمن، وخائف محارب•
وأما سيرته في المنافقين: فإنه أُمِرَ أن يقبل منهم علانيتهم، ويكل سرائرهم إلى الله، وأن يجاهدهم بالعلم والحُجَّة، وأمره أن يُعْرِضَ عنهم، ويُغلِظَ عليهم، وأن يبلغ بالقول البليغ إلى نفوسهم، ونهاه أن يُصلي عليهم، وأن يقوم على قبورهم، وأخبر أنه إن استغفر لهم فلن يغفر الله لهم؛ فهذه سيرته في أعدائه من الكفار والمنافقين"(28). ا.هـ.(115/1380)
ونخلص بعد هذا الكلام النفيس في بيان المراحل التي تنقل فيها الرسول صلى الله عليه وسلم في دعوته وجهاده إلى النتائج التالية:
1- أن الرسول صلى الله عليه وسلم في المرحلة المكية قد أُمِرَ بكف اليد وترك الجهاد المسلح مع كفار قريش، وأُمِرَ فيها بجهاد البلاغ والبيان، وتحمل في سبيل ذلك هو وأصحابه رضي الله عنهم من الأذى أصنافًا كثيرة• ولا شك أن في الأمر بكف اليد في المرحلة المكية حكمًا وغايات عظيمة لعل من أبرزها:
- ضعف المسلمين وقلة عددهم بحيث لو تمت المواجهة مع المشركين فإن ذلك من شأنه أن يئد الدعوة في مهدها•
- ومنها: الإعداد والتربية للقاعدة الصلبة التي يقوم على كاهلها نشر الإسلام ونصرة الدين•
- ومنها: أن يأخذ البلاغ حقه، وتقوم الحجة على المشركين، ويتم البيان للناس عن حقيقة الإسلام وحقيقة سبيل المجرمين، ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة•
وغير ذلك من الحكم(29).
2- أن الجهاد المسلح للكفار لم يؤذن فيه إلا بعد الهجرة بعد أن تهيأ للمسلمين المكان الذي يأمنون فيه وينطلقون منه ويفيئون إليه•
وجاء الإذن في أول الأمر لرفع الظلم، ثم تلا ذلك الأمر بجهاد المعتدي، ثم لمَّا قويت شوكة المسلمين بدأ جهاد الطلب حتى انتهى أمر الجهاد بعد آية السيف إلى أن لا يقبل من الناس إلا الإسلام أو الجزية أو الحرب•
وفي ضوء ما سبق عرضه من غايات الجهاد ومراحله يمكن مناقشة موقفين خاطئين من الجهاد اليوم أحدهما يقابل الآخر•
الموقف الأول:
هو من نظر إلى أحوال المسلمين اليوم وضعفهم وعجزهم عن مواجهة أعدائهم فرأى استحالة الجهاد في هذا الزمان، ورضي بالأمر الواقع ولم يسع للإعداد والاستعداد، وتجاوز تبرير ضعفه وموقفه إلى التشنيع على الحركات الجهادية التي قامت للدفاع عن المسلمين في بقاع الأرض؛ كما في كشمير وأفغانستان والشيشان وفلسطين وغيرها•
ويستند أصحاب هذا الرأي على هديه صلى الله عليه وسلم مع المشركين في مكة؛ حيث أُمِرَ بكف اليد والصبر• وهذا الاستدلال صحيح في حد ذاته فيما لو نظر أصحاب هذا الرأي إلى أنها مرحلة مؤقتة يسعون فيها إلى بذل الجهد في الدعوة والإعداد لتغيير النفوس وشحذ الهمم وتربيتها على التضحية والبذل في سبيل الله عز وجل•
أما أن ينظر لهذه المرحلة وكأنها دائمة فيستسلم للواقع وتُستمرأ الذلة، وتفتر الهمم ولا يحصل الإعداد للجهاد في سبيل الله عز وجل؛ فهذا مخالف لهديه صلى الله عليه وسلم؛ حيث كان مع كف اليد يربي الصحابة على التوحيد الخالص، والصبر في سبيل الله عز وجل، ويعد النفوس للتضحية بالمال والوطن والنفس في سبيل الله عز وجل؛ وهذا مطلوب لذاته كما أنه من أعظم العدة والزاد لما يُنتظر من الهجرة(115/1381)
والجهاد في سبيل الله عز وجل• ويلحق بأصحاب هذا الرأي أولئك المهزومون الذين سبقت الإشارة إليهم في الصفحات السابقة عند الحديث عن غاية الجهاد في سبيل الله؛ وهم الذين وقفوا مع المراحل الأولى للدعوة وفرضية الجهاد، وحاولوا تقييد النصوص التي تأمر بجهاد الكفار أينما ثُقِفُوا بنصوص المراحل السابقة التي فيها الأمر بجهاد الدفع ورد الأعداء فحسب•
وفي ذلك يقول سيد قطب رحمه الله تعالى: "إن هذه النصوص التي يلتجئون إليها نصوص مرحلية تواجه واقعًا معيناً• وهذا الواقع المعين قد يتكرر وقوعه في حياة الأمة المسلمة• وفي هذه الحالة تطبق هذه النصوص المرحلية لأن واقعها يقرر أنها في مثل تلك المرحلة التي واجهتها تلك النصوص بتلك الأحكام، ولكن هذا ليس معناه أن هذه هي غاية المنى، وأن هذه هي نهاية خطوات هذا الدين •• إنما معناه أن على الأمة المسلمة أن تمضي قدمًا في تحسين ظروفها، وفي إزالة العوائق من طريقها حتى تتمكن في النهاية من تطبيق الأحكام النهائية الواردة في السورة الأخيرة، والتي كانت تواجه واقعًا غير الواقع الذي واجهته النصوص المرحلية"(30).
ولذلك فهم يتعاظمون مثل قوله تعالى: (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ) (التوبة: من الآية5)، وقوله سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) (التوبة:123).
ويحاول سيد قطب - رحمه الله تعالى - تفسير مواقف هؤلاء المهزومين، ولماذا تهولهم مثل هذه النصوص حتى يحاولوا تقييدها بالمراحل السابقة من أحكام فرض الجهاد فيقول: "إننا نعرف لماذا يهولهم هذا الأمر ويتعاظمهم على هذا النحو •• إنهم ينسون أن الجهاد في الإسلام جهاد في "سبيل الله" •• جهاد لتقرير ألوهية الله في الأرض وطرد الطواغيت المغتصبة لسلطان الله •• جهاد لتحرير "الإنسان" من العبودية لغير الله، ومن فتنته بالقوة عن الدينونة لله وحده والانطلاق من العبودية للعباد •• "حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله" •• وأنه ليس جهادًا لتغليب مذهب بشري على مذهب بشري مثله؛ إنما هو جهاد لتغليب منهج الله على مناهج العبيد! وليس جهاداً لتغليب سلطان قوم على سلطان قوم؛ إنما هو جهاد لتغليب سلطان الله على سلطان العبيد! وليس جهادًا لإقامة مملكة العبد؛ إنما هو جهاد لإقامة مملكة الله في الأرض •• ومن ثم ينبغي له أن ينطلق في "الأرض" كلها، لتحرير "الإنسان" كله؛ بلا تفرقة بين ما هو داخل في حدود الإسلام وبين ما هو خارج عنها •• فكلها "أرض" يسكنها "الإنسان" وكلها فيها طواغيت تُعَبِّد العباد للعباد!
وحين ينسون هذه الحقيقة يهولهم طبعًا أن ينطلق منهج ليكتسح كل المناهج، وأن تنطلق أمة لتخضع سائر الأمم •• إنها في هذا الوضع لا تستساغ! وهي فعلاً لا تستساغ! •• لولا أن الأمر ليس كذلك، وليس له شبيه فيما بين أنظمة البشر اليوم من إمكان التعايش! إنها كلها اليوم أنظمة بشرية؛ فليس لواحد منها أن يقول: إنه هو وحده صاحب الحق في البقاء! وليس الحال كذلك في نظام إلهي يواجه أنظمة بشرية؛(115/1382)
ليبطل هذه الأنظمة كلها ويدمرها كي يطلق البشر جميعًا من ذلة العبودية للعباد، ويرفع البشر جميعًا إلى كرامة العبودية لله وحده بلا شريك!
ثم إنه يهولهم الأمر ويتعاظمهم لأنهم يواجهون هجوماً صليبيًا منظمًا لئيمًا ماكرًا خبيثًا يقول لهم: إن العقيدة الإسلامية قد انتشرت بالسيف، وإن الجهاد كان لإكراه الآخرين على العقيدة الإسلامية وانتهاك حرمة حرية الاعتقاد!
وأخيرًا فإن صورة الانطلاق في الأرض لمواجهة من يلون المسلمين من الكفار تهول المهزومين روحيًا في هذا الزمان وتتعاظمهم؛ لأنهم يبصرون بالواقع من حولهم وبتكاليف هذا الانطلاق فيهولهم الأمر •• وهو يهول فعلاً! •• فهل هؤلاء الذين يحملون أسماء المسلمين، وهم شعوب مغلوبة على أمرها؛ أو قليلة الحيلة عمومًا! هل هؤلاء هم الذين سينطلقون في الأرض يواجهون أمم الأرض جميعًا بالقتال، حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله؟! إنه لأمر لا يتصور عقلاً •• ولا يمكن أن يكون هذا هو أمر الله فعلاً!
ولكن فات هؤلاء جميعًا أن يروا متى كان هذا الأمر؟ وفي أي ظرف؟ لقد كان بعد أن قامت للإسلام دولة تحكم بحكم الله؛ دانت لها الجزيرة العربية ودخلت في هذا الدين، ونظمت على أساسه• وقبل ذلك كله كانت هناك العصبة المسلمة التي باعت أنفسها لله بيعة صدق، فنصرها الله يومًا بعد يوم، وغزوة بعد غزوة، ومرحلة بعد مرحلة••• إن الناس لا يستطيعون أن يفهموا أحكام هذا الدين، وهم في مثل ما هم فيه من الهزال• إنه لن يفقه أحكام هذا الدين إلا الذين يجاهدون في حركة تستهدف تقرير ألوهية الله وحده في الأرض، ومكافحة ألوهية الطواغيت"(31).
الموقف الثاني:
وأصحاب هذا الموقف يرون أن آية السيف التي نزلت في سورة براءة قد نسخت كل مراحل الجهاد السابقة؛ سواء من كف اليد أو المسالمة مع الكفار، أو عقد صلح أو هدنة معهم •• إلخ، ونظروا إلى أن قتال الكفار والمرتدين اليوم فرض دون أن ينظروا إلى أحوال المسلمين وضعفهم، ودون أن ينظروا إلى تحقيق شرائط الجهاد من: القدرة، وإقامة الحجة على الناس بالبيان الكافي لسبيل المؤمنين، والتعرية التامة لسبيل المجرمين؛ حتى يكفر من كفر ويهلك من هلك عن بينة، ويؤمن من آمن ويحيى من حيى عن بينة، ودون أن يكون هناك الإعداد المعنوي الروحي للمجاهدين علمًا وعملاً وعبادة وأخلاقًا•
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى-: "فمن كان من المؤمنين بأرض هو فيها مستضعف أو في وقت هو فيه مستضعف فليعمل بآية الصبر والصفح عمن يؤذي الله ورسوله من الذين أوتوا الكتاب والمشركين، وأما أهل القوة فإنما يعملون بآية قتال أئمة الكفر الذين يطعنون في الدين، وبآية قتال الذي أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون"(32).
وقد جاء هذا الموقف الذي لم ينظر إلا إلى المرحلة الأخيرة من مراحل فرض الجهاد في مقابل الموقف السابق الذي لم ينظر إلا إلى المرحلة الأولى - وهي كف اليد - ولم يُعِدّ للمراحل الجهادية التي تلت كف اليد والصبر على أذى الكفار•(115/1383)
وبين هذين الموقفين موقف ثالث نحسب أنه الموافق لهديه صلى الله عليه وسلم في الدعوة والجهاد؛ وهو الموقف الذي رأى أن واقع المسلمين اليوم وما يعيشونه من ذلة ومهانة وتسلط أعدائهم عليهم وذهاب دولتهم هو أشبه ما يكون بحال الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة؛ حيث الاستضعاف وتسلط الكفار• ولكن أصحاب هذا الموقف فارقوا الموقف الأول الذي رضخ للواقع في أنهم لم يرضوا بالاستسلام للواقع، ولم يرضوا بالذل والمهانة؛ بل قاموا باتباع أثر النبي صلى الله عليه وسلم في مثل هذه الظروف حيث جاهد وصبر وبلَّغ التوحيد الخالص للناس، وربى أصحابه رضي الله عنهم على التوحيد ومقتضياته، وأعدهم علمًا وعملاً للجهاد والتضحية في سبيل الله تعالى؛ فصبروا وصابروا، وهجروا الخلان والأوطان، واستعذبوا ذلك في سبيل الله عز وجل؛ حتى إذا علم الله عز وجل صدق ذلك منهم هيأ لهم المراحل التالية من مراحل الجهاد في سبيله سبحانه، وهيأ لهم الأنصار والدولة التي ينطلقون منها للجهاد في سبيل الله عز وجل، ففتحوا الدنيا ونشروا أنوار التوحيد ورسالة الإسلام في كل مكان قدروا عليه حتى أصبح الدين كله لله، وصارت كلمة الله هي العليا وكلمة الكافرين هي السفلى•
كما فارقوا الموقف الثاني بالصبر وعدم العجلة في جهاد الطلب للكفار والمرتدين قبل الإعداد الشامل لذلك•
تنبيه:
ليس المعني في الموقف الثاني تلك الحركات الجهادية التي تدافع عن المسلمين في أفغانستان والشيشان وغيرها، وإنما المعني هم أولئك الذين يرون مواجهة الأنظمة الطاغوتية في بلدان المسلمين دون الحصول على الحد الأدنى من الإعداد والقدرة، وقبل وضوح راية الكفر في تلك البلدان للناس، ودون وضوح راية أهل الإيمان في مقابل ذلك؛ مما ينشأ عنه اللبس والتلبيس على الناس، فتختلط الأوراق ويجد هؤلاء المجاهدون المستعجلون أنفسهم وجهًا لوجه أمام إخوانهم المسلمين الذين غرر بهم ولبس عليهم وقيل لهم بأن حكومتهم شرعية، وأن الخارجين عليها متطرفون إرهابيون مفسدون، ولم يجد الناس من يزيل عنهم هذا اللبس• فحينئذ تقع الفتنة بين المسلمين، ويقتل بعضهم بعضًا•
أما تلك الحركات الجهادية التي أعلنت جهادها على الكفار في مثل أفغانستان لمواجهة التحالف الصليبي أو في كشمير لمواجهة الهندوس الوثنيين، أو في الشيشان لمواجهة الملاحدة الشيوعيين، أو في فلسطين لمواجهة اليهود الغاشمين فإنها حركات مشروعة لوضوح الراية الكفرية، وزوال اللبس عن المسلمين في تلك الأماكن، كما أنه جهاد للدفاع عن الدين والعرض والمكان حتى لا ترتفع فيه راية الكفار•
أما جهاد الطلب فإنه لا يكون إلا بعد قيام دولة وكيان قوي للمسلمين ينطلقون منه ويفيئون إليه، ويهاجر إليه وتصب طاقات المسلمين فيه• وقبل قيام هذا الكيان القوي الآمن فإنه ليس أمام المسلمين إلا إعداد العدة لإقامة هذا الكيان، والقيام بجهاد الدفع فيما لو تعرض المسلمون إلى عدو كافر يريد صرفهم عن دينهم أو استباحة دمائهم وأموالهم وأعراضهم وديارهم•
المقدمة الرابعة(115/1384)
فضائل الجهاد في سبيل الله تعالى وثماره في الدنيا والآخرة
تقدم الحديث عن غاية الجهاد في سبيل الله عز وجل وثمرته الكبرى في الدنيا والآخرة، وأنه شرع لتعبيد الناس لرب العالمين، وحتى لا تكون فتنة ولا شرك ويكون الدين كله لله• هذا في الدنيا أما في الآخرة فرضوان الله وجنته والنجاة من سخطه والنار•
وقد نبه الله سبحانه إلى خيرية الجهاد في الدنيا والآخرة في قوله تعالى: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (البقرة:216).
وسيتم في هذه المقدمة تفصيل بعض الثمار والخيرات التي تترتب على الجهاد في سبيل الله عز وجل في الدنيا والآخرة، والتي هي فرع عن غاية الجهاد.
( أ ) الثمار التي تظهر في الدنيا :
1- بالجهاد تظهر حقيقة المحبة لله عز وجل وصدق العبودية له، ويظهر الصادق فيها من الكاذب؛ فالجهاد في سبيل الله تعالى وتقديم الروح رخيصة لله تعالى من أقوى البيان على صحة دعوى المحبة لله تعالى ولدينه، وبالجهاد يمحص ما في القلوب ويبتلى به ما في الصدور ويتخذ الله عز وجل من شاء من عباده شهداء•
وفي ذلك يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: "لما كثر المدعون للمحبة طولبوا بإقامة البينة على صحة الدعوى؛ فلو يعطى الناس بدعواهم لادعى الخلىُّ حُرقَة الشَّجيِّ• فتنوع المدعون في الشهود• فقيل: لا تُقبل هذه الدعوى إلا ببينة (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ)(آل عمران: من الآية31).
فتأخر الخلق كلهم، وثبت أتباع الحبيب في أفعاله وأخلاقه، فطولبوا بعدالة البينة بتزكية (يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) (المائدة: من الآية54).
فتأخر أكثر المحبين وقام المجاهدون، فقيل لهم: إن نفوس المحبين وأموالهم ليست لهم، فهلموا إلى بيعة (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ )(التوبة: من الآية111).
فلما عرفوا عظمة المشتري، وفضل الثمن، وجلالة من جرى على يديه عقد التبايع: عرفوا قدر السلعة، وأن لها شأنًا• فرأوا من أعظم الغَبْن أن يبيعوها لغيره بثمن بخس• فعقدوا معه بيعة الرضوان بالتراضي، من غير ثبوت خيار• وقالوا: "والله لا نقيلك ولا نستقيلك"•
فلما تم العقد وسلموا المبيع، قيل لهم: منذ صارت نفوسكم وأموالكم لنا رددناها عليكم أوفر ما كانت، وأضعافها معًا: (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ) (آل عمران: 169-170)(33).
وقد تقدم قول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "•• والجهاد دليل المحبة الكاملة ••• فإن المحبة مستلزمة للجهاد لأن المحب يحب ما يحب محبوبه، ويبغض ما يبغض محبوبه، ويوالي من يواليه، ويعادي من يعاديه، ويرضى لرضاه، ويغضب لغضبه، ويأمر بما يأمر به، وينهي عما نهى عنه؛ فهو موافق له في ذلك •••)(34).(115/1385)
وقال أيضًا: "فإذا ترك العبد ما يقدر عليه من الجهاد كان دليلاً على ضعف محبة الله ورسوله في قلبه"(35).
وهنا يحسن الإشارة إلى مسألة مهمة تتعلق بعقيدة الولاء والبراء والحب في الله والبغض في الله؛ ألا وهي: أن هذه الشعيرة العظيمة التي هي صلب التوحيد وأسه المتين إنما تقوى وتصقل بالجهاد في سبيل الله تعالى، والدعوة إلى الله تعالى، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما أنها تضعف ويصيبها الوهن بترك ذلك أو ضعفه• وإن المتأمل في كتاب الله عز وجل وفي واقع الدعوة إلى الله عز وجل يرى أن هناك ارتباطًا وثيقًا بين الدعوة إلى الله تعالى والجهاد في سبيله، وبين عقيدة الولاء والبراء في نفس الداعية•
فكلما قويت الدعوة وقوي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وحب الجهاد في نفس العبد المخلص لربه قويت هذه العقيدة في نفسه وظهرت بشكل واضح في حياته ومواقفه ومحبته وعداوته؛ حتى يصبح على استعداد أن يهجر وطنه وأهله وماله إذا اقتضى الأمر ذلك•
بل إن هذه العقيدة لتبلغ ذروة السنام في قلب الداعية ومواقفه؛ وذلك في جهاد أعداء الله ولو كانوا أقرب قريب؛ قال الله تعالى: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (التوبة:71).
والعكس من ذلك واضح ومشاهد؛ فما من داعية فترت همته عن الدعوة والجهاد ومال إلى الدنيا وأهلها إلا كان الضعف في عقيدة الولاء والبراء مصاحبًا لذلك•
والحاصل أن عقيدة الولاء والبراء ليست عقيدة نظرية تحفظ في الذهن المجرد، بل هي: عقيدة وعمل ومفاصلة ودعوة وجهاد وحب وبغض؛ فإذا أردنا أن تقوى هذه العقيدة فهذا هو طريقها: طريق الدعوة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد في سبيل الله تعالى، وكلما ابتعد العبد عن هذه الأعمال مؤثرًا الراحة عليها فهذا معناه هشاشة هذه العقيدة وتعرضها للخطر والاهتزاز•
وهذه إحدى ثمار الجهاد؛ حيث يميز صادق الولاء لله تعالى ولدينه من كاذبه، كما أنه في نفس الوقت يقوي هذه العقيدة ويصقلها• والصلة بين الجهاد وعقيدة الولاء والبراء صلة تناسب مطرد متبادل؛ بمعنى أن الحماس للجهاد والتضحية في سبيل الله تعالى يقوى بقوة عقيدة الولاء والبراء في القلب، كما أن الولاء والبراء يقوى ويشتد بالجهاد في سبيل الله تعالى•
2- نشر التوحيد وشريعة الإسلام التي يهنأ الناس في ظلالها، وتسعد البشرية بها، ويرتفع عنها الظلم والشقاء بارتفاع الشرك الذي فيه استعباد الناس وظلمهم وقهرهم• والتاريخ يشهد بذلك؛ فما من أمة فشى فيها الشرك والكفر إلا وعانت من الظلم والشقاء وتسلط الطواغيت الشيء العظيم، وما من أمة دخلها الإسلام وحكمها بحكمه العادل القائم على توحيد الله عز وجل إلا صلح أمرها وعاشت هنيئة سعيدة تحت ظلاله الوارفه، فالجهاد إذن شرع رحمة بالعباد•
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "والطاعة عاقبتها سعادة الدنيا والآخرة؛ وذلك مما يفرح به العبد المطيع؛ فكان فيما أمر به من الطاعات عاقبته(115/1386)
حميدة تعود إليه وإلى عباده؛ ففيها حكمة له ورحمة لعباده؛ قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) (الصف:10-13).
ففي الجهاد عاقبة محمودة للناس في الدنيا يحبونها: وهي النصر والفتح، وفي الآخرة الجنة، وفيه النجاة من النار؛ وقد قال تعالى في أول السورة (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ) (الصف:4) فهو يحب ذلك؛ ففيه حكمة عائدة إلى الله تعالى وفيه رحمة للعباد؛ وهي ما يصل إليهم من النعمة في الدنيا والآخرة"(36).
3- بالجهاد يُدفع عذاب الله عز وجل ونقمته في الدنيا والآخرة ويعيش المسلمون حياة طيبة عزيزة خالية من التذلل للكفار والبقاء تحت سيطرتهم وقهرهم• والعكس من ذلك يحصل حين يُترك الجهاد ويركن الناس إلى الدنيا؛ حيث يحل محل العزة ذل المسلمين واستكانتهم لأعدائهم يسومونهم سوء العذاب في أديانهم وأنفسهم وأعراضهم وأموالهم•
وهذا مصداق قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا ظن الناس بالدينار والدرهم، وتبايعوا بالعينة، واتبعوا أذناب البقر، وتركوا الجهاد في سبيل الله أنزل الله بهم بلاء، فلم يرفعه عنهم حتى يراجعوا دينهم)(37).
وواقعنا المعاصر أكبر شاهد على ذلك؛ حيث يعد عصرنا من أسوء العصور التي مرت بالمسلمين حيث بلغ المسلمون فيه من الذل والاستكانة والتفرق ما لم يبلغوه في أي عصر مضى، مما أغرى بهم أعداؤهم فتداعوا إلى بلدان المسلمين كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، وما ذاك إلا بترك طاعة الله عز وجل وحب الدنيا وكراهية الموت، وترك الجهاد في سبيل الله تعالى•
ولن يُرفع هذا الذل عن المسلمين إلا أن يراجعوا دينهم ويرفعوا عَلَم الجهاد على الكفار ويعدوا ما استطاعوا من قوة لقتالهم دفاعًا وطلبًا• وقبل أن يتم ذلك فلا نرجو عزة، ولا نطمع أن يكف الكفار شرهم عن المسلمين بمجرد المفاوضات السياسية أو عن طريق مجلس الأمن - أعتذر - مجلس الخوف، أو هيئة الأمم الكفرية الطاغوتية• كلا فلن يردع الأعداء المعاصرين إلا ما ردع أسلافهم المعتدين من قبل؛ إنه الجهاد في سبيل الله تعالى•
يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: "قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) (الأنفال:24) ، فتضمنت هذه الآية أمورًا أحدها أن الحياة النافعة إنما تحصل بالاستجابة لله ورسوله؛ فمن لم تحصل له هذه الاستجابة فلا حياة له وإن كانت له حياة بهيمية مشتركة بينه وبين أرذل البهائم• فالحياة الحقيقية الطيبة هي حياة من استجاب لله والرسول ظاهرًا وباطنًا؛ فهؤلاء الأحياء وإن ماتوا، وغيرهم أموات وإن كانوا أحياء الأبدان• ولهذا كان أكمل الناس حياة أكملهم استجابة لدعوة الرسول؛(115/1387)
فإن كل ما دعا إليه ففيه الحياة؛ فمن فاته جزء منه فاته جزء من الحياة، وفيه من الحياة بحسب ما استجاب للرسول•
قال مجاهد: لما يحييكم يعني للحق•
وقال قتادة: هو هذا القرآن؛ فيه الحياة والثقة والنجاة والعصمة في الدنيا والآخرة•
وقال السدي: هو الإسلام؛ أحياهم به بعد موتهم بالكفر•
وقال ابن إسحاق وعروة بن الزبير واللفظ له: لما يحييكم يعني للحرب التي أعزكم الله بها بعد الذل، وقواكم بعد الضعف، ومنعكم بها من عدوكم بعد القهر منهم لكم•
وهذه كلها عبارات عن حقيقة واحدة، وهي: القيام بما جاء به الرسول ظاهرًا وباطنًا•
قال الواحدي: والأكثرون على أن معنى قوله لما يحييكم هو: الجهاد، وهو قول ابن إسحاق واختيار أكثر أهل المعاني•
قال الفراء: إذا دعاكم إلى إحياء أمركم بجهاد عدوكم، يريد أن أمرهم إنما يقوى بالحرب والجهاد؛ فلو تركوا الجهاد ضعف أمرهم واجترأ عليهم عدوهم• قلت: الجهاد من أعظم ما يحييهم به في الدنيا وفي البرزخ وفي الآخرة"(38).
4- المجاهدون في سبيل الله تعالى من أهدى الناس إلى الحق، وأسعدهم بسبيل الله عز وجل عند اختلاف السبل؛ قال الله تعالى: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) (العنكبوت:69). يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "ولهذا كان الجهاد موجبًا للهداية التي هي محيطة بأبواب العلم؛ كما دل عليه قوله تعالى: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا) ، فجعل لمن جاهد فيه هداية جميع سبله تعالى؛ ولهذا قال الإمامان عبدالله بن المبارك وأحمد بن حنبل وغيرهما: إذا اختلف الناس في شيء فانظروا ماذا عليه أهل الثغر فإن الحق معهم لأن الله يقول: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا)(39) ا•هـ، وقال تعالى: (وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ) (محمد:4-5). قرأها الجمهور: "قاتلوا" وقرأ أبو عمرو وحفص عن عاصم: "قتلوا".
5- الجهاد في سبيل الله تعالى من أعظم وسائل التربية للنفس وتزكيتها باطنًا وظاهرًا: فكم من الأخلاق الفاضلة وأعمال القلوب الزكية لا يمكن إصلاحها والوصول بها إلى كمالها أو قرب كمالها إلا بالجهاد في سبيل الله تعالى• وبدون الجهاد ستبقى هذه الأعمال ضعيفة أو يصعب على العبد تكميلها وهو قاعد•
وهذا ما أشار إليه شيخ الإسلام رحمه الله تعالى في تعليقه على كون الجهاد ذروة سنام هذا الدين؛ حيث قال: "••• ولهذا كان الجهاد سنام العمل، وانتظم سنام جميع الأحوال الشريفة؛ ففيه سنام المحبة، كما في قوله: (فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ) (المائدة: من الآية54). وفيه سنام التوكل وسنام الصبر؛ فإن المجاهد أحوج الناس إلى الصبر والتوكل؛ ولهذا قال تعالى: (وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) (النحل:41-42).
وقال تعالى: (قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) (لأعراف:128).(115/1388)
••• وفي الجهاد أيضاً: حقيقة الزهد في الحياة الدنيا، وفي الدار الدنيا، وفيه أيضًا: حقيقة الإخلاص؛ فإن الكلام فيمن يجاهد في سبيل الله، لا في سبيل الرياسة، ولا في سبيل المال، ولا في سبيل الحمية، وهذا لا يكون إلا لمن قاتل ليكون الدين كله لله، ولتكون كلمة الله هي العليا• وأعظم مراتب الإخلاص تسليم النفس والمال للمعبود، كما قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ) (التوبة: من الآية111)(40).
6- وحدة صف المسلمين واجتماع كلمتهم: حيث إن استقراء التاريخ يدل على أن الجهاد في سبيل الله عز وجل يوحد صفوف المسلمين ويضيق أبواب الخلاف، وما من وقت كان المسلمون يقارعون فيه أعداءهم الكفار إلا وكانوا فيه في غاية الإخاء والاتحاد، وما كانوا ينتهون من غزوة أو معركة إلا ويدخلون في أخرى، ولم يجد الخلاف إليهم سبيلا، والعكس من ذلك يحدث عندما يعطل الجهاد وينشغل المسلمون بعضهم ببعض•
( ب ) الثمار الأخروية للجهاد :
في الآخرة تتحقق الثمرة العظمى للجهاد في سبيل الله تعالى، والتي تنافس فيها المتنافسون، وضحى في سبيلها المجاهدون بأرواحهم رخيصة راضية بها نفوسهم، وكيف لا وهم يرجون رحمة الله تعالى ورضوانه وجناته؟! هذه الغاية الشريفة والثمرة العظيمة التي يرخص في سبيلها كل شيء•
وإن المتأمل في كتاب الله عز وجل والمتدبر لجميع الآيات التي ورد فيها ذكر الجنة وما أعد الله عز وجل فيها لأهلها من الرضوان والنعيم ليلفت نظره أمرٌ مهم وشيئ عجيب؛ ألا وهو أن جل ما ورد من الآيات التي يذكر فيها سبحانه ما أعد لأوليائه من الجنة والرضوان يسبقها في العادة صفات الموعودين بذلك، وبالتأمل في أوصافهم تلك نجد أنها تكاد تنحصر في: المجاهدين، والصابرين، والآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر• وفيما يلي ذكر بعض الآيات التي يذكر الله عز وجل فيها ما أعد لعباده المجاهدين من الرحمة والنعيم والرضوان•
- الآية الأولى: قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (البقرة:218).
- الآية الثانية: قوله تعالى: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ) (البقرة:214). - الآية الثالثة: قوله تعالى: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) (آل عمران:142).
- الآية الرابعة: قوله تعالى: )وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) (آل عمران:157).
- الآية الخامسة: قوله تعالى: (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ(115/1389)
أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ) (آل عمران:169-172). - الآية السادسة: قوله تعالى: (فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَاباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ) (آل عمران:195).
- الآية السابعة: قوله تعالى: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) (الأنفال:74).
- الآية الثامنة: قوله تعالى: (الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) (التوبة: 20-22). - الآية التاسعة: قوله تعالى: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (التوبة:71-72).
- الآية العاشرة: قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (التوبة:111). - الآية الحادية عشر: قوله تعالى: (وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ) (محمد:4-6).
- الآية الثانية عشر: قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (الصف: 10-12).
وأما الأحاديث في فضائل الجهاد وما أعد الله للمجاهدين والشهداء في الآخرة فهي كثيرة جدًا والمتأمل في أحاديث الفضائل يجد أنه ما من عمل صالح جاء في فضيلته والترغيب فيه والثناء على أهله أحاديث كثيرة لم تأت لغيره من الصالحات كما جاء في شعيرة الجهاد؛ ومن هذه الأحاديث:
- قوله صلى الله عليه وسلم: (انتدب الله لمن خرج في سبيله لا يخرجه إلا إيمانٌ بي، وتصديق برسلي أن أرجعه بما نال من أجرٍ أو غنيمةٍ أو أدخله الجنة، ولولا أن أشق على أمتي ما قعدت خلف سَرية، ولوددت أني أقتلُ في سبيل الله، ثم أحيا، ثم أُقتل، ثم أُحيا، ثم أُقتل)(41).
- وقوله صلى الله عليه وسلم: (مثل المجاهد في سبيل الله كمثل الصائم القائم القانت بآيات الله لا يفتر من صيام ولا صلاة حتى يرجع المُجاهد في سبيل الله)(42).
- وقوله صلى الله عليه وسلم: (من قاتل في سبيل الله من رجل مسلم فواق ناقةِ، وجبت له الجنة)(43).(115/1390)
- وقوله صلى الله عليه وسلم: (إِن في الجنة مائة درجةٍ أعدها الله للمُجاهدين في سبيل الله؛ ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض، فإذا سأَلتم الله فاسألُوهُ الفرْدَوس؛ فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة، وفوقه عرش الرحمن، ومنه تفجر أنهار الجنة)(44).
- وقوله صلى الله عليه وسلم لأبي سعيد: (من رضي بالله ربًا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد رسولاً، وجبت له الجنة) فعجب لها أبو سعيد، فقال: أعِدْهَا عليَّ يا رسول الله، ففعل، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وأُخرى يرفع الله بها العبد مائة درجة في الجنة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض) قال: وما هي يا رسول الله؟ قال: (الجهادُ في سبيل الله)(45).
- وقوله صلى الله عليه وسلم: (من اغبرَّت قدماه في سبيل الله حرَّمه الله على النار)(46).
- وقوله صلى الله عليه وسلم: (من راح روحة في سبيل الله كان له بمثل ما أصابه من الغبار مسكًا يوم القيامة)(47).
- وقوله صلى الله عليه وسلم: (رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها)(48).
- وقوله صلى الله عليه وسلم: (رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه، وإن مات جرى عليه الذي كان يعمله، وأجري عليه رزقه وأمن الفتان)(49).
- وقوله صلى الله عليه وسلم: (إن أبواب الجنة تحت ظلال السيوف)(50).
- وقوله صلى الله عليه وسلم: (طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله، أشعث رأسه، مغبرة قدماه، إن كان في الحراسة كان في الحراسة، وإن كان في الساقة كان في الساقة، إن استأذن لم يؤذن له، وإن شفع لم يُشَفَّع)(51).
ولأجل هذه الفضائل كان السلف الصالح من الصحابة رضي الله عنهم ومَنْ بعدهم أحرص الناس على هذه الشعيرة العظيمة؛ فتسابقوا في بذل أنفسهم رخيصة في سبيل الله عز وجل راجين هذه الفضائل العظيمة، وعلى رأسها رضوان الله عز وجل ورحمته وجنته• وأسوق فيما يلي نماذج من حرص السلف على هذه الشعيرة العظيمة:
- عن حماد بن سلمة: حدثنا عليُّ بن زيد، عن ابن المسيِّب، قال: أقبل صُهيب مهاجرًا، واتبعه نفرٌ، فنزل عن راحلته، ونثل كِنانته، وقال: لقد علمتم أني من أرماكم، وأيمُ الله لا تصلون إليَّ حتى أرمي بكل سهم معي، ثم أضربُكم بسيفي، فإن شئتُم دللتُكم على مالي، وخلَّيتُم سبيلي؟ قالوا: نفعل• فلما قدم على النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ربح البيعُ أبا يحيى!) ونزلت: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ) (البقرة: من الآية207)(52).
- وقال الواقدي : حدثنا عبدالله بن نافع، عن أبيه عن ابن عمر، قال: رأيتُ عمارًا يوم اليمامة على صخرة وقد أشرف يصيح: يا معشر المسلمين، أَمِن الجنة تَفِرُّون، أنا عمارُ بن ياسر، هلمُّوا إليَّ! وأنا أنظر إلى أذنه قد قطعت، فهي تَذَبْذَبُ وهو يُقاتلُ أشد القتال"(53).
- وقال ابن الجوزي في ترجمة سعد بن خيثمة : يكنى أبا عبدالله، أحد نقباء الأنصار الاثنا عشر• شهد العقبة الأخيرة مع السبعين• ولما ندب رسول الله صلى الله عليه(115/1391)
وسلم الناسَ إلى غزوة بدر قال له أبوه خيثمة: إنه لا بد لأحدنا أن يقيم، فآثرني بالخروج وأقم مع نسائك• فأبى سعد وقال: لو كان غير الجنة آثرتك به، إني لأرجو الشهادة في وجهي هذا فاستَّهما فخرج سهم سعد فخرج فقتل ببدر(54).
- وعن ابن عُيينة عن ابن أبي خالد، عن مولى لآل خالد بن الوليد أن خالدًا قال: ما من ليلة يُهدى إليَّ فيها عروسٌ أنا لها مُحِبٌّ أحبّ إليَّ من ليلة شديدة البرد، كثيرة الجليد في سريَّةٍ أُصَبِّحُ فيها العَدُوَّ(55).
- وعن جُبير بن نُفَير قال : جلسنا إلى المقداد بن الأسود بدمشق وهو يحدثنا وهو على تابوت ما به عنه فضل، فقال له رجل: لو قعدت العام عن الغزو؟ قال: أبت البحوث - يعني سورة التوبة - قال الله تبارك وتعالى: (انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً) قال أبو عثمان: بحثت المنافقين(56).
- وعن خارجة بن زيد بن ثابت، عن أبيه قال : بعثني النبي صلى الله عليه وسلم يوم أُحد أطلب سعد بن الربيع، فقال لي: إنْ رأيتَه، فأقْرِه مني السلام، وقل له: يقول لك رسول الله: كيف تجدك؟ فطفتُ بين القتلى، فأصبته وهو في آخر رمق وبه سبعون ضربة فأخبرته، فقال: على رسول الله السلام وعليك، قل له: يا رسول الله! أجد ريح الجنة، وقل لقومي الأنصار: لا عذر لكم عند الله إن خُلِصَ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيكم شفْر يطرف، قال: وفاضت نفسه رضي الله عنه(57).
- وعن حَمَّادِ بنِ سلمة، عن ثابت وعلي بن زيد، عن أنس: أنَّ أبا طلحة قرأ: (انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً) فقال: استنفرنا الله، وأمرنا شيوخنا وشبابنا، جهزوني• فقال بنوه: يرحمُك الله! إنك قد غزوت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وعمر، ونحن نغزو عنك الآن• قال: فغزا البحر، فمات، فلم يجدوا له جزيرة يدفنونَه فيها إلاَّ بعد سبعة أيام، فلم يتغير(58).
- وعن أنس رضي الله عنه قال : "بعث النبي صلى الله عليه وسلم أقوامًا من بني سليم إلى بني عامر في سبعين فلما قدموا قال لهم خالي: أتقدمكم، فإن أمنوني حتى أبلغهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلا كنتم مني قريبًا، فتقدم فأمَّنوه، فبينما يحدثهم عن النبي صلى الله عليه وسلم إذ أومؤوا إلى رجل منهم فطعنه فأنفذه فقال: الله أكبر، فزت ورب الكعبة• ثم مالوا على بقية أصحابه فقتلوهم إلا رجل أعرج صعد الجبل، فأخبر جبريل عليه السلام النبي صلى الله عليه وسلم أنهم لقوا ربهم فرضي عنهم وأرضاهم ••"(59).
- وعن ثابت البناني عن ابن أبي ليلى، أن ابن أم مكتوم قال: أي ربِّ! أنزل عذري• فأنزلت (غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ) (النساء: من الآية95). فكان بعدُ يغزو ويقولُ: ادفعوا إليَّ اللواءَ، فإني أعمى لا أستطيع أن أفِرَّ، وأقيموني بين الصفين(60).
- وعن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت : لما توجه النبيُّ صلى الله عليه وسلم من مكة حمل أبو بكر معه جميع ماله - خمسة آلاف، أو ستة آلاف - فأتاني جدِّي أبو قُحافة وقد عمِي، فقال: إن هذا قد فجعكم بماله ونفسه• فقلتُ: كلا، قد ترك لنا خيرًا كثيرًا• فعمدتُ إلى أحجارِ، فجعَلْتُهنَّ في كوَّة البيت، وغطيتُ عليها بثوب، ثم أخذتُ بيده، ووضعتُها على الثوب، فقلتُ: هذا تركه لنا• فقال: أَمَا إذْ ترك لكم هذا فنعم(61).(115/1392)
- وروى عاصم بن بهدلة عن أبي وائل أظن قال: لما حضرت خالدًا الوفاةُ، قال: لقد طلبتُ القتل مظانَّه فلم يُقَدَّر لي إلا أن أموت على فراشي• وما من عملي شيءٌ أرجى عندي بعد التوحيد من ليلة بتُّها وأنا متترس، والسماء تهلّني ننتظر الصبح حتى نُغيرَ على الكفار• ثم قال: إذا متُّ فانظروا إلى سلاحي وفرسي، فاجعلوه عدة في سبيل الله• فلما تُوفي، خرج عمر على جنازته، فذكر قوله: ما على آل الوليد أن يَسْفَحْنَ على خالد من دمُوعهن ما لم يكن نَقْعًا أو لَقْلَقَةً(62).
- ومن ترجمة أبي عقيل عبدالرحمن بن ثعلبة - وهو بدري شهد المشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم - روى ابن الجوزي عن جعفر بن عبدالله بن أسلم قال: لما كان يوم اليمامة واصطف الناس كان أول من جُرح أبو عَقِيل؛ رُمي بسهم فوقع بين منكبيه وفؤادِه في غير مَقتل، فأخرج السهم ووهَن له شقَّه الأيسر في أول النهار، وجُرَّ إلى الرحل• فلما حمي القتال وانهزم المسلمون وجاوزوا رحالهم، وأبو عقيل واهن من جرحه، سمع معن بن عدي يصيح يا للأنصار! الله الله والكرّة على عدوكم• قال عبدالله بن عمر: فنهض أبو عقيل يريد قومه، فقلت: ما تريد؟ ما فيك قتال• قال: فد نوَّه المنادي باسمي قال ابن عمر: فقلت له: إنما يقول: يا للأنصار، ولا يعني الجرحى• قال أبو عقيل: أنا من الأنصار، وأنا أجيبه ولو حَبْوًا• قال ابن عمر: فتحزَّم أبو عقيل وأخذ السيف بيده اليمنى، ثم جعل ينادي: يا للأنصار، كرَةً كيوم حُنين فاجتمعوا رحمكم الله جميعاً تقدّموا فالمسلمون دريئة دون عدوهم، حتى أقحموا عدوّهم الحديقة فاختلطوا واختلفت السيوف بيننا وبينهم• قال ابن عمر: فنظرت إلى أبي عقيل وقد قُطعت يده المجروحة من المنكب فوقعتْ إلى الأرض وبه من الجراح أربعة عشر جرحًا كلها قد خلصت إلى مقتل، وقُتل عدو الله مسيلمة• قال ابن عمر فوقفت على أبي عقيل وهو صريع بآخر رمق فقلت: يا أبا عقيل! قال: لبيك - بلسان ملتاث (63)- لمن الدَبرَة(64).؟ قلت: أبشر قد قتل عدو الله• فرفع إصبعه إلى السماء يحمد الله• ومات يرحمه الله•
قال ابن عمر: فأخبرت عمر، بعد أن قدمت، خبره كله• فقال: رحمه الله؛ ما زال يسعى للشهادة ويطلبها، وإن كان - ما علمت - من خيار أصحاب نبينا صلى الله عليه وسلم وقديم إسلامهم رضي الله عنهم(65).
- ومن ترجمة واثلة بن الأسقع رضي الله عنه: عن محمد بن سعد قال: أتى واثلة رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى معه الصبح• وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى وانصرف تصفح أصحابه• فلما دنا من واثلة قال: من أنت؟ فأخبره فقال: ما جاء بك؟ قال: جئت أبايع• فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فيما أحببتَ وكرهتَ؟ قال: نعم• قال: فيما أطقت؟ قال: نعم• فأسلم وبايعه(66).
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتجهز يومئذ إلى تبوك فخرج واثلة إلى أهله فلقي أباه الأسقع فلما رأى حاله قال: قد فعلتها؟ قال: نعم• قال أبوه: والله لا أكلمك أبداً• فأتى عمه فسلم عليه، فقال: قد فعلتها؟ قال: نعم• فلامه أيسر من ملامة أبيه وقال: لم يكن ينبغي لك أن تسبقنا بأمر• فسمعت أخت واثلة كلامه فخرجت إليه وسلمت عليه بتحية الإسلام• فقال واثلة: أنىَّ لكِ هذا يا أخيّة؟ قالت: سمعت كلامك وكلام عمك فأسلمت• فقال: جهّزي أخاك جهازَ غَازٍ؛ فإن رسول الله صلى الله عليه(115/1393)
وسلم على جناح سفر• فجهزته فلحق برسول الله صلى الله عليه وسلم قد تحمَّل إلى تبوك وبقي غُبَّراتٌ(67) من الناس وهم على الشخوص(68) فجعل ينادي بسوق بني قينقاع: من يحملني وله سهمي؟ قال: وكنت رجلاً لا رِحلة(69) بي. قال: فدعاني كعب بن عُجْرة فقال: أنا أحملك عقبة بالليل وعقبة بالنهار ويدك أسوة يدي وسهمك لي• قال واثلة: نعم• قال واثلة: جزاه الله خيرًا لقد كان يحملني ويزيدني وآكل معه ويرفع لي، حتى إذا بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد إلى أكيدر بن عبدالملك بدومة الجندل خرج كعب في جيش خالد وخرجت معه فأصبنا فيئًا كثيرًا فقسمه خالد بيننا فأصابني ست قلائص(70) فأقبلت أسوقها حتى جئت بها خيمة كعب بن عجرة فقلت: اخرج رحمك الله فانظر إلى قلائصك فاقبضها• فخرج وهو يبتسم ويقول: بارك الله لك فيها ما حملتك وأنا أريد أن آخذ منك شيئًا(71).
- وعن عبدالله بن قيس أبي أميَّة الغفاري قال: كنا في غزاة لنا فحضر عدوهم فصيح في الناس فهم يثوبون إلى مصافهم، إذا رجل أمامي، رأس فرسي عند عجز فرسه، وهو يخاطب نفسه ويقول: أي نفس ألم أشهد مشهد كذا وكذا فقلت لي: أهلك وعيالك، فأطعتُك ورجعتُ؟ ألم أشهد مشهد كذا وكذا فقلت: أهلك وعيالك فأطعتك ورجعت؟ والله لأعرضنَّك اليوم على الله، أخذك أو تركك• فقلت: لأرمقنه اليوم• فرمقته فحمل الناسُ على عدوهم فكان في أوائلهم، ثم إن العدو حمل على الناس فانكشفوا فكان في حماتهم، ثم إن الناس حملوا فكانوا في أوائلهم، ثم حمل العدو وانكشف الناس فكان في حماتهم• قال: فوالله ما زال ذلك دأبه حتى رأيته صريعًا• فعددتُ به وبدابته ستين، أو أكثر من ستين طعنة(72).
- وعن ابن المبارك عن السري بن يحيى، حدثنا العلاء بن هلال أن رجلاً قال لصلة: يا أبا الصهباء! رأيت أني أعطيتُ شهدة، وأُعطيت شهدتين، فقال تستشهد وأنا وابني، فلما كان يوم يزيد بن زياد؛ لقيتهم التركُ بسجستان فانهزموا• وقال صلة: يا بُني ارجع إلى أمك• قال: يا أبة؛ تريدُ الخير لنفسك، وتأمرني بالرجوع! قال فتقدم، فتقدم، فقاتل حتى أصيب فرمى صلة عن جسده - وكان راميًا - حتى تفرقوا عنه فأقبل حتى قام عليه فدعا له ثم قاتل حتى قتل رحمه الله(73).
- وقال حماد بن سلمة : أخبرنا ثابت أن صِلَةَ كان في الغزو، ومعه ابنه، فقال: أي بُنَي! تقدَّمْ، فقاتل حتى أَحْتَسبك، فحمل، فقاتل، حتى قُتِلَ، ثم تقدَّم صِلَةُ، فقُتل، فاجتمع النساءُ عند امرأته معاذة، فقالت: مرحباً إن كُنْتُنَّ جئتُنَّ لتُهنِّئنني، وإن كُنتُنَّ جِئتُنَّ لغير ذلك، فارجعْنَ(74).
سؤال وجوابه:
بعد ذكر هذه الفضائل والثمار العظيمة للجهاد والمجاهدين في سبيل الله عز وجل يتبادر إلى الذهن سؤال جدير بالجواب ألا وهو: لماذا هذه الفضائل العظيمة التي أُعدت للمجاهدين والشهداء في سبيل الله عز وجل دون غيرهم؟
الجواب - والله أعلم - يكمن في معرفة غاية الجهاد وبواعثه في نفس المؤمن• وقد مر بنا في مقدمة سابقة أنه تعبد لله تعالى ومحك حقيقي لمحبة الله عز وجل؛ فالجهاد في سبيل الله تعالى وبذل الروح رخيصة له سبحانه أكبر دليل على صدق المحبة(115/1394)
والعبودية لله تعالى؛ والتي يستحق صاحبها هذه الفضائل العظيمة دون غيرها من الأعمال•
كما أن تقديم الروح في سبيل الله عز وجل لأجل أن ينتشر التوحيد والعدل في الأرض، ويكون الدين كله لله، وينجو الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد لهو أيضًا عمل شريف كريم عظيم يستحق صاحبه هذه الفضائل العظيمة؛ حيث بذل نفسه في سبيل الله تعالى حتى ينجو بموته فئام من الناس ويخرجون من الظلمات إلى النور ومن الجحيم إلى النعيم؛ فأكرم به من عمل وأعظم بها من غاية•
وفي هذا يستطرد الأستاذ المودودي رحمه الله تعالى حيث يقول: "ما سبب فضل الجهاد في سبيل الله، وسبب امتداحه بهذا الشكل؟ ولماذا يقال للمجاهدين في سبيل الله مرة بعد مرة إنهم هم الفائزون، وإن لهم الدرجات العليا؟ ولماذا وُجّه مثل هذا التحذير للقاعدين في بيوتهم لا يشاركون في هذا الجهاد؟
إن الإجابة على هذا السؤال تستلزم مراجعة النظر مرة ثانية في تلك الآيات التي ورد فيها ذكر حكم الجهاد وفضله، ومساوئ الفرار منه؛ ففي هذه الآيات لم يرد معنى الفوز والعظمة في أي موضع بالحصول على المال والثروة، والملك والسلطان مثلما كان كرشن يقول لأرجُن: "إذا فزت في هذا القتال فسوف تنال ملك الدنيا" (جيتا 2:73)، فمثل هذا لم يرد في القرآن، ولم يحث القرآن المجاهدين على القتال في سبيل الله لينالوا مقابله ثروة الدنيا وسلطانها، بل على العكس من هذا كلما ذكرت ثمار الجهاد في سبيل الله كان ذكرها مقترنا بمرضاة الله فقط، والحصول على مقام عالٍ عند الله، والنجاة من العذاب الأليم• وقد أرشد رب العزة عباده إلى أن الخروج في سبيل الله أفضل من سقاية الحاج وعمارة البيت - وكانتا من أكبر مصادر الدخل عند العرب، وأعظمها أثرًا ورسوخًا - ولم يذكر للجهاد من ثمرة سوى: "أعظم درجة عند الله"(75)، وفي مكان آخر أرشد عباده وعلمهم قاعدة من قواعد التجارة يظن منها أنه يذكر الثروة والمال، ولكن بعد قليل نلاحظ أن حقيقة هذه التجارة أو رأسمالها هو التضحية بالروح والمال في سبيل الله، والثمرة - أي ثمرة هذه التجارة - هي النجاة من العذاب، وفي موضع آخر يحذر ويعنف الهاربين من القتال لأنهم أصبحوا أسرى لمحبة زوجاتهم وأولادهم، وأنهم يخشون على أموالهم التي كسبوها، ويخشون كساد تجارتهم، بينما المجاهدون في سبيل الله يقاتلون في هذه الدنيا وينتصرون ويفتحون البلاد، ويحصلون على أموال طائلة، وتزدهر تجارتهم، ويجدون مساكن يسلبونها من الأمة المغلوبة، إلا أن هذا ليس هو المقصود بالجهاد •• فإذا لم يكن المقصود من هذا الجهاد ثروة الدنيا وسلطانها فماذا ينال من هذا القتال حتى يعد عباده المقاتلين بالدرجات العليا؟ وماذا في هذا العمل الخطير حتى يجعل من أقدام المهرولين إليه المثيرة للغبار موردًا للطفه وعنايته؟ ثم أي نجاح وأي فوز يكمن فيه حتى يقال "مرة بعد مرة" عن المقاتلين في هذه الحروب الشديدة إنهم هم الفائزون (وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ) (التوبة: من الآية20) ؟!•
إن الإجابة على جميع هذه التساؤلات تكمن في قوله تعالى: (وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ) (البقرة: من الآية251)، (إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ) (الأنفال: من الآية73)؛ فالله لا يريد أن تنتشر الفتن وينتشر(115/1395)
الفساد على أرضه، وهو لا يقبل أن يتعذب عباده دون ذنب، أو أن يحل بهم الدمار والبلاء، ولا يحب أن يأكل القوي الضعيف، وأن يسلبه أمنه وطمأنينته، أو أن يصاب عباده في حياتهم الأخلاقية والنفسية والمادية، وهو لا يرضى أن تنتشر أعمال السوء والشر في الدنيا، وأن ينتشر الظلم والإجحاف والقتل والغزو، كما لا يقبل أن يصبح عباده عبادًا لمخلوقيه من بقية العباد فيلطخوا شرفهم الإنساني بجراح الذلة والهوان، وبعد كل هذا فالجماعة التي تنهض لتطهير العالم من هذه الفتنة وتخلصه من الظلم، وتقيم العدل دون رغبة في نيل جزاء، وبغير أي طمع في ثروة أو في مال، وتضحي في سبيل هذا العمل الطيب بروحها وبمالها وبمصالحها التجارية وبحبها لأبنائها وآبائها وأخوتها، وبراحتها داخل بيتها •• أهناك من هو أحق منها بمحبة الله ومرضاته؟ ••
هذه هي فضيلة الجهاد في سبيل الله التي جعلته يحتل الدرجة العليا بين جميع الأعمال الإنسانية بعد الإيمان بالله"(76).
المقدمة الخامسة
مخاطر ترك الجهاد في سبيل الله
بعد أن تبين لنا في المقدمة السابقة فضل الجهاد وثمرته في الدنيا والآخرة فإنه يسهل علينا في هذه المقدمة الحديث عن مخاطر ترك الجهاد والاستعداد له، وما يترتب على ذلك من المفاسد والشرور والعواقب السيئة في الدنيا والآخرة•
ويكفي أن نعكس الفضائل والثمار السابقة لتظهر لنا تلك العواقب السيئة المضادة لتلك العواقب والثمار الحميدة، وقد عد أهل العلم ترك الجهاد العيني من كبائر الذنوب•
يقول ابن حجر الهيتمي في كتابه الزواجر: "الكبيرة التسعون والحادية والثانية والتسعون بعد الثلاثمائة: ترك الجهاد عند تعينه؛ بأن دخل الحربيون دار الإسلام أو أخذوا مسلمًا وأمكن تخليصه منهم، وترك الناس الجهاد من أصله، وترك أهل الإقليم تحصين ثغورهم بحيث يخاف عليها من استيلاء الكفار بسبب ترك ذلك التحصين"(77).
ولذلك كان ترك الجهاد وعدم الاستعداد له علامة على النفاق قال ": (من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من نفاق)(78).
وقد عده الله عز وجل علامة على عدم الإيمان باليوم الآخر، أو ضعف اليقين به فقال تعالى: (لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ) (التوبة:44-46).
ويمكن تفصيل المخاطر والعواقب السيئة لترك الجهاد فيما يلي:
1- ترك الجهاد كما مضى كبيرة من الكبائر؛ لأن فيه تعريض النفس لسخط الله عز وجل وعقابه في الدنيا والآخرة•
قال تعالى: (إِلاّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (التوبة:39).(115/1396)
وقال تعالى: (قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ) (التوبة:26).
ويصف الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى الذين يهملون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله بأنهم أقل الناس دينًا وأمقتهم إلى الله تعالى؛ فيقول: صلى الله عليه وسلموأما الجهاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والنصيحة لله ورسوله وعباده، ونصرة الله ورسوله ودينه وكتابه؛ فهذه الواجبات لا تخطر ببالهم فضلاً عن أن يريدوا فعلها، وفضلاً عن أن يفعلوها• وأقل الناس دينًا وأمقتهم إلى الله من ترك هذه الواجبات وإن زهد في الدنيا جميعها، وقَلَّ أن ترى منهم من يَحْمَرُّ وجهه ويمعره لله ويغضب لحرماته، ويبذل عرضه في نصرة دينه• وأصحاب الكبائر أحسن حالاً عند الله من هؤلاء"(79).
إذًا فترك الجهاد في سبيل الله سبب للهلاك في الدنيا والآخرة؛ وهذا ما يفهم من قوله تعالى: (وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (البقرة:195).
قال ابن كثير: "وقال الليث بن سعد عن يزيد بن أبي حبيب عن أسلم أبي عمران قال: حمل رجل من المهاجرين بالقسطنطينية على صف العدو حتى خرقه - ومعنا أبو أيوب الأنصاري - فقال أناس: ألقى بيده إلى التهلكة• فقال أبو أيوب: نحن أعلم بهذه الآية؛ إنما نزلت فينا؛ صحبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وشهدنا معه المشاهد ونصرناه، فلما فشا الإسلام وظهر اجتمعنا معشر الأنصار نجيًا فقلنا: قد أكرمنا الله بصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم ونصره حتى فشا الإسلام وكثر أهله - وكنا قد آثرناه على الأهلين والأموال والأولاد - وقد وضعت الحرب أوزارها، فنرجع إلى أهلينا وأولادنا فنقيم فيهم فنزل فينا: (وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) (البقرة: من الآية195). فكانت التهلكة: الإقامة في الأهل والمال وترك الجهاد"(80).
كما أن في ترك الجهاد إضعافًا لعقيدة الولاء والبراء؛ وذلك كما مر بنا سابقًا أن عقيدة الولاء والبراء تتناسب طردًا مع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله عز وجل؛ فكلما ركن العبد عن الجهاد ضعفت عقيدة الولاء والبراء وأصابها الوهن؛ وكفى بذلك خطرًا•
2- بترك الجهاد يفشو الشرك والظلم ويعلو الكفر وأهله ويستعبد الناس بعضهم بعضًا، ولا يخفى ما في ذلك من الشقاء والتعاسة والفساد الكبير على الناس قال الله تعالى: (وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ) (البقرة: من الآية251)، وقال تعالى: (وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ(115/1397)
لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) (الحج: من الآية40).
"فلولا أن الله يدفع الكافرين بجهاد المؤمنين، ويكبت الكفار ويذلهم لاعتلوا على المؤمنين، وإذا اعتلى الكافر جعل الناس يعبدونه هو من دون الله سبحانه وتعالى، وإذا عبد الناس من دون الله أحدًا فسدت حياتهم كلها؛ لأن الحياة لا تستقيم إلا إذا سارت على المنهج الذي رسمه الله؛ وهو المنهج الذي يحقق العبودية لله، ويحقق الأخلاق الرفيعة والفضائل الحميدة للبشر؛ فالذي رسم المنهج هو الله الذي خلق الحياة والأحياء العالم بما يصلحهم، أما إذا اعتلى كافر على الأرض وشرع للناس من عند نفسه فإنه لا يعلم جميع الأمور، وليس مبرأ من النقص والهوى، ولا يعلم ما الذي يصلح النفس البشرية فيتخبط خبط عشواء ويفسد الحياة كما هو الحال اليوم• ونظرة على الواقع الذي يعتلي فيه كافر كافية بتقرير هذه الحقيقة، ولولا تخاذل المسلمين عن الجهاد الذي أمر الله به لصلحت حياة الناس الذين يحكمون بشرع الله• لأجل هذا شرع رسول الله صلى الله عليه وسلم الجهاد حتى مع الإمام الفاجر الذي لم يصل إلى درجة الكفر؛ لأن بقاء الإسلام وأهله يحكمهم فاسق خير لهم من أن يحكمهم كافر يحكم بغير ما أنزل الله؛ فإن الحكم بغير ما أنزل الله هو سبب فساد الأرض"(81).
3- ترك الجهاد سبب للذل والهوان كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (لئن تركتم الجهاد وأخذتم بأذناب البقر وتبايعتم بالعينة ليلزمنكم الله مذلة في رقابكم لا تنفك عنكم حتى تتوبوا إلى الله وترجعوا إلى ما كنتم عليه)(82).
وهذا أمر مشاهد وبارز في عصرنا اليوم؛ حيث تسلط الكفار على بلدان المسلمين، وعاش المسلمون في مؤخرة الركب؛ يأكل الكفار خيراتهم، ويتدخلون في شؤونهم، ويتسلطون عليهم بأنواع الذلة والمهانة؛ وما ذاك إلا بتعطيل أحكام الله وترك الاحتكام إلى شرعه، ومن ذلك تعطيل شعيرة الجهاد•
وإن الكفار لن يلتفتوا إلى حقوق المسلمين ويراجعوا حساباتهم ويكفوا شرهم بمجرد الإدانات والشجب والكلام الأجوف، وإنما الذي يخيفهم ويجعلهم يكفون عن المسلمين وديارهم هو الجهاد في سبيل الله تعالى الذي فيه كبت للكفر وأهله، وفيه إعزاز وكرامة للمسلمين•
وهذا أمر يشهد له التاريخ كما يشهد له الواقع؛ فما من مكان علت فيه راية الجهاد إلا وشعر المسلمون فيه بالعزة، وخاف أعداء الله الكفرة من تكبيرات المجاهدين وتضحياتهم(83).
"فإذا وجد إحساس لدى أمة ما بضرورة دفع الشر عن نفسها، وضحت في سبيل ذلك براحتها ومتعها وثروتها ومالها، وبشهواتها النفسية، وبروحها وبكل عزيز لديها؛ فإنها لا يمكن أبدًا أن تظل أمة ذليلة مستضعفة، ولا يمكن لأية قوة مهما كانت أن تنال من عزتها أو شرفها• ويجب أن تتصف الأمة الشريفة العزيزة بأن تخفض الرأس أمام الحق، وأن تفضل الموت عن أن تخفض الرأس أمام الباطل، وإذا لم تتوافر لها القوة لإعلاء كلمة الحق ومساعدة الحق فلا بد على أقل تقدير أن تعمل للحافظ على الحق بكل شدة وبكل صلابة، وهذه أقل درجات الشرف"(84).(115/1398)
ويقول سيد قطب رحمه الله: "والذين يخشون العذاب والألم والاستشهاد وخسارة الأنفس والأولاد والأموال إذا هم جاهدوا في سبيل الله، عليهم أن يتأملوا ماذا تكلفهم الدينونة لغير الله في الأنفس والأموال والأولاد، وفوقها الأخلاق والأعراض •• إن تكاليف الجهاد في سبيل الله في وجه طواغيت الأرض كلها لن تكلفهم ما تكلفهم الدينونة لغير الله؛ وفوق ذلك كله الذل والدنس والعار!"(85).
4- وفي ترك الجهاد تفويت لمصالح عظيمة في الدنيا والآخرة؛ منها الأجر العظيم الذي أعده الله تعالى للمجاهدين والشهداء في الآخرة، ومنها الحياة العزيزة في الدنيا وإقامة شرع الله عز وجل، والشهادة والغنائم والتربية الإيمانية التي لا تحصل إلا في أجواء الجهاد ومراغمة أعداء الله تعالى•
5- إلقاء العداوة والفرقة بين المسلمين: وهذا أمر مشاهد؛ فما من وقت تركت فيه الأمة الجهاد في سبيل الله عز وجل إلا انشغلت بنفسها ووجه المسلمون حرابهم إلى صدور إخوانهم وانشغل بعضهم ببعض•
ونظرة فاحصة إلى أيام الفتن التي تلت مقتل عثمان رضي الله عنه تطلعنا على أثر ترك الجهاد في سبيل الله، وما يحدثه من الفتن والاختلاف والافتراق؛ فلقد توقف غزو الكفار طيلة تلك المدة، ولم يستأنف المسلمون فتوحاتهم إلا بعد أن اجتمعت الكلمة على معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه وهدأت الفتنة•
ذكر الذهبي - رحمه الله تعالى - في السير عن سعيد بن عبدالعزيز قال: "لما قتل عثمان رضي الله عنه ووقع الاختلاف لم يكن للناس غزو حتى اجتمعوا على معاوية رضي الله عنه، فأغزاهم مرات، ثم أغزى ابنه في جماعة من الصحابة برًا وبحرًا حتى أجاز بهم الخليج وقاتلوا أهل القسطنطينية على بابها ثم قفل"(86).
ونظرة أخرى إلى واقعنا المعاصر وما جرى فيه من تعطيل لشرع الله عز وجل - ومن ذلك الجهاد في سبيل الله - ترينا كيف حلَّ بالمسلمين من الفرقة والتحزب والاختلاف بين المسلمين حيث انشغل بعضهم ببعض• وما ذاك إلا من الانحراف عن المنهج الحق وتعطيل هذه الشعيرة العظيمة وما ترتب عليها من تسلط الكفار على بلاد المسلمين وتأجيجهم نار الخلاف والفرقة والتحريش بين المسلمين، وهذه سنة الله عز وجل في كل من أعرض عن شرعه سبحانه ونسي حظًا مما ذكر به قال تعالى: (وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ) (المائدة:14)
التربية الجهادية
وجوانب الإعداد للجهاد في واقعنا المعاصر
بعد أن تعرفنا في المقدمات السابقة على معنى الجهاد العام والخاص، ومراتبه ومراحله، وغايته وأنواعه، وفضائله والمخاطر التي تترتب على تركه؛ يحسن بنا الآن أن ندخل إلى صلب موضوعنا؛ ألا وهو ذكر المجالات المختلفة للتربية الجهادية ووسائل الإعداد لذلك، والذي هو الدافع إلى كتابة هذا البحث، وذلك بعد ما رأيت من نفسي ومن كثير من العاملين في مجال الدعوة إلى الله عز وجل من التقصير الكبير في إعداد النفس للغزو والجهاد في سبيل الله تعالى، وما صاحب ذلك من الترف والركون إلى الدنيا والميل إلى زهرتها وزينتها• وقبل الدخول في تفاصيل هذا(115/1399)
الموضوع أرى أنه لا بد من توصيف سريع لواقع المسلمين اليوم في ضوء المقدمات السابق ذكرها في الصفحات المتقدمة•
فأقول وبالله التوفيق:
- إن المسلمين اليوم يقاسون من الذلة والمهانة وتسلط الأعداء والغثائية الشيء العظيم؛ وما ذلك إلا من الإعراض عن الدين وحب الدنيا وترك الجهاد قال صلى الله عليه وسلم: (يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها) فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ؟ قال: (بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن الله في قلوبكم الوَهْنَ) قالوا: يا رسول الله وما الوهن؟ قال: (حب الدنيا وكراهية الموت)(87)، ومن ذلك أيضاً حديث العينة السابق ذكره(88).
- يواجه المسلمون اليوم في بعض الأقطار احتلالاً وغزوًا عسكريًا في عقر دارهم، وغزوًا فكريًا وأخلاقيًا في كل ديارهم، وساعد الأعداء في ذلك بطانة السوء والمنافقين من أبناء المسلمين الذين ربوا على عين الغرب وتسلطوا على أزمة الحكم في أكثر بلدان المسلمين وحكموا بقوانين الشرق والغرب ورفضوا الحكم بشرع الله عز وجل، ووالوا أعداءه وعادوا أولياءه•
- وفي ظل هذه الظروف لم يترك الله العزيز الرحيم الحكيم العليم هذا الغزو العسكري أو الفكري بلا مدافعة؛ بل اصطفى من عباده المؤمنين طائفة تقوم بالحق وتدافع الباطل على ضعفها وقلة إمكانياتها؛ وهذا مصداق قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تزال من أمتي أمة قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك)(89).
وهذه الطائفة منتشرة في الأرض ومتنوعة المهام فمنهم العلماء الربانيون الذين يصدعون بالحق ويعلمون الناس أمور دينهم•
ومنهم المربون والدعاة الذين يدعون الناس إلى الخير ويحذرونهم من الشر، ويجوبون القرى والمدن لنشر التوحيد والخير بين الناس، ويستخدمون في ذلك جميع الوسائل المتاحة التي تساعد على ذلك من: المحاضرات والندوات، والدورات الشرعية، والتأليف، والأشرطة النافعة، إلى غيرها من الوسائل•
ومنهم الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر الذين يحتسبون على الناس ويغيرون المنكرات بقدر استطاعتهم•
ومنهم المرابطون على الثغور الذين يجاهدون العدو الكافر الذي استحل ديار المسلمين ويدافعونه بقدر استطاعتهم• ومع وجود هذه الفئات التي تقوم كل واحدة منها بنوع من أنواع الجهاد إلا أن الفساد والباطل والغزو العسكري والفكري أكبر بكثير من جهد وإمكانات هذه الفئات، وقد تخلو بعض ديار المسلمين من هذه الفئات تمامًا•
- لقد حذرنا الله عز وجل من أعدائنا الكفار وبطانتهم من المنافقين بقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ هَا أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا(115/1400)
عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) (آل عمران:118-119)، وإن ما يدور منذ سنوات ولا سيما بعد أحداث (11 سبتمبر) من حملة صليبية صريحة على الإسلام والمسلمين لهو أكبر شاهد ومصدق لهذه الآية وغيرها من الآيات التي تحذر المسلمين من الكفار وعداوتهم مثل قوله تعالى: (وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا) (البقرة: من الآية217).
.
وإن الحملة الصليبية على أفغانستان وما صاحبها من الدمار المروع الذي أهلك الحرث والنسل، وما زامن ذلك من أحداث فلسطين المروعة وتلويح الكفار بالتدخل في أي بلد إسلامي يوجد فيه من يرفض التبعية للغرب ويضع نفسه في صف المواجهة له؛ إن كل هذا يوجب على المسلمين - ولا سيما المتصدرين للدعوة والتربية والتعليم - أن يفكروا في جدية الموقف، وأن تبذل المساعي والمشاورات المستمرة في كيفية إحياء الأمة من سباتها وجعل المسلمين يدركون خطر الكفار المحدق بهم؛ فما يجري في بلدان المسلمين البعيدة والقريبة من عدوان على الدين والنفس والعرض والمال ليس ببعيد أن يحل بغيرهم• وإن لم يتحرك المخلصون من الدعاة والعلماء في إعداد الأمة لجهاد أعدائها الكفار والمنافقين فإنه لن ينفع الندم حين يفاجأ المسلمون بغزو الكفار لهم واستيلائهم لديارهم وإذلالهم لهم•
ولقد ذكر أهل العلم أن العدو إذا هاجم المسلمين في عقر دارهم فإن دفعه يصبح واجبًا على جميع المسلمين فهل أعددنا العدة الشاملة لذلك•
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "••• فأما إذا أراد العدو الهجوم على المسلمين فإنه يصير دفعه واجبًا على المقصودين كلهم، وعلى غير المقصودين لإعانتهم ••• وهذا يجب بحسب الإمكان على كل أحد بنفسه وماله، مع القلة والكثرة، والمشي والركوب؛ كما كان المسلمون لما قصدهم العدو عام الخندق لم يأذن الله في تركه لأحد كما أذن في ترك الجهاد ابتداء لطلب العدو"(90).
وهذا الكلام في جهاد الدفع، وأسبابه اليوم منعقدة في بلدان المسلمين المعتدى عليها أما جهاد الطلب وغزو الكفار في عقر دارهم فهذا يسبقه قيام دولة وكيان للمسلمين وقدرة تمكنهم من فتح بلاد الكفار• ولذلك يجب الإعداد له بإقامة هذا الكيان أولاً، ثم تقويته وإعداد المجاهدين لقتال الكفار حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله•
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "•• وكما يجب الاستعداد للجهاد بإعداد القوة ورباط الخيل في وقت سقوطه للعجز؛ فإن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب"(91).
- في ضوء السنن الربانية، وفي ضوء ما سبق يمكننا القول بأن الجهاد مع الكفار والصراع مع الباطل وأهله أصبح أمرًا حتميًا لا سيما جهاد الدفع حيث فرض على المسلمين فرضًا ولا مناص منه - كما هو الحاصل اليوم في أفغانستان والشيشان وكشمير وفلسطين التي احتلها العدو الكافر - ووجب على أهل تلك الديار الدفاع عن دينهم وديارهم وأعراضهم بكل ما استطاعوا من قوة• كما وجب على المسلمين الذين يلونهم نصرتهم وعدم خذلانهم وإسلامهم لأعدائهم الكفار•(115/1401)
- ما دام أن جهاد الكفار وإخراجهم أو صدهم عن ديار المسلمين أصبح أمرًا مفروضًا - سواء ما كان من هذه البلاد محتلاً أو ما كان مهددًا بالاحتلال والغزو - فماذا يجب أن نعد لهذا الجهاد من الإعداد بمفهومه الشامل؟•
والجواب على هذا السؤال في الوقفات التالية:
الوقفة الأولى
الجهاد العام بمعناه لا يسقط عن المسلم المكلف
إن الجهاد بمعناه العام لا يسقط عن المسلم المكلف؛ فكما مر بنا في مراتب الجهاد أن جهاد النفس والشيطان ضرب من ضروب الجهاد - وهو الممهد لجهاد الكفار - والجهاد بهذا المفهوم لا يسقط عن أي مسلم•
بل إن جنس جهاد الكفار فرض عين إما بالقلب، وإما باللسان، وإما بالمال، وإما باليد والسنان - وذلك حسب القدرة والاستطاعة - وما وراء الجهاد القلبي ذرة إيمان• والجهاد القلبي يعني البراءة من الكفار، وبغضهم، والتربص بهم، وتحديث النفس بغزوهم، والإعداد لذلك؛ يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: "والتحقيق أن جنس الجهاد فرض عين إما بالقلب، وإما باللسان، وإما بالمال، وإما باليد، فعلى كل مسلم أن يجهاد بنوع من هذه الأنواع•
أما الجهاد بالنفس ففرض كفاية(92)، وأما الجهاد بالمال ففي وجوبه قولان، والصحيح وجوبه لأن الأمر بالجهاد به وبالنفس في القرآن سواء؛ كما قال تعالى: (انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (التوبة:41)، وعلق النجاة من النار به، ومغفرة الذنب، ودخول الجنة؛ فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (الصف:10-12).
أي: ولكم خصلة أخرى تُحبُّونها في الجهاد، وهي: (نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ)(93).
وجهاد النفس والشيطان هما الأصلان لجهاد الكفار• والانتصار على الكفار في ساحات القتال هو نتيجة للانتصار على النفس والشيطان قبل ذلك• بل إن جهاد النفس والشيطان يستغرق العمر كله؛ إذ لا بد منه قبل منازلة الكفار، وأثناءها، وبعدها•
وعن أهمية هذا النوع من الجهاد يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: "قال تعالى: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا) (العنكبوت: من الآية69). علق سبحانه الهداية بالجهاد؛ فأكمل الناس هداية أعظمهم جهادًا، وأفرض الجهاد: جهاد النفس، وجهاد الهوى، وجهاد الشيطان، وجهاد الدنيا؛ فمن جاهد هذه الأربعة في الله هداه الله سبل رضاه الموصلة إلى جنته، ومن ترك الجهاد فاته من الهدى بحسب ما عطل من الجهاد؛ قال الجنيد: والذين جاهدوا أهواءهم فينا بالتوبة لنهدينهم سبل الإخلاص• ولا يتمكن من جهاد عدوه في الظاهر إلا من جاهد هذه الأعداء باطنًا فمن نُصِرَ عليها نُصِرَ على عدوه، ومن نُصِرَتْ عليه نُصِرَ عليه عدوه)(94).
وسيأتي تفصيل ذلك إن شاء الله تعالى عند الحديث عن الإعداد الإيماني والمعنوي للجهاد في سبيل الله عز وجل•(115/1402)
الوقفة الثانية
الإعداد الإيماني قبل الجهاد لا يعني ترك جهاد الدفع
حتى يكتمل هذا الإعداد
إن القول بضرورة الإعداد الإيماني قبل جهاد الكفار لا يعني ترك جهاد الكفار وقتالهم في جهاد الدفع حتى يكتمل الإعداد الإيماني• إن هذا لا يقول به عاقل؛ بل إنه يصادم مقاصد الشريعة في حفظ الضرورات الخمس•
إن جهاد الدفع يجب أن يهب المسلمون له بالحالة التي هم عليها سواء كانوا في ضعف من الإيمان وتفريط في طاعة الله عز وجل أو كانوا في ضعف مادي؛ فإذا لم يندفع العدو عن الديار والحرمة والدين إلا بقتاله وجب ذلك على المسلمين بما تيسر من القوة دون اشتراط للقدرة، والقوة الإيمانية، إذ لا بد من التفريق بين جهاد الطلب الذي يشترط فيه الإعداد المادي والمعنوي وبين جهاد الدفع الذي لا يشترط فيه ذلك•
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "وأما قتال الدفع فهو أشد أنواع دفع الصائل عن الحرمة والدين، فواجب إجماعًا؛ فالعدو الصائل الذي يفسد الدين والدنيا لا شيء أوجب بعد الإيمان من دفعه، فلا يشترط له شرط بل يدفع بحسب الإمكان، وقد نص على ذلك العلماء: أصحابنا وغيرهم، فيجب التفريق بين دفع الصائل الظالم الكافر وبين طلبه في بلاده"(95).
ولا يعني عدم اشتراط العدة الإيمانية أو المادية في جهاد الدفع التفريط فيها، بل يجب الدفع بما تيسر منهما مع الاهتمام بهما أثناء القتال والسعي لتقويتهما قدر المستطاع؛ فقد يستمر الدفاع شهورًا أو سنوات، فحينئذ يجب السعي أثناء القتال لتوفير القدرة المادية وإعداد المقاتلين إيمانيًا بوضع البرامج العلمية والعملية لتقوية هذا الجانب؛ لأثره العظيم في الثبات والصبر ونزول نصر الله عز وجل، وهزيمة الكفار ودفعهم عن ديار المسلمين وحرماتهم• وإن الحاجة لتشتد في مثل الظروف الراهنة التي يهدد فيها الكفار بالهجوم على ما تبقى من ديار المسلمين•
ومما ينبغي التنبيه إليه أن أجواء الجهاد في سبيل الله عز وجل من أفضل البيئات التي يعد فيها المجاهدون إيمانيًا وتربية وزهدًا وتضحية، وهذا شيء مشاهد؛ فما حصل عليه بعض المجاهدين من التضحية وتزكية أعمال القلوب والزهد والإخلاص في سنة من سنوات الجهاد لم يحصل عليه غيرهم إلا في عدة سنوات•
الوقفة الثالثة
مواطن الاتفاق والاختلاف بين جهاد الطلب وجهاد الدفع
يتفق جهاد الطلب مع جهاد الدفع في أمور، ويختلف معه في أمور أخرى؛ وذلك كما يلي:
1- يتفق هذان النوعان من الجهاد في ضرورة الإعداد لجهاد الكفار سواء المادي أو الإيماني، ولكنهما يفترقان في أن جهاد الطلب وقته موسع فلا يسارع فيه قبل توفر شروطه والتي من أهمها:
( أ ) القدرة في العدة والعتاد•
(ب) الإعداد الإيماني من جوانبه المختلفة؛ والذي سيأتي تفصيله قريبًا إن شاء الله تعالى•(115/1403)
(حـ) وجود الكيان والمكان الآمن الذي يحتمي فيه المجاهدون وينطلقون منه•
( د ) إذا كان العدو منافقًا أو مرتدًا قد التبس أمره على المسلمين فلا بد أن يسبق ذلك جهاد البيان وفضحه للناس حتى يستبينوا سبيل المجرمين وتتضح راية الكفر للناس، وفي نفس الوقت يُعَرِّف المجاهدون أنفسهم للناس حتى يتبينوا حقيقة دعوتهم وأهدافهم، وأنهم لا كما يصورهم إعلام المجرمين بأنهم إرهابيون مفسدون خارجون على الشرعية• وسيأتي تفصيل هذه المسألة قريباً إن شاء الله تعالى•
أما جهاد الدفع فالغالب في القتال فيه أنه قتال مع الكفار المعتدين ورايتهم للناس واضحة، فلا يحتاج الأمر إلى جهد كبير في تعريف الناس بعدوهم كما هو الحال في المنافق الذي التبس أمره على الناس، ومن أمثلة ذلك اليوم ما يجري في أفغانستان أو كشمير أو الشيشان أو فلسطين•
كما أن جهاد الدفع لا يشترط أن يكون له كيان أو دولة تحميه، بل إنه ينطلق من الظروف والإمكانات المتاحة له؛ لأنه لا خيار للمسلمين في تركه، ولو وجد المكان الآمن فهو المفضل والمطلوب لكنه ليس بشرط•
2- كما أن جهاد الدفع يفترق عن جهاد الطلب في أن القيام به فرض عين على المسلمين ولو لم تتوفر الشروط لذلك من الإعداد المادي أو الإيماني؛ بشرط عدم انخرام أصل التوحيد والإيمان وقد سبق ذكر ذلك في الوقفة السابقة•
أما جهاد الطلب فعلى الكفاية إلا إذا استنفر الإمام جميع المسلمين فإنه يتعين حينئذ كما يتعين أيضاً إذا حضر المسلم الصف وتواجه مع العدو•
3- ... أما من حيث غاية النوعين من الجهاد فيشتركان في كونهما لرد الفتنة عن الناس في دينهم وحرماتهم؛ لكنها في جهاد الدفع لرد الفتنة عن المسلمين فيما لو استولى الكفار على البلاد، أما جهاد الطلب فهو لرفع فتنة الشرك والكفر والظلم عن الناس بعامة؛ وذلك في بلاد الكفار التي استعبد طواغيتها الناس وحالوا بينهم وبين وصول الدين الحق إليهم، فيأتي جهاد الطلب ليرفع فتنة الشرك عن الناس ويخرجهم من الظلمات إلى النور، ويكون الدين كله لله تعالى•
الوقفة الرابعة
معنى الإعداد الإيماني أو المعنوي للجهاد في سبيل الله
ماذا نعني بالإعداد الإيماني - أو المعنوي - للجهاد في سبيل الله عز وجل؟ والجواب أن يقال: لقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من لم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من شعب النفاق)(96).
وإن المتأمل في أحوالنا اليوم وطريقة تفكيرنا ومعيشتنا وتعاملاتنا ليرى ضعف العزيمة عندنا في إعداد النفس للجهاد وتحديثها بالغزو على جميع المستويات إلا من رحم الله تعالى؛ فمجرد نظرة سريعة إلى اهتماماتنا، وما يشغل قلوبنا نرى أنها ليست اهتمامات مجاهدين• وكذلك أسلوب معيشتنا وما يشتمل عليه من الترف والترهل، وحب الدعة والراحة، والركون إلى الدنيا، وضعف الصلة بالله تعالى؛ كل هذا لا يتفق مع حقيقة تحديث النفس بالغزو وإعدادها للجهاد، ومن كانت هذه حاله فهو من أول الفارين عن الجهاد عندما ينادى إليه•(115/1404)
إن "تحديث النفس بالغزو" الذي ينجي من شعب النفاق لا يكفي له أن يحدث الإنسان نفسه أنه سيغزو ويجاهد ويكتفي بهذا الحديث النفسي وهو متكئ على أريكته مشحون قلبه بدنياه، كلا ليس هذا هو التحديث المنجي• إنما تحديث النفس بالغزو يعني أمورًا عملية لا بد من العزيمة عليها من الآن، وهذا ما نعنيه بالإعداد الإيماني أو المعنوي•
إن الجهاد في سبيل الله عز وجل عبادة عظيمة تحتاج إلى صبر ومصابرة؛ لأن فيها من المشاق والتضحيات ما لا يوجد في عبادة غيرها لكنها خفيفة ولذيذة على من اصطفاهم الله لنصرة دينه وإعلاء كلمته• ولما كان الجهاد فيه ما فيه من المشاق وبذل المال والنفس في سبيل الله تعالى أصبح الاستعداد له بالإيمان والإخلاص والمتابعة والصبر وقوة الصلة بالله عز وجل أمرًا لا بد منه وإلا خارت القوى وانحلت العزائم• ومن ذلك أَمْرُ الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم بقيام الليل الطويل استعدادًا لتحمل القول الثقيل وتبليغه للناس وتحمل أعباء الرسالة؛ قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً) (المزمل:1-4).
كما أن الإعداد الإيماني قبل الجهاد ضروري لتحقيق النصر على الأعداء عند ملاقاتهم والثبات عند قتالهم؛ قال الله عز وجل: (وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً وَإِذاً لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً) (النساء:66-67).
والإعداد الإيماني علمًا وعملاً وحالاً يباعد بين المجاهدين وبين المعاصي والذنوب أو الميل إلى الدنيا والتي هي من أسباب الخذلان والهزيمة كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لسعد بن أبي وقاص رضي الله عنه في مسيرة إلى غزو الفرس: "فإن تقوى الله أفضل العدة على العدو ••• [إلى قوله:] فإن ذنوب الجيش أخوف عليهم من عدوهم؛ وإنما ينصر المسلمون بمعصية عدوهم لله، ولولا ذلك لم تكن لنا بهم قوة؛ لأن عددنا ليس كعددهم، ولا عدتنا كعدتهم، فإن استوينا في المعصية كان لهم الفضل علينا في القوة"•
وذكر البخاري في كتاب الجهاد في صحيحه قال: "باب: عمل صالح قبل القتال، وقال أبو الدرداء: إنما تقاتلون بأعمالكم"(97).
وقال ابن حجر في فتح الباري: "جاء من طريق أبي إسحاق الفزاري عن سعيد بن عبدالعزيز عن ربيعة بن زيد أن أبا الدرداء قال: (أيها الناس عمل صالح قبل الغزو• إنما تقاتلون بأعمالكم) ثم ظهر لي تفصيل البخاري؛ وذلك أن هذه الطريق منقطعة"(98).
والأصل في الإعداد الإيماني للمجاهدين ما ذكره سبحانه في سورة التوبة من صفات المؤمنين المجاهدين الذين اشترى منهم أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة؛ قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (التوبة:111).
ثم عقب على هذه البيعة بصفات المؤهلين للجهاد الذين باعوا أنفسهم وأموالهم لله تعالى فقال سبحانه: (التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ(115/1405)
الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) (التوبة:112).
وقال عبدالله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لرجل قال له: أريد أن أبيع نفسي من الله فأجاهد حتى أقتل، فقال له: ويحك وأين الشروط؟ أين قوله تعالى: (التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ)"(99).
وقد اشتملت هذه الآية على أصول الأعمال الباطنة والظاهرة التي يحبها الله عز وجل؛ يقول الشيخ السعدي رحمه الله في تفسير هذه الآيات: "وإذا أردت أن تعرف قدر الصفقة، فانظر إلى المشتري من هو؟ وهو الله جل جلاله• وإلى العوض، وهو أكبر الأعواض وأجلها؛ جنات النعيم• وإلى الثمن المبذول فيها، وهو: النفس، والمال، الذي هو أحب الأشياء للإنسان• وإلى من جرى على يديه عقد هذا التبايع، وهو أشرف الرسل• وبأي الكتب رقم، في كتب الله الكبار المنزلة على أفضل الخلق•
كأنه قيل: من هم المؤمنون الذين لهم البشارة من الله بدخول الجنات ونيل الكرامات؟
فقال: هم (التائبون) أي: الملازمون للتوبة في جميع الأوقات، عن جميع السيئات•
(العابدون) أي: المتصفون بالعبودية لله، والاستمرار على طاعته، من أداء الواجبات والمستحبات، في كل وقت؛ فبذلك يكون العبد من العابدين•
(الحامدون): لله في السراء والضراء، واليسر والعسر، المعترفون بما لله عليهم من النعم الظاهرة والباطنة، المثنون على الله بذكرها وبذكره، في آناء الليل، وآناء النهار•
(السائحون): فسرت السياحة، بالصيام، أو السياحة في طلب العلم•
وفسرت بسياحة القلب في معرفة الله ومحبته، والإنابة إليه على الدوام• والصحيح أن المراد بالسياحة: السفر في القربات، كالحج، والعمرة، والجهاد، وطلب العلم، وصلة الأقارب، ونحو ذلك•
(الراكعون الساجدون) أي: المكثرون من الصلاة المشتملة على الركوع والسجود•
(الآمرون بالمعروف): ويدخل فيه، جميع الواجبات والمستحبات•
(والناهون عن المنكر): وهي جميع ما نهى الله ورسوله عنه•
(والحافظون لحدود الله): بتعلمهم حدود ما أنزل الله على رسوله، وما يدخل في الأوامر والنواهي والأحكام، وما لا يدخل، الملازمون لها فعلاً وتركًا"(100).
ويقول سيد قطب رحمه الله تعالى عن هذه الآيات: "هذا النص الذي تلوته من قبل وسمعته ما لا أستطيع عدة من المرات، في أثناء حفظي للقرآن، وفي أثناء تلاوته، وفي أثناء دراسته بعد ذلك في أكثر من ربع قرن من الزمان •• هذا النص - حين واجهته في "الظلال" أحسست أنني أدرك منه ما لم أدركه من قبل في المرات التي لا أملك عدها على مدى ذلك الزمان!
إنه نص رهيب! إنه يكشف عن حقيقة العلاقة التي تربط المؤمنين بالله، وعن حقيقة البيعة التي أعطوها - بإسلامهم - طوال الحياة؛ فمن بايع هذه البيعة ووفى بها فهو المؤمن الحق الذي ينطبق عليه وصف (المؤمن) وتتمثل فيه حقيقة الإيمان، وإلا فهي دعوى تحتاج إلى التصديق والتحقيق!(115/1406)
حقيقة هذه البيعة - أو هذه المبايعة كما سماها الله كرمًا منه وفضلاً وسماحة - أن الله - سبحانه - قد استخلص لنفسه أنفس المؤمنين وأموالهم؛ فلم يعد لهم منها شيء •• لم يعد لهم أن يستبقوا منها بقية لا ينفقونها في سبيله، لم يعد لهم خيار في أن يبذلوا أو يمسكوا •• كلا •• إنها صفقة مشتراة، لشاريها أن يتصرف بها كما يشاء، وفق ما يفرض ووفق ما يحدد، وليس للبائع فيها من شيء سوى أن يمضي في الطريق المرسوم، لا يتلفت ولا يتخير، ولا يناقش ولا يجادل، ولا يقول إلا الطاعة والعمل والاستسلام •• والثمن: هو الجنة •• والطريق: هو الجهاد والقتل والقتال •• والنهاية: هي النصر أو الاستشهاد ••• إن الحق لا بد أن ينطلق في طريقه، ولا بد أن يقف له الباطل في الطريق! بل لا بد أن يأخذ عليه الطريق إن دين الله لا بد أن ينطلق لتحرير البشر من العبودية للعباد وردهم إلى العبودية لله وحده، ولا بد أن يقف له الطاغوت في الطريق •• بل لا بد أن يقطع عليه الطريق •• ولا بد لدين الله أن ينطلق في "الأرض" كلها لتحرير "الإنسان" كله• ولا بد للحق أن يمضي في طريقه ولا ينثني عنه ليدع للباطل طريقًا! •• وما دام في "الأرض" كفر• وما دام في "الأرض" باطل، وما دامت في "الأرض" عبودية لغير الله تذل كرامة "الإنسان" فالجهاد في سبيل الله ماض، والبيعة في عنق كل مؤمن تطالبه بالوفاء وإلا فليس بالإيمان، "ومن مات ولم يغزو ولم يحدث نفسه بغزو مات على شعبة من النفاق"(101). ولكن الجهاد في سبيل الله ليس مجرد اندفاعة إلى القتال، إنما هو قمة تقوم على قاعدة من الإيمان المتمثل في مشاعر وشعائر وأخلاق وأعمال، والمؤمنون الذين عقد الله معهم البيعة، والذين تتمثل فيهم حقيقة الإيمان هم قوم تتمثل فيهم صفات إيمانية أصيلة: (التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ) (التوبة:112). هذه هي الجماعة المؤمنة التي عقد الله معها بيعته، وهذه هي صفاتها ومميزاتها: توبة ترد العبد إلى الله، وتكفه عن الذنب، وتدفعه إلى العمل الصالح• وعبادة تصله بالله وتجعل الله معبوده وغايته ووجهته• وحمد لله على السراء والضراء نتيجة الاستسلام الكامل لله والثقة المطلقة برحمته وعدله• وسياحة في ملكوت الله مع آيات الله الناطقة في الكون الدالة على الحكمة والحق في تصميم الخلق• وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر يتجاوز صلاح الذات إلى إصلاح العباد والحياة• وحفظ لحدود الله يرد عنها العادين والمضيعين، ويصونها من التهجم والانتهاك•
هذه هي الجماعة المؤمنة التي بايعها الله على الجنة، واشترى منها الأنفس والأموال، لتمضي مع سنة الله الجارية منذ كان دين الله ورسله ورسالاته؛ قتال في سبيل الله لإعلاء كلمة الله، وقتل لأعداء الله الذين يحادّون الله؛ أو استشهاد في المعركة التي لا تفتر بين الحق والباطل، وبين الإسلام والجاهلية، وبين الشريعة والطاغوت، وبين الهدى والضلال•
وليست الحياة لهوًا ولعبًا• وليست الحياة أكلاً كما تأكل الأنعام ومتاعًا• وليست الحياة سلامة ذليلة، وراحة بليدة ورضى بالسلم الرخيصة •• إنما الحياة هي هذه: كفاح في سبيل الحق، وجهاد في سبيل الخير، وانتصار لإعلاء كلمة الله، أو استشهاد كذلك في سبيل الله •• ثم الجنة والرضوان ••"(102).(115/1407)
الوقفة الخامسة
جهاد النفس ومراتبه
بعد أن تبين لنا من آية التوبة صفات المؤهلين للجهاد اتضح لنا بذلك أهمية الإعداد الإيماني للمجاهدين حتى يلقوا عدوهم وهم مستعدون معنويًا وإيمانيًا لذلك، وفي هذه الوقفة الأخيرة سيتم تفصيل جوانب هذا الإعداد والوسائل المختلفة لتحقيقه حسب ما يفتح الله عز وجل إنه هو الفتاح العليم، وهو المستعان وحده وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا به سبحانه•
فأقول وبالله التوفيق:
الأصل في الإعداد الذي يسبق جهاد الكفار هو جهاد النفس والشيطان• والمعركة معهما مستمرة ومتواصلة منذ بلوغ المسلم سن التكليف إلى أن يوافيه الأجل• فهو إذن جهاد لا يتقيد بوقت، بل هو مطلوب قبل ملاقاة العدو وأثناء ملاقاته وبعد ملاقاته• والنصر على الأعداء في معارك القتال مرهون بالانتصار على النفس والشيطان في معركة الجهاد معهما•
والمطلوب في الإعداد المتمثل في جهاد النفس: أربعة جوانب مهمة سبق ذكرها في أول البحث نقلاً عن الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى وأعيدها هنا لمناسبتها ولكونها أصول الإعداد الشامل التي بها ينجو العبد من الخسران في الدنيا والآخرة، ويثبته الله عز وجل بها في ميادين الجهاد وغيرها من المواقف(103).
يقول رحمه الله تعالى: "فجهاد النفس أربع مراتب أيضاً:
إحداها: أن يجاهدها على تعلم الهُدى، ودين الحق الذي لا فلاح لها، ولا سعادة في معاشها ومعادها إلا به، ومتى فاتها عِلمُه، شقيت في الدَّارين•
الثانية: أن يُجاهدها على العمل به بعد علمه، وإلا فمجردُ العلم بلا عمل إن لم يضرها لم ينفعها•
الثالثة: أن يجاهدها على الدعوة إليه، وتعليمه من لا يعلمه، وإلا كان من الذين يكتمون ما أنزل الله من الهُدى والبينات، ولا ينفعُهُ علمُهُ ولا يُنجيه من عذاب الله•
الرابعة: أن يجاهدها على الصبر على مشاقِّ الدعوة إلى الله، وأذى الخلق، وبتحمَّل ذلك كله لله•
فإذا استكمل هذه المراتب الأربع صار من الرَّبَّانيين؛ فإن السلف مُجمِعُونَ على أن العالم لا يستحق أن يسمى ربانيًا حتى يعرف الحق، ويعمل به، ويُعلَّمه، فمن علم وعمل وعلَّمَ فذاك يدعى عظيمًا في ملكوت السماوات"(104).
وتحت كل مرتبة من هذه المراتب أمور تفصيلية وبرامج علمية وعملية لتحقيقها وتكميلها، ولذلك سأعيد هذه المراتب المذكورة آنفًا مصاغة بشكل تفصيلي؛ وذلك كما يلي:
المرتبة الأولى
مجاهدة النفس على تعلم الهدى ودين الحق
العلم بالشرع والبصيرة بالحق أمر لازم لكل مسلم فضلاً عن الداعية إلى الله عز وجل والمجاهد في سبيله تعالى؛ قال تعالى: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (يوسف:108). فذكر الله(115/1408)
سبحانه في هذه الآية أن الدعوة إليه - والجهاد من الدعوة - يجب أن يكون على بصيرة؛ أي على علم بأن ما يدعو إليه ويجاهد من أجله هو الحق الذي يحبه الله ويرضاه، وهو الموافق لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، وبدون العلم بالشرع والفهم الصحيح للدين تفسد الدعوة ويتلوث الجهاد، ويتخلف شرط أساس من شروط قبول العمل عند الله عز وجل؛ ألا وهو المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم•
والعلم الذي يجب أن يستعد به المجاهدون في سبيل الله عز وجل نوعان: 1- عيني• 2- وكفائي•
أما العيني: فهو الذي يعنينا في هذا المقام وهو في حق المجاهد نوعان:
أ - نوع عام: يشترك فيه المسلمون جميعًا، وهو العلم بالفقه الواجب على كل مسلم، وهو: الفقه بالعقيدة، والفقه بالأحكام العينية، ومن ذلك فهم أصول الإيمان الستة على مذهب السلف الصالح، ومعرفة الإيمان والتوحيد وأنواعه، وما يضاده من الكفر والشرك والنفاق، والمعرفة المجملة بضوابط التكفير، وما يترتب على ذلك من الأحكام•
ومن ذلك معرفة أركان الإسلام علمًا وعملاً، والمعرفة الإجمالية بقواعد الأحكام ومقاصد الشريعة، ومعرفة المحرمات العينية والفروض العينية الواجبة على كل مسلم• كل هذا مما يجب العلم به قبل الجهاد، فإن فرض على المسلمين القتال قبل إتمامه، فإنه يحصله أثناء الجهاد ويكمل منه ما نقص• والمقصود أن لا يُقدم المسلم - فضلاً عن المجاهد - على أمر حتى يعلم حكم الشريعة فيه، فإن لم يعلم فليسأل من يدله على حكم الشرع فيه؛ لقوله تعالى: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)(الأنبياء: من الآية7)، ومما يدخل في هذا: العلم بسبيل المجرمين، والبصيرة بواقع الكفار الذين يراد قتالهم•
ب - نوع خاص: وهو العلم بمشروعية الجهاد وأحكامه، ومعرفة الراية التي سيجاهد المسلم تحتها•
كل هذا مما يجب أن يعلمه المجاهد قبل الشروع في الجهاد؛ حيث أن الإخلاص لا يكفي وحده، بل عليه أن يعرف ما إذا كان الجهاد الذي ينوي الدخول فيه مشروع ومحبوب إلى الله عز وجل أم ليس كذلك• وهذا فرض واجب؛ لأن الجهاد فيه ذهاب الأنفس والأموال، والمسلم لا يملك إلا روحًا واحدة، فلا يجوز المخاطرة بها في أمر قد لا يكون مرضيًا لله عز وجل• وأسوق فيما يلي مثالين اثنين يوضحان حرص السلف الشديد على علمهم بمشروعية أي جهاد قبل الدخول فيه•
المثال الأول: المناظرة التي تمت بين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما في قتال المرتدين حيث خفي على عمر رضي الله عنه مشروعية قتالهم وناظر أبو بكر رضي الله عنه في ذلك فبين له أبو بكر ذلك حتى انشرح صدر عمر لقتالهم• فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لما توفي النبي صلى الله عليه وسلم واستخلف أبو بكر، وكفر من كفر من العرب قال عمر: يا أبا بكر كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فمن قال لا إله إلا الله عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله)، قال أبو بكر: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة؛ فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عناقًا كانوا(115/1409)
يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتُهم على منعها• قال عمر: فوالله ما هو إلا أن رأيت أن قد شرح الله صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنه الحق(105).
المثال الثاني: روى الذهبي في السير قال: وقال حميد بن هلال: أتت الحرورية مطرف بن عبدالله يدعونه إلى رأيهم فقال: "يا هؤلاء، لو كان لي نفسان بايعتكم بإحداهما، وأمسكت الأخرى، فإن كان الذي تقولون هدىً أتبعتها الأخرى، وإن كان ضلالة هلكت نفس وبقيت لي نفس، ولكن هي نفس واحدة لا أغرِّر بها"(106).
ومما يلحق بالعلم بمشروعية الجهاد: العلم بالراية التي سيجاهد المسلم تحتها، وما غايتها؛ فهذا مما يجب العلم به، فلا يكفي أن يعلم هل قتال العدو واجب أم غير واجب، أم غير جائز، بل لا بد من معرفة الراية التي سيقابل العدو تحتها؛ قال تعالى: (الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ) (النساء: من الآية76). فمما ينافي القتال في سبيل الله: القتال تحت راية عمية؛ قال صلى الله عليه وسلم: (من قتل تحت راية عِمِّية يدعو عصبية أو ينصر عصبية فقتلةٌ جاهلية)(107).
والمقصود أنه كلما كان المسلم على بينة من سبيل المؤمنين الذي يحبه الله عز وجل، وعلى بينة من سبيل المجرمين كان هذا أكبر دافع للجهاد في سبيل الله تعالى•
وأما العلم الكفائي: فيكفي أن يعلمه طائفة من المجاهدين؛ حيث يفرغ بعضهم لطلب العلوم الشرعية اللازمة لسد حاجات الدعوة والتعليم والإفتاء، ويكونوا من ذوي الاستعداد لذلك• وإذا وجد الحد الأدنى من الكفاية سقط الوجوب عن الآخرين• والأصل في هذا أن يكون قبل ملاقاة الأعداء؛ لأن أيام القتال أيام شغل، لكن إن فرض على المسلمين القتال قبل إتمام حد الكفاية من هذا العلم فينبغي إتمامه أثناء الجهاد قدر المستطاع•
والخلاصة:
أن العلم هو أساس العمل، وهو قبل القول والعمل• والجهاد من العمل، فإن لم يكن العلم صحيحًا موافقًا لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فإن العمل سيكون باطلاً ومنحرفًا• ولذلك كان الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة يعلم أصحابه أصول هذا الدين، ويعلمهم العقيدة وما تقتضيه من ولاء وبراء وإذعان وانقياد لله تعالى، كما يعلمهم الإخلاص وإرادة الدار الآخرة في جميع الأقوال والأعمال• فلما جاء الإذن بالجهاد، ثم فرضه ظهرت آثار هذا العلم في تضحياتهم العظيمة وفتوحاتهم المباركة• ولذلك وجب على المهتمين بأمور الدعوة وتربية الناس وتوجيههم وإعدادهم للجهاد في سبيل الله عز وجل أن يولوا هذا الجانب اهتمامًا كبيرًا، وأن يركزوا في برامجهم الدعوية وأنشطتهم المختلفة على تحقيق الحد الأدنى من العلم بسبيل المؤمنين - وهم أهل السنة والجماعة أتباع السلف الصالح - انطلاقًا من القرآن الكريم وتدبره، والسنة الصحيحة بفهم الصحابة رضي الله عنهم وأن يستفاد من كل وسيلة متاحة مشروعة لبناء العلم الشرعي في النفوس؛ سواء على هيئة دروس علمية عامة أو خاصة، أو بالاستفادة من الأشرطة العلمية المسجلة• والمقصود أن يهتم المربون بهذا الجانب المهم من الإعداد لأنه هو الأساس، فإن صلح صلح ما بعده، وإن فسد فسد ما بعده•(115/1410)
وأختم هذه المرتبة من جهاد النفس بكلام نفيس لأحد الصحابة رضي الله عنهم يتبين منه أهمية معرفة الحق والعلم به، وأنه ضروري للمجاهد في سبيل الله عز وجل، وأنه لا يكفي في المجاهد أن يكون مخلصًا لله تعالى في جهاده، بل لا بد أن ينضم إلى ذلك أن يكون جهاده على الحق• والحق لا يتبين إلا بالعلم الشرعي والبصيرة في الدين، والواقع• فقد روى ابن وضاح - رحمه الله تعالى - في كتابه "البدع والنهي عنها" بسنده: "قال: حدثنا أسد قال: حدثنا مبارك بن فضالة عن يونس ابن عبيد عن ابن سيرين قال: أخبرني أبو عبيدة بن حذيفة قال: جاء رجل إلى حذيفة بن اليمان - وأبو موسى الأشعري قاعد - فقال: أرأيت رجلاً ضرب بسيفه غضبًا لله حتى قتل أفي الجنة أم في النار؟ فقال أبو موسى: في الجنة• قال حذيفة: استفهم الرجل وأفهمه ما تقول• قال أبو موسى سبحان الله، كيف قلت؟ قال: قلت: رجل ضرب بسيفه غضبًا لله حتى قتل أفي الجنة أم في النار؟ فقال أبو موسى: في الجنة• قال حذيفة: استفهم الرجل وأفهمه ما تقول• حتى فعل ذلك ثلاث مرات، فلما كان في الثالثة قال: والله لا تستفهمه، فدعى به حذيفة فقال: رويدك، إن صاحبك لو ضرب بسيفه حتى ينقطع فأصاب الحق حتى يقتل عليه فهو في الجنة، وإن لم يصب الحق ولم يوفقه الله للحق فهو في النار• ثم قال: والذي نفسي بيده ليدخلن النار في مثل الذي سألت عنه أكثر من كذا وكذا"(108).
المرتبة الثانية
مجاهدة النفس على العمل بالعلم بعد تعلمه
إن تعلم العلم والتزود به ليس مطلوبًا لذاته، وإنما هو مطلوب للعمل والسير في ضوئه إلى الله تعالى؛ بفعل ما يحبه ويرضاه واجتناب ما يسخطه وينهى عنه•
والأقوال والأعمال التي يحبها الله عز وجل كثيرة؛ منها الواجبات، ومنها المستحبات، وكذلك الأقوال والأعمال التي يبغضها الله عز وجل كثيرة• وليس المقصود حصرها وعدها في هذا المقام، وإنما المقصود التنبيه على ضرورة إعداد النفوس ومجاهدتها - قبل جهاد الكفار - على الانقياد لأوامر الله عز وجل والقيام بها، والانتهاء عما نهى الله عز وجل عنه•
وهذا مطلوب من المسلمين بعامة، ومن المجاهدين أو الذين يعدون أنفسهم للجهاد بخاصة؛ وذلك لما للأعمال الصالحة من بركة وتثبيت لأهلها، وكونها زادًا للمجاهد في مشاق الطريق، وسببًا لمحبة الله تعالى ومعيته الخاصة - وما أحوج المجاهدين إلى معية الله تعالى ونصره وتأييده - كما أن في اجتناب المعاصي والمحرمات بعدًا عن أسباب الهزيمة والخذلان؛ فما شيء أخطر على المجاهدين من ذنوبهم؛ قال الله تعالى: {أّوّ لّمَّا أّصّابّتًكٍم مٍَصٌيبّةِ قّدً أّصّبًتٍم مٌَثًلّيًهّا قٍلًتٍمً أّنَّى" هّذّا قٍلً هٍوّ مٌنً عٌندٌ أّنفٍسٌكٍمً إنَّ پلَّهّ عّلّى" كٍلٌَ شّيًءُ قّدٌيرِ} [آل عمران: 165] ، وقال سبحانه عن بركة العمل الصالح والامتثال لأوامر الله تعالى: (وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً وَإِذاً لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً) (النساء:66-68).(115/1411)
وقال صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه سبحانه في فضل التقرب إلى الله عز وجل بالفرائض والنوافل: (•• وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إليَّ مما افترضته عليه، وما يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه •••)(109).
كما أن فعل محاب الله واجتناب مساخطه يورث التقوى في القلب، والتقوى تورث ثمارًا عديدة منها تفريج الكروب وتيسير الأمور؛ قال تعالى: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً) (الطلاق: من الآية2)، ومنها تأليف القلوب؛ قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً) (مريم:96). وكلما كثر في المجاهدين من يتصف بهذه الصفات كانوا أقرب إلى نصر الله تعالى• فلذلك وجب الاستعداد بالأعمال الصالحة التي تؤهل لهذه المقامات الرفيعة التي ينصر الله عز وجل أهلها ويثبتهم ويستجيب دعاءهم•
ذكر الذهبي - رحمه الله - في ترجمته لمحمد بن واسع العابد الزاهد المجاهد رحمه الله تعالى• قول الأصمعي: "لما صافَّ قتيبة ابن مسلم للترك وهاله أمرهم، سأل عن محمد بن واسع فقيل: هو ذاك في الميمنة جامع على قوسه يبصبص بأصبعه نحو السماء• قال: تلك الأصبع أحب إلي من مائة ألف سيف شهير وشاب طرير"(110).
ومن الأعمال الصالحة التي ربى رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها الصحابة في مرحلة الإعداد في مكة واستمر عليها في المدينة بعدما شرع الجهاد ما يلي:
أولاً : أعمال القلوب:
وهي الأصل في الأعمال الصالحة الظاهرة، فإذا فسدت فسدت الأعمال كلها وإذا صلحت صلح العمل كله؛ وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله؛ وإذا فسدت فسد الجسد كله؛ ألا وهي القلب)(111).
ومن الأعمال القلبية التي يجب أن يعتني بها المربون في الإعداد للجهاد ما يلي:
1- محبة الله عز وجل والحب فيه والبغض فيه:
المحبة هي أصل العبادة، وهي ثمرة معرفة الله عز وجل بأسمائه وصفاته الحسنى، وهي مستلزمة لتوحيده وطاعته، وكلما قويت المحبة في قلب العبد ظهر أثرها في الانقياد التام لأمر الله عز وجل والتضحية في سبيله، وبغض أعدائه ومجاهدتهم وموالاة أوليائه ونصرتهم• كما يظهر أثرها في البعد عن الحزبيات المقيتة والرايات العصبية والمنافع الدنيوية؛ فلا ينقلب بغيض الله حبيبًا له بإحسانه إليه، كما لا ينقلب حبيب الله له بغيضًا إذا وصله منه ما يكرهه ويؤلمه؛ والمجاهدون في سبيل الله عز وجل أو من يعدون أنفسهم للجهاد أحوج من غيرهم إلى تزكية هذا العمل القلبي الشريف؛ وذلك حتى لا يتورط المجاهد في رايات عمية ولوثات حزبية أو وطنية أو قومية•
والتربية على هذا الأصل تأتي من الفهم الصحيح للعقيدة على مذهب السلف الصالح، ولا سيما عقيدة الولاء والبراء، مع القراءة في سير الصالحين والمحبين وتضحياتهم وجهادهم، وما تحلوا به من صدق في المحبة له سبحانه والمحبة فيه• كما أن للقدوات(115/1412)
من المربين والموجهين والعلماء أثرًا في تقوية هذا العمل القلبي وتزكيته• وكما ذكرت في أول البحث من أن كثيرًا من الأعمال القلبية ستبقى ناقصة وضعيفة ولا يكملها ويقويها ويبلغ بها ذروة سنامها إلا الجهاد في سبيل الله عز وجل، فهو ذروة سنام هذا الدين وفي بيئته وأجوائه تصل كثير من أعمال القلوب إلى ذروة قوتها وكمالها(112).
2- الإخلاص لله عز وجل:
وهو من أعظم أعمال القلوب والتي لا يطلع عليها إلا الله عز وجل، وهو أن يريد الإنسان بقرباته وجه الله عز وجل والدار الآخرة، ومن ذلك الجهاد في سبيل الله عز وجل والذي يقدم فيه العبد أغلى ما عنده - وهي نفسه التي بين جنبيه - فإذا لم يكن قاصدًا بجهاده وجه الله عز وجل ورضوانه وجنته في الآخرة خسر خسرانًا مبينًا؛ ولذلك يجب إعداد المجاهدين قبل الجهاد بالإخلاص في أعمالهم والتجرد لله سبحانه في حركاتهم وسكناتهم•
وكما أن للإخلاص أثره في نيل رضا الله سبحانه وما أعده للمجاهدين الصادقين، فإن له أثرًا كذلك في الثبات أمام الأعداء لقوله تعالى: (فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً) (الفتح: من الآية18)، وإذا تمكن الإخلاص من القلوب أثمر التضحية والشجاعة في سبيل الله عز وجل، وأثمر الصبر، والزهد في الدنيا ومتاعها الزائل، وتوحد الهم في إعلاء كلمة الله تعالى وإقامة دين الله تعالى؛ وبذلك ترتفع الهمة ويعلو المقصد ويوجه إلى الله تعالى والدار الآخرة وما أعد الله فيها لعباده المجاهدين من الرضوان والنعيم ومرافقة النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقًا•
والإخلاص من أشرف أعمال القلوب التي يجب أن يعتنى بها في جميع الأعمال، ولا سيما في الإعداد للجهاد في سبيل الله تعالى؛ وذلك لما يتعرض له المجاهد من فتنة الشهرة، أو حب المدح، والثناء عليه بالشجاعة والبذل والتضحية•
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "والجهاد مقصوده أن تكون كلمة الله هي العليا، وأن يكون الدين كله لله؛ فمقصوده إقامة دين الله لا استيفاء الرجل حظه، ولهذا كان ما يصاب به المجاهد في نفسه وفي ماله أجره فيه على الله؛ فإن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة"(113).
ولذلك لا يكاد يذكر الجهاد في الكتاب والسنة إلا ويذكر بعده "في سبيل الله"• وكذلك من يقتل في القتال مع الكفار لا يسمى شهيدًا إلا إذا كان في سبيل الله• قال تعالى: (وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ) (البقرة:154). أي الذين أخلصوا في جهادهم لله تعالى ولم يريدوا شيئًا من حظوظ هذه الدنيا الفانية.
ويعلق سيد قطب رحمه الله تعالى على هذه الآية بقوله: "ولكن من هم هؤلاء الشهداء الأحياء؟ إنهم أولئك الذين يقتلون "في سبيل الله" •• في سبيل الله وحده، دون شركة في شارة ولا هدف ولا غاية إلا الله• في سبيل هذا الحق الذي أنزله• في سبيل المنهج الذي شرعه• في سبيل هذا الدين الذي اختاره •• في هذا السبيل وحده، لا في أي سبيل آخر، ولا تحت أي شعار آخر، ولا شركة مع هدف أو شعار• وفي هذا شدد القرآن وشدد الحديث، حتى ما تبقى في النفس شبهة أو خاطر •• غير الله ••(115/1413)
عن أبي موسى رضي الله عنه قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يقاتل شجاعة، ويقاتل حمية، ويقاتل رياء. أي ذلك في سبيل الله؟ فقال: (من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله)(114) أخرجه مالك والشيخان•
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلاً قال: يا رسول الله: رجل يريد الجهاد في سبيل الله وهو يبتغي عرضًا من الدنيا؟ فقال: (لا أجر له) فأعاد عليه ثلاثًا• كل ذلك يقول: (لا أجر له)(115) أخرجه أبو داود•
وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تضمن الله تعالى لمن خرج في سبيله؛ لا يخرجه إلا جهاد في سبيلي وإيمان بي وتصديق برسلي فهو عليّ ضامن أن أدخله الجنة أو أرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه نائلاً ما نال من أجر أو غنيمة• والذي نفس محمد بيده، ما من كلم يكلم في سبيل الله إلا جاء يوم القيامة كهيئته حين كلم، لونه لون دم وريحه مسك• والذي نفس محمد بيده لولا أن يشق على المسلمين ما قعدت خلاف سرية تغزو في سبيل الله أبدًا، ولكن لا أجد سعة فأحملهم، ولا يجدون سعة، ويشق عليهم أن يتخلفوا عني• والذي نفس محمد بيده لوددت أني أغزو في سبيل الله فأقتل، ثم أغزو فأقتل، ثم أغزو فأقتل)(116).
فهؤلاء هم الشهداء• هؤلاء الذين يخرجون في سبيل الله، لا يخرجهم إلا جهاد في سبيله، وإيمان به، وتصديق برسله•
ولقد كره رسول الله صلى الله عليه وسلم لفتى فارسي يجاهد أن يذكر فارسيته ويعتز بجنسيته في مجال الجهاد: عن عبدالرحمن بن أبي عقبة عن أبيه - وكان مولى من أهل فارس - قال: شهدت مع النبي صلى الله عليه وسلم أحدًا، فضربت رجلاً من المشركين، فقلت: خذها وأنا الغلام الفارسي• فالتفت إليّ النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (هلا قلت: وأنا الغلام الأنصاري؟ إن ابن أخت القوم منهم، وإن مولى القوم منهم)(117).
فقد كره له " أن يفخر بصفة غير صفة النصر للنبي صلى الله عليه وسلم، وأن يحارب تحت شارة إلا شارة النصر لهذا الدين• وهذا هو الجهاد، وفيه وحده تكون الشهادة وتكون الحياة للشهداء"(118).
ويقول في موطن آخر - رحمه الله -: "إنه لا جهاد، ولا شهادة، ولا جنة، إلا حين يكون الجهاد في سبيل الله وحده، والموت في سبيله وحده• والنصرة له وحده، في ذات النفس وفي منهج الحياة.
لا جهاد ولا شهادة ولا جنة إلا حين يكون الهدف هو أن تكون كلمة الله هي العليا، وأن تهيمن شريعته ومنهاجه في ضمائر الناس وأخلاقهم وسلوكهم، وفي أوضاعهم وتشريعهم ونظامهم على السواء.
عن أبي موسى رضي الله عنه قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يقاتل شجاعة، ويقاتل حمية• ويقاتل رياء• أي ذلك في سبيل الله؟ فقال: (من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله)(119).
وليس هنالك من راية أخرى، أو هدف آخر، يجاهد في سبيله من يجاهد، ويستشهد دونه من يستشهد، فيحق له وعد الله بالجنة، إلا تلك الراية وإلا هذا الهدف• من كل ما يروج في الأجيال المنحرفة التصور من رايات وأسماء وغايات!(115/1414)
ويحسن أن يدرك أصحاب الدعوة هذه اللفتة البديهية، وأن يخلصوها في نفوسهم من الشوائب التي تعلق بها من منطق البيئة وتصور الأجيال المنحرفة، وألا يلبسوا برايتهم راية، ولا يخلطوا بتصورهم تصورًا غريبًا على طبيعة العقيدة•
لا جهاد إلا لتكون كلمة الله هي العليا؛ العليا في النفس والضمير، والعليا في الخلق والسلوك، والعليا في الأوضاع والنظم، والعليا في العلاقات والارتباطات في كل أنحاء الحياة• وما عدا هذا فليس لله ولكن للشيطان•وفيما عدا هذا ليست هناك شهادة ولا استشهاد• وفيما عدا هذا ليس هنالك جنة ولا نصر من عند الله ولا تثبيت للأقدام• وإنما هو الغبش وسوء التصور والانحراف"(120).
ويقول في موطن ثالث: "ولقد كان القرآن ينشئ قلوبًا يعدها لحمل الأمانة، وهذه القلوب كان يجب أن تكون من الصلابة والقوة والتجرد بحيث لا تتطلع - وهي تبذل كل شيء وتحتمل كل شيء - إلى شيء في هذه الأرض، ولا تنتظر إلا الآخرة، ولا ترجو إلا رضوان الله• قلوبًا مستعدة لقطع رحلة الأرض كلها في نصب وشقاء وحرمان وعذاب وتضحية واحتمال، بلا جزاء في هذه الأرض قريب• ولو كان هذا الجزاء هو انتصار الدعوة وغلبة الإسلام وظهور المسلمين ••حتى إذا وجدت هذه القلوب التي تعلم أن ليس أمامها في رحلة الأرض شيء إلا أن تعطي بلا مقابل، وأن تنتظر الآخرة وحدها موعدًا للجزاء •• وموعدًا كذلك للفصل بين الحق والباطل، وعلم الله منها صدق نيتها على ما بايعت وعاهدت، أتاها النصر في الأرض وائتمنها عليه، لا لنفسها، ولكن لتقوم بأمانة المنهج الإلهي وهي أهل لأداء الأمانة، منذ كانت لم توعد بشيء من المغنم في الدنيا تتقاضاه، ولم تتطلع إلى شيء من المغنم في الأرض تعطاه، وقد تجردت لله حقًا يوم كانت لا تعلم لها جزاء إلا رضاه• فالنصر ليس بالعدد وليس بالعدة، وليس بالمال والزاد؛ إنما هو بمقدار اتصال القلوب بقوة الله التي لا تقف لها قوة العباد"(121).
ومن ثمار الإخلاص في الدنيا أنه سبب من الأسباب القوية في سلامة القلوب، ووحدة الصف، وجمع الكلمة وائتلاف القلوب وقطع الطريق على من يريد التحريش بين المسلمين وإثارة الفرقة بينهم؛ لأن من أعظم أسباب الفرقة والاختلاف والتناحر بين الدعاة والمجاهدين بعضهم مع بعض ضعف الإخلاص، وتغلب الهوى وحظوظ النفس، فإذا حصل الإعداد القوي والتربية الجادة على الإخلاص قبل الجهاد وأثناءه فإن هذا من شأنه أن يقضي على الفرقة والتناحر، وأن يوحد الصف ويجمع الكلمة على قتال الأعداء، وبهذا يُقضى على سبب خطير من أسباب الفشل والهزيمة؛ قال تعالى: (وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ) (الأنفال: من الآية46).
وإن مما يقوي الإخلاص وينميه: صدق المحبة لله تعالى - والتي سبق ذكرها - وصدق التوحيد والعبودية لله تعالى واليقين الصادق باليوم الآخر، والقراءة في سير الصالحين المخلصين وكيف كان حرصهم على تحقيق الإخلاص في جميع أعمالهم، وخوفهم من الرياء والنفاق، وإخفاؤهم لأعمالهم، وحفظهم لها من كل ما يكون سببًا في إحباطها وإبطالها؛ فإن ذلك مما يشوق النفوس إلى أعمالهم واللحوق بهم•
كما أن وجود القدوات المخلصة التي تعلم وتربي وتوجه يعد من الأسباب المهمة في إعداد المجاهدين المخلصين، كما أن من أعظم أسباب الإخلاص الزهد في الدنيا(115/1415)
والتخفف منها، والإكثار من ذكر الموت، والتطلع إلى الدار الآخرة، والطمع في رضوان الله تعالى ونعيمه فيها، والخوف من سخطه وعذابه• وهذا ما سيدور الكلام حوله في الفقرة التالية من أعمال القلوب•
3- الزهد في الدنيا والرغبة في الآخرة:
إن الركون إلى الدنيا وإشغال الهم والفكر بها وبمتاعها الزائل لهو من أعظم أسباب الغفلة وضعف كثير من أعمال القلوب والجوارح• ومتى ما امتلأ القلب بحب الدنيا وزخرفها لم يعد فيه مكان للأعمال الشرعية من المحبة والإخلاص والتوكل وغيرها، لأن التحلية بالأعمال الشرعية لا بد أن يسبقها تخلية مما يضادها من الأعمال المهينة والحقيرة والمشغلة عن الله عز وجل والدار الآخرة•
إن حب الجهاد في سبيل الله تعالى لا يحل في قلب مشحون بالدنيا مائل إليها؛ لأن من أهم مقومات الإعداد للجهاد في سبيل الله تعالى الزهد في الدنيا والاستعلاء عليها، والاستعداد للتضحية بها في أي وقت؛ فالدنيا في حس المجاهد خادمة لا مخدومة، ومملوكة لا مالكة•
وإن الناظر في حياتنا اليوم وما فيها من الترف والدعة والاهتمام الشديد بالتوسع في مراكبها ومساكنها ومآكلها ومشاربها، وكمالياتها ليرى الفرق الكبير والبون الشاسع بين هذه الحياة وحياة المجاهدين؛ ولذا كان لزامًا علينا وعلى كل من أراد إعداد نفسه للجهاد، وعلى من يتولون إعداد الأمة للجهاد؛ علينا جميعًا أن ندرك خطر ما نحن فيه من الترف والترهل والركون إلى الدنيا(122)، وأن نبادر للتخفف منها ونبذل الأسباب التي تزهدنا فيها وترغبنا في الآخرة،وإلا نفعل تكن فتنة ومصيبة على أنفسنا وعلى أمتنا؛ إذ لو فاجأنا داعي الجهاد أو هاجمنا الكفار في عقر دارنا - وهاهم من حولنا - فإن أول من يقعد عن الجهاد فيذل للكفار ويستكين أو يفر منهم بجلده هم أولئك المترفون الغافلون السادرون الذين ملأت الدنيا قلوبهم وصارت هي همهم ومبلغهم من العلم• والترف: هو التوسع في النعمة والمباحات، وبذل الجهد والوقت والهمة في تحصيلها والتنافس فيها• ولم يرد ذكر الترف في القرآن إلا بمعرض الذم؛ فلقد ذكر الله عز وجل في أكثر من آية أنه سبب الكفر والإعراض عن الحق أو رده؛ قال تعالى عن أصحاب الشمال )إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ) (الواقعة:45)، وقال سبحانه: (وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) (سبأ:34-35)، وقال تعالى: (وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ)(هود: من الآية116).
ولا يفهم من ذم الترف التهوين من شأن المال؛ فالمال عصب الجهاد في سبيل الله تعالى، ولكن المقصود التحذير من الإسراف في التنعم وجعل ذلك من أكبر الهم، وبخاصة للعاملين في حقل الدعوة والجهاد والإعداد؛ لما لذلك من آثار سيئة في حياة المنتسبين إلى الدعوة والجهاد• والواقع شاهد بذلك؛ فكم رأينا من الدعاة ومن كانوا مهتمين بالجهاد قد تخلوا عن الجهاد والإعداد له وركنوا إلى الدنيا بسبب الترف والتوسع في النعيم•
ويبين ابن خلدون رحمه الله مضار الترف على الأمم وأثره في زوالها، وأثر التقشف وخشونة العيش في الغلبة على الأعداء فيقول في مقدمته: "الفصل السادس عشر: في(115/1416)
أن الأمم الوحشية أقدر على التَّغَلُّب ممن سواها: اعلم أنه لما كانت البداوة سببًا في الشجاعة كما قلناه في المقدمة الثالثة، لا جرم كان هذا الجيل الوحشي أشد شجاعة من الجيل الآخر؛ فهم أقدر على التغلب وانتزاع ما في أيدي سواهم من الأمم، بل الجيل الواحد تختلف أحواله في ذلك باختلاف الأعصار، فكلما نزلوا الأرياف وتَفَنَّقوا(123) في النعيم، وألفوا عوائد الخصب في المعاش والنعيم، نقص من شجاعتهم بمقدار ما نقص من توحشهم وبداوتهم"(124).
وكلما تخفف المسلم من الدنيا ومتاعها وأصبحت في يده لا في قلبه هانت عليه وهان عليه فراقها والتضحية بها، وسهل عليه الجهاد والبذل، وقوي عنده الصبر على المصائب والبلايا•
ولذلك كان المتقللون من الدنيا هم أتباع الرسل، وهم الذين يلبون منادي الجهاد عند النداء، "والأمة المجاهدة لا تكون مترفة، والأمة المترفة لا تكون مجاهدة؛ فلا يجتمع ترف وجهاد؛ لأن الترف نعومة وراحة واسترخاء وإغراق في الشهوات والملذات يصعب على صاحبه مفارقة ما ألفه منه، بل إنه يعيش وهو يفكر في إضافة المزيد منه ويخاف أن يحال بينه وبين ذلك الترف والنعيم• والجهاد بذل وتضحية ومشقة وبعد عن الملذات والشهوات ومفارقة للمحبوبات واقتحام للمكاره والعقبات؛ المترف يخاف كل شيء يعكر عليه صفو ترفه، والمجاهد لا يخاف في الله لومة لائم، المترف يتلهف للفسق والفجور والفواحش، والمجاهد يتطلع لقيادة البشر بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر• فالمترفون فاسقون والمجاهدون مصلحون•
ولهذا كانت سنة الله في المترفين الفاسقين تدميرهم، والتدمير قد يكون بالاستئصال بعذاب الله كما كان في الأمم الماضية، وقد يكون بإنزال البأس الذي يحول بين المترف وما كان يتمتع به من شهوات، وهو عذاب وتدمير، وقد يكون أشق عليه من مفارقة ترفه بالموت• والعقوبة تعم المترفين ومن لم يقف في وجه ترفهم؛ قال تعالى: (وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً) (الإسراء:16)"(125).
ويعلق سيد قطب رحمه الله تعالى على آية الإسراء فيقول: "والمترفون في كل أمة هم طبقة الكبراء الناعمين الذين يجدون المال ويجدون الخدم ويجدون الراحة، فينعمون بالدعة وبالراحة وبالسيادة حتى تترهل نفوسهم وتأس،ن وترتع في الفسق والمجانة، وتستهتر بالقيم والمقدسات والكرامات، وتلغ في الأعراض والحرمات، وهم إذا لم يجدوا من يضرب على أيديهم عاثوا في الأرض فسادًا، ونشروا الفاحشة في الأمة وأشاعوها وأرخصوا القيم العليا التي لا تعيش الشعوب إلاّ بها ولها، ومن ثم تتحلل الأمة وتسترخي، وتفقد حيويتها وعناصر قوتها وأسباب بقائها فتهلك وتطوى صفحتها• والآية تقرر سنة الله هذه •••"(126).
والحاصل التنبيه على خطورة الترف على حياة الداعية والمجاهد، وأن الجهاد والترف لا يجتمعان، وعلى من يعد نفسه للجهاد في سبيل الله عز وجل أن يربي نفسه على الزهد في الدنيا والتقلل منها، وتعويد النفس على شظف العيش وخشونته• وهذا يحتاج إلى مجاهدة للنفس الأمارة لأنها تميل إلى الدعة والراحة والتنعم•(115/1417)
كما لا ننسى دور المربين والقدوات الذين يربون الأمة ويعدوها للجهاد، فإن لم يكونوا مثالاً للزهد والبعد عن الترف بأشكاله كلها فإن التربية ستكون ضعيفة وهشة؛ لأن الناس لا ينظرون إلى أقوال الدعاة والمربين فحسب، بل إن نظرهم يتركز على أفعالهم وأحوالهم• ولنتصور شخصًا من الناس يحثه شيخه أو مربيه على الزهد في الدنيا ويحذره من الترف والتوسع في المباحات، ثم هو يرى شيخه في مركبه ومسكنه وملبسه ومطعمه في واد والزهد في واد آخر• فماذا سيكون حال هذا المتربي؟! إنه سيشعر بالاضطراب والازدواجية، وإن هذا لمما يعوق التربية والإعداد ويؤخرهما•
وإن مما يعين على ترك الترف والرضى من الدنيا باليسير والتضحية بها حين يتطلب الأمر ذلك: النظر في سيرة المربي العظيم سيد الزاهدين وإمام المرسلين محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم، وكيف كانت حياته، وكيف كان يعد أصحابه رضي الله عنهم ويربيهم بقوله وعمله وحاله، ثم النظر في حياة الصحابة رضي الله عنهم والتابعين لهم بإحسان من سادات المجاهدين والزاهدين• إن الإطلاع على حياة السلف رحمهم الله لمما يعين على الاقتداء بهم وبذل الجهد في اللحوق بهم؛ وإذا كان النعيم أثَّرَ في بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته فكاد يحول بين بعضهم وبين النفير مع الرسول صلى الله عليه وسلم، وحال فعلاً بين بعضهم وبين ذلك، ولم ينفعه من عقاب الله وسخطه وسخط رسوله صلى الله عليه وسلم إلا التوبة، فكيف بمن بعدهم؟•
فهذا كعب بن مالك رضي الله عنه يتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك ويعرض في سياق حديثه بعض الأسباب التي أغرته بذلك التخلف، منها المشقات التي استقبلت المجاهدين كما قال: (فغزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حر شديد، واستقبل سفرًا بعيدًا ومفازًا، واستقبل عدوًا كثيرًا، فجلَّى للمسلمين أمرهم •••)(127).
ومنها النعيم ووسائل الراحة المتاحة في المدينة التي كان يميل إليها كما قال: (وغزا رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الغزوة حين طابت الثمار والظلال فأنا إليها أصعر)(127) أي أميل.
وأختم هذا الحديث عن الزهد وما يضاده من الترف بكلام نفيس للإمام ابن القيم رحمه الله تعالى يوجه فيها الأنظار إلى كيفية الاستقامة بالزهد في الدنيا فيقول: "لا تتم الرغبة في الآخرة إلا بالزهد في الدنيا، ولا يستقيم الزهد في الدنيا إلا بعد نظرين صحيحين:
نظر في الدنيا وسرعة زوالها وفنائها وخستها، وألم المزاحمة عليها والحرص عليها؛ فطالبها لا ينفك من هم قبل حصولها، وهم في حال الظفر بها، وغم وحزن بعد فواتها• فهذا أحد النظرين•
النظر الثاني: النظر في الآخرة وإقبالها ومجيئها ولا بُد، ودوامها وبقائها، وشرف ما فيها من الخيرات والمسرَّات، والتفاوت الذي بينه وبين ما ههنا؛ فهي كما قال الله سبحانه: (وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى) (الأعلى:17).(115/1418)
فهي خيرات كاملة دائمة، وهذه خيالات ناقصة منقطعة مضمحلة، فإذا تم له هذان النظران آثر ما يقتضي العقل إيثاره، وزهد فيما يقتضي الزهد فيه؛ فكل أحد مطبوع على أن لا يترك النفع العاجل واللذة الحاضرة إلى النفع الآجل واللذة الغائبة المنتظرة إلا إذا تَبَيَّن له فضل الآجل على العاجل وقويت رغبته في الأعلى الأفضل، فإذا آثر الفاني الناقص كان ذلك إما لعدم تَبَيُّن الفضل له، وإما لعدم رغبته في الأفضل"(128).
وإن مما يعين على الزهد وترك الترف محاولة الانتقال من حياة الدعة والترف ما بين الفينة والأخرى؛ وذلك كأن يخصص الداعية أيامًا أو أسابيع في السنة يفارق فيها أهله وبلده ضمن برنامج دعوي في بعض القرى أو الهجر أو الأماكن النائية في الجبال والغابات التي يقطنها كثير من الناس الذين لا يعرفون التوحيد ولا كيف يصلون ولا يصومون وتنتشر فيهم الأخلاق والعادات السيئة؛ فإن مثل هذه الأجواء فيها تربية للداعية نفسه، وذلك بالتعود على حياة الخشونة والشظف، وفيها تربية وتعليم لسكان هذه الأماكن ما يجهلونه من أمر دينهم، ولا شك أن هذه الأعمال تحتاج إلى جهاد مع النفس بنقلها من حياة الدعة والترف التي تحبها إلى حياة الشظف والتعب التي تكرهها، كما أن في مثل هذه الأسفار بذلاً للمال في سبيل الله عز وجل ومجاهدة للنفس في حبها للمال والبخل به•
4- التوكل على الله عز وجل :
وهذا العمل القلبي من أفضل الأعمال وأنفعها للعبد، ولا سيما المجاهد أو من يعد نفسه للجهاد في سبيل الله تعالى، وحقيقة التوكل: هو غاية الاعتماد على الله سبحانه وغاية الثقة به، مع الأخذ بالأسباب المأمور بها وعدم الاعتماد عليها ولا التعلق بها• وهو عبادة عظيمة تجمع بين تفويض الأمور إلى الله تعالى، وإحسان الظن به، والرجاء في رحمته ونصرته، وعدم الخوف إلا منه سبحانه؛ فهو الذي بيده النفع والضر، وما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها•
لذا وجب على المجاهد أن يقوي هذه العبادة في قلبه، ويسأل ربه صدق التوكل عليه، ويأخذ بالأسباب التي تحوِّل هذه العبادة من علم وعقيدة مجردة إلى عمل وحال يتحرك بها ويواجه الأخطار والمصائب والأعداء بها؛ لأن هناك فرقًا بين العلم بالتوكل والمعرفة به وبين كونه عملاً وحالاً•
وفي ذلك يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: "••• وكثير ما يشتبه في هذا الباب: المحمود الكامل بالمذموم الناقص ••• ومنه اشتباه علم التوكل بحال التوكل؛ فكثير من الناس يعرف التوكل وحقيقته وتفاصيله، فيظن أنه متوكل وليس من أهل التوكل• فحال التوكل أمر آخر من وراء العلم به•••"(129).
والتربية على التوكل تأتي من الاعتناء بالفقه بأسماء الله تعالى وصفاته الحسنى؛ فهو ثمرة هذا العلم الشريف؛ كالفقه بصفات العلم والقدرة والرحمة والحكمة والتعبد لله سبحانه بها؛ لأن من أيقن كمال علم الله تعالى وأنه سبحانه يعلم ما كان وما يكون، وأنه القادر على كل شيء، وأن رحمته وسعت كل شيء، وأنه رحيم بالمؤمنين، وحكيم في أقضيته وأحكامه• من أيقن بهذا وتشرب به قلبه اعتمد على من هذه صفاته وفوض أمره إليه سبحانه•(115/1419)
ولا ينافي هذا الأخذ بالأسباب، لأن الله عز وجل أمر بالأخذ بالأسباب في قتال الأعداء فقال تعالى: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ) (لأنفال: من الآية60)، وأمر بأخذ الحذر من الكفار فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ) (النساء: من الآية71).
وظاهر الرسول صلى الله عليه وسلم يوم أُحد بين درعين ولبس المغفر، وحفر الخندق؛ وهو سيد المتوكلين• ولكن قلبه لم يتعلق بهذه الأسباب بل فوض أمره إلى الله عز وجل، ودعا ربه بالنصر وإهلاك الكافرين• قال سبحانه: (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى) (الأنفال: من الآية17).
ولما ظن الصحابة رضي الله عنهم ترتب النصر على الأسباب وأعجبوا بها يوم حنين هزموا في أول المعركة، وقال تعالى: (وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً) (التوبة: من الآية25).
فالأخذ بالأسباب من سنن المرسلين، والأخذ بها واجب وطاعة لله تعالى مع ترك الاعتماد عليها، بل الاعتماد على الله وحده لا شريك له في حصول المقصود بعد الأخذ بالأسباب• وقد تضيق بالعبد السبل وتنعدم الأسباب؛ وهنا ليس أمام العبد إلا عمل القلب وحده بصدق التوكل على الله عز وجل وصدق اللجوء والاضطرار إليه؛ كما لو أحاط العدو الكافر بالمجاهدين ولم يكن لهم حيلة في دفعه؛ قال الله تعالى عن المسلمين يوم أحد: (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) (آل عمران:173). قال ابن القيم رحمه الله تعالى: "والتوكل تارة يكون توكل اضطرار وإلجاء بحيث لا يجد العبد ملجأ ولا وَزَرًا إلا التوكل؛ كما إذا ضاقت عليه الأسباب وضاقت عليه نفسه، وظن أن لا ملجأ من الله إلا إليه، وهذا لا يتخلف عنه الفرج والتيسير البتة، وتارة يكون توكل اختيار وذلك: التوكل مع وجود السبب المفضي إلى المراد، فإن كان السبب مأمورًا به ذُم على تركه، وإن قام بالسبب وترك التوكل ذم على تركه أيضاً؛ فإنه واجب باتفاق الأمة ونص القرآن والواجب القيام بهما والجمع بينهما• وإن كان السبب محرمًا حرم عليه مباشرته وتَوَحَّد السبب في حقه في التوكل فلم يبق سبب سواه؛ فإن التوكل من أقوى الأسباب في حصول المراد ودفع المكروه، بل هو أقوى الأسباب على الإطلاق• وإن كان السبب مباحًا نظرت هل يُضعف قيامك به التوكل أو لا يضعفه؟ فإن أضعفه وفرق عليك قلبك وشتت همك فتركه أولى، وإن لم يضعفه فمباشرته أولى؛ لأن حكمة أحكم الحاكمين اقتضت ربط المسبب به فلا تعطل حكمته - [إلى أن قال] - وسر التوكل وحقيقته هو اعتماد القلب على الله وحده؛ فلا يضره مباشرة الأسباب مع خلو القلب من الاعتماد عليها والركون إليها، كما لا ينفعه قوله توكلت على الله مع اعتماده على غيره وركونه إليه وثقته به، فتوكل اللسان شيء وتوكل القلب شيء"(130).
وإن من لوازم التوكل على الله عز وجل: اليقين بمعية الله سبحانه ونصرته لعباده المؤمنين وتثبيتهم، وإلقاء الرعب في قلوب أعدائهم الكافرين بعد الأخذ بالأسباب المأمور بها وبذل الوسع في ذلك•(115/1420)
والناس في التوكل على الله عز وجل والأخذ بالأسباب في قتال الكافرين طرفان ووسط:
الطرف الأول: الذين يرون أن الله عز وجل سينصر المسلمين بالآيات والجنود الذين يسخرهم للقضاء على الكافرين ولو لم يأخذوا بأسباب النصر أو لم يكملوها؛ فما داموا مسلمين وأعداؤهم من الكافرين فإن نصر الله عز وجل سينزل عليهم؛ لأنهم مسلمون وكفى• وهذا الفريق من الناس يفرِّط في العادة في الأخذ بأسباب النصر أو يستطول الطريق فلا يكملها، وإنما ينتظر خارقة وآية من الله عز وجل•
ولا يخفى ما في هذا القول من التفريط والغفلة عن سنن الله عز وجل في النصر والتمكين•
الطرف الثاني: وهو مقابل للطرف الأول، وقد يكون ردة فعل له، وذلك بقولهم بأنه لكي ينتصر المسلمون على أعدائهم ويمكن لهم في الأرض فلا بد أن يكونوا مكافئين لعدوهم في العدد والعتاد والسلاح والأخذ بالأسباب المادية، ومثل هؤلاء يغلبون الأسباب المادية ويتعلقون بها ويفرطون في الأسباب الشرعية،ولا يلتفتون إلى الآيات والمعجزات والإعانات التي ينصر الله سبحانه بها عباده المحققين لأسباب النصر متى شاء سبحانه وعلم أن عباده المؤمنين قد استفرغوا ما في جهدهم من الأخذ بأصول النصر وأسبابه• ومعلوم أن المسلمين في كل وقت - وبخاصة في هذا الوقت - لم يصلوا ولن يصلوا ولم يكلفهم الله سبحانه بأن يصلوا إلى مستوى أعدائهم في القوة والصناعة والسلاح؛ لأنه ليس شرطًا في نزول النصر، ولا يخفى ما في هذا القول من تطرف وغفلة عن مسبب الأسباب ونسيان لقوة الله تعالى والتي لا يقف أمامها أي قوة في الأرض ولا في السماء، والتي ينصر بها عباده المؤمنين الذين أخذوا بأسباب النصر واستحقوا أن يسخر لهم جنود السموات والأرض•
الوسط: وهو الحق إن شاء الله تعالى، وهم الذين بذلوا كل ما في وسعهم في الأخذ بأسباب النصر السالفة الذكر، حيث بذلوا ما في وسعهم في الأخذ بالعلم النافع والعمل الصالح، وربوا أنفسهم على ذلك، وبلغوه للأمة قدر استطاعتهم حتى عرفتهم الأمة وما هم عليه من الحق، وعرفت أعداءهم وما هم عليه من كفر وفساد، وأخذوا بالأسباب المادية المباحة والمتاحة لهم• ومع أخذهم بهذه الأسباب فلم يعتمدوا عليها بل اعتمدوا على مسبب الأسباب ومن بيده ملكوت السموات والأرض، وانتظروا نصره المبين الذي وعد به عباده المؤمنين الذين أخذوا بأسباب النصر وبذلوا ما في وسعهم في ذلك، وانتظروا تأويل قوله سبحانه: (إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) (محمد: من الآية7)، ولم ينسوا قوله تعالى: (وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً) (الفتح:7)، وقوله تعالى: (وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ) (المدثر: من الآية31)، بل هم موقنون بظهور قوة الله عز وجل، وظهور الآيات بعد أن يبذلوا وسعهم في الأخذ بالأسباب وإعداد العدة للجهاد، ولم يرهبهم حينئذ قوة أعدائهم من الكفرة والمنافقين مهما بلغت من القوة والدمار؛ لأن قوة الله عز وجل فوق قوتهم، ونواصيهم بيده سبحانه، ولو يشاء الله تعالى دمرها عليهم وأبطل مفعولها• ولكن هذا لا يكون إلا لمن حقق أسباب النصر والتمكين الشرعية والمادية(115/1421)
ولا بد هنا من التفريق بين جهاد الدفع وجهاد الطلب في إعداد العدة كما سبق بيانه(131).
ثانياً : أعمال اللسان :
1- الذكر والدعاء :
الدعاء هو العبادة، وقد قال الله تعالى: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ) (غافر:60)، وفي الذكر ثناء وتمجيد وتسبيح وحمد لله تعالى، وفي الدعاء تبرؤ من الحول والقوة وتعلق بقوة الله وحده؛ فهو في الحقيقة يعبر عن حقيقة التوكل والاستعانة بالله عز وجل وحده•
وقد مر بنا في صفات المجاهدين الذين اشترى الله تعالى منهم أنفسهم وأموالهم أن من صفاتهم أنهم (العابدون الحامدون)• والدعاء: هو العبادة، والحمد: هو ذكر الله عز وجل والثناء عليه بما له من الأسماء الحسنى والصفات العلا، وبما أنعم وأحسن على عباده•
وقد أمر الله عز وجل عباده المجاهدين أن يستعدوا للقاء عدوهم بكثرة الذكر والدعاء والتضرع فإنها من أسباب النصر؛ قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (لأنفال:45). وقد سن الرسول صلى الله عليه وسلم أدعية وأذكارًا في اليوم والليلة ينبغي للمسلم وخاصة المجاهد ومن يعد نفسه للجهاد أن يحفظها ويذكر الله بها في أوقاتها؛ فهي من أكبر العون في طمأنينة القلب وتوكله على الله وحده واستحضار معية الله سبحانه له؛ وذلك كما جاء في الحديث القدسي: (أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني؛ فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم •••)(132) الحديث•
وأعظم الذكر قراءة القرآن قال تعالى: (وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ) (الأنبياء: من الآية50)، وقال سبحانه: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (الحجر:9)، وإن مما ينبغي على الداعية والمجاهد أن لا يغفل عن كتاب الله عز وجل، بل يتعاهده حفظًا وتلاوة وتدبرًا، وأن يكون له حزب يومي لا يخل به مع كتاب الله عز وجل•
2- التوبة والاستغفار :
وقد ذكر الله عز وجل في آية التوبة أن من صفات المؤمنين المجاهدين الذين اشترى منهم أنفسهم وأموالهم أنهم (التائبون)•
والتوبة: الرجوع إلى الله عز وجل والإنابة إليه والندم على فعل الذنب بعد الإقلاع عنه، وعدم الرجوع إليه• وحاجة المجاهد إلى التوبة والاستغفار شديدة؛ لأن المجاهد معرض أكثر من غيره للعجب بعمله الصالح مع دنو أجله وتعرضه للموت في كل لحظة ولأن أكثر ما يخذل المجاهدين في المعارك ذنوبهم؛ فبالتوبة والاستغفار تمحى آثار الذنوب والمعاصي وتزول أسباب الهزيمة والخذلان، فضلاً عن أن التوبة عبادة عظيمة من العبادات التي يحبها الله عز وجل ويفرح بها•
والمجاهد بشر ليس بمعصوم، بل إنه معرض للذنوب، ولكنه لا يصر على الذنب، بل يسرع الرجوع ويستغفر ربه عندما تضعف نفسه وتزل قدمه؛ قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ) (الأعراف:201)، وقال سبحانه في الآيات التي سبقت قصة أحد في آل عمران: (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً(115/1422)
أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (آل عمران:135).
وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم وهو المعصوم يكثر من الاستغفار ويقول: (والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة) (133)، ويقول صلى الله عليه وسلم: (يا أيها الناس توبوا إلى الله فإني أتوب في اليوم إليه مائة مرة)(134).
3- الدعوة إلى الله عز وجل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
وسيأتي التفصيل فيها إن شاء الله تعالى في المرتبة الثالثة من مراتب جهاد النفس وهي جهادها على الدعوة والتعليم•
4- صدق الحديث، وطيب الكلام :
وهذا يحتاج إلى مجاهدة للنفس في تحقيقه، وليس المقام مقام تفصيل في فضل الصدق وأدلة ذلك، وإنما المراد أن الداعية والمجاهد في سبيل الله من أخص أوصافه أنه صادق لا يبطن خلاف ما يظهر، ولا يكذب على إخوانه في حديثه بل يصدقهم، وينصح لهم ولا يغشهم، وبهذا تصفو النفوس وتطيب القلوب•
ثالثاً: أعمال الجوارح، ومن أهمها في الإعداد للجهاد:
1- المحافظة على الصلوات فرضها ونفلها:
سبق وأن مر بنا في صفات المجاهدين المذكورين في سورة التوبة، والذين اشترى الله عز وجل منهم أنفسهم وأموالهم أن من صفاتهم: (الراكعون الساجدون)؛ وكأنها صفة لازمة لهم؛ لا تراهم إلا ركعًا وسجدًا يعبدون ربهم بهذه الشعيرة العظيمة، هي لذتهم ونور حياتهم وقرة عيونهم وسعادة قلوبهم، ولذلك لا يقدمون عليها مالاً ولا ولدًا ولا مرادًا من مرادات النفوس؛ يلبون نداء الصلاة فور سماعهم للنداء، يحافظون على أدائها في جماعة مبكرين لها محافظين على إتقانها بأركانها وواجباتها وخشوعها• ويزيدون عليها بالسنن الرواتب، لا يفرطون فيها ويحافظون على النوافل الواردة من صلاة الضحى وقيام الليل، يحذرون الآخرة ويرجون رحمة الله عز وجل؛ كما قال الله عز وجل في وصفهم: (وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً) (الفرقان:64)، وقال أيضاً عنهم: (كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ) (الذريات:17)، وهم بذلك يرجون أن يكون لصلاتهم آثارها ومنافعها الدنيوية والأخروية•
وإن من الإعداد للجهاد الاهتمام الشديد بالصلاة فرضها ونفلها؛ وذلك لأنها أم العبادات، وهي تنهى عن الفحشاء والمنكر، فضلاً عن كونها زادًا للمجاهد في طريقه الشاق الطويل؛ يستعين بها على ما يواجهه في جهاده من تكاليف ومشاق وقتل وقتال وهجر للمال والأولاد؛ قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) (البقرة:153). فمن لم يكن له زاد من الصلة بالله عز وجل فإنه لا يقوى على مواصلة الطريق، ولا على الثبات أمام الأعداء في ساحات الوغى•
ثم لا ننسى الحديث القدسي الذي مر بنا قريبًًا، والذي يبين أثر التقرب إلى الله عز وجل بالفرائض والنوافل في محبة الله عز وجل لمن هذه حاله• وأن العبد ما يزال يتقرب بذلك حتى يحفظه الله عز وجل في سمعه وبصره ويده ورجله؛ فلا تنطلق(115/1423)
جوارحه إلا فيما يحب الله عز وجل• وكفى بحفظ الله تعالى حفظًا وقوة وثباتًا وجهادًا•
ويعلق سيد قطب رحمه الله تعالى على آية البقرة الآنفة الذكر: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ...) فيقول: "وحين يطول الأمد ويشق الجهد، قد يضعف الصبر، أو ينفد إذا لم يكن هناك زاد ومدد ومن ثم يقرن الصلاة إلى الصبر؛ فهي المعين الذي لا ينضب، والزاد الذي لا ينفد• المعين الذي يجدد الطاقة، والزاد الذي يزود القلب؛ فيمتد حبل الصبر ولا ينقطع• ثم يضيف إلى الصبر، الرضى والبشاشة، والثقة، واليقين•
إنه لا بد للإنسان الفاني الضعيف المحدود أن يتصل بربه الأعلى، يستمد منه العون حين يتجاوز الجهد قواه المحدودة، حينما تواجهه قوى الشر الباطنة والظاهرة، حينما يثقل عليه جهد الاستقامة على الطريق بين دفع الشهوات وإغراء المطامع، وحينما تثقل عليه مجاهدة الطغيان والفساد وهي عنيفة، حينما يطول به الأمد وتبعد به الشقة في عمره المحدود، ثم ينظر فإذا هو لم يبلغ شيئًا وقد أوشك المغيب، ولم ينل شيئًا وشرارة العمر تميل للغروب، حينما يجد الشر نافشًا والخير ضاويًا، ولا شعاع في الأفق ولا معلم في الطريق •• هنا تبدو قيمة الصلاة؛ إنها الصلة المباشرة بين الإنسان الفاني وربه القوي الباقي •• إنها مفتاح الكنز الذي يغني ويقني ويفيض• إنها الانطلاقة من حدود الواقع الأرضي الصغير إلى مجال الواقع الكوني الكبير، إنها الروح والندى والظلال في الهاجرة، إنها اللمسة الحانية للقلب المتعب المكدود •• ومن هنا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان في الشدة قال: (أرحنا بها يا بلال)(135) •• ويكثر من الصلاة إذا حزبه أمر ليكثر من اللقاء بالله•
إن هذا المنهج الإسلامي منهج عبادة• والعبادة فيه ذات أسرار• ومن أسرارها أنها زاد الطريق، وأنها مدد الروح، وأنها جلاء القلب، وأنه حيثما كان تكليف كانت العبادة هي مفتاح القلب لتذوق هذا التكليف في حلاوة وبشاشة ويسر •• إن الله سبحانه حينما انتدب محمدًا صلى الله عليه وسلم للدور الكبير الشاق الثقيل ، قال له: (يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً) (المزمل:1-5).
فكان الإعداد للقول الثقيل، والتكليف الشاق، والدور العظيم هو قيام الليل وترتيل القرآن •• إنها العبادة التي تفتح القلب، وتوثق الصلة، وتيسر الأمر، وتشرق بالنور، وتفيض بالعزاء والسلوى والراحة والاطمئنان"(136) ا•هـ•
2- الصيام:
والصوم من العبادات الشريفة المحبوبة إلى الله عز وجل، وهو يعود صاحبه الصبر وقوة الإرادة والاستعلاء على شهوات النفس، فضلاً عن كونها عبادة يحبها الله عز وجل ويثيب عليها ثوابًا لا يضاهيه ثواب عبادة أخرى؛ كما جاء في الحديث القدسي: (الصوم لي وأنا أجزي به)(137).
والمراد بالصوم صيام الفرض أولاً وإتقانه وحفظه من المبطلات، ثم صيام أيام النفل؛ وهي كثيرة منها صيام يومي الاثنين والخميس، وثلاثة أيام من كل شهر،(115/1424)
وصيام ست من شوال، ويوم عرفة، وعاشوراء؛ وكلها ورد في فضل صومها أحاديث صحيحة•
وأهمية الصوم في الإعداد للجهاد في أنه يقوي الإيمان ويزيد في التقوى التي تدفع العبد إلى امتثال الأوامر واجتناب المحرمات؛ قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة:183). وقد ذكر الله سبحانه في صفات المجاهدين الذين ورد ذكرهم في سورة التوبة وأنه سبحانه قد اشترى منهم أنفسهم وأموالهم؛ ذكر من صفاتهم أنهم (السائحون)، وقد ذكر المفسرون أن من معانيها: الصائمين•
والمحافظة على نوافل الصلاة والصوم تحتاج من العبد مجاهدة وصبرًا، ويقينًا بمنافعهما العظيمة في الدنيا والآخرة، وقناعة بأهمية هذا الزاد في الإعداد للجهاد في سبيل الله تعالى• كما تحتاج إلى تعاون وتواص بين الدعاة، وأن تكون هناك البرامج العملية، والأجواء التربوية، والعيشة الجماعية التي تسهل على النفوس الأخذ بهذه العبادات ويكون فيها القدوات الصالحة التي تشد الناس بقولها وفعلها إلى هذه الأعمال وتحببها إلى النفوس•
3- الأخذ بمحاسن الأخلاق وترك مساوئها :
جاء الإسلام بمحاسن الأخلاق، وأرشد الناس إليها وحثهم على التحلي بها، ونفَّرَهم من مساوئ الأخلاق وقبحها وذم أهلها• وإذا كان المسلمون بعامة مأمورين بمحاسن الأخلاق والاتصاف بها ومنهيين عما يضادها، فإن الأمر بالأخذ بها يكون آكد وأوجب في حق الدعاة والمجاهدين لأنهم في موطن القدوة والصلاح والإصلاح• فضلاً عن أن الدعوة والجهاد يواجه أهلهما من المواقف والابتلاءات ما يحتاجون معه إلى الخلق الحسن والسلوك الجميل الذي يرغب الناس في الخير، ويدفع الداعية والمجاهد إلى الصبر والتحمل، والتحلي بالأخلاق الطيبة في تعامله وتصرفاته في المواقف؛ كما أن في اشتراك الدعاة والمجاهدين في برامج وأعمال مشتركة مجالاً لأن يظهر بينهم خلاف في وجهات النظر وتقدير المواقف• فإذا لم يكن هناك تربية أخلاقية وسلوكٌ إسلاميٌ قد تربى عليه المجاهد من قبل وإلا فقد تظهر بعض الأخلاق السيئة الكامنة، والتي لم تتهذب من قبل، مما قد ينشأ عنه مفاسد من الافتراق والتناحر والتشاجر كما نسمع أحيانًا هنا وهناك•
وقد وصف الله سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم وهو قدوة الدعاة والمجاهدين بقوله: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (القلم:4)، ولما سُئلت عائشة رضي الله عنها عن خلق النبي صلى الله عليه وسلم قالت: (كان خلقه القرآن)(138). وقال صلى الله عليه وسلم: (خياركم أحاسنكم أخلاقًا)(139). وقال أيضاً: (إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم)(140)، والأحاديث في فضل حسن الخلق كثيرة جدًا والأخلاق الفاضلة كثيرة•
وقد ذكر الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى أصول الأخلاق الفاضلة وأنها تقوم على أربعة أركان فقال: "وحسن الخلق يقوم على أربعة أركان لا يتصور قيام ساقه إلا عليها: الصبر، والعفة، والشجاعة، والعدل•(115/1425)
فالصبر: يحمله على الاحتمال وكظم الغيط، وكف الأذى، والحلم والإناة والرفق، وعدم الطيش والعجلة•
والعفة: تحمله على اجتناب الرذائل والقبائح من القول والفعل، وتحمله على الحياء؛ وهو رأس كل خير، وتمنعه من الفحشاء، والبخل والكذب، والغيبة والنميمة•
والشجاعة: تحمله على عزة النفس، وإيثار معالي الأخلاق والشيم، وعلى البذل والندى، الذي هو شجاعة النفس وقوتها على إخراج المحبوب ومفارقته• وتحمله على كظم الغيظ والحلم؛ فإنه بقوة نفسه وشجاعتها يمسك عنانها، ويكبحها بلجامها عن النزغ والبطش• كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد: الذي يملك نفسه عند الغضب)(141). وهو حقيقة الشجاعة، وهي ملكة يقتدر بها العبد على قهر خصمه•
والعدل: يحمله على اعتدال أخلاقه، وتوسطه فيها بين طرفي الإفراط والتفريط؛ فيحمله على خلق الجود والسخاء الذي هو توسط بين الإمساك والإسراف والتبذير، وعلى خلق الحياء الذي هو توسط بين الذل والقحة، وعلى خلق الشجاعة، الذي هو توسط بين الجبن والتهور، وعلى خلق الحلم، الذي هو توسط بين الغضب والمهانة وسقوط النفس•
ومنشأ جميع الأخلاق الفاضلة من هذه الأربعة•••)(142) ا•هـ•
والأخلاق الفاضلة كثيرة أذكر منها في هذا المقام بعض ما هو لصيق بحياة الدعاة والمجاهدين، وما يكونون فيه أحوج إلى التحلي بها من غيرهم• ومن ذلك:
( أ ) الكرم والجود والبذل في سبيل الله:
وهذه الأخلاق تنشأ من الشجاعة التي أشار إليه الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى بأنها من أصول الأخلاق الحسنة؛ لأن الشجاعة تحمل صاحبها على البذل والندى الذي هو شجاعة النفس وقوتها على إخراج المحبوب ومفارقته؛ بداية من بذل المال والجاه والعلم وغيرها من وجوه البذل والجود، ونهاية ببذل النفس والروح التي هي أعز وأغلى ما يملك الإنسان في سبيل الله عز وجل•
ولذلك فإن البخيل في العادة لا تجده إلا جبانًا خوارًا، والبخل والجبن قرينان، كما أن الكرم والشجاعة قرينان، وقد قرن النبي صلى الله عليه وسلم بين الجبن والبخل في دعائه حيث قال: (اللهم إني أعوذ بك من البخل وأعوذ بك من الجبن)(143).
ولذلك يجب مجاهدة النفس على بذل ما تحبه، وتعويدها على الجود والإيثار وحب الخير للمسلمين، وبذل الجاه لهم بالمساعدة والشفاعة والسعي في حوائجهم• وهذا أمر يحتاجه المجاهد في سبيل الله لأن بيئة الجهاد بيئة بذل فكانت بالضرورة بيئة إيثار وتكافل وتعاون بين المجاهدين، وأجواء الجهاد والمجاهدين لا مكان فيها لأهل الأثرة والشح والأنانية والبخل•
ومما يساعد على تقوية خلق الكرم والجود ما سبق ذكره في أعمال القلوب من الإخلاص والزهد في الدنيا والرغبة فيما أعد الله لعباده المجاهدين المنفقين في الآخرة من النعيم والرضوان، ومما يساعد على ذلك أيضًا العيش في بيئات أهل العلم والزهادة والجهاد؛ لأن في رؤية القدوات من أهل السخاء والشجاعة والجود وطول(115/1426)
صحبتهم أثرًا في التربية على هذا الخلق الكريم وغيره من الأخلاق، كما أن فيها التواصي والتذكير والحث على هذه الأخلاق•
كما أن في قراءة سير أهل الشجاعة والجود والكرم من سلف هذه الأمة وعلى رأسها سيرة سيد المجاهدين وبطل الأبطال وأكرم الخلق محمد - صلى الله عليه وسلم - دافعًا ومحفزًا للاقتداء بهم واتباع آثارهم•
( ب ) العفو والصفح وكظم الغيظ :
وردت في الكتاب والسنة نصوص كثيرة تحث على هذا الخلق الكريم وتمدح أهله وتعدهم بالثواب الجزيل في الآخرة• قال الله تعالى: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِين الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (آل عمران:133-134).
وبالتأمل في هذه الآية نجد أن الله عز وجل قد ذكر قبلها آيات في غزوة أحد والاستعداد لها؛ وذلك في قوله: (وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (آل عمران:121). ثم بعد أن ذكر تسع آيات في هذه الغزوة انتقل السياق إلى نهي المؤمنين عن أكل الربا، ثم حثهم على المسارعة إلى الجنة بالإنفاق في سبيل الله، والعفو عن الناس وكظم الغيظ، ثم عاد السياق مرة أخرى إلى مواصلة الحديث عن غزوة أحد بقوله: (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ...) (آل عمران: من الآية137) فما معنى توسط هذه الآيات بين آيات الحديث عن غزوة أحد؟
يجيب عن ذلك سيد قطب رحمه الله تعالى بقوله: "••• وإذن فهذه التوجيهات الشاملة ليست بمعزل عن المعركة؛ فالنفس لا تنتصر في المعركة الحربية إلا حين تنتصر في المعارك الشعورية والأخلاقية والنظامية، والذين تولوا يوم التقى الجمعان في "أحد" إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا من الذنوب• والذين انتصروا في معارك العقيدة وراء أنبيائهم هم الذين بدأوا المعركة بالاستغفار من الذنوب، والالتجاء إلى الله، والالتصاق بركنه الركين• والتطهر من الذنوب إذن والالتصاق بالله والرجوع إلى كنفه من عدة النصر، وليست بمعزل عن الميدان! واطراح النظام الربوي إلى النظام التعاوني من عدة النصر؛ والمجتمع التعاوني أقرب إلى النصر؛ من المجتمع الربوي• وكظم الغيظ والعفو عن الناس من عدة النصر، فالسيطرة على النفس قوة من قوى المعركة، والتضامن والتواد في المجتمع المتسامح قوة ذات فاعلية كذلك"(144).
والأصل في العفو وكظم الغيظ وكف الأذى هو خلق الصبر الذي عدَّه الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى أحد الأركان الأربعة للأخلاق الفاضلة• وسيأتي الحديث عن خلق الصبر إن شاء الله تعالى بشيء من التفصيل عند الحديث عن المرتبة الرابعة من مراتب جهاد النفس•
وإن التأكيد على إعداد المجاهدين وتربيتهم على هذا الخلق الكريم نابع من أن المجاهد في طريق الجهاد الطويل قد يتعرض لبعض الأذى والأخطاء من إخوانه المشاركين له في درب الجهاد، أو من إخوانه المسلمين الذين قد يؤذونه بكلام أو(115/1427)
تخذيل أو غير ذلك؛ فإن لم يكن على مستوى من التربية الأخلاقية - ولا سيما خلق الحلم والعفو والصفح - فإنه قد لا يصبر على ما يرتكب في حقه من الأخطاء، وقد يتصرف بما لا يليق بالمسلم فضلاً عن المجاهد الذي يفترض فيه أنه قد استعلى على حظوظ نفسه وأغراضها، وجعل غضبه وانتقامه لله عز وجل وحده لا شريك له• ولا يخفى ما في الانتقام للنفس والانتصار لها من مفاسد على وحدة صف الدعاة والمجاهدين واجتماع كلمتهم، وأنه باب للإحن والأحقاد والشحناء.
وان التحمل والعفو وكظم الغيظ يحتاج إلى جهاد شديد مع النفس، وتعويدها على الصبر والإخلاص لله وحده؛ لأن الإخلاص من أسباب سلامة الصدر وخلو القلب من الغل والحقد؛ قال صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة لا يغل عليهن قلب مسلم - وذكر منها - إخلاص العمل لله)(145).
كما أن في التربية الجماعية ورؤية القدوات من ذوي الحلم والأناة والعفو والصفح، والقراءة في سير المخلصين والعافين عن الناس الأثر الكبير في التحلي بهذه الأخلاق الفاضلة•
يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: "•• وفي الصفح والعفو والحلم من الحلاوة والطمأنينة، والسكينة وشرف النفس، وعزها ورفعتها عن تشفيها بالانتقام ما ليس شيء منه في المقابلة والانتقام"(146).
( ج ) الأمانة وحفظ العهد والوعد :
لقد ذكر الله عز وجل أن من صفات المؤمنين المفلحين محافظتهم على أماناتهم، ورعايتهم لعهودهم؛ فقال في صدر سورة "المؤمنون": (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ) (المؤمنون:1-2) إلى قوله: (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ) (المؤمنون:8). وأمر بتأدية الأمانة في قوله عز وجل: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا) (النساء: من الآية58)، ونهى عن خيانة الأمانة فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (الأنفال:27).
والأمانة إذا أطلقت فالمراد منها القيام بجميع التكاليف التي كلف الله عز وجل بها عباده؛ سواء ما يتعلق منها بحقوق الله تعالى أو ما يتعلق منها بحقوق الخلق وهذا هو المعنى الوارد في آية الأحزاب في قوله تعالى: (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْأِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً) (الأحزاب:72). وأما الأمانة بمعناها الخاص فالمراد منها جميع ما يُستَأمن عليه العبد من أموال أو أسرار أو مسؤوليات محددة أو عهود ومواثيق، أو غير ذلك من الأمانات؛ وذلك بحفظها وعدم الاعتداء عليها، أو التفريط فيها، أو الغش فيها وعدم إتقانها•
وحفظ الأمانة من الأخلاق الكريمة والمروءات النبيلة التي تدل على تقوى صاحبها وخوفه من الله وعفته ووفائه• ولذلك وجب الاهتمام بتقوية هذا الخلق في التربية بعامة، وفي الإعداد للجهاد بصفة خاصة؛ وذلك لما يتعرض له المجاهد من مواقف تتطلب منه إبرام عهد وعقد للقيام بمهام معينة في الجهاد، أو يستودع بعض الأسرار(115/1428)
التي تتعلق بالجهاد، أو توكل إليه بعض أموال الجهاد قبضًا وإنفاقًا وحفظًا، وغير ذلك من المهمات التي تحتاج إليها الدعوة ويتطلبها الجهاد في سبيل الله•
كما يدخل في الأمانة تولية الأعمال للأكفاء وإسنادها إلى أهلها؛ فالولايات من الأمانات، وقد روى الإمام مسلم رحمه الله تعالى عن أبي ذر قال: قلت: يا رسول الله ألا تستعملني؟ قال: (يا أبا ذر إنك ضعيف وإنها أمانة وإنها يوم القيامة خزي وندامة)(147). وقال صلى الله عليه وسلم: (إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة) قيل: وكيف إضاعتها• فقال: (إذا وسد الأمر إلى غير أهله)(148).
ونحن اليوم في زمن ضاعت فيه الأمانات، وضعفت في قلوب كثير من الناس حتى عز المتصفون بها• لذا وجب التركيز عليها في التربية والإعداد للجهاد، واستخدام الوسائل الشرعية لتقويتها؛ وذلك بتقوية أعمال القلوب السابق ذكرها من الإخلاص والزهد في الدنيا وأعراضها وأموالها ورئاساتها، وإنشاء هم الآخرة في النفس والخوف من الحساب•
ومما يدل على قلة الأمناء في هذا الزمان حديث حذيفة رضي الله عنه في الأمانة، والذي يشتكي فيه من نقص الأمانة ومنه قوله: (ولقد أتى عليّ زمان وما أبالي أيكم بايعت؛ لئن كان مسلمًا ليردنه عليَّ دينه، وإن كان نصرانيًا أو يهوديًا ليردنه علىَّ ساعيه• وأما اليوم فما كنت أبايع منكم إلا فلانًا وفلانًا)(149). وقوله بايعت: من البيع والشراء؛ وهو يشير إلى رفع الأمانة ونقصها في الناس• فإذا كان حذيفة رضي الله عنه يشكو من ندرة الأمناء في زمانه فكيف بزماننا اليوم؟! والمقصود من ذكر حديث حذيفة هو قوله: (وأما اليوم فما كنت أبايع منكم إلا فلانًا وفلانًا) وفيه الإشارة إلى تحري الأمانة في من يعاملون في بيع أو شراء أو يراد ائتمانهم على الأمانات•
المرتبة الثالثة
مجاهدة النفس على الدعوة إلى الهدى وتعليمه للناس
والدعوة واسعة ومجالاتها متعددة، لكن الحديث في هذه المرتبة سيكون عن الدعوة والبيان اللذَيْن يسبقان جهاد السنان،ويمكن تسمية هذا النوع من الجهاد بجهاد البيان وتبليغ الناس الدين الحق، وتعليمهم توحيد الله عز وجل وحقيقة العبودية، ومعرفة الله عز وجل بأسمائه وصفاته وكيف يعبدونه بمعرفة الأحكام العينية كأركان الإسلام وما لا تقوم إلا به، كما أن مما لا يتم البلاغ والبيان إلا به بيان سبيل الكافرين والمجرمين، وبيان ما يناقض التوحيد والإسلام الحق، وتعرية أهله للناس•
إذن فإنه يمكن القول في هذه المرتبة بأنها مجاهدة النفس على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر•ولقد ذكر الله سبحانه في صفات المجاهدين الذين عقدوا البيعة مع الله عز وجل في قوله: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ...) (التوبة: من الآية111) الآية. ذكر من بين هذه الصفات أنهم: (الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ) (التوبة: من الآية112). والجهاد في حقيقته فرع عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأن الغاية من الجهاد - كما مر بنا - هي إعلاء كلمة الله عز وجل بعلو المعروف الأكبر وهو التوحيد وعبادة الله وحده، وإزهاق المنكر الأكبر وهو الشرك وأهله•(115/1429)
ولكن لما كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يبدأ بجهاد البيان والبلاغ للناس، وتعريفهم بحقيقة سبيل المؤمنين الموحدين، وحقيقة سبيل الكافرين والمجرمين، كان لزامًا قبل جهاد الكفار والمرتدين أن يكون جهاد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن تأخذ الدعوة حظها من البيان والتعريف للناس بحقيقة دين الإسلام وشموله، وحقيقة المنافقين والمجرمين الذين يتسلطون على الناس ويستعبدونهم، ويستخدمون في ذلك جميع الوسائل الإعلامية التي يسيطرون عليها في نشر باطلهم وثقافتهم والتلبيس على الناس بأنهم أصحاب حق وشرعية، وتشويه سمعة الدعاة الصادقين، ووصفهم بالتطرف والسعي إلى الفتنة والفساد، والخروج على الشرعية!!
والحديث هنا منصب على جهاد الطلب في واقع لم يستبن فيه الناس سبيل المؤمنين ولا سبيل المجرمين، وإنما الوضع عندهم ملتبس أو منعكس؛ بحيث ينظرون إلى المجرمين على أنهم مصلحون وإلى المؤمنين على أنهم مفسدون•
أما جهاد الدفع، فكما أشرت في أكثر من مرة إلى أنه في الغالب تكون فيه راية الكفر قد اتضحت، وكذلك راية المؤمنين الذين يدفعون العدو عنهم وعن المسلمين، فلا لبس حينئذ ولا فتنة، وأما جهاد الطلب فإن من يتخطى فيه جهاد البيان إلى جهاد السنان سيجد نفسه متورطًا في مواجهة إخوانه المسلمين الذين يعيشون في ظل الأنظمة الكفرية التي لُبِّس أمرها على الناس فلم يعرفوا المجاهدين ولم تصل إليهم حقيقة دعوتهم، وليس عندهم إلا ما يتلقونه من إعلام المجرمين من تضليل وعكس للحقائق• وأما إذا أخذت الدعوة حظها من البيان والبلاغ، ووصل الحق إلى الناس وزال اللبس عنهم واتسعت قاعدة الدعوة، وحصل الحد الأدنى من تربية الناس على المفاهيم الصحيحة لهذا الدين وبيان حقيقة المجرمين المتسلطين، وبيان كفرهم وفسادهم؛ فإنه حينئذ يستطيع المجاهدون إذا ملكوا الحد الأدنى من القدرة المادية والإعداد الإيماني أن يواجهوا عدوهم الذي قد عرَّفوا الناس حقيقته وعرَّفوا حقيقة سبيل المؤمنين وأهدافهم النبيلة، فإذا اختار أحد من الناس سبيل المؤمنين أو سبيل المجرمين فإنه يكون قد اختاره عن علم ورضى واختيار، فحينئذ يزول الحرج الشرعي من قتال الكفار ومن هو في صفهم؛ لأن البينة قد تمت، والحجة قد قامت، وحينها يهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة•
وعندما يُؤكد على أهمية العلم بسبيل المؤمنين وسبيل المجرمين وتعليمهم ذلك فإنه يُفترض سلفًا أن الدعاة والمجاهدين قد فهموا وعلموا سبيل المؤمنين والمجرمين قبل غيرهم؛ وإلا فكيف سيبينونه للناس وفاقد الشيء لا يعطيه• وقد مضى في المرتبة الأولى من مراتب جهاد النفس ذكر مجاهدتها على تعلم الهدى والدين الحق، ومعرفة ما يناقضه• وعلم أصحاب الحق بسبيل المجرمين ضروري في توقيه ومحاربته، والاندفاع الشديد لمجاهدته ومجاهدة أهله•
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "فإن كمال الإسلام هو بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتمام ذلك بالجهاد في سبيل الله، ومن نشأ في المعروف لم يعرف غيره فقد لا يكون عنده من العلم بالمنكر وضرره ما عند من علمه، ولا يكون عنده من الجهاد لأهله ما عند الخبير بهم؛ ولهذا يوجد الخبير بالشر(115/1430)
وأسبابه إذا كان حسن القصد عنده من الاحتراز عنه ومنع أهله والجهاد لهم ما ليس عند غيره•
ولهذا كان الصحابة رضي الله عنهم أعظم إيمانًا وجهادًا ممن بعدهم، لكمال معرفتهم بالخير والشر، وكمال محبتهم للخير وبغضهم للشر، لما علموه من حسن حال الإسلام والعمل الصالح، وقبح حال الكفر والمعاصي، ولهذا يوجد من ذاق الفقر والمرض والخوف أحرص على الغنى والصحة والأمن ممن لم يذق ذلك• ولهذا يقال: والضد يُظهِر حُسْنَه الضِدُ)(150).
وقريب مما ذكره شيخ الإسلام رحمه الله تعالى قد أشار إليه سيد قطب رحمه الله عند قوله عز وجل: (وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ) (الأنعام:55) وذلك بقوله: "إن هذا المنهج هو المنهج الذي قرره الله - سبحانه - ليتعامل مع النفوس البشرية •• ذلك أن الله سبحانه يعلم أن إنشاء اليقين الاعتقادي بالحق والخير يقتضي رؤية الجانب المضاد من الباطل والشر، والتأكد من أن هذا باطل ممحض وشر خالص، وأن ذلك حق ممحض وخير خالص •• كما أن قوة الاندفاع بالحق لا تنشأ فقط من شعور صاحب الحق أنه على الحق؛ ولكن كذلك من شعوره بأن الذي يحاده ويحاربه إنما هو على الباطل •• وأنه يسلك سبيل المجرمين؛ الذي يذكر الله في آية أخرى أنه جعل لكل نبي عدوًا منهم: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ) (الفرقان: من الآية31). ليستقر في نفس النبي ونفوس المؤمنين أن الذين يعادونهم إنما هم المجرمون؛ عن ثقة، وفي وضوح، وعن يقين•
إن سفور الكفر والشر والإجرام ضروري لوضوح الإيمان والخير والصلاح• واستبانة سبيل المجرمين هدف من أهداف التفصيل الرباني للآيات؛ ذلك أن أي غبش أو شبهة في موقف المجرمين وفي سبيلهم ترتد غبشًا وشبهة في موقف المؤمنين وفي سبيلهم• فهما صفحتان متقابلتان• وطريقان مفترقتان •• ولا بد من وضوح الألوان والخطوط ••
ومن هنا يجب أن تبدأ كل حركة إسلامية بتحديد سبيل المؤمنين وسبيل المجرمين؛ يجب أن تبدأ من تعريف سبيل المؤمنين وتعريف سبيل المجرمين، ووضع العنوان المميز للمؤمنين، والعنوان المميز للمجرمين، في عالم الواقع لا في عالم النظريات• فيعرف أصحاب الدعوة الإسلامية والحركة الإسلامية من هم المؤمنون ممن حولهم ومن هم المجرمون بعد تحديد سبيل المؤمنين ومنهجهم وعلامتهم، وتحديد سبيل المجرمين ومنهجهم وعلامتهم؛ بحيث لا يختلط السبيلان ولا يتشابه العنوانان؛ ولا تلتبس الملامح والسمات بين المؤمنين والمجرمين•
وهذا التحديد كان قائمًا، وهذا الوضوح كان كاملاً يوم كان الإسلام يواجه المشركين في الجزيرة العربية• فكانت سبيل المسلمين الصالحين هي سبيل الرسول صلى الله عليه وسلم ومن معه، وكانت سبيل المشركين المجرمين هي سبيل من لا يدخل معهم في هذا الدين •• ومع هذا التحديد وهذا الوضوح كان القرآن يتنزل، وكان الله سبحانه يفصل الآيات على ذلك النحو الذي سبقت منه نماذج في السورة - ومنها ذلك النموذج الأخير - لتستبين سبيل المجرمين! ولكن المشقة الكبرى التي تواجه حركات الإسلام الحقيقية اليوم ليست في شيء من هذا •• إنها تتمثل في وجود أقوام من الناس من(115/1431)
سلالات المسلمين في أوطان كانت في يوم من الأيام دارًا للإسلام يسيطر عليها دين الله، وتحكم بشريعته •• ثم إذا هذه الأرض، وإذا هذه الأقوام تهجر الإسلام حقيقة، وتعلنه اسمًا• وإذا هي تنكر لمقومات الإسلام اعتقادًا وواقعًا - وإن ظنت أنها تدين بالإسلام اعتقادًا! - فالإسلام شهادة أن لا إله إلا الله •• وشهادة أن لا إله إلا الله تتمثل في الاعتقاد بأن الله - وحده - هو خالق هذا الكون المتصرف فيه، وأن الله - وحده - هو الذي يتقدم إليه العباد بالشعائر التعبدية ونشاط الحياة كله، وأن الله - وحده - هو الذي يتلقى منه العباد الشرائع ويخضعون لحكمه في شأن حياتهم كله •• وأيما فرد لم يشهد أن لا إله إلا الله - بهذا المدلول - فإنه لم يشهد ولم يدخل في الإسلام بعد؛ كائنًا من كان اسمه ولقبه ونسبه• وأيما أرض لم تتحقق فيها شهادة أن لا إله إلا الله - بهذا المدلول - فهي أرض لم تدن بدين الله، ولم تدخل في الإسلام بعد• وهذا أشق ما تواجهه حركات الإسلام الحقيقية في هذه الأوطان مع هؤلاء الأقوام!
أشق ما تعانيه هذه الحركات هو الغبش والغموض واللبس الذي أحاط بمدلول لا إله إلا الله، ومدلول الإسلام في جانب؛ وبمدلول الشرك وبمدلول الجاهلية في الجانب الآخر ••
أشق ما تعانيه هذه الحركات هو عدم استبانة طريق المسلمين الصالحين، وطريق المشركين المجرمين، واختلاط الشارات والعناوين، والتباس الأسماء والصفات، والتيه الذي لا تتحدد فيه مفارق الطريق!
ويعرف أعداء الحركات الإسلامية هذه الثغرة فيعكفون عليها توسيعًا وتمييعًا وتلبيسًا وتخليطًا حتى يصبح الجهر بكلمة الفصل تهمة يؤخذ عليها بالنواصي والأقدام! •• تهمة تكفير "المسلمين"!! ويصبح الحكم في أمر الإسلام والكفر مسألة المرجع فيها لعرف الناس واصطلاحهم، لا إلى قول الله ولا إلى قول رسول الله! هذه هي المشقة الكبرى •• وهذه كذلك هي العقبة الأولى التي لا بد أن يجتازها أصحاب الدعوة إلى الله في كل جيل!
يجب أن تبدأ الدعوة إلى الله باستبانة سبيل المومنين وسبيل المجرمين •• ويجب ألا تأخذ أصحاب الدعوة إلى الله في كلمة الحق والفصل هوادة ولا مداهنة، وألا تأخذهم فيها خشية ولا خوف، وألا تقعدهم عنها لومة لائم، ولا صيحة صائح: انظروا! إنهم يكفرون المسلمين! ••
••• أجل، يجب أن يجتاز أصحاب الدعوة إلى الله هذه العقبة، وأن تتم في نفوسهم هذه الاستبانة، كي تنطلق طاقاتهم كلها في سبيل الله لا تصدها شبهة، ولا يعوّقها غبش، ولا يميعها لبس؛ فإن طاقاتهم لا تنطلق إلا إذا اعتقدوا في يقين أنهم هم "المسلمون"، وأن الذين يقفون في طريقهم ويصدونهم ويصدون الناس عن سبيل الله هم المجرمون"(151) ا•هـ•
وإن المتدبر لهديه صلى الله عليه وسلم في مكة وكيف واجه الكفار فيها ليجد أن جهاده صلى الله عليه وسلم في تلك الحقبة من الدعوة كان جهاد بيان وبلاغ وتربية طيلة العهد المكي،ولم يعرف عنه عليه الصلاة والسلام أنه واجه المشركين بالسلاح، ولم يأذن لأصحابه في ذلك• وما ذاك - والله أعلم - إلا لتأخذ الدعوة حظها من البلاغ والقوة والتربية للقاعدة الصلبة• ولقد واجه عليه الصلاة والسلام في سبيل ذلك من(115/1432)
الأذى والتعذيب لأصحابه الشيء العظيم حتى إذا استبانت سبيل المؤمنين واستبانت سبيل كفار قريش المجرمين، واتضحت السبيلان دون لبس ولا غموض، أذن الله عز وجل لرسوله والمؤمنين بالهجرة ثم الجهاد بعد أن تهيأ لهم الأنصار والمكان الذي يؤون إليه ويحتمون به وينطلقون منه، ولعل هذه هي إحدى الحكم التي من أجلها أُمر المسلمون أن يكفو أيديهم في مكة•
وعن هذه المرحلة وضرورة بيان سبيل المؤمن وسبيل المجرمين قبل مصادمة الكفار يتحدث محمد قطب وفقه الله تعالى فيقول: "نحتاج أن نقف وقفات طويلة نتأمل فيها نشأة الجيل الأول؛ لأن فيها زادًا كاملاً لكل من أراد أن يدعو، أو يتحرك بهذا الدين في عالم الواقع؛ فقد صُنع ذلك الجيل على عين الله سبحانه وتعالى، كما قال سبحانه لموسى عليه السلام: (وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي) (طه: من الآية39)، ونشأ على يدي أعظم مرب في تاريخ البشرية، محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان جيلاً فريدًا في تاريخ البشرية كله، يوجهه الله بالوحي، ويتابعه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتربية والتوجيه، فاكتملت له كل وسائل النشأة الصحيحة في أعلى صورة، فأصبح كالدرس "النموذجي"، الذي يلقيه الأستاذ ليعلّم طلابه كيف يدرّسون، حين يئول إليهم أمر التعليم•
ثم إن إرادة الله سبحانه وتعالى قد اقتضت أن يتم أمر هذا الدين على السنن الجارية - لا الخارقة - لحكمة أرادها الله، لكي لا يتقاعس جيل من الأجيال فيقول: إنما نصر الجيل الأول بالخوارق، وقد انقطعت الخوارق بعد رسول الله ،! وفيما عدا هذه الخارقة التي اختص بها أهل بدر، وفيما عدا ما يختص بشخص الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد جرت أمور الإسلام كلها على السنة الجارية؛ من استضعاف في المبدأ، وابتلاء وصبر وتمحيص، ثم تمكين على تخوف، ثم تمكين على استقرار وقوة، ثم انتشار في الأرض• لذلك فإن الدروس المستفادة من نشأة الجيل الأول هي دروس دائمة، لا تتعلق بالنشأة الأولى وحدها، وإنما هي قابلة للتطبيق في كل مرة تتشابه فيها الظروف أو تتماثل؛ لأنها سنن جارية، وليست حوادث مفردة عابرة لا تتكرر•
وإذا كان الله سبحانه وتعالى قد وَجَّهَنَا في كتابه المنزل، لتدبر السنن الربانية ودراسة التاريخ - الذي هو في الحقيقة مجرى السنن في عالم الواقع - فنحن جديرون أن نعكف على دراسة النشأة الأولى؛ لنستخلص منها الدروس والعبر، ولتكون هاديًا لنا في كل تحرك نقوم به، ومحكًا لاستقامتنا على الطريق أو انحرافنا عنه ••• يقول سبحانه وتعالى: (وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ) (الأنعام:55).
وكأن المعنى: نظل نفصل الآيات حتى تستبين سبيل المجرمين•
وورود هذا المعنى في آية مكية له دلالة واضحة، أو ينبغي أن تكون واضحة؛ فاستبانة سبيل المجرمين هدف مقصود، تبينه لام التعليل في قوله تعالى: (وَلِتَسْتَبِينَ). ونزول هذه الآية في الفترة المكية، معناه أن استبانة سبيل المجرمين هي من أهداف الدعوة، بل من لوازم الدعوة في الفترة الأولى التي يتم فيها نشأة الجماعة المسلمة•
فما الذي تحققه استبانة سبيل المجرمين للدعوة؟
إن استبانة سبيل المجرمين تتضمن أمرين:(115/1433)
أولاً: بيان من هم المجرمون؟ وثانياً: بيان السبيل الذي يسلكونه، والذي من أجله أصبحوا مجرمين•
فمَن هم المجرمون؟ وما سبيلهم؟ وما علاقة تفصيل الآيات باستبانة سبيلهم؟
لقد فصّلت الآيات قضية الألوهية، وهي القضية الأولى والكبرى في القرآن كله، والسور المكية بصفة خاصة•
فصلت الآيات أنه إله واحد لا شريك له، ولا يمكن أن يكون له شركاء في الخلق ولا في التدبير، ولا في أي شأن من الشؤون، وظلت الآيات تتنزل مبينة صفات ذلك الإله، وتنفي عنه الشركاء حتى صار المعنى واضحًا تمامًا، سواء لمن آمن أو لمن كفر؛ فقد كان الكفار قد أصبحوا على بينة تامة مما يريد منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعلموه ويؤمنوا به، حتى قالوا كما روى الله عنهم: (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ) (صّ:5)... وعلى هذ فقد انقسم الناس فريقين اثنين: فريق المؤمنين، وهم الذين آمنوا أنه إله واحد، فعبدوه وحده بلا شريك، واتبعوا ما أنزل إليهم من ربهم، وفريق المجرمين وهم الذين أبوا أن يؤمنوا به، وأن يعبدوه وحده، وأن يتبعوا ما أنزله إليهم•
وإذن، فأين تقع قريش في هذا التقسيم؟
لقد كانت قبل تفصيل الآيات هي صاحبة الشرعية، وكان المؤمنون في نظر قريش، وفي نظر الناس أيضًا، خارجين على الشرعية، فما الموقف الآن بعد تفصيل الآيات؟ وبعد ما رفضت قريش أن تؤمن بالله الواحد، وتعبده وحده بلا شريك، وتتبع ما أنزل الله؟ هل بقيت هي صاحبة الشرعية، وبقي المؤمنون هم الخارجين على الشرعية؟ أم تبدل الحال عند بعض الناس على الأقل، فأصبحت قريش وأمثالها هم المجرمين، وأصبح أصحاب الشرعية هم المؤمنين؟!
إنها نقلة هائلة في خط سير الدعوة، أن يتبين الناس من هم المجرمون، وما سبيلهم، ويتبينوا في المقابل من هم الذين على الحق، وما هو سبيل الحق•
ولقد كان الإشكال بالنسبة لقريش خاصة أنهم هم سدنة البيت، الذي يعظمه العرب جميعًا، فضلاً عن كونهم أصحاب ثروة وأصحاب جاه وحسب ونسب، فاجتمعت لهم بمقاييس الجاهلية كل مقومات الشرعية، ممتزجة ببقايا الدين المحرف الذي ينتسبون به إلى إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام •• فلم تكن زحزحة الشرعية عنهم أمرًا هينًا، خاصة والخارجون على شرعيتهم ضعاف فقراء لا قوة لهم ولا مال، ولا سند من أحد من ذوي السلطان!
لقد كانت العقيدة الصحيحة وحدها هي التي يمكن أن تُجْليَهم عن شرعيتهم المدعاة، وتكشفهم على حقيقتهم؛ وهي أنهم مجرمون لا شريعة لهم، لرفضهم الإيمان بالله الواحد، وعبادته وحده بلا شريك، واتباع ما أنزل الله•
وهنا نسأل: لو أن المؤمنين في مكة دخلوا في معركة مع قريش، فهل كانت تستبين سبيل المجرمين؟ لو دخلوا المعركة وفي حس الناس أن قريشًا هي صاحبة الشرعية، وأن المؤمنين خارجون على الشرعية، فهل كان يمكن أن يستقر في خَلَد أحد - كما استقر في خَلَد الأنصار - أن القضية لها معيار آخر غير سدانة البيت، وغير المال والجاه، وكثرة العدد، ورصيد العرف، ورصيد التاريخ؟ وأن هذا المعيار هو: لا إله(115/1434)
إلا الله •• هو الإيمان بألوهية الله وحده بلا شريك، وما يترتب على ذلك من ضرورة اتباع ما أنزل الله، وأن هذا هو الحق الذي لا شيء بعده إلا الضلال، وأن هذه هي القضية الكبرى التي يُقاس بها كل شيء، وينبني عليها كل شيء؟
هل كان يمكن أن يصل الحق الذي يحمله المؤمنون إلى أفئدة فريق من الناس، كما وصل إلى أفئدة الأنصار، لو أن المؤمنين دخلوا معركة مع قريش، أم كان غبار المعركة يغشى على حقيقة القضية، وتنقلب القضية بعد قليل إلى قضية ضارب ومضروب، وغالب ومغلوب، وتصبح قضية "لا إله إلا الله" على هامش الصورة، إن بقي لها في حس الناس وجود على الإطلاق؟!
أظن الصورة واضحة ••• لقد كانت (كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ) هي سر الموقف كله!
كانت هي التي أتاحت لقضية لا إله إلا الله - وهي قضية الرسل جميعًا من لدن آدم إلى محمد صلى الله عليه وسلم - أن تبرز نقية شفافة واضحة، غير مختلطة بأي قضية أخرى على الإطلاق، فتنفذ إلى القلوب التي أراد الله لها الهداية صافية من كل غبش، فتتمكن من تلك القلوب، ويرسخ فيها الإيمان، كما تنفذ إلى القلوب التي لم يرد الله لها الهداية، صافية من كل غبش، فيكفر أصحابها كفرًا لا شبهة فيه؛ كفرًا غير مختلط لا بالدفاع عن النفس، ولا الدفاع عن المال، ولا الدفاع عن الأمن والاستقرار؛ إنما هو الرفض الصريح الواضح للا إله إلا الله •• وذلك توطئة لقدر قادم من أقدار الله، هو سنة من السنن الجارية: (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ) (الأنفال: من الآية42).
هذا الوضوح الذي أتاحته للقضية (كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ)، هو من مستلزمات الدعوة •• فبغير استبانة سبيل المجرمين، على أساس "لا إله إلا الله"، واستبانة سبيل المؤمنين في المقابل، على ذات الأساس، لا يمكن أن تتسع القاعدة بالقدر المعقول في الزمن المعقول، وتظل الدعوة تراوح مكانها، إن لم يحدث لها انتكاس بسبب من الأسباب•
وحين وضحت القضية على هذا النحو من خلال (كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ)، جاء الأنصار! وحين جاء الأنصار اتسعت القاعدة، وحدث تحول في التاريخ!"(152).
والمقصود من كل ما سبق أن الأمر بالمعروف - وأوله المعروف الأكبر وهو التوحيد - والنهي عن المنكر - وأوله المنكر الأكبر وهو الشرك الأكبر - هو أمر ضروري يسبق الجهاد بالسنان، وهو من جهاد النفس على تبليغ وبيان ما تعلمته من الهدى والنور فتدعو الناس إليه، وما علمته من الشرك والضلال فتحذر الناس منه ومن سبيل أهله من المجرمين وهذا البيان ضروري لا يتم الجهاد بالسنان بدونه، وهو يحتاج إلى وقت وجهد وبذل وتضحية وصبر، وليس بالأمر الهين؛ لأن البيان محتاج إلى وسائل قوية للبلاغ تواجه وسائل المجرمين التي يصدون بها الناس عن سبيل الله تعالى ويلبسوا عليهم دينهم• كما تحتاج إلى التكاتف بين الدعاة وتوظيف طاقاتهم كل بحسب حاله وقدرته؛ فالخطيب على منبره، وإمام المسجد في مسجده وحيه، والكاتب والمؤلف بقلمه، والمحاضر في محاضرته، والشيخ والمربي مع طلابه في دروسهم•
كما لا ننسى وسائل الإعلام الحديثة وأثرها في توسيع قاعدة الدعوة وإيصالها إلى فئام كثيرة من الناس، وهذا يؤكد ضرورة تميز الدعاة والمجاهدين بمؤسساتهم(115/1435)
الإعلامية المتميزة النظيفة التي يرى فيها الناس الحق ويسمعونه، ويرون القدوات والقادة من العلماء والدعاة الذين يصدرون عن مواقفهم ويستمعون توجيهاتهم، ويتبصرون بسبيل المجرمين فينفرون منها ومن أهلها•
كما لا ننسى دور المال في التعريف بسبيل المؤمنين وبسبيل المجرمين على نطاق واسع؛ فإذا لم يكن هناك ما يدعم الوسائل الإعلامية ويسهم في إنشائها فسيكون أثر البيان ضعيفًا• وهذا مما يعوق الدعوة ويؤخرها•
ومما يلحق بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأهميته في الإعداد للجهاد في سبيل الله عز وجل التواصي بين المتآخين في طريق الدعوة والجهاد، وأن لا يشغلهم الأمر والنهي الموجهان للناس عن الأمر والنهي فيما بينهم؛ فإن كل بني آدم خطاء، ولا عصمة إلا للأنبياء عليهم الصلاة والسلام• لذا فمن الطبيعي أن تظهر بعض الأخطاء والمنكرات في صفوف الدعاة ومن يعدون أنفسهم للجهاد• وحينئذ لا بد من الاحتساب بين الإخوان بأن يناصح بعضهم بعضًا، وأن يتواصوا بالحق والمعروف، وينبه المقصر في الحق على تقصيره، وينصح المتلبس بالباطل حتى يقلع عن باطله•
وبهذا التناصح والتواصي وإشاعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بين الدعاة والمجاهدين تقل المنكرات، ويفشو المعروف، وتقل المعاصي، وتكثر الطاعات، وتسود المحبة والألفة، وتتحقق بذلك أهم أسباب النصر على الأعداء؛ وهما طاعة الله عز وجل، والاجتماع والائتلاف؛ قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) (الأنفال:45-46). ووحدة الصف واجتماع الكلمة من أعظم ما يستعد به للجهاد•
وما دمنا بصدد الحديث عن الاجتماع والفرقة فإنه من المناسب في الحديث عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التركيز على خطورة الفرقة والاختلاف، وبخاصة من الدعاة والمجاهدين؛ فإنها من أعظم المنكرات التي تضيع بها ثمار الدعوة والجهاد، ولذلك يجب التصدي لها ومحاربتها، وأن يُسعى للتغلب على أسبابها والمراتب السابقة في الإعداد كفيلة بإذن الله تعالى - عندما يأخذ بها المربون - أن تقضي على جذور الفتنة والفرقة• وقد سبق الإشارة إلى أثر العلم وأعمال القلوب والأعمال الصالحة في القضاء على هذه الآفة الخطيرة التي تعوق الدعوة والجهاد وتؤخر نصر الله عز وجل• وهذا لا يعني أن لا يحصل اختلاف في وجهات النظر وبعض الاجتهادات بين الدعاة والمجاهدين، لكنها لا يجوز أن تؤدي إلى الافتراق والمنابذة، ولنا في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة؛ حيث اختلفوا في بعض المسائل لكنهم بقوا صفًا واحدًا وقلوبًا متآلفة فبارك الله فيهم وفي عملهم وجهادهم ودعوتهم• فالاجتماع أصل، والمسائل التي قد يختلف عليها فروع، فلا يجوز بحال أن نضيع الأصل وهو الاجتماع لنحافظ على فرع، وإلا كنا كمن يهدم مصرًا ليبني قصرًا•
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "وقد كان العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم إذا تنازعوا في الأمر اتبعوا أمر الله تعالى في قوله: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ(115/1436)
خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) (النساء: من الآية59). وكانوا يتناظرون في المسألة مناظرة مشاورة ومناصحة، وربما اختلف قولهم في المسألة العلمية والعملية، مع بقاء الألفة والعصمة وأخوة الدين• نعم من خالف الكتاب المستبين، والسنة المستفيضة أو ما أجمع عليه سلف الأمة خلافًا لا يعذر فيه، فهذا يعامل بما يعامل به أهل البدع"(153).
المرتبة الرابعة
جهاد النفس في الصبر على الدعوة وبيان الحق وأذى الخلق
وهذه المرتبة من جهاد النفس لا يستغني عنها المسلم في جميع مراتبه السابقة، وفي عمره كله• وبدون الصبر أو بضعفه لا يستطيع العبد أن يجاهد نفسه على تعلم الشريعة والتبصر في الدين، كما أنه يعجز عن العمل بما تعلمه، فضلاً عن أن يدعو إلى هذا الهدى ويبينه للناس، ويتحمل ما يلاقيه في سبيل ذلك• وإذا كان لا غنى عن الصبر لكل مسلم، فإنه في حق المجاهدين والذين يعدون أنفسهم للجهاد أشد وآكد؛ وذلك لبعد الشقة وطولها•
إذن فالصبر خلق عظيم رفيع الشأن لا بد من التزود به في أداء الطاعات واجتناب المحرمات، وفي مواجهة المصائب والمكروهات وفي مقاتلة الأعداء قال تعالى عن المتقين: (وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ) (البقرة: من الآية177).
والحديث عن الصبر وأنواعه ومراتبه وفضله لا يتسع له المقام(154)، وليس هو غرضنا في هذه الدراسة• وإنما مقصودنا هو الإشارة إلى ضرورة توطين النفس على الصبر والتحلي به للاستعداد للجهاد في سبيل الله تعالى لأنه الزاد، وهو من أسباب النصر على الأعداء؛ قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) (الأنفال:45-46)، وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (آل عمران:200).
وما أحسن ما علق به سيد قطب رحمه الله تعالى على هذه الآية إذ يقول: "والصبر هو زاد الطريق في هذه الدعوة• إنه طريق طويل شاق، حافل بالعقبات والأشواك، مفروش بالدماء والأشلاء، وبالإيذاء والابتلاء •• الصبر على أشياء كثيرة: الصبر على شهوات النفس ورغائبها، وأطماعها ومطامحها، وضعفها ونقصها، وعجلتها وملالها من قريب! والصبر على شهوات الناس ونقصهم وضعفهم وجهلهم وسوء تصورهم، وانحراف طباعهم، وأثرتهم، وغرورهم، والتوائهم واستعجالهم للثمار! والصبر على تنفج الباطل، ووقاحة الطغيان، وانتفاش الشر، وغلبة الشهوة، وتصعير الغرر والخيلاء! والصبر على قلة الناصر، وضعف المعين، وطول الطريق، ووساوس الشيطان في ساعات الكرب والضيق! والصبر على مرارة الجهاد لهذا كله، وما تثيره في النفس من انفعالات متنوعة من الألم والغيظ، والحنق، والضيق، وضعف الثقة أحيانًا في الخير، وقلة الرجاء أحيانًا في الفطرة البشرية؛ والملل والسأم واليأس أحيانًا والقنوط! والصبر بعد ذلك كله على ضبط النفس في ساعة القدرة والانتصار والغلبة، واستقبال الرخاء في تواضع وشكر، وبدون خيلاء وبدون اندفاع(115/1437)
إلى الانتقام وتجاوز القصاص الحق إلى الاعتداء! والبقاء في السراء والضراء على صلة بالله، واستسلام لقدره، ورد الأمر إليه كله في طمأنينة وثقة وخشوع ••
والصبر على هذا كله - وعلى مثله - مما يصادف السالك في هذا الطريق الطويل •• لا تصوره حقيقة الكلمات• فالكلمات لا تنقل المدلول الحقيقي لهذه المعاناة• إنما يدرك هذا المدلول من عانى مشقات الطريق، وتذوقها انفعالات وتجارب ومرارات!
والذين آمنوا كانوا قد ذاقوا جوانب كثيرة من ذلك المدلول الحقيقي• فكانوا أعرف بمذاق هذا النداء؛ كانوا يعرفون معنى الصبر الذي يطلب الله إليهم أن يزاولوه •• والمصابرة •• وهي مفاعلة من الصبر •• مصابرة هذه المشاعر كلها، ومصابرة الأعداء الذين يحاولون جاهدين أن يفلوا من صبر المؤمنين •• مصابرتها ومصابرتهم، فلا ينفد صبر المؤمنين على طول المجاهدة• بل يظلون أصبر من أعدائهم وأقوى: أعدائهم من كوامن الصدور، وأعدائهم من شرار الناس سواء• فكأنما هو رهان وسباق بينهم وبين أعدائهم، يدعون فيه إلى مقابلة الصبر بالصبر، والدفع بالدفع، والجهد بالجهد، والإصرار بالإصرار •• ثم تكون لهم عاقبة الشوط بأن يكونوا أثبت وأصبر من الأعداء• وإذا كان الباطل يصر ويصبر ويمضي في الطريق، فما أجدر الحق أن يكون أشد إصرارًا وأعظم صبراً على المضي في الطريق!
والمرابطة: الإقامة في مواقع الجهاد، وفي الثغور المعرضة لهجوم الأعداء •• وقد كانت الجماعة المسلمة لا تغفل عيونها أبدًا، ولا تستسلم للرقاد! فما هادنها أعداؤها قط، منذ أن نوديت لحمل أعباء الدعوة، والتعرض بها للناس• وما يهادنها أعداؤها قط في أي زمان أو في أي مكان وما تستغني عن المرابطة للجهاد حيثما كانت إلى آخر الزمان!"(155) ا•هـ•
والمواطن التي يحتاج الداعية والمجاهد أن يوطن نفسه فيها على الصبر كثيرة منها ما ذكره سيد قطب في النقل السابق، ومنها ما لم يذكره، ومن أهمها:
- الصبر على شهوات النفس ورغباتها وميلها إلى الراحة والترف والدعة•
- الصبر على ضعف النفس ونقصها وسرعة ملالها•
- الصبر على ضغوط الواقع وأذى الأعداء؛ فلا يتغلب اليأس ولا القنوط•
- الصبر على طول الطريق وشدة الابتلاء؛ فلا يدفع إلى العجلة والمواجهة قبل أوانها•
- الصبر على الناس وشهواتهم وجهلهم وسوء تصوراتهم، وانحراف طبائعهم، وإعراضهم عن الحق•
- الصبر على إخوان الدعوة والجهاد، وما يطرأ عليهم من ضعف أو ما يصدر منهم من بعض الأذى والأخطاء؛ فلا يؤدي ذلك إلى الفرقة والتنازع•
- الصبر على انتفاش الشر وانتفاخ الباطل، ووقاحة الطغيان، وقلة الناصر، وضعف أتباع الحق وقلة حالهم، وطول الطريق ووساوس الشيطان في ساعات الكرب•
- الصبر على ضبط النفس في ساعات القدرة والانتصار والغلبة، واستقبال ذلك بالتواضع والشكر لله عز وجل، وبدون خيلاء أو تجاوز في القصاص الحق إلى الاعتداء•(115/1438)
- الصبر على البقاء في صلة مستمرة مع الله عز وجل في السراء والضراء، والاستعانة به وحده، ورد الأمر إليه كله في طمأنينة وثقة•
- الصبر على مفارقة الأهل والأولاد والأوطان للدعوة والجهاد•
- الصبر على تخذيل المخذلين وإرجاف المرجفين، وشبهات المشبهين•
- الصبر في ساحات الوغى على قتال الكافرين، والمصابرة والمرابطة في ذلك•
والتربية على الصبر، وتوطين النفس عليه يحتاجان إلى جهد ومشقة وأخذ بالأسباب المعينة عليه• ومن أعظم الأسباب تقوية الصلة بالله عز وجل وكثرة ذكره وتسبيحه وكثرة العبادة• وهذا واضح من توجيه الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم في كتابه الكريم؛ حيث يغلب على الآيات التي يأمر فيها الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم بالصبر أن تكون مقرونة بالأمر بالتسبيح والصلاة والاستغفار؛ قال الله عز وجل: (فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى) (طه:130)، وقال سبحانه: (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) (الحجر:97-99)، وقال عز وجل: (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً) (الإنسان:24-26)، وقال تعالى: (وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ) (الطور:49)، وقال عز وجل: (فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ) (قّ:39-40)، وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) (البقرة:153). والآيات في هذا المعنى كثيرة•
كما أن مما يعين على الثبات والصبر وعدم النكول والضعف ما ذكره الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في منزلة الصبر عن أنواع الصبر، وأن هناك شروطًا ثلاثة إذا حققها العبد في صبره حصل له الثبات، وإن تخلف واحد منها أو أكثر ضعف صبره وخذل• وملخص هذه الشروط ما يلي:
1- أن يكون الصبر بالله تعالى؛ وذلك بالتبرؤ من الحول والقوة والاعتراف بالضعف والهلكة لو وكل العبد إلى نفسه• وهذا ينبه على ضرورة الاستعانة بالله عز وجل وسؤاله الصبر والثبات؛ لأنه سبحانه هو المصبر والمثبت ولولاه لم يصبر الصابرون ولم يثبت المجاهدون•
2- أن يكون الصبر لله تعالى؛ بأن يكون الباعث على الصبر محبة الله عز وجل وإرادة وجهه، والتقرب إليه ورجاء ثوابه، لا لإظهار الشجاعة وقوة النفس والاستحماد إلى الخلق وغير ذلك من الأغراض•
3- أن يكون الأمر المصبور عليه مرضيًا لله تعالى ودائرًا مع مراده الديني وأحكامه الدينية صابرًا نفسه معها سائرًا بسيرها، يتوجه معها أين توجهت ركابها، وينزل معها أين استقلت مضاربها(156).
ونظراً لأهمية هذه الشروط في تحقيق الصبر وكماله كان لزامًا على من يعدون أنفسهم للدعوة والجهاد في سبيل الله عز وجل أن يعتنوا بهذه الأمور، ويبذلوا(115/1439)
الأسباب العلمية والعملية في تقويتها في النفس، وأن يتواصوا بها؛ فما خذل عبد في موقف وضعف صبره فيه إلا بتخلف واحد أو أكثر من هذه الشروط•
تنبيه مهم:
ينظر كثير من الناس إلى أن ضعف الصبر لدى الداعية أو المجاهد إنما يتمثل في عدم تحمله لأعباء الطريق وأذى الأعداء مما يجعله يرجع إلى الوراء فيفتر أو يترك الدعوة والجهاد، أو يداهن الأعداء أو ييأس ويصيبه الإحباط•
وهذا لاشك أنه ضعف في الصبر والتربية، لكن ضعف الصبر لا ينحصر في هذا فقط، وإنما هناك نوع آخر من ضعف الصبر في طريق الدعوة والجهاد قد ينظر إليه في الوهلة الأولى أنه شجاعة وإقدام وقوة وصبر، ولكنه في الحقيقة إنما نشأ من ضعف في الصبر واستعجال للنتائج• وتتجلى أهمية هذا الأمر بخاصة في واقعنا المعاصر الذي يشهد من بعض الدعاة حماسًا مفرطًا واستعجالاً ومسارعة لمواجهة الأعداء قبل الإعداد والاستعداد لذلك علمًا وعملاً ودعوة وعدة وعتادًا•
وقد ينظر إلى هذه الممارسات - كما أسلفت - على أنها قمة الشجاعة والصبر والتحمل، لكنها - والله أعلم - قد تكون في أغلبها إنما نشأت من عدم الصبر على طول الطريق واستكمال جوانب الإعداد• وزاد في إذكائها أذى الأعداء وما يواجهون به الدعاة من السجن والتعذيب والتقتيل(157).
وهنا يحسن الاستئناس بآية (كف اليد) في مكة؛ حيث أُمِرَ المسلمون بذلك لحكمة عظيمة، وأحسب أن المقام مناسب لذكرها والوقوف عند مدلولاتها، وما مدى الاستفادة منها في ضوء الصراع القائم اليوم مع الكفار والمنافقين في داخل بلدان المسلمين•
يقول الله عز وجل: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً) (النساء:77)، وامتثل الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه أمر ربهم فكفوا أيديهم في مكة وصبروا على الأذى والتعذيب، وعلى كل الممارسات الاستفزازية، مع قدرتهم الفردية على الرد والانتقام، ووجه الرسول صلى الله عليه وسلم همه إلى البيان والبلاغ بدعوة التوحيد، وإلى التربية الجادة لمن دخل في الإسلام، مع الاستمرار على ضبط النفس، حتى أذن الله عز وجل لهم بعد ذلك في الهجرة ثم الجهاد• ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلموصبره وعدم عجلته في تلك الظروف العصيبة أسوة حسنة، وبخاصة من يعيش اليوم في ظل الأنظمة التي تدعي انتسابها إلى الإسلام في الظاهر بينما حقيقتها أنها عدوة للإسلام وأهله؛ حيث يحكم فيها بحكم الطاغوت ويوالى أعداء الله ويؤذى فيها أولياء الله عز وجل ودعاته المصلحون• فما أشبه واقع المصلحين اليوم في ظل هذه الأنظمة بواقع الرسول صلى الله عليه وسلم في ظل سلطة قريش، مع وجود فارق مهم يؤكد على ضرورة الصبر على الدعوة والبيان في هذا الزمان أكثر من أي زمان مضى؛ ذلك أن الأنظمة المعاصرة لا تعلن عداءها للإسلام صراحة ولا كفرها برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، بل تدَّعي الإسلام والإيمان زورًا وتلبيسًا• ولا يخفى ما في هذا(115/1440)
من التلبيس والخداع الذي يحتاج فيه الدعاة والمجاهدون إلى وقت ليس بالقصير، وجهد ليس بالقليل ليصبروا ويكفوا أيديهم ويركزوا على إزالة هذا اللبس وبيان حقيقة الإيمان الحق، وحقيقة الكفر والنفاق، وحقيقة سبيل المجرمين مع الإعداد الشامل المذكور في المراتب السابقة•
ولو قفزت مرحلة البيان للناس والإعداد الإيماني للمجاهدين إلى مرحلة الصدام مع هؤلاء الزنادقة المعاصرين فلا يخفى على اللبيب المتتبع لسنن الله عز وجل، وسنن المرسلين، ورصيد التجارب في القديم والحديث ما نشأ وينشأ من جراء ذلك من المفاسد والفتن والشرور• وإنَّ السعيد لمن جنب الفتن واتعظ بغيره• ولعل من المفيد في هذا المقام أن نقف على بعض ما كتب حول آية (كف اليد) المذكورة آنفًا•
يقول الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى: "كان المؤمنون في ابتداء الإسلام وهم بمكة مأمورين بالصلاة والزكاة، ولم تكن ذات النصب، لكن كانوا مأمورين بمواساة الفقراء منهم، وكانوا مأمورين بالصفح والعفو عن المشركين والصبر إلى حين، وكانوا يحترقون ويودون لو أمروا بالقتال ليشتفوا من أعدائهم، ولم يكن الحال إذ ذاك مناسبًا لأسباب كثيرة منها: قلة عددهم بالنسبة إلى كثرة عدد عدوهم، ومنها كونهم في بلدهم وهو بلد حرام وأشرف بقاع الأرض، فلم يكن الأمر بالقتال فيه ابتداءً لائقًا؛ فلهذا لم يؤمر بالجهاد إلا بالمدينة لما صارت لهم دار ومنعة وأنصار"(158).
ويعلق صاحب الظلال رحمه الله تعالى على هذه الآية بقوله: "إن أشد الناس حماسة واندفاعًا وتهورًا، قد يكونون هم أشد الناس جزعًا وانهيارًا وهزيمة عندما يجد الجد، وتقع الواقعة •• بل إن هذه قد تكون القاعدة! ذلك أن الاندفاع والتهور والحماسة الفائقة غالبًا ما تكون منبعثة عن عدم التقدير لحقيقة التكاليف، لا عن شجاعة واحتمال وإصرار، كما أنها قد تكون منبعثة عن قلة الاحتمال؛ قلة احتمال الضيق والأذى والهزيمة، فتدفعهم قلة الاحتمال، إلى طلب الحركة والدفع والانتصار بأي شكل؛ دون تقدير لتكاليف الحركة والدفع والانتصار •• حتى إذا ووجهوا بهذه التكاليف كانت أثقل مما قدَّروا، وأشق مما تصوروا• فكانوا أول الصف جزعًا ونكولاً وانهيارًا •• على حين يثبت أولئك الذين كانوا يمسكون أنفسهم، ويحتملون الضيق والأذى بعض الوقت، ويعدون للأمر عدته، ويعرفون حقيقة تكاليف الحركة، ومدى احتمال النفوس لهذه التكاليف• فيصبرون ويتمهلون ويعدون للأمر عدته •• والمتهورون المندفعون المتحمسون يحسبونهم إذ ذاك ضعافًا، ولا يعجبهم تمهلهم ووزنهم للأمور! وفي المعركة يتبين أي الفريقين أكثر احتمالاً؛ وأي الفريقين أبعد نظرًا كذلك!
وأغلب الظن أن هذا الفريق الذي تعنيه هذه الآيات كان من ذلك الصنف الذي يلذعه الأذى في مكة فلا يطيقه، ولا يطيق الهوان وهو ذو عزة• فيندفع يطلب من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يأذن له بدفع الأذى، أو حفظ الكرامة• والرسول صلى الله عليه وسلم يتبع في هذا أمر ربه بالتريث والانتظار، والتربية والإعداد، وارتقاب الأمر في الوقت المقدر المناسب، فلما أن أمن هذا الفريق في المدينة، ولم يعد هناك أذى ولا إذلال• وبعد لسع الحوادث عن الذوات والأشخاص لم يعد يرى للقتال مبررًا، أو على الأقل لم يعد يرى للمسارعة به ضرورة!(115/1441)
(فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ) (النساء: من الآية77).
وقد يكون هذا الفريق مؤمنًا فعلاً؛ بدليل اتجاههم إلى الله في ضراعة وأسى! وهذه الصورة ينبغي أن تكون في حسابنا؛ فالإيمان الذي لم ينضج بعد، والتصور الذي لم تتضح معالمه، ولم يتبين صاحبه وظيفة هذا الدين في الأرض؛ وأنها أكبر من حماية الأشخاص، وحماية الأقوام، وحماية الأوطان؛ إذ أنها في صميمها إقرار منهج الله في الأرض، وإقامة نظامه العادل في ربوع العالم، وإنشاء قوة عليا في هذه الأرض ذات سلطان، يمنع أن تغلق الحدود دون دعوة الله، ويمنع أن يحال بين الأفراد والاستماع للدعوة في أي مكان على سطح الأرض، ويمنع أن يفتن أحد من الأفراد عن دينه - إذا هو اختاره بكامل حريته - بأي لون من ألوان الفتنة •••"(159).
ثم عرج على بعض الحكم من كف اليد في مكة والأمر بالصبر فقال رحمه الله تعالى: "أما حكمة هذا فلسنا في محل الجزم بها؛ لأننا حينئذ نتألى على الله ما لم يبين لنا من حكمة، ونفرض على أوامره أسبابًا وعللاً قد لا تكون هي الأسباب والعلل الحقيقية• أو قد تكون، ولكن يكون وراءها أسباب وعلل أخرى لم يكشف لنا عنها، ويعلم - سبحانه - أن فيها الخير والمصلحة •• وهذا هو شأن المؤمن أمام أي تكليف أو أي حكم في شريعة الله لم يبين الله سببه محددًا جازمًا حاسمًا، وبهذا الأدب الواجب نتناول حكمة عدم فرض الجهاد في مكة وفرضيته في المدينة •• نذكر ما يتراءى لنا من حكمة وسبب •• على أنه مجرد احتمال •• وندع ما وراءه لله• لا نفرض على أمره أسبابًا وعللاً، لا يعلمها إلا هو •• ولم يحددها هو لنا ويطلعنا عليها بنص صريح!
إنها أسباب •• اجتهادية •• تخطئ وتصيب، وتنقص وتزيد، ولا نبغي بها إلا مجرد تدبر أحكام الله وفق ما تظهره لنا الأحداث في مجرى الزمان:
( أ ) ربما كان ذلك لأن الفترة المكية كانت فترة تربية وإعداد في بيئة معينة لقوم معينين ••• ومن أهداف التربية في مثل هذه البيئات تربية النفس على الصبر وضبط النفس لأناس كانوا يثورون لأول وهلة ولا يصبرون على الضيم•
(ب) وربما كان ذلك لأن الدعوة السلمية أشد أثرًا وأنفذ في مثل بيئة قريش ذات العنجهية والشرف، والتي قد يدفعها القتال في مثل هذه الفترة إلى زيادة العناد وإلى نشأة ثارات دموية ••••
(جـ) وربما كذلك لما يعلمه الله عز وجل من أن كثيرين من المعاندين هم بأنفسهم سيكونون من جند الإسلام المخلصين •••
( د ) وربما كان كذلك لقلة عدد المسلمين حينذاك وانحصارهم في مكة؛ فلو وقع القتال لمحيت الجماعة المسلمة وبقي الشرك•••
(هـ) لم يكن هناك حاجة للقتال؛ فقد كانت الدعوة تصل إلى الناس ويبلغها الرسول صلى الله عليه وسلم وهذا هو المطلوب في هذه الفترة •••)(160).
ويشير الأستاذ محمد قطب وفقه الله تعالى إلى بعض هذه الأحكام فيقول: "من أشد ما استوقفني في مسيرة الجيل الأول، ذلك الأمر الرباني للمؤمنين أن يكفّوا أيديهم في مرحلة التربية بمكة، وأن يتحملوا الأذى صابرين، وقد أشار الله إلى هذا الأمر في(115/1442)
قوله تعالى، مذكرًا به: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ) (النساء: من الآية77).
وكان بعض الصحابة رضوان الله عليهم قد سأل الرسول صلى الله عليه وسلم حين اشتد الأذى بالمؤمنين: ألا نقاتل القوم؟ فقال عليه الصلاة والسلام: (ما أُمرنا بقتالهم)(161).
ولم يرد في النصوص - لا في الكتاب ولا في السنة - بيان لحكمة هذا الأمر الرباني، ومن ثم فالأمر متروك للاجتهاد لمعرفة الحكمة منه، وربما كان أيسر سبيل للتعرف على حكمته أن نفترض أن المؤمنين كانوا قد دخلوا في معركة مع قريش في ذلك الحين، فماذا كان يمكن أن يترتب على ذلك؟ ثم نتدبر الفوائد التي تحققت حين كفوا أيديهم ولم يدخلوا في معركة في ذلك الوقت•
أبسط ما يمكن أن يتصور من نتائج هذه المعركة غير المتكافئة أن تتمكن قريش من إبادة المؤمنين، وهم حينئذ قلة مستضعفة لا سند لها، فينتهي أمر الدعوة الجديدة في معركة واحدة أو عدة معارك متلاحقة، دون أن يتحقق الهدف، ودون أن يتعرف الناس على حقيقة الدعوة، ودون أن يكتب لها الانتشار•
ونفترض أن المعركة - على الرغم من عدم تكافئها - لم تؤد إلى إبادة المؤمنين كلهم، فثمة أمر آخر على غاية من الأهمية، يلفت انتباهنا بشدة، لاتصاله بما يجرى من أحداث في وقتنا الحاضر•
لمن كانت الشرعية في تلك المرحلة في مكة؟ لقد كانت في حس الناس جميعًا لقريش••!
وما وضع المؤمنين يومئذ؟ وضعهم أنهم خارجون على الشرعية••! ومن حق صاحب الشرعية - ولا شك - أن يؤدب الخارجين عليه!
وصحيح أن قريشًا تشتد في "التأديب" إلى حد الفظاظة والقسوة، وأن بعض الناس قد يتأذى لهذه الفظاظة، حتى ليحاول أن يبسط حمايته - أو جواره - على بعض المعذبين المستضعفين، ولكن يظل الأمر في حس الناس - من حيث المبدأ - أن قريشًا هي صاحبة الشرعية، وأن المؤمنين خارجون على الشرعية، وأن من حق صاحب الشرعية أن يؤدب الخارجين عليه!
فهل كان من مصلحة الدعوة أن يدخل المؤمنون يومئذٍ في معركة مع قريش، وهذا التصور هو السائد بين الناس؟!
كلا بالطبع! والآن فلننظر ماذا تم حين استجاب المؤمنون للأمر الرباني وكفوا أيديهم•
لقد تمت أمور كثيرة في الحقيقة ••••• ومن خلال (كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ) تكونت النواة الأم التي صنعت التاريخ!
ولو كان المؤمنون قد دخلوا في معركة مع قريش في مكة، لتأخر كثيرًا تكوّن النواة الأم، ولتغيرت كثيرًا صفاتها التي اكتسبتها، وذلك فوق الغبش الذي كان سيصيب قضية لا إله إلا الله، حين تتحول إلى قضية ضارب ومضروب،وغالب ومغلوب، ولتأخر كذلك التجمع الصلب حول النواة الصلبة المصقولة المتينة البناء •• لقد تمت أمور على غاية من الأهمية في مسيرة الدعوة•(115/1443)
تم تحرير موضع النزاع، إن صح التعبير •• إنه قضية "لا إله إلا الله" دون غيرها من القضايا ••
ليس الصراع الدائر بين قريش وبين المؤمنين على سيادة أرضية، ولا على السلطة السياسية (وقد عُرضت السلطة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأباها، وأصرَّ على لا إله إلا الله، والمؤمنون من جانبهم لم يتحركوا حركة واحدة تهدف إلى الاستيلاء على السلطة) ••
ليس الصراع على "شرف" سدانة البيت، ولا "وجاهة" خدمة الحجيج ••
ليس على القوة الاقتصادية التي تملكها قريش وحدها دون المؤمنين، وتحارب المؤمنين من خلالها بالحصار والتجويع، والمؤمنون لا يتعرضون لها من قريب ولا بعيد•
الصراع كله على القضية الكبرى التي هي - والتي يجب أن تكون دائمًا - القضية الأولى، والقضية الكبرى في حياة الإنسان؛ قضية من المعبودُ؟ ومن ثَمَّ من صاحبُ الأمر؟ من المشرِّع؟ من واضع منهج الحياة؟ قريش تريدها حسب أهوائها وخيالاتها وموروثاتها وأعرافها، والمؤمنون حول رسول الله صلى الله عليه وسلم يريدونها لله•
وتم تركيز الجهد وتوفيره لتربية القاعد الصلبة، التي ستحمل البناء، وتم تحرير قضية "الشرعية"، بتفصيل الآيات واستبانة سبيل المجرمين•
وتم أخيرًا اتساع القاعدة بالجنود الذين استضاءوا بالنار التي اكتوى بها أهل النواة الأم، فتجمعوا بقدر من الله، وبحسب سنة من سنن الله، حول تلك النواة، مضيفين إليها قوة حقيقية في الصراع•
ثم تم أمر آخر بالغ الأهمية كذلك؛ وهو التجرد لله•
إن التجرد لله عنصر من أهم العناصر التي تحتاج إليها الدعوة، إن لم يكن أهمها على الإطلاق، بالنسبة للقاعدة بصفة خاصة، وبالنسبة لجميع العالمين على وجه العموم•
ولقد تعمق التجرد لله في قلوب الصفوة المختارة، خلال فترة التربية في مكة، من خلال الآيات المنزلة من عند الله، تدعو إلى إخلاص العبادة لله، ومن خلال القدوة المباشرة في شخص الرسول صلى الله عليه وسلم، يعلمهم بالسلوك العملي كيف يكون إخلاص العبادة لله"(162).
والمقصود بيان أن الاستعجال في جهاد الكفار قبل الإعداد الإيماني المتمثل في التربية على العلم بالشرع ورسوخ العقيدة، والعمل الصالح، والدعوة والبلاغ للناس؛ فيه من المفاسد والشرور التي يتحتم على الدعاة والمجاهدين أن يدرءوها بالصبر وضبط النفس ومواصلة الإعداد الشامل حتى يهيئ الله عز وجل الظروف والأسباب التي يُمَكِّن الله بها لأهل الحق ويدمغ الباطل وأهله•
وإن الناظر اليوم في بعض الحركات المتعجلة التي أعلنت الجهاد قبل الإعداد والدعوة والبيان الكافية لتجلية سبيل المؤمنين وسبيل المجرمين للناس، ليرى فتنًا ومفاسد قد ظهرت بسبب هذا الاستعجال وضعف الصبر على طول الطريق• وقد يتهم بعض المتحمسين لبدء الصدام مع الكفار والمنافقين إخوانهم الذين يرون التربية والإعداد والبدء بجهاد البيان قبل جهاد السنان بأنهم مخذلون، أو أنهم يريدون السلامة وعدم التعرض لأي شيء يؤذيهم ويكدر عليهم حياتهم•(115/1444)
وللرد على هذه التهمة يقال لهم: إن إخوانكم الذين يرون الصبر على جهاد النفس وجهاد البيان للناس إنما هم في جهاد ويشاركونكم الغاية والهدف، وهم بذلك يعدون العدة لجهاد الكفار وقتالهم في الوقت المناسب بعد الأخذ بأسباب النصر والتمكين• وهم بطرحهم هذا يؤدون واجب النصح لكم لما في قلوبهم من الشفقة عليكم، والحب والولاء لكم، ولكل من يهمه أمر هذا الدين ويسعى لنصرته؛ فهم يتواصون معكم بالحق والصبر وليسوا مخذلين•
أما القول بأنهم يسعون بطرحهم هذا إلى تجنيب أنفسهم البلاء والعناء، فلا شك أن السلامة والعافية مطلوبان، لكن الابتلاء والتمحيص سنة من سنن الله عز وجل في عباده وبخاصة الدعاة منهم والمجاهدين، قال تعالى: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ) (محمد:31). وقال تعالى: (الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ) (العنكبوت:1-2). وإن جهاد النفس، والبيان للناس ليس أمرًا هينًا• وأصحابه معرضون لأذى الأعداء وسجونهم وتعذيبهم؛ لأن جهاد البيان يقتضي بيان الحق، وفضح ما يضاده من الباطل، وهذا أمر لا يرضى به الكفار والمنافقون ومن ثم سيجندون وسائلهم المختلفة من تشويه، وترغيب وترهيب، وكل ما يستطيعون لإخماد صوت الحق وإسكات أهله• وهذا كله بلاء وفتنة يتعرض لها الدعاة الذين يعدون أنفسهم وأمتهم للجهاد، وليكون الدين كله لله•
وإن مما يؤسف له أن الخطاب الدعوي اليوم يفتقد إلى البلاغ المبين، بل إن كثيراً منه يعطي الشرعية للطاغوت إما ضمناً وهو الأكثر وإما تصريحاً؛ ولا يخفى ما في ذلك من التلبيس•
والواجب على رموز الدعوة أن يبينوا الحق والباطل للناس ويتجنبوا الخطابات السياسية التي تشوش وتلبس على الناس فهذا جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه لما سأله النجاشي عن قولهم في المسيح كان البيان منه واضحًا صريحاً• وكان هذا الجواب منه يمكن أن ينهي وجود المسلمين معه في الحبشة• لكن جعفرًا وأصحابه رضي الله عنهم قد تعلموا من مدرسة النبوة أن لا تنازل عن الثوابت والمحكمات حتى في مرحلة السلم والاستضعاف•
ويحسن بهذه المناسبة إيراد ما ذكره الإمام ابن تيمية - رحمه الله تعالى - في أهمية وفضل جهاد البيان، وذلك في كتابه العظيم "منهاج السنة" وهو يرد على شبهة الرافضي في أن عليًا رضي الله عنه قد سبق الشيخين أبا بكر وعمر رضي الله عنهما في الشجاعة والجهاد في سبيل الله عز وجل• حيث أوضح - رحمه الله تعالى - عكس ذلك بقوله:
"ومما ينبغي أن يُعلم أن الشجاعة إنما فضيلتها في الدين لأجل الجهاد في سبيل الله، وإلا فالشجاعة إذا لم يستعن بها صاحبها على الجهاد في سبيل الله، كانت: إمّا وبالاً عليه، إن استعان بها صاحبها على طاعة الشيطان، وإما غير نافعة له، إن استعملها فيما لا يقرّبه إلى الله تعالى•
فشجاعة عليّ والزبير وخالد وأبي دجانة والبراء بن مالك وأبي طلحة، وغيرهم من شجعان الصحابة، إنما صارت من فضائلهم لاستعانتهم بها على الجهاد في سبيل الله؛ فإنهم بذلك استحقّوا ما حمد الله به المجاهدين•(115/1445)
وإذا كان كذلك، فمعلوم أن الجهاد منه ما يكون بالقتال باليد، ومنه ما يكون بالحجّة والبيان والدعوة•
قال الله تعالى: (وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبِيراً) (الفرقان:51-52) فأمره الله سبحانه وتعالى أن يجاهد الكفّار بالقرآن جهادًا كبيرًا• وهذه السورة مكيّة نزلت بمكة، قبل أن يهاجر النبي صلى الله عليه وسلم، وقبل أن يُؤمر بالقتال، ولم يؤذن له• وإنما كان هذا الجهاد بالعلم والقلب والبيان والدعوة لا بالقتال• وأما القتال فيحتاج إلى التدبير والرأي، ويحتاج إلى شجاعة القلب، وإلى القتال باليد• وهو إلى الرأي والشجاعة في القلب في الرأس المطاع أحوج منه إلى قوة البدن• وأبو بكر وعمر رضي الله عنهما مقدّمان في أنواع الجهاد غير قتال البدن•
قال أبو محمد بن حزم: "وجدناهم يحتجون بأن عليًا كان أكثر الصحابة جهادًا وطعنا في الكفّار وضربا، والجهاد أفضل الأعمال• قال: وهذا خطأ، لأن الجهاد ينقسم أقساما ثلاثة: أحدها: الدعاء إلى الله تعالى باللسان• والثاني: الجهاد عند الحرب بالرأى والتدبير• والثالث: الجهاد باليد في الطعن والضرب• فوجدنا الجهاد باللسان لا يلحق فيه أحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر ولا عمر• أما أبو بكر فإن أكابر الصحاب أسلموا على يديه، فهذا أفضل عمل، وليس لعليّ من هذا كثير حظ• وأما عمر فإنه من يوم أسلم عزّ الإسلام وعُبِدَ الله علانية، وهذا أعظم الجهاد• وقد انفرد هذان الرجلان بهذين الجهادين اللذين لا نظير لهما•
وبقي القسم الثاني، وهو الرأي والمشورة، فوجدناه خالصاً لأبي بكر ثم لعمر•
بقي القسم الثالث، وهو الطعن والضرب والمبارزة، فوجدناه أقل مراتب الجهاد ببرهان ضروري، وهو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لاشك عند كل مسلم في أنه المخصوص بكل فضيلة، فوجدنا جهاده صلى الله عليه وسلم إنما كان في أكثر أعماله وأحواله بالقسمين الأوّلين من الدعاء إلى الله عز وجل والتدبير والإرادة، وكان أقل عمله الطعن والضرب والمبارزة، لا عن جبن، بل كان أشجع أهل الأرض قاطبة نفساً ويَدًا، وأتمهم نجدة، ولكنه كان يؤثر الأفضل فالأفضل من الأعمال، فيقدمه ويشتغل به، ووجدناه يوم بدر - وغيره - كان أبو بكر معه لا يفارقه، إيثارًا من النبي صلى الله عليه وسلم له بذلك، واستظهارًا برأيه في الحرب، وأُنْسًا بمكانه، ثم كان عمر ربما شُورك في ذلك، وقد انفرد بهذا المحل دون عليّ ودون سائر الصحابة، إلا في الندرة•
ثم نظرنا مع ذلك في هذا القسم من الجهاد، الذي هو الطعن والضرب والمبارزة، فوجدنا عليًا لم ينفرد بالسيوف فيه، بل قد شاركه فيه غيره شركة العيان، كطلحة والزبير وسعد، ومن قُتل في صدر الإسلام، كحمزة وعبيدة بن الحارث بن عبدالمطلب ومصعب بن عمير، ومن الأنصار سعد بن معاذ وسماك بن خرشة - يعني أبا دجانة - وغيرهما، ووجدنا أبا بكر وعمر قد شاركاه في ذلك بحظ حسن، وإن لم يلحقا بحظوظ هؤلاء، وإنما ذلك لشغلهما بالأفضل مع ملازمة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومؤازرته في حين الحرب، وقد بعثهما على البعوث أكثر مما بعث عليًا، وقد بعث أبا بكر إلى بني فزارة وغيرهم، وبعث عمر إلى بني فلان، وما(115/1446)
نعلم لعليّ بعثا إلا إلى بعض حصون خيْبر ففتحه• فحصل أرفع أنواع الجهاد لأبي بكر وعمر، وقد شاركا عليًا في أقل أنواع الجهاد، مع جماعة غيرهم"(163).
إذن فأمر الإعداد للجهاد بالإيمان والبيان ليس أمرًا سهلاً إذا أخذ بعزم وجد• وكم يحتاج من التضحيات والصبر والمصابرة وطول النفس• وقد يتعرض أهله فيه من البلاء والقرح والشدائد ما قد يفوق ما يتعرض له المجاهد في ساحات الوغى من المهالك والمتالف•
ونظرة سريعة إلى ما تعرض إليه الرسول صلى الله عليه وسلم ومن معه من المؤمنين في مكة من البلاء والتعذيب والحصار والتجويع والتشريد تعطينا دليلاً على أن جهاد التربية والإعداد والبلاغ والبيان يحتاج إلى صبر وتضحية واستعلاء على حب الراحة والسلامة لا يقل عن الصبر على قتال الأعداء•
إذن فالقول بأن الدعوة إلى الصبر على إعداد النفوس للجهاد وبيان الحق للناس، وعدم العجلة في منازلة الكفار قبل أوانها؛ بأنه هروب من الشدائد وإيثار للسلامة ليس صحيحًا ولامقبولاً لما قدمنا•
نسأل الله عز وجل العافية في ديننا ودنيانا وعاجل أمرنا وآجله•
تعقيبات
في ختام هذه الرسالة المتعلقة بالتربية الجهادية أورد بعض التعقيبات المهمة المتعلقة بالإعداد للجهاد أُضمن بعضها تتمات لمسائل لم تأخذ حظها من الإيضاح مع القناعة بأهميتها• وأضمن بعضها الآخر استدراكًا لبعض المسائل التي لها علاقة بالإعداد لكنني غفلت عن ذكرها في زحمة المسائل الأخرى•
التعقيب الأول : تداخل مراتب جهاد النفس بعضها مع بعض :
إن ما ذكر من جوانب الإعداد ومراتبه (العلم والعمل والدعوة والصبر) لا يعني البقاء في مرتبة بحيث لا ينتقل منها إلى التي تليها حتى تستكمل التي قبلها• إن هذا غلط وفهم خاطئ لتحقيق مراتب الإعداد• والمطلوب الأخد بالمراتب كلها وتكميل ما لم يكمل منها؛ فمجاهدة النفس وإعدادها بالتعلم والتبصر في الدين لا يعني ترك مجاهدتها بالعمل الصالح، ومجاهدتها بالدعوة إلى الهدى والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والصبر على ذلك كله• وكلما علم العبد شيئًا من دين الله تعالى جاهد نفسه للعمل به والدعوة إليه والصبر على العمل والدعوة معًا• والمسلمون اليوم - وبخاصة من يهمهم أمر هذا الدين - لديهم رصيد لا بأس به من العلم يبدأون به الإعداد ويُحَوِّلون فيه هذا العلم إلى عمل ودعوة؛ أي إنهم لا يبدأون الإعداد العلمي وهم خلو منه؛ بل إن لديهم من العلم قدرًا جيدًا، وحينها يطالبون بالجهاد للعمل بهذا العلم وتكميل ما ينقصهم من العلم العيني لو وجد نقص في ذلك• والمقصود أن المربين لن يجدوا أنفسهم أمام أفراد لا علم عندهم، بل العلم موجود والحمد لله، والمطلوب تكميله في نفس الوقت الذي يحصل فيه المجاهدة بالعمل به والدعوة إليه•
التعقيب الثاني : تفاوت المتربين في تحصيل مراتب الجهاد، والعناية بالمبرزين منهم :
يتفاوت المتربون الذين يُعدون للجهاد في الأخذ بهذه المراتب وتكميلها وإتقانها، وليس مطلوبًا أن يكونوا في مرتبة واحدة، وإنما المطلوب التأكيد عليها والسعي(115/1447)
لمجاهدة النفس في الأخذ بها• مع التأكيد على ضرورة العناية بطائفة من الذين يعدون أنفسهم للجهاد، والذين تظهر عليهم علامات الصدق والجد والإخلاص والهمة العالية لتكميل هذه المراتب؛ فهؤلاء وأمثالهم ينبغي أن يكون لهم شأن آخر في الإعداد، وأن لا يتسامح معهم كما يتسامح مع غيرهم، وإنما يطلب منهم تكميل هذه المراتب قدر الإمكان؛ حتى يكونوا على قدر من العلم بالشريعة والواقع يؤهلهم لتربية أنفسهم والتأثير على الناس، ويكونوا على قدر كبير من: العمل الصالح، والإخلاص، والصدق، والتوكل على الله عز وجل، والزهد في الدنيا، والتقرب إلى الله عز وجل بالطاعات فرضها ونفلها؛ حتى يتحملوا الشدائد ويكونوا قدوات لغيرهم في العلم والعمل، ويكونوا على قدر كبير من الدعوة والتأثير في الناس وبيان الحق والباطل لهم، وعلى قدر عظيم من الصبر يتحملون به ما يواجههم من الأذى والابتلاء من الكفار والمنافقين وأصحاب القلوب المريضة•
وهذه الفئة من الدعاة والمجاهدين ضرورية لأنها بمثابة القاعدة الصلبة التي يثبتها الله عز وجل عند الشدائد، ويثبت بها الصف الإسلامي من التفكك والإضطراب عند النوازل• وهذا هو الذي قام به النبي صلى الله عليه وسلم أثناء الدعوة والإعداد في العهد المكي؛ حيث قام بتربية هذه الفئة من المسلمين ورباها بالعلم والعمل والتجرد والإخلاص والصبر والتوكل على الله عز وجل، فصلب عودها وثبتت أمام البلاء والمحن، وكانت القاعدة الصلبة التي قام عليها سوق الدعوة والجهاد، وفتح الله عز وجل بها الدنيا، وحمى بها بيضة الإسلام من الأعداء المتربصين•
وعن أهمية إعداد القاعدة الصلبة يقول الدكتور/ عبدالله القادري حفظه الله تعالى: "كثير من الناس يستجيبون لنداء الحق ولتطبيق هذا الدين على أنفسهم فينفذون أوامر الله ويجتنبون ما نهى عنه، وقد يخلطون العمل الصالح بآخر سيء، ولكن قليل هم الذين يستجيبون لهذا الدين فيطبقونه على أنفسهم، ويحملون غيرهم من قريب أو بعيد على تطبيقه بالدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبذل المال والجاه والمنصب في سبيل الله وتقديم النفس في ساح الوغى لجهاد أعداء الله وإعلاء كلمة الله•
هذا القليل يجب أن يأخذ حظًا أوفر من الدعوة والتوجيه والتزكية والتطهير والإعداد لتحمل أعباء الدعوة وتكاليفها، ويعنى به أكثر من غيره؛ لأن هذا الصنف هو الذي يثبت وقت الشدائد والمحن، وهو الذي يلتف حوله من لم يبلغ مثله في إيمانه وتحمله• ولولا أن الله تعالى يهيئ لعامة الناس رجالاً يلتفون حولهم ويقتدون بهم ويرون فيهم ما يجذبهم إلى الثبات معهم لما كان لأولئك العامة من شأن يذكر، بل لكانوا في مهب الرياح أينما تميلها تمل•
لذلك كان من الواجب على الدعاة أن يختاروا ذوي المواهب العالية في العلم والعمل والذكاء والقدرة على الاستيعاب، والصبر والجلد والقيادة؛ يولوهم من العناية ما يأخذ بأيديهم إلى المستوى اللائق بهم، ويدربوهم على تحمل مسؤولياتهم؛ كلٌّ فيما يظهر أنه أنفع فيه من غيره، وذلك هو الذي يضمن بتوفيق الله استمرار صفوف الدعاة إلى الله وقادتها؛ لأن القائد الواحد يربي قادة، والصف يربي صفوفًا؛ كلما ذهب قائد حل قائد آخر محله، وكلما ذهب صف تقدم إلى مكانه الصف الذي يليه، كما يضمن بقاء(115/1448)
الروح الجهادية في النفوس ••• وهذا الإعداد يكون بتقوية الإيمان، وتزكية الأخلاق الفاضلة، وكثرة الطاعة لله ولرسوله، والبعد عن المعصية، والتوعية الكاملة والفقه في الدين ومعرفة مشكلات العصر وحلها، والتدريب العملي على البذل والإنفاق وإيثار الدعوة الإسلامية بالنفس والنفيس، والإخلاص الكامل والتجرد لله وحده•
وهذا الإعداد مع صعوبته وطول مدته التي تحتاج إلى صبر وجلد خير من العجلة في جمع جماهير ذوي عواطف تبهج النفس وتنعشها العواطف •••"(164).
وعن ضرورة تكوين القاعدة الصلبة والاعتناء بها ودورها في حماية الدين وأهله يتحدث سيد قطب - رحمه الله تعالى - عن القاعدة الصلبة من المهاجرين والأنصار فيقول: "إن هذه القاعدة الصلبة من المهاجرين الأوائل هي التي انضم إليها السابقون من الأنصار، ليكونوا القاعدة في المدينة - قبل بدر - وليكونوا هم الحراس الأقوياء الأشداء في فترة التخلخل التي أعقبت النصر في بدر، بالتوسع الأفقي الذي جاء بأعداد جديدة لم تنضج بعد، ولم تتناسق مع القاعدة في مستواها الإيماني والتنظيمي•
وأخيراً فإن القاعدة الصلبة التي اتسعت أبعادها قبيل الفتح، حتى صارات تتمثل في المجتمع المدني بجملته، هي التي حرست الإسلام وصانته من الهزات بعد الفتح ثم من الهزة الكبرى بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وارتداد الجزيرة عن الإسلام•
••• إنه ابتداء يجب توجيه الحرص كله لإقامة القاعدة الصلبة من المؤمنين الخلص، الذي تصهرهم المحنة فيثبتون عليها؛ والعناية بتربيتهم تربية إيمانية عميقة تزيدهم صلابة وقوة ووعياً •••"(165).
التعقيب الثالث : الحذر من اختراق المنافقين للصف المسلم، وتبوّئهم للمراتب العليا فيه :
وهو مرتبط بما قبله؛ وذلك من جهة التأكيد على ثمرة مهمة من ثمار الإعداد القوي للقاعدة الصلبة؛ ألا وهي تحصين الصف المسلم أثناء الإعداد وأثناء الجهاد من المنافقين الذين يظهرون الصلاح وحب الدعوة والجهاد حتى يخترقوا صفوف الدعاة والمجاهدين ويصلوا إلى مستويات متقدمة في التوجيه والتأثير، وهدفهم من الاختراق أمور خطيرة من أهمها: زعزعة الصف من داخله، وبث الشقاق والفرقة بين الدعاة والمجاهدين، ومن أخطر أهداف الاختراق: الاطلاع على خطط الدعاة وأسرار المجاهدين وإيصالها إلى أوليائهم من الطواغيت والكفرة حتى يقطعوا على الصف المسلم أهدافه ويعرضوا أهله للبلايا والمحن•
لذا وجب على المتصدرين للدعوة والإعداد والتربية الحذر الشديد من هؤلاء المنافقين الذين يتربصون بالمسلمين الدوائر؛ قال الله عز وجل في التحذير منهم ومن غيرهم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ) (النساء: من الآية71).
وإن المتأمل في تاريخ المسلمين في القديم والحديث ليرى أنه ما من مأساة و انتكاسة أو محنة وقعت بالصف المسلم إلا وكان للمنافقين يد فيها، ولذا فإن من أهم ما ينبغي الحرص عليه في الإعداد للجهاد الحذر من المنافقين وتحصين الصف من اختراقهم•
ومن أهم وسائل التحصين الاهتمام بالقاعدة الصلبة، وحسن إعدادهم وتربيتهم ولو طال الزمان، وأن لا يصل إلى مستوى التوجيه والإعداد إلا من صهرته التربية(115/1449)
وظهر صبره وفضله وتقواه وصدقه، وأن يحرص على التربية الجادة ودقة الاختيار، والحذر ممن كان له تاريخ في النفاق ولو صلح بعد ذلك، وكذلك الحذر من كل من ارتفع اسمه فجأة في أوساط الدعاة، ومعرفة السبب في اشتهاره هل هو عمله أم أن جهات أخرى تولت هذه المهمة؟! فينبغي الحذر من أمثال هؤلاء فلا تسند إليهم مسؤوليات مهمة في الدعوة والإعداد•
وعن خطر المنافقين في واقعنا المعاصر وضرورة تحصين الصف منهم يقول أحد الدعاة الناصحين: "مرت فترات من عصرنا الحديث اشتد فيها عود الجماعات الإسلامية، وقويت شوكتها، وعلا أمرها، وتحقق لها بعض أهدافها في أكثر من بلد من عالمنا الإسلامي الكبير•
وفي مثل هذه الأجواء يستغل المنافقون مبدأ التوبة إلى الله، فيترددون على المساجد، ويشهدون حلقات الذكر، ويكتبون المقالات التي يعربون فيها عن ندمهم على ما اقترفته أيديهم من ذنوب ومعاص، ويتبرأون من ماضيهم الأسود، ويشنون حربًا ضروسًا على رفاق دربهم القدامى من الفاسدين والعلمانيين•
ويرحب بتوبتهم الذين يأخذون الأمور على ظواهرها من الدعاة وبعض قادة الجماعات، وإذا قيل لهم: احذروا من هؤلاء الوافدين الجدد، ولا تسندوا إليهم مناصب قيادية، وتذكروا ظهور النفاق بعد غزوة بدر الكبرى، ولا تنسوا أنَّ تفشي هذه الظاهرة يكثر بعد انتصارات الدعاة والجماعات الإسلامية؛ قالوا: لم نكلف بالبحث عن نوايا الناس وما تخفيه قلوبهم، والذي نعلمه أن التوبة تجب ما قبلها، والله جل وعلا يغفر الذنوب جميعًا، إنه هو الغفور الرحيم•
ونحن لا نطلب من إخواننا الدعاة القادة البحث عن نوايا الناس، وما تكنه قلوبهم، ولا نريد منهم طرد من جاء تائبًا مستغفرًا؛ ولكن الذي نريده ونؤكد عليه ألا تسند لهؤلاء التائبين وظائف قيادية لأن علمهم الشرعي وماضيهم لا يسمحان بذلك•
وفي خضم هذه الأنشطة السياسية التي تنقصها التربية والإعداد تم اختراق معظم الجماعات الإسلامية من قبل أشخاص مشبوهين يقولون ما لا يفعلون، ويظهرون ما لا يبطنون، أو من قبل أشخاص مترفين يظنون أن الدعوة إلى الله، والعمل من أجل تحكيم شريعته خالية من التمحيص والابتلاء وخشونة العيش ••• وإذا كانت معارك الموحدين الدعاة مع الطغاة دائمة ومستمرة، وشعار الحذر يجب أن يستمر مرفوعاً، فهناك مراحل تتضاعف فيها الحاجة إلى الحذر، ومنها هذه المرحلة التي مضى عليها أكثر من عقدين، وشهدنا فيها سقوط أصنام متعددة: شهدنا سقوط الصنم القومي، والصنم الثوري الاشتراكي، وشهدنا سقوط رائد القومية والتقدمية والوحدة، الصنم الذي عبده كثير من الجماهير من دون الله•
كفر الناس بهذه الأصنام كلها، وأيقنوا أن بعدهم عن الإسلام هو سبب هذه الهزائم المتكررة، وعاد الشباب إلى دين الله أفواجاً، وأصبحت الصحوة الإسلامية حديث الشرق والغرب، وقويت شوكة الجماعات الإسلامية، وكثر أنصارها ••• إن قوة الدعاة والجماعات الإسلامية مسألة تهدد كل طاغية وتنذر بزواله، فلا بد من تسخير جميع إمكاناتهم وتنسيق جهودهم من أجل وأد الصحوة في مهدها• ومن الأساليب التي يستخدمونها كما قلنا فيما مضى زرع جندهم داخل الصف الإسلامي، والعمل(115/1450)
على ضرب هذا الصف من داخله، وهذه هي المرحلة التي تتضاعف فيها الحاجة إلى الحذر واتباع هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ حيث كان يختار أمراءه وولاته من الصحابة الذين تنطبق عليهم الشروط الشرعية التي ينبغي أن تتوفر في أهل الحل والعقد، وكانت الأفضلية للسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار رضوان الله عليهم، واستمر هذا النهج بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، كما كان في عهد أبي بكر رضي الله عنه وفي عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذين كانا يتشددان في اختيار الولاة(166) وكانا في شخصيهما قدوة حسنة لكل مسؤول ••• أما القواعد والأسس التي يتم على أساسها اختيار المسؤولين فثابتة• وأهمها: الأمانة والتقوى، وأن لا يكون المسؤول ممن يسعى ويعمل من أجل الوصول إلى المنصب"(167).
ومن أجل هذا كان صف الصحابة رضي الله عنهم هو الصف المحصن الذي لم يخترق؛ وما ذاك إلا لكونهم القاعدة الصلبة الذين تعهدهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالتربية والتعليم وصقلتهم الشدائد والمحن؛ ولكونهم يملكون الموازين الشرعية الدقيقة في وزن الرجال، ومن أجل ذلك صعب على المنافقين اختراقهم، حيث لم يعرف أن أحداً من المنافقين قد أسندت له مهمة قيادية سواء في السلم أو الحرب•
التعقيب الرابع : يقبل في مستويات التربية الجهادية من عموم المجاهدين ما لا يقبل من قادتهم :
إن المراتب السابقة من مراتب الإعداد للجهاد في سبيل الله لا تعني أن تتوفر بتمامها في كل الأفراد، ولكن المطلوب توفرها بقوة في القاعدة الصلبة الذين هم قادة الناس وقدواتهم، وهم أصحاب التوجيه والتربية•
أما من سواهم فإنه يقبل منهم الحد الأدنى، ولا يتشدد معهم في توفر كل صفات المجاهدين فيهم• نعم لو اكتملت هذه الصفات في الجميع لكان هو الأفضل والمطلوب، لكن طبائع البشر وما يتعرضون له من ضعف وفتور تأبى ذلك•
ومع ذلك فتستمر التربية والتزكية، والمقصود الإشارة إلى أنه مع التأكيد على ضرورة التربية والإعداد إلا أن ذلك لا يعني أن لا يشارك في الدعوة والجهاد في سبيل الله تعالى عندما يفرض على الأمة إلا من ليس عليه ملاحظات أو هفوات، بل قد يخرج للجهاد من هو متلبس ببعض الذنوب وبعض ما يقدح في كمال إيمانه الواجب لكنه يجاهد نفسه على ترك ذلك، ويستمر النصح والتوجيه له في جميع الأوقات بل إنه قد يخرج صاحب البدعة التي دون الكفر مع المجاهدين إذا احتاج المسلمون إلى ذلك؛ كأن يهاجَمون في عقر دارهم وهم على قلة من العدد والعتاد•
ولو لم يخرج للجهاد في سبيل الله تعالى إلا الكمل من الناس لتعطل الجهاد وتسلط الكفار على المسلمين وساموهم سوء العذاب، ولا يخفى ما في ذلك من المفاسد العظيمة•
وكذلك من هم في موطن التوجيه والقدوة والمسؤولية؛ فمع أنه لا يسعهم ما يسع غيرهم ممن هم دونهم إلا أنهم ليسوا معصومين، وصدور بعض الهفوات أو الذنوب لا يقدح فيهم ولا ينقص من منزلتهم إذا كانت ذنوبًا طارئة يرجعون منها ويتوبون ولا يصرون•؛ قال الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ) (لأعراف:201).(115/1451)
التعقيب الخامس : أنواع الإعداد المادي وضرورة وجوده بجانب الإعداد الإيماني :
ما سبق ذكره من جوانب الإعداد للجهاد إنما كان منصباً على الإعداد المعنوي أو الإيماني، ولم يشر فيما مضى إلى الإعداد المادي والجسدي• وسبب ذلك أن الإعداد الإيماني للمجاهدين يحتاج إلى جهد وزمن طويلين، وهو الأساس الذي ينطلق منه المجاهد وتحقق به غايات الجهاد، وهو ما ينقصنا اليوم؛ حيث نعيش حياة الترف والترهل، والركون إلى الدنيا، وضعف الإيمان، وضعف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وضعف الصبر والتحمل• والانتصار على النفس في هذه المجاهدة والإعداد هو طريق النصر على الأعداء في ساحات القتال، والعكس صحيح•
أما الإعداد المادي والجسدي فإنه يتحقق في وقت يسير إذا قيس بالإعداد الإيماني•
ونظرًا لما تعيشه بلدان المسلمين اليوم من تسلط الأعداء وتهديداتهم مما يجعل الجهاد أمرًا مفروضًا على المسلمين للدفاع عن الدين والمال والعرض؛ وذلك في البلدان التي يحتلها العدو الكافر، أو أنه قريب الحدوث في البلدان التي يهددها العدو الكافر ويلمح بغزوها واحتلالها•
إنه نظراً لذلك فلا بد من الإشارة إلى الإعداد المادي والجسدي بأن يكون له حظ من الإعداد؛ وذلك في خط موازي للإعداد الإيماني والمعنوي؛ يسيران جنبًا إلى جنب دون أن يقطع إحدهم الآخر أو يؤخره•
والأصل في الإعداد المادي قوله تعالى: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ) (لأنفال:60)، ومن أهم جوانب هذا الإعداد ما يلي:
1- الإعداد المالي:
وهو من أهم جوانب الإعداد المادي؛ فهو عصب الدعوة والجهاد، ولا تكاد تخلو آية من الآيات التي تحض على الجهاد إلا ويذكر الجهاد بالمال مع الجهاد بالنفس بل يقدم عليها• وإذا تأملنا آية الإعداد الآنفة الذكر وجدنا في خاتمتها ذكر النفقة، مما يدل على أهمية المال في الإعداد المادي للجهاد• والتفريط في توفير المال للجهاد في سبيل الله تفريط في الأخذ بأسباب النصر•
ولذا وجب السعي في توفير مصادر مالية ثابتة لدعم الجهاد والإعداد له؛ وذلك باقامة المؤسسات الاقتصادية، وبث روح البذل في الأمة وبخاصة الموسورن فيها، وإقامة المؤسسات الخيرية التي تعلم وتدعو وتدعم المحتاجين من المسلمين المهاجرين والمستضعفين•
2- الإعداد الإعلامي:
حيث لا يخفى على أحد ما للإعلام اليوم من أثر كبير في التعريف بالإسلام الحق والتعريف بأهله، وكذلك ما له من الأثر في فضح الباطل والتحذير منه ومن أهله؛ بحيث تستبين للناس سبيل المؤمنين وسبيل المجرمين، وقد سبق التنويه على ضرورة المعرفة بالسبيلين للناس قبل المقاتله بالسنان• كما لا يخفى ما للإعلام من دور في التعريف بالجهاد والمجاهدين، ونقل أنباء انتصارات المسلمين وهزائم الكافرين، والاستفادة من الإعلام في الحرب النفسية ضد الكفار، ورفع معنويات المجاهدين(115/1452)
والمسلمين بعامة؛ حيث إن أسلوب الحرب النفسية عن طريق الإعلام أصبح من الوسائل المهمة في تحطيم معنويات ونفسيات الأعداء وهزيمتهم•
فإذا لم يكن للمسلمين - سواء في إعدادهم للجهاد بالدعوة والبيان أو أثناء قتالهم الكفار - وسائل إعلامية قوية ومؤثرة فإن تفريطًا كبيرًا قد حصل في الأخذ بأسباب العدة للجهاد والانتصار على الأعداء•
3- الإعداد الجسمي:
المطلوب من المسلم أن يعتني بجسمه في جميع الأحوال؛ فيعتني بصحته وكل ما من شأنه تقوية الجسد وشدته وتحمله للمشاق وشظف العيش؛ (فالمؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف)(168) والقوة هنا تشمل قوة الإيمان والنفس والجسم، وقد تعوذ الرسول صلى الله عليه وسلم من العجز والكسل، فإذا كان هذا في الأحوال العادية، فكيف بمن يعد نفسه للجهاد؟ بل فكيف بمن غزاه الكفار في عقر داره أو حاموا حول دياره؟! كما هو الحال اليوم في أكثر بلدان المسلمين•
إن الأمر في حقه يكون آكد وأوجب؛ لأن الأجسام الضعيفة المترهلة المترفة التي أخلدت إلى الراحة والإسراف في أنواع الطعام والشراب والأثاث سوف لن تلبي نداء الجهاد؛ وذلك لما فيه من الشدائد والجوع والجراحات، الأمر الذي لا تطيقه الأجسام المتنعمة المترهلة المترفة•
ووسائل تقوية الأجسام كثيرة ينبغي أن يهتم بها المربون والمهتمون بالإعداد للجهاد؛ منها:
( أ ) تجنب فضول الطعام والشراب والنوم لما في ذلك من الترفه، ولما فيه من الأدواء والأمراض للأجساد والقلوب•
(ب) تقوية الجسم بأنواع الرياضة المشروعة؛ كالمشي الطويل وصعود الجبال، والسباق، والسباحة، وركوب الخيل، والدفاع عن النفس، وغير ذلك مما فيه تقوية الجسم وتعويده على تحمل الشدائد•
(جـ) تعويد النفس على صوم النفل؛ فهو في المقام الأول عبادة عظيمة محبوبة لله عز وجل، وفيها من المصالح والحكم ما ذكره الله عز وجل في كتابه من أنه يورث تقوى الله عز وجل، كما أن فيه تعويد النفس على الصبر والتغلب على شهواتها وتقوية إرادتها•
ووسائل تقوية الأجسام كثيرة، لكن هذا هو الحد الأدنى الذي ينبغي لمن يعد نفسه للجهاد أن يأخذ به في حال الأمن والسلام•
أما في حال الحرب والتهديد فلا بد من الأخذ بالفقرة التالية•
4- الإعداد بالتدريب على الرماية بأنواعها:
حيث قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا إن القوة الرمي - ثلاثًا)(169).
ويكون التدريب على الرماية واجبًا وفرض عين في حال ما يكون الجهاد عينيًا بأن يُهاجَم المسلمون في عقر دارهم•
وأما الإعداد لجهاد الطلب فيبقى كفائيًا تبعًا لحكم الجهاد الطلبي• ومعنى هذا أن البلاد التي غزاها الكفار اليوم يكون التدريب فيها واجبًا، والإعداد له متعينًا، وكذلك الحال(115/1453)
فيمن هو مهدد بالغزو والاحتلال حتى لا يفاجأ المسلمون بعدوهم وهم على غير استعداد•
وقد يقال: إن المسلمين في مكة حيث كف اليد والتركيز على الإعداد الإيماني والمعنوي لم يتدربوا آنذاك ولم يأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالتدريب• والجواب أن يقال بأن الناس في ذلك الوقت ليسوا محتاجين إلى تدريب وتعليم لأنهم أهل القتال والخبرة بهذا الفن لطبيعة العرب في ذلك الوقت؛ حيث إن السلاح والرماية جزء من حياتهم كما هو الحال اليوم في بعض البيئات والبلدان•
التعقيب السادس : أخطاء بعض المجاهدين لا تعني خطأ الجهاد، ونصحهم يكون مع الولاء لهم حتى لا يستغله المبطلون في رد الجهاد :
إن المجاهدين بشر كغيرهم يخطئون ويصيبون، ولا عصمة لأحد بعد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ولكن ينبغي الحذر كل الحذر عندما يكون هناك حاجة إلى ذكر هذه الأخطاء والتناصح حولها أن لا تكون في منابر عامة قد يفهم منها التعريض بالجهاد والمجاهدين، وقد يكون إبرازها في المنابر العامة مقصود لذاته من قبل أعداء الدين وأعداء الجهاد والدعاة والمجاهدين؛ وذلك ليوظفوها في مخططهم الماكر في القضاء على الدعاة الصادقين وتعطيل شعيرة الجهاد والاحتساب• وفي عدم الانتباه لمآلات الكلام عن أخطاء المجاهدين مفسدة كبيرة قد يجد المتحدث نفسه متورطًا في الإسهام مع أعداء الدين في عرقلة الدعاة والمجاهدين في إحياء الأمة من سباتها• وقد يجد نفسه وهو لا يشعر في خندق الطواغيت من الكافرين والمنافقين•
ولو وجد الداعية نفسه مضطرًا للتعليق على بعض الأخطاء فيمكنه أن يتحدث عن ذلك بعبارة لا يستطيع الإعلام الماكر ومن وراءه أن يستفيدوا من ذلك في الوصول إلى مبتغاهم؛ وذلك كأن يثني على المجاهدين وأثرهم في إحياء الجهاد والعزة ودورهم في الدفاع عن بلدان المسلمين وأعراضهم، ودورهم في إرهاب الكفار، في الوقت الذي يتولى بالنقد والفضح تلك الأنظمة الطاغوتية التي تتولى الكفار وتضع نفسها في خندقهم في مواجهة الدعاة والمجاهدين• ثم يشير بعد ذلك إلى ما يراه من ملاحظات وأخطاء قد تصدر من بعض الطوائف الجهادية، وإن كان هناك ثمة عذر يشير إليه، وإن لم يجد فيضعها في حجمها الطبيعي، ويتوجه بالنصح للمجاهدين بعبارات مضمونها الود والشفقة والنصح والولاء•
إنه متى كان الحديث بهذه النفسية، وبهذا الحذر فلا أظن الإعلام الماكر سيسمح لأحد من الدعاة فضلاً عن أن يدعوه ويبرزه للناس ليقول هذا الكلام في منابره•
كما أن المجاهدين سوف لن تُجرح نفوسهم من هذا الداعية الذي هذا مقصده وهذا طرحه، ولن يتهموه بأنه من المخذلين أو أنه من الذين يعرضون بالمجاهدين ويشمتون بهم•
وبعد :
فهذا ما يسره الله عز وجل ووفق إليه من الكتابة في هذا الموضوع المهم الخطير ولا أزعم أني استوفيته أو قربت من تمامه، ففي الموضوع مسائل كثيرة تحتاج إلى العلماء العاملين ليبينوها للناس• وحسبي أني ساهمت ببضاعتي المزجاة وجهد المقل(115/1454)
فما كان فيه من صواب فمن الله عز وجل وهو المان به وله الحمد والشكر. وما كان فيه من خطأ فمني ومن الشيطان واستغفر الله منه ومن جميع ذنوبي.
وأسأله سبحانه الإخلاص والصواب في القول والعمل. اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه وليك ويذل فيه عدوك ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر ويرفع فيه علم الجهاد إنك سميع قريب وأنت على كل شيء قدير. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين•
الهوامش
(1) ... رواه مسلم: (1910).
(2) ... "المفردات": (ص99).
(3) ... "الفتح": (6/3).
(4) ... "بدائع الصنائع": (9/4299).
(5) ... "حاشية ابن عابدين": (4/121).
(6) ... "الشرح الصغير على أقرب المسالك": (2/267).
(7) ... "فتح الباري": (6/3).
(8) ... "مطالب أولي النهى": (2/497).
(9) ... "مجموع الفتاوى": (10/192، 193).
(10) ... "مجموع الفتاوى": (10/191).
(11) ... رواه أحمد: (6/21)، وقال محمقق زاد المعاد "الأرناؤوط": "سنده جيد، وصححه ابن حبان: (25)، والحاكم: (1/11)، ووافقه الذهبي.
(12) ... رواه مسلم: (1910) في الإمارة: باب ذم من مات ولم يحدث نفسه بالغزو، وأبو داود: (2502).
(13) ... "زاد المعاد" ت: الأرناؤوط: (3/5-12) مختصراً.
(14) ... "زاد المعاد": (3/71).
(15) ... "روضة المحبين": (ص478).
(16) ... أبو داود: (4/246)، وابن ماجة: (2/681)، وقد روى شطره الأول البخاري: (2480).
(17) ... "مجموع الفتاوى": (28/320).
(18) ... "مجموع الفتاوى": (28/321).
(19) ... تقدم تخريجه.
(20) ... "الفروسية" لابن القيم: (ص187-189).
(21) ... وعن شعور اللذة بالعبودية يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: "... فقُرَّة عين المحب في الصلاة والحج وفرح قلبه وسروره ونعيمه في ذلك وفي الصيام والذكر والتلاوة وأما الصدقة فعجب من العجب، وأما الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله والصبر على أعداء الله سبحانه فاللذة بذلك أمر آخر لا يناله الوصف ولا يدركه من ليس له نصيب منه. وكل من كان به أقوم كان نصيبه من الالتذاذ به أعظم. ومن غلظ فهمه وكثف طبعه عن إدراك هذا فليتأمل إقدام القوم على(115/1455)
قتل آبائهم وأبنائهم وأحبابهم، ومفارقة أوطانهم، وبذل نحورهم لأعدائهم". "طريق الهجرتين": (1/56) ط. دار الحديث.
(22) ... "مجموع الفتاوى": (10/191-193) باختصار.
(23) ... "مجموع الفتاوى": (10/57-58) باختصار.
(24) ... "مجموع الفتاوى": (15/170).
(25) ... "في ظلال القرآن": (3/1440-1444) باختصار.
(26) ... "في ظلال القرآن": (3/1433-1436) باختصار.
(27) ... "الجواب الصحيح": (1/74).
(28) ... "زاد المعاد": (3/159-161).
(29) ... انظر لمزيد من التفصيل عن هذه الحكم كتاب "في ظلال القرآن": (2/714، 715).
(30) ... "في ظلال القرآن": (3/1581).
(31) ... "في ظلال القرآن": (3/1737-1739) باختصار.
(32) ... "الصارم المسلول": (2/414).
(33) ... "مدارج السالكين: (3/9) ط الفقي.
(34) ... "مجموع الفتاوى": (10/57، 58) باختصار.
(35) ... "مجموع الفتاوى": (10/193).
(36) ... "مجموع الفتاوى": (8/36).
(37) ... أبو داود (3462)، وأحمد: (2/28) واللفظ له، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود: (2956).
(38) ... "الفوائد": (ص88).
(39) ... "مجموع الفتاوى": (28/242).
(40) ... "مجموع الفتاوى": (28/441-443) باختصار.
(41) ... البخاري في الإيمان باب الجهاد من الإيمان، ابن ماجة (2753).
(42) ... البخاري في الجهاد: باب أفضل الناس مجاهد بنفسه وماله (2787)، ومسلم (1878) واللفظ له.
(43) ... أبو داود (2541)، وابن ماجة (7292) وصححه الأرناؤوط في حاشية زاد المعاد (3/78).
(44) ... البخاري في الجهاد: باب درجات المجاهدين (2790)، وأحمد (2/335).
(45) ... مسلم: (1884)، والنسائي: (6/19-20).
(46) ... البخاري في الجمعة: باب المشي إلى الجمعة (907)، وأحمد (3/479).
(47) ... ابن ماجه: (2775) بسند حسن.
(48) ... البخاري في الجهاد: باب فضل رباط يوم في سبيل الله (2892).
(49) ... مسلم: (1913).
(50) ... قطعة من حديث رواه مسلم (1902)، وأحمد: (4/396).
(51) ... البخاري: (2887).
(52) ... "سير أعلام النبلاء":(2/23).(115/1456)
(53) ... المصدر السابق: (1/422).
(54) ... "صفة الصفوة": (1/468).
(55) ... "سير أعلام النبلاء": (1/375).
(56) ... "الجهاد" لابن المبارك: (1/88).
(57) ... "سير أعلام النبلاء": (1/319).
(58) ... "سير أعلام النبلاء": (2/34).
(59) ... البخاري: (2801).
(60) ... "سير أعلام النبلاء": (1/364).
(61) ... "سير أعلام النبلاء": (2/290).
(62) ... "سير أعلام النبلاء": (1/381). واللقلقة: الصوت الشديد المضطرب. والنقع: رفع الصوت وشق الجيب.
(63) ... بسان ملتاث: ثقيل بطيء في الكلام.
(64) ... الدَبَرة: النصر والغلبة.
(65) ... "صفة الصفوة": (1/466، 467).
(66) ... انظر "الطبقات الكبرى" لابن سعد: (1/232).
(67) ... غُبَّرات: الجماعة الباقية.
(68) ... الشخوص: المرتفعات.
(69) ... لا رحلة بي: ليس لديه بعير أو ظهر يرتحل عليه.
(70) ... قلائص: جمع قلوص وهي الناقة الشابة.
(71) ... "صفة الصفوة": (1/674-676).
(72) ... "صفة الصفوة": (4/421).
(73) ... "سير أعلام النبلاء": (3/499).
(74) ... "سير أعلام النبلاء": (3/498).
(75) ... المقصود هنا: أعظم الثمار وإلا فثمار الجهاد كثيرة كما مر بنا فيما سبق.
(76) ... "شريعة الإسلام في الجهاد": (ص31-32).
(77) ... "الزواجر عن اقتراف الكبائر" للهيتمي: (2/163).
(78) ... مسلم (1910).
(79) ... "عدة الصابرين": (ص121).
(80) ... "تفسير ابن كثير": (1/228)، وصحح الحديث ابن حبان (1667)، والحاكم: (2/275) ووافقه الذهبي.
(81) ... "أهمية الجهاد في نشر الدعوة الإسلامية" د. العلياني: (ص252).
(82) ... "الفتح الرباني" لترتيب مسند أحمد: (15/44) وقال المحقق الساعاتي: سنده جيد.
(83) ... انظر إلى ما ذاقه الهندوس على أيدي المجاهدين الكشميريين، وانظر كيف تحركت قوافل اليهود للهجرة من فلسطين بعد أن عرفوا أن القتل ليس من نصيب المسلمين وحدهم، وفي أفغانستان كيف دفعت الإمبراطورية الروسية ثمناً باهظاً لعدوانها على المسلمين تفككت على إثره وتحولت إلى أمة متسولة لا تكاد تجد قوتها،(115/1457)
ثم عادت لتدفع ثمناً غالياً لعدوانها على المسلمين في الشيشان. وفي البوسنة لما ولغ الكفار في دماء المسلمين وفرحت ملل الكفر بذلك لم يكبتوا ويكسروا إلا بعد نزول المجاهدين إلى أرض البوسنة.
(84) ... "شريعة الإسلام في الجهاد" للمودودي: (ص34).
(85) ... "في ظلال القرآن": (4/1941).
(86) ... "نزهة الفضلاء في تهذيب سير أعلام النبلاء": (1/242).
(87) ... رواه أبو داود في الملاحم: باب في تداعي الأمم على الإسلام: (4297)، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود: (3610).
(88) ... انظر الحديث: (ص54، 79).
(89) ... البخاري في التوحيد: (7460)، ومسلم: (1037).
(90) ... "مجموع الفتاوى": (28/358، 359).
(91) ... "مجموع الفتاوى": (28/259).
(92) ... هذا في جهاد الطلب، أما جهاد الدفع فإنه فرض عين على أهل البلد الذين يهاجمهم الكفار.
(93) ... "زاد المعاد": (3/72).
(94) ... "الفوائد": (ص59)، وقد مضى في (ص56) قول ابن المبارك والإمام أحمد رحمهما الله تعالى: "إذا اختلف الناس في شيء فانظروا ماذا عليه أهل الثغر فإن الحق معهم"، وعلى هذا فإن قوله تعالى: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا) يدخل تحته جهاد الهوى وجهاد الكفار بالسنان.
(95) ... "الاختيارات الفقهية": (ص309، 310).
(96) ... تقدم تخريجه.
(97) ... "فتح الباري": (6/29).
(98) ... المصدر نفسه: (6/30).
(99) ... "جامع الأصول": (2/580).
(100) ... "تفسير السعدي": (2/290).
(101) ... سبق تخريجه.
(102) ... "في ظلال القرآن" (3/1716-1717) باختصار.
(103) ... انظر تفاصيل هذه الأصول في رسالة "وقفات تربوية في ضوء سورة العصر" للمؤلف.
(104) ... "زاد المعاد": (3/10).
(105) ... البخاري: (1399، 1400)، ومسلم: (20).
(106) ... "سير أعلام النبلاء": (4/195).
(107) ... رواه مسلم: (1850).
(108) ... "البدع والنهي عنها" لابن وضاح: رقم الأثر (86) ص (75)، ت: عمر عبد المنعم.
(109) ... البخاري: (6502).
(110) ... "سير أعلام النبلاء": (6/121).(115/1458)
(111) ... البخاري (52)، ومسلم: (1599).
(112) ... انظر كلام شيخ الإسلام ابن تيمية: (ص57).
(113) ... "مجموع الفتاوى": (15/170).
(114) ... البخاري في الجهاد: باب من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا (2810)، مسلم (1904).
(115) ... أبو داود (2516) وحسنه الألباني في صحيح سنن أبي داود برقم: (2196).
(116) ... مسلم (1876).
(117) ... أبو داود (5123)، وضعفه الألباني في ضعيف سنن أبي داود (1096).
(118) ... "في ظلال القرآن": (1/144).
(119) ... البخاري: (123)، ومسلم: (1904).
(120) ... "في ظلال القرآن": (6/3288).
(121) ... "طريق الدعوة في ظلال القرآن": (ص361).
(122) ... ومما يدل على أن حياتنا ليست حياة من يعد نفسه للجهاد أنه لو طلب من بعضنا بذل ربع ماله أو عشره أو طلب منه الانتقال إلى بلد غير بلده لمصلحة الدعوة والجهاد لامتنع أو تردد وتلكأ. فكيف بما هو أكبر من ذلك كبذل النفس وهجر الأهل والأولاد والأوطان.
(123) ... تَفَنَّقوا: تنعموا؛ انظر: القاموس المحيط، مادة (فنق).
(124) ... "المقدمة" لابن خلدون: (ص138).
(125) ... "الجهاد في سبيل الله" (2/373)، د. عبد الله القادري.
(126) ... "في ظلال القرآن": (5/2217).
(127) ... البخاري: (4418)، ومسلم (2121)، وانظر: "الجهاد في سبيل الله" الدكتور/ عبد الله القادري (2/376).
(128) ... "الفوائد" لابن القيم: (ص94، 95) باختصار.
(129) ... "مدارج السالكين": (2/125).
(130) ... "الفوائد": (ص86، 87).
(131) ... انظر المنارة الثانية والعشرين من (منارات في الطريق) للمؤلف: (ص199).
(132) ... البخاري: (7405)، ومسلم: (2675).
(133) ... البخاري: (6307).
(134) ... مسلم: (2702).
(135) ... أبو داود: (4986)، وأحمد: (5/364) وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود: (4172).
(136) ... "في ظلال القرآن": (1/141،142) باختصار وتصرف يسيرين.
(137) ... البخاري: (7492)، ومسلم: (1151).
(138) ... مسلم: (746).
(139) ... البخاري: (3559)، ومسلم: (2321).(115/1459)
(140) ... أبو داود: (4798)، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود: (4013)، ورواه أحمد: (6/64).
(141) ... مسلم: (2609)، والبخاري في الأدب باب الحذر من الغضب.
(142) ... "مدارج السالكين": (2/308) ط. الفقي.
(143) ... البخاري: (6370).
(144) ... "في ظلال القرآن": (1/459).
(145) ... مسند أحمد: (5/183)، والترغيب والترهيب: (1/23)، وعزاه الألباني إلى الشافعي في مسنده وصحح إسناده، انظر "مشكاة المصابيح" الحديث (229).
(146) ... "مدارج السالكين": (2/319).
(147) ... مسلم في الإمارة باب كراهة الإمارة بغير ضرورة (1825).
(148) ... البخاري: (59).
(149) ... البخاري: (6497)، ومسلم: (143).
(150) ... "مجموع الفتاوى": (10/301).
(151) ... "في ظلال القرآن": (2/1105-1107) باختصار.
(152) ... "كيف ندعو إلى الإسلام": (ص 11-19) باختصار.
(153) ... "مجموع الفتاوى": (24/172).
(154) ... للتوسع في موضوع الصبر وما يتعلق به يمكن الرجوع إلى رسالة (وقفات تربوية في ضوء سورة العصر)، مبحث: "وتواصوا بالصبر" للمؤلف.
(155) ... "في ظلال القرآن": (1/551، 552).
(156) ... انظر "مدارج السالكين": (2/157).
(157) ... أكرر ما ذكرته سابقاً من أني لا أعني بذلك جهاد الدفع الذي يقوم به المجاهدون اليوم في ساحات الجهاد في أفغانستان والشيشان وكشمير وفلسطين وغيرها ضد المعتدين الكفرة؛ فهذا جهاد مشروع، ولكني أعني ما يقوم به بعض المتحمسين من جهاد الطلب في أماكن لم يتبين للناس فيها حقيقة المجاهدين، وحقيقة أعدائهم، مع ضعف في الاستعداد لذلك.
(158) ... "تفسير ابن كثير": عند الآية (رقم: 77) في سورة النساء.
(159) ... "في ظلال القرآن": (2/712، 713).
(160) ... "في ظلال القرآن": (2/713-715) باختصار شديد وتصرف.
(161) ... ورد هذا الجواب بلفظ مقارب في بيعة الأنصار البيعة الكبرى: انظر مسند أحمد: (3/460،462) وصحح إسناده الأرناؤوط في "زاد المعاد": (3/460).
(162) ... "كيف ندعو إلى الإسلام": (ص 14-23) باختصار.
(163) ... "منهاج السنة": (8/86-89).
(164) ... "الجهاد في سبيل الله": (2/347-349) باختصار.
(165) ... "في ظلال القرآن": (3/1577، 1578) باختصار.
(166) ... ومن ذلك ما ذكره ا بن كثير – رحمه الله تعالى – في "البداية والنهاية": (6/323) في ترجمة طليحة الأسدي بعد أن ذكر ردته وتنبأه بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "وأما طليحة فإنه راجع الإسلام بعد ذلك وذهب إلى مكة معتمراً(115/1460)
أيام الصديق واستحيا أن يواجهه مدة حياته وقد رجع فشهد القتال مع خالد. وكتب الصديق إلى خالد: أن استشره في الحرب ولا تؤمره – يعني معاملته بنقيض ما كان قصده من الرياسة في الباطن –وهذا من فقه الصديق رضي الله عليه عنه وأرضاه". ا.هـ.
(167) ... انظر "مجلة السنة" الأعداد: (31، 33، 35، 36، 37، 39، 41، 42) باختصار شديد وتصرف يسير.
(168) ... انظر نص الحديث في صحيح مسلم: (2664).
(169) ... رواه مسلم (917) في الإمارة، باب فضل الرمي والحث عليه.
ـــــــــــــــــــ
ضغط العمل يولد النجاح !
خالد روشه
28/1/1428
ارسل تعليقك ...
لا توجد تعليقات ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
Khaled_rousha@yahoo.com
قد يبدو العنوان كأنه جملة غير منطقية عند كثير من الناس إذ يمثل ضغط العمل سبيلا إلى عدم الإتقان بل والفشل في أداء الأعمال في بعض الأحيان .
وفي هذا العالم المتغير لا غرابة في أن يصبح العمل مصدرا رئيسيا للضغوط عموما , وفي مجال صحة الإنسان تمثل الضغوط نسبة كبيرة من مجموع الأمراض التي يعاني منها الناس كالنوبات القلبية وتجلط الدم وقرحة المعدة وتشنجات القولون وغيره .
نحن عادة نختار التحدي عندما نشعر بالآلام الناتجة عن ضغط العمل ولكن هذا التحدي رغم نجاحة لفترة وجيزة أننا نفاجأ بسقوط مدوٍ لهذا الجسد المتعب .
فكيف إذن وضعت ذلك العنوان ؟
لقد قصدت أنه لما كانت ضغوط الأعمال متكاثرة متراكمة على المرء عبر مسئوليته فهو بين خيارين اثنين , إما أن يجعل تراكم عمله وكثرة مسئوليته محبطا له و مؤلما على المستوى النفسي والجسدي , وإما أن يجعل ضغط العمل الذي يزاوله هو طريقه للنجاح في حياته عن طريق اتباع تعليمات منهجية دقيقة .
لقد قصدت أنه لما كانت ضغوط الأعمال متكاثرة متراكمة على المرء عبر مسئوليته فهو بين خيارين اثنين , إما أن يجعل تراكم عمله وكثرة مسئوليته مؤلما على المستوى النفسي والجسدي , وإما أن يجعله هو طريقه للنجاح في حياته
إن الضغوط تعبر عن نفسها بعدة طرق محددة : كثرة العمل بأكثر من الطاقة , أو سوء التوجيه ( كما يحدث مع الذين يعملون تحت إمرة مدير سيىء ) , أو أن تكون الوظيفة غير مناسبة لقدرات الموظف ومهاراته , أو أن تكون الوظيفة مناسبة ولكن تقهر الإنسان وتبتز صحته , أو أنه يعمل في أكثر من تخصص غير متوائم , أو أنه(115/1461)
يبذل جهده الكبير ولايجد تقديرا مناسبا لبذله فيظل يعمل تحت ضغط الإحباط وضغط العمل..
( إن الذين لا يشكون من أي نوع من هذه الشكاوى الخاصة بالعمل لا يهمهم بالطبع قراءة هذا المقال ) .
وأنا هنا معك في هذا المقال لأقدم لك بعض نصائح تعتبر خلاصة من تجارب الخبراء الذين اتخذوا من ضغوط أعمالهم سبيلا للنجاح والتقدم وأفلحوا في ذلك ..
أولا : تحديد الأولويات بكل دقة :
لا تكتب مجرد قائمة بالأشياء التي تنوي إنجازها كل يوم ، وإنما حدد هل كل منها أولوية عليا أم أسبقية اختيارية ، وبهذه الطريقة يمكنك أن تبدأ بالمهام الحيوية فقط ، وحينما تكون هناك عقبات تحول دون إنجاز قائمتك ، فهذا يعني تأجيل البنود الاختيارية فقط .
إننا دوما نقدم غير الهام على الهام وغير المفيد على المفيد, فتذهب الأوقات في الأمور غير الهامة وغير المفيدة, فنعود في آخر اليوم بالخسارة والانتكاس.
وقد قسم الإداريون الأعمال حسب أهميتها إلى أربعة أنواع هي ( أعمال هامة عاجلة , وأعمال هامة غير عاجلة , ثم أعمال غير هامة عاجلة , وأعمال غير هامة غير عاجلة )
فالأولوية يجب أن تكون دوما على جدولك للأعمال الهامة العاجلة , وثانيًا للأعمال الهامة غير العاجلة, وثالثًا للأعمال غير الهامة العاجلة, وأخيرًا للأعمال غير الهامة غير العاجلة.
وترتيب الأعمال بتلك الصورة ترتيب يجعلك تقوم بفعل أولوياتك الحقيقية بعيدًا عن توهم الأولوية للأعمال التي لا تستحق الجهد أو على الأقل لاتستحق أن تكون في مقدمة اهتماماتك .
فالمستوى الأول من الأعمال وهومستوى الأعمال الهامة العاجلة , وهي الأعمال التي تمثل صلب عملك , والتي تحسن إنجازها , كما أنها هي التي تكون مطلوبة منك على وجه عاجل سواء من رئيسك المباشر أو منك كمسئول في عمل ما , وهي تلك الأعمال التي لا يمكن تأخيرها عن موعدها أو الاعتذار عنها أو التفويض فيها وكذلك كل الأعمال التي سيترتب على غيابك عنها أو تأخرك عنها أو عدم إنجازك لها أو عدم تركيزك فيها ضرر ما
وقد قسم الإداريون الأعمال حسب أهميتها إلى أربعة أنواع هي ( أعمال هامة عاجلة , وأعمال هامة غير عاجلة , ثم أعمال غير هامة عاجلة , وأعمال غير هامة غير عاجلة )
وأما المستوى الثاني من الأعمال: فهو مستوى العمل الهام غير العاجل وهو يتمثل في مسئوليات الأعمال بشكل عام من حيث المتابعة والتدقيق لتحسين الكفاءة وتقويم الآداء وكذلك رسم الخطط وترتيب الأولويات وتحديد الإمكانيات وتنظيم الأوقات واختيار سبل ووسائل الوصول للأهداف التي قد سبق ووضعتها لنفسك سواء كانت أهدافا مرحلية أو أهدافا بعيدة , ويدخل في هذا المستوى حقوق نفسك ومن تعول(115/1462)
والمستوى الثالث من الأعمال: هو مستوى العمل غير الهام العاجل, وهو ذلك المستوى الذي يقدمه معظم الناس في أولوياتهم على أعمالهم الأخرى, وربما يتسبب ذلك في إرباك كبير في جدول أعمالهم , وهذا المستوى يحسن فيه استخدام التفويض في العمل بحيث ما أمكن أن يؤديه غيرك من أعمال هذا المستوى فلا تتردد فورا في تفويض أحدهم بذلك
وأما المستوى الرابع: فهو مستوى الأعمال غير الهامة غير العاجلة, ومكانها في مؤخرة الجدول ولا شك.
ثانيا : تعلم أن تدير ذاتك :
إدارة الذات من أهم احتياجات العصر , ويحتاجها الرجال البارزون دوما لاستمرار العطاء والنجاح , فكم من موهوب ضاعت موهبته وكم من مبدع فشل في تحقيق أمنيته لعدم قدرته على إدارة ذاته .
وأعني بإدارة الذات هنا البحث عن الوسائل التي بها تستطيع الوصول إلى إخراج أكبر قدرة إنتاجية من المستطاع عندك , وكذلك البحث عن كل الوسائل التي بها تستطيع أن تعلن عن نفسك وأن تتخطى الدرجات صاعدا فيها وأن تتغير دوما نحو الأفضل على كل المستويات , وأن تسير أعمالك ومهامك ومسئولياتك بسلاسة ويسر وانسجام معا مهما كانت الضغوط .
وتتمثل محاور إدارة الذات في عدة نقاط أساسية أهمها : ( القدرة على استغلال الوقت بأقصى طاقة , وإمكانية الإنجاز بأقل مجهود , واستثمار العلاقات في النجاحات المختلفة , وتنظيم الشئون الصغيرة والكبيرة , والقدرة على تقويم الإنجاز ومتابعته )
ثالثا : لا تهمل الحقوق الواجبة :
فالجسد هو آلة الإنجاز وبه العقل الذي يدير شئونه , وإهمال الجسد إهمال لآلة الإنتاج العقلي والنفسي والعلمي وغيره , ولذلك كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم " اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا وقواتنا أبدا ماأبقيتنا واجعله الوارث منا " , فلذلك لزمنا الاهتمام بصحة ذلك الجسد قدر استطاعتنا , والأجساد السليمة النشيطة المنتعشة يمكنها أن تنتج بصورة أفضل على أية حال , لذلك فاهتم بالآتي :
إدارة الذات من أهم احتياجات العصر , ويحتاجها الرجال البارزون دوما لاستمرار العطاء والنجاح , فكم من موهوب ضاعت موهبته وكم من مبدع فشل في تحقيق أمنيته لعدم قدرته على إدارة ذاته .
* الزم نفسك بالتمارين :
يقول البروفيسير بيتر هانسون أستاذ الصحة العامة :" اعتبرها ميعادا دائما غير مسموح الاعتذار عنه ، وبالتزامك بثلاث ساعات من التمارين أسبوعيا سوف تحافظ على صحتك وتعالج ضغوطك بشكل أفضل ، وإن كنت تعمل في مبنى به مدرجات يمكنك استخدامها في الصعود أو النزول أحيانا ، وأوقف سيارتك في أبعد مكان في موقف السيارات حتى تتيح لنفسك فرصة ممارسة رياضة المشي "
والنصائح الرياضية غير معاف منها أي أحد الكبير والصغير والشيخ والشاب لذلك فأرجوك أيها القارىء أن تنتظم في مواعيد رياضية تنشط فيها دورتك الدموية وتعيد(115/1463)
فيها الحيوية لأعضائك , واختر ما يناسبك من الأوقات لذلك .( على أن الخبراء قد رأوا أن أفضلها في بداية يومك )
• ألزم نفسك بلحظات استرخاء :
لحظات الاسترخاء هامة جدا لنا جميعا , حيث قد تعودت أدمغتنا ونفسياتنا دوما الإرهاق من كثرة الأعباء , فلا وقت نخلد فيه لأنفسنا ولا ساعة نتنفس فيها نفسا عميقا خاليا من القلق , إن دوام شعورنا بالقلق والانتباه طوال فترات العمل التي تستغرق معظم الأوقات قد يصيبنا بغيبوبة غير محسوسة , يلزمنا الاسترخاء البعيد عن التفكير فيما يقلق , وليس لذلك وقت معين ,. بل اختر ما يناسبك
• استخدم أفضل أنواع الوقود :
يقول بيتر هانسون : " كما تستخدم سيارات أفضل أنواع الوقود ، كذلك أنت ، لا يمكنك أداء أعمالك بشكل أفضل وأنت تتناول وجبات غذائية تفتقر للعناصر المطلوبة أو أي نوع من الأطعمة المفترة أو الغير مفيدة كن دوما كالقاعدة القديمة لبرامج الكمبيوتر : " إذا أدخلت نفايات سوف تخرج نفايات " وينطبق على هذا جسمك أيضا " ..ولك أن تراجع نصائح أطباء ومختصي الأغذية في ذلك المجال
كذلك لا تهمل واجبك كزوج أو رب أسرة أو والد واعلم أن الدقائق التي تقضيها في تأدية هذا الدور محتسبا لله سبحانه يكون لها أكبر الأثر على نجاحاتك , وأحذرك أن تهمل أدوارك هذه بحجة العمل أو ضغوطه , إن النجاح لابد أن يمر عبر هذه الأدوار أيضا , فما قيمة أن تكون ناجحا في مسئولياتك ,فاشلا في دورك وواجباتك كأب أو زوج أو ابن .. تأمل إنها منقصة
رابعا : الحذر من إهمال القلب !
كثيرون في غفلة الحياة ورتابة دورتها وكثرة الضواغط يهملون تجلية قلوبهم وترقيقها وتصفية نفوسهم وتزكيتها , وقد يقع في ذلك دعاة وربما علماء , فقد يغفلون بكثرة مشاغلهم عن مراقبة دواخلهم , وهي أزمة كبيرة وخطر داهم يجب الحذر منه , فالنجاح الحقيقي دوما يرتبط بالقدرة على فعل ما يقرب إلى الله سبحانه , وأي إنجاز نتكلم عنه لا يستحق أن يكون إنجازا إلا إذا كان في سيبل المقاصد النبيلة التي تنتهي إلى رضا الله سبحانه .
وليحذر كل منا من ظواهر الأعمال التي لم يصل أثرها إلى قلوبنا , يقول الإمام ابن القيم : "فبين العمل وبين القلب مسافة, وفي تلك المسافة قُطَّاع تمنع وصول العمل إلى القلب, فيكون الرجل كثير العمل, وما وصل منه إلى قلبه محبة ولا خوف ولا رجاء, ولا زهد في الدنيا, ولا رغبة في الآخرة, ولا نور يفرق بين أولياء الله وأعدائه, وبين الحق والباطل, ولا قوة في أمره, فلو وصل أثر الأعمال إلى قلبه؛ لاستنار وأشرق, ورأى الحق والباطل, وميز بين أولياء الله وأعدائه"
-------------------------
أهم المراجع :
1- STRESS FOR SUCCESS ..DR. PETER HANSON
2- مدارج السالكين للإمام:ابن قيم الجوزية - رحمه الله(115/1464)
ـــــــــــــــــــ
ترويض الألم
خالد روشه
19/1/1428
ارسل تعليقك ...
تعليقات سابقة ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
Khaled_rousha@yahoo.com
" صرخة دفاع عن النفس تنطلق من عضو مصاب ماديا أو معنويا , يدفع بها عن نفسه ما يشعر به من تغير غير طبيعي نحو مايراه أنه الأسوأ في لحظة من لحظات حياته " .. ذلكم هو الألم
كل الناس يتألمون في لحظة من لحظات حياتهم , وبينما يفارق الألم بعضهم في أوقات , تراه يلاصق آخرين لأيام وربما سنوات , ومن الناس من يسكنهم الألم أبدا , ومنهم من يرى حياته كلها ألما وعذابات , ومنهم من سكن للألم وسكن الألم فيه حتى صارا كلا واحدا يتحرك ويحيا.
والألم قد يسبب القعود عن المعالي والركون إلى المقدور , وبالتهديد بالألم رجع كثير من السائرين عن دروبهم خوفا , وتنكب الحادون إلى طموحهم رعبا ووجلا
والضعفاء يسقطون مع أول وخزة للألم في طريقهم وينهارون مع أول هجماته عليهم فتراهم يعلنون الهزيمة لمجرد رؤية العدو.
والألم جابّ للفرح وناسخ للسعادة وماح للغمرة , وفي الحديث يؤتى بأنعم أهل الدنيا يوم القيامة فيغمس في النار غمسة واحده ثم يسأل هل رأيت نعيما قط ؟ هل مر بك خير قط ؟ فيقول والله ما رأيت نعيما قط ولا مر بي خير قط !!
وليس الألم كله شرا بل قد يكون الخير في الألم , إذ به يعود الغارب عن الصواب , ويؤوب به الغائب عن اللُغَاب , فكم من غافل ذكّره الألمُ فذكر , وكم من طاغ علمه الألمُ الأدب
وليس الألم كله شرا بل قد يكون الخير في الألم , إذ به يعود الغارب عن الصواب , ويؤوب به الغائب عن اللُغَاب , فكم من غافل ذكّره الألمُ فذكر , وكم من طاغ علمه الألمُ الأدب .
وحكمة الله سبحانه أن يكون الألم عدلا , وحكمة , وصلاحا للدنيا , وتسييرا لنواميس الكون الرحيبة , فالشر ليس إليه سبحانه , إذ ينظر الكثيرون للألم كشر محض , ولكنه سبحانه قدّر أن يكفر بالألم عن ذنوب المذنبين , ويرفع به درجات الآيبين , فلكأنما لسان حال المتألم العالم ببواطن الحقيقة أن يقول : هلم إلي أيها الألم الصديق !
يقول النبي صلى الله عليه وسلم " ما يصيب المؤمن من نصب ولا وصب ولاهم ولاحزن ولا أذى حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه " أخرجه مسلم
فأحيانا تستعصي التوبة على المرء ويتجمد قلبه تجاه الاستغفار , وبينما هو يظن الهلكة , إذ يأتيه الألم فيرقق قلبه ويدمع عينه ويؤيبه إلى ربه .(115/1465)
والألم هو دواء من افتقد التواضع وشق عليه سياسة نفسه لمّا تتكبر , فإنما هي جرعة من ألم مركزة حتى يصير العزيز ذليلا , والمستكبر متواضعا , والمترفع خاشعا .
ولست بحديثي هذا أمتدح الألم ولا أراه مرغوبا فيه بحال , فقد تعوذ منه النبي صلى الله عليه وسلم أن يصيب المؤمنين , ولما رقى قال " أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما يجد ويحاذر " كما قال في الصحيح " اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن ومن العجز والكسل ومن الجبن والبخل والهرم ومن غلبة الدين وقهر الرجال " رواه البخاري , وكل ما استعاذ منه النبي صلى الله عليه وسلم موجب من موجبات الألم .
ولكنني وددت لو رحنا في رحلة بين دروب الألم ومداراته , لنتعرف عليه عن قرب , فنقتل فينا الخوف منه , وننتصر عليه في أنفسنا وحياتنا ..
فالألم موجود في الحياة وهو قرين لها ولن يفارقها حتى تقوم الساعة , وأيضا عندئذ هو لا يفارق الجميع , فأهل الجنة بلا ألم ولاحزن وأول دعواهم عند دخولها " الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن " وأهل النار يجمعهم الألم وتعلو بهم صيحاته " وهم يصطرخون فيها ربنا أخرجنا نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل " ويقول سبحانه " كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب " .
ولكنه سبحانه قدّر أن يكفر بالألم عن ذنوب المذنبين , ويرفع به درجات الآيبين , فلكأنما لسان حال المتألم العالم ببواطن الحقيقة أن يقول : هلم إلي أيها الألم الصديق !
* * والله سبحانه قد علم الصالحين سبيل الانتصار على الألم وبين لهم كيفية إيقاف مفعولة وإماتة أثره :
أولا : ضرورة النجاح في الاختبار:
إذ يقول سبحانه " أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين " , فسنة الابتلاء حاصلة والمؤمن يدرك ذلك ويستعد له , والابتلاء مداره الألم , سواء كان ابتلاء في جسده أو في ماله أو في محباته , فمن اجتاز الاختبار فصبر في البلاء ورضي بالقضاء وأحسن القول لحظة الوجع فقد اجتاز المحنة وتلقفته – بحنانها - المنحة .
ثانيا : الصلابة في أول الألم :
أشد الألم أوله , وأشقه على النفس بداياته , ففي بداياته يسقط الضعفاء وينهار المكسورون , لذا كان أمر النبي صلى الله عليه وسلم للمؤمنين أن يصبروا أشد الصبر عند النزلة الأولى فقال للمرآة التي تتألم بموت ولدها " إنما الصبر عند الصدمة الأولى " رواه مسلم , ويوم أن نصح الناصح الإمام أحمد في الصبر على ضرب السوط قال له : اصبر فإنما هي الضربة الأولى وبعدها يستوى كل شىء .
ثالثا : قيْدُ الألفاظ وحَكُومة اللسان :
أخطر السقطات عند الألم أول لفظة , فمن تحكم فيها ولم يقل إلا خيرا فقد خطى أول خطوات الانتصار على الألم , ومن زل فيها فقد سقط في هوة سحيقة , لذا علم النبي صلى الله عليه وسلم أن نضبط اللسان عند المصائب والآلام ويوم أصابه مصاب ولده قال " إن العين لتدمع وإن القلب ليحزن ولا نقول ما يغضب الرب " , بل علم أن من أصابه ألم فاسترجع وسأل الله العاقبة فيه أجره فيه وأبدله خيرا منه إذ يقول : "ما من(115/1466)
عبدٍ تصيبه مصيبة فيقول: إنا لله وإنا إليه راجعون اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيراً منها, إلا آجره الله في مصيبته، وأخلف له خيراً منها " أخرجه مسلم
رابعا : احتساب الألم :
إنه هو العلاج الناجع الفتاك الذي لا يبقى للألم أثرا يذكر في الحقيقة وإن بدا أثره في بعض الظواهر , إنه الاحتساب , حيث يسأل المتألم ربه أن يثيبه بألمه ثوابا وأن يكفر عنه به ذنبه وأن يرفع به درجته وأن يغفر به ذلته ,فهو عندئذ يرى الألم بلون آخر وقد يتمني بعضهم أن يطول به ألمه ليزيد ثوابه وأجره , وآخرون فاقوا هؤلاء فاصطحبوا الرضا بقضاء ربهم واستقرت نفوسهم لمصابه , فلكأنما المؤمن الراضي إذ يحتسب ألمه فيحسن احتسابه , متجرع كأسا على لذة غامرة .
إنها مناجاة تحصل بين صاحب الألم وربه سبحانه , يشكو له فيها مما يجد , ويبث له ما يشعر , حيث الرحمة الغامرة , والسكينة العامرة , والثواب الجزيل .
وهي لذة لا يشعرها من الناس إلا المحتسبون ولا يدرك حلاوتها إلا المحبون , فيفهم عندئذ مقولة بلال عند موته " أخنق خنقك والله إني لأحبك " , ومقولة حرام بن ملحان وقد شق رأسه " فزت ورب الكعبة " , ومقولة أبي بكر يوم قالوا له يراك الطبيب فقال " قد رآني الطبيب فقال إني فعال لما أريد" , ولقد زرت أحد أساتذتي الذين علموني – وهو الشيخ عصام الشريف رحمه الله - في مرض موته , فنصحنا وقال إعلموا أنه لايصبر على الألم الشديد إلا من كان محبا صادقا لربه
خامسا : لاشكوى إلا لله
ومما يقتل الألم قلة الشكوى , والعاقل الحكيم لايشكو إلا للقادر العليم , ومن يقدر على ذلك إلا الله وحده؟ فيفعل مثلما فعل ابن سيرين ينصح ولده فيقول له يا بني لا تشكو للناس شيئا فوالله لقد ذهبت إحدى عيني منذ عشرين عاما ولم يعلم بها أحدا أبدا إلا أنت الآن لأعلّمك !
إنها مناجاة تحصل بين صاحب الألم وربه سبحانه , يشكو له فيها مما يجد , ويبث له ما يشعر , حيث الرحمة الغامرة , والسكينة العامرة , والثواب الجزيل .
ـــــــــــــــــــ
ثلاث خطوات .. تخلية وتطهير وتحلية ..
همام عبد المعبود
14/1/1428
ارسل تعليقك ...
لا توجد تعليقات ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
عندما نتحدث عن"التربية الإسلامية"، فإننا نعني بها ذلك المنهج الذي تحوي مجموعة القواعد والمبادئ التي وضعها الإسلام، في القرآن الكريم، والسنة النبوية المطهرة، لتصحيح معتقدات، وتهذيب أخلاقيات، وتقويم سلوكيات، المسلمين، ذكوراً و إناثاً، شباباً وشيبة، أطفالاً ورجالاً.(115/1467)
والنظرية الإسلامية في التربية، سبقت كل النظريات الغربية، فهي ليست حديثة عهد، وإنما هي قديمة قدم الرسالة
ومنهج التربية في الإسلام يقوم على ثلاثة محاور: أولها: المحور العقدي، وثانيها: المحور الخلقي، وثالثاً: المحور السلوكي، ولكل محور من هذه المحاور قواعد وأصول، وقد ربى رسول الله صلى الله عليه وسلم، أصحابه، تربية شاملة كاملة، فاهتم بتصحيح عقائدهم، وتهذيب أخلاقهم، وتقويم سلوكهم، فاستحقوا وصف من وصفهم فقال "جيل قرآني فريد" , ونحاول أن نتحدث هنا حول تلك المحاور الثلاثة من وجهة نظر تطبيقية عملية ..
أولاً: التربية العقدية:
فعلى الرغم من أن الإسلام؛ عقائد، وعبادات، ومعاملات، وأخلاقيات، وحدود،إلا أن الرسول صلى الله عليه وسلم، ركز في الفترة المكية، وعلى مدى 13 سنة، على إصلاح منظومة العقيدة، فكانت شغله الشاغل، وكان شعار المرحلة الذي ظل يرفعه طوال هذه السنوات هو:( قولوا لا إله إلا الله تفلحوا).
وقد ربى رسول الله صلى الله عليه وسلم، أصحابه، تربية شاملة كاملة، فاهتم بتصحيح عقائدهم، وتهذيب أخلاقهم، وتقويم سلوكهم، فاستحقوا وصف من وصفهم فقال "جيل قرآني فريد" , ونحاول أن نتحدث هنا حول تلك المحاور الثلاثة من وجهة نظر تطبيقية عملية
ولما كان الكفر والإيمان لا يستقران في قلب واحد، فقد أعلم الله الراغبين في الدخول إلى الإسلام بضرورة تفريغ القلب مما شابه من معتقدات باطلة، وذلك ليكون مؤهلاً لاستقبال الحق، قال تعالى: "لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ". {البقرة- 256}.
فقد كان الشرك متمكناً في قلوبهم، مستفحلاً في أخلاقهم، متفشياً في سلوكهم، ولذلك نجد القرآن المكي الذي مثل 86 سورة من بين 114 سورة قرآنية هي مجموع سور القرآن الكريم هي سور مكية
وللقرآن المكي خصائص أسلوبية، وأخرى موضوعية، فأما الأسلوبية، فيمكن حصرها في: قصر أكثر آياته وسوره، وكثرة أسلوب التأكيد ووسائل التقرير كالإكثار من القسم وضرب الأمثال، والتشبيه.
أما الخصائص الموضوعية ففد تركزت في: تقرير أسس العقيدة ودعوة الناس جميعًا إلى توحيد الله تعالى وإفراده بالعبادة، والتأكيد على بعث الأجساد مع أرواحها بعد الموت للحساب، وذكر قصص الأنبياء والأمم الخالية ودعوة الناس إلى الاعتبار بهم، ومحاجة المشركين ومجادلتهم وإقامة الحجة عليهم، والدعوة إلى أصول التشريعات العامة والآداب والفضائل لاسيما ما يتعلق منها بحفظ الدين والنفس والمال والعقل والنسب وهي الكليات الخمس التي تتفق فيها جميع الشرائع.
وقد جاء القرآن المكي ليرسي قواعد الإيمان بالله عز وجل في قلوب الصحابة، وليتأكد من خلو قلوبهم من الشرك والكفر، ظاهره وباطنه، وليبني في نفوسهم دولة العقيدة الصحيحة، وليشدد على أن الأمر كله بيد الله، فهو سبحانه الفاعل المطلق في(115/1468)
الكون كله، يفعل ما يشاء، متى شاء، وكيف شاء، بمن شاء، فهو سبحانه خلق الأشياء.
وقد حفلت كتب السيرة بالعديد من المواقف التربوية، العقدية،التطبيقية فعَنْ ابن عباس رَسُول اللَّهِ قَالَ: كنت خلف النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم يوما فقَالَ: يا غلام إني أعلمك كلمات: احفظ اللَّه يحفظك، احفظ اللَّه تجده تجاهك، إذا سألت فسأل اللَّه، وإذا استعنت فاستعَنْ باللَّه، واعلم أن الأمة لو اجتمعت عَلَى أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه اللَّه لك، وإن اجتمعوا عَلَى أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه اللَّه عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف. (رواه الْتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صحيح).
فإن التربية الإسلامية للعبد المسلم، بجوانبها الثلاثة، عقائدية و خلقية وسلوكية، جديرة بأن تصحح عقائد المسلم، وتهذب أخلاقه، وتضبط سلوكه، وتقيمه على الطريق القويم، وبإمكانها أن تخلق منه إنسانا آخر،
والناظر إلى هذا الحديث الجامع ليجد أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم كان يربي الغلمان والأشبال الصغار على أصول العقيدة، وكان يصحح لهم عقائدهم، ويغرس في نفوسهم أن النافع والضار هو الله، وأن المعطي والمانع هو الله، فما شب هؤلاء الغلمان صاروا رجالاً أقام عليهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم دولة الإسلام.
ثانياً: التربية الخلقية:
المحور الثاني من محاور النظرية التربوية في الإسلام، هو الجانب الأخلاقي، فعن أبي عبد الرحمن معاذ بن جبل رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم أنه قَالَ: اتق اللَّه حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن. (رواه الْتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ).
من الثابت عند علماء النفس، وأساتذة التربية، أن مسألة تغيير أو تعديل الأخلاق، من أصعب العمليات على الإطلاق، فضلاً عن أن المحاولة ليست مضمونة النتائج، مأمونة العواقب.
فمن عاش 30 سنة مثلاً، وهو يكذب، أو يغش، أو يخون، أو يغدر، أو ....إلخ فكيف يمكن أن يتحول بين عشية وضحاها، صادقاً، أو أميناَ، أو وفياً، أو ....إلخ؟!!، المسألة جد عسيرة، ولو لم يكون من الله للمرء عون، فلن ينصلح حاله، أو تستقيم أخلاقه.
وقد وضع الإسلام منهجاً لتغيير الأخلاق، يقوم على مراحل ثلاث:-
أ ) مرحلة التخلية: وهي مرحلة "تفريغ" الخلق السيئ، أو التخلص من الأخلاق الرديئة، والمقصود بها إخلاء القلب مما علق به من أدران وعلل وسوء خلق، وهي تحتاج أول ما تحتاج إلى اعتراف ورغبة وإرادة؛ اعتراف بأن أقتنيه بين جنباتي من خلق مخالف لتعاليم الإسلام، ومغاير لما جاء به رسولي صلى الله عليه وسلم، ورغبة في التغيير و الإنصلاح والتحول للأحسن، وإرادة وعزيمة قويين لمواجهة جموح النفس ورغبتها في الاستمرار على ما هي عليه: وقد بين القرآن ذلك أيما بيان فقال تعالى: (....إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ.,....) {الرعد-11}.
ب ) مرحلة التطهير: وهي أصعب المراحل الثلاث، إذ أنها مرحلة انتقالية بين الشر والخير، وهي تعقب مرحلة التخلية، وهي مرحلة تحتاج إلى جهاد للنفس، وعزيمة(115/1469)
شديدة، وإرادة صلبة، لمقاومة نزعات النفس، ونزغات الشيطان، والتسويل للنفس بأنه لا فائدة من العودة الآن بعد كل هذه السنين الطوال من الكذب والغش والخداع والخيانة والغدر، وفيها يصطرع جانب الخير والشر داخل الإنسان ولأيهما كان أقرب راح.
ت ) مرحلة التحلية: وهي المرحلة الثالثة والأخيرة من مراحل التربية، وفيها يتم تعبئة النفس، وملأها بالخير، فمن كان كذاباً يعود نفسه على الصدق ويحملها عليه، ومن كان خائناً يعود نفسه على الأمانة ويحملها عليه حملاً، وما أجمل ما قاله الإمام ابن القيم:"من أراد أن يتخلق فليتصنع"، لأن الخُلق الحسن إما أن يكون الإنسان مجبولاً ومفطوراً عليه أو أن يكون مكتسباً، وتصنع الخلق الحسن هو حمل النفس وتربيتها ومجاهدتها على اكتسابه، وقد يكون "الرياء مركبة الإخلاص" كما قال الإمام ابن القيم رحمه الله.
ثالثا: التربية السلوكية:
المقصود بالسلوك: هو ما يسلكه الإنسان من طريقة أو منهج في التعامل مع الناس، وقد تميزت النظرية الإسلامية عن غيرها من النظريات التربوية الغربية بأنها ربطت القول بالعمل، وقرنت السلوك بالإيمان، وجعلت العمل والإيمان وجهان لعملة واحدة.
عن أبي عمرو سفيان بن عبد الله الثقفي، رضي الله عنه قال: قلت: "يا رسول الله، قل لي في الإسلام قولا، لا أسأل عنه أحدا غيرك". قال: (قل آمنت بالله، ثم استقم) رواه مسلم في صحيحه.
وقد بين سبحانه وتعالى أن الذي يسير وفق منهج الله يكون آمنا في حياته، لأن الإيمان ينير له طريقه، قال تعالى: { أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها } ( الأنعام : 122 )، فالنور الإيماني يملأ جنبات روحه، فيشرق منها القلب، وتسمو بها الروح، ويعرف بها المرء حقيقة الإيمان ومذاقه.
وعندما يذوق الإنسان حلاوة الإيمان، وتتمكن جذوره من قلبه، فإنه يكون قادرا على الثبات على الحق، ومواصلة المسير، حتى يلقى ربّه وهو راض عنه، ثم إن ذلك الإيمان يثمر له العمل الصالح، فلا إيمان بلا عمل، فرتّب الرسول صلى الله عليه وسلم الاستقامة على الإيمان.
وختاماً؛
فإن التربية الإسلامية للعبد المسلم، بجوانبها الثلاثة، عقائدية و خلقية وسلوكية، جديرة بأن تصحح عقائد المسلم، وتهذب أخلاقه، وتضبط سلوكه، وتقيمه على الطريق القويم، وبإمكانها أن تخلق منه إنسانا آخر، سليم العقيدة، متين الأخلاق، سوي السلوك.
ويبقى الإسلام متفرداً في كون منهجه في التربية صالحاً للتطبيق في كل زمان ومكان، فضلاً عن أنه يضع في حسبانه حال الإنسان الذي يخضع للبرنامج، وسنه ( صغير أم كبير)، وحالته التعليمية (متعلم أم أمي )، وجنسه ( ذكر أم أنثى)، وسبحان الله الخالق الذي يعلم ما ينفعنا وما يضرنا، قال تعالى: "وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ* أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ".(115/1470)
سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم؛
ـــــــــــــــــــ
صراع النفس والمعصية ..قصة نجاح
محمد فهمي
6/1/1427
ارسل تعليقك ...
لا توجد تعليقات ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
هذه القصة هي قصة نجاح يحتاج إليه كل منّا حين تواجهه معصية من معاصي السر أو العلانية؛ كيف يواجهها, كيف يفكّر حين تلح عليه، كيف يحصّن نفسه، كيف يتغلب عليها.
المواجهة مع المعصية والانتصار عليها في بعض الأحيان تكون صعبة، لكنها مع معصية السر تكون لدى بعض الناس أشد صعوبة، وحين نتأمل في هذه القصة نجد أن هناك قوة عظيمة حين يمتلكها القلب ينجح في التغلب على دواعي المعصية، وطردها والانتصار عليها.
والقصة متكررة، ولها أبطال كثيرون، وبعضهم معروفون، لكن أحداثها متشابهة، تبدأ من الإثارة التي يواجهها رجل من امرأة بلغت أعلى مراتب الفتنة، من جمال يثير الرغبة، ومال وجاه تهفو إليه النفس، وفوق ذلك هي التي تدعوه إلى نفسها, فأتاحت جميع السبل المحرمة أمام هذا الرجل لإشباع شهوته، وسقطت كل الحواجز بينه وبين المعصية، إلا حاجز واحد حال بينه وبين السقوط، ألا وهو خشية الله تعالى والخوف منه, فقال لها "إني أخاف الله" رواه البخاري ومسلم.
هذه القصة هي قصة نجاح يحتاج إليه كل منّا حين تواجهه معصية من معاصي السر أو العلانية؛ كيف يواجهها, كيف يفكّر حين تلح عليه، كيف يحصّن نفسه، كيف يتغلب عليها.
كيف نجح مثل هذا الرجل؟ وما السر وراء ثباته أمام فتنة كهذه؟ أهي تلك الكلمة التي قالها "إني أخاف الله"؟ لا يمكن أن يكون الموضوع بهذه السهولة، فكم من الناس لو سألته هل تخاف الله؟ لقال نعم! لكنه ساقط في كثير من المعاصي، لاسيما معاصي السر.
ثبات مثل هذا الرجل وراءه شيء آخر أكبر من مجرد قوله: "إني أخاف الله"، فقوله "إني أخاف الله" هو نتيجة لعملية كبيرة دارت في نفسه، قام فيها صراع بين داعي الهوى، وتزيين الشيطان، وقوة الفتنة، وثورة الشهوة، وبين ما رسخ في قلب هذا الرجل من خشية الله عز وجل، انتصر فيه هذا الرجل من داخله على كل ذلك رافضاً عرض تلك المرأة الفاجرة، فالله تعالى يراه، ويعلم سره كما يعلم علانيته، وهو يحب ربه عز وجل فكيف يرتكب المعصية، كيف يتجرأ على الله تعالى ولا يخاف غضبه(115/1471)
وعقابه، فكانت النتيجة نجاحاً عظيماً في هذا الابتلاء, نطق به لسانه مُنهياً هجوم المعصية عليه فقال: "إني أخاف الله".
وهذا ما نبحث عنه ونريده، خشية الله تعالى في القلب، فخشية الله هي الوقاية من تلك المعاصي التي كثرت دواعيها ليل نهار، وهي الدواء لتلك المعاصي التي تصيب القلب أحياناً، من نفاق أو رياء أو عُجب أو كبر، أو تلك التي تتجرأ عليها الأبصار أو الألسنة أو الأيدي أو الأرجل خفية أو علانية، من ترك واجب، أو ارتكاب فاحشة، أو نظر إلى محرّم، أو غيبة ونميمة، أو غش، أو خيانة، أو تجسس، أو تعد خفي على حقوق الناس، أو اختلاس من أموالهم، أو غير ذلك من معاصي السر والعلانية.
المعصية تجد فرصتها للظهور حين تقوى دواعي الهوى، وتثور شهوات النفس ونزاواتها، ويشتد تزيين الشيطان، وتخلو النفس حينها من ذكر أو عمل صالح أو ممارسة نافعة؛ وتضعف في القلب خشية الله تعالى التي هي سلاح المجاهدة، قال إبراهيم الخواص: "أول الذنب الخطرة، فإن تداركها صاحبها بالكراهية وإلا صارت معارضة، فإن تداركها صاحبها بالرد وإلا صارت وسوسة، فإن تداركها صاحبها بالمجاهدة وإلا هاج منها الشهوة مع طلب الهوى فغطّى العلم والعقل والبيان" مداواة النفوس، ص 19.
وللنفس أحوال مع المنكرات، تتوقف على نتيجة المدافعة بين خشية الله في القلب ودواعي المعصية، فأيهما كان له حضور قوي في القلب كانت له الغلبة والانتصار, ومن هنا يتضج مدى حاجة النفس إلى الخشية من الله تعالى في دفع المنكرات، ومدى الخطر الكبير من ضعفها، فضعف الخشية فرصة للشيطان يتسلل منه إلى النفس، فيزين لها المنكرات، ويجرئها على فعل المعصية، حتى تحمل الأوزار والسيئات، قال المناوي: "بقدر قلّة الخوف يكون الهجوم على المعاصي، فإذا قلَّ الخوف جداً واستولت الغفلة؛ كان ذلك من علامة الشقاء، ومن ثم قالوا: المعاصي بريد الكفر" فيض القدير، رقم 1505.
كيف نجح مثل هذا الرجل؟ وما السر وراء ثباته أمام فتنة كهذه؟ أهي تلك الكلمة التي قالها: "إني أخاف الله"؟ لا يمكن أن يكون الموضوع بهذه السهولة، فكم من الناس لو سألته هل تخاف الله؟ لقال نعم! لكنه ساقط في كثير من المعاصي، لا سيما معاصي السر.
ولا يقتصر خطر ضعف الخشية من الله تعالى على إعطاء الفرصة للمعصية لتنتصر على النفس، بل هذا السقوط في صراع المعصية يضر بما للنفس من رصيد الحسنات، فعن ثوبان رضي الله عنه قال عليه الصلاة والسلام: "لأعلمن أقواماً من أمتي يأتون يوم القيامة بحسنات أمثال جبال تهامة بيضا, فيجعلها الله عز وجل هباء منثوراً. قال ثوبان: يا رسول الله، صفهم لنا جلهم لنا أن لا نكون منهم ونحن لا نعلم! قال: أما إنهم إخوانكم ومن جلدتكم, ويأخذون من الليل كما تأخذون, ولكنهم أقوام إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها" سنن ابن ماجه.
وإذا كان ضعف الخشية من الله تعالى داء، فخير دواء للمعاصي، معاصي السر ومعاصي العلانية، هو زيادة قوة الخشية من الله تعالى في القلب، قال في فيض(115/1472)
القدير: "القلب إذا امتلأ من الخوف أحجمت الأعضاء جميعها عن ارتكاب المعاصي" رقم 1505.
ودواء الخشية مركب من عنصرين؛ من الخوف الذي يأتي من تذكير النفس بالعقوبة، والتفكر فيما توعّد الله تعالى به العاصين في الدنيا والآخر، وأخذ العبرة ممن نزل بهم عقاب الله تعالى، كفرعون الذي قال الله تعالى فيه: "فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى" [النازعات : 25]، قال عز وجل بعد أن ذكر ما وقع بفرعون من العذاب: "إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يَخْشَى" [النازعات : 26].
فإن أُضيف إلى هذا الخوف العنصر الآخر، وهو المعرفة بما لله تعالى من صفات تثير في القلب محبته سبحانه ومحبة طاعته، وصفات تنبه القلب إلى ما يستحقه عز وجل من إجلال وتوقير، وما يتصف به سبحانه من صفات تورث في القلب الحياء كصفة السمع والبصر والعلم، وما يتصف به سبحانه من صفات تثير الوجل كصفة القوة والغضب والعدل، مع المعرفة بآثار الذنوب والمعاصي القبيحة وأضرارها في الدنيا والآخرة؛ صار الخوف خشية، وكان علاجاً للمعاصي نافعاً ودواء واقياً بإذن الله تعالى.
فالخشية "خوف مقرون بمعرفة... وعلى قدر العلم والمعرفة يكون الخوف والخشية كما قال النبي: "إني لأعلمكم بالله وأشدكم له خشية" وفى رواية "خوفاً". فصاحب الخوف: يلتجئ إلى الهرب والإمساك، وصاحب الخشية: يلتجئ إلى الاعتصام بالعلم، ومثلهما مثل من لا علم له بالطب ومثل الطبيب الحاذق، فالأول يلتجئ إلى الحمية والهرب، والطبيب يلتجئ إلى معرفته بالأدوية والأدواء" (مدارج السالكين، ج 1، ص 512، 513).
المعصية تجد فرصتها للظهور حين تقوى دواعي الهوى، وتثور شهوات النفس ونزاواتها، ويشتد تزيين الشيطان، وتخلو النفس حينها من ذكر أو عمل صالح أو ممارسة نافعة؛
قال الله تعالى: "... إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ" [فاطر : 28 ]؛ "أي إنما يخشاه حق خشيته العلماء العارفون به, لأنه كلما كانت المعرفة للعظيم القدير العليم الموصوف بصفات الكمال المنعوت بالأسماء الحسنى كلما كانت المعرفة به أتم، والعلم به أكمل؛ كانت الخشية له أعظم وأكثر" تفسير ابن كثير.
وقد رتّب الله عز وجل حصول الخشية في القلب على معرفة الله عز وجل، إذ قال تعالى فيما وصى به موسى عليه السلام ليقوله لفرعون: "وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى" [النازعات : 19]؛ " أي أرشدك إلى عبادته وتوحيده فتخشى عقابه، والفاء لترتيب الخشية على الهداية، لأن الخشية لا تكون إلا من مهتد راشد" تفسير فتح القدير, للشوكاني، وأخرج ابن أبي شيبة عن حذيفة قال: "بحسب المؤمن من العلم أن يخشى الله".
وكان الرسول عليه الصلاة والسلام يدعو الله تعالى أن يرزقه خشيته في السر والعلانية، مع أنه عليه الصلاة والسلام أخشى الناس وأتقاهم، فعن عمار بن ياسر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو فيقول: "اللهم بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق ... وأسألك خشيتك في الغيب والشهادة ..." سنن النسائي.(115/1473)
وربما لا تخلو مجاهدة النفس في ترك معصية السر أو معصية العلن من سقطات، ودواؤها حينئذ التوبة والاستغفار، فالتوبة هي الدواء الذي أوصى به رسول الله عليه الصلاة والسلام، فعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: "قلت: يا رسول الله، أوصني! قال: عليك بتقوى الله ما استطعت، واذكر الله عند كل حجر وشجر، وما عملتَ من سوء فأحْدِث له توبة؛ السر بالسر، والعلانية بالعلانية" صحيح الترغيب والترهيب، ج 3، رقم 3144.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل يتهجد قال: "اللهم لك الحمد، أنت قيم السماوات والأرض ومن فيهن... فاغفر لي ما قدّمتُ وما أخّرتُ، وما أسررتُ وما أعلنتُ، أنت المقدم، وأنت المؤخر، لا إله إلا أنت..." رواه البخاري ومسلم. وقال المناوي: "فإن حصل للعبد غفلة عن ملاحظة خوفه وتقواه, فارتكب مخالفة مولاه؛ لجأ إلى التوبة ثم داوم الخشية" فيض القدير , ح 3472.
ولخشية الله تعالى فضل عظيم، لكن خشية الله تعالى في السر أعظم قدراً من الخشية في العلانية؛ ولهذا خصها الله تعالى بالذكر في عدد من الآيات كما في قوله تعالى: (مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ وَجَاء بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ) [ق : 33] قال القرطبي: "الخشية بالغيب أن تخافه ولم تره. وقال الضحاك والسدي: يعني في الخلوة حين يراه أحد. وقال الحسن: إذا أرخى الستر وأغلق الباب"، وقال المناوي: "إن خشية اللّه رأس كل خير، والشأن في الخشية في الغيب لمدحه تعالى من يخافه بالغيب" فيض القدير، رقم 1537.
وقدّمها الرسول صلى الله عليه وسلم على خشية العلن في حديث (المنجيات) "ثلاث منجيات: خشية الله تعالى في السِّر والعلانية ..."، فقدّم عليه الصلاة والسلام الخشية في السِّر؛ "لأن تقوى اللّه فيه أعلى درجة من العلن؛ لما يخاف من شوب رؤية الناس، وهذه درجة المراقبة، وخشيته فيهما تمنع من ارتكاب كل منهي, وتحثه على فعل كل مأمور" فيض القدير, ح 3472.
ومع ذلك فخشية الله واجبة في السر والعلانية، والظاهر والباطن، والغيب والشهادة على السواء، قال تعالى: "... وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ ... ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُون" [الأنعام : 151]، وقال تعالى: "قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ ..." [الأعراف : 33]، عن قتادة قال: "المراد سر الفواحش وعلانيتها" الفتح. وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: "قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: اتق الله حيثما كنت... " سنن الترمذي، ومعنى (حيثما كنت): "أي وحدك أو في جمع ... أو المراد في أي زمان ومكان كنت فيه، رآك الناس أم لا، فإن الله مطّلع عليك" فيض القدير، ح 115.
وأول ما يُذكر في فضل الخشية من الله تعالى أنها سبب الانتفاع بآيات القرآن ومواعظه وعبره، والتي يترتب عليها صلاح النفس في الدنيا، حيث ذكر الله تعالى أن الموعظة والتذكرة لا تنفع إلا الذين اتصفوا بصفة الخشية منه سبحانه، قال تعالى: "طه (1) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (2) إِلَّا تَذْكِرَةً لِّمَن يَخْشَى" [طه : 3]، وقال تعالى: "سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى" [الأعلى : 10]؛ أي سيتعظ الذي يخاف ربه (التفسير(115/1474)
الميسر)، وفي تفسير القرطبي: "وقد يذّكر مَن يرجوه، إلا أن تذكرة الخاشي أبلغ من تذكرة الراجي؛ فلذلك علقها بالخشية دون الرجاء، وإن تعلقت بالخشية والرجاء".
وخشية الله تعالى من المُنجيات التي تنجي العبد من مهالك الذنوب والمعاصي في الدنيا والآخرة، قال عليه الصلاة والسلام: "ثلاث مُنجيات: خشية الله تعالى في السر والعلانية, والعدل في الرضا والغضب, والقصد في الفقر والغنى. ..." صحيح الجامع الصغير، ج 1، رقم 3039.
وأما أجر الذين يخشون ربهم فقد تكرر ذكره في الكتاب والسنة مرات عدة، لاسيما أولئك الذين يخشون الله تعالى في السر، فخشية الله تعالى من صفات السبعة الذين يظلهم الله تعالى في ظل عرشه وكرامته وحمايته حين يشتد الكرب بالناس يوم القيامة، قال عليه الصلاة والسلام: "سبعة يظلهم الله تعالى في ظله يوم لا ظل إلا ظله... ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال، فقال: إني أخاف الله..." رواه البخاري ومسلم.
ويأتي موعدهم بعد المعفرة مع أجر وصفه الله تعالى بأنه أجر كريم وكبير فقال تعالى: "إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ" [يس : 11]، وقال تعالى: "إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ" [الملك : 12]، كما ذكر جزاءهم على وجه التفصيل فقال تعالى: "جَزَاؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ" [البينة : 8]، قال في فتح القدير: "أي ذلك الجزاء والرضوان لمن وقعت منه الخشية لله سبحانه في الدنيا وانتهى عن معاصيه بسبب تلك الخشية التي وقعت، لا مجرد الخشية مع الانهماك في معاصي الله سبحانه، فإنها ليست بخشية على الحقيقة".
-ـــــــــــــــــــ
تعزيز السلوك الإسلامي للأبناء
معمر الخليل
29/12/1427
ارسل تعليقك ...
تعليقات سابقة ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
تعد شريحة طلاب المدارس من أوسع الشرائح العمرية التي يقع عليها هم التربية والتعليم والتنشئة الإسلامية الصحيحة، وغرس المبادئ الإسلامية الفكرية والسلوكية، قبل أن تكبر وتضطلع بدورها في بناء المجتمع الإسلامي.
فمستقبل المجتمعات بيد هؤلاء الطلاب والشباب الذين سيكونون في غدٍ عمادها، ويقولون كلمتهم في طريقة تعاملهم مع الآخر، وطريقة حياتهم، خاصة في ظل تزايد التحديات أمام المجتمعات الإسلامية، عبر الإساءات المتكررة، وعبر التحالفات(115/1475)
الحضارية، والعولمة، ومحاولة الدول الكبرى غرس أفكارها في مجتمعاتنا الإسلامية.
وإن وضع الأهل والمدرسون آمالهم في تربية نشئ مثقف ومتعلم، فإن الكثيرين يأملون أن تكون سنوات دراسة أبناءهم وطلابهم، مليئة بتعزيز قيم الإسلام، فهو خاتم الأديان وأنقاها, وفيه كمل الدين وارتضاه الله عز وجل لعباده.
وقد كان لبعض مدارس المملكة العربية السعودية تجارب في تعميق الأفكار الإسلامية الإيجابية لدى النشء الجديد، عبر برامج توعوية وتعليمية، تربي فيها الطالب على الأخلاق الحميدة، والآداب الحسنة، أملاً في صلاح المجتمع وتطوره عقدياً وسلوكياً.
ولقد تم اختيار هذا البرنامج تحديداً لأن تعزيز السلوك الايجابي مطلب شرعي ديني، كما أنه مدعاة للاستمرار فيه والعكس بالعكس.
ومن بين التجارب التي نستعرضها في موقع (المسلم) تجربة ثرية لإدارة التربية والتعليم في المدينة المنورة، تم تطبيقها خلال العام الفائت. على طلاب المدارس. بإشراف قسم التربية الإسلامية وقسم التوعية الإسلامية في الوزارة.
وحمل البرنامج التثقيفي والتعليمي عنوان "تعزيز السلوك الإيجابي" للطلاب.
وفيما يلي نستعرض أهم الفقرات التي يمكن تطبقيها وتحقيقها في جميع المدارس الإسلامية والعربية في العالم.
بين يدي التجربة:
ينطلق البرنامج التربوي من أن المسلم مأمور بالتربية الإسلامية والعلم الإسلامي، حيث يقول الله تبارك وتعالى: "اقرأ وربك الأكرم، الذي علّم بالقلم، علّم الإنسان ما لم يعلم". وانطلاقاً من أن الرسول الكريم _صلى الله عليه وسلم_ هو المعلم الأول، والمربي الأعظم، الذي أنار لأمته الطريق، وكان الأسوة الحسنة، والقدوة المثلى في التربية, فقد رسم ونفّذ الأساليب التربوية الفعالة والتي أدت إلى بناء الدولة الإسلامية الخالدة.
ولقد تم اختيار هذا البرنامج تحديداً لأن تعزيز السلوك الايجابي مطلب شرعي ديني، كما أنه مدعاة للاستمرار فيه والعكس بالعكس.
وبحسب إدارة التربية والتعليم في المدينة المنورة، فإن أهمية الموضوع تنطلق من عدة أمور، منها:
1-أن الدراسات والأبحاث التجريبية دلت على أن سلوك الإنسان لا يمكن أن يعزز من خلال المواعظ فحسب بل لا بد من تطبيقات عملية تستمر لفترات طويلة.
2- قدم الرسول _صلى الله علية وسلم_ لأمته نماذج عملية حية تسمى في علم النفس "النماذج الضمنية" وتعتبر أحد تعزيز السلوك في علم النفس.
3- نماذج عملية في تعزيز السلوك منها ما ثبت في الصحيح (أن امرأة سوداء كانت تقم المسجد ففقدها رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ فسأل عنها بعد أيام فقيل له إنها ماتت قال فهلا آذنتموني , فأتى قبرها فصلى عليها } ورواه ابن خزيمة في صحيحه.
السلوكيات الإيجابية:(115/1476)
من بين السلوكيات الإيجابية التي تحاول الإدارة زرعها بين طلاب المدارس على اختلاف مستوياتهم العمرية والعلمية، مجموعة منتقاة بعناية، تؤثر بشكل مباشر في سلوكيات الطلاب، وتنعكس في المجتمع الذي يعيشون فيه، منها:
من بين السلوكيات الإيجابية التي تحاول الإدارة زرعها بين طلاب المدارس على اختلاف مستوياتهم العمرية والعلمية، مجموعة منتقاة بعناية، تؤثر بشكل مباشر في سلوكيات الطلاب، وتنعكس في المجتمع الذي يعيشون فيه،
1- الكلمة الطيبة: مستشهدين بحديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال قدمت على رسول الله صلى الله
عليه وسلم وهو بالبطحاء فقال: أحججت؟ قلت: نعم. قال: بم أهللت؟ قال: لبيك بإهلال كإهلال النبي _صلى الله عليه وسلم_. قال : أحسنت. رواه البخاري
2- العفو عندما يخطئ: مستشهدين قصة حاطب بن أبي بلتعه رضي الله عنه وإخباره قريشا بعزم النبي _صلى الله عليه وسلم_ على غزوهم واستئذان عمر بن الخطاب رضي الله عنه النبي _صلى الله عليه وسلم_: دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ " إنه قد شهد بدراً ، وما يدريك لعل الله قد اطلع على من شهد بدراً فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم ".
وعلى المتخلفين عن القتال مع رسول الله "وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم..." الآية التوبة(188)
3- قبول الرأي الآخر: مستشهدين بقصة قبول رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ في أحد رأي بعض أصحابه وترك رأيه، وفي الخندق حفر الخندق مع أصحابه أخذاً برأي سلمان الفارسي رضي الله عنه.
4- التمثل بالعمل الصالح: قال تعالى: "مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مئة حبة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم"
5-. الابتسامة: يقول جرير بن عبد الله البجلي: (ما حجبني رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ منذ أسلمت، ولا رآني إلا تبسم في وجهي). رواه البخاري.
6- بيان عاقبة السلوك السلبي: " إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمناً قليلاً أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم" [ آل عمران:77].
تطبيقات عملية مقترحة
يهدف البرنامج إلى تطبيق هذه الأفكار التوعوية الإسلامية بين طلاب المدارس، لذلك، فقد حرص القائمون على هذه التجربة على الاستعانة ببعض البرامج التطبيقية التي يمكن من خلالها زرع هذه المفاهيم بين الطلاب، وغرسها في أذهانهم، وتعليمهم إياها. ومن بين هذه البرامج التي تم تطبيقها تبعاً لمكان التطبيق:
يهدف البرنامج إلى تطبيق هذه الأفكار التوعوية الإسلامية بين طلاب المدارس، لذلك، فقد حرص القائمون على هذه التجربة على الاستعانة ببعض البرامج التطبيقية التي يمكن من خلالها زرع هذه المفاهيم بين الطلاب،
أولاً: خارج حجرة الصف:(115/1477)
1. الإشادة بالطلاب ذوي السلوك الإيجابي من خلال: (الإذاعة الصباحية - لوحة الشرف - المناسبات المدرسية).
2. إقامة اللقاءات والحفلات التكريم لهم وتوزيع الهدايا المناسبة لهم وفق آليات ووسائل محددة شاملة للجميع مبنية على المنافسة الشريفة والملاحظة المستمرة.
3. تخصيص جوائز لبعض السلوكيات الإيجابية مثل: جائزة التعاون، الصدق، الأمانة، الخلق، الطالب المثالي.
ثانياًً / في حجرة الصف:
1- إلقاء السلام عند الدخول والخروج.
2- تبسم المعلم في وجوه طلابه.
3- مناداتهم بأحسن أسمائهم.
4- أخذ آرائهم في القضايا المتعلقة بهم والعمل بها.
5- مشاركتهم في بعض أعمالهم وألعابهم.
6- إسناد بعض المهام الصفية إلى الطلاب ذوي السلوك الإيجابي.
7- الإشادة بهم أمام زملائهم.
8- دعوة الآخرين إلى الاقتداء بهم.
9- التغاضي عن أخطائهم أحياناً.
10- العفو عن الآخرين من أجلهم.
11-. الدعاء لهم واستعمال الكلمة الطيبة في التعامل مع الجميع.
12. تفقد أحوالهم والسؤال عنهم.
13. استخدام طرق تدريس تعزز السلوك الإيجابي(التعليم بالقدوة - التعليم بالتطبيق العملي – التعليم بالحدث –
التعليم بالتفكير(المقارنة)...).
14. تكريم أصحاب السلوك الحسن وتقديرهم والاهتمام بهم.
15. تمثل القدوة الحسنة في جميع الأقوال والأفعال.
أساليب تنمية وتعزيز السلوك الإيجابي
ويمكن الاستعانة ببعض الأساليب التنموية لتعزيز هذه السلوكيات، وفق الشريعة الإسلامية، منها:
1- المكافأة: قال تعالى: "وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيراً وأعظم أجرا".
وعن عبد الله بن الحارث قال كان رسول الله _صلى الله علية وسلم_ يصفُّ عبد الله وعبيد الله وكثيراً من بني العباس ثم يقول: ((من سبق إلي فله كذا وكذا)) قال: فيستبقون إليه فيقعون على ظهره وصدره فيقبلهم ويلزمهم.
2- الدعاء: عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي _صلى الله عليه وسلم_ دخل الخلاء فوضعت له وضوءا، قال: من وضع هذا؟ فأخبر فقال:((اللهم فقهه في الدين)) أخرجه البخاري.(115/1478)
3. إشاعة التعامل الحسن وإلزام المعلمين بحسن الاستقبال والأخلاق الحميدة مع جميع الطلاب وبخاصة أصحاب السلوك الحسن، ويظهر ذلك جلياً:- في الطابور الصباحي.
- في الإشراف اليومي.
- في الحصص الدراسية
في التعامل مع الأخطاء، ونحوها.
4. تفقد الطلاب ذوي السلوكيات الحسنة من خلال المرشد الطلابي أو وكيل المدرسة والسؤال عنه من قبل لإدارة في حال مرضه أو مصابه وتشكيل وفد من الطلاب مع أحد المعلمين لزيارته أو مواساته ونحو ذلك.
5. التغاضي عن أخطاء بعض الطلاب المثاليين والتجاوز عن زلاتهم مقابل إحسانهم وإيجابياتهم.
6. تخصيص الطلاب ذوي السلوك الإيجابي ببعض المهام الإدارية والإشرافية في المدرسة أو الانضمام لبعض اللجان المدرسية.
7. تكريم أولياء أمورهم والإشادة بتربيتهم وبأبنائهم وتوزيع الهدايا عليهم.
8. مراعاة السلوك الإيجابي في إعادة الاختبارات التقويمية وزيادة الدرجات التحصيلية.
9. وضع نظام متكامل في المدرسة على شكل نقاط يحسب لكل سلوك إيجابي يصدر من الطالب بحيث يترتب على كل حصيلة يجمعها الطالب مكافأة معينة سواء عينية أو معنوية أو دراسية.
10. إقامة الأنشطة المتنوعة من زيارات ورحلات ومخيمات ولقاءات ومسابقات خارجية للطلاب ذوي السلوك الإيجابي.
أساليب وطرق تربوية تدريسية:
ويمكن أن يستند المدرس أو المربي إلى عدة طرق وأساليب تربوية لدعم هذه الأفكار التثقيفية، منها:
أ - التدريس بطريقة التشويق و الإثارة وانتباه السامع وترقب الفائدة وامتلاك ناصية الفؤاد. وهذه الطريقة تفتح قلب وعقل الطالب لما سلقى عليه ومن أمثله (أسلوب البداية بالعدد)
(ثلاث من كن فيه...)
( ثلاث يحبهم الله...)
(سبعة يظلهم الله...) وغيرها من الأحاديث
ب_ التدريس بطريقة جعل المعنويات في صور المحسوسات (.. حلاوة الإيمان) الحديث
ج- التدريس بطريقة التفصيل بعد الإجمال والإيضاح بعد الإبهام (ثلاث... أن يكون الله ورسوله أحب إليه ممن سواهما...) الحديث.
وتشير التجربة التي أقامتها إدارة التربية والتعليم في المدينة المنورة، إلى إمكانية إقامة برامج تثقيفية إسلامية في مختلف أوجه التربية الصحيحة، والتي ليس بالضرورة أن تكون ضمن المناهج الدراسية المقررة، كنوع من تعزيز قيمة إسلامية(115/1479)
عالية، أو الخروج من الرتم المكرر في التدريس والمواد، وكل ذلك ينعكس بالتالي على الطالب، وعلى المجتمع الذي يعيش فيه.
ـــــــــــــــــــ
الدعوة الفردية.. السهل الممتنع
همام عبد المعبود
18/12/1427
ارسل تعليقك ...
لا توجد تعليقات ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
تعتبر "الدعوة الفردية" أصل الدعوة إلى الله، ويكفيها شرفاً أن أول من مارسها هو سيد الدعاة إلى الله محمد صلى الله عليه وسلم، وأنه وضع – بها- أول لبنة لقيام الدولة الإسلامية الأولى. فقد بدأ الرسول صلى الله عليه وسلم أول ما بدأ – الدعوة- بأبي بكر الصديق- رضي الله عنه- فكان البذرة الأولى للدعوة إلى هذا الدين الجديد – الإسلام- فراح يتحرك هنا وهناك، يبلغ دين الله ويبشر الناس به، فكان بمثابة النواة، واتسعت الدعوة شيئاً فشيئاً، فأسلم على يدي أبي بكر رجالٌ صاروا فيما بعد من المبشرين بالجنة.
وتنقسم الدعوة إلى الله- من حيث المدعو- إلى قسمين أساسيين، هما:
1- دعوة عامة (جمعية): وهي التي يمارسها الداعية مع عدد من الناس، أو جمع من المدعوين، بهدف إخبارهم أو إعلامهم بأوامر الله ونواهيه، مع حضهم وحثهم على طاعة الله بإتباع أوامره واجتناب نواهيه، وتحذيرهم من معصية الله بفعل ما نهى عنه أو ترك ما أمر به. من خلال عدة وسائل كإلقاء الخطب أو المواعظ أو الدروس العامة.
"الدعوة الفردية" أصل الدعوة إلى الله، ويكفيها شرفاً أن أول من مارسها هو سيد الدعاة إلى الله محمد صلى الله عليه وسلم، وأنه وضع – بها- أول لبنة لقيام الدولة الإسلامية الأولى
2- دعوة خاصة (فردية): وهي التي يمارسها الداعية مع شخص واحد من الناس، تربطه به إحدى الروابط التالية: القرابة، الزمالة، الصداقة، الجيرة، المهنة، بهدف تصحيح مفاهيمه، أو تقويم سلوكه، أو تقوية إيمانه بالله، من خلال تربيته وفق برنامج تربوي شامل يجمع بين الخلق الفاضل، والسلوك القويم، والفهم الصحيح الشامل للإسلام كدين ومنهج حياة.
فضل الدعوة إلى الله:
الأدلة على فضل الدعوة إلى الله، في صريح القرآن وصحيح السنة، أكثر من أن تحصى، وأذكر منها على سبيل المثال:
1- قال تعالى (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ ) (آل عمران: آية 104).(115/1480)
2- وقال أيضاً: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ) (النحل: آية 125).
3- وروى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً ) (النووي على مسلم 16 /227).
4- وروى البخاري وغيره من أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه لما بعثه إلى خيبر ( لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم) (الفتح 7/70).
4- وفي الصحيحين من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره على أثرة علينا وعلى ألا ننازع الأمر أهله وعلى أن نقول بالحق أينما كنا لا نخاف في الله لومة لائم ) (الفتح 13/192، النووي على مسلم 12/228).
خصائص الدعوة الفردية:
1- أيسر ممارسة: لكونها لا تحتاج إلى علم غزير أو فقه كثير، كما لا تحتاج إلى خطيب مفوه، أو واعظ بارع، وإنما تحتاج إلى مسلم ملتزم بتعاليم دينه، قدوة في سلوكه، يعرف حقوقه وواجباته، يعرف ما له وما عليه، كما يمكن أن يقوم بها العامل في مصنعه، والفلاح في مزرعته، والمعلم في مدرسته، والطبيب في مشفاه و ...إلخ.
2- أسرع تأثيراً: فهي أكثر فعالية من الدعوة العامة، وآثارها تظهر على المدعو في وقت قصير، حيث يسهل ملاحظة إقلاع المدعو عن بعض العادات السيئة التي كان يفعلها قبل الدعوة، أو إقلاعه عن بعض الذنوب والمعاصي البارزة التي كان يرتكبها قبل التعرف على المدعو.
الدعوة الفردية يمكن أن تتم في كل الظروف والأحوال، في الشارع، في الجامعة، في المدرسة، في وسائل المواصلات، في السفر، في الحضر، في الصحة، في المرض
3- أدق قياساً: من الدعوة العامة، حيث يقوم الداعية بترتيب الخطوات، وتحديد الأولويات، ووضع خطة زمنية واضحة، ومن ثم فإنه يسهل قياس درجة التغيير الحادثة على المدعو، بعكس الدعوة العامة التي قد يكون القياس فيها مستحيا وأحياناً خادع!
4- أنجع حلاً: في الرد على الشبهات التي يثيرها أعداء الإسلام أو أعداء الدعوة، على مسامع بعض الأفراد، مما يصعب التعرض له بالشرح والتفصيل في اللقاءات العامة أو الدروس الجمعية التي يحضرها جمع كبير من الناس من مختلفي الثقافات والميول.
5- أجدى تربية: من الدعوة العامة، حيث يركز الداعية فيها على خلق محدد، كالكذب أو الجبن، أو البخل أو...إلخ ... مما يرى أنه موجود فيمن يدعوه، في محاولة تستهدف تخليصه منه، ببيان مخالفته للشرع الحنيف، والخلق القويم، والطبع السليم، ومن خلال إخضاع المتربي لبرنامج علاجي واضح ومحدد الهدف يساعده على التخلص من هذا الخلق.
6- أقل تضييقاً: فالدعوة الفردية يمكن أن تتم في كل الظروف و الأحوال؛ في النادي، في الشارع، في الجامعة، في المدرسة، في وسائل المواصلات، في السفر، في(115/1481)
الحضر، في الصحة، في المرض،.... كما يصعب التضييق عليها، بخلاف الدعوة العامة التي قد تتعرض للتضييق، أو المنع في بعض الأحيان.
محاذير الدعوة الفردية:
غير أن بعض الدعاة و خبراء الدعوة إلى الله، يحذرون من:
1- طول المدة: فهي تحتاج إلى وقت طويل، ومرات عديدة، ومن ثم فإن بعض الدعاة قد يصابون باليأس، والملل أو الفتور الدعوي.
2- قلة الإنتاج: فقد يمكث الداعية عاماً كاملاً يدعو شخصاً واحداً، وقد لا يفلح في النهاية في إحداث تغير ملموس في فهم وفكر المدعو.
3- انقطاع المتابعة: فعملية الدعوة الفردية تحتاج إلى متابعة مستمرة، ويقظة دائمة من جانب الداعية، فضلا عن نوع خاص من المعاملة مع المدعو الذي يكون في الغالب ذو طباع خاصة.
4- الارتباط بالأشخاص: حيث إنها تقوم أساساً على فكرة ربط المدعو بالداعية، وتمتين الصلة بينهما، وتوثيق العلاقة الإنسانية، وهو ما قد يكون مهما وضروريا أول الأمر، غير أنه على المدى البعيد قد يكون له آثار سلبية، حيث لا يرتبط المدعو بالفكرة قدر ما يرتبط بـ"شخص" الداعية، فإذا ما حدث شيء "ما" للداعية كسفر أو ابتعاد عن الدعوة أو انحراف عن المنهج فإن مصير هذا المدعو يكون معرضاً للخطر!
وليحذر الداعية من أن ينقلب عن فطرته السوية، أو أن يتأثر بالسيئ من خُلُق أو سلوك من يدعوه، فعليه أن يجيد المخالطة مع التمايز
5- تعجل النتائج: فلا ينبغي أن تكون رغبة الداعية في الارتقاء بالمدعو إلى مرحلة متقدمة سبباً فى تعجل النتائج، وجني الثمر نيئة قبل نضجها، مما قد يسبب نوعاً من النكوص والارتداد السلوكي والأخلاقي لدى المدعو، بل يجب مراعاة أن "الزمن جزء من العلاج".
6- اختلاف الطباع: فلكل مدعو طباعه الخاصة، وأخلاقه المميزة، كما أن له أيضا عيوبه المتفردة، وخصاله السيئة، ومن ثم فإنه من الخطأ معاملة كل المدعوين بطريقة واحدة، وبأسلوب ثابت، فلكل منهم مفتاح شخصية، فإذا ما استطاع الداعية الوصول إلى هذا المفتاح استطاع الدخول على قلبه، وسهل عليه التأثير في سلوكه.
7- تأثير لا تأثر: فيجب أن يحذر الداعية من أن ينقلب عن فطرته السوية، أو أن يتأثر بالسيئ من خلق أو سلوك من يدعوه، وأن يجيد المخالطة مع التمايز، وأن يكون على وعي بأن مهمته هي التغيير لا التغير، والتأثير لا التأثر، والتثبيت لا التذبذب، فإن لاحظ من نفسه ميلاً أو انحرافاً فعليه بسرعة التوقف والعودة، وكم من داعية تشرب – شيئاً فشيئاً - من خلق من كان يدعوه، فصار إلى الطاعات أثقل، وإلى المعاصي أقرب، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
8- إهمال ذوي القربى: من الأخطاء التي يقع فيها الدعاة إهمال ممارسة واجب الدعوة الفردية مع أولي القربى، ولنا في سيد الدعاة محمد صلى الله عليه وسلم الأسوة والقدوة، فقد أمره ربه أن ينذر عشيرته الأقربين، فقال تعالى: (وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) (الشعراء: 214). وفي حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت(115/1482)
لما نزلت (وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ) قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (يا فاطمة ابنة محمد يا صفية ابنة عبد المطلب يا بني عبد المطلب: لا أملك لكم من الله شيئاً سلوني من مالي ما شئتم) (النووي على مسلم 3/54). كما ذكر صاحب أسد الغابة أنه لما أسلم الطفيل بن عمرو الدوسي رضي الله عنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إني امرؤ مطاع في قومي وأنا راجع إليهم وأدعيهم إلى الإسلام فلما رجع إلى قومه دعا أباه إلى الإسلام فأسلم ثم دعا امرأته إلى الإسلام فأسلم.
فيجب على الداعية أن يبدأ بذوي قرابته، الأقرب فالأقرب حتى توجد له منعة ونصرة، فلا يصح أن يترك الداعية أهل بيته وأقاربه دون دعوتهم.
شروط التصدي للدعوة الفردية:
وكما أن ليس كل الأطباء مؤهلين للتصدي للعمليات الجراحية، ولا كل الجراحين مؤهلين لإجراء العمليات الجراحية الدقيقة، فكذا.. ليس كل الدعاة والعاملين في مجال الدعوة إلى الله، مؤهلين لممارسة الدعوة الفردية، ومن ثم فإن هناك عدداً من الصفات التي يجب أن يتحلى بها العاملون في مجال الدعوة الفردية، على وجه الخصوص، منها:-
1- الإخلاص والتجرد: فعلى قدر تجرد الداعية وإخلاصه لله عز وجل، يبارك الله في عمله، وفي وقته، ويجعل في كلامه الأثر، وفي وجهه القبول.
2- التقوى والاستقامة: فكلما ازداد الداعية تقوى لله ازداد هدى، قال تعالى (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقُوَاهُمْ) ( محمد – 17). وقال تعالى (... وَمَن يَتَّقِ اللهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا) (الطلاق - 4).
3- حسن الصلة بالله: فيجب على الداعية أن يكون كثير العبادة مستعيناً بالله في كل شأن من شئونه، قال تعالى:(إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللهِ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ* لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ) (فاطر/29-30).
3- حسن السيرة والسريرة: فيجب أن يكون طيب السمعة، حسن السيرة، لا يعرف عنه سوء السلوك، أو فحش القول، أو بذاءة اللسان، فعن عبد اللَّه بن عمرو بن العاص رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ قال: لم يكن رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم فاحشاً ولا متفحشاً، وكان يقول: إن من خياركم أحسنكم أخلاقا. (متفق عَلَيهِ).
4- التحلي بالأخلاق الفاضلة: فيجب على الداعية إلى الله أن يتحلى بجملة من الأخلاق الحميدة، فعن أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ قال، قال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم: أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً، .... (التِّرمِذِيُّ وَقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صحيح). وعن عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنها قالت سمعت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم يقول: إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم. (رواه أبو داود).
5- القدوة العملية: فلا شك ان التربية بالقدوة هي أفضل طرق التربية الصحيحة، ومن ثم فيجب على الداعية ان يكون قدوة صالحة لمد يدعوه، في كل شيء، حتى في الأعمال الدنيوية، كالتفوق والاجتهاد في الدراسة، فلا يصح أن يكون الداعية فاشلاً في حياته العملية، أو راسبا في حياته العلمية، بل يجب أن يكون متفوقاً وناجحاً يشار إليه بالبنان، فذلك أقبل لدعوته.(115/1483)
6- الوعي وبعد النظر: فيجب على الداعية أن يكون واعياً، مدركاً لأبعاد الأمور، قارئاً جيداً للأحداث، يجيد التعامل مع المفاجآت، يرتب الأولويات، ويحسن التقدير، يعرف ما يجب وما لا يجب، فقيها بموازين الأحكام، يعرف ما يستوجب التقديم فيقدمه، وما حقه التأخير فيؤخره، يزن كلامه بميزان الإيمان.
وسائل الدعوة الفردية:
الدعوة الفردية، شأنها شأن الدعوة العامة، لها وسائلها وأدواتها اللازمة، وزمنها على سبيل المثال:-
1- التبسم: لا ينكر أهمية الابتسامة في حياة الدعاة إلا جاهل، فهي مفتاح القلوب، والعصا السحرية التي تكبت الغضب وتسري عن القلب المهموم. ورغم أنها حركة بسيطة بالشفتين إلا أنها تعني للمدعو الشيء الكثير، فهي بذرة صغيرة ترميها في نفسية المدعو، فتنمو وتكبر وتؤتي أكلها بإذن الله، ولم لا .. وخير الدعاة محمد صلى الله عليه وسلم يقول:" تبسمك في وجه أخيك صدقة"، ويعرف حسن الخلق بأنه: "بسط الوجه وبذل المعروف وكف الأذى"، ويقول أيضاً:" كل معروف صدقة، و إن من المعروف أن تلقى أخاك بوجه طلق ...". ويقول عنه أبو الدرداء رضي الله عنه :" ما رأيت أو ما سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يحدث حديثا إلا تبسم".
2- السلام والمصافحة: فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "كان النبي صلى اللهم عليه وسلم إذا استقبله الرجل فصافحه لا ينزع يده من يده حتى يكون الرجل هو الذي ينزع، ولا يصرف وجهه عن وجهه حتى يكون الرجل هو الذي يصرفه..."، و لهذا دلالة عظيمة، وأثر كبير في نفس المدعو، فهو دليل اهتمام ومحبة، تترجمها تلك الشحنات الكهربائية التي تنتقل عبر المصافحة فتزرع الحب في لقلوب.
3- التعارف والتعرف: وهي وسيلة عظيمة من وسائل الدعوة إلى الله، بل إنه لا يعقل أن يكون هناك دعوة ما لم يسبقها تعارف، قال تعالى: {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى، وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا؛ إن أكرمكم عند اللَّه أتقاكم}(الحجرات 13). وعن أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم قال: الناس معادن كمعادن الذهب والفضة، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا، والأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف. (رواه مُسْلِمٌ).
4- التهنئة والتبركة: تعتبر التهنئة وسيلة مهمة من وسائل الدعوة إلى الله، والتهنئة لا تكون إلا في منسبة سعيدة، كالنجاح في الدراسة أو الزواج أو العودة من السفر او الحج، أو عند الرزق بمولود، وكذا في الأعياد والمناسبات الإسلامية، وهذه كلها مما يجب ان ينتبه له الدعاة، فهذه المناسبات فرصة لتوثيق الصلة بالمدعوين، والتعرف عليهم، مما يعتبر بداية جيدة وفرصة مناسبة لبدء مشروع الدعوة الفردية.
5- التهادي: الهدية تورث الحب، بل هي عنوان عليه، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قال: (تهادوا تحابوا) فيجب على الداعية ألا يبخل ببعض الهدايا الرمزية في سبيل دعوته، والهدية ليست موقوفة بمن تربطك به علاقة قديمة بل هي وسيلة دعوية لكسب فرد جديد، لأنه حتما سيسعى لرد الهدية مما يفتح بينكما طريقاً للدعوة.(115/1484)
6- التزاور: لا شك ان الزيارة وسيلة مهمة من وسائل الدعوة الفردية، غير أنه يجب على الداعية أن يتأدب بآداب الزيارة، فيحسن اختيار الوقت المناسب لظروف المدعو، فلا يزوره في وقت راحته، ولا في وقت عمله، كما يجب ألا يتدخل في شئونه الخاصة، وألا يمد يديه أو يتطلع بعينه إلى كل ما يخص المدعو، من أوراق أو كتب أو أشرطة، وأن يخفف مدة الزيارة، وأن يطلب من المزور ألا يتكلف في إكرامه وهكذا.
7- السؤال والاهتمام: فعلى الداعية أن يهتم بالسؤال عن المدعو، وأن يطمئن على أحواله، في العمل، وفي البيت، وأن يسأله عن ظروفه وأولاده، مع مراعاة حدود العلاقة بينهما، ومدتها، حتى لا يعتبره متطفلاً يسأل عما لا يجب.
8- المتابعة المستمرة: فالدعوة الفردية تتطلب من الداعية المتابعة المستمرة للمدعو، مخافة أن يصيبه الفتور إذا رأى إهمالاً أو عدم متابعة، وذلك لأن البيئة التي يعيشون بها لا تعينهم على الاستقامة، بل إنها تحارب كل عائد إلى ربه، كما ان قرناء السوء يبذلون جهداً كبيراً – خاصة في الفترة الأولى، ليعيدوه إلى ما كان عليه من الفساد والانحراف، ومن ثم يجب على الداعية أن يتعاهد الثمرة، بالرعاية والعناية، وأن يربطه بأصدقاء صالحين ليكونا له عونا على الخير.
وفي الختام، فإنه يجب على الداعية، وخاصة الذي يعمل في مجال الدعوة الفردية، أن يراعي عدداً من الأمور في مقدمتها: التواضع للمدعو وعدم التكبر عليه، مع مراعاة فهم الظروف العائلية والبيئية المحيطة بالمدعو، والتدرج في الدعوة وعدم الاستعجال، والبعد عن مواطن الخلاف الفقهي والفكري، مع مراعاة التعرف على ميول المدعو واهتماماته، ومراعاة الفروق الفردية بين المدعوين، والحذر من توجيه النقد المباشر، والاقتصاد في الموعظة والتقليل من الملاحظات، على أن يحتفظ لداعية لنفسه بشخصية قوية يكسوها الوقار والهيبة والاحترام.
أسأل الله العظيم أن يعلمنا ما جهلنا، وأن يرزقنا العمل بما علمنا، وأن يزيدنا علماً وفهماً، وأن يجعلنا من عباده العاملين، وجنوده المخلصين... اللهم آمين .. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم.
ـــــــــــــــــــ
الدعوة .. علم وفهم وفن وتوفيق
همام عبد المعبود
7/12/1427
ارسل تعليقك ...
تعليقات سابقة ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
قرأت باهتمام مقال "الدعوة.. علم شرعي "، المنشور على صفحات موقع "المسلم"، والحق أن المقال على درجة من الأهمية، فالكاتب يؤكد على أهمية "العلم الشرعي" بالنسبة لـ "الدعوة إلى الله"، معتبراً أن "الدعوة لا تستقيم إلا بالعلم الشرعي"، ورغم(115/1485)
اتفاقي التام مع الكاتب فيما ذهب إليه من بيان أهمية ومكانة العلم الشرعي، إلا أنني أود أن أؤكد على عدد من الأمور، وهي:-
أولاً: "الدعوة إلى الله" تقوم على أربعة أركان، هي:
• الركن الأول: الدعوة : والمقصود بها الإسلام كدين، لأنه هو موضوع الدعوة، وفيه لابد من معرفة: أركان الإسلام (الشهادتين/ الصلاة/ الصيام/ الزكاة/ الحج)، وخصائصه العامة (الشمول/ الإحاطة/ مناسبته لكل زمان ومكان/وغيرها....)، وأنظمته (السياسي/ الاقتصادي/ الاجتماعي/ العلمي/ .....)، ومقاصده (حفظ الدين والنفس والعقل والمال، والعرض).
• الركن الثاني: الداعي: وهو الشخص الذي يقوم بمهمة الدعوة إلى الله والنصح والتوجيه والإرشاد، وهذا الداعي لابد أن تتوفر فيه عدة صفات، أهمها: أن يكون مخلصا لربه , سليم العقيدة، صحيح العبادة،عالما بشئون دينه , مثقف الفكر، حسن الخلق، نافعاً لغيره، مجاهداً لنفسه..وغيرها من الصفات
فيجب على الداعية أن يتخلق بالحلم والرفق واللين أثناء ممارسة عملية الدعوة، بل ربما كان حسن خلقه ولين طبعه، وأدبه الجم، أرجى من كلامك، وصدق من قال: إن فعل رجل بألف رجل أرجى من كلام ألف رجل لرجل
• الركن الثالث: المدعو: وهو الشخص المستهدف بالدعوة، والمطلوب تعريفه بربه، وإبلاغه برسالة الإسلام، وتصحيح مفاهيمه الخاطئة عن الإسلام، وهذا المدعو على أنواع ثلاث: عنده استعداد/ عنده شبهات/ غير مسلم، ولكل منهم الفقه الملائم لحالته، والوسيلة التي تناسبه، مع مراعاة أمور مثل: سنه (أكبر/ نظير/ أصغر)، ومكانته الاجتماعية ( أعلى / مشابهة / أقل)، الوضع الوظيفي (رئيس/ زميل/ مرؤوس)، صلته العائلية (أب/ أخ/ ابن)، درجته العلمية (عالم/ مقارب/ جاهل)، نوعه الجنسي (رجل/ امرأة)، ومرحلته العمرية(كهل/ شاب/ شبل). ولكل واحد من هؤلاء الأسلوب الذي يناسبه، وهذا هو ما يسمونه فقه الدعوة.
• الركن الرابع: وسائل الدعوة: وهي مجموعة الأدوات والطرق والوسائل، والأساليب، والآليات، و.....إلخ، التي ينتهجها الداعية إلى الله لتوصيل رسالته الدعوية، إلى المدعو، وهذه الوسائل تتعدد وتتباين بحسب: حال المدعو، وحسب المكان الذي تمارس فيه الدعوة، وبحسب البلد الذي يعيش فيه الداعي والمدعو، وبحسب سن المدعو، ومكانته، ووضعه الاجتماعي والعلمي و...إلخ. وما يصلح لفلان ليس بالضرورة أن يكون مناسباً لآخر، ولنا في أعظم الدعاة الذين عرفتهم هذه الدنيا، محمد صلى الله عليه وسلم، القدوة والمثل، وفي المشهد الذي سجله القرآن لنبي الله نوح في سورة نوح القانون الجامع لوسائل الدعوة واختيار الوقت والمكان والوسيلة بل والكلمات المناسبة "قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَارًا"..، وقال: "ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا * ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا".
ثانياً: لا يشترط في الداعية أن يكون عالماً بكل أمور الإسلام، أو فقيهاً مطلعاً على خلافات وآراء الفقهاء في كل المسائل , فليس كل داعية عالم أو فقيه، وإن كان هناك دعاة بلغوا مرتبة العلم، ودرجة الفقه، وليس بالضرورة أن يكون المفتي والفقيه داعية ناجحاً، وإن ملك أدوات الفتيا والنظر في الأدلة الشرعية، وإن كان الأصل أن يكون(115/1486)
داعية متمكناً، وبالمثل فليس كل عالم متبحر في فرع من فروع العلم الشرعي لديه ملكة الدعوة، والقدرة على جذب المدعوين، وإن كان العلماء أقرب الناس وأولاهم بالعمل في مجال الدعوة.
وليس هذا تقليل من شأن الفقهاء أو العلماء، بل إن الأمر فتح من الله، وهبة، فقد يفتح الله عليك بالعلم، ولا يفتح لك باب القبول والإقبال من الناس، والتاريخ والخبرة المعاصرة يؤيدان هذا الكلام، فكم من عالم وفقيه لا يعرفه الناس ولا يقبلون على علمه، وكم من داعية – ربما كان أقل منه علما وفقها- لكن الناس يقبلون على الاستماع إليه، وينتظرون خروجه عليهم.
وإن الرجل الذي يأخذ من العلم بلا فهم قد يسىء تطبيق العلم وإنما سمى العلماء الفقه فقها لأنه يقوم على الفهم بجانب العلم وانظر إلى دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس إذ يدعو له بالفهم والعلم معا
ومجال الدعوة إلى الله رحب واسع، يحتاج إلى كل الطاقات، والقدرات والخبرات والكفاءات، فهذا فقيه بارع، وهذا عالم فحل، وهذا داعية مفوه, وهذا باحث متمكن، وهذا خطيب نحرير ، وهذا واعظ أريب، هذا خبير بضروب الدعوة، ..... إلخ، ولكل منهم موقعه، ومكانته، ودوره، وكلهم على ثغر من ثغور الإسلام.
ثالثا: الداعية يلزمه ليمضي في هذا الطريق، أن يتسلح بثلاثة أمور، وهي:-
أولها : علم قبل الدعوة إلى الله: فيتسلح بالعلم اللازم لممارسة هذه الوظيفة، وأداء هذه المهمة، وأقلها هذا البرنامج التثقيفي المقترح للداعية:-
1- أن يكون حافظاً لقدر من القرآن الكريم ويبذل طاقته في حفظه كله شريطة أن يكون حفظه جيداً، وقراءته صحيحه.
2- أن يكون حافظاً لقدر مناسب من الأحاديث النبوية الصحيحة ويعود نفسه القراءة في كتب السنة .
3- أن يكون دارسا لعقيدته الإسلامية وأصولها حتى لا يقع في المخالفات.
4- أن يكون دارساً لأبواب الفقه الأساسية التي لا غنى للمسلم عنها ويسعى لدراسة باقي أبواب الفقه الأخرى سعيا جادا
5- أن يستذكر في تفسير القرآن، فيتعرف على معاني الكلمات، وشيئاً عن الناسخ والمنسوخ في القرآن، وشيئاً عن أسباب نزول الآيات، ....إلخ.
6- أن يتعلم أصول لغته العربية حتى لا يلحن القول و بعض الكتب في الأدب الإسلامي والبلاغة والحكم والأمثال النافعة
7- أن يطالع السيرة النبوية، من بعض كتب السيرة التي زكاها العلماء
8- أن يطالع عدداً مما كتب متخصصا في مجال الدعوة الإسلامية، لبعض العلماء والدعاة من أصحاب الخبرة العلمية والعملية.
9- أن يثقف نفسه ثقافة إسلامية عامة، فيقرأ شيئاً عن السياسة الشرعية، والاقتصاد الإسلامي، والحلول الإسلامية للمشكلات الاقتصادية، والمنهج الإسلامي في الزواج، وموقف الإسلام من المذاهب والأفكار كالشيوعية والعلمانية والاشتراكية والرأسمالية ....إلخ.(115/1487)
وثانيها: حلم ورفق مع الدعوة إلى الله: فيجب على الداعية أن يتخلق بالحلم والرفق واللين أثناء ممارسة عملية الدعوة، بل ربما كان حسن خلقه ولين طبعه، وأدبه الجم، أرجى من كلامك، وصدق من قال: إن فعل رجل بألف رجل أرجى من كلام ألف رجل لرجل. ولنا في سيرة ألين الخلق وأرفقهم وأحلمهم وأجملهم حديثًا محمد صلى الله عليه وسلم القدوة والمثل.
كذلك ينبغي لكل داعية أن يعلم أنه مفتقد للتوفيق من ربه سبحانه والسداد في القول والعمل " ياأيها الذين آمنوااتقوا الله وقولوا قولا سديدا يصلح لكم أعمالكم .." فميل قلوب الناس للداعية ليسمعوا حديثه ويتأثروا بأثره هو محض توفيق رباني
وثالثها: صبر جميل بعد الدعوة إلى الله: فالزمن جزء من العلاج، ولكل ثمرة أوانها، وإن النصر (الفوز والنجاح والفلاح) مع الصبر، فلا يجب أن يتعجل الداعية قطف الثمار، بل عليه أن يكون صابرًا صبورًا، فالأمر جنّة، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال لأحد الصحابة: لأن يهدي الله بك رجلاً (واحدًا) خير لك مما طلعت عليه الشمس، أو خير لك من الدنيا وما فيها، أو خير لك من حمر النعم.
* الفهم والعلم
لاشك أن العلم ركن ركين في حياة المسلم، وبدونه لا يؤدي المسلم عباداته على الوجه الصحيح، ولا معاملاته على الوجه المشروع، و به يعرف المسلم ما يحل وما يحرم، وما يستحب وما يكره، غير أن العلم بلا فَهم كالجسد بلا روح.
قال تعالى في بيان فضل ومكانة الفهم: "وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ* فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا"، فلقد آتى الله عز وجل الحكم والعلم لكلا النبيين داود وسليمان عليهما السلام، لكنه سبحانه مَن بنعمة الفهم على سليمان عليه السلام.
وكم من حافظ للقرآن لا يفهم معانيه، ولا يفقه مبانيه، ولا ينتبه إلى مقاصده، ولا يستوعب مراميه، ولا تصله إشاراته، ولا تؤثر فيه تلميحاته، هذا ليس تقليلاً من شأن حافظ القرآن، حاش وكلا، وإنما نقصد بيان فضل وأهمية ومكانة الفهم من العلم الشرعي .
وإن الرجل الذي يأخذ من العلم بلا فهم قد يسيء تطبيق العلم وإنما سمى العلماء الفقه فقها لأنه يقوم على الفهم بجانب العلم وانظر إلى دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس إذ يدعو له بالفهم والعلم معا بل في روايات أخرى يدعو له بالحكمة في تطبيق ما تعلم ففي الصحيحين قول النبي صلى الله عليه وسلم له: " اللهم فقه في الدين وعلمه التأويل " وفي رواية " اللهم علمه الحكمة " ولنا في قصة صاحب الشجة إذ أفتاه بعضهم بغير فقه كامل فمات الرجل فلما علم بذلك أفقه الخلق وأفهمهم صلى الله عليه وسلم قال: قتلوه قتلهم الله .
* كذلك ينبغي لكل داعية أن يعلم أنه مفتقد للتوفيق من ربه سبحانه والسداد في القول والعمل " يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا يصلح لكم أعمالكم .." فميل قلوب الناس للداعية ليسمعوا حديثه ويتأثروا بأثره هو محض توفيق رباني ينعم الله به على من يشاء بعد أن يبذل الداعية جهده ويأخذ بأسبابه , لذلك فلابد أن يستمد(115/1488)
الداعية العون الرباني وهو يأخذ بالجهد البشري دوما وأصل ذلك وجماعه نقاوة القلب وسلامة الصدر .
وختاماً فإن للدعوة إلى الله قواعد وأصول يجب مراعاتها، من أهمها: الحكمة وهي (وضع الشيء المناسب في المكان المناسب في التوقيت المناسب وبالقدر المناسب). فعلم بلا فن، جفاء، وممارسة بلا علم خواء، أسأل الله أن يعلمنا ما ينفعنا وان ينفعنا بما علمنا، وأن يزيدنا علماً، وان يفقهنا في ديننا.
ـــــــــــــــــــ
دور الأسرة في بناء الشخصية السوية للأبناء ..نصائح عملية (1\2)
اللجنة التربوية
18/11/1427
ارسل تعليقك ...
تعليقات سابقة ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
( أصل المقال هو محاضرة للواء أركان حرب : سعد الدين خليل , حول دور الأسرة في رعاية الإبداع )
( تم اختصار المحاضرة وإعدادها بمعرفة اللجنة التربوية بموقع المسلم )
يلعب المناخ الأسري دورا مهما في تنمية قدرات الطفل ، حيث يحقق المناخ الملائم أهم مطالب النمو النفسي والاجتماعي ، لأن الطفل في ظل هذا المناخ يتعلم التفاعل الاجتماعي ويتعلم المشاركة في الحياة اليومية ، كذلك يتعلم ممارسة الاستقلال الشخصي ، والطفل في جميع المراحل السابقة نجده متأثرا بالأسرة ، وتمثل الأسرة الوسيط الذي ينقل كافة المعارف والمهارات والاتجاهات والقيم التي تسود المجتمع بعد أن تترجمها إلى أساليب عملية في تنشئة الأبناء ، متمثلة في توفير المجال الكافي لهم لمتابعة ميولهم وهواياتهم داخل المنزل وخارجه ، ومناقشتهم في الموضوعات التي تهمهم وتشجيعهم على الإطلاع ، إن هذه الممارسات تساهم بشكل إيجابي في رعاية وتشجيع الإبداع ،
ولقد حذر العلماء من بعض أنماط التربية التي تعوق الإبداع ، ومنها النمط الديكتاتوري المتسلط ، وهو يتصف بالقسوة والتسلط وفرض الطاعة العمياء ، مع عدم الاستماع إلى الأبناء وعدم احترام آرائهم ، ومن أهم نتائج هذا النمط من الأسر أن ينشأ الأبناء ضعفاء في مواجهة المتغيرات .. وتقل قدراتهم الإبداعية في مختلف المجالات ، بل ويخلق ذلك عقولا سلبية وعاجزة بل قد يصيب أبناءه بأعراض مرضية كالميل إلى العزلة والخوف .
وعلى الأسرة مراعاة الآتي لتنمية وتشجيع وتعظيم الظروف الميسرة للإبداع لدى أبنائها :
1. توفير المناخ التربوي السليم والمناسب لتنشئة أبنائها ، ويعتبر المناخ الإيماني الذي يطبق معاني الشورى والحرية المقننة هو أفضل بيئة ينشأ فيها الأبناء تنشئة(115/1489)
سليمة ويحقق هذا المناخ الأفكار الجيدة والمؤثرة للأبناء ، وأن تحترم فيهم حب الاستطلاع وتساؤلاتهم ، وتحرص على أن تكون الإجابة عليها دون تذمر أو تقليل من شأنها ، ويساعد هذا المناخ على تعظيم دور الحوار كأسلوب للوصول للحقيقة فضلا على إنه لا يحقر ولا يعاقب المخالف له في الرأي ، ويفترض أن الرأي الأصوب هو الذي يأتي بعد مناقشة ، ويحظى بموافقة الأغلبية مع عدم نفي حق الأقلية في التعبير .
ولتوليد التفكير الإبداعي لدى الأطفال نحتاج إلى إعطائهم الثقة في نفوسهم ودفعهم إلى التصرف بمفردهم في المواقف ، وهذا يتطلب الاهتمام بالحوار والنقاش الموضوعي لطرح المزيد من الأفكار الجيدة وعرض وجهات النظر المختلفة ، لإثراء وتعميق القدرات الذهنية والفنية والعلمية ، والأبناء الذين يعيشون في مناخ ديمقراطي هم أقرب الناس إلى الشعور بالثقة بالنفس والاستقلال ، وإكسابهم صفات التعاون والاعتماد على النفس والقدرة على الإبداع وتربية العقول المفكرة والمبدعة .
ولقد حذر العلماء من بعض أنماط التربية التي تعوق الإبداع ، ومنها النمط الديكتاتوري المتسلط ، وهو يتصف بالقسوة والتسلط وفرض الطاعة العمياء ، مع عدم الاستماع إلى الأبناء وعدم احترام آرائهم ، ومن أهم نتائج هذا النمط من الأسر أن ينشأ الأبناء ضعفاء في مواجهة المتغيرات .. وتقل قدراتهم الإبداعية في مختلف المجالات ، بل ويخلق ذلك عقولا سلبية وعاجزة بل قد يصيب أبناءه بأعراض مرضية كالميل إلى العزلة والخوف .
والنمط المتسامح : يتصف الآباء في هذا النمط بالتسامح الشديد مع الأبناء الذي يصل إلى حد التدليل وقبول الأخطاء دون توجيه ، مما يكون له تأثيرات سلبية على سلوك الأبناء ، وغالبا ما ينتج عن هذا النمط أبناء يتسمون بالفشل والانحراف وصنع عقول سلبية وعاجزة ، لأنه إذا كان واجب الأباء مساعدة الأبناء في إشباع حاجتهم فإن عليهم ألا يبالغوا في مساعدتهم إلى الحد الذي يجعل الأبناء يفقدون القدرة على الاستقلال عنهم ، وبالتالي يكونون غير قادرين على تكوين علاقات اجتماعية سوية .
لنعلم أولادنا أن الأفكار الجديدة قد تتعرض لاعتراضات وقد تتعرض لأخطاء فعدم اليأس والإحباط حينئذ هو الطريق إلى النجاح بإذن الله ، فالمخترع أديسون جرب 1800 طريقة كلما فشل في طريقة أخترع أخرى ، حتى صنع المصباح الكهربائي فلنعوده الصبر إن فشل في الاختبار أو أحبطه المدرس أو سخر منه أحد أقربائه .
2) ويجب أن أشير إلى أن المناخ الشوري الإسلامي في التربية يقضي على التفرقة في معاملة الأبناء ، ويساعد على عدم تذبذب سلوك الأباء تجاه الأولاد ، لأن عدم ثبات هذا السلوك يشعر الأولاد بالقلق ، ويفقدهم القدرة على توقع ردود الفعل تجاه سلوكهم فيصبحوا مترددين غير قادرين على اتخاذ أي قرار وبالتالي تفقدهم القدرة على الابتكار والإبداع .
1. ومن المناسب أن يتأمل الطفل الطبيعة ويبحث عن أسباب بعض الاختراعات , فالسيارة الفولكس كالحشرة والسيارة الجاجوار كالفهد .. وهكذا الطائرة الهليوكوبتر ،ويمكن أن نعود أبناؤنا على هذا التأمل على شاطئ البحر وقت الغروب ووقت الشروق وفي الحدائق وغيرها .(115/1490)
2. ويبحث عن الفكرة الجديدة في غير أماكنها المعتادة ، كمن يبحث عن أماكن للعب واللهو فيفكر في المطبخ وكيف يلعب فيه بدلا من النادي .
3. عود ابنك على تغيير عاداته اليومية حتى لا يقع أسيرا للعادة ولا يحب التغيير أبدا ، فالروتين اليومي من معوقات الإبداع .
4. لا تعود ابنك أن يحصر نفسه في إجابة واحدة للسؤال بل يعدد الإجابات عن السؤال الواحد .
5. حاول أن تسأل ابنك عن أي شئ بصيغ مختلفة وليس بصيغة واحدة فقط حتى لا تكون صيغة السؤال خطأ فتكون الإجابة أيضا خطأ .
6. اترك لابنك العنان أن يسأل ويجيب عن أسئلة : ماذا لو ؟ مثل : ماذا يحدث لو كنت عصفورا فوق شجرة توت ؟ ماذا يحدث لو كنت قبطان سفينة ؟ ما علاقة كذا بكذا ؟ فمثلا ما علاقة القطة بالثلاجة ؟يقول : كلاهما متعدد الألوان ويمكن أن نضع في كليهما السمك ( في بطن القطه وفي الثلاجة ) وذيل القطة شبيه بموصل ( فيشة ) الكهرباء . وهكذا يربط بين ما يفكر فيه وبين ما يشاهده في الطبيعة ويربطه بفكرته كربط شاطئ البحر يسوق السمك ، فهذا كله ينمي التفكير الإبداعي عند الصغار .
7. ليتخيل ابنك أنه هو الفكرة الجديدة أو الرسم الجديد الذي صنعه ، فلو أتيحت له الفرصة ليتكلم ويدافع عن نفسه .. يا ترى ماذا يقول ، وماذا يطلب ؟
لا ترفض أي فكرة لأبنك ولكن أخرجها عن سلبيتها ، فإن رفض المذاكرة مثلا فقل له : إنك تعتبر هذا الرفض مؤقتا حتى ننتهي من الغذاء ثم تلعب وبعد ذلك تذاكر درسك .
8. عود ابنك ألا ينشغل بالأمور الثانوية ويترك الأمور الرئيسية ، وعود ابنك أن يجزئ فكرته ويبدأ بالأهم فالمهم فالأقل أهمية .
9. لنعلم أولادنا أن الأفكار الجديدة قد تتعرض لاعتراضات وقد تتعرض لأخطاء فعدم اليأس والإحباط حينئذ هو الطريق إلى النجاح بإذن الله ، فالمخترع أديسون جرب 1800 طريقة كلما فشل في طريقة أخترع أخرى ، حتى صنع المصباح الكهربائي فلنعوده الصبر إن فشل في الاختبار أو أحبطه المدرس أو سخر منه أحد أقربائه .
10. عود ابنك على التفكير في بدائل عديدة لأفكار قد تبدو له واضحة جلية خصوصا عند حل المشكلات .
11. عدم التحقير وعدم السخرية من جهود الطفل ومحاولاته الأولى ، بل لابد من التعاطف مع هذه المحاولات حتى وإن بدت فاشلة ، كي يستطيع من خلال هذا التعاطف المشبع بالتشجيع أن يقدم نتاجا آخر مع إثابة الطفل على أي عمل له قيمة . إن قال ابنك فكرة جديدة أو غريبة فلا تسخر أو تظهر استغرابا ، فإن طلب أن يسافر بالدراجة فقل له : ممكن ولكن ماذا لو تعبت في الطريق الصحراوي وكانت أقرب مستشفى على مسافة ساعة مثلا وماذا لو حدث كذا وكذا .
12. التعود على زيارة الأماكن الغريبة كقمة جبل أو قمة الهرم أو معرض الأشياء الغريبة أو زيارة كوخ أو مغارة وهكذا .(115/1491)
13. تجنب نقد طفلك ولومه كثيرا ، وإن كان لابد منه فليكن قليلا وبأسلوب غير مباشر ليس فيه عنف .
14. لا ترفض أي فكرة لأبنك ولكن أخرجها عن سلبيتها ، فإن رفض المذاكرة مثلا فقل له : إنك تعتبر هذا الرفض مؤقتا حتى ننتهي من الغذاء ثم تلعب وبعد ذلك تذاكر درسك .
15. علم ابنك أنه إذا واجهته مشكلة أو مسألة لم يستطع حلها فليتركها ، ويشغل نفسه بأي أمر عضلي كالمشي والسباحة والتأمل والتحدث والنوم واللعب والاسترخاء والتنزه والأكل ، وهناك ستأتيه الأفكار الإبداعية لحل مشكلته إن شاء الله لأن العلماء يخبروننا بوجود علاقة بين جانبي المخ الأيمن والذي يختص بالخيال والأيسر الذي يختص بالحركة ، فعندما يتحرك الإنسان يعمل الجانب الأيسر ويستريح الجانب الأيمن فيبدل الخيال بالعمل .
16. ليمارس الطفل ما تعلمه مثل : اقرأ هذه ( سيارة ـ إشارة المرور ـ اكتب تلغرافاـ الطبق به كام تفاحة ـ لو قسم علينا التفاح بالتساوي على كم يحصل كل منا وهكذا ؟ .. ) .
17. ليتعلم الطفل مهارات الاستماع والتحدث ( ألا يقاطع المتحدث ـ متى يستمع ومتى يتكلم وكيف يدلى برأيه المخالف لرأي الآخرين ؟ ) .
18. البرلمان الصغير في البيت يعمق مبدأ الشورى ويساعد الصغير على الإبداع .
19. لابد من استيعاب حب الاستطلاع وكثرة الأسئلة عند الطفل والإجابة عن أسئلته بما يناسب عقله .
20. على الوالدين حض الطفل على القراءة بإحضار القصص المصورة الشيقة له لأن القصص المصورة تنمي الإبداع لدى الأطفال ، وتشجيعه على القراءة الجهرية ولطف التصويب له عندما يخطئ . ومساعدة الطفل على أن يقرأ ويفكر فيما يقرأ ، ومساعدته على أن يقتني الكتب ، وإنشاء مكتبة خاصة بالطفل فيها الكثير من الكتب المتعلقة بتنمية الخيال التي تكتب للأطفال لأن الهدف الرئيسي منها هو نقل الحقيقة العلمية بنظرة مستقبلية ، لأن الخيال العلمي يبدأ من النقطة التي يقف عندها العلم ، ويتخيل الطريق إلى المستقبل أو يعرض وجهة نظر مختلفة عن الأوضاع الحالية ، ولا يوجد إبداع دون ماض حافل بالجدية والقراءة والإطلاع .
21. عدم إجبار الطفل على ميول معينة ، فليس من الضروري أن ابن المهندس يكون مهندسا ، أو تلقينه عادات الأباء السيئة وغير السيئة ، ويجب أن تحرص الأسرة على أن تكون ، المهام المخصصة لكل طفل في مستوى قدراته وإمكانياته ، ويجب ألا يكلف بمهام لا يقوى عليها .
22. ينبغي توطيد الصلة بالمدرس وتعريفه دوما بصفات الابن ، والمرجو منه ليكون مبدعا متفتح العقل . وتزويد الطفل بقدر مناسب من المعلومات عن المدرسة قبل دخولها بما يثير اهتمامه قبل أن تبدأ الدراسة .
23. ليرى الشيء ثم يكتبه ، فيعطي تفاحة ويقال له : اكتب تفاحة ثم يعطي الموز ويقال له : من صنع الموز ؟ فيقول الله ، وهكذا بالتدريب العملي .(115/1492)
24. تجديد النشاط للطفل دوما يساعده على أن يكون مبدعا متفتح الذهن شديد التركيز ، ويجدر بالآباء رعاية الجو الفكري الصالح وتوفير الأمن النفسي ، وإتاحة الخبرات الحية والتوجيه السليم بما يساعد الطفل في تكوين مفاهيمه تكوينا منتظما فعالا ، وعليهم أن يحاولوا إمداد الأبناء بخبرات ثقافية واجتماعية مثيرة لكي تضيف إليهم حقائق جديدة تشكل لهم نوعا من التحدي لميولهم ، ويمكن تنفيذ ذلك باصطحابهم في رحلات إلى الحدائق والمتاحف والمعارض ، لأنها ستتيح فرصة جمع المعلومات لديهم وستصبح عاملا تربويا ينمي في الطفل حاسة التذوق . ويزيد من خبراتهم التي يمكن أن تنشئ عندهم الرغبة في الخلق والإبداع .
25. التغذية السليمة المناسبة تنمي الإبداع وتقوي الذاكرة وتزيد الذكاء .
26. اللعب مهم جدا لتنمية الإبداع عند الطفل ، خصوصا إن تركناه على فطرته وسجيته ، يلعب ما شاء بلا تسلط أو سخرية .
27. تشجيع التخيل عند الطفل ومساعدته على التفكير الحر ، بلا تسلط او فرض وجهة نظر معينة عليه .
28. اطرح مشكلة أو أسئلة كثيرة تثير الاهتمام والتفكير أو مسالة معينة عليه مع مجموعة من أقرانه في جلسات مفتوحة ثم تترك له الفرصة معهم ليطرح كل منهم رأيه مع تشجيع الاختلاف البناء وتقليل أوجه القصور منهم .
29. تشجيع الطفل على احترام قيمة مواهبه .
30. تنمية المهارات بشتى الوسائل حتى لو كانت محدودة ، فمن عنده مهارة الرسم تحتضر له الألوان والورق ليرسم ويلون ما شاء ، ثم يشجع ويصوب له من طرف خفي ومن عنده مهارة الإلقاء يشجعه الآباء والمدرسون على ذلك من خلال الإلقاء في الفصل وفي الإذاعة المدرسية وهكذا ..
31. ساعده أن يصفي ذهنه ويبتعد عن مسببات القلق وكل ما يشتت الذهن .
32. حفزه بتوضيح الهدف من التفكير في هذا الموضوع وأثر ذلك عليه .
33. عود ابنك على عرض أفكاره وإقناع الآخرين بها ، ولكن نبهه إلى اختيار الوقت والشخص والمكان المناسب لطرح أفكاره ، فلا يعرض الفكرة لشخص متعب يريد النوم ، ولا لأمه أثناء إعدادها الطعام ويعرض الفكرة في مكان هادئ يسمح للمستمع أن يستمع بكل جوارحه فلا يعرضها على صديقه في الملعب أن على المدرس في الفصل أمام التلاميذ ، وهكذا وليعرضها على شخص لا يحبطه ولا يتكبر عليه كبعض المعلمين والأقارب . وليتعود عرض الفكرة بأسلوب شيق ومثير ومؤدب .
34. دع طفلك يستمتع بطفولته واتركه على سجيته يسأل ويتعلم ويلعب ويقلد ويعيش عالمه الخاص به . فلا تحط من قدراته ولا تستصغر من شأنه .
35. لا تمنعه من اللعب بحجة الحفاظ على سلامته من الإصابة ، ولا تحبسه داخل جدران البيت حفاظا عليه من الاختلاط بغيره ، فالمدرسة والنادي والزيارات والرحلات مهمة للطفل .
36. أتح لطفلك الحوافز اللازمة ، وذلك بأن تقرأ له وتتحدث وتلعب معه ، شجعه على ممارسة هواياته وزوده بالأدوات اللازمة لتنمية اهتماماته الخاصة ، خذه إلى(115/1493)
المكتبة العامة والمتحف ، وعرفه على أكبر قدر من مصادر المعرفة مثل المراكز التعليمية والثقافية وغيرها .
37. دع الطفل يمارس طفولته فإن كون الطفل موهوبا يعني تفوقا واضحا في نموه الفكري ، فإذا كان الطفل في الخامسة من عمره فقد تدل مؤشرات الذكاء إلى أن عمره العقلي أكبر من ذلك ، أما من الناحية العاطفية فمن المؤكد أنه مازال طفلا له رغباته الخاصة بالأطفال والتي لا يستطيع أنن يتجاوزها .
38. أحبب طفلك كما هو عليه ، ولا تقيد حبك له وحنانك عليه بأية شروط مثل الإنجاز المدرسي كأن يكون الأول على فصله أو غير ذلك ، واحترام الفروق الفردية لدى الطفل فلا نحقر أقل القدرات ونزهو ونفخر بأعلاها ، فأسلوب التوبيخ أو السخرية والعقاب البدني ومطالبته بمطالب وسلوكيات يعجز عن تحقيقها ، كل هذا يؤدي إلى ضعف الثقة بنفسه وميله إلى الانطواء ويحد من قدراته الإبداعية ، وأيضا نجد أن بعض الآباء والأمهات إذا فشل أبنهم في شئ فإنهم يشنعون به ، وإذا نجح في شئ فلا يتم تشجيعه أو مكافأته ، فنجد الطفل دائما في حالة خوف ولا يتكلم حتى لا يخطئ
39. شجعه على المجازفة ، وكافئه على المحاولة بغض النظر عن مدى النجاح الذي يحرزه في ذلك ، فم شأن هذا أن يحثه على بذل المزيد من الجهد في سبيل تحسين إنتاجه .
40. شجع طفلك على أن يرهف إحساسه ، لكل ما يدور حوله ويحيط به ، وشجعه على التجربة والإكثار من الأسئلة
41. إن النشاطات العلمية توفر فرصا طيبة تساعد الطفل على أن يدرك أن ليست كل تجربة ناجحة ، وأن
عدم نجاحها لا يعني بالضرورة الفشل ، وإن كان من المهم أن نعلمه كيف يتجنب الفشل إذا كان هذا ممكنا ، بل ويعتبره حاجه ملحة إذا تعرضت سلامته للخطر ، غير أن الحرص الزائد عن حده يتجنب الفشل يعيقه عن أن يتصرف بشكل واقعي سليم ، وقد يثبط همته ويسلبه زمام المبادرة .
42. إن الطفل يتعلم الكثير بطريق التجربة والخطأ ومن الضروري له أن يجرب ويفشل ، ثم يعيد التجربة من جديد ، ومع حاجته إلى التوجيه فهو أيضا بحاجة إلى نجاح يحرزه بجهده الخاص . فكم من مرة وقع فيها وتعثر حين حاول المشي لأول مرة ، وكم جرب وعاود التجربة من جديد بدافع ذاتي دون أنن يدركه اليأس والوهن حتى نجح وأصبح قادراً على المشي .
إن الطفل يتعلم الكثير بطريق التجربة والخطأ ومن الضروري له أن يجرب ويفشل ، ثم يعيد التجربة من جديد ، ومع حاجته إلى التوجيه فهو أيضا بحاجة إلى نجاح يحرزه بجهده الخاص . فكم من مرة وقع فيها وتعثر حين حاول المشي لأول مرة ، وكم جرب وعاود التجربة من جديد بدافع ذاتي دون أنن يدركه اليأس والوهن حتى نجح وأصبح قادراً على المشي .(115/1494)
43. حاول أن تكون شريكا لطفلك في ألعاب من شأنها أن تثير تفكيره ، وتنشط خياله ، وكن له معاونا بما تظهره من بشاشة وتشجيع ، لا ناقدا يعد المثالب وأوجه النقص .
44. ضع طفلك في موقف يتطلب منه التأمل ، وإعمال الفكر فتعرض عليه مشكلة مما يتعرض له في حياته ، فتقول له مثلا : ماذا تفعل لو ضللت الطريق إلى البلدة ؟ ماذا تفعل لو أصبحت معلما ؟ ما أقرب طريق تصل بها إلى مدرستك ؟ ماذا تقترح لتجميل حديقة البيت ؟ أو ترتيب غرفتك ؟ كيف تجعل من عيد ميلادك حفلة مرحة ممتعة ؟ فكر في لعبة تتمتع بها مع أصدقائك ؟ .
45. لا تدع فرصة تمر بك إلا علمته فيها خبرة جديدة أو توصلت معه إلى حقيقة علمية أو حل لمشكلة معروضة عن طريق الملاحظة أو المناقشة والحوار مثل ظاهرة جمود الماء في الثلاجة ، وذوبانه إذا ترك في الشمس ، أو اختفاء السكر حين وضعه في الماء ، أو سقوط أوراق الشجر في الخريف ، أو نمو البذور إذا توفر لها الماء والحرارة والضوء .
46. وفر للطفل فرصة يخلو فيها إلى نفسه يعمل وحده ويجرب في مكان هادئ ، بعيد عن الرقابة والتدخل ، وبدون ذلك قد لا يتوافر لديه الوقت اللازم للنشاط الإبداعي الفردي .
47. لا تقاطع طفلك إذا كان مستغرقا في فكرة أو عمل حتى ولو كان ذلك منه لمجرد الحصول على ثنائك ورضاك ، وكن حريصا على أن يتابع أفكاره فتساعده على ذلك عن طريق الأسئلة أو بالمشاركة معه ، فتقول : هل يمكن أن تعلمني أن افعل مثلما تفعل ؟ أو هل يمكن لي أن أساعدك في إتمام ما تعمل ؟ وهكذا .
48. لا تقلق إذا كان طفلك يستمتع بالأقاصيص ونسج الخيال أو المحاكاة والتقليد ، ووفر له سببا معقولا يدفعه إلى التجربة والإبداع .
49. لا تعلمه أن يجزئ عمله فيقوم به على دفعات ، بل اترك له فرصة ينمو بها خياله ، ويعمل عقله ، وهذا لا يعني أن تتركه يعمل دون توجيه منك أو إرشاد ولكن علمه المهارات البسيطة كيف يستعمل الفرشاة والدهان مثلا أو يمسك بالقلم ، ويستخدم المقص ، ولكن لا تصر عليه فتمسك بيده كيف يرسم زهرة مثلا أو تقوم بتصحيح ما رسمه بعد أن ينتهي منه .
لا تدع فرصة تمر بك إلا علمته فيها خبرة جديدة أو توصلت معه إلى حقيقة علمية أو حل لمشكلة معروضة عن طريق الملاحظة أو المناقشة والحوار مثل ظاهرة جمود الماء في الثلاجة ، وذوبانه إذا ترك في الشمس ، أو اختفاء السكر حين وضعه في الماء ، أو سقوط أوراق الشجر في الخريف ، أو نمو البذور إذا توفر لها الماء والحرارة والضوء .
50. يمكنك أن تتقدم إليه باقتراحات بناءة إذا ظهر أنه بحاجة إليها ، وغالبا ما يتم ذلك عن طريق أسئلة تثير تفكيره وتقدم إليه أفكارا جديدة ، أو إليها فذلك أفضل بكثير من أن تخبره مباشرة ما يجب عليه عمله ،إن الجهود الإبداعية لا تكون خالصة دون غيرها ، والطفل الذي يخشى التأنيب أو خلط الأشياء التي يعمل بها ، أو إتلاف بعضها أو خلط الصحيح بالخطأ ، لن يشعر بنشوة الإبداع ولذا لا تطلب منه دوما أن(115/1495)
يتقيد بالأناقة في عمله ، أو تمنعه من اللعب خشية أن يخلط أدواته أو يكسرها أو يوسخ ثيابه .
51. كافئ الطفل على جهوده الإبداعية بتشجيعه والثناء عليه وبمشاركته سروره ومتعته وتقدير نتائجه الإبداعية حتى ولو لم تصل إلى مستوى الكبار ،فما تبديه من سرور وإعجاب لما ينجزه أو يقوم به يشجعه على الاستمرار في التجربة والمضي فيها . أما إذا قابلته باللامبالاة وعدم الاكتراث فقد تثبط من همته ، وتقلل من احتمال بروق ومضاته الإبداعية .
52. زود طفلك بالكثير من المواد البسيطة النافعة ، وشجعه على استخدامها وتفحصها دون رقابة دائمة ، ونقد مثبط ، أو خوف من أن يؤدي استخدامه لها إلى إتلاف بعضها أو العبث بنظافتها مما يسبب لها التأنيب ، وإذا حفزت طفلك على أن يكون حرا في تصرفه في هذه المواد البسيطة تكونت لديه رقة الشعور ورهافة الإحساس والإطالة في التفكير ، والمرونة في العمل . وهذا كله من ضرورات الفكر المبدع في جميع الحقول والميادين ، وتدريب الطفل على ممارسة النظام حتى وسط الفوضى ، والانتباه إلى اللمسات الفنية في المنزل والمحافظة على أدواته وعدم تدميرها أو تشويهها ، وعدم السماح لطفلك أن يكون عنده وقت فراغ يسبب له بعض الضيق ودعه يبحث عن طريقة ليشغل وقته .
53. من المهم جدا أن تعرف أن قدرات الطفل الإبداعية توجد بالتأكيد عنده قبل أن يلتحق بالمدرسة ، والمعلم غير الواعي قد يعمل على طمسها وضياعها إذا ما كون لديه القناعة بأن تحسنه في المدرسة مرهون بالطاعة التامة لأوامره وتعليماته ، وبعدم اللجوء إلى السؤال والمناقشة .
كافئ الطفل على جهوده الإبداعية بتشجيعه والثناء عليه وبمشاركته سروره ومتعته وتقدير نتائجه الإبداعية حتى ولو لم تصل إلى مستوى الكبار ،فما تبديه من سرور وإعجاب لما ينجزه أو يقوم به يشجعه على الاستمرار في التجربة والمضي فيها . أما إذا قابلته باللامبالاة وعدم الاكتراث فقد تثبط من همته ، وتقلل من احتمال بروق ومضاته الإبداعية .
54. تقبل أفكار الأطفال حتى لو كانت ساذجة ، أما إذا كانت مغرقة في الخيال فيقوم الوالدان بتوجيههم إلى الطريق الذي يجعل الفكرة أكثر واقعية وممكنة التحقيق ، فقد يقول الطفل : سنستخدم سلما للصعود إلى القمر ، أو بعد عامين سيختفي نهر النيل من مصر والسودان ، ففي هذه الحالة يجب أن توجه هذه الأفكار إلى الاتجاه الصحيح
55. لا تنهر طفلك إذا سألك ماذا تفعل ؟ لأن في سؤاله دليلا على الرغبة في المشاركة ، وهنا ينبغي أن تقول له ببساطة شيئا عما تفعل ، وبذلك تنمي فيه حب الاستطلاع ، وإن كان هناك إمكانية للمشاركة فشجعه على ذلك ولو كانت في أضيق الحدود .
56. يجب ألا تضيق بالأسئلة الكثيرة التي يسألها الطفل والتي تحتاج إلى إجابات عديدة ، بل يجب أن تشجعه على الأسئلة واللعب بها وتحويرها ، فكل ذلك يسهم في توسعة مداركه وزيادة معارفه وقديما قالوا ( السؤال مفتاح المعرفة ) وقد أثبتت بعض البحوث العلمية أن إطلاق الأسئلة بكثرة حتى وإن لم يتلق الطفل إجابة عنها ،(115/1496)
يساعده على تنمية الإبداع ، ويعطي الفرصة للفرد للإحاطة بجوانب الموضوع ، فمثلا ، قد يسأل الطفل حينما يشاهد سيارة : ما هذه ( بتاعة مين ـ اشتراها بكام ـ مين بيركبها ـ بيروح فين ) ، ويمكن أن تكون هناك أسئلة أخرى في هذا الموضوع ؟ كم سيارة في المدينة ؟ ما سرعة السيارة ؟ ما نوع الوقود ؟ ما أول سيارة في العالم ؟ وفي أي البلاد كانت ؟ ويمكن أن يرى الطفل حديقة جميلة فيسأل : ما هذه الأشجار ؟ كم عدد الأوراق في كل شجرة ؟ ما أول شجرة نبتت في هذه الحديقة ؟ أين يذهب الماء بعد سقي الحديقة ؟ وهكذا مثل هذه الأسئلة التي قد يلقيها الأطفال ، بل يجب أن يتم تشجيعهم على مثل هذا النوع من التفكير والإجابة عنها بم يناسب عقولهم وسنهم .
57. تحلى الآباء بالصفات والقدرات الابتكارية ، يشجع أطفالهم على أن يقلدوا ويتوحدوا مع آبائهم في هذه القدرات، فالآباء الذين يهمهم تنمية قدرات الابتكار عند أطفالهم غالبا ما ينسون أن بإمكانهم أن يكونوا نماذج في هذا المضمار ، فالطفل الذي يرغب في الوصول إلى أهداف محسوسة ولا يعرف كيف يحققها سوف يحاول التوصل إليها بأن يجعل من نفسه شبيها بمن يكبرونه سنا ولديهم هذه الصفات ، فالقدرات الابتكارية يمكن نقلها عن طريق القدوة الحسنة ، ويمكن القول بأن الآباء الذين يقولون بعدم وجود الابتكار والأصالة لدى أبنائهم لا ينظرون إلى أنفسهم وإلى ممارستهم الفعلية . ما سبق يفرض على الوالدين أن يزيدا من التفاعل مع الأطفال ، وهذا يفرض عليهما عدم الانشغال عن أطفالهما بالأعمال وإقامة المشروعات ، وإلا خسروا شيئا مهما وهو مستقبل الأطفال وإبداعاتهم .
58. أن يهتم الآباء بمناخ الحرية والاحترام والانسجام العائلي ، بتوفير جو من الحب والدفء والحنان ، لأن ذلك يؤدي إلى اطمئنان الأبناء وزيادة دافعيتهم إلى الإبداع، حيث أثبتت بعض البحوث العلمية أن الإبداع يزيد في جو من الأمان النفسي .
59. التقليل من أساليب المحاسبة فالأبناء كثيرو الخطأ ، ولكن لا ينبغي أن يكون ذلك مدعاة للمحاسبة على كل خطأ حتى ولو كان صغيرا ، وعلى الوالدين تشجيع الأطفال للاستفادة من الأخطاء ، وممارسة الحرية للتعبير والتشجيع على ممارستها ، لأن المبدعين أصحاب علاقات دافئة ووثيقة مع آبائهم ، وباقي أفراد أسرهم من الأخوة والأخوات الكبار والأعمام والعمات ، والأخوال والخالات ، وغيرهم .
60. العمل على تنشئة الطفل المستقل ذاتيا ، فهذا من أساليب تربية المبدعين ويتحقق ذلك حينما نترك الفرصة للطفل أن يختار لعبته بنفسه أو أدوات المدرسة ، أو ملابسه مع شيء من التوجيه البسيط الذي لا يؤثر في الاستقلال الذاتي ، كما يتحقق ذلك حينما يسأل الوالدين طفلهما عن رأيه في موضوع ما ، ويعطونه الإحساس بأن رأيه ذو قيمة وله أهمية خاصة ، كما ينبغي أن يطلب منه أن يعلل أحيانا هذا الرأي .
61. تشجيع الطفل على الملاحظة الهادفة لكل ما يحيط به في البيئة واصطحابه في نزهات إلى الحقول والبيئة بشكل عام ، والتخطيط لعمل رحلات ميدانية في البيئة المحلية ، ودفع الطفل إلى التفكير وجمع بيانات ومعلومات وأشياء من البيئة ، ومحاولة تصنيفها وتبويبها ونقدها ، وإيجاد العلاقات الظاهرة وغير الظاهرة بينها ، وتعويده أنشطة متنوعة تحفز نموه العقلي ، بما يتوافق مع النمو في العلاقات الاجتماعية التي فرضها المجتمع المدرسي الجديد .(115/1497)
62. إمداد الطفل بخبرات مثيرة تتحدى تفكيره ، وتثير اهتمامه ، وتزيد حبه للاستطلاع ، كأن يذكر الوالدان لطفلهما كيفية انطلاق سفن الفضاء ، أو خطوات صناعة السيارات، كذلك تشجيعه على التعلم من خبرات الآخرين ، بحيث لا يترك فرصة تضيع منه دون أن يطلع ويستفيد مما توصل إليه الآخرون من أعمال وخبرات، تجعله يتعرف على مشكلات البيئة معطيا بعض الحلول لها .
63. بتدريب الأطفال على التوقع ، وإثارة العديد من الأسئلة حول الأشياء ، فمثلا إذا كان هناك اتفاق على مشاهدة برنامج تليفزيوني مثل ( عالم الحيوان ) نسأل الطفل عما يتوقع أن يشاهده في هذا البرنامج ، ونطلب منه أن يعبر عن ذلك شفويا ، وأن يكتب مجموعة من الأسئلة ليس بالضرورة أن يجيب عنها ولكن بالضرورة أن يسأل مثل : كم عدد الحيوانات إلى الغابة؟ كم عدد الأشجار الخضراء فيها ؟ متى جاءت الحيوانات إلى الغابة ؟كم عدد الأشجار الخضراء ؟ كم عدد الصيادين في الغابة ؟من أين تأتي المياه إلى الغابة ؟ لماذا تحدث الحرائق في الغابة ؟ وهكذا ، وأن يكتب قصة عن أبرز اللقطات التي شدت انتباهه ، وأن يرسم صورة تعبيرية عما شاهده في البرنامج .
64. تعويد الطفل على التدبر في المناظر الطبيعية وتأمل قدرة الله ، وكذلك تعويده على ذكر الله والاستغفار .وعدم النظر إلى الحرام ، أو التحدث بكلام حرام أو الكذب ، فمن ذلك تحدث حالة نفسية عجيبة وسكينة واطمئنان مما ينتج حافظة هائلة .
65. اللعب هو إحدى الوسائل التي ينمو من خلالها إبداع الأطفال وهو أحد الوسائل التي نتعرف بها على نموهم الإبداعي ومن الضروري أن تسمح الأسرة لهم بمزاولة الألعاب التلقائية الحرة التي يزاولها الطفل وقتما شاء .
66. اترك طفلك ينجز أعماله في سهوله وبدون قيد سواء كانت هذه الأعمال إدخال شيئين في بعضهما من الأشكال والمكعبات المختلفة ، أو نقل غطاء من صندوق إلى آخر أو تعديل الوسادة من وضع إلى آخر ، أو إعادة تنظيم كتبه وحاجاته الخاصة أو المساهمة في ترتيب بعض الأدوات المنزلية .
67. وفر لطفلك خامات كالخشب والورق والألوان والصلصال وغيرها ، لكي يستخدمها في إنتاج متنوع ، مع تشجيع هذا الإنتاج حتى لو بدا تافها فمن الممكن أن يعمل مركبا من الخشب ، أو طائرة ورقية ، أو شكل طائر جارح كالحدأة والصقور أو فلاحا يسوق ماشيته في الصباح كل هذه الأعمال قد يعتبرها الكبار غير مفيدة . ولكنها تمثل قيمة جيدة ، ونوعا من أنواع التفكير والإبداع .
68. توفير الألعاب التركيبية ، ودفع الأطفال إلى عمل الصلصال لمزرعة دواجن مثلا أو لمنزل القدماء أو ألعابهم التي كانوا يزاولونها ، أو بناء منزل من قطع الخشب ، أو إعداد عرائس من الورق أو القطن أو الزجاجات الفارغة، أو عمل مبني معين كمبني المطافئ أو مبني البريد أو إدارة المرور أو إعداد بانوراما لوصف أحداث تاريخية أو مشكلات مختلفة ، أو رسم لوحات تعبر عن موضوع معين كإحدى الحروب أو سوق القرية ، أو قوارب الصيد على سطح البحيرة .(115/1498)
69. اهتم برسومات طفلك ، أو ما يقوم به من أعمال بسيطة وبذلك تساعده على الوصول إلى تحسين إنتاجه والاستمرار فيه ، فإذا كان يرسم أشكالا في ورقة أو في لوحة فإنه من المفروض أن تلقي نظرة استحسان وإعجاب بما يفعل .
ـــــــــــــــــــ
عفوا ... لا تستعجل الثمرة
خالد روشه
5/10/1427
ارسل تعليقك ...
تعليقات سابقة ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
Khaled_rousha@yahoo.com
كثيرا ما يهجم الاستعجال في الأعمال وتعجل رؤية ثمارها على المرء فيغلبه حبه لرؤية نتائج عمله على إتقانه لأعماله واختياره لأفضل السبل وأحسن الأدوات , والإنسان - بطبيعته - عندما يقوم بالعبادة يحب أن يظهر أثرها عليه فورًا في بركة ظاهرة أو في استجابة دعاء أو في غيره، وهذه هي طبيعة الإنسان دائمًا, يحب رؤية الثمرة, قال سبحانه: {وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ} [الصف: 13].
وكذلك فإن طبيعة الإنسان العجلة والتعجل, فهو يريد أن يزرع اليوم ويحصد غدًا, قال سبحانه: {وَكَانَ الْإنْسَانُ عَجُولاً} [الإسراء: 11].
لكن الله سبحانه له سنن في كونه وفي خلقه وله حكم في غاية العظمة والإحكام ؛ فبعض الأمور يمكنك أن تزرعها اليوم وتحصد ثمارها غدًا, إلا أن هناك - وهو أكثرها - ما إن زرعته اليوم فلن يعطيك ثمارًا إلا بعد سنين طويلة, وعندئذ فمهما استعجلت فلا فائدة إلا أن يؤثر ذلك على قلبك فيمرضه.
لذلك فاستعجال المرء في آداء أعماله منه مايحمد وهو ماكان قائما على تدبر للأمور والمواقف والظروف وتقرير الاختيار في أفضلها وأحسنها ووضوح الهدف بعد إمرارها على الحكمة ورأي الخبراء
لذلك فاستعجال المرء في أداء أعماله منه ما يحمد وهو ما كان قائما على تدبر للأمور والمواقف والظروف وتقرير الاختيار في أفضلها وأحسنها ووضوح الهدف بعد إمرارها على الحكمة ورأي الخبراء وهو عندئذ محمود كقوله تعالى لموسى " وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَامُوسَى قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى " , وأما أكثر الاستعجال فهو مذموم غير محمود إذ إن غالبه يقوم على فورة النفس وعدم التدبر والتفكر في المآلات وتفنيد الخيارات والبحث في العواقب واستشارة العلماء والخبراء ..
وفي العبادات قد بين لنا الشرع الحنيف أن علينا الصبر والثبات على الصالح من الأعمال فقال سبحانه: " ياأيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا " وقال: " واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلا " وقال " واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم(115/1499)
بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم " وفي صحيح مسلم من رواية عائشة _رضي الله عنها_ أنه _صلى الله عليه وسلم_ كان إذا عمل عملا أثبته .
نشأة العجلة ..
وقد ينشأ الاستعجال عند الإنسان بدافع الخلقة " خلق الإنسان من عجل " وقد ينشأ من فورة الإيمان عند مبتدئ في الطريق في لحظة رأى فيها انتفاش الباطل أو غلبة المعصية والظلم ثم لم يتدبر في عواقب فعله واستعجل أمره فوقع في الخطأ وخالف الصواب واعتمد على رأيه في تقدير المواقف فزلت قدمه , يقول الشيخ الدكتور سيد نوح : " قال _صلى الله عليه وسلم_: [ مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ]رواه مسلم والترمذي و أبوداود وابن ماجه والنسائي وأحمد. بيد أنه ليس كل منكر تجب إزالته أو تغييره على الفور، وإنما ذلك مشروط بألا يؤدي إلى منكر أكبر منه، فإن أدى إلى منكر أكبر منه؛ وجب التوقف بشأنه، مع الكراهية القلبية له، ومع مقاطعته، ومع البحث عن أنجع الوسائل لإزالته، والأخذ بها، ومع العزم الصادق على الوقوف في أول الصف حين تتاح فرصة التغيير.
وفي العبادات قد بين لنا الشرع الحنيف أن علينا الصبر والثبات على الصالح من الأعمال
وفي السنة والسيرة النبوية شواهد على ذلك:
فها هو رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ يبعث والأصنام تملأ جوف الكعبة، وتحيط بها وتعلوها من كل جانب، ثم لا يقبل على إزالتها بالفعل إلا يوم فتح مكة، في العام الثامن من الهجرة، أي أنها بقيت منذ بعث إلى يوم تحطيمها إحدى وعشرين سنة؛ ليقينه بأنه لو قام بتحطيمها من أول يوم، قبل أن تحطم من داخل النفوس لأقبلوا على تشييدها وزخرفتها بصورة أبشع، وأشنع، فيعظم الإثم، ويتفاقم الضرر، لذلك تركها، وأقبل يعد الرجال، ويزكي النفوس، ويطهر القلوب حتى إذا تم له ذلك أقبل بهم يفتح مكة، ويزيل الأصنام، مردداً: }وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا[81]{ [سورة الإسراء] وها هو _صلى الله عليه وسلم_ يخاطب أم المؤمنين عائشة قائلا: [ أَلَمْ تَرَيْ أَنَّ قَوْمَكِ لَمَّا بَنَوْا الْكَعْبَةَ اقْتَصَرُوا عَنْ قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ] فَقَالَتْ عَائِشَةُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا تَرُدُّهَا عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ قَالَ : [ لَوْلَا حِدْثَانُ قَوْمِكِ بِالْكُفْرِ لَفَعَلْتُ]رواه البخاري ومسلم . فالنبي _صلى الله عليه وسلم_ هنا توقف في شأن تجديد الكعبة، وإعادتها إلى قواعد إبراهيم خوفاً من أن يؤدي ذلك إلى منكر أكبر، وهو الفرقة والشقاق، بدليل قوله في رواية أخرى: [...وَلَوْلَا أَنَّ قَوْمَكِ حَدِيثٌ عَهْدُهُمْ بِالْجَاهِلِيَّةِ فَأَخَافُ أَنْ تُنْكِرَ قُلُوبُهُمْ] رواه البخاري ومسلم. بل إن المسلم حين يسكت عن منكر؛ خوفاً من أن يؤدي إلى منكر أكبر- مع الرفض القلبي والمقاطعة، ومع البحث عن أفضل السبل للتغيير، ومع العزم الصادق على أنه حين تتاح الفرصة لن يكون هناك توان ولا تباطؤ- لا يكون آثمًا بذلك، وصدق الله الذي يقول: " لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا" [286] {[سورة البقرة]، " فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ" [16]{[سورة التغابن]. فإذا نسي العامل أو الداعية(115/1500)
فقه أسلوب تغيير المنكر وإزالته، وقع في الاستعجال لظنه، أو لتصوره أن الأمر يجب تنفيذه فوراً وأنه آثم ومذنب إن لم يقم بذلك "
بل قد يكون الظفر ببعض المقدمات، أو ببعض الوسائل هو السبب في الاستعجال. ولعل هذا هو السر في أمر الإسلام بالصبر على جور الأئمة، ما لم يصل الأمر إلى الكفر الصريح، والخروج السافر عن الإسلام، يقول عبادة بن الصامت رضي الله عنه: دَعَانَا النَّبِيُّ _صلى الله عليه وسلم_ فَبَايَعْنَاهُ فَقَالَ فِيمَا أَخَذَ عَلَيْنَا أَنْ بَايَعَنَا: [ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي مَنْشَطِنَا وَمَكْرَهِنَا وَعُسْرِنَا وَيُسْرِنَا وَأَثَرَةً عَلَيْنَا وَأَنْ لَا نُنَازِعَ الْأَمْرَ أَهْلَهُ إِلَّا أَنْ تَرَوْا كُفْرًا بَوَاحًا عِنْدَكُمْ مِنْ اللَّهِ فِيهِ بُرْهَان]رواه البخاري ومسلم. بل حتى الكفر البواح لا يكون معه خروج إلا إذا أمنت الفتنة، وتوفرت القدرات، والإمكانات، وهذا لا يمنع من النصح وإنكار المنكر بقدر الاستطاعة بحيث لا يترتب عليه منكر أكبر منه , يقول الإمام النووي - رحمه الله - في شرح حديث عبادة: [ معنى الحديث: لا تنازعوا ولاة الأمور في ولايتهم، ولا تعترضوا عليهم إلا أن تروا منهم منكراً محققاً تعلمونه من قواعد الإسلام، فإذا رأيتم ذلك فأنكروه عليهم، وقولوا بالحق حيثما كنتم، وأما الخروج عليهم، وقتالهم فحرام بإجماع المسلمين، وان كانوا فسقة ظالمين'.
كما قد ينشأ الاستعجال عندما يتربى المرء بعيدا عن العلماء والحكماء وذوي التجربة الناجحة والعقل الراجح
كما قد ينشأ الاستعجال عندما يتربى المرء بعيدا عن العلماء والحكماء وذوي التجربة الناجحة والعقل الراجح أو أن يسلم نفسه لمرب مبتدئ غير خبير ولا عليم فيدفعه دفعا لاستعجال الثمار ولهفة الحرث ورؤية النتيجة والإلحاح في طلبها ..
يستجاب لأحدكم ما لم يعجل ..
* عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (يستجاب لأحدكم ما لم يَعْجل, يقول: دعوت ربي فلم يستجب لي) متفق عليه.
* وفي رواية لمسلم: (لا يزال يستجاب للعبد ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم, ما لم يستعجل), قيل: يا رسول الله ما الاستعجال؟ قال: (يقول: قد دعوت وقد دعوت, فلم أر من يَسْتجب لي, فيستحسر عند ذلك, ويدع الدعاء) أخرجه مسلم
* وعن عبادة بن الصامت _رضي الله عنه_ أن رسول الله_صلى الله عليه وسلم_ قال: (ما على الأرض مسلمٌ يدعو الله تعالى بدعوة إلا آتاه الله إياها, أو صرف عنه من السوء مثلها, ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم) فقال رجل من القوم: إذًا نُكثر, قال: (الله أكثر) أخرجه الترمذي وصححه الألباني.
قال ابن عثيمين رحمه الله تعليقًا على هذين الحديثين السابقين: "يعني أن الإنسان حري أن يستجيب الله دعاءه إلا إذا عجل, ومعنى العجلة فسرها النبي_صلى الله عليه وسلم_ بأن الإنسان يقول: دعوت ودعوت فلم أر من يستجيب لي, فعندئذ يستحسر ويدع الدعاء, وهذا من جهل الإنسان؛ لأن الله سبحانه وتعالى لا يمنعك ما دعوته به إلا لحكمة, أو لوجود مانع يمنع من إجابة الدعاء ولكن إذا دعوت الله فادع الله تعالى وأنت مُغَلب للرجاء على اليأس, حتى يحقق الله لك ما تريد, ثم إن أعطاك الله ما سألت فهو المطلوب, وإن لم يعطك ما سألت فإنه يرفع عنك من البلاء أكثر وأنت لا تدري, أو يدخر لك ذلك عنده يوم القيامة, فلا تيأس ولا تستحسر, ولكن ادع ما دام(115/1501)
الدعاء عبادة, فلماذا لا تكثر منه, استجاب الله لك أو لم يستجب, ولا تستحسر ولا تسئ الظن بالله؛ فإن الله تعالى حكيم, قال: ولا يخيب من يسأل الله, بل لابد أن يحدث له واحد من أمور ثلاثة: أن يعطيه ما سأل أو يصرف عنه من السوء مثله, أو يدخر عنده أجره إلى يوم القيامة, إلا أن يدعو بإثم؛ لأن الدعاء بالإثم ظلم"
كثيرًا ما يحدث أن يستعجل الناس الثمرة وخصوصًا العاملين في العمل العام في الدعوة إلى الله أو التربية, يستعجل الثمرة وقد تتأخر الثمار فما العمل إذن؟ هل نتعامل مع هذا باليأس والقنوط وترك العمل أم نتعامل مع هذا بالعبر واليقين في وعد الله وأن نُحكم أعمالنا ونراجعها ونقف مع أنفسنا ونُقَوِّم أعمالنا وترتيباتنا مرة بعد مرة؟ يقول الله سبحانه: "وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ. وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ"
[آل عمران: 146, 147]
إذن فها هنا أمور إذا ما تأخرت الثمار:
أ- عدم الوهن أو الضعف أو الاستكانة ولكن الاستمرار في الثقة بالله سبحانه.
ب - تطبيق معنى الصبر والثبات مهما حدث.
جـ - محاسبة الأنفس ومراجعة الأعمال وتطهيرها من الذنوب والخطايا.
د - طلب النصر والمعونة والقوة من الله سبحانه والاستعانة به.
هـ - تقويم الأعمال والوقوف على الخطأ فيها ومحاولة إصلاحه وتعديله.
إن الفارق بين الصادق وغير الصادق، أن الصادق هو الذي يستمر في العمل مهما كانت الظروف, أقبلت أو أدبرت, أمطرت أو حبست, فهو مستمر في العمل, أما غير الصادق, فهو المنكسر عند أول عائق, المتوقف إذا أبطأت عنه الثمار.
* عن خباب بن الأرت - رضي الله عنه - قال: شكونا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة, فقلنا: ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو لنا؟ فقال: (قد كان من قبلكم يُؤخذ الرجل فيُحفر له في الأرض فيُجعل فيها ثم يؤتى بالمنشار, فيوضع على رأسه فيُجعل نصفين, ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه, ما يصده ذلك عن دينه, والله ليُتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه, ولكنكم تستعجلون) أخرجه البخاري ، قال ابن عثيمين _رحمه الله_ تعليقًا على هذا الحديث : "فليصبر المؤمن ولينتظر الفرج, ولا يمل, ولا يضجر, بل يبقى راسيًا كالصخرة, والعاقبة للمتقين, والله تعالى مع الصابرين, فإذا صبر وثابر وسلك الطريق توصل إلى المقصود, ولكن بدون فوضى وبدون استنفار وبدون إثارة, بطريق منظمة؛ لأن أعداء المسلمين من المنافقين والكفار يمشون على خطى ثابتة منظمة, ويحصلون مقصودهم, أما السَّطحيون الذين تأخذهم العواطف حتى يثوروا ويستنفروا, فإنهم يفوتهم شيء كثير وربما حصل منهم زلة تفسد كل ما بنوه - إن كانوا بنوا شيئًا -, لكن المؤمن يصبر ويتئد ويعمل, ويوطن نفسه ويخطط تخطيطًا منظمًا, يقضي به على أعداء الله من المنافقين والكفار ويفوت عليهم الفرص؛ لأنهم يتربصون الدوائر(115/1502)
بأهل الخير, يريدون أن يثيروهم حتى إن حصل من بعضهم ما يحصل حينئذ استعلوا عليهم, وقالوا: هذا الذي نريد وحصل بذلك شر كبير، فأنت أيها الإنسان: لا تسكت عن الشر, ولكن اعمل بنظام وبتخطيط وبحسن تصرف وانتظر الفرج من الله, ولا تمل فالدرب طويل, لاسيما إذا كنت في أول الفتنة, فإن القائمين بها سوف يحاولون ما استطاعوا أن يصلوا إلى قمة ما يريدون, فاقطع عليهم السبيل, وكن أطول منهم نفسًا, وأشد منهم مكرًا, فإن هؤلاء الأعداء يمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين"شرح رياض الصالحين
ـــــــــــــــــــ
نحو معالجة صحيحة لأخطاء المتعلم 1
محمد فهمي
18/10/1427
ارسل تعليقك ...
لا توجد تعليقات ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
يواجه المعلم في كثير من الأحيان خطأ بعض المتعلمين في الموقف التعليمي، على الرغم من بذل هذا المعلم للكثير من الجهد والوقت في إيصال مفهوم ما من منهج الدراسة، وفي هذه الحالة نجد أنواعاً متعددة ومتنوعة من ردود أفعال المعلمين ومواقفهم تجاه أخطاء التلاميذ.
يغلب على كثير من المعلمين مواجهة خطأ المتعلم بالعقاب السريع، فما يكاد بعض التلاميذ ينطق بالخطأ حتى يجد رنّة شديدة لصفعة المعلم على وجهه، أو حرارة العصا على بدنه، وقد يكون العقاب مخففاً فتنهال عليه كلمات السب والتنكيل أو التوبيخ أمام زملائه.
وعلى سبيل المثال جاء في دراسة ميدانية للدكتورة حصة محمد صادق من كلية التربية في جامعة قطر أن أكثر المراحل التي يُستخدم فيها العقاب هي المرحلة الابتدائية، ثم الثانوية، ثم الإعدادية. وأن أكثر الأسباب التي تدعو إلى استخدام العقاب في مدارس البنات هي الخطأ في إجابة أو عدم معرفة السؤال، ثم الإهمال في أداء الواجب، ثم انخفاض مستوى التحصيل.
يغلب على كثير من المعلمين مواجهة خطأ المتعلم بالعقاب السريع، فما يكاد بعض التلاميذ ينطق بالخطأ حتى يجد رنّة شديدة لصفعة المعلم على وجهه، أو حرارة العصا على بدنه، وقد يكون العقاب مخففاً فتنهال عليه كلمات السب والتنكيل أو التوبيخ أمام زملائه.
وفي استبانة قامت بها في مختلف المراحل التعليمية في مناطق مختلفة، حول سؤال عن أنجح طرائق عقاب الطلاب في اعتقاد المعلم، شارك فيه 106 معلمين، وبأسئلة مغايرة نوعاً ما، شارك 134 طالباً من المرحلتين المتوسطة والثانوية حتى يمكن الاعتماد على فهمهم للأسئلة؛ تبين أن 26 % من المعلمين يفضلون الضرب بالعصا(115/1503)
أولاً، تلاه خصم درجات أعمال السنة بنسبة 23 % ، واستدعاء ولي الأمر بنسبة 18 % ، ثم يأتي الطرد من الفصل الفصل الذي اختاره 11% من الطلاب، فيما يؤمن بأثر التشهير بالطالب داخل المدرسة نحو 9% منهم. أما البقية ونسبتهم 12% فقد اختاروا وسائل عقاب أخرى، من أبرزها إفهام الطالب خطأه أمام زملائه، والتوبيخ الشفهي.
وفي سؤال عن تعرض المعلمين أنفسهم للضرب حينما كانوا طلبة، كانت النتيجة مفزعة إذ عوقب 88 % من المعلمين بالضرب أيام الطفولة، فيما البقية لم يتعرضوا له ربما لتفوقهم أو لحسن حظهم أحياناً!
هذا الأسلوب أو هذه المعاملة المبنية على اتخاذ العقاب وسيلة أولى ومفضلة لمواجهة خطأ المتعلم، أسلوب غير صحيح، وينتج عنه كثير من الآثار السيئة، بيّنها العلماء قديماً، وحذر منها كثير من الباحثين المعاصرين.
ومن هذه الآثار السيئة آثار تصيب المتعلم، حيث ذكر عديد من علماء المسلمين والباحثين أن الإسراف في أسلوب العقاب قد يؤدي إلى تحطيم وازع التعليم لدى المتعلم، وقتل نشاطه الذاتي في التعلم. وهناك آثار سيئة تصيب العلاقة بين المعلم والتلميذ، إذ يفقد المعلم باستعمال العنف ثقة التلميذ، ويخسر محبته، وقد تتحول نظرة التلميذ له إلى نظرة كره دائم يسد طريق الفهم، ويقطع أوصال القدوة، ومع زيادة العنف قد ينظر المتعلم لمعلمه العنيف نظرة سخرية وازدراء.
وبإطلالة سريعة على آراء عدد من علماء المسلمين قديماً في قضية الإسراف في عقاب المتعلمين، نرى تحذيراتهم واضحة من الآثار السيئة التي تتركها العقوبة في نفس المتعلم، والتي تضر بالعملية التعليمية عموماً، يقول ابن خلدون: "إن من كان مرباه بالعسف والقهر من المتعلمين.. سطا به القهر، وضيق على النفس في انبساطها، وذهبت بنشاطها، ودعا إلى الكسل، وحمل على الكذب والخبث، وهو التظاهر بغير ما في ضميره خوفاً من انبساط الأيدي بالقهر.. وعلّمه المكر والخديعة لذلك، وصارت له هذه عادة وخلقاً، وفسدت معاني الإنسانية التي له ... فينبغي للمعلم في متعلمه، والوالد في ولده ألا يستبدّا عليهما في التأديب".
هذا الأسلوب أو هذه المعاملة المبنية على اتخاذ العقاب وسيلة أولى ومفضلة لمواجهة خطأ المتعلم، أسلوب غير صحيح، وينتج عنه كثير من الآثار السيئة، بيّنها العلماء قديماً، وحذر منها كثير من الباحثين المعاصرين.
وإذا كان ابن خلدون حذّر من الإسراف في الضرب وانبساط الأيدي على المتعلم، فقد حذّر الغزالي من الآثار السيئة لاستعمال الإهانة عقوبة للمتعلم، ونصح المعلم باستعمال التعريض في تنبيه المتعلم مبيناً الفوائد التعليمية لذلك؛ فقال فيما يلزم المعلمين من وظائف الأدب: " الوظيفة الأولى: الشفقة على المتعلمين، وأن يجريهم مجرى بنيه... الوظيفة الرابعة: وهي من دقائق صناعة التعليم؛ أن يزجر المتعلم عن سوء الأخلاق بطريق التعريض ما أمكن ولا يصرح، وبطريق الرحمة لا بطريق التوبيخ، فإن التصريح يهتك حجاب الهيئة، ويورث الجرأة على الهجوم بالخلاف، ويهيج الحرص على الإصرار... ولأن التعريض أيضاً يميل النفوس الفاضلة(115/1504)
والأذهان الذكية إلى استنباط معانيه، فيفيد فرح التفطن لمعناه رغبة في العلم به، ليعلم أن ذلك مما لا يعزب عن فطنته".
ويرى القابسي أن الشدة الزائدة على المتعلم والعبوس له دوماً تؤدي إلى فساد نظرة المتعلم للمعلم فقال: "كونه عبوساً أبداً من الفظاظة الممقوتة، ويستأنس الصبيان بها فيجرؤن عليه، ولكنه إذا استعملها عند اسئهالهم الأدب؛ صارت دلالة على وقوع الأدب بهم فلم يأنسوا إليها".
وقد تكون نتيجة الإسراف والعنف في عقاب التلاميذ وخيمة، إذا سبب عنف المعلم أذى بدنياً أو نفسياً؛ يجعل المعلم نفسه عرضة للعقوبة الشرعية، يقول الدكتور أحمد فؤاد الأهواني في تعليقه على كتاب القابسي: "ومسؤولية المعلم ظاهرة أيضاً في العقوبات التي يوقعها على الصبيان إذا خرجت على الحدود الشرعية، فهو مسؤول عن الألفاظ القبيحة التي تصدر عنه في ساعة الغضب، ويجب عليه الاستغفار عنها والاستعاذة منها. وإذا تعدى المعلم في ضربه: (فهذا إنما يقع من المعلم الجافي الجاهل)، ... ومسؤولية المعلم شديدة إذا أدى الضرب إلى إلحاق الضرر بالصبي، وقد نظر الفقهاء في مثل هذه الأحوال ووضعوا العقوبة التي تُفرض على المعلم في كل حالة منها".
ولخطر العقاب المدرسي من حيث آثاره السيئة إذا لم يُستعمل استعمالاً صحيحاً، ولأهميته في الوقت نفسه ودوره في تقويم التلاميذ وتأديبهم في بعض الحالات؛ وصفه الإمام الغزالي بأنه (من دقائق صناعة التعليم)، ولهذا لا ينبغي للمعلم استعماله إلا عن دراية بقواعده ومراتبه. ولا نريد هنا الدخول في مناقشة العقاب المدرسي وآثاره المضرة إذا استُعمل في غير موضعه أو وقته أو تجاوز به المعلم قواعده، وإنما نريد أن نخطو خطوة نحو رؤية صحيحة تتيح لنا معالجة أخطاء المتعلم معالجة تحقق الهدف التعليمي دون الإضرار بالمتعلم.
وإذا كان ابن خلدون حذّر من الإسراف في الضرب وانبساط الأيدي على المتعلم، فقد حذّر الغزالي من الآثار السيئة لاستعمال الإهانة عقوبة للمتعلم، ونصح المعلم باستعمال التعريض في تنبيه المتعلم مبيناً الفوائد التعليمية لذلك
ولكن قبل ذلك تجدر الإشارة إلى جانب مهم يتعلق بهذه القضية، وهو أن الرؤية الشائعة لدى كثير من المعلمين لمعاملة خطأ المتعلم لا تفرق بين الخطأ في الموقف التعليمي وغيره من الأخطاء، فالضرب أو السب عندهم هو أسلوب لمواجهة عدم انضباط المتعلم أو سوء خلقه وسلوكه؛ كما هو نفسه أسلوب مواجهة أخطاء المتعلم في الموقف التعليمي.
إن أخطاء المتعلمين في المدارس مختلفة ومتنوعة مما يوجب علينا التفريق بينها، فنفرق بين الأخطاء التي تقع من التلاميذ في الحياة المدرسية وتخل بالنظام والضوابط، كنظافة المدرسة، والانضباط في الفصل، وبين الأخطاء التي يقع فيها بعض التلاميذ في العلاقات المدرسية الاجتماعية، بين التلميذ وزملائه، وبينه وبين المدرس، وبينه وبين سائر العاملين في البيئة الدراسية. وهناك نوع آخر لا بد أن نعالجه كنوع مستقل من الأخطاء، وهو أخطاء التلميذ أو المتعلم في العملية التعليمية.(115/1505)
وما دمنا سنفرّق بين هذه الأنواع، فلا بد أن يختلف منهج العلاج الذي سنتبعه في معاملة كل نوع، ولا يصح في رأيي أن نخلط بين تلك الأنواع في التحليل أو في منهج العلاج. وهذا التفريق بين العقوبة في أخطاء المتعلم في التعليم، والعقوبة في أخطائه في الأخلاق والأدب، نبّه عليه محمد بن سحنون في رسالته آداب المعلمين؛ حيث ذكر أن المعلم "لا يجاوز بالأدب ثلاثاً [أي ثلاث ضربات بالدِّرة] إلا أن يأذن الأب في أكثر من ذلك إذا آذى أحداً، ويؤدبهم على اللعب والبطالة، ولا يجاوز بالأدب عشرة، وأما على قراءة القرآن فلا يجاوز أدبه ثلاثاً".
وقد أكد القابسي هذا التفريق بين أنواع الخطأ حيث قال: "وإذا استأهل الضرب؛ فاعلم أن الضرب من واحدة إلى ثلاث، فليستعمل اجتهاده لئلا يزيد في رتبه فوق استئهالها، وهذا هو أدبه إذا فرّط فتثاقل عن الإقبال على المعلم؛ فتباطأ في حفظه، أو أكثر الخطأ في حزبه... فنبه مرة بعد مرة فأكثر التغافل ولم يغن فيه العذل والتقريع بالكلام الذي فيه التواعد من غير شتم ولا سب عرض... فإن اكتسب الصبي جرماً من أذى، ولعب، وهروب من الكتاب، وإدمان البطالة؛ فينبغي للمعلم أن يستشير أباه، ووصيه إن كان يتيماً، ويعلمه إذا كان يستأهل الأدب فوق الثلاث، فتكون الزيادة على ما يوجبه التقصير في التعليم عن إذن من القائم بأمر هذا الصبي، ثم يزاد على الثلاث ما بينه وبين العشر إذا كان الصبي يطيق ذلك".
وكما بحث العلماء مسألة الفرق بين خطأ وآخر في نوع العقوبة وحجمها ووقتها وما يلزم فيه إذن ولي أمر التلميذ؛ بحثوا أيضاً مسائل أخر تبين لنا كيف كانوا يفرقون بين أنواع الخطأ حتى إن كانت متساوية في ترتب العقوبة عليها، مثل هل يجوز للمعلم الضرب فيما يتعلق بنفسه، كأن أساء الولد خلقه عليه بنحو شتم أو سرقة لماله؟ وهل يضرب على الحفظ كما يضرب على غيره؟ وهل يعاقب المعلم التلميذ المخطئ بظنه واجتهاده، مثل ضرب التلميذ لزميله، أو لا بد من المعاينة أو البينة الشرعية؟
حين ننظر في نصوص الشريعة نجد أنها قدّمت الرحمة على العقاب، والرفق على الشدة، والتيسير على التعسير، حتى في أشد المواقف التي توجب الغضب، فمن النعم التي امتن الله تعالى بها على الرسول _صلى الله عليه وسلم_ والصحابة رضوان الله عليهم؛ أنه سبحانه وهب الرسول عليه الصلاة والسلام اللين، ونزع من قلبه سوء الخلق والغلظة، فلم يعاقب الذين أخطؤوا في غزوة أحد، قال تعالى: "فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ" [آل عمران : 159]، ووجه النعمة أنه باللين والعفو عن الأخطاء جمع الله تعالى القلوب حول الرسول _صلى الله عليه وسلم_. وقال _عليه الصلاة والسلام_: "إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله" رواه ابن ماجه، وكان عليه الصلاة والسلام إذا بعث أحداً من أصحابه في بعض أمره قال: "بشِّرُوا ولا تُنَفِّرُوا, ويَسِّرُوا ولا تُعَسِّرُوا"(1).
والرفق هنا لا يعني أخذ المتعلم بعقوبة خفيفة، ولكن الرفق هو تأخير العقوبة كلية إلى مرحلة تالية، تكون العقوبة فيها هي العلاج الضروري، وتقديم الإجراءات التعليمية التي تتصف بالرفق عليها،(115/1506)
ولهذا كثرت وصايا السلف بالرفق في معاملة طلاب العلم، قال عمر رضي اللَّه عنه: "توَاضَعُوا لمن علَّمَكم, وتواضعوا لمن تُعَلِّمُونَ, ولا تكونوا مِنْ جَبَّارِي العلماء"(2)، وقال محمد بن عبد الباقي الحنبلي: "يجب على المعلِّمِ أَن لا يُعَنِّفَ, وعلى المتعلّم أَن لا يَأْنَفَ"(3). وكان أبو سعيد يسمّي طلاب العلم "وصيّة رسول الله _صلى الله عليه وسلم_" لما تحث عليه النصوص من المعاملة بالرفق والتيسير، فكان يقول : "مرحبًا بوصيَّة رسول اللَّه"(4).
وقال الماوردي فيما ينبغي للمعلمين التحلي به من آداب: "ومن آدابهم: نُصح من علَّموه، والرفق بهم، وتَسهيلُ السَّبيل عليهم، وبذلُ المجهود في رِفدِهم، ومعونتهم، فإن ذلك أَعظم لأَجرهم، وأَسنَى لذكرهم، وأنشرُ لعلومهم، وأَرْسَخُ لمعلومهم... ومن آدابهم: أَن لا يُعنِّفوا متعلمًا، ولا يُحَقِّرُوا ناشئًا، ولا يستصغروا مبتدئًا, فإن ذلك أدعى إليهم، وأعطف عليهم، وأَحَثُّ على الرَّغْبَة فيما لديهم"(5).
والرفق هنا لا يعني أخذ المتعلم بعقوبة خفيفة، ولكن الرفق هو تأخير العقوبة كلية إلى مرحلة تالية، تكون العقوبة فيها هي العلاج الضروري، وتقديم الإجراءات التعليمية التي تتصف بالرفق عليها، ثم التدرج في درجات العقاب إن لزم الأمر بحسب ما قرره كثير من العلماء في درجات العقوبة في معاملة المتعلمين، قال ابن حجر الهيتمي: "العقوبة إنما جازت لنحو الصبي على خلاف الأصل لظن إفادتها زجراً وإصلاحاً"(6).
وتجدر الإشارة هنا إلى مسألة مهمة، وهي أننا قد نعاقب المتعلم في غير العملية التعليمية على خطأ يستلزم العقاب، في الوقت الذي قد نعامله بالرفق وتأخير العقاب إذا أخطأ في العملية التعليمة، وذلك لما تحتاج إليه العملية التعليمية من شعور بالأمن وإطلاق الفكر والإقناع والتفهيم والمجادلة والنقاش والمحاورة... أكثر من غيرها، وهو ما لا يتاح وجوده غالباً في ظلال العقاب، فالمتعلم إذا وقع تحت تهديد العقاب أو وقع به العقاب تشتت فكره، وتلعثم لسانه غالباً.
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم رحيماً في تعليمه، والأمثلة كثيرة، فحينما أخطأ بعض المصلين فتكلم وهو في صلاته، لم يعنّفه عليه الصلاة والسلام على عدم علمه، وقدّم رسول الله صلى الله عليه وسلم الرفق على الشدة،
أضواء لتطبيق قاعدة تقديم الرفق على العقاب في علاج أخطاء المتعلم:
أولاً: رؤية في أسباب خطأ المتعلم والعوامل المؤثرة في إجابته:
كان رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ رحيماً في تعليمه، والأمثلة كثيرة، فحينما أخطأ بعض المصلين فتكلم وهو في صلاته، لم يعنّفه عليه الصلاة والسلام على عدم علمه، وقدّم رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ الرفق على الشدة، عن معاوية بن الحكم السّلميّ، قال: بينا أنا أصلي مع رسول اللّه _صلى الله عليه وسلم_. إذ عطس رجلٌ من القوم فقلتُ: يرحمك الله! فرماني القوم بأبصارهم، فقلتُ: وَا ثُكْلَ أمّيَاه! ما شأنكم تنظرون إليّ! فجعلوا يضربون بأيديهم على أَفخاذهم، فلمّا رأيتهم يُصَمّتُونَنِي، لكني سكت، فلما صلى رسول اللّه _صلى الله عليه وسلم_، فبأَبي هو وأمي! ما رأَيتُ مُعَلّماً قبله ولا بعده أحسن تعليماً منه، فَوَالله مَا كَهَرَني ولا ضربني ولا شتمني. قال: "إنّ هذه الصلاة لا يصلُحُ فيها شيءٌ من كلام الناس، إنما هو التّسبيحُ والتكبيرُ وقراءةُ(115/1507)
القرآن"، قال النووي: "وفيه [أي من فوائد الحديث]: التخلق بخُلُقه _صلى الله عليه وسلم_ في الرفق بالجاهل، وحسن تعليمه، واللطف به، وتقريب الصواب إلى فهمه"(7).
ويمكن إرجاع خطأ المتعلم عموماً إلى:
- عدم العلم: وقد يكون ذلك لقلة تركيز المتعلم أو غفلته، أو تقصيره في تحضير الدرس، أو لتغيبه عن الدرس، وكل هذه الحالات نتيجتها واحدة وهي عدم وصول العلم إلى المتعلم.
- عدم الفهم: وعدم فهمه قد يكون لقصور عقله عن تصور المعنى أو المفهوم، أو لضعف إدراكه للعلاقة بين المفهومات والمعاني، أو لعجزه عن استعمال ما تعلمه في حل مسائل جديدة، أو لتشوش فكره بمفهومات متشابهة.
- نقص في الممارسة: وأسباب خطأ المتعلم لنقص ممارسته هي إهماله في القيام بالتدريبات الفصلية أو المنزلية، أو لقلة التدريبات الفصلية.
- النسيان: وهو من الحالات المتوقعة التي تصيب المتعلم، لكنها إن زادت عن المعدل المعهود في الإنسان السوي تحتاج إلى علاج.
- أسباب أخرى: قد تكون هناك أسباب أخرى لخطأ المتعلم، مثل كون المتعلم عامة من النوع البطيء في التعلم، وهذا النوع من المتعلمين له منهج مخصوص في التعليم، أو لكونه مصاباً بالانطواء وعدم القدرة على التفاعل في الفصل، أو بسبب خجله أو خوفه، أو بسبب غلبة اللهو عليه، أو بسبب ضعف ميله نحو المادة التعليمية.
بعض المعلمين يظن التعليم درساً يحفظه ثم يشرحه، ويرى التلاميذ مستمعين فقط، فإن انتهى من شرحه وجب عليهم أن يكونوا قد فهموا، فإن لم يفهموا عُوقبوا! وهنا ندرك سبباً من الأسباب الرئيسة لاتخاذ بعض المعلمين العقوبة وسيلة وحيدة ومفضلة في تعليم التلاميذ،
عاملان مؤثران في إجابات المتعلم:
ومع أن الأسباب السابقة كلها غالباً ترجع إلى المتعلم نفسه، فإن هناك عاملين أساسيين يؤثران في إجابات المتعلم، حيث يقع المتعلم في كثير من الأحيان في إجابات خاطئة نتيجة لقصور في هذين العاملين، وليس نتيجة قصور المتعلم الذي يستدعي مراعاة الفروق الفردية بين المتعلمين، وليس نتيجة إهماله أو تقصيره الذي قد يلزمه العقاب إن تكرر، وهذان العاملان هما:
1- طريقة التدريس: بعض المعلمين يظن التعليم درساً يحفظه ثم يشرحه، ويرى التلاميذ مستمعين فقط، فإن انتهى من شرحه وجب عليهم أن يكونوا قد فهموا، فإن لم يفهموا عُوقبوا! وهنا ندرك سبباً من الأسباب الرئيسة لاتخاذ بعض المعلمين العقوبة وسيلة وحيدة ومفضلة في تعليم التلاميذ، فمثل هذا المعلم لا يطبق غير تلك الطريقة الوحيدة في التدريس لكل الموضوعات الدراسية، ومن ثم يرى أنه قد أدى ما عليه نحو المتعلمين، وأنهم استحقوا العقاب إن أخطؤوا.
ولو كان التدريس له طريقة واحدة هكذا لكفى فيه استعمال الوسائل الحديثة المسموعة والمرئية وحدها، لكن التدريس هو "مجموعة من الإجراءات والتحركات التي يؤديها المعلم أثناء الموقف التعليمي من خلال عدة خطوات متتابعة؛ يتّبعها المعلم بهدف(115/1508)
تيسير حدوث تعلّم أحد الموضوعات الدراسية، وتحقيق الهدف من تعلمه"(8)، مما يعني أنه "ليست هناك طريقة تدريس واحدة مثالية تصلح لتدريس كل الموضوعات، وأن المعلم يمكن أن يتبع أكثر من طريقة تدريس في الموقف التعليمي الواحد"(9)، فالإجراءات التي يتبعها المعلم لا بد أن تتلاءم مع طبيعة موضوع الدرس، وهذا يفرض اختيار الخبرات التعليمية المناسبة لكل من الهدف والمحتوى، مثل المناقشة، حل المشكلات.. إلخ، "وأحد المهام الأساسية للمعلم هو تحديد الدور الذي سيلعبه كل من المعلم والتلميذ في الموقف التعليمي، ولا بد للمعلم عند إعداد الدرس من وصف تفصيلي لدوره المتوقع...، وما هي استجابات التلاميذ المتوقعة، ما هي المهام التي سيسمح له المعلم بالقيام بها، بمعنى أنه لا بد وأن يشمل هذا على وصف لطبيعة الحوار والمناقشة والأنشطة، وكيفية استخدام الوسائل التعليمية داخل الفصل"(10).
وبناء على ما سبق؛ أرى أن الجزء المهم في تحسين معاملة المتعلم المخطئ هنا هو المعلم نفسه، وبعبارة أوضح هو تطوير المعلم لأسلوبه في التدريس ليتوافق مع الأصول العلمية في أساليب التدريس وطرائق التعليم وما ينصح به العلماء والباحثون.
2- صياغة المعلم للسؤال: وللأسئلة في عملية التعليم أغراض متعددة، فمنها ما يكون لتحريك فكر المتعلم، ومنها ما يكون لرفع اهتمامه وجذب انتباهه، ومنها ما يكون لمراجعة الفهم، ومنها ما يكون لاختبار الطالب وقياس مستواه.
ولصياغة الأسئلة التعليمة قواعد وأصول لا ينبغي للمعلم أن يهملها وإلا كان لذلك أثر كبير في إخفاقه في تحقيق الأهداف التعليمية، والسؤال الذي لا يعبر بدقة عن المطلوب لا يشجع على المشاركة الإيجابية للطلبة، ويؤدي إلى إرباكهم ووقوعهم في الأخطاء.
ولا بد هنا أن يميز المعلم بين خطأ المتعلم في الأسئلة التي تهدف إلى تفاعل المتعلم في عملية التعلّم، وبين الأسئلة التي تهدف إلى اختباره فيما تعلمه، فخطأ المتعلم في الأسئلة التي تهدف لتفاعل المتعلم في عملية التعلّم لا يصح أن يكون سبباً للعقوبة، لأن الهدف هنا التعليم وليس الاختبار، والعقاب في هذا الموقف قد يؤدي إلى نتائج خطيرة، قد تفوق خطورة التجاوز في معاقبة المتعلم على خطئه في أسئلة الاختبار، لأن المتعلم في الاختبار مهيأ لمعنى الثواب والعقاب، والنجاح والإخفاق، أما الأسئلة التعليمية فتهدف إلى إيجاد الدافع لدى المتعلم لتلقي المعلومات والمفهومات الجديدة، وشد انتباهه، وإطلاق فكره، وهذا لا يتحقق إلا في وجود أمنه النفسي والبدني حتى لو أخطأ، وإنزال العقوبة بالمتعلم حين خطئه في هذه الأسئلة يتعارض مع ما تهدف إليه.
ثانياً: الجوانب التي يحتاج المعلم إلى تنميتها لرفع قدرته على علاج أخطاء المتعلمين:
ولكي يغير المعلم رؤيته للتعامل مع خطأ المتعلم في الموقف التعليمي، ويتحول من المبادرة بالعقاب كلية، سواء كان شديداً أو خفيفاً، إلى تقديم الرفق؛ يحتاج إلى تنمية قدراته في جانبين:(115/1509)
1- الجانب الخُلُقي للمعلم: وفيه يسعى لزيادة صبره على أخطاء المتعلم، وكظم غيظه، وتمرين نفسه على ترك أسلوب المبادرة بالعقوبة، والسير على أساليب صحيحة في معاملة أخطاء المتعلمين؛ انطلاقاً من شعوره بالأمانة التي يحملها.
2- الجانب التعليمي: وفي هذا الجانب يحتاج المعلم إلى رفع مستوى عدد من مهارات التعليم والتدريس، من أهمها ما يأتي:
1- يحتاج المعلم إلى تنمية قدراته على تحليل أخطاء التلاميذ، والبحث عن أسبابها، ولعل الرؤية السابقة لأسباب الخطأ تكون مرشدة للمعلم في هذا التحليل، ليتمكن من تقدير العلاج المناسب لكل خطأ. وإذا استطاع المعلم أن يحدد الأسباب التي نتج عنها خطأ المتعلم في الموقف التعليمي؛ يكون قد اقترب من معالجة خطئه، والنجاح في تقليل نسبة وقوع المتعلم في الخطأ، مما يعني التقدم بنجاح في عملية التدريس للمتعلم والمعلم معاً.
ومن أهم النقاط التي ينبغي للمعلم معالجتها، الأخطاء التي سببها عدم الفهم، وأول خطوة في علاج هذا النوع من الأخطاء هو إتقان المعلم نفسه لعملية تدريس مفهومات مادته، وكيفية التحقق من تعلم التلاميذ لها.
2- ويحتاج المعلم إلى أن يكثر من التدرّب على أساليب التدريس التي تمنحه قدرة أكبر على استثمار أخطاء المتعلم، وذلك بإبراز وجه الخطأ للمتعلم، ومحاولة تكوين خبرة لدى المتعلم بمواطن الخطأ، فالمعلم الناجح هو الذي يستطيع أن يحول أخطاء التلاميذ إلى نقاط انطلاق لإيصال ما يريد أن يوصله من مفهومات، وأن يوجهه المتعلم نحو الطرق الصحيحة في التفكير كلما أخطأ.
يقول مؤلفا كتاب (التعلم ونظرياته – علم النفس التعليمي) في تعليقهما على نظرية ثورندك: (وُجد أن التعلم عن طريق المحاولة والخطأ أفضل بكثير من طريق معرفة الصحّ مباشرة. ومن المعروف أن الشيء الذي نخطئ فيه لا ننساه بسهولة، وقد سبق من خلال تدريب مجموعتين من التلاميذ على كتابة الحروف الأبجدية، وقد قامت إحدى المجموعتين بنقل الحروف على ورقة أخرى والوقوع في الأخطاء، في حين كانت المجموعة الثانية تتعلم عن طريق شفّ الحروف، وبعد التدريب الكافي وجد أن المجموعة الأولى أفضل من المجموعة الثانية)(11).
3- تنمية المعلم لقدراته التخطيطة والتعليمة، بناء على تقويمه لمستوى تلاميذه وقدراتهم، والفروق الفردية بينهم، وتوقعاته لأخطائهم، والنقاط التي يمكن أن تستغلق عليهم، ويجهز لذلك من أساليب التدريس ما يحقق به هدفه التعليمي. وفي هذا قال الماوردي: "وينبغي أَن يكون للعالم فراسةٌ يتوسَّم بها المتعلِّم ليعرف مبلغ طاقته، وقدر استحقاقه ليعطيه ما يتحمَّله بذكائه، أَو يضعف عنه ببلادته, فإنه أَرْوَحُ للعالم، وأَنجح للمتعلِّم.... وإذ كان العالم في توسُّم المتعلِّمين بهذه الصِّفة، وكان بقدر استحقاقهم خبيراً، لم يضع له عَنَاءٌ ولم يخِب على يديه صاحب. وإنْ لم يتوسَّمهم وخَفِيَت عليه أَحوالهم ومبلغ استحقاقهم كانوا وإِيَّاهُ فِي عَنَاءٍ مُكِدٍّ، وتَعَبٍ غير مُجِدٍّ؛ لأنَّه لاَ يعدم أَن يكون فيهم ذكيٌّ محتَاجٌ إلى الزِّيادة، وبَلِيدٌ يكتفي بالقليل، فيَضجر الذَّكيُّ منه، ويعجِز البليد عنه، ومن يردِّد أَصحابه بين عَجزٍ وضَجَرٍ مَلُّوهُ ومَلَّهُم...(115/1510)
قال بعض العلماء: كُلّ علمٍ كَثُرَ على المستمع ولم يطاوعه الفهم ازداد القلب به عمًى. وإنَّما ينفع سمع الآذان، إذا قَوِيَ فَهْمُ القلوب في الأبدان"(12).
----------------------------------
(1) السلسلة الصحيحة، ج 2، رقم 992.
(2) (3) (4) الآداب الشرعية، لأَبي عبد اللَّه محمد بن مُفلح المقدسي الحنبلي، الجزء الأول، ص 95.
(5) أدب الدنيا والدين، الماوردي، باب: أدب العلم.
(6) تحرير المقال في آداب وأحكام وفوائد يحتاج إليها مؤدبو الأطفال، لأبي العباس ابن حجر الهيتمي، تحقيق مجدي السيد إبراهيم، ص 72.
(7) شرح صحيح مسلم، للنووي، حديث رقم (537).
(8) أساسيات المنهج المدرسي وتنظيماته، الدكتور علي عبد العظيم سلام، والدكتور مصطفى محمد عبد القوي، جامعة الإسكندرية، ص 247
(9) المرجع السابق، 248.
(10) تعليم الرياضيات، الدكتور يوسف الحسيني الإمام، أستاذ مناهج وطرق تدريس الرياضيات – جامعة طنطا، ص 37.
(11) التعلم ونظرياته – علم النفس التعليمي، الأستاذ الدكتور مجمود فتحي عكاشة، الدكتور محمود الشناوي، مطبعة الجمهورية – الإسكندرية. ص 71.
(12) أدب الدنيا والدين، الماوردي، باب أدب: العلم.
ـــــــــــــــــــ
من الابتلاء إلى عون المسلمين .. تجربة واقعية
الهيثم زعفان
10/10/1427
ارسل تعليقك ...
لا توجد تعليقات ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
تجربه واقعية نسوقها لكل قارئ عن شاب يعيش في مدينة جدة بالمملكة العربية السعودية – أبى ذكر اسمه ووافق فقط أن نذكر قصته - ابتلاه الله وهو في ريعان شبابه بمرض عضال في شرايين القلب , مرت به أزمات قلبية كان في حينها لا يستطيع أن يتنفس أو يتحدث أو يتحرك , ظن أن الموت قد حان موعده وأنه يطرق بابه , عاد إلى ربه وندم على تقصيره فيما مضى من أيام أكثر فيها الغفلة عن يوم الحساب , وعاهد ربه لئن نجاه الله _سبحانه_ ليكونن عونا لكل مريض .
استلزم مرضه إجراء عملية قلب مفتوح على أثرها دخل غرفة العمليات مصاحبا باحتمالات وتقديرات طبية أقرب للموت منها إلى النجاة , لكنها رحمة الله التي شاءت أن يخرج هذا الشاب من تلك العملية ناجيا من ذلك المرض الشديد . عندها وقف الشاب مع نفسه ليتأملها وينظر في حالها , ها هو الموت قد أطل عليه وكان قاب(115/1511)
قوسين أو أدنى من القبر والحساب وسأل نفسه ماذا أعددت لهذا اليوم ؟ وهل سأفي بعهدي مع ربي بعد تماثل الشفاء ؟ هل سأساعد كل مريض ؟
إغاثة الملهوف خلق فاضل كريم تغرسه في الإنسان مجموعة من الخلال الفاضلة هي الرحمة والمروءة والشهامة وبهذه الصفات الثلاث ينبغي أن يكون الفرق بين الإنسان والحيوان فإذا كان المرء رحيم القلب شهم الفؤاد ذا مروءة ونجدة ينبعث إلى إغاثة الملهوف وتفريج كربة المكروب وقضاء حاجة المحتاج فذلك هو الإنسان
قرر هذا الشاب أن يعمل عملاً ايجابياً في ذات الطريق الذي ابتلي به ألا وهو مساعدة المبتلى بمرض مزمن ويحتاج إلى عملية جراحية كبرى ..لكن كيف كانت المساعدة ؟
أخذت المساعدة الفردية من هذا الشاب ثلاث مراحل هي ..
* المرحلة الأولى
أخذ هذا الشاب في البحث عن الحالات المرضية المزمنة التي بحاجة إلى عمليات جراحية كبيرة ولا يمكنها إجراءها لضيق ذات اليد ليقوم بتصنيف الحالات وفقاً لتشابه المرض وبالتالي تقسيمها إلى مجموعات لتبدأ المرحلة الثانية..
* المرحلة الثانية
في هذه المرحلة يصطحب الشاب الحالات إلى المستشفيات المتخصصة لتحديد ظروف العملية الجراحية وخطتها وكلفتها الكلية وإعداد تقرير بذلك ... ليتبقى بعد ذلك أهم ما في الموضوع وهو تمويل نفقات العملية الجراحية، وهذا ما يتم في المرحلة الثالثة .
* المرحلة الثالثة : وتنقسم إلى شقين
الشق الأول : إدارة المستشفي
وفيه يلتقي الشاب بإدارة المستشفي المتخصصة والمتميزة في علاج تلك الحالات ليحصل على تخفيض لإجراء العملية الجراحية وبفضل من الله تحقق له ما لم يكن يتوقعه " فإنك إن تصدق الله يصدقك " حيث فاجأته كثير من إدارات المستشفيات التي طرق بابها بعطائها السخي والمتمثل في تحمل المستشفي نصف كلفة العملية الجراحية ليتحمل ذاك الشاب ربع النفقة ويتحمل المريض الربع الآخر إن استطاع أو لا يتحمل شيئا إن لم يستطع ..
ولما كان غالب المرضى من الفقراء ولا يستطيعون تحمل النفقات كان الشاب يشارك بماله قدر ما يستطيع , ولما ازدادت عدد الحالات المرضية التي تحتاج لعمليات جراحية بدأ الشاب في الشق الثاني من المرحلة الثالثة .
الشق الثاني ... الميسورون
وهنا خاطب الشاب عددا من معارفه وأقربائه من الميسورين الصالحين كي يشاركونه مشروعه الطيب بعد أن عرض عليهم الملفات الطبية للحالات المتطلب لها العملية الجراحية مصحوبة بالتقدير المادي والقيمة التي ستتحملها المستشفي ولم يكن ذلك الشاب أبدا يتسلم من أحد مالا بيديه بل يبلغه باسم الحالة المريضة وباسم المستشفى والطبيب ليتعامل المنفق معها مباشرة وكان هدفه من ذلك مشاركة الناس شعور المريض وزيادة ثقتهم بالمشروع ومشاركتهم له في ذلك..(115/1512)
الآن وبعد مرور عدة سنوات على بداية المجهود الفردي لهذا الشاب وبعد ذياع صيته وتدفق المرضى غير القادرين عليه فإن متوسط العمليات الجراحية التي تجريها المستشفيات السعودية عن طريق هذا الشاب هي مئة حالة شهرياً بمتوسط اثنين مليون ريال بعد تخفيض المستشفيات .نحسب أنهم في ميزان حسنات هذا الشاب والمنفقين معه أضعافا مضاعفة إن شاء الله
كما أن كل مسلم عنده نبتة طيبة هي نبتة البذل وهي مؤهلة للإثمار إذا رويت فالشاب الذي عرفنا قصته قد وفقه الله لري تلك النبتة في نفسه أولا ثم في عدد من الأشخاص المؤثرين من أطباء وأصحاب مستشفيات وأثرياء وقد ظن بالله خيراً فكانت العاقبة خيرا واستطاع أن يمسح دمعة الألم منعين كل مكلوم . فلماذا لا يروي كل واحد منا تلك النبتة ليجد بإذن الله حصادها وثمارها في الدنيا والآخرة .
والآن لنا وقفة ....
إذا كان هذا النشاط يقوم به شخص واحد بمجهوداته الفردية فكيف سيكون الحال عندما يكون المجهود مؤسسي أي يقوم من خلال مؤسسة ؟
أعلم أنه قد تكون هناك بعض الهيئات الخيرية التي تقوم بهذه المراحل الوسطية في عدد من المدن والبلاد لكنه نشاط غير ذائع الصيت مثل المشروعات الشهيرة للجمعيات على أهميتها وتنوعها .
لكن يبقي أن المؤسسات الخيرية الإسلامية المسجلة والمنتشرة الآن على ساحة القطاع الخيري محلياً ودولياً يمكنها إنشاء شعبة أو لجنة من أعضائها تكون مهمتها مثل هذا النشاط , ولا تتردد أو تتخوف من أية صعوبات مستقبلية فالشاب الذي معنا اليوم بدأ من لا شي توكل على الله وجعل عمله لله وفقط وأحسن السعي فصاحبه التوفيق .
كما أن كل فرد يجد في نفسه الإمكانات والمؤهلات الشخصية التي تؤهله لأن يحذو حذو هذا الشاب المبارك يمكنه أن يقوم بدور الوسيط الجراحي في منطقته أو مدينته بصورة رسمية تبعا لجمعيات خيرية مشهرة رسمية أو مؤسسة عامة أو غيره
خاصة وأن مجتمعاتنا بحاجة شديدة لهذه المجهودات في ظل الوضع الاقتصادي السيئ لبعض الدول الإسلامية وكذا وجود آلاف من الحالات المرضية قعيدة الفراش منتظرة للموت لأنها لا تملك الإمكانات المالية اللازمة لإجراء تلك العمليات .في وقت يحتاج فيه كل عبد معافى إلى تحقيق إنسانيته وإرضاء ربه .. يقول الشيخ شلتوت – رحمه الله - " إغاثة الملهوف خلق فاضل كريم تغرسه في الإنسان مجموعة من الخلال الفاضلة هي الرحمة والمروءة والشهامة وبهذه الصفات الثلاث ينبغي أن يكون الفرق بين الإنسان والحيوان فإذا كان المرء رحيم القلب شهم الفؤاد ذا مروءة ونجدة ينبعث إلى إغاثة الملهوف وتفريج كربة المكروب وقضاء حاجة المحتاج فذلك هو الإنسان"
يروي الذهبي في السير أن زين العابدين بن الحسن بن علي _رضي الله عنهم أجمعين_ كان يتفقد المعسرين والفقراء والمحتاجين ويحمل لهم أحمال الدقيق والزيت على ظهره في جوف الليل ويقول: " صدقة الليل تطفئ غضب الرب " , ولم يكن أحد يعرف عمله ذلك , فلما مات افتقد مئة بيت في المدينة أجولة الدقيق والزيت(115/1513)
والتمر وبينما الناس يغسلونه إذا بآثار ما كان يحمله قد أثر في ظهره فعرفوا أنه هو .. رحمه الله.
كما أن كل مسلم عنده نبتة طيبة هي نبتة البذل وهي مؤهلة للإثمار إذا رويت فالشاب الذي عرفنا قصته قد وفقه الله لري تلك النبتة في نفسه أولا ثم في عدد من الأشخاص المؤثرين من أطباء وأصحاب مستشفيات وأثرياء وقد ظن بالله خيراً فكانت العاقبة خيرا واستطاع أن يمسح دمعة الألم منعين كل مكلوم . فلماذا لا يروي كل واحد منا تلك النبتة ليجد بإذن الله حصادها وثمارها في الدنيا والآخرة .
ولنا في رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ الأسوة الحسنة إذ يقول: " والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه " .
ـــــــــــــــــــ
مدرسة قيام الليل (1)
خالد روشه
20/9/1427
ارسل تعليقك ...
تعليقات سابقة ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
khaled_rousha@yahoo.com
إنها المدرسة التي تخرج منها عظماء الإسلام, رهبان الليل وهم فرسان النهار, صفوا أقدامهم بين يدي الله في جوف الليل حيث لا يعلم بهم أحد إلا الله, وسقطت دموعهم على خدودهم تغسل قلوبهم.
لجؤوا إلى ربهم فرارًا وإنابة واعترافًا بحقه سبحانه عليهم, رجاء رضاه, فرضي عنهم, وأورثهم وضاءة في وجوههم, وأنوارًا في جوارحهم, واستقامة في أعمالهم, وإخلاصًا في قلوبهم, وفراسة في سرائرهم...
فهم يرون بنور الله سبحانه, ويتمتعون بلذة الصلاة في جوف الليل أكثر مما يتمتع أهل اللهو بأحب لهو إليهم، فصارت الصلاة في جوف الليل من أكبر القيم في حياتهم ومن أثبت الأعمال التي يداومون عليها, بل صارت كجزء لا يتجزأ من قلوبهم, فترى قلوبهم تضطرب شوقًا لصلاة الليل, وترفرف فرحًا بقدوم الليل لأنها ستقف بين يدي ربها مطمئنة خاشعة منيبة.
1ـ ليلُنا وليلهم, ما الفرق بينهما؟!
وإنا إذا أردنا مقارنة ليلنا بليل الصالحين, أصابتنا الصدمة الكبرى والفجعة الموجعة والألم الشديد.
إنها المدرسة التي تخرج منها عظماء الإسلام, رهبان الليل وهم فرسان النهار, صفوا أقدامهم بين يدي الله في جوف الليل حيث لا يعلم بهم أحد إلا الله, وسقطت دموعهم على خدودهم تغسل قلوبهم.(115/1514)