بشرية، كم يعطي المرء لنفسه من الخير والبر والإحسان والمودات الصادقة حين يمنح الآخرين شيئاً من عطفه ولطفه وتجاوزه الكريم عن بعض أخطائهم وحماقاتهم وسفههم أحياناً, مناسبة العيد فرصة ثمينة ومناسبة غالية كريمة لتنمية بذرة الحب والعطف والمعروف والإحسان، في وقت يشكو الناس فيه مر الشكوى من الجفاء وعدم الصفاء، من جفاف الأخلاق وقساوة الطباع، العيد مختبر دقيق للأخلاق والطباع والتربية الصحيحة، إن النبل والفضل أن نزور ما نستطيع، ونلتقي بمن نقدر عليه، ونصافح الكثير، ونصفح عن الجم الغفير، ونسمو بأخلاقنا إلى الآفاق الرحبة التي أرادها لنا ديننا مشبعين بروح السماحة واليسر والعطف على الجميع؛ العطف على ضعفهم وبشريتهم ونقصهم وخطئهم، بروح الرغبة الحقيقية في التصافي والتواد والتراحم، ويوم كانت هذه الأمة واعية لنفسها مدركة لرسالتها العظيمة في الحياة كان الواحد منهم ليلة العيد وغيرها يفكر في جاره وصديقه وقريبه قبل أن يفكر في نفسه وولده وأقرب الناس إليه, لماذا؟ لأنهم حملة رسالة ودعاة خير وفضيلة، وحملة سلام ووئام ومحبة، كان الواحد منهم يقدم حوائج إخوانه على حوائجه حيث الأريحية والصبغة الإسلامية صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة ونحن له عابدون، وهذا هو التعبير الصادق عن سمو الأخلاق في أمة الإسلام، ولذلك يحس الجميع بفرحة غامرة تهز كيانهم وأبدانهم، وتشرق وجوههم وتبسم شفاههم وتضيء جباههم , قال أحد العلماء في هذا: إننا حين نتلفت لنجد هذه العذوبة وهذه الخصوبة أو تلك الفرحة في أعيادنا لا نجد منها إلا ظلاً خافتاً أو خيالاً كاذباً، وكأنما تغيرت هذه الأعياد فبقيت لها الأسماء وزالت عنها الصفات والسمات والخصائص، ولِمَ لا وكان العيد في ماضينا فرحة بفوز الفكرة العابدة، فأصبح في حاضرنا لدى البعض تجاوز للفكرة العابثة .
والإسلام بحكم شموله وتميزه يدرك تماماً معنى الطبيعة البشرية، فأوجب تزكيتها أي تربيتها وتهذيبها "ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها"، "قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها" وجعل الإسلام هذه التربية وهذه التزكية على أساس إسلامي متين، وجعل أساسها وجذرها المتين هو التهذيب والترتيب والتأديب لا الكبت فقط، إنه لا يترك الإنسان وطبعه بالمعنى الخاطئ، بل يعطي ضرورات الجسد نصيبها المفيد والمقبول والمعقول إن لبدنك عليك حقاً كما أنه ينمي أشواقه الخيرة وتطلعاته النيرة ويعطيها نصيبها المعقول، أحب لأخيك ما تحب لنفسك إنه يوازن بين هذه وتلك موازنة دقيقة مفيدة لا يكلف الله نفساً إلا وسعها، والإنسان بحكم طبعه وجبلته قادر على الخير والشر، وهو بالتربية الصادقة قادر على الصعود والارتفاع، كما أنه بالتربية السيئة والماحقة قادر على النزول والتردي والهبوط والسقوط، والمسلم الحق يوم العيد وغيره من أيام الله يستمتع بالمباح والمسنون من متعة الجسد، ويتطلع مع ذلك إلى آفاق أخرى، ولكن لمن ذاق آفاق تربط بين المسلمين برباط الأخوة الصادقة وتهدف إلى الكمال والجمال في كل شيء في هذا الوجود، جمال التقدير وجمال التعبير، وجمال التصور وجمال الشعور، لا في عالم ضيق محدود كما يحلو للبعض، ولكن في نطاق الحياة كلها هكذا أراد الله لهذا المخلوق وفق شرعه وأمره، وهل في الدنيا شيء أجمل من الحب والقرب، هل هناك شيء في هذه الدنيا أجمل شعوراً في النفس من الحب، والوسيلة لذلك هي العقيدة الصحيحة والممارسة الدقيقة لمعطيات(115/649)
هذه العقيدة، وهي التي تنظم فكره واتجاهه وغدوه ورواحه، العقيدة الصحيحة والتربية الكاملة الدقيقة لا تمنع من الاستمتاع بالطيبات من الرزق، ولا تحرم بحال زينة الله التي أخرج لعباده، وإنما ترتب وتؤدب وتهذب، وتجعل لكل ذلك غاية مفيدة غير غاية العبث والجنون والفسوق والمروق، وهذه العناية هي الشعور الجميل والفعل النبيل والتعبير الجليل، والله جميل يحب الجمال، في الصفات والفعال والأقوال، وهذه الأشياء بالالتزام بآداب الدين تحقق الأمة الإسلامية خير وقت للتدريب والممارسة الصادقة مدة العيد، حيث في الأعم الأغلب تنطلق فيه السجايا مع فطرتها، وتبرز كثيراً العواطف والاتجاهات على حقيقتها، والمجتمع السعيد الذي يريده الإسلام دوماً لبنيه هو ذاك المجتمع الذي تسمو وتعلو أخلاقه في العيد ويتغلب كثيراً على الغل والحقد والحسد والدخل والدغل، ويصعد في العيد إلى أرفع مكان ويمتد شعوره الإيماني إلى آفاق بعيدة رحبة، ويبدو في العيد متعاوناً متماسكاً، ويذكر ويتذكر دائماً أحوال إخوانه المسلمين في دنيا الناس التي تفيض بالآلام، أيها المسلم اذكر صبيحة العيد أمماً كثيرة بأمس الحاجة الى أبسط مقومات الحياة، اذكر جموعاً غفيرة وأمماً فقيرة شردها وبددها الطغيان وبغي الإنسان، هي في العيد تشرق وتغرق بالدمع، لا تكتحل بنوم ولا تهنأ بصوم، جوع وحرمان، وبغي وعدوان، أيها المسلم اقتصد يوم العيد في المباحات وأنفق الفائض في سبيل الخيرات، لابد أن يبدو على وجهك يوم العيد الشعور الوقور بإخوانك في دنيا الناس، أضف إلى استعدادك للعيد استعداداً آخر أكرم عند الله وأجدر بالمثوبة، هو استعدادك للتفريج من كرب من حولك من الأرامل والأيتام والمحاويج وغيرهم ممن يصلهم ودك ورفدك، أيها المسلم هذه العقيدة الصحيحة عقيدة الإسلام وما ينشأ عنها من أعمال خيرة وممارسات كريمة تجلى الكثير منها في رمضان ويوم العيد بالذات كلها تنشئ في القلب حياة بعد الممات، وتطلق فيه نوراً بعد الظلمات، حياة صحيحة يعيد بها المسلم تذوق كل شيء والحكم على كل شيء بحس آخر لم يكن يعرفه من قبل إنه مشهد رائع ماتع هذا الذي يجده الإنسان في قلبه بعد التجربة والحياة الإيمانية، هذا الدين ليس أجزاء متناثرة أو متنافرة في حياة الفرد كلا، بل هو تصميم واحد متداخل متراكب متناسق، يبدو حياً وبهياً وشهياً في وجوه وسلوك أصحابه يتجاوب مع الفطرة النقية، وتتجاوب وتتجاذب معه في إلفة عميقة وصداقة وثيقة وحب وود، وعندما يجد المسلم هذا النور في قلبه يجد الوضوح واليسر في نفسه وخواطره ومشاعره.
ـــــــــــــــــــ
حوار مع الشيخ عبدالرحمن المحمود
مشرف النافذة
2/9/1424
ارسل تعليقك ...
تعليقات سابقة ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...(115/650)
لتحميل ملف الحوار اضغط بالزر الايمن واختر حفظ الهدف باسم ... ... لتحميل ملف الحوار اضغط بالزر الايمن واختر حفظ الهدف باسم
من أعظم ما تحارب فيه الأمم العقيدة ، وأمتنا الإسلامية وهي مقبلة على محن تعقبها _بإذن الله_ المنح، ومع شكل من أشكال الحرب التي لا تنتهي يعمد أعداء الدين على طمس أصول عقيدتها ( الكتاب والسنة ). أعداء من الداخل والخارج قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر .
ونحن نستقبل أول أيام رمضان - هذا الشهر الذي ترتبط فيه الأمة جميعا عبادة وسلوكاً –
يسرنا أن نجري هذا الحوار الممتع النافع – بإذن الله – مع شخصية بارزة في المجتمع .
أيها الأحبة ضيفنا في هذا الحوار عالم برع وبرز في مسائل العقيدة تأصيلاً وتعليماً .
حصل ضيفنا على درجة الماجستير من خلال بحثه المقدم بعنوان: (القضاء والقدر في ضوء الكتاب والسنة) ، ونال درجة الدكتوراه من خلال بحثه المقدم بعنوان: (موقف ابن تيمية من الأشاعرة)، وله عدة مؤلفات من أبرزها: (الحكم بغير ما أنزل الله أحواله وأحكامه) ، (أخطاء عقدية) ، (وقفات مع أسماء الله الحسنى، اسمه _تعالى_ السميع ) *.
ضيفنا أستاذ في قسم العقيدة والمذاهب المعاصرة بكلية أصول الدين بجامعة الإمام محمد ابن سعود بالرياض .
فنرحب جميعاً بفضيلة الشيخ الدكتور / عبدالرحمن بن صالح بن المحمود، والذي خص زوار موقع المسلم بهذا الحوار بمناسبة شهر رمضان الكريم _جعله الله في ميزان حسناته يوم يلقاه_ .
من أعظم ما تحارب فيه الأمم العقيدة ، وأمتنا الإسلامية وهي مقبلة على محن تعقبها _بإذن الله_ المنح، ومع شكل من أشكال الحرب التي لا تنتهي يعمد أعداء الدين على طمس أصول عقيدتها ( الكتاب والسنة ). أعداء من الداخل والخارج قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر .
ونحن نستقبل أول أيام رمضان - هذا الشهر الذي ترتبط فيه الأمة جميعا عبادة وسلوكاً – سرنا أن نجري هذا الحوار الممتع النافع – بإذن الله – مع الشيخ الدكتور / عبدالرحمن بن صالح بن المحمود.
بدأنا فضيلة الشيخ بهذا السؤال :
فضيلة الشيخ : كما تعلمون – حفظكم الله – أن شهر رمضان له خصوصيته لدى الأمة الإسلامية ، فما توجيهكم في ذلك ؟ وكيف للأمة أن تستشعر وحدتها من خلال هذا الشهر ؟
الحمد لله رب العالمين، فهذا الشهر الذي تستقبله الأمة كل عام، ويمتد شهراً كاملاً تعيشه الأمة الإسلامية في مشارق الأرض ومغاربها لا شك أن له خصوصيته الكبيرة، ويكفي فيه أنه أحد أركان الإسلام، وأن هذا الشهر أيضاً هو شهر تذكير المؤمن بعبادة ربه _سبحانه وتعالى_ وإخلاصه له وتقواه، كما أنه أيضاً تذكير لكل مسلم بأصول دينه التوحيد مصدره القرآن إلى آخر الأمور التي تعيشها أمة الإسلام(115/651)
في هذا الشهر الكريم، ما بين عبادة وقراءة وصلاة وذكر وصدقات، ويكفي في هذا الشهر الكريم قول الله _تبارك وتعالى_: "لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ" (البقرة: من الآية183)، والتقوى، هي: أن تجعل بينك وبين عذاب الله وقاية، وذلك بفعل ما أمر الله به وترك ما نهاه، فخصوصية هذا الشهر الكريم بالنسبة للأمة الإسلامية ظاهرة، ولهذا نرى أن الأمة الإسلامية من أولها إلى آخرها تستقبل هذا الضيف الكريم استقبالاً خاصاً، وتغير من نمط حياتها لأجله طاعة لله _سبحانه وتعالى_، ومن ثم فكل مسلم يظهر إسلامه ويبين إذا جاء شهر رمضان المبارك، حتى تلك الأسر التي ضعف فيها العلم والإيمان، نجد أن من أعظم ما بقي فيها احترام هذا الشهر الكريم وصيامه والأمة الإسلامية يمكن أن تستشعر وحدتها في هذا الشهر الكريم من خلال ما يلي:
أولاً : أن الله _سبحانه وتعالى_ ربط دخول هذا الشهر الكريم بعلامة كونية وهي رؤية الهلال التي تتعدى نطاق هذه الأرض، حتى تعلم الأمة الإسلامية أنها إنما تصوم لربها الذي خلق السماوات والأرض والذي بيده مقاليد كل شيء، وحتى تعلم هذه الأمة أنها لا ترتبط لا بشرق ولا بغرب، وأن هذه الأمة هي أمة ربانية إنما تتعبد لربها _سبحانه وتعالى_.
ثانياً : إجماع وإطباق الأمة الإسلامية في مشارق الأرض ومغاربها على صيام هذا الشهر الكريم فما من بيت أو أسرة في منطقة نائية أو في جزيرة من الجزر أو في أقصى البلاد إلا وتشعر بأنها تصوم هذا الشهر الكريم مع إخوانها المسلمين، ولا شك أن هذه علامة على الرابطة الإيمانية القوية التي تربط هذه الأمة في كل مكان إنها رابطة التقوى والإيمان والطاعة لله _سبحانه وتعالى_.
ثالثاً : تبرز وحدة هذه الأمة في اجتماعها لقيام الليل الذي سنّه رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ في هذا الشهر، فتجد الأمة الإسلامية مرتبطة بمساجدها فتُعمر المساجد بالصلاة وقراءة القرآن وبالأمور الخيرية واجتماع المسلمين وتعرّف بعضهم على بعض، حتى إن الكثيرين ربما يمر قرابة عام لا يعرف بعض إخوانه إلا في رمضان نظراً لكثرة من يأتي إلى هذا الشهر الكريم ويجلس فيه حتى إن بعض الناس قد لا يكون ممن يترك صلاة الجماعة إلا أنه لا يكاد يبكّر أو لا يكاد يجلس بعد الصلاة، فيأتي هذا الشهر الكريم لتتوحد جماعات المسلمين في أحيائهم وعند مساجدهم، وهذا واضح _والحمد لله_.
رابعاً : من الأمور التي تبرز فيها وحدة هذا الشهر الكريم أنه شهر القرآن الذي هو كتاب الله وكلامه الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، فهذا الشهر هو شهر القرآن وأمة الإسلام هي أمة القرآن، وفي هذا الشهر الكريم تبرز العلاقة القوية بين المؤمن وبين كتاب ربه _سبحانه وتعالى_ يسمعه ويتلوه ويجلس إليه ويقرأ أحياناً تفسيره فهذا تفكير عظيم لأمة الإسلام أنها ترتبط بكتاب ربها الذي هو دستورها ومرجعها مع بيانه من سنة رسول الله _صلى الله عليه وآله وسلم_ ( وحتى تعلم هذه الأمة أنه لن يستطيع أحد النيل منها في جملتها لأنه؛ لن يستطيع أحد النيل من كتابها الذي حفظه الله فتتعلم هذه الحقيقة الكبرى، وأنها إنما تلتقي على ذلك، ولا شك أن القرآن العظيم هو حبل الله المتين ونوره المبين وصراطه المستقيم متى ما اعتصمت به هذه الأمة كان لها عزها ونصرها.(115/652)
وتبرز أيضاً وحدة الأمة الإسلامية من خلال صلاتها في جميع الصلوات، ومن خلال لهفها وشوقها إلى بيت الله الحرام فمن الملاحظ أن الأمة الإسلامية كلها تتابع من خلال الوسائل الإعلامية الآن الصلوات والقيام في بيت الله الحرام الذي يصلي فيه المسلمون هناك عند الكعبة التي تستقبلها أمة الإسلام في كل مكان ثم إن هذه الأمة أيضاً إنما تتوجه في عباداتها وصلواتها إلى بيت الله الحرام، فإذا ربطنا المكان والزمان وأضفنا إلى ذلك قراءة القرآن تبيّن كيف أن هذه الأمة هي أمة راسخة مهما نال منها أعداؤها ومهما حاولوا، بيت الله الحرام قبلتها تتوجه إليه وتهفو إليه القلوب من كل مكان شهر رمضان ركنها في الصيام تلتقي معه كل عام صلاتها في كل يوم خمس مرات، وهكذا فإن حقيقة مظاهر وحدة الأمة الإسلامية كثيرة جداً، وعلينا في هذا الشهر الكريم أن نستشعره وأن نذكّر إخواننا، سواء كان على المستوى الصغير من أسرنا وجيراننا وقراباتنا أو على مستوى أمة الإسلام بمختلف وتباعد أماكنها أن نذكّرهم بهذا الذي يربطهم بوحدة وأمة هي أمة هي خير أمة أخرجت للناس، أمة يجمعها دينها وكتاب ربها وسنة نبيها بأصولهما وأركان الإيمان وأركان الإسلام وما ينبثق من ذلك من مناهج عظيمة تميزت بها هذه الأمة. الإسلام هو دين الله الخاتم، والله ناصره ولو كره الكافرون.
إذا كانت الأمة لها هذه الروابط القوية ، كيف يمكن للدعاة والمربين استغلال هذا الشهر لتغيير واقع المجتمع ؟ وكيف نجعل منه انطلاقة لمجتمع أفضل ؟
حقيقةً هذا السؤال يحتاج إلى شيئين أحدهما أن يستشعر الدعاة أنفسهم والمربون أنفسهم وطلاب العلم أنفسهم أن يستشعروا هم أهمية هذا الشهر الكريم ليكونوا قدوة قبل أن يتكلموا أو يقولوا، فشهر رمضان لا شك أنه إذا كانت الأمة الإسلامية كلها تستقبله وتأنس به وتستفيد منه، فإن الدعاة إلى الله والمربين وطلاب العلم هم أولى من يكونوا في هذا الشهر الكريم أقرب إلى ربه _سبحانه وتعالى_ عبادة وطاعة.
الأمر الثاني، هو: المحاولات التي يقوم بها الدعاة وطلاب العلم في تنبيه الأمة إلى هذا الشهر الكريم، ويمكن أن يتم ذلك من خلال ما يلي:
أولها: التنبيه قبيل دخول هذا الشهر الكريم حتى تستقبل هذه الأمة الشهر الكريم بعزيمة قوية، فالتهيئة النفسية للمسلمين حتى يستقبلوا هذا الشهر الكريم لا كغيره من الشهور هذه التهيئة فعلها رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ وكان قبل أن يأتي هذا الشهر بشهور يبشّر أصحابه ويخبرهم ويرغبهم ويدعو لنفسه ولهم، اللهم بارك في رجب وشعبان وبلغنا رمضان، ويقول: أتاكم شهر رمضان ثم يذكر ماذا فيه من الفضائل؛ لأن الغالبية من الناس إذا دخل في هذا الشهر الكريم أنس بما كان عليه سابقاً، وربما لا يتغير.
الأمر الثاني : هو أن يقوم الخطباء _وفقهم الله_ بدور مهم جداً في هذا الباب، والحقيقة أن الخطباء يتحملون مسؤولية كبيرة؛ لأنهم في الجمعة يخاطبون جميع الفئات وما من أحد إلا نادراً _نسأل الله السلامة والعافية_ إلا وهو يحضر صلاة الجمعة، فعليهم أن ينبهوا المصلين إلى أهمية استقبال هذا الشهر الكريم وماذا فيه من مجالات الخير، وما يجب عليهم من تغيير في أنفسهم من الداخل وفي أحوالهم، وتذكيرهم بم يجب لهم من احترام هذا الشهر الكريم، وأن يتقوا الله _سبحانه وتعالى_(115/653)
فيه، وأن يبيّنوا لهم أن هذا الشهر الكريم كما أنهم في نهاره يتركون ما أحل الله لهم طاعة لله _سبحانه وتعالى_ فأولى بهم ثم أولى بهم ثم أولى بهم أن يتركوا ما حرّم الله عليهم في نهاره وليله.
ثالثاً : أن يركّز الدعاة والمربون إلى هذا التناقض الذي يعيشه كثير من الناس في هذا الشهر الكريم، وفي ظني أن هذا مما ينبغي التركيز عليه كثيراً هذا التناقض العجيب أن المسلمين أو أن بعض المسلمين في نهار رمضان يصوم لله رب العالمين ثم إذا أفطر كأن الأمر تغير تماماً، كأن الأمر تحوّل من تحريم إلى تحليل، ثم إذا بهم إذا أفطروا كأنه يجوز لهم أن يفعلوا المعاصي، وأن ينظروا إلى ما حرم الله، وأن يسهروا على اللهو، وأن يشاهدوا ويسمعوا ما حرّم الله _سبحانه وتعالى_، وأن يجتمعوا على القيل والقال والغيبة والنميمة ونحو ذلك، لا شك أن ذلك تناقضاً ينبغي تنبيه المسلمين إليه.
رابعاً : ترغيب الأمة الإسلامية وترغيب المسلمين بفضائل هذا الشهر الكريم وعلى رأسها تلك الفضائل العظمى، وهي أربعة: أولها: ما ثبت عن النبي _صلى الله عليه وسلم_ أنه قال: "من صام رمضان إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدم من ذنبه". الثاني: قول النبي _صلى الله عليه وسلم_: "من قام هذا الشهر إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدّم من ذنبه". الثالث: قول النبي _صلى الله عليه وسلم_: "من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدّم من ذنبه". الرابع: حديث النبي _صلى الله عليه وسلم_ عند البزار وهو صحيح "أن لله _سبحانه وتعالى_ عتقاء من النار في كل ليلة – أي: في رمضان – ولكل مؤمن دعوة مستجابة في كل يوم وليلة" وغيرها من الفضائل فتنبيه الأمة إلى أن يحققوا هذه الفضائل وأن يجعلوها منطلقاً لتوبة إلى الله _سبحانه وتعالى_ كما في هذا الحديث "غُفر له ما تقدّم من ذنبه" أي: أنه تُغفر له ذنوبه فيوفّق إلى توبة نصوح بحيث يغير من حاله ومن طريقه في فعل ما في الوقوع في المحرمات إلى طاعة الله _سبحانه وتعالى_ ومراقبته.
خامساً : من الوسائل تذكير الأمة بواجبها تجاه إخوانها المسلمين في كل مكان بالدعاء لهم دعاء للمسلمين المتضررين المستضعفين، الدعاء للمجاهدين في سبيل الله، الدعاء في صلاح أحوال المسلمين، هذا لا شك أنه رابط عظيم والقائل للدعاء أو المؤمن عليه أو السامع له يربي في نفسه أن هذه أمة واحدة، وأن هذا الدعاء يقتضي من الإنسان أن يفعل معه الأسباب؛ لأن العبد إذا قال: يا رب اغفر لي، يارب اغفر لي ولإخواني المسلمين، فليبذل هو وغيره الأسباب في ذلك فهذه وسيلة عظيمة؛ لأن هذا الشهر الكريم شهر الدعاء وفي كل يوم وليلة لكل مسلم ومسلمة دعوة مستجابة، فاستغلال أو _إن صح التعبير_ تنبيه المسلمين إلى أهمية الدعاء في هذا الشهر الكريم له شأن وأي شأن _كما هو معلوم_.
سادساً : ربط الأمة الإسلامية جميعاً بأنها أمة واحدة كالجسد الواحد، فتذكير المسلمين بمعاني تفطير الصائم في مساجدهم، تذكير المسلمين بمعاني مساعدة الفقراء والمحتاجين في هذا الشهر الكريم، تذكير الأمة الإسلامية بأهمية الزكاة وأنها ركن من أركان الإسلام وأنهم يجب عليهم أن يؤدّوها وأن يتقوا الله _سبحانه وتعالى_ في ذلك، فهذا كله حقيقة مما يقطع على الأعداء الذين يحاربون الله ورسوله في هذه الأيام(115/654)
ويحاربون دينه حتى في ركن من أركان دينه وهو الزكاة أنه كما تعلمون اليوم هناك هجوم ضخم على الباذلين للخير وعلى الجمعيات الخيرية، وتعلمون أنها في الحقيقة ما هي إلا جزء من قضية كبرى، وهي: أن كل مسلم يجب عليه أن يؤدي هذا الركن العظيم وهو الزكاة، وكثير من المسلمين يؤدون زكاتهم في رمضان، فأعداء الله _سبحانه وتعالى_ إنما يحاربون كل مسلم ومسلمة في زكاته، يتهمونه بالتطرف، ويتهمونه بشتى التهم، ويقولون بلسان حالهم أو مقالهم: لا تدفع هذه الزكاة إلا تحت إشرافنا، وهذا كله يجب أن ينتبه له المسلمون، وأن ينبه إليه المربون والدعاة إلى الله _سبحانه وتعالى_ حتى يكونوا لإخوانهم عوناً؛ لأن هذا واجب عليهم خاصة كما هو معلوم أن هناك تزايداً كبيراً في الفقراء في داخل هذه البلاد وفي غيرها، فتذكير الأمة بأن يكونوا من أهل البذل والخير لعل الله _سبحانه وتعالى_ يثيبهم على ما يبذلونه في أموالهم.
الخلاصة أن الدعاة إلى الله _سبحانه وتعالى_ وطلاب العلم والمربين وغيرهم ينبغي أن يذكّروا الناس أن هذا الشهر الكريم في ليله ونهاره شهر لا كغيره من الشهور، وأن الأمة الإسلامية يمكن أن تغيّر من واقعها لا كما يقول البعض: إن هذه الأمة قد أسِنت ولن تستطيع التغيير ها هي في شهر واحد يتغير نظامها كله، فهذه أمة يمكن أن تتغير فإذا كان التغير إلى الأفضل وإلى الأحسن فلا شك أن منطلقه سيكون مثل هذا الشهر الكريم العظيم، الذي نسأل الله _تبارك وتعالى_ فيه أن يعز دينه وأن يعز أمة الإسلام، وأن يجعلنا من أنصار هذا الدين، وأن يجعلنا في هذا الشهر الكريم من المقبولين.
فضيلة الشيخ : ترون ( أن المنهج الصحيح للتربية يجب أن يكون مبيناً على الأدلة الصريحة الواضحة من الكتاب والسنة ، وأن تربى النفوس على ذلك المنهج دون الدخول في أقوال أهل البدع وشبهاتهم وآرائهم ) ، هل يمكن توضيح هذا المنهج .
حقيقة أن هذا المنهج يكاد يكون هو المنهج الذي تحدث عنهم الأئمة _رحمهم الله تعالى_ قديماً وحديثاً، ويكفي فيه بناؤه على كتاب الله وسنة رسوله _صلى الله عليه وسلم_ وهما بيّنان واضحان الكتاب والسنة _والحمد لله_ بيّنان واضحان جداً، وهذا رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ وهو يذكر ما قد يقع من اختلاف يقول: "فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عَضّوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة، فالأمة الإسلامية في أي وقت مطلوب منها أن تعود إلى ما كان عليه رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ وأصحابه وهذا لا يتعارض البتة مع أخذها بوسائل العلم النافع والتطور الصحيح، فالداعية إلى منهاج السلف الصالح ليس كما يصوره بعض هؤلاء العلمانيين أو الفجرة والفسقة وغيرهم من أنه عودة إلى تلك العصور بكل ما فيها ،أي أنهم يصورون الأمر كما قد يعبرون أحياناً بأنه رجعية وظلامية وتأخر وانحطاط إلخ، وكأن الإنسان إذا دعا إلى منهج السلف الصالح سيترك هذه الأشياء التي انتفع بها المسلمون واستفادوه هذا لا يدخل تحت أي عقل ولكن هذه طرائق لأهل البدع ينفرّون فيها من أمة الإسلام وممن يدعو إلى منهاج السلف الصالح _رحمهم الله تعالى_ وحقيقة بالنسبة للمنهج الصحيح للتربية يطول(115/655)
الحديث عنه ويحتاج إلى تفصيل كثير والاختصار لا يفي بالمراد، ولكن تكفي في ذلك العناوين التي أشرت إليها قبل قليل، وأحب أن أذكّر بثلاثة أمور في هذا الجانب:
أن يركّز الدعاة والمربون إلى هذا التناقض الذي يعيشه كثير من الناس في هذا الشهر الكريم، وفي ظني أن هذا مما ينبغي التركيز عليه كثيراً هذا التناقض العجيب أن المسلمين أو أن بعض المسلمين في نهار رمضان يصوم لله رب العالمين ثم إذا أفطر كأن الأمر تغير تماماً، كأن الأمر تحوّل من تحريم إلى تحليل
الأمر الأول : أنه لا خيار للمسلمين في هذا الباب، يعني ليسوا مخيّرين بأن يذهبوا إلى أهل البدع أو أهل الضلالات أو أهل السنة، وأن الأمر مفتوح لهم، وأن من شاء فليفعل هذا أو ليذهب إلى هذا ونحو ذلك كلا، فالأدلة صريحة "وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ" (الأنعام: من الآية153)، "قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي" (يوسف: من الآية108) "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين"، "من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي"، "إياكم ومحدثات الأمور" هذه كلها وغيرها أدلة صريحة في أن هذا أمر واجب أمر واجب يجب أن يسعى إليه المسلم بكل ما أوتي من قوة ووسيلة.
الأمر الثاني : هو أن نعلم علم اليقين أنه لا يكون في البدع سواء كانت بدعاً اعتقادية أو عملية أو غيرها لن يكون فيها تربية صحيحة ولا يمكن أن يكون فيها علم صحيح وهذا مشاهَد؛ لأن البدعة والهوى تظلم القلب حتى لو ظن البعض أن فيها خيراً فإن مخالفة أمر الله وأمر رسوله _صلى الله عليه وسلم_ لا يكون فيها خير للإنسان لا في الدنيا ولا في الآخرة واشتمال بعض البدع أو أحوال بعض أهل البدع على ما قد يُزيّن لبعض النفوس يجب أن يعلم أن في كتاب الله وفي سنة رسوله _صلى الله عليه وسلم_ وفي منهاج السلف الصالح ما يغني عنه وأنا أقول هذا الكلام؛ لأن بعض الناس مثلاً قد يرق قلبه حينما يجلس مع جلسة صوفية أو نحو ذلك، فقول: كلا إن البدع لا يمكن أن يكون فيها الخير كل الخير قد تنخدع النفس قليلاً، وقد يرق القلب قليلاً لكن انظر إلى مجمل هذه البدع فإنك ستجدها في النهاية لا يمكن أن تنتج تربية إيمانية صحيحة متكاملة مقتدىً فيها برسول الله _صلى الله عليه وسلم_ وبصحبه الكرام.
الأمر الثالث : حول المنهج أقول فيه: ينبغي أن يُعلم أن المنهج الصحيح المتكامل وما يتبع ذلك من قضايا تفصيلية وعملية ونحو ذلك أن هذا المنهج موجود لمن أراده وطلبه، وأنه مهما غلبت البدعة فلن تقضي على المنهج، وسأذكر لكم مثالاً واحداً في زمن الدولة العباسية، وفي بدايات القرن الثالث كانت الدولة العباسية تحكم مشارق الأرض ومغاربها وكانت في أقوى مراحلها ثم إذا بشرذمة من المعتزلة يتسنمون القرب من الدولة ويصلون إلى مواطن اتخاذ القرار فيها فيحملون الدولة العباسية على إحدى البدع المغلظة التي هي عنوان لمذهبهم الفاسد الباطل؛ لأنهم أرادوا أن يُدخلوا الناس من خلال هذه المسألة إلى مذهبهم إذا بهم يحملون الدولة على أن تتبنى مذهب المعتزلة، وعلى رأسه مسألة القول بخلق القرآن، وفعلاً تبنتها الدولة وأُصدرت فيها القرارات التي أُلزم بها المسلمون وامتحنوا في مشارق الأرض ومغاربها حتى ظنّ الظان أن هذه الأمة ستتحول إلى أمة اعتزالية، ولكن الذي وقع(115/656)
هو أنه مع هذا الابتلاء والامتحان الذي امتد على مدار ثلاثة خلفاء من بني العباس وابتلي المسلمون بلاء عظيماً، أما هذه انتهت بثبات الإمام أحمد بن حنبل _رحمه الله تعالى_ ثبت الإمام أحمدابن حنبل وأبى أن يجيب وأوذي وسُجن وضُرب ثم فُرضت عليه الإقامة الجبرية في بيته وأبى أن يستجيب فكانت النتيجة ما هي؟ نصر الله _تبارك وتعالى_ بعد ذلك السنة وأهلها وارتفعت راياتها في العالمين وبقي الاعتزال ومذاهب الاعتزال في الكتب لا يُذكر إلا بذم ولا يمدحهم إلا من كان هو على شاكلتهم، أما أمة الإسلام فقد خطت خطواتها المتكاملة _والحمد لله_ على منهاج ربها _سبحانه وتعالى_، هذه قضية وتجربة مهمة جداً نتبين فيها أن المنهج الصحيح هو الذي يبقى صحيحاً " فأما الزَبَد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض " ،أي: ينبغي ألا نُخدع في بعض الأوقات مثل هذه الأوقات التي نعيشها لما يغلب بعض علم البدع أو بعض أهل العلمنة أو تتحول كثير من وسائل الإعلام إلى حرب ضروس على دين الله وعلى أصوله وعلى عقيدته عقيدة التوحيد وعقيدة الولاء والبراء ونحو ذلك، ينبغي ألا يصيب المسلم وهن ولا ضعف في ذلك، بل يثبت على دينه ويثبت على المنهج الصحيح فيتربى عليه ويربي عليه من حوله وليعلم علم اليقين أن الذي يبقى هو ما يأذن الله _سبحانه وتعالى_ ببقائه "إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُه" (فاطر: من الآية10) وهذا منهج قرآني عرفناه بين الأنبياء وبين أممهم، كم فعل الطغاة وكم فعل الأعداء وكم جرى بينهم وبين الأنبياء ثم كانت النتيجة ما هي؟ نصر من الله _سبحانه وتعالى_ للمؤمنين وعقاب للكافرين وكل ذلك باقٍ؛ لأن سنة الله _سبحانه وتعالى_ لا تتغير ولا تتبدل يجب أن تعي أمة الإسلام أنه لن يبقى في منهاجها الصحيح التربوي إلا ما كان مؤصلاً وصحيحاً، أما ما عدا ذلك فإنما هو زبد وهراء سرعان ما يذهب _نسأل الله تبارك وتعالى أن يثبتنا على المنهج الصحيح_.
ينبغي للمسلمين عموماً أن يعلموا أن من وسائل الشيطان التي تدخل إليهم وهم قد لا يشعرون بها وسيلة التيئيس والقنوط.
بما أنكم – حفظكم الله - من المتخصصين في العقيدة أقول : هل واقع الناس اليوم يدل على الإيمان بالقضاء والقدر بشكله الصحيح ؟
الحقيقة هذا السؤال الجواب عليه يحتاج إلى تفصيل، فنقول :
أولاً : نعم _والحمد لله_ فإن عموم المسلمين الذين يتلقون ويتعلمون دينهم بدون الخوض في تفصيلات المبتدعة وغيرهم هم يؤمنون بالله _سبحانه وتعالى_ ويتبعون شرعه وهذا مشاهد حتى في العامة، فإن العامي تجده يتبع ما أمر الله به ويفعل الأوامر ويجتنب النواهي، وإذا جرى القضاء والقدر من المصائب يحتج به، وإذا وقع في الذنب فإنه لا يحتج بالقضاء والقدر وهذا هو خلاصة المنهج الصحيح إيمان بالقضاء والقدر واتباع للشرع بدون أن يقع بينهما تعارض، أما الذين يوقعون التعارض فهم الذين انحرفوا أو وقعوا في شبهات أو شهوات أرادوا أن يحتجوا لها بمثل هذه الحجج فالواقع العام _والحمد لله_ في الجملة يدل على أن الأمة تتلقى دينها بشكل مبسط واضح _والحمد لله_.(115/657)
الأمر الثاني : هو أنه يوجد من يخوض في هذا الباب وخاصة من أهل البدع وغيرهم، بحيث إننا نجد خللاً وهذا الخلل يمكن أن نتبينه في الأمة من خلال بعض الأمثلة منها ما يزعمه البعض من التعارض بين القضاء والقدر وبين الشرع وهذا خطأ عظيم؛ لأن القضاء والقدر من الله فهو الذي خلق وقدّر والشرع أيضاً من الله كما قال_ تعالى_: "أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ" (الأعراف: من الآية54) ولا يمكن أن يكون بينهما تعارض منها أي من الصور الموجودة اليوم الاستدلال بالقضاء والقدر على المعاصي وهذه أيضاً شبهة مردودة؛ لأن الإنسان هو الذي يقع في المعصية وهو الذي يفعلها وجواب هذه الشبهة في مكان آخر منها أيضاً، يعني تعلق الكثيرين بالأسباب ونسيان التوكل على الله _سبحانه وتعالى_ الذي هو مقتضى الإيمان بالقضاء والقدر، فمثلاً في الأرزاق نؤمن بأن الله كتب أرزاق الناس " وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا" (هود: من الآية6) وكل نَسمة قد كُتب رزقها عند نفخ الروح فيها وهي في بطن أمها، فبعض الناس ربما ينسى هذا ويعتمد على الأسباب بذاتها وينسى أنه يجب عليه أن يجمع بين الإيمان بالقضاء والقدر وبين فعل الأسباب وبين التوكل على الله _سبحانه وتعالى_.
فضيلة الشيخ : يرى بعض الناس أن حال الأمة اليوم هو قضاء من الله مقدر ، ويجب علينا أن نسلم بذلك حتى يقضي الله بزوال هذا الحال ، فما توجيهكم ؟ وهل يمكن رد هذا القدر وتغيير هذا الواقع الذي تعيش فيه الأمة ، وكيف ؟
الحقيقة هذا من مواطن الخلل في باب القضاء والقدر ويعظم لما يتكلم فيه بعض من ينتسب إلى العلم، والخطأ في هذا الباب يأتي من أن بعض هؤلاء لما يرى الأمة الإسلامية تواجه أعداءها فيرى ضعف الأمة الإسلامية فيبدأ يبحث له عن مبررات، وخاصة إذا وجد مبررات شرعية، ومنها هذه القضية، فبعض الناس مثلاً يرى أن الله _سبحانه وتعالى_ قضى وقدّر بوجود الكفار، وقضى وقدّر بقوة هؤلاء الكفار ومن ثم فهذا قدر الله وباق إلى قيام الساعة، فكيف نواجه قضاء الله وقدره، ولا شك أن هذا مبني على خلل في المنهج ألا وهو إيجاد التعارض والصراع بين القضاء والقدر وبين الشرع، وهذا الأمر نبه إليه شيخ الإسلام ابن تيمية _رحمه الله تعالى_ تنبيهاً دقيقاً وجميلاً جداً في القسم الثاني، وهو الأصل الثاني من رسالة التدمرية، والحقيقة أن التعارض بين القضاء والقدر وبين الشرع إذا وقع في قلب العبد ذلك فإنه يؤدي إلى خلل كبير؛ لأن بعض الطوائف لما رأت هذا التعارض غلّبت القضاء والقدر على حساب الشرع فنشأت الجبرية الذين يقولون كل شيء مقدّر، ويجب أن نستسلم لهذا الأمر المقدر حتى إن بعضهم إذا رأى غلبة الكفار رضي بذلك وسلّم، وإذا رأى غلبة المسلمين رضي بذلك وسلّم دون أن يفرق بين الحالتين، وهذا النوع الذي ورد فيه السؤال قد يكون ممن وقعت عليه شبهة في هذا الباب وهي نوع من الجبر.
قسم ثان من الناس لما رأى بين القضاء والقدر وبين الشرع رأى أهمية الشرع فغلّب جانب الشرع وطاعة الله على حساب القضاء والقدر فأنكر قدر الله وهذا هو منهج المعتزلة، المنهج الوسط هو منهج أهل السنة والجماعة أنه لا تعارض بين الشرع والقدر، وأن الأمة الإسلامية مأمورة بالإيمان بالقضاء والقدر والتصديق به وكل من الناس لا يعلمه إلا بعد وقوعه، وهي مأمورة في مستقبل أمرها باتباع شرع الله(115/658)
_سبحانه وتعالى_ وهذه هي المسألة المهمة التي ينبغي أن نتدبرها حتى نعلم أنه لا تعارض بين الأمرين أي أنك في هذه اللحظة لا تدري ما الذي في قضاء الله وقدره، وإنما الذي تعلمه أن الله أمرك ونهاك فماذا أنت صانع، لا شك أن هذا أمر مستقبلي فيجب عليك أن تتبع ما أمر الله فتفعله وأن تجتنب ما نهى الله _سبحانه وتعالى_ فتتركه، ثم بعد ذلك قد يتبين أن هذا بقدر أو ليس بقدر مما يجري فيك أو في غيرك أو في أحوال أمة الإسلام.
إذن أنت مأمور الآن وفي هذه اللحظة ( ولما نقول الآن أي أنها تتجدد في كل لحظة في حياة المسلم إلى أن يلقى ربه ) أنت مأمور بأن تصدق بأن الله قدّر وفي نفس اللحظة أنت مأمور بأن تتبع الشرع والامتثال إنما هو للشرع تأتمر بما أمر الله به وتجتنب ما نهى الله _سبحانه وتعالى_ عنه.
إذا نظرنا إلى واقع الأمة الإسلامية فنجد أن الله _سبحانه وتعالى_ أمرنا بالاستمساك بهذا الدين أمرنا بالدعوة إلى الله أمرنا بجهاد الكفار حين يكون عندنا قدرة على ذلك، أمرنا بإزالة الضعف في أحوال الأمة الإسلامية وأخذ القوة "وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ" (الأنفال: من الآية60) أمرنا الله _سبحانه وتعالى_ بالاستقامة على منهجه _سبحانه وتعالى_ فهذه كلها يجب أن نمتثلها، وهذا الذي فعله المسلمون، أمرهم الله _سبحانه وتعالى_ بالعبادة فعبدوا الله أمرهم بالدعوة إلى الله فدعوا إلى الله، أمرهم بالجهاد في سبيل الله فجاهدوا في سبيل الله وفتحوا مشارق الأرض ومغاربها، ورحم الله _سبحانه وتعالى_ تلك البلاد بذلك الجهاد والصحابة _رضي الله عنهم وأرضاهم_ ما احتجوا بما احتج به البعض هذه الأيام وجلسوا في المدينة النبوية، وقالوا: الحمد لله على الإسلام نحن لا نقاتل إلا من قاتلنا، أما بلاد فارس فالله قدّر عليهم أنهم يكونون من أهل المجوس والوثنية، وبلاد الروم قدّر الله عليهم أن يكونوا من أهل النصرانية، وبلاد القبط في مصر قدّر الله عليه أن يكونوا أيضاً من أهل النصرانية وما علينا منهم، الأمة الإسلامية في زمن أصحاب النبي _صلى الله عليه وسلم_ عرفت أن واجبها أن تغيّر من واقع حالها فجاهدت نفسها وجاهدت المشركين فعملت وغيرت وتغير مجرى التاريخ من أوله إلى آخره؛ لأنها لا تجد تعارضاً عندها بين القضاء والقدر، نحن في هذا الوقت يجب أن نعلم علم اليقين أن تغيير هذا الواقع الذي تعيشه الأمة الإسلامية ممكن، وأن وسائلة واضحة _والحمد لله_ مثل الشمس ويبقى علينا العمل، وألا نقع في أنواع من الخلل ومنها هذا الخلل الذي يقول به البعض، وهو أن الله كتب على هذه الأمة الإسلامية أن تكون متخلفة أو أن الله كتب على الكفار أن يكونوا كفاراً، فلماذا لا نترك هذا؟ هذا لا شك أنه خطأ عظيم حتى إنه يعني مما ينبغي أن يُنتبه إليه أن الدعاء أن الله يصلح حال المسلمين وأن يرد كيد الكائدين في نحورهم، هذا لا شك أنه دعاء عظيم ولا يقول قائل: لا تدعو على الكفار الذين يحاربون دين الله _سبحانه وتعالى_؛ لأن الله كتب لهم أن يكونوا كفاراً، هذا لا شك خطأ كبير ونشأة هذا الخطأ إنما جاءت من ظن التعارض بين الشرع والقدر أو من شبهة جبرية تقع لبعض الناس ولو لم يكن من أهل الجبر، لكنها شبهة تعرض له في بعض الأحوال فيظنها حقاً وهي ليست كذلك _نسأل الله _تبارك وتعالى_ أن يرد(115/659)
هذه الأمة إليه رداً جميلاً، كما نسأله _سبحانه وتعالى_ أن يغير من حالها، وأن يعين العلماء والدعاة إلى الله _سبحانه وتعالى_ أن يقوموا بدورهم المطلوب، وهو _سبحانه وتعالى_ السميع المجيب_.
فضيلة الشيخ : من التربويين والدعاة من يغلب جانب الخوف في دعوته ، ويرى أنها الطريقة الأسلم في هذا الزمن ، ومنهم من يغلب جانب الرجاء ، ويرى أن الناس لابد من أخذهم باللين حتى لا ينفروا ، فما الضابط في هذا الجانب ؟
الحقيقة يخال أن هذا الضابط في هذا الجانب، هو: الاستمساك بكتاب الله وسنة رسوله _صلى الله عليه وسلم_ من غير إفراط ولا تفريط ، والتغليب المطلق ليس صحيحاً من غلّب جانب الخوف ربما دخل في شبه الخوارج وغيرهم، ومن غلّب جانب الرجاء ربما دخل في شبه أهل الإرجاء ونحوهم.
على الداعية إلى الله _سبحانه وتعالى_ أن يكون وسطاً، وهذه الوسطية هي التي تجعله يطير بجناحي الدعوة على شكل سواء جناحي الدعوة الخوف والرجاء كما ذكر ابن القيم _رحمه الله تعالى_ ذلك فيما يجب أن يكون عليه قلب المؤمن ونحن ننقلها إلى الدعوة إلى الله _سبحانه وتعالى_ نقول لهم: ادعوا الله _سبحانه وتعالى_ بالخوف والرجاء اجمعوا بينهما لا تركزوا على جانب الخوف فقط حتى بدعوى أنها أسلم، وأن هذا الزمن زمن الفتن ونحو ذلك، وكذلك أيضاً لا تغلبوا جانب الرجاء حتى لا تنفروا الناس وحتى تلينوا لهم الجانب ويقبلوا عليكم، هذا وهذا كل منهما متى ما طغى على صاحبه انحرف المنهج اجمع بينهما يا عبد الله، وأقول: إن هذا الباب أو هذا المنهج لا يمنع في بعض الأحوال الخاصة التي يحتاج فيها المدعو أو المُربّى إلى التذكير بأحدهما، لا يمنع من التركيز عليه لا كمنهج وإنما بصفة خاصة لعلاج مثل هذا المرض أو مثل هذا الشخص، فمثلاً لو رأى أحد جاره أو قريبه ممن يسرف على نفسه بألوان من الكبائر فطبعاً ليس من المناسب في مثل هذا أن تذكره بالرجاء وأن المسلم إذا مات وهو يشهد أن لا إله إلا الله دخل الجنة، وأنه مهما عمل من الكبائر فهو من أهل الجنة لا شك أن هذا لا يتناسب، بل يجب عليك أن تخوّفه وأن تبيّن له عقوبة الذنوب والمعاصي إلى أن تحس أنه بدأ يلين ويرتدع فإذا ارتدع وتاب إلى الله _سبحانه وتعالى_ فهنا يأتي الرجاء فالعبد دائماً يجمع بين الخوف والرجاء، ومثله في المقابل إذا رأيت شخصاً قد أيس وأصابه شيء من القنوط في نفسه وأغلق على نفسه وشدّد على نفسه... إلخ، فأنت في هذه الحالة ينبغي أن تخاطبه بالرجاء، وأن رحمة الله واسعة... إلخ، حتى يخرج من ما هو فيه إلى المنهج الوسط.
إذن الخلاصة الأصل في المنهج هو الدعوة إلى الوسط بالجمع بين الخوف والرجاء كما هو منهاج الكتاب والسنة، ثم إن انحرف البعض إلى أحدهما ينبغي أن يُعاد إلى هذا المنهج الوسط من انحرف في باب الخوف يعالج بالرجاء حتى يعود إلى الوسط، ومن انحرف في باب الرجاء فيعالج بالخوف حتى يعود إلى المنهج الوسط، والله أعلم.
من مظاهر ضعف الأمة ( انتشار الفرق وتنوع طرق الدعوة إليها ) ، حتى أصبح لأكثر الفرق صوتها الإعلامي المؤثر ( عبر القنوات الفضائية ) ، والتي لها الأثر الكبير في تغيير كثير من المُسلَّمات والثوابت الصحيحة . كيف يمكن لرب الأسرة أن(115/660)
يحمي أسرته من خطر هذه القنوات ، والتي تشكل خطراً على عقيدة المسلم ؟ وكيف يمكن للدعاة والمربين أن يتصدوا لهذه الدعوات ؟
الحقيقة هذا سؤال كبير جداً وطويل، ويعني في ظني أنه يحتاج إلى ندوة مستقلة يشارك فيها عدد من المشايخ وطلاب العلم والمربين حتى تتلاقح الأفكار فيها والتجارب بحيث يُنتهى فيها إلى حقيقة منهج متكامل يعالج هذه الظاهرة الخطيرة، وأنا أدلي بدلوي في هذا المقام باختصار شديد، وأقول: إن درء هذا الخطر يمكن أن يتم من خلال السعي في الأمور التالية، مع العلم أن كل واحد منها يحتاج إلى تفصيل:
الأمر الأول: التربية والتعليم للعقيدة الصحيحة، وألا نكتفي بالمناهج الموجودة في المدارس مع أن فيها خيراً؛ لأن من المؤسف أن كثيراً من الطلاب والطالبات يتعلمونها تعلم الممتحن وتعلم الممتحن هو الذي يريد أن يحفظ بأسرع وقت ممكن ولديه استعداد أن ينساها بسرعة، فلا بد أن نربي وأن نعلم أنفسنا وأبناءنا على العقيدة الصحيحة هذه واحدة .
الأمر الثاني : أن ننبه أسرنا إلى خطر بعض التيارات والبدع ونحوها ، في زمن مضى كان يكفي للأسرة أن تتعلم العقيدة، أما في هذا الزمن خاصة تلك الأسر التي تستقبل القنوات الفضائية ونحوها فمن المهم أن يكون في أثناء البيان تعليمهم لهذه الفرق وليكن كتاب صغير أو غيره في هذه الفرق تؤخذ واحدة واحدة ويُذكر ماذا فيها حتى يستقر في أذهان شبابنا وحتى الكبار منهم أن هذه الفرق فيها مخالفات كبيرة وأن بدعها مغلظة وأن الفرقة الفلانية تقول كذا وكذا وكذا مما هو يستنكره كل مسلم ومسلمة... إلخ، وفي رأيي أن هذا لا بد منه، أي أن الأسرة لا بد أن يكون عندها مثلاً خلفية عن من هم الرافضة؟ ما العلمانية؟ ما هي الإسماعيلية؟ من هم المعتزلة؟ من هم الخوارج؟... إلخ، مثل هذه المعلومات التي نعلمها لمن يتعرض للمؤثرات الإعلامية.
الأمر الثالث : هو حقيقة أن نذّكر المسلمين جميعاً بأهمية المنهج الصحيح منهج السلف الصالح _رحمهم الله_ وأن هذا المنهج منذ عهد الرسول _صلى الله عليه وسلم_ وإلى اليوم قائم وباق، وأنه هو هو لم يتغير ولن يتغير، وإنما الذي يتغير هو من يخالف هذا المنهج، والتذكير بهذا له أثر كبير في بيان أن هذه الأمة هي أمة واحدة على مدار تاريخها، وقطع الطريق على هؤلاء الذين يريدون أن ينسبوا مذهب السلف الصالح _رحمهم الله تعالى_ إلى العالم الفلاني أو الفئة الفلانية أو غيرها حتى يبعدوهم عن المنهج، ونحن نقول: لا شك أن العلماء والدعاة إلى الله _سبحانه وتعالى_ أنهم يجددون هذا الأمر، لكن نحن إنما نريد أن نعيد الأمر إلى أصله وهذا باب جيد، وربما يقتنع الكثيرون في الأمة الإسلامية لما تبيّن لهم أن هذا هو المنهج الذي قال الصحابة قال به السلف، قال به أولئك الأئمة الكبار في الزمن الأول، ثم عند الحاجة لا بأس أن تقارنه بأقوال بعض العلماء المتأخرين حتى تبين أن هذا المنهج هو هذا، وأن هذا لا يختلف عن ذاك، وأن هؤلاء العلماء الربانيين السائرين على منهاج السلف الصالح لم يأتوا بشيء من عند أنفسهم، سواء دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب _رحمه الله تعالى_ والأئمة من بعده أو دعوات الذين ساروا عليها من العلماء المعاصرين في زمننا _وفقهم الله وغفر الله لميتهم_ أن هذا كله _والحمد لله_(115/661)
ليس مرتبطاً بدعوة معينة كدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب ولا بلد معين كهذه البلاد ولا بعالم معين كفلان أو فلان، وإنما هؤلاء ما هم إلا تطبيق عملي وبيان لذلك المنهج المؤصل.
الأمر الرابع : الذي حقيقة يجب أن ينتبه له أن تزاحَم تلك القنوات الفضائية على أهل الخير الذين يعرضون المنهج بشكل صحيح ، يحتم عليهم أن يختاروا من الفضائيات ما هو مناسب لأن يخرج فيه أهل العلم؛ لأن هناك فضائيات مارجة ماجنة فلربما الدخول فيها أو الخروج فيها يؤدي إلى سلبيات أكثر من الإيجابيات وليس هذا موضع تفصيل هذه المسألة المعينة لكن الكلام على أن الحديث الذي يكون في هذه الفضائيات يجب أن يتقي الله _سبحانه وتعالى_ فيه صاحبه وألا يجامل فيه أحداً، يبيّن الحق ويصدع به، ويدل الناس على الخير ويأمرهم به، وليحذر كل الحذر أن يقول الباطل، سواء كان هذا الباطل في مجال العقيدة أو في مجال الفتوى، بحيث يخالف الدليل الصحيح مجاملة لبعض الناس ونحو ذلك.
الأمر الخامس : من الوسائل المهمة وجود الوسائل البديلة، لا شك _والحمد لله_أن مواقع الإنترنت الآن وأيضاً مجالات الكتابة والشريط الإسلامي ونحو ذلك،وكذلك أيضاً في القنوات الفضائية،لا شك أن هذه ستكون بدائل إذا ما انضبطت الانضباط الشرعي،ولم تقع فريسة المؤثرات الأخرى،فلا شك أن الله _سبحانه وتعالى_ ينفع بها.
وأخيراً وعلى كل تقدير أعيد ما أشرت إليه قبل قليل في جوابي على سؤالك حول المنهج الصحيح للتربية، وهو أن الباطل مهما انتصر فهو في الحقيقة وفي النهاية باطل، وأن الحق مهما بدأ ضعيفاً فهو في الحقيقة وفي النهاية يبقى كبيراً، هذا ما يجب أن يستقر عليه المسلم، فالدعاة إلى الله والمربون _ولو أن صوتهم خافت في بعض الأحيان، وفي بعض المجالات_ ينبغي أن يستمروا وينشروا دعوتهم إلى الله _سبحانه وتعالى_ وأن يعلموا أن الذي يبقيها وأن الذي ينشرها هو الله _سبحانه وتعالى_ متى ما كانت على المنهج وأخلصوا فيها لربهم _سبحانه وتعالى_، ويضاف إلى ذلك أمر مهم وهو أن يكون هناك بناء وتربية لطلاب العلم والدعاة إلى الله _سبحانه وتعالى_، وأن ينتشروا في كل مكان حتى ينفع الله _سبحانه وتعالى_ بهم، ويتصدوا لمثل هذه الهجمات الإعلامية الخطيرة على أمة الإسلام، نحن لدينا ثقة بأن الله ناصر هذا الدين، ولكن هل نقوم نحن بما أوجب الله علينا وبما أعطينا من قدرة في نصر هذا الدين، هذا هو السؤال الكبير، نسأل الله أن يعين الجميع على ذلك.
في كتابكم ( الحكم بغير ما أنزل الله ) ذكرتم بعض الشبه والرد عليها، ومنها شبهة تعميم التكفير، بحيث يشمل الحوادث الجزئية ، هل يمكن توضيح هذه الشبهة ، وكيفية ردها ؟
لا شك أن هذه مسألة من المسائل التي ربما يغلط فيها البعض، وأوصي بقراءة الكتاب كله حتى لا نركز على مسألة ونترك المسائل الأخرى، ومن ثم فهذه المسألة التي أشرت إليها في السؤال وهي شبهة تعميم التكفير، حيث يشمل المسائل الجزئية ذكرت في آخر الكتاب أن المسائل الجزئية قد يقع فيها البعض، فهي لون من ألوان المعاصي صحيح أنها قد تكون في بعض الأحيان أخطر من الكبيرة، لكن هي أيضاً(115/662)
لون من ألوان المعاصي، فعلى مدار تاريخ المسلمين بعد الخلفاء الراشدين وإذا استثنينا الصحابة وعمر بن عبد العزيز لم يزل يوجد من الحكام جور أو ظلم وكذا من القضاة قد يوجد منهم من يرتشي، لكن مع التزام الجميع بتحكيم شريعة الله _سبحانه وتعالى_ فهذا الذي يقع من بعضهم هو الذي نسميه نحن الحوادث الجزئية التي هي كفر دون كفر، وهي عظيمة لكنها لا تخرج صاحبها من الملة ؛ لأن هؤلاء يلتزمون دين الله _سبحانه وتعالى_ التزاماً تاماً ويحكمون شريعته، ثم قد يقع القاضي الفلاني أو الحاكم الفلاني أو نحو ذلك بنوع من الظلم أو نحوه، فهل هذا يسمى حكم بغير ما أنزل الله يكفر به صاحبه؟ بيّنا في الكتاب أنه ليس كذلك، وأوصي القارئ بأن يرجع إلى الكتاب كله، وسيجد هذه المسألة في آخر في أواخر الكتاب ليس في آخره في أواخر الشبه والرد عليها.
بينتم في كتابكم أيضاً الفرق بين النظام الشرعي والإداري البحت ، وذكرتم أن هناك من يخلط بينهما . كثير منا تشتبه عليه هذه المسألة ، فهل من توضيح لها ؟
الحقيقة كان هناك إشارة إلى ذلك، والذي سبق نقلت عنه الإشارة الجيدة الممتازة هو الشيخ محمد الأمين الشنقيطي _رحمه الله تعالى_ فهو الذي بيّن ذلك في تفسير (أضواء البيان)، ونقلت جزءاً كبيراً من كلامه والتفريق بينهما ظاهر وواضح، وهو أن الأحكام الشرعية هي أحكام شرعية منصوص عليها، وأما النظم الإدارية هي النظم الإدارية التي وردت وترد على كل أمة ومنها أمة الإسلام، فتدخل عليها من باب المصالح المرسلة التي لا تخالف أصول الشريعة، فالأمة الإسلامية مثلاً لما توسعت صار لها منهج إداري ، صار هناك حكام أقاليم، وصار لكل إمارة ديوان، وصار هناك دواوين للجند، ودواوين للصدقات، ودواوين لأهل الذمة بالنسبة للجزية، فهذا الترتيب الإداري لا يخالف النصوص لا في أصولها ولا في جزئياتها، أي أنه لا يخالف نصاً فلو خالف أصول الشريعة لبطل، ولو خالف واحدٌ من مواد هذه الإدارة نصاً شرعياً لبطل، فيتبين من خلال هذا أن تنظيم أمور المسلمين وفق الشريعة الإسلامية التي هي المهيمنة والحاكمة نافع لهم، بل لا بد منه وهذا طبيعي تماماً لو أنشأ أحد داراً للعلم، وقال: لا يحضرها إلا من حفظ القرآن، هذا شرط إداري ما أحد يقول: أين دليلك من كتاب الله ومن سنة رسوله _صلى الله عليه وسلم_ أن هذه الدار لا يقرأ فيها العلم إلا إذا حفظ القرآن الكريم؟ هذا شرط وضعه من وضع هذه الدار، ولهذا قال العلماء _رحمهم الله تعالى_ إنه يُعمل بشروط الواقف ما لم تخالف الشرع، ففي الوقف الإسلامي تجد أن الإنسان لما يوصي يضع وقفاً أو يوصي بجزء من ماله ونحو ذلك له أن يضع شروطه، فيقول: إن هذا المال يكون على الأسرة الفلانية أو المدرسة الفلانية أو في البلد الفلاني، ولا أحد يقول: كيف تفعل هذا؟ وأين دليلك؟ هذا شيء يخالف الشرع ، ما دام لا يخالف الكتاب والسنة فإن فعله هذا صحيح، ولا شك أن ترتيب أمور المسلمين في جميعها نافع ومفيد جداً، وينبغي أن يستفيد منه المسلمون، لكن يكون ذلك كله تحت الهيمنة الشرعية في نظامها المتكامل، وهذا يختلف تماماً عن القوانين الوضعية المخالفة للشريعة الإسلامية والتي يتحدى فيها أصحابها شريعة الله _سبحانه وتعالى_ في أحكام جاء النص فيها، ولعل في الرجوع إلى الكتاب ما يبين شيئاً مما قد أكون غفلت عنه.(115/663)
من خلال الأحداث التي تمر بها الأمة ، يصاب كثير من الشباب بحيرة مخلوطة بحرقة ، ويتساءلون كيف نستطيع أن ننصر الدين ، ونحن لسنا من أصحاب اتخاذ القرار ولا من العلماء ؟
حقيقة الجواب على ذلك من ثلاثة أوجه :
أولها: أن الله لا يكلف نفساً إلا وسعها، فأنت أيها الشاب بحسب ما أتاك الله _سبحانه وتعالى_ لا يكلفك الله غير ذلك، وهذه قاعدة شرعية ربنا _سبحانه وتعالى_ هو الذي شرعها لك ولغيرك، فهل أنت قمت بما أوجب الله _سبحانه وتعالى_ عليك مما تستطيعه، اسأل نفسك وانظر في حالك.
الأمر الثاني : ينبغي للمسلمين عموماً أن يعلموا أن من وسائل الشيطان التي تدخل إليهم وهم قد لا يشعرون بها وسيلة التيئيس والقنوط، ويتخذ الشيطان لذلك عدداً من الأسباب والأوهام، ومنها ما ورد في السؤال: أنا لا أستطيع، لست من العلماء، لست من أصحاب اتخاذ القرار، ثم بهذا الشاب يجلس ولا يعمل شيئاً لدينه، فنقول: هذا من الشيطان، هذا التيئيس من أنك لا تستطيع أن تنصر هذا الدين من الشيطان، فعليك ألا تطيع الشيطان في ذلك، وألا تقنط من رحمة الله ومن نصر الله _سبحانه وتعالى_ لهذا الدين وأن توقن يقيناً أن الله _تبارك وتعالى_ ناصر هذا الدين، فيجب أن يكون لديك أمل عظيم في أن كل ابتلاء يصيب هذه الأمة بشكل جزئي أو بشكل كبير فإن لله _سبحانه وتعالى_ من وراء ذلك حكماً عظيمة، وأن مستقبل هذا الدين الإسلامي أخبر عنه رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ بأن الله ناصر هذا الدين، وأن القسطنطينية ستفتح، وأن روما ستفتح، وأنه لا يبقى بيت وبر ولا مدر في هذا العالم إلا ودخله هذا الدين، فهذه كلها مبشرات بنصر هذا الدين فكن من أنصار هذا الدين.
الأمر الثالث : نقول لهذا الشاب الذي يصاب بحيرة ونحو ذلك: ويقول: كيف أستطيع أن أنصر الدين ؟ نقول : انظر إلى من حولك من الشباب ممن وفقهم الله _سبحانه وتعالى_ للعمل لدينه، لا شك أن المتأمل يجد أنواعاً وألواناً من الشاب وفقهم الله _سبحانه وتعالى_ وسددهم قد نذروا أنفسهم لخدمة هذا الدين ونفع الله _سبحانه وتعالى_ بهم نفعاً عظيماً،وهؤلاء الشباب أنواع منهم إمام المسجد نفع الله به الحي، ومنهم خطيب الجامع نفع الله به الحي، ومنهم المعلم نفع الله به طلابه، ومنهم الموظف نفع الله به زملاءه، ومنهم التاجر نفع الله _سبحانه وتعالى_ به أمة الإسلام بما يبذل، ومنهم ومنهم ومنهم، حتى الشواب من أخواتنا المسلمات كم منهن نفع الله _سبحانه وتعالى_ بها، فأنت تشاهد أن هؤلاء ينصرون هذا الدين فكن معهم انصر هذا الدين، وخذ بنصيبك من نصر هذا الدين ولو قليلاً المهم أن تخطو إلى الأمام وألا يصيبك اليأس وأن تنصر هذا الدين على قدر طاقتك، ولا شك أن من تأمل المجالات المتنوعة العديدة الكثيرة فسيجد أن مجالات نصر هذا الدين كثيرة جداً، ورسول الله _صلى الله عليه وسلم_ أخبرنا عن شعب الإيمان "الإيمان بضع وسبعون شعبة" فهذه الشعب التي تزيد على السبعين كلها مجالات بعضها لازم وبعضها متعدٍ، بعضها عبادة محضة وبعضها عبادة وطاعة يتعدى نفعها إلى الآخرين، وكل ذلك _والحمد لله_ مجالات واسعة لمن يريد أن يعمل لهذا الدين، وأمة الإسلام _والحمد لله_ أمة ثرية برجالها وشبابها وعلمائها ودعاتها إلى الله _سبحانه وتعالى_ ويكفي(115/664)
في أمة الإسلام أنها إنما تعمل لدينه، وأنها إنما تعبد ربها وتتوكل عليه، وأنها إنما تجاهد في سبيله فيكفيها هذا عزاً ونصراً حتى لو لم يتحقق لها في هذه الدنيا شيء، فإن ما عند الله خير وأبقى.
فضيلة الشيخ ختاماً : هل من كلمة أخيرة ترون الحديث حولها .
حقيقة ليس عندي شيء إلا أن أدعو الله _سبحانه وتعالى_ أن يوفق القائمين على هذا الموقع والعاملين فيه والمتصفحين له إلى ما يحبه ويرضاه، وأن يثبتنا وإياهم بالقول الثابت في الحياة الدنيا والآخرة، وأن يرزقنا وإياهم الإخلاص، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
نسأل الله _جل وعلا_ أن يجزي الشيخ الدكتور : عبدالرحمن بن صالح المحمود خير الجزاء، وأن ينفع بما قال الإسلام والمسلمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
----------------------------------------------
* ومن كتبه – حفظه الله -
• تيسير لمعة الاعتقاد.
• عبادة القلب.
• مصادر التلقي عند أهل السنة.
• قضايا منهجية ودعوية – وهو كتاب جديد وجميل –
• عبر ودروس من زيارة بلاد الروس .
ـــــــــــــــــــ
الدور التربوي للحلقات القرآنية
مشرف النافذة
9/8/1424
ارسل تعليقك ...
تعليقات سابقة ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
الحمد لله الذي أعلى بالقرآن قدراً، وأعظم به أجراً، ووضع به وزراً، ورفع به ذكراً، والصلاة والسلام على أشرف من علمه، وأذكى من فهم وأفهمه، وعلى آله وصحبه الذين ترجموا القرآن واقعاً، واتخذوه إلى جميع المكرمات دافعاً، فسعدوا به في الدنيا ونهجاً في الآخرة شافعاً، أما بعد:
فما أحوج الناس اليوم إلى العودة إلى القرآن الكريم فهو النور الذي لا يخبو، والطريق الذي يسلكه لا يكبو، وهو المائدة التي تشبع من أقبل عليها وتسعد من جلس إليها، وهو الحل لكل مشكلة، والمخرج من كل معضلة، وهو طمأنينة للنفس وراحة للقلب.
كانت البشرية تعيش قبله في دروب مظلمة متخبطة، إلا جاء هذا القرآن فأضاء له الطريق، وأرشدها إلى الصراط المستقيم.(115/665)
وما هي إلا سنوات قلائل حتى سار الصحابة الكرام يجوبون الفيافي ويقطعون القفار حاملين مشعل الهداية والتوحيد للبشرية .. فكانت أبدانهم ودماؤهم وأموالهم وأرواحهم ثمناً لذلك.
ثم دار الزمان دورته، وبدأت بشائر النور تلوح في الأفق، تشعر جيل الصحوة وحاملي لوائها أن نجاة الأمة وفلاحها وطريق عزها هو في العودة إلى القرآن الكريم وتدارسه وتعلمه وتعليمه.
ما أحوج الناس اليوم إلى العودة إلى القرآن الكريم فهو النور الذي لا يخبو، والطريق الذي يسلكه لا يكبو، وهو المائدة التي تشبع من أقبل عليها وتسعد من جلس إليها، وهو الحل لكل مشكلة، والمخرج من كل معضلة، وهو طمأنينة للنفس وراحة للقلب.
يشهد لهذا الإقبال المتميز المتزايد على الحلقات القرآنية، وعلى الدور النسائية، وهذا يزيد من عظم المسؤولية الملقاة على عاتق المعلمين والقائمين على هذه الحلقات.
ومع هذه الشعبية المباركة لها لانريد أن ينحصر دور حلقات تحفيظ القرآن الكريم في تخريج أكبر عدد من الحفاظ فحسب ـ مع أن هذا هدف من الأهداف ، ومطلب من مطالب الحلقات القرآنية ـ بل نتمنى أن يتعدى هذا الأمر إلى تخريج أناس تمثلوا القرآن واقعاً وسلوكاً وتربية في حياتهم وإن لم يحفظوا القرآن كاملاً.
وإن معلم القرآن لا ينحصر عمله في كونه محفظاً (آلة رد)، بل هو في مكانة دينية، فعمله عبادة، والتربية عبادة، فالمعلم مؤتمن على الطالب أن يربيه على الأخلاق الفاضلة والآداب الإسلامية، فلا نريد طالباً يتخرج آله يردد ما لا يفهم.
فالقرآن الكريم جاء ليربي أمة، وينشئ مجتمعاً ويقيم نظاماً، والتربية تحتاج إلى زمن وإلى تأثير وانفعال بالكلمة، وإلى حركة تترجم التأثير والانفعال إلى واقع.
وفي هذا التحقيق سنحاول تسليط الأضواء على الدور التربوي الذي تتحمله الحلقات القرآنية ، من حيث الأهداف والغايات التربوية ، والأطراف اللازم توافرها وتظافرها لإنجاح هذا الدور المهم ، وعن المقومات التربوية لمعلم الحلقة القرآنية ، وختاماً : ماهي الأساليب والبرامج التربوية في الحلقات القرآنية .
ويشاركنا في طيات هذا التحقيق بعض المختصين والباحثين والعاملين في مجال الحلقات القرآنية .
الأهداف التربوية في الحلقات القرآنية:
الدكتور / أحمد محمد حسبو ( عضو جمعية تحفيظ القرآن الكريم بالطائف )
يرى تصنيف هذه الغايات والأهداف التربوية في الحلقات، ومن الحلقات، ويقول :
أ- في الحلقات:
1- انضباط في الحضور يدفعهم شوق الطير الظامئ يهفو إلى الماء.
2- جو إيماني عظيم يشعر الرائي – حقاً – أن الملائكة تحفهم، والرحمة تغشاهم والسكينة تنزل عليهم.
3- دموع تترقرق من خشية الله _عز وجل_ في هذا الجو الإيماني.
4- معلم يفيض على طلابه علماً وحلماً وخلقاً، وهم يفيضون عليه توقيراً وتبجيلاً واحتراماً وحباً.
5- تقدم في حفظ، وازدياد في إتقان، وبشائر خير بحفظة جدد.(115/666)
6- أخوة تجمع الطلاب ومحبة تؤلف بينهم.
7- انصراف وقور ينطق بأثر القرآن على أهله حتى لو عادوا إلى بيوتهم.
8- آثار القرآن تبدو في سمت الطالب في أخلاقه وسلوكه وعبادته.
9- تزود بزاد العلم من أحكام وآداب إسلامية، وإضاءات من سير الأنبياء والصحابة والعلماء، إضافة إلى جوانب الثقافة الإسلامية،
ويضيف الدكتور / أحمد حسبو :
ب- والأهداف التربوية من الحلقات، هي :
1- تربية جيل مسلم على القرآن، تلاوة وأخلاقاً ومنهجاً.
2- استنقاذهم من وطأة الأخلاق الذميمة والعادات المشينة.
3- شغل الشباب بمعالي الأمور ورفيع المنازل.
4- تنمية روح الاعتزاز لدى الطالب بإسلامه وهويته وكتاب ربه.
5- فتح آفاق جديدة وواسعة أمام الشباب على معاني القرآن الآسرة، وحقائقه الفذة تفجر الطاقات الإبداعية.
6- إمداد الأمة والمجتمع بحفظة القرآن – ليبقى فيها الميزتان – حفظ الصدور، وحفظ السطور، أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى، فلا ثقة لنا بحفظ حافظ حتى يوافق الرسم المجمع عليه من أصحاب النقول إلينا جيلاً بعد جيل.
7- مداواة مرضى العقوق الذي يشكو منه الوالدان، وقد استشرى في الأمة، ودواؤه من صيدلية القرآن.
8- تقديم القرآن بطريقة مشوقة فيها أسلوب العصر وسرعته وإغراؤه، وفيها أصالة التراث الإسلامي وخلوده وعظمته،
ومن الأهداف أيضاً :
9- عمارة المساجد بتلاوة القرآن الكريم، وتعليم العلم الشرعي، وإحياء رسالة المسجد.
10- تخريج دفعات مؤهلة للتدريس والتربية على ضوء القرآن الكريم، وتولي إمامة المصلين في المساجد.
11- تقويم ألسنة الطلاب والعمل على إجادة النطق السليم للغة العربية وإثرائهم بجملة وافرة من مفرداتها وأساليبها.
كيف نحقق هذه الأهداف التربوية؟
لكي نصل إلى الثمرة المرجوة، ونستطيع أن نحقق أهدافنا التربوية في الحلقات، لا بد أن تتكاتف وتتظافر أربعة أطراف يسند بعضها بعضاً، ويأخذ بعضها برقاب بعض:
(إدارة الحلقة، والمعلم ، والطالب ، ووالده) أربعة أطراف لها بصماتها المؤثرة في إنجاح الدور التربوي للحلقة القرآنية،
فلا بد أن تسعى إدارة الحلقة أولاً إلى اختيار المعلم الناجح الذي يجمع بين الكم العلمي والحس التربوي، وأن يكون الإشراف على الحلقة متكاملاً في كل النواحي، من الناحية الفنية والشكلية، وأيضاً من الناحية التربوية والعلمية التي كثيراً ما تتجاهلها إدارة الحلقة ، وأن تسعى الإدارة مع المعلم في إقامة مدارسة فكرية ونفسية(115/667)
تربوية للطفل والمراهق لمعرفة المدخل التربوي لكل مرحلة عمرية، ولكل نوع من الأمزجة حتى تؤتي التربية مفعولها.
وفي علاقة الإدارة مع المعلم ينبغي أن يراعى جانب التربية والكيف بالإضافة إلى الكم، وأيضاً يكون الذي يتابع المعلم أعلى رتبة علمية وتربوية من المعلم، فيكون قد عمل معلماً مدة زمنية طويلة بحيث يعرف معاناة المعلمين واحتياجاتهم.
ويأتي بعد ذلك دور المعلم التربوي المباشر في علاقته مع الطالب (الطرف الثالث) بأن يسعى إلى غرس القيم القرآنية، والعمل على تربيته تربية صادقة، يشعر فيها الطالب بأن المعلم أخ كبير له يتابع أحواله برفق ولين، ويسعى لمصلحته في كل حين.
وللمعلم المربي الناجح مقومات يلزم توفرها فيه من أجل إتمام بناء دور تربوي متماسك سنأتي على بعضها بالإيضاح.
ويأتي في الأخير دور الطرف الرابع في إتمام المسيرة التربوية، وهو (أب الطالب) حيث يسعى الأب إتمام علاقته مع جميع من سبق بدءاً من ابنه الذي استودعه في هذه الحلقة، وأيضاً مع معلمه وإدارته.
فيراقب الأب تطور ابنه التربوي، ويسعى إلى تعزيز القيم والأخلاق الفاضلة التي تلقاها في الحلقة، حتى تتكامل الثمرة وتنضج.
وينبغي أن تسعى الإدارة والمعلم إلى التواصل المستمر مع ولي أمر الطالب لمناقشة حال الطالب واطلاع الأب على المستوى الذي وصل إليه.
حين تتكامل هذه الأطراف ، ويؤدي كل طرف دوره المناط به فإنه أدعى لإنضاج الثمرة .
المقومات التربوية لمعلم الحلقة:
المقومات الشخصية لمعلم الحلقة كثيرة لكن في هذا الصدد سوف نركز على المقومات التربوية لمعلم الحلقة القرآنية وهي كثيرة ، لذا سنأتي على أهمها وألصقها بالحلقات القرآنية .
فمن المقومات التربوية:
1- أن يحترم المعلم شخصية الطالب: فالمعلم الحريص على بناء شخصية قرآنية متكاملة متوازنة حفظاً وعملاً ينبغي أن يراعي جهود الطالب الكبيرة التي قدمها في الحفظ والمراجعة؛ لأن المحبة والاحترام شرط من شروط الإفادة من المربي، ومتى فُقد هذا الشرط فلا تربية ولا مربي.
2- الاتزان العاطفي: فالاعتدال والاتزان هو الذي يضفي على الجهود التربوية دفعة قوية إلى التأثير، فالنفس المحبة السمحة غير الحاقدة المتشائمة، والنفس المطمئنة الراضية، والوجه المشرق والثغر الباسم له أثر في النفوس غير الوجه البائس العابس الكئيب.
3- التدرج في الثواب والعقاب: فلا تفرط في العقوبة؛ لأن النفس تنفر من ذلك بل وتصر على الخطأ، وفي نفس الوقت فإن تجاهل الخطأ مخالف لأمر الله، وحين يفرط المربي في العقوبة ينقلب الأمر إلى تأثير مضاد، فيندفع المتربي شعوره بأنه المظلوم(115/668)
إلى الإصرار على الخطأ وتبريره وينشغل بالعقوبة التي وجهت له عن الاعتناء بإصلاح الخطأ، وكثيراً ما يصر عليه ويكره الحق وأهله.
4- مراعاة أحوال النفوس المختلفة: فعلى المعلم أن يعرف مفتاح شخصية تلاميذه ليقدر على التأثير الإيجابي، فالنفس البشرية لها مسالك متشعبة ودروب وعرة، تحتاج من المعلم الواعي أن يفهم طلابه حق الفهم حتى يمكن له أن يغرس التربية والإيمان وحب القرآن وحب العلم، وأن يحرص على مراعاة النفوس المختلفة، ويعرف مداخلها ومخارجها.
5- إيجاد الدوافع ثم استخدام وسائل الحفز والتنشيط الملازمة: فالمعلم يحتاج إلى إيجاد الإقبال من المتعلم على القرآن والإسلام، ثم ينشط ويزيد من الدافعية بحوافز تزيد من حماسة للحفظ والمراجعة في دوائرها الأربع المادية والنفسية والعقلية والغيبية، فالمادي مثل الهدايا، والنفسي مثل الثناء، والعقلي مثل تحفيزه ومقارنته مع زملائه أو التحدي والمحاجة، والغيبي بتحفيزه بالأجر الأخروي لمن يحفظ ويتلو ويعمل بالقرآن.
والمقومات التربوية لمعلم الحلقة كثيرة جداً اقتصرنا على ما سبق لأهميتها وفاعليتها في إنجاح الدور التربوية داخل الحلقات القرآنية، ومن المقومات التربوية بصورة عامة: الورع، الرفق، العدل بين المتعلمين، الصبر على التعليم، والتواضع للمتعلم، وتقدير المحسن وإعانة المخطئ على تجاوز الخطأ.
وحول أثر هذه المقومات التربوية على الطالب وعلى الحلقة، يقول الأستاذ أمين صبحي جلبي (المحاضر بمعهد الإمام الشاطبي، والمدرس بجمعية تحفيظ القرآن الكريم بجدة): المربي الذي امتلك هذه المقومات التأهيلية ليكون معلماً مربياً هو الذي يقوم بعملية التفاعل التربوي على أتم وجه، وهو الذي سوف يساهم في نشر دعوة الله _عز وجل_ وبناء جيل قرآني قوي.
الأساليب والبرامج التربوية في الحلقات القرآنية:
حينما يعلم ويدرك المعلم ما هي الأهداف والغايات التربوية من هذه الحلقات، وحين يأتي لدينا معلم قد استكمل مقوماته التربوية، يأتي هنا دور الأسلوب والبرنامج التربوي العملي الذي من خلاله نستطيع الدخول إلى أغوار نفس الطالب والتأثير فيها.
فمن الأساليب التربوية التي تساعد على غرس الصفات الحسنة ونزع الصفات السيئة لدى الطالب، وتساهم أيضاً في تخريج جيل قرآني قوي ما يلي:
1- التربية قدوة: نعم التربية قدوة قبل أن تكون توجيهاً، وعمل قبل أن تكون قولاً، والمربي ينبغي عليه أن يربي الناس بفعله قبل قوله، فحين يجاوز حدود ا لشرع كيف سيربي غيره على الورع والتقوى ورعاية حدود الله، والمتربي يرى المخالفة الشرعية ممن يربيه ويقتدي به؟ بل إنه بذلك قد يخرج جيلاً يتهاون بحرمات الله ويتجاوز حدوده ويقصر في أوامره في سائر ميادين الحياة.
2- الخوف والرجاء: من غرس للخوف من الله _تعالى_ لأنه شديد العقاب على العاصين لأمره التاركين لفرائضه، فقد توعد العصاة بالنار المحرقة يوم القيامة، وفي(115/669)
المقابل وعده للمؤمنين الطائعين المؤدين لحقوق الله بالجنة الواسعة التي فيها الأنهار والأشجار... إلى غيره مما يساعد في بناء الخوف والرجاء منه _سبحانه_.
3- القصص الهادفة، فالقصة لها تأثير على النفس، فعلى المعلمين أن يكثروا من القصص النافعة لطلابهم فهو خير عون لهم على تربية الأجيال، والقرآن والسنة يحملان في طياتهما عدداً من القصص العظيمة.
4- المحافظة على صلاة الجماعة في المسجد: وذلك لربط الطالب بالمسجد وتعويده على ارتياده ليعتاد عليه كبيراً، ويسهل عليه الذهاب إليه، وهذا مما ينمي السمات الإيمانية لدى طالب الحلقة القرآنية.
5- ترغيب الطلاب في حفظ القرآن الكريم: فينبغي حث الطلاب على الحفظ، وتدعيم ذلك بالآيات والأحاديث التي فيها ذكر فضائل تلاوة القرآن وحفظه، وذكر الأجر المترتب عليه، وإيراد هدي السلف في الحفظ والتلاوة مما يشحذ الهمم ويقوي العزائم.
6- احتواء الطالب داخل الحلقة، وإشعاره بأهميته وقيمته داخل الحلقة يساعد على تغليب جانب الحلقة في حياته ومعيشته مما يجعله يقدم الحلقة على كثير من مشاغله والصوارف التي تصرفه، فلا يستطيع رفقاء الشارع التأثير عليه وانتزاعه من حضن الحلقة؛ لأنها حصن قوي يحمي كل من ينادي إليه.
7- المكافأة لمن أخطأ: فلماذا فقط المكافأة للطالب المثالي؟ أوليس الهدي النبوي أحياناً مكافأة المخطئ إغراء وإكراماً وتألفاً لقلبه؟ لماذا لا نسلكه؟ فلنجرب وسنرى عجباً.
8- الحنان الفياض: لماذا لا تمتد أيدينا لتربت على كتف طالب في حب، بدلاً من أن تمتد للضرب والمعاقبة.
9- الدعاء المبارك: لدعوة مباركة صادقة من معلم قد تكفيك كثيراً مما تعاني وتجلب لك أكثر مما ترجو.
10- النصح والتوجيه غير المباشر: وهذا له فوائد عديدة تؤثر في نفس الطالب من أنه سوف يزداد حبه للمعلم، حيث يشعر أنه يعلم أخطاءه، وأيضاً شعور الطالب بحفظ كرامته وشخصيته عند مدرسه وزملائه، كما يساعد ذلك إلى تصحيح أخطاء مشابهة للخطأ الذي وقع فيه الطالب لدى طلبة آخرين دون علم المدرس، ومن صور النصح والتوجيه غير المباشر: القصة، التعريض، تكليف من وقع منه الخطأ بكتابة موضوع مختصر عن حكم ذلك... وغيرها من الصور.
وهناك مع الأساليب التربوية داخل الحلقة برامج تربوية مساندة للدور التربوي الذي تقدمه الحلقة وهي كثيرة جداً، ولها أشكال وأنواع متعددة ( والباب فيها مفتوح على مصراعيه للإبداع والتجديد والابتكار وفق الضوابط الشرعية والتربوية )، وهذه مجموعة من البرامج التربوية المقترحة :
- البرامج التعبدية: ومنها تشجيع الطلاب على المحافظة على أداء الصلاة المفروضة في المسجد مع الجماعة، والقيام ببعض نوافل العبادات ،وتربيتهم على ذلك بهدف تدريبهم على المحافظة عليها.
- البرامج الثقافية: ومن صورها: المسابقات القرآنية التي تطرح بين الطلاب سواء في الحفظ أو في علوم القرآن، وكذلك المسابقات والأسئلة الثقافية، وكذلك إلقاء(115/670)
كلمات موجزة ومتنوعة على بعضهم البعض تحت إشراف معلمهم أو مشرف النشاط عليهم، وأيضاً الكتابة في بعض الموضوعات المتعلقة بالقرآن وعلومه أو أبواب العلم أو الأخلاق والأدب ونحوه، وكذلك تكليفهم بتلخيص بعض الكتب النافعة، وكذلك اصطحاب نخبة من الطلاب الجادين لحضور المحاضرات العامة والدروس لتعويدهم على جو طلب العلم، واحترام العلماء.
- البرامج الاجتماعية: وهي من أهم البرامج التي يمكن أن تقوم بها الحلقة من أجل نزع الرتابة والملل من نفوس الطلاب والترويح عنهم وإدخال السرور على نفوسهم، وتوثيق أواصر الأخوة بين بعضهم البعض ومع معلمهم.
فمن البرامج الاجتماعية المعروفة القيام برحلة (نصف يوم) بين فينة وأخرى يكون فيها بعض الفوائد والبرامج التربوية النافعة، وكذلك زيارة الأماكن التاريخية والجغرافية المختلفة، وأيضاً زيارة بعض الحلقات المميزة بالتنسيق مع الجهة المشرفة عليها والتعرف على طلابها، كذلك الزيارة الميدانية لأحد العلماء وتكون خاصة بالمتميزين في دروسهم وحلقاتهم.
ولن نطيل في تعديد البرامج التربوية؛ لأن ذلك راجع بالدور الأول إلى طبيعة الحلقة وطبيعة الطلاب ، والحرص على التجديد المواكب لتطور العصر السريع في تقديم مثل هذه البرامج التربوية .
ولطرح بعض الأسس العامة لموضوع البرامج التربوية يتحدث الأستاذ مصطفى بن خليل ( المدرس بجمعية تحفيظ القرآن الكريم بالطائف ) عن أهمية البرامج التربوية، فيقول : البرامج التربوية المتنوعة والمناسبة لمجتمع الحلقات القرآنية لها مردود إيجابي على نفوس الطلاب ، يتمثل في إقبالهم على الحلقات والاهتمام بالحفظ والمراجعة والانضباط داخل الحلقة وخارجها ؛ لأن البرامج والأنشطة التربوية تعالج قضية الرتابة والملل الذي قد يتسرب إلى نفوس الطلاب ، وتدخل السرور على نفوسهم ، وتحقق التوازن بين متطلبات الحلقة ومتطلبات النفس وحقوقها .
ويضيف الأستاذ مصطفى : إننا يمكن أن نلخص أهم أهداف البرامج التربوية في أنها تسهم في تبصير المستفيدين من البرامج بمفاهيم الدين وتعاليمه ، وتساعد على التعاون مع أولياء أمور الطلاب في استصلاح المنزل وتكوين بيئة إسلامية ، كما أنها تعطي الحلقة مكانة جيدة في مجتمعها ، وأيضاً تروح عن الطلاب وتدخل السرور عليهم وتساعد في تجديد نشاطهم ، وهي تعمل على إكساب الطالب بعض المهارات العلمية والاجتماعية والثقافية .
ويضع الأستاذ مصطفى ضوابط للأنشطة والبرامج التربوية، فيقول : ينبغي أن تكون البرامج مباحة من الناحية الشرعية ، وأن تكون مناسبة لقدرات واستعدادات الدارسين ، ويجب أن تسهم في تنمية الجوانب الروحية والعقلية والاجتماعية والعاطفية والثقافية لدى الدارسين ، ويحسن لأن توظف هذه البرامج لخدمة كتاب الله ، وأن تكون هذه البرامج شاملة للأنشطة التعبدية والثقافية والعلمية والاجتماعية والرياضية .
خاتمة .. الدور التربوي يفيض:(115/671)
لا يعني مما سبق أن يقتصر الدور التربوي فقط داخل الحلقة وفي نطاقها زمنياً ومكانياً، بل الذي تمليه الأهداف والوسائل التربوية هو تهيئة الجو ليفيض الدور التربوي للحلقات إلى خارجها، ويحمله طلابها.
فأهالي الطلاب، وجماعة المسجد، يترقبون هذا العطاء الذي ستقدمه لهم هذه الحلقات القرآنية، ويستعجلون الثمرة التي يريدون أن يروها بأعينهم في ذويهم.
فهناك أنشطة يحسن أن يقوم بها طلاب الحلقة خدمة لأهالي الطلاب، ويكون دور المعلم توجيه الطالب وإفادته حول هذا العمل ليتقنه ويقوم به على بصيرة، فمن ذلك:
1- تلقين سورة الفاتحة وبعض سور القرآن لمن لا يجيد ذلك.
2- تعليم الكيفية الشرعية للوضوء والغسل والصلاة لمن يجهلها.
3- دعوة أفراد الأسرة لحضور بعض أنشطة الحلقة التي تقيمها كالدروس والمحاضرات العامة، وحفلات التكريم.
4- توجيه الطالب ليكون قدوة حسنة لإخوانه وذويه في بر الوالدين وصلة الرحم والالتزام بالسلوك الإسلامي الحميد في سائر تصرفاته.
إنها إشارات وتدريبات تمهد لدوره التربوي القادم -بإذن الله- في المجتمع .
ـــــــــــــــــــ
المُعلم أمة في واحد
مشرف النافذة
18/7/1424
ارسل تعليقك ...
لا توجد تعليقات ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد :-
فللمعلم دور ملحوظ في التأثير على الفرد أو المجتمع ، مما جعل الانتماء لهذه المهنة شرف كبير لحاملها .
ومن خلال المحورين التاليين نسلط الضوء على بعض هذه الآثار :
المحور الأول : معالم في الطريق .
المحور الثاني : معوقات في الطريق .
ومن خلال عرضنا لهذه الآثار نتطرق لبعض الأساليب التربوية، والتي تعمق بدورها هذه الآثار لدى الطالب أو المجتمع .
المحور الأول : معالم في الطريق
للمعلم – الناجح - تأثير عجيب على الطلاب لا يستطيع أن يتجاهله أحد ، حتى إن المعلم أو الوالدين أو الزملاء لهذا الطالب يلحظون عليه تقليداً في تصرفات معلمه أو برنامج حياته، والتي نتجت عن إعجابه بمعلمه ، ومن خلال هذا الجانب يأتي دور المعلم في التأثير الإيجابي والتغيير في حياة طلابه .(115/672)
للمعلم دور ملحوظ في التأثير على الفرد أو المجتمع ، مما جعل الانتماء لهذه المهنة شرف كبير لحاملها .
ومن خلال المحورين التاليين :- معالم في الطريق ، معوقات في الطريق . نسلط الضوء على بعض هذه الآثار ،
ومن خلال عرضنا لهذه الآثار نتطرق لبعض الأساليب التربوية، والتي تعمق بدورها هذه الآثار لدى الطالب أو المجتمع .
ولتعميق هذا الأثر لدى الطالب لابد لنا من تفعيل قضية التوجيه ، ودعني- أخي الكريم - أبين لك بعض المعالم المتعلقة بالتوجيه :
المعلم الأول : المنهج المدرسي :
إن توظيف المنهج المدرسي بالشكل الصحيح له أيضاً تأثير قوي على الطالب ، فوظيفة المدرس الرسمية وعمله الأساس الذي يتقاضى عليه أجراً هو تدريس المنهج المقرر للطلاب، ومن عوامل قبول الطلاب لمدرسهم ومحبتهم له مدى نجاحه في إيصال المعلومات لهم .
إن الإعداد العلمي جانب مهم في بناء شخصية الطالب، والأمة تحتاج لمن يحمل العلم الواسع والفكر الأصيل، والمنهج الدراسي إنما وضع لتحقيق أهداف محددة ، فعناية المدرس بهذا الجانب مساهمة في البناء العلمي للأمة من خلال إعداد أبنائها .
بل إن المعلم الناجح يستطيع أن يوظف المنهج لتحقيق الأهداف التربوية والإصلاحية، ولكن أليس من التناقض أن يسمع الطلاب من مدرسهم التوجيه والحث على معالي الأمور ويرون منه الإخلال بواجبه وأمانته .
قال أبو الأسود الدؤلي :
ياأيها الرجل المعلم غيره ... ... هلا لنفسك كان ذا التعليم
لا تنه عن خلق وتأتي مثله ... ... عار عليك إذا فعلت عظيم
وابدأ بنفسك فانهها عن غيها ... ... فإذا انتهت عنه فأنت حكيم
فهناك تقبل إن وعظت ويقتدى ... ... بالقول منك وينفع التعليم
بل إن بعض المعلمين قد يرتكب بعض الأخطاء الكبيرة في مجال التربية منها :
1- عدم احترام شخصية الطالب : مع العلم أنه يجب علينا أن ندرك أن ذلك الطالب الذي نحتقره سيتولى يوماً ما منصباً من المناصب ، فقد ينقم من التعليم وأهله ، لذا يجب على المعلمين أن يأخذوا بيد أولئك الطلاب ويشحذوا هممهم وإمكاناتهم ، ويشجعونهم مادياً ومعنوياً ، كما يجب أن يعطى الطالب حريته - في حدود الأدب - في إبداء الرأي والحوار معه حواراً بناء كي يحس بكيانه كإنسان ثم بشخصيته كطالب له حقوقه المحفوظة له .
2- عدم فهم نفسيات وظروف الطالب : وفي هذا الخطأ يشترك المعلم والمرشد الطلابي ، مع العلم أن الأخير هو الأقرب إلى نفسيات الطلاب وفهم ظروفهم الحياتية .
3- عدم استخدام مبدأ الثواب والعقاب بين التلاميذ : فقد يتساوى لدى بعض المعلمين الطالب المهمل والمجد ، فيصاب الطالب النشيط المجد بالإحباط وخيبة الأمل ويتمادى المهمل في كسله وإهماله ، وللثواب صور منها :(115/673)
أ- المكافآت المادية : وهي من أقوى المكافآت تأثيراً على الطلاب وإثارة له .
ب- المكافأة بالثناء الحسن ( المدح ) : كأن تقول للطالب: أحسنت ، ممتاز، وهذا الثناء يزرع في المتعلم الثقة بعلمه ، ويحث غيره لنيل هذا الاستحسان من المعلم ، ويبعث في الطالب الشعور بالارتياح لما يبذله من جهد في التعليم، ولنا في سيرة المصطفى _صلى الله عليه وسلم_ أحسن الأمثلة : فعن أبي موسى الأشعري _رضي الله عنه_ قال : "قدمت على رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ وهو بالبطحاء، فقال : أحججت ؟ قلت : نعم ؟ قال : بما أهللت؟ قلت : لبيك بإهلالٍ كإهلال النبي _صلى الله عليه وسلم_ قال : أحسنت ..." الحديث . رواه البخاري .
ت- المكافأة بالدعاء : وهو الدعاء للطالب بالبركة والخير والتوفيق ونحوه ، وهذا الأسلوب نادر بين المعلمين . عن ابن عباس _رضي الله عنهما_ أن النبي _صلى الله عليه وسلم_ دخل الخلاء فوضعت له وضوءاُ . قال : من وضع هذا ؟ فأخبر ، فقال : "اللهم فقه في الدين". قال ابن حجر : قال التيمي : فيه استحباب المكافأة بالدعاء .
وللعقاب صور أيضاً منها :
أ- العقاب الحسي : وهو الضرب ، والمقصود هنا: أن المعلم يستخدم هذه الطريقة بلا إفراط أو تفريط ، وهذه الطريقة كانت عند السلف، بل عند قدوتهم محمد _صلى الله عليه وسلم_ ، وبأمره والمقصود بها: التأديب ، مع وجوب العمل وفق الجوانب الشرعية.
ب- العقاب المعنوي :
1- كالنصح والإرشاد؛ لأن البعض تؤثر فيه الكلمة الطيبة والنصيحة.
2- التعبيس ، والمقصود به: التعبير عن الاستياء وعدم الرضا .
3- الزجر .
4- الإعراض ، إعراض المعلم عن الطلاب أو طالب معين حتى يرجع عن خطئه .
5- التوبيخ .
6- تكليف الطالب بواجبات منزلية .
ويجب الانتباه لأمر مهم وهو القدرة على تكييف هذه الصور - سواء بالثواب أو العقاب - بالطريقة الصحيحة، فلا تبالغ في الثواب حتى يصبح الأمر عادياً لدى الطلاب أو تسرف في العقاب حتى لايصبح ذو تأثير إيجابي ، أو تستخدم طريقة من الطرق مع أنه كان من الأفضل استخدام طريقة أخرى ، فجميل أن تستخدم التدرج في الثواب أو العقاب ، وجميل أن تستخدم العقاب للتأديب لا لإطفاء نار الغضب، وجميل أن يكون الضرب هو آخر الصور التي تستخدمها في العقاب، والمهم أن تعدل بين الطلاب في جميع هذه المسائل المذكورة .
4- عدم مراعاة الفروق الفردية بين الطلاب : فالطلاب مختلفون في قدراتهم وإمكانياتهم العقلية والاستيعابية ، لذا ينبغي للمعلم أن يقدم من التعليم مايناسب مستوى كل فهم ، فلا يخاطب القاصر ذهنياً بما يخاطب به الذكي النبيه .
5- عدم اشراك الطلاب بالدرس : بمعنى أن بعض المعلمين يستأثر بالحديث لوحده ولا يدع فرصة للطالب أن يبدي رأيه أو يشارك في طرح بعض المعلومات المختزنة(115/674)
عنده عن موضوع الدرس، وهذا خطأ تربوي كبير ، بصرف النظر عما يسببه من ملل وسأم لدى الطلاب .
المعلم الثاني : لا تحتقر الكلمة :
يتصور بعض المدرسين أن نتاجه إنما هو منحصر من خلال الطلبة الذين يتعامل معهم خارج الفصل الدراسي، سواء عن طريق الأنشطة الدراسية أو غيرها ، وهذا مجال له أهميته ، لكنه ليس المجال الوحيد ، فالكلمة التي يقولها المعلم في الفصل لا تذهب سدى ، فالمدرس قادر على توجيه أفكار الطلبة ، وتصوراتهم ، واهتماماتهم ، ولكلماته وتوجيهاته العامة مدى قد لايدركه ولا يتصوره .
فلا تحتقر الكلمة أو تستهين بها ، فكثير هم أولئك الذين كان لكلمة واحدة أثرها في توبتهم ورجوعهم إلى الله أو توجههم للعلم وعنايتهم به ، أو ضبط مسارهم . إن هناك كلمات تبقى بذرة خفية ، تؤتي ثمارها في الوقت الذي يشاء الله ، فقد يسمع شاب معرض كلمة ناصحة من معلمه فتقع موقعاً من قلبه ، ويقصر مداها عن أن تؤثر في سلوكه ، ولكن هذه البذرة لا تزال معلقة في القلب حتى ييسر الله لها الغيث فتؤتي ثمارها – بإذن الله - ولو بعد حين .
المعلم الثالث : تنويع أساليب الخطاب والموعظة :
إن تنويع أساليب التربية والتذكير بالحديث عن البرزخ والقيامة تارة ، وعن نتائج المعصية في الدنيا تارة وعن آثارها الاجتماعية تارة أخرى وهكذا ، هذا التنويع خير وأجدى من الجمود على أسلوب واحد، بل يشمل التنويع التنويع في طرق إيصالها للطالب أو المتعلم، فمثلاً :
أ- التعليم عن طريق استخدام أسلوب المحاورة والإقناع العقلي، ولتوضيح هذه الصورة نذكر هذا الحديث فعن ابن عباس _رضي الله عنهما_ "أن امرأة جاءت إلى النبي _صلى الله عليه وسلم_ فقالت: إن أمي نذرت أن تحج فماتت قبل أن تحج ، أفأحج عنها ؟ قال : نعم ، حجي عنها ، أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته ؟ قالت : نعم . قال : فاقضوا الذي له : فإن الله أحق بالقضاء" . رواه البخاري .
ومنها مارواه البخاري عن أبي هريرة – رضي الله عنه – "أن رجلاً أتى النبي _صلى الله عليه وسلم_ فقال : يا رسول الله ولد لي غلام أسود ، فقال : هل لك من إبل ؟ قال : نعم . قال: ما ألوانها ؟ قال : حمر . قال : هل فيها من أورق؟ قال : نعم . قال : فأنى ذلك ؟ قال: نزعه عرق ، قال : فلعل ابنك هذا نزعه" .
فهذا الأعرابي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم\ مستفتياً ومستنكراً أن يأتيه ولد أسود على خلاف لونه ولون أمه ، فكان التبيان من النبي _صلى الله عليه وسلم_ بالأسلوب العقلي الميسر، وضرب له المثل ليقرب له الصورة، وليكون أقرب إلى فهمه ، وتطمئن نفسه.
ب- التعليم عن طريق القصص : وكم نرى هذه الطريقة في كتاب الله من مرة
وفي سنة المصطفى _صلى الله عليه وسلم_ مرات ومرات، ومن مميزات هذه الطريقة محبة الناس لها ، ولما فيها من العبر والنوادر ، وأكثر الطرق التي تعلق بالذهن ولا تكاد تنسى .
ت- ضرب الأمثال : وهذه من الطرق التي توضح ما يستشكل على الطلاب فهمه،(115/675)
وهذه الطريقة استخدمت بكثرة في كتابة الله؛ كتمثيل المؤمن بالشجرة الطيبة في سورة إبراهيم ، يقول الشوكاني : وفي ضرب الأمثال زيادة تذكير وتفهيم وتصوير للمعاني ، وكم ضرب النبي _صلى الله عليه وسلم_ الأمثال للتوضيح ولإبلاغ المعنى، فمنها: مارواه أبو هريرة _رضي الله عنه_ عن النبي _صلى الله عليه وسلم_ أنه قال : " إن مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتاً فأحسنه وأجمله ، إلا موضع لبنة من زاوية ، فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له، ويقولون : هلا وضعت هذه اللبنة ؟ قال : فأنا اللبنة ، وأنا خاتم النبيين". قال ابن حجر : وفي الحديث ضرب الأمثال للتقريب للأفهام، وفضل النبي _صلى الله عليه وسلم_ على سائر النبيين ، وأن الله ختم به المرسلين ، وأكمل به شرائع الدين .
ث- استخدام الرسومات للتوضيح والبيان : وهذه الصورة ما تعرف الآن باسم وسائل الإيضاح ، وهي طريقة شرعية كان النبي _صلى الله عليه وسلم_ يستخدمها للصحابة _رضي الله عنهم_ وهي مما يزيد الشرح قوة وسرعة في الوصول إلى الأفهام ، مع الحرص على استخدامها في مكانها الصحيح .
الخلاصة : أن الوسائل تختلف وتتعدد , ومع تنوع الدعوة وأساليبها لا يتمكن
من تطبيقها إلا أصحاب الموهبة - سواء كانت متأصلة في المعلم أو مكتسبة - .
المعلم الرابع : التربية من خلال الأحداث :
حينما نقرأ القرآن الكريم نجد أن بعد حادثة الإفك وفي التعليق عليها ربى المؤمنين على منهج التثبت ، وحماية الأعراض ، وحسن الظن بالمؤمنين .
وبعد غزوة أحد نقرأ في سورة آل عمران التعقيب على هذه الغزوة ودروسها، فنرى في ذلك بيان سنن الله في النصر والهزيمة والموقف من المنافقين ، وظن السوء والتطلع إلى الدنيا .... وغير ذلك من المعاني ، وأما السنة النبوية فهي مليئة بذلك وغنية عن التمثيل .
ألا تفهم أخي المعلم من ذلك أن التربية من خلال الأحداث سنة شرعية ؟
فحين يحصل زلزال أو كارثة نقول لطلابنا : إن هذا من سنن الله في عقوبة أهل المعاصي، وإن سرنا في طريقهم تحق علينا نفس السنة ، وحين يصلي الناس الاستسقاء يحسن أن نقول لأبنائنا ولو بإشارة عابرة : إن هذا القحط من شؤم المعصية ، وحين تحصل مجاعة أو مصيبة للمسلمين نحدثهم عن الولاء بين المؤمنين ونصرتهم ، وهكذا ينبغي أن نستغل الأحداث القريبة والبعيدة لتقرير المعاني الشرعية والحقائق التربوية .
تقول الدكتورة رقية بنت محمد المحارب : " وهنا شيء مهم له علاقته بقضية التربية بالحدث، وهو أن ندرك أن معظم الناس يمتلكون عاطفة طيبة وحباً للدين ، ولكنهما غابا بفعل المعصية والغفلة وقلة الداعي إلى الله على بصيرة وطول الإلف للواقع ، ولكن تأتي أوقات أزمان من مرض أو قلق أو حيرة تنفتح للخير فيها القلوب وتقبل النفوس أثناءها الموعظة ... إلخ ) .
المعلم الخامس : النصيحة الخاصة
من المعلمين من يمارس التوجيه العام لطلبته بصورة أو أخرى، ولكن حين يدرك خطأ فردياً على طالب من الطلاب ، فهل جرب أن يحدثه بصورة فردية ؟(115/676)
كم هم الطلاب الذين يتغير مسارهم – خاصة في مرحلة المراهقة – فماذا لو كان هذا الطالب يتلقى كلمة شخصية خاصة من أكثر من مدرس وآخر ؟
أي شعور يختلج في نفس هذا الطالب الذي يتمتع بعاطفة جياشة حين يأخذه أستاذه بحديث شخصي ، يلمس من خلاله الشفقة والنصح ؟
ألن يدرك أنه أستاذ صادق يحب له الخير والصلاح ؟
وهب أنه أخذ الأمر باللامبالاة، فهل سينسى هذا الموقف أم أنه سيستجيش في نفسه بين آونة وأخرى ؟
إن الحديث العام قد يطمره النسيان ، ويعفو أثره على مر السنين ، أما الحديث الخاص فسيبقى صورة منقوشة في الذاكرة تستعصي على النسيان .
المعلم السادس : التربية على الاستماع للآخرين :
إن الاستماع للآخرين صعب لابد من ترويض النفس عليه ، وله أثرها ولو بعد حين ، فحري بالمعلم أو المربي أن يدرب طلابه على حسن الإنصات والاستماع للآخرين، ولنا في المصطفى _صلى الله عليه وسلم_ قدوة حسنة ، ولكن كيف تجعل من طالبك منصتاً متفاعلاً ؟
هناك كثير من السبل والطرق ، نذكر بعضها على سبيل التمثيل والتبيين :
أ- عوده على فهم شخصية المتكلم ، مع العلم أنه ليس مطلوباً منه موافقته بكل ما يقول .
ب- عوده على مجاراة المتكلم في سرعة إيقاعه ونغمة صوته .
ت- عوده على الإنصات باهتمام بالغ لما يقوله الآخر .
ث- لا تجعله يصم أذنيه عن الاستماع له نتيجة لمعتقداته السابقة عن المتحدث أو الموضوع .
ج- عوده على ألا يستبق تتمة كلام المتحدث .
ح- اجعل الطالب يعيد توضيح ما فهمه والمعنى الذي قصده المتكلم آنفاً بدون تكرار لكلماته .
إن عدم وجود هذا الفن – الاستماع والإنصات – لدى الطلاب لمن أكبر الأسباب التي تجعلهم ينفرون من الحق ولا يستمعون إليه ، ولنا في كتاب الله وسيرة نبيه _صلى الله عليه وسلم_ الأمثلة والقصص الدالة على ما ذكرنا .
المحور الثاني : معوقات في الطريق :
أخي الكريم كانت هذه بعض المعالم التربوية ولكن ... !
قد تقول: إنني أريد تطبيق كثير منها، ولكن هناك معوقات كثيرة ستواجهني .
فنقول : بلا شك إن هناك معوقات ستواجهك ، وهذا هو الأصل أن من أراد التوجيه والإرشاد لا بد أن يواجه بمعوقات ، ولكنها معوقات قد تأخر بعض الإنجازات، ولكنها لن تمنعه _بإذن الله تعالى_ .
ومن هذا الباب سنتطرق لبعض المعوقات التي قد تظهر لك :
معوقات من داخل المدرسة أو معوقات في محيط المجتمع :
وهي تلك المعوقات التي تعود إلى شخصية المدرس نفسه ، أو أسلوبه في التدريس ، أو معاملته مع الطلاب ، أومعوقات بسبب المجتمع الصغير منه أو الكبير ، فتحول(115/677)
هذه المعوقات عن بلوغ كلمة المدرس مداها المطلوب ووصولها إلى تحقيق الهدف الذي يسعى إليه، ومن أهم هذه المعوقات :
المعوق الأول : الفهم الخاطئ لقوة الشخصية :
فحين يفهم المدرس قوة الشخصية فهماً خاطئاً ، فيسيطر عليه هذا الهاجس ، فسيؤثر هذا الفهم على أدائه الدور المراد فيه والمنتظر إذ يعد بعض المدرسين قوة الشخصية المحور الأساس لنجاحه .
ومع تقديرنا لأهمية تحقق هذه الصفة لدى المدرس ، ودورها في تقبل تلامذته له ، إلا أن النظرة إليها عند الأغلب أعطتها بعداً أكثر غلواًَ ومبالغة ، مما أسهم في انعكاسات سيئة على نفسية المعلم وأدائه، ومن الانعكاسات السلبية لهذه النظرة :
1- أن هاجس خوف الفشل وضياع الشخصية أمام الطلاب يغلب بشكل كبير على الهدف الأسمى، وهو التوجيه والتربية والذي لن يأخذ مكانه الطبيعي لدى هذا المدرس .
2- رفع حالة التوتر لدى المعلم ، فيدخل الفصل بنفسية مشدودة ، تسيطر عليه مشاعر الرجاء والخوف ، فهو يتمنى أن ينتهي الدرس بسلام ويتنفس الصعداء حين يسمع قرع الجرس، أي تربية وتوجيه ، وأي إنجاز ينتظر بالله عليك ممن يدخل الفصل بهذه النفسية المشدودة ؟
المعوق الثاني : الفهم القاصر لدور المعلم :
يرى بعض المعلمين والمعلمات أن الدور المنوط به ، والواجب الأساسي الذي سيحاسب عليه هو أداء المنهج الدراسي والواجبات الرسمية .
نعم ، إن أداء الواجب الرسمي مطلب من المدرس لابد أن يحاسب نفسه تجاهه ، لكن ذلك ليس نهاية المطاف، وماذا تصنع الأمة بأجيال غاية إنجازهم إجادة القراءة والكتابة ، واستظهار وسرد معلومات حفظوها ودرسوها ؟
إنه لجزء من أمراض الأمة التي أوغلت في المظاهر على حساب المضمون أن يتصور المدرس أنه مسؤول عن إجراءات إدارية لا تقدم ولا تؤخر ، أما ما سوى ذلك من البناء العلمي ، والتربية والتوجيه فهو ضمن دائرة النوافل .
ولئن قبلنا ممن يعيش العمل الإداري البحت ، أو من بعض العامة من الناس أن يوغل في المظاهر على حساب المضمون ، فإنه لا يمكن أن يحتمل بحال من المعلم ومربي الأجيال .
المعوق الثالث : الحواجز المصطنعة :
يحيط بعض المعلمين نفسه بسياج وهمي وحاجز مصطنع ، يمنعه من التعامل والتأثير على فئة وقطاع عريض من الطلبة ، فأحياناً يتصور أن تأثيره وجهده لا يتجاوز الطلبة المشاركين معه في الجمعية المدرسية ، أو فئة خاصة من الطلبة ( أهل الاستقامة والصلاح ) ولو كان الأمر يقف عند مجرد نظرته لهان ، لكن هذه النظرة تولد سلوكاً يشكل عائقا له عن التأثير والتوجيه ، ثم يتحول الأمر إلى شعور متبادل فيشعر الطلبة أنهم معزولون عن هذا المعلم أو ذاك ، ويتحدث المعلم في فصله أمام ثلاثين طالباً وهو يشعر أنه لايخاطب إلا الفئة الجادة ، فيحرم الغالبية من توجيهه .(115/678)
هذا جانب بسيط من جوانب الحواجز المصطنعة ، ولو توسعنا في هذا المعوق الذي نجده منتشراً عند كثير من المعلمين الأخيار، وهذه الجوانب الأخرى لها أبعادها وتأثيراتها وأسبابها غير الحقيقية ، منها :
• التواضع الكاذب : فتجده يعتذر دائماً بأنه ضعيف لا يستطيع تحمل المسؤولية ، أو هو أقل مما يؤمل منه .
• الكسل : وأكثر منشأه من الترف والدعة ، والتبسط إلى الدنيا ، والعب من شهواتها وملاذها، وهو بلا شك مؤد إلى العجز ولابد .
• السآمة والملل : فكثير من المعلمين تجده يتحجج بهذه الحجة، ودائماً يردد : مللت ! ، وبعضهم يبدأ العمل ثم يقف، ويقول: أريد أن أغير نوع الدعوة، وإذا قيل له، قال : مللت . أريد عملاً دعوياً آخر ، وهذا بخلاف منهج الأنبياء والعظام الذين بذلوا جهوداً كبيرة لمدة طويلة بلا يأس ولا ملل ، وأوضح مثال على هذا نبي الله نوح _عليه الصلاة والسلام_ فكم مكث في قومه يدعوهم؟ وكم جرب من أنواع وأساليب الدعوة؟ وكم صبر وصابر؟
• التردد : وهو من الأسباب المصطنعة والموصلة للعجز ، وذلك لأن المتردد قلما يعزم على أمر ، وإذا عزم على إبرام أمر فإنه قلما يمضيه ، فيظل يراوح مكانه ، تأتيه الفرصة تلو الفرصة وهو عاجز عن اقتناصها، بل هو مشغول عن الجديدة بالتحسر على تردده في أمر القديمة ، وهكذا يظل عمره عاجزاً عن الوصول إلى معالي الأمور .
• الخوف : سواء الخوف من النجاح في العمل ، أو الخوف من الناس، وهذا السبب من قلت الثقة والتوكل على الله _سبحانه وتعالى_ .
• الغموض في الهدف : فلا يعرف ماذا يريد ، ولا ما هي أهدافه ، ولا يعرف كيف يصل إلى هذا الهدف، وهذا من الأسباب المصطنعة عند بعض المعلمين والمربين .
ولتوضيح خطر هذا المعوق أذكر لك بعض الأمور التي ستترتب عليها - إن لم تكن كلها فستكون أكثرها موجودة في من يتصف بهذه الصفات أو تنطبق عليه بعض الأسباب :
• ترك الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
• تشويش الأولويات : إذ يظل يدور عامة حياته في حلقة مفرغة من الأعمال المفضولة لا يخرج منها إلى الأعمال الفاضلة إلا قليلاً .
• كثرة الطعن في زملائه العاملين .
• ضعف العلم : لأن العلم يحتاج إلى تزكية، وتزكيته بالعمل به ومن العمل الدعوة .
• ضياع الأوقات .
• تغير الأهداف : ونزولها حتى تصل إلى مرحلة تكون أهدافه أهدافاً تافهة .
• كثرة خلف الوعد : ويستغل هذا للتهرب من العمل والعاملين .
• كبت المواهب : فالله _سبحانه وتعالى_ قد أعطى كل إنسان مواهب وقدرات ، وبتخلف هذا المعلم عن تفجير الطاقات الموجودة بداخله سيؤدي إلى كبتها .(115/679)
• ضعف الإنتاج : فعند تخلف كثير من العاملين عن مجال العمل سيترتب عليه شح في الطاقات مما يسبب في ضعف الإنتاج ، فالثغور كثيرة والحاجة ماسة والعاملون قلة، والله المستعان .
أما علاج هذا المعوق فتكون بطرق كثيرة، منها :
1- التوكل على الله _سبحانه وتعالى_ .
2-القراءة المستمرة في كتب التراجم : وهي التي تعنى بسير حياة الأشخاص الأعلام المؤثرين في مجتمعاتهم تأثيراً تجاوز حدود الزمان والمكان، فالاطلاع على هذه السير يورث المرء حماساً عظيماً محاولة منه للحاق بركب أولئك الأكابر الأعاظم.
3- الزيارة لأهل الصلاح أولي الهمم العالية : إذ المرء إن رأي قرينًا له يفوقه في عبادته أو زهده أو جهاده أو ثقافته أو دعوته فإنه يتأثر به غالباُ، وهذه طبيعة النفس الإنسانية ، لذلك كان الصحابة – رضي الله عنهم – خير جيل أخرج للناس قاطبة، وذلك لأنهم صاحبوا خير رسول أرسل للبشر _صلى الله عليه وسلم_ .
4- العزيمة والإصرار على مجاوزة العجز وهذه الحواجز : وذلك لأن المعلم إن لم يكن عنده عزيمة وإصرار على مجاوزة عجزه فإنه يراوح مكانه ولايتقدم أبداً ، ومن كان يملك عزيمة وإصراراً على تجاوز عجزه فإنه سينجح – بإذن الله تعالى – ويجوز تلك القنطرة النفسية الصعبة .
5- وضع هدف سام يحاول الوصول إليه دائماً : فكلما سما هدف المرء ضاعف جهده للوصول إليه ، ولذلك يلحظ على أكثر العاجزين أنهم لا هدف لهم إطلاقاً أو أن أهدافهم تافهة حقيرة لا قيمة لها، ويرى أن أكثر العظماء كانت لهم أهداف عظيمة حاولوا الوصول إليها ، فأفلحوا تارة وأخفقوا أخرى ، لكن فلاحهم – إذا أفلحوا – شيء عظيم .
أيها المعلم الكريم ، إن السعي للوصول إلى الهدف السامي يضمن لك ثلاثة أمور- بإذن الله تعالى - :
الأول : الدرجات العظيمات في الآخرة .
الثاني : الثبات على المنهج الصحيح .
الثالث : حسن الذكر والثناء بعد الموت ، الجالب بدوره لدعاء الصالحين ، واستغفار المستغفرين .
المعوق الرابع : النظرة المتشائمة :
لا جدال أن واقع الشباب اليوم لا يسر مسلماً ، وأن شقة الانحراف قد اتسعت لتشمل رقعة واسعة من خارطة حياة الشباب المعاصرة .
ولكن أيعني ذلك أن الخير قد أفل نجمه ؟ وأن الشر قد استبد بالناس ؟ أليست هناك صفحات أخرى من حياة أولئك المعرضين غيره هذه الصفحات الكالحات ؟ ألم يقل النبي _صلى الله عليه وسلم_ : " إذا قال الرجل: هلك الناس فهو أهلكهم" ؟
كثير من الشباب يعود للجادة ، ويستقيم أمره فيسير في قوافل التائبين .
إن علينا ألا ننظر لجانب واحد ، ولكن لننظر لجميع الجوانب الفاسد منها والصالح حتى نستطيع أن نقيم الوضع ونقيم أنفسنا .(115/680)
المعوق الخامس : التركيز على النقد : فكثير من المعلمين يغرق الطلاب بجانب الفساد الموجود لديهم ، ويركز على قضية الأخطاء والمنكرات التي يفعلونها ، ويغفل الجانب الآخر مما يولد لديهم شعور الإحباط وعدم القدر على الخلاص، وكل ذلك بالتركيز المباشر على النقد من المعلم للطلاب .
وكان الأجدر بدلاً أن أقول : أنتم تتهاونون في المعاصي ، وتقعون في المنكرات الصغيرة والكبيرة ، ولا تخافون الله ، لو حدثتهم بدل ذلك عن شؤم المعصية ونتائجها الوخيمة دون أن أشير إليهم من قريب ولا بعيد ، أفلا يفهم العاقل أن هذا ينطبق عليه؟
وبدلاً من أن أحدثهم عن التهاون في النظر الحرام وتهافتهم عليه ، لو حدثتهم عن فوائد غض البصر ، وعن النتائج الوخيمة التي تترتب على إطلاقه أفلا يدرك المراد؟
هناك فرق بين أن أقول للطلاب: هذا الفعل خطأ وأنكر عليهم أفعالهم ، حتى لو كان الإنكار مباشراً وحتى لو كان بالاسم الصريح لو استدعى الأمر ، وبين أن يكون العادة التي ينكر بها المعلم على الطلاب هي التركيز بالنقد .
المعوق السادس : التربية الأسرية الخاطئة للطالب : وقد لا يقف الأمر عند ذلك، بل قد تجد من الآباء والأمهات من تعارض وتخطئ قول المعلم حتى ولو كان صحيحاً صواباً ، والسبب أن هذا يخالف ما عليه الأسرة من طريق الحياة .
وقد يكون الجو الأسري جواً غير مساعد على التكيف مع ما يطرحه المعلم من وسائل إصلاحية تربوية، فتجد المعلم مثلاً يتكلم عن حكم الدخان، وإذا ذهب الابن للمنزل وجد أباه مدخناً أوأخاه الكبير أو قد يجد أمه – والعياذ بالله – ممن يتعاطى هذا السم ، أو يتكلم عن حكم الغناء، فتجد البيت يهتز من ارتفاع أصوات المزامير الغنائية فيه، أو يتكلم عن الصلاة ويجد البيت كله أو بعضه لا يصلي مما يسبب معوقا للمعلم في تغيير واقع الطالب إلى الأصلح .
المعوق السابع : الصحبة السيئة : وهذه من أشد المعوقات على المعلم ، فإذا استطاع أن يخلصه من هذا الواقع الذي يعيشه سيكون الطالب بعدها أقرب من وقت سابق ، وهل أهلك أبا طالب إلا أصدقاء السوء ؟
وفي هذا يقول _عليه الصلاة والسلام_ : " المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل" .
ولإزالة هذه المعوقات أخلص أولاً النية لله ، وتوكل على الله ثانياً ، واجعل هذا المعوق الذي أعاقك هو ذات السبب الذي سيعينك على الجد والمثابرة والثبات .
-----------------------
المراجع : -
1- صحيح جامع بيان العلم وفضله للحافظ ابن عبدالبر
2- المدرس ومهارات التوجيه للشيخ محمد بن عبدالله الدويش
3- المعلم الأول _صلى الله عليه وسلم_ للمؤلف فؤاد الشلهوب
4- مع المعلمين للشيخ محمد بن ابراهيم الحمد
5- المستند التربوي الجديد للنهوض بالسلوك الحميد للأستاذ صالح بن عبدالرحمن القاضي .
6- تنمية المهارات الشخصية والدعوية للمؤلف زاهر أبو داود(115/681)
7- كيف تكون معلماً ناجحاً ؟ للأستاذ احمد بن عبدالرحمن الشميمري
8- عجز الثقات للدكتور : محمد موسى الشريف .
ـــــــــــــــــــ
حوار تربوي مع أ.د. ناصر العمر1/2
مشرف النافذة
1/6/1424
ارسل تعليقك ...
تعليقات سابقة ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
فضيلة الشيخ أ.د ناصر بن سليمان العمر(المشرف العام على موقع المسلم ) بحر لا ساحل له إن أبحرت من شاطئ العلم أبحر بك، و إن أبحرت من شاطئ التربية أبحر بك، و إن أبحرت من شاطئ الحكمة أبحر بك ، في هذا الحوار والذي امتزج خلاله علمه بخبرته وحكمته ، يحل فضيلته ضيفاً عليكم لنناقش من خلاله قضايا مهمة تهم الأسرة والمجتمع في آن واحد، بل وتهم الأمة أجمع .
فضيلة الشيخ : كنت ولا زلت ترى أن الطريق لإعداد الأمة هو البناء التربوي التراكمي المؤصل ، فهل يمكن توضيح هذا المصطلح ؟
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين .
أما بعد :
بادئ ذي بدء ، فإنني بعد شكري لله وتوفيقه ، فإنني أتقدم بشكري للإخوة القائمين على هذا الركن لما أراه من إبداع وتجديد ومتابعة لقضية من أهم قضايا الأمة ، ألا وهي القضية التربوية فجزاهم الله خيراً، وبارك الله في أعمالهم ، وثبتنا وإياهم على الحق حتى نلقاه .
هل يمكن أن تبنى الأمة بدون تربية ؟ لايوجد أمة من الأمم يتم بناؤها إلا بالتربية الجادة بالتربية المؤصلة ، فالتربية هي الأساس الذي تبنى عليه الأمم ، ولذلك فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - عندما بعث أول ما بدأ عندما بلغ ودعا للتوحيد سراً كانت الوسيلة لتبليغ رسالة ربه وللقيام بالمهمة العظمى التي بعث بها هي التربية ، فبقي ثلاث سنوات - صلى الله عليه وسلم - وهو يربي الأمة في دار الأرقم سرا ، وعندما كون جيلا صلبا وإن كان عدده قليلا ، ولكن التربية التي تلقاها كانت ضخمة ومؤصلة وقوية هنالك أعلن دعوته ، حيث وجدت الأركان والدعائم التي تبنى عليها الأمة ، وتكون منطلقاًُ للرسالة والدعوة .
بالنسبة للسؤال فإنني أقول : نعم ، إنني كنت ولا أزال أرى أن من أهم الطرق لإعداد الأمة هو البناء التربوي التراكمي المؤصل ، وعندما أطرح هذا الأصل فإنني ألفت النظر إلى أن البناء التربوي التراكمي المؤصل يندرج تحته عدة معان:
فهو أولا من البناء ، والبناء يخالف الهدم فهو عمل إيجابي .(115/682)
ثم هو عمل تربوي، أي: يتعلق بتربية الأمة رجالاً ونساءً ، كباراً وصغاراً ، شباباً وكهولاً ، بنين وبنات ، فهو بناء تربوي يدل اسمه على الفئة المستهدفة ، والبرنامج المتخذ لتحقيق هذا الغرض .
ثم هو أيضا تراكمي ، أي أنه لا يمكن أن يتم بين عشية وضحاها ، وإنما يبنى بعضه على بعض حيث إن اللاحق يستند على السابق ، والمتقدم يكون مابعده له ارتباط به .
بمعنى آخر : عندما نضع نوعا أو منهجا من هذه المناهج يجب أن لا نجعل المناهج منفصلة – أي : ينفصل بعضها عن بعض - بل ينبغي أن تكون مترابطة متماسكة ، كترابط الجسم فكل عضو في الجسم له ارتباط بالعضو الآخر كما بين النبي _صلى الله عليه وسلم_ فمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى ، فهو يدل على الترابط الوثيق بين جميع أجزاء البدن ، فكذلك البناء التربوي التراكمي هناك ترابط بين جميع أجزائه ، وهو أيضاً يتصف بالمرحلية ، ففي الوقت الذي هو مجموعة من الأجزاء في الوقت الواحد ، فكذلك لا يمكن - كما بينت في أول الجواب - أن يكون في مدة معينة واحدة ، وإنما في أوقات زمنية قد تستغرق سنوات عدة ، بل قد يستغرق البناء التربوي التراكمي أحياناً عشرات السنين ، عشر سنين ، عشرين سنة ، ثلاثين سنة .
بل إن المؤمن ما دام حياً فإنه يتلقى التربية حتى آخر لحظة من حياته .
أما كلمة المؤصل ، فإننا نقول :إنه بناء يعتمد على أصول عريقة ، يعتمد على الأصلين الشريفين على الكتاب والسنة وما استمد منهما من منهج السلف الصالح - رضوان الله عليهم- ، فهو بناء مؤصل قاعدته ضاربة في الجذور عميقة في دلالتها ومنطلقاتها لا تهزها رياح ؛ لأن هناك بناء تربوي تراكمي لكنه ليس مؤصلا ، مثلاً : كالبناء المبني على العرف أو العادة هذا يتغير بسرعة عندما ينتقل الإنسان من مجتمع إلى مجتمع ، فإنه يتأقلم مع المجتمع الجديد وينسى ما كان عليه وربي عليه في المجتمع السابق ؛ لأنه لم يربى تربية مؤصلة ، أما المسلم الذي يربى تربية تراكمية مؤصلة فإنه في أي أرض كان ، وفي أي زمن كان لا تتغير سيرته ولا منهجه ولا قناعاته ، مادام قد ربي على منهج أصيل على الكتاب والسنة وعلى منهج السلف الصالح .
فبهذا ، بهذه العناصر يكون البناء التربوي التراكمي المؤصل ، فهو بناء ، وهو بناء تربوي ، وهو بناء تربوي تراكمي ، ومع ذلك فهو بناء تربوي مؤصل قاعدته صلبة ، قاعدته لا تهزها الرياح كما بين الله - جل وعلا- في سورة إبراهيم " مثل كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها " ، وكما بين النبي - صلى الله عليه وسلم - كما في حديث ابن عمر أن النخلة أشبه بالمسلم ، النخلة فيها شبه بالمسلم ، والمسلم أيضا فيه شبه من النخلة ، فالنخلة نجد أنها تغرس غرساً قوياً ، النخلة لا تؤتي أكلها فجأة كبعض البقولات وغيرها قد تؤتي ثمرتها خلال أيام ، أما النخلة فلا .. تستغرق عدة سنوات من أجل أن تؤتي أكلها فهو تراكمي ، وهي قاعدتها عميقة ، ولذلك ضرب الله - جل وعلا – بها المثل وكذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - فلعل بمثال النخلة يتضح ما أريده عندما أقول : البناء التربوي التراكمي المؤصل .(115/683)
بناء على ما ذكرتموه – حفظكم الله – يتبادر لكثير من المربين سؤال كبير وهو : ما أهمية التربية في بناء الأمة ؟ وكيف يمكن توظيفها بصورة إيجابية في إحداث التغيير الاجتماعي ؟
بالنسبة لهذا السؤال أقول :
وليس يصح في الأذهان شيءٌ ... ... إذا احتاج النهار إلى دليل
هل هناك شك أو ريب في أهمية التربية في بناء الأمة ؟
بل السؤال يكون : هل يمكن أن تبنى الأمة بدون تربية ؟ لاتوجد أمة من الأمم يتم بناؤها إلا بالتربية الجادة بالتربية المؤصلة ، فالتربية هي الأساس الذي تبنى عليه الأمم ، ولذلك فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - عندما بعث أول ما بدأ عندما بلغ ودعا للتوحيد سراً كانت الوسيلة لتبليغ رسالة ربه وللقيام بالمهمة العظمى التي بعث بها هي التربية ، فبقي ثلاث سنوات - صلى الله عليه وسلم - وهو يربي الأمة في دار الأرقم سرا ، وعندما كون جيلا صلبا وإن كان عدده قليلا ، ولكن التربية التي تلقاها كانت ضخمة ومؤصلة وقوية هنالك أعلن دعوته ، حيث وجدت الأركان والدعائم التي تبنى عليها الأمة ، وتكون منطلقاًُ للرسالة والدعوة .
أما الشق الثاني من السؤال ، وهو : كيف يمكن توظيفها بصورة إيجابية في إحداث التغيير الاجتماعي ؟
أقول أولاً : يجب علينا أن ننظر في المجتمع ما الشيء الذي ينقصه ؟ أي : ما الشيء الذي نصبوا إلى أن يكون المجتمع عليه ؟ وما الأشياء التي نرى أنه لابد من إزالتها من هذا المجتمع ؟
فالمربون والقادة التربويون والمعنيون بشؤون التربية عندما يأتون للمجتمع عليهم أن يشخصوا حالته ضمن هذين المنطلقين . من هنا يجب أن نهتم بأمرين عند التغيير الاجتماعي الإيجابي :
الأول : أن هناك قضايا موجودة في المجتمع يريد المربي أن يزيلها أو يغيرها ؛ لأنها لا تمثل البنية التربوية الصحيحة ، وهي مخالفة للمنهج وللهدي النبوي .
الثاني : أن يكون هذا المجتمع تنقصه أشياء لا بد من إيجادها فيه فيسعى المربي من خلال التربية نفسها لإزالة ما يرى إزالة ، وإيجاد ما يرى أنه ليس موجوداً ، فتكون التربية هي الوسيلة أو من أهم الوسائل في إحداث التغيير الاجتماعي ، وبخاصة أن المرحلية هي من أهم سمات التربية ، فالتركيز على أجيال جديدة ناشئة تركيزاً قوياً لتحقيق الأمرين فيها إزالة ما نرى إزالته مما هو موجود في المجتمع من عادات أو تقاليد أو أنماط اجتماعية خاطئة ، فيربى الجيل الجديد بعيداً عن هذه الأشياء .
ثانياً : إيجاد سلوكيات وأنماط اجتماعية وفق المنهج النبوي لم تكن موجودة في هذا المجتمع ، بهذين المسارين يتحدد التغيير ويحدث التغيير الاجتماعي .
لنأخذ مثلاً يوضح هذه القضية ، فمثلاً : في بعض المناطق كان قضية كشف الوجه عادة من العادات ، وقل أن تجد امرأة وهي متحجبة ، حتى عند بعض الطيبين وبعض الأخيار يرون أن هذه من عاداتهم ومن أمورهم الاجتماعية ، لكن البعض يقول : أنا لا أقر هذا ولكن يصعب أن أغيره ، ونعم توجد بيوتات ملتزمة – والحمد(115/684)
لله - بالحجاب ، ولكنها لم تكن تشكل نسبة كبرى في ذلك المجتمع أو تلك البيئة ، المربي هنا يحاول أن يركز على إزالة هذا الشيء ، كيف ؟
يبدأ في الجيل الجديد من البنات والفتيات في تربيتهن على الحجاب من خلال قنوات تربوية كثيرة جداً ، المدرسة ، المسجد ، الدور النسائية ، الكتيبات ، الأشرطة ، الرسائل .
وفي الوقت نفسه أيضاً يعنى بالآباء والأمهات ، ما مرت سنوات قرابة - والحمد لله - عشرين سنة – نستطيع أن نقول – إلا حدث العكس فإذا ذاك المجتمع الذي قل أن تجد فيه امرأة محتجبة - وإن كانت والحمد لله تغطي رأسها وسائر بدنها - أصبح العكس تماماً حيث قل أن تجد فيه امرأة سافرة ، حتى النساء الكبيرات اللاتي مضى شطر طويل من عمرهن وهن كاشفات الوجوه أصبحن الآن يحتجبن .
إذن ، فالتركيز على الجيل الجديد خلال عشرين سنة - ودائماً ينشأ الجيل الجديد بحدود عشرين سنة تقريباً إلى ثلاثين سنة – فنشأ جيل جديد من الفتيات ، تعلمن وتربين على الحجاب ، ولم يتربين على تقاليد وعادات أهلهن ، فأثر ذلك حتى في الأمهات الكبيرات ، خاصة أنه صاحب ذلك وسائل أخرى ساعدت على تحقيق هذا الأمر ، وهذا فيه إزالة مظهر كان سلبياً وإيجاد مظهر إيجابي عملي .
أيضاً من الأنماط الاجتماعية التربوية مثلاً : قبل أربعين سنة ما كانت العمرة معروفة في المجتمع إلا في رمضان وفي الحج ، ونادراً ما نجد مثلاً إنسان يذهب في الصيف إلى أخذ العمرة ، بل كنا نجد كثيراً من العوائل تسافر للسياحة ، حتى أحياناً خارج المملكة ، بل حتى كانت العمرة في رمضان محدودة جداً لا يذهب إليها إلا بعض كبار السن .
من أجل إيجاد نمط تربوي عبادي لم يكن موجوداً بشكل كبير ، بدأ الدعاة وبدأ التربويون يربون أجيالاً جديدة لإيجاد هذا الشيء الذي لم يكن موجوداً ، فأصبحت العمرة الآن لا تؤدى في رمضان فحسب، بل تجد كثيراً من الناس يؤدونها في الصيف ، تأتي إلى مكة الآن وكأنك في رمضان ، مع أنها في الصيف وجو مكة حار ، أصبح كثير من الناس يقضي عطلته أو جزء من عطلته مع عائلته في مكة ، أما رمضان فأصبح الآن موسماً لم يكن هذا الأمر معروفاً قبل ثلاثين أو أربعين سنة أبداً. هذا نمط تربوي فهو تغيير اجتماعي، وتغيير اجتماعي ؛ لأنه لم يعد قاصراً على الشباب ، بل إن المجتمع كله تغير ، تذهب العوائل بأكملها لمدة شهر ، عشرة أيام ، عشرين يوم في مكة فهذا تغيير اجتماعي تربوي إيجابي ، فهذا إيجاد ما لم يكن موجوداً بشكل كبير .
إذن ، التربية هي الأساس إذا وظفت توظيفاً صحيحاً في تغيير الأنماط الاجتماعية .
فضيلة الشيخ : هل ترون أن ثمة جوانب مهمة للتغيير الاجتماعي غفل عنها المربون والدعاة، سواء في مجالات التغيير أو وسائله أو الفئات المستهدفة ؟
نعم ، هناك جوانب قصر فيها المربون والدعاة فيما يتعلق بالتغيير الاجتماعي ، فمثلاً في جوانب في مجالات التغيير التي أرى أن فيها تقصيراً ظاهراً هي ما يتعلق بتوحيد كلمة المجتمع وإزالة الفوارق بين فئات المجتمع المختلفة ، فهل نجح الدعاة والمربون في تضييق هوة تلك الفروق الاجتماعية التي لم تبن على أسس شرعية ؟ سواء أكانت(115/685)
بسبب الاختلاف في الفقر والغنى أو الاختلاف في النسب والانتماء أو الاختلاف في المناطق ، أي: في الانتماء لمنطقة أو السكنى في منطقة غير أخرى ، نجد فروقاً اجتماعية ، واختلافاً اجتماعياً في هذا الجانب ، وكان من المهم أن يولي المربون والدعاة هذا الجانب عناية كبرى لما له من أثر في التغيير الاجتماعي الإيجابي ، ولما له من أثر سلبي عندما يستغله الأعداء ، وهكذا فعلوا ، فها نحن نرى أن هناك فئات ينظر إليها نظرة دونية، سواء بسبب انتمائها لبلد دون آخر ، أو لانتمائها لعائلة دون أخرى ، أو نظراً لحاجتها المادية ، أو نظراً لمراتبها الوظيفية ... وهلمّ جرّا .
فكان هذا الأمر يشعر الذات ، ويظهر التقصير فيه - كما أشرت - .
ومن الوسائل المهمة التي تؤثر في المجتمع للتغيير الاجتماعي ما يتعلق بالعادات والتقاليد ، وما يتعلق أيضا بالوسائل الموصلة للتغيير كوسائل الإعلام ، فنجد أن هناك تقصيراً أيضا ظاهراً بالسيطرة أو بالتمكن من وسائل الإعلام ، فلو أخذنا مثلاً : القنوات الفضائية ، كم يملك الدعاة والمربون من قنوات فضائية ؟ كم يملكون من محطة إذاعية؟ مع سهولة إنشاء المحطات الإذاعية فهي ليست كالقنوات الفضائية ، كم يملكون من مجلة إسلامية ؟ كم يملكون من صحيفة يومية أو أسبوعية ؟ فهناك تقصير واضح فيما يتعلق بالوسائل المؤثرة في التغيير الاجتماعي ، وإعادة البنية الاجتماعية نحو الاتجاه الصحيح .
وكذلك الفئات المستهدفة ، نجد أن هناك أيضاً تقصيراً في توجيه الرسالة لبعض الفئات المستهدفة ، فمثلا : فئة الملأ وهم من يعدون في المجتمع من أصحاب السلطة ولهم مكانتهم الاجتماعية بسبب جوانب اعتباريه كالجانب المالي ، أو الوظيفي ، أو نحو ذلك ، هل نحن وجهنا عناية خاصة لهؤلاء أم أن الأعداء سبقونا إليها ؟
في داخل المجتمع نفسه أيضاً الآباء والأمهات كم نصيبهم من الرسالة التي نوجهها إليهم من أجل التغيير الاجتماعي ؟
نحن غفلنا وقصرنا في هذا الجانب ، وكان من المهم أن توجه عناية كبرى للآباء وللأمهات بشكل أكبر مما هو موجود الآن من أجل أن يكون التغيير الاجتماعي تغييراً متكاملاً ؛ لأنك لا تستطيع أن تغير فئة دون أن يكون التغيير قد شمل من حولها والقريب منها ، فلا تستطيع أن يكون التغيير في جيل الأبناء بمعزل عن التغيير في جيل الآباء ؛ لأن ذلك سيحدث عائقاً كبيراً ظاهراً ، بينما لو أن الرسالة وجهت للجميع وأعطي عناية خاصة لكان التغيير أسرع وأولى ، والله أعلم .
ألا ترون – حفظكم الله – أن الأمة تواجه هجمة كبيرة للتغيير الاجتماعي في مختلف الجوانب التربوية ، فما دور العلماء والدعاة والمربين بصفة خاصة ، والأمة بصفة عامة لمواجهة هذا التغيير ؟
نعم الأمة تواجه هجمة كبيرة للتغيير الاجتماعي في مختلف الجوانب التربوية وغيرها ، والعلماء والدعاة والمربون يتحملون مسؤولية كبرى في هذا الجانب ؛ لأنهم هم القادة ، ولهم الريادة ، ولأنهم يملكون من الأدوات والوسائل ما لا يملكه غيرهم .
ولهذا فإن دورهم يتركز في قيادتهم الأمة نحو التغيير الاجتماعي الإيجابي ، وأن يقفوا سداً منيعاً ضد أي تغيير سلبي ، فالتغيير الاجتماعي الغربي أو نحو ذلك كما هو(115/686)
سائر في المجتمع ، ويتمثل هذا بالتزامهم شخصياً في مُثُل وسلوكيات يبثونها في المجتمع ، والناس يقتدون بهم بفعلهم ، وبأفعالهم أكثر من أقوالهم ، وأيضاً أن يكونوا رسل خير وإصلاح _كما هم كذلك والحمد لله_ لتحذير الناس من خطورة التغيير الاجتماعي الذي يتسلل إلينا عبر وسائل الإعلام وغيرها ، وهو تغيير اجتماعي نحو الأسوأ ، نحو التبعية الغربية بأنماطها المختلفة ، فيأتي العلماء والدعاة والمربون ويحذروا الناس ، ويحذروا العامة والخاصة ؛ لأن الناس لا يدركون خطورة ما يفعلون .
لنأخذ مثلاً يبين هذه القضية ! المطاعم التي انتشرت في بلادنا من مطاعم غربية كهذه التي نراها الآن يصعب حصرها في كل زاوية وفي كل شارع ،( ماكدونالدز وغيرها ) من المطاعم التي جاءتنا من الغرب . كثير من الناس بل لا أجافي الحقيقة إذا قلت : إن بعض الدعاة أو بعض طلاب العلم أو بعض المربيين أو بعض المثقفين لا يدرك خطورة هذه المطاعم ، ويتصور أنها مجرد وسائل تسويقية لنوع من الطعام والأكل ، بينما في الحقيقة تحمل نمطاً اجتماعيا خطيراً ، ففيها مظاهر سلبية كثيرة جداً في الجانب المالي ، في الجانب الصحي ، في جانب التفريق بين الأجيال في تناول الطعام، فبدل أن كان الناس يجتمعون على نوع واحد من الطعام كما في الأجيال الماضية ، إذا كل واحد من أفراد العائلة يأكل وحده سواءً في ذات المأكول ، أو في الوقت هذا يتعشى في أول الليل أو في الوسط ، وهذا في آخره ، وهذا أحدث نوعاً من التغيير الاجتماعي ، بالإضافة إلى ربطهم بالحياة الاجتماعية الغربية من خلال مصطلحات ما كنا نعرفها ، وهذه تتسلل إلى القلوب وإلى الأفئدة وتحدث نوعا من التغيير الاجتماعي .
فكثير من الناس لا يدرك خطورة هذا الجانب ، المربون ، الدعاة ، العلماء مسؤوليتهم كبيرة في إيضاح خطورة هذه الأنماط الاجتماعية الغربية وتأثيرها ، ففي الوقت نفسه الذين هم قدوة في المقاطعة لبعض المنتجات الغربية ، مثلاً كالمنتجات الأمريكية عندما تدخل بيت أحد العلماء أو الدعاة وتجده قد قاطع نوعاً من الأنواع الغربية ، أنا لا أقول على سبيل الوجوب ؛ لأن هذا الأمر حكم شرعي، والقطع بتحريمه فيه نظر ، ولكن لا شك أن مقاطعة المنتجات الغربية وأخص منها الأمريكية واليهودية مطلب شرعي مؤثر في المجتمع ، ويتعلق به وسائل كثيرة تتعلق بالولاء والبراء ، نخلص من هذا إلى أن العلماء والدعاة والمربين ، قادة الإصلاح هم الذين في المقدمة لمواجهة هذا التغيير الذي يراد بالأمة ، أما السكوت ، أما الاستسلام ، أما المساهمة – أحياناً – بغير قصد بهذا التغيير نحو الأسوأ ، أي في التغيير نحو العادات الاجتماعية الغربية فهي مصيبة ، على قادة الأمة أن ينتبهوا إليها قبل فوات الأوان ؛ لأنه يصعب بعد ذلك إذا تغير المجتمع أن يعاد إلى نقطة البداية ، لا أقول يستحيل ، ولكن لا شك أنه يصعب وفيه مشقة ، بينما إذا كان التغيير في أوله فإنه بالإمكان أن يعالج وتعالج المشكلات قبل استفحالها ، والله أعلم .
ما قول فضيلتكم في العوائق التي يمكن أن تضعف الدور التربوي في التغيير الاجتماعي ؟ وكيف يمكن التغلب عليها ؟(115/687)
العوائق التي يمكن أن تضعف الدور التربوي في التغيير الاجتماعي كثيرة جداً ، ويصعب حصرها في هذه العجالة ، ولكن نشير إلى بعضها على سبيل الإشارة .
سبق أن أشرت إلى أن البناء التربوي بناء تراكمي ، قد يحتاج إلى وقت طويل من أجل أن يحقق أهدافه ، إذا أضفنا إلى ذلك أيضاً الجانب التربوي يحتاج إلى وقت وتدرج ومرحلية ، وكذلك التغيير الاجتماعي لا يمكن أن يتم بين عشية وضحاها ، طبيعة التغييرات الاجتماعية لا يمكن أن تكون في خلال أيام أو شهور ، وإنما تستمر سنوات حتى تكتسب الأمة عادات جديدة، وتتخلى عن عادات أخرى، سواء كانت سلبية أو إيجابية .
هذا الجانب لا يستطيعه كثير من المربين والدعاة وهو الصبر والتحمل وطول الأمل ، طول النفس وعدم الاستعجال .
إذن نجد أن الاستعجال وقصر النفس أو عدم تحمل المشقات وتبعات الطريق عائق كبير ، ولذلك نلاحظ أنه يتساقط بعض المربين بين فينة وأخرى ، نجدهم أعلاماً في المجتمع وبعد سنوات فإذا نحن لا نرى منهم أحداً ؛ لأن العملية _كما قلت_ التغيرية التربوية والاجتماعية تحتاج إلى مراحل وإلى وقت وإلى تدرج ، هذا جانب مهم .
أيضاً كذلك نجد أن موضوع التغيير الاجتماعي موضوع حساس ، فمثلاً إزالة الجوانب الطبقية ليس من السهولة أن تأتي فقط للناس وتقول: هذا الأمر الذي تقومون به لا يجوز، أو ما أنتم عليه من تقسيم طبقي لا يجوز، إنما يحتاج إلى نوع من السلوكيات ، ونوع من القدوة ، ونوع من التغيير الهادئ حتى يصل الناس إلى قناعة من أجل أن يغيروا هذا السلوك الاجتماعي الخاطئ ، وينتقلوا إلى السلوك وإلى الجوانب الاجتماعية الصحيحة . الحساسية الشديدة في هذا الموضوع هي عائق كبير ، ولذلك نجد أن نسبة التغيير فيه ضعيفة جداً كالجوانب القبلية مثلاً أو الطبقية ، ولذلك نلحظ أن نسبة التغيير فيها _كما قلت_ محدودة جداً لا تتناسب مع جهود العلماء والدعاة والمربين والمصلحين في المجتمع ، نجد أن هؤلاء المصلحين قد حققوا قفزات كبيرة جداً في مجالات دعوية كثيرة إيجابية يحمدون ويشكرون عليها، لكنهم في المجالات الاجتماعية والتغيير الاجتماعي، نجد أن التغيير لا يتناسب مع المكانة الكبرى لهؤلاء، مشكلة هذا الجانب أن البعض قد لا يسمع له، ليس كل العلماء القادة المصلحين يستطيعون القيام بالتغيير الاجتماعي ، وهذه مسألة لحساسيتها تجعل الإنسان يدرك الصعوبة التي يتحملها من يسمع له ويقتدي بهم في تغيير أي نمط من الأنماط الاجتماعية الخاطئة، إذن أقول : هناك عوائق تحتاج إلى أن نفصلها ونضعها في مناهجنا بطريقة توجيه دون أن تثير أي حساسيات، أن نضعها في أولوياتنا في أحاديثنا في خطب الجمعة في المحاضرات في الدروس، أن نضعها في أولوياتنا في جانب الاقتداء؛ لأنه عندما يأتي أحد كبار العلماء أو كبار المصلحين والقادة ويغير ويقوم بنفسه بتغيير نمط اجتماعي دون ضجيج ، يبدأ يقتدي به الناس شيئاً فشيئاً حتى يصبح هذا الأمر الذي لم يكن يتصور الناس أنه يمكن تغييره إلى أمر مألوف، أما الاكتفاء بمجرد الكلام والوعظ والتذكير ، وعندما نرى ممارسة بعض من يتحدثون في هذا الأمر إذا هي تخالف ما يقولون وما يدعون إليه، هنا يصبح التعبير فيه صعوبة وفيه مشقة وهو من أكبر العوائق.(115/688)
فضيلة الشيخ نلاحظ أن الشباب بصفة خاصة لهم مساحة كبيرة في اهتماماتك، فلماذا تهتم بهذه الفئة كثيراً؟
سبحان الله ..! إن لم نهتم بفئة الشباب فبأي فئة نهتم ، وأنا عندما أهتم بفئة الشباب لا ألغي من اهتماماتي بالكبار والرجال والنساء، بل إنني الآن عندما أدعى لمحاضرة في هذه الإجازة الصيفية من المراكز الصيفية مثلاً قد اعتذر ؛ لأنها موجهة للشباب بصفة خاصة، ولكن عندما أدعى فيما يتعلق بموضوع المرأة أستجيب مباشرة، وقد استجبت لعدة دعوات في هذا الصيف، فكل فئة من المجتمع لها نوع من الاهتمام، لكن العناية بفئة الشباب ؛ لأنها مستهدفة في الأصل من الغرب، فالغرب الآن يستهدف بصفة خاصة الشباب ، فلذلك لا بد أن نقابل هذا الاستهداف باستهداف مماثل، الشباب كما بينت في إحدى الإجابات على أحد الأسئلة أنه عن طريقهم يتم التغيير، فكثير من السلوكيات والعادات التي كانت في المجتمع عندما وفق الدعاة والمربون إلى تغيير أنماط الشباب وأوضاع الشباب تغير آباؤهم وأمهاتهم ومجتمعهم، الشباب هم أيضاً من يكون التغيير عن طريقهم أو في ذواتهم أسهل من التغيير في صفوف الكبار؛لأن الغصون إذا عدلت وهي غصون يسهل تعديلها ولا تلين أو يصعب أن تلين إذا كانت خشباً، ولا يعني ذلك أن نهمل جيل الآباء، جيل الأمهات، الكبار، الصغار أبداً ، بل نجد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عني بالشباب عناية خاصة، الذي يتابع الأحاديث ويقرأ السيرة يلحظ العناية والاحتفاء بشباب الصحابة _رضوان الله عليهم_ ثم هم الأمل - بإذن الله - في المستقبل عندما ينتهي الجيل الأول يأتي جيل ثان، يأتي جيل الشباب وهو الجيل الثالث، هؤلاء يصبحون الجيل الثالث ثم يصبحون الجيل الأول، فإعدادهم وتربيتهم وتهيئتهم يمثلون قيادة للمجتمع ، فأعتقد أن السؤال ليس لماذا نهتم بجيل الشباب؟ ولماذا لا نعنى بالشباب؟ إنما يكون السؤال: لماذا لا نهتم أو لماذا لا يهتم بعض الدعاة بالشباب؟ لماذا لا يفتحون صدورهم للشباب؟ ثم يا أخي الكريم لأكن صريحاً معك، انظر إلى التفجيرات التي حدثت مثلاً في الرياض في هذه السنة على حسب الإعلام الرسمي فإن جميع، أقول: جميع الذين شاركوا فيها من الشباب لا أقصد بالضرورة من الشباب الصالحين، وإنما هم في السن العمرية في سن عمر الشباب، فإذن لم نر منهم رجالاً كباراً في السن ، بل عندما ننظر إلى الجهاد في أفغانستان مثل ذلك، وفي ميادين الجهاد الكبرى نجد أن أغلب من شارك فيها هم الشباب صحيح بعض كبار السن، بعض العلماء، الدعاة، لكن النسبة الكبرى من الشباب الذين الآن يتفاعلون مع الأحداث بشكل كبير للغاية ويمثلون ضغوطاً نفسية واجتماعية في كثير من القضايا الكبرى من قضايا الأمة هم من الشباب ، انظر إلى الذين يقدمون أنفسهم في فلسطين مَن؟ هم من الشباب ، انظر إلى جيل الانتفاضة في فلسطين هم جيل الشباب ، فإذن السؤال ليس لماذا أهتم أو اهتم غيري بذات الشباب ؟ إنما السؤال الكبير: لماذا لا نهتم، ولماذا نقصر في حق هذه الفئة ؟
نجد عندما ننظر إلى الدروس والمحاضرات التي يحضرها الناس للعلماء والمشايخ أغلب من يحضرها هم جيل الشباب، وهذا أمر طبعي ؛ لأن الأجيال المتقدمة أجيال(115/689)
السن المتقدمة تكون التزمت التزامات معينة قد انشغلت قد تربت على أمور معينة بخلاف الشباب الذي يعدون ويتطلعون إلى مستقبل مهم للغاية.
فضيلة الشيخ : ما أهمية توثيق الصلة بين الشباب والعلماء ؟ وكيف يمكن توثيقها ؟ وما دور العلماء والشباب في ذلك ؟
الحديث عن أهمية توثيق الصلة بين الشباب والعلماء حديث ذو شجون، لما نراه من تقصير ظاهر يتحمل مسؤوليته الطرفان، فالعلماء قد قصروا في توثيق علاقاتهم بالشباب، والشباب أيضاً يتحملون مسؤولية في نوع من النفور لديهم من العلماء، العملية مشتركة وبدون هذه الصلة الكبرى بين العلماء وبين الشباب فلن يصل الشباب إلى ما يصبون إليه من أهداف في قيادة الأمة ؛ لأن الله - جل وعلا - قد أثنى على العلماء في محكم التنزيل " إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ " (فاطر: من الآية28)، "هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ" (الزمر: من الآية9)، " شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ" (آل عمران: من الآية18) فإذا تخلى الشباب عن هؤلاء الذين أثنى الله عليهم فإنهم قد قصروا بمقدار تخليهم وابتعادهم عن علمائهم وقادتهم ، وهذا الأمر أرجو أن يكون واضحاً في أذهان الشباب وأن يبادروا قبل غيرهم للاتصال بمشايخهم وعلمائهم وقادتهم حتى لو حدث من بعض المشايخ شيء من الجفاء أو عدم الاستجابة ، إن تكرار المحاولة مرة ومرتين وثلاثاً تجعل العالِم يفتح قلبه لهؤلاء الفتية لهؤلاء الشباب ، وبهذا - بإذن الله- يتم الاتصال ويتم التلاحم، وفي المقابل فإن مسؤولية العلماء كبيرة _كما بينت في عدد من الإجابات خلال هذا الحوار_ ؛ لأن إصلاح الوضع وإصلاح المجتمع أقوى وسائله هم الشباب ، أكبر العوامل في إصلاح المجتمع والتغيير الاجتماعي هم الشباب مواجهة الأعداء عن طريق الشباب ، تماسك المجتمع الشباب لهم دور كبير فيه، ولهذا فإني أحث إخواني من المشايخ وطلاب العلم والدعاة والمربين إلى أن يفتحوا صدورهم للشباب ، وأن يتحملوا ما يحدث من تصرفات قد تؤذي بعض العلماء وبعض طلاب العلم ؛ لأن الشباب ليسوا على درجة واحدة من الوعي والفهم والطبيعة والإدراك وحسن الخلق، السن العمرية للشاب قد تدفعه لتصرفات لا تتماثل مع الشيخ وطالب العلم ، فمسؤولية العلماء أن يتحملوا من هؤلاء ، وأن يفتحوا صدورهم ، وأن يوجهوهم التوجيه المناسب ، وأن يحلموا عما يحدث منهم من تجاوزات، لكن الذي أقوله: على العلماء ألا يفتحوا صدورهم للشباب فقط ، بل أن يذهبوا إليهم ، وأن يسألوا عنهم ، وأن يوجهوهم، وأن يشعروهم بالأبوة والرفق، أن يشعروهم بعنايتهم بهم ، وأنه لا فرق بيننا وبينهم ، وأنهم الجيل اللاحق للجيل السابق ، وأنهم - بإذن الله- خير خلف لخير سلف ، إذا تم هذا بين الشباب وبين العلماء، وأقبل الشباب على علمائهم ومشايخهم ، وتحملوا أيضاً ما يحدث من بعض طلاب العلم من تقصير أو غلظة أو جفاء هنا نستطيع أن نضع أيدي بعضنا ببعض ، وأن نوثق علاقات بعضنا ببعض ، - وبإذن الله- يسير المجتمع وقد ترابط شبابه وعلماؤه ، صغاره وكباره بعضهم مع بعض يداً واحدة ضد العدو المشترك ، وبذلك يتكامل البناء ويتكامل النمو ، وعندها نكون سداً منيعاً ضد هجمات التغريب وهجمات التغيير وهجمات العدو المشترك ، أما هذا النفور والافتراق الذي يحدث أحياناً وهو موجود ولا شك بسبب الخلل(115/690)
والتأخر وله تأثير على المدى البعيد والقريب ، حقيقة- يا أخي - آمل من شبابنا أن يكفوا ألسنتهم عن الحديث عن سلبيات علمائهم ومشايخهم ، وأن يكثروا من الثناء عليهم والدعاء لهم ، وكذلك آمل من العلماء أن يقبلوا على شبابهم؛ يرفقوا بهم ويرحموهم، ويوجهوهم بالرفق والعناية كما هو - والحمد لله- حادث وواقع من كثير من مشايخنا وعلمائنا وطلاب العلم ، ولكن حالات فردية قد تقع من هنا أو هناك من بعض طلاب العلم أو من بعض الشباب.
فضيلة الشيخ :إذا كان العلم الشرعي – كما تعلمون - له أثر في توجيه وتسديد مسيرة الشباب التربوية والدعوية ، فما مدى قرب أو ابتعاد الشباب عنه ؟ وكيف يمكن ضبط المنهجية العلمية للشباب ؟ وما أثرها التربوي على الشباب ذاتياً ؟
نعم العلم الشرعي – كما ذكرت - له الأثر الكبير في توجيه وتسديد مسيرة الشباب التربوية والدعوية، لماذ؟ للإجابة على السؤال يجب علي أن أطرح هذا السؤال ، ما هو العلم الشرعي؟
والجواب هو : العلم الشرعي هو العلم بمراد الله ومراد رسوله _صلى الله عليه وسلم_ إذن كيف يكون الإصلاح؟ وتكون التربية دون أن نعلم ما هو مراد من دعانا إلى الإصلاح ، ودعانا إلى التربية وإلى الاستقامة، "فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ" (هود: من الآية112) لاحظ هذه الآية " فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ" (هود:112) إذن الاستقامة على غير الأمر الذي أراد الله لا تكون استقامة، كيف نعرف مراد الله - جل وعلا - ومراد رسوله - صلى الله عليه وسلم –؟ هو بالعلم الشرعي بمقدار التقصير في العلم الشرعي الذي هو الكتاب والسنة وما تفرع عنهما يكون التقصير في البلوغ إلى الهدف، والوصول إلى الهدف المراد ، ولهذا ألقيت محاضرة قبل عشرين سنة وقد صدرت برسالة بعنوان (العلم ضرورة شرعية) ، وذكرت من أسباب إلقاء هذه المحاضرة أنني زرت إحدى المدن الإسلامية عام 1406هـ وألقيت خلالها محاضرة بعنوان :(العلم ضرورة شرعية) ، ثم طبعتها بعد ذلك ،وقلت فيها: "إنني ذهبت إلى بلد إسلامي وجدت فيه صحوة كبرى ، وتدفقاً عجيباً للشباب ، وتوجهاً إلى الله - جل وعلا - بشكل نادر في العالم الإسلامي ، ثم قلت: إني أخاف على هؤلاء وخفت على هؤلاء الشباب وعلى هذا الجيل وجيل الصحوة ؛ لأنني لم أره يقاد بالعلم الشرعي وجدت فيه شيء من التفرق والاختلاف ، واتباع بعض المدارس العقلية ، وغير ذلك. هذا الكلام حدث عام 1406هـ وما مرت سنوات قليلة إلا وقد حدث في ذاك البلد من المشكلات ووقعت فيه فتن لا تزال آثارها إلى اليوم السبب - فيما أراه - نعم العدو يتحمل مسؤولية كبرى، العدو جر هؤلاء لهذه الفتن، ولكن أعتقد أن ضعف العلم الشرعي كان له دور وتأثير في اتخاذ القرار المناسب في مواجهة العدو ، هذا ما أراه هذا اجتهادي ، والإخوة هناك لهم اجتهادهم فيما لاقوه من بلاء وعناء من أعدائهم ، ولكن البعد عن العلم الشرعي هو الذي يوصل إلى كثير من الفتن. أحداث الرياض مثلاً إن كان الذين قاموا بها محسوبين على الشباب الأخيار، فلا شك أن السبب في ذلك هو نقص العلم الشرعي، ومرة أخرى لاحظوا الأحداث التي تقع في كثير من الفتن لا تجدون فيها قل أن تجدوا فيها ، بل قد لا تجد فيها عالماً وإذا وجد أحد من طلاب العلم فهم ندرة وقلة لا يمثلون شيئاً بالنسبة لغيرهم، فخلاصة الأمر: العلم(115/691)
حصانة - بإذن الله - ووقاية - بإذن الله- من الوقوع في الفتن ، ومن الوقوع في الزلل والوقوع في الخطأ " فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ" (النحل: من الآية43) ، فالرجوع إلى العلماء والتضلع في العلم الشرعي ، وأن نكون على مستوى من العلم من أقوى ، بل هو وسيلة ووقاية - بإذن الله - من أي فتنة ومن أي بلاء ، ومساعد أيضاً على تجاوز عقبات الطريق ، نعم لا يلزم أن يكون كل المجتمع من العلماء ، وهذا أمر كوني لا يمكن أن يكون الناس كلهم علماء " فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ " (التوبة: من الآية122) فإذا وجد في الأمة علماء كما هو موجود الآن - والحمد لله - ووجد من الشباب رجوع إلى العلماء وتلقي عنهم وصدور عنهم انحلت المشكلة، المشكلة من أين تحدث؟ المشكلة تحدث عندما لا يوجد علماء كما في بعض البلاد الإسلامية ، ذهبت إلى بعض البلاد الإسلامية فلم أجد من العلماء الذين يتولون قيادة الأمة وقيادة الشباب ، بالرغم أنهم على مستوى من العلم الشرعي والتضلع العلمي قد يوجد علماء ، ولكنهم لا يعرفون، أو ليس لهم التأثير الكبير على الأمة وعلى الشباب بصفة خاصة، وفي المقابل أيضاً مع وجود العلماء لا بد أن توجد قناعة لدى الشباب والأجيال بالرجوع إلى هؤلاء العلماء ، ما معنى أن يصدر العلماء أقوالهم وفتاويهم ولا يجدون استجابة من الشباب ، وإنما يذهبون لأناس لم يتضلعوا في العلم الشرعي ولم يتمكنوا من العلم الشرعي فيصدروا عنهم فهنا يقع الخطأ ويقع الانحراف ، آمل أن يعاد النظر في هذه القضية من العلماء ومن الشباب، وأحض الشباب بأن يتضلعوا في العلم الشرعي ويتوجهوا للعلم الشرعي ومن لم يتمكن من ذلك عليه أن يأخذ على نفسه ألا يتصرف أي تصرف إلا أن يرجع إلى من سبقه علماً وفضلاً ومكانة ، أما أن ينطلق الشاب من عاطفته أن ينطلق الشاب من اطلاعاته اليسيرة ، أن يصدر عن بعض طلاب العلم الذين لم يتمكنوا ولم يتضلعوا من العلم الشرعي هذا هو الخطأ الذي وقع فيه بعض شبابنا في بعض بلاد المسلمين فوقع الانحراف ووقع الخطأ ، والله المستعان.
ويمكن ضبط المنهجية العلمية للشباب بوضع البرنامج العلمي المعتدل الذي يناسب الفئات العمرية، كل فئة عمرية لها ما يناسبها ، أما أن يأتي بعض صغار الشباب وأعمارهم بسبع سنوات ، أو ثمان سنوات ، أو تسع سنوات ويبدؤون بتلقي العلم عن كبار العلماء مباشرة ، بل حتى عشر سنوات أو خمسة عشر عاماً قبل أن يبدأ في صغار العلم يبدأ في كباره هذا خلل منهجي . يجب أن يتلقى الشاب العلم مرحلياً يبدأ بصغار العلم ، وعندما قال الله - جل وعلا - : " وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ " (المائدة: من الآية44) قال المفسرون : إن المراد بالربانيين هنا،هم: الذين يربون الناس على صغار العلم قبل كباره ، والأحبار هم كبار العلماء ، فمن ضبط المنهجية العلمية ما يلي:
أولاً: أن يبدأ الشاب بصغار العلم قبل كباره مقدمات العلم يبدأ بالمختصرات، أيضاً من المنهجية أن يبدأ بحفظ القرآن ، وحفظ كم من نصوص السنة.
ثانياً: اختيار العالم الذي يتلقى عنه ليس كل إنسان يصلح أن يتلقى عنه.
ثالثاً: اختيارالكتاب المناسب لواقعه وحاجاته.(115/692)
رابعاً : الاستمرار بأن يضع برنامجاً علمياً طويلاً يستمر عدة سنوات، وإلا هذا الانقطاع والتقطع من بعض الشباب قد أحدث خللاً ، حضور دورة في السنة فقط لا يكفي لتكوين طالب العلم المتمكن، العلم إذا أعطيته كلك أعطاك بعضه، فكيف إذا أعطيته بعضك ماذا يعطيك؟ لن يعطيك شيئاً ولن تحصل على شيء ، فالمسؤولية هي مسؤولية المربين أن يوجهوا الشباب توجيهاً مهماً .
خامساً : أن يربط الشاب بين الجانب العلمي والتربوي، الجانب العلمي الصرف فقط ، مجرد النصوص لا تخرج عالماً معبراً ، بل قد يقع خطأ وخلل كما حدث من البعض الذين اقتصروا على الكتب فقط أو على الحفظ فقط ، ولما دخل في المجتمع فإذا هم لا يستطيعون أن يتجاوبوا مع مشكلات المجتمع وظروفه وواقعه، فوقعوا في خلل كبير مع إمكاناتهم الكبيرة في الحفظ والقراءة والاطلاع ، فلا بد من التوازن والتناسق والتمازج والتناغم بين العلم والتربية من أولى الخطوات ، وكما بينت في أول السؤال لا يمكن أن يكون جميع الشباب علماء ، وإنما يختار نوعان من الشباب :
النوع الأول : نوابغ يهيئون للعلم الشرعي لقيادة الأمة .
النوع الثاني : وهم البقية فيأخذون من العلم ما يكفيهم في طريقهم وما يسد فرض العين وبعض فروض الكفايات ، ويجب أن يتخصص الشاب في نوع من العلوم من أجل أن يبدع فيه وهذا مهم، ولا شك أن العلم الشرعي تأثيره تربوياً على الفرد لا يمكن وصفه ، وبمقدار تقصيره في العلم الشرعي يكون الخلل في التربية ، فكذلك بمقدار تضلعه في العلم الشرعي وعمقه في العلم الشرعي يكون الأثر التربوي على الفرد وعلى أسرته وعلى أمته . وفق الله الجميع لما يحب ويرضى.
فضيلة الشيخ : تتميز حياة الشباب بالحماس والحيوية والإيجابية ، كيف يمكن للشاب استثمارها بصورة إيجابية نحو البناء التربوي لأمته ؟ وما دور العلماء في توجيهها نحو ذلك؟
نعم أوافقك يا أخي الكريم على أن حياة الشباب تتميز بالحيوية والحماس والإيجابية، ولذلك يمكن استثمارها في وضع برنامج تحصيلي مكثف عملي وتربوي ودراسي، أن نستثمر الشباب هذه المدة الحساسة في حياته، بأن يستثمر كل دقيقة فيها الاستثمار الأمثل، ولن يستطيع أن يفعل ذلك بمعزل عن أبيه وعن المربين والموجهين وعن العلماء؛ لأن خبرة الشاب قليلة جداً فقد يسلك طريقاً يضع من عمره فيه سنوات يكتشف في النهاية أنه قد سلك الطريق الخطأ، وقد لا يدرك الشاب قيمة هذه الدقائق والساعات في العمر، فيضعها في غير مجالها، خذ مثلاً نفس الطاقة الإيجابية والحماس موجودة لدى كل شاب، هناك من يضيعها في الكرة وقد قرأت مقابلة لأحد اللاعبين وقد أمضى سنوات طويلة من عمره، وأجريت معه مقابلة بعد أن تجاوز الخمسين فكان في كلامه الندم والحسرة على ما ضيع من عمره ما استفاد قرابة ثلاثين سنة وهو يلعب الكرة ويلاحق الكرة، ماذا استفاد من أمر دينه ودنياه - عفا الله عنا وعنه - فكان يتكلم في تلك المقابلة ولا زلت أذكرها بحماس وتأثر وانفعال وآمل أن يكون ذلك نوعاً من التوبة وأن يغفر له، وبخاصة أن هذا الرجل يبدو لي كما بلغني أنه توفي - رحمه الله- فتأثره وحزنه على ما ضيع من عمره في ملاحقة كرة، بينما أذكر أنه عندما كان يلعب في الأندية الكبار كان يعد نموذجاً للشباب وقدوة لكثير(115/693)
من الشباب، وماذا حصل في حياته يلاحق كرة، فكل طاقته وحيويته وشبابه ضيعه في ملاحقة كرة مع ما يصاحب ذلك من بلاء ولو اقتصر الأمر على ملاحقة الكرة ربما لهان الأمر؛ لأنه يصاحب تضييع الوقت في الأندية وغيرها منكرات وبلاء وخاصة في السفر إلى الخارج واللعب مع المنتخبات العالمية وما يحدث من منكرات في تلك الفنادق والدول والله المستعان، إذن الطاقة موجودة لدى كل شاب إن لم يستثمرها بالخير فإنه سيستثمرها في الشر ولا شك، والنبي - صلى الله عليه وسلم - كما في الحديث الصحيح عندما قال: "لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يُسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن علمه ماذا عمل به، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه" لاحظوا أنه خص الشباب بسؤال على أنه داخل في السؤال الأول "عن عمره فيما أفناه" أي: سيسأل الإنسان عن عمره منذ تكليفه حتى وفاته، ومع ذلك قال: "وعن شبابه فيما أبلاه"؛ لأن مرحلة الشباب مرحلة استثنائية مهمة للغاية إن لم توجه وتستثمر الاستثمار الأمثل كانت وبالاً على صاحبها، فإنني أدعو الشباب أن يستثمروا هذا الحماس وهذه الانفعالية في حياتهم التي لا تعود الاستثمار الأمثل ولن يتمكن من ذلك إلا بالرجوع إلى من هو أعلم منهم وسبقهم بالخبرة والتجربة وأن يقرؤوا سير السابقين، سير السلف كيف كانوا في طلب العلم كيف كانوا يستثمرون هذه اللحظات في حياتهم هذا جانب قراءة سير المصلحين والدعاة وكبار العلماء لحفز الشاب إلى أن يزداد حماساً وقوة وتوجهاً نحو الأكمل والأمثل ومسؤولية المربين مسؤولية العلماء مسؤولية الآباء مسؤولية كبرى في توجيه الشباب التوجيه الصحيح؛لأن الشباب كما بينت أنه قد يقع في الخطأ والخلل لقلة علمه في هذا المجال، فمسؤولية هؤلاء ممن سبقه علماً وتجربة وخبرة أن يدلوه على مكامن الخطأ والصواب أن يسددوا مسيرته أن يجعلوا الشاب أيضاً فيم يناسبه، وهنا ملاحظة أن بعض الشباب قد يتوجه التوجه السليم الطيب الخير ولكنه يخطئ فيما يناسب إمكانياته، فالبعض ما إن تمضي عليه سنوات إلا ويرجع مثلاً نجد شاب من الشباب يتخرج من الثانوية ويندفع ويدخل كلية الهندسة أو الطب أو الزراعة وبعد مرور أربع، خمس سنوات أو ثلاث سنوات يرجع مرة أخرى في دراسة العلم الشرعي، كم ضيع من عمره بل قد رأيت من تخرج من الكليات تخرج ثم انسحب ولم يستفد ولم يفد الأمة حتى من علمه المادي الذي تعلم من الزراعة والطب والهندسة، وبدأ يدرس العلم الشرعي كم أضاع على نفسه وعلى أمته خمس سنوات أو ست سنوات مشكلة، كذلك في بعض البرامج الدعوية يخطئ الشباب ويختار طريقاً غير مناسب ولا يرجع إلى من هو أعلم منه من أجل أن يسدده ويكتشف مواهبه وقد يكتشف مواهبه بعد سنتين أو ثلاث أو أربع وهنا يقع في مشكلة إن رجع إلى تصحيح المسيرة فيكون أضاع من عمره سنوات، وإن استمر في هذا الطريق أيضاً أضاع من عمره سنوات، فالأمة بحاجة إلى كل لحظة وإلى كل دقيقة، والشاب إلى كل لحظة وإلى كل ثانية وإلى كل دقيقة وإلى كل ساعة من عمره، فعلينا أن نسدد ونقارب، وأن نرجع إلى علمائنا ومشايخنا ومربينا ومن سبقنا علماً وتجربة من أجل أن نستفيد، ومن أجل أن نسدد الخطأ، وأن نستثمر هذا الحماس في إيجابية فاعلة ضمن منهج قوي، وأخيراً أكرر أن قراءة سير الصالحين، القادة، سير المربين من(115/694)
أقوى ما يساعد الشاب على التوجه الصحيح واستثمار وقته الاستثمار الأمثل؛ لأن الكلام النظري لا يؤثر كما تؤثر البرامج العلمية العملية، والله أعلم.
نعم الشباب تحت توجيه مشايخهم ومربيهم يمكن أن يصلوا إلى قضايا - بإذن الله - تكون في العمق والبعد والتفكير إذا وفقنا نحن في توجيههم الوجهة السليمة، وكما أننا نشغل عضلاتهم وأيديهم وأرجلهم وألسنتهم يجب أن نشغل فيهم طاقة التفكير والإبداع والاهتمام من أجل أن يبدعوا ويفكروا ويطوروا، وهم أهل لذلك - بإذن الله - .
فضيلة الشيخ : هل المحاضن التربوية كافية في استيعاب طاقات الشباب ؟ وكيف يمكن تطويرها لتحقيق ذلك ؟ وما دور الشباب في المساهمة في تطويرها ؟
بالنسبة للمحاضن التربوية ليست كافية في استيعاب طاقات الشباب، بل حسب ما أرى أن هذه تمثل ولا نسبة(5%) من الحاجة الماسة لاستيعاب طاقات الشباب، المحاضن التربوية الموجودة الآن قليلة بالنسبة للعدد الهائل من الشباب الذين يحتاجون إلى استيعاب، أما كيف يكون تطويرها؟
فهذه المسألة آمل أن أوفق في إيضاحها بإيجاز، مشكلتنا أننا نتصور أنه لا يمكن أن نربي الشباب إلا من خلال مراكز تكون سمتها شرعية يعني عند الشباب يقولون: دينية - وأنا لا أحب هذا الاسم - ولكن أقول شرعية هذا الوصف مع إيجابيته لكن مع كل أسف يجعلنا نفقد كثيراً من الشباب بسبب نشأة تربوية نشؤوا عليها بسبب آبائهم، فمن الحكمة أن نوجد محاضن تربوية لا يبدو على ظاهرها صبغة أنها شرعية، مع أنها تمارس الجانب الشرعي بتميز، أعطي مثالاً تقريبياً: كليات الهندسة في الثلاثين سنة الماضية تميزت بإقبال كبير من الشباب الأخيار من الصالحين، بل أصبحت محاضن من أهم المحاضن التربوية لكثير من الشباب مع أنها هندسة، بل إن الجوانب التربوية في بعض كليات الهندسة، أو كليات العلوم أو كليات الطب تفوقت على بعض الكليات الشرعية، لا أقول على كل الكليات كلا وحاشا، لكن على بعض الكليات الشرعية في هذه الجوانب، هناك كليات شرعية ومع ذلك لا نجد فيها في النشاط التربوي الإيجابي عدا التعليم الشرعي، ولا شك هذا مهم، لكن لا نجد فيها محاضن تربوية كما هو موجود في بعض الكليات، هذا يدعونا إلى أن بعض المحاضن التربوية لا يلزم أن تكون الصبغة الظاهرة شرعية، مثال: ممكن أن توجد منتديات رياضية، لا أقصد كالأندية الرياضية التي تمارس كثيراً من الأخطاء والمحرمات، وإنما أقصد تكون محاضن لبعض الشباب الذين يهوون هذا الجانب.
مثلاً المقاهي التي الآن ينصرف إليها كثير من الشباب وهي مرتع خصب لإفساد الشباب يمكن أن توجد مقاهي بديلة، يوجد مقاهي للإنترنت للصالحين والأخيار، وعلى الأقل إبعاد الناس عن الفساد، فأعتقد أن هناك محاضن تربوية كثيرة لا يلزم منها أن تكون بالضرورة مراكز صيفية، أو مكتبة مسجد،، أو حلقة لتحفيظ القرآن، هذه لا شك محاضن تربوية رائدة ورائعة ومهمة ولا غنية عنها، بل هي الأساس في تخريج الشباب الصالحين، كذلك الكليات الشرعية هي الأساس في تخريج الأخيار والصالحين وتعليم العلم الشرعي، ولكن ممكن أن توجد محاضن بديلة تزيل الوحشة التي قد تقع في نفوس بعض الشباب ليس لديهم استعداد للانضمام إلى مكتبة المسجد أو إلى الجمعية الخيرية أو إلى المركز الصيفي، ممكن أن ينضموا إلى مراكز(115/695)
يتولاها الأخيار ويشرف عليها الأخيار ويربى فيها شبابنا ولو كانت تمارس كثيراً من الأمور المباحة كالسباحة أو بعض أنواع الرياضة أوغير ذلك، والمخيمات والمعسكرات وغيرها وإبعادهم عن المحرمات.
كثرة الكلام وقلة العمل من المشكلات الموجودة من الشباب، يجتمعون في الاستراحات والمقاهي والرحلات وتجد الإنتاج قليلاً، العلم قليل، والكلام كثير، والخوض في موضوعات لا غنى عنها.
الشباب لا شك أن لهم أثراً كبيراً في تطوير هذه المحاضن؛ لأنهم هم الذين يمارسونها ولأن الشاب يتدفق حيوية وتفكيراً، المهم أن نفتح أمام الشاب مجال التطوير ومجال الإبداع.
من الأخطاء التربوية التي نحن واقعون فيها أننا نربي أبناءنا وشبابنا على التقليد وهذا خطأ كبير، ولذلك نجد أن الإبداع والعمق في التفكير محدود في برامجنا مع شبابنا، بل يجب أن نوجه الشاب توجيهاً سليماً. أذكر مثالاً: يحدثنا أحد الإخوة في بلاد البلقان يقول ونحن نتدرب أيام الحكم الشرعي في سيطرته على بلاد البلقان، يقول: كانوا يأتون أثناء التدريب الإجباري ويضعون الشاب وهو في مرحلة التجنيد قريباً من العدو ولا يعطونه أي سلاح، ويقولون: تصرف التصرف المناسب فيفكر الشاب تفكيراً جاداً حتى يبحث عن مخرج من الورطة التي هو فيها، فهم إذن يستطيعون أن يضعونه في جو يشغله ويشعل فيه كل الطاقات، التفكير والإبداع حتى يجد الحل المناسب لهذا الأمر، ما أحوجنا فعلاً إلى أن نقول لشبابنا لأبنائنا: هيا فكروا.. طوروا.. أبدعوا، لماذا المراكز الصيفية لا تزال على الوتيرة التي نعرفها قبل ثلاثين سنة؟ لماذا بعض مكتبات المساجد لا تزال على الوتيرة المعروفة قبل عشرين سنة؟ لماذا المحاضن التربوية بالجملة هي لا تزال المحاضن المعروفة قبل عشرين أو ثلاثين سنة؟ أين الإبداع؟ أين التجديد؟ أين التطوير؟ أين التفكير؟
نعم الشباب تحت توجيه مشايخهم ومربيهم يمكن أن يصلوا إلى قضايا - بإذن الله - تكون في العمق والبعد والتفكير إذا وفقنا نحن في توجيههم الوجهة السليمة، وكما أننا نشغل عضلاتهم وأيديهم وأرجلهم وألسنتهم يجب أن نشغل فيهم طاقة التفكير والإبداع والاهتمام من أجل أن يبدعوا ويفكروا ويطوروا، وهم أهل لذلك - بإذن الله - .
الجوانب التي أتمنى من الشباب العناية بها في ظل التحديات المعاصرة التي تواجه الأمة كثيرة جداً، من أجلها: العزة الاعتزاز بدينهم وانتمائهم، منها: أيضاً أن يؤهلوا أنفسهم بالوقوف أمام عدوهم الشرس أمام اليهود والنصارى، أن يعدوا أنفسهم الإعداد التربوي الإيماني العلمي، الجهادي ويسمح لي الشباب أن أبين ملخصاً هنا.
أجد من الشباب اندفاعاً شديداً نحو الجهاد وهو قتل الأعداء، ولا شك أن هذا هو أعظم أنواع الجهاد، ولكن أقول لهم: بسبب هذا الحماس والاندفاع يقع الخطأ أحياناً بأن يوجه في غير مجاله الصحيح، وقد يستعجل الشاب قبل أن يتهيأ لهذه المرحلة المهمة الحاسمة في حياته، لماذا؟ الإعداد التربوي الإيماني العلمي يحتاج سنوات _كما بينت_ خلال هذه المقابلة. أمام الإعداد الجهادي في مقاتلة الأعداء لا يحتاج إلى شهور من أجل أن يتدرب الإنسان على كيف يواجه أعداءه، المشكلة أن الشباب(115/696)
يتوجهون أو يهملون الجوانب العلمية والإيمانية والتربوية الإعداد الأساس، يهملون هذا الجانب ويبادرون إلى ذاك الجانب مع أهميته ومع فضله ومع مكانته ومنزلته.
الشباب طاقة هائلة ممكن أن يقودوا الأمة إلى ميادين الرقي عندما يكونون قدوة ويكونون أسوة ويكونون أهلاً لذلك عندما يتصف بالحكمة والصبر والحلم، عندما يتعاملون مع آبائهم والأجيال التي سبقتهم تعاملاً حضارياً وتربوياً وإيمانيا،ً عندما يضعوا أيديهم في أيدي العلماء والمشايخ وطلاب العلم
لكن استعجالهم في التدرب على السلاح وغيره قد يدفعهم إلى أن يستخدموا السلاح في غير موضعه كما حدث في كثير من البلاد الإسلامية لما تدرب الشباب وتعلموا السلاح تعجلوا فوضعوا الأمر في غير منصبه ومكانه.
إذن العناية في الإعداد العلمي الإيماني التربوي مهم للغاية مع عدم إغفال الإعداد الجهادي، ولكن ضمن الضوابط التي أشرت إليها، وألا ينفرد الشاب عن مشايخه وعلمائه من أجل أن يوجهوه الوجهة الصحيحة، كذلك أن يعدوا أنفسهم لمواجهة التحديات في جميع أمور الدنيا، بحاجة نحن إلى مهندسين، إلى أطباء، إلى متخصصين في الفيزياء، متخصصين في القضايا العلمية التي تحتاجها الأمة، لا يمكن أن تتخصص الناس جميعاً في العلوم الشرعية _كما بينت_ "فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ" (التوبة: من الآية122) هناك جوانب كثيرة "لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيّاً" (الزخرف: من الآية32) أي: في أمور الحياة الدنيا، فالأمة تحتاج إلى الأطباء إلى المهندسين إلى العلماء في كل مجالات الحياة، أيضاً أن يتوجه الشباب ليسدوا هذه الثغرات التي دخل علينا الأعداء منها بحجة حاجتنا إليهم، لماذا يأتي الأمريكان إلى بلادنا؟ نقول: لحاجتنا إليهم من أجل تدريب الأمة، لماذا كذا؟ ... إلخ.
ولذلك فأنا أتعجب من أن الشباب يشكون من العطالة ومن البطالة، ويقولون: نحن لا نجد عملاً، بينما في بلادنا من الكفار بالملايين - مع كل أسف - يعملون في بلادنا من الأمريكان من الغربيين من الفلبينيين من غيرهم من الكفار، أما المسلمون فأهلاً وسهلاً وحياهم الله فالبلاد بلادهم ولا نمن على مسلم بل نفرح بوجود أي مسلم بيننا، ولكن الكفار في جزيرة العرب التي أمر النبي - صلى الله عليه وسلم- بإخراج اليهود والنصارى منها، ومع ذلك نجد من النصارى بحجة حاجتنا إليهم حتى في الأعمال المنزلية البسيطة، لماذا لا يتوجه شبابنا إلى سد هذه الثغرات من أجل أن يغلقوا هذا الباب، والقضية ليست فقط مجرد أن نكسب مصدر الرزق بل هو يكسب مصدر الرزق، وألا يكون عالة على غيره وعالة على أبيه، وألا يشكو من البطالة؛ لأن البطالة وعدم العمل يورث الفراغ ويحدث خللاً كبيراً في حياة الشاب، ويحدث أمراضاً نفسية وانعكاسات نفسية خطيرة في حياة الشاب قد لا ينتبه لها البعض، والعكس نفسه إذا عملوا، كما أنها تسد لديهم ثغرات نفسية وتثبت لهم أنهم أهل للمسؤولية، في الوقت نفسه هم أيضاً يحمون الأمة من دخول هؤلاء الكفار لبلاد المسلمين، فأقول: نجد حماساً من الشباب لمقابلة الكفار ولإخراجهم من جزيرة العرب، أقول: لماذا لا تسعون من أجل أن تسدوا الحاجة التي جاؤوا من أجلها حتى تخرجهم بطريقة عملية.(115/697)
أما الطريق الذي يسلكه البعض من أجل إخراج النصارى من جزيرة العرب بالقتال قد لا يتحقق لهم ذلك، وتحدث الفتن والمشكلات التي نحن في غنىً عنها، آمل أن نتحول دائماً إلى الجانب الإيجابي العملي، فالشباب أمامهم أمور كثيرة بحاجة إلى أن يعتنى بها من أجل إعداد أنفسهم وإعداد أمتهم، وأن يتحملوا المسؤولية من بعد آبائهم والأجيال اللاحقة.
آمل أن يكون الشباب من التآلف ووحدة الكلمة وصفاء القلوب والبعد عن الافتراق والاختلاف وبخاصة مع العلماء.
آمل أن يضعوا أيديهم بأيدي علمائهم ومشايخهم ومربيهم.
آمل أن تتحد قلوب الشباب، وأن يبتعدوا عن التفرق "وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا" (آل عمران: من الآية103).
هذه مأساة من المشكلات الموجودة عند الشباب.
كثرة الكلام وقلة العمل من المشكلات الموجودة من الشباب، يجتمعون في الاستراحات والمقاهي والرحلات وتجد الإنتاج قليلاً، العلم قليل، والكلام كثير، والخوض في موضوعات لا غنى عنها.
استخدام طاقة الشباب الهائلة جداً في أمور لا تفيد الأمة، ومضيعة للوقت في كثير من المجالات، حتى عند بعض الشباب الطيبين يضيعون ساعات من عمرهم أمام الإنترنت أو أمام مجالات لا تعود على أمتهم بالخير والنفع، كل هذه اهتمامات آمل أن يكون الاهتمام بقضية الأمة الكبرى بالرفع من منزلة الأمة ومكانتها الرائدة "كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ" (آل عمران: من الآية110) آمل أن يدخل الشباب ويسلكون في جميع المجالات الإيجابية في أمور الحياة العامة والخاصة، يتعاونون مع الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، هناك من يذهبون إلى طلب العلم ويتخصصون فيه، هناك من يساهم مع الجمعيات الخيرية ويتعاون معها، هناك من يسد مجالات الحياة العامة كلها.
بهذا نستطيع فعلاً أن نقضي على كثير من الأمراض، نقضي على الفراغ نقضي على البطالة، نقضي على وجود الكفار بيننا، نعيد الأمة إلى حيويتها، نشعر الشباب بمكانته ومنزلته الرائدة.
أيضاً عدم الاستجابة للأعداء، هذا مطلب آمل أن يعنى بالشباب، إن الشباب عندما يذهبون إلى المقاهي الفاسدة، عندما يستمعون إلى آلات اللهو والفضائيات، عندما يتجاوبون مع المطاعم التي تحقق نمواً اقتصادياً لأعدائنا، عندما يضيعون أعمارهم وأوقاتهم يستجيبون لعدوهم، هم يمكنون للاستعمار في بلادنا شاؤوا أم أبوا!
وعندما يرفضون هذا الجانب بقوتهم وشجاعتهم، وأن يعيدوا للأمة مكانتها ومنزلتها بإبائهم ووقوفهم سداً منيعاً ضد مخططات أعدائهم، بهذا – بإذن الله – يحققون الشيء الكثير، والله أعلم.
بالنسبة للسؤال الأخير
ما دور الشباب في تسديد وتوجيه مسيرة الأمة تربوياً ودعوياً واجتماعياً؟
الشباب هم أمل الأمة، الشباب هم رجال الغد، وذكرت في أحد الأسئلة أن في بعض السلوكيات والعادات الاجتماعية في بعض القبائل لدينا أمكن والحمد لله تغييرها عن(115/698)
طريق بعض الفتيات وذكرت هذا في موضوع الحجاب، فعندما كانت هناك مناطق في المملكة لم يكن الحجاب، أي: غطاء الوجه موجوداً، عن طريق الفتيات – بإذن الله – استطاعت أن تعدل المسألة حتى أصبحت الأمهات والكبيرات احتجبن بعد ذلك، فكذلك الشباب يستطيعون – بإذن الله – أن يغيروا في كثير من واقع الأمة وهذا ما رأيناه ولسمناه، شبابنا _والحمد لله_ وجهوا الأمة وجهة كبيرة جداً، وهم شباب فكيف إذا كانوا في المستقبل هم القادة ولهم الريادة، وذهبت الأجيال التي سبقتهم، الشباب الآن في مكانتهم ووقوفهم أمام أعداء الله يوجهون الأمة.
خذوا مثالاً شباب فلسطين، قاموا بدور ضخم لم يستطع أن يقوم به من سبقهم في مواجهة اليهود، ولذلك لم يستطع اليهود ولا النصارى ولا أمريكا ولا أذناب العرب أن يحققوا أهدافهم في فلسطين.
من الذي وقف سداً منيعاً ضد ذلك؟ هم الشباب، بل هم الأطفال أحياناً من يسمون بأطفال الحجارة.
الشباب طاقة هائلة ممكن أن يقودوا الأمة إلى ميادين الرقي عندما يكونون قدوة ويكونون أسوة ويكونون أهلاً لذلك عندما يتصف بالحكمة والصبر والحلم، عندما يتعاملون مع آبائهم والأجيال التي سبقتهم تعاملاً حضارياً وتربوياً وإيمانيا،ً عندما يضعوا أيديهم في أيدي العلماء والمشايخ وطلاب العلم، وأن يبعدوا أي فجوة ويقضوا على أي فجوة ممكن أن تحدث بهذا، فعلاً يقودون الأمة إلى الميادين ويقودونها إلى السبيل الذي هي بحاجة إلى قيادة راشدة في هذه الأزمنة، لا نقلل من قيمة الشباب بل أقول: إن الشباب هم أمل المستقبل – بإذن الله – وهم الآن يمارسون دوراً حضارياً يستطيعون من خلاله أن يوجهوا الأمة، دخولهم للمجالات العلمية النافعة هذه قيادة للأمة، دخولهم أيضاً في الميادين التي يعود نفعها إلى المجتمع يكون ذلك سبباً في تغيير القرارات الاستراتيجية التي يمكن أن تتخذ، فحقيقة إنني أرى أن الشباب يملكون دوراً قيادياً ضخماً لو استثمروه حق الاستثمار، ولكن أرى هناك بعض الخلل، وأجد التنافس أحياناً في بعض الميادين تنافساً غير شريف، عليهم أن يعدوا أنفسهم لهذه المرحلة الحيوية والتاريخية من حياة الأمة، وأن يهيئووا أنفسهم للمرحلة القادمة – بإذن الله -، وأن يكون الشباب عند حسن الظن بهم، وهم يملكون من مفاتيح القرارات الاستراتيجية في تاريخ الأمة ما لا يملكه كثير من الأجيال الأخرى والفئات الأخرى، هم مطالبون أن يكونوا أهلاً لذلك وعلى قدر المسؤولية، وعلى قدر التحمل، وفي الوقت نفسه أوجه وأذكر إخواني من طلاب العلم والمشايخ والدعاة والمربين إلى أن يعطوا الشباب العناية اللائقة بهم والمكانة والمنزلة التي هم أهل لها، وأن يكون التمازج وتوثيق الصلات والعرى بين الشباب وبين قياداتهم من العلماء ومن المسؤولين ومن طلاب العلم ومن الدعاة ومن المربين، أن يوثق الشباب علاقاتهم بآبائهم وبأمهاتهم وبمجتمعهم، أن يوثق الشباب علاقاتهم بأقاربهم وأرحامهم، وهذا بالمناسبة من الخلل الموجود، ألحظ ضعفاً من بعض الشباب في قوة علاقته بأهله، بأرحامه، بأقاربه، بأسرته، بعائلته، بل البعض هناك ضعف في علاقته بأبيه وأمه، بإخوانه وأشقائه، هذا خلل كبير جداً، على الشباب أن يتداركوا هذا الأمر، وبهذا – بإذن الله – يحققون مجداً لأمتهم ولأنفسهم في العاجل والآجل، بهذا يسيروا على(115/699)
الطريق الصحيح والمنهج الصحيح الذي أشار إليه النبي - صلى الله عليه وسلم- "تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبداً كتاب الله وسنتي" التمسك بالكتاب والسنة وتحويل نصوص الكتاب والسنة إلى واقع عملي فعال حي، نرى ممارسته في واقعنا في بيوتنا في مساجدنا في مدارسنا في أسواقنا في شوارعنا في محلاتنا.
الشباب عليهم بعد الله أمل عريض جداً فليكونوا أهلاً لذلك، وهم كذلك من قبل المربين، وبالمناسبة أنا أدعو المربين والعلماء وطلاب العلم أن يعطوا الشباب الثقة اللائقة بهم، وأن يدعوهم إلى الإبداع والتفكير وتحمل المسؤوليات، فسيروا منهم – بإذن الله – ما يسرهم، وسيرون منهم عجباً في طريق مسيرتهم وحياتهم، هكذا والأمة التي لا تعنى بشبابها أمة فاشلة، الأمة التي لا تعنى بشبابها أمة خاسرة، وأعطي مثالاً عملياً يسيراً، قرأت في إحدى الصحف أنه في إحدى الدول التي سعت إلى التعقيم – أي: الاكتفاء بمولود واحد – كما في بعض دول شرق آسيا ساروا على هذا بحجة أن لديهم كثافة بشرية، فبدؤوا يعقمون الآباء والأمهات من أجل الاكتفاء بمولودين، ثم بعد ذلك قالوا: الاكتفاء بمولود واحد، بعد سنوات فإذا هم الآن يواجهون كارثة الآباء كبروا والجيل الجديد جيل قليل جدا،ً يوجد للأبوين بنت واحدة أو ابن واحد، أو أحياناً يموت قبل أن يبلغ وقد عقّم لا يستطيع الإنجاب، فبسبب قصور النظر في هذا الجانب كادت أن تحدث الآن كارثة تواجه تلك البلاد، كذلك عدم العناية بالشباب إماتتهم معنوياً، أولئك أماتوهم حسياً – أي: قضوا عليهم حسياً – فأخشى بالنسبة لنا أن نقضي عليهم معنوياً، ألا نعطيهم المكانة اللائقة فينحرفوا أو ينصرفوا عن مجالات الجد والعمل والإيجاب فتقع مصيبة تواجه الأمة، وبخاصة أنها مقبلة على جهاد ضخم مع أعدائها، جهاد قادم مع اليهود والنصارى والوثنيين، لا بد من إعداد الأمة إعداداً كاملاً وتهيئة الأمة وأخص شبابها التهيئة الكاملة، والإعداد الكامل من أجل مواجهة أعداء الله في كل الميادين، في ميادين الجهاد الحقيقية، في ميادين اللقاء، في الميادين العلمية، في الميادين التربوية، نحن بحاجة إلى أن تربى الأمة بكاملها إلى تربية جهادية، وأذكر وأنصح بقراءة كتاب - أخي الشيخ عبد العزيز الجليل – كتاب (التربية الجهادية) وهو كتاب جميل جداً وفتح آفاقاً عظيمة، أمتنا تحتاج إليها في هذا الوقت، وشبابنا بأمس الحاجة إليها من أجل أن تتوجه الأمة جميعاً إلى جهاد أعدائها كلٌ في مجاله القائد والمعلم والأمير والصغير والعالم والعامي والمرأة والرجل كلٌ في ميدانه يشعر أنه يجاهد أعداء الله.
الأم في مطبخها تشعر أنها عندما تسد هذه الثغرة في جهاد.
الرجل في مصنعه يشعر أنه في جهاد، القائد وهو يواجه أعداء الله، الشاب يواجه أعداء الله في جهاد، الأمة كلها في جهاد، بهذا نستطيع أن نواجه أعداءنا المواجهة الحقيقية في كل الميادين – بإذن الله – وبهذا ننتصر عليهم إذا التزمنا بالمنهج الصحيح بالمنهج الحق بالمنهج الذي كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم- .
أسأل الله لي ولكم التوفيق والسداد، وصلى الله على نبينا محمد، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
أيها الإخوة في ختام حوارنا :(115/700)
نسأل الله - جل وعلا - أن يجزي الشيخ ناصر العمر خير الجزاء وأن ينفعنا بما قرأنا .
كما يسرنا في موقع المسلم أن نستقبل أسئلتكم والتي ستعرض على فضيلة الشيخ ناصر العمر ثم تعرض إجابة الشيخ من خلال الموقع في وقت لاحق – بإذن الله – .
ونرجوا من الإخوة المشاركين مراعاة الشروط لقبول الأسئلة وهي:
1- أن تكون الأسئلة تربوية وهادفة ، فلن تقبل أسئلة الفتاوى والاستشارات لأن لها أركانها الخاصة بها .
2- أن لا تكون الأسئلة شخصية ، وإنما يكون نفعها عام لكل الأمة .
3- أن تكون الأسئلة واضحة ، ودقيقة .
4- أن ترسل الأسئلة مباشرة للركن التربوي عبر مراسلة مشرف نافذة قضايا وحوارات.
ـــــــــــــــــــ
مناهجنا بين التطوير والتغريب 1-8
مشرف النافذة
3/4/1424
ارسل تعليقك ...
لا توجد تعليقات ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
مدخل :
المنهج الدراسي – في أي بلد – يقوم على أسس ومنطلقات عقدية وفكرية واجتماعية يؤمن بها ذلك البلد ، وتلك الأسس والمنطلقات هي ما يؤمن به المجتمع ويعتقده ، لذا فلا بد أن يكون المنهج صادقاً في تمثلها وتحقيقها ، لأنه من أهم الوسائل في تحديد شخصية المجتمع وكل فرد ينتمي إليه .
وتخطيط المنهج التعليمي يُعنى بتحقيق الأهداف التربوية التي تنطلق من عقيدة الأمة ، ويتطلع المجتمع إلى تحقيقها ، وهذا يعني تحديد نوعية التربية التي يريدها .
ولذا فلا غرابة أن يقول أحد التربويون : إن التدخل في مناهج أي دولة يعادل التعدي على حدودها وسيادتها ، لأن ذلك يعني التدخل في تغيير الهوية والخصوصية .
وهو صادق في ذلك ، فالقبول بتغيير المناهج تحت مسمى التطوير بمواصفات غربية ، يعني القبول بطمس هوية الأمة ، وانتهاك عقيدتها ، وتغريب أجيالها .
وفي الوقت الذي تشتد مواجهة أمريكا للأمة الإسلامية في اعتداء شامل ، وتطالب الدول الإسلامية بتغيير المناهج ، نجد الهجمة الداخلية عليها تشتد من الكتاب الوطنيين لدينا ، ويتصاعد نقدهم لها في هذه الأيام ، خصوصاً مع أحداث تفجيرات الرياض ، بحيث تتهم المناهج بتخريج الإرهابيين والمتطرفين .
وأمام تلك المؤامرات التي تدبر لمناهجنا ، يطرح الموقع قضية المناهج في ضوء المحاور التالية :(115/701)
أولاً : البعد الديني للمناهج في الدول الغربية والشرقية :
والغرض من هذا المحور ، بيان المنطلقات والأسس التي تقوم عليها ، ففي الوقت الذي تطالب فيه الدول الإسلامية بتغيير مناهجها ، نبين كيف أن مناهجهم جاءت محققة لمعتقداتهم ومنطلقاتهم الفكرية ، وهذا فيه رد عملي عليهم وعلى أذنابهم من المستغربين .
ثانياً : ما يراد بمناهجنا :
نكشف حقيقة ما يكاد لمناهجنا من الداخل والخارج .
ثالثاً : ما نريده في مناهجنا :
نبين فيه ما نريد أن تكون عليه مناهج العلوم الشرعية بصفة خاصة ، والمناهج الأخرى بصفة عامة .
ونأمل من الأخوة القراء مشاركتنا بالتعليق على هذا المحور ، وإرسال المشاركات والاقتراحات للمشرف على النافذة .
أولاً : البعد الديني للمناهج الغربية والشرقية
قامت كلية التربية في جامعة الملك سعود بتنظيم ندوة : بناء المناهج " الأسس والمنطلقات" ، وحلل الباحثون مناهج ( 13 ) دولة في ( 5 ) قارات من العالم ، للكشف عن مدى تضمنها لمعتقداتهم وقيمهم ، وكانت تؤكد الحقائق التالية :
1 ) أن كل دولة كانت تبني مناهجها بما يعزز منطلقاتها العقدية والفكرية والاجتماعية ، فهي مرآة لما تريد أن تربي عليه أبناءها .
المنهج الدراسي – في أي بلد – يقوم على أسس ومنطلقات عقدية وفكرية واجتماعية يؤمن بها ذلك البلد ، وتلك الأسس والمنطلقات هي ما يؤمن به المجتمع ويعتقده ، لذا فلا بد أن يكون المنهج صادقاً في تمثلها وتحقيقها ، لأنه من أهم الوسائل في تحديد شخصية المجتمع وكل فرد ينتمي إليه .
2 ) أن كل دولة كانت تعتمد اعتماداً كاملاً على مصادرها الأصيلة في جميع المقررات والكتب ، وليس المقررات والكتب الأدبية والاجتماعية فقط .
3 ) أن كل دولة كانت تبني نظرتها للآخرين في مناهجها ، وتربي طلابها على ذلك في ضوء منطلقاتها ومعتقداتها ، من خلال مصادرها هي ، والتي نعرف جميعاً أنها محرفة .
4 ) أن مناهج بعض الدول كانت تتضمن روحاً عدائية صريحة ضد المسلمين ، وتتعمد تزييف الحقائق عن المسلمين تاريخياً وواقعياً ، وخاصة المناهج الأمريكية والبريطانية واليهودية ، في الوقت الذي تتهم مناهج المسلمين بذلك .
5 ) أن المناهج الأمريكية والبريطانية واليهودية تربي طلابها على الإرهاب والاستعلاء على الآخرين .
وما تضمنته مناهجهم فيه أبلغ الرد
عليهم من جهة ، وعلى المستغربين من أبناء جلدتنا من جهة أخرى .
وهذا ما توضحه نتائج البحوث التي نقوم بعرضها في المحور الأول ، حيث سنختار منها البحوث التي تناولت مناهج الدول التالية :
1 ) المناهج الأمريكية . 4 ) المناهج الفرنسية .(115/702)
2 ) المناهج البريطانية . 5 ) المناهج الفلبينية .
3 ) المناهج الأسترالية . 6 ) المناهج اليهودية .
المناهج في أمريكا
أولاً : الكتاب الأول :
بحث الصراع العربي الإسرائيلي في المناهج الأمريكية : د. راشد بن حسين العبد الكريم
وصف الكتاب :
عنوان الكتاب: تأريخ العالم: علاقات بالحاضر .
البلد الذي يدرس فيه: الولايات المتحدة الأمريكية .
المؤلف : إليزا بيث جينور إليس، و أنثوني إسلر (مع استشارات مهمة من بيرتون بيرز) .
راجع المادة العلمية عشرون متخصصا. وتوجد أسماؤهم في بداية الكتاب.
الناشر: برنتس هول (الولايات المتحدة الأمريكية) .
تاريخ النشر: 1999.
المرحلة الدراسية: المرحلة الثانوية .
عدد أجزاء الكتاب: الكتاب جزء واحد.
عدد صفحات الكتاب: 1070صفحة من القطع الكبير .
منهج الكتاب :
1 ) تقديم المعلومات كان فيه الكثير من الانتقائية، ولذلك كان هناك تفاوت كبير في حجم المادة المقدمة من موضوع إلى موضوع.
2 ) الكتاب سلك مسلكا ينبئ عن الرغبة في تأصيل النظرة الأمريكية لبعض القضايا.
نماذج من مضمون الكتاب :
أولاً : تأريخ العبرانيين (اليهود) :
حضي تأريخ اليهود بمساحة كبيرة من الكتاب وشيء كثير من التفصيل، فقد خصص المؤلفان القسم الخامس من الفصل الثاني (الحضارات الأولى) للحديث عن ما أسماه (عالم العبرانيين). وفيه تكلم بشيء من التفصيل عن نشأة العبرانيين وأنهم كانوا يعيشون في صحراء ما بين النهرين Mesopotamia بدوا رحلا، ثم انتقلوا إلى أرض الكنعانيين (عرفت فيما بعد باسم فلسطين) حوالي عام 2000 قبل الميلاد، وبعد أن أمحلت أرض فلسطين هاجروا إلى مصر، حيث صاروا مستعبدين لدى المصريين (ص 43)، إلى أن ظهر موسى (عليه السلام) وقادهم للخروج، حيث تاهوا في سيناء أربعين سنة. وبعد وفاة موسى دخلوا أرض فلسطين وحاربوا أهلها قائلين إن الله قد وعدهم إياها. ثم يذكر الكتاب انقسام اليهود بعد سليمان عليه السلام إلى (إسرائيل) و(يهودا). وبعد ذلك تعرضوا لغزوات خارجية انتهت بالسبي البابلي على يد بختنصر، ثم عادو بعد هزيمة البابليين من الفرس.
يذكر الكتاب أيضا أن اليهود قبل ألفي سنة تقريبا اضطروا للخروج والتفرق في الأرض أو الشتات (diaspora) حيث عاشوا أوزاعا متفرقين.(115/703)
تتبع المؤلفان نشأة بني إسرائيل في القديم ولم يفعلا ذلك مع المسلمين (أو العرب) رغم أن المسلمين (والعرب) أكثر عددا وأعمق أثرا في التأريخ وبالذات التأريخ المعاصر، وحضاراتهم هي الحضارة المؤهلة للصمود في وجه الحضارة الغربية . وللباحث أن يتساءل لماذا هذا التركيز في كتاب يوجه إلى طلاب المرحلة الثانوية على تتبع تأريخ اليهود وبيان ما تعرضوا له عبر التأريخ، بالرغم من أكثر تفاصيل ذلك التأريخ ليس له مصادر موثوقة.
يذكر الكتاب أن الديانة اليهودية من الديانات الرئيسة في العالم للأثر الذي تركته في النصرانية وفي الإسلام (ص 45).
وهذه شبهة يطرحها بقوة كثير من المستشرقين، حيث يرون أن التشريع الإسلامي تأثر بالشريعة اليهودية، ويحاولون تصوير الإسلام على أنه ديانة قام محمد (صلى الله عليه وسلم) باقتباسها من اليهودية والنصرانية.
كما أنه تكلم عنهم (ص 144) بشيء من التفصيل أيضا في القسم الرابع (نشأة النصرانية) من الفصل السادس (روما القديمة ونشأة النصرانية) حيث أشار إلى استيلاء الرومان على القدس وكان اليهود يسكنون بها، وما تلا ذلك من ثورة لليهود أدت إلى طردهم منها فيما يسمى الشتات.
ومن ما يظهر حرص المؤلفين على التفصيل فيما يتعلق بالدولة اليهودية أنه لم يفت المؤلفين أن يشيرا إلى أن مجموعة من الإثيوبيين اعتنقوا اليهودية، وهم يهود الفلاشا، وتم ترحيلهم فيما بعد لإسرائيل (ص 45).
ويلاحظ أن الكتاب في سياقه للتفصيل في تأريخ اليهود كان يظهر جلياً حرص المؤلفين على بيان ما تعرض له اليهود من شدائد على مر التأريخ، مما قد يكون شاركهم في مثله كثير من الشعوب. فالكتاب يذكر ما تعرض له اليهود على يد الرومان، مع أنهم لم ينفردوا بهذا، وما تعرضوا له على يد البابليين، وما تعرضوا له على يد النازيين ، وما لاقوه من الفلسطينيين.
مقابل هذا التفصيل في تأريخ اليهود ليس هناك شيء يذكر عن تأريخ الفلسطينيين أو العرب، وغالب ما ذكره الكتاب عنه إنما هو فيما يكون فيه الغرب طرفا في الموضوع. ومع أن الكتاب ذكر أن اليهود هاجروا إلى أرض كنعان (فلسطين) لم يذكر شيئا عن الكنعانيين، مع أن هذا ضروري لتتبع أصول الصراع العربي الإسرائيلي وله أثر كبير على دعوى اليهود بالحق التأريخي في أرض فلسطين.
هذه أمور مهمة سكت عنها الكتاب ولم يوردها على ما يحتمه المنهج الموضوعي في عرض الحقائق التأريخية، مما يؤكد سعي الكتاب إلى إيصال وجهة نظر معينة إلى أذهان الطلاب وإقناعهم بها، وهي أن نشوء إسرائيل كان أمراً طبيعياً إثر هجرة طبيعية لأرض غير مأهولة يسندها حق تأريخي وديني في تلك الأرض، حتمها الاضطهاد الذي تعرض له اليهود على مر التأريخ.
ثانياً : ربط الإرهاب بالفلسطينيين وإبعاده عن الإسرائيليين :
في سعي واضح لاستدرار عطف الطلاب نحو إسرائيل وإظهارها بمظهر الكيان المسالم الذي يعاني من ظلم الآخرين، أشار الكتاب إلى أن إسرائيل كانت مركزا للهجمات الإرهابية (ص 916)، وذكر عددا من الأمثلة لأعمال الفدائيين(115/704)
الفلسطينيين، مثل قتل الرياضيين الإسرائيليين في الألعاب الأولمبية عام 1972، كذلك ذكر ( ص 916 ) أنه بين الحروب التي خاضتها إسرائيل مع العرب من 1956 إلى عام 1973 كانت إسرائيل هدفا للأنشطة الإرهابية. لكنه لم يذكر البتة أياً من أعمال إسرائيل الإرهابية والوحشية ضد الفلسطينيين، أو ضد البريطانيين قبل قيام دولة إسرائيل. بل إن الكتاب ـ إمعانا في إعطاء الصورة الإيجابية عن إسرائيل ـ يصف اعتداء إسرائيل على أراض عربية بأنه "كسب للأرض"، حيث يقول ( ص 917 ) "إن إسرائيل كسبت عام 1967 مرتفعات الجولان من سوريا والقدس الشرقية والضفة الغربية من الأردن..."، ويكرر هذه الكلمة مرة أخرى عند حديثه عن أن قسماً من الإسرائيليين يرى أن تحتفظ إسرائيل بالأرض التي "كسبتها" ولا تعيدها للعرب. فهو هنا يتحاشا استخدام كلمة "احتلتها" مع أنها هي التي تصور الواقع تماما.
وفي (ص 782 ) أثناء حديثه عن النظام النازي في ألمانيا أسهب في الحديث عن الاضطهاد الذي حصل لليهود فيها ، كما تحدث بالتفصيل عن حادثة الهولوكوست في صفحة 799 أثناء حديثه عن الحرب العالمية الثانية. وكأنه بهذا يصور أن ما يتعرض له اليهود في فلسطين هو امتداد لهذا، وأن بقاء اليهود في فلسطين مبرر.
وفي صفحة ( 747 ) تحت عنوان (العناء المر) أشار إلى أن موجة "معاداة السامية في ألمانيا وأوربا الشرقية أجبرت الكثير من اليهود للبحث عن الأمان في فلسطين". ثم يضيف ممجدا أنه "بالرغم من الصعوبات الكبيرة فإنهم (أي اليهود) أنشئوا المصانع وبنوا مدنا جديدة وحولوا الصحراء القاحلة إلى مزارع". دون الإشارة إلى ما سببه أولئك "الذين جاءوا بحثا عن الأمن" من ضرر لأصحاب الأرض الأصليين ومن جاورهم.
وأشار الكتاب إلى عدم رضا منظمة حماس عن مسلك عرفات مع إسرائيل، ونعت حماس بالجماعة الراديكالية، وذكر أنها ابتدأت هجمات على إسرائيل. ولم يتعرض إلى موقف المتطرفين من اليهود، ـ وهو في الواقع موقف الدولة الصهيونية وإن اختلفت أساليبها ـ القاضي بالاحتفاظ بالأرض وعدم إعطاء الفلسطينيين حق إقامة دولة مستقلة. وعندما أشار إشارة عابرة إلى موقف المتطرفين اليهود وانتقادهم لرئيس وزرائهم رابين علل تشددهم ذلك بأنهم لا يثقون بعرفات الذي سعى لتدمير إسرائيل. وعبر عن ذلك بأنهم "نقدوا محادثات السلام نقدا لاذعا" BITTERLY CRITICISED (ص 918) مع أنه ذكر أن الأمر تطور إلى قتل رابين! ومع ذلك لم يستخدم كلمة "راديكاليين" أو "إرهابيين" مع اليهود.
وفي الجملة، فالكتاب يصور اليهود على أنهم أصحاب حق تاريخي وإلهي في أرض فلسطين، ويطرح الأمر على أنه مسلمة غير قابلة للجدال. وبرغم أنه يصور ما يقوم به الفلسطينيون من أعمال حرب على أنه محاولة لنيل الاستقلال، إلا أنه لا يتردد في وصفه بأنه أعمال إرهابية ضد دولة قائمة تسعى للسلام ولها حق البقاء.
ثالثاً : اعتماده على "الكتاب المقدس"! :
أكثرَ الكتاب من ذكر النقول الدينية التوراتية التي تعطي لليهود الحق في الأرض الموعودة، أرض فلسطين، مستغلا في ذلك، فيما يظهر، خلفيات الطلاب التي هي في(115/705)
الغالب يهودية نصرانية Judi-Christian. مع أن المعتقدات الدينية لأمة من الأمم ليست هي الفيصل في الحكم بين الأمم.
افتتح هذا القسم ص ( 916 ) (الشرق الأوسط والعالم) بنص من التوراة، حاكيا له عن بن جوريون أول رئيس وزراء إسرائيلي. يقول النص:
"إن الأرض التي عدنا لنرثها، هي ميراث آبائنا وليس لغريب فيها شيء البتة، ... فلقد أخذنا ميراث آبائنا وسكنا فيه" .
من خلال تحليل لما يتعلق بهذه القضية يتبين أن الكتاب سعى لإيصال الرسائل التالية بشكل غير مباشر:
اليهود أصحاب حق تاريخي وإلهي بنص التوراة في فلسطين، وسعى لذلك من خلال نقل النصوص الدينية ومن خلال ذكر تأريخهم في تلك الأرض.
عانى اليهود على مدى التأريخ من اضطهاد الآخرين لهم، دون مبرر، وسعى لذلك بتفصيل وتضخيم الأحداث التي وقعت لليهود عبر التأريخ.
كان نشوء إسرائيل طبيعيا بعد الحرب العالمية الثانية، في أرض هي في الأصل أرض آبائهم.
عانت إسرائيل، الدولة المسالمة، من حروب العرب وانتصرت فيها جميعا، كما عانت من إرهاب الفلسطينيين، وذلك من خلال ذكر أمثلة محددة لأعمال عنف ضد الإسرائيليين دون ذكر أي مثال على أعمال اليهود الإرهابية، سواء قبل قيام "دولة" إسرائيل أم بعده.
وقد استغل الكتاب لإيصال هذه المجال المعرفي، فكان انتقائيا في تقديم معلومات وإخفاء أخرى، مع عدم مراعاة التوازن في كل موضوع، كما استغل أيضا المجال الوجداني وذلك من طريقين:
1. بانتقاء الكلمات المستخدمة مع كل من الجانبين بحيث توصل معاني ذات دلالة، مثل استخدام كلمة "كسب" مع الجانب الإسرائيلي، وكلمة "راديكالي" أو "إرهابية" مع الجانب الفلسطيني
2. انتقاء المواقف التاريخية التي تثير التعاطف مع الجانب الإسرائيلي وإغفال ذلك تماما مع الجانب الفلسطيني.
ويلاحظ أن هذه الرسائل وما تحمله من معانٍ تتسق تماما مع الموقف الرسمي للسياسة الأمريكية من هذه القضية.
والجدول التالي يلخص طريقة تقديم المعلومات في عدد من الموضوعات الرئيسية :
جدول يلخص تغطية الموضوعات فيما يخص الجانبين
الفلسطينيون ... اليهود ... الموضوع
لم يذكر البتة ... ذكره في قسم كامل ... أصول الشعب
لم يشر لمطالبتهم بدولة مستقلة، واعتراض إسرائيل على ذلك ... ذكره باقتضاب، مع إغفال ما قام به اليهود من أعمال عنف وإرهاب ... نشأة الدولة
لم ينقل عن كتب المسلمين شيئا. ... ذكر أكثر من نص، تؤكد حق اليهود في فلسطين ... نقول من الكتب المقدسة
لم يذكر عنها شيئا البتة، إلا لمحة قصيرة عن الانتفاضة.(115/706)
لم يذكر أنهم يريدون فقط الأمن في وطنهم! ... ذكرها قديما وحديثا، بشيء من التفصيل، كما في ألمانيا. وأشار إلى أنه بالرغم من الصعوبات فقد أنشأوا المصانع في فلسطين واستصلحوا أرضها للزراعة.
ذكر أن هجرتهم لفلسطين كانت بحثا عن وطن آمن. ... المعاناة
لم يذكر شيئا عنهم ... أسهب فيه وذكر تفاصيل لا شأن لها ... التأريخ
ذكر أمثلة لما صدر منهم، ولم يذكر ما تعرضوا له.
لم ينسب قتل رابين إلى جماعة يهودية متطرفة ... ذكر أمثلة لما تعرضوا له، ولم يذكر شيئا عما صدر منهم.
ذكر أن حماس جماعة راديكالية، تعارض محادثات السلام. ... ربطهم بالعنف
ثانياً : الكتاب الثاني :
دراسة تحليلية لكتاب التاريخ الأمريكي " في المرحلة الثانوية في ولاية فرجينا " : د. عبد الله بن عبد العزيز الموسى
وصف الكتاب :
عنوان الكتاب وعنوان هذا الكتاب هو (American History: the easy way) ويعني تاريخ أمريكا الطريقة الأسهل.
البلد الذي يدرس فيه الكتاب : أمريكا ، ولاية فريجينيا .
مؤلف الكتاب هو William O. Kellogg ويعمل معلما في مدرسة سانت بول في ولاية نيو هامبشر.
الناشر : Barron's Educational Series, Inc
تاريخ النشر: 1991م للطعبة الأولى أما الطبعة الثانية – التي سوف يتم تحليلها- فنشرت في عام 1995.
المرحلة الدراسية التي يدرس فيها الكتاب: المرحلة الثانوية High School.
الكتاب كبير الحجم ، وعدد صفحاته ( 438 ) أربعمائة وثمان وثلاثون صفحة .
نماذج من محتوى الكتاب :
الفصل الخامس فقد تناول الفترة من 1801- 1850 و التي تم فيها تقسيم أمريكا إلى ولايات وقد ظهر في هذه الفترة المعتقد الديني وهو أن التقسيم كان بإرادة الله، وأن الله اختار أمتنا لكي تعلب دوراً في التاريخ. كما يتضح في هذا الفصل تمجيد لبعض الشخصيات التي كان لها أثر من التاريخ الأمريكي. من جهة أخرى ركز هذا الفصل على موضوع الحروب الداخلية وأنه كان سبب رئيس في تقسيم الولايات الأمريكية إلى ولايات.
والفصل الثامن فقد تناول الكتاب التغيرات الاجتماعية للحياة في الولايات المتحدة الأمريكية والتي بدأت تتشكل منذ عام 1865-1914 م . وقد تناول المؤلف في هذا الفصل نظرية دارون وأنه كان لا أثر كبير في المجتمع، كما تحدث عن عصر الصناعة التجارة في هذه الفترة، كما تناول الكاتب الهجرة إلى الولايات المتحدة من البلاد الأخرى وخاصة التي مرت في ظروف اقتصادية. كما تناول هذا الفصل الحريات الخاصة بالمرأة والإعلام، كما تناول الكتاب الانتقال من حياة القرى إلى(115/707)
حياة المدن. من جهة أخرى فقد أكد هذا الفصل تأثر المجتمع بنظرية دارون في تلك الفترة.
والفصل العاشر فقد خُصص عن الحرب العالمية الأولى وموقف الولايات المتحدة الأمريكية من هذه الحرب. وقد تحدث هذا الفصل عن تمجيد واضح لدور الولايات المتحدة الأمريكية في هذه الحرب وأنها حاولت الدخول في هذه الحرب من مبدأ إنقاذ الشعوب من الظلم والطغيان وكذلك نشر الحرية والسلام والديموقراطية.
القيم و المبادىء والمفاهيم التي ركز عليها الكتاب :
المتتبع لعرض الكتاب يجد أن المؤلف يقوم بعرض المحتوى وتفسيره تفسيراً و عرضاً إيجابياً لصالح الولايات المتحدة الأمريكية، فمثلاً دخول أمريكا للحرب العالمية الأولى والثانية كان من أجل إنقاذ الشعوب المظلومة وبسط الحرية والديموقراطية، ولم يتحدث المؤلف والأسباب والعوامل الخفية مثل العوامل السياسية والاقتصادية التي تجعل أمريكا تشارك في هذه الحروب، ولذا فقد جاء محتوى النص مفسراً تفسيراً إيجابيا مطلقاً لصالح الولايات المتحدة الأمريكية .
ويلاحظ أن الشخصية التي يدور عليها الموضوع هي شخصية تاريخية وتمجيد للفرد الأمريكي، حيث يركز الكتاب في نهاية الكتاب على بعض الأشخاص الذين كان لهم دور بارز في تلك الفترة .
أما أهم القيم والمبادىء والمفاهيم التي وردت في الكتاب فهي مايلي:
أولاً : التمجيد للشعب الأمريكي:
من خلال قراءة الكتاب يتضح في أن هناك بروز لمفهوم الأنا الأمريكي وتمجيده في كل فصل دراسي وأن هناك أباطرة وأشخاص أمريكان صنعوا التاريخ الأمريكي وساهموا في بناء حضارته مع تجاهل واضح لمن شاركهم في صنع تلك الحضارة وخاصة الأوربيين وبعض الآسيويين الذين هاجروا إلى تلك البلاد. كما يلاحظ أن هناك إلغاء لبعض الحقائق التاريخية حيث يقرر الكتاب أن أمريكا لم تكتشف من قبل كريستوفر كولومبس بل أن الشعب الأمريكي موجود منذ أكثر من ( 5000 ) سنة دون الاستناد على أي مصدر تاريخي.
ثانياً : مفهوم الهوية وتشكيلها:
يلمس قارىء الكتاب أن هناك بروز روائح لمفهوم ( الأنا الأمريكية) وتمجيد القادة والعظماء الذين كان لهم اليد الطولى في صنع تلك الحضارة، وهذا لاشك سوف يساهم في تعزيز الهوية الإيجابية لدى الطلاب وبالتالي فقد يكون الشعور بالقوة وعدم القهر والقدرة على تحقيق أي شيء ذا أثر سلبي على الطلاب، لاسيما عندما يتم ربط هذا بعدم ذكر من ساهم في صناعة هذا المجد الأمريكي وأن هذه الحضارة بُنيت بأيدي أمريكية.
ثالثاً : الدين
تناول الباحث الدين كأحد العوامل التي ساهمت في توطين المجتمع الأمريكي، إلا أن هذا العرض للدين كان من جهة واحدة وهو الدين النصراني وجاء ذكر الكنيسة في أكثر من مرة ولم يتحدث الكاتب عن الأديان ومقارنتها أو على الأقل ذكرها، بل إن الدين الإسلامي لم يذكره الكاتب إلا مرة أو مرتين وتم عرضة بطريقة هامشية، حيث(115/708)
جاء ذكر الدين الإسلامي في موضع واحد وهو عندما ذكر الكاتب ( مالكومكس ) قال أنه جاء بطريقة جديدة للأفارقة الأمريكان ولم يتحدث عن الدين الإسلامي كدين إلهي فمثلا عنون لهذا الموضوع (Black Muslims) وكأن الدين خاص بالسود فقط ، وعندما تحدث عن الموضوع قال بنص الحرف الواحد ( Malcolom X presents a new approach to gaining equality for African Americans)) وهذا لاشك تحيز واضح للديانات الأخرى وتهميش للدين الإسلامي. كما نلاحظ أن الكاتب تناول دور الكنيسة في إصلاح المجتمع الأمريكي وحثه على القيم والأخلاق وأن لها دور واضح في تحديد ملامح وتوجهات الشعب الأمريكي.
رابعاً : ثقافة الحرب في مقابل السلام:
يلاحظ في هذا الكتاب شيوع ثقافة الحرب مقابل السلام ، ويتضح هذا من خلال استخدام العبارات : حرب، غزو، فتح، معركة، هجوم، نزاع، مقاومة ، قوة،قتل،الطغيان ،نصر، هزيمة، تحكم، سيطرة ، قمع ، ..الخ. حيث يشير الكاتب إلى هذه الكلمات في جميع الفصول التي تناولها الكتاب وأن لها دور واضح في التاريخ الأمريكي، وهذه المصطلحات تؤكد لدى الناشئة أن هذا المجد وهذا التاريخ الأمريكي لم يتكون بسهولة بل أن هناك حروب دامية كانت وراء هذا المجد بدأت بمقاومة القادمين من أوربا والمحتلين لهذه البلاد في القرن السابع عشر والثامن عشر الميلادي. كما أن الحروب استمرت في القرن التاسع عشر الميلادي وخاصة الحروب الداخلية بين الولايات، مروراً بالحرب العالمية الأولى والثانية، وأن ما تحقق للولايات المتحدة الأمريكية لم يكن بسهولة بل بسيل من الدماء كما عبر عنه الكاتب، وهذا العرض لاشك يؤثر على الناشئة بطريقة مباشرة أو غير مباشرة وخاصة عندما يشعر أنه لامانع من سفك الدماء من أجل الحفاظ على هذه الأمة الأمريكية.
خامساً : الرأسمالية:
من خلال فصول الكتاب يتضح بما يدع مجالا للشك أن هناك دعوة دائمة إلى الرأسمالية والتركيز عليها، وترسيخ فكرة أن رأس المال هو الأساس وهو عصب الحياة ، وأنه لا مانع من سفك الدماء وخداع الآخرين في سبيل تحقيق مصالح ومكاسب مادية، كما نلاحظ أن التنظيمات المالية والإدارية التي تتم بين الفينة والأخرى تهتم بالإصلاح الاقتصادي والمالي.
سادساً : المركزية:
ركز المؤلف على مفهوم السلطة المركزية ، وذكر أن الإصلاحات التي تمت كانت عن طريق الحكومة الفيدرالية وأنها مصدر القرارات كما تناول الكاتب أن تأسيس المحكمة العليا في الولايات المتحدة الأمريكية للفصل في القضايا التي كانت بين الولايات ، وأنها المرجعية الأولى في ذلك .
من جهة أخرى تم استخدام الدين في تأكيد المركزية ويظهر هذا جليا في قضية تقسيم الولايات وأن هذا كان بإرادة الله وأنه اختار لهذه الولايات أن تكون كذلك.
سابعاً : السياسة :(115/709)
مفهوم السياسة اتضح جليا في هذا الكتاب وركز علية المؤلف باعتبار أن دراسة التاريخ هي في الأصل دراسة سياسية ، فالهدف من دراسة الماضي هو أخذ العبر والدروس ، والهدف من دراسة الحاضر هو التنبؤ للمستقبل والتخطيط له في ضوء معطيات العصر الحاضر.
والمتتبع لهذا لكتاب يجد أن المؤلف بالغ في الجانب السياسي وتم تفسير الأحداث التي تمت من وجهة نظر سياسية فالحروب الداخلية وسفك الدماء والقمع الذي تم لبعض الشعوب والقبائل كله في سبيل رقي المجتمع وتطهيره من المتسلطين الأجانب إن صح التعبير.
من جهة أخرى نجد أن بعض رجال الدين حاول تبرير استعباد الناس من فلاحين وغيرهم إلى أن الله تعالى خلقهم ليكونوا كذلك, فهم سيظلون عبيداً وفقراء. لذا فإن معظم المفردات السياسية التي وردت في هذه المرحلة تدور في إطار: الظلم, والقمع, والعبودية، والمحاولة لتبرير ذلك بأن الدخول في تلك الحروب هو من أجل أن يعم السلام سواءً على مستوى الولايات المتحدة الأمريكية أو على مستوى العالم وخاصة عند ذكر المبررات التي قادت أمريكا للدخول في الحروب العالمية الأولى والثانية .
المناهج الفرنسية
بحث الدلالات القيمية والثقافية والتربوية في كتاب القراءة : للثالث المتوسط – فرنسا . أ.د. امحمد بوزيان تيغزه
وصف الكتاب :
هو كتاب القراءة للسنة الثالثة من دورة التوجيه ( السنة الأخيرة من التعليم المتوسط)، الذي أشرف على وضعه وتأليفه أربع مختصين في الأدب الكلاسيكي والأدب الحديث (مع تأليف كتب القراءة الأخرى لتغطية جميع سنوات التعليم المتوسط) ، بتكليف من دار النشر الشهيرة في تأليف ونشر الكتب المدرسية: لاروس ـ بورداس Larousse- Bordas .
Francoise Colmez; Marie-Loise Astre; Marc Defradas; Manuela Rousselot (1999) FRANCAIS: 3eme ; Nouvelle Collection : L’ART DE LIRE . Larousse- Bordas.
محتوى الكتاب :
أولاً : من الأهداف المعلنة للكتاب : مساعدة التلاميذ أو الطلاب على بناء أسس ثقافة فردية أو شخصية (culture personnelle ). أي أن الطالب يشارك بمساعدة كتاب القراءة في بناء مرجعية قيمية ومعيارية فردية، التي ـ وإن انطوت على مواطن تقاطع والتقاء مع مرجعيات الأفراد الآخرين في المجتمع ـ إلا أنها لا تخلو من بصمات الفرد في تشكيلها وبنائها.
أن كتب القراءة الفرنسية تقدم صورة عن العرب تعكس القوالب الجامدة التي كانت سائدة عن العرب في الحقبة الاستعمارية. ففي كتب القراءة للمرحلة الابتدائية تبدو الصورة مقولبة وذات نزعة استعمارية ماضية قوية.
ثانياً : نماذج من القيم الفرنسية التي احتواها الكتاب : تبطن النصوص الشارحة قضايا حرجة، ولعل أهمها قضية الهوية (الفرنسية)، قضية التمييز العنصري، قضية علاقة تكافؤ الفرص بالجنس والعرق والجنسية، قضية المواطنة الفرنسية وإشكالية(115/710)
اندماج الأجانب ومعاملتهم، قضية تأثير التطور التكنولوجي (الجوال كمثال) على الاتصال الاجتماعي المباشر، قضية الاستنساخ ومعضلاته الأخلاقية. وهذه القضايا الحرجة ، على اختلافها الظاهري لها قواسم قيمية كامنة مشتركة وهي:
(أ) الحرية الفردية،
(ب) الحقوق الفردية ( أجنبيا كان أم فرنسيا)،
(ج) المساواة الفعلية، (د) تثمين الإنسان،
(هـ) صيانة كرامة الإنسان فرنسياً كان أم أجنبياً، وأخيراً .
(و) الاتصال أو التواصل كبعد إنساني اجتماعي حيوي .
ثالثاً : اتجاه الكتاب نحو العرب : لقد استخلصت الباحثة سنترا ( Cintrat, 1983 ) عند تحليلها صورة المهاجر إلى فرنسا من خلال تحليل مادة ثمانية وثلاثين كتاباً للقراءة للمرحلة الابتدائية، التي أصدرتها خمسةً عشر داراً للنشر خلال الفترة التي تتراوح بين 1957 إلى 1980، وجود اتجاه نحو إهمال العرب في كتب القراءة، وأن طريقة اقتباس وتقطيع النصوص تلغي تماما وجود شريحة واسعة في المجتمع الفرنسي وهم المهاجرون من الجزائر والمغرب وتونس إلى فرنسا للعمل.
وتذهب نصر في كتابها الذي يرصد صورة العرب والإسلام في الكتب المدرسية الفرنسية، بعد تحليل عدد كبير منها، إلى أن كتب لقراءة الفرنسية تقدم صورة عن العرب تعكس القوالب الجامدة التي كانت سائدة عن العرب في الحقبة الاستعمارية. ففي كتب القراءة للمرحلة الابتدائية تبدو الصورة مقولبة وذات نزعة استعمارية ماضية قوية. وعلى الرغم من تعليمات وزارة التربية التي أوضحت المبادئ العامة للتعليم الفرنسي في المدارس والكليات تؤكد على تسهيل الاندماج في المجتمع الفرنسي ، والانفتاح على التعدد الثقافي، والتعرف على الثقافات والقيم الأجنبية، فإن الصورة التي نستخلصها للعرب من تحليل كتب القراءة للمرحلة الابتدائية لا تتماشى مع هذه المبادئ العامة، ولا تولد لدى التلاميذ في فرنسا إلا صورة مزيفة عن الآخرين، وعن أنفسهم. فهي توحي للتلاميذ الفرنسيين، اقتباسا من الماضي، بالإحساس بالتفوق الطبيعي، كما توحي للتلاميذ من ذوي الأصل العربي بإحساس سلبي ناشئ عن تحقير شأنهم وتشويه صورتهم. ومن شأن الخجل المكبوت لدى الصغار من ذواتهم أو من ذويهم أن يولد في نفوسهم ضيقا وعذابا قد يتحولان في ما بعد إلى اختلال في النظام أو إلى ثورة موجهة إلى المصدر الدافع إلى رفضهم وتحقيرهم وذويهم.
المناهج في بريطانيا
أولاً : الكتاب الأول :
بحث عن كتاب التاريخ في المنهج البريطاني: محاولة في تحليل الخطاب التاريخي : د. عبد المحسن بن سالم العقيلي
وصف الكتاب :
عنوان الكتاب Realms: The Medieval,وهو ما يمكن ترجمته ب"ممالك أو عوالم القرون الوسطى".
البلد الذي يدرس فيه الكتاب : بريطانيا.(115/711)
المؤلف : Nigel Kelly
الناشر : Heinemann Educational Publishers
تاريخ النشر: 1991م.
المرحلة الدراسية التي ألف لها الكتاب: المرحلة الثانويةSecondary School والتي تبدأ بحسب النظام التعليمي البريطاني من سن 11-18 سنة.
السنة الدراسية التي ألف لها الكتاب: السنة الأولى لهذه المرحلة.
الكتاب متوسط الحجم.
عدد صفحات الكتاب ( 64 ) أربع وستون صفحة.
وصف المحتوى :
لعل من أهم ما يلفت النظر عند تحليل النصوص المشكّلة للخطاب التاريخي في المناهج البريطانية هو الحضور الطاغي لمفهوم الأنا الإنجليزي الغربي بمختلف تجلياته التاريخية والثقافية والاجتماعية ؛ إذ تتمحور معظم النصوص حول تعزيز الذات الإنجليزية وتتجاهل " الآخر ". وأحياناً يُستخدم الدين النصراني لإضفاء معنى على الوقائع والأحداث، سواء في مجال تفسيرها أو تبريرها، وأحياناً أخرى تحضر المفردات الدينية بشكل طاغ في معظم النصوص .
معظم نصوص الكتاب مرتبطة بشكل بارز بالمعتقدات المسيحية، وذلك من خلال توظيف الرموز والأحداث والإشارات الدينية ، بما يفضي إلى تشكيل شخصية الناشئة وتعزيز هويتهم الثقافية والتاريخية والدينية.
مكونات الجهاز المفاهيمي للخطاب التاريخي في الكتاب:
أولاً : مفهوم الأنا في مقابل الآخر:
لعل من أهم ما يلفت النظر عند تحليل النصوص المشكّلة للخطاب التاريخي في هذا الكتاب هو الحضور الطاغي لمفهوم الأنا الإنجليزي الغربي بمختلف تجلياته التاريخية والثقافية والاجتماعية؛ إذ تتمحور معظم النصوص حول تعزيز الذات الإنجليزية وتتجاهل " الآخر " المختلف حتى من داخل السياق الأوروبي نفسه باستثناء إشارات يسيرة إلى بعض القادة الفرنسيين أو النورمانديين عند الحديث عن الحروب والغزوات التي تمت بينهما إبان العصور الوسطى, وهي (أي القرون الوسطى) الموضوع الرئيسي لنصوص الكتاب. ورغم أن هناك نصاً كاملاً خاصاً بالحروب الصليبية إلاّ أنه لم يشر إلى أيّ شكل من أشكال ثقافة الآخر الإسلامي, وإنما طفق النص يرسم صورة مثالية أسطورية لقادة الحروب الصليبية وخصوصاً القائد الإنجليزي ريتشارد الأول ، وكيف أن شجاعته في مقابل صلاح الدين الأيوبي في المعركة منحته لقب ( قلب الأسد ).
ولا يقف الاتجاه الإيجابي نحو تعزيز مفهوم "الذات" الواعي عند هذا المستوى ، بل يتجاوزه إلى مستويات لا واعية مثل الإشارة إلى مشاركة جيشين من الأطفال المسيحيين في الحروب الصليبية، حيث ُأخرجت الفقرة المتضمنة لهذه الإشارة بشكل بارز وعنوان كبير مشفوعة بالمصدر التاريخي الذي استقيت منه هذه المعلومة. وإذا كان النص لا يتضمن إشارات صريحة ومباشرة ضد ( الآخر) المختلف ،إلا أنه لا يخلو من إيماءات سلبية (لم يقلها النص وإنما أوحي بها ) مثل الإشارة إلى أن باعث(115/712)
الحروب الصليبية هو رفض المسلمين السماح للمسيحيين بالحج إلى القدس وزيارة المسيح ،كما أنهم (أي المسلمين) قتلوا من لم يستمع إلى تعليماتهم. وهناك أيضاً إيماءات سلبية نحو الآخر الأفريقي, حيث تشير إحدى الفقرات إلى أن بعض الأطفال المشاركين في الحرب الصليبية قد بيعوا في أفريقيا بوصفهم عبيداً.
وإذا كان النص لا يتضمن إشارات صريحة ومباشرة ضد ( الآخر) المختلف ، إلا أنه لا يخلو من إيماءات سلبية (لم يقلها النص وإنما أوحي بها ) مثل الإشارة إلى أن باعث الحروب الصليبية هو رفض المسلمين السماح للمسيحيين بالحج إلى القدس وزيارة المسيح ،كما أنهم (أي المسلمين) قتلوا من لم يستمع إلى تعليماتهم. وهناك أيضاً إيماءات سلبية نحو الآخر الأفريقي, حيث تشير إحدى الفقرات إلى أن بعض الأطفال المشاركين في الحرب الصليبية قد بيعوا في أفريقيا بوصفهم عبيداً.
ثانياً : مفهوم الهوية وتشكيلها:
مرّ معنا في الفقرة السابقة كيف أن النص التاريخي مترع بما يغذي مفهوم " الأنا " الحضاري وهو ما سينعكس إيجابياً على تشكيل مفهوم "الهوية" المتمركز حول الإرث الحضاري المتنوع للثقافة الإنجليزية .
وإذا كانت الهوية طائراً يحلق بجناحين : الدين واللغة، فإن الخطاب التاريخي هنا قد اعتمد على هذين البعدين ( الجناحين ) .
فأحياناً يُستخدم الدين النصراني لإضفاء معنى على الوقائع والأحداث، سواء في مجال تفسيرها أو تبريرها، وأحياناً أخرى تحضر المفردات الدينية بشكل طاغ في معظم النصوص .
على أية حال, نعود إلى الحديث عن البعد الأول المشكل للهوية، وهو الدين. فنقول إنه رغم أن النفس الديني النصراني واضح في ثنايا معظم النصوص، إلا أنه يأخذ تعبيره الأوضح في تخصيص أربعة نصوص تحمل عنوانات دينية، مثل: الكنيسة وانتشار المملكة المسيحية، الحروب الصليبية المقدسة، المعتقدات الدينية، الحياة في الأديرة. وفي هذه النصوص تصور الشخصيات الدينية بمسمياتها المسيحية ( راهب، ناسك، أساقفة، مطارنة، كاهن...) بوصفها رموزاً ذات حضور ديني واجتماعي مميز في الأغلب، وذلك من خلال مساعدة هذه الشخصيات الدينية للناس كي ُيكَفّروا عن خطاياهم, وعطفهم على الفقراء، وأحياناً الانقطاع عن الحياة الدنيوية للأعمال الجادة من عبادة وتثقيف للعامة.وُتعنى معظم النصوص بصياغة الرمز ـ القدوة ( أو النموذج المثالي ) لرجل الدين، وذلك من خلال عرض صور متعالية في إخلاصها للمبدأ، إذ ُيشار في أكثر من موقع إلى أن كثيراً من الأغنياء (يترهبنون) ويتخلون طوعاً عن أموالهم الطائلة وإقطاعهم من أجل خدمة الكنيسة والعبادة والقراءات الدينية.
هذا من جهة, ومن جهة أخرى ، فإن هناك تركيزاً على الدور الذي أداه بعض رجال الدين المسيحيين في محاربة الظلم والطغيان في العصور الوسطى، ومساعدة الفلاحين في ثورتهم.
وفيما يتصل بتعزيز الهوية الدينية, تتضمن النصوص التاريخية إشارات إيجابية للحملات التبشيرية في نشر المسيحية، وُتشفّع بعض النصوص بخرائط تصور مدى(115/713)
انتشار المسيحية ومقارنتها بالإسلام، وتحدد على ذات الخرائط بعض المواقع التي كانت إسلامية ثم تحولت إلى المسيحية. وفيما يتعلق بالاعتناء بالرموز الدينية, تصرح النصوص أن الكنيسة ليست مكاناً للعبادة فقط, ولكنها رمز للمنظمة المتكاملة المعتنية بالدين.
أضف إلى كل ما تقدم، أنه لا يخلو أيّ نصٍ من النصوص التي يتضمنها الكتاب، حتى وإن كان لا علاقة له بالدين صراحة، من إشارات ومصطلحات دينية. إن صفحةً واحدة من صفحات الكتاب شملت أكثر من ثمان وعشرين مفردة دينية, مثل: خدمة الكنيسة، العبادة، القراءة الدينية، الرهبان، الأساقفة....الخ.
على صعيد البعد الثاني المشكل للهوية الدينية الحضارية, وهو اللغة. خُصص نص مستقل للحديث عن التطور الذي مرت به اللغة الإنجليزية، وكيف أنها استطاعت أن تصهر مختلف التنويعات اللغوية واللهجية في بوتقة واحدة وهي الإنجليزية المعاصرة. ولعل من أهم القضايا التي ارتكز عليها هذا النص: النجاح في توحيد اللغة الإنجليزية في شكل لغوي واحد، وانتشار اللغة الإنجليزية، وتوظيف المخترعات التقنية في ذلك، وتطوير معيار لغوي كتابي لها.
ثالثاً : سيادة ثقافة الحرب في مقابل السلام:
المعجم اللغوي ـ الدلالي السائد في معظم النصوص المشكّلة للخطاب التاريخي في هذا الكتاب هو ما يمكن أن يطلق عليه " معجم ثقافة الحرب " وما يندرج تحت لفظة " الحرب " من مترادفات أو كلمات تنضوي تحت الحقل الدلالي نفسه، مثل: حرب، غزو، فتح، معركة، حملات عسكرية، فرسان، سلاح، حصون، قلاع، هجوم، نزاع، مقاومة ، قوة، قتل، الطغيان، فيالق،نصر، هزيمة، التحكم، السيطرة ، القمع ، ..الخ. وتتنوع مستويات وآليات العرض لثقافة الحرب والاقتتال في منظومة الخطاب منها-مثلاً -المستوى اللغوي, والمتمثل في شيوع هذه الألفاظ الحربية والعسكرية ومترادفاتها ومتلازماتها الدلالية، إذ تفيض بها معظم النصوص. كما أن هناك آلية لغوية أخرى وهي تضمن العناوين نفسها لمفردات حربية وعسكرية، وهذا الأمر ليس قاصراً على النصوص فقط؛ بل إنه يمتد ليشمل وحدات كاملة, يندرج تحتها مجموعة من النصوص التي تعالج الموضوع الرئيسي للوحدة. ومن الأمثلة على ذلك, أن الوحدة الأولى من الكتاب عنوانها " الغزو النورماندي ", وتتضمن هذه الوحدة سبعة نصوص تبحث الغزو وأسبابه وما نتج عنه من آثار. كما أن هناك نصوصاً داخل الوحدات الأخرى، مثل: حروب العصور الوسطى ، والحروب الصليبية.
المستوى الآخر من مستويات عرض ثقافة الحرب والقتل مستوى غير لغوي ( إذا نظرنا إلى اللغة بالمعنى الكلاسيكي لها بوصفها مفردات وتراكيب)، ويتمثل هذا المستوى في مجموعة الصور والرسوم المصاحبة للنصوص التي تصور القادة أو الأمراء العسكريين وهم يقتلون أعداءهم, والكتاب نفسه يصنف هذه الرسوم بوصفها مصادر للمعلومة التاريخية، بالإضافة إلى الرسائل المضمنة التي تنقلها تلك الرسوم.
رابعاً : الخطاب في مقابل السلطة:(115/714)
لعله من المناسب أن نقدم وصفاً سريعاً لما نعنيه بمفهومي : الخطاب والسلطة قبل الدخول في تحليل التمثلات المعرفية الخاصة بهما وتوظيف المعرفي- السلطوي في بنية الخطاب. و يمكن إيجاز مفهوم " الخطاب " بأنه مجموعة النصوص المتداخلة التي تشكل خطاباً فكرياً ومعرفياً, أما مفهوم " السلطة " فهو لا يعني-بالضرورة- هنا السلطة السياسية المادية بأجهزتها الأمنية أو هياكلها التنظيمية، وإنما نعني به السلطة في جانبها المعرفي ، أي السلطة بوصفها سلسلة من المفاهيم أو شبكة من الممارسات، وبالتالي فإن المعرفة سلطة ، والنص سلطة، والقبيلة سلطة، والتقسيمات الإدارية والفئوية والطائفية تعد شكلاً من أشكال السلطة؛ بل إن علاقات الرحم والنسب والقرابة, وكذلك الممارسات اليومية المنزلية تعد مظهراً من مظاهر السلطة (صفدي,1991).
وإذا حاولنا أن نحلل الخطاب التاريخي في هذا الكتاب يظهر لنا أولاً أنه خطاب تاريخي سياسي مخادع ومخاتل, وذلك من حيث تمترسُ مضمرات نسقية وراء شعارات آيدلوجية لتبرير ما هو سياسي وسلطوي، وذلك من خلال خلع الطابع الديني على الحملات والحروب الصليبية ووصفها بالحرب المقدسة، فالخطاب هنا يتقنع بالصفة الدينية لشرعنة أهداف سياسية تقوم على السيطرة والتوسع.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى,فإن " الوظيفة الآيدلوجية " تبدو هي الأطروحة المركزية للخطاب التاريخي، ويتجلى ذلك في تكريس نصوص متكاملة للحديث عن مدى انتشار المسيحية وعلاقة ذلك بالحملات التبشيرية، وكذلك الحديث عن المعتقدات الدينية وربطها لا شعورياً بتعزيز مفاهيم الهوية والانتماء, أضف إلى كل ما تقدم, الحضور البارز للنفس الديني ورموزه وإشاراته.
بقى أن نشير إلى المظهر الرابع في محاولتنا تحليل الخطاب التاريخي في هذا الكتاب، وهو أن الخطاب يتضمن بعض الجوانب اللا عقلانية، ويتبدى ذلك في احتواء نصوصه على بعض المفاهيم الظلامية، مثل: نظام الإقطاع، والاستبداد، والمظالم السياسية والاجتماعية، والجور في المحاكم، والتفكير الأسطوري، والحرب، والقتل، وغياب مفهوم الإنسان.
ثانياً : الكتاب الثاني :
تحليل محتوى كتاب : مقتطفات من الأدب الإنجليزي ببريطانيا : د. إبراهيم بخيت عثمان
وصف الكتاب :
اسم الكتاب : مقتطفات من الأدب الإنجليزي
عام النشر : 200 / 2003 م
الكتاب تعليمي منهجي ( المرحلة الثانوية )
المنطقة التي يدرس فيها الكتاب : بريطانيا والمدارس التي تستخدم نفس المنهج في عدد من دول العالم .
وقد اشتمل الكتاب علي قسمين هما :
القسم الأول : مقتطفات من أدب التراث الإنجليزي .
القسم الثاني : مقتطفات من الأدب في الثقافات الأخرى .(115/715)
نموذج لقصيدتين من الشعر الإنجليزي :
القصيدتان للشاعرة الإنجليزية ( كارول اندفي ) التي ولدت عام 1955م في ( قلاسقو ) وكتبت القصيدتين موضع التحليل عام 1933م وهما قصيدة عيد الحب، وقصيدة ( قبل أن تكوني أمي ) .
ونود أن نشير هنا إلى الأسلوب الذي استخدمناه في جميع النصوص كي نتوصل إلى تلك المعاني والقيم وهو عبارة عن الرجوع إلى بعض المصادر التي أكدت أن المضامين الواردة في النصيين موضع التحليل وفى غيرها من النصوص لها مرجعية ثقافية وتاريخية في التراث الإنجليزي والروماني واليوناني .
وسوف نورد في ما يلي تكرار ورود المفاهيم الأكثر وضوحاً في النصين من جانب وورودها في الثقافة الإنجليزية من جانب أخر وصولاً ألي أن ما كتب هو نتاج لقيم متجذرة في الأعماق تم تداولها وانتقالها من جيل ألي جيل للمحافظة على الموروث الفكري الذي ينبثق منة السلوك والعادات التي تكون هوية الأمة وشخصيتها .
مرجعية الشاعرة في ما تكتب خيالها الخصب ولحظتها الراهنة وماضيها الحبيب ألي نفسها ، شعرها هو تجربتها اليومية مع أشخاص واقعيين .
وقد خلدت الشاعرة بعض القيم التي تعتز بها وتلك التي مارستها أمها بدءاً بالعلاقات مع الرجال وانتهاءاً بالرقص والغرام مروراً بالجلسات الرومانسية والضحك وتناول المسكرات .
المضامين التي وردت في القصيدتين وهي :
الرقص – الغناء – الحب – الكنيسة – الخمر
1 ) الرقص :
وردت كلمة الرقص فى القصيدتين وفى بعض كتب التراث الإنجليزي في عدد من المواقع مما يشير ألي أن الرقص سلوك حيوي وهام في ثقافة الشاعرة وقد وردت كلمة الرقص في أكثر من ثلاثة عشر موضعاً في القصيدتين وبعض كتب التراث وتوضيح ذلك كما يلي :
أنا اعلم بأنك تودين أن ترقصين .
I knew you would dance imelda – p.2000:( 28)
اسم رقصة
cha- cha – cha
imelda – p 2000: ( 28 )
ج. تغمزين وترقصين في بورت بيلا
winking in portabello
imeida – p 2000 : ( 28 )
د. ورقصوا حولها
they dance round it
violet – A 1975 ( 23)
ه. أغنية رقصة نخب الحب
wassail song
( 24 ) imeida p 2000(115/716)
و. الرقص في كل المدينة
dance all over the town
imeida p 2000 ( 24 )
ذ. تتكون مجموعة الرقص من اثنا عشر شخصاً
the dance team consist of 12
david m and christina h 1983 ( 12 )
ح. الرقص وجهاً لوجه
dancing face to face
david m and christina h 1983 ( 13 )
ط. يماس الكتف الأيسر الكتف الأيسر للشخص الأخر
passing left shoulder to left shoulder
david m and christina h 1983 ( 13 )
ي. الرقص بالفراء
the furry dance
david and shristina h 1983 ( 43 )
ك. يرقص الناس فى الشوارع طرباً
the people danced in the street for joy
david and christina 1983 ( 12
ل. النساء الراقصات يرقصن بعد الرجوع من المدينة
the four women who dance also walk in hteir return
christina H.1975 ( 124 )
2 ) الخمر
أ. الكأس ابيض والخمرة وردية
the cup the white and the ale it is brown
violet A. 1975 ( 118 )
ب. شربنا جوار شجرة التفاح العتيقة
old apple tree we assail thee
violet 1975 ( 32 )
ج .مشروب شجرة التفاح المسكر
wassail the apple tree
violet 1975 ( 118 )
د. هيا لنشرب
to blow well and to bear well
violet 1975 ( 32 )
ه. دعنا نمرح ونشرب
so merry let us be
violet 1975 ( 32 )
و. كل رجل يشرب كأسا
every man drink his cup
violet 1975 (32(115/717)
3 ) الغناء
يجب أن نستمع ألي غناء الأطفال
we will listen to chi ldren singing
violet A. 1975 ( 32 )
اقبل وسوف أغنى لك
come and I will sing you
violet A . 1975 ( 79 )
ج . ماذا سوف تغنى لى
what will you sing me
violet A . 1975 ( 79 )
د. إنجلترا غنية بالرقص التقليدي والدراما
england is rish in traditional danse
violet A . 1975 ( 119 )
ه. رقصنا اعمق من أغانينا
our song is richer than our dance
violet A. 1975 ( 119 )
و . نغني من منزل الي منزل
from house to house singing
david M and chrictina H . 1983 ( 16 )
4) الحب :
أ . صباح الخير يا اله الحب
good morning to you valentine
violet A . 1975 (33 )
ب . ساكون لك إذا كنت لى
I will be yours if you will be mine
Christina h . 1975 ( 27 )
ج .ليلية حمراء اعطني شمعة أعطيني ضوءاً
give us acandle give us alight
violet A . 1975 ( 44 )
د. إذا أحبني افرح وإذا تركني أموت
if heoves me pop and fly – if he hates me lie and die
violet A . 1975 ( 71 )
ه. هو جميل وخجول احبه ألي أن أموت
he is hand some he is shy – I will take him till I die
violet A . 1975 ( 96 )
5 ) الكنيسة :
أ . نأخذها كل يوم أحد ألي الكنيسة
every Sunday taxied her to church
imelda and others . 2000 ( 10 )
ب .يقدم الطعام والشراب شفى الكنيسة
the footd and drink were to be given in the church(115/718)
david M . 1983 ( 47 )
ج .يذهب الأطفال ألي الكنيسة
the children go to the cervises in the church
christina H . 1975 ( 152 )
د . تزين المنازل والكنيسة بالورود
they decorated houses and parish church
christina H . 1975 ( 55 )
ه. توزع الهبات في ساحة الكنيسة
charity used to be dispensed in the churchyard
christina H. 1975 ( 145 )
و. غداء الجيران المحسنين يقام في شارع الكنيسة
good neighbourhood dinner is held in church street
christina H . 1975 ( 149 )
المناهج في أستراليا
أولاً : الكتاب الأول :
بحث تحليل محتوى كتاب العلوم الاجتماعية... استراليا : د. عبد الله بن ناصر الصبيح
وصف الكتاب :
عنوان الكتاب: الدراسات الاجتماعية والبيئية (SOSE) Studies of Society and Environment
الطبعة الثانية ، سنة النشر 2000
الناشر: مؤسسة جون وايلي والأبناء المحدودة في أستراليا
John Wiley and Sons Australia. Ltd.
عدد أجزاء الكتاب : يتكون الكتاب من أربعة أجزاء .
المرحلة الدراسية التي ألف لها الكتاب: والكتاب مقرر للمستويين الخامس والسادس ونصيب المستوى الخامس الجزءان الأول والثاني والجزءان الباقيان من نصيب المستوى السادس .
محتوى الكتاب :
أولاً : نماذج من أنواع التحيز المذموم التي امتلأ بها الكتاب :
ونورد هنا بحثين تناولا الكتب الدراسية في استراليا :-
1 . بحث تحليل محتوى كتاب العلوم الاجتماعية... استراليا ، د. عبد الله بن ناصر الصبيح
2 . بحث تحليل نقدي من منظور نفسي لمحتوى مقرر الدين للمرحلة الثانوية في استراليا ، د. طريف شوقي محمد فرج
من خلال مراجعة الباحث للكتاب بأجزائه الأربعة وجد أن فيه تحيزاً مع تظاهر المؤلفين بالحياد ودعوتهم إلى التعددية الثقافية، ووصفهم للمجتمع الأسترالي الذي يدرس الكتاب في مدارسه بالمجتمع المتعدد الأعراق والمتنوع الثقافة multicultural society (ك3 ص 112).(115/719)
ولكن هذا التركيز على التعدد العرقي والثقافي والديني يتناقض مع ما نجده في صفحات الكتاب من تحيز, وفيما يلي أنواع من التحيز أمكن تحديدها من خلال مراجعة الكتاب بأجزائه الأربعة :
1. التحيز بالإهمال: أغفل الحضارة الإسلامية فلم يعقد لها فصلا خاصا أسوة بالحضارات الأخرى التي خصها بفصول. والحضارة الإسلامية لها إسهامها الذي لا ينكر في الحضارة الإنسانية عامة وفي الحضارة الأوربية خاصة ولا يختلف اثنان حتى أولئك الذين لم ينصفوا الحضارة الإسلامية أنها كانت القنطرة التي عبر منها التراث اليوناني إلى أوربا.
2. التحيز بالتفصيل: عقد المؤلفون في الأجزاء الأربعة عشرة فصول تتناول التاريخ الأوربي في مراحله المختلفة في القديم والحديث، وبعض هذه الفصول خاصة بالتاريخ الأوربي فقط. وهذه الفصول هي : ك1: 3،4. ك2: 1،2،3. ك3: 4 ك4: 1،2، 4. وسوى التاريخ الأوربي كان نصيبه ربما فصلا واحدا كالصين القديمة أو مصر القديمة ، وفي بعض الأحيان لم يخصص له فصل لعرضه كالحضارة الإسلامية.
3. التحيز في المصطلحات: استخدم المؤلفون مصطلحات ومفاهيم خاصة بالتاريخ الأوربي وطبقوها على غيره. مثلا مصطلح العصور الوسطى طبقه المؤلفون على اليابان في فصل خاص بذلك. ومصطلح النهضة والإصلاح مصطلحات خاصة بالتاريخ الأوربي وتعبر عن فترة معينة في ذلك التاريخ أوردها الباحثون عنوانا لفصل من غير تقييد.
ومن الأمثلة على التحيز في المصطلحات بل التحريف فيها تعريفهم المؤلفين للوثني
عرفوا الوثني heathen بأنه الذي لا يعتقد بإله المسلمين أو النصارى أو اليهود. وهذا التعريف يفهم منه أن إله كل دين من هذه الأديان الثلاثة مختلف عن الآخر. وهذا ليس صحيحا.
وأدق من هذا لتعريف ما ورد في معجم ويبستر، فقد عرف الوثني بأنه من يعبد الأصنام أو آلهة متعددة (ص 838).
وعرفوا الوثنيين pagans بأنهم الذين يؤمنون بدين آخر غير النصرانية، أو بأنهم الذين يتبعون دينا غير مقبول.
وهذا التعريف مأخوذ من المسيحية، وقد تغير الآن فأصبح يطلق على من لا يؤمن بدين سماوي.
4.التحيز بالتحريف: في أثناء حديث المؤلفين عن أصول القوانين التشريعية ذكروا الأديان وكان حديثهم عن الإسلام ليس دقيقا حيث قالوا:"الأمة اليهودية يتبعون الوصايا العشر وقوانين التوراة والمسلمون يتبعون أركان الإسلام الخمسة" (ك2 ص 254). ومن المعروف أن الأركان الخمسة هي للعبادة وليست قوانين تشريعية. وبسبب هذا التصور الخاطئ عن الشريعة الإسلامية انتهى المؤلفون إلى نتيجة غير سليمة فقالوا:" و نحن في أستراليا اليوم نعد هذه القوانين الدينية قوانين أخلاقية، وهي ليس من الضروري أن تنفذ من قبل النظام القضائي"(ك2 ص 254). إن هذا الاستنتاج لا ينطبق على الشريعة الإسلامية.(115/720)
ثانياً : نموذج من محتوى الكتاب في التحيز المذموم :
عقد المؤلفون في الكتاب الثاني فصلا عنوانه الفارس الصليبي The Crusading
Knight
وقد جاء هذا الفصل مثالا على التحيز بالتشويه.
1 ) من التحريف:
يقول المؤلفون : وابتداء من القرن السادس بعد الميلاد أصبحت هذه المنطقة مكانا مقدسا مهما للمسلمين الذين هم أتباع الإسلام وتعاليم محمد ، فمحمد توفي وارتفعت روحه إلى السماء في القدس" (ص 48ج 2).
2 ) من التشويه:
لم يكن المؤلفون محايدين لما عرضوا وجهات نظر الأديان الثلاثة حول القدس. فقد عبروا عن الرؤية اليهودية والنصرانيه بالفعل "اعتقد" they believed أما المسلمون فعبروا عن وجهة نظرهم بالفعل "زعم" they claimed
أورد المؤلفون مقطعا من خطبة البابا أوربان وما أوردوه مقطع تحريضي مليء بالافتراءات على المسلمين، وكان الأولى أن يعلقوا عليه فيبينوا أنه ليس صحيحا أو لا يوردونه مطلقا. وإليك المقطع الذي أوردوه:
"وصلتنا أخبار مزعجة من منطقة القدس .. وهي أن قوما غرباء اقتحموا المنطقة النصرانية بالسلب والنار والسيف. والأتراك أخذوا بعض المسيحيين أسرى إلى بلادهم. وهم دمروا تدميرا كاملا بعض كنائس الرب. .. وهم دمروا مذابح الكنيسة ودنسوه بقذارتهم ونجاستهم. وكانوا سعداء بقتلهم البعض ببقر بطونهم وربط أمعائهم في العصي.
من الذي عليه أن يثأر لكل هذا؟
من الذي عليه أن يصلح كل هذا الفساد، إذا لم تقوموا أنتم بذلك؟
هذه الحقيقة يجب أن تستثيركم وهي أن ربنا ومخلصنا هو في أيدي هؤلاء الناس القذرين الذين بكل وقاحة انتهكوا المقدسات ولوثوها بنجاساتهم.
إن أولئك الذين تنتهي حياتهم الفانية في هذه الرحلة سائرين أو مجتازين أو في المعركة أمام هؤلاء الوثنيين يجب أن يحصلوا على مغفرة فورية لذنوبهم. وأنا أتعهد بذلك لجميع الذاهبين فأنا تسلمت ذلك هدية من الرب" (ك2 ص49).
هذا المقطع أورده المؤلفون كما هو، وهو مقطع تحريضي مليء بالمغالطات التاريخية. ومقدم لطلاب في الصف الخامس الابتدائي وربما كان بينهم مسلمون. ترى ما موقف هؤلاء الطلاب وما موقف الطلاب الآخرين منهم؟!
ثانياً : الكتاب الثاني :
بحث تحليل نقدي من منظور نفسي لمحتوى مقرر الدين للمرحلة الثانوية في استراليا : د. طريف شوقي محمد فرج
وصف الكتاب :
عنوان المقرر:التفكير من خلال الدين thinking through religion
المؤلفون : كريس رايت وكاري مرسيير وريتشارد بروميلي ودافيد واردين.
Chris Wright , Carri Mercier , Rishard Bromlly , David Worden(115/721)
جهة النشر : الكتاب منشور في أكسفورد بإنجلترا بواسطة مطبعة جامعة اكسفورد عام 2001 .
الجمهور المستهدف : هذا الكتاب مخصص لطلاب المرحلة الثانوية GCSE
محتوى الكتاب :
أولاً : موضوعات الكتاب :
يتكون الكتاب من ثلاثة أجزاء رئيسية تشمل بدورها تسعة عشر فصلاً يتضمن كل فصل عدداً من الوحدات النوعية ويبين الجدول التالي محتوياتها علي النحو التالي:-
بيانات أولية عن محتويات أجزاء وفصول المقرر
عدد الصفحات
...
عدد الوحدات
... عنوان الفصل ...
الفصل
...
الجزء
21
...
7
...
المسيحية
...
1
...
الأول
المعتقدات
10
...
5
...
البوذية
...
2
10
...
5
...
الهندوسية(115/722)
...
3
10
...
3
...
الإسلام
...
4
10
...
4
...
اليهودية
...
5
10
...
5
...
السيخية
...
6
6
...
2
...
هل الله موجود ؟
...
7
...
الثاني
التساؤلات
10
...
2
...(115/723)
ماذا عن المعاناة ؟
...
8
11
...
1
...
هل هناك حياة بعد الموت ؟
...
9
8
...
1
...
هل الإجهاض خطأ ؟
...
10
9
...
1
...
هل مسموح بالقتل الرحيم ؟
...
11
11
...
1
...
هل من الخطأ أن نذهب للحرب؟
...
12
16
...
3
...
كيف نعتني بكوكبنا ؟
...(115/724)
13
21
...
3
...
العلاقات
...
14
...
الثالث
الأفعال
10
...
1
...
الثروة والفقر
...
15
7
...
1
...
التعصب
...
16
5
...
1
...
العمل والترفيه
...
17
5
...
1
...
العلم والدين(115/725)
...
18
6
...
1
...
الدين والفنون والإعلام
...
19
حين نلقي نظرة علي محتويات المقرر كما يكشف عنه الجدول السابق رقم (2) سنجد ما يلي:-
1 ) يدور الجزء الأول حول المعتقدات التي تتبناها الأديان السماوية الثلاثة ( اليهودية والمسيحية والإسلام) فضلاً عن ثلاثة من أكثر الديانات الأرضية انتشاراً في العالم وهي : البوذية والهندوسية والسيخية – ويلاحظ أن هذا الجزء يتكون من ستة فصول تشمل (73) صفحة أخذت منها الديانة المسيحية النصيب الأوفر (21 صفحة).
2 ) يعرض الجزء الثاني لإجابة هذه الأديان الستة عن التساؤلات المحورية في الحياة ،والتي تنصب علي قضايا من قبيل: وجود الله , ومعني المعاناة , والبعث , والمحرمات في الحياة , ومشروعية الإجهاض , والقتل الرحيم , وسبل الاعتناء بكوكب الأرض. وقد استغرقت هذه الإجابات (80) صفحة موزعة علي ستة فصول، ويلاحظ أن إجابات الأديان كانت تتسم بوجود أرضية مشتركة من الاتفاق النسبي علي الرغم من تنوعها النسبي أيضاً.
أما الجزء الثالث فيدور حول دور تلك الأديان في صياغة سلوك البشر من معتنقيها وذلك في مجال العلاقات مع الآخرين , والثروة , والفقر , والتعصب , والعمل والمتعة , والدين والعلم , والفن والأعلام. وذلك علي مدي ستة فصول تنتظمها (60) صفحة.
ثانياً : المفاهيم التي يعرضها الكتاب :
يعني الكتاب بتقديم تعريف إجرائي للمفاهيم المحورية في كل دين من الأديان التي يعرض لها من قبيل التثليث في المسيحية 18)) (*)، والتأمل في البوذية (38) ، والتوحيد في الإسلام (56) ، ويفعلون الشيء نفسه إبان تناولهم للظواهر الاجتماعية التي يتصدى لها المقرر لمناقشتها كالقتل الرحيم ، والتعصب (197) ، ومما يجدر الإشارة إليه حرص مؤلفي الكتاب علي "فرنجة" المصطلح الذي يعرفّونه، بجانب ترجمته إلى الإنجليزية، وهي عملية مماثلة "للتعريب" في العربية حيث يكتبون المصطلح بالغة الإنجليزية كما ينطق باللغة العربية أو العبرية مثلاً، مما يقدم للقارئ الغربي صورة أكثر وضوحاً .
الأسس والتوجهات الفكرية والثقافية التي يقوم عليها الكتاب :
1 ) نسبية القيم والأخلاق:(115/726)
حين نحلل محتوى المقرر سنجد أن ثمة توجه عام يشيع فيه قوامه تبنى التصور القائل بنسبية القيم والأخلاق وتغيرها كدالة لكل من الزمن ،والمكان ،والثقافة والموقف، ويمكن أن ندعم ذلك الاستدلال من خلال ذكر العديد من المقتطفات من المقرر، فعلى سبيل المثال يطرح المؤلفون على القارئ أسئلة من قبيل: هل هناك مبادئ أخلاقية عامة، أم أن الأخلاق نسبية؟ وهل هناك أشياء صحيحة، وأخرى خاطئة أم أن ذلك يعتمد على الظروف؟ وهل ما هو صواب أو خطأ يحدده الشعور الداخلى أم الأصدقاء أم الوالدين أم الكتب الدينية ،ورجال الدين؟(6) ، وهناك مواقف أخرى تجسد ذلك التوجه قوامها تلك الإشارات إلى أن الإجهاض قد يباح فى ظل شروط معينة (119).وأنه قد يسمح بالقتل الرحيم طبياً فى حالات بعينها وفق ضوابط خاصة (124). وأن العيش بدون زواج قد يكون مقبولاً(174).
2 ) التفاعل بين التعاليم الدينية والمتغيرات الاجتماعية:
يبدو أن هذه النقطة ترتبط بصورة جوهرية مع سابقتها، فالقول بنسبية القيم يسمح بظهور فكرة التفاعل والتغير فى التعاليم الدينية، أو طريقة فهمها ،وتفسيرها كدالة للتغيرات الاجتماعية ،وثمة شواهد عديدة تنم عن هذا التوجه منها، على سبيل المثال وليس الحصر، أن بعض الكنائس الغربية كالميثودية أباحت الإجهاض عام 1967 فى ظل شروط معينة كنتيجة لشيوع ممارسة الجنس قبل الزواج، أو بدونه، فى المجتمع الغربي (119) ، وأصبح القتل الرحيم مشروعاً فى هولندا، وفى إنجلترا، بشروط خاصة، بوصفة أحد حقوق الإنسان كما تنادى بذلك العديد من الجمعيات غير الحكومية ،حتى أن بعض الكنائس الغربية بدأت توافق على القتل السلبي وذلك بنزع أجهزة الإبقاء على الحياة من المريض الميت إكلينيكياً(123-128) .
وكذلك تغير موقف المجتمع تحت ضغوط الحركات الاجتماعية من الجنسية الملثليه والمرأة المعيلة لأبناء بدون زواج (172 –179).
3 ) طرح المسلمات للمناقشة والنظر في إمكانية تعديلها :
على الرغم من أن المسلمات الفكرية و الاجتماعية و الأخلاقي تعد نقاط ارتكاز لأي مجتمع، ومن ثم يجب ترسيخها كضمانة لاستمراره مادام أن الواقع اثبت فعاليتها ، إلا أن فحص محتوى هذا المقرر يعكس تصورا فكرياً مختلفاً قوامه أن تلك المسلمات أصبحت عرضة للنقاش مما قد ينبئ بأشكال من الخلل الفكري ،و الاجتماعي ،و السلوكي ، وهو ما يلاحظ بالفعل في تلك المجتمعات الغربية ،ومن الأمثلة التي تدعم هذا التصور أن الأسرة هي نواة المجتمع ، وهذه مسلمة ضرورية بالطبع ، إلا أننا نخال المقرر الحالي يطرح قضية عدم ضرورة الزواج ، أو الارتباط بدونه حتى بين شخصين من نفس النوع على بساط البحث للطلاب حيث يسألون الطالب : هل من الضروري أن يعيش الذكور و الإناث معا كأزواج ؟ (165) ، وهل توافق على زواج أفراد من نفس النوع؟ ولماذا ؟ (175-174) . أي أن تلك المسلمات الأخلاقية المتفق عليها من قبل كل الأديان أصبحت غير متيقن منها في تلك الثقافة. وكذلك فان الأديان تؤكد ، و تشدد على أن حياة الإنسان منحة من الله و ليس للإنسان الحق في إنهائها بإرادته إلا أن الكتاب يطرح هذه المسلمة أيضاً للنقاش ، فالقتل الرحيم قد يباح بشروط (125)، وكذلك الإجهاض (114).(115/727)
ثالثاً : الكتاب الثالث :
بحث تحليل كتاب لتتعرف، لتتعبد...استراليا : د. عبد اللطيف محمود محمد
وصف الكتاب :
عنوان الكتاب : لمعرفة العبادة والمحبة To Know worship and Love
سنة النشر : فبراير 2002
مكان النشر : ماليورن، فيكتوريا، أستراليا .
يحتوي على ( 314 ) صفحة من القطع المتوسط .
محتوى للكتاب :
بوصفه كتاب دين فإن موضوعه الرئيسي تناول قضايا دينية وأخلاقية فيما يخص الديانة المسيحية عامة والكنيسة والمذهب الكاثوليكي خاصة سواء بشكل عام أو فيما يخص المجتمع الأسترالي على وجه الخصوص .
ويمكن عرض ذلك بشكل أوضح من خلال استعراض لأقسام الكتاب ومحاوره :
ونعرض تفصيلاً للفصل الأول لأهميته ثم موجزاً للأقسام الأخرى كموضوعات فرعية :
الفصل الأول :
عنوانه : المسيحية وعقائد العالم
Christianity and world Religions
حجم الفصل : 32 صفحة ويعد أكبر فصول الكتاب .
يحتوي على 18 محوراً فرعياً ومحور الصلوات والذي يختم عادة كل فصل من فصول الكتاب وتفصيلاتها كالتالي :
المحور الأول :
عن السؤال الكبير في الحياة The Great Questions of life
ويؤكد على أن الدين أهم جوانب حياة الإنسان منذ خلقه وهو الذي يعطي للحياة المعنى المقدس Sacred .
يعطي للطالب عدة كلمات ويطلب منه التعبير عنها بأسلوبه مثل :
أبدي eternal لاهوت / ألوهية Dirinity مطلق Infinity
ويترك له عدة أسئلة لمناقشة معاني هامة كالحياة والموت ...
المحور الثاني :
عن العقائد الأولى (البدائية) Primal Religions
وتشير لرؤية الكتاب حول عدد من المحاولات لفهم الإنسان لما حوله من طبيعة تمت في مجملها من خلال أساطير Myths كونت حولها عدة شعائر أو طقوس Rituals.
ثم يترك للطالب قضايا للمناقشة حول رؤيته لهذه الصورة والمجتمعات التي نشأت بها .
المحور الثالث :
العقائد البدائية والوطن Aboriginal Religion and land
يقدم للطالب عقائد سكان أستراليا القدماء قبل مجيء الأوربيين سنة 1788 ميلادية ويقدم له عدد من الصور والطقوس لهؤلاء السكان وخريطة توضح أماكن تواجدهم ويترك للطالب بعد ذلك فرصة للبحث Research عن مصادر جديدة حول هذه(115/728)
الموضوعات من الكتب ودوائر المعارف سواء التاريخية والاجتماعية أو الإنترنت الذي يترك له موقع للموضوع .
المحاور من الرابع إلى السادس :
عن المعتقدات الشرقية وتشمل الهندوسية والبوذية والزرادشتية ... وتبرز هنا استخدام كلمة Polylherstic بمعنى تعدد الآلهة أو الشرك ويزود الطالب بمعلومات عن نشأة هذه المعتقدات وأماكن تواجدها كما يزوده بعدد من الصور عن طقوسها ومعابدها ويدعو الطالب للبحث عن المزيد من المعلومات عنها من خلال مواقع إنترنت موضحة بالكتاب .
المحور السابع :
عن العقائد (الديانات) السماوية (الكتابية)
Religions of The Book
ويستخدم لوصفها كلمة Monotheistic أي توحيدية (إله واحد) يذكر أنها بدأت مع اليهودية قبل الميلاد ب 1900 سنة وكذلك يذكر سيدنا إبراهيم ثم جاءت المسيحية من بيت لحم .
المحور الثامن :
عن اليهودية Judaism
يقدم عرضاً تاريخياً لنشأة اليهودية ويرجعها لرواية غربية ص 22 عن قراءة سيدنا إبراهيم لأصل الكتاب الأول (التوراة) كما يشير للعهد القديم وأن سيدنا إبراهيم ترك مكان إقامته في بلاد ما بين نهري دجلة والفرات وذهب لأرض كنعان ثم يذكر (التي تسمى اليوم إسرائيل) ليقيم بها عبادة الله الواحد المسمى (هو) وإليه نسبت اليهودية ثم يذكر قصة انتقال اليهود إلى مصر وأنهم استعبدوا بها (bondage) ثم تركوها بعد 430 سنة إلى الحرية وعاشت سلالات descendants إبراهيم في الأرض التي (وعدوا بها كما ذكرت التوراة) .
ويذكر قصة التيه في الصحراء وهم في طريقهم لأرض كنعان وأنهم تلقوا هناك اللغة العبرية ووعدهم الله بأرض الميعاد كما تلقوا الوصايا العشر والمزامير والمكونة من 613 نص ..
ورغم ما في هذا كله من مغالطات لكن يلاحظ الإسهاب في العرض عن اليهودية وتبني وجهة النظر الصهيونية في استخدام كلمات مثل أرض الميعاد وغيرها .
المحور التاسع :
عن تاريخ اليهود The History of the Jews
يخص هذا المحور تاريخ اليهود بعد دخولهم أرض كنعان حيث يطلق عليهم اسم العبرانيين Hebrews ويذكر أنهم عاشوا تحت حكم ملوك عظماء مثل داود وسليمان حيث بنوا الهيكل في القدس وأصبحت (إسرائيل) قوية ومتماسكة سياسياً لكنها سرعان ما ضعفت وانقسمت تقريباً سنة 931 ق.م إلى مملكتين شمال وجنوب ثم حدث الأسر البابلي سنة 587 ق.م .
المحور العاشر :
عن اضطهاد اليهود Persecution of the Jewish people(115/729)
يذكر الكتاب أن اليهود تفرقوا في المعمورة وأنهم أسهموا في حياة كثير من المجتمعات وأنهم في حوالي 500 سنة ق.م وخلال الأسر البابلي وضعوا قوانين تسمى (التلمود) Talmud ويسهب في الحديث عن مساهمة اليهود التراثية . ثم يقفر تاريخياً ليقول : أخيراً وفي الألف الأول من العصر الإسلامي قدموا مشاركة عظيمة في الحياة الثقافية ثم يذكر أن هذا لم يستمر حيث تبعت ذلك فترات من الاضطراب المتوالي والمعاناة ثم بدأت الحملات الصليبية Crusades فيما بين عام 1200،1500 ميلادية وتفرق اليهود في الكثير من البلاد الأوربية وعانوا من ردود الأفعال القاسية ضدهم (لكن الكتاب لم يذكر لماذا ؟ ) ويقول لكنهم واجهوا ذلك بالعيش داخل الجيتو (ghettos) .
وفي عصر التنوير Enlightenment في القرن الثامن عشر والتاسع عشر في أوروبا زادت عزلتهم ثم ينتقل سريعاً إلى حالتهم في ألمانيا سنة 1933 وظهور معاداة السامية Anti-Semitism وأن أكثر من 6 مليون يهودي وحوالي 1.5 مليون طفل عذبوا تحت حكم هتلر ثم تحدث عن المحرقة Holocaust (كل ذلك يعني تبني وجهة نظر اليهودية تماماً)
ثم ينتقل فجأة إلى أن الأمم المتحدة قررت سنة 1948 أن يكون لهم دولة في فلسطين وهي أرض الميعاد التي حققوا العودة إليها بعد 2000 سنة .
(هكذا نجد القفز عن الحقائق وحتى التاريخي منها وتبني وجهة نظر سياسية صهيونية بحتة رغم أن هذا الكتاب كتاب دين لا كتاب سياسي) .
المحورين الحادي عشر والثاني عشر :
عن مظاهر حياة اليهود Aspects of Jewish life
لا يقف الكتاب عند هذا الحد بل يواصل التركيز على اليهود دون غيرهم من الديانات فيعرض لحياة اليهود من واقع ديانتهم وطقوسهم فتحدث عن يوم السبت Shabbat ودور المعبد اليهودي Synagogue وطعامهم والتوراة وغيرها بل تتحدث عن تقسيم مذاهبهم الدينية في المحور، والفرق بين كل منها .
المحور الثالث عشر :
عن المسيحية Christianity
يقدم المحور المسيحية وكأنها خرجت من اليهودية ص 30 Christianity developed from within Judaism
ويشير في مغالطة تاريخية واضحة إلى أن المسيح نشأ في بلدة صغيرة في (إسرائيل) هي بيت لحم ليعطي إيحاء للقارئ يقدم إسرائيل .
ويقدم عرضاً عادياً لتطور فكرة المسيحية ويستغرق هذا العرض صفحتان فقط ثم يعطي للطالب موقع إنترنت للمزيد من المعلومات رغم أنه سبق وعرض اليهودية في أكثر من ثمان صفحات .
المحور الرابع عشر :
عن الإسلام Islam
يعتبر الإسلام الديانة الكتابية الثالثة ويشير إلى بدايتها في مكة سنة 610 م ويضيف أن الإسلام نشأ في منطقة مغلقة جغرافياً أمام مناطق كلاً من نفوذ أو تأثير المسيحية واليهودية (وهي جملة نلاحظ أنها مختلقة وخارجة عن سياق السرد) ثم يتقدم شرحاً(115/730)
عن مولد الرسول (عليه الصلاة والسلام) وبداية الدعوة في مكة ونزول القرآن والدعوة للتوحيد (الله) (Allah) .
ويتحدث عن الشهادة Shahada وعن الهجرة Hijra والصلاة (Slat) والزكاة Zakat والصوم Saum والحج Hajj .
ثم يتحدث عن أنه في سنة 630 قام محمد وأتباعه بالهجوم والاستيلاء على مكة ص 34 Attached and Captured Mecca
"ولا يخفى هنا القصد من استخدام كلمات مثل هجوم أو استيلاء وكأن الأمر فيه اعتداء وليس عودة للأرض كما وصف الكتاب نفسه الأمر بالنسبة لليهود في فلسطين" مما يدل على عدم الحيادية .
المحور الخامس عشر :
عن المسلمين في أستراليا Muslimsin Australia
يقول أنهم حوالي 150 ألف منهم حوالي 35% كانوا قبل 1971 عندما جاء الكثير من المسلمين لأستراليا ويتحدث عن مساجدهم وأنهم يعيشون في جماعات ويتحدثون العربية ولهم مدارسهم وصلواتهم ..
ويترك للطالب موقع إنترنت للتزود بالمعلومات الإضافية ويلاحظ أن عرض الإسلام استغرق حوالي 3.5 صفحة فقط .
المحور السادس عشر :
عن الكنيسة الكاثوليكية والعقائد الأخرى بالعالم
The Catholic Church and other world Religions.
يتحدث المحور عن علاقات الكنيسة الكاثوليكية بالعديد من الديانات الأخرى وترى الكثير من أوجه التفاهم فيما بينها .
ثم في نهاية المحور يعطي جزء للمناقشة حول أسئلة عن ما جاء به .
المحور السابع عشر :
عن عوامل أخرى في علاقات الكنيسة الكاثوليكية بعقائد العالم ويعطي لدور الباباوات في العالم خلال السنوات من 1986 وحتى 2001 .
المحور الثامن عشر :
وهو جزء موجه للطالب حول حصيلة ما لديه من معلومات حول ما طرح من قبل ورأيه فيها وعن رؤيته حولها .
المحور التاسع عشر : عن الصلاة
وهو محور يأتي في نهاية كل فصل من فصول الكتاب وهو عبارة عن بعض الأدعية
وقد عرضنا هذا الفصل بشكل تفصيلي لاعتبارات محددة هي :
1. أنه أكبر فصول الكتاب من حيث الحجم .
2. أنه يحمل الرسالة المباشرة للكتاب .
3. أن معظم ما جاء في الفصول الأخرى يأتي تفصيلاً لما أجمل فيه .
الموضوعات الفرعية بالكتاب :
عرض الكتاب في فصوله المتوالية لموضوعات فرعية مرتبطة بشكل مباشر أو غير مباشر بالموضوع الرئيسي للكتاب موجزها فيما يلي :(115/731)
نتناول الفصل الثاني وعنوانه الكنيسة الأسترالية : التعليم والسياسة
An Australian church : Education and Politics
عرضاً لتطور نشأة المدارس الكاثوليكية في أستراليا وتطور الكتب الدينية على فترات تاريخية منذ فترة ما قبل الحرب العالمية الأولى وما بعدها وتحدث عن ما أسماه التعليم الديني والروح الأيرلندية .
ص 46،47 Religion Education and Irish spirituality
في إشارة لتأثر الكتب والكنيسة في أستراليا بالكنيسة والكتب الأيرلندية كما ربط بين ممارسات سياسية للأحزاب ومنها حزب العمال Labor Party وتطور المدارس الكاثوليكية ويؤكد الفصل على خصائص ثلاث للتعليم في أستراليا منذ سنة 1872م وهي المجانية، الإلزام والعلمانية ركز على ذلك في طلبه من الطلبة تحديد تعريف Define لها . Free Compulosory, Secular.
والفكرة التي ركز عليها الفصل الثاني كانت ربط تطور التعليم الأسترالي بمراحل تاريخية وسياسية معينة والتأكيد على الصفات الثلاث للتعليم .
الفصل الثالث : وعنوانه الكنيسة الكاثوليكية الأسترالية ونظرة للمستقبل
The Australian Catholic church: Looking to Future ويقدم عرضاً لروابط مستمرة بين أستراليا وإنجلترا ويتحدث عن موجات الهجرة لأستراليا وعلاقة الكنيسة الأسترالية بالكاثوليكية في عهود باباوية مختلفة. ويركز على قضية الهجرة Immagration لأستراليا وأهميتها .
الفصل الرابع : وعنوانه الأبرشية
ويركز على المؤسسات الدينية المرتبطة بالكنيسة وأدوارها الثقافية والاجتماعية وما يربطها من إطار ديني وحاول أن يعطي فكرة متكاملة للطالب عن دور كل منها وكيف يتكامل مع غيره .
الفصل الخامس: وعنوانه: الضمير واتخاذ القرار
Conscience and Decision Making وبالفصل عدد من القصص والمواقف التي تحاول إعطاء الطالب فكرة عن السلوك الصحيح وإتباع الفضائل Virtues وضرورة اتخاذ القرار المتفق مع الإحساس الداخلي (الضمير) بكل موقف.
الفصل السابع: وعنوانه صوت من المجتمع: تسمية (تنصيب) القس
Called From The Community The Ordained Ministry ويركز الفصل على موضوع واحد هو دور القس والتطور التاريخي لهذا الدور والشروط المتبعة في اختياره ودور الكهنة Priesthood في مراسم تنصيب القس .
الفصل الثامن: وعنوانه: كيف تقرأ الكتاب المقدس ؟
How to Read the Bible?
وفيه يركز على موضوع تطور كتابه الكتاب المقدس وأصل كل إنجيل والفروق في كتابته والرموز التي تقف وراء ذلك كما عرض لبعض القضايا والحقائق والأساطير المرتبطة بذلك وطلب من الطالب أن ينشط في تحديد وجهة نظره من ذلك مقارناً بينها دون أن تفقد رمزيتها وقدسيتها وعرض ذلك مزوداً بصور وحكايات كثيرة ويستغرق الفصل 27 صفحة ويكاد يكون الفصل التالي في الأهمية بالنسبة لحجمه(115/732)
ونوع القضايا المطروحة فيه وارتباطها بالموضوع الرئيسي للكتاب بوصفه كتاب دين.
الفصل التاسع: وعنوانه: الأخبار الطيبة The Good News of Mark ويواصل قضية الأناجيل وما بها من حقائق وانتقل إلى قصة السيد المسيح وحياته في الجليل ومعجزاته ومعاناته .
وإن كان بالفصل بعض المغالطات حيث لم يذكر اسم فلسطين لكنه وفي الخرائط الموضحة تعمد كتابة اسم إسرائيل مكانها رغم أن ذلك خطأ تاريخياً .
الفصل العاشر: وعنوانه: المرأة والرجل والأخلاق : القضية من الماضي ولليوم Women and Fath issues From History and tody وعرض للمرأة ودورها في الحياة والمجتمع كما عرض لموقف كل من الأناجيل والكنيسة من المرأة ومكانتها في الكنيسة الأسترالية، كما أوضح دور الرجل والزواج والعمل وأعطى ذلك مسحة أخلاقية .
الفصل الحادي عشر: وعنوانه: مريم أم الرب والكنيسة المرأة اليهودية في الأسرة
Mary Mother Of Good and Of the Church وعرض لدور السيدة مريم وحياتها قبل وبعد ميلاد السيد المسيح وربط ذلك بالمجتمع الذي كانت تعيش به .
الفصل الثاني عشر: وعنوانه إرسال: التبشير باسم الكنيسة
Sent out: The church’s call to Mission
ويوضح أهمية التبشير وعمل ودور المبشر في المجتمعات البدائية سواء خارج استراليا أو داخلها ويعطي أمثلة للمبشر الذي يمد يد المساعدة بالخير لمن يحتاج إليها .
--------------
(*) تشير الأرقام بين القوسين إلى أرقام الصفحات بالكتاب المقرر للدين الذي يتم تحليله نقديا
المناهج في الفلبين
أولاً : الكتاب الأول .
بحث تحليل كتاب هديتي من الله " الفلبين " : أ.د. عبد الرحمن بن سليمان الطريري
وصف الكتاب :
يدرس كتاب الفلبين هديتي من الله: جغرافيا، تاريخ، مدنيات لمؤلفه فيفان تيكا في السنة الثالثة من المرحلة الابتدائية وأول طباعة له كانت عام 2000 حيث نشر من قبل دار نشر جميع الأمم All nations publishing Co. ، ويتكون الكتاب من مائتين واثنين وعشرين صفحة موزعة على أربع وحدات وفي كل وحدة أربعة فصول .
الهدف العام للكتاب :
بين المؤلف في المقدمة أن هذا الكتاب يهدف لتزويد الطلاب بالمعرفة اللازمة حول وطنهم ودينهم وحضارتهم ، كما أنه يسهم في نمو عقولهم بالإضافة إلى ربطهم بالله.
منهج الكتاب في عرض المفاهيم :
بالرجوع لمحتوى المناهج في الفلبين تبين انها مشبعه بالكثير من القيم التعبديه حيث تحتل مساحة كبيرة في هذه المناهج، وقد تنوعت أساليب ذكر هذه القيم فمرة تذكر(115/733)
هذه القيم على أنها من خصائص عيسى ومرة تذكر في ثنايا قصة ومرة يرد ذكرها في موقف أو حدث .
وفي اطار الحديث على المناهج الدراسية في الفلبين سنتطرق لكتابين كمثال لما يدرس في مدارسهم :
الكتاب الاول : كتاب" الفلبين هديتي من الله" : جغرافيا، تاريخ، مدنيات لمؤلفه فيفان تيكا في السنة الثالثة من المرحلة الابتدائية.
الكتاب الثاني : كتاب " الناس، الأمكنة، والأحداث في الفلبين " يدرس هذا الكتاب كمقرر للتربية الوطنية ( القومية ) في إطار المرحلة الابتدائية. وهو من تأليف أدورأكشن اهينو ، وكارولينا داناو.
1 ) نظم الكتاب بحيث يتصدر كل فصل الأهداف المتوخاة .
2 ) ثم يسوق المؤلف المعلومة أو المعرفة مصحوبة بآية من الإنجيل وبعض الرسومات .
3 ) يتضمن بعض القصص المستندة إلى بعض آيات الإنجيل أو المرتبطة ببعض الخبرات والأنشطة اليومية .
أهداف الكتاب :
وضع المؤلف في بداية كل فصل مجموعة من الأهداف ويمكن إيراد نماذج منها :
1- معرفة أن الله خلق الكون.
2- شكر الله على خلقه الرائع والجميل وحفظه لثقافة الوطن.
3- معرفة أن خلق الله جميل.
4- شكر الله على عنايته في هذا العالم.
5- التعرف على أنماط الحياة المتعددة في أقاليم الفلبين.
6- معرفة تاريخ أقاليم الفلبين.
7- مناقشة أثر الشعوب الأخرى على الفلبين وثقافتها.
8- التأكيد على أهمية المحافظة على الثقافة الفلبينية ومحبتها.
9- تذكر الحقبة الاستعمارية.
10- استخلاص الطالب للدروس والعبر من التاريخ.
11- الاهتمام بالثقافة المسيحية وتقديرها لتعميق الحس لدى الطلاب.
نموذج من وحدات الكتاب :
1 ) الوحدة الثالثة / الله يرعى وطننا بعنايته :
الدروس التي توجد في هذه الوحدة تسعى لتحقيق مجموعة من الأهداف تتمثل في مناقشة الأثر الذي أحدثه الغرباء في الفلبين بالإضافة إلى إبراز حياة الآباء والأجداد. ومرة أخرى يؤكد على أهمية شكر الله على نعمته في حفظ حضارة وثقافة الفلبين مع التأكيد على أهمية الاستمرار في المحافظة على هذه الثقافة. وتنحى هذه الوحدة وبشكل مفصل إلى إبراز آثار الاستعمار الاسباني والأثر الذي أحدثه الأمريكان واليابانيين وكل هذا يعرض مع الدروس التاريخية المستفادة من تاريخ الفلبين وعلاقتها بالآخرين. ومن الدروس المدرجة في هذه الوحدة درس بعنوان الثقافة المسيحية وأهميتها للفلبينيين ويسعى هذا الدرس لتحقيق بعض الأهداف ومنها إبراز(115/734)
الأثر الثقافي للغرباء على الثقافة الفلبينية وكذا العمل على جعل الطلاب يقدرون ويحترمون الثقافة أو الديانة المسيحية من أجل إيجاد فرد فلبيني يعتنق المسيحية بإخلاص.
المصطلحات والمفاهيم :
جدول (1) يبين تكرار بعض المصطلحات في الكتاب
المصطلح
...
التكرار
الله
عيسى
المالك
الخلق
الإنجيل
الدين
جميع
آية
السموات
الأرض
الكون
الحب
...
104
15
11
10
25
18
51
24
5
24
18
8
جدول (2) يبين تكرارات بعض المفاهيم الواردة في الكتاب
المفهوم
...
التكرار(115/735)
خصائص عيسى
خلق الله وإبداعه
مفاهيم ذات صيغة إيجابية نحو الفلبين
العبادة والشكر
...
15
36
21
34
ويتجلى هذا الربط بين المادة العلمية والتي يفترض أنها مادة جغرافية وبين المعتقد الديني حين يتكرر ذكر الله وعيسى وما يتم التأكيد عليه من أهمية الدعوة للدين المسيحي كما تفعل جماعة مانزا نوس الفلبينية Manzanos والتي تقيم في الفلبين بغرض الدعوة للدين المسيحي ، وبالرجوع للجدول (1) يتضح تكرار مفاهيم ومصطلحات ذات دلالة دينية إذ ورد لفظ الجلالة 104 مرة كما ذكر عيسى 15 مرة ، أما الإنجيل فقد ذكر 25 مرة أما مصطلح الدين فقد ورد 18 مرة. وقد ورد مصطلح آية 24 مرة. وهكذا فإن كثرة تكرار المصطلحات الدينية مع كثرة الأفكار والمفاهيم الدينية مثل الحديث عن العبادة والصلاة والشكر لله وربط تأسيس الجامعات في الفلبين بالجماعات الدينية مع الاستشهاد المتكرر بآيات من الإنجيل كل هذا يؤكد الأساس العقدي الذي يقوم عليه محتوى الكتاب.
القيم وأساليب عرضها :
بالرجوع للمحتوى تبين أن الكتاب مشبع بالكثير من القيم وقد تنوعت أساليب ذكر هذه القيم فمرة تذكر هذه القيم على أنها من خصائص عيسى ومرة تذكر في ثنايا قصة ومرة يرد ذكرها في موقف أو حدث.
المفاهيم الواردة في الكتاب :
بالرجوع إلى الجدول رقم (2) والذي يعتمد في الأساس على تكرار المفهوم من خلال المصطلح والفكرة والجملة يتضح في الجدول ما يلي :
1 ) أن عيسى ورد ذكره ( 15 ) مرة ولكن الأمر يتطلب معرفة الصفة التي ورد ذكره فيها فهل ذكر كإنسان أم نبي أم ماذا ؟ بالرجوع إلى ما ذكر حول عيسى نجد خلطاً في المفاهيم وعدم وضوح في طبيعة عيسى فحيث يذكر أن عيسى مات مصلوباً من أجل تحقيق الحرية للناس نجد أن الصفات التي ذكرت لعيسى تصل إلى وصفه بالألوهية إذ تم وصفه بأنه مبدع وخلاق وكامل وذو طبيعة نورية وعلينا خشيته ومخافته كما تم وصفه بأنه شجاع وشكور وحيوي ومحب للآخرين ومتميز وقادر على التكيف مع كافة الظروف وأنه غني في كافة الخصائص. هذا ويلاحظ أن خصائص عيسى وردت في سياق آيات الإنجيل ونخلص إلى القول إن المفهوم الذي يرغب المؤلف تأكيده بشأن عيسى هو أن عيسى يرتقي في خصائصه إلى مستوى خصائص الله جل وعلا وهذا هو المفهوم المسيحي القائم على التثليث.(115/736)
2 ) الخلق والإبداع هو أحد المفاهيم التي ورد تكرارها حيث أنه تكرر ( 36 ) مرة كما في جدول (2) وقد جاء المفهوم بعدة صور إذ جاء من خلال الآيات الإنجيلية ومن خلال الجمل التقريرية فبدءاً بخاصية الإبداع والخلق كخاصية عامة من خصائص الله إلى التذكير بعناصر وموجودات في هذا الكون تدل وتثبت هذه الخاصية كخلق الله للسماوات والأرض والأجرام والمياه والمحيطات وخلق البشر بألوان وصفات مختلفة بالإضافة إلى الحيوانات والنباتات حسب الأقاليم والمناطق كما أن الخلق يمتد للتذكير بالطقس والمناخ وفصول السنة واختلاف الوقت بالإضافة إلى التغيرات المفاجئة كالزلازل والبراكين. هذا ويمتد التأكيد على مفهوم الخلق والإبداع إلى ذكر ملامح الجمال كما تتبين من واقع دولة الفلبين بجزرها المتناثرة.
3 ) مفهوم العبادة والشكر وكما يتضح من جدول (2) فقد تكرر ( 34 ) مرة على شكل جمل وآيات إنجيلية ويتمثل التأكيد على الجانب التعبدي في الأفكار التالية كما وردت في جمل وآيات في المتن :
- الله نوري ويجب أن أخشاه وأتقيه.
- إذا كان الناس مرتبطون بربهم ... فإن شيئاً لن يصعب عليهم.
- بدأوا يغنون للصلاة ... دعونا نصلي.
- القلب النقي يجعل الوجه مشرقاً.
- لابد من شكر الله علىنعمه وحفظه لثقافتنا.
- فوض جميع أمورك له.
- عش مستقيماً وموجهاً لذاتك ولتحيا كما يريد الله في هذا العصر.
- دراسة الإنجيل تقوي مسيحيتنا.
- احفظ الآيات الإنجيلية.
- عليك في البداية اختيار ملكوت الله.
- اشكر الله على وطني الجميل.
- شارك في الخدمات الكنسية.
وكما يتبين من العبارات السابقة فإن الجانب التعبدي يحتل مساحة كبيرة من محتوى الكتاب تم الإشارة إليه مرات عده وبعدة صور. وتم بثه خلال أجزاء الكتاب والتي تمثل معلومات جغرافية عن الفلبين بشكل عام وأقاليمها المختلفة بشكل خاص.
4 ) الكنيسة والنشاط الكنسي أحد العناصر التي عمل الكتاب على إحداث إتجاهات إيجابية نحوها حين أورد مجموعة من الآيات الإنجيلية وطالب بحفظها وحين ذكر بعض العبارات الداعية للنشاط الكنسي ((عندما أكبر سأعقد دروساً إنجيلية لضيوفي)) ، وكذلك عندما ذكرت الجماعات التي تسافر بغرض الدعوة للمسيحية.
ثانياً : الكتاب الثاني .
بحث تحليل محتوى لكتاب " الناس، الأمكنة، والأحداث في الفلبين " : د. حسن علي حسن
وصف الكتاب :
يدرس هذا الكتاب كمقرر للتربية الوطنية ( القومية ) في إطار المرحلة الابتدائية بدولة الفلبين . وهو من تأليف أدورأكشن اهينو ، وكارولينا داناو ، ومن منشورات(115/737)
SiBs Pub. House, Inc عام (2000م) ، وهو يعتبر واحد من سلسلة كتب تصدر عن دار النشر – سالفة الذكر – في هذا الإطار .
ويشتمل الكتاب على أربع وحدات ( أبواب ) ، تتضمن ثمانية عشر فصلاً ، وهو من الحجم الكبير ، وعدد صفحاته (356) صفحة .
محتوى الكتاب :
أولاً : التركيز على تميز الفلبين :
في الوحدة الأولى من الكتاب والتي يعرض فيها المؤلفان للأشياء التي تميز وتوحد الفلبين "Things That Identify and Unite The Filipinos"
والتي تتمثل فيما يلي :
– السمات الشخصية والقيم التي تبدو شائعة غالباً لدى الفلبينيين مثل : التدين والإيمان القوي بالله ، حبهم واهتمامهم بأسرهم ، الاهتمام وتحمل المسئولية ، حب الحرية ، الجدية وحسن التصرف Resource Fulness اللطف أو اللباقة في التعامل Couteous ، حسن الضيافة Hospitality ، مساعدة الآخرين Helpful ، المرح
Chearfulness ، والتفكير الجيد Thoughtfill ، احترام التعليم ، المحافظة على
الوعود " ، وهي سمات تبدو عليهم أينما ذهبوا ووجدوا .
– كما يعرض المؤلفان في إطار هذه الوحدة – أيضاً – في الفصل الثالث ، للرموز التي تحدد هوية الفلبين مثل علم الفلبين ، واللغة القومية ، والمانجو كفاكهة قومية .. الخ . وفي الفصل الرابع يعرض للأحداث والمناسبات الدينية التي يحتفل بها الفلبينيون ، مثل أعياد الميلاد وشهر رمضان .. الخ .
– وفي الفصل الخامس ، يعرض للأنشطة أو المناسبات القومية أو الوطنية التي توحد الفلبينيين وتجمعهم معاً ، مثل يوم الاستقلال ، ويوم الأبطال القوميين ، يوم العمل أسبوع اللغة القومية ، يوم العلم ، يوم الأرض ... الخ .
ثانياً : فلسفة الكتاب :
أن هذه السلسلة من الكتب (*PPEP) مصممة بطريقة هادفة لمساعدة التلاميذ لمعرفة وفهم ما هم عليه الآن ، او من يكونون Who They Are? ، وما الذي يمكن أن يصيروا عليه أو يستطيعوا فعله What They Can Do? كأمة .
وبشكل محدد يستند الكتاب – في فلسفته – إلى عدة ركائز أساسية تتمثل فيما يلي : - أن الوعي بالمجتمع من حيث ماضيه وحاضره وجغرافيته وثقافته ، وتراثه الديني والاجتماعي والسياسي ، يمثل أساساً للوعي الموضوعي بالذات وتنشئة المواطن الصالح وتحديد الهوية الاجتماعية لأفراده .
- إبراز ما يسمى بخصائص الشخصية القومية للشعب الفلبيني – كما سبق إيضاحه – فهم يتسمون بحب الله والاهتمام وتحمل المسئولية والاحترام والتفكير ومساعدة الآخرين ، حسن الضيافة ، العمل بجدية والإبداع ، حب الحرية ، التوحد مع العائلة ، تقدير التعليم الجيد ... الخ .
ثالثاً : قيم يدعو إليها الكتاب :
يزخر الكتاب في معظم فصوله بالتأكيد والدعوة لإبراز العديد من القيم الإيجابية التي يتبناها الفلبينيون في سلوكهم مثل : " التدين والإيمان بالله ، حب الأسرة ، احترام(115/738)
الآخرين ، تحمل المسئولية ، حب الأجداد ، الصداقة ، احترام الوعود ، حب الحرية ، تقدير التعليم ، تمجيد البطولة والموهبة ، الاعتزاز بالذات ، رعاية الطفولة ، الموازنة بين الحقوق والواجبات ، الفخر بثروات المجتمع ، احترام الرموز القومية " .
---------------
* People, places and events in Philippines.
المناهج لدى اليهود
أولاً : طبيعة التعليم لدى اليهود :
بحث التعليم في إسرائيل وتربية العنف : د. عبد الله بن سعد اليحيى
أولاً : التعليم الإسرائيلي :
إن التعليم الإسرائيلي لا يتجه إلى تربية الناشئة أو تثقيفهم أو تعليمهم بل يغذي الأجيال اليهودية القادمة بالعنف ، وكراهية الآخر المتمثل بالفلسطيني والعربي المحيط بالكيان الصهيوني المحتل ، ويقدم شرائح من الخريجين اليهود وقد تمكنت العنصرية المنغلقة والمتعصبة قومياً من عقولهم وقلوبهم ، فالتربية العسكرية ( عسكرة التعليم ) والأيديولوجية الصهيونية ، وعملية السلام ، وتاريخ تأسيس دولة اليهود في فلسطين لا يمكن أن تكون من الهوامش ، ولذا يربط التعليم القتل للآخر بالنصوص الدينية والأمثلة التاريخية وفتاوى الحاخامات حتى تحول القتل إلى عبادة ، ثم طبق ذلك كله على أرض الواقع فتمخض منه جيل عسكري لا يؤمن إلا باليهود وخصوصيتهم ( شعب الله المختار) و ( أرض الميعاد ) و( بناء الهيكل ) و( إنقاذ العالم ) . أضافه إلى المحافظة على روح الكراهية اليهودية للأمم والمجتمعات الأخرى ، وتضخيم معاناتهم ، واحتكارهم للألم والتفوق والوحدة والتشتت مع ما يعضد ذلك من وجود إله خاص بهم مدجج بالسلاح يسره منظر الدماء.
إن التعليم الإسرائيلي لا يتجه إلى تربية الناشئة أو تثقيفهم أو تعليمهم بل يغذي الأجيال اليهودية القادمة بالعنف ، وكراهية الآخر المتمثل بالفلسطيني والعربي المحيط بالكيان الصهيوني المحتل.
ومناهجهم الدراسية مشبعة بالنصوص الدينية المحرفة والدعوة الى العنف واحتقار حق الآخر وفي اغلب الاوقات انكاره تحت زعم انهم شعب الله المختار ، وسنلمس ذلك جلياً في اطار بحثنا وكلامنا عن امثله من مناهجهم الدراسة - ومنها:-
- كتاب "تاريخ علاقة اليهود بالشعوب الأخرى : الجزء الأول؛ منذ العودة من السبى البابلى حتى الانتهاء من تدوين التلمود ". والذي يدرس في المرحلة الابتدائية في السنة الرابعة .
- كتاب " يهود وعرب في دولة إسرائيل : فصل في الجغرافيا السكانية " وهو كتاب مدرسي مقرر على تلاميذ الصف الدراسي السادس بالمدارس الحكومية.
- كتاب " من جيل إلى جيل. دروس في التاريخ لطلبة المدارس الدينية الحكومية – الجزء الثاني."
ومن البديهيات إن لا تكون مناهج التعليم الإسرائيلية عادلة ما دامت تتحدث عن المستوطنات والهجرة وأرض الأجداد والقدس والحدود الآمنة وقانون العودة والحق(115/739)
التاريخي وأرض إسرائيل الكبرى ، وتقديم الحرب على أنها ضرورة حتمية للمحافظة على اليهودية واليهود وتحقيق خطة / إسحاق ليفي – وزير التعليم في حكومة نتنياهو والتي تهدف إلى ( خلق صلة وثيقة بين الطلبة والجيش ) من سن رياض الأطفال حتى مرحلة الدراسة الثانوية أو برنامج ( تعزيز الحافز والجاهزية للخدمة في الجيش الإسرائيلي ) ، ومن دلائل الظلم والعنف فيها أنها تتكئ على التوراة المحرفة والتلمود المقدس وتترجم ما فيهما من حكايات وقصص إلى صور حية تعبر عن منهج الكيان الصهيوني وسرّ بقائه وقد صرح / موشبه منوحن قائلاً [علمونا في الجمنازيوم إن نكره العرب وان نحتقرهم وعلمونا كذلك إن نطردهم على اعتبار إن فلسطين هي بلادنا لا بلادهم ] والمؤسف إن أسس هذه التعاليم سواء كانت صهيونية جديدة أو من ثمار ما بعد الصهيونية أو صهيونية كلاسيكية أو دينية أصولية فهي في كل الأحوال تجذر العنف وتدعو إلى الإبادة وقتل الشيوخ والنساء والأطفال وتمتد إلى البقر والحمير والشجر وتقدم على شكل عقائد ونصوص وتشريعات يهودية للأطفال يجب الالتزام بها كما ورد في التوراة عن " يشوع بن نون " المقرر في المرحلة الابتدائية ، ثم نجد على أرض الواقع تطبيق عملي معاصر لتلك الحكايات الباطلة ، حصار القرى الفلسطينية ، واغتيال الأطفال ، وترك الجرحى ينزفون حتى الموت ، وإعاقة سيارات الإسعاف وتأخير النساء الحوامل من الوصول للمستشفيات ، واقتحام المساجد والمدارس والكنائس .
لذا كان التعليم الصهيوني والتلمودي فيما يطرحه في عقول التلاميذ اليهود الناشئين بعيداً كل البعد عن القيم الإنسانية الشاملة ، وعن لغة الخير ، والحوار ، والمحبة ، فالفلسطينيون في نظر الطفل اليهودي – من خلال التعليم ونتائج الاستبيانات – أشرار متعطشون للدماء ، يفضل أن يموتوا بالإيدز ، يسممون الفلافل ويحرقون الغابات ويجرحون الأطفال بالحجارة ، وتعضد ادعائاتهم التاريخية إن المواضيع المقررة تمس خطوط التماس بين اليهود والآخرين على أرض الواقع مع قناعتهم بأن ( إسرائيل مولود لاهوتي ناشئ عن المرويات التوراتية ) ، كما يزعم / توماس طومسون – أكاديمي وعالم آثار إسرائيلي – ومع ما يطرحه الكاتب الصهيوني / يجيئال ما يكل بنس من سؤال وجواب قائلاً : [ بماذا يتميز الشعب اليهودي عن بقية الأمم ؟ للسؤال هذا جواب واحد :- إن الشعب اليهودي لم يولد ولادة طبيعية فولادته منذ البدء لم تكن طبيعية ، أي لم تكن مشاركة وتفاعل بين عامل الجنس والأرض بل بتفاعل التوراة والميثاق الديني ] ، وينقل / إسرائيل شاحاك تبرير المتدينين اليهود في أهمية دعم دولة الكيان الصيهوني للتعليم الديني واعفا المتدين من الخدمة العسكرية لأن [ اليهود ودولة إسرائيل اليهودية إنما توجد بسبب فضيلة دعمهم للدراسة التلمودية فهذا الدعم هو الذي جعل الله يقف بجانبهم وجعل إسرائيل تنتصر في حروبها ] ، كما أن التعليم لدى الكيان الصهيوني المحتل يعاني من صراع الجماعات اليهودية المختلفة عليه ، وقد نجح حزب شاس في إبعاد وزيرة التعليم / مشولاميت الونى من الوزارة وجاء مكانها / يوسى سريد ، ونتيجة لهذا الصراع وبسببه ، يتعامل التعليم مع الطلاب بشكل غير متساوي ويزيد المساحات بين الفئات الاجتماعية وهذا ما أكده التقرير الصادر من مركز " أدفا " وقام بإعداده كل من /(115/740)
شلومو و/ اتي كونور عام 2002م بهدف كشف الفجوات الاجتماعية لدى اليهود في فلسطين وأكد أن معظم الطلاب الذين لم يحصلوا على الشهادة الثانوية يسكنون في المدن والقرى العربية وإن أغلب الطلاب المرشحين للمرحلة الجامعية تم رفضهم من القرى والمدن العربية ويأتي قبلهم اليهود من أصول أفريقية وآسيوية .
ثانياً : التعليم الديني :
هذه مشتركات بين التعليم الديني المستقل والتعليم الرسمي لدى الكيان الصهيوني في فلسطين ، ولكن التعليم الديني الأهلي يملك معالم اكثر تطرفاً ووضوحاً حيث يتجاوز التعليم الرسمي بما يلي :-
1- انتظار المخلص وما لديه من صفات قتالية عالية .
2 - الإرهاب المقدس تحت مظلة التوراة والتلمود .
3 - رفض عملية السلام والانسحاب من الأراضي المحتلة عام 1967م
انطلاقاً من نصوص وفتاوى دينية .
4 - السعي في بناء الهيكل الثالث ، وللأصولين اليهود مدارس دينية مهتمة
بالهيكل ومنها مدرسة ( كوليل جليتسيا ) و ( ألون شفوت ) .
5 - المدارس الدينية المستقلة أسسها ويشرف عليها ويديرها الحاخامات على اختلاف مشاربهم وطوائفهم المعاصرة في فلسطين .
وكانت بداية التعليم الديني قديمة ، وفي فلسطين قبل تأسيس الكيان الصهيوني ، ولكل جماعة من الجماعات اليهودية الدينية مدارسها الممثلة لها ، والمختلفة عن غيرها ، فمدارس ( اغودات إسرائيل ) تختلف عن مدارس ( غوش ايمونيم ) وكلاهما في حالة خلاف وصدام فكري وديني مع مدارس ( ناتوري كاراتا ) ، وبداية تحالف بعض التعليم الديني مع الصهيونية عام 1947م حينما اتفق الطرفان اليهوديان الأصولي ويمثله أعضاء من حزب ( اغوادات إسرائيل ) والصهيوني ويمثله ( ديفيد بن غريون ) على استقلالية التعليم الديني ودعم الصهاينة له رغم تنوعه وتعدد مدارسه ، وفي عام 1951م تحقق للجبهة الدينية المتحدة أربع أمنيات ثمن ائتلافها مع الحكومة ، منها :
- استمرار الدعم المالي للمدارس الدينية دون إخضاعها لمراقبة الدولة العلمانية وإشرافها .
- تعيين شخص يهودي متدين في منصب وكيل وزارة التربية والتعليم .
وفي عام 1953 صدر قانون التعليم اليهودي العام في فلسطين ، وتنص المادة الثانية منه على [ إن التعليم في دولة إسرائيل يجب إن يرتكز على قيم الثقافة اليهودية والولاء لدولة إسرائيل والشعب اليهودي، وتحقيق مبادئ الريادة في العمل الطلائعي الصهيوني ] ، كما إن من أهداف التعليم اليهودي :-
المادة الأولى (خلاص الشعب اليهودي يجب إلا يكون مجرد أيمان بالماضي بل يجب إن يؤثر على الحياة اليومية الراهنة ) .
وجاء في المادة الثالثة ( يجب إن يخضع الحاضر لتقيم متواصل في ضؤ أحلام الشعب اليهودي وذكرياته ويجب إن ينعكس الماضي اليهودي على النظام التعليمي الذي نحن بصدده ، لأن التأهيل التاريخي والذاكرة والاهتمام بالعمل والأيمان بتجدد(115/741)
المجتمع اليهودي المتكامل ، مقومات لابد منها لبناء فلسفة التعليم اليهودي ] ، ومع مضى السنوات اخذ التعليم الديني المستقل ينمو و يستولي على مساحات اجتماعية وثقافية وسياسية ويمسك بزمام الشارع اليهودي في كثير من المستوطنات والأحياء الدينية الكبيرة في المدن مما دفع الأحزاب السياسية إلى التلطف في معاملته وتقديم الدعم له فتعمق وربا حتى اصبح اكثر عمقاً من التعليم الرسمي كما صرح بذلك / رفائيل آيتان ، وانتقد اليهود العلمانيون هذا التوجه الرسمي والدعم المالي ، ففي دراسة ميدانية مقارنة بين الطلاب المتدينين والعلمانيين في القدس أجراها كل من ايلي بيرمان ومومي داهمان عام 1995م وجدا أن الدولة اليهودية في فلسطين تدفع 116 ألف شيك عن الطالب المتدين مقابل (52) ألف شيك للطالب العلماني ، وقد أسهمت وزارة شؤون الأديان منذ عام 1988 بتمويل دراسة (35) ألف طالب في مؤسسات التوبة ، وتبين معطيات الوزارة أن حوالي (5500) طالب جديد ينظمون سنوياً للمعاهد الدينية وإلى معاهد التوبة ، أما أعداد النساء فقد زاد عام 1994م بمقدار الضعف ، وصرح / ران كسلون قائلاً :
[ إن هذا المال يدعم المعاهد الدينية السوداء التي تحولت إلى طابور خامس داخل جهاز التعليم الديني ] ، ومع هذا فقد كان لدى اليهود في فلسطين عام 1948 (50) معهداً دينياً وامتدت حتى بلغت (600 ) معهداً دينياً عام 1988 يزيد عدد التلاميذ فيها كل عام ما بين ( 1300-1500 ) تلميذاً (11) ، ويرى الحاخام إسحاق هرتزوغ إن المدارس الدينية المستقلة [ تحتاج إلى عناية خاصة لأنها البقية الباقية من مؤسسات التوراة بعد مذبحة النازيين لليهود ، إن روح الشعب اليهودي ذاتها متوقفة على بقاء هولاء الطلاب فإذا انشغلوا ولو بتعبئة بسيطة فأن الاضطراب سيقع بينهم ] وحينما انتقد / إسحاق شامير المدارس الدينية بأسلوب غير مباشر وألمح إلى إعادة النظر فيها رد عليه الحاخام/ اليعاز شاخ [ في حالة تمرير قرار ديكتاتوري ضد المدارس الدينية المستقلة فإنه سوف لا يبقى طالب واحد في هذا البلد ، ومن دون دراسة التوراة سوف لا يكون هناك شعب يهودي ] ثم أضاف [ أن أبناء التوراة سوف لا ينسون أرض إسرائيل لكنهم سيهاجرون وينفون أنفسهم من أجل أن لا ينسى شعب إسرائيل التوراة ] .
ومن زاوية أخرى وصفت صحيفة ( همحاهحربيدي ) الدينية في تاريخ 25/5/1988م تعرض أطفال اليهود للسبي على يد التعليم الرسمي قائلة ( ليس هناك من تعرض للسبي أكثر من الجماهير اليهودية التي تلقت تعليماً غربياً رسمياً إلى أن أصبحوا أغيار مثل جميع الأغيار ، وهذا الجرم والإثم لن يغفر للنظام العلماني في دولة إسرائيل وسيُذكر في التاريخ اليهودي على أساس أنه عار أبدي ) .
ورغم مساعدة الحكومة للتعليم الديني وتنازلاتها المؤدية إلى توسعة وزيادة الإقبال عليه فأن أهم الدروس الدينية فيه تؤكد لجميع الطلبة إن دولة اليهود المعاصرة لا تتوفر فيها الشروط الدينية ، وحكومة الكيان الصهيوني كبقية الحكومات العلمانية الأخرى بالنسبة لليهود لأنها تفتقد الشرعية التوراتية وقداسة الدولة الدينية ، وفي المقابل ظهر على السطح شرائح علمانية يهودية خائفة تحدر من هذا التوجه ، وترى من خلاله العنف اللائهاني على التيارات اليهودية المختلفة القومية والعلمانية(115/742)
والإصلاحية والمحافظة ، وأنشئوا جمعيات يهودية مضادة لها كـ ( جمعية مناهضة القهر الديني ) وتبقى رهبة هذه الشرائح يسيرة بالنسبة لما يعانيه غير اليهود فـ / داني روبنشتاين يرى ( أن الشبان والأولاد الذين يتلقون تعليمهم في المدارس الدينية التابعة لحركة بني عكيبا يفسرون أقوال الحاخامين بشكل عنصري بسيط ، وهو أنه لا ثقة بالعرب حتى بعد موتهم بمئة عام ، وأن العربي الجيد هو العربي الميت ) ، ثم إن الاحتجاجات العلمانية لم تعيق مسيرة التعليم الديني اليهودي ، أو تقلل من غلوه ، أو تقيد من تعاطف الأحزاب السياسية معه ، فمن خلال المهارة العالية لحزب شاس استطاع أن يقتطع من الميزانية العامة ( 50 ) مليون شيك للإنفاق على التعليم الديني لديه مقابل موافقة الحزب على موازنة الدولة عام 2000م ، وبلغ عدد مدارس الحضانة التابعة له (486) و(682) روضة أطفال و(146) مدرسة ابتدائية و 120 مدرسة ثانوية ووصل عدد المنتسبين إليها (111) ألف طالب عام 2000م ، وحينما وقع / آرييه درعي العقل المدبر لحزب شاس بين أنياب المحكمة العليا بتهمة الاختلاس من المال العام دفع عنه الحاخام / بارشالوم – بقوة – وقال ربما لم يكن درعي أفضل إنسان على الأرض ولكن لم يأخذ هذه الأموال ويضعها في جيبه الخاص ، فقد منحها للمدارس الدينية التي لولاه لما كان يوجد في إسرائيل الآن (83) ألف طالب توراة في هذه المدارس .
ثالثاً : خصائص التعليم الديني :
تميزت المدارس الدينية اليهودية المستقلة في فلسطين بالخصائص التالية :-
أ - أنها تقدم الدروس الدينية فقط ، وهذا (الاستبعاد للمواد العلمانية لا يشمل فقط الرياضيات وكل العلوم واللغات الأجنبية ولكنه يشمل – أيضا - الآداب العبرية التي تشتمل على الشعر الذي يتناول الموضوعات الدينية وقواعد اللغة والتاريخ اليهودي ) .
ب - إن المرجعية للطلبة فيها ليس للوالدين ولا للدولة إنما لرجال الدين ( وسلطة المعلم تكون شامله ومطلقة تقريباً ويقوم المدرس باختيار زوجات الطلاب ) .
ج - أنها تعيش في جو من العزلة عن البيئة المحيطة بها حيث ( يحضر على الطلاب القيام بأي اتصال مع غير المؤمنين ) .
د - أنها عنوان فشل جميع المحاولات الرسمية لفرض تعليم موحد على جميع السكان .
هـ- أنها خلف المواقف والعمليات الإرهابية العنيفة كالمحاولات المتكررة في هدم الأقصى والهجوم على الحرم الإبراهيمي ومقتل رابين وتقدم حزب شاس ، وتأييد 80% من المجتمع اليهودي في فلسطين لشارون وإجراءاته الدموية ضد انتفاضة الأقصى .
و – قام بتأسيس المدارس الدينية الحاخامات وتولوا الإشراف عليها وأحياناً إدارتها ، فالحاخام / تسفى موشيه نيريا حاخام المدرسة الدينية (بني عكيبا) ، والحاخام / كوك الصغير رئيس المدرسة الدينية ( مركازهراب ) والحاخام / اليعاز رشاخ رئيس المدرسة الدينية (بونيبج) وهكذا ..
ثانياً : الكتاب الأول :(115/743)
دراسة تحليل محتوى لكتاب "تاريخ علاقة اليهود بالشعوب الأخرى: الجزء الأول منذ العودة من السبى البابلى حتى الانتهاء من تدوين التلمود" : د . محمد أحمد صالح حسين
وصف الكتاب :
عنوان الكتاب: تاريخ علاقة اليهود بالشعوب الأخرى: الجزء الأول؛ منذ العودة من السبى البابلى حتى الانتهاء من تدوين التلمود.
محور العنوان: تطور العلاقات بين اليهود الأغيار (أي غير اليهود) في التاريخ القديم.
المؤلفان: الأول: يعقوب كاتس أستاذ التاريخ بالجامعة العبرية بالقدس.
الثاني: موشيه هرشكو, معلم بمهد المعلمين الديني.
الناشر: دار نشر دفير Dver بتل أبيب.
تاريخ النشر: الطبعة الثامنة, طبعة جديدة ومنقحة وموسعة, عام 1971م. وكانت الطبعة الأولى من الكتاب قد صدرت عام 1962م.
البلد الذي يدرس فيه الكتاب: إسرائيل.
المرحلة الدراسية للكتاب: المرحلة الابتدائية
السنة الدراسية التي أُلف لها الكتاب: السنة الرابعة.
لغة الكتاب: اللغة العبرية فقط.
القيم الدينية اليهودية في الكتاب :
1- خصوصية العلاقة بالرب وعقيدة الاختيار الإلهي لبنى إسرائيل. يظهر الإله في اليهودية إلهاً قومياً خاصاً مقصوراً على الشعب اليهودي وحده، بينما نجد أن للشعوب الأخرى آلهتها (الخروج 6/7) حتى تصبح وحدانية الإله من وحدانية الشعب. ولهذا، ظلت اليهودية دين الشعب اليهودي وحده، فقد اختير من بين جميع الشعوب ليكون المستودع الخاص لعطف الإله يهوا. كما أن تاريخ البشر يدور بإرادة الإله حول حياة ومصير اليهود. وتُستخدَم كلمة "ابن الله" في بعض الأحيان للإشارة إلى الشعب اليهودي. وتزداد أهمية اليهود كشعب مقدَّس، ويزداد التصاق الإله بهم وتحيُّزه لهم ضد أعدائهم. فاليهود قد خُلقوا من مادة مقدَّسة مختلفة عن تلك المادة التي خُلقت منها بقية البشر. فاليهود، بآثامهم، يؤخرون عملية الخلاص التي تؤدي إلى خلاص العالم. وهم، بأفعالهم الخيرة، يعجلون بها. ولذا، فالأغيار والإله يعتمدون على أفعال اليهود الذين يشغلون مكانة مركزية في العملية التاريخية والكونية. لكل هذا يُشار إلى الشعب اليهودي بأنه "عم قادوش"، أي "الشعب المقدَّس" و"عم عولام" أي "الشعب الأزلي"، و"عم نيتسح"، أي "الشعب الأبدي". وقد جاء في سفر التثنية (14/2) "لأنك شعب مقدَّس للرب إلهك. وقد اختارك الرب لكي تكون له شعباً خاصاً فوق جميع الشعوب الذين على وجه الأرض". والفكرة نفسها تتواتر في سفر اللاويين (20/24، 26).
لكل ما سبق تتكرر على مدى فصول الكتاب عبارات كثيرة تؤكد على خصوصية العلاقة التي تربط بين بنى إسرائيل والرب يهوا؛ مثل: "الرب وشعبه" (ص18), و"رب إسرائيل" (ص18), و"توراة موسى رجل الرب" (ص24), و"قطيع الرب"(115/744)
(ص202). ونجد فى الكتاب تعبيرات تربط بين "الرب والشعب والتوراة" مثل: "شعب الرب وتوراته" (96).
وانطلاقا من عقيدة الاختيار الإلهي يميت الرب من يعادى اليهود لأنهم شعبه المختار المخلص "مات أنتيخوس أثناء حملته الحربية في بلاد الفرس. ولقد فرح المؤمنون باندحار الشرير, فبسبب خطاياه مات موتة غريبة" (ص93). ولن يترك الرب شعبه المختار عرضة لعداء الأغيار "لن يترك الرب الذين يحاربون من أجله. وحينما تزايدت المشاكل جاء الخلاص للمحاصرين من الرب في لحظة" (ص95).
2- تحقيق رؤيا الأنبياء بأن الرب ينصر من ينصره ويثيبه ويعاقب من يخذله. فقد تحقق ما تنبأ به الأنبياء من خراب ليهودا والهيكل على يد نبوخذ نصر نتيجة انحراف بنى إسرائيل عن الطريق الذي رسمه لهم الرب. وقد أكد الأنبياء أن ما حدث لبنى إسرائيل لم يكن صدفة وإنما بمشيئة الرب؛ لأنه هو الذي يولى الملك لمن يشاء وينزع الملك عمن يشاء, يعاقب الظالمين بظلمهم ويثيب الذين ينفذون مشيئته (ص10). ويحيل المؤلفان التلميذ في هذا الصدد إلى ما جاء في أحد أسفار العهد القديم [ارميا 29:4-8] (ص16). من هنا تأتى أهمية الإخلاص للرب "فقد توجه كثير من سكان القدس إلى قيصريا لمناشدة الحاكم أن يخرج الأصنام من مدينة القدس فهددهم بالموت إلا أنهم مدوا رقابهم قبولا للموت بأنه من الأفضل لهم أن يموتوا عن أن يروا انتهاك حرمة الرب. فتنازل الحاكم عن قراره رغما عنه" (ص178). وفى موضع آخر نرى أن القيصر أمر بوضع تمثاله ليعبد كإله, إلا أن مواطني دولة يهودا رفضوا أمر القيصر؛ "لأن القيصر لا يعد شيئا أمام الرب, ملك ملوم الملوك" (ص212).
3- طاعة الرب أولى من طاعة أي شخص: "طلب الملك البابلى نبوخذ نصر من النبي دانيال واليهود الذين معه السجود للصنم فرفض المؤمنون أمر الملك؛ لأن أمر الرب, ملك الملوك, أعظم من أمر أي ملك من لحم ودم. فأُلقوا في النار أنقذوا منها بمعجزة" (ص21). واليهودي المطيع للرب يأمل أن يرسل الرب ملائكته لينقذ الهيكل ويدافع عنه "فقد أمنوا بأن الرب سيرسل لهم المسيح الذي تنبأ به أنبياء اليهود ولن يسمح أن يقع هيكله في أيدي الأغيار" (ص198).
4- احترام الوصايا التي بين الإنسان والرب وأثرها على علاقات البشر: أن انتهاك هذه الوصايا يؤدى بالتالي إلى انتهاك الوصايا التي تنظم العلاقة بين الإنسان والإنسان (ص29). فطالما لم يحترم الإنسان أوامر الرب ونواهيه فمن الطبيعي أن تفسد علاقة المرء بأخيه وتكثر السلبيات والمفاسد.
5- المحافظة على التوراة يثيب عليها الرب: "كان العمل يتوقف في السنة السابعة في الحقول والبساتين, وكان الحفاظ على سنة شميطا(12) يتم وفق الشريعة,؛ لأن الفلاحين كانوا واثقون من أن الرب سيرسل بركته في السنة السابعة, كما ورد في التوراة التي يحافظون على وصاياها" (ص36). من هنا كان الشعب يحافظ على التوراة حتى في أوقات الأزمات "فلم يقل احترام التوراة في نظر الشعب؛ لأنه نقش على لوح قلب الشعب أنه لا حياة لإسرائيل دون توراته, وأقسم الشعب أن يحقق الأمجاد بالتوراة, حتى إذا لم يكونوا هم سادة البلاد" (ص167). ونقرأ في موضع(115/745)
آخر أن الحاخامات يختلفون في بعض مسائل التوراة المكتوبة والتوراة الشفهية إلا أنهم يقرون بأن "التوراة المكتوبة والتوراة الشفهية هما مصدر حياة شعب إسرائيل" (ص170). فالتوراة هي "شجرة الخلد بالنسبة لليهودي طالما ظل متمسكا بها" (ص229).
6- اليهودي من كانت أمه يهودية: ظهر هذا الأمر عند الحديث عن أجر يباس ابن هوردوس الأدومى وأمه مريام الحشمونية: "وعلى الرغم من أنه نشأ في روما وتعلم ما يتعلمه الشباب هناك إلا أنه ظل يهوديا مخلصا لشعبه ودينه, محافظا على التوراة ووصاياها ... إن الأعمال الطيبة التي قام بها أجريباس جعلت الجميع ينسى عيوب نسبه, فهو من نسل الأدوميين من ناحية أبيه" (ص180-181). وعلى الرغم من أن تعيين أجريباس حاكما على يهودا من قبل السلطات الرومانية لم يكن إلا لكونه رومانيا وليس يهوديا, ولكن اليهودية تعتبر أن الأم هي المحك الأساسي لليهودي.
7- تقسيم البشر إلى طائفتين: يهود وغير يهود. وينطلق هذا التقسيم من عقيدة الاختيار التي جعلت اليهودي يشعر بأفضليته على بقية البشر, الأمر الذي جعل اليهودي يضع القوانين التي تحكم علاقته بالآخرين على هذا الأساس. ومع مرور الزمن تسببت هذه القوانين في بناء حاجز قوي وسور منيع بين اليهودي وغير اليهودي, إلي أن أصبح غير اليهودي يمثل الأجنبي أم الغريب في التراث الديني عند اليهود. وتكون لدي اليهود مفهوم "الأمم الأجنبية" التي تعبر عنه اللغة العبرية بكلمة "جوييم" أي "الأغراب", أو "الأجانب", أو "الأغيار". وأصبحت هذه الكلمة مصطلحا يعبر عن انفصال اليهودي عن غيره من الأمم(13). وقد اكتسبت كلمة "الأغيار" إيحاءات بالذم والقدح، وأصبح معناها «الغريب» أو «الآخر». الأغيار درجات أدناها الـ"عكوم"، أي عبدة الأوثان والأصنام (بالعبرية: عوبدي كوخافيم أو مزالوت أي "عبدة الكواكب والأفلاك السائرة")، وأعلاها أولئك الذين تركوا عبادة الأوثان، أي المسيحيون والمسلمون. وهناك أيضاً مستوى وسيط من الأغيار "جيريم" أي"المجاورين" أو "الساكنين في الجوار" (مثل السامريين). ويُنظَر إلى الأغيار على اعتبار أنهم كاذبون في بطبيعتهم، ولذا لا يؤخذ بشهاداتهم في المحاكم الشرعية اليهودية، ولا يصح الاحتفال معهم بأعيادهم إلا إذا أدَّى الامتناع عن ذلك إلى إلحاق الأذى باليهود. وقد تحوَّل هذا الرفض إلى عدوانية واضحة في التلمود الذي يدعو دعوة صريحة (في بعض أجزائه المتناقضة) إلى قتل الغريب، حتى ولو كان من أحسن الناس خلقاً. أبرز مثال على ذلك هو عنوان الكتاب نفسه, فهو يتناول التاريخ الإنساني على أنه تاريخ بين جماعتين رئيستين: الأولى هي اليهود والثانية هي الشعوب الأخرى, أي الأغيار أو الأممين أو الجوييم. ويتساوى في ذلك الجميع: البابليون والآشوريون والفرس واليونان والرومان والفراعنة والعرب وغير ذلك.
8- فضل اليهودية وجماعة الأسينيين(14) على المسيحية: "نمت المسيحية وترعرعت في البداية في أحضان اليهودية. ويبدو أن النصارى الأوائل قد تعلموا من عادات الأسينيين" (ص171). وشكك الكتاب في أن يكون السيد المسيح عليه السلام رسولا "... وأثناء طريقه وجد له مؤيدين يقولون أن بمقدوره معالجة المرضى والقيام بمعجزات وآيات. لقد قدره مؤيدوه جدا واعتبروه قديسا. ورويدا رويدا أمن هو(115/746)
نفسه بأنه أرسل من عند الرب" (ص174). ثم نجد في الأسئلة الواردة في نهاية الفصل سؤالا عن صلب السيد المسيح "اتهم المسيحيون المتأخرون اليهود بموت عيسى, هل هناك مجال لهذه التهمة؟" (ص175). ويتحدث الكتاب عن مواجهات بين المسيحيين واليهود "تدمرت معابد كثيرة وخربت مدن كاملة كان يقطنها اليهود. فقد تدعمت قوة المسيحيين في البلاد بعدما أصبحت السلطات الرومانية ترعاهم. فقد سمح لهم ببناء الكنائس في أي مكان. فأقاموا كنيسة في المكان الذي اعتقدوا أن المسيح, مؤسس المسيحية, صلب فيها. وبدأ المسيحيون يرددون رأيا مفاده أنهم الورثة الحقيقيون للقدس. وقد زادت تصرفات المسيحيين وكلامهم من معاناة العبودية التي يحياها اليهود" (ص252).
القيم الصهيونية في الكتاب :
1- وحدة الجماعات اليهودية: تكرار في الكتاب عبارات تؤكد على وحدة الجماعات اليهودية في مختلف أنحاء العالم القديم, وهو مفهوم معاصر تحاول الصهيونية ترسيخه دون أي اعتبار للمكان والزمان واللغة وتطلق عليه "وحدة الشعب اليهودي", فنجد تعبيرات مثل: "أمتنا" (ص7), و"آباؤنا" (ص10), و"أرضنا" (ص14), و"أبناء إسرائيل" (ص23), و"أسباط إسرائيل" (ص45), و"أبناء يعقوب" (ص94), و"أصحاب الدين الواحد" (ص52), و"أبناء شعب واحد" (ص88), و"الشعب اليهودي" (ص103), و"الأمة الإسرائيلية" (243),. ولقد كان هذا المفهوم من المفاهيم الأساسية التي حرص المؤلفان على التأكيد عليها من البداية, فأفردا أول عنوان جانبي في المقدمة لهذا المفهوم "أسباط إسرائيل شعب واحد" (ص7).
2- التأكيد على أحقية اليهود فيما يسمى بـ"أرض إسرائيل". وقد برز هذا التأكيد في تكرار الحديث عن الآثار اليهودية في فلسطين. فنجد في نهاية الفصل الأول أسئلة تدور حول هذا التأكيد جاء فيها: "في أي الأماكن في البلاد شاهدت أطلال يهودية من الماضي؟ صفها!. هل تعرف في أي الأماكن في بلادنا تجرى الآن حفائر أثرية؟" (ص15). ويشير المؤلفان في موضع آخر إلى أن "بلاد الشتات طوال فترة الهيكل الثاني كانت هامشية بالنسبة لأرض إسرائيل. ففي أرض إسرائيل يوجد الهيكل والمحكمة الدينية الكبرى, وإلى هناك اشتاق كل أبناء الشتات منتظرين حلول الموعد" (ص254).
3- الارتباط الدائم بأرض إسرائيل: شعر المسبيون فى بابل بالغربة عن وطنهم الأصلي "أرض إسرائيل", على الرغم مما "أتيح لهم من حياة كريمة وحرية العبادة فسمح لهم ببناء معابد خاصة بهم. فبدءوا في بناء منازل لهم ولم تفرض عليهم السلطات البابلية مكانا محددا يقيمون فيه, فأقام بعضهم في بابل وأقام البعض الآخر في المدن المطلة على نهرى دجلة والفرات. كما عملوا في التجارة وحققوا ثروات طائلة, وحافظوا على استخدام العبرية في حياتهم الداخلية رغم تعلمهم الأرامية للتحدث بها في حياتهم العامة. ومع ذلك لم ينقطع حنينهم وشوقهم إلى أرض إسرائيل, أرض الآباء" (ص18). من هنا يطلق عليها المؤلفان في موضع آخر "أرض شوقهم" (ص23), كما يطلق عليها "أرضنا" (ص12), و"بنو إسرائيل وأرضهم"(115/747)
(254). ولا يكتفي المؤلفان بالرجوع إلى التاريخ وإنما يوردان مقولات لرجال الدين اليهودي في المشنا تؤكد ارتباط اليهود بأرض إسرائيل وهم خارجها "من يقيم في أرض إسرائيل ويقرأ فيها صلاة الشماع في الفجر والمغرب ويتحدث باللغة المقدسة (العبرية) سيحيا الحياة الأخروية (توسفتا: براخوت:5)" (ص235). ويستطرد المؤلفان في الحديث عن الموضوع نفسه في معرض حديثهما عن أحوال اليهود المنفيين في بابل كمنفى اختياري "على الرغم من أنهم أحبوا البلاد التي أتاحت لهم أن يعيشوا فيها لأجيال عدة, فلم يغيروا أرض وطنهم ببلد أجنبي؛ لأن ذكرى أرض إسرائيل لم تنمح من قلوبهم. فقد كانت في نظرهم موطنهم الحقيقي وأملوا أن يعودوا إليها بحلول الموعد. فقد حافظوا على أيام الصوم التي تحددت بمناسبات خراب الهيكل الأول والثاني" (ص266). ولكي يؤكد المؤلفان على هذا البعد الصهيوني يشيران إلى أن "كثيرا من الآباء الذين لم يتمكنوا من السفر إلى أرض إسرائيل في حياتهم أوصوا أبناءهم أن ينقلوا رفاتهم إلى أرض إسرائيل. فلقد أمن أبناء بابل أنه لا راحة أبدية لليهودي إلا في أرض إسرائيل" (ص269).
وتجدر الإشارة إلى أن التاريخ اليهودي نفسه يعد من وجهة نظر الصهيونية تعبيرا عن الارتباط بالأرض. من هنا تربط كثير من الكتابات اليهودية الصهيونية بين ما تسميه "روح الشعب اليهودي" و"القبس الإلهي" و"روح الرب", وأن هذه الأرض ستعترف باليهود لأنها ستثمر بواستطهم هم وهم فقط(17). من هنا تردد الكتابات الصهيونية عبارات مثل "المَنْفَى" و"الشتات" و"الدياسبورا" و"العودة", فجاءت متواترة مألوفة في الأدبيات الخاصة باليهود واليهودية.
4- اعتزال المجتمعات الأخرى: كانت خصوصية العلاقة بين اليهود والرب من ناحية وعقيدة الاختيار من ناحية أخرى وراء حرص الجماعات اليهودية على اعتزال المجتمعات الأخرى التي يعيشون بين ظهرانيها.فقد جاء في التلمود أن جماعة يسرائيل يُشبَّهون بحبة الزيتون لأن الزيتون لا يمكن خلطه مع المواد الأخرى، وكذلك أعضاء جماعة يسرائيل يستحيل اختلاطهم مع الشعوب الأخرى. ففي أول سبى لهم, وهو السبي البابلي, ورغم الترحاب بهم وحرية العمل والعبادة إلا أنهم "فضلوا العيش متجاورين بمعزل عن البابليين. وقد أتاح لهم هذا الانعزال الحفاظ على الاحتفال بيوم السبت والأعياد" (ص18). وفى فلسطين, بعد العودة من السبي, "كان اختلاط اليهود الأغيار سببا لفسادهم وابتعادهم عن دينهم والطريق المستقيم, بعدما تزوجوا منهم, وبعدما صارت لغتهم خليطا بين العبرية والأشدودية" (ص29). ولكي تعاد الأمور إلى نصابها الصحيح لابد من اعتزال بنى إسرائيل للمجتمعات الأخرى. وكان أول إجراء لتحقيق هذا الاعتزال هو فك الارتباط بين اليهود والأغيار, وقد تمثل هذا في تطليق الزوجات الأجنبيات التي تزوجهن اليهود والتعهد بعدم الزواج من أجنبيات, فكان هذا بمثابة تطهير من الآثام (ص29-30). وهكذا تم الربط بين الاختلاط بالأغيار والانهيار المادي والأخلاقي لليهود واعتزالهم يعنى الازدهار المادي والأخلاقي. وتردد الكتابات الصهيونية المعاصرة مصطلح "الإبادة الصامتة" للإشارة إلى معدلات الاندماج والزواج المُختلَط المرتفعة باعتبارهما عناصر ستؤدي إلى إبادة اليهود وإلى "موت الشعب اليهودي".(115/748)
5- الإحساس بالتفوق والتميز: استشعر اليهود منذ التاريخ القديم التفوق والتميز الناتج عن خصوصية علاقتهم بالرب وارتباطهم بالتوراة. ظهر هذا الإحساس أثناء تواجد اليهود في بابل, ونبع شعورهم من أنهم موحدون والبابليون وثنيون (ص18), على الرغم من أنهم من "أصغر الشعوب" (ص19). ونجد في موضع آخر من الكتاب "اليهود يختلفون عن كل الأغيار. فلم يعبد اليهود القيصر كما عبدته بقية الشعوب. ففي الأماكن التي اختلط فيها اليهود بالأغيار تبين للأغيار أن اليهود يتميزون في نمط حياتهم بالمقارنة بنمط حياة الأغيار. كما أن إيمانهم بالرب مختلف عن إيمان الأغيار بربهم. فعلى الرغم من الاختلاط بين اليهود والأغيار في الإسكندرية بمصر وقيصريا في فلسطين وبعض المدن في سورية إلا أن اليهود لم يتعلموا السير على دروب الأغيار. فقد حافظوا على أعيادهم الخاصة ولم يأكلوا من ذبائح الأغيار ولم يتزوجوا منهم" (ص178). ومازالت الصهيونية تردد أفكارا من هذا القبيل. ومازال الصهاينة يرددون زعمهم بالتفوق والعبقرية, مسقطين هذا الزعم علي الدولة الصهيونية بأنها نور الأمم، وواحة الديموقراطية الغربية، ورائد العالم الثالث. وعلي مستوي الأفراد لا يزالون في إسرائيل، وفي الأوساط الصهيونية، يتحدثون عن ذكاء اليهود، وعن النسبة غير العادية من اليهود الحاصلين على جوائز نوبل، باعتبار أن هذه الصفات الإيجابية نابعة من الخصوصية اليهودية
6- الأغيار وعداءهم لليهود: يقدم الكتاب علاقات اليهود بالأغيار على أنها سلسلة من مظاهر الكراهية والعداء لليهود بدءا من السبى البابلى ودمار الهيكل الأول (ص16), مرورا بالمواجهات مع اليونان (ص93), وانتهاء بخراب الهيكل الثانى والسبى الرومانى (ص178, وص183, وص188). "فبدلا من التعلم من اليهود نهض الأغيار ليصبوا كراهيتهم عليهم لإيمانهم الطاهر ونمط حياتهم الخاص. وهكذا انتشرت كراهية اليهود بين الأغيار" (ص178-179). ويتأكد هذا التصور اليهودي إذا عرفنا أن اليهود ربطوا أعيادهم الدينية بما يعتبرونه اضطهاد الأغيار لهم. فعيد الفصح مرتبط بخروج اليهود من مصر, أرض العبودية والذل, ويوم التاسع من آب يوم حريق الهيكل, ويوم العاشر من طبيب بدأ فيه حصار القدس على يد نبوخذ نصر, ويوم التاسع من تموز احترقت فيه أسوار القدس, ويوم الثالث من تشرى يوم مقتل الملك جدلياهو (ص18).
واليهود يُواجَهون بالعداء والكراهية رغم ميلهم للسلام "فهم لم يستطيعوا مواجهة مضطهديهم من اليونان لأنهم غير مدربون على الحرب من ناحية وأنهم يعيشون على أرضهم بسلام من ناحية أخري" (ص95). ويستشهد المؤلفان بفقرات من العهد القديم تعرض ما يعتبره اليهود عداء وكراهية من قبل الأغيار "يقول تجمع اليهود أمام الرب تبارك وتعالى: يا رب في الماضي كنت تنير لي طرقي بين ليلة وأخرى, بين ليل مصر إلى ليل بابل, بين ليل بابل إلى ليل ماداي, بين ليل ماداى إلى ليل اليونان, بين ليل اليونان إلى ليل أدوم" (ص247). وتردد الكتابات الصهيونية إن اليهود هم دائماً الضحية وأنهم تم طردهم من بلد لآخر واضطهادهم دون سبب واضح ودون رحمة أو شفقة. بل يحاول الصهاينة في كثير من الأحيان تضخيم دور اليهود كضحية بحيث يحتكرون هذا الدور ويبذلون قصارى جهدهم في إنكار هذا الدور(115/749)
على الآخرين. وقد استمر تضخيم دور اليهود كضحية حتى أصبح الشعب اليهودي يعادل المسيح المصلوب في بعض مدارس الفكر الديني اليهودي الحديث. ويحاول الصهاينة توظيف دور اليهود كضحية في خدمة مشروعهم السياسي الاستعماري، فيطالبون ألمانيا بأن تدفع بلايين الدولارات تعويضاً لليهود عما وقع لهم من مذابح، بل يصبح احتلال فلسطين وطرد سكانها منها مجرد تعويض عما حاق باليهود من أذى على يد النازيين!
7- خطر إبادة اليهود: علي الرغم من أن هذا مفهوم "الإبادة الجماعية" حديث بدأ ظهوره في عام 1946م, حينما أعلنت الأمم المتحدة أن الإبادة الجماعية جريمة يدينها العالم, وعلي الرغم من أن الجمعية العامة أقرت عام 1948م ميثاقا يقضي بتحريم هذه الإبادة وإنزال أقصي العقوبة على من يرتكبها, وعلي الرغم من أن هذا الميثاق أصبح نافذ المفعول عام 1951م فإننا سمعناه يتردد في التاريخ القديم بين دفتي هذا الكتاب, فأثناء وجود اليهود في بابل إبان الحكم الفارسي "كان خطر الإبادة (سكانات هكلايا) يحدق حينئذ بكل اليهود الذين يقيمون في دول فارس والميديين. ولكن بموت هامان الشرير الذي فكر في إبادتهم أُنقذ اليهود بمعجزة" (ص38). ويتحدث في موضع آخر عن إبادة حقيقية "تمت في جزيرة قبرص إبادة (هشمادات) اليهود ولم يبق منهم شخص واحد" (ص222).
8- الدعوة إلى التمرد ورفض الخضوع للأغيار: تبنت الصهيونية فكرة التمرد على سيادة الأغيار عليهم واتخذت من أحداث تمرد اليهود على الرومان في التاريخ القديم نموذجا لذلك. فاليهود لم ييأسوا من التحرر من الرومان على خلاف من الشعوب الأخرى التي سلمت بهذا الاحتلال "سلمت الشعوب التي قضى الرومان على حريتهم بقدرهم. يشذ اليهود عن ذلك. فعلى الرغم من أن الرومان خربوا هيكلهم ونكلوا بدينهم وتوراتهم فالمرارة كانت كامنة داخلهم سواء فى أرض إسرائيل أو خارجها في الشتات ... فالجميع ينتظرون وصول المسيح المخلص ليشنوا حربا ضروس على مملكة الشر" (ص220-221). ونجد الكتاب يكرر الفكرة ذاتها "كان شعب إسرائيل مختلفا عن بقية الشعوب, فمن الصعب عليه أن يحتمل عبء الأجانب" (ص226). ويشير مؤلفا الكتاب إلى أن مصدر روح التمرد لدى اليهود يكمن في تمسكه بدينه وتوراته "أبدى بعض المسئولين الرومان رأيهم للقيصر بأنه طالما ظل أبناء الشعب اليهودي متمسكين بدينهم وإيمانهم فلن ييأسوا من التحرر من العبودية للرومان" (ص228). وحينما تفشل عمليات التمرد عادة يصبح التطلع إلى الخلاص المسيحانى هو المخرج الوحيد, وعادة ما ينتهي التمرد أيضا بهزيمة اليهود أم انتحار المتمردين "تزايد التطلع إلى الخلاص وقوى الإيمان بأن الرب سيجعل بداية النجاح إلى خلاص دائم" (ص225). ولكن "الخلاص لم يتحقق, والرجل الذي اعتقد أنه المسيح المخلص قُتل مثله مثل أي شخص آخر" (ص228).
وتكثر الكتابات الصهيونية من الحديث عن شخصيات تاريخية يهودية تعتبرها رموزا للتمرد ضد الأغيار مثل يهودا المكابى وبركوخفا.
9- الدعوة للانتحار الجماعي بدلا من الاستسلام للأعداء: كان مفهوم الانتحار موجودا في التاريخ القديم لدي بعض الجماعات اليهودية ومازال يحظى بالتمجيد(115/750)
والثناء في الكتابات الصهيونية المعاصرة. فمعظم الأساطير الصهيونية، مثل أسطورة متسادا وشمشون وبركوخبا، هي أساطير انتحارية. ويتحدث الكتاب الغربيون عن "عقدة متسادا". ويقدم لنا المؤلفان حدثين يؤكدان هذا التوجه "... نجح يوسيف متتياهو في الهرب إلى إحدى المغارات في أطراف المدينة. واختفى معه أربعون شخصا من المدافعين عنه. وفى النهاية اكتشف الرومان مخبأهم فطلبوا منهم الخروج من المغارة وتسليم أنفسهم. قرر الأربعون الانتحار, بأن يقتل كل منهم الآخر على ألا يسلمون أنفسهم للأعداء" (ص194). ويتأكد هذا المفهوم ويتدعم من خلال حدث تاريخي آخر مازالت أصداؤه تتردد كثيرا في الكتابات الصهيونية المعاصرة, وهو حدث متسادا. فقد سرد لنا الكتاب تحت عنوان جانبى "آخر الأبطال" كيف ترك تيتوس فلسطين متوجها إلى روما منتصرا, بعد أن هدم الهيكل الثاني وحرق القدس, فهرب بعض اليهود إلى الجبال والحصون الجبلية. وقد حاصرت الحامية الرومانية التي بقيت في القدس قلعة متسادا التى يحتمى بها بعض اليهود. "حينما شعر أليعيزر أن الرومان اقتربوا من اختراق أسوار القلعة جمع رجاله وتحدث إليهم بألا يسمحوا لأنفسهم أن يقعوا في أسر الرومان, بل يجب أن يموتوا أبطالا أحرارا. استجابت الجماعة لمطالب أليعيزر, فأقسموا أن يكونوا أحرارا وألا يكونوا عبيدا للرومان. بدأ كل فرد في قتل أفراد أسرته؛ زوجته وأبنائه, وبعد ذلك قتل الأبطال كل منهم الآخر. أشعل الأبطال النار في ثروات القلعة وقصور الملوك التي كانت هناك, وانتحر الذي بقى حيا في النهاية. وحينما دخل الرومان القلعة بدا أمامهم مشهد مروع من المنتحرين" (ص209).
10- مسميات عبرية للبلدان العربية في فلسطين: لوحظت في هذا الكتاب عملية عبرنة لمسميات البلدان العربية في فلسطين, حتى يتعرف عليها التلميذ على أنها عبرية في الأصل وليس لها تسمية أخري. ولكي يدعم المؤلفان هذا التوجه يوردان خريطة عليها البلدان بمسميات عبرية (ص24). واللغة العبرية الحديثة لا تعرف كلمة «فلسطين». وهذا يتفق مع التصور اليهودي الصهيوني الذي يرى أن الأرض لا وجود لها إلا بالإشارة إلى اليهود والتاريخ اليهودي. ولهذا، فكلما أشار يهودي إلى فلسطين، فإنه إنما يشير إلى «إرتس يسرائيل». وحتى لا يحدث اسم فلسطين الذي يتردد الآن لبثا في ذهن التلميذ وهو الذي يعرفها بأنها أرض إسرائيل أورد المؤلفان في الكتاب أن اسم فلسطين اسم أطلقه الرومان على أرض إسرائيل لمحو اسم أرض إسرائيل نكاية في اليهود وانتقاما منهم "أراد الرومان محو اسم اليهود من بلادهم لذا أطلقوا اسم فلسطين على أرضنا نسبة إلى البلستيم القدماء" (ص228). ويرفض السياسى الصهيونى الإسرائيلى "مناحيم بيجين" (1913م -1998م) تسمية "فلسطين" لما لها من دلالات سياسية يرفضها بقوله "إذا استخدمت كلمة فلسطيني بالنسبة للعربي فإن هذا يتطلب منك التسليم بأن هذه الأرض هي فلسطين. وإذا كانت هذه الأرض فلسطين فإن هذا يعنى أنها ليست أرض إسرائيل, وإذا لم تكن هذه الأرض هي أرض إسرائيل, فماذا نفعل نحن هنا؟" .
11- شراء الأرض من الفلسطينيين: يتردد هذا الزعم الصهيوني في العصر الحديث بأنهم اشتروا أرض فلسطين من محتليها الفلسطينيين. والكتاب يورد في ثناياه أن(115/751)
"الحاخامات شجعوا سكان البلاد اليهود على شراء أرض من الأغيار حتى تعود البلاد إلى الحوزة اليهودية. فقد علموا الشعب ألا ييأس من عودته إلى أرضه "سيبنى الهيكل بسرعة" وتعود البلاد إلى كامل بهائها ومجدها" (ص214).
12- بداية الكتاب بالعودة من السبى البابلي: هناك قيمة صهيونية تكمن وراء اختيار الحدث التاريخي الذي بدأ به الكتاب. فالكتاب يبدأ بحدث عودة اليهود المسبيين من بابل ولم يبدأ بأي حدث سابق عليه, لتصبح عودة اليهود - بناء على ذلك - عودة إلى أرض كانوا فيها من قبل ومن حقهم العودة إليها. وهذا حق أريد به باطل. فالمؤلفان بهذه الطريقة ابتعدا عن قضية هامة يمكن أن تلقى بظلال من الشك على أحقية اليهود في فلسطين في ذهن التلميذ. فلقد تجاوزا بهذا الطرح مسألة مدى أحقية اليهود في أرض فلسطين. فهما بهذا ابتعدا عن فترة كانت المصادر الدينية اليهودية التاريخية تتعامل مع فلسطين على أنها أرض غربة بالنسبة لليهود. فالتوراة تعترف بأن أرض فلسطين كانت أرض غربة بالنسبة لآل إبراهيم وآل إسحاق وآل يعقوب. فهي تتحدث عنهم بصفتهم غرباء وافدين طارئين على فلسطين . أما موطنهم الأصلي فهو "آرام النهرين", أي منطقة حاران. وقد وردت كلمة الاغتراب كلما تنقل إبراهيم في مصر وفلسطين, كما وردت مرتبطة في بعض المواضع بإسحاق ويعقوب . أضف إلى هذا أن أبناء إسرائيل الإثنى عشر ولدوا كلهم – كما تشير التوراة – في فدان آرام , حيث مكث أبوهم يعقوب عشرين سنة . ويعنى هذا أن مولدهم ونشأتهم كانا خارج فلسطين. وهذه الأدلة – التي تستند على التوراة ذاتها – توضح أن إدعاء اليهود بحقهم في أرض إسرائيل لا أساس له؛ لأن موطنهم الأصلي لم يكن فلسطين, بل منطقة حران الآرامية, وجميع الأخوة الذين ورد ذكرهم في التوراة ولدوا ونشأوا خارج فلسطين .
ولا يمكن النظر إلى هذا التوجه بمعزل عن التوجه العام للكتابات اليهودية التي يغلب عليها الطابع العنصري. فقد أراد مؤرخو التوراة أن يجعلوا انفصال إسحاق عن إسماعيل – ولدى إسحاق – فصلا تعسفيا, فاعتبروا إسحاق البداية للتاريخ العبري القديم. وأنكروا التاريخ الإسماعيلي تماما. وفسروا أحداث هذه الفترة تفسيرا يخدم عملية الفصل هذه, وكأنها حدثت زمن إبراهيم عليه السلام بإلصاق الوعد الإلهي به, وتحقيق وراثة هذا العهد في إسحاق وذريته وإنكار نسبة العهد إلى إسماعيل وذريته, بل والتعتيم كلية على أخبار إسماعيل, وكأنه لم يكن موجودا على الإطلاق. وقد بدأت هذه العملية بإنكار بكورة إسماعيل لكون أمه أجنبية, ومنح البكورة لإسحاق رغم أنه الأصغر وذلك لأن أمه إسرائيلية, وكذلك إنكار كون إسماعيل هو الذبيح وتحويل هذا الشرف إلى إسحاق . وعلى مستوى آخر تعمد مدونو التوراة إقصاء الكنعانيين العرب من الشعوب السامية فأدخلوا شعوبا لا يعدها العلم الحديث من الشعوب السامية . ولم يقف الأمر عند حد التشويه والتحريف بل امتد ليصب هؤلاء الكتبة جام غضبهم وحقدهم على الكنعانيين فنعتوا كنعان بالملعون واعتبروه عبد العبيد .
13- صهينة التاريخ القديم: يمكن أن نلحظ في هذا الكتاب ظاهرة هامة وهى صهينة التاريخ الإنساني, بحيث يقوم المؤرخ الصهيوني بإعادة ترتيب التاريخ القديم وينتقى منه ويترك منه مالا يريد ليوجه أحداث التاريخ نحو وجهة معينة تتفق ونواياه ومقاصده, وقد وقف بعض الباحثين علي ظاهرة صهينة التاريخ القديم وتداعياتها(115/752)
وأهدافها . فقد حرص المؤلفان على أن يرتبا أحداث التاريخ القديم على غرار ترتيب أحداث التاريخ المعاصر فيما يتعلق بالحركة الصهيونية. فقد بدأ الكتاب بعودة اليهود المسبيين إلى بابل بعد أن سمح لهم الملك الفارسي كورش, المنتصر على البابليين, بالعودة إلى فلسطين. يسمى الكتاب عودة المسبيين بـ"العودة إلى صهيون- شيفات تسيون" ويطلق التعبير نفسه على هجرة اليهود إلى إسرائيل الآن. كما يطلق الكتاب على قرار كورش بالسماح لليهود بالعودة بـ"وعد كورش – هتسهارات كورش" (ص24), والتعبير نفسه يستخدم للإشارة إلى "وعد بلفور – هتسهارات بلفور" وكأن التاريخ يعيد نفسه, والتعبير المشترك ناجم عن أن الوعدين سمحا بعودة اليهود إلى فلسطين قديما وحديثا. كما استعرض المؤلفان في التاريخ القديم تاريخ أكبر دولتين في منطقة الشرق الأدنى القديم وهما البابلية والأشورية على غرار فرنسا وإنجلترا أثناء صدور وعد بلفور عام 1917م. كما يطلق على الأماكن التي يقيم فيها العائدون من بابل "استيطان – هتيشفوت" (ص24), وهى التسمية نفسها التي تستخدم في الوقت الحالي لتوطين المهاجرين الجدد في إسرائيل. كما يطلق في موضع آخر على العائدين تعبير "مهاجرون – عوليم" (ص25) بدلا من "عائدون - شافيم", وهو نفسه التعبير الذي يستخدم للإشارة إلى المهاجرين فى إسرائيل حتى الآن. كما يطلق على مواجهات المكابيين مع الرومان بـ"حرب التحرير – ملحيميت شحرور" (ص101) وهو التعبير نفسه الذي أطلق على حرب عام 1948م.
ولكي يربط المؤلفان بين أحداث التاريخ القديم والتاريخ المعاصر في ذهن التلميذ يشيران إلى أن اليهود الذين يعيشون في روما الآن يحرصون على عدم المرور تحت قوس النصر الذي بناه تيتوس بمناسبة انتصاراته على اليهود وحرق القدس والهيكل "حتى لا يروا رمز سقوط شعبهم في يد أعدائه" (ص208).
14- استخدام تعبيرات شائعة في تاريخ الجماعات اليهودية وتراثها الديني عند تناول تاريخ شعوب أخرى وجماعات مختلفة. مثل مصطلح "خراب – حوربان", الذي ارتبط في تاريخ اليهود وتراثهم الديني بخراب ما يسمونه الهيكل الأول على يد نبوخذ نصر والهيكل الثاني على يد تيتوس الروماني, عند الإشارة إلى الدمار الذي لحق بمدينة كارتاجو فنجد "خراب كارتاجو - حوربان كارتاجو" (ص137). وربما أراد المؤلفان من ذلك جعل حدث الخراب والتخريب حدثا سائدا وشائعا في التاريخ القديم وليس قاصرا على اليهود فقط. ولقد مهد الكتاب لخراب الهيكل الثاني أثناء حديثه عن خراب كارتاجو. ثم أصبح حدث خراب الهيكل نقطة تاريخية محورية يبدأ بها تقويم جديد كأن يقال – مثلا - قبل خراب الهيكل بعشر سنوات وبعده بعشرين عاما (ص221).
القيم السياسية في الكتاب :
1- أهمية القدس والهيكل: يؤكد المؤلفان على أهمية القدس والهيكل عند اليهود في التاريخ القديم, فيشيران إلى أن اليهود يحتفلون بالعديد من المناسبات الدينية التي ارتبطت بالأحداث التي مرت على القدس والهيكل. منها: يوم التاسع من آب يوم حريق الهيكل, ويوم العاشر من طبيب الذي بدأ فيه حصار القدس على يد نبوخذ نصر, ويوم التاسع من تموز الذي احترقت فيه أسوار القدس (ص18) وغير ذلك.(115/753)
ولما كان الهيكل "بيت حياتنا" (ص206) فإن "الرب سيرسل مسيحه المخلص لينقذ الهيكل قبل أن يقع في أيدي الأغيار" (ص198). ويورد الكتاب استشهادات من العهد القديم والتلمود تؤكد الحزن على الخراب الذي حل بالقدس والهيكل "يقول الحاخامات أن أي شخص يمارس أي عمل يوم التاسع من آب ولا يحزن على القدس لن يرى فرحتها. ومن يحزن على القدس سيحظى بمشاهدة فرحتها" (فصل الصوم في المشنا:5) ويفسر أحد الحاخامات ما جاء في العهد القديم: "وتبكى عيني بكاء وتذرف الدموع لأنه سبى قطيع الرب" (إرميا 17:13) بأنه "يجب على اليهودي أن يذرف ثلاث دمعات: واحدة على الهيكل الأول, والثانية على الهيكل الثاني, والثالثة على اليهود الذين تشتتوا من موطنهم" (ص187).
ويبالغ المؤلفان فيما يسميانه دفاع اليهود عن هيكلهم داخل القدس ليعزز ارتباط اليهود بالقدس والهيكل "احترقت قاعات الهيكل الخارجية ولم يبق من المدافعين عنه سوى جثثهم, التي أرادوا بها أن يسدوا الطريق أمام الرومان حتى لا يصلوا إلى داخل الهيكل" (ص206). ويفرد الكتاب عنوانا جانبيا يؤكد فيه حريق الهيكل وخلود اليهود "احترق الهيكل, ولكن شعب إسرائيل حي خالد" (ص206).
2- الفخر باليهود القدماء (الآباء) والاعتزاز بهم: أخذ تحقيق هذه القيمة عدة مظاهر:
أ – اتساع حدود دولة إسرائيل في عهد الملك يناى لتصل إلى نقاط حدودية لم تصلها في عهد الملك سليمان الذي يعد أزهى عصور الوجود اليهودي السياسي في فلسطين. "فقد هزم العرب وضم شرق الأردن إلى يهودا, كما ضم المدن اليونانية في شرق الأردن إلى يهودا, كما ضم كل المدن الساحلية من مصر حتى لبنان عدا عكا وأشكلون. لقد امتدت دولة إسرائيل الآن من مصر حتى لبنان ومن البحر إلى الصحراء" (ص115-116). وفى فترة متأخرة تمتد هذه الحدود شمالا لتتجاوز لبنان حتى تصل إلى دمشق في سوريا "تمتد الدولة اليهودية من حدود مصر حتى دمشق ومن البحر إلى الصحراء" (ص167).
ب- تقدير الأغيار وقادتهم لليهود: يذكر المؤلفان في هذا السياق الإسكندر المقدوني: "تحكى أجيال متعاقبة حكايات يتوارثها الأبناء عن الآباء عن اللقاء الأول الذي تم بين اليهود واليونان. فقد خرج الكاهن الأكبر ليستقبل المحتل العظيم على رأس مسيرة فخيمة مهيبة, وهو يرتدى ملابس الكهانة. حينما شاهد الإسكندر الكاهن الأعظم نزل من عربته وانحنى له. أثار تصرف الإسكندر دهشة قادته العسكريين, فرد عليه الإسكندر بأن شخصية الكاهن قد ظهرت له في الحلم ووعدته بقيادته إلى النصر" (ص67-68). وهكذا وضع المؤلفان اليهود واليونان على قدم المساواة في التاريخ القديم, وهذا تشويه لحقائق التاريخ وتحريف لوقائعه وإن استهدف إسباغ أهمية على اليهود تتساوى مع أهمية اليونان في التاريخ القديم.
جـ - اعتراف الأغيار بتميز اليهود وتفوقهم, الأمر الذي يمنحهم قوة ووحدة. أورد المؤلفان أن "أنتيخوس أدرك أنه طالما تميز بنو إسرائيل عن بقية الشعوب بعقيدتهم ونمط حياتهم فلن يخضعوا له خضوعا كاملا" (ص84). وحينما طلب هورودوس من الحاخامين هليل وشماى أداء يمين الولاء والطاعة له رفضا "فلم يجرؤ هوردوس على مسهما بسوء, بل بجل هليل وشماى على شجاعتهما" (ص167). وفي موضع(115/754)
آخر "أدرك الأغيار تدريجيا أن اليهود يعتبرون أنفسهم أسمى من كل شعوب الأرض بقوة توراتهم التي حافظوا على وصاياها" (ص178). وقد تعلم بعض الأغيار من اليهود "الإيمان بالرب الذي خلق السماوات والأرض" (ص178).
د - شجاعة اليهود وبطولتهم رغم قلة عددهم بين الشعوب: فقد نجح يهودا المكابى في تطهير الهيكل بالقدس بعد أن حاصر القدس "... وهكذا انتصر قليلون على كثيرون, والضعفاء هزموا الأقوياء فظلوا يحمدون الرب ويشكرونه على المعجزات والآيات التي أظهرها" (ص92). وفى موضوع آخر يحدثنا الكتاب عن أن "أنتيباتير أمد القيصر بآلاف الجنود اليهود ليحاربوا معه في مصر" (ص154). ونجد في مكان آخر "أدرك الرومان بدءا من الآن أن حربهم ضد الشعب ستطول, فمع أنه قليل في عدده فإنه لا يقل في بطولته عن أي شعب آخر حاربه الرومان في أي وقت من الأوقات. فقد ذهل القيصر نيرون عندما سمع عما يحدث في القدس" (ص190). ونقرأ أيضا أن قيصر روما أقر بأنه حينما يحارب اليهود فهو يحارب عدوا صعب المراس "أدرك القيصر أدريانوس أن عليه أن يحارب عدوا صعب المراس لا مثيل له" (ص226). ويضيف المؤلفان في موضع آخر "كانت بطولة وبسالة كبار الجيل نموذجا ومثالا يحتذى بهما لإخوانهم. فحتى الآن نحتفل بذكرى الحاخامات العشرة الذين قتلوا أثناء مواجهتهم للرومان كل عام عندما نقرأ المراثى فى التاسع من آب" (ص231-232). ويواصل الكتاب حديثه عن بطولة اليهود "لم يكن من السهولة بمكان على الرومان صد أعدائهم (اليهود) لأن أبطال اليهود حاربوا كالأسود" (ص226).
وفى إطار ما يسميه المؤلفان بطولة اليهود وشجاعتهم فى مواجهة الأغيار ضمن الحديث عن حصار فومبيس للقدس "ولكن لم تنته روح البطولة من إسرائيل" (ص122). وفى مكان لآخر "رفض قادة الجيش, الذين تحصنوا فى قلعة المدينة, الانصياع لأوامر أريستوبول وقرروا الدفاع عن المدينة مهما كان الثمن. تحصنوا فى القلعة وصمدوا هناك ثلاثة أشهر ولم يتمكن الرومان من احتلال المدينة إلا بالحيلة والخديعة" (ص122).
هـ - اتحاد الأمة عند تعرضها لخطر خارجي: يجب على أية أمة أن تتحد, مهما كانت الخلافات بينها, فى مواجهة الخطر الخارجى "فى الوقت الذى تحارب فيه الأمة من أجل بقائها فلا يحق لأحد أن يخرج عنها, حتى لو كان مختلفا مع الذين بدأوا الحرب" (ص189).
3- عداء العرب لليهود فى فلسطين قديم وليس مرتبطا بالصراع الحديث المعروف بالصراع العربى الإسرائيلى "حينما توجه العرب والعمونيون إلى القدس أدركوا أنهم لن يجدوا ثغرة فى أسوارها, وأنها ستكون محصنة ولن يقدروا عليها. فاجتمع قادة الأعداء وقرروا الهجوم عبر الثغرات التى مازالت موجودة وهدم البناء. ولكن نحميا علم بمكيدتهم فأمر الشعب أن يوقف العمل ويستعد لمعركة كبيرة أمام الثغرات. لم يجرؤ أعداء يهودا على شن حرب عليها, ولكنهم حاولوا فى الليل هدم السور الذى أوشك على الاكتمال. لم يترك المدافعون سلاحهم. وقد قسم شباب نحميا أنفسهم إلى دوريات حراسة, نصفهم يعمل فى البناء ونصفهم يحرس. وبقية الشعب كل يساهم فى(115/755)
البناء؛ بيده الأولى يبنى وبالأخرى يمسك السلاح" (ص32). هكذا رسم المؤلفان – بناء على ماورد فى العهد القديم – ملامح العداء قديما بين اليهود والعرب, ناسيا أو متناسيا أن العرب هم جزء لا يتجزأ من أرض فلسطين. ويتأكد هذا الصراع حينما يتوجه المؤلفان بسؤال للتلميذ فى نهاية الفصل "فى أى موقف تستخدم عبارة "بيده الأولى يبنى وبالأخرى يمسك السلاح" فى الوقت الحالي" (ص36).
ثالثاً : الكتاب الثاني :
دراسة تحليل محتوى كتاب: يهود وعرب في دولة إسرائيل للصف السادس... ما يسمى إسرائيل : د.محمد خليفة حسن
وصف الكتاب :
كتاب يحمل عنوان " يهود وعرب في دولة إسرائيل : فصل في الجغرافيا السكانية " وهو كتاب مدرسي مقرر على تلاميذ الصف الدراسي السادس بالمدارس الحكومية. وقد تم إعداده تحت الإشراف المشترك لشعبة المناهج الدراسية بإدارة التعليم، ووحدة التعليم من أجل الديموقراطية والتعايش بأمانة التعليم. والكتاب منشور في طبعته الأولى عام 1989م(2). ويتم تدريسه للتلاميذ الإسرائيليين من يهود وعرب في وقت واحد بالصف السادس.
نماذج من محتوى الكتاب :
أولاً : أنماط البلدان في إسرائيل :
ومن أهم الملاحظات التي نراها في هذا التحليل لمحتوى الفصل الخاص بأنماط البلدان في إسرائيل ما يلي :
1- التركيز الكبير على الأنماط الإسرائيلية للبلدان ومن ذلك الحديث المطول عن الكيبوتس، وعن القرية العمالية (الموشاف) وعن القرية التعاونية، والبلدة الاجتماعية، والقرية الصناعية، والمدينة الإسرائيلية، وتحديد وجوه الاختلاف بين هذه الأنماط البلدانية المختلفة.
2- إهمال أنماط البلدان العربية فلم يذكر منها سوى القرية العربية.
3- التأكيد على الفصل بين الأنماط الإسرائيلية والنمط العربي، وعلى يهودية الأنماط الإسرائيلية، فالإقامة بها ليست مرتبطة بالمواطنة الإسرائيلية أي بالانتماء إلى إسرائيل، ولكنها مرتبطة بكون الشخص يهوديًا. ويسرى هذا الفصل العنصري على الكيبوتس والموشاف، والقرية التعاونية، والبلدة الاجتماعية، والقرية الصناعية. فليس من حق العربي الفلسطيني الحاصل على الجنسية الإسرائيلية الإقامة في هذه الأنماط البلدانية. وسياسة الفصل العنصري تمثل القاعدة الأساسية في الاستراتيجية الصهيونية التي أنشأت إسرائيل وصنفت المدن الإسرائيلية إلى ثلاث أصناف مدن يهودية ومدن مشتركة ( أي يسكنها يهود وعرب ) ومدن عربية ( سكانها عرب ولكن هذا لا يمنع من سكنى الإسرائيلي اليهودي بها إن استطاع. وقد تغلبت إسرائيل على هذا النمط الأخير بإقامة مستوطنات يهودية داخله حتى تفقده صفته العربية الفلسطينية الخالصة ).
4- حرص المحتوى على إعطاء الفلسفة الاقتصادية والاجتماعية لأنماط البلدان الإسرائيلية اليهودية، والتوسع في وصف أسلوب الحياة اليهودية داخل هذه الأنماط،(115/756)
وذكر الأنشطة اليهودية المختلفة، وطرق الإدارة والتنظيم، والتطور الذي أصاب نمط البلدان المذكورة. وفي مقابل هذا لم يهتم المحتوى بإعطاء نفس القدر من المعلومات عن المدينة أو القرية العربية وتعميق تهميش الوجود العربي الفلسطيني كأحد أهداف الفكر التربوي الصهيوني(9).
5- لم يشر المحتوى إلى الطبيعة الحقيقية لأنماط البلدان في إسرائيل، وكيف نشأت وتطورت. فالأصل في هذه الأنماط أنها أقيمت على مدن وقرى عربية فلسطينية بعد تدمير هذه المدن والقرى وإزالتها من الوجود وطرد سكانها العرب الفلسطينيين وإقامة مدن يهودية مكانها. وكذلك الحال بالنسبة لأنماط البلدان التي أقيمت على الأراضي الزراعية الفلسطينية مثل الكيبوتسات، والقرى العمالية والتعاونية والصناعية.
6- تجاهل المحتوى الصفة الاحتلالية الاستيطانية لأنماط البلدان الإسرائيلية اليهودية، ولم يشر أيضًا إلى مواصفاتها العسكرية وبنائها في شكل معسكرات استيطانية مجهزة عسكريًا للدفاع، وإنها أشبه بالثكنات العسكرية منها إلى المدن والقرى التقليدية الطبيعية.
7- لم يشر المحتوى إلى أن هذه الأنماط للبلدان الإسرائيلية خالية من الوجود العربي الفلسطيني، ولم يشر إلى أن سكانها يهود، فلا يخرج القارئ بأي انطباع بالخصوصية اليهودية لهذه البلدان وربما يشعر بأنها مدن مفتوحة لإقامة كل الإسرائيليين يهودًا كانوا أو عربًا. وهذا نوع من الخداع والكذب السائد في المناهج التعليمية الإسرائيلية التي لا تذكر الحقيقة فتعطي انطباعًا بديموقراطية الحكم وبالمساواة بين المواطنين. ويبتعد العرض عن ذكر أية مصطلحات تشير إلى سياسة الفصل بين اليهود والعرب في البلدان المذكورة بأنماطها المختلفة أو إلى سياسة إخلاء المدينة اليهودية من أي تواجد عربي يعرض الهوية اليهودية للمدينة للخطر.
8- ابتعد المحتوى عن وصف نظام الكيبوتس أو القرية التعاونية أو القرية العمالية بأية صفة تربطها بالنظم الشيوعية والاشتراكية على الرغم من أن الفلسفة الأساسية المسيطرة على الحياة اليهودية داخل هذه الأنماط من البلدان هي الفلسفة الشيوعية الاشتراكية وهي فلسفة واضحة في اشتراك كل الأعضاء في الإنتاج والأرض والمياه والآلات والأجهزة والمباني، وجماعية الأنشطة التعليمية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية، وفصل الأطفال عن الأسر، وتقسيم العمالة والدخل والممتلكات على الأعضاء حسب الاحتياجات.
9- وصم القرية العربية بكل الصفات السلبية التي تصورها متخلفة ومتدهورة في مقابل الصورة الإيجابية عن المدن والقرى وأنماط البلدان اليهودية وذلك بدون ذكر الأسباب الحقيقية لتدهور القرية العربية. فالمباني ضيقة ومزدحمة ومغلقة، والشوارع ضيقة . والأسباب الحقيقية لتدهور القرية العربية تعود إلى سياسة إسرائيلية تحرم القرى العربية من الخدمات الأساسية، ولا تعمل على تطوير القرية العربية، ولا تمدها بالميزانيات المناسبة، ولا بالدعم الكافي الذي يمكنها من تحقيق التقدم ويعمل على تنميتها المستمرة.(115/757)
10- يركز المحتوى الخاص بالقرية العربية على اتساع رقعة المباني الجديدة منذ قيام إسرائيل وعلى الأحياء الجديدة والكثافة السكانية الأقل، وتطور الخدمات، وأسلوب البناء وتحول في الأشغال. ويرد الفضل في هذا إلى الحكومة الإسرائيلية ، بينما الحقيقة تشير إلى أن التطور الطبيعي للقرية يحتم عملية التوسع خارج حدود القرية التقليدية، واختلاف طبيعة المباني ومواد البناء المستخدمة، ويحتم أيضًا قلة الكثافة السكانية وتطور الخدمات. وليس للحكومة الإسرائيلية فضل في هذا. فالسياسة الإسرائيلية تجاه القرية العربية سياسة ثابتة لا تتغير حيث إن العنصرية الصهيونية تعمل على بقاء القرية العربية على حالها وعدم تطويرها وحرمانها من الميزانيات المناسبة لتنميتها. فضلاً عن سياسة مصادرة الأراضي الزراعية وتجريفها وطرد السكان منها لأسباب تبرر دائمًا أنها أمنية.
11- تسيطر على السياسات الإسرائيلية فيما يتعلق بأنماط البلدان سياسة الفصل العنصري، وتحقيق العزلة، وإبعاد العرب، وعدم الاندماج، والحفاظ على الهوية اليهودية للمدن والقرى وأنماط البلدان الأخرى. وهي سياسات لا تظهر في هذا المحتوى للمنهج.
ثانياً : أعياد اليهود :
جاء العرض اليهودي للأعياد اليهودية مفصلاً ومركزًا أيضًا على الأعياد التي لها مناسبات سياسية أو اجتماعية مثل عيد المظال ومناسبته الاحتفال بإحياء ذكرى المظال التي أقام فيها بنو إسرائيل في الصحراء عند خروجهم من مصر، وعيد الشموع ومناسبته الاحتفال بالانتصار اليهودي على جيش اليونان، وعيد البوريم ومناسبته الاحتفال بنجاة يهود فارس من حكم ملك فارس ضدهم بالإبادة، وعيد الفصح ومناسبته إحياء ذكرى خروج بني إسرائيل من مصر. وهذه الاحتفالات مرتبطة بمناسبات سياسية .
ثالثاً : نظرتهم للإسلام :
1- بالنسبة للمحتوى الخاص بالإسلام يقع النص في خطأ القول بأن النبي محمد بن عبدالله (صلى الله عليه وسلم) هو " مؤسس الديانة الإسلامية " . وهذا الخطأ يؤكد أكذوبة التأليف المشترك من يهود وعرب لمحتوى هذا الكتاب المدرسي. فالمؤلف المسلم لن يقع في خطأ اعتبار أن الإسلام له مؤسس هو محمد (صلى الله عليه وسلم)، ولكن هذه عبارة استشراقية متواترة في كتب المستشرقين اليهود عن الإسلام حيث يحددون مؤسسًا أو واضعًا انطلاقًا من عدم الاعتراف بالوحي القرآني.
2- يذكر المحتوى أن القرآن الكريم يعتبر من حيث المضمون امتدادًا لفكرة التوحيد في اليهودية والمسيحية . والمعروف إن القرآن يقدم نقدًا للفكر التوحيدي السابق عليه في اليهودية والمسيحية فهو ليس امتدادًا للفكرة ولكنه بمثابة نقد وتصحيح للتوحيد السابق عليه وتخليص له من التحريفات اليهودية والمسيحية التي طرأت عليه.
3- يؤكد المحتوى على أن القرآن الكريم اعترف بالشخصيات المهمة في كتاب العهد القديم وهم أجداد وأنبياء اليهودية والمسيحية . والحقيقة أن القرآن اهتم بالأنبياء الحقيقيين الذين أرسلوا إلى بني إسرائيل، ولم يعترف بكل الأنبياء الذين تعترف بهم(115/758)
اليهودية والمسيحية بسبب اتساع مفهوم النبوة واختلاط النبوة في اليهودية بظواهر دينية أخرى مثل الكهنوت والتنبؤ والعرافة.
رابعاً : الكتاب الثالث :
كتاب: من جيل إلى جيل، دراسة في تحليل المحتوى ... ما يسمى إسرائيل : د. محمد فتحي البغدادي
وصف الكتاب :
اسم الكتاب: من جيل إلى جيل.
دروس في التاريخ لطلبة المدارس الدينية الحكومية – الجزء الثاني.
ويقع في نحو أربعمائة وثمانين صفحة ، وهو صادر عن قسم المناهج الدراسية في مديرية التربية التابعة لوزارة المعارف والثقافة الإسرائيلية - بالقدس – عام 1994م.
وقد ألفته لجنة التاريخ في المدارس الحكومية الدينية ، والتي يرأسها عقيبا دورون ، وأعضاؤها هم: حوا برنكل ، وقصيعة طفيفيان، وملكه قيتص.
واستعانت لجنة تأليف الكتاب بعدد من المستشارين العلميين وهم: البروفيسور: حاجي بن شماى، والبروفيسور: يشعياهو جافنى، والبروفيسور ابراهام جروسمان والبروفيسور جرمى كوهين ، والبروفيسور يوم طوف عاسيس والدكتورة فروديت رسيبلر حاييم.
وأعدت الكتاب لغويا: ليئورة هيرتسج ، وأعد الخرائط والرسومات: بيتر جروسمان ، أما إعداد الجداول والبيانات فهو لـ ناعومى موريج.
نماذج من محتوى الكتاب :
أولاً : صورة العرب والمسلمين :
أ- يذكر الكتاب أن القرآن الكريم شريعة العرب وحدهم ، فيقول:" تقول المصادر الإسلامية أن جبريل ظهر لمحمد فجأة وأمره أن يعطى شريعة جديدة للعرب" ( انظر ص 204 )
ب- يتضمن الكتاب معلومات خاطئة عن فريضة الحج ، منها: " وبذبح الأضحية تنتهي بالفعل مراسم الحج ، ويبدأ العيد الكبير".( انظر ص 205 )
جـ- ذكر الكتاب معلومات خاطئة عن حكمة عيد الفطر، وزكاة الفطر ، فقال: "يحتفل المسلمون في نهاية شهر الصوم بعيد الفطر لمدة ثلاثة أيام ، وفي العيد يكثرون من الصلاة والزكاة ليكفروا عن الخطايا والذنوب التي ارتكبت خلال هذا الشهر". ( انظر ص 202 )
د- وفي الكتاب معلومات خاطئة عن الحجر الأسود ، نحو: "كل قبيلة عبدت الإله الذي اختارته ، وكانت لهذا الإله قوانين وعادات خاصة به ، ولكنهم جميعاً آمنوا بقدسية الحجر الأسود ، الذي كان محفوظاً في مبنى الكعبة في مكة ، وحسب المصادر العربية فإن الذي بنى الكعبة هو سيدنا إبراهيم وابنه إسماعيل ، وكان الحجر الأسود هدية الله التي نزلت من السماء ، وعندما سقط الحجر من السماء كان أبيض ، وبمرور السنين أسود من ملامسة أيدي الخاطئين." ( انظر ص 194 )
هـ . كما يذكر الكتاب أن الذين بنوا الجامع الكبير في قرطبة هم المسيحيون الذين أسرتهم جيوش الخليفة عبد الرحمن الداخل.(انظر ص 265)(115/759)
و- ما ذكره عن تصارع المسلمين على خلافة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، فقال: "لما توفى محمد نشب خلاف شديد ، من يجلس على كرسي محمد ؟ زعم سادة مكة أنهم أحق بالخلافة بفضل تجربتهم الطويلة في زعامة الناس. في حين زعم آخرون أنهم أحق بها لكونهم أول من ساندوا محمداً وأيدوه ، وأنهم رافقوه عندما فر من مكة إلى المدينة."( انظر ص 218 )
ز – ما ذكر حول الخلاف بين الشيعة وأهل السنة ، يقول الكتاب: "منذ ذلك الحين وحتى الآن توجد خلافات عديدة بين السنيين والشيعة ، لأن محمداً عين علياً خليفة له كما أمره الله بذلك. ولذلك فإن ذرية على هم الأحق بخلافة المسلمين ، وخليفة النبي هو أيضاً الزعيم السياسي للأمة ، ومن ثم يطلق عليه لقب ( الإمام ). ورفض أصحاب هذا الرأي لقب الخليفة. فهم يعتقدون أن الإمام يحمل إشعاعاً إلاهياً. ولذلك فالإمام لا يضل ولا يخطئ فهو يعمل بإرشاد الله." (انظر ص 218 و 219 و 224 )
ح – نظر مؤلفو الكتاب إلى الجزية باعتبارها تشكل نوعاً من الظلم الذي فرضه المسلمون على أهل الذمة: "فرض الحكام العرب على أهل الذمة دفع الجزية مقابل ضمان أمنهم وممتلكاتهم. بينما كان المسلمون معفيين منها ، وقد برروا فرضها على أهل الذمة على أساس أنهم يقاتلون في سبيل الله ، وأهل الذمة لا يشتركون في الجيش ، وهم يكسبون قوتهم من الأرض التي يملكها الله، وإبان فترة حكم بنى أمية ، تعلم الكثيرون من أهل الذمة اللغة العربية ، بل وحتى اعتنقوا الإسلام ، غير أن ذلك لم يعفهم من دفع الضرائب، ولم يمكنهم من تولى المناصب العليا في الجيش والحكم."
( أنظر ص 213 )
ط- وتحدث الكتاب أيضاً عما أسماه مساوئ فرض الخراج ( ضريبة الأرض الزراعية )، فقال: "أدى فرض الخراج إلى نزوح عدد كبير من اليهود من القرى إلى المدن ، فقد فرضت الضريبة على الأرض وفقاً لمساحتها ، وليس وفقاً لما تنتجه من غلات وثمار. وبالتالي فقد أضرت هذه الضريبة بالزراعة ضرراً بالغاً ، ولم يهتم الخلفاء بتلافي هذه الأضرار." ( أنظر ص 232 ، 233 )
ي - تحدث الكتاب عن عدم كفاءة العرب لحكم البلاد التي فتحوها ، فقال: "كان العرب معتادين على الحياة بالطريقة القبلية ، وكانوا قليلي الخبرة في إدارة وحكم البلاد ، والإشراف على سكانها ، فكيف إذاً يسنوا القوانين التي تلائم أبناء ثقافات مختلفة. وكيف يحكمون شعوباً عديدة وبلاداً عديدة."
( أنظر ص 212 )
وقال في موضع آخر: "حلت الكارثة على اليهود في غرناطة بعد مقتل يوسف الناجيد . فتعلم يهود الأندلس أن مكانتهم في بلاطات الملوك لا تضمن لهم الحماية والأمن. وسرعان ما تبين لهم أن الملوك المسلمين غير قادرين على حماية حتى أنفسهم وملكهم." ( أنظر ص 274 )
ك ـ وذكر انتشار الفوضى بعد الفتح الإسلامي للأندلس ، فقال: "في عام 711 للميلاد احتلت جيوش المسلمين الأندلس ، واستولت عليها من يد المسيحيين ، وقد تسبب ذلك(115/760)
في فوضى ، ومقتل أشخاص عديدين ، وصوُدرت الكثير من الأراضي ، وتحولت كنائس عديدة إلى مساجد." ( أنظر ص 264 )
وقال في موضع آخر: "ولم يعد الهدوء للأندلس ، لأن المحتلين المسلمين كانوا منقسمين إلى قبائل ، ونشبت صراعات عديدة بين قادة الجيش من أجل الوصول إلى الحكم . ( أنظر ص 264 )
ل ـ وتحدث عما أسماه المعاملة السيئة للمسلمين البربر لليهود في الأندلس ، فقال: "عندما أحس الحكام المسلمون في الأندلس أن الخطر يتهددهم ، طلبوا مساعدة المسلمين في شمال أفريقيا. وعلى إثر ذلك دخلت قبائل البربر المسلمين الأندلس ، وتعقب البربر بوحشية أبناء الديانات الأخرى من غير المسلمين ، وبخاصة اليهود ، الذين كانوا الأكثر تضرراً ، فقتل منهم كثيرون وفر عدد كبير منهم شمالاً طلب للحماية في البلاد المسيحية." ( أنظر ص 274 )
ثانياً : صورة الأنبياء والرسل :
أ- ذكر أن سيدنا إبراهيم عليه السلام كان أول من آمن بالإله الواحد.( انظر ص 205 )
ب - وأن سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم هو الذي طور زيارة الكعبة وأضاف إليها – من تلقاء نفسه – بعض الطقوس ، وجعلها الركن الخامس من أركان الإسلام.
يقول الكتاب: "أدرك محمد أنه من الصعب إلغاء عادة قديمة هي الذهاب للكعبة ، وتلك العادة كانت منتشرة بين العرب ، ولذا فقد غير محمد هذه العادة الوثنية القديمة، وصب فيها مضامين جديدة ، منها: "الطهارة ، والطواف ، والوقوف بعرفة ، ثم عيد الأضحى." ( انظر ص 205 )
جـ – كما زعم أنه صلى الله عليه وسلم تأثر في أثناء رحلاته التجارية إلى بلاد الشام بمعتقدات التوحيد والإيمان لدى كل من اليهود والمسيحيين، فقال: "خرج محمد مع قوافل التجارة إلى بلاد أخرى ، وكان من بينها سوريا وأرض إسرائيل، وخلال هذه الرحلات التقى بأبناء شعوب أخرى، وديانات أخرى ، وقد تأثر محمد بطريقة حياتهم ، وبعاداتهم ، وبخاصة في الإيمان بالله الواحد ، وهذا الإيمان كان شائعاً لدى اليهود والمسيحيين."( انظر ص 198 )
ثم عاد وكرر نفس المعنى في صفحتي 208 و 230.
والأدهى من ذلك أنه كلما أراد مؤلفو الكتاب الاستشهاد بآيات من القرآن الكريم فإنهم كانوا ينسبونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فكأن هذه الآيات. والعياذ بالله – هي من كلام الرسول وليست وحيا من الله عز وجل ، من ذلك: قوله تعالى في الآية الخامسة من سورة التوبة:{فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد} ( انظر ص210 )
وقوله تعالى في الآية التاسعة والثلاثين من سورة التوبة: { إلاَّ تنفروا يعذبكم عذاباً أليماً }( انظر ص 214 )
وقوله تعالى في الآية السادسة عشرة من سورة الجاثية: { ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة، ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على العالمين}(انظر ص 235)(115/761)
ثالثاً : صورة الخلفاء الراشدين :
أ- ما ذكر عن عمر بن الخطاب – رضى الله عنه – يقول الكتاب: "بعد أن توقفت الحروب ، واستقرت الأوضاع ، تولى الحكم عدد من الخلفاء الحاقدين الذين أثاروا موقف اليهود ، هؤلاء الخلفاء اتخذوا قرارات أثرت تأثيراً سيئاً على اليهود ، وهذه القرارات تسمى قرارات عمر. وقد نصت على أنه يحظر على اليهود والمسيحيين حمل السلاح ، وامتطاء جياد ، وإجراء طقوس دينية علانية ، وإنشاء دور جديدة للعبادة ، ويتحتم على أهل الذمة ارتداء ثياب خاصة تميزهم عن المسلمين ، ويحظر عليهم أيضاً تولى المناصب التي تجعلهم متحكمين في أمور المسلمين ، تلك القوانين فرضت قيوداً خطيرة على اليهود." ( انظر ص 232 )
ب - كما ذكر أن علياً بن أبي طالب – رضى الله عنه – كان أحد الذين طمعوا في خلافة المسلمين وتصارعوا من أجلها بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم.( انظر ص 218 )
ثالثاً : احتال مؤلفو الكتاب للبحث عن دور لليهود في بعض الأحداث الإسلامية والعالمية ، وعمدوا إلى إبراز هذا الدور وتعظيمه والمبالغة فيه ، من ذلك :
أ- ما زعم عن دور اليهود في الفتوحات الإسلامية عموماً.
يقول الكتاب: "إن الحكام المسلمين لم يكن لديهم في البداية أي خبرة في إدارة الدولة ، ولذا اضطروا للاستعانة بخدمات اليهود ، فأبقوهم في وظائف هامة في بلاط الخليفة ، وفي إدارة خزانة الدولة. لقد استعان الخلفاء المسلمون باليهود لأنهم أدركوا أن اليهود لا يهددون سلطانهم ، وأنهم يعملون فقط لكسب عيشهم. ولم تكن لديهم أطماع في الحكم... وكان اليهود معروفين بأنهم أناس حكماء . ومثقفون . وذووا علاقات وثيقة مع إخوانهم في بلاد المنفى". ( أنظر ص 232 )
ب - وأنهم كانوا يقرضون بعض الخلفاء والوزراء. يقول الكتاب: "وعندما أحتاج بعض الخلفاء والوزراء للمال فإنهم توجهوا إلى التجار اليهود للاقتراض منهم." ( أنظر ص 234)
جـ – وزعم الكتاب أيضاً أن لليهود دوراً في التجارة العالمية ، فقال: "كان كثير من اليهود من التجار وأصحاب الورش والمحلات ، وقد جلبوا بضائع من أماكن بعيدة ، فاستوردوا الأخشاب من أوربا ، والحرير والأقمشة من الشرق الأقصى ، والعطور والتوابل من شبة جزيرة العرب. لقد استغلوا علاقاتهم لكي يطوروا التجارة الدولية." ( أنظر ص 234 )
د – كما يزعم الكتاب أن لليهود دوراً في فتح بلاد الأندلس ، فيقول: "رحب اليهود بقدوم الجيش الإسلامي الذي وضع حداً لسيطرة المسيحيين الحاقدين ، لقد اعتمد قادة الجيش الإسلامي على إخلاص اليهود ، واستعانوا بهم في فتح الأندلس ، فلم يكن المسلمون يعرفون ظروف هذه البلاد ، ولا عادات سكانها، ولا لغاتهم ، ولأن اليهود يعرفون الأرض والسكان ، فقد عينهم المسلمون جنود حراسة في المدن المفتوحة ، وأعطوهم أراضي من التي صودرت في الحرب ، واستعانوا بهم كمديرين للمناطق التي انتقلت إلى سيطرة الفاتحين المسلمين بعد الحرب... وعمل بعض اليهود كمستشارين سياسيين واقتصاديين لبعض الحكام المسلمين." ( أنظر ص 264 )(115/762)
ومضى فتحدث عن إسهامات اليهود في الدولة العربية الإسلامية في الأندلس، فذكر أن من اليهود من تولى قيادة بعض الجيوش الإسلامية ، وذكر – بصفة خاصة صمويل الناجيد ( 993 – 1056 م ) الذي كان وزيراً وقائداً لجيش حبوس ملك غرناطة ، لمدة تزيد عن ثلاثين عاماً. وأنه أدار شئون المملكة وخرج على رأس جيشها في الحروب ، وحقق انتصارات هامة.(أنظر ص 267)
رابعاً : ومن السلبيات المقيتة والممجوجة التي وقع فيها الكتاب أنه زاخر بالعديد من الرسومات التي تتناول جسم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ( ما عدا الوجه ) ، وتتناول أيضاً بعض الخلفاء الراشدين والصحابة – رضى الله عنهم أجمعين – من ذلك:
أ- في ص 199 رسم لظهور جبريل عليه السلام لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
ب – في ص 203 رسم لمعراج نبينا محمد صلى الله عليه وسلم إلى السماء.
ج- في ص 206 رسم لهجرته صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة. وفي نفس الصفحة رسم لأهل مكة وهم يقذفونه بالحجارة.
د- في ص 207 رسم لزواجه صلى الله عليه وسلم من أم المؤمنين خديجة رضى الله عنها.
هـ. في ص 212 رسم لتشجيع نبينا محمد صلى الله عليه وسلم للمجاهدين. وهو الرسم الوحيد المنسوب لمخطوطة فارسية. تعود إلى القرن السادس عشر الميلادي.
و- وفي ص 221 نجد رسمين : الأول لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم وحوله الخلفاء الراشدين الأربعة : أبوبكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلى. والرسم الثاني لسيدنا على وفي يده السيف يحارب أعداءه.
خامساً : عقد مؤلفو الكتاب العديد من المقارنات الخاطئة ، القصد منها إعلاء شأن اليهود واليهودية. من ذلك:
أ- مقارنة بين عقوبة الثأر في التوراة وعند البدو ، يقول الكتاب:"ما الفرق بين عقوبة الثأر للدم عند البدو ، وعقوبة القاتل في الإصحاح الحادي والعشرين من سفر الخروج ، والتي تنص على ما يلي: (من ضرب إنساناً فمات يقتل قتلاً، ولكن الذي لم يتعمد بل أوقع الله في يده، فأنا أجعل لك مكاناً يهرب إليه). ( أنظر ص 197)
ب- حاول مؤلفو الكتاب الربط من حيث المنزلة الرفيعة والقدسية بين القرآن الكريم والتوراة ، وذلك من خلال إيجاد علاقة لغوية بين لفظ ( القرآن ) والاسم ??????? ( مقرا ) الذي يستخدم في اللغة العبرية للدلالة على التوراة ، ومنه يقال: ????????? (مقرائى) بمعنى توراتي. ( أنظر ص 201)
جـ- أراد مؤلفو الكتاب تأصيل الأطماع اليهودية والصهيونية في مدينة القدس ، وبالتالي إضفاء الشرعية التاريخية والدينية على احتلالهم للمدينة ، فعمدوا إلى طرح سؤال على الطلاب يطلبون فيه عقد مقارنة بين قدسية مدينة القدس في الإسلام، وقدسيتها في كل من اليهودية والمسيحية. يقول السؤال "اكتبوا بحثاً عن قدسية القدس في الإسلام مقابل قدسيتها في اليهودية والمسيحية". ( أنظر ص 209 )
وكان الكتاب قد أشار في مواضع سابقة إلى أن مدينة مكة هي أكثر المدن قدسية لدى المسلمين ، وتأتي بعدها المدينة المنورة ، أما القدس فإنها اكتسبت قدسيتها عند(115/763)
المسلمين بمرور السنين، وبالتحديد بعد الإسراء والمعراج، وبعد أن بنى المسلمون فيها مسجد قبة الصخرة (مسجد عمر)،والمسجد الأقصى.(أنظر ص 202)
د- ولم يجد مؤلفو الكتاب حرجاً في أن يعلنوا عن غاياتهم من هذه المقارنات، ما دام القصد صريح والهدف واضح. وقد اختاروا أن يعبروا عن رأيهم بلسان شاعر اليهود الأبرز في العصر الوسيط- يهودا اللاوي- من خلال مقارنة عقدها هذا الشاعر في كتابه ( الخوزري ) بين الديانات السماوية الثلاثة اليهودية والمسيحية والاسلام . ( أنظر ص 276)
هـ. ويبدو أن كل المقارنات السابقة لم تكن كافية ، فانصرف الشاعر اليهودي إلى التصوير البياني، وهاهو يشبه إسرائيل بين الأمم بالقلب بين - الأعضاء ، فيقول: "إسرائيل بين الأمم كالقلب بين الأعضاء." ( أنظر ص 281 )
حتى اللغة العربية المعروفة بجزالتها وفصاحتها وثرائها ، والتي أثنى عليها كبار البلاغيون اليهود ونقاد الأدب العبري في العصر الوسيط أمثال موسي بن عزرا ويهوذا الحريزي . هذه اللغة لم تسلم من المقارنات الخاطئة ، يقول الكتاب : " إن اللغة العبرية ليست أقل من العربية ، بل إنها تعلو عليها بجمالها." ( أنظر ص285)
سادساً : يتضمن الكتاب العديد من المسميات الخاطئة ، فبدلا من أن يسمي مؤلفو الكتاب الأشياء بأسمائها ،اختاروا بدلا من ذلك مسميات أخري ترضي نزعاتهم وميولهم ، وتتفق مع الأهداف الصهيونية التي أرادوا غرسها في عقول الطلاب ، من ذلك :
أ- يطلق الكتاب علي ( الهجرة ) من مكة إلي المدينة الاسم ( هروب ). (أنظر ص 199)
ب- أما فتح مكة فيسمي احتلالا.(أنظر ص 200)
ونفس الشيء يقال عن فتح بلاد الشام (ص 202) ، وفتح الأندلس ( ص264).
جـ- يطلق الكتاب علي السنة النبوية العطرة اسم ( ???? ????- ??) :أي الشريعة الشفهية . وذلك تشبيها لها بالتلمود. ( أنظر ص 228 ).
ثانياً : ما يراد بمناهجنا
تهتم الأمة – أي أمة – كل الاهتمام بالتمسك بمقوماتها وثوابتها ، وتعززها وتربي الأجيال عليها من خلال مؤسساتها التربوية ومناهجها الدراسية ، فتنطلق في بناء وتطوير المناهج من عقيدتها وقيمها وفكرها وثقافتها وخصائص مجتمعها ، فهذه المقومات ، هي أساس وجودها ، ودليل أصالتها ، ورمز هويتها ، وعلامة تميزها عن غيرها من الأمم .
والمنهج والكتاب المدرسي في أي بلد له دور هام وبارز في بناء وتشكيل شخصية الأفراد والمجتمع وفقاً لمقوماته ومنطلقاته العقدية والفكرية ، ولذلك فإنه يعكس تطلعاته وطموحاته وآماله في أجياله القادمة ، وفي صورة المجتمع الحاضرة والمستقبلة .
وقد أوضحنا ذلك بصورة جلية في المحور الأول ، من خلال عرضنا لنماذج من الكتب المقررة لست دول غربية وشرقية ، وبينا كيف أن تلك البلدان كانت تعزز مقوماتها العقدية والفكرية ، من خلال عرض البعد الديني لمناهجها .(115/764)
المنهج والكتاب المدرسي في أي بلد له دور هام وبارز في بناء وتشكيل شخصية الأفراد والمجتمع وفقاً لمقوماته ومنطلقاته العقدية والفكرية ، ولذلك فإنه يعكس تطلعاته وطموحاته وآماله في أجياله القادمة ، وفي صورة المجتمع الحاضرة والمستقبلة .
و الواجب على الدول الإسلامية والعربية أن تعد وتطور مناهجها لتعزز مقوماتها ، ولتكون مرتكزة على أسسها ومنطلقاتها العقدية والشرعية والفكرية والقيمية والاجتماعية ، والمحافظة على تلك المقومات ، تعمل على التربية السوية للأمة وفق التربية الإسلامية الشاملة ، فتحافظ على تماسك المجتمع ، وتحقق وحدته الفكرية ، وتعينه على مواجهة التحديات الخارجية .
وكما أنههم أعدوا وطوروا مناهجهم وفق تلك الرؤية ، فإن الواجب على الدول الإسلامية والعربية أن تعد وتطور مناهجها لتعزز مقوماتها ، ولتكون مرتكزة على أسسها ومنطلقاتها العقدية والشرعية والفكرية والقيمية والاجتماعية ، والمحافظة على تلك المقومات ، تعمل على التربية السوية للأمة وفق التربية الإسلامية الشاملة ، فتحافظ على تماسك المجتمع ، وتحقق وحدته الفكرية ، وتعينه على مواجهة التحديات الخارجية .
وفي فترة سابقة قال الرئيس رونالد ريجان عندما صدر التقرير الأمريكي المشهور " أمة في خطر " Nation at Risk : " لو أن هذه المناهج التي بين أيدينا فرضتها علينا أمة من الأمم لاعتبرنا ذلك اعتداءً سافراً علينا " ، وهي الآن منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر 1991 م ، وبعد احتلال العراق ، ترسم استراتيجية لتغيير واقع المجتمعات الإسلامية ، أحد ركائزها تغيير المناهج وفق الرؤية الأمريكية ، ويتبعها في ذلك عدد من أبناء المسلمين المستغربين الذين هاجموا المناهج بصورة عامة ، ومناهج العلوم الشرعية بصورة خاصة .
وقبل عرض ملامحها ، ننبه أن مفهوم المناهج مفهوم شامل لدى المتخصصين في علم المناهج ، يشمل ( الأهداف ، والمحتوى العلمي ، والكتاب ، والمعلم ، والطالب ، والمدرسة ، والأنشطة الصفية وغير الصفية ) ، فتغيير أحدها يعتبر تغيير في المنهج .
وفي هذا المحور سنبين الخطوط العامة لتلك الهجمة الداخلية والخارجية على مناهجنا .
أولاً : الهجمة الأمريكية :
تعددت أساليب الهجمة الأمريكية على مناهجنا ما بين طرح مشاريع ، وانتقادات لمحتواها من خلال المقالات في كبرى الصحف ، ودراسات متخصصة أعدت لتحليلها ، ويمكن عرض نماذج منها على النحو التالي :
أ ) الهجمة الموجهة لمناهج الدول العربية بصورة عامة :
• مشروع مبادرة الشراكة بين الولايات المتحدة الأمريكية والشرق الأوسط .. بناء الأمل للسنين القادمة ، وهو الخطاب الذي ألقاه وزير الخارجية الأمريكي كولن باول في مؤسسة التراث بواشنطن الخميس : 12 / 12 / 2002 م :(115/765)
أن مفهوم المناهج مفهوم شامل لدى المتخصصين في علم المناهج ، يشمل ( الأهداف ، والمحتوى العلمي ، والكتاب ، والمعلم ، والطالب ، والمدرسة ، والأنشطة الصفية وغير الصفية ) ، فتغيير أحدها يعتبر تغيير في المنهج .
أعلن الوزير الأمريكي أن الحكومة ستخصص لها ( 29 ) مليون دولار ، لكي تنطلق المبادرة بقوة ، وأنها ستعمل مع الكونجرس للحصول على دعم إضافي للعام القادم ، وهذه الأموال ستكون زيادة على الأكثر من مبلغ ( الألف مليون دولار ) كمساعدة اقتصادية للعالم العربي كل عام .
وتم الإعلان عن تعيين نائب وزير الخارجية الأمريكي ( ريتشارد أرميتاج ) كمنسق لكل البرامج المنبثقة عن المبادرة الجديدة ، ويعمل على متابعتها – أيضاً – مساعد وزير الخارجية لشئون الشرق الأدنى ( وليام بيرنز ) ونائبته ( إليزبيث تشيني ) ابنة نائب الرئيس ( ديك تشيني )
وتركز المبادرة على حرب الإرهاب في الشرق الأوسط ، والاهتمام بالإصلاح التعليمي حسب الرؤية الأمريكية ، ويتبع ذلك تحديث التعليم ، وتغيير المناهج ، وتغيير نمط المدارس ، والتركيز على تعليم الفتيات ، وتوفير منح دراسية لإبقاء الفتيات في المدارس وتوسيع التعليم لهن ، وتدريب المعلمين ، وتعليم اللغة الإنجليزية .
• المذكرة التنفيذية لمبادرة باول والتي نشرها موقع ( الأسبوعية ) ( 1 ) ، وعرضها د . سامي محمد الدلال في دراسة بعنوان : ( استراتيجية فرض الهيمنة : مبادرة الشراكة الأمريكية الـ " شرق أوسطية " ) ( 2 ) ، ويمكن تلخيص أبرز ما ورد فيها في النقاط التالية :
أ ) الخطة التعليمية : وتتضمن حسب نص المذكرة :
1 ) إنشاء مدارس أمريكية في مختلف البلدان العربية لكل مراحل التعليم الأساسي – الابتدائي والإعدادي والثانوي – تؤهل طلابها للالتحاق بالجامعات الأمريكية .
2 ) يجب أن يلقى المشروع دعماً مالياً كبيراً من الإدارة الأمريكية ، وخاصة أن بعض الدول ستحتاج إلى ما هو أكثر من ذلك بكثير .
3 ) في المراحل الأولى سيتم الاعتماد على الخبراء والأكاديميين الأمريكيين لإدارة تلك المدارس ، مع تطعيمها بأكبر عدد ممكن من خبراء التعليم في الدول العربية .
4 ) عقد عدد كبير من الدورات التأهيلية للتدريس في هذه المدارس لعدد كبير من المدرسين ، والمدرسات ، والموظفين من أبناء هذه الدول ، لمشاركتنا في تحمل مسؤوليات هذه المدارس .
تصاعد الهجمة الأمريكية على المناهج التعليمية في البلدان الإسلامية ، وفي بلادنا خاصة ، وتزامن معها هجمة داخلية تبناها المستغربون ، تكاد تتطابق مع الهجمة الأمريكية في ترديد نفس الاتهامات والافتراءات
5 ) خفض رسوم الالتحاق بهذه المدارس ، مع تخفيض أسعار المناهج الأمريكية التي ستدرس ، لتشجيع أكبر عدد ممكن من التلاميذ العرب للانتظام فيها .
6 ) إن المناهج التعليمية الأمريكية لن تقتصر على محتوى المناهج المعتادة فقط ، وإنما جزء كبير منها سيتم تكريسه لتشجيع المشاركة السياسية والديمقراطية ،(115/766)
وأسلوب اتخاذ القرارات السليمة ، بالإضافة إلى أهم محتوى فيها ، وهو العملية الانتخابية من حيث إدارتها والمشاركة فيها.
7 ) سيتم إنشاء نواد في هذه المدارس يطلق عليها ( نوادي الحرية الأمريكية ) ، حيث ستوفر محضناً لممارسة التطبيقات الديمقراطية وأسلوب الحياة الأمثل بعيداً عن العنف والإرهاب ، كما أنها ستوفر فرصاً لنشر ثقافات تتعلق بقيود الآخرين ، وتشجيع البنات على ممارسة السياسة ، واتخاذ قراراتها بعيداً عن التعصب الديني ، أو المفهومات الخاطئة المنتشرة في دول المنطقة .
ب ) أهداف الخطة التعليمية :
إن أهداف مشروع الخطة التعليمية – كما حددتها المذكرة – هي :
1 ) إن الفائدة الأساسية لهذه المؤسسات أنها ستضمن إيجاد فرص عمل لخريجي هذه المدارس والجامعات الأمريكية برواتب مغرية ، مما يؤدي إلى زيادة الإقبال عليها ، وبذلك يتحقق غرض ثقافي مهم ، وهو ربط أبناء الدول العربية بأنماط الثقافات الأمريكية .
2 ) إن هؤلاء الذين سيتلقون تعليماً عالياً متميزاً لا بد أن يدخلوا في دائرة الضوء والمناصب السياسية في بلادهم ، وبذلك سنضمن ارتباطهم العاطفي ، وترتيب أفكارهم مع الولايات المتحدة الأمريكية ، وسيمثل هؤلاء في المستقبل دعامات أساسية لتأييد السياسات الأمريكية ، وتلافي خطر الإرهاب ونتائجه .
3 ) إن هذا المشروع يحتاج إلى قدر كبير من الموازنات المالية المستقلة والقادرة على تطوير هذه المدارس في المستقبل ، لذا فإنه من المهم أن تدعم إقامتها سلسلة من المصالح والمشروعات والمؤسسات الاقتصادية الأمريكية التي ينبغي إنشاؤها في داخل هذه الدول ، وهذا سيحقق فائدة كبرى لتوسع الاقتصاد الأمريكي .
ج ) المراحل الزمنية لتنفيذ المشروع :
تحدد المذكرة التنفيذية مراحل تنفيذ المشروع على الوجه الآتي :
1 ) البدء في طرح المشروع أول عام 2003 م .
2 ) تستمر خطوات التنفيذ والإعداد والإنشاء حتى عام 2005 م ، ويتضمن ذلك أيضاً البدء في الإعداد للدراسات التدريبية ، والبرامج المشتركة ، والتأهيل مع حكومات دول المنطقة .
3 ) الدراسات الفعلية تبدأ من عام 2005 م .
د ) التدريب :
تدعو المذكرة إلى عقد دورات تدريبية مشتركة سواءً تمت في البلاد العربية أو في أمريكا.
وتدعوا – أيضاً – إلى " اعتماد برنامج منفصل لترجمة مئات الكتب الأمريكية في المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية والتربوية إلى اللغة العربية ، وتوزيع هذه الترجمات على المؤسسات الدستورية في البلدان العربية ، وخاصة البرلمانات ، وما يتعلق بالحكم المحلي والجامعات والوزارات والهيئات الاقتصادية الكبرى ، والعديد من المؤسسات الاقتصادية الخاصة ، إضافة إلى برنامج خاص بالترجمة يهدف إلى ترجمة كتب أمريكية ميسرة حول الأنماط المثلى للحياة الأمريكية في جوانبها(115/767)
المختلفة ، وقصص رمزية توجه النظر إلى أغرض وأهداف معينة ، سيتم توزيعها على طلبة المدارس التعليمية ، وإدخالها في صلب المناهج التعليمية للمدارس الحكومية في هذه البلدان ، ويجب أن تتم الترجمات تحت إشراف وزارة الخارجية الأمريكية ، والتي ستقوم بتعيين عدد من الخبراء والمختصين على صلة مباشرة بكبار المسئولين المعنيين بتنفيذ البرنامج " .
• دراسة أعدها بتكليف من مكتب التربية العربي لدول الخليج نائب رئيس جامعة الإمارات العربية المتحدة الدكتور سعيد عبدالله حارب ، وكان أبرز ما ورد فيها:
1 ) أن المشروع الذي طرحه وزير الخارجية الأمريكي ( كولن باول ) بشأن التغيير في العالم العربي يعد امتداد لمشروعات سابقة لتغيير النظم العربية كما جاء في مؤتمر اليونسكو في باريس عام ( 1998 م ) بشأن التعليم العالي الداعي إلى إدخال مفاهيم جديدة في مناهج التعليم.
2 ) رأت الدراسة أن إدخال المفاهيم الجديدة في مناهج التعليم ، مثل : ( حقوق الإنسان، والمجتمع المدني ، وتمكين المرأة ، وحقوق الأقليات ، والحريات العامة ، والديمقراطية ) يمكن أن يتم وفق رؤية تجمع بين الخصوصية الثقافية والمعاصرة العالمية ، لكي لا تضطر إلى تطبيقها برؤية من أطلقها بكامل مضامينها الثقافية والفكرية والاجتماعية التي قد تدفع بالمجتمعات العربية إلى مأزق جديد يتسم بالاضطراب والقلق الاجتماعي .
3 ) فندت الدراسة اتهام التربية العربية بتحمل المسئولية الأولى في تفريخ الإرهابيين .
4 ) انتقدت الدراسة المناهج التربوية العربية بأنها رسمت صورة نمطية للآخرين مرفوضة من خلال استنباطات خاطئة لمضامين النصوص الشرعية ، فيجب إعادة بنية المجتمع العربي والإسلامي بحيث لا يرفض الآخر ولو اختلف معه في الجنس أو اللون أو المذهب أو الفكر .
5 ) اعتبرت الدراسة إجراء أي تغييرات في المناهج العربية بالحذف أو التبديل أو التغيير لبعض المفاهيم ( كمفهوم الجهاد أو الحرب أو العدل أو المصطلحات ) لا يعني حذفها من الوجود، فهي في متناول الجميع عبر الإنترنت وشبكات المعلومات ، ولن تعالج الأزمة بل ستضع التربية في أزمة ، لأنه لم يعد ممكناً الفصل بين الإنسان والوصول إلى المعرفة ، فوجودها في المناهج أمر ضروري في ظل الظروف الحالية ، على أن يتم تدريسها وفق الفهم الشرعي الصحيح .
6 ) أكدت الدراسة أن التربية العربية والخليجية خاصة تواجه تحديات وأنها مهددة في بنيتها الداخلية والخارجية ، وأن أحد أشكال التهديد العولمة الجديدة ومشروع الشراكة الأمريكية.
ب ) الهجمة الموجهة لمناهج دول عربية وإسلامية محددة :
ومنها على سبيل المثال :
1 ) المناهج في المملكة العربية السعودية :
• تقديم النائب ( جيم دافيس ) من الحزب الديمقراطي عن ولاية فلوريدا في مجلس النواب الأمريكي بمشروع قرار في ( يونيه سنة 2002 م ) حول المناهج السعودية(115/768)
Jim Davis and Doug Bereute . to Fight terror, Fix Saudi schools . The Record . October, 18, 2002, P. 109 :
وركز فيه بمطالبة الحكومة الأمريكية بالتدخل المباشر لتغيير مناهج التعليم السعودية .
• تقرير لجنة أمريكية درست المناهج التعليمية في المدارس السعودية The American Jewish Committee . The West, Christians and Jews in Saudi Arabi Schoolbooks :
وقامت اللجنة بتحايل محتوى ( 93 ) كتاباً ، وكتبت عنها تقريراً مفصلاً للإدارة الأمريكية ، ومن الأمثلة على ما ورد فيه ما يلي :
أ - قضايا ركز عليها :
1 ) نقد سياسة التعليم في أول التقرير ، وركز خاصة على غايات وأهداف التعليم .
2 ) التعليم السعودي يقوم على الإسلام ، والدراسات الإسلامية تشكل جزءاً رئيساً في الكتب المقررة ، وحتى الكتب العلمية تشير إلى الإسلام .
3 ) السعوديون يقولون إن الإسلام هو أساس الدولة والمجتمع والقضاء والتعليم والحياة اليومية .
4 ) يصفون المسيحيين واليهود بأنهم كفار ، وأنهم أعداء الإسلام .
5 ) المناهج السعودية لا تعترف بأي حق لليهود في فلسطين وأرض إسرائيل .
6 ) المناهج السعودية تقدم قضية فلسطين بأنها احتلها اليهود الأجانب .
7 ) ترفض المناهج إلغاء الجهاد كما يدعو لذلك بعض المسلمين ، مثل الطريقة القادرية .
8 ) المناهج السعودية تعارض الديمقراطية الغربية .
9 ) المناهج السعودية تركز على فصل النساء عن الرجل ، وتركز على حجاب المرأة .
ب - نماذج من النصوص الواردة في المناهج والتي انتقدها التقرير :
1 ) قولهم : هناك آيات قرآنية كثيرة عن حجاب المرأة وأهمية الالتزام به .
2 ) وصف المنهج بأن ما تقوم به بعض النساء من كشف أجسامهن للرجال الغرباء بأنه ذنب كبير .
3 ) " الله أرسل التوراة إلى موسى عليه السلام ، والمسيح ابن مريم هو عيسى عليه السلام ، ويُعرف بأمه ، لأن الله خلقه ولا أب له "
4 ) " التلميذ حاتم يتمنى أن يعطيه الله الشجاعة والإيمان ليكون مجاهداً في سبيل الله ، مثل سعد بن أبي وقاص " .
5 ) الآيات والأحاديث الواردة في الولاء والبراء .
6 ) النصوص الواردة في النهي عن التشبه بالكفار .
7 ) الفقرات الواردة في مناصرة قضايا المسلمين ، مثل : ( فلسطين ، وكشمير ) وغيرها.
8 ) الفقرات الواردة في وصف اليهود والحركة الصهيونية .
• مقال " توماس فريدمان " بعنوان : " إما أن تتخلص أمريكا من الشاحنات الصغيرة أو يتخلص السعوديون من المناهج الإسلامية المدرسية " .(115/769)
نشر المقال في جريدة " نيويورك تايمز " في عدد ( 30 ) أكتوبر ، ومن أبرز ما ورد فيه ما يلي :
1 ) " كتاب المدرسة الخاص بالسنة العاشرة ( الأول ثانوي ) والمنتشر في جميع المدارس السعودية يتضمن نصاً يقول : إنه واجب على المسلمين أن يتآخوا فيما بينهم وأن يعتبروا الكفار أعداء لهم ، هذه النظرة العدائية التي تنتشر بصفة خاصة في المذهب الصارم للوهابية السعودية كأحد اتجاهات الإسلام .
2 ) " إذا أرادت أن تكون لها علاقة حسنة معنا ، فعليها أن تعرف أنه مهما كانت الطروحات الدينية التي تدرسها لأبنائها في مدارسها العامة ، فإننا ننتظر منها أن تلقن الطريقة السليمة التي تحقق بها تلك الطروحات " .
• مقال " نيل ماكفار كوهار " بعنوان : " وجهات النظر المتطرفة والمعادية للغرب في المدارس السعودية " .
نشر المقال في صحيفة " نيويورك تايمز " في 18 / 10 / 2001 م ، ومن أبرز ما ورد فيه ما يلي :
1 ) " أن الآيات القرآنية تحذر المسلمين من مخاطر إقامة الصداقات مع المسيحيين واليهود ، وتطلب الدروس الصفية في الكتب المدرسية المقررة من المسلمين أن يكونوا موالين لبعضهم البعض ، وأن يعتبروا الكفار أعداء لهم " .
2 ) " تعود النظرة المتطرفة المعادية للغرب في النظام التربوي السعودي نتيجة للجرعات الإجبارية التي يتلقاها الطلاب من خلال تعلمهم لمحتوى كتب التربية الإسلامية المقررة في المدارس، وتتسرب هذه النظرة خارج الصف المدرسي من خلال الخطب الدينية في المساجد والبرامج التلفزيونية " .
3 ) " إن الإطلاع على منهج التربية الإسلامية في المملكة العربية السعودية يعطي الانطباع بأنه يدعم ويشجع النظرة المتطرفة للإسلام حتى بالنسبة للمسلمين المؤمنين الورعين " .
4 ) " حجم مقررات التربية الإسلامية التي تدرس في المدارس السعودية كما يقول بعض أولياء أمور الطلاب يعادل ثلث المنهج ، وكلها تركز على المواضيع الدينية " .
5 ) " يقول بعض أولياء أمور الطلبة أن النظام التربوي يركز على مواضيع التربية الإسلامية ، وأن الطالب لا يستطيع الانتقال إلى الصف الأعلى إذا رسب في واحدة من المواد الدراسية الدينية " .
6 ) " الكتب الإسلامية المقررة في المنهج السعودي تطلب من الطلاب كراهية الكفار ، وتطلب منهم أن يقفوا موقفاً عدوانياً من الكفار ، وأن يتجاهلوا طقوسهم وأعيادهم ، وأن لا يقلدوهم في ملابسهم أو في طعامهم وشرابهم وأحاديثهم " .
• مقال " رالف بيتز " بعنوان : " الرياض هي أصل معظم الشرور " .
نشر المقال في جريدة " الوول ستريت جورنال " في 4 يناير 2002 م ، وورد فيه قوله : " ... ولكننا لن نقترب من قلب المشكلة إلا إذا تصدينا للنموذج السعودي من الإسلام الذي يتصف بالكراهية والرجعية ونزعة القتل . إن الرؤية السعودية الدينية المتطرفة القائمة على معاداة المرأة ، ومعاداة الفضيلة ، ومعاداة الديمقراطية ،(115/770)
ومعاداة التعليم المؤدي بأي صورة من الصور إلى التحرر ، والقائمة على العنصرية والمعادية أساساً للحرية ، والتي يتم تمويلها عن طريق كل من يقود السيارات الفارهة على الطرق الأمريكية هي أشد الرؤى تدميراً في عالم اليوم " .
• وهناك دراسات وتقارير ومقالات أخرى تدور حول نفس الأفكار السابقة ، وتتهم المناهج السعودية ، وتطالب بتغييرها ، مثل :
- Neil MacFarquar. Anti western and extremist view pervade Saudi Schools. The New York times. October, 19, 2001. section B, P. 1.
- Anti – Western and Extremist Views Pervade Saudi Schools .
- Leisure Clss to Working Class in Saudi Arabia , By Neil Macfarguhar .
- Saudis Seek U.S. Muslims For Their Sect .
- Studying the Split Between U.s. Saudi Arabia .
- How Islam and Politics Mixed .
- Speaking in the Name of Islam . By Douglas Jehl . Riyadh , Saudi Arabia .
2 ) المناهج في مصر :
• عقدت ندوة في جامعة تل أبيب بعنوان : ( دراسة تأثير القرآن الكريم في عرقلة التطبيع مع إسرائيل ) وشارك فيها مصطفى خليل رئيس وزراء السادات سابقاً ، وبطرس غالي ، ثم طالب بيجن بإغلاق دور القرآن الكريم في مصر وتأميم المساجد .
وقد تم من ذلك الكثير على المستوى العملي ، فجرى حذف بعض آيات القرآن الكريم من المناهج التي يدرسها الطلاب .
• نشر موقع ( الأسبوعية ) ( 3 ) يوم الأثنين الموافق : 16 / 4 / 1423 هـ تقرير عن اتفاقية المنحة الأمريكية في مجال التعليم التي وافق عليها مجلس الشورى ولجنة التعليم بمجلس الشعب برئاسة الدكتور حسام بدراوي منذ أيام. وستعرض علي مجلس الشعب قبل انتهاء دورته البرلمانية .
وتوافق الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية بموجب الاتفاقية علي منح مصر 23 مليونا و4 آلاف دولار أمريكي ، والاتفاقية حذر منها عدد كبير من أساتذة التربية لخطورتها حيث يحق لمن يمنح أن يتدخل في تعديل المناهج وتدريب المعلمين..
والاتفاقية كما جاء في مذكرتها الإيضاحية تهدف إلي تحسين كفاءة ونوعية التعليم الأساسي مع التركيز علي الفتيات .
والفئات المستهدفة من الاتفاقية تلاميذ المراحل الابتدائية والإعدادية وبعض طلاب المرحلة الثانوية والمتسربون من التعليم والشباب حتى سن الرابعة والعشرين في المناطق المستهدفة بمحافظات المنيا وبني سويف والفيوم والإسكندرية والقاهرة ويشمل البرنامج الأطفال ما قبل المدرسة بين سن الثالثة والخامسة علي مستوي مصر والفتيات والشباب ما بين التاسعة والخامسة والعشرين المقبلين علي حياة أسرية إذن هناك أهداف خارج التعليم أيضا يؤكدها ما جاء في الاتفاقية حول تعليم وتدريب أولياء الأمور ويعطي البرنامج اهتماما لمن لهم تأثير مباشر علي الأطفال(115/771)
من مدرسين وأعضاء هيئة تدريس بكليات التربية وطلاب كليات التربية وكذلك موظفو وزارة التربية والتعليم.
وتضمن البند الخاص بتدريب المدرسين تحسين برامج التدريب علي التدريس ووضع وتبني المعايير التعليمية كأساس لوضع المناهج والامتحانات وكذلك تقديم المساعدة الفنية لكليات التربية لوضع سياسات تعليمية جديدة.
وتشمل الاتفاقية في نفس البند جزءا غامضا حديثا جاء به 'يشمل البرنامج أنشطة تدريبية في مصر والولايات المتحدة ودولة ثالثة بهدف تحسين أداء المستهدفين من القائمين علي التعليم من وزارتي التعليم والتعليم العالي والمنظمات غير الحكومية '.
كما أن المنحة ليست مقصورة علي التعليم ولكن تتطرق إلي موضوعات تمس الحياة والعادات حيث جاء في الاتفاقية أن البرامج تؤدي إلي تنمية تعليم الفتيات وتقديم نماذج إيجابية للفتيات والفتيان وعادات صحية وبيئية مرغوبة للأطفال والعائلات وفي الصفحة الثامنة جاء بالاتفاقية ينفذ حاليا برنامج 'آفاق جديدة' لتنمية المهارات الحياتية من خلال منحة لمركز التعليم والأنشطة السكانية في 21 محافظة بمصر ،وسوف يتكرر هذا البرنامج من خلال منحة تكميلية للهيئة المذكورة ليمتد إلي محافظات أخري ويؤدي إلي زيادة فرص الوصول إلي الوعي بالموضوعات الصحية الحرجة.
ولم تحدد الاتفاقية نوعية هذه الموضوعات هل تدريس الجنس وما تدعو إليه أمريكا من ممارسات بعيدة عن الزواج وبالمفهوم الغربي الذي يبيح الشذوذ والحرية الجنسية .
3 ) المناهج في فلسطين :
أفادت دراسة أنجزتها منظمة أمريكية غير حكومية نشرت يوم الأربعاء 21 / 11 / 2001 م أن البرامج الدراسية الجديدة التي اعتمدها السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة ( لا تدرس مباديء السلام والمصالحة مع إسرائيل ) .
واعتبر نائب مدير الفرع الإسرائيلي لهذه المنطقة يوهانان مانور أن ( النصوص الجديدة لا تدرس مباديء السلام مع إسرائيل حتى أنها ترفض وجودها ... إن المنحى التعليمي الفلسطيني للسلطة الفلسطينية ليس متطابقاً مع المبادىء التي حددتها منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة " يونسكو " ) .
وأعربت الدراسة عن الأسف ، لأن اللغة العبرية لا تعتبر من اللغات المستخدمة في البلاد ، وأن توصف إسرائيل بالدولة ( المغتصبة ) و ( المحتلة ) منذ قيامها سنة 1948 م ، وأنها لا تظهر على أي خارطة .
وشددت الدراسة على ( أنه لم يشر إلى أي من الأماكن المقدسة اليهودية ، وأن القدس تظهر وكأنها ملك للفلسطينيين وحدهم ، وأن الكفاح من أجل تحرير فلسطين موضوع عسكري محض ) .
وأكدت – أيضاً – على أن الكتب الدراسية ( تقدس الشهيد والجهاد ) مع أنها ( لا تعرب مباشرة عن دعمها للإرهاب ) .
ثانياً : الهجمة الداخلية :(115/772)
بينا في العنصر الأول تصاعد الهجمة الأمريكية على المناهج التعليمية في البلدان الإسلامية ، وفي بلادنا خاصة ، وتزامن معها هجمة داخلية تبناها المستغربون ، تكاد تتطابق مع الهجمة الأمريكية في ترديد نفس الاتهامات والافتراءات ، بل أصبحت مرجعاً للأقلام الأمريكية يستشهدون بها صراحة مع نسبتها إلى أصحابها ، حتى أصبحنا لا ندري أيهما يستعين بالآخر في مهاجمة المناهج ، وتصاعدت الهجمة الداخلية على المناهج بعد تعرض بلادنا إلى أحداث تفجيرات الرياض التي استنكرها العلماء والدعاة ، واتفقوا على حرمتها ، حتى أصبحت الهجمة عليها أكثر جرأة وصراحة ، ويمكن عرض نماذج تبين ما يريد هؤلاء بمناهجنا :
فتحت مقال بعنوان (بأمريكا أو بدونها لابد من تغيير المناهج الدراسية ) يقول الكاتب في مجمل كلامه : ( ... إن الخلل في مناهجنا لا يكمن في زيادة المواد الدينية أو محتواها ، بل في أنها أصبحت مناهج أثرية لم تعد متلائمة مع ظروف العصر ومتطلبات التنمية وحاجة السوق .. ) .
ويقول رابطاً القارئ بطرح سابق له ، وعدت إلى موضوع المناهج مرة ثالثة ، في محاضرة ألقيتها في جامعة ...... في منتصف الثمانينيات : ( أما الأمنية الأولى فهي أن تقوم جامعات الخليج بواجبها في تصحيح الخطأ التاريخي الذي وقع فيه التعليم العربي ذات يوم نتيجة غباء عبقري من عباقرة التخلف أوحت إليه شياطين الجهل أن يخرج بضلالة تقسيم الدراسة إلى أدبية وعلمية ، إننا نعيش في عصر لا يمكن أن يستغنى عن العلم ، وهو عصر تحول العلم فيه إلى وحش كاسر لابد أن يكبل بقيد من الإنسانيات والروحانيات ) .
ويقول : ( إن مشكلة المناهج الدراسية أعمق بكثير من قضية الجرعة الدينية وهذه المشكلة ليست القضية الأخطر ولا الأهم ، المشكلة الكبرى في نظام التعليم أنه أصبح يعادي التنمية والتطور واحتياجات المجتمع وكل توجهات القرن الحادي والعشرين ، وهذه مشكلة علينا أن نقضي عليها قبل أن تقضي علينا ) .
وكاتب آخر يطالب ببتر الإرهاب ومن وسائل البتر( القضية التعليمية ) فيرى ( إعادة تشكيل الخارطة الثقافية والاجتماعية والدينية بطريقة توائم العصر ولا تغفل الثوابت ، وهذا يقودنا إلى طرح القضية التعليمية وآليتها المشوهة التي ساهمت في خروج فئات متطرفة بسبب الخطاب الديني المغلق الذي أدخلهم في ذلك النفق ) .
ويتهم أحد الكتاب وزارات الشؤون الإسلامية والتربية والتعليم والتعليم العالي بأنها مفرخة للإرهاب منذ أكثر من عشرين سنة فيقول : ( إننا حتى الآن ندور داخل الحلقة المفرغة التي بدأت بأحداث الحرم المكي منذ ربع قرن تقريباً ، فنحن منذ ذلك التاريخ ليس لدينا استراتيجية نعمل في ضوئها وإنما خبط عشواء ، فوزارة الداخلية تكافح نتائج الفكر الإرهابي . هذه النتائج المتمثلة في جرائم ظاهرة للعيان ، بينما الوزارات الأخرى المذكورة في هذا المقال ، من حيث تدري ولا تدري تكرس وتسقي الجذور الفكرية المتطرفة ، وتفرخ الإرهابيين ، وهكذا أصبحت وزارة الداخلية في مواجهة مستمرة مع الإرهابيين الذين هم في الأصل نتاج (( مفرختنا )) المحلية ) .
وفي مقال ساخر يتهم أحد الكتاب المناهج والقائمين عليها بأنها سبب التطرف والغلو ، ومن أبرز ما ذكر في المقال قوله : ( وقد لا تدرون أن هؤلاء المزارعين يجدون(115/773)
ممانعة شديدة في دوائر التعليم إلى درجة أن المدرسين تركوا تعليم العلوم والرياضيات واتجهوا إلى منافستهم في تعليم التطرف ، وازدادت حياتهم صعوبة لأن المدارس ، وضمنها الخاصة صارت تمنح طلابها ساعات بعد الظهر لمزيد من هذه الدروس الدعوية .
ويرى أن المدارس تحرض على القتل والمعاداة للآخرين فيقول ( لا تصدقوا من يقول أن طلاب المدارس بما فيها الابتدائية ، يعرضون صور القتلى الفلسطينيين والعراقيين ، ويحرضون على قتل الكفرة ) .
ويضيف أن مدارس البنات تحولت إلى مجتمعات تثقيفية في الشأن السياسي فيقول : ( كما أنه كله بهتان ما يقال من أن مدارس البنات تحولت إلى تجمعات تثقيفية في الشأن السياسية ).
ونشرت إحدى الصحف مقالاً بعنوان ( أين خطؤنا ؟ ) طرح الكاتب خلاله جملة من التساؤلات ، وختمها بالسؤال التالي :
هل أخطأت هذه الدولة لأنها صرفت على التعليم الديني ، ونظمت له المسابقات ، وأكثرت من مدارس تحفيظ القرآن ؟
وتقول إحدى الكاتبات في مقالها : ( ربما لا تكون مناهجنا التعليمية ، على الرغم مما يشوبها من ثغرات معرفية وما ينقصها من أسس منهجية ، هي المسئول المباشر عن نشوء الفكر المتطرف والتفكير الجهادي لكن جذور هذا الفكر استطاعت التغلغل إلى البيئة التعليمية عبر أشكال مختلفة من الخطاب التكفيري الذي يرى في التسامح والوسطية تفريطا وتساهلا بينما ينظر إلى الغلو والتشدد باعتبارهما التزاما وتدينا ) .
ويقدم أحد الكتاب بعض التوجيهات حول أسباب الإرهاب فيقول : ( لقد آن الأوان للاعتراف بالحقيقة المرة وهي أن لظاهرة العنف والإرهاب بعداُ ذاتيا يكمن في قسط معتبر من ثقافتنا المجتمعية وبخاصة في وجهها الديني ، إن هذه الثقافة تعاني من اختلالات كثيرة تهيئ بمجملها الأرضية الصالحة لتنامي فكر العنف والمصادمة وعدم التسامح مع الآخر ... ) .
ويقول : ( إن أبالسة تيارات العنف والإرهاب يتعمدون في اجتذاب بعض شبابنا على تلك الثقافة المخلة التي يستقيها أولئك الشباب من مصادر متعددة بدءاً بمؤسسات التعليم ... ).
ويقول – أيضاً - : ( والمتأمل في هذه الثقافة الدينية التي يتلقاها شبابنا عبر هذه المصادر المتعددة سيجد أن كثيراً منها ينحو منحى (( فقه التشديد )) الذي يملأ قلوبهم حنقاً على الحياة ، ويحشو عقولهم بأفكار سوداوية تجعلهم ضيقي الأفق سريعي الانفعال يكرهون الدنيا وينبذون الآخر ويتعصبون للرأي ولا يقبلون بالحوار ) .
والمتأمل في تلك المقالات يلاحظ ما يلي :
1 ) استخدام عبارات ومصطلحات بعيدة كل البعد عن المنهج العلمي ، والأمانة والأخلاق المهنية ، فيها بذاءة وتهويل واتهام بلا رادع أخلاقي ، ولا وازع إيماني ، ولا اعتزاز بالهوية ، وإنما إرهاب فكري ، هدفه تشويه صورة المناهج التعليمية ، وتنفير المجتمع منها ، ومن أمثلة ذلك العبارات التالية : ( مناهج أثرية ) و ( الخطأ التاريخي ) و ( عباقرة التخلف ) و ( شياطين الجهل ) و ( القضية التعليمية وآليتها(115/774)
المشوهة ) و ( الخطاب الديني المغلق ) و ( تعليم التطرف ) و ( الخطاب التكفيري ) و ( فقه التشديد ) .
2 ) اتهام المجتمع بجميع فئاته ، لأنه تعلم وتربى على تلك المناهج ، ولأن مؤسساته التعليمية تعلم تلك المناهج لطلابها ، فأصبحت الثقافة المجتمعية وبخاصة في وجهها الديني كلها تعاني من اختلالات كثيرة ، كما يقول أحد الكتاب !! .
3 ) ركزت مقالات الكتاب على قضية واحدة ، وصلت إلى حد الإجماع بينهم ، وكأنهم اتفقوا على ذلك ، وهو اتهام مناهج العلوم الشرعية بالتربية على الإرهاب والتطرف والغلو والتشدد ، فهي ( تخرج الفئات المتطرفة ) و ( وتسقي الجذور الفكرية المتطرفة ) و ( وتفرخ الإرهابيين ) و ( تهيئ لتنامي فكر العنف والمصادمة وعدم التسامح مع الآخر ) !! .
4 ) اتهام مناهج العلوم الشرعية بأنها المسئولة عن التخلف العلمي ، وأنها تعادي التنمية والتطور واحتياجات المجتمع !! .
5 ) الدعوة إلى أن يكون البديل عن مناهجنا في ظل تحول العلم إلى وحش كاسر هو تكبيله بقيد من الإنسانيات والروحانيات ، كما يقول الكاتب ، ولم يبين لنا مفهومها ، ومصدرها !! .
----------------
الهوامش:-
( 1 ) www.elosboa.com .
( 2 ) مجلة البيان ، عدد ( 184 ) ذو الحجة 1423 هـ .
( 3 ) http://www.elosboa.com/elosboa/issues/328/0301.asp .
ثالثاً : ما نريده في مناهجنا:
تطوير مناهجنا بصورة عامة ، ومناهج العلوم الشرعية بصورة خاصة لا بد أن يكون نابعاً من ذاتنا ، دون أي ضغوط خارجية أو داخلية مستغربة ، تدعوا إلى تغيير المناهج بعيداً عن منطلقاتها وأسسها الشرعية ، ولا بد أن يكون تطويرها على يدي العلماء والمتخصصين في المناهج الذين لديهم القدرة على تطويرها بما يناسب التطورات والتغيرات الحديثة ، وبما يناسب احتياجات المجتمع والطالب .
وتحقيقاً لذلك استكتبنا عدداً من العلماء وطلبة العلم والمتخصصين في المناهج ، ونعرض آراءهم فيما طرحناه من أسئلة حول تطوير المناهج كما وردت عنهم بدون تدخل أو تغيير ، ويسرنا عرضها على النحو التالي :
بدأنا بسؤال :
هل تتفقون معنا على وجود ثغرات في مناهج التعليم يستغلها ويبالغ في ذلك مناهضوا منطلقاتها الشرعية ، وأنها بحاجة للتطوير والمراجعة بأيدينا لا بأيدي هؤلاء . حتى نعمل على إعداد الأجيال بما يحصنهم أمام التحديات القادمة؟
تطوير مناهجنا بصورة عامة ، ومناهج العلوم الشرعية بصورة خاصة لا بد أن يكون نابعاً من ذاتنا ، دون أي ضغوط خارجية أو داخلية مستغربة ، تدعوا إلى تغيير المناهج بعيداً عن منطلقاتها وأسسها الشرعية ، ولا بد أن يكون تطويرها على يدي(115/775)
العلماء والمتخصصين في المناهج الذين لديهم القدرة على تطويرها بما يناسب التطورات والتغيرات الحديثة ، وبما يناسب احتياجات المجتمع والطالب .
من خلال هذا السؤال اتفق الأخوة على وجود ثغرات في مناهج التعليم ، ولكن اختلفوا في دقة وصف السؤال للواقع الحالي !
فيرى د. محمد البشر أن المناهج الشرعية لا يعني تطويرها هو وجود نواحي سلبية كما يرى بعض المطالبين بأنها هي السبب في تخريج الإرهابيين أو عجز مناهج العلوم الشرعية عن إعداد الأجيال فيقول : ( من المتفق عليه لدى المهتمين بالمناهج أن مناهج التعليم لابد من خضوعها للتقويم ثم التطوير ، ولا يعني خضوع أي منهج دراسي للتقويم وجود نواحي سلبية كما يعتقد البعض بل التأكد من مدى تحقيقه للأهداف الموضوعة ومدى مناسبتها للتلاميذ ) .
ويضيف :( ومما يلاحظ كثرة المطالبة بتطوير مناهج العلوم الشرعية بحجج مختلفة قد تصل في تطرفها إلى اتهام مناهج العلوم الشرعية بتخريج إرهابيين أو عجز مناهج العلوم الشرعية عن إعداد الأجيال بما يحصنهم أمام التحديات القادمة ) .
ويرى المشرف التربوي عبدالله بن سعد الفالح أن المناهج القائمة راعت فترة مرت بها البلاد لكن لا يمنع من السعي لتطوير ما يحتاج إلى التطوير فيقول : ( المناهج القائمة مناهج جيدة جدا ، حيث أنها شاملة لما يحتاجه الطالب في دينه ودنياه ، وإن وجد بعض الأخطاء فهذا لا يعني التطوير الكامل لها والتغيير ولكن ... يصلح الخطأ ويبين اللبس . أما تلك الحملات على المناهج خاصة التربية الإسلامية فهؤلاء لا يصدرون عن علم وبيان ما فيه من أخطاء علمية أو منهجية ، وإنما عن هوى واتباع لكل ناعق ثم طلبهم ذلك إنما هو للتغيير والحذف والتبديل )
ويؤيد هذا الكلام المشرف التربوي خالد العقيلي بقوله :
( أولا : أظن أن جميع المعنيين بالتربية والتعليم يتفقون على ضرورة تطوير المناهج ، سواء أصحاب التوجهات الغامضة أو المنحرفة أو أصحاب التوجهات الأصلية .
ثانيا : المنطلقات في هذه القناعة متباينة ومختلفة بل ومتعارضة في أهدافها ودوافعها ، بين أصحاب التوجهين ) .
في حين أن الشيخ الدكتور / عبدالوهاب الطريري يتفق في وجود من يتهم المناهج بتخريج الإرهابيين والمتطرفين ولكنه يرى ألا نهاجم من يهاجم المناهج مهما كانت توجهاته والأصل هو حسن النية فيقول :
( لماذا أفترض في كل من يعارض مناهج التعليم الشرعية أنه يعارض منطلقاتها الشرعية؟
لماذا نعيش ونحن ملغمون بسوء الظن بالآخرين؟
لماذا نطالب الحكومات أن تحسن الظن بمن ينتقدها ونحن نستعد بقائمة من التهم لكل من ينتقد ما نحن عليه؟
إن علي أن أفترض الصدق وحسن النية في كل من ينتقد هذه المناهج حتى وإن أخطأ ، فيبين له وجه خطئه من غير أن يحاصر أو يحرج بأنه يناهض منطلقاتها الشرعية .(115/776)
المناهج القائمة مناهج جيدة جدا ، حيث إنها شاملة لما يحتاجه الطالب في دينه ودنياه ، وإن وجد بعض الأخطاء فهذا لا يعني التطوير الكامل لها والتغيير ولكن ... يصلح الخطأ ويبين اللبس.
إن مناهج التعليم، سواء الشرعية أو غيرها أمر يخص كل بيت، وكلَّ رب أسرة، وكل متعلم، وكل ناشئ، وبالتالي فهي قضية عامة ينبغي أن تفتح آفاق الحديث والحوار حولها دون أن يرجم أي متحدث عنها بهذه الأنواع من التهم. المهم أن يكون هذا النقد نتيجة استقراء وتتبع، وليس بطريقة رجم مقرراتنا الشرعية بتهم مستوردة، كاتهامها بأنها تصنع الإرهاب، أو أنها تنتج العنف، ونحو ذلك من التهم التي نرى أنها تهم معلبة مستوردة من الخارج، فهذا نوع من استيراد تهم الآخرين ثم تسويقها بيننا وليس مما نحن فيه. لكن وصف المقررات بأن فيها عوزاً وقصوراً وتحتاج إلى إصلاح فهذه قضية عامة ينبغي أن نتنادى لها، والمقررات الشرعية هي مما ينبغي أن يوجه إلى تأليفها وإعدادها النقد، لأن المقررات الشرعية ليست هي الشرع، هي عمل بشري قابل للتقويم والمراجعة، دعني أنا وإياك نتساءل: ما سر تعاقب التأليف طوال القرون؟ لماذا لم يكتف أصحاب كل قرن بالمؤلفات التي ألفت قبلهم، إن السبب بوضوح أنهم يرون أن وقتهم وعصرهم محتاج لنوع من التأليف والصياغة لا تكفي ولا تغني فيه الصياغة قبل ذلك، والمقررات الشرعية هي من هذا النوع .
كما أنني أعترض على هذا التقسيم (بأيدينا لا بأيدي هؤلاء) فهؤلاء هم منا، فمن كان منهم لديه رأي رشيد، سديد فينبغي أن يستفاد منه ومن كان لديه جنوح فينبغي أن يسدد ويبصر. دعني أتناءى وإياك عن نحن وهؤلاء.
أما الجواب على السؤال هل مقرراتنا الشرعية بحاجة للتطوير والمراجعة؟
فإني أحتاج فيه إلى نعمات كثيرة... نعم ثم نعم ثم نعم هي بحاجة للتطوير والمراجعات بأيدينا جميعاً حتى تلاقي حاجة الأجيال المعاصرة والقادمة )
في حين أن الشيخ عبدالعزيز الشويش يرى أن المناقضين للمناهج في هذه الفترة همهم هو إرضاء أهوائهم وسائر الملل والطوائف غير عابئين بنوعية التطوير فيقول : ( المشكلة أن الذين يطعنون من الأمام أو الخلف فيها ويصمونها بالقصور عن استيعاب العصر لا يرضيهم تطويرها ولا حتى ترويضها لأنها بالنسبة لهم كلها ثغرة ولن يقفوا عند حد المطالبة بالتطوير والتغيير بل بالإلغاء والإبقاء على حد يرضي في وقت واحد الرافضي والبدعي والنصراني واليهودي والبوذي والمسلم الذي لا يعرف منها إلا الشعائر الفردية أما المناهج التي تعلي من شأن المسلم وتميزه عن غيره علماً وعملاً وسلوكاً وتتدخل في جميع شؤونه وفي جميع شؤون الحياة بالترتيب والتنظيم وتوضح طبيعة العلاقات مع مخالفي هذا الدين فهذا ما لا يرضاه هؤلاء بحال من الأحوال ) .
إن مكمن الخطر هنا هو حديث غير المتخصصين في الأمور التربوية في هذه القضايا الهامة التي تحتاج إلى تضافر الجهود من التربويين ورجال الفكر للحديث عنها ورسم خططها والعناية بها، إذ إن تركه لغير أهله ربما أصاب الأمة جميعها بالخسارة والتخلف.(115/777)
ويقول : ( أين هم قبل ذلك الوقت ولماذا نفروا في هذا الوقت وتخصص كل منهم في النيل من صرح من صروح هذا المجتمع الذي يمثل تميزاً ويعطي مثالاً فهبوا بمعاولهم الداثرة وثقافتهم البائرة وأمركتهم الفاجرة وكرتهم الخاسرة بترتيب عجيب وتكالب غريب وتكاتف مريب خابوا وخسروا لقد ظنوا أن الكعكة جاهزة للقسمة .. لقد خاب ظنهم وأخطئوا في توقيتهم وجهلوا أبسط مقومات المجتمع وحقائق هذا الدين ) .
ويرى د. عبدالمحسن السيف أن مكمن الخطر هو في حديث غير المتخصصين في الأمور التربوية في هذه القضايا الهامة فيقول : ( إن مكمن الخطر هنا هو حديث غير المتخصصين في الأمور التربوية في هذه القضايا الهامة التي تحتاج إلى تضافر الجهود من التربويين ورجال الفكر للحديث عنها ورسم خططها والعناية بها وعدم التخلف عن القيام بهذا الدور الكبير والواجب العظيم ، إذ إن تركه لغير أهله ربما أصاب الأمة جميعها بالخسارة والتخلف ، ومع الأسف الشديد فإن هذا هو الذي يحصل اليوم في كثير من بلاد المسلمين حتى أصبح الحديث عن المناهج وبالذات مناهج العلوم الشرعية حمى مستباح يفتي فيه كل من شاء بما شاء فأصبحت النتائج على خلاف ما يريده المختصون المخلصون ) .
كما يرى أن المناهج من حيث العموم بحاجة للتطوير فيقول : ( أما قضية تطوير المناهج من حيث العموم فإنها من الضرورات الهامة والأمور المهمة ليس في وقتنا الحاضر فحسب ولكن في جميع الأوقات وذلك أن الحياة بطبيعتها لا تثبت على حال بل لا بد من التغير والتبدل في معطياتها وخصائصها وحاجات أفرادها والمؤثرات التي يتعرض لها أفرادها بين حين وآخر والمناهج في حقيقتها تعكس تلك الأمور جميعها ... )
لماذا لا يكون للمتخصصين وأهل العلم والدعوة مشروع لتطوير مناهج التعليم بعامة ومناهج العلوم الشرعية خاصة، لمواجهة حملة تغيير المناهج التغريبية؟
قال د. عبدالوهاب الطريري : ( هذا سؤال حقيقي وارد ، والجواب عليه يجب أن يكون للمتخصصين وأهل العلم والدعوة مشروع لتطوير مناهج التعليم ، وأضع خطوطاً كثيرة تحت تطوير مناهج التعليم وليس مجرد الدفاع عنها بوضعها الحالي وإبقائها على ما هي عليه بحجة أنه ليس في الإمكان أبدع مما كان )
ويتفق الشيخ عبدالعزيز الشويش على وجوب إقامة المشروع بأيدي المتخصصين المخلصين فيقول : ( إنني أتفق معكم بأن يكون للمتخصصين وأهل العلم والدعوة مشروعاً لتطوير المناهج وخاصة مناهج العلوم الشرعية ليس لمواجهة الحملة التغريبية فحسب ، بل لإضافة وتثبيت بعض الحقائق الغائبة عن المناهج والتي تدعو الحاجة إليها بعد التطورات الأخيرة وتحديداً بعد 11 سبتمبر لكن هذا المشروع ينبغي ألا يكون مشاعاً لعامة من ذكر من المتخصصين وأهل العلم والدعوة بل ينتدب منهم رجالاً مخلصين موثوقين متمكنين سديدي الرأي بعيدي الرؤية فقهاء للواقع لا يمكن أن يؤتى المسلمون من قبلهم ) .(115/778)
ويضيف قائلاً : ( يجب أن يكون عندنا من الشجاعة والروح المعنوية في معالجة وتطوير المناهج ما نبني به حضارتنا ونواجه به أعدائنا ونسير به حياتنا ومعيشتنا في عبودية وخضوع لله سبحانه وتعالى ) .
ويحث المشرف التربوي خالد العقيلي المتخصصين وأهل العلم إلى المسارعة بقوله : ( هذا ما يلزم المتخصصين وأهل العلم والدعوة استشعاره والمبادرة إلى استثماره ) .
ويرى د. محمد البشر أن قيام هذه النخبة من التربويين وأهل الاختصاص هو السبيل الصحيح لتطوير المناهج مع المحافظة على خصوصية البلد وأهله ، والتي أوجزها في هذه النقاط :
1- إن عملية التطوير عملية منظمة ومستمرة وهادفة يجب أن يتولاها أهل الاختصاص والخبرة وأن يشارك في عملية التطوير جميع أطراف العملية التربوية
2- كما يجب أن لا نغفل دور القطاع الخاص في عملية تصميم المناهج الدراسية وإخضاع ما يقترحه من مقررات دراسية موضع التجريب فإذا أثبت فاعلية لماذا لا يعمم ؟
3- كما أقترح القيام بمؤتمرات وندوات لأهل الاختصاص في كل فرع من فروع مناهجنا لتدارس الإيجابيات والوقوف على السلبيات ومحاولة الخروج بخبرات جديدة قد تسهم في تطوير مناهجنا .
ويشدد المشرف التربوي عبدالله الفالح على وجوب أن تسند الأمور لأهلها وإلى ذوي المقاصد الحسنة فيقول : ( إن كان ولا بد من التغيير والتطوير فليوكل ذلك إلى أهل الخبرة والاختصاص من العلماء البارزين الذين يعرفون متطلبات المجتمع وما يحتاجه ، ولهم دراية بالتأليف مع حسن المقصد ومحبة الخير والنفع للغير ) .
وما قرأناه سابقا يقودنا إلى طرح هذا السؤال :
هل لكم أن تساهموا معنا في تقديم ملاحظاتكم على المناهج القائمة ومقترحات تطوير محددة في هذا الخصوص؟
فيجيب د. عبدالمحسن السيف بعرض هذه النقاط التي تَوَافَق الجميع على طرحها أو طرح بعضها فيقول : ( هذا التطوير يجب أن يكون شاملاً لجميع نواحي التطوير وألا يقتصر فقط على الشكل دون المضمون أو على عنصر واحد من عناصر المنهج بمفهومه الشامل وفي مقدمة ذلك المحتوى أو ما يطلق عليه الآن الكتاب المدرسي والأهداف التعليمية التي ترسم هذا المحتوى وكذلك طرق التدريس المتبعة والأنشطة الصفية وغير الصفية المعينة على تنفيذ المنهج والتقويم المتبع في هذه المناهج . كما أن التطوير يجب أن يشمل حتى البنية الأساسية للتعليم مثل المدارس ومنها المباني المدرسية التي يجب أن تتحقق فيها مواصفات المبنى المدرسي الملائم لتنفيذ المنهج وكذلك الأنظمة والأساليب التي تدار بها العملية التعليمية بشكل عام حتى نضمن أن يكون التطوير شاملاً ومتكاملاً يؤدي الغرض المنشود منه .
أما أبرز الملاحظات على المناهج القائمة حالياً خاصة مناهج العلوم الشرعية ، فإنها كما يلي :
1- بعد البعض منها عن مناقشة الحاجات التعليمية للمتعلم وذلك أنها تنحو نحو العمومية وعدم التركيز على حاجات المتعلم .(115/779)
2- عدم مراعاة بعض موضوعاتها للمرحلة العمرية للمتعلم حيث نجد بعض الموضوعات تتطرق إلى مفاهيم لا تناسب قدرات المتعلمين الذهنية أو الفكرية أو الثقافية في مثل هذا السن .
3- الاهتمام بالكم في بعض الموضوعات على حساب الكيف وذلك بعدم العناية بالتركيز على موضوعات مختصرة وإعطائها ما تستحقه من الشرح والتوضيح والأمثلة .
4- عدم ربط الموضوعات التي يتم تدريسها بواقع المتعلم وحياته مما يجعله يتصور أن المخاطب بها غيره فيضعف تأثره بها .
5- عدم الاعتناء بشرح بعض المفاهيم داخل الكتاب والاكتفاء بدور المعلم في هذا الصدد وهذا غير مجدي خاصة في ضوء ضعف دور المعلمين وإعدادهم من جهات الإعداد .
6- نقص جانب التشويق والإثارة في أسلوب تأليف كتب العلوم الشرعية وعدم تضمين الكتاب للصور الحية والأشكال التوضيحية التي تسهل الفهم على المتعلمين خاصة كلما صغرت المرحلة العمرية للمتعلم .
7- عدم الاعتناء بإعداد معلم العلوم الشرعية خاصة ، الإعداد التربوي الذي يمكنه من التعامل مع المتعلمين على أساس مراعاة قدراتهم واحترام عقلياتهم ومراعاة مشاعرهم وتلبية احتياجاتهم واستمالة مشاعرهم نحو الدرس وقدرته على إثارة الدافعية لديهم نحو تقبل العلوم الشرعية ومحبتها والتأثر بها .
8- عدم إيجاد وتوفير الحوافز والتعزيز بشقيه المادي والمعنوي لدعم المتعلمين في مجال العلوم الشرعية ومحاولة انتشالهم من الضعف الذي يعانونه كما هو الحال في تعليم القرآن الكريم .
9- عدم الاعتناء باختيار المعلمين الأكفاء الذين يمثلون العلوم الشرعية التي يدرسونها بصدق وذلك ف مجال القدوة الحسنة لطلابهم وطالباتهم حيث إن غياب القدوات يعتبر أكبر عامل في عدم تأثر المتعلمين بما يدرسونه من هذه المناهج .
10- النقص الواضح في تفعيل دور الأنشطة الصفية وغير الصفية في المدارس على اختلاف مستوياتها حيث لا يولي هذا الجانب الاهتمام الكافي من القائمين على المدارس زعماً منهم بأنه يزاحم التحصيل العلمي للطلاب .
ويضيف د. عبدالوهاب الطريري بقوله : ( كما أنها يجب أيضا أن تراعي الفروق بين مراحل التعليم فيجب أن تراعي الفروق بين الفتيان والفتيات ، فغير صحيح إطلاقاً أن نعلم الفتيات أنصبة الإبل والبقر والغنم وكأننا نرشحهن ليخرجن ساعيات لجباية الزكوات ، ولا أن نعلمهن أحكام الديات والشجاج وغيرها وكأنهن سينصّبن قاضيات في المحاكم . علينا أن نعلم الفتيات الأحكام العامة الشرعية والتي يشتركن في جملتها مع الرجال ، ونركز على مايحتجنه بخاصة من الأحكام التي تلاقي خصوصيتها كزوجة وخصوصيتها كأم ، فلها بذلك مساس وخصوصية أعظم .
ويقول: ( أيضا مجتمعنا ليس مجتمعا رعوياً نعيش له سارحين مع الإبل والبقر السائمة حتى نحفظ طلاباً في سن الابتدائية زكاة الإبل والبقر ، والتبيع والتبيعة والمسن والمسنة وابن اللبون والحقة ، ونحن قد درسنا هذه الأشياء في طفولتنا وها(115/780)
نحن الآن نقارب سن الشيخوخة ولم نحتج إلى هذه المعلومة يوماً واحداً من حياتنا، لأنها ليست معلومة تمس مجتمعنا نحن، هذه معلومة ينبغي أن تدرس لمجتمع يحتاجها، مجتمع رعوي، نحن الآن ينبغي أن نعلم أبنائنا المعاملات البنكية، زكاة رصيد البنك، بيع الأسهم، أحكام التأمين... ونحو ذلك .
خذ مثالاً آخر على ذلك، نعلم الأحاديث والأحكام التي تتعلق بالنهي عن التخلي في الطريق، والملاعن الثلاثة، وهذه أحكام نبوية. وهناك مجتمعات تحتاج إليها، لكن هل رأيت في حياتك إنساناً يتخلى على هذه الأرصفة المبلطة في شوارعنا؟
إنني أحتاج أن أعلم المارة الآن آداب غض البصر ، لأتقي أنا وأهلي هذه النظرات التي تثقب زجاج السيارة كالرصاص .
أحتاج أن أعلم الناس آداب السير في الطريق في المركبات والسيارات ، وسأجد في ديني وهدي نبيي صلى الله عليه وسلم أحكاماً تنظم هذه الأمور وتتعلق بها.
ولا زلت أذكر شيخاً علمني علماً استفدت منه، فقد كنت أقرأ على جماعة المسجد الذي كنت أصلي فيه وأنا شاب حدث السن أحاديث في أحكام الجنائز، فأمسكني هذا الشيخ وقال لي: يا بني نحن نموت في حياتنا مرة واحدة ونصلي في اليوم خمس مرات فاقرأ علينا أحاديث تتعلق بأحكام الصلاة التي نصليها خمس صلوات في اليوم .
إن فتياننا يحتاجون أن يُعلموا أشياء هم يمارسونها ويعايشونها، وليس أشياء هي من ديننا، لكنها مماسة وملامسة لمجتمعات أخرى غير مجتمعنا.)
ويقول أيضا : ( الفتيان في المراحل المتقدمة يحتاجون إلى أن يعلموا أموراً مهمة في الشرع تضبط لهم موازين تصوراتهم ، ليتعلم الطالب مقاصد الشريعة ومسألة المصالح والمفاسد والموازنة بينها ، وهذه الأمور هي من صلب ديننا ، وهدي النبي صلى الله عليه وسلم زاخر بذلك ففي أي مرحلة يعلم الطالب ذلك ؟ لماذا لا يكون لهذا منهج في المرحلة الثانوية ؟ )
وعلى هذا يري الشيخ عبدالعزيز الشويش أنها لابد أن توافق الواقع بشكل كبير فيضرب على ذلك بعض الأمثلة منها كما قال : ( ومن الأمثلة على ذلك :
1- ما يتعلق بالولاء والبراء وضوابط التكفير .
2- مفهوم الإفراط والتفريط وعلاقة ذلك بالفوضى والإرهاب .
3- موقف أهل السنة والجماعة من معارضيهم .
4- مشروعية الجهاد ودوافعه ودواعيه وأحكامه المتعلقة به وأحكام أهل الذمة والمحاربين والمرتدين وتنزيل ذلك على الواقع .
5- مفهوم الحرية وضوابطها والفرق بينها وبين الفوضى والإباحية .
6- قوة الإسلام وحزمه بالإضافة إلى سماحته ويسره .
7- مكانة وحقوق المرأة في الإسلام .
8- أسباب الغنى والفقر وحسن توزيع الثروة والتوازن في الحقوق والواجبات .
إن احتواء المناهج على مثل هذه المفردات وطرحها بعمق وتجرد من شأنه أن ينتج جيلاً يعلم ويعمل ، وسطياً يبني ولا يهدم ، يعدل ولا يجور ، يثق ولا يسيء الظن ، يستعمل عقله ولا يلغي عقول الآخرين ، يتفاعل ايجاباً مع مجتمعه وبلده وأمته ،(115/781)
يحقق الخيرية ويدعو إلى الله على بصيرة ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويؤمن بالله ويشهد على الناس ) .
ويرى أن التغاضي عن طرق هذه المواضيع والإحساس بالحرج حيالها هو السبب في ظهور السلبيات والشبهات والأهواء والتصرفات الخطرة فيقول : ( إن تعاملنا مع هذه المفردات وما تحويه من حقائق وما هو على شاكلتها مما تدعو الحاجة إليه بأساليب انتقائية وطرق متشنجة وبعبارات حذرة لا يعالج السلبية ولا يقضي على العنف ولا يصحح النظرة ولا يولد التسامح ولا يدعم الثقة ولا يحل المشكلات .. بل سيفتح سوقاً للإجتهادات القاصرة والتبريرات الزائغة والفتاوى الشاذة والتصرفات الخطرة والأهواء الضالة والشبهات المغلفة ) .
ويرى المشرف التربوي خالد العقيلي أننا إذا أردنا تطويراً نحو الأفضل فلا بد من تحقيق معايير ، فيقول : ( إذا أردنا تطوير المناهج نحو الأفضل فلا بد من :
1- قياسها واعتبارها بمناهج مثيلة .
2- التأكيد على ما هو إيجابي في المناهج القائمة حاليا ً وإبراز الجوانب الإيجابية والسلبية للمناهج القائمة بعد دراسة هذه اللجان لها وتعميمها على أفراد المجتمع ، والمجتمع التربوي خاصة .
3- إعادة صياغة وتطوير ما يحتاج إلى ذلك من خلال لجان متخصصة ولها مكانة مقنعة ذاتياً وعلمياً ) .
كما يركز د. عبدالوهاب الطريري على أهمية وضع استبيانات لقياس تأثير المناهج على الطلاب فيقول : ( إن علينا عند تقويم المناهج الشرعية أن نجري استبيانات على الشباب الآن نسائلهم عن مدى تأثرهم بالمناهج الشرعية، وما الذي بقي معهم منها وما الذي لا زال له حضور في حياتهم.دعنا نتساءل عن الشباب المتدين وهم كثير –بحمد الله- هل كانت المناهج سبباً في استقامتهم أم أن هناك عوامل أخرى ليست المناهج الشرعية منها؟ )
ويضيف المشرف التربوي سليمان الخضير بعض المقترحات لتطوير المناهج التعليمية في النقاط التالية:
1- تصميم برامج تربوية تعرف الطلبة بالمذاهب المعاصرة المناهضة للفكر الإسلامي والمجتمع السعودي ، وأن تتضمن البرامج التربوية مواجهة مستنيرة وواقعية لتلك المذاهب ، لأنه قد يصادف النشء في حياتهم أفكاراً وفلسفات معادية لعقيدتهم ووطنهم فيصبح لديهم معيار لمعرفة واقعيتها وخطورتها ، مما يصعّب على الآخرين إقناعهم بها .
2- الاستفادة من التقنيات الحديثة في تعليم أبناء الأمة ، من خلال إيجادها والتدريب عليها واستخدامها ، حيث أصبحت ضرورة يحتمها التطور السريع ، كما أنها تساعد على جذب انتباه الطلاب وتوفر جوا من التشويق والإبداع والإثارة .
3- ضرورة الاهتمام باللغة العربية بصفة عامة ، وتنمية حب القراءة والبحث والتركيز على القراءة والتحرير والإنشاء والإملاء في جميع المراحل وخصوصاً الصفوف الأولية ، وتطوير طرق تدريسها .
4- ضرورة التركيز على الجانب التطبيقي بشكل عام .(115/782)
5- أن تزود المناهج بمراجع يمكن للطالب الرجوع إليها وغرس قيم البحث العلمي في نفوس الطلاب والعناية بمكتبة المدرسة .
كما تبين أم بلال أهمية البحث والتركيز عليه لتنمية مهارات الطلاب في القراءة والبحث ليس من خلال مقرر واحد وإنما في جميع المناهج الدراسية بأنواعها : ( نريد أن تفتح لنا المناهج أبواب البحث ، فالمنهج الآن مكتوب وفق أفكار لا يستطيع أن يحيد المعلم والمتعلم عنها إلا قليلاً ، نحن نريد أن تكون المناهج مجرد مواضيع مقررة يندرج تحتها أفكار مقترحة للبحث ويترك البقية لجهد المعلم ، وهذا يشجع المعلم والمتعلم على البحث والتجدد مما يبرز شخصيته وينفرد بإبداعه ) .
وتقول : ( يا حبذا لو كانت المناهج الشرعية عبارة عن سرد للموضوعات المقررة مع ترشيح كتابين مثلاً للإطلاع ، وبهذا نشجع الطلاب والطالبات على القراءة الجادة المطولة ) .
كما يوجه د. عبدالوهاب الطريري إلى حاجة المناهج لتفعيل عرض حياة النبي صلى الله عليه وسلم بطريقة أكثر دقة وشمولية فيقول : ( سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ما مدى حضورها في مناهجنا التعليمية؟ لماذا نعلم فتياننا سيرة النبي صلى الله عليه وسلم على أنها غزوات لا على أنها منهج حياة؟ إن نبينا صلى الله عليه وسلم كان إماما في الحياة وليس فقط قائداً للغزوات ، فلماذا لا توجد السيرة النبوية متكاملة يدرسها الطالب فيتشبع بها بحيث يعيش وكأنه قد عاش زمن النبوة من خلال منهج متكامل يقدم السيرة النبوية متكاملة منهج حياة على طريقة ابن القيم في زاد المعاد؟ ومن خلال ذلك يتحقق الاقتداء والأسوة بالنبي صلى الله عليه وسلم [لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة].
الأخلاق التي بعث النبي –صلى الله عليه وسلم- بتتميمها ألا يكون لها منهج خاص ولو في سنة من السنوات أو في فصل من الفصول الدراسية يدرس فيها كتاب مثل:(خلق المسلم) للشيخ: محمد الغزالي أو غيره ) .
كما ترى أم بلال أن تطوير المناهج يجب أن يشمل عناصر كثيرة فتقول : ( اطلعوا رحمكم الله على مناهج التاريخ لدينا لتروا ركاكة الصياغة . التاريخ عالم من القراءة التي لا تنتهي فاجعلوا الطلاب يقرأون التاريخ القديم والمعاصر ويستشرفون المستقبل فالأمة الإسلامية زاخرة بالتاريخ الذي نستقي منه التربية والعبرة فلا نقيدهم بالحفظ للاختبار مع وجود وسائل أخرى لتقويم ما حصلوا من معلومات ) .
وفي ختام عرض الآراء يسرنا دعوة الجميع لكتابة تعليقاتهم حول هذا الموضوع أو إرساله إلى مشرف النافذة .
شارك في هذا المحور كل من :
1- د. عبدالمحسن بن سيف السيف : الأستاذ المساعد بقسم المناهج وطرق التدريس بجامعة الملك سعود بالرياض .
2- د. محمد بن فهد البشر :الأستاذ المساعد بقسم المناهج وطرق التدريس بجامعة الملك سعود بالرياض .
3- د. عبدالوهاب بن ناصر الطريري : المشرف على المكتب العلمي بموقع الإسلام اليوم .(115/783)
4- الشيخ / عبدالعزيز بن محمد الشويش : رئيس قسم التربية الإسلامية في إدارة التعليم بالرياض .
5- الأستاذ / عبدالله بن سعد الفالح : المشرف التربوي في إدارة التعليم بالرياض .
6- الأستاذ / خالد بن سعد العقيلي :المشرف التربوي في إدارة التعليم بالرياض .
7- الأستاذ / سليمان بن سعد الخضير : المشرف التربوي في وزارة التربية والتعليم .
8- الأستاذة / أم بلال بنت عبدالعزيز : معلمة مادة الرياضيات بالمرحلة الثانوية .
ـــــــــــــــــــ
حوار مع فضيلة الشيخ محمد الدويش
مشرف النافذة
27/2/1424
ارسل تعليقك ...
لا توجد تعليقات ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
الشيخ محمد بن عبدالله الدويش له اهتمامات دائمة ومستمرة بقضايا التربية ممارسةً وكتابة ، يحمل مؤهل الماجستير في آداب التربية ، ويحضر – حالياً – للدكتوراه في نفس المجال ، وله عدة كتب تربوية ، مثل : المدرس ومهارات التوجيه ، وتربية الشباب ، والتربية الجادة ضرورة ، وله عدة محاضرات صوتية مسجلة ومشهورة ، ويكتب زاوية شهرية في مجلة البيان ، والمشرف على موقع : http://www.almurabbi.com/
إدارة التحرير
فضيلة الشيخ/ اهتمامكم بالمجال التربوي كيف كانت بدايته؟ وهل كان وراءه حدث أو موقف حفّز فيكم هذا الاهتمام؟
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:
في بداية هذا اللقاء أحيي الإخوة ومدين لهم بالشكر والتقدير أن أتاحوا لي هذه الفرصة لمثل هذا اللقاء.
ليس بالضرورة أن يكون هناك حدث أو موقف يمكن أن يفسر توجه الإنسان إلى تخصص أو نشاط معين.
أما ما يتعلق بصلتي في التربية فقد كان تخصصي الجامعي في الاقتصاد الإسلامي وكنت اخترت هذا التخصص رغبة في إثراء مثل هذا المجال، وبعد التخرج آثرت أن أتجه للتدريس وحين اتجهت للتدريس ومارست العمل التربوي بدأ يأخذ جزءاً من اهتمامي باعتبار المعايشة فبدأ من وقتها هذا الاهتمام. بدأ في البداية اهتماماً وقراءة وتناولاً ثم أكملت هذا الاهتمام بالتخصص من خلال الحصول على دبلوم تربوي، ثم درجة الماجستير فأصبحت أعايش القضية التربوية من واقع التخصص ومن واقع(115/784)
الاهتمام وإن كنت لا أرضى عن الحصيلة التربوية التي أملكها، وأنه يمكنني أن أقدم للناس شيئاً مفيداً نظراً للفقر الذي تعاني منه الساحة وإلاّ هذا ليس مؤشر تميز كما ذكرتم.
فضيلة الشيخ/ طرحكم لمفهوم التربية الجادة، هل ترون أن خيار الصحوة ملزم بمفردات هذا المفهوم؟
ما يتعلق بمضمون التربية الجادة لا أعتقد أني قدّمت شيئاً جديداً في هذا الموضوع بقدر ما أنني كشفت وأثرت الاهتمام في قضية أعتقد أنها مهمة، ولو كان ما أتيت به شيئاً جديداً جملة وتفصيلا لكنّا بحاجة إلى إعادة النظر فيه، وغاية ما قدمته أنني حشدت وجمعت بعض النصوص وبعض المواقف وبعض الاعتبارات التي تؤكد على أننا ينبغي أن نتميّز في تربيتنا ومن جوانب التميّز التربية الجادة، ثم أتبعتها ببعض الوسائل التي أعتقد أنها تعين على تحقيق هذا الأمر.
أما المصطلح فلسنا بحاجة إلى نقاشه وإلزام الناس به، المهم هو المضمون، والمهم أن تكون التربية منتجة ومحققة للأهداف التي نريد، بغض النظر عن المصطلحات والأسماء.
مداخلة:
إذاً التربية الجادة ضرورية لتصحيح الوضع التربوي؟
أعتقد أنها ضرورة في مستوى البناء ابتداء، ولتصحيح الوضع القائم وتعديل مساره.
حفظكم الله يا شيخ/ يتسم بعض التربويين بالجمود الفكري الذي لا يقبل الحوار مع الآخر ما أسباب ذلك في نظركم؟
أعتقد أن من أسباب ذلك التكوين الثقافي له، فكثير منهم عاش بيئة منغلقة، ولم يعتد الانفتاح على الآخرين، وهذه السمة ليست خاصة بالمربين وإنما هي إفراز لمشكلة موجودة في المجتمع.
كما أن النمط السائد في العمل التربوي الذي يمارس اليوم في الصحوة فيه نوع من الانغلاق والإشغال فيترك ذلك أثره في تفكير بعض الأشخاص.
ومن العوامل وراء ذلك الحرص المبالغ من بعض المربين على طلابهم، فيشعر أحدهم أن انفتاح هؤلاء الطلاب على أشخاص آحرين قد يؤدي إلى نتائج لا يرغبها المربي، ويعتقد أنها تعوق مسيرتهم التربوية
ومن العدل أن نقول إننا الآن كنّا نجد اتجاهاً نحو النضج وتجاوز هذه المشكلة.
مداخلة:
لكنها بدأت كما ذكرتم تتلاشى وتتبدل وتسير نحو الأفضل؟
نعم الاتجاه الآن للنضج كغيرها من الظواهر التي حين تتحدث عنها تجد أن شعوراً مشتركاً بوجودها، وهذا الشعور خطوة نحو تجاوزها.
ما ضوابط التعامل مع المتغيرات المعاصرة في الميدان التربوي؟ وقد سبق أن كان لكم إسهامٌ في هذا المجال؟
أعتقد أن هناك عدة أمور ينبغي أن نضعها في الاعتبار ونحن نتعامل مع التغيرات المعاصرة.
• التربية الجادة بين المصطلح والمضمون(115/785)
• الجمود الفكري من المتهم به : المجتمع أم الصحوة
أولاً: المؤثرات التي تتركها هذه المتغيرات يجب أن نضعها في الاعتبار ونسعى إلى وضع تصوّر في آلية التقليل منها وتلافيها.
ثانيا: أن يكون منطلقنا كيف نوظف هذه المتغيرات توظيفاً جيداً وإيجابياً.
ثالثا: المتربون يحتاجون أن نعدهم إعداداً يهيئهم إلى أن يتعايشوا مع هذا الواقع وهذه المتغيرات
رابعا: المربون يحتاجون إلى مهارات وقدرات تتلاءم مع هذا الواقع الذي يعايشونه بمتغيراته.
مداخلة:
وهل هذه المتغيرات تمس التربية من ناحية تعقيدات الواقع نفسه أو الأزمات التي تمر أم أنها شاملة لجميع نواحي الحياة؟
المتغيرات تمس الحياة كلها بجوانبها الاقتصادية والاجتماعية والتربوية، ونحن جزء من هذه الحياة، والمتغيرات تتفاوت، فمنها ما يمكن أن نتحكم فيه، وكثير منها لا خيار لنا فيه، وخيارنا كيف نتعامل معه.
جزاكم الله خيراً، السؤال المهم عند كثير من المربين: التربية الجهادية ضرورة من ضرورات التربية الجادة، فما أسس هذا النوع من التربية؟ وما ضوابطه؟
لا شك أن الجهاد ذروة سنام الإسلام، وله منزلته العالية في الدين "ومن لم يغزُ ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من النفاق" ورأينا كيف كان له أثر في انتشار هذا الدين ونشره في أرجاء المعمورة، لذا كان من المهم الاعتناء بهذا الجانب في تربيتنا.
وهذا الاهتمام المطلوب له عدة مجالات، هناك مجال على مستوى المفاهيم من حيث تعميق هذه المفاهيم سواء الجهاد ومحبته والتعلق به أو على مستوى الضوابط العامة، متى يشرع الجهاد؟ ما هي المواطن التي ينبغي للأمة أن تنطلق فيها للجهاد وما ليس كذلك، الأحكام المتعلقة بموضوع الجهاد كاستئذان الوالدين وعدم استئذانهما إلى غير ذلك.
ومجال آخر يتعلق بتهيئة النفس من حيث الإيمان والتقوى والصلة بالله تبارك وتعالى لأن الجهاد ليس مجرد فورة يندفع إليها الإنسان فهو ميدان طويل والإنسان عرضة لأن يصيبه الانحراف والخلل فيه كما هو في أي موقع آخر وأي مجال آخر، فمن يجاهد فهو عرضة لأن يقع في الأسر في يد العدو وقد يبقى مدة طويلة ووقتاً طويلاً كما نشاهد اليوم طائفة من الشباب نسأل الله عز وجل أن يفرّج عنهم إذا لم يكن الشاب متربياً ومهيئاً تهيئة قوية فإن هذا قد يكون مدعاة لفتنته، أو أن يصاب بمشكلات أو أزمات نفسية، يعني قضايا كثيرة ما لم يكن مهيئاً للتعامل مع مثل هذه المواقف، وهذا يحتاج إلى تربية قوية تهيئة لمثل هذا الأمر
المجال الثالث: الجانب البدني من حيث البعد عن الترف والاستعداد للتحمل إلى غير ذلك.
ثم تبقى آخر خطوة وهي التدريب على السلاح فهذا أمر تراعى فيه المصالح الشرعية. فلا ينبغي أن يندفع إليه كل شاب وفي النهاية يقعون في أزمات ومشكلات،(115/786)
فيصنفوا على أنهم يريدون إثارة الفتن والمشكلات في المجتمع فيكون هذا مدعاة للبطش بهؤلاء ومضايقتهم، وليس الأمر مرده أن الإنسان لن يتحمل الأذى لكنه يتجاوزه إلى أنه يؤدي إلى انحسار كثير من المجالات والميادين الدعوية.
المقصود أن كل هذه الأمور ينبغي أن توضع في إطار الفقه الشرعي، فالجهاد أمر معقول المعنى أمر شُرع لإعلاء كلمة الله وحينئذٍ في كل تعاملنا مع مفردات كل هذه القضية ينبغي أن نراعي هذا الاعتبار فقد تكون بعض الممارسات مدعاة لأن تعوق الدعوة فحينئذٍ لا تكون مشروعة ولو كنّا نعتقد أنها عملٌ جهادي.
مداخلة:
فضيلة الشيخ هناك إشكالية تحدث من جهة المربي نفسه عندما يتحدث عن هذه القضية ويريد كما ذكرتم غرس هذه المفاهيم أحياناً يحصل نوع من الحماس والاندفاع فكيف يضبط هذا الحماس والاندفاع في هذه القضية خاصة أنه قد يتهم إذا وقف أمام هذا الحماس؟
نعم هناك بعض المربين تولدت لديه نتيجة هذه المشكلات ردة فعل حتى من مصطلح الجهاد، وهذا الموقف المتطرف ضد الجهاد علاوة على كونه خطأ فهو يزيد من اندفاع الآخرين والأمر يحتاج إلى توازن، الحماس حينما يكون في دائرته مطلوبٌ ولا ينبغي أن نلغيه لكن ينبغي أن نوجهه.
وهذه القضية أعتقد أنها تحتاج إلى قدر من التربية يتجاوز مجرد الوقوف عند القضية الجهادية وحدها بل نحن بحاجة أن نعوّد الشاب كيف يضبط حماسه كيف يوجهه بطريقة صحيحة أيضاً نحن بحاجة إلى أن يكون تفكير الشباب تفكيراً بعيداً وليس مجرد تفكيرٍ لحظي.
خذ على سبيل المثال قضية الإعداد للجهاد هي قضية على مستوى الأمة تتطلب أن يوجد في الأمة مخترعون، وتتطلب أن يوجد في الأمة طاقات قادرة على تصنيع السلاح، وطاقات تملك خبرات عسكرية حديثة.
والتدريب الذي يهتم به الشباب اليوم هو في إطار قضايا محدودة... إطلاق أسلحة من رشاشات، من مدافع خفيفة، أعمال تفجير، هذه تؤدي مهاماً محدودة لكن الجهاد الذي يفترض أن تهيأ له الأمة أكبر من هذا، الحروب تدار بطائرات بدون طيار، وتوجه بأجهزة الحاسب الآلي، ومن ثم فمن أهم مجالات الإعداد أن يكون الشباب جادين في حياتهم يتفوقون في تحصيلهم الدراسي، يتجهون إلى كافة التخصصات التي تحتاجها الأمة فيسهموا في إعداد الأمة كلها للجهاد، والمشروع يجب أن يتجاوز أن نوجد عند الشباب هذا التفكير، إن الإعداد للجهاد ليس مرهوناً بمجموعة من الشباب نراهن على أنهم هم الذين سيحسمون قضية الأمة، الأمة كلها يجب أن تهيأ لهذا الأمر، والإصلاح يجب أن يكون إصلاحاً واسعاً شاملاً، فالوضع الاقتصادي للأمة لا ينفصل عن الجهاد مثلاً، والتصنيع والتسليح مرتبط بالوضع الاقتصادي، وحينئذٍ إيجاد خبرات اقتصادية وخبرات في ميدان التصنيع وفي ميدان الإدارة كل هذه في النهاية تصب إلى أن تكون الأمة مؤهلة فعلاً للجهاد ، والجهاد الذي نراهن عليه هو الجهاد الذي تقوم به الأمة ككل وليس مجرد أن يقوم به مجموعة من الأفراد.
بارك الله فيكم، الملل ونفاذ الصبر أمراض تطرأُ على بعض من يمارس التربية.(115/787)
هل من أسباب وراء هذه الظاهرة؟ وكيف يمكن علاجها؟
من أسباب هذه الظاهرة طبيعة النفَس القصير، فنفسنا قصير وكثير ما نستعجل الأمور، وتسيطر علينا الرؤية القريبة.
يضاف إلى ذلك طبيعة النتائج في العمل التربوي، فهي كثيراً ماتكون غير منظورة خاصة لمن يعايش المتربين يوماً بعد يوم فأنت حينما تلتقي بشخص اليوم، ثم تلتقي به بعد ستة أشهر تستطيع أن ترى آثار هذا التغير، أما الذي يلازمه كل يوم فلا يظهر عليه هذا الأثر.
ومن ذلك اكتشاف المشكلات فهي تسبب إزعاجاً لدى المربي لحساسيته مع من يربيهم، ولعمق حرصه عليهم، فيؤدي به تراكم المشكلات إلى الشعور بالإحباط والملل.
مداخلة:
فضيلة الشيخ، ذكرتم ضمن الأسباب طريقة علاج هذه القضية خاصة أنها شكوى من بعض المربين مع مرور الوقت بعد سنة، سنتين، ثلاث سنوات يتحمس مع القضية بداية ثم يفتر هل للسن مثلاً دور في ذلك؟
السن له دور لكن نحن بحاجة إلى أن يكون عندنا وضوح في مهمتنا التربوية إلى أين سنصل؟ متى نصل؟ وفي تكوين المربين أنفسهم أن يكون عندهم بعد نظر وسعة أفق، وأن توجد آلية لقياس النتائج.
ومما يتأكد هاهنا أن يكون للمربين إعداد متواصل وبرامج ارتقاء فهذا سيخدمهم من جانبين أولهما تغيير طريقة نظرتهم للأمور وثانيها أن الإعداد المتواصل لهم سيؤدي إلى تلافي عيوبٍ وأخطاء مما يجعل لهم إنتاجاً يدركون أثره.
فضيلة الشيخ، كثير ممن يمارس العمل التربوي يأنف من الإعداد للبرامج وصياغة الأهداف (يأنف من التنظير التربوي) ويطالب بمباشرة التطبيق التربوي بدعوى تضييع الوقت في التنظير على حساب التطبيق. فما رأيكم؟
هذه الظاهرة السلبية جزءٌ من مشكلة نعاني منها فنحن لا نملك جَلَداً في القضايا الفكرية ولا نجيد التفكير والتحليل، وغالباً مانجيد الحديث والكلام العاطفي والعمل البدني أكثر من العمل الفكري والتخطيط.
وطبيعتنا في الحياة تقوم على التلقائية والاستعجال للنتائج، والعامل الزمني من أهم متطلبات التخطيط .
• التربية والمتغيرات المعاصرة أيهما يؤثر في الآخر !!
• الملل في التربية : الأسباب والعلاج
هذه العوامل أعتقد أنها هي التي يمكن أن تفرز مثل هذا اللون من العمل لكن آثاره خطيرة، فحين تعمل دون تخطيط فسوف تشعر بعد فترة أنك قطعت مراحل في غير الطريق الذي تريد، وحينئذٍٍ تحتاج إلى جهد حتى ترجع وترمم الآثار السلبية ثم جهد آخر في البناء.
مداخلة:(115/788)
البعض يدعي يا شيخ فيقول: الخطط أو البرامج واضحة في الذهن فهل يلزم صياغة هذه الأهداف والبرامج وكتابتها أم أنه يكفي أن يضع في ذهنه شيئاً معيناً أو تاريخاً معيناً وما أشبه ذلك؟
المشكلة ليست في البرامج، نحتاج أولاً إلى رؤية شاملة ثم نحتاج إلى أهداف تقودنا لنحقق هذه الرؤية، والبرامج غاية ما فيها أنها وسيلة لتحقيق هذه الأهداف.
وغاية مايحققه وضوح البرامج أننا نعرف ماذا نريد أن نعمل، لكن لماذا نعمل ذلك؟ وكيف نقدمها؟ وماذا حققت؟ ما هو الجانب الذي فيه قصور؟ كل هذا لن يتضح لنا ونحن نمارس هذا الأسلوب من العمل التلقائي.
جزاكم الله خيراً، التربية بالموقف من معالم التربية النبوية فكيف يفعّل ذلك في صفوف المربين من وجهة نظركم؟
أعتقد أن المربين بحاجة إلى دراسة سيرة النبي صلى الله عليه وسلم واستجلاء كثير من هذه المواقف، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يمارس التربية بالمواقف من خلال المواقف الفردية وهو مع آحاد الصحابة، أو من خلال المواقف العامة.
ومن وسائله صلى الله عليه وسلم في ذلك التعليق على الموقف سواء أكان تأييداً أم تسديداً.
ومن الوسائل ربط الموقف بقضايا أخرى، كما قال حين رأى امرأة من السبي تبحث عن ولدها: "الله أرحم بهذه من ولدها". ولما رأى الجدي الأسك قال: "الدنيا أهون على الله من هوان هذا عليكم" إلى غير ذلك.
ومن الوسائل إتاحة مواقف عملية تربي الناس ولعل الميادين العملية التي ربّى فيها النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه من خلال إرسالهم لمهام دعوية، ومن خلال تكليفهم بالتعليم، والجهاد كل هذه الأمور كان لها أثر كبير في تربية الناس.
فضيلة الشيخ، يعاني بعض المربين من الجمود أو الضعف والتقصير في العمل التربوي (ضعف الإبداع والتطوير) فهل من سبيل للارتقاء بالعمل التربوي وتطويره؟
أعتقد أن المشكلة أكبر من مجرد اختفاء الإبداع والابتكار، المشكلة أننا بحاجة لرؤية تربوية واضحة وكثير من العمل التربوي الذي نقوم به يتم بعملية تلقائية غير واضحة المعالم وغير محددة فنحن بحاجة إلى أن يعرف المربون ماذا يريدون بالتحديد، وأن تكون لهم أهداف واضحة.
• البرامج التربوية بين الإعداد والرؤية الشاملة
• المشكلة التربوية أكبر من مجرد اختفاء الإبداع والابتكار !!
وهذا يتطلب منّا إشاعة الثقافة التربوية المتخصصة الناضجة، ويتطلب منّا إعداداً جيّداً للمربين، ويتطلب منّا مواصلة الارتقاء بالمربين حتى يتأهلوا لمثل هذا العمل ليكون أكثر إنتاجاً.
مداخلة:
في ظل هذا السؤال يا شيخ. كيف ترون العمل التربوي القائم الآن وكيف تقيّمونه؟
العمل التربوي حقق نتائج تفوق إمكاناته وتتجاوز خبرات العاملين فيه، وهو مع ذلك كسائر الجهد البشري يحتاج إلى مراجعة من خلال الاعتناء بالجانب المتخصص(115/789)
ووضوح الرؤية وتحديد أهداف واضحة، وتجاوز التلقائية، والاعتناء بعناصر المربين.
لكن مما يريح كثيراً أن هناك شعوراً بأهمية هذا الشيء وتساؤلاً واسعاً حول أساليب الارتقاء به، وهذا يختصر علينا خطوات كبيرة.
جزاكم الله خيراً، في رأيكم، ما الجوانب التي لا بد من اجتماعها في شخص ما حتى يكون قدوة في المجال التربوي؟
يمكن أن نقولها باختصار هي صفات المسلم، فيكون متميزاً فيها من حيث ورعه وتقواه وسلوكه وإنتاجه، فإذا تحققت فيه صفات الإنسان المسلم بشكل جيّد فحينئذٍ تأهل أن يكون قدوة، والقدوة ليست أمراً متكلفاً إنما هي سمات تتأصل في شخصيته فيصبح الاقتداء به أمراً تلقائياً.
مداخلة:
وهل لكم تعريج على القدوة الحية وأثرها في المجتمع وجانب التربية عموماً؟
القدوة الحية مهمة جداً وتأثيرها أكبر بكثير من أثر الكلام النظري، فحين نتحدث مع الناس عن حسن الخلق يبقى مفهومه عائماً يفهمه الناس من خلال سلوكنا وممارستنا.
فتبقى القدوة لها أثر في تجلية المفاهيم ووضوحها، كما أن لها أثر في إقناع الناس بإمكانية هذا الأمر، فحين تحدث الناس عن أمرهم يعجبهم لكن قد يشعرون أنها قضايا مثالية أما حينما يرون النموذج الحي فسيعطيهم ذلك الاقتناع بإمكانية التطبيق.
الخاتمة:
جزاكم الله خير الجزاء يا شيخ ونشكر لكم ما قدمتموه، وختاماً نترك لفضيلتكم مجالاً لطرح ما تريدون.
وصيتي للمربين أن يتقوا الله عز وجل في عملهم وليس تقوى الله مجرد الاجتهاد في تنظيم البرامج، إنما يشعرون أنهم يتحملون أمانة صعبة ويتولون مسئولية الشباب في مرحلة خطيرة من أعمارهم حينئذٍ أرى أنه ليس صحيحاً أن يتعلموا بالمحاولة والخطأ إنما هم بحاجة إلى بذل جهد في بناء أنفسهم بناءً صحيحاً والارتقاء بها وأن يكون العمل التربوي أمراً يتجاوز مجرد الخبرات الشخصية المحدودة.
وجزاكم الله خيراً على هذا اللقاء ونسأل الله عز وجل أن يوفقنا وإياكم ويبارك في جهودكم.
ـــــــــــــــــــ
أبناءُ الأكابرِ والمسؤولية
أحمد العساف
23/1/1428
ارسل تعليقك ...
لا توجد تعليقات ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...(115/790)
كنتُ أتصفحُ قبلَ شهرٍ تقريباً الطبعةَ الشرعيةَ الجديدة من شرحِ رياضِ الصالحين للعلامةِ الشيخ محمدِ بن عثيمين- برَّد الله مَضْجِعَه- الصادرةَ تحت إشرافِ مؤسسةِ ابن عثيمين الخيرية التي يديرها أبناءُ الشيخ وإخوانُه وطلابُه . وقد تدفقت من ذاكرتي أسماءٌ كثيرة ممن فقدهم العالَمُ الإسلامي خلال السنوات العشر الماضية ؛ وكم تمنيتُ لو هيأ الله لكل واحدٍ منهم وممن قبلهم – رحمهم الله جميعاً- مَنْ يقومُ بتراثهم وعلمهم ويكملُ مسيرتهم الراشدة خشيةَ ضياعها ووقوفاً دون تحريفها .
والأكابرُ المعنيون هنا هم العلماءُ والدعاة والأدباء والمفكرون والوجهاء والأثرياء الذين عاشوا حياتَهم في سبيل الله – نحسب والله حسبهم- . والأبناءُ غيرُ محصورين في الذرية بل يشملون الطلابَ والأصدقاء والمقتدين وكلَّ مَنْ تهفو نفسه لحفظ مجد رجالات الملة الإسلامية .
ويتأكد هذا الأمر مع ما يذكره لنا التاريخُ من حوادثَ مؤسفةٍ وما نسمعه في حاضرنا من أخبار ؛ ففي ترجمة السِّلَفي أنَّ كتبه تعفن أكثرها بعد وفاته حتى اضطروا لإخراجها بالفؤوس ؛ وفي سيرة شرف الدين الأنصاري أنه كان يضنُ بورقة من كتبه فلما مات بيع الزنبيلُ منها بأثمانٍ زهيدة . وقد حدثني أحدُ الأصدقاء عن عالمٍ ماتَ فبنى أولاده جداراً مكان باب مكتبته وبعد زمن- ولدواعي التحسين- هدموا الجدار فإذا الكتبُ قد تلفت بسبب الرطوبة أو الأرضة ؛ وأخبرتني زوجي عن قريبةٍ لها أنَّ جارتهم أرسلت لها صناديقَ مليئةً بكتبِ " شيخهم" بعد موته لأن دارهم الفسيحة ضاقت بالكتب وبنتُ الجيران مثقفةٌ تحب الكتب !
والأكابرُ المعنيون هنا هم العلماءُ والدعاة والأدباء والمفكرون والوجهاء والأثرياء الذين عاشوا حياتَهم في سبيل الله – نحسب والله حسبهم- . والأبناءُ غيرُ محصورين في الذرية بل يشملون الطلابَ والأصدقاء والمقتدين
ولا يقفُ الأمرُ عند كتبٍ تتلف أو تُباع بل يتعداه لعلم لا ينتشر وخيرٍ يظل حبيساً وأمنياتٍ للمورث لا تتحقق ووصية لا تنفذ . ومن الأخطارِ ما فعله بعضُ " الكُتَّاب " بسيرة أحدِ جبال العلم حين سرد مواقفه الجميلة ووجهها وجهةً قبيحةً يأباها الشيخ لو كان حياً .
والواجب على الأبناء ومَنْ في حكمهم تجاه الكُبراء والفضلاء :
1. نشرُ تراثهم من علمٍ وفضلٍ وأدبٍ وكلِّ خير ينفع الناسَ والبلاد ؛ ولمثل هذه الطريقة يُعزى انتشارُ مذهبِ الإمام مالك واندثار مذهب الإمام الليث بن سعد .
2. توثيق سيرتهم العلمية ومواقفهم العملية حتى لا يسطو عليها أحد السراقِ الذين لا يرعون للموتى حرمة .
3. الدفاع عنهم ضد من لا يحلو له النقاش إلا مع الموتى ؛ ومع الذين يتكئون على حكمة الإنجليز " الموتى لا يروون القصص " فينسجون من خيالاتهم خبالاتٍ وأباطيل لا تصمد أمام يسير البحث .
4. المحافظة على مكتباتهم بالاستفادة منها أو وقفها على العلم وطلابه وآخر الدواء بيعها على من يُقدر نفاستها ؛ وقد جاء في ترجمة الشيخ محمد أبو الفتح مفتي الأسكندرية أنه كان مولعاً بجمع ونسخ نفائس الكتب فلما مات باعها ولده بأبخسِ ثمنٍ ولم يلتفت لمعارضة أمه وشقيقاته .(115/791)
5. العناية بما تركوه من دراساتٍ وأوراق ومشاريعَ سواءً بإتمامها أو تسليمها لرفقاء دربهم فهم أقرب الناس لهم ولمقصودهم .
وعلى أهل الشأن الأكابر واجبٌ كذلك يتمثل بما يلي :
• الاجتهاد بتربيةِ الأبناء حتى يكونوا صلحاءَ عاملين ؛ وينبغي ألا ينصرفَ الإنسانُ عن بنيه كُليةً حتى لو كان شغله بما ينفع .
• العناية بالطلاب والمستفيدين ؛ وهكذا شأن أبي حنيفة مع طلابه ؛ بينما بعض العلماء ليس له طلاب في درس خاص أو عام مع غزارة علمه .
• الوصية بكتبه ومؤلفاته حتى يستمر نفعها بعد مماته ؛ ويتأكد هذا الأمر في حق مَنْ لا يرى في أهله أهلاً للانتفاع بمكتبته لا بقراءة ولا بيع ؛ وقد أوصى أبو قِلابة بكتبه لأيوب السختياني فحملت إليه بعد وفاته .
• " مأسسة " الأعمال ؛ بمعنى بنائها على أساسٍ مؤسسي لا يتأثر بذهاب أحدٍ ولو كان الرأس .
• " مشرعة " الأعمال ؛ بمعنى كتابتها على هيئة مشاريع حتى يستطيع غيره إكمالها إن باغتته المنية دونها .
ومن الأخطارِ ما فعله بعضُ " الكُتَّاب " بسيرة أحدِ جبال العلم حين سرد مواقفه الجميلة ووجهها وجهةً قبيحةً يأباها الشيخ لو كان حياً .
• الدعاء ؛ وقد هيأ الله لمؤلفات العلامة محمد الخضر حسين- الذي مات بلا عقب- المحامي الأديب علي الرضا الحسيني فنشر جلها ؛ ومثله فعلت لجنة المؤلفات التيمورية مع تراث المحقق أحمد تيمور باشا . وهذا واجب على وزارات الثقافة في البلدان الإسلامية لو أنها كانت تقوم بواجبها .
وغنيٌ عن القول أنه يجبُ على ورثةِ أكابر المبطلين رحمةَ مورثيهم من تتابع السئيات والحسرات بمنع تسويق أي إنتاج يخالف شرع رب العالمين مهما كانت المخالفة ؛ كما أننا ننتظرُ من ورثة الأثرياء الذين ماتوا بلا وصيةٍ تنفعهم ألا ينسوهم من أوقافٍ وحبوسٍ تدومُ فترفعُ اللأواء عن المسلمين وتؤازرُ مشاريعَ الخير والدعوة والإصلاح مع جريان أجرها .
وأختمُ بما قاله الأستاذ الشيخ محمود محمد شاكر – أبو فهر- في مقدمة كتاب " حياة الرافعي " لمحمد سعيد العريان طبعة المكتبة التجارية بمصر عام 1375 في الصفحة الرابعة من الطبعة الثالثة :
" وأنا –مما عرفت الرافعي رحمه الله ودنوت إليه ووصلت سبباً منه بأسباب مني- أشهد لهذا الكتاب بأنه قد استقصى من أخبار الرافعي كثيراً إلى قليل مما عُرف عن غيره ممن فرط من شيوخنا وكتابنا وأدبائنا وشعرائنا ؛ وتلك يدٌ لسعيد على الأدب العربي ، وهي أخرى على التاريخ ؛ ولو قد يسر الله لكل شاعر أو كاتب أو عالم صديقاً وفياً ينقله إلى الناس أحاديث وأخباراً وأعمالاً كما يسر الله للرافعي ، لما أضلت العربية مجد أدبائها وعلمائها ،..... " .
-ـــــــــــــــــــ
يونس بن عبيد .... قدوة المسلم المعاصر
وليد نور(115/792)
13/1/1428
ارسل تعليقك ...
تعليقات سابقة ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
للقدوة في حياة الإنسان دور كبير في توجيهه ودفعه إلى التقدم والرقي، غير أن القراءة الانتقائية للتاريخ المسلم التي حصرت القدوة في مظاهر الصلاة الطويلة والصوم المتواصل أصابت المسلم المعاصر بشيء من الإحباط وجعلته يضعف في اتخاذ السابقين له قدوة معللاً ذلك بقوله "لكل زمان رجاله"، وحتى من اقتدى بهم فإنه قصر مفهوم الإسلام في هذه المظاهر ولم ينتبه للخلل في بقية جوانب حياته، وليس العيب في هؤلاء القدوات ولكن العيب في القراءة الانتقائية لسيرهم، لأن قراءة شاملة لحياتهم كفيلة بتقديم صورة أشمل وأكمل للإسلام، ولعل من هؤلاء الشخصيات التي تصلح قدوة للمسلم المعاصر هو "يونس بن عبيد" رحمه الله، فلم يكن "يونس" رحمه الله ممن اشتهروا بالعلم ولا من أولئك الذين نقلت عنهم كتب السير أخبار خارقة في العبادة وإن كان له في كلا الأمرين نصيب، كما أنه لم يكن من المجاهدين حيث لم يكن يحسن الجهاد، بل كان تاجرًا ومع انشغاله بالتجارة وبشئون السوق بلغ شأنًا عظيمًا في باب الزهد والورع حتى قال له أحد المجاهدين: والله إنا نكون في نحر العدو فإذا اشتد علينا الأمر قلنا اللهم رب يونس فرج عنا، فيفرج عنا.
فعلى صعيد القدوة، اتخذ "يونس بن عبيد" شيخه الحسن البصري قدوة له ونقل عنه كثيرًا من أقواله وأحواله في الزهد، ومن ذلك ما نقل عن يونس بن عبيد أنه قال: ما رأيت أحدا أطول حزنا من الحسن فكان يقول: نضحك ولعل الله قد يتحقق على أعمالنا فقال لا أقبل منكم شيئا
قال عنه الذهبي في "سير أعلام النبلاء": الإمام القدوة، الحجة، من صغار التابعين وفضلائهم، رأى أنس بن مالك، وحدث عن الحسن، وابن سيرين، وعطاء، وعكرمة، ونافع مولى ابن عمر .. وجماعة، وحدث عنه خلق كثير.
قال علي بن المديني: له نحو مئتي حديث.وقال ابن سعد: كان ثقة، كثير الحديث , وقال أحمد وابن معين والناس: ثقة.
أثر القدوة والصحبة في حياة يونس بن عبيد:
وقبل الحديث عن المجالات التي برز فيها "يونس بن عبيد" لابد أن نشير هنا إلى دور القدوة والصحبة في حياة "يونس بن عبيد"، فعلى صعيد القدوة، اتخذ "يونس بن عبيد" شيخه الحسن البصري قدوة له ونقل عنه كثيرًا من أقواله وأحواله في الزهد، ومن ذلك ما نقل عن يونس بن عبيد أنه قال: ما رأيت أحدا أطول حزنا من الحسن فكان يقول: نضحك ولعل الله قد يتحقق على أعمالنا فقال لا أقبل منكم شيئا، وهذا الموقف سوف نجد آثاره فيما بعد في حياة يونس بن عبيد عند محاسبته لنفس واحتقاره لعمله.(115/793)
غير أن تأثره بشيخه الحسن البصري لم يقف عند هذا الحد بل بلغ شأنًا عظيمًا في حياة يونس بن عبيد حتى أنه قال: كان الرجل إذا نظر إلى الحسن أنتفع به وإن لم ير عمله ولم يسمع كلامه.
وهنا نرى أن تأثير القدوة بلغ شأنًا كبيرًا في حياة يونس بن عبيد، فهو يتأثر بمجرد رؤيته لشيخه الحسن، ولبلوغ هذه الدرجة من التأثر لابد من أسباب وشروط أهمها طبيعة العلاقة بين المربي والمتربي، ثم صفات المربي الشخصية وتقواه وورعه، إلى آخر تلك الصفات.
وعن دور الصحبة في حياة يونس بن عبيد رحمه الله نجده يقول: لا يزال الناس بخير ما داموا تختلج في صدر الرجل شيء فيجد من يفرج عنه، وفي هذه العبارة بيان لأهمية الصحبة في حياة الإنسان ودورها الحقيقي المتمثل في التفريج عن الصاحب وإزالة ما بصدره من شبهات.
ويبدو أن يونس بن عبيد بذل جهودًا مضنية في البحث عن الصاحب المثالي المعين على الطاعة، يقول يونس بن عبيد: ما أعلم شيئا أقل من درهم طيب ينفقه صاحبه في حق أو أخ يسكن إليه في الإسلام وما يزدادان إلا قلة.
وعن دور الصحبة في حياة يونس بن عبيد رحمه الله نجده يقول: لا يزال الناس بخير ما داموا تختلج في صدر الرجل شيء فيجد من يفرج عنه
وذلك لأن الصحبة عند يونس بن عبيد كان لها أبعاد إيمانية تمثلت في الاقتداء بالصاحب والتنافس معه في الخير، يقول يونس بن عبيد عن نفسه: إني لأعرف رجلا منذ عشرين سنة يتمنى أن يسلم له يوم من أيام ابن عون، فما يقدر عليه؛ وبذلك المفهوم فإن الصحبة تكون عامل خير وسبب رقي وصلاح.
الملامح التربوية المميزة لشخصية يونس بن عبيد:
تميزت شخصية يونس بن عبيد بعدة ملامح تربوية وضعته في مصاف المشاهير بالزهد والعبادة، على الرغم من أنه لم يكن منقطعًا للعبادة تاركًا للدنيا، وأهم ما ميز شخصية يونس بن عبيد الملامح التالية:
1- القيام بواجب الوقت:
روى أهل السير عن سلام بن أبي مطيع قال: ما كان يونس بأكثرهم صلاة ولا صوما ولكن لا والله ما حضر حق من حقوق الله إلا وهو متهؤ له.
هذا أول معلم مميز لشخصية يونس بن عبيد هو قيامه بما اصطلح عليه بواجب الوقت، ولقد لخص ابن القيم رحمه الله الأقوال المختلفة في تحديد أفضل الأعمال، وخلص إلى أن أفضل الأعمال هو القيام بواجب الوقت، فقال رحمه الله في مدارج السالكين: "الصنف الرابع: قالوا: إنّ أفضل العبادة العمل على مرضاة الرب في كل وقت بما هو مقتضى ذلك الوقت ووظيفته، فأفضل العبادات في وقت الجهاد الجهاد، وإن آل إلى ترك الأوراد، من صلاة الليل وصيام النهار، بل ومن ترك إتمام صلاة الفرد، كما في حالة الأمن.
والأفضل في وقت حضور الضيف مثلاً القيام بحقه، والاشتغال به عن الورد المستحب، وكذلك في أداء حق الزوجة والأهل، والأفضل في أوقات السحَر الاشتغال بالصلاة والقرآن والدعاء والذكر والاستغفار.(115/794)
والأفضل في وقت استرشاد الطالب، وتعليم الجاهل: الإقبال على تعليمه والاشتغال به، والأفضل في أوقات الأذان: ترك ما هو فيه من ورده، والاشتغال بإجابة المؤذن، والأفضل في أوقات الصلوات الخمس: الجد والنصح في إيقاعها على أكمل الوجوه، والمبادرة إليها في أول الوقت، والخروج إلى الجامع، وإن بعد كان أفضل، والأفضل في أوقات ضرورة المحتاج إلى المساعدة بالجاه، أو بالبدن، أو المال: الاشتغال بمساعدته، وإغاثة لهفته، وإيثار ذلك على أورادك وخلوتك، والأفضل في وقت قراءة القرآن: جمعية القلب والهمة على تدبره وتفهمه، حتى كأن الله تعالى يخاطبك به، فتجمع قلبك على فهمه وتدبره، والعزم على تنفيذ أوامره، أعظم من جمعية قلب من جاءه كتاب من السلطان على ذلك، والأفضل في وقت الوقوف بعرفة: الاجتهاد في التضرع والدعاء والذكر دون الصوم المضعف عن ذلك، والأفضل في أيام عشر ذي الحجة: الإكثار من التعبد، لاسيما التكبير والتهليل والتحميد، فهو أفضل من الجهاد غير المتعين، والأفضل في العشر الأواخر من رمضان: لزوم المسجد فيه والخلوة والاعتكاف دون التصدي لمخالطة الناس والاشتغال بهم، حتى إنَّه أفضل من الإقبال على تعليمهم العلم، وإقرائهم القرآن، عند كثير من العلماء. والأفضل في وقت مرض أخيك المسلم أو موته: عيادته، وحضور جنازته وتشييعه، وتقديم ذلك على خلوتك وجمعيتك. والأفضل في وقت النوازل وإذاء الناس لك: أداء واجب الصبر مع خلطتك بهم، دون الهرب منهم؛ فإنّ المؤمن الذي يخالط الناس ليصبر على أذاهم، أفضل من الذي لا يخالطهم ولا يؤذونه.والأفضل خلطتهم في الخير، فهي خير من اعتزالهم فيه، واعتزالهم في الشر، فهو أفضل من خلطتهم فيه، فإن علم أنه إذا خالطهم أزاله أو قلَّله فخلطتهم حينئذٍ أفضل من اعتزالهم؛ فالأفضل في كل وقت وحال: إيثار مرضاة الله في ذلك الوقت والحال، والاشتغال بواجب ذلك الوقت ووظيفته ومقتضاه. وهؤلاء هم أهل التعبد المطلق، والأصناف قبلهم أهل التعبد المقيد، فمتى خرج أحدهم عن النوع الذي تعلق به من العبادة وفارقه؛ يرى نفسه كأنَّه قد نقص وترك عبادته، فهو يعبد الله على وجه واحد.
تميزت شخصية يونس بن عبيد بعدة ملامح تربوية وضعته في مصاف المشاهير بالزهد والعبادة، على الرغم من أنه لم يكن منقطعًا للعبادة تاركًا للدنيا
وصاحب التعبد المطلق ليس له غرض في تعبد بعينه يؤثره على غيره، بل غرضه تتبع مرضاة الله تعالى أين كانت، فمدار تعبده عليها، فهو لا يزال متنقلاً في منازل العبودية، كلما رفعت له منزلة؛ عمل على سيره إليها، واشتغل بها حتى تلوح له منزلة أُخرى، فهذا دأبه في السير حتى ينتهي سيره، فإن رأيت العلماء رأيته معهم، وإن رأيت العُبَّاد رأيته معهم، وإن رأيت المجاهدين رأيته معهم، وإن رأيت الذاكرين رأيته معهم، وإن رأيت المتصدقين المحسنين رأيته معهم، وإن رأيت أرباب الجمعية وعكوف القلب على الله رأيته معهم. فهذا هو العبد المطلق، الذي لم تملكه الرسوم، ولم تقيده القيود، ولم يكن عمله على مراد نفسه، وما فيه لذتها وراحتها من العبادات، بل هو على مراد ربه، ولو كانت راحة نفسه ولذتها في سواه.فهذا هو المتحقق بـ(إياك نعبد وإياك نستعين) حقاً، القائم بهما صدقاً، مَلْبَسه ما تهيأ، ومأكله ما تيسَّر، واشتغاله بما أمر الله به في كل وقت بوقته، ومجلسه حيث انتهى به المكان ووجده(115/795)
خالياً، لا تملكه إشارة، ولا يتعبده قيد، ولا يستولي عليه رسم، حر مجرَّد، دائر مع الأمر حيث دار، يدين بدين الآمر أنى توجهت ركائبه، ويدور معه حيث استقلت مضاربه.يأنس به كل محق، ويستوحش منه كل مبطل، كالغيث حيث وقع نفع، وكالنخلة لا يسقط ورقها، وكلها منفعة حتى شوكها، وهو موضع الغلظة منه على المخالفين لأمر الله، والغضب إذا انتهكت محارم الله، فهو لله وبالله ومع الله، قد صحب الله بلا خلق، وصحب الناسَ بلا نفس، بل إذا كان مع الله عزل الخلائق عن البين، وتخلى عنهم، وإذا كان مع خلقه عزل نفسه من الوسط وتخلى عنها.فواهاً له! ما أغربه بين الناس! وما أشدَّ وحشته منهم! وما أعظم أنسه بالله وفرحه به، وطمأنينته وسكونه إليه!! والله المستعان، وعليه التكلان".
فواجب الوقت في حياة المسلم هو الذي يكون مقتضى الوقت ووظيفته، فإذا أُّذِّن للصلاة، انخلع المسلم من مشاغله وردّد مع المؤذن، ثم استعد للصلاة وسعى إليها، حتى لو كان مشغولاً بعمل صالح، فإنه يؤدي واجب الوقت ثم يعود لمواصلة ما كان فيه من عمل.
2- الورع:
الورع من الأعمال الشرعية التي غفل عنها المسلمون اليوم، بل إنك تجد بين الدعاة من قد يجيد الحديث عن الورع إلا إنك تجده من أبعد الناس عن الورع في مسلكه الحياتي، على الرغم من أن الورع منه ما واجب وهو ترك المحرمات، ومنه ما هو مستحب.
وقد تعددت تعريفات الورع إلا إنها كلها تدور حول مضمون واحد هو "ترك ما يريبك ونفي ما يعيبك والأخذ بالأوثق وحمل النفس على الأحوط"، وعرف ابن القيم رحمه الله بقوله: " ترك ما يُخشى ضرره في الآخرة".
وقد جمع النبي صلى الله عليه وسلم الورع في كلمة واحدة فقال: "من حسن إسلام المرء تركه مالا يعنيه"، فهذا يعم الترك لما لا يعنيه من الكلام والنظر والاستماع والبطش والمشي والفكر وسائر الحركات الظاهرة والباطنة، فهذه الكلمة كافية شافية في الورع.
ولا يبلغ العبد حقيقة التقوى حتى يدع ما لا بأس به حذراً مما به بأس، وقال بعضهم: " كنا ندع سبعين باباً من الحلال مخافة أن نقع في الحرام".
ولقد بلغ يونس بن عبيد مبلغًا عظيمًا في باب الورع حتى كان واحدًا ممن عرفوه وأوضحوا السبل إليه، روى أهل السير عن عبد الله بن السندي قال: جاء رجل إلى يونس بن عبيد، فقال له: أنت يونس بن عبيد؟، قال: نعم، قال: الحمد لله الذي لم يمتني حتى رأيتك قال: وما حاجتك؟، قال: أريد أن أسأل عن مسألة، قال: سل عما بدا لك، قال: أخبرني ما غاية الورع؟، قال: "محاسبة النفس مع كل طرفة عين، والخروج عن كل شبهة، قال: فأخبرني ما غاية الزهد؟ قال: ترك الراحة".
وتعريف يونس بن عبيد هو تعريف شامل للورع فهو لا يقصر الورع على الناحية المالية فحسب كما يظن الكثيرون اليوم بل إن الورع يشمل كل حياة الإنسان، فالمسلم يحاسب نفسه عند كل خاطرة ويترك منها ما يضره في الآخرة.(115/796)
ويوضح لنا يونس بن عبيد السبيل إلى الورع، فيقول: لا شيء أيسر علي من الورع، إذا رابني بشيء تركته، وهو يشير بذلك إلى المنهج الذي وضعه الرسول صلى الله عليه وسلم في الورع حينما قال: "دع ما يريبك، إلى ما لا يريبك".
ويكشف يونس بن عبيد عن البعد الإيماني الذي يدفع المسلم إلى الورع ويحكم خطواته في الحياة، فيقول: "والله لو كان في الدنيا ذهب مكبوس يأخذ منها من شاء متى شاء إلا أن من أخذ شيئا حوسب به، كان الواجب على العاقل ألا يأخذ منها إلا قوتا"، فالعاقل إذا كان سيحاسب على ما يأخذه ولو كان يأخذه بدون مقابل فعليه إذا أن ينتبه لما يأخذ لأن إذا زاد في الأخذ زيد في حسابه، وبهذا البعد الإيماني ينضبط الورع في قلب المسلم.
نماذج من ورعه:
لم يكن يونس بن عبيد من أولئك الذين يحسنون الكلام ولا يجيدون الفعل، بل كان فعله يصدّق قوله، ها نحن نجده يحاسب نفسه حسابًا عسيرًا فيقول عن نفسه: "إنه ليشتد علي أن أصيب الدرهم الواحد من حلال"، فهو يشتبه في أموال على الرغم من المنهج الصارم الذي اتبعه في معاملاته التجارية.
يقول مؤمل بن إسماعيل: جاء رجل من أهل الشام إلى سوق الخزازين فقال: مطرف (نوع من أنواع الحرير) بأربعمائة، فقال يونس بن عبيد: عندنا بمائتين فنادى المنادي بالصلاة، فانطلق يونس إلى بني قشير ليصلي بهم فجاء وقد باع ابن أخته المطرف من الشامي بأربعمائة، فقال يونس ما هذه الدراهم قال ذاك المطرف بعناه من ذا الرجل قال يونس يا عبد الله هذا المطرف الذي عرضت عليك بمائتي درهم فإن شئت خذه وخذ مائتين وإن شئت فدعه قال له من أنت قال رجل من المسلمين قال أسألك بالله من أنت وما اسمك قال يونس بن عبيد قال فوالله إنا لنكون في نحر العدو فإذا اشتد الأمر علينا قلنا اللهم رب يونس بن عبيد أو شبيه هذا فقال يونس سبحان الله سبحان الله.
لا لقانون العرض والطلب:
وفي موقف آخر يكشف لنا يونس بن عبيد موقفه مما ساد بين التجار بما عرف بقانون العرض والطلب والذين يجيزون به مضاعفة الربح في البيع والشراء بدعوى أن القضية قضية عرض وطلب، فيروى أنه كان عند يونس بن عبيد حلل مختلفة الأثمان، ضرب قيمة كل حلة منها أربعمائة، وضرب كل حلة قيمتها مائتان، فمر إلى الصلاة وخلف ابن أخيه في الدكان، فجاء أعرابي وطلب حلة بأربعمائة فعرض عليه من حلل المائتين فاستحسنها ورضيها، فاشتراها فمضى بها وهي على يديه، فاستقبله يونس فعرف حلته، فقال للأعرابي: بكم اشتريت؟ فقال بأربعمائة، فقال: لا تساوي أكثر من مائتين فارجع حتى تردها، فقال: هذه تساوي في بلدنا خمسمائة وأنا أرتضيها، فقال له يونس: انصرف فإن النصح في الدين خير من الدنيا بما فيها، ثم رده إلى الدكان ورد عليه مائتي درهم، وخاصم ابن أخيه في ذلك وقاتله وقال: أما استحييت، أما اتقيت الله، تربح مثل الثمن وتترك النصح للمسلمين، فقال: والله ما أخذها إلا وهو راض بها، قال: فهلا رضيت له بما ترضاه لنفسك.(115/797)
فهذا الموقف من يونس بن عبيد يبرز لنا أن للعملية الاقتصادية في الإسلام أبعاد أخرى غير أبعاد الربح والخسارة، ولها قوانين أخرى غير قانون العرض والطلب، فللعملية الاقتصادية في الإسلام أبعاد دينية واجتماعية، فأما الدينية فمتمثلة في نصح المسلمين وعدم غشهم أو خداعهم، ويذهب البعد الاجتماعي أكثر من هذا فيجعل المسلم لا يبيع شيئًا لأخيه أو يعقد صفقة إلا إذا كان يرضاها لنفسه، فإن رضيها لنفسه أتمها، وبارك الله له فيها.
ولم يكن هذا موقفًا فريدًا من يونس بن عبيد بل كان منهج حياة، ها هو نجده تأتيه امرأة بجبة خز فقالت له اشترها فقال بكم تبيعيها قالت بخمسمائة قال هي خير من ذاك قالت بستمائة قال هي خير من ذاك فلم يزل يقول هي خير من ذاك حتى بلغت ألفا وقد بذلتها بخمسمائة.
فكان يونس بن عبيد إذا باع باع بأرخص الأثمان وإذا اشترى اشترى بأغلى الأثمان وليس ككثير من الناس اليوم، وكان من منهجه في التجارة النصح والتبيان لمن يتعامل معهم مثال ذلك أن يونس بن عبيد كان يشتري الابريسم (الحرير) من البصرة فيبعث به على وكيله بالسوس وكان وكيله يبعث إليه بالخز فإن كتب وكيله إليه أن المتاع عندهم زائد لم يشتر منهم أبدا حتى يخبرهم أن وكيله كتب إليه أن المتاع عندهم زائد.
وورع يونس بن عبيد من أن يدخل ماله درهم حرام، جعله يتنازل عن أموال كثيرة بسبب الشبهة يقول مسلم بن أبي مضر: كانت بضاعة فجلسنا يوما ننظر في حسابنا ويونس جالس فلما فرغنا من حسابنا، قال يونس: كلمة تكلم بها فلان داخلة في حسابنا قلنا نعم قال لا حاجة لي في الربح ردوا علي رأس مالي وأخذ رأس ماله وترك ربحه أربعة آلاف، ويبدو أن الكلمة التي تكلم بها فلان هي كلمة زيّن بها البضاعة أو حاول أن يؤثر بها على سير البيع والشراء.
ويوضح ذلك موقف آخر ليونس بن عبيد يحكيه أبو عبد الرحمن المقري فيقول: نشر يونس بن عبيد يوما ثوبا على رجل فسبح رجل من جلسائه فقال ارفع أحسبه قال لجليسه ما وجدت موضع التسبيح إلا ههنا، وسبب إلغاء يونس هذه الصفقة هو خوفه من أن يكون لذلك التسبيح تأثير على المشتري يجعله يعجّل بالشراء أو يتعامى عن عيوب المبيع.
وبيان ذلك أن رجلاً جاء يطلب ثوبا فقال يونس لغلامه انشر الرزمة فنشر الغلام الرزمة وضرب بيده على الرزمة فقال صلى الله على محمد فقال ارفعه وأبى أن يبيعه مخافة أن يكون مدحه.
ويكشف لنا يونس بن عبيد منهجه في المال، وهو منهج لو اتبعه المسلمون اليوم لاستراحوا كثيرًا، يقول يونس: إنما هما درهمان درهم أمسكت عنه حتى طاب لك فأخذته ودرهم وجب لله تعالى عليك فيه حق فأديته، فالمسلم لا يستحل المال حتى يكون حلالاً طيبًا، ولا يدعه عنده حتى يفوت حق الله فيه.
ويجلس يونس بن عبيد مع صاحبه عبد الله بن عون فيتكلمان عن الدنيا مثلما نتكلم عنها اليوم غير أنهما في شغل عما نحن فيه مشغولون، يقول ابن شوذب: سمعت(115/798)
يونس بن عبيد وابن عون اجتمعا فتذاكرا الحلال والحرام فكلاهما قال ما أعلم في مالي درهما حلالا.
بتلك المحاسبة الدقيقة للنفس والاشتباه فيما كل يملكه من أموال بلغ يونس بن عبيد تلك المنزلة العالية في الورع، وبهذا الورع دخل يونس بن عبيد باب الزهد والعبادة، فلم يكن يونس من المنقطعين للعلم ولا من هؤلاء المجاهدين في سبيل الله، ولكنه أقبل على نفسه فجاهدها في باب من أبواب العلم عظيم وهو الورع، غير أن ورعه لم يكن مقتصرًا على ورع الدرهم والدينار ولكنه ورع شمل حياته كلها، ها هو يضع منهجًا دقيقًا للسانه فيقول: إنك تكاد تعرف ورع الرجل في كلامه إذا تكلم، ويفسر يونس بن عبيد ذلك بقوله: لا تجد شيئا من البر يتبعه البر اللسان فإنك تجد الرجل يكثر الصيام ويفطر على الحرام ويقوم الليل ويشهد الزور بالنهار وذكر أشياء نحو هذا ولكن لا تجده لا يتكلم إلا بحق فيخالف ذلك عمله أبدا.
وكما حفظ يونس بن عبيد بطنه من أموال الناس، فإنه حفظ لسانه من أعراض الناس، ها هو يقول: عمدنا إلى ما يصلح الناس فكتبناه وعمدنا إلى ما يُصلحنا فتركناه، قال خالد يعني التسبيح والتهليل وذكر الخير، فهو يضن بحسناته أن تذهب للآخرين عبر الغيبة والنميمة وغيرهما من آفات اللسان.
3- محاسبة النفس:
ومن باب الورع ينطلق يونس بن عبيد إلى باب آخر من أبواب العمل الصالح، وهي محاسبة النفس حسابًا عسيرًا مقتديًا في ذلك بقول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب "حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا"، فها هو يونس بن عبيد يشكو حاله: مالي مالي تضيع لي الدجاجة فأجد لها وتفوتني الصلاة فلا أجد لها، وكان يونس بن عبيد قلما تفوته الصلاة وندرك أنه يقصد بالصلاة هنا تكبيرة الإحرام وليست الصلاة كلها كما قد يظن البعض.
ويحاسب يونس بن عبيد نفسه على الأوقات المهدرة دون فائدة، فبينما كان جالسًا يومًا مع أصحابه يحدثهم نظر في وجوههم ثم قال: لقد ذهب من أجلي وأجلكم ساعة.
ولا يبلغ الإنسان هذه الدرجة من محاسبة النفس إلا إذا كان الموت نصب عينيه يعلم أنه يطارده وقد يفاجئه في أي زمان أو مكان، وإذا فاجئك الموت أيها الإنسان تراك ماذا أنت فاعل؟، لقد استقبل يونس بن عبيد الموت بالبكاء، ليس بكاء على الدنيا ولا بكاء من الموت، ولكنه بكاء الصالحين، يقول أحمد بن إبراهيم: نظر يونس بن عبيد إلى قدميه عند موته فبكى وقال: قدماي لم تغبرا في سبيل الله، فهذه إذن حسرات الصالحين، حسرة يوم يذكر طاعة لم يتمها، وحسرة يوم يذكر خيرا لم يشارك فيه، وحسرة يوم يمر عليه وقت لا يذكر الله تعالى فيه، والحق إن في الحديث إلى الجوارح لاسترجاع لواقع المرء الحقيقي الذي غاب عنه، فينظر إلى كل جارحة من جوارحه ويخاطبها: كم من ذنب شاركت فيه؟ وكم من طاعة قصرت عنها؟ وكم من توبة تمنعت عنها؟ وكم من استغفار غفلت عنه؟.
4- الإخلاص:
ومن باب محاسبة النفس ينطلق يونس بن عبيد إلى باب الإخلاص، يقول عنه هشام بن حسان: ما رأيت أحدا يطلب بالعلم وجه الله الا يونس بن عبيد.(115/799)
ومن دلائل الإخلاص وعلامات المخلصين اتهامهم لأنفسهم بالتقصير في حق الله، وعدم القيام بالعبودية لملك الملوك، ومقتهم لأنفسهم كما قال الله عز وجل: "والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلةٌ أنهم إلى ربهم راجعون".
يقول يونس بن عبيد عن نفسه: "إني لأعد مئة خصلة من خصال البر، ما فيَّ منها خصلةُ واحدة"، مئة خصلة لا يجدها يونس في نفسه؟، فكم نجد نحن في أنفسنا من خصال!!.
ويصاحب الإخلاص حياة يونس بن عبيد، فيدخل عليه أحدهم فيقول: دخلت على يونس بن عبيد أيام الأضحى، فقال: خذ لنا كذا وكذا من شاة، ثم قال: والله ما أراه يتقبل مني شيء، قد خشيت أن أكون من أهل النار.
يقدم العمل ثم يخشى على نفسه من النار وعدم القبول، ليس كمثل أحدنا اليوم لا تجده يعمل وتجده في الوقت ذاته أمن على نفسه من النار، يقول الذهبي: كل من لم يخش أن يكون في النار، فهو مغرور قد أمن مكر الله به.
ويقول يونس بن عبيد وقد انصرف من عرفات: لم أشك في الرحمة لولا أني كنت معهم إني أخشى أنهم حرموا بسببي، عبارات تنطق بنفسها ولا تحتاج منا إلى تعليق.
ويشتهر أمر يونس بن عبيد وورعه وصلاحه فيراسله أهل العلم والعبادة إلا إنه لا يقابل تلك الشهرة إلا بمزيد من التواضع ومقت النفس، يقول جعفر بن برقان: بلغني عن يونس بن عبيد فضل وصلاح فكتبت إليه يا أخي اكتب إلي بما أنت عليه فكتب إليه أتاني كتابك تسألني أن أكتب إليك بما أنا عليه وأخبرك أني عرضت على نفسي أن تحب للناس ما تحب لها وتكره لهم ما تكره لها فإذا هي من ذاك بعيد ثم عرضت عليها مرة أخرى ترك ذكرهم إلا من خير فوجدت الصوم في اليوم الحار الشديد الحر بالهواجر بالبصرة أيسر عليها من ترك ذكرهم هذا أمري يا أخي والسلام.
5- اهتمامه بالناس:
ولم يكن يونس بن عبيد منقطع عن الناس بل كان رجل عامة يدعوهم إلى الإيمان ويرشدهم إلى الصلاح ويتألم لحالهم، يقول أحد أصحابه: أتيت يونس بن عبيد فخرج إلي فقعد على باب الدار فإذا هو كئيب حزين قال قلت: يا أبا عبد الله ما الذي أرى بك؟، قال: فسكت ملياً ثم رفع رأسه فقال: ذاك والله ما أرى في العامة (المعرفة والتاريخ للفسوي).
ويتألم لآلالم المرضي، يقول عبيد الله بن سلام الباهلي: سمعت يونس بن عبيد يقول: لو أصبت درهماً حلالاً من تجارة لاشتريت به براً ثم صيرته سويقاً ثم سقيته المرضى.
ولا يتوقف الأمر عند الشعور بمصابهم بل يزيد الأمر على ذلك إلى تربيته للآخرين، فهذا "يونس بن عبيد" يقصده رجل شاكيا فقره وحاله، فيسأله "يونس": "أيسرك أن يذهب بصرك وتعطى مئة ألف؟"، فيجيب الرجل: لا، فيسأله يونس: "أيسرك أن يذهب سمعك، وتعطى مئة ألف؟"، فيقول الرجل: لا، فيسأله: "أيسرك أن يذهب عقلك ولسانك وتعطى مئة ألف؟"، يقول الرجل: لا، وهنا ضحك "يونس" وقال للرجل: "انظر إذن كم معك من مئات الألوف وأنت تشكو الحاجة"!!.(115/800)
ويأتي إليه رجل آخر يشكو إليه وجعاً في بطنه فقال: يا هذا إن هذه الدنيا دار لا توافقك فالتمس داراً توافقك، هكذا يوجه يونس بن عبيد الشاكي إلى الاهتمام بأمر الآخرة متبعًا في ذلك منهج التربية بالموقف.
ويمر يونس بن عبيد على قوم يختصمون في القدر فيقول لهم لو شغلتكم ذنوبكم ما اختصمتم في القدر، هنا يوجه يونس بن عبيد هؤلاء النفر إلى ما يهمهم وينفعهم في الدنيا والآخرة.
وعرف يونس بن عبيد لما لأهل البدع من خطر وخطورة فحذر منهم ومن مجالستهم، فها هو رجل يأتيه فيقول له: أتنهانا عن مجالسة عمرو بن عبيد وقد دخل عليه ابنك قبل فقال له يونس اتق الله فتغيظ فلم يبرح أن جاء ابنه فقال يا بني قد عرفت رأيي في عمرو فتدخل عليه فقال يا أبت كان معي فلان فجعل يعتذر إليه فقال أنهاك عن الزنا والسرقة وشرب الخمر ولأن تلقى الله عز وجل بهن أحب إلي من أن تلقاه برأي عمرو وأصحاب عمرو .
هذه بعض مواقف من حياة يونس بن عبيد رحمه الله تظهر لنا الصورة الأكمل والأشمل للإسلام، فالمسلم الحق من يحكم الإسلام على سلوكه في مناحي الحياة كلها، من بيع وشراء وتجارة وغيرها.
ـــــــــــــــــــ
لا مشروعية لمن لا مشروع له
عادل أحمد الماجد
4/1/1427
ارسل تعليقك ...
تعليقات سابقة ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
في كل قضية له رأي وفي كل رأي له قضية، يقيّم الأفراد والجماعات والمشاريع والمؤسسات ..حينما يصف فهو يختار من الصفات أبشعها.. وحينما يحكم يأخذ من الأحكام أحدها... وإذا عبّر استخدم أجرح تعبير .. ورغم قلة مدحه فهو يمدح فرداً نكاية بآخر ، ويثني على مشروع انتقاماً من آخر.. إنها شخصية : (من لا مشروع له ) ..لا مشروع إصلاحيا.. ولا مشروع دعويا.. ولا مشروع تجاريا.. ولا مشروع ثقافيا.. هو من فئة تكاد لا تخطئها العين .. لها صفات مشتركة تعرفها بها:
1- ( من لا مشروع له ) يحكم على كل فرد و على كل مشروع وعلى كل توجه . بينما أصحاب المشاريع يتأنون كثيراً قبل الحكم لأنهم يعلمون أن الحكم صعب دون دراية ومعرفة تفصيلية وتأكد تام من صحة المعلومات.
2- ( من لا مشروع له ) يمتلك مثالية زائفة يتحدث عنها . فهو يصف رؤيته للمشاريع بصفات كمال لا يعذر أحداً بنقصها، بينما من يملك مشروعاً يدرك الصعوبات والعقبات الكثيرة التي تواجه المشاريع فتجده معتذراً لغيره يتحدث بواقعية وتجربة عملية.(115/801)
من لا مشروع له ) يحكم على كل فرد و على كل مشروع وعلى كل توجه
3- ( من لا مشروع له ) يحاول تقزيم أصحاب المشاريع بالقدح بالأعمار تارةً وبالشهادات العلمية تارةً وثالثة.. ورابعة.. وإذا أعياه التقزيم تساءل باستغراب : (من وكّلهم بذلك ؟)
4- ( من لا مشروع له ) يستخدم الألفاظ الفضفاضة والكلمات البراقة في حديثه كمثل: (المشاريع العظيمة)، و(تغيير التاريخ)، و...
5- ( من لا مشروع له ) على استعداد تام لطرح رأيه في كل مشروع وفي كل فرد وفي كل قضية، بينما أصحاب المشاريع يدركون أن الحكمة التوقف عن إبداء الرأي في كل صغيرة وكبيرة لأنهم يعلمون أن ذلك يحتاج إلى معرفة تفصيلية وحيثيات فهم وإلمام بجوانب الموضوع ولهذا فهم يكثرون من (: لا أدري.. وليس لي رأي في المسألة.. وأنا غير مختص في هذه القضايا..)
6- ( من لا مشروع له ) يظهر الاستقلال عن غيره والاستغناء عن الآخرين و مع ذلك يعتذر عندما يدعى إلى العمل بضيق الوقت . بينما صاحب المشاريع يظهر عادة افتقاره إلى غيره وحاجته للرأي والمشورة.. وتجده مستعداً لبذل وقته رغم ازدحام أعماله.
7- ( من لا مشروع له ) لا يقدر عملاً ولا فرداً ..يعيّر الجالسين بجلوسهم وهو أكثر جلوساً منهم ويعيّر العاملين بضعفهم وهو أشد ضعفاً منهم، بينما أصحاب المشاريع يقدرون الجهد وإن كان قليلاً ويعترفون بفضل غيرهم.
8- ( من لا مشروع له ) يسوغ إعراضه عن المشاريع بأنها لا ترقى إلى طموحه و أنه لو أراد أن يقيم مشروعاً كما فعل الأخرون فإنه قادر على ذلك ولا شك ولكن أقعده ضعف الناس و مشاريعهم كما يزعم.
9- ( من لا مشروع له ) يحب القادحين ويتقرب منهم ..ويبغض المادحين وينفر منهم.. لا يكاد يسمع مدحاً حتى يلحقه بـ(لكن) فيحيل المدح قدحاً والنجاح فشلاً.
10- ( من لا مشروع له ) إن مدَحَ فهو يمدح نكاية بمشروع آخر، فهو يمدح جمعيات التنصير وضخامة عملها ودقة أدائها قدحاً مبطناً بجمعيات إسلامية دعوية ويمدح رمزاً معادياً للأمة قدحاً في رموزها.. مدحه يأتي تفريغاً لفراغه الدائم.
11- ( من لا مشروع له ) كثير التجمعات والولائم حريص على الدعوات واللقاءات فهي الموقع الخصب لمعاركه الكلامية وتوزيع الأحكام والآراء، بينما أصحاب المشاريع يتقللون من الارتباطات ذات البعد الجدلي وإن حضروا فبقدر يسير ينتهزون الفرصة لتعضيد مشاريعهم.
12- ( من لا مشروع له ) لا تنفك عنه كلمة (ألم أقل لكم) ..ما أن تأتي مصيبة إلا ويقولها ..ولا يتعرض أحد لفشل إلا و يذكره تبكيتا وتقريعا ..يخذل الناس بمقولة (ألم أقل لكم) . .. ولاينجح مشروع أو يكتب له القبول بين الناس إلا ويتصدر ويعنلها بكل ثقة : ( ألم أقل لكم ) ! ..فكأنه يريد سلب النجاح من صانعيه لينسبه لنفسه مع أن ليس له في العير ولا في النفير ..بينما أصحاب المشاريع تجدهم من أول العاذرين و من أقرب المعينين ، ومن أسرع المنقذين ، و تجدهم آخر المستفيدين من الفتوحات التي ربما صنعوها بأيديهم دون غيرهم .(115/802)
هذه بعض صفات ( من لا مشروع له ) فتأملها جيدا لتحذر من أصحابها ، و لنرفعها شعارا عاليا .. ولنعلنها صارخة مدوية : ( لا مشروعية لمن لا مشروع له
ـــــــــــــــــــ
البيداغوجيا .. ووصايا لقمان ..
حسن الأشرف
28/12/1427
ارسل تعليقك ...
لا توجد تعليقات ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
نصائح غالية علمها لنا القرآن العظيم تلك التي أوصى بها لقمان الحكيم ابنه في هذه الآيات الكريمات:
"وإذ قال لقمان لابنه وهو يعظه يا بني لا تشرك بالله، إن الشرك لظلم عظيم.ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهنا على وهن وفصاله في عامين أن أشكر لي ولوالديك إلي المصير، وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا واتبع سبيل من أناب إلي ثم إلي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون. يابني إنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أوفي السماوات أو في الأرض يأت بها الله، إن الله لطيف خبير. يابني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر، واصبر على ما أصابك، إن ذلك من عزم الأمور.ولا تصعر خدك للناس ولا تمش في الأرض مرحا، إن الله لا يحب كل مختال فخور، واقصد في مشيك واغضض من صوتك، إن أنكر الأصوات لصوت الحمير". من سورة لقمان..الآيات.
لقمان والبيداغوجيا
إن هذه الآيات العظيمات من سورة لقمان تنضَحْ بمعاني سامية جليلة، وبدروس في التربية الإسلامية غاية في الرقي والسمو والتحضر كأنها ُزْبدة ما يسمونه اليوم بلغة العصر:علم التربية الحديثة و"البيداغوجيا "..
إن هذه الآيات العظيمات من سورة لقمان تنضَحْ بمعاني سامية جليلة، وبدروس في التربية الإسلامية غاية في الرقي والسمو والتحضر كأنها ُزْبدة ما يسمونه اليوم بلغة العصر:علم التربية الحديثة و"البيداغوجيا
إن من أهم أهداف التربية :تعريف الفرد بخالقه وبناء العلاقة بينهما على أساس ربانية الخالق وعبودية المخلوق وإعداد الفرد للحياة الآخرة، وكذلك تطوير وتهذيب سلوك الفرد وتنمية أفكاره وتوجيهه لحمل الرسالة الإسلامية إلى العالم، وغرس الإيمان بوحدة الإنسانية والمساواة بين البشر والتفاضل لا يكون إلا بالتقوى، كما تسعى التربية الإسلامية السليمة إلى تحقيق النمو المتكامل المتوازن للطفل في جميع جوانب شخصيته..وهذا غيض من فيض جاء في مجمل وصايا العبد الحكيم لقمان لابنه وهو يعظه في القرآن الكريم.(115/803)
ولقد جاء في الأخبار والروايات الكثير من لآلئ المعاني التي سطرها التاريخ وهي تخرج كالدرر النفيسة من في لقمان إلى أذني ابنه وقبلهما إلى عقله وقلبه..ومن بين هذه المعاني السامية والراقية في الأخلاق والسلوك الناضج القويم ما نقلته الآثار عنه :
*"يا بني إذا جلست لذي سلطان فليكن بينك وبينه مقعد رجل، فلعله يأتيه من هو آثر عنده منك فينحيك فيكون نقصا عليك".
*"يا بني إن أردت أن تؤاخي رجلا، فأغضبه فإن أنصفك في غضبه وإلا فدعه."
*يا بني لا تضحك من غير عجب ولا تمشي في غير أدب ولا تسأل عما لا يعنيك."..
وعن خالد الربيعي أن لقمان قيل له : اذبح لنا هذه الشاة وأخرج أطيب مضغتين فيها,فأخرج لقمان لسانها وقلبها..ثم مكث ما شاء الله ثم قيل له يوما: اذبح لنا هذه الشاة وأخرج أخبث مضغتين فيها فأخرج اللسان والقلب مرة أخرى..فقيل له كيف ذلك ؟ فأجاب لقمان:"انه ليس أطيب منهما إذا طابا, وليس أخبث منهما إذا خبثا"...
وهنا بالذات يظهر تركيز لقمان المربي الفاضل على مضغتين في جسد الفرد هما: القلب واللسان ..فلو حفظهما المرء من السوء ومن الآثام والمعاصي لفاز فوزا عظيما, ولكنهما أحيانا كثيرة يكونان مجلبة لكثير من الفضائح والزلات والعصيان ,لا لشيء سوى لأنهما لا يخضعان لمراقبة المسلم وخشيته من الله تعالى في حله وترحاله..
وعاء النصائح اللقمانية
ولنعد إلى الآيات الكريمات في سورة لقمان حيث يعظ ابنه بعدة وصايا ونصائح نفيسة ولنستخرج منها هذه العبر والفوائد الجليلة.. لكن قبل ذلك,هناك ملاحظات أساسية لابد من إبدائها مرتبطة بالشكل الذي قدم بها لقمان نصائحه الغالية لابنه منها:
أمر لقمان ابنه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لأنه يعلم حق اليقين أنها رسالة عظيمة حاملُ لوائها ينفع نفسه وينفع الأمة الإسلامية جمعاء,إذ إن المعروف الذي يحث عليه الإسلام هو الأمر النافع للمجتمع بجلبه الخير له وتحقيق التعاون بين أفراده,
* مبدأ الحوار بين الأب والابن بطريقة سلسة دون إثارة مشكلة عدم التواصل بين جيل الآباء مع جيل الأبناء، وهي القضية التي تعاني منها كثير من الأسر في واقعنا اليوم..لقمان كان يخاطب ابنه بأسلوب كله حوار راقي وحضاري، فالأب يسدي النصائح والمواعظ والابن ينصت أحسن الإنصات, وتمر الأمور في هدوء وروية بين الطرفين..
* وسيلة الإقناع بحيث أن لقمان الحكيم كان يورد الأمر أو النهي ويُتبعه بالشرح والتبرير..مثلا يعظ ابنه بأن لا يصعر خده للناس وبأن لا يتكبر, فيفسر له للتو بأن ذلك السلوك يكرهه الله تعالى بالقول :"إن الله لا يحب كل مختال فخور". ولما أمره باللين بأن لا يرفع من صوته وأن يقصد فيه, أردف ذلك بالقول:" إن أنكر الأصوات لصوت الحمير"..(115/804)
* بدء الخطاب بالرفق والأسلوب الذي كله رقة وعذوبة: "يا بني"..وهي لفظة تصغير لكلمة "ابني" من أجل التحبب والتقرب بغية إيصال الخطاب بطريقة سليمة وكاملة ولفت الانتباه للمُخاطَب..
* الرد على التساؤلات المحرجة للطفل مهما كانت حتى لو جاءت في موضوع الجنس, وذلك بالجواب اللطيف والذكي دون قمع الطفل السائل أو إبداء تبرم من سؤاله أو ضجر من إلحاحه في السؤال..
* تقديم البديل: حين قال لقمان لابنه بأن لا يمشي في الأرض مرحا أتى له بالبديل وهو أن يقصد في مشيه..وهكذا دواليك تتأسس التربية الإسلامية السليمة للأبناء..
بناءات لقمانية للعقيدة السليمة
أما البناءات التي تضمنتها كلمات لقمان إلى ابنه فتتشكل ركائزها على ما يلي:
- بناء العقيدة الصحيحة للطفل المسلم:
* التوحيد: وهو الأمر الذي بدأ به لقمان كلامه لابنه لأنه أساس كل كلام بعده..فالتوحيد حق الله على العباد. قال الله تعالى :" وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون" الذاريات56.وقال أيضا:"ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت" النمل36.وقال: "واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا"...وفضل التوحيد كبير, ففي حديث عتبان الله تعالى حرم على النار من قال لا إله إلا الله ليس باللسان فقط وإنما يلزم ترك الشرك باللسان وبالقلب وبجميع الجوارح..وعن أنس بن مالك رضي الله عنهما قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"قال الله تعالى يا ابن آدم لو آتيتني بقُراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لأتيتك بقرابها مغفرة"..
لهذا نجد لقمان الحكيم يحذر ابنه من الشرك ويبرره بكونه أعظم الظلم..واستهل نصائحه بهذا التحذير لعلمه أن الأصل هو التوحيد..
* طاعة الوالدين: قرنها الله تعالى في كثير من الآيات القرآنية بطاعة الله تعالى:"وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا". بل إن من طاعة الله تعالى طاعة الوالدين إلا أن يدعوا إلى الشرك به.. وحتى في هذه الحالة الاستثنائية يجب مصاحبتهما ومعاشرتهما بالمعروف مع عدم طاعتهما في ما يدعوان إليه. كما أمر الله عز وجل العبد بالشكر له وبوالديه بشكل مترابط إذ قال:" ووصينا الإنسان بوالديه أن اشكر لي ولوالديك إلي المصير"..فلولا الوالدان لما كان لنا أثر ولا وجود في هذه الدنيا, ومن ثَم فهما السبب المباشر لحياتنا, لكن ينبغي التذكر دوما أن الله تعالى هو السبب في وجود كل الخلائق..
* مراقبة الإنسان لله تعالى: أضاف لقمان عظة غالية من عظاته لابنه جوابا على سؤال سابق كما جاء في الروايات التي تناولت حياة لقمان, فقد سأله ابنه يوما سؤالا قد يكون مستغربا للأب الذي لا يحسن الإجابة ولا يملك الدراية بفنون القول في إطار من اللين والرفق..لم يتضايق لقمان ولم ينهر ابنه ولم يأمره بالصمت أو ينعته بالغباء أو الجهل حين سأله عندما رأى البحر متلاطم الأمواج هل يعلم الله تعالى تواجد حبة إذا ألقيت في أعماق بحر كهذا, فأجابه بأن الله تبارك وتعالى يعلم أقل من الحبة فقال(115/805)
له مقدما لفظة التحبب لابنه:"يا بني" إنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السماوات أو في الأرض يأت بها الله.إن الله لطيف خبير".
وهكذا فقد أورد لقمان أمثلة غير البحر الذي ذكره له ابنه, فأعطى له المثال بالصخرة وبالسماوات وبالأراضين..ففي هذا الفضاء الواسع اللا منتهي, يعلم سبحانه مثقال حبة من خردل ,فانظر إلى صغر هذه الحبة حتى في الصخرة الصماء أو في الليلة الظلماء يعلم كل أمر مَهما حقر شأنه أو عظم..يقول ابن حجر"إن أعظم زاجر عم الذنوب هو خوف الله تعالى وخشية انتقامه وسطوته وحذر عقابه وغضبه وبطشه".إن قوام التربية الإسلامية أن يشعر الإنسان منذ أن يكون طفلا صغيرا بأن الله قريب منه يسمعه ويراه ويحصي سيئاته وحسناته. يقول الله عز وجل" وهو الله في السماوات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون"آية3 الأنعام, وقوله في سورة الحديد " وهو معكم أين ما كنتم والله بما تعملون بصير"...ومما يعمق مراقبة الله تعالى في نفس الإنسان المداومة على صلوات الفرض. لهذا انتقل لقمان مباشرة إلى وصية ولده بالصلاة بعد أن وعظه بمراقبة الله تبارك وتعالى..
* إقامة الصلاة: لاشك أن الصلاة تحمي المسلم من الفواحش والمنكر لقول الله تعالى في سورة العنكبوت "إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر" ..والأمر بالصلاة هو أمر بإقامة الصلة بالله حتى تطهر نفس الإنسان ويغلق على الشيطان منافذه الكثيرة, والعجيب أن الوضوء الذي يسبق الصلاة هو أيضا طهارة للمرء المسلم من الذنوب
التي تخرج مع آخر قطرة ماء..وفضلا على ذلك, الصلاة تمده بالطاقة الروحية التي تزين الشعور بالطمأنينة والأمن النفسي وهدوء البال وراحة العقل, ولقد أدرك ذلك أحد الأطباء الغربيين وهو ديل كارينجي في كتابه(دع القلق وابدأ الحياة)بالقول:" إن الصلاة هي أهم أداة عرفت إلى الآن لبث الطمأنينة في النفوس وبث الهدوء في الأعصاب".
بناءات لقمانية للعبادات الإيمانية
* الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: أمر لقمان ابنه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لأنه يعلم حق اليقين أنها رسالة عظيمة حاملُ لوائها ينفع نفسه وينفع الأمة الإسلامية جمعاء,إذ إن المعروف الذي يحث عليه الإسلام هو الأمر النافع للمجتمع بجلبه الخير له وتحقيق التعاون بين أفراده, أما المنكر فهو كل أمر يؤدي إلى الخصومات والاعتداء على حرمات الإنسان في ماله وعرضه وماله ونفسه..ولقمان في وعظه ابنه بأن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر, يكون ضمنيا قد نهاه على أن لا يكون حياديا كما هو شأن الكثيرين من الناس اليوم, فموقف الحياد في معركة الحق مع الباطل في واقعنا هو موقف سلبي يهدم المجتمع أكثر مما يبنيه, فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" لا تكونوا إمَعة تقولون إنْ أحسن الناس أحسنا,وإن ظلموا ظلمنا,ولكن وطنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا وإن أساءوا أن لا تسيئوا".وهذا هو خلق المؤمنين والمؤمنات ومن سمات المجتمع المسلم.قال الله تعالى:" والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر.." من سورة التوبة.(115/806)
* الصبر على المصيبة: إنه خُلق كريم نصح به لقمان ابنه وعَبْره يجب على كل أب أن يوصي به أبناءه, فبفضل الصبر تُبنى شخصية الفرد المسلم وتُصقَل توجهاته في الحياة وتُزرع فيه دعائم القوة والصلابة , أما الجزع والتخاذل أمام أدنى مشكلة أو مصيبة فإنها من علامات ضعف الشخصية ووهنها..والصبر فوق كل هذا وذاك يثيب عنه الله تعالى خاصة إذا احتسب المؤمن الأجر عند الله تعالى عند تلقيه أول مرة للمصيبة..
3- بناء الأخلاق: هو بناء شيده لقمان في الآيات الكريمات المذكورة أعلاه على أساس دعامتين اثنتين هما:
- النهي عن التكبر: بقوله تعالى "ولا تُصَعر خدك للناس ولا تمش في الأرض مرحا"..وتصعير الخد للناس هو كناية عن التبرم وإدارة الوجه عنهم وعدم الإقبال عليهم بمؤانستهم والأُلفة معهم, بل التعالي عنهم للإحساس بالغرور والتكبر المشينين وزكى لقمان نصيحته الأولى بالقول: "ولا تمش في الأرض مرحا", ليبرر بعد ذلك قوله كأسلوب للإقناع بأن الله تعالى لا يحب كل مختال فخور,ومادام الله يكره هذه الخصال فالأجدى أن يبتعد عنها الفرد المسلم..
- الاقتصاد في الأمور كلها: يقول لقمان لابنه واعظا إياه بأن يقصد في مشيه ويغضض من صوته..ودائما في أسلوب راقي في الإقناع, يضيف لقمان:" إن أنكر الأصوات لصوت الحمير" حتى تعاف النفس هذا الصوت وتهرب منه فيتحرى الإنسان عدم الرفع من الصوت بدون حاجة..والمعنى الضيق للاقتصاد في المشي والغض من الصوت هو عدم المشي ببطء قاتل ولا السرعة المفرطة, وأيضا عدم الرفع من الصوت يشكل يؤذي السامعين ولا خفضه بطريقة لا تُسمع الآخرين, بل اللازم هو أن يكون المشي بين السرعة والهرولة والصوت بين المنخفض والعالي, لكن المعنى العام والشامل هو سلامة نهج الاقتصاد دون إفراط ولا تفريط في أمور الحياة كلها حتى في جزئياتها من قَبيل المشي والصوت..وهذه دعوة عجيبة منذ زمان بعيد هو زمان لقمان إلى سلوك الاقتصاد الوسط بمعناه العلمي الحديث الحالي.وقد أثبتت التجارب العلمية أن هذا النوع من السلوك الاقتصادي هو الأأمن والأسلم في اقتصاديات اليوم
سبيل النبلاء ...(1)
خالد روشه
15/12/1427
ارسل تعليقك ...
لا توجد تعليقات ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
khaled_rousha@yahoo.com
النبلاء في كل عصر هم سادته وزينته , وهم بسلوكهم الراقي السامق النبيل يجمعون صفات الروعة والسمو , ويدعون نحو عالم جميل محبوب ..(115/807)
والنبلاء عندنا هم الذين سلمت قلوبهم لخالقها وصفت نفوسهم للناس وسعوا نحو المعالي , فإن ثمة علاقة وثيقة بين طريق المعالي وصفة النبل , فدوما كانت المعالي للنبلاء ..
والنبلاء هم الذين يهدون الناس نحو الخير والعدل والاستقامة , ويدلونهم على الحق ويبينون لهم سبل الإيمان والهدى , وهم يضحون في سبيل استمساكهم بصفاتهم تلك بكل ما يملكون حتى آخر لحظة من الحياة .. لذا كان أنبل النبلاء هم الأنبياء ثم الشهداء ثم العلماء الصلحاء ثم الأمثل فالأمثل ..
ولو أردنا تتبع صفات النبلاء لطال بنا المقال وضاق بنا المقام , غير إننا ندل دلالة على بعض صفاتهم ونشير إشارة نحو سبيل سعيهم ..فلربما طاف بنا نسيم عطرهم أو ارتشفنا من نبع حكمتهم وروعتهم ..
ولقد تتبعت كثيرا من حالهم فوجدت أن أهم صفات هؤلاء النبلاء هي قلوبهم النقية ونفوسهم الزكية التي تعاهدوها فألزموها التقى والصلاح وأدبوها فعلموها العبودية بمعانيها ..
والنبلاء عندنا هم الذين سلمت قلوبهم لخالقها وصفت نفوسهم للناس وسعو نحو المعالي , فإن ثمة علاقة وثيقة بين طريق المعالي وصفة النبل , فدوما كانت المعالي للنبلاء والنبلاء هم الذين يهدون الناس نحو الخير والعدل والاستقامة
ولذا حرص الأنبياء عليهم السلام على تزكية النفوس وهدايتها فانظر إلى سؤال الخليل عليه السلام وهو يقول " ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلوا عليهم أيتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم " , , و قد استجاب سبحانه فقال : " كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلوا عليكم أيتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون " البقرة الآية ( 151 ) .
وقال تعالى : " لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلوا عليهم آيته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين" آل عمران (164).
وقال تعالى : " هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين " . سورة الجمعة الآية ( 2 ) .
فانظر كيف استجاب الله دعوة خليله إبراهيم عليه السلام في هذه المواضع الثلاثة من القرآن .
ولكن نلاحظ أن في آية سورة البقرة ( 129 ) قد ذكرها الله عز وجل بعد الكتاب والحكمة ولكن في امتنان الله عز وجل على هذه الأمة فقد نجد أنه سبحانه وتعالى قد رتب الآيات بترتيب آخر وهو تقديم التزكية التي هي سلامة القلب من الشبهات والشهوات ..
و قال الله تعالى : " ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها, قد أفلح من زكاها . وقد خاب من دساها " .
وتزكية النفوس قد عنت عند النبلاء معان ثلاثة : تطهيرها ونماؤها وصلاحها .. فتطهيرها بإخلاص سبيلها لربها وحده لاشريك له ونماؤها بطاعاتها وعبادتها(115/808)
وصلاحها بتطبيق ما تعلمته بكل تجرد وبذل ..قال تعالى : " قد أفلح من تزكى وذكر اسم ربه فصلى " .. يقول ابن القيم " والمقصود أن زكاة القلب موقوفة على طهارته كما أن زكاة البدن موقوفة على استفراغه من أخلاطه الرديئة الفاسدة , قال تعالى : " ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبدا ولكن الله يزكي من يشاء والله سميع عليم "
وقال أيضا : " قال الله " وويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة " قال أكثر المفسرين من السلف ومن بعدهم : هي التوحيد : شهادة أن لا إله إلا الله ، والإيمان الذي به يزكو القلب فإنه يتضمن نفي إلهية ما سوى الحق من القلب وذلك طهارته وإثبات ألهيته سبحانه وهو أصل كل زكاة ونماء فإن التذكي وإن كان أصله النماء والزيادة والبركة فإنه إنما يحصل بإزالة الشر .."
ولقد تتبعت كثيرا من حالهم فوجدت أن أهم صفات هؤلاء النبلاء هي قلوبهم النقية ونفوسهم الزكية التي تعاهدوها فألزموها التقى والصلاح وأدبوها فعلموها العبودية بمعانيها ..
ولذا حرص الأنبياء عليهم السلام على تزكية النفوس وهدايتها
وقال قتادة : في تفسير قوله تعالى " قد أفلح من زكاها " . قد أفلح من عمل خيرا زكاها بطاعة الله عز وجل . وقال أيضا : قد أفلح من زكى نفسه بعمل صالح .
قال الحسن " قد أفلح من زكى نفسه فأصلحها وحملها على طاعة الله تعالى ، وقد خاب من أهلكها وحملها على معصية الله تعالى .
وقال ابن قتيبة " يريد أفلح من زكى نفسه أن نماها وأعلاها بالطاعة والبر و الصدقة واصطناع المعروف .
ـــــــــــــــــــ
الإمام الأوزاعي .. قدوة العلم والعمل والإصلاح
خالد روشه
24/11/1427
ارسل تعليقك ...
لا توجد تعليقات ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي *, ولد ببعلبك ونشأ بالبقاع يتيمًا في حجر أمه, وانتقل من بلد إلى بلد, وتأدب بنفسه.
قال ابن كثير: لم يكن في أبناء الملوك والخلفاء والوزراء والتجار والعلماء وغيرهم أعقل منه ولا أكثر أدبًا ولا أورع ولا أعلم ولا أفصح ولا أوقر ولا أحلم ولا أكثر صمتًا منه , وما تكلم بكلمة إلا تعين على السامع من جلسائه أن يكتبها عنه من حسنها.
وقد عرف الإمام الأوزاعي بتطبيقه لعلمه الذي علمه وبجهاده باللسان والجنان والسنان , وبكونه شوكة في حلوق المبتدعة والمتطاولين على الصحابة وأهل السنة .(115/809)
- كنز العلم ونبع الحكمة ..
لقد كان الأوزاعي رحمه الله سيد العلم في زمانه ومركز الفقه والحكمة , قال ابن كثير: ساد أهل زمانه في بلده وسائر البلاد في الفقه والحديث والمغازي وغير ذلك من علوم الإسلام.
أدرك خلقًا من التابعين كثيرًا, وحدث عنه جماعات من سادات أهل السنة والجماعة كمالك بن أنس والثوري والزهري وهو من شيوخه, وأثنى عليه غير واحد من الأئمة وأجمع المسلمون على عدالته وإمامته.
لقد كان الأوزاعي رحمه الله سيد العلم في زمانه ومركز الفقه والحكمة , قال ابن كثير: ساد أهل زمانه في بلده وسائر البلاد في الفقه والحديث والمغازي وغير ذلك من علوم الإسلام.
أدرك خلقًا من التابعين كثيرًا, وحدث عنه جماعات من سادات أهل السنة والجماعة
وقد كان إماما يقتدى به ومنبعا يستقى منه العلم والعمل معا , قال مالك: كان الأوزاعي إمامًا يقتدى به , وقال سفيان بن عيينة: كان الأوزاعي إمام أهل زمانه.
وقد كان العلماء والأئمة يكبرونه ويجلونه أيما إجلال فيما بينهم , يقول ابن كثير: وقد حج مرة فدخل مكة وسفيان الثوري آخذ بزمام جمله ومالك بن أنس يسوق به, والثوري يقول: افسحوا للشيخ, حتى أجلساه عند الكعبة, وجلسا بين يديه يأخذان عنه.
وقال ابن كثير: وقد تذاكر مالك والأوزاعي مرة بالمدينة من الظهر حتى صليا العصر, ومن العصر حتى صليا المغرب, فغمره الأوزاعي في المغازي, وغمره مالك في شيء من الفقه , قال هقل بن زياد: أفتى الأوزاعي في سبعين ألف مسألة بـ[حدثنا وأخبرنا] , قال أبو زرعة: روي عنه ستون ألف مسألة
- يوصي بالسنة وأهلها وبالصحابة وتوقيرهم وإجلالهم
فقد روى عنه الذهبي أنه كان يقول ويوصي الناس في المجالس والمساجد والتجمعات : عليكم بآثار السلف وإن رفضكم الناس, وإياكم وأقوال الرجال وإن زخرفوه وحسنوه.
ونقل ابن الجوزي أنه كان دوما ما يقول مادحا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : العلم ما جاء عن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وما لم يجئ عنهم فليس بعلم , فهم المصباح المنير والنور المستطير
ونقل ابن كثير وغيره عنه أنه لطالما كان يوصي بالسنة وأهلها ويقول : اصبر على السنة, وقف حيث يقف القوم, وقل ما قالوا, وكف عما كفوا.
- عبادة المتبتلين وخشوع السابقين
لقد جمع الأوزاعي رحمه الله في عبادته لربه بين شتى أنواعها وصنوفها سواء إخلاص العمل أو شفافية النصيحة أو بذل الجهد بالمال والوقت والجسد أو رقة القلب ودفق العين .. بل كان معطاء في سلوكه كله فكأنما حياته كلها صارت عبودية خالصة امتثالا لقوله تعالى " قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين " قال ابن عساكر: كان الأوزاعي رحمه الله كثير العبادة حسن الصلاة, ورعًا ناسكًا طويل الصمت.(115/810)
و قال ابن عجلان: لم أر أحدًا انصح للمسلمين من الأوزاعي , وقال: ما رؤي الأوزاعي ضاحكًا مقهقهًا قط , وقال ابن كثير: كان يعظ الناس فلا يبقى أحد في مجلسه إلا بكى بعينه أو بقلبه , قال أصحابه: ما رأيناه يبكي في مجلسه قط, وكان إذا خلى بكى حتى يرحم , قال يحيى بن معين: العلماء أربعة: الثوري وأبو حنيفة ومالك والأوزاعي., قال الوليد بن مسلم: كان الأوزاعي إذا صلى الصبح جلس يذكر الله سبحانه حتى تطلع الشمس, وكان يؤثر عن السلف ذلك, قال: ثم يقومون فيتذاكرون في الفقه والحديث.
فقد روى عنه الذهبي أنه كان يقول ويوصي الناس في المجالس والمساجد والتجمعات : عليكم بآثار السلف وإن رفضكم الناس, وإياكم وأقوال الرجال وإن زخرفوه وحسنوه.
وقال ابن عساكر : كان الأوزاعي يقول: من أطال القيام في صلاة الليل هون الله عليه طول القيام يوم القيامة. أخذ ذلك من قوله تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً. إِنَّ هَؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً} [الإنسان: 26, 27].
قال الوليد بن مسلم: ما رأيت أحدًا أشد اجتهادًا من الأوزاعي في العبادة وكان من شدة الخشوع كأنه أعمى.
وقال: دخلت امرأة على امرأة الأوزاعي فرأت الحصير الذي يصلي عليه مبلولاً فقالت لها: لعل صبيًا بال هنا؟! قالت: هذه دموع الشيخ من بكائه في سجوده, هكذا يصبح كل يوم.
قال ابن كثير: وكان الأوزاعي من أكرم الناس وأسخاهم, وكان له أكثر من سبعين ألف دينار - ورثهم - فلم يمسك منهم شيئًا, ولا اقتنى شيئًا من عقار ولا غيره, ولا ترك يوم مات سوى سبعة دنانير كانت جهازه, بل كان ينفق ذلك كله في سبيل الله وفي الفقراء والمساكين.
وسمع يومًا بائًعا يبيع البصل وهو يقول: يا بصل أحلى من العسل. فقال الأوزاعي: سبحان الله! أيظن هذا أن شيئًا من الكذب يباح؟!
وقال الواقدي: قال الأوزاعي: كنا قبل اليوم نضحك ونلعب, أما وقد صرنا يقتدى بنا فلا نرى أن يسعنا ذلك وينبغي أن نتحفظ.
قال ابن كثير: لا خلاف أنه مات مرابطًا في سبيل الله - رحمه الله – فأي حياة تلك وأي عبادة ؟!
- أمر بالمعروف ونهي عن المنكر:
لقد كان الإمام سيفا مسلطا على المنكر بشتى أصنافه وألوانه خصوصا في مواقفه مع الظلمة الذين كانوا ربما نالوا من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم أو آذوا أهل سنته , قال ابن كثير: لما دخل الأوزاعي دمشق ناداه الأمير السفاح الذي قاتل بني أمية وأجلاهم من الشام, فتغيب عنه الأوزاعي ثلاثة أيام, ثم طلبه ثانية فحضر بين يديه , ويحكي لنا ابن كثير القصة على لسان الأوزاعي فيقول : قال الأوزاعي: "دخلت عليه وهو على سرير وفي يده خيرزانة والمسوّدة عن يمينه وشماله, معهم السيوف مصلتة والعمد الحديد, فسلمت عليه, فلم يرد السلام, ونكت بتلك الخيزرانة التي في يده, ثم قال: يا أوزاعي, ما ترى فيما صنعنا من إزالة أيدي أولئك الظلمة؟(115/811)
أجهادًا ورباطًا هو؟ فقلت: أيها الأمير قال عمر بن الخطاب: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (إنما الأعمال بالنيات...) فنكت بالخيزرانة أشد ما كان ينكت, وجعل من حوله يقبضون أيديهم على قبضات سيوفهم, ثم قال: يا أوزاعي, ما تقول في دماء بني أمية؟ فقلت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس, والثيب الزاني, والتارك لدينه المفارق للجماعة), فنكت بها أشد من ذلك.
لقد جمع الأوزاعي رحمه الله في عبادته لربه بين شتى أنواعها وصنوفها سواء إخلاص العمل أو شفافية النصيحة أو بذل الجهد بالمال والوقت والجسد أو رقة القلب ودفق العين ..
ثم قال: ما تقول في أموالهم؟ فقلت: إن كانت في أيديهم حرامًا فهي حرام عليك أيضًا, وإن كانت لهم حلالاً فلا تحل لك إلا بطريق شرعي... وانتظرت رأسي أن يسقط بين يدي, وضم الناس ثيابهم لئلا تتلوث من دمي, وقرب مني السيوف, ثم أمرني بالانصراف, فلما خرجت إذا برسوله من ورائي, وإذا معه مائتا دينار, فأمرني بأخذها, فأخذتها لا لشيء إلا خوفًا, فوقفت فتصدقت بها قبل أن أبرح المكان ورسول الأمير وجنده ينظرون إليّ.
قال ابن كثير: ولما دخل المنصور الشام أوقفه الأوزاعي ووعظه موعظة شديدة, فألقى الله في قلب المنصور الإعظام له.
قال ابن كثير: كان الأوزاعي في الشام معظمًا مكرمًا أمره أعز عندهم من أمر السلطان, وكان لا يدخل أبواب السلاطين إلا واعظًا أو آمرًا بمعروف أو ناهيًا عن منكر.
ولما مات جلس على قبره بعض الأمراء فقال: يرحمك الله, فوالله لقد كنت أخاف منك أكثر مما أخاف من الذي ولاَّني - يعني المنصور -.
رحيل .. ولنا البكاء على الذكرى ..
* قال أبو بكر بن أبي خيثمة: كنت جالسًا عند الثوري, فجاءه رجلٌ فقال: رأيت كأن ريحانة من المغرب قد قلعت, قال الثوري: إن صدقت رؤياك فقد مات الأوزاعي. فجاء موت الأوزاعي في ذلك اليوم, قال:وما خلف ذهبًا ولا فضة ولا عقارًا ولا متاعًا إلا ستة وثمانين درهمًا أنفقوها على تجهيزه, وكان قد مات مرابطًا في سبيل الله - رحمه الله –
* انظر ترجمته في: البداية والنهاية6/118وما بعدها، تهذيب سير أعلام النبلاء 2/596 وما بعدها، صفة الصفوة 4/215 وما بعدها.
ـــــــــــــــــــ
كيف نحقق الإبداع في مناهجنا التعليمية والتربوية؟
السيد أبو داود
12/11/1427
ارسل تعليقك ...
لا توجد تعليقات ...
ارسل الصفحة ...(115/812)
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
التقدم العلمي لا يمكن تحقيقه بدون تطوير القدرات الإبداعية عند الإنسان، ومجتمعاتنا العربية والإسلامية هي في أمس الحاجة إلى أفراد يتميزون بالقدرة على التفكير الإبداعي حتى يستطيعون مواجهة مشكلات الحياة في مختلف الميادين وتقديم الحلول الجديدة والمبتكرة لتلك المشكلات. وقد أكد العلماء أن النشاط الإبداعي الحقيقي للإنسان الناضج هو نتاج عملية طويلة، حيث إن إبداع الطفل يشكل الأساس الأول في هذه العملية.
دور الوالدين في تنمية الإبداع
بداية يؤكد د. سيد صبحي (أستاذ التربية بجامعة عين شمس) أن اتجاهات الوالدين الخاطئة تربويًا ونفسيًا كالتسلط والحماية الزائدة والإهمال وإثارة الألم النفسي والتذبذب والتفرقة في معاملة الأبناء تؤثر تأثيرًا سلبيًا على قدرات الأبناء الإبداعية. أما الحرية وتضاؤل العقاب أو تزايد التشجيع الذي يوفره الوالدان فإنه يساعد على تشكيل الأسلوب العام لحياة العالم. وقد أثبتت الدراسات أن آباء وأمهات العلماء المبتكرين يرسيان معايير أسرية قوامها حب المعرفة والحرية في متابعة العلوم والتشجيع.
التقدم العلمي لا يمكن تحقيقه بدون تطوير القدرات الإبداعية عند الإنسان، ومجتمعاتنا العربية والإسلامية هي في أمس الحاجة إلى أفراد يتميزون بالقدرة على التفكير الإبداعي حتى يستطيعون مواجهة مشكلات الحياة في مختلف الميادين وتقديم الحلول الجديدة والمبتكرة لتلك المشكلات. وقد أكد العلماء أن النشاط الإبداعي الحقيقي للإنسان الناضج هو نتاج عملية طويلة، حيث إن إبداع الطفل يشكل الأساس الأول في هذه العملية.
وتؤكد الدراسات أيضاً على أن أساليب التربية المدرسية لها دور في تنمية قدرات التفكير الابتكاري للشباب. وقد ثبت أن الدروس العلمية تكون ذات نتائج عالية إذا تم تحضيرها بشكل جيد على أن يقوم المعلم بدور المنظم والمستشار فقط دون أن يعطي المعلومات الجاهزة، كما أن حجرة الدراسة المفتوحة تنمي الإبداع الفردي، بينما تركز حجرة الدراسة التقليدية على تدريس الحلول الجاهزة للمشكلات أكثر من تكوين الاتجاه نحو حل هذه المشكلات.
النقد البناء مدخل أساسي
أما الدكتور جابر عبد الحميد (أستاذ علم النفس التربوي) فيشير إلى العديد من النقاط لتنمية التفكير الإبداعي وهي: تنمية حساسية الأطفال للمثيرات البيئية، و توفير جو أخلاقي وهدوء واستقرار نفسي، و تعليم الطفل احترام تفكيره الابتكاري، وتشجيع الشباب من خلال تسجيل ابتكاراتهم ووضع تصورات عنها على الورق، والتعرف على المعلومات العلمية الابتكارية بطريق الاكتشاف الذاتي، وأن يضع الشاب أمامه مشكلة مثيرة ويطرح الأسئلة ويثير النقاش ويحاول أن يضع الحلول المنهجية، إلى جانب ضرورة توفير الهدوء والتهيؤ الذهني لدى التلاميذ، وتنمية قدرتهم على النقد(115/813)
البناء واكتساب المعارف من ميادين مختلفة ومتنوعة، إلى جانب تنمية روح المغامرة والتشجيع على عادة استخلاص المضامين الكاملة للأفكار.
احترام أسئلة التلميذ
ويرى الدكتور فؤاد أبو حطب أستاذ علم النفس أن احترام أسئلة التلميذ وخيالاته وإظهار قيمة أفكاره مهما كانت بسيطة يشجعه على تنمية قدراته الإبداعية إلى جانب الإكثار من القراءة في مجالات مختلفة وإيجاد تنافس شريف وبناء بين التلاميذ.
أما بالنسبة للمعلم فيجب عليه مراعاة الفروق الفردية بين التلاميذ وإيجاد مواقف تنمي تفكيرهم، وتشجيع التلاميذ على تقديم المقترحات والأفكار ومناقشتها حتى وإن كانت غير ذات أهمية كبيرة.
بينما يرى د. سيد خير الله أستاذ التربية أنه قد تكون لدينا ظروف معوقة للتفكير الابتكاري كالاعتقاد بأن الفرد عليه أن يساير المجتمع من حوله وكذلك يساير آراء الكبار، ولذا فقد يعاني الشخص المبتكر من الصراعات والمخاوف الناتجة عن الصراعات، والمخاوف الناتجة عن الضغوط المحيطة مما قد يعوق تفكيره عن التجديد والابتكار.
وهناك ضرورة في أن تهتم المنظمات الاجتماعية والتعليمية والجامعية بتنمية القدرات الابتكارية في شتى العلوم، فضعف الإمدادات المادية ليس السبب الأهم في إعاقة القدرة على الإبداع والتفكير لدى الشباب، بل إن التطلع إلى الماديات والكسب السريع وحب السلطة من أكبر أسباب حصار النمو الإبداعي الفعال.
وتؤكد الدراسات أيضاً على أن أساليب التربية المدرسية لها دور في تنمية قدرات التفكير الابتكاري للشباب. وقد ثبت أن الدروس العلمية تكون ذات نتائج عالية إذا تم تحضيرها بشكل جيد على أن يقوم المعلم بدور المنظم والمستشار فقط دون أن يعطي المعلومات الجاهزة، كما أن حجرة الدراسة المفتوحة تنمي الإبداع الفردي، بينما تركز حجرة الدراسة التقليدية على تدريس الحلول الجاهزة للمشكلات أكثر من تكوين الاتجاه نحو حل هذه المشكلات
دراسة ميدانية
ومن جانبه أعد د. مرزوق عبد المجيد أستاذ مناهج التربية دراسة ميدانية حول عوامل تنمية التفكير الإبداعي في مرحلة الطفولة وخلص إلى أن البيئة الأسرية لها أهمية كبيرة في تنمية التفكير الإبداعي للأطفال بما تحتويه من عوامل الرعاية الوالدية وأسلوب التربية الذي يشجع على الاستقلالية في التفكير واتباع أسلوب التفاهم في الحوار والمناقشة، وحرص الأبناء على النشاط والتخلص من الكسل والخوف، وبعد الوالدين عن التسلط والتدليل الزائد، هذا بالإضافة إلى أهمية دور المعلم واتساع أفقه وحرصه على إعطاء الفرصة للتفكير فيما يصادف الشباب من مشكلات ،وتشجيعهم على طرح الأسئلة وإيجاد أفكار حسنة، وحثهم على المناقشة والمنافسة الأخلاقية، إلى جانب تشجيع الشباب على القراء والاطلاع في مختلف فروع العلم والمعرفة، وعدم الاقتصار على موضوعات الدراسة الأكاديمية وزيارة المكتبات والأندية العلمية.(115/814)
ويرى د. مرزوق أيضًا ضرورة عدم الاهتمام بالأفلام والمسلسلات الهابطة التي تصرف الشباب عن تحصيل العلم والتفكير الإبداعي الإنمائي، ويدعو إلى ضرورة حرص المجتمع والمدرسة والمعلم ووسائل الإعلام على غرس القيم وحب العلم من منطلق أننا خير أُمَّة أُخرجت للناس، ولابد لنا أن نتبوء مكانتنا اللائقة بنا كرواد مسلمين.
اتهام غربي ظالم
ومن جانبهم يوجه المستشرقون والغرب عمومًا ومعهم العلمانيون في بلادنا انتقادات حادة إلى المسلمين بأنهم يربون أبناءهم على اتباع النصوص وحفظها ولا يربونهم على الابتكار، فهم متبعون وليسوا مبدعين. ترى هل هذا الاتهام صحيح؟ وهل العقلية الإسلامية فعلاً عقلية غير مبدعة وغير مبتكرة؟
يقول د. عبد الغني عبود (أستاذ التربية المقارنة والمناهج بكلية التربية جامعة عين شمس): إنه لا إبداع دون اتباع؛ لأن الأمر في هذه الحالة يتحول إلى فوضى، والفوضى لا يمكن أن تكون إبداعًا على الإطلاق. إن الفهم الصحيح للإبداع يعني أن أفكر في الواقع الذي أعيشه وأن أستوعبه وأتفاعل معه وأنفعل به ثم أحاول تطويره، وهذا هو قمة الإبداع.
فالإبداع لا يأتي من فراغ وإنما يأتي من الواقع المعاش ومحاولة نقله من صورة إلى صورة مختلفة، وهذه الصورة المختلفة في الإسلام تكون في إطار عام هو إطار التوحيد والعبودية لله. وإذا نظرنا إلى القضية من هذه الزاوية فإننا نجد أن الإسلام هو السباق إلى هذا الإبداع العاقل المتزن الملتزم الذي يسعى لصالح الإنسان بدليلين: الدليل الأول الحديث النبوي الشريف (من سن سنَّة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة لا ينقص من أجورهم شيئًا، ومن سن سنَّة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة لا ينقص من أوزارهم شيئًا).
أما بالنسبة للمعلم فيجب عليه مراعاة الفروق الفردية بين التلاميذ وإيجاد مواقف تنمي تفكيرهم، وتشجيع التلاميذ على تقديم المقترحات والأفكار ومناقشتها حتى وإن كانت غير ذات أهمية كبيرة.
والحديث دعوة مباشرة إلى الإبداع على أن يكون هذا الإبداع منضبطًا وعقلانيًا وليس إبداعًا شيطانيًا. والدليل الثاني أن الإسلام فيما يتصل بمسائل الدنيا جعل كل شيء حلالاً إلا ما نزل نص بتحريمه، ومعنى ذلك أن المسلم مطالب بأن يجتهد في أمور دنياه ما شاء طالما لن يتعرض لنص قاطع. وتدل التجربة الإسلامية في العصرين الأموي والعباسي وحتى في عصر الخلافة الراشدة على أن المسلمين عندما فهموا هذا الأمر جيدًا استطاعوا أن يبدعوا حضارة قامت على معطيات فكرالفرس والروم واليونانيين والهنود، وكل العلم الذي وقعوا عليه دون أن يجدوا في ذلك حرجًا على الإطلاق ، ومن كل تلك الروافد كانت حضارة الإسلام التي نتباهى بها إلى اليوم.
أما الذين يقولون بأن الحفظ ضد الإبداع فنحن نقول إنه لا إبداع دون مخزون يقوم عليه هذا الإبداع، فلا إبداع من فراغ، وإنما يكون الإبداع بناء على معطيات محفوظة يتم تقليدها والنظر إليها بنظرة نقدية واعية حصيفة. فالإبداع لا يأتي من فراغ إلا في(115/815)
حالة الأطفال الذين في سن المهد أو إبداع المجانين . فالذاكرة أساس على ألا تكون هذه الذاكرة ذاكرة ببغاء تقوم على ترديد دون وعي ودون فهم ودون نقد. وكيف يتهم المسلمون بأنهم يحفظون ولا يبدعون رغم أن علم الحديث عندهم قام في البداية على حفظ مئات الألوف من الأحاديث ثم طبقوا بعد ذلك منهج الشك والتثبت في النقد والجرح حتى صار هذا العلم علومًا متعددة تشكل آلية متكاملة لأسس البحث العلمي وتمييز الحق من الباطل.
وإذا كان الغربيون يتهموننا بأننا تقليديون وحفاظ، فإننا نقول إن الأمريكيين أكثر الناس تقليدية، فلا زال وليم جيمس الذي مات منذ قرنين مقدسًا عندهم ويرددون كلامه، وكذلك جون ديوي .
إن كل مفكري البرجماتية الأمريكية لا يزالون يعيشون في فكر كل أمريكي يعيش اليوم. فالأمريكيون أكثر تقليدية ولكنهم يقلدون النمط البرجماتي النفعي الذرائعي الذي هو دين الأمريكيين. هذه النفعية الذرائعية تنظر إلى الأمور بمقياس قيمتها ومردودها المادي، أما نحن فتقليديون على مذهب نبذ الدنيا وليس هجرها، وإنما نجعل لها مثلاً أعلى رفيعًا نعيش له أو نموت على طريقه.
الإسلام دعوة للتأمل وإعمال العقل
أما د. حسن شحاتة أستاذ التربية ورئيس مركز تطوير التعليم بجامعة عين شمس فيقول: إن الإسلام دين يدعو إلى التفكير وإعمال العقل ويدعو إلى الإبداع من خلال مثلث أضلاعه التسامح والحرية والبهجة.
والتعليم في الإسلام يتم في إطار هذا المثلث، وهذا التعليم يدفع المتعلم إلى الإبداع والاختراع والابتكار. والنصوص الإسلامية كلها دعوة إلى التأمل والنظر واستخدام العقل وذم التقليد والمقلدين، ودعوة إلى التعلم والتفقه، وهي دعوة إلى التأويل والتفسير. والتأويل في الإسلام متعدد الرؤى والنظر نتيجة لاختلاف التفكير والفهم في الإطار الإسلامي.
إن تفسير النصوص في هذا الإطار، وفي إطار أن الإنسان مسئول عن عمارة الكون وعبادة الله، وأنه يجمع بين خيري الدنيا والآخرة، هو الذي حكم المسلمين رغم اختلاف الزمان والمكان.
فكيف يكون الإنسان المفكر الذي يعمل لدنياه وأخراه إنسانًا آليًا مبرمجًا؟ إن لدينا تفسيرات مختلفة للقرآن عبر العصور وليست كلها نسخًا متطابقة، وإنما هي فهم متعدد للنصوص، وإضافات تتفق مع سعادة ومستقبل الإنسانية. فهل العقليات التي فعلت ذلك عقليات آلية ومبرمجة أم عقليات حية مبدعة؟.
إن معرفة الناسخ والمنسوخ من القرآن، والخاص والعام، والمطلق والمقيد، والمحكم والمتشابه، وفهم الأحاديث النبوية التي هي بمثابة المذكرة التفسيرية للقرآن الكريم، وربط هذه الأحاديث بالقرآن، كل ذلك يشكل فهمًا وإبداعًا، ولا يستطيع العقل الجامد أن يقوم بهذه المهمة. إن الإنسان مسئول عن تصرفاته وأفعاله أمام الله، فكيف يكون هذا الإنسان المسئول المكلف إنسانًا لا يفكر؟.
إن الإسلام يدعونا إلى الاجتهاد وإعمال العقل ففي الحديث النبوي (من اجتهد وأصاب فله أجران ومن اجتهد وأخطأ فله أجر). والمسلمون الذين تفوقوا في العلوم(115/816)
والآداب دليل على العقلية المسلمة وبراعتها في التفكير والتدبر. أليست العمارة الإسلامية والهندسة الإسلامية وفن المعاملات التجارية دليل على تفكير عميق وإعمال كامل للعقل؟
ويضيف د. حسن شحاته: إن الإسلام يدعو إلى تغيير الذهنية ويخاطب القوى المفكرة لا القوى الحافظة. كما أن حفظ المسلمين لكتاب الله وللأحاديث النبوية لا يتناقص أبدًا مع قدرتهم على التفكير وإعمال العقل والربط بين النصوص والاستنباط.
أليست المذاهب الإسلامية الفقهية بما تحتويه من مناهج استنباط ومسائل رياضية كلها تفكير وفهم عميق وتدبر؟
أهمية الخصائص الشخصية والوسط الاجتماعي
بينما يرى المفكر الإسلامي د. محمد يحيي إن الكثيرين من أئمة الإسلام المجددين كانوا دائمًا يحاربون التقليد الأعمى الذي هو تقليد المذاهب وتقليد المجتهدين بدون إعمال للنظر والعقل، وبدون استقلالية في النظر، وحتى العلماء المعاصرون المجددون كثيرًا ما يوجهون الأنظار إلى عدم التقليد الأعمى. وهكذا فإن الإسلام كله مقاومة للتقليد الأعمى بدون إعمال النظر والتدبر.
والعلماء المسلمون كثيرًا ما انتقدوا الصوفية الذين يتبعون شيخًا معينًا ويقلدونه دون التبصر بحاله، والتقليد مذموم طالما جاء من إنسان قادر على التفكير وإعمال العقل، أما عوام الناس الذين ليست لديهم القدرة على التفكير والنظر فلا لوم عليهم طالما كانوا يتتبعون مذهبًا محترمًا أو عالمًا ثقة. وإذا كان الغرب ينتقد المسلمين ويصفهم بأنهم عقول متبعة للنصوص وليست عقولاً مبتكرة فإن هذه المذمة موجودة لديهم في الغرب وليست بنت العقلية المسلمة، فالمذاهب الكبرى في الغرب سواء كانت دينية أم دنيوية كلها قائمة على التقليد وعدم الابتكار. والكنائس الأوروبية تخاطب أتباعها على أساس أن عليهم السمع والطاعة والتنفيذ والخضوع.
كما أن العلمانية والمذاهب العقلية الغربية حينما أسست أحزابًا مثل الأحزاب الشيوعية فإنها أسستها على الطاعة العمياء للقائد الذي هو ملهم وعبقري. وحتى البروتستانتية التي قامت على عدم التقليد فإنها ما لبثت أن عادت وبنت كنائسها على التقليد.
ويضيف د.محمد يحيي أن اتهام العقلية المسلمة بصفة خاصة بالتقليدية لأنها قائمة على اتباع النصوص اتهام غير صحيح، فالأمر يعود إلى طبيعته الشخصية، فقد يكون لدى الشخص قدرات عقلية جيدة ويسعى لتكوين رأي مستقل، وهذا الإنسان لن يكون مقلدًا سواء كان مسلمًا أو غير مسلم، أما إذا كان الشخص متواضع القدرات الفكرية فسوف يكون مقلدًا حتى ولو كان علمانيًا أو شيوعيًا أو ملحدًا.
كما أن قضية التقليد والإبداع ترتبط ارتباطًا وثيقًا بقضية التربية والوسط الاجتماعي الذي ينشأ فيه الطفل، فإذا نشأ الطفل في وسط اجتماعي يشجع العلم والتعليم والقراءة والمناقشة والنقد فسوف يتعود الطفل على الاستقلالية والنقد والتفكير وربما الابتكار والعكس صحيح.(115/817)
وإذا كان المقصود بالابتكار هو الابتكار العلمي فإن حضارة المسلمين مليئة بالابتكار في مختلف المجالات من هندسة وجبر وفلك وفيزياء وكيمياء وطب، كما أن الحضارة الإسلامية مليئة بالفنون التشكيلية المتنوعة.
نحن والنمور الآسيوية.. مقارنة منطقية
أما د. نافع الشبيلي (الباحث بالجامعة اليابانية)، فيقول: إننا في مسيرة النهضة والتحديث قد انطلقنا مع بعض دول شرق آسيا من نفس النقطة منذ نصف قرن تقريبا فأين موقع الخلل وكيف يمكن تفسير الفجوة العميقة التي تفصلنا عنهم اليوم؟
لا يمكن تبرير كل هذا الفشل بواقع انشغال العالم العربي عن قضايا التنمية الاقتصادية و الديمقراطية بمسائل تعزيز الوحدة الوطنية و تحرير الأرض والاستعداد لأمهات المعارك، لأن الاحتجاج بمثل هذه الذرائع يثبت بطلانه بمجرد الاطلاع علي تجارب الأمم التي عاشت ظروفا مماثلة، فبذور التوتر بين ما يعرف بنمور شرق آسيا الصاعدة أكثر تشابكا من قضية الصراع العربي الإسرائيلي.
لقد ساورت الشكوك بعض مفكري اليابان بعد الهزيمة القاسية و ظنوا أن حضارتهم و قيمهم قد اندحرت ولكن العقل الياباني سرعان ما فجر بركاناً من ثورة المعرفة التي اكتسبت صفة المعجزة من قفزها علي قوانين التاريخ و شروط التجربة الإنسانية، ومن تحالف رأس المال والذكاء برعاية الإدارة النزيهة المرنة ولدت النهضة الصناعية التي ما لبثت أن تسربت عبر البحر الأصفر إلى محيطها الحيوي الطبيعي المتمثل في بقية بلدان شرق آسيا. ولم يكن هذا الانبعاث ممكنا لولا الثورة التعليمية الشاملة والمستديمة التي هي السند الأساسي لكل نهضة في زمن لا يعلو فيه صوت فوق صوت المعرفة. لقد كنت في ضيافة الجامعة الكورية وقرأت حواراً مع الرئيس الكوري، الذي تطرق إلى ضرورة عمل الدولة علي تشجيع استقطاب الذكاء واستقدام المزيد من نوابغ الطلاب والأكاديميين من الأمم المجاورة، وخاصة من الصين وكوريا الشمالية والهند وروسيا، لأن ضخ المزيد من الذكاء هو السبيل الوحيد لدعم الحركة العلمية في كوريا مما يعزز القدرات التكنولوجية و الصناعية للبلاد.
عبر مثل هذه الخيارات الحكيمة الممزوجة بجرعات متزايدة من الديمقراطية تسير كوريا نحو المستقبل بكل ثقة حتى صارت كل مقارنة لها بالعالم العربي تمثل حطاً من قدرها. وبلغة الأرقام فإن عدد براءات الاختراع المسجلة خلال العشرين عاماً الأخيرة من القرن الماضي في أكبر تسعة بلدان عربية نجد أنها بلغت 370، في حين سجلت كوريا الجنوبية وحدها خلال الفترة ذاتها 16328 براءة اختراع. ومع كل براءة اختراع فرص عمل جديدة و تصنيع و استثمار وتصدير ومستويات جديدة من التقدم و الرفاه.
ـــــــــــــــــــ
فصول في التدمير الذاتي
نوال الدوسري
4/11/1427
ارسل تعليقك ...(115/818)
لا توجد تعليقات ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
الجمع مابين الرغبة والقدرة على نقد الذات بصورة صحيحة قد لا يتأتى دائماً ، كما أن إساءة تطبيق هذا المفهوم عند البعض بحيث يرتكز النقد على جملة " انتقادات " للمساوئ والعيوب ، و تجاهل مستمر للمحاسن والمزايا دون تقديم حلولٍ جديّة لتجاوز تلك المثالب يحوّل "النقد الذاتي" في لحظة خاطفة إلى صورة مزرية وعقيمة من صور "التدمير الذاتي "! وعلى العكس من النتائج الإيجابية المرجوة من عملية نقد ذاتي صحّي وصحيح ، لا نخرج في العادة من جَلد الذات إلا بأرواح مرهقة منكسرة تعيش حالة "مَرَضية" من الكراهية والاستياء القابلين للامتداد خارج حدود الفرد!
يعتقد البعض أن قمة الشجاعة والموضوعية أن تستعرض عيوبك وعيوب الآخرين وأن تظل ترددها على مسامع من حولك دون تمييز, بينما هناك خيط دقيق يفصل مابين الشجاعة المحمودة والتهور المعيب في هذا الأمر ، أما ادعاء الموضوعية فليس قابلاً للتوظيف هنا لأن أبسط تعريف للموضوعية بمعناها العام هو أنها (إدراك للحقائق عبر نظرة شمولية متفحصة لكل الزوايا من غير التحيز لقطب ضد قطب آخر) فهل في وسع أحد الكمون في الجانب المظلم ويدّعي أنه يرى الأشياء؟؟!
يعتقد البعض أن قمة الشجاعة والموضوعية أن تستعرض عيوبك وعيوب الآخرين وأن تظل ترددها على مسامع من حولك دون تمييز, بينما هناك خيط دقيق يفصل مابين الشجاعة المحمودة والتهور المعيب في هذا الأمر
لا يكمن الخطأ هنا في تبني هذه النظرة السلبية في محيطها الفردي وحسب ، بل في تعميم هذه الممارسة الخاطئة للنقد الذاتي على المشهد المحلي والعربي والإسلامي ! وأن تتبنى عملية التدمير الذاتي للشخصية العربية المسلمة أقلام ومنابر إعلامية لا تفتأ تسلخ جلد مجتمعاتها بجريرة أو من دون جريرة! نمط مستقل من الكتابات يطفو فوق صفحات الجرائد ويطل علينا إذا واجهه الضمور عبر بوابة الفضائيات ..لا تحتاج في الحقيقة إلى جهد كبير كي تجمع حصيلة لا بأس بها من الأسماء " التدميرية" الهوى! فصراخها يسبق حضورها.. وقلما تفتح صحيفة لا تجد فيها خمسة كتّاب على الأقل يمارسون هذه الوصلة " السوداء" بشكل مكثف عبر أطروحاتهم! ولا يخرج المتابع لهم بغير كراهيته لنفسه ومجتمعه وأمته !! ويقينه بأنه يعيش وسط جملة من الأخطاء ، و إحساس كئيب يغلّفه بالضعة والدون!
إن المبالغة في استعراض العيوب وتضخيم السلبيات ليست بالعمل الجريء والجبّار الذي تتخيل بعض الأقلام أنها " تتفضل به" لدفع عجلة الثقافة والإعلام وتطور المجتمعات! وإذا استثنينا بعض من غرّر بهم الألم ووطأة المرحلة فجنح بهم تيار العاطفة إلى السخرية والهجوم الهستيري..فإننا نبقى مع عدد من الأقلام يدفع بعضها الجهل والانسياق، وبعضها الحقد ، وبعضها الجبن، وبعضها الشعور بالنقص، وبعضها الجري خلف الأضواء ، يفتّون في عضد الأمة وأفرادها وهي في أشد(115/819)
الحاجة لزرع الثقة والوعي المتبصر وتأصيل معاني النهضة والاستنهاض، وإن كان من الخداع إعطاء صورة مغايرة للحقيقة ، فليس من الصدق " قص" أجزاء من الصورة الحقيقية وإخفاء معالم منها عن سبق عمد! ومهما كان التبرير المساق هنا ،ومهما أثير بين الحين والآخر حول ضرورة تشخيص الأمراض , فمن العبث أن نتخيل أن هذا يعطينا الحق في معاملة النسر المريض كدجاجة!!
ـــــــــــــــــــ
ماذا ستكتب على جدار الزمن ؟!
مشعل الفلاحي
3/11/1427
ارسل تعليقك ...
تعليقات سابقة ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
Mashal001@hotmail.com
هل تذكر حين ولجت هذه الأرض ؟ حين عانق صوتك هذا الفضاء الواسع ؟ أول وهلة تسقط على تراب هذه الأرض هل تعلم أن صراخك ذلك اليوم كان شديداً ؟
تذكّر طول تلك الرحلة بين قدومك أمس وليداً صغيراً ، وبين وجودك اليوم رجلاً كبيراً ... ودعني أسائلك : ماذا كتبت على جدار هذا الزمن ؟
أين آثارك التي تحتفل بها اليوم ذكريات جميلة على جدار هذا الزمن الطويل ... ؟
عذراً لا أود أن أوجع ظهرك بسياط التأنيب .. كلا ! وإنما أريد أن أرى آثارك واضحة لأحتفل بها ، وأخطو على أثرها ، وأكتب بها شيئاً من ذكريات الأحبة من أمثالك . وجدت هذا العنوان ماذا ستكتب على جدار الزمن ؟ وأنا أتصفح النت ، ووجدت بعضاً من الناس كتب تعليقاً عليه : يقول الأول : سأكتب لو يعلمون ........!! وآخر كتب قائلاً : لن تجدونني .... حينها تذكروا أن لي قلباً نبض حباً لكم لكنكم لم تنصفوه ... وثالث كتب : إن خير الزاد التقوى ... ورابع خط بقلمه فقال : حتى البكاء كان شحيحاً ..
هل تذكر حين ولجت هذه الأرض ؟ حين عانق صوتك هذا الفضاء الواسع ؟ أول وهلة تسقط على تراب هذه الأرض هل تعلم أن صراخك ذلك اليوم كان شديداً ؟ تذكّر طول تلك الرحلة بين قدومك أمس وليداً صغيراً ، وبين وجودك اليوم
وكتبت أنا قائلاً : الحياة فرصة واحدة فإما فلاح الراشدين وإما عثرات النائمين ... الحياة فرصة لا تحتمل نوماً ثقيلاً ، ولا جلوساً طويلاً ، الحياة صفحة بيضاء فإما تاريخ الناجحين وإما نوم الغافلين ! وإذا كانت النفوس كباراً .... تعبت في مرادها الأجساد . ومن علامة كمال العقل علو الهمة ! والراضي بالدون دنيء . ولم أر في عيوب الناس عيباً ... كنقص القادرين على التمام .
يقول شيخ الإسلام رحمه الله تعالى : العامة تقول : قيمة كل امرئ ما يحسن ، والخاصة تقول : قيمة كل امرئ ما يطلب . اهـ وقال ابن الجوزي رحمه الله تعالى :(115/820)
وما تقف همة إلا لخساستها ، وإلا فمتى علت الهمة فلا تقنع بالدون ، وقد عُرف بالدليل أن الهمة مولودة مع الآدمي ، وإنما تقتصر بعض الهمم في بعض الأوقات ، فإذا حُثّت سارت ، ومتى رأيت في نفسك عجزاً فسل المنعم ، أو كسلاً فسل الموفّق فلن تنال خيراً إلا بطاعته ، فمن الذي أقبل عليه ولم ير كل مراد ؟ ومن الذي أعرض عنه فمضى بفائدة ؟ أو حظي بغرض من أغراضه ؟ اهـ
يظل العنكبوت من حين يولد ينسج لنفسه بيتاً ولا يقبل منّة الأم ، والحية تطلب ما حُفر لها إذ طبعها الظلم ، والغراب يتبع الجيف ، والصقر لا يقع إلا على الحيِّ ، والأسد لا يأكل البايت ، والخنفسا تُطرد فتعود . اجتمع عبد الله بن عمر ، وعروة بن الزبير ، ومصعب بن الزبير وعبد الملك بن مروان في فناء الكعبة فقال لهم مصعب تمنوا فقالوا : ابدأ أنت ، فقال : ولاية العراق ، وتزوّج سكينة ، وعائشة بنت طلحة بن عبيد الله فنال ذلك وأصدق كل واحدة خمس مئة ألف درهم وجهزها بمثلها . وتمنى عروة بن الزبير الفقه وأن يُحمل عه الحديث فنال ذلك ، وتمنى عبد الملك الخلافة فنالها ، وتمنى عبد الله بن عمر الجنة وتلك همم القوم ، وآمالهم . ولقد قال الأول :
وقائلة :لم غيرتك الهموم وأمرك ممتثل في الأمم
فقلت : ذريني على غصّتي فإن الهموم بقدر الهمم
قم يا أيها الحبيب واركل كل عثرة في الطريق ، واكتب للناس قول القائل :
ومن يتهيّب صعود الجبال يعش أبداً تحت الحفر
قم يا أيها الفاضل إلى الدنيا ، قم فاكتب على صفحاتها قول القائل :
قلت للصقر : وهو في الجو عالٍ اهبط الأرض فالهواء جديب
قال لي الصقر : في جناحي وعزمي وعَنان السماء مرعىً خصيب
قم يا أيها الصادق إلى هذه الحياة الطويلة واكتب على صفحاتها ذكرياتك الجميلة . قم إلى الحياة فخلّد فيها معاني النضال والحرية الحقيقية ، قم إليها مبتسماً متفائلاً مقبلاً إقبال الهمام ولا يغرنّك ما فات منها فإنها لا زالت سانحة ، وفي العمر بقية ، وصفحة الحياة لا زالت بيضاء ، والقلم لم يغمد بعد . قم ولا تلتفت إلى كبوات الماضي فهي سلالم النجاح اليوم ، قم بشرط أن تكون متفائلاً ، راضياً ، هماماً ، طموحاً .
هذه الحياة أحوج ما تحتاج إلى همة عالية ، وابتسامة صافية ، وتفاؤل عريض ، وقلب وفيٌّ حبيب ، وقبل ذلك وبعده صدق في الإقبال على الله تعالى فما نيلت الفردوس الأعلى إلا بآمال الفالحين الصادقين . هذه كلمات اجترتها تلك المقالة على صفحات الشبكة العنكبوتية .. وهي بعض ما أكتبه على جدار الزمن . والله يتولاك برعايته .
ـــــــــــــــــــ
مدرسة الصبر..
حسن الأشرف
23/10/1427
ارسل تعليقك ...
لا توجد تعليقات ...
ارسل الصفحة ...(115/821)
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
تترع الحياة بكثير من المتناقضات وتحفل بعديد من الثنائيات تجعل هذه الحياة الدنيا لا تسير على نسق واحد ولا على نظام راتب، فهي مليئة بالفرح والحزن، والحب والكراهية، والغنى والفقر، والأمل واليأس، والراحة والتعب، والسعادة والشقاء، والضعف والقوة؛ فطبيعة الحياة بمثل هذه السعة وبحجم هذه المفارقات تستدعي من الإنسان المسلم أن يواجه الجوانب الصعبة من حزن وكراهية وفقر وتعب ومشقة ومشاكل ومكاره بجَلَد وإرادة حتى يجتازها بسلام، غير قانط من رحمة الله وفرجه، وذلك هو الصبر.
الصبر مدرسة الفلاح
يقول الله تعالى في محكم بيانه: " يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون " ففي هذه الآية ربط رباني واضح بين الصبر والفلاح، والخطاب الموجه إلى المؤمنين قرن الأمر بالصبر بالأمر بالرباط وتقوى الله عز وجل، بل جاء الأمر بالصبر قبل الأمر بالرباط وتقوى الله تبيانا لأهمية الصبر وحيويته في حياة المؤمن.
والصبر ليس كلمة تقال لا تتجاوز حلقوم الإنسان، أو شعورا عابرا يطرق قلب المسلم فلا يستقر فيه، بل إن الصبر سلوك يربي المرء وينقله من مرتبة السخط إلى منزلة الرضى، السخط من البلاء إلى الرضى بالقضاء، ومن مرتبة الجزع إلى منزلة الاطمئنان والسلام الداخلي، فلا يتغير الباطن عن الظاهر
والصبر ليس كلمة تقال لا تتجاوز حلقوم الإنسان، أو شعورا عابرا يطرق قلب المسلم فلا يستقر فيه، بل إن الصبر سلوك يربي المرء وينقله من مرتبة السخط إلى منزلة الرضا، السخط من البلاء إلى الرضا بالقضاء، ومن مرتبة الجزع إلى منزلة الاطمئنان والسلام الداخلي، فلا يتغير الباطن عن الظاهر. والصبر مكانه القلب وترجمانه اللسان ومرآته الجوارح، فالصبر الذي لا يقر في القلب ليس صبرا حقيقيا، والصبر الذي لا يترجمه اللسان بالحمد والشكر لله في جميع أحوال المؤمن ليس صبرا حقيقيا، والصبر الذي لا يظهر وجهه صافيا من خلال الجوارح كلها لا يعدو أن يكون صبرا مزيفا.
والصبر مدرسة لأنه يعلم الصابر متى وكيف يحبس نفسه على ما تكره، وكيف يؤدي الطاعات والقربات وقبلهما الفروض والواجبات، ويقف عند حدود الله ويبتعد عن المحرمات ولا يقترف المنكرات، راجيا رحمة الله _عز وجل_، راغبا في الجنة المحفوفة طريقها بالمكاره والصعاب والمشاق التي لا تنال إلا بالصبر عليها.
والصبر مدرسة أيضا لأنه في صفوفها يتم تدريس مادة غالية تفيد الإنسان في شتى مناحي حياته؛ فبدون صبر لن ينجح وهو مجرد طالب يدرس ويتلقى العلوم والمعارف والآداب: صبر على التعلم وعلى الجلوس الساعات الطوال أمام المعلم أو الشيخ وأمام الكتب للمراجعة والتحصيل، وبدون صبر ما حصل أحدنا على رزقه وسعى إليه سعيا، فالرزق يُنال عادة بالصبر على المثبطات والعراقيل، ولا يُنال هكذا(115/822)
اعتباطا فالسماء لا تمطر ذهبا ولا فضة، والصبر على الكد والتعب وعرق الجبين وسيلة للحصول على لقمة عيش في الحلال.
وبدون صبر لن يكون تقدم ولا نمو في أي مجال من المجالات الخاصة أو العامة، وما أثمر عمل الفرد وجهد الجماعة على خير البلاد والعباد، فلو لم يكن هناك صبر عند كل فرد من أفراد المجتمع وساد السخط وشاعت الشكوى، لانتهى كل عمل في بداياته غير كامل، فتصير الأعمال كلها ناقصة والمشاريع جميعها غير تامة، فتتوقف الحياة وتجمد دواليب المال والاقتصاد والتجارة والصناعة ومصالح الناس أيضا.
وبدون صبر لن يكون تقدم ولا نمو في أي مجال من المجالات الخاصة أو العامة، وما أثمر عمل الفرد وجهد الجماعة على خير البلاد والعباد، فلو لم يكن هناك صبر عند كل فرد من أفراد المجتمع وساد السخط وشاعت الشكوى، لانتهى كل عمل في بداياته غير كامل، فتصير الأعمال كلها ناقصة والمشاريع جميعها غير تامة،
الصبر بالله
حين جاء أبناء يعقوب عليه السلام إلى أبيهم عشاء يبكون، وقد زعموا أن الذئب قد أكل يوسف وجاءوا على قميصه بدم كذب خاطبهم بالقول: (فصبر جميل)، ولعل الصبر في مثل هذه الحالات هو الصبر عند الصدمة الأولى التي جاء في الحث عليها الدرجات العليا التي تقرب العبد من ربه زلفى.
وصبر يعقوب هذا هو صبر بالله لأنه استعان بخالقه في تحمل النبأ المدوي بفقد أعز أبنائه، وكذلك كل من يستعين بالله في شتى مناشط حياته ومفاصلها متغلبا على عراقيلها وحواجزها وأشواكها ومراراتها مخلصا النية لله _تعالى_ فهو صابر بالله. والأمر بالصبر بالله جاء أول ما جاء في مخاطبة الله تعالى لنبيه الكريم _عليه الصلاة والسلام_: "واصبر وما صبرك إلا بالله"، ولعل هذه المرتبة من أرقى مراتب الصبر وأحسنها.
الصبر في الله
مثل الحب في الله، يكون الصبر في الله سلوكا خالصا يبتغي به المؤمن وجه الله تعالى، وهذا المبتغى يستدعي الاتصال القلبي المباشر والعميق بالخالق سبحانه، فحين يكون الاتصال مباشرا وواضحا لا لبس فيه ولا شوائب تكدر صفوه، يتحقق الصبر في الله في أبهى تجلياته، فتصير العواصف الهوجاء مجرد نسائم رقيقة لا تهز شعرة واحدة في جسد الصابر الذي يعد هذه المحن منحا ربانية، إن صبر كان خيرا له وإن شكر كان خيرا له. وقد جاء في الصابرين قول الله تعالى الذي يتلى إلى يوم القيامة: "ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم رحمة وأولئك هم المهتدون".
فالصبر في الله مرتبة سامقة لا تتأتى إلا بالاختيار الرباني لعباده المؤمنين من خلال ابتلائهم بشيء من الخوف وذلك عند الحروب والكوارث الطبيعية والأحداث الأليمة، وبشيء من الجوع من خلال سنوات الجفاف وندرة الأمطار وشح الموارد الطبيعية، وأيضا بنقص من الأموال حينما يبتلى الصابرون بالفقر والحاجة، وبنقص في الأنفس عبر حوادث الوفيات بمختلف الأسباب الطبيعية وغير الطبيعية من حوادث السير(115/823)
والاختناقات ..فتأتي البشرى العظيمة مباشرة بعد هذه الابتلاءات للصابرين الذين يتذكرون الله تعالى ويذكرونه فور وقوع المصيبة..
الصبر لله
هو أن يكون الصابر صابرا لوجه الله تعالى وحده محبة له ورجاء فيه وخشية منه. وتتجلى أرقى صور مرتبة الصبر لله عندما يصبر المؤمن عن اقتراف المعصية أو حتى الاقتراب منها وهو قادر على فعلها، لأنه يحب الله خالقه ويراقبه في حركاته وسكناته ويخشى عذابه . ولعل قصة يوسف عليه السلام مليئة بدروس تربوية تتلألأ ببريق صبره لله وعجائبه، بدءاً من حسد إخوته له وكيدهم ثم رميه في البئر ، وحادثة تعلق امرأة العزيز به ومراودته عن نفسه، ثم ما حدث له من سجن وتنكيل بعدما كان يعيشه من رغد وحياة سهلة في بلاط العزيز، فكانت نتيجة الصابر بالله ما بلغه يوسف_عليه السلام_ من مكانة رفيعة، فقد صار بعد محنة السجن مشرفا على خزائن الأرض وسيدا مطاعا وعزيز مكرما. وقصة يوسف تشبه مع وجود الفارق قصة نبينا العظيم محمد _صلى الله عليه وسلم_، فيوسف أصابه أذى إخوته، ونبينا عانى من هذا الأذى من قومه وعشيرته الأقربين، ويوسف هاجر إلى مصر وهناك أكرمه الله بعد محن عديدة، وكذلك الرسول هاجر من مكة إلى المدينة بعد صبر بطولي عجيب، وهناك أكرمه الله تعالى ببناء الدولة الإسلامية وبانتشار الدين الإسلامي الذي يدعو إليه.
مدرسة الصبر بناية غير بعيدة عنا، وليست عسيرة الولوج، فقط تشترط هذه المدرسة من والجيها أن يكونوا مخلصين لله عز وجل، واثقين في حكمته وعدله وقضائه
صبر النبي _صلى الله عليه وسلم_
تحكي كتب السيرة النبوية العطرة أن النبي _صلى الله عليه وسلم_ كان يصبر على الأذى في ما يتعلق بحق نفسه، وأما إذا كان لله تعالى فإنه يمتثل فيه أمر الله من الشدة مع الكفار والمنتهكين لحدود الله: "مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ" الفتح:29
ومن صبر النبي _صلى الله عليه وسلم_ أنه عندما اشتد الأذى به جاءه ملك الجبال يقول: يا محمد إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين، فقال النبي _صلى الله عليه وسلم_: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا، والأخشبان: جبلا مكة أبو قبيس وقعيقعان.
وقد صبر رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ على اتهام كفار قريش له بالتكذيب: "وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ"، لكن الله تعالى يسري عن نبيه، ويثبت الله به قلبه: "وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَأِ الْمُرْسَلِينَ" الأنعام:34.
ولقد صبر _عليه الصلاة والسلام_ أيضا على أذى المشركين في جسده صبراً عظيماً، روى البخاري _رحمه الله_ عن عروة بن الزبير قال: قلت لعبد الله بن عمرو بن العاص : أخبرني بأشد شيءٍ صنعه المشركون برسول الله _صلى الله عليه وسلم_؟ قال: (بينا رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ يصلي بفناء الكعبة؛ إذ أقبل عقبة بن أبي معيط وهو من الكفار، فأخذ بمنكب رسول الله _صلى الله عليه وسلم_(115/824)
ولوى ثوبه في عنقه فخنقه خنقاً شديداً، فأقبل أبو بكر رضي الله عنه، فأخذ بمنكبه ودفع عن النبي _صلى الله عليه وسلم_ ثم قال: "أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ " غافر:28
صبر نموذجي
يضرب المثل بنبي الله أيوب في الصبر، عندما تعرض لبلاء شديد، فأعطى درسا عظيما في الصبر والاحتساب والرضا بقضاء الله تعالى، ليصفه المولى _عز وجل_ بقوله: "إنا وجدناه صابرا نعم العبد إنه أواب" (ص: 44).
وذكر القرآن الكريم سيدنا أيوب مرتين: الأولى في سورة الأنبياء في قوله تعالى: "وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضر وآتيناه أهله ومثلهم معهم رحمة من عندنا وذكرى للعابدين"، والثانية في سورة ص في قوله تعالى: "واذكر عبدنا أيوب إذ نادى ربه أني مسني الشيطان بنصب وعذاب. اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب. ووهبنا له أهله ومثلهم معهم رحمة منا وذكرى لأولي الألباب. وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث إنا وجدناه صابرا نعم العبد إنه أواب" (ص: 41 - 44).
وجاءت بداية الابتلاء بأن سلب منه كل أهله، وابتلي في جسده بأنواع عدة من الأمراض، ولم يبق منه عضو سليم سوى قلبه ولسانه يذكر بهما المولى _عز وجل_، وهو في ذلك كله صابر محتسب، ثم طال مرضه وانقطع عنه الناس، ولم يبق أحد يحنو عليه سوى زوجته التي ضعف حالها وقل مالها، حتى باتت تخدم في البيوت بالأجر لتطعم زوجها المريض، تفعل ذلك وهي الزوجة الصابرة المحتسبة، وكلما زاد الألم بأيوب زاد صبره وحمد الله وشكره على قضائه.
ورغم هذا المرض الشديد والابتلاء القاسي الذي تعرض له نبي الله أيوب عليه السلام، إلا أنه كان ذا قلب راض وصابر، ولم يسخط لحظة واحدة، ولذلك وصفه المولى عز وجل بقوله: (إنا وجدناه صابرا نعم العبد إنه أواب) (ص: 44). أي تواب رجاع مطيع، وسئل سفيان الثوري عن عبدين اُبتلي أحدهما فصبر وأنعم على الآخر فشكر، فقال: كلاهما سواء لأن الله تعالى أثنى على عبدين أحدهما صابر والآخر شاكر ثناء واحدا، فقال في وصف أيوب: "نعم العبد إنه أواب"، وقال في وصف سليمان "نعم العبد إنه أواب".
الطريق إلى مدرسة الصبر
مدرسة الصبر بناية غير بعيدة عنا، وليست عسيرة الولوج، فقط تشترط هذه المدرسة من والجيها أن يكونوا مخلصين لله _عز وجل_، واثقين في حكمته وعدله وقضائه، والذي يجعل المنتسب إلى المدرسة صابرا حقا أن يعلم أن هناك تفاوتا في المصائب في الدنيا، ومن حدث أن أصيب بمصيبة في الدنيا عليه أن يتسلى بمصيبة أكبر وأعظم، وليس هناك مصيبة أخطر من المصيبة في الدين التي توجب لصاحبها الهلاك في الآخرة.. قال رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ في دعاء كان يدعو به:" ولا تجعل مصيبتنا في ديننا ". ومن الناس من إذا أصابته مصيبة في دنياه في صحته أو ماله أو بدنه بدل أن يرضى ويشكر الله مبتليه تجده يتسخط بل قد يصاب في دينه بأن يترك العبادة بدعوى مصيبته تمنعه..!! ألم يقرأ قول الله تعالى : " من كان يظن(115/825)
أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة فليمدد بسبب من السماء ثم ليقطع فلينظر هل يذهبن كيده ما يغيظ "
الصبر إذن يكفي الوصول إليه تدريبات عملية بأن يوطن الإنسان نفسه على حبس نفسه على الطاعات وترك المنكرات، مع الاقتداء بخير الصابرين رسولنا الكريم، متيقنا أن الصابر أمره كله خير إن شكر أو صبر، فهو في الحالتين فائز.
ـــــــــــــــــــ
ظلال الرضا .. وحياة المقربين
خالد روشه
14/10/1427
ارسل تعليقك ...
تعليقات سابقة ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
khaled_rousha@yahoo.com
حياة ربانية تلك التي يحياها القريبون من ربهم , يستعينون به في شتى شئون حياتهم , ويسلمون لقضائه , ويرضون بما يحصل لهم في دنياهم , ويقنعون بما آتاهم .. غير ناظرين لما في يد غيرهم , ويستغنون بالله عما في الدنيا من متاع , فتراهم سعداء قريري العين مطمئنين مهما أصابهم , غير متصارعين على ما يتصارع عليه الناس , همهم رضوان الله , ويقينهم هو الرضا به سبحانه , فيفيض عليهم بركاته التي لايعلمها إلا هو , ويحيطهم برعايته وعونه ويؤنسهم بمعيته وفضله .
* قال النبي _صلى الله عليه وسلم_: (ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربًا وبالإسلام دينًا وبمحمد رسولاً) رواه مسلم .
والمؤمن لا ينال الرضا ولا يحصل له إلا إذا سبقه التوكل الكامل في قلبه, ودرجة الرضا درجة عزيزة غالية ولذلك لم يوجبها الله على عباده, لكن ندبهم إليها واستحبها منهم وأثنى على أهلها, بل أخبر سبحانه أن ثواب الرضا أن يرضى الله عنهم, وهو أعظم وأكبر وأجل من الجنان وما فيها ( مدارج السالكين)
حياة ربانية تلك التي يحياها القريبون من ربهم , يستعينون به في شتى شئون حياتهم , ويسلمون لقضائه , ويرضون بما يحصل لهم في دنياهم , ويقنعون بما آتاهم .. غير ناظرين لما في يد غيرهم , ويستغنون بالله عما في الدنيا من متاع ,
قال الإمام ابن القيم: "فهناك رضا من الله قبل رضا العبد أوجب له أن يرضى, ورضا بعده هو ثمرة رضاه, ولذا كان الرضا باب الله الأعظم, وجنة الدنيا, ومستراح العارفين, وحياة المحبين, ونعيم العابدين, وقرة عيون المشتاقين"( مدارج السالكين).
فإن العبد المؤمن الصالح إذا حصل له الرضا ارتفع جزعه في أي حكم كان أو قضاء, بل استقبل كل قضاء الله تعالى بالفرح والسرور.
وكتب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى - رضي الله عنهما- : "أما بعد, فإن الخير كله في الرضا, فإن استطعت أن ترضى وإلا فاصبر".(115/826)
وهناك طريقة للتدريب على الرضا والتخلق به وصفها الصالحون: وهي الطمأنينة, فمن درب نفسه على الطمأنينة حصل له الرضا, قال تعالى: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ. ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً َرْضِيَّةً} والمؤمن الصالح الذي رضي بالله سبحانه ربًا ورضي بالإسلام دينًا وبمحمد رسولاً, واستقر الرضا في قلبه, سكنت الطمأنينة في جوارحه وجنانه وبرد قلبه واطمأن, وفر منه السخط والضيق والضجر, بل إن الرضا يُنزل السكينة على أهل الإيمان, ومن نزلت عليه السكينة استقام عمله وصلح باله.
والرضا بالله سبحانه نبع الحكمة, فمن رضي بالله نبعت الحكمة من تحت لسانه وتفجرت.
اجتمع سفيان الثوري ووهيب بن الورد ويوسف بن أسباط:
فقال الثوري: قد كنت أكره موت الفجأة قبل اليوم, وأما اليوم فوددت أني ميت.
فقال يوسف: ولم؟ فقال سفيان: لِما أتخوف من الفتن.
فقال يوسف: لكني لا أكره طول البقاء, لعلي أصادف يومًا أتوب فيه وأعمل صالحًا. فقيل لوهيب: أي شيء تقول أنت؟ فقال: أنا لا أختار شيئًا, أحب ذلك إليّ أحبه إلى الله.
فقال الثوري: روحانية ورب الكعبة.
وقال الحسين بن علي: من اتكل على حسن اختيار الله له لم يتمن غير ما اختار الله له.
وقال الفضيل: الرضا أفضل من الزهد في الدنيا؛ لأن الراضي لا يتمنى فوق منزلته.
وقال العلماء أن الرضا هو درجة من الصبر علية سامية يصل إليها الصابرون إذا ما صار الصبر عندهم صفة في نفوسهم ,فالصبر هو قبول القضاء مع وجود الألم, ولكن المؤمن الصابر يتحمل الألم في سبيل الله , والرضا هو قبول القضاء مع عدم وجود الألم, بل مع السرور أحيانًا.
فإن العبد المؤمن الصالح إذا حصل له الرضا ارتفع جزعه في أي حكم كان أو قضاء, بل استقبل كل قضاء الله تعالى بالفرح والسرور.
وكتب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى - رضي الله عنهما- : "أما بعد, فإن الخير كله في الرضا, فإن استطعت أن ترضى وإلا فاصبر".
والرضا من الله أكبر من الجنة , قال الله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة:72].
قال ابن أبي الدنيا: ألق نفسك مع القدر حيث ألقاك: فهو أحرى أن يفرغ قلبك ويقلل همتك.
قال ابن القيم: "ورأيت شيخ الإسلام - ابن تيمية - في المنام فذكرت له شيئًا من أعمال القلب وأخذت في تعظيمه ومنفعته - لا أذكره الآن - فقال: أما أنا فطريقتي الفرح بالله والسرور به... أو نحو هذه العبارة, وهكذا كانت حاله في حياته".
وقيل ليحيى بن معاذ: متى يبلغ العبد مقام الرضا؟(115/827)
قال: إذا أقام نفسه على أربعة أصول فيما يعامل به ربه, فيقول: إن أعطيتني قبلت, وإن منعتني رضيت, وإن تركتني عبدت, وإن دعوتني أجبت.
والطريق إلى الرضا خطوات أربع أولها الرضا بالله ربا ومعناه الرضا بتدبيره وإفراده بالتوكل والاستعانة والثقة , وثانيها الرضا به إلها وهو الرضا بمحبته وخوفه والإنابة والتبتل إليه والحب له وتمام العبودية له والإيمان بأسمائه وصفاته حسبما بين رسوله صلى الله عليه وسلم , وكذلك الرضا بنبيه صلى الله عليه وسلم وهو كمال الانقياد له والتسليم له وحبه أكثر من النفس والرضا بدينه وهو الرضا بحكم ذلك الدين وتشريعه والتسليم له .
قال الله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة:100].
والرضا يستلزم الشكر الدائم له سبحانه على ماأعطى ومنح من نعم لا تحصى , وشكر الله: هو الثناء على الله بما أنعم عليك من النعم.
وله ثلاث أركان: الاعتراف بالنعمة بالقلب, والتحدث بها باللسان, والاستعانة بها على طاعة الله.
وقد أخبر الله سبحانه أن أهل الشكر هم الذين خصهم بمنته عليهم من بين عباده فقال تعالى: {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} [الأنعام:53].
وقسم سبحانه الناس إلى شكور وكفور, فأبغض الأشياء إليه الكفر وأهله وأحب الأشياء إليه الشكر وأهله, قال تعالى: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً} [الإنسان:3].
والطريق إلى الرضا خطوات أربع أولها الرضا بالله ربا ومعناه الرضا بتدبيره وإفراده بالتوكل والاستعانة والثقة , وثانيها الرضا به إلها وهو الرضا بمحبته وخوفه والإنابة والتبتل إليه والحب له وتمام العبودية له والإيمان بأسمائه وصفاته حسبما بين رسوله صلى الله عليه وسلم , وكذلك الرضا بنبيه صلى الله عليه وسلم وهو كمال الانقياد له والتسليم له وحبه أكثر من النفس والرضا بدينه وهو الرضا بحكم ذلك الدين وتشريعه والتسليم له .
وقال تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم:7].
وعن معاذ رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخذ بيده وقال: (يا معاذ, والله إني لأحبك) فقال: (أوصيك يا معاذ: لا تدعن في دبر كل صلاة أن تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك) أخرجه أبو داود.
وللشكر قواعد وأركانا فأولها خضوع المرء إلى ربه الذي يشكره وثانيها حبه لمن يشكر وثالثها اعترافه بنعمته وآلائه عليه الظاهرة والخفية ثم ثناؤه على ربه بما هو أهله ثم التحدث بنعمته في كل موطن كان سواء في سراء أو في ضراء وألا يستعمل ما أنعم به عليه فيما يغضبه , فإن فعل ذلك واتصف به فهو أهل لأن يكون عبدا شكورا وأن يدرب نفسه على الرضا الكامل غير المنقوص .(115/828)
قال بعض الصالحين: الشكر معرفة العجز عن الشكر, وعدم القدرة على تأدية حقه.
وقال الجنيد: الشكر ألا ترى نفسك أهلاً للنعمة.
والمؤمن الصالح يشكر ربه في كل حين على نعمة الخلق وعلى نعمة الإسلام وعلى نعمة الإيمان, وعلى نعمة التوحيد, وعلى نعمة الجوارح, وعلى كل نعمة ظاهرة أو خفية, ويشعر بعجزه أن يشكر ربه حق شكره, ويدعوه ليل نهار ويقول: قال الله تعالى: {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الأحقاف: 15].
ـــــــــــــــــــ
النجاة بين الصلاح والإصلاح !
همام عبد المعبود
7/10/1427
ارسل تعليقك ...
لا توجد تعليقات ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
لا ينتبه الكثيرون للفارق الدقيق بين "الصلاح" و"الإصلاح"؛ فـ"الصلاح" أصله من: "صَلُحَ يَصْلُحُ صَلاَحَاً فهو صالح" والمصدر صلاح، أما "الإصلاح" فأصله من: "أَصْلَحَ يُصْلِحُ إِصْلاَحَاً فهو مصلح". و"صَلُحَ" هو فعل لازم، أما "أَصْلَحَ" فهو فعل متعد.
فالصالح يلزمه صلاحه لنفسه ، أما المصلح فهو صاحب دور مزدوج؛ يصلح نفسه، ويدعو غيره للصلاح، فأثره الإصلاحي يتعدى نفسه إلى غيره.
وعند الكلام عن المياه يفرق بعض الفقهاء بين الماء "الطاهر" والماء "الطهور" , فالطاهر هو ما كان طاهرا في نفسه غير مطهر لغيره , فكل ماء خالطه طاهر فغير وصفه ، هو في منتهاه ماء طاهر، لكنه لا يصلح للتطهر به , أما الماء الطهور فهو ماء طاهر في ذاته، صالح لتطهير غيره .
ومن ثم يمكننا- الآن- التأكيد على أن هناك فارقا واضحا بين الصالح والمصلح، وأن الصلاح هو بداية طبيعة ومنطقية للإصلاح، وأن الإصلاح لا يقوم بالأساس إلا على أكتاف أناس مصلحين، وأن هؤلاء المصلحين لن يصلوا إلى هذه الدرجة إلا إذا كانوا صالحين.
لا ينتبه الكثيرون للفارق الدقيق بين "الصلاح" و"الإصلاح"؛ فـ"الصلاح" أصله من: "صَلُحَ يَصْلُحُ صَلاَحَاً فهو صالح" والمصدر صلاح، أما "الإصلاح" فأصله من: "أَصْلَحَ يُصْلِحُ إِصْلاَحَاً فهو مصلح". و"صَلُحَ" هو فعل لازم، أما "أَصْلَحَ" فهو فعل متعد.
من هو الصالح؟(115/829)
والآن نأتي إلى بيان المقصود بكلمة "الصالح"؛ فالمسلم الصالح هو ذلك الذي يؤدي ما عليه من واجبات لكل صاحب حق عليه:-
أولاً: تجاه ربه وخالقه، وذلك بالتأكيد على نقاء توحيده و سلامة اعتقاده بربه _سبحانه_، فهو يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره و يشهد ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويقيم الصلاة، ويؤتي الزكاة، ويصوم رمضان، ويحج البيت إن استطاع إليه سبيلاً، ومن ثم فهو مسلم سليم العقيدة، صحيح العبادة، قال _تعالى_ :"... هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ* الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ* وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ وبِالآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ" (2-3/ البقرة).
ثانياً: تجاه الناس: بالتأكيد على حسن التعامل مع الناس، ومن ثم فهو بار بوالديه، واصل لأرحامه، محسن إلى جيرانه، يزور المرضى، ويشمت العاطس، ويشيع الميت، لا يغش ولا يخدع، إذا تحدث لا يكذب، وإذا وعد لا يخلف، وإذا أؤتمن لا يخون، وإذا عاهد لا يغدر، وإذا خاصم لا يفجر، ومجمل الأمر ألا يرى الناس منه إلا كل خير. فعن عبد اللَّه بن عمرو بن العاص _رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ_ عن النبي _صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم_ قال: المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى اللَّه عنه" (متفق عَلَيْهِ). وعن أبي هريرة _رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ_ أن النبي _صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم_ قال: والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن!قيل: من يا رَسُول اللَّهِ؟ قال: الذي لا يأمن جاره بوائقه" (متفق عَلَيْهِ).
ثالثاً: تجاه نفسه: فهو صادق مع نفسه، يعرف قدر نفسه، ويعرف قدره عند ربه، لا يظهر للناس إيماناً ويخفي كفراً، ولا يبدي لهم صلاحاً ويخفي فساداً، ظاهره كباطنه، دينه كديدنه.
وقد جمع الله كثيرا من أصناف البر والصلاح في قوله تعالى في سورة البقرة الآية178: " ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب، ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والنبيئين، وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة، والموفون بعهدهم إذا عاهدوا، والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس، أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون"
ومن هو المصلح؟
تلك هي صفات وملامح المسلم "الصالح"، أما المسلم "المصلح" فهو ذلك الرجل الذي أصلح نفسه وأقامها على الشرع، غير أنه أدرك أن عليه دور أكبر، وأنه لا يجب أن يكتفي بصلاحه، بل عليه أن يمد يد المساعدة لإخوانه من حوله، فينقلهم من ضلال العقيدة إلى هدى الإيمان، ومن ظلام المعصية إلى نور الطاعة، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة.
ومن ثم يمكننا- الآن- التأكيد على أن هناك فارقا واضحا بين الصالح والمصلح، وأن الصلاح هو بداية طبيعة ومنطقية للإصلاح، وأن الإصلاح لا يقوم بالأساس إلا على أكتاف أناس مصلحين، وأن هؤلاء المصلحين لن يصلوا إلى هذه الدرجة إلا إذا كانوا صالحين.(115/830)
فالمصلح : إنسان قوي بما فيه الكفاية، بحيث يستطيع أن يصعد وينجو بنفسه ويسحب معه الآخرين , وقد بين ربعي بن عامر (رضي الله عنه)، الأمر عندما سأله رستم قائد الفرس: ما الذي أتى بكم من الجزيرة العربية إلى هذه البلاد؟، فأجابه ربعي قائلاً: لقد ابتعثنا الله لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله الواحد القهار من ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدالة الإسلام.
وهذا هو الدور الأساسي للداعية، فالداعية مصلح بطبعه، لأنه يُعَرفُ الناس على ربهم وخالقهم، ثم يدعوهم لطاعته ويبين لهم الأجر الذي أعده الله للطائعين، في الدنيا والآخرة، كما يحذرهم من معصيته سبحانه، ويكشف لهم سوء عاقبة العصاة في الدنيا والآخرة.
وقد كان الإصلاح – وما يزال- هو القضية الكبرى لكل المصلحين، على مر التاريخ،بدءً من الأنبياء وانتهاءً بالدعاة، وقد سجل القرآن على لسان نبي الله شعيب هذه الحقيقة، فقال _تعالى_: "قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ" ( 88/هود).
وقد وصف الله المصلحين بأنهم أولئك الذين يدعون الناس إلى التمسك بالإسلام والقرآن، بل ووصف هذا الفعل بأنه من أفعال المصلحين، فقال تعالى:" وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ" ( 170/ الأعراف).
وأعلمنا ربنا أنه قد يأخذ القرى الظالمة، فيهلكها عن آخرها، ويقطع دابرها، ويقلبها على من فيها، حتى وإن كان فيها رجالٌ صالحون، لا يعصون الله، فوجود الصالحين لا يشفع لهم، ولا يرفع عنهم العذاب، وقد جاء في الأثر أن الله أمر الملك أن يهلك أهل قرية لفسقهم، فقال الملك : يا رب إن فيهم عبدك فلانا ما عصاك قط ! قال الله عز وجل: به فابدأ فإنه لم يتمعر وجهه من أجلي !
وعن أم المؤمنين أم الحكم زينب بنت جحش رَضِيِ اللَّهُ عَنْها أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم دخل عليها فزعاً يقول: لا إله إلا اللَّه! ويل للعرب من شر قد أقترب! فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه وحلق بأصبعيه: الإبهام والتي تليها. فقلت: يا رَسُول اللَّهِ أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم إذا كثر الخبث" (متفق عَلَيْهِ).
أما المسلم "المصلح" فهو ذلك الرجل الذي أصلح نفسه وأقامها على الشرع، غير أنه أدرك أن عليه دور أكبر، وأنه لا يجب أن يكتفي بصلاحه، بل عليه أن يمد يد المساعدة لإخوانه من حوله، فينقلهم من ضلال العقيدة إلى هدى الإيمان، ومن ظلام المعصية إلى نور الطاعة، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة.
ولعل هذا هو ما دعا الرجل من بني إسرائيل إلى قول تلك المقولة لنبي الله موسى عليه السلام، عندما هم به وظن أنه ربما يؤذيه لأنه يعلم أن هذا لن يكون سلوك المصلحين، وقد حكى القرآن هذا المشهد الرائع فقال تعالى:" فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَن يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَّهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالأمْسِ إِن تُرِيدُ إِلاَّ أَن تَكُونَ جَبَّارًا فِي الأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ ( 19 / القصص).
كنتم خير أمة(115/831)
وقد أثنى القرآن على أمة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، وكتب الله لها الخيرية على جميع الأمم السالفة، لا لشيء إلا لأنها أمة مصلحة، فقال تعالى: "كنتم خير أمة أخرجت للناس: تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر" (110/آل عمران).
وبين سبحانه أن ما تقوم به هذه الأمة من دعوة إلى الخير، وأمر بالمعروف، ونهي عن المنكر، هو سر فلاحها ونجاحها وفوزها في الآخرة، فقال تعالى:"ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير، ويأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، وأولئك هم المفلحون" (104/ آل عمران).
بل وأوضح سبحانه أن سبب لعنه للكافرين من أمة بني إسرائيل، بعدما كانت في مصاف الأمم " يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ" (47/ البقرة)، هو نكوصهم وإعراضهم عن القيام بواجب الإصلاح، وقد سجل القرآن ذلك فقال تعالى:"لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم، ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون: كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه؛ لبئس ما كانوا يفعلون" (78/ المائدة).
وبين سبحانه أنه لا يهلك الأمم الظالمة لوجود المصلحين بها، قال تعالى:"
وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ (117/ هود).
وعندا تعرض القرآن لقصة أصحاب السبت، بين أنهم انقسموا إلى ثلاثة أقسام: عصاة، ومصلحين، وقسم ثالث وهم من توقفوا؛ فلم يعصوا ولم يقوموا بواجب الإصلاح، وأوضح القرآن أن الله لم ينجِ منهم سوى الطائفة التي قامت بواجب الإصلاح والأمر والنهي، بينما أخذ الله الباقين بالعذاب الشديد، فقال تعالى:"فأنجينا الذين ينهون عن السوء، وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون" (165/ الأعراف).
وروى النعمان بن بشير رَضِيِ اللَّهُ عَنْهماُ عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم قال: مثل القائم في حدود اللَّه والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فصار بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم؛ فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذ من فوقنا. فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا" (رواه الْبُخَارِيُّ). والقائم في حدود الله هو المطبق لأوامره المنكر على الذين يريدون أن يقعوا في حدوده ، فيدفعهم عنها، وهو وشأن المصلحين.
وقد قسم أحدهم الناس إلى أربعة أقسام؛ فاسد؛ و مفسد، وصالح، ومصلح، مؤكداً أن أشدهم خطرا هو المفسد، وذلك لأنه لا يكتفي بفساده هو، بل إنه يسعى ما استطاع لإفساد الآخرين، وأعظمهم خيراً هو المصلح، لأنه لا يكتفي بصلاحه هو، وإنما يسعى جهده لإصلاح غيره، وشعاره دائما (إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت).
سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم.
ـــــــــــــــــــ
حياة النفوس .. وحياة الأجساد
وسام كمال(115/832)
24/9/1427
ارسل تعليقك ...
لا توجد تعليقات ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
تحدث الكثيرون عن الآلام والأمراض الجسدية التي عالجها الرسول _صلى الله عليه وسلم_ وفق منظومة الطب النبوي. وجادل البعض في جدوي الطب النبوي، ومدى صلاحيته لمواكبة العصر التكنولولجي، الذي تكثر فيه الاكتشافات الطبية والعلاجية. ولكن قلة من هؤلاء الذين خرجوا عن إطار هذا الجدل، وتنبهوا لحقيقتين هامتين :
الأولى: أن الرسول _صلى الله عليه وسلم_ أكد على أن الله جعل لكل داء دواء " ففي الحديث الصحيح قوله _صلى الله عليه وسلم_ " ما جعل الله من داء إلا وله دواء عرفه من عرفه وجهله من جهله " ، وأتاح لنا المشرع العظيم الفرصة سانحة للبحث الطبي والتداوي , فلا يمكن أن يستقيم بحال تجاهل كل تلك الأبحاث العلمية الحديثة، ونحن نتحدث عن علاج الجسد البشري.
أما الثانية: أن الرسول _صلى الله عليه وسلم_ لم يبعث طبيبا معالجا للآلام الجسدية ، إنما هو رحمة للعالمين وشفاء لنفوس البشرية من أمراضها الكثيرة غير أننا لا ننكر أن هناك أثرا أكيدا في شريعته المحمدية في تطبيب الأجساد من أمراضها وأدوائها , فمسألة الطب النبوي الجسدي إذن مسألة متفرعة عن الأصل الذي هو هداية البشرية بالنور والضياء والحق المبين .
كيف يمكن أن نتجاهل تلك المسحة الإنسانية التي أضفاها على البشرية، ونلهث بحثا وراء دواء جسدي قد يتجدد مع الاكتشافات العلمية التي لم تستطع علاج ما داواه النبي صلى الله عليه وسلم من علاجات النفوس والأخلاق والمجتمعات والأمم ؟
الصبغة الإنسانية
كيف يمكن أن نتجاهل تلك المسحة الإنسانية التي أضفاها على البشرية، ونلهث بحثا وراء دواء جسدي قد يتجدد مع الاكتشافات العلمية التي لم تستطع علاج ما داواه النبي _صلى الله عليه وسلم_ من علاجات النفوس والأخلاق والمجتمعات والأمم ؟
يقول ابن كثير : في تفسير قوله تعالى " وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين " : أي يذهب ما في القلوب من أمراض من شك ونفاق وشرك وزيغ وميل فالقرآن يشفي من ذلك كله وهو أيضا رحمه يحصل فيها الإيمان والحكمة وطلب الخير والرغبة فيه وليس هذا إلا لمن آمن به وصدقه "
نعم قد تداوى الصالحون بالقرآن وقد ورد عن النبي _صلى الله عليه وسلم_ الاسترقاء بـ قل هو الله أحد، وقل أعوذ برب الفلق، وقل أعوذ برب الناس، وقال: لم يتعوذ الناس بمثلهن. رواه مسلم
وكان النبي _صلى الله عليه وسلم_ إذا اشتكى قرأ على نفسه المعوذتين ونفث. متفق عليه, وصح رقية الصحابي لمن لدغ سبع مرات بسورة الفاتحة. رواه البخاري(115/833)
ولكن الإسلام يثبت فينا المعنى الأكبر والمفهوم الأسمى , فأينما كنت فثم وجه الله. وأينما مرضت واختنقت من الحياة؛ فهناك سبيل للنجاة على يد الطبيب الأعظم. وقد لجأ الرسول نفسه لهذا العلاج الرباني، ليداوي جراحه، ويعلم غيره على طريقة التجريب، أو الاستهلال في علاج النفس، لإثبات نجاح العلاج، وكسب ثقة الآخرين في فاعلية العلاج ضد المرض
ففي حادث الطائف؛ أدماه المشركون، ولكنه لم ينفعل ولو بالدعاء عليهم، بل ملك نفسه في شدة الغضب والمحنة، وتمالك طبيعته البشرية، ونظر إلى غد؛ حيث ينتشر الإسلام في العالم بفضل صبره ويقينه ..
كل ما أفاض به ليخرج شحنة الحزن والألم قوله : " اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس. يا أرحم الراحمين إلى من تكلني؟ إلى عدو يتجهمني أم إلى قريب ملكته أمري؟ إن لم تكن ساخطا علي فلا أبالي، غير أن عافيتك أوسع لي. أعوذ بنور وجهك الكريم الذي أضاءت له السموات والأرض، وأشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، أن تحل علي غضبك، أو تنزل علي سخطك، ولك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك ". أخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد ( 6\36) والطبراني
ولكن الإسلام يثبت فينا المعنى الأكبر والمفهوم الأسمى , فأينما كنت فثم وجه الله. وأينما مرضت واختنقت من الحياة؛ فهناك سبيل للنجاة على يد الطبيب الأعظم. وقد لجأ الرسول نفسه لهذا العلاج الرباني، ليداوي جراحه،
الوصفة الربانية
ولكن ما هي تلك الوصفة الربانية ؟ وماذا يعني العلاج بالإيمان؟ هذا السؤال ليس بعسير الإجابة، إن اختار راغب العلاج مبدأ التداوي الرباني على منهج الحبيب المصطفى _صلى الله عليه وسلم_
إنه الإيمان وتوحيده تمام التوحيد كقاعدة أساسية، لأن لكل مرض علاج مختلف، يتطلب جهودا نفسية وجسدية على مراحل، مع إتباع مجموعة من التعليمات في فترة النقاهة، والمداومة على نظام معين بعد الشفاء حتى لا يرتد المرض مرة أخري، وساعتها سيكون العلاج عسيرا، ولكنه على شرع الله ليس بمستحيل. وحده ذلك المرض الفتاك "الشرك بالله " " إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر مادون ذلك لمن يشاء "
أما عن أولى خطوات العلاج، فالأمل في الشفاء [التطهر من الذنب وجذوره] مهم جدا في مقاومة آلام المرض، ومقاومة آلام المقاومة نفسها، وليبدأ العلاج بالتوبة الصادقة، والتبرؤ من كل ما سبق من أخطاء.
وإن سأل سائل: لماذا التوبة؟ قلنا : التوبة ليست مجرد فعل روتيني أجوف , إن الأمر يتعدى هذا التصور القاصر، التوبة أهم مرحلة علاجية لشفاء النفس، إنها توقف ذلك السيل من المهلكات المترتبة عن تراكم الذنوب وذلك الشعور بجلد الضمير، والإحساس بالذنب للتقصير تجاه أنفسنا. (بالطبع التوبة تنهي مسألة الإحساس باليأس من الذنب وعدم قبول التوبة، و ذلك لا يتعارض مع جلد الضمير ولو بعد التوبة.. إنما المدخل الشيطاني: "لن يغفر الله لك" , تعالجه التوبة لكنها لا تمنع من الاحساس(115/834)
بالتقصير والإلحاح في الاستغفار، وهنا فارق بين أن تسقط الذنب من حسابك بالمرة بمجرد التوبة عنه وبين أن تحس بالانكسار أمام الكريم الغفار ولو دعوت الله موقنا بالإجابة.. فأنت تصلي ولا تضمن قبول صلاتك وكذا أنت تخلص في الدعاء ولا تدري إن كان كتبك من التائبين أم لا.. من شأن شعور العبد بأن توبته قد جازت به إلى الطهارة التامة من الذنوب والآثام أن ينسى ذنوبه ويتذكر عبادته وحسب)
إنها العبق الذي يطهر رائحة النتن البشري والتدني في القول والفعل، إذ خلقنا الله من طين ثم أمر الروح فسرت فينا ، ونحن بين هاتين: الروح والمادة نعرج ونتعرج، فإن علونا إلى الروح، اطمأننا وزدنا علونا نفسيا وأخلاقيا وسلوكيا، والعكس صحيح إذا تدنينا إلى مستوى الطين.
وإلى جانب أهمية الاطمئنان النفسي والعلو؛ هناك فوائد كثيرة للتوبة على المستوي النفسي الصحي. فالتوبة تجعل هناك انسجاما بين الوظائف العضوية التي خُلقنا لها، وبين حركة الجوانح التي نتحرك بها، فعندما يكون هناك تطابق بين السلوك والوظائف الجسدية؛ يحدث انسجام نفسي بين الروح والجسد.
فلم تخلق العين للنظر إلى الحرام " قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم " , ولم يخلق السمع للتنصت والتجسس : " إن السمع والبصر والفؤاد كل أؤلئك كان عنه مسئولا " , ولم يُخلق الفرج للزنا: " وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ " , ولم يُخلق اللسان للكذب: "إن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة ، وإن الرجل ليصدق حتى يكتب على الله صديقا" , كما إن الأمانات والعهود ليستا للخيانة والنقض " والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون "
إنه الإيمان وتوحيده تمام التوحيد كقاعدة أساسية، لأن لكل مرض علاج مختلف، يتطلب جهودا نفسية وجسدية على مراحل، مع إتباع مجموعة من التعليمات في فترة النقاهة، والمداومة على نظام معين بعد الشفاء حتى لا يرتد المرض مرة أخري، وساعتها سيكون العلاج عسيرا
ولم تخلق أعضاء الإنسان إلا لتؤدي الوظائف التي شهدت عليها الروح، يوم أخرج الله من ظهر آدم ذريته ليكونوا شهداء على أنفسهم " وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا " .. ذلك المشهد الذي كان فيه القسم الأعظم على أن يكون جسد الإنسان لخدمة روحه ، وتُكرس روحه للعلو بجسده، والارتقاء لرضا الله رب العالمين.
التوبة راحة للجسد!
قال أبو سعيد الخدري : "إذا أصبح ابن آدم فإن الأعضاء كلها تكفر اللسان فتقول: اتق الله فينا، فإنما نحن بك، فإن استقمت استقمنا، وإن اعوججت اعوججنا".
وكما أن الأعضاء تناشد اللسان وتنصحه وتذكره فلكأن كل عضو يناشد الآخر بأن يكونوا لله، ويتحروا الحلال والحرام فيما يفعلون , لأنهم أول الشاهدين على صاحبهم يوم القيامة، ويتعذبون لفعله قال الله سبحانه " ويوم يحشر أعداء الله إلى النار فهم يوزعون حتى إذا ما جاؤوها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا(115/835)
يعملون وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء " .. فمن هنا تأتي التوبة لتريح جسد الإنسان من آلامه.
ولعل الرسول صلى الله عليها وسلم عندما قال : "ولبدنك عليك حق"؛ لم يكن هذا الوجوب يعني الجسد فقط , فالسلامة النفسية لم يغفلها الرسول _صلى الله عليه وسلم_، لأن الجسد مقر للروح، والأرواح ما بين أمارة بالسوء، ولوامة، ومطمئنة. وهو الذي استعاذ بالله من مكدرات النفوس إذ يقول فيما رواه البخاري " اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن ومن العجز والكسل ومن الجبن والبخل والهرم "
ويتطلب الوصول للنفس المطمئنة أن يجلس الإنسان كثيرا ليتوقف عند معاني وتصرفات يمكن أن تؤدي به إلى المرض، ونذكر أن سلوك امرأة العزيز قد خرج من نفس أمارة بالسوء ، واعترفت هي بذلك كما بنص سورة يوسف.
الكثير والكثير من الأمراض التي عالجها الرسول ورصدها القرآن والسنة؛ بحاجة إلى دراسات وأبحاث، ورؤية نفسية واجتماعية عميقة، تتجاوز فيها النظرة إلى الطب النبوي؛ على أنه جسدي فقط بذلك المعنى السابق ، ولكن تنظر كيف عالج الحبيب البشرية من سقمها العام في نفسياتها وسلوكها ومناهجها ووسائلها وأفكارها ؟
رمضان شهر التداوي
ويأتينا شهر رمضان، على حال لسنا فيه بخير: حملة ذنوب، وظلمة لأنفسنا، وجرأة على المعصية. ويأتي معه وعد من الرحمن بأن يبدل الحال بخير الأحوال، ويعفو ويسامح، إن اتقيناه، وأحسنا استغلال الشهر الكريم في التكفير عن ذنوبنا، وإعادة معنى تقوى الله إلى كافة سلوكياتنا: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ " (البقرة:183).
ويتصور كثير من الناس أن معنى تقبل الله لصيامهم في رمضان، أنهم سيصيرون كالملائكة مع صلاة عيد الفطر، ولن يرتكبوا أخطاء مرة أخرى، وستتبدل حياتهم كاملة. فهل هذا صحيح؟
نعم قد يتبدل حال البعض تبدلا كاملا وذلك من فضل الله ونعمته ومنته وكرمه على بعض عباده المخلصين الصادقين , ولكن رمضان هو شهر للمراجعة، ومحاولة التغيير، والتكفير عن الذنب , وعلاج النفس من آفات المعاصي، وهموم المعصية، لأن آفات النفس ليست في سلة واحدة، وتأتي كالأمراض فرادى أو مجتمعة، ولكنها متجددة، ومتكاثرة، وتحتاج للاستئصال بشكل دائم.
فالقدر التدريجي المطلوب للتغير في رمضان، هو اختيار عدد من الآفات النفسية والسلوكية التي استوطنت فينا، وإتباع المنهج النبوي في التداوي منها، بالتوبة، ومقاومة النفس، واستبدال العادات بالعادات، ومراجعة الذات أولا بأول.
والتداوي بدواء الحبيب، هو المعيار الحقيقي لقياس نجاحنا في رمضان، وقدرتنا على استثماره، ومدى تحقق مراد الله "التقوى". وتنعكس نسبة تحقق العلاج على رصيد المريض "المسلم" من الحسنات، والنتائج المذهلة "مقدار التغير" بعد رمضان.
ـــــــــــــــــــ
عندما تبتل العروق ..
خالد روشه(115/836)
15/9/1427
ارسل تعليقك ...
تعليقات سابقة ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
Khaled_rousha@yahoo.com
لا يفهم الصلة بين العبد وربه إلا من عرف صفة العبد وفقره وحاجته , وعرف صفات الرب جل جلاله , تلك الصفات العلى .. إنها صلة غريبة فريدة لا نظير لها ولا مثال .. , لذلك لهجت الصحف السماوية والأديان والشرائع بالعقائد والصفات قبل أن تحدد الصلات وتدعو إلى العبادات وتسن الفرائض وتحث على الطاعات .
وقد سبقت العقيدة في جميع الرسالات الأحكام والشرائع ودعا جميع الرسل إلى العلم بالله وصفاته وتوحيده وتقديسه وتنزيهه قبل أي شيء .. والقرآن الذي جاء مهيمنا على كل الكتب قد جلى هذا المعنى بأكبر قوة ووضوح .
والإنسان ذاك المخلوق البديع , مختلف عن غيره من المخلوقات فهو : ضعيف يحب القوة والغلبة, فقير يحب الغنى, خاضع للموت يحب البقاء , متعرض للأمراض ولوع بالصحة, كثير الحاجات بعيد الأمل , سؤوم ضجر, لا تشبعه عطية , ولا يملأ عينه إلا التراب , هذا الإنسان عليه أن يتأمل صفات ربه تعالى من قوة وقدرة وعلم وخبرة ورحمة ولطف وكرم وجود وبكل ما جاء من النعوت والأوصاف الثابتة الصحيحة التي جاءت في القرآن أو على لسان النبي _صلى الله عليه وسلم_ , قال الإمام ابن القيم _رحمه الله_: "فاعلم أن سر العبودية وغايتها وحكمتها, إنما يطلع عليها من عرف صفات الرب سبحانه ولم يعطلها, وعرف معنى الإلهية وحقيقتها, ومعنى كونه إلهًا, بل الإله الحق وكل إله سواه فباطل, بل أبطل الباطل, وأن حقيقة الإلهية لا تنبغي إلا له, وأن العبادة موجب إلهيته وأثرها ومقتضاها, وارتباطها بها كارتباط متعلق الصفات بالصفات, وكارتباط المعلوم بالعلم, والمقدور بالقدرة, والأصوات بالسمع, والإحسان بالرحمة, والعطاء بالجود..." مدارج السالكين
فاعلم أن سر العبودية وغايتها وحكمتها, إنما يطلع عليها من عرف صفات الرب سبحانه ولم يعطلها, وعرف معنى الإلهية وحقيقتها, ومعنى كونه إلهًا, بل الإله الحق وكل إله سواه فباطل, بل أبطل الباطل, وأن حقيقة الإلهية لا تنبغي إلا له, وأن العبادة موجب إلهيته وأثرها ومقتضاها
* * كل يسبح بحمده ويسجد له ..
إذا تأمل العبد في ذلك احتاج أن يكون في خضوع دائم , وركوع وسجود لا انقطاع لهما , ومناجاة ودعاء لا نهاية لهما أمام ذاك الرب الكريم , لا إله إلا هو الذي أعطاه من كل ما سأل بلسان القال أو بلسان الحال "وآتاكم من كل ما سألتموه وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها " .
والكون كله في خضوع دائم لذلك الرب القوي المتعال, فآلاف من السنين ظلت الشمس وهاجة وظل القمر سراجا , وانتصبت الجبال قائمة , ووقفت الأشجار على سوقها , وهبت الرياح لواقح , وصارت السحب مزنا وجرت الأنهار ريّا .. كل هذه(115/837)
المخلوقات في عبادة دائمة وخضوع كامل لأمر الله _تعالى_ , فلا عصيان ولا ثورة , ولا تمرد ولا جموح , ولا سآمة ولا إضراب , ولا انقطاع ولا توقف , فهي في سجود دائم , قال الله تعالى : " ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات والأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس وكثير حق عليه العذاب ومن يهن الله فما له من مكرم إن الله يفعل ما يشاء " .
إن الإنسان بشرفه واختصاصه وعقله وقلبه ونفسه وفكره وعلمه واختياره لأحق من هذه المخلوقات جميعا أن يكون في عبادة دائمة لا انقطاع لها وفي حمد وتسبيح لا يفتر عنه لسانه وفي إخضاع لجوارحه تام لا ينحرف عنه طرفة عين .
والعبد الذي ذلل جوارحه لطاعة ربه وسيرها للسير في مدارات مستحباته , وأشربها الرضا به ربا وبرسوله خاتما وبكتابه دستورا ليجد حلاوة الإيمان في كل سكنة وحركة وفي كل لمحة ونفحة .. ففي الصحيح " ذاق حلاوة الإيمان من رضي بالله ربا وبمحمد رسولا وبالقرآن كتابا منزلا "
وفي الحديث القدسي الثابت " وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه ".
ومن هنا حرص الصالحون دائما على تقوية تلك الصلة الشفافة بينهم وبين خالقهم .. وكانوا كثيرا ما يتألمون عند ذكر ذنوبهم وتقصيرهم في حق ربهم :
إذا تأمل العبد في ذلك احتاج أن يكون في خضوع دائم , وركوع وسجود لا انقطاع لهما , ومناجاة ودعاء لا نهاية لهما أمام ذاك الرب الكريم , لا إله إلا هو الذي أعطاه من كل ما سأل بلسان القال أو بلسان الحال "وآتاكم من كل ما سألتموه وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها " .
كان شداد بن أوس إذا دخل الفراش يتقلب على فراشه لا يأتيه النوم, فيقول: اللهم إن النار أذهبت مني النوم فيقوم فيصلي حتى يصبح.
وقال نعيم بن حماد: كان ابن المبارك إذا قرأ كتاب الرقاق يصير كأنه ثور منحور من البكاء, لا يجترئ أحدٌ منا أن يسأله عن شيء .
قال الفضيل بن عياض: إذا لم تقدر على قيام الليل وصيام النهار فاعلم أنك محروم مكبل كبلتك خطيئتك.
وقام تميم بن أوس الداري - رضي الله عنه - بآية يتلوها حتى أصبح: "أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ..." [الجاثية:21] الآية
وكان تحت عيني ابن مسعود مثل الشراك البالي من كثرة القيام والبكاء.
وقال علي بن أبي طالب _رضي الله عنه_: لقد رأيت أصحاب رسول الله_صلى الله عليه وسلم_ فلم أر شيئًا يشبههم قط, كانوا يصبحون شعثًا غبرًا بين أعينهم كركب المعزى, فإذا صلوا مادوا كما تميد الشجر في يوم الريح, فكأني بالقوم باتوا غافلين.
* * عبودية الصيام وصلة المقربين :(115/838)
وتغمرنا في أيام الصوم ثلاثة معان راقية: أولها: أن الصيام شرع لنا فيه من الأعمال الصالحة ما يكون سببا في تكفير ذنوبنا ورفعة درجاتنا. وثانيها : أن الله تعالى فيه يوفق إلى العمل الصالح ولولا معونة الله وتوفيقه لما تيسرت لنا الصالحات, وثالثها : أن الله أعد به - فضلا منه - الأجر المضاعف على الأعمال الذي يصل بالناس إلى يوم منتهاه العتق من العذاب..
وفي عبودية الصيام صار العابدون قسمين : أولهما من ترك طعامه وشرابه وشهوته لله تعالى يرجو عنده عوض ذلك في الجنة فهذا قد تاجر مع الله والله لا يضيع أجر العاملين " ففي الحديث : " إنك لن تدع شيئا اتقاء لله إلا أتاك الله خير منه ", وأما الطبقة الثانية: فهي طبقة من يصوم في الدنيا عما سوى مرضات الله فيحفظ الرأس وما حوى والبطن وما وعى ويذكر الموت والبلى ويريد الآخرة فيترك زينة الدنيا فهذا عيد فطره يوم لقاء ربه فتدبر في ذلك المعنى واستحضر الحديث الرباني له صلى الله عليه وسلم إذ يقول : " إن للصائم فرحتان فرحة عند فطره وفرحة عند لقاء ربه " . متفق عليه
بعض الناس إذا فعل بعض الطاعات والقربات في أيام معدودات اطمأن لعمله وركن إليه وارتاحت نفسه لطاعاته ورضي بما يقدم لله, بل تولد عنده شعور أنه أدى حق الله عليه, وقد يجره هذا الشعور إلى الإعجاب بعمله والسرور به والغرور به , نعم الصالحات تسعد أهل الإيمان , ومن سرته حسنته وساءته سيئته فهو صالح , وقلب المؤمنين يفرح بالثواب .. ولكننا نحذر من الاغترار بالعمل ,
* * عبودية منع الاغترار :
بعض الناس إذا فعل بعض الطاعات والقربات في أيام معدودات اطمأن لعمله وركن إليه وارتاحت نفسه لطاعاته ورضي بما يقدم لله, بل تولد عنده شعور أنه أدى حق الله عليه, وقد يجره هذا الشعور إلى الإعجاب بعمله والسرور به والغرور به , نعم الصالحات تسعد أهل الإيمان , ومن سرته حسنته وساءته سيئته فهو صالح , وقلب المؤمنين يفرح بالثواب .. ولكننا نحذر من الاغترار بالعمل , أن تعجبك عبادتك , والصالحون لا يفعلون ذلك؛ لأن الصالحين دائمًا يشفقون من ربهم ويخافون ألا يقبل منهم أعمالهم, ولا يأمنون على أعمالهم أن يكون قد شابها ما يردها عند الله فلا يقبلها سبحانه، قال الله سبحانه: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون:60], قالت عائشة رضي الله عنها: سألت رسول الله عن هذه الآية فقلت: أهم الذين يشربون الخمر ويزنون ويسرقون؟ فقال: (لا يا ابنة الصديق, ولكنهم الذين يصومون, ويصلون, ويتصدقون, ويخافون ألا يتقبل منهم)أخرجه الترمذي
قال الإمام ابن القيم رحمه الله: "فالرضا بالطاعة من رعونات النفس وحماقتها, وأرباب العزائم والبصائر أشد ما يكونون استغفارًا عقيب الطاعات لشهودهم تقصيرهم فيها وترك القيام لله بها كما يليق بجلاله وكبريائه وقد أمر الله تعالى حجاج بيته بأن يستغفروه عقيب إفاضتهم من عرفات وهو أجل المواقف وأفضلها فقال: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ. ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ(115/839)
غَفُورٌ رَحِيمٌ}[البقرة: 198-199] وقال تعالى:{وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ} [آل عمران:17], قال الحسن: مدوا صلاتهم إلى السحر ثم جلسوا يستغفرون الله عز وجل, وفي الصحيح أن النبي _صلى الله عليه وسلم_ كان إذا سلم من الصلاة استغفر ثلاثًا" رواه مسلم.." مدارج السالكين
فإن الاعتماد على العمل وحده يولد غرورًا وعجبًا وسوء أدب مع الله سبحانه, وصاحب العمل لا يدري هل قُبل عمله أم لا, ولا يدري قدر ذنوبه ومعاصيه, وهل يثقل بها عمله أم لا, فينبغي طلب رحمة الله ومغفرته دائمًا وهو الغفور الرحيم.
ـــــــــــــــــــ
إضاءات في طريق التوبة
إبراهيم الدحيم
7/9/1427
ارسل تعليقك ...
لا توجد تعليقات ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
لا زالت المراكب تمضي , والقوافل يتلو بعضها بعضاً ..امتداد على طول الزمن .. ركب فيها آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد _صلى الله عليهم وسلم أجمعين_ , ثم تلاهم الصحابة الأخيار والتابعون الأطهار وكل بر تقي مختار.
تلك هي قوافل التائبين , ومواكب العائدين , ومراكب الناجين ..عليهم إشراقة الإيمان ونفحات الرضا , وأنس الخلوة , وجلال العبادة , وجمال الطاعة .." سيماهم في وجوههم من أثر السجود" [الفتح 29]
عرفناهم : في مراوحة الأقدام بالقيام ..
عرفناهم : بالصدقة الجزلة والعطاء الكريم والتبرع السخي ..
عرفناهم : بتلاوة القران وترتيلة وتدبرة وترديدهذ ..
عرفناهم : في كل عمل خير , وطريق بر ..
لهم مع كل هيعة صياح .. ويمنعهم عن التهويمة النياح ..
o فيا قوافل التائبين أهلا وسهلاً . كيف لا نفرح بالتائبين ,وقد فرح بهم رب العالمين ( كما في الحديث المتفق عليه )
o مجلسنا اليوم مع العائدين , وحديثنا عن التائبين : لأن القلوب تلين عند سماع خبرهم والأفئدة ترق عند ذكر حديثهم , قال عمر بن الخطاب_رضي الله عنه_ : " جالسوا التوابين فإنهم أرق شيء أفئدة" (حلية الأولياء 1/513 ) ) ( يا معشر التائبين من أقامكم وأقعدنا ؟ من قرَّبكم وأبعدنا ؟ " إن نحن إلا بشر مثلكم ولكن الله يمن على من يشاء من عباده " قفوا لأجل زَمِن , ارحموا من قد عطب .. ) (ابن الجوزي ( المدهش ص 358) ) إن كرهتم لنا الصحبة فاجعلونا ولو في الخدم .. نعوذ بالله من الحرمان ونسأله العفو والغفران ..
وأسفا لمضروب بالسياط ما يحس بالألم ، ومدعو إلى النور ثم هو يختار الظُلم .(115/840)
الحديث عن التائبين يجمل ويطول وحتى نلم شتاته ونجمع أطرافة نجعله في إشارات وإضاءات علَّها تدفع سائراً , وتوقظ حائراً , وتقيم عاثراً .... والله يتولى الجميع بإحسانة .
الإضاءة الأولى : بادر بالتوبة ولا تسوف , فالعمر قصير , والأمر عسير ,والطالب غالب .. قال لقمان لابنة "يا بنى لا تؤخر التوبة فإن الموت يأتي بغتة , ومن ترك البادرة إلى التوبة بالتسويف كان بين خطرين عظيمين أحدهما :أن تتراكم الظلمة على قلبه من المعاصي حتى يصير ديناً وطبعاً فلا يقبل المحو , الثاني : أن يعاجله المرض أو الموت فلا يجد مهلة للاشتغال بالمحو .
أيها العاصي المقصر- وكلنا ذلك - شهر كريم مبارك قد أقبل علينا , إذا لم توقظنا مواعظه فمتى تستيقظ ؟! ( وا أسفا لمضروب بالسياط ما يحس بالألم ، ومدعو إلى النور ثم هو يختار الظُلم . الخير كله بجوارك , والناصح ينادي عن يمينك وشمالك , وقد اشتد بك زكام آثامك ) فلا نسيم خير تشم ولا لطعمه تستروح .
ألا يكفيك الموت واعظاً ؟! قد أخذ أحبابك وأقرانك وإخوانك ( كم أخرج الموت نفساً من دارها لم يدارها ، وكم انزل أجساداً بجوارها لم يجارها ،وكم نقل ذات أخطاءٍ بأوزارها , كم أجرى عيون كالعيون بعد بُعد مزارها ).
يا مغرماً بوصال عيش ناعم ستصد عنه طائعاً أو كارها
إن المنية تزعج الأحرار عن أوطانهم والطير عن أوكارها
بادر إقبالة الشهر بالتوبة , وأعلن فيه إلى الله الأوبة , وتدارك نفسك ما دمت في وقت المهلة قبل :"أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ - أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ" (الزمر :56، 57 )
الإضاءة الثانية : التوبة وظيفة العمر .. فهي كما تكون عن الخطيئة فإنها تكون عن التقصير في أداء حق المنعم وشكره .. ومن ذا يؤدي للإله حقه أو يقوم له بتمام شكر النعمة ..
إذا كان شكري نعمة الله نعمة عليَّ له في مثلها يجب الشكر
التوبة وظيفة العمر .. فهي كما تكون عن الخطيئة فإنها تكون عن التقصير في أداء حق المنعم وشكره ..
فكيف بلوغ الشكر إلا بفضله وإن طالت الأيام واتصل العمر
كان - صلى الله عليه وسلم - - وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر - يستغفر الله ويتوب إليه في اليوم مئة مرة! أو لسنا أولى بذلك منه وأحوج!! .
التوبة بداية العبد ونهايتة خاطب الله بها أهل الإيمان وحملته من الصحابة رضي الله عنهم - بعد جهادهم الطويل وصبرهم وعبادتهم وهجرتهم - فقال :" وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون ".( النور31)
حين توجد المحاسبة تعرف قيمة التوبة إذ بالمحاسبة يعرف النقص, أما أن يعمل الإنسان ولا يلوي على شيء ولا يدري عن شيء فتلك هي الغفلة أعاذنا الله منها .
الإضاءة الثالثة : إياك واليأس والقنوط من روح الله ورحمته , فإذا كررت الذنب فكرر التوبة , وإذا أحدثت خطأ فأحدث له أوبه , فإن الله لا يمل حتى تملوا.
قل للذي ألف الذنوب وأجرما وغدا على زلاته متندما(115/841)
لا تيأسن واطلب كريماً دائماً يولي الجميل تفضلاً و تكرماً
وإذا غلبتك نفسك على المعصية مرة أخرى فعد إلى التوبة , فإن عادت فعد " إن الحسنات يذهبن السيئات "[ هود 114]
إياك أن تستعظم المعصية - أياً كانت - فتردك عن التوبة وتزين لك البقاء على الحال فإن هذا سوء أدب وظن بالله ..إن الله لا يعظم عليه ذنب أن يغفره " إن الله يغفر الذنوب جميعاً " [الزمر 53] غفر للمشرك شركه ولقاتل المئة ذنبه فهل ذنبك أعظم ؟!
إذا أذنبت فتب وأندم فقد سبقك أبوك آدم ، فلا تقلد أباك في الذنب وتقعد عن تقليده في التوبة , واهتف وناج ربك قائلاً :
يا كثير العفو عمن كثر الذنب لديه
جاءك المذنب يرجو الصفح عن جرم يديه
أنا ضيف وجزاء الضيف أحسان إليه
الإضاءة الرابعة : أيها التائب إن قعودك بعد التوبة عجز ومهانة , كنت قبل الهداية من دعاة الضلالة! فلما أن هداك الله لزمت بيتك واشتغلت في خاصة نفسك وظننت أن ذلك يغنيك ، أجبار في الجاهلية خوار في الإسلام ؟! كنت قبل تنفق على الفساد والإفساد دراهم غير معدودة _ دخان وغناء وأفلام وسفر وسهر _ فلما أن هداك الله بخلت بوقتك وبدراهم معدودة ، فهل جمّد الشيطان رصيدك وقطع صرف دراهمك بعد الهداية وهل خوفك الفقر " الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء ..... " . قال ميمون بن مهران " من أساء سراً قبلت سراً ومن أساء علانية قبلت علانية فإن الناس يُعَيِّرون ولا يغفرون والله يغفر ولا يعَيِّر" والمعنى : أن ذنب السر يكفي فيه توبة السر , أما الذنب الذي استطار شرره وعم الفضاء دخانه فلابد له من توبة يشرق نورها ويفوح عبيرها بالعلم والعبادة والإصلاح ..
إياك واليأس والقنوط من روح الله ورحمته , فإذا كررت الذنب فكرر التوبة , وإذا أحدثت خطأ فأحدث له أوبه , فإن الله لا يمل حتى تملوا.
ثم ليعلم أن من أسباب الثبات على الهداية الاشتغال بها والدعوة إليها ، فهاجم قبل أن تهاجم , وادع قبل أن تدع وكن لنفسك على حذر ولا تلق بها في الخطر.. فأنت أدري بنفسك ومواطن ضعفك , فاستعن بالله ثم بإخوانك ..
الإضاءة الخامسة : لا يجوز أن يُعير أحد بذنب بعد التوبة , ففي الحديث " التائب من الذنب كمن لا ذنب له " (سنن ابن ماجة (4250 ) وحسنه السيوطي والألباني ) فهل يعير من لا ذنب له ، قال شيخ الإسلام :( الذنب الذي يضر صاحبه هو مالم يحصل منه توبة , فأما ما حصل منه توبة فقد يكون صاحبه بعد التوبة أفضل منه قبل الخطيئة كما قال بعض السلف كان داوود بعد التوبة أحسن منه حالاً قبل الخطيئة , ولو كانت التوبة من الكفر والكبائر ؛ فإن السابقين ألأولين من المهاجرين والأنصار هم خيار الخليقة بعد الأنبياء , وإنما صاروا كذلك بتوبتهم مما كانوا عليه من الكفر والذنوب , ولم يكن ما تقدم قبل التوبة نقصاً ولا عيباً, بل لما تابوا من ذلك وعملوا الصالحات كانوا أعظم إيماناً وأقوى عبادة وطاعة ممن جاء بعدهم , فلم يعرف الجاهلية كما عرفوها ..) وقال (وإذا ابتلي بعض الأكابر بما يتوب منه فذاك لكمال(115/842)
النهاية لا لنقص البداية )( مجموع الفتاوى 15/54 ) وقال أيضا :( وما وجد قبل التوبة فإنه لا ينقص صاحبه , ولا يتصور أن بشراً يستغني عن التوبة كما في الحديث " أيها الناس توبوا إلى الله فإني أتوب إلى الله في اليوم أكثر من سبعين مرة " ويقول إنه ليغان على قلبي فأستغفر الله في اليوم مئة مرة " ) (مختصر الفتاوى المصرية ص112 ) ) إنه ليس عيباً أن تزِّل قدمك فتسقط من القمة إلى الحضيض إنما العيب البقاء فيها وعدم محاولة الصعود ..
الفضيل بن عياض العالم الزاهد الورع ,كان شاطراً يقطع الطريق , وكان من خبر توبته : أنه عشق جارية ,فبينا هو يرتقي الجدران إليها إذ سمع تالياً يتلو " ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ... "[ الحديد 16] قال : بلى يا رب قد آن , فرجع فآواه الليل إلى خربة,فإذا فيها سابلة , فقال بعضهم : نرحل , وقال بعضهم : حتى نصبح فإن فضيلاً على الطريق يقطع علينا . قال: ففكرت وقلت: أنا أسعى بالليل في المعاصي , وقوم من المسلمين ها هنا يخافونني , وما أرى الله ساقني إليهم إلا لأرتدع , اللهم إني قد تبت إليك , وجعلت توبتي مجاورة البيت الحرام (سير أعلام النبلاء 8/421 )
وهذا القعني - عبد الله بن مسلمة - إمام من أئمة الحديث ومن رجال مالك , قال عنه ولده :كان أبي يشرب النبيذ ويصحب الأحداث , فدعاهم يوماً , وقد قعد على الباب ينتظرهم فمر شعبة على حمار والناس من خلفه يهرعون فقال : من هذا ؟ قيل شعبة ، قال : وأيش شعبة ؟ قالوا محدِّث ، فقام إليه وعليه إزار أحمر فقال له حدثني فقال له : ما أنت من أصحاب الحديث فأحدثك ، فأشهر سكينه , وقال حدثني أو أجرحك؟ فقال له : حدثنا منصور عن ربعي عن أبي مسعود قال: قال رسول الله_صلى الله عليه وسلم_: " إذا لم تستح فاصنع ما شئت " فرمى سكينه ورجع إلى منزله فقام إلى جميع ما كان عنده من الشراب فهَراقه وقال لأمه : الساعة أصحابي يجيئون؛ فأدخليهم وقدمي الطعام إليهم فإذا أكلوا فخبِّريهم بما صنعت بالشراب حتى ينصرفوا . ومضى من وقته إلى المدينة فلزم مالك بن أنس فأثر عنه , ثم رجع إلى البصرة وقد مات شعبة فما سمع منه غير هذا الحديث (التوابين لابن قدامة ص 237 ط دار الكتاب العربي)
وعليه فلا يجوز أن يعير أحد بذنب فعله قبل توبته وليحذر المسلم أن يشمت فتقع الشماتة فيه ، فقد روى الترمذي بسند فيه ضعف " لا تظهر الشماتة لأخيك فيرحمه الله ويبتليك " (الترمذي ( 2507 ) ) والمعنى فيه صحة والحال شاهدة فاحذر ..
الإضاءة السادسة : عوناً للعاثر لا عليه .
فإذا وقع أخوك في حفرة كان حقه أن يعان للخروج منها , لا أن يلعن ويدفن فيها ! عن أبي هريرة_رضي الله عنه_ قال :( أتي النبي_صلى الله عليه وسلم_ برجل قد شرب قال اضربوه . قال أبو هريرة_رضي الله عنه_ : فمنَّا الضارب بنعله والضارب بثوبه فلما انصرف قال بعض القوم : أخزاك الله . قال: لا تقولوا هكذا , لا تعينوا عليه الشيطان ) (البخاري ( 6777 ) ) ومراد الشيطان من عصيان ابن آدم أن يقع في الخزي , والدعاء على العاصي بالخزي موافقة للشيطان في مراده . وعن يزيد بن الأصم : أن رجلاً كان ذا بأس , وكان يوفد لعمر لبأسه , وكان من أهل الشام(115/843)
, وأن عمر فقده فسأل عنه فقيل: تتابع في الشراب , فدعا كاتبه فقال: اكتب من عمر بن الخطاب إلى فلان بن فلان . سلام عليك .. فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو ("غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول إليه المصير " ثم دعا وأمن من عنده.. فلما أتت الصحيفة الرجل جعل يقرأها ويقول " غافر الذنب " قد وعدني الله عز وجل أن يغفر لي " وقابل التوب شديد العقاب " قد حذرني الله من عقابه .. فلم يزل يرددها على نفسه , ثم بكى , ثم نزع فأحسن النزع , فلما بلغ ذلك عمر قال: هكذا فاصنعوا إذا رأيتم أخاً لكم زل زلة , فسددوا ووفقوا وادعوا الله أن يتوب عليه , ولا تكونوا أعواناً للشيطان عليه (صفحات مضيئة من حياة السابقين 1/244 وعزاه لمناقب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب لابن الجوزي ص132 )
ولا يعني هذا أن تمر المعصية بسلام وأن يُعرض عن العاصي فلا يواجه بقبيح فعله فقد جاء في بعض روايات الحديث السابق ( ثم قال رسول الله_صلى الله عليه وسلم_ لأصحابه بكتوه . وقد فسر بقوله : فأقبلوا عليه يقولون ما اتقيت الله عز وجل , ما خشيت الله جل ثناؤه , ما استحييت من رسول الله_صلى الله عليه وسلم_ تم أرسلوه ) (الفتح 12/82 ط دار السلام ) وهذا يكون من غير قصد التشفي والسخرية , بل بقدر ما يبعث الحياء في نفسه ويحجزه عن الوقوع فيه مرة أخرى..
الإضاءة السابعة : اكلفوا من العمل ما تطيقون .
لا تأخذك الرغبة إلى الزيادة فتنقطع , فالمنبت لا يقطع أرضاً ولا يبقي ظهراً , وما طلب جميعاً استعجم عليك بما تطيق وخذ النفس بالتدرج والمران , فما انتهى حال سادات التابعين إلى الكمال إلا بالمجاهدة والدربة . وقد كان ابن الجوزي يسمي مبتدأ التوبة ( صبيان التوبة ) فيقول:( يا صبيان التوبة : ارفقوا بمطايا أبدانكم فقد ألفت الترف " ولا تضاروهن لتضيقوا عليهن " ... يا صبيان التوبة : للنفس حظ وعليها حق " فلا تميلوا كل الميل " خذوا مالها , واستوفوا ما عليها " وزنوا بالقسطاس المستقيم " فإن رأيتم من النفوس فتوراً فاضربوهن بسوط الهجر "فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا " على أني أوصي صبيا ن التوبة بالرفق , وبعيد أن يقرَّ خائف , أو يسمع العذل محب )( المدهش ص 310 )
ولسنا بهذا نوهن ذراع الراغب أو نغلق الباب أما النفس المقبلة , وإنما والمطلوب أن يُرفق بالنفس عند إدبارها , وأن لا تدفع في إقبالها فوق الطاقة .
الإضاءة الثامنة : أيها التائب الزم الجادة وداوم العمل و اطلب حلاوة إيمانك , وداوم السير طلباً لحسن سيرتك . فقد كان الصحابة إذا أسلموا لازموا العمل حتى يحسن إسلامهم وتكمل أحوالهم ..
إن التوبة ليست عن الماضي فقط , ولا عن المستقبل فحسب كما يقوله ( أناتول فراس )( معجم روائع الحكمة والأقوال الخالدة – المكتب العلمي في دار العلم للملايين ص 69 ) وإنما هي إقلاع في الحاضر يقطع , وندم على الماضي يدفع , وعزم على عدم العود يمنع .
يا معشر التائبين أوفوا بالعقود , ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها , ولا تكن كالتي نقضت غزلها بعد قوة أنكاثا ..(115/844)
إذا أدركت شهر الصوم فأحسن , وإذا انتهى فعليك بصيام النفل والزم قراءة القرآن ففيه الشفا والنور ، واصبر نفسك مع الصالحين , وإذا دعتك النفس إلى الكسل أو زينت لك الرجوع إلى العادة فمنِّها بالوصول وذكرها بالموعد مع الله , يسهل عليك السير ويهون عليك قطع الدرب بلا تعب ,وذكرها الرفقة محمد وصحبه تنسي بذلك العناء والمشقة ..
وإن حننت للحمى وروضه فباًلغضاء ماء وروضات أُخر
اللهم أحسن عاقبتنا وتوفنا وأنت راضٍ عنا وتب علينا إنكم أنت التواب الرحيم
ـــــــــــــــــــ
الصوم ... جُنة الصابرين
اللجنة التربوية
24/8/1427
ارسل تعليقك ...
لا توجد تعليقات ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
خلق الإنسان مجموعاً من روح وجسد , فالروح تجذبه إلى السمو وتذكره بمنصبه ومركزه وغايته ومهمته , وتفتح فيه السبيل إلى العالم الذي انتقل منه وإلى سعته وجماله ولطافته وصفائه , وتثير فيه الأشواق والطموح , وتبعث فيه الثورة على المادة الثقيلة , فيحلق في الأجواء الفسيحة , ويفك السلاسل والأغلال , ويحبب إليه الجوع والعطش , وغض الطرف عن الملذات , والتجرد عن الشهوات .
والجسد يجذبه بكثافته وثقله إلى الأرض , ورغبة الطعام والشراب , وقضاء الشهوات , فيتألم من الجوع , ويشق عليه العطش , ويأسره لمعان المغريات, فيصبح وهو في أوج مدنيته وحضارته وقمة علمه وثقافته - بعيدا عن قيمة إيمانه وروحانيته - بين المطعم والمرحاض , لا يعرف سوى ذلك مبدأ ومعادا , ولا يعرف غير الطواف بينهما شغلا وجهادا , فتموت فيه كل رغبة إلا رغبة الطعام والشراب , ويتبلد فيه كل حس إلا حس اللذة والمتعة , ويزول عنه كل هم إلا هم الكسب والمعاش .
ولا تصوير أدق من تصوير القرآن المعجز في قوله تعالى : " والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوى لهم ".
وإذا تغلبت الطبيعة الحيوانية وملكت زمام الحياة واستحوذت على مشاعر الإنسان وحواسه فلم يجد طول عمره وقتا صافيا ولا قلبا فارغا ولاعقلا يقظا و لا ضميرا حيا , فتثقل عليه العبادة والذكر , والطاعة والفكر والصفاء
وإذا تغلبت الطبيعة الحيوانية وملكت زمام الحياة واستحوذت على مشاعر الإنسان وحواسه فلم يجد طول عمره وقتا صافيا ولا قلبا فارغا ولا عقلا يقظا و لا ضميرا حيا , فتثقل عليه العبادة والذكر , والطاعة والفكر والصفاء , " وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراؤن الناس ولا يذكرون الله إلا قليلاً ".(115/845)
وقد جاءت النبوة تغيث الإنسانية المهددة بالمادية الطاغية , وتقيم الموازين القسط في الحياة , وتعد الإنسان إعداداً جيداً للغاية التي خلق لها وهي العبادة , فأمرت بالصوم ليحد من شره هذه المادية , وليشحن النفس شحنا روحانيا إيمانيا تستطيع أن تحفظ به اعتدالها في الحياة وتقوم به مغريات الشهوة .
يقول الغزالي _رحمه الله_: ( كلما انهمك الإنسان في الشهوات انحط إلى أسفل سافلين والتحق بغمار البهائم , وكلما قمع الشهوات ارتفع إلى أعلى عليين والتحق بأفق الملائكة ).
ويقول ابن القيم _رحمه الله_ : " لما كان صلاح القلب واستقامته على طريق سيرة إلى الله _تعالى_ متوقفا على جمعيته على الله , ولمّ شعثه بإقباله بالكلية على الله تعالى , فإن شعث القلب لا يلمه إلا الإقبال على الله _تعالى_ , وكان فضول الطعام والشراب وفضول مخالطة الأنام وفضول الكلام وفضول المنام مما يزيده شعثا ويشتته في كل وادي , ويقطعه عن سيرة إلى الله تعالى أو يضعه أو يعوقه , اقتضت رحمة العزيز الرحيم بعبادة أن شرع من الصوم ، ما يذهب فضول الطعام والشراب ويستفرغ من القلب أخلاط الشهوات المعوقة له عن سيرة إلى الله _تعالى_ , وشرعه بقدر المصلحة بحيث ينتفع به العبد في دنياه وأخراه ولا يضره ولا يقطعه عن مصالحه العاجلة والآجلة ".
ويقول ابن القيم أيضا : " ولما كان فطم النفوس عن مألوفاتها وشهواتها من أشق الأمور وأصعبها , تأخر فرضه إلى وسط الإسلام بعد الهجرة لما توطنت النفوس على التوحيد والصلاة وألفت أوامر القرآن فنقلت إلية بالتدريج , وكان فرضه من السنة الثانية من الهجرة فتوفي رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ وقد صام تسع رمضانات ) زاد المعاد .
وقد جاء خطاب الصيام وقد لفه اليسر والتيسير وزانته الرحمة والبر . فإن الذين قد توجه إليهم الخطاب في قوله تعالى " كتب عليكم الصيام " ثلاثة أقسام الأول المقيم الصحيح فيجب عليه الصوم رغبة في التقوى وزيادة , والثاني المريض والمسافر فيباح لهم الإفطار مع القضاء , والثالث من يشق عليه الصوم بسب لا يرجى زواله كالهرم والمرض المزمن فيفطران ويطعمان لكل يوم مسكينا ..
وقد خاطب الله المكلفين بقوله _تعالى_ : " يأيها الذين آمنوا " فهيأهم لقبول كل ما يكلفون به مهم كان شاقا لأن صفة الإيمان تقتضي ذلك , ثم ذكر الله أنه كتب عليهم الصيام ولكنه لم يكتبه عليهم لأول مرة في تاريخ الأديان فقد كتبه على من سبقهم وهكذا خفف وطأة هذا التشريع على النفوس , ثم ذكر أنه ليس امتحانا فقط ولا مشقة ليس من ورائها قصد , بل هو تربية إيمانية وإصلاح وتزكية ومدرسة خلقية " لعلكم تتقون " .
هذا هو الصيام الزاخر بالحياة والمنافع والبركات , البعيد عن المشقات التي لا تطيقها النفوس, " يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر " .
هذا هو الصيام الزاخر بالحياة والمنافع والبركات , البعيد عن المشقات التي لا تطيقها النفوس, " يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر " .(115/846)
والشرع الإسلامي لم يكتف من الصوم بصورته , بل ارتجى حقيقته, فلم يحرم الأكل والشراب والعلاقات الجنسية في الصوم فحسب , بل حرم كل ما ينافي مقاصد الصوم وغاياته , وكل مايضيع حكمته وفوائده , فأحاط الصوم بسياج من التقوى والأدب , وعفة اللسان والنفس , فقال النبي صلى الله عليه وسلم " إذا كان صوم يوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب وإن سابه أحد أو قاتله فليقل إني صائم " متفق عليه
وقال _صلى الله عليه وسلم_: " من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه " رواه البخاري
وقال _صلى الله عليه وسلم_ : " كم من صائم ليس له من صومه إلا الظمأ " أخرجه الدارمي .
وليس الصوم أوامر سلبية فحسب , فلا أكل ولا شرب ولا رفث ولا فسوق ولا جدال , بل هو أوامر إيجابية أيضا , فهو وقت العبادة والتلاوة والذكر والتسبيح والبر والمواساة , فمن " تقرب فيه بخصلة من الخير كان كمن أدى فريضة فيما سواه ومن أدى فريضة فيه كان كمن أدى سبعين فريضة فيما سواه وهو شهر الصبر والصبر ثوابه الجنة .
وأخرج الترمذي عن زيد الجهني قول النبي _صلى الله عليه وسلم_: " من فطر صائما كان له مثل أجره غير أنه لا ينقص من أجر الصائم شيء "
ـــــــــــــــــــ
مئة نصيحة في التربية الناجحة
د. عبد المجيد البيانوني
18/8/1427
ارسل تعليقك ...
لا توجد تعليقات ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
إن للتربية القويمة أهميتها القصوى في صلاح الجيل واستقامة سلوكه ، وإن أمر التربية خطير دقيق ، تقصر عنه عقول كثير من الآباء والأمهات ، فقد يعتبر كثير منهم أن التربية لا تبدأ إلا إذا بلغ الطفل سنّاً معينة هي سنّ التمييز أو ما بعدها ، وهذا خطأ فادح يقعون فيه ، فيقصرون في تربية أطفالهم في الصغر فينشأ الأطفال على عوج ، ثمّ يعجز الآباء والأمهات بعد ذلك عن تقويم العوج ، فينشأ الجيل ضعيف الإيمان ، هزيل الطاعة ، جريئا على المعصية والمخالفة ، سيء الأخلاق والطباع .
يقول الغزاليّ _رحمه الله تعالى_ :
"إن الطفل أمانة عند والديه ، وقلبه الطاهر جوهرة نفيسة ساذجة ، خالية من كل نقش وصورة ، وهو قابل لكل ما ينقش فيه ، ومائل إلى كل ما يمال به إليه ، فإن عود الخير وعلمه نشأ عليه وسعد في الدنيا والآخرة ، وشاركه في ثوابه أبواه ، وكل معلم له ومؤدب وإن عود الشر وأهمل إهمال البهائم شقي وهلك ، وكان الوزر في رقبة مربيه ، والقيّم عليه .." .(115/847)
فقد يعد كثير منهم أن التربية لاتبدأ إلا إذا بلغ الطفل سنّاً معينة هي سنّ التمييز أو ما بعدها ، وهذا خطأ فادح يقعون فيه ، فيقصرون في تربية أطفالهم في الصغر فينشأ الأطفال على عوج ، ثمّ يعجز الآباء
من هنا لزم الاهتمام بغرس الآداب الإسلامية ، وتعويد الناشئ عليها :
فلابدّ للإنسان من عادات ، يعتادها منذ صغره وينشأ عليها حتى تصبح جزءاً من شخصيته وحياته ، لا يجد جهداً في التزامها وفعلها فالخير عادة ، والشرّ عادة
والوالدان هما المسئولان المسئولية الكبرى عن غرس عادات الخير أو الشرّ ، فإن هما أهملا مسئوليتهما ، وفرّطا وضيّعا ، تولّت البيئة المحيطة بالناشئ تلك المسؤولية ، ووجهت الناشئ وجهة الخير أو الشرّ .
وإن خير ما يغرس في نفس الناشئ الآداب الإسلامية ، والسنن النبويّة ، لتتشكّل شخصيته منذ الصغر وفق هدي الإسلام ومبادئه وأحكامه .
وإن من أخطر أسباب اختلاف الأبوين في تربية الأولاد عدم وضوح المنهج التربوي لدى أحدهما ، فيختلف توجيهه عن الآخر ، أو لا يكترث بتوجيه الآخر ولا يكون له عوناً في تربيته وتقويمه .
فكان لابدّ من وضوح الآداب والعادات التي ينبغي على الوالدين غرسها في نفس الناشئ لتكون محل اتفاق بينهما ، ولا يكون عليها أي اختلاف أو نزاع .
** ومن أهمّ تلك الآداب والعادات والأخلاق :
* أن يناول ما يعطاه باليد اليمنى ، من مأكل أو مشرب أو لعبة ، ليتعود الأخذ باليمنى ، والإعطاء باليمنى ، والأكل باليمنى من صغره .
* وأن نلبسه ما نلبسه من ثوب أو قميص أو معطف أو سروال أو جورب أو حذاء ، مبتدئين باليمين، وأن ننزعها عنه حين ننزعها مبتدئين باليسرى ليتعود ذلك حين يلبس لنفسه وينزع لنفسه .
* و أن ينهى عن النوم على بطنه ، وأن يحوّل عن القبلة عند قضاء الحاجة ، وليعلم الوالدان أن كل ما ينهى عنه المسلم في الكبر ، يجب على أبويه أن يجنباه إياه في الصغر * وأن يجنب لبس القصير من الثياب والسراويل ، لينشأ على ستر العورة والحياء من كشفها .
* وأن يخالف هواه أحياناً ، بمنعه ممّا يطلب من لعبة أو مأكل ، ويعود الجواب من أبويه بقولهما : " نعم " فيفعل ، أو قولهما : " لا " فيمتنع ، راضياً غير ساخط .
* وأن يمنع من مصّ أصابعه ، وعضّ أظافره أو قطعها بأسنانه .
فلابدّ للإنسان من عادات ، يعتادها منذ صغره وينشأ عليها حتى تصبح جزءاً من شخصيته وحياته ، لا يجد جهداً في التزامها وفعلها فالخير عادة ، والشرّ عادة
* وأن يعوّد غسل اليدين قبل الطعام وبعده .
* وأن يلاحظ في الاعتدال بالمأكل والمشرب ، وتجنب الشره ، والشبع المفرط .
* وأن يعوّد أن يسمّي الله _تعالى_ ، عند البدء في الطعام والشراب ، وأن يحمد الله _تعالى_ عند الفراغ منهما .
* وأن يأكل ممّا يليه ، ولا يبادر إلى الطعام قبل غيره .
* وألا يحدّق النظر إلى الطعام ، ولا إلى من يأكل معه .(115/848)
* وأن يجيد المضغ ، ولا يسرع في الأكل .
* وألا يوالي بين اللقم ، ولا يلطّخ يديه ولا ثوبه بما يأكل .
* وأن يعوّد الخبز القفار وحده بدون أدم معه أحياناً ، حتى لا يرى الأدم حتماً لازماً .
* وأن يأكل من الطعام ما وجد ، ولا يتشهّى ما لا يجد .
* وأن يعوّد القناعة بإعطائه المشتهيات واحدة واحدة ، وأن لا يمكن من ملء يديه منها .
* وأن يخرج النوى بيده اليسرى ، ولا يجمع بينه وبين الثمر في إناء واحد .
* وأن يعوّد نظافة فمه باستعمال السواك أو الفرجون المعروف ، بعد كل طعام ، قبل النوم وبعده ، وعند الصلاة .
* وأن يعود الامتخاط باليد اليسرى ، وكذلك حمل الحذاء ، والتقاط الأوساخ ، والاستنجاء .
* وأن ينهى عن العبث بأنفه .
* وأن يحبب إليه الإيثار بالطعام والشراب وغير ذلك من المحابّ ، ويعوّد إكرام إخوته وأقاربه الصغار ، وأولاد الجيران ، إذا رأوه يتمتع بشيء منها .
* وأن لا يعوّد الخروج مع أمّه أو أبيه أو أخيه دائماً ، كلما خرج أحدهم في حاجة ، بل يوافق تارة ، ويخالف أخرى .
* وأن يعوّد النطق بالشهادتين ، وتكرارها كل يوم مرات .
* وأن يعوّد حمد الله _تعالى_ بعد العطاس وتشميت العاطس إذا حمد الله _تعالى_ .
* وأن يعلّم كظم الفم عند التثاؤب .
* وأن يعوّد الشكر على المعروف ، مهما كان يسيراً .
* وأن لا ينادي أمّه وأباه باسمهما ، بل يناديهما بلفظ : " أبي ، وأمّي " .
* وأن لا يمشي أمام أبويه ، أو من هو أكبر منه في الطريق ، ولا يدخل قبلهم إلى مكان تكريماً لهم واحتراماً .
* وأن يعوّد السير على الطرف أو الرصيف الأيمن ، لا في وسط الطريق ، وينهى عن التلهي في الطريق ، وعن الركض فيه ، وعن التلفّت يميناً وشمالاً .
وإن من أخطر أسباب اختلاف الأبوين في تربية الأولاد عدم وضوح المنهج التربوي لدى أحدهما ، فيختلف توجيهه عن الآخر ، أو لا يكترث بتوجيه الآخر ولا يكون له عوناً في تربيته وتقويمه
* وأن لا يرمي الأوساخ في الطريق ، بل يميط الأذى عنه ، من حجر أو شوك أو عظم أو قشرة بطيخ أو موز ونحو ذلك .
* وأن يبدأ من لقيه بالسلام بأدب واحترام ويردّ السلام كذلك .
* وأن يلقن الألفاظ الصحيحة ، ويعوّد النطق باللغة الفصحى بدون تكلف ما أمكن .
* وأن يعوّد الطاعة إذا أمره أحد أبويه بشيء ، أو من هو أكبر منه ، فعلاً وتركاً ؛ فإن في تربية الطفل على طاعة أبويه وذويه منذ الصغر مراناً له على طاعة الله تعالى وطاعة رسوله ، ومن تمرّد على أبويه وأقاربه ، وتعوّد المخالفة في الصغر ، استسهل مخالفة الله تعالى ، ومخالفة رسوله ، والتمرّد على أوامرهما في الكبر .(115/849)
* وأن يعالج فيه العناد ، بردّه إلى الحق طوعاً إن أمكن ، وإلا فالإكراه على الحق خير من بقاء العناد والمكابرة .
* وأن يشكره أبواه على امتثال الأمر واجتناب النهي ، وأن يكافئاه أحياناً على ذلك ، بما يحبّ من مأكل أو مشرب أو لعبة مباحة .
* وأن يحبّب إليه اللعب المباح ، ويكرّه إليه اللعب المحرّم أو المكروه .
* وأن يعوّد احترام ملكية غيره ، فلا يمدّ يده إلى مال أحد أو حقه ، ولو كانت لعبة أخته أو كرة أخيه .
* وأن يتجنّب الأبوان الاختلاف في أيّ شأن أمام الأولاد ، لأن ذلك يذهب هيبة الأبوين ويجرّىء الأولاد على المخالفة والتمرّد .
* * وممّا ينبغي تعهّد الولد به ، في سنّ التمييز من الآداب :
* أن يعلّم في سنّ التمييز التوقّي من النجاسات ، ويعلّم كيفيّة الاستبراء والاستنجاء .
* وأن يعلّم الوضوء بصورة عمليّة ، مع ملاحظة ما يكثر وقوع الأخطاء فيه .
* وأن يؤمر بالصلاة ، ويعلّم كيفيّتها بصورة عمليّة ، وتلاحظ صلاته بين الحين والآخر وتقدّم له الملاحظات والتوجيهات .
* وأن يصحبه أبوه معه إلى المسجد لصلاة الجماعة ، ويعرّفه حرمة المسجد وآدابه ، وأن يدخل المسجد باليمنى ، ويخرج منه باليسرى .
* وأن يعوّد إجابة المؤذن ، والصلاة على النبيّ _صلّى الله عليه وسلّم_ بعد الآذان ، ودعاء الوسيلة ويذكّر بذلك دائماً ليعتاده .
* وأن يعلّم التسبيحات الواردة بعد كل صلاة مفروضة ، ويتابع في المحافظة عليها .
* وأن يؤمر بالصوم إذا قدر عليه ، ولو في بعض أيام رمضان ، ويشجّع على ذلك ويكرّم ببعض الهدايا والمشتهيات .
* وأن تذكر له الجنة ، وأنها دار المؤمنين الطائعين في الآخرة ، ويذكر له ما فيها من أنواع النعيم ،والأعمال والصفات التي يستحقّ بها المؤمنون دخولها بفضل الله ورحمته .
* وأن تذكر له النار وأنها دار الكافرين والعصاة في الآخرة ، ويذكر له ما فيها من أنواع العذاب ، والأعمال والصفات التي يستحقّ بها الكافرون والعصاة عذاب الله وعقوبته .
* وأن يحفّظ ما تيسّر من القرآن الكريم من قصار السور ومقاطع القرآن المناسبة .
* وأن يختار له من الأحاديث النبوية الشريفة ما يتناسب مع سنّه ومداركه ، يحفظه ويردده ويؤمر بإلقائه أمام ذويه وأقاربه أحياناً .
* وأن يقصّ عليه قصص الأنبياء ، بأسلوب مناسب لمداركه وسنّه ، ويحبّبه بحياتهم ، ويروي له من حكايات الصالحين الواقعيّة الهادفة ، ما يغرس في نفسه الفضائل ،ومُثُل الإسلام الرفيعة.
* وأن يؤكد عليه في أمر النظافة العامّة ولا يسامح بتسويد الجدران بقلمه .
* وأن يستر إذا وقع في مخالفة ، ولا يكاشف بها من أول مرة ، فإذا عاد إليها ثانية فينبغي أن يعاتب سرّاً ، ويحذّر من الإصرار عليها.(115/850)
* وإذا تكرّر ذلك ، فلا بأس بعرك أذنه ، والتعبيس في وجهه ، وإظهار الانزعاج منه ، وأمره بالوقوف إلى الجدار دقائق عقوبة له .
* وأن يمتنع أبوه أو أمّه عن الكلام معه بعض الوقت ولا بأس أن يؤمر إخوته بذلك إذا دعت إليه المصلحة .
* ولا بأس بالضرب غير المبرّح ، إذا دعت إليه الحاجة أيضاً ، فهو بمنزلة الدواء المرّ ، الذي يجرّعه الطفل أحياناً للضرورة ، فتقويم العوج بأيّ وسيلة كانت خير من بقائه والاستمرار عليه .
* ولتحذر الأمّ من إعلان عجزها عن ولدها إذا عصاها ، فإن ذلك يغريه بالمخالفة ، ويشجّعه عليها .
* وإذا تخلّف الطفل عن الاستجابة للخير أحياناً ، فعلى مربّيه أن يستعمل معه أسلوب الترغيب والترهيب ، فيرغّبه في الفضيلة ، ويعده المكافأة عليها أحياناً ، وإذا تخلّف عنها ، خوّفه العقوبة ، فالإنسان مفطور على الرغبة والرهبة ، ولهذا ، أعدّ الله لعباده جنّة وناراً ، وقدّر ثواباً وعقاباً .
* وليحذر الوالدان من رشوة الطفل في شأن من الشؤون ، مثل أن يقال له : خذ هذه الحلوى وافعل كذا وكذا ، أو خذ هذه القطعة من النقود واكفف عن الضوضاء ؛ لأن الطفل إذا عرف أن هذه العروض تتبع مخالفته للأوامر ، كان من الطبيعيّ أن يعمل على الحصول عليها قبل تلبية كل أمر ، بل إنه إذا تشبّث بموقفه فقد يكون كسبه أكبر .
* وأن يعوّد الخشونة في المأكل والمشرب والمفرش ، ويعوّد المشي والحركة والرياضة ، حتى لا يغلب عليه الكسل .
* وأن يؤذن له بعد الانصراف من المدرسة أن يلعب لعباً هادفاً ، يروّح فيه عن نفسه من عناء الدرس ، لأن منع الصبيّ من اللعب يميت قلبه ، ويبطل ذكاءه وينغّص عليه العيش ، حتى يطلب الحيلة في الخلاص منه .
* وأن يراقب في لعبه ، ليرشد إلى الاتزان فيه والاعتدال .
* وأن يعوّد الاستقلال الذاتيّ ، والشعور بالمسئوليّة في ترتيب لعبه وكتبه ، وكل ما يتعلّق به ، وأن تعوّد الطفلة الاستقلال الذاتيّ ، والشعور بالمسئوليّة في ترتيب ما يتعلّق بها ، والقيام بأعمال البيت ، وترتيب أثاثه ، والمحافظة على نظافته .
* وأن لا يقارن بين طفل وآخر , فيمدح أحدهما ، ويذمّ الآخر ، على مسمع منهما ، ولا بين طفلة وأخرى ، فقد تكون الفوارق التكوينيّة بينهما مختلفة ، والمواهب متفاوتة ، فيؤثر ذلك في معنويّات الأطفال ، ويوهن شخصيّاتهم .
* وأن ينهى عن الافتخار على أقرانه بشيء من المطعم أو الملبس أو الأدوات ، بل يعوّد التواضع والإكرام لمن عاشره ، والتلطف معهم في الكلام .
* وأن يمنع من أخذ شيء من الصبيان ويعلّم أن الرفعة في الإعطاء لا في الأخذ .
* وأن لا يخرج بالفاكهة ونحوها حيث يراه الأطفال من أقارب أو أولاد الجيران ، إلا أن يعطيهم منها لأن رؤيتها تحرّك فيهم الرغبة إليها ، وقد لا يجدون والحرمان يؤذيهم .(115/851)
* وألا يسمح له بالخروج إلى الشارع ، ولا بالوقوف على باب الدار ، لأن ذلك يعرّضه للضياع من جهة ، ولسماع ألفاظ السوء والبذاء من أبناء الشارع .
* وأن يحثّ على الإنفاق ممّا معه ، وألا يتعلّق قلبه بالمال منذ الصغر ، ويقوّى ذلك في نفسه كلما شبّ وترعرع .
وإن ما اعتاده بعض الأطفال من اقتناء حصّالة للنقود حسن من جهة ، ليتعوّد حفظ المال فلا يضيّع كل ما يصل إليه منه في شراء اللعب والمشتهيات ، وخطير من جهة أخرى ، إذ يحبّب إليه المال ، ويعوّده الشحّ به .
فإن كان ولابد ، فليعوّد الإنفاق منه أحياناً في شتى وجوه البرّ .
* وأن لا يمكّن من فعل شيء خفية ، فإنه لا يخفيه إلا لاعتقاد السوء فيه ، فإذا فعل ذلك وغفل عنه وليّ أمره ، تعوّد السوء ، واحتال له ، وتمكّن في نفسه .
* وأن لا يسمح له باعتياد الحلف بالله تعالى ، صادقاً ولا كاذباً إلا عند الحاجة .
* وأن يجتنب الفضول ، ولا يتدخّل فيما لا يعنيه ، من قول أو فعل .
* وأن يجتنب لغو الكلام وفحشه ، واللعن والسبّ ، ومخالطة من يجري على لسانه شيء من ذلك .
* وأن يعوّد قلّة الكلام ، ويحذّر من كثرته
* وأن يعوّد حسن الاستماع إذا تكلّم غيره ، ولا يقطع عليه الحديث، ولا يتشاغل عنه .
* وأن يقدّم من هو أولى منه بالكلام ، وبخاصّة إذا كان أحد والديه أومن هو أكبر منه .
* وأن يعوّد السكون عند حضور ضيف وعند إقامة الصلاة ، وينهى عن المرور بين أيدي المصلّين .
* وأن يكرم القادم إليه ، وبخاصّة إذا كان أكبر منه سنّاً ، أو أرفع قدراً ، فيؤثره في المكان أو يوسّع له فيه ، ويتأدّب في مجلسه .
* وينبغي تحذير الطفل من معلّمي السوء في المدارس ، وسؤاله عمّا يلقى إليه فيها ، لتثبيت الصواب ونفي الخطأ .
* وأن يمنع الطفل المميّز من الدخول على النساء الأجنبيات ، ومن مصافحتهنّ ، كبنت العمّ وبنت العمّة ، وبنت الخال وبنت الخالة، وزوجة الأخ .
* وأن تعوّد البنت الحجاب منذ سنّ التمييز ، فلا يؤذن لها بالدخول على الرجال الأجانب ولو كانوا من أقاربها ، لتتعوّد الحجاب منذ الصغر ، وليغرس في نفسها أن الحجاب من شأن المرأة ، وأن تمنع من مصافحة الأجانب ، أو الخلوة بهم .
* وأن ينفّر الطفل من لبس الذهب أو الحرير الأصليّ ، وما يختصّ بالمرأة من زينة أولباس ويعرّف أن ذلك حرام على الرجال .
* وأن يعوّد الصدق ومجانبة الكذب ، في الجدّ والهزل ، وفي جميع الأحوال ، لأن الصدق من أمّهات الفضائل ، كما أن الكذب من أمّهات الرذائل ، وأسوأ ما يعتاده الإنسان الكذب ، لأنه يرى من هو أكبر منه يكذب ، فيهون عليه ذلك .
وكثيراً ما يشكّ الأب في صدق الأمّ أو الأمّ في صدق الأب ، في أمر من الأمور ، على مسمع من الطفل ، فيتصوّر وقوع الكذب من أمّه أو أبيه .(115/852)
وقد يشرك الأب ولده في مخادعة أمّه ، وتشرك الأمّ ولدها في مخادعة أبيه ، فيطلب أحدهما من ابنه أن لا يخبر الطرف الآخر بكذا وكذا ، وإذا سأله عنه أن ينكر ، وهذا من أسوأ ما يفسد تربية الناشئ ، ويفكّك روابط الأسرة .
* وينبغي أن لا يكلّف الطفل مالا يطيق جسماً ، كتكليفه أن يحمل حملاً ثقيلاً ، ولا ما لا يطيقه عقلاً ، كتحفيظه من العلوم مالا يدركه ولا يفهمه .
* وأن يربّى على التوكّل على الله وحده والاعتماد عليه سبحانه في كل شأن ، وسؤاله ودعائه فيقال له : إن الله تعالى هو الذي يرزقنا ، وهو الذي يعافينا ، وييسّر أمورنا ، ويوفّقنا لما يحبّ ، وهو الذي بيده الخير كله ، فينبغي أن نلجأ إليه ، ونتوكّل عليه ، ونأخذ بالأسباب المشروعة ؛ فنسعى في طلب الرزق ونستعمل الدواء عند المرض ، ونجاهد أنفسنا على تقوى الله ، والعمل بما يرضيه .
* وينبغي أن يعوّد الطفل النظام والانتظام في جميع شئونه ، وينهى عن الفوضى والإهمال والتسيّب ، ومزاحمة الناس وتجاوز حقّهم .
* وأن يربّى على الجرأة والشجاعة ، والثقة بالنفس والإقدام ، ولا يسمح لأحد بتخويفه بالأكاذيب والأوهام ، ويعوّد على الخروج ليلاً وحده لقضاء حاجته ، وعلى النوم وحده ، والبقاء أحياناً وحده
* وأن ينزع من نفسه الخوف من الحشرات الضارة ، ويشجّع على قتلها مرة بعد مرة .
* وأن يعوّد على حلّ مشكلاته بنفسه وألا يلجأ إلى من هو أكبر منه إلا عند الضرورة .
* وأن يحفظ سمعه من حكايات الفحش والإجرام ، والتعدّي والأذى ، لئلا يتجرّأ على مثل ذلك .
* وأن يجنّب اللعب بالميسر ، وتبيّن له أضراره ومفاسده ، وقد كثرت أنواعه اليوم ، ومنها أوراق اليانصيب ، ولو كان بدعوى أنه خيريّ ، فهو من الميسر المحرّم .
* ويجنّب الطفل دور السينما محافظة على دينه وأخلاقه ، فإن أكثر ما يعرض في هذه الدور الوضيعة أفلام اللصوصيّة والجريمة ، والخلاعة والمجون ممّا يثير الغرائز الجنسيّة ، ويفسد الأخلاق ، ويقتل الرجولة .
وحسبك دليلاً على ما نقول ، هذه اللافتات التي تعلّق على أبوابها ، وفي الشوارع العامّة ، تعلن عن أفلامها الساقطة ، بصور عارية وأوضاع خبيثة مخزية يندى لها جبين الفضيلة والشرف .
* ويجنّب كذلك مشاهدة أفلام الفيديو التي لا تقلّ فحشاً وفساداً عن أفلام السينما .
* وليحذر الوالدان والمربّون ، من التناقض في تربية الطفل ، يأمرونه بالصدق مثلاً ويكذبون ، وينهونه عن التدخين ، ويدخّنون ، ويأمرونه بالشيء مرة ، وبضدّه مرة أخرى ، فيتبلبل في معرفة حسن ما أمر به ، أو قبحه ، وخيره أو شرّه .
* ولا ينبغي للوالدين والمربّين أن يعاملوا الطفل والناشئ معاملة واحدة على اختلاف مراحل نموّه ، وما يمرّ به من تقلّبات نفسيّة وجسميّة وعقليّة .
فمعاملة الطفل في سنوات عمره الأولى ، تختلف عن معاملة الطفل المقارب للتمييز وما بعده ، والناشئ المراهق للبلوغ ، تختلف معاملته عن البالغ الراشد .(115/853)
* وينبغي للأب أن يخصّص وقتاً يجلس فيه إلى زوجته وأولاده ، يؤنسهم ويسلّيهم ويعلّمهم ويربّيهم ، ويقصّ عليهم حكايات توجيهيّة مسلّية .
** وعندما يكون الطفل في سن المراهقة :
* ينبغي أن يملأ فراغه بما يعود عليه نفعه من المطالعة والدرس ، أو العمل اليدوي الذي يوجّهه إلى إتقان صناعة من الصناعات ، فملء الفراغ شاغل عن خواطر السوء ، أو صرف الوقت فيما لا يجدي .
* وأن تقوّى رغبته في تلاوة القرآن الكريم ، والأحاديث النبويّة الشريفة ، والسيرة العطرة وحياة الصحابة ، والسلف الصالح .
فكثيراً ما يدفع الناس إلى العمل الجليل حكاية يسمعونها عن رجل عظيم ، أو حادثة يسمعونها عنه .
* وأن لا يسمح له بقراءة كل قصّة ، ولا مطالعة كل كتاب ، بل تختار له الكتب العلميّة الصحيحة والقصص الأخلاقيّة الصالحة .
* وأن يحذّر من الاغترار بعقله وفهمه فيحرم الانتفاع بعقول الناس وأفهامهم ، ويقع في الاستبداد برأيه ، ويكثر خطؤه ، ويقلّ صوابه .
* وأن يحبّب إليه اتّباع السنّة النبويّة ، والآداب الإسلاميّة ، وينفّر من الابتداع في الدين وتقليد الأجانب ، لينشأ على حبّ السنّة ، وكراهة البدعة ، ومخالفة غير المسلمين في أزيائهم ومظاهرهم .
* وأن يذمّ عنده المخنّثين من الرجال ويبيّن له أن من التخنّث حلق الرجال لحاهم ، ويرغّب في إطلاق لحيته متى ظهر شعر وجهه .
* وأن يذمّ عند البنت النساء المترجّلات اللاتي يلبسن لبسة الرجال ، ويظهرن مظهر الرجال ، ويقلّدنهم .
* وأن يختار الوالد لولده رفاقاً صالحين مهذّبين ، ويحذر عليه ، ويحذّره من صحبة رفاق السوء فعدوى الأخلاق أشدّ فتكاً من عدوى الأمراض .
وصحبة الأخيار تربّي الخير في نفوس من يصاحبهم ، لأن الإنسان مولع بالتقليد ، فكما يقلّد من حوله في أزيائهم ، يقلّدهم في أعمالهم ، ويتخلّق بأخلاقهم .
* وينبغي أن يوجّه الشابّ لتكوين مثل أعلى ، يسعى لتحقيقه ، ويوجّه أعماله للوصول إليه ، وذلك لأن الإنسان في هذه الحياة كقائد السفينة ، في البحر المتلاطم الأمواج ، لا يمكن أن يصل إلى المرفأ حتى يعرف أين المرفأ ، ويرسم الخطّة للوصول إليه ، وإلا تنكب الطريق السويّ الموصل إليه ، وكانت سفينته عرضة للارتطام ، أو الضياع والهلاك .
وكذلك الإنسان في هذه الحياة ، تحيط به قوى مختلفة ؛ شهوات تتجاذبه ، وصعوبات تعترضه ومؤثّرات متباينة ، فإن لم يحدّد غرضه ، ويعيّن مثله الأعلى ، تقسّمته هذه القوى ، واضطربت مسالكه وضاعت حياته سدى .
* ومن أهمّ ما ينبغي أن يراعى في أمر التربية ، أن يكون الأبوان قدوة صالحة لأولادهم ، وأسوة حسنة لهم ، في الأقوال والأفعال والأخلاق لأن كل ما يقال أو يفعل أمام الطفل ، إنما هو من تربيته . هذا ، والله تعالى أعلم ، وصلّى الله على محمّد ، وعلى آله وصحبه وسلّم .(115/854)
ـــــــــــــــــــ
ألا سَجَرْتَ بها التَّنُّور؟!
فهد السيف
13/8/1427
ارسل تعليقك ...
تعليقات سابقة ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
في ظروف مواتية تماما، يتم الإعلان عن الأمر الرباني ثم النبوي بهَجر ثلاثة تخلفوا عن غزوة تبوك، لقد كان أسلوباً تربوياً حكيماً مع هؤلاء الذين قد أُمِن جانب ثباتهم على الإيمان، وكانت الاستجابة كبيرة من قِبل مجتمع متكاتف مترابط لم يُخلّ واحد منهم بهذا الأمر، بل بلغ الأمر إلى زوجاتهم.
ويبقى الثلاثة غرباء بين أهليهم وأحبابهم!
ويشاء الله –تعالى- أن يكون كعب بن مالك –رضي الله عنه- أشد الثلاثة بلاء، وأصعبهم محنة، فهو الشاب الفتيّ الذي لا يستغني عن مقابلة الناس ومحاورتهم والأخذ والعطاء، فلا صبر له على البقاء في البيت مثل: مرارة بن الربيع أو هلال بن أمية –رضي الله عنهم أجمعين-.
حتى إذا استحكم البلاء وعظمت المصيبة، يأتي خطاب من ملك غسان يستغل الموقف ويسعى لتهجير ذلك العقل وتلك الموهبة الشعرية في كعب –رضي الله عنه- ويصل خطابه إلى كعب في أحلك الظروف، يقول فيه: بلغنا أن صاحبك قد جفاك فالحق بنا نُواسِك. إنها فرصة لضعفاء الإيمان للهرب من هذا المجتمع الذي هجره برمته، وترَكَهُ كأنْ ليس موجودا بينهم، لينطلق إلى مجتمع يُقِيمُ له وزنَه، كيف وقد دعاه ملكهم، ووعده بأن يواسيه، حري بمثل هذا العقل أن يهاجر إلى ذلك البلد.
في ظروف مواتية تماما، يتم الإعلان عن الأمر الرباني ثم النبوي بهَجر ثلاثة تخلفوا عن غزوة تبوك، لقد كان أسلوباً تربوياً حكيماً مع هؤلاء الذين قد أُمِن جانب ثباتهم على الإيمان
لكن الإيمان الذي قد خالط بشاشة قلب كعب –رضي الله عنه- يأبى الخنوع لمثل هذا الإغراء وهذه المساومة.
بل إنه لم يكتف بالرفض فقط، إنما عمد تنور، كما يقول: فسَجَرْتُ بها التنور، فقد أحرق هذا الخطاب والإغراء في التنور، لئلا يطلع عليها مستقبلا في لحظة ضعف أو خَوَر فتلين قناته ويترك هذا المجتمع الفاضل والرعيل الفريد فيذوق بعدُ مرارة الألم ولات ساعة مندم.
وهنا موطن الشاهد من القصة.
كم نحتاج في الفتن والبلايا والرزايا أن ننأى بأنفسنا بعيدا عن الحِمى! لئلا نرتع فيه، وأن نبتعد ونجافي مواطن الهَلَكَة فلا نقربها فضلا عن أن نتعداها! "تلك حدود الله فلا تقربوها".(115/855)
لسنا بحاجة إلى مغامرات ومقامرات في ديننا، ولسنا بحاجة إلى أن نختبر قوة إيماننا فنقع في فخ الاقتراب من الفتن وتتبع خطوات الشيطان.
"كَمَثَلِ الشيطان إذ قال للإنسان اكفر فلما كفر قال إني بريء منك" ولو قال له الشيطان أول وهلة: اكفر، دون مقدمات لما كفر، ولكنه ظل معه أمدا طويلا يُحَسِّن إليه الاقتراب من المعصية والفتنة، بل ربما زيَّنها في صورة قُرْبة إلى الله -تعالى-، حتى جاء موعد حصاد هذا الجهد الجبار الذي عمله الشيطان ليقلب مسلما عابدا إلى كافر مخلد في نار جهنم –أعاذنا الله وإياكم-.
فحين تقلب صفحات هذه الشبكة العنكبوتية ليكن لك من نفسك رادع عن الاقتراب من مواطن الفتن، لئلا تزل بك قدم بعد ثبوتها.
ومثلها أو قريب منها القنوات الفضائية.
وحين تعزم نفسك على التوبة فلا تحتفظ بشيء من مخلفات الماضي التي تذكرك بالمعصية بل سارع واسجُرها في التنور.
وكلما دعتك نفسك في كل أمر من الأمور إلى الاقتراب من موطن الهلكة فقل في نفسك: إلى التنور أيتها الفكرة.
ردد هذه الكلمة على لسانك دائما: إلى التنور أيتها الفكرة، أو: ألا سجرت بها التنور، لتكون بعيداً بعيداً مواطن الهلكة.
وكما ذكر ابن القيم –رحمه الله- في أكثر من موضع: إذا جاءت الخاطرة فاطردها قبل أن تتحول إلى فكرة، ثم تتحول إلى هم ثم إلى عزيمة ثم إلى عمل ثم تتحول إلى عادة فيكون التخلص كل مرحلة أصعب من التي قبلها يصعب التخلص منها، كالشجرة الصغيرة التي تنبت ويسهل اقتلاعها، وكلما كبرت صار اقتلاعها أصعب.
هل لديك أمثلة أخرى في البعد عن الحِمَى؟ تذكرها واسجر بها التنور.
ـــــــــــــــــــ
نفع العداوة..
محمد العويد
4/8/1427
ارسل تعليقك ...
تعليقات سابقة ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
(ومن العداوة ما ينالك نفعه ..... ومن الصداقة ما يضر ويؤلم)
لا ينتظر المرء العاقل من العدو إحساناً ولا يستغرب منه لؤماً ، وإذا حصل النفع من العداوة فالغالب أنها ليست من حسن ذات العدو ولكنها من حسن معاداته وانكشاف حاله .
وإذا كان الأمر كذلك فالنفع من العداوة يبدأ من المعاداة ذاتها ، فكم من إنسان يحصل بعداوته خير كثير وكم من إنسان تتعطل بمصاحبته مصالح كثيرة , والناس بين هذين بين مقل ومكثر .(115/856)
إن الكثير من الصداقات في الدنيا كان استمرارها سببا في شقاء أصحابها في الآخرة ، لأنها لم تكن لله ، يقول الله _تعالى_ : "الْأَخِلَّاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ" [الزخرف : 67] .
ولو عرفنا أن مآل تلك الصداقات بهذه الصورة لفررنا منها كما يفر الصحيح من المجذوم .
وفي حديث أبي هريرة مرفوعاً : " فرمن المجذوم كما تفر من الأسد " . رواه البخاري
فإذا لم يكن بين الإنسان والأسد ألفة طبيعية ، فإن المؤمن ينبغي ألا يكون بينه وبين الشقي ألفة بهذا القدر ، وليعتبر أن العداوة موجودة بينهما طبعاً .
لا ينتظر المرء العاقل من العدو إحساناً ولا يستغرب منه لؤماً ، وإذا حصل النفع من العداوة فالغالب أنها ليست من حسن ذات العدو ولكنها من حسن معاداته وانكشاف حاله
لكن هذا لا علاقة له بقضية الدعوة إلى الله تعالى والصبر عليها ومجالسة المدعوين أياً كانوا ، وقد كان النبي _صلى الله عليه وسلم_ يغشى مجالس قريش يدعوهم إلى الله _تعالى_ رغم اشتمال مجالسهم على بعض ما حرم الله فضلاً عن الشرك الذي يجتمعون عليه . ( ولكن مجالستهم تكون بهدف دعوتهم ولا يقرهم فيها على باطل ولا يسكت فيها على منكر بل ينكر المنكر وينصح ويعلم ويدعو ).
فالقدر الذي يتم فيه تبليغ الدعوة إلى الله _تعالى_ لا يعني المصاحبة والصداقة ، كما أن المصاحبة لا تعني ترك مجالسة الآخرين .
ولعل الخلل الحاصل في هذا المفهوم هو السبب في جهل المحب من يحب ؟ والمعادي من يعادي ؟ ولذا فلا نستغرب الانتكاس الذي يصيب بعضاً ممن كانوا على طريق الهداية ، الذين خلطوا بين الأمرين فوقعوا في طريق المهالك .
وهذا الأمر رغم غياب مفهومه الصحيح عن كثير من الناس إلا أن النبي _صلى الله عليه وسلم_ نبه عليه ، وجعله ديناً يتدين به المرء.
عن أبي هريرة _رضي الله عنه_ أن النبي _صلى الله عليه وسلم_ قال : " الرجل على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل " رواه أبو داود والترمذي , قال الشيخ الألباني : حسن
فليس الأمر متوقفاً على أخلاق خليله أو طباعه فقط ، بل الأمر أكبر من ذلك ، إنه الدين .
وإذا كان العاقل يصون ماله عن مثل هؤلاء فإن من تمام تعقله أن يصون دينه عن تدنيسهم ، فإنه ليس بعد ذهاب الدين من خير .
والعداوة مطلوبة لبعض الناس كفا لخيره وشره .
أما الشر فالفرار منه مطلوب وأما خيره فالفرار منه أشد طلباً ، لأن خير ما يقابلك به بعد خيره أن يمن به عليك ، ويرى أنه قد أحسن عليك إحساناً عظيماً ، ويجعل إحسانه بمثابة طوق النجاة الذي من به عليك ، والذي لولاه لما صرت إلى ما صرت إليه .
وغاية النفع مع هؤلاء أن يكرهوك ففي كرههم صلاح أمر دينك ودنياك.(115/857)
(وقد زادني حبا لنفسي أنني ... بغيض إلى كل امرئ غير طائل )
ـــــــــــــــــــ
ثق بربك .. لا بنفسك
د . فوز كردي
27/7/1427
ارسل تعليقك ...
تعليقات سابقة ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
كنت أتأمل أوراق التعريف والدعاية لكثير من الدورات التدريبية التي تجد إقبالا متزايداً في واقع عامة الناس - لكونها تنتشر تحت مظلات نفسية أو تربوية أو إدارية - ، فوجدت أن القاسم المشترك بينها هو: الوعد بإيقاد شعلة "الثقة بالنفس" بما أسموه برمجة عصبية ، أو تنويماً إيحائياً ، أو طاقة بشرية أو كونية.. والهدف من ورائها هو تحرير النفس من العجز والكسل والسلبية لتنطلق إلى مضمار الحياة بفاعلية وإيجابية، وتصل إلى النجاح والتميّز والقدرات الإبداعية..
قطع علي تأملاتي صوت ابنتي تقرأ بفاتحة الكتاب: " إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ "، عندها سألت نفسي هل ما أحتاجه للفاعلية والإيجابية والهمة الوقادة العلية هو أن أثق بنفسي، وأستعين بذاتي وقدراتي وإمكاناتي، تأملت.. وتأملت ثم كتبت أسطري هذه بعنوان "ثق بربك لا بنفسك":
الثقة بالنفس... كلمات جميلة براّقة.. كلمات يرسم لها الخيال في الذهن صورة جميلة، ظلالها بهيجة..
لذلك تجد الدعوة إلى "الثقة بالنفس"منطلق لترويج كثير من التطبيقات والتدريبات.. فكل أحد يطمع في أن يمتلكها، وكل أحد يودّ لو يغير واقع حياته عليها..
ولكن.. قف معي لحظة
تعال معي أيها القارئ الكريم نتأمّل جمالها:
إنها صورة ذلك الإنسان الذي يمشي بخطوات ثابتة وجنان مطمئن..
إنها صورة ذلك الصامد في وجه أعاصير الفتن..
إنها صورة ذلك المبتسم المتفائل برغم الصعاب..
إنها صورة ذلك الذي يجيد النهوض بعد أي كبوة ..
إنها صورة ذلك الذي يمشي نحو هدفه لا يلتفت ولا يتردد..
ما أجملها من صورة!
لذلك تجد الدعوة إلى "الثقة بالنفس"منطلق لترويج كثير من التطبيقات والتدريبات.. فكل أحد يطمع في أن يمتلكها، وكل أحد يودّ لو يغير واقع حياته عليها..
ولكن.. قف معي لحظة، وتأمل هذه النصوص:
" هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا " [الإنسان:1].
" يأَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ " [فاطر:15].(115/858)
" وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا " [النساء:28].
" وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذلِكَ غَدًا . إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ " [الكهف: 23].
" إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ " [الفاتحة:5].
وتفكّر معي في معاني هذه الدعوات المشروعة:
"اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك... أبوء بنعمتك عليّ وأبوء بذنبي فاغفر لي..."
"اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، فإنك تعلم ولا أعلم..."
"اللهم لا حول ولا قوة لي إلا بِك..."
" اللهم إني أبرأ من حولي وقوتي إلى حولك وقوّتك..."
" اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي وقلة حيلتي..."
"اللهم لا تكلني إلى نفسي طرفة عين ولا أقل من ذلك فأهلك..."
"اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك..."
ألا ترى معي - أيها القارئ الكريم- أن النفس فيها تتربى على أن تعترف بعجزها وفقرها، وتقرّ بضعفها وذلّها، ولكنها لاتقف عند حدود هذا الاعتراف فتعجز وتُحبط وتكسل، وإنما تطلب قوّتها من ربها، وتسعى وتعمل وتتذلل لمن بـ "كن" يُقدرها على ما يريد، ويُلين لها الحديد، ويعطيها فوق المزيد...
هذه - يا أحبّة - هي طريقة الإسلام في التعامل مع النفس، والترقّي بها، وتتلخّص في:
إنه المنهج الذي تعترف فيه النفس بفقرها وذلّها، وتتبرأ من حولها وقوّتها، وتطلب من مولاها عونه وقوّته وتوفيقه وتسديده..فيعطيها جلَّ جلاله، ويكرمها ويُعليها..
أولا: تعريفها بحقيقتها، فقد خلقها الله من عدم، وجبلها على ضعف، وفطرها على النقص والاحتياج والفقر.
ثانيًا: دلالتها على المنهج الذي يرفعها من هذا الضعف والفقر الذي جُبلت عليه، لتكون برغم صفاتها هذه أكرم خلق الله أجمعين!! تكريمٌ قد تجاوز به مكانة من خلقهم ربهم من نور، وجبلهم على الطاعة ونقّاهم من كل خطيئة " الملائكة الأبرار"
ثالثًا: تذكيرها بأن هناك من يريد إضلالها عن هذا الطريق بتزيين غيره مما يشتبه به لها، وحذّرها من اتّباعه، وأكد لها عداوته، وأبان لها طرق مراغمته..
إنه المنهج الذي تعترف فيه النفس بفقرها وذلّها، وتتبرأ من حولها وقوّتها، وتطلب من مولاها عونه وقوّته وتوفيقه وتسديده..فيعطيها جلَّ جلاله، ويكرمها ويُعليها..
منهج تعترف فيه بضعفها واحتياجها، وتستعين فيه بخالقها ليغنيها ويعطيها، ويقيها شر ما خلقه فيها..فيقبلها ويهديها، ويسددها ويُرضيها..
منهج تتخذ فيه النفس أهبة الاستعداد لعدوّها المتربص بها ليغويها، فتستعيذ بربها منه، وتدفعه بما شرع لها فإذا كيده ضعيف، وإذا قدراته مدحورة عن عباد الله المخلصين.. فقد أعاذهم ربهم وكفاهم وحماهم هو مولاهم، فنِعم المولى ونِعم النصير..
إنه منهج يضاد منهج قارون : " إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي ".
إنه منهج ينابذ منهج الأبرص والأقرع : "إنما ملكته كابراً عن كابر".(115/859)
إنه منهج يتبرّأ صاحبه أن يكون خصيماً مبيناً لربه الذي خلقه وربّاه بنعمه، أو ينازعه عظمته وكبريائه.
إنه منهج لا يتوافق مع مذهب"القوة" الذي يقول زعيمه "نيتشه": سنخرج الرجل السوبرمان الذي لا يحتاج لفكرة الإله؟!
إنه منهج يصادم منهج الثيوصوفي "وليام جيمس" ومذهبه البراجماتي، وأتباعه "باندلر وجرندر"، ومن سار على نهجهم من بعدهم: " أنا أستطيع.. أنا قادر.. أنا غني.. أنا أجذب قدري..".
تأمّل هذا - أيها القارئ الكريم - ولا يشتبه عليك قول الله _عز وجل_: " وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ "، فقد قال بعدها: " إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ "؛ فمنه يُستمد العلوّ، وبدوام الإلحاح والطلب منه تتحقق الرفعة..
احذر - أخي - ولا يشتبه عليك قول الرسول المصطفى _صلى الله عليه وسلم_: « الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ » فالمؤمن القوي ليس قوياً من عند نفسه، ولا بمقومات شخصيّته، تدريباته وبرمجته للاواعي! وإنما هو قوي لاستعانته بربّه، وثقته في موعوداته الحقة..
وإن رغبت في نفض الإحباط عنك، والتطلّع إلى الحياة بنظرة استشرافية تفاؤلية؛ فعليك بمنهج العبودية على الطريقة المحمدية، ودع عنك طريقة باندلر وجرندر الإلحادية؛ فوراؤها ثقة وهمية ممزوجة بطقوس سحرية، وقدرات تواصل مادية، تشهد على فشلها فضائحهم الأخلاقية،
تأمّل كلمات القوة من موسى -عليه السلام - أمام البحر والعدو ورائه: " قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ "...ثقته ليست في نفسه، وقد أُعطي - عليه الصلاة والسلام - من المعجزات وخوارق العادات ما أعطي!!! وإنما ثقته بتوكّله على الذي يستطيع أن يجعله فوق القدرات البشرية، بل يجعل لعصاه الخشبية قدرات لا يستطيعها أساطين الطقوس السحرية..
تأمّل - أخي الكريم - هذه الكلمات النبوية « اسْتَعِنْ بِاللّهِ. وَلاَ تَعْجِزْ »..
إنها كلمات الحبيب _صلى الله عليه وسلم_، يربّي أمّته على منهج الإيجابية والفاعلية، ليس على طريقة أهل البرمجة اللغوية العصبية..
لم يقل: تخيل قدرات نفسك..
لم يقل: أيقظ العملاق الذي في داخلك وأطلقه..
لم يقل: خاطب اللاواعي لديك برسائل ايجابية، وبرمجه برمجةً وهمية..
وإنما دعاك - عليه الصلاة والسلام - إلى الطريقة الربانية « اسْتَعِنْ بِاللّهِ. وَلاَ تَعْجِزْ »..
فاستعن به وتوكل عليه، ولا تعجزن بنظرك إلى قدراتك وإمكاناتك، فأنت بنفسك ضعيف ظلوم جهول، وأنت بالله عزيز.. أنت بالله قوي.. أنت بالله قادر.. أنت بالله غني..
ومن هذا الوجه، ومن منطلق فهم معاني العبودية، وفقه النصوص الشرعية، قال الشيخ الكريم والعلامة الجليل بكر أبو زيد - حفظه الله - في كتابه "المناهي اللفظية ": أن لفظة الثقة بالنفس لفظة غير شرعية ووراؤها مخالفة عقدية..."(115/860)
فإن رجوت - في زمان تخلّف عام يعصف بالأمة - رفعة وعزة ونهضة وإيجابية... وإن أردت تواصلا -على الرغم من الصعاب - بفاعلية..
وإن رغبت في نفض الإحباط عنك، والتطلّع إلى الحياة بنظرة استشرافية تفاؤلية؛ فعليك بمنهج العبودية على الطريقة المحمدية، ودع عنك طريقة باندلر وجرندر الإلحادية؛ فوراؤها ثقة وهمية ممزوجة بطقوس سحرية، وقدرات تواصل مادية، تشهد على فشلها فضائحهم الأخلاقية، ومرافعاتهم القضائية التي ملئت سيرتهم الذاتية.
فحذار من هذه التبعية إلى جحر الضب الذي حذّرك منه نبيك في الأحاديث النبوية، وحذار من استبدال الطريقة الربانية بتقنيات البرمجة العصبية، فإنها من حيل إبليس الشيطانية وتزيينه للفلسفات الإلحادية؛ لتتكل على نفسك الضعيفة وقدراتك البشرية فيكلك لها رب البرية، ويمدك في غيك بحصول نتائج وقتية، وشعور سعادة وهمية..حتى تنسى الافتقار الذي هو لبّ العبودية، فتُحرم من السعادة الحقيقية التي تغنى بها من وجدها وبيّن أسباب حيازتها، فقال:
ومما زادني شرفاً وتيهًا***وكدت بأخمصي أطأ الثريا
دخولي تحت قولك ياعبادي***وأن صيّرت أحمد لي نبياً
ـــــــــــــــــــ
نموذج التميز بين التربية الإسلامية و الغربية
د.ليلى البيومي
21/7/1427
ارسل تعليقك ...
تعليقات سابقة ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
إذا كان هناك اتفاق كامل بين غالبية علماء المسلمين والمنصفين من علماء الغرب على أن علوما طبيعية كثيرة ، قامت وتأسست على إسهامات العلماء المسلمين المتميزين، فالأكثر تأكيداً بين العلماء المنصفين أيضاً أن علم التربية هو علم إسلامي خالص بذل فيه العلماء المسلمون الأفذاذ أمثال كثير من التابعين الأوائل , ومن جاء بعدهم من تابعيهم , ثم الذين دونوا في هذا العلم أمثال : الغزالي والماوردي وابن القيم وغيرهم جهوداً جبارة في تأسيسه وتطويره.
فمنهج التربية الإسلامية يتميز عن غيره من المناهج التربوية القديمة والحديثة بشموله لمختلف أبعاد حياة الإنسان الدينية والدنيوية، وعنايته الكاملة بجميع جوانب النفس البشرية، في تكامل وتوازن غير مسبوقين.
فالتربية اليونانية مثلاً قد اهتمت اهتماماً بالغاً بالجانب العقلي للإنسان في الوقت الذي أهملت فيه بقية الجوانب الأخرى، في حين أن التربية الرومانية ركزت اهتمامها على الجانب الجسمي مقابل إهمال غيره من الجوانب. أما التربية المسيحية فقد عنيت كثيراً بالجانب الروحي للإنسان على حساب غيره من الجوانب الأخرى ... وهكذا.(115/861)
فمنهج التربية الإسلامية يتميز عن غيره من المناهج التربوية القديمة والحديثة بشموله لمختلف أبعاد حياة الإنسان الدينية والدنيوية، وعنايته الكاملة بجميع جوانب النفس البشرية، في تكامل وتوازن غير مسبوقين
أما التربية الإسلامية فقد كانت مختلفة عن هذه المناهج كلها، حيث تميز منهجها التربوي بشموله لحياة الإنسان كلها، وعنايته بجميع جوانب النفس البشرية المتمثلة في الأبعاد الرئيسة الثلاثة (الروح، والعقل، والجسم) دونما إهمال أو مبالغة في حق أحد منها على حساب الآخر. والتربية الإسلامية مع شمولها تسعى إلى تحقيق التوازن المطلوب بينها دونما إفراط أو تفريط، ودون أن يتعدى جانب على آخر.
والنظريات الغربية كلها تتفق في كونها صادرة عن مصدر وحيد في المعرفة هو العقل البشري، كما أنها صادرة عن تصور واحد للكون والإنسان والحياة، كما أن هذه النظريات ضيقة الأفق وأحادية النظرة بشكل أو آخر.
فالمذهب التربوي المثالي هو صدى للفلسفة الأفلاطونية حيث يقول أفلاطون بعالمين: العالم المحسوس الذي يتألف من الأجسام أو الماديات، والعالم المعقول الذي يتكون من الموجودات المجردة.
فتلك النظرية تنطلق أساساً من الاهتمام الكامل بالروح والسعي لنجاتها على حساب المادة، وينتج عنها بالطبع إهمال مشكلات الإنسان على الأرض وفي عالم الواقع.
والمذهب المثالي في التربية الغربية مؤداه أن ثمة عالمين اثنين: عالماً حسياً يتألف وبالتالي فهناك اختلاف وتناقض بين عالم "الأجسام"، وعالم "المثل". وبناء على ذلك فإن الإنسان يعيش في عالمين: عالم مادي متغير، وعالم روحاني خالد، وهذا الأخير هو عالم المثل العليا التي تشكل الهدف الأسمى للتربية والحياة. وهكذا رأى الغربيون في الإنسان جانبيْن: جانباً روحياً سامياً، وجانباً جسدياً تحكمه النوازع الدنيا والشهوات، وهذان الجانبان كالخطين المتوازيين يتجاوران ولا يلتقيان، ويتناقضان ولا يتكاملان، وهو ما أدى إلى قيام سلطتين في بلاد الغرب: سلطة روحية تشرف عليها الكنيسة، وسلطة زمنية قوامها حكم الواقع مفصولاً عن الدين.
أما المذهب الطبيعي، فإنه على العكس من المذهب المثالي، يركز على الجسد وما به من عواطف وغرائز وميول، فيعطيها الأهمية القصوى على حساب العقل.
المذهب الطبيعي في الفلسفة الغربية للتربية ينطلق من أن التربية القويمة لا تتحقق إلا بإطلاق الحرية التامة للأطفال، وأن من مقتضيات الحرية أن يكون التعليم مختلطاً، وأن يسمح بالرقص والسباحة والتعري ومناقشة مسائل الجنس بلا تحفظ، أما المشكلات الجنسية فترجع أسبابها ـ طبقاً لهذا المذهب ـ إلى رغبة الآباء الذين يريدون حمل أبنائهم على مبادئ الدين وقواعد الأخلاق! ويرون أن تكون تربية الطفل بين سن الخامسة والثالثة عشرة سلبية، لا يُعلَّم فيها الطفل شيئاً ولا يربى خلالها أي تربية، بل يترك للطبيعة، محاطاً بأجهزة وأدوات من شأنها أن توسع مداركه.
والنظريات الغربية كلها تتفق في كونها صادرة عن مصدر وحيد في المعرفة هو العقل البشري، كما أنها صادرة عن تصور واحد للكون والإنسان والحياة، كما أن هذه النظريات ضيقة الأفق وأحادية النظرة بشكل أو آخر.(115/862)
أما المذهب البرجماتي، فيصرف النظر بعيداً عن الأشياء الأولية والمبادئ والقوانين والحتميات المسلّم بها، ويهتم بالأشياء الأخيرة، أي الثمرات، والنتائج، والآثار، ومركز الثقل في اهتمامه لا ينصبّ على الحقائق الثابتة، وإنما على ما يحصله الإنسان من منافع يستثمرها في حياته العلمية حتى إنه ينظر إلى الحقيقة على أنها هي المنفعة. وهكذا فإن المذهب النفعي الذرائعي المعروف باسم البراجماتية هو ذو صبغة عملية تجريبية لا يبدو فيها أي أثر للقيم أو الأخلاق. وهو الذي أسس لما يعرفه الناس الآن أن (الذي تغلب به العب به). وهي أسس لا تقيم مبادئ ولا تعلم أخلاقاً وقيماً، وإنما تنتج مجموعة من الأنانيين الذين لا يهمهم إلا تحقيق أكبر قدر من المصالح ولو على حساب الآخرين.
وهكذا تركز هذه المذاهب على بعد واحد من أبعاد الكيان الإنساني على حساب الأبعاد الأخرى، أما التصور الإسلامي في التربية فقد تجاوز ذلك التخبط الذي ظل يلاحق النظريات الغربية، لأنه ينطلق من أسس وأصول محكمة وفهم شامل حول الكون والإنسان والمجتمع بني على وحي ممن خلق الإنسان ويعلم حقيقته وجوهره، وهو يتعامل مع الإنسان على بصيرة، بمكوناته كلها، دون إغفال إحداها لصالح الأخرى،لأن مطبقيه يعلمون أن ذلك الإغفال هو مدخل الخلل في الكيان البشري وانعدام التوازن فيه، وبالتالي إفلات الزمام تماماً من قبضة المربين الذين يتولون تنشئة الإنسان، وتعرّض هذا الأخير للدمار والانتكاس.
تعدد الوسائل والتأثير
ووسائل التربية الإسلامية كثيرة ومتعددة، فهناك التربية بالموعظة، حيث تتأثر النفس الإنسانية بالكلام الموجه إليها، إلا أن هذا التأثر يتفاوت بين القبول والرفض، حسب طريقة الكلام أو الوعظ الموجه إليها، ولذلك فالواعظ يجب أن يتمتع بصفات تساعده على التأثير: من لباقة في اللسان، ووجه ضاحك هادئ يوحي بالصفاء والارتياح.
وهناك التربية بالقدوة، فالناشئ الصغير ينبهر بنجوم المجتمع حوله ويحاول أن يقلدهم ويتخذهم مثلاً عليا. ولكن هناك من المجتمعات من تكون قدوته عالية الهمة، وذات فائدة وقيمة في مجتمعها مثل العلماء والقادة العسكريين، وكثير من المجتمعات تتدنى فيها القدوة لتصبح الراقصات والمغنيات ولاعبي الكرة.
وقد أجمع المربون المسلمون على أن شخصية الرسول _صلى الله عليه وسلّم_ هي القدوة التي تمثلها المسلمون على اختلاف العصور.
وهناك التربية بالعقوبة، ولكن لا يلجأ المربون إلى هذه الوسيلة إلا بعد استنفاذ الوسائل الأخرى مثل الموعظة الحسنة والصبر الطويل.
وهكذا تركز هذه المذاهب على بعد واحد من أبعاد الكيان الإنساني على حساب الأبعاد الأخرى، أما التصور الإسلامي في التربية فقد تجاوز ذلك التخبط الذي ظل يلاحق النظريات الغربية، لأنه ينطلق من أسس وأصول محكمة وفهم شامل حول الكون والإنسان والمجتمع
ولكن يجب أن يتدرج العقاب حسب وضع الطفل واستجابته، فقد يلجأ المربي إلى حرمان الطفل من شيء يحبه أو قد يعاقبه بوضعه في غرفة خالية دون أن يكلم أحداً، أو يحرمه من نزهة... الخ.(115/863)
ويوجد أيضاً التربية بالقصة، حيث إن تأثير القصص عظيم في الصغار والكبار، فالصغير عند سماعه لقصة جميلة ينتبه إليها ويفهم كل ما فيها وما ترمي إليه. والإسلام يدرك هذا الميل الفطري للقصة ويدرك ما لها من تأثير ساحر على القلوب فيستغلها لتكون وسيلة من وسائل التربية والتقويم. ولذلك استخدم القرآن أسلوب القصص في تعليم المسلمين وتقريب المعاني والأهداف والغايات لأذهانهم.
ويوجد أيضاً التربية بملء الفراغ، فالإسلام حريص على الوقت ويوجه المسلمين إلى استغلال وقت فراغهم فيما يفيدهم ويفيد مجتمعهم وأمتهم، وأول الأولويات للمسلم هي الفرائض والواجبات الواجبة عليه أولاً كالعبادات والتحصيل العلمي أو السعي لاكتساب المعاش وإذا شعر بفراغ عليه بالقراءة أو الرياضة أو الصحبة البريئة أو شغل الوقت بما ينفعه وينفع الناس.
وهناك التربية بالعبرة، أي ما يستخلصه الإنسان بنفسه من دروس يتعلمها من أحداث الحياة، وغالباً ما تكون هذه الأحداث قاسية عليه، وعلى المربي أن يستغل هذه الدروس والأحداث لتربية النفوس وتهذيبها، لأن الإنسان في مثل هذه الظروف الصعبة يقبل التوجيه، ولا يستنكف من التعلم مهما كان متقدماً في العمر.
المعلم والتلميذ في الفكر الإسلامي
لقد عني علماء الإسلام بالكتابة عن العالم والمتعلم أو المعلم والتلميذ وما لهما من حقوق وما عليهما من واجبات، وكتبوا كثيراً عن الصفات التي يجب أن يتحلى بها كل منهما. وقد حظي المعلم بالتقديس والتبجيل, وجعله في منزلة تلي منزلة الأنبياء.
ووضع علماء الإسلام للمعلم آداباً وشروطاً منها: الشفقة على المتعلمين، وأن يكون تعليمهم دون مقابل، وأن لا يدخر المعلم في نصح المتعلم شيئاً، وضرورة أن يزجر المعلم المتعلم عن سوء الخلق بطريقة التعريض ما أمكن، وألا يفرض على الطالب اتجاه المعلم وميله، وأن يتعامل مع المتعلم على قدر فهمه، وأن يكون المعلم عاملاً بعلمه.
ووضعوا أيضاً مواصفات للمتعلم منها: تقديم مهارة النفس على رذائل الأخلاق ومذموم الصفات، والتقليل ما أمكن من الاشتغال بالدنيا، وألا يتكبر على المعلم ولا يتأخر على العلم، وعلى المبتدئ ألا يخوض أو يصغي إلى اختلاف الناس، كما أن على طالب العلم ألا يدع فناً من العلوم المحمودة ولا نوعاً من أنواعها إلا وينظر فيه، وعليه ألا يخوض في فن حتى يستوفي الفن الذي قبله، وأن يعرف السبب الذي به يدرك أشرف العلوم، وأن يكون قصد المتعلم في الحال تحلية باطنه وتجميله بالفضيلة، وأن يعلم نسبة العلوم إلى المقصد.
تكامل في النظرية والتطبيق
إن مصدري التصورات الإسلامية هما القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة , وهما الإلهام الأعظم للحضارة الإسلامية، وقد كان التكامل في نظرية المعرفة الإسلامية ذا أثر كبير وواضح في حركة الفلسفة ونتاج العلماء المسلمين على مر العصور.
وتمتلك التربية الإسلامية منهجاً كاملا للحياة والنظام التعليمي ومكوناته لأنها تضم مناحي الإنسان جميعاً, ولا تؤثر ناحية على ناحية أخرى, أو جانب على جانب مما يدخل تحت مفهوم الإنسان.(115/864)
وهي تتناول الحياة الدنيا والحياة الآخرة على قدم المساواة, ولا تهتم بواحدة منها على حساب الأخرى.
وهي تعنى بالإنسان في كل مرافق حياته, وتنمي لديه العلاقات التي تربطه بالآخرين, ولا تقتصر على علاقة واحدة أو جانب واحد فقط بل تهتم بالعلاقات كلها وتؤكدها وهذا يحقق التكامل والتوازن في الشخصية.
وهي أيضاً مستمرة تبدأ منذ أن يتكون الإنسان في بطن أمه إلى أن تنتهي حياته على الأرض، ثم تشمل ألوانا من التربية المقصودة وغير المقصودة و وتعليما ذاتياً, وتشارك في بناء شخصية الإنسان فمؤسسات المجتمع جميعا تقوم على التربية, وبوظيفة التربية وكل أفراد المجتمع يؤدون الأثر نفسه, منهم إما معلمون أو متعلمون فالحياة كلها تربي الإنسان، وليس المعلم وحده هو المربي، ولا في المدرسة وحدها يتربى الإنسان.
فلسفة متوازنة ومتعددة الجوانب
والخبرة الإسلامية في مجال التربية متعددة الجوانب والمجالات، فهي من ناحية تسعى إلى معالجة الأفراد معالجة نفسية، وإعدادهم ليكونوا أعضاء صالحين في مجتمعهم، عن طريق غرس روح الثقة والاطمئنان والأمان والهدوء والراحة النفسية عند الإنسان، خاصّة عندما يعده بالأجر والثواب والمغفرة وقبول التوبة والجنّة.
وعن طريق هذا المنهج يستطيع الأبوان والمربون أن يحرروا الأجيال الجديدة من تأثيرات الخوف والاضطراب والقلق والشعور بالدناءة والضعة، وكل ما يؤدّي إلى سحق شخصيّاتهم وانهيارهم النفسي، ليخرجوا إلى المجتمع الإسلامي صحيحين سالمين، وذو شخصيات قادرة على أداء دورها المسؤول والنافع بأفضل صورة ممكنة.
إن فلسفة الإسلام في هذا المجال تقوم على أن تربية الإنسان المتوازنة نفسيّاً وأخلاقيّاً وسلوكيّاً لها أثرها الكبير على استقرار شخصيّته، وسلامتها من الأمراض النفسية، والعقد الاجتماعية والحالات العصبية الخطيرة، وحالات القلق والخوف التي كثيراً ما تولّد لديه السلوك العدواني، فينشأ فرداً مجرماً خبيثاً مضرّاً فاسداً في المجتمع.
ومن ناحية ثانية تخاطب الإنسان على أساس أن قيمة كل امرئ وقدره معرفته، وأن الله_سبحانه_ يحاسب الناس على قدر ما آتاهم من العقول في دار الدنيا، وعلى أن الإنسان مخلوق عاقل مفكر، يستطيع أن يدرك الأشياء ويتعلمها بوعي، ويمكنه الاكتساب وتعلم المعارف والعلوم بواسطة إدراكه لعالم الطبيعة عن طريق تأمله في الكون وفيما خلق الله _عز وجل_.
ومن ناحية ثالثة تنطلق من أنه بقدر ما يقترن كمال الإنسان وسعادته بحسن خلقه وأدبه، يقترن انحطاطه وشقاؤه بسوء خلقه وغلظة تعامله، فهناك رابطة وعلاقة وطيدة بين تكوين الإنسان الداخلي وبين السعادة أو الشقاء اللذين يكتنفانه.
ومن ناحية رابعة يحث الإسلام المسلمين ويشجعهم على تكوين الروابط الاجتماعية البناءة، وجعل لها أساليب وممارسات تؤدي إلى الألفة والمحبة بين أبناء المجتمع الإسلامي، كآداب التحية والسلام والمصافحة بين المؤمنين، وتبادل الزيارات، وعيادة المرضى، والمشاركة في تبادل التهاني في الأعياد والمناسبات الدينية(115/865)
والاجتماعية، والاهتمام بالجار، وتسلية أهل المصائب والشدائد ومشاركتهم في عزائهم لو مات منهم أحد، وغيرها كثير.
كلمة أخيرة
إن إقامة بناء التربية الحديثة على أسس إلحادية أو علمانية قد أفسد التربية والمجتمع جميعاً؛ فالتربية لا يمكن أن تكون صالحة ومصلحة إلا في إطار غايتها العظمى وهي تحقيق العبودية لله تعالى، بينما التربية النفعية التي أقام الغرب أصولها قد شوشت على الناس إدراك معاني الخير والحق.
كما أن العلاقة بين التربية الغربية من جهة وبين الفلسفة وعلم النفس من جهة أخرى قد أورثتها كثيراً من الخلل والتناقض والاضطراب، وأكدت القطيعة بينها وبين الدين، بل جعلتها عدوة للدين تحاربه بسبب أو بدون سبب، ونسفت أساساً عظيماً من أسس التربية الصحيحة وهو أساس التعليم بالقدوة.
وختاماً، وبناءً على ما أسلفنا، فإن التربية الغريبة لم تفلح في إعداد الإنسان السوي، وإلا فما هو تفسير الحروب والدمار والأنانية وحب الذات والضياع الذي يعيشه الإنسان الغربي؟ الإنسان الذي قتل نفسه وغيره بسلاح المادة، وماذا قدمت الحضارة الغربية للطفولة؟ إنها طالبت بتحديد النسل، وتقليل عدد الأطفال الشرعيين، مقابل زيادة مطردة في الأطفال اللقطاء، واهتمت بمأكل وملبس وألعاب الطفل مقابل سلبه لحنان والديه وخروج، أعطته الدنيا وعلقته بها، وسلبته التفكير بالآخرة ونعيمها.
ـــــــــــــــــــ
غلاف القلب الشفاف ..
خالد روشه
14/7/1427
ارسل تعليقك ...
لا توجد تعليقات ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
khaled_rousha@yahoo.com
هو غلاف للقلب الشفاف يقيه جراح الأشواك، وهو سياج للنفس الرقراقة يمنع عنها ألوان القبح ومعاني الابتذال ، إنه الحياء ، ذاك الوصف الذي هو قرين بالنبلاء والعلماء والفوارس والصالحين وأهل المروءات فلا يكاد يتصف به أحد إلا وزينه ولا يكاد يقترن به أحد إلا رفعه .
و الوجه المصون بالحياء ، كالجوهر المكنون في الوعاء ، ولن يتزين إنسان بزينة هي أبهى ولا أجمل من الحياء ، عن أنس رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما كان الفحش في شئ قط إلا شانه ، ولا كان الحياء في شئ قط إلا زانه " . [ أخرجه الترمذي ] .
والقلوب الحية أهم أوصافها أنها حيية , و بحسب حياة القلب يكون فيه قوة الحياء ، وقلة الحياء من جمود القلب وربما كانت من علامات موته(115/866)
قال رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ : " الحياء لا يأتي إلا بخير " ، قال بشير بن كعب : " مكتوب في الحكمة أن منه وقارا ومنه سكينه " [أخرجه البخاري في الأدب عن عمران بن الحصين ] .
هو غلاف للقلب الشفاف يقيه جراح الأشواك , وهو سياج للنفس الرقراقة يمنع عنها ألوان القبح ومعاني الابتذال ، إنه الحياء ، ذاك الوصف الذي هو قرين بالنبلاء والعلماء والفوارس والصالحين وأهل المروءات فلا يكاد يتصف به أحد إلا وزينه ولا يكاد يقترن به أحد إلا رفعه
وكان مالك بن دينار يقول : " ما عاقب الله _تعالى_ قلبا بأشد من أن يسلب منه الحياء " ..
وقد رفع الإسلام شأن الحياء ، وحض عليه ، وامتدح أهله في القرآن الكريم ، والسنة المطهرة،
قال _تعالى_ : " فجاءته إحداهما تمشي على استحياء ". قال عمر _رضي الله عنه_ : " ليست بسلفع من النساء خراجه ولاجه ، ولكن جاءت مستترة ، قد وضعت كم درعها على وجهها استحياء " , وفي رواية : " جاءت تمشي على استحياء ، قائلة بثوبها على وجهها ، ليست بسلفع من النساء خراجة ولاجة " . [تفسير ابن كثير ]
سر الحياء :
وسر الحياء شهود النعمة والإحسان ، فإن الكريم لا يقابل بالإساءة من أحسن إليه ، وإنما يفعله اللئيم ، فيمنعه مشهد إحسانه إليه ، ونعمته عليه من عصيانه حياء منه , قال الجنيد : ( الحياء رؤية الآلاء ، ورؤية التقصير ، فيتولد بينهما حالة تسمي الحياء وحقيقته خلق يبعث على ترك القبائح ، ويمنع من التفريط في حق صاحب الحق ) , فإذا كان الإنسان يخجل من أن يسيء إلى من أحسن إليه من البشر ، فكيف لا يستحيي الإنسان من ربه واهب النعم التي لا تحصى .
قال الفضيل بن عياض : " لو خيرت بين أن أبعث فأدخل الجنة ، وبين أن لا أبعث لاخترت أن لا أبعث " ، قيل لمحمد بن حاتم : هذا من الحياء ؟ قال : نعم هذا من طريق الحياء من الله عز وجل .
و قال محمد بن على الترمذي : " اجعل مراقبتك لمن لا تغيب عن نظره إليك ، واجعل شكرك لمن لا تنقطع نعمه عنك ، واجعل طاعتك لمن لا تستغني عنه ، واجعل خضوعك لمن لا تخرج عن ملكه وسلطانه " .
وروي أن الأسود بن يزيد لما احتضر بكى ، فقيل له : " ما هذا الجزع ؟ " ، قال : " مالي لا أجزع ؟ ومن أحق بذلك مني ؟ والله لو أتيت بالمغفرة من الله _عز وجل_ لأهمني الحياء منه مما قد صنعت ، إن الرجل ليكون بينه وبين الرجل الذنب الصغير فيعفو عنه ، ولا يزال مستحييا منه " .
وقال الحسن : " لو لم تبك إلا للحياء من ذلك المقام ؛ لكان ينبغي لنا أن نبكي فنطيل البكاء " .
عن عبد الله بن عمر _رضي الله عنهما_ أن رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ قال : "الحياء والإيمان قرنا جميعا ؛ فإذا رفع أحدهما ، رفع الآخر " . ( رواه الحاكم وقال على شرط البخاري ومسلم )(115/867)
وعن عبد الله بن عمر أيضا أن رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ مر على رجل من الأنصار وهو يعظ أخاه في الحياء ، ـ وفي رواية : وهو يعاتب أخاه على الحياء يقول : " إنك لتستحيي " ، حتى كأنه يقول : " قد أضر بك " .فقال رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ : " دعه، فإن الحياء من الإيمان " رواه مسلم
وعن أبي هريرة _رضي الله عنه_ : قال رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ : " الإيمان بضع وسبعون شعبة ، فأعلاها : لا إله إلا الله ، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق ، والحياء شعبة من الإيمان " رواه البخاري ومسلم
والرب _سبحانه_ يحب من عباده أن يتصفوا بالحياء , ففي حديث يعلى بن أمية " أن الله يحب الحياء والستر " أبو داود والنسائي .
وعن عبد الرحمن بن أبي بكرة قال : قال لي أشج بني عصر : قال لي رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ : " إن فيك لخلتين يحبهما الله عز وجل " ، قال : قلت : " وما هما ؟ " قال : " الحلم والحياء " ، قال : قلت : " قديما كانتا فيّ أم حديثا ؟ " ، قال : " قديما " ، قال : " الحمد لله الذي جبلني على خلتين يحبهما الله _عز وجل_ " رواه أحمد
وعن أبي مسعود البدري _رضي الله عنه_ أن رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ قال : ( إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى : " إذا لم تستح ، فاصنع ما شئت " ) رواه البخاري
خلق الصالحين :
عن أبي هريرة _رضي الله عنه_ قال رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ : ( إن موسى كان رجلا حييا ستيرا ، لا يرى من جلده شئ ، استحياء منه ) . [ رواه البخاري ] .
وعن سعيد الخدري _رضي الله عنه_ قال : ( كان رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ أشد حياء من العذراء في خدرها ، فإذا رأى شيئا يكرهه ، عرفناه في وجهه ) . [ رواه البخاري ] وجاءت فاطمة رضي الله عنها رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ تسأله خادما ، فقال : " ما جاء بك يا بنية ؟ " ، فقالت : " جئت أسلم عليك " ، واستحيت ، حتى إذا كانت القابلة ، أتته ، فقالت مثل ذلك .. ) وفي بعض روايات هذه القصة : ( أن رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ جاءها وعليا وقد أخذا مضاجعهما ) الحديث وفيه : ( فجلس عند رأسها ، فأدخلت رأسها في اللفاع ، حياء من أبيها ) . [ رواه البخاري] .
وعن أنس _رضي الله عنه_ : ( أن رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ أتى فاطمة بعبد قد وهبه لها، قال : وعلى فاطمة _رضي الله عنها_ ثوب ، إذا قنعت به رأسها ، لم يبلغ رجليها ، وإذا غطت به رجليها ، لم يبلغ رأسها ، فلما رأى النبي _صلى الله عليه وسلم_ ما تلقى قال : " إنه ليس عليك بأس ، إنما هو أبوك وغلامك " . [ أخرجه أو داود ] .
وعن أم المؤمنين عائشة _رضي الله عنها_ قالت : كنت أدخل البيت الذي دفن فيه رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ وأبي _رضي الله عنه_ واضعة ثوبي ، وأقول : "(115/868)
إنما هو زوجي وأبي " فلما دفن عمر _رضي الله عنه_ ، والله ما دخلته إلا مشدودة علىّ ثيابي حياء من عمر _رضي الله عنه_ " .
وجاءت فاطمة بنت عتبه _رضي الله عنه_ تبايع رسول الله _صلى عليه وسلم_ ، فأخذ عليها : ( ألا يشركن بالله شيئا و لا يسرقن ولا يزنين ) الآية ، فوضعت يدها على رأسها حياء ، فأعجبه ما رأى منها ، فقالت عائشة _رضي الله عنها_ : " أقرى أيتها المرأة ، فوالله ما بايعنا إلا على هذا " ، قالت : " فنعم . إذن " ، فبايعها بالآية . [ رواه الإمام أحمد في " المسند " ] .
وهذا الصديق _رضي الله عنه_ يقول وهو يخطب في المسلمين : " أيها الناس استحيوا من الله ، فوالله ما خرجت لحاجة منذ بايعت رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ أريد الغائط إلا وأنا مقنع رأسي حياء من الله " .
وهذا الفاروق عمر _رضي الله عنه_ يقول : " من قل حياؤه ، قل ورعه ، ومن قل ورعه ، مات قلبه " ، ويقول : " من استحيا استخفى ، ومن استخفى اتقى ، ومن اتقى وقي " .
وعن الحسن رحمه الله ـ وذكر عثمان _رضي الله عنه_ وشدة حيائه ـ ، قال : " إن كان ليكون في البيت ، والباب عليه مغلق ، فما يضع عنه الثوب ليفيض عليه الماء ، يمنعه الحياء أن يقيم صلبه " .
وعن أبى موسى _رضي الله عنه_ قال : " إني لأغتسل في البيت المظلم فما أقيم صلبي حتى آخذ ثوبي حياء من ربي _عز وجل_ " .
ـــــــــــــــــــ
الخبيئة الصالحة.. زورق النجاة
خالد روشه
7/7/1427
ارسل تعليقك ...
تعليقات سابقة ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
زورق من ركبه نجا وعبادة من اعتادها طهر قلبه وهذب نفسه وعودها الإخلاص، إنها العبادة في السر والطاعة في الخفاء، حيث لا يعرفك أحد ولا يعلم بك أحد غير الله _سبحانه_ فأنت عندئذ تقدم العبادة له وحده غير عابئ بنظر الناس إليك وغير منتظر لأجر منهم مهما قل أو كثر.. وهي وسيلة لا يستطيعها المنافقون أبدًا، وكذلك لا يستطيعها الكذابون؛ لأن كلاً منهما بنى أعماله على رؤية الناس له، وإنما هي أعمال الصالحين فقط.
نحن.. وخبيئة الصالحات:
إن أعمال السر لا يثبت عليها إلا الصادقون, فهي زينة الخلوات بين العبد وبين ربه، ولكن في وقت قل فيه عمل السر أو كاد أن ينسى ينبغي على الحركة الإسلامية إحياء معناه, علمًا وعملاً، وينبغي على شباب الصحوة الإسلامية تربية أنفسهم عليه.(115/869)
وليعلم كل امرئ أن الشيطان لا يرضى ولا يقر إذا رأى من العبد عمل سر أبدًا، وإنه لن يتركه حتى يجعله في العلانية؛ ذلك لأن أعمال السر هي أشد أعمال على الشيطان، وأبعد أعمال عن مخالطة الرياء والعجب والشهرة.
زورق من ركبه نجا, وعبادة من اعتادها طهر قلبه وهذب نفسه وعودها الإخلاص، إنها العبادة في السر والطاعة في الخفاء, حيث لا يعرفك أحد ولا يعلم بك أحد غير الله سبحانه
وإذا انتشرت أعمال السر بين المسلمين ظهرت البركة وعم الخير بين الناس, وإن ما نراه من صراع على الدنيا سببه الشح الخارجي والشح الخفي, فأما الأول فمعلوم, وأما الثاني فهو البخل بالطاعة في السر, إذ إنها لا تخرج إلا من قلب كريم قد ملأ حب الله سويداءه، وعمت الرغبة فيما عنده أرجاءه، فأنكر نفسه في سبيل ربه، وأخفى عمله يريد قبوله من مولاه، فأحبب بهذه الجوارح المخلصة والنفوس الطيبة الصافية النقية التي تخفي عن شمالها ما تنفق يمينها...
النبي _صلى الله عليه وسلم_ ينصح بخبيئة صالحة..
* قال رسول الله _صلى الله عليه وسلم_:(من استطاع منكم أن يكون له خبء من عمل صالح فليفعل)( ).
* وعن أبي ذر _رضي الله عنه_ أن رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ قال: (ثلاثة يحبهم الله وثلاثة يشنؤهم الله: الرجل يلقى العدو في فئة فينصب لهم نحره حتى يقتل أو يفتح لأصحابه، والقوم يسافرون فيطول سُراهم حتى يُحبوا أن يمَسَّوا الأرض فينزلون، فيتنحى أحدهم فيصلي حتى يوقظهم لرحيلهم، والرجل يكون له الجار يؤذيه جاره فيصبر على أذاه حتى يفرِّق بينهما موت أو ظعن، والذين يشنؤهم الله: التاجر الحلاف، والفقير المختال، والبخيل المنان)( ).
* وعن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي _صلى الله عليه وسلم_ قال: (عجب ربنا من رجلين: رجل ثار عن وطائه ولحافه من بين أهله وحبِّه إلى صلاته، فيقول الله جل وعلا: أيا ملائكتي، انظروا إلى عبدي ثار عن فراشه ووطائه من بين حبه وأهله إلى صلاته رغبة فيما عندي وشفقة مما عندي، ورجل غزا في سبيل الله وانهزم أصحابه، وعلم ما عليه في الانهزام وما له في الرجوع, فرجع حتى يهريق دمه، فيقول الله لملائكته: انظروا إلى عبدي, رجع رجاء فيما عندي, وشفقة مما عندي حتى يهريق دمه)( ).
* وعن أبي الدرداء رضي الله عنه عن النبي _صلى الله عليه وسلم_ قال: (ثلاثة يحبهم الله ويضحك إليهم ويستبشر بهم: الذي إذا انشكفت فئة قاتل وراءها بنفسه لله عز وجل، فإما أن يقتل، وإما أن ينصره الله ويكفيه، فيقول: انظروا إلى عبدي هذا كيف صبر لي بنفسه؟ والذي له امرأة حسنة وفراش لين حسن فيقوم من الليل, فيقول: يَذَرُ شهوته ويذكرني ولو شاء رقد، والذي إذا كان في سفر وكان معه ركب فسهروا ثم هجعوا، فقام من السحر في ضراء وسراء)( ).
العلماء يربون على عمل السر...
عن الزبير بن العوام رضي الله عنه قال: "اجعلوا لكم خبيئة من العمل الصالح كما أن لكم خبيئة من العمل السيئ".(115/870)
والخبيئة من العمل الصالح هو العمل الصالح المختبئ يعني المختفي, والزبير رضي الله عنه هنا ينبهنا إلى أمر نغفل عنه وهو المعادلة بين الأفعال رجاء المغفرة؛ فلكل إنسان عمل سيئ يفعله في السر, فأولى له أن يكون له عمل صالح يفعله في السر أيضًا لعله أن يغفر له الآخر.
وقال سفيان بن عيينة: قال أبو حازم: "اكتم حسناتك أشد مما تكتم سيئاتك".
وقال أيوب السختياني: "لأن يستر الرجل الزهد خير له من أن يظهره".
وعن محمد بن زياد قال: "رأيت أبا أمامة أتى على رجل في المسجد وهو ساجد يبكي في سجوده, ويدعو ربه, فقال له أبو أمامة: أنت أنت لو كان هذا في بيتك".
عمل السر دليل الصدق:
قال أيوب السختياني: والله ما صدق عبد إلا سرَّه ألا يُشعر بمكانه.
وقال الحارث المحاسبي: الصادق هو الذي لا يبالي لو خرج كل قدر له في قلوب الخلق من أجل صلاح قلبه, ولا يحب اطلاع الناس على مثاقيل الذر من حسن عمله.
وقال بشر بن الحارث: لا أعلم رجلاً أحب أن يُعرف إلا ذهب دينه وافتضح.
وقال بشر: لا يجد حلاوة الآخرة رجل يحب أن يعرفه الناس.
وقال أيضًا: لا تعمل لتذكر, اكتم الحسنة كما تكتم السيئة.
وعنه أيضًا: ليس أحد يحب الدنيا إلا لم يحب الموت, ومن زهد فيها أحب لقاء مولاه.
وعنه: ما اتقى الله من أحب الشهرة.
الصالحون في سرهم..
عن عمران بن خالد قال: سمعت محمد بن واسع يقول: إن كان الرجل ليبكي عشرين سنة وامرأته معه لا تعلم به.
وعن يوسف بن عطية عن محمد بن واسع قال: لقد أدركت رجالاً كان الرجل يكون رأسه مع رأس امرأته على وسادة واحدة قد بل ما تحت خده من دموعه, لا تشعر به امرأته، ولقد أدركت رجالاً يقوم أحدهم في الصف فتسيل دموعه على خده ولا يشعر به الذي إلى جنبه.
وكان أيوب السختياني يقوم الليل كله فيخفي ذلك، فإذا كان عند الصبح رفع صوته كأنه قام تلك الساعة.
وعن ابن أبي عدِّي قال: صام داود بن أبي هند أربعين سنة لا يعلم به أهله, وكان خرازًا يحمل معه غداه من عندهم، فيتصدق به في الطريق، ويرجع عشيًا فيفطر معهم.
وكان ابن سيرين يضحك بالنهار، فإذا جن الليل فكأنه قتل أهل القرية.
وقال حماد بن زيد: كان أيوب ربما حدَّث بالحديث فيرق, فيلتفت ويتمخط ويقول: ما أشد الزكام!
وقال الحسن البصري: إن كان الرجل ليجلس المجلس فتجيئه عبرته, فيردها, فإذا خشي أن تسبقه قام.
وقال مغيرة: كان لشريح بيت يخلو فيه يوم الجمعة, لا يدري الناس ما يصنع فيه.(115/871)
قال عبد الرحمن بن مهدي: قلت لابن المبارك: إبراهيم بن أدهم ممن سمع؟ قال: قد سمع من الناس, وله فضل في نفسه صاحب سرائر، وما رأيته يظهر تسبيحًا ولا شيئًا من الخير.
وقال نعيم بن حماد: سمعت ابن المبارك يقول: ما رأيت أحدًا ارتفع مثل مالك, ليس له كثير صلاة ولا صيام إلا أن تكون له سريرة.
وروى الذهبي: كانوا يستحبون أن يكون للرجل خبيئة من عمل صالح لا تعلم به زوجته ولا غيرها.
عوامل معينة على الخبيئة الصالحة:
أ - تدبر معاني الإخلاص: فالتربية على الإخلاص لله سبحانه وتذكير النفس به دائمًا هي الدافع الأول على عمل السر, ذلك إن الباعث على عمل السر هو أن يكون العمل لله وحده وأن يكون بعيدًا عن رؤية الناس, فعلى المربين تطبيق معاني الإخلاص في أمثال ذلك السلوك الخفي أثناء تدريسه للناس, وحثهم على عمل السر من منطلق الإخلاص لله سبحانه.
ب - استواء ذم الناس ومدحهم: وهو معنى لو تربى عليه المرء لأعانه على عمل السر إذ إنه لا تمثل عنده رؤية الناس شيئًا، سواء مدحوه لفعله أو ذموه له؛ لأن مبتغاه رضا ربه سبحانه وليس رضا الناس, وقد سبق أن بعض العلماء كان يُعلم تلاميذه فيقول لهم: اجعلوا الناس من حولكم كأنهم موتى.
جـ - تقوية مفهوم كمال العمل: وأقصد بذلك أن يتعلم المسلم أنه يجب أن يسعى إلى أن يكتمل عمله وتكمل كل جوانبه ليحسن ويقبل, وإن العمل الذي لا يراه الناس يُرجى فيه الكمال أكثر مما يرجى في غيره, فينبغي الاهتمام به أكثر.
د - صدقة السر: قال تعالى: "إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُم" [البقرة: 271].
فهي طريقة عملية سهلة لتطبيق عمل السر عمليًا, فبالإكثار من صدقة السر يُعَود الإنسان نفسه على أعمال السر ويتشربها قلبه وتركن إليها نفسه, وقد ذكر أهل العلم بعضًا من الفضائل في صدقة السر منها:أن صدقة السر أستر على الآخذ وأبقى لمروءته وصونه عن الخروج عن التعفف, ومنها أنها أسلم لقلوب الناس وألسنتهم؛ فإنهم ربما يحسدون أو ينكرون عليه أخذه ويظنون أنه أخذ مع الاستغناء، ومنها أنها أقرب إلى الأدب في العطاء
ـــــــــــــــــــ
خطوة تحرر القلب..
خالد روشه
1/7/1427
ارسل تعليقك ...
لا توجد تعليقات ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...(115/872)
هي خطوة ابتداء الحرية الحقيقية، والسعي في سبيل العبودية الربانية الصادقة الإخلاص لله عز وجل في كل أعمالك صغيرًا كان أو كبيرًا, ظاهرًا كان أو خفيًا، فما خاب من أخلص لله أبدًا، وإنما يتعثر دومًا من لم يخلص.
والإخلاص عزيز ولا يمكن أن تشوبه شائبة فيحملها، فالإخلاص لله لا يوجد إلا كاملاً نظيفًا طاهرًا؛ إذ إن الله سبحانه لا يقبل من إخلاص العمل ما شابه شائبة إنما يقبل الله الإخلاص التام له وحده, كما جاء في الحديث القدسي: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك, من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه) (1).
ما هو الإخلاص؟
هو تجريد قصد التقرب لله عز وجل عن جميع الشوائب, وقيل: هو إفراد الله عز وجل بالقصد في الطاعات، وقيل: هو نسيان رؤية الخلق بدوام النظر إلى الخالق(2).
* عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ فقال: أرأيت رجلاً غزا يلتمس الأجر والذكر, ما له؟ فقال رسول الله _صلى الله عليه وسلم_: (لا شيء له)، فأعادها ثلاث مرات, ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا شيء له) ثم قال: (إن الله عز وجل لا يقبل من العمل إلا ما كان له خالصًا, وابتغى به وجهه) (3).
هي خطوة ابتداء الحرية الحقيقية, والسعي في سبيل العبودية الربانية الصادقة, الإخلاص لله عز وجل في كل أعمالك صغيرًا كان أو كبيرًا, ظاهرًا كان أو خفيًا, فما خاب من أخلص لله أبدًا
* وعن أبي الدرداء عن النبي _صلى الله عليه وسلم_ قال: (الدنيا ملعونة، ملعون ما فيها إلا ما ابتغي به وجه الله)(4).
ولا يتخلص العبد من الشيطان إلا بالإخلاص لقول الله عز وجل: {إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ}, وروي أن أحد الصالحين كان يقول لنفسه: "يا نفس أخلصي تتخلصي".
كيف تربي نفسك على الإخلاص؟
أ - التفكر في عظمة الله ووقاره فمن تفكر في عظمته سبحانه قاده تفكره الصائب إلى حقيقة الإخلاص له سبحانه، يقول ابن القيم " فإذا صحت فكرته أوجبت له البصيرة فهي نور القلب يبصر به الوعد والوعيد والجنة والنار، وما أعد الله في هذه لأوليائه وفي هذه لأعدائه فأبصر الناس وقد خرجوا من قبورهم مهطعين لدعوة الحق وقد نزلت ملائكة السماوات فأحاطت بهم ووضع الكتاب وجيء بالنبيين والشهداء وقد نصب الميزان وتطايرت الصحف واجتمعت الخصوم وتعلق كل غريم بغريمه ولاح الحوض وأكوابه عن كثب وكثر العطاش وقل الوارد ونصب الجسر للعبور ولز الناس إليه، وقسمت الأنوار دون ظلمته للعبور عليه والنار يحطم بعضها بعضا تحته والمتساقطون فيها أضعاف أضعاف الناجيين فينفتح في القلب في قلبه عين يرى بها ذلك فيقوم بقلبه شاهد من شواهد الآخره يريه الآخرة ودوامها والدنيا وسرعة انقضائها " (مدارج السالكين)
ب - معرفة أسمائه الحسنى وصفاته العلي، يقوم ابن القيم " فالبصيرة في الأسماء والصفات ألا يتأثر إيمانك بشبهة تعارض ما وصف الله به نفسه ووصفه به رسوله، بل يؤمن بأسمائه سبحانه وصفاته كما أخبر عن نفسه وأخبر عنه رسوله، وعقد هذا(115/873)
أن يشهد قلبك أن ربك سبحانه مستو على عرشه متكلما بأمره ونهيه بصيرا بحركات العالم علوية وسفلية وأشخاصه وذواته سميعا بأصواتهم، رقيبا على ضمائرهم وأسرارهم وأمر الممالك تحت تدبيره.. موصوفا بصفات الكمال منعوتا بنعوت الجلال منزها عن العيوب والنقائص والمثال فهو كما وصف نفسه في كتابه وفوق ما يصفه به خلقه، حي لا يموت, قيوم لا ينام، عليم لا يخفى عليه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض " (مدارج السالكين)
جـ - إهمال رؤية الناس وعدم التأثر بمدحهم أو ذمهم أبدًا، فإن الاهتمام برؤية الناس في العبادة طريق سوء، كذلك كسر كل حظ للنفس في العمل فلا يعمل عملا إلا وهو لله سبحانه وحده لا لنفسه فيه مأرب، فهو يقطع الطمع عن الدنيا، و يجدد النية دائمًا.
إهمال رؤية الناس وعدم التأثر بمدحهم أو ذمهم أبدًا، فإن الاهتمام برؤية الناس في العبادة طريق سوء, كذلك كسر كل حظ للنفس في العمل فلا يعمل عملا إلا وهو لله سبحانه وحده لا لنفسه فيه مأرب
احذر الرياء:
أهم شروط العمل الصالح أن يكون خالصًا من الرياء متبعًا للسنة, و من خلا عمله من ذلك فسد عمله ولم يرفعه الله سبحانه، قال سبحانه:"إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُه"[فاطر:10].
والذي يقوم بعبادة ليراه الناس فهو مشرك شركًا أصغر, وعمله حابط، قال سبحانه في وصف المنافقين: "وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلا قَلِيلاً" [النساء: 142].
وكذلك إذا عمل الإنسان العمل ليشتهر به أو لينتقل خبره فيتسامع به الناس, وقد أوعد الله من فعل ذلك وعيدًا شديدًا, فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله _صلى الله عليه وسلم_: (من سَمَّع سمَّع الله به, ومن راءى راءى الله به)(5).
ومن عمل عبادة قصد بها الله والناس فعمله كذلك حابط كما سبق.
ومن ابتدأ العمل لله ثم طرأ عليه الرياء, فإن كرهه وجاهده ودافعه صح عمله, وإن استروح إليه وسكنت إليه نفسه فقد نص أكثر أهل العلم على بطلانه(6).
* عن أبي هند الداري أنه سمع رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ يقول: (من قام مقام رياء وسمعة راءى الله به يوم القيامة وسمَّع) (7).
* عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ يقول: (من سمَّع الناس بعمله سمَّع الله به مسامع خلقه, وصغره وحقره)(8).
ومعنى سمَّع - بتشديد الميم - يعني: أظهر عمله للناس رياءً, فمن فعل ذلك أظهر الله نيته الفاسدة في عمله يوم القيامة، وفضحه على رءوس الأشهاد.
* وعن محمود بن لبيد أن رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ قال: (إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر). قالوا: وما الشرك الأصغر يا رسول الله؟ قال: (الرياء، يقول الله عز وجل إذا جزى الناس بأعمالهم: اذهبوا إلى الذين كنتم تراؤون في الدنيا، فانظروا هل تجدون عندهم جزاءً)(9).
كيف نحذر الرياء؟(115/874)
* عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه: خطبنا رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ ذات يوم فقال: (يا أيها الناس, اتقوا هذا الشرك، فإنه أخفى من دبيب النمل) فقال له من شاء أن يقول: وكيف نتقيه وهو أخفى من دبيب النمل يا رسول الله؟ قال: (قولوا: اللهم إنا نعوذ بك من أن نشرك بك شيئًا نعلمه, ونستغفرك لما لا نعلمه)(10).
قمة الترهيب:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ يقول: (إن أول الناس يقضى يوم القيامة عليه رجل استشهد، فأُتي به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت. قال: كذبت، ولكنك قاتلت لأن يقال: فلان جريء فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار. ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن فأتي به فعرفه نعمه فعرفها, قال: فما عملت فيها؟ قال: تعلمت العلم وعلمته وقرأت فيك القرآن. قال: كذبت، ولكنك تعلمت ليقال: عالم, وقرأت القرآن ليقال: هو قارئ، فقد قيل. ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار. ورجل وسع الله عليه, وأعطاه من أصناف المال, فأتي به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك. قال: كذبت, ولكنك فعلت ليقال: هو جواد، فقد قيل. ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار)(11).
وما من عبد له قلب حيّ يسمع بهذا الحديث إلا أورثه خوفًا ووجلا، وكان دافعًا له لترك الرياء بالكلية، وكان موجهًا له لتمام الإخلاص والصدق مع الله سبحانه، فصلى الله وسلم على محمد خير ناصح لأمته وخير معلم بخير علم.
--------------------
(1) رواه مسلم رقم 2985.
(2) تزكية النفوس, أحمد فريد، ص 13، التوعية الإسلامية.
(3) رواه النسائي وأبو داود وصححه الألباني (ترغيب, برقم 6).
(4) رواه الطبراني وصححه الألباني (ترغيب, برقم 7).
(5) رواه مسلم 4/2289.
(6) وانظر: محرمات استهان بها الناس, للمنجد, بتعليق الشيخ ابن باز رحمه الله ص18.
(7) رواه أحمد وصححه الألباني (ترغيب رقم 22).
(8) رواه أحمد والطبراني وصححه الألباني (ترغيب 23).
(9) رواه أحمد وصححه الألباني (صحيح الترغيب رقم 29), ومحمود بن لبيد - رضي الله عنه - قال البخاري: له صحبة.
(10) رواه أحد والطبراني وحسنه الألباني (صحيح الترغيب رقم 33).
(11) رواه مسلم برقم 1905, كتاب الإمارة, باب من قاتل للرياء والسمعة استحق النار.
ـــــــــــــــــــ
رؤية العلماء لتطبيق العلم
اللجنة التربوية(115/875)
21/6/1427
ارسل تعليقك ...
لا توجد تعليقات ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
لا شك أن العلم من أفضل القربات لله _تعالى_ فقد تكاثرت الآيات والأخبار والآثار وتواترت وتطابقت الدلائل الصريحة وتوافقت على فضيلة العلم والحث على تحصيله والاجتهاد في اقتباسه وتعليمه.
قال الله _تعالى_: " قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون " وقال _عز وجل_" وقل ربي زدني علماً " وقال _تعالى_: " إنما يخشى الله من عباده العلماء ".
وقال الله: " شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم ", فكفى بذلك شرفا لأهل العلم وفضلا وإجلالا ونبلا حيث بدأ _سبحانه_ بنفسه وثنى بالملائكة وثلث بأولي العلم خاصة من دون سائر عباده المؤمنين.
وقال _سبحانه_ " وقل ربي زدني علماً ", قال القرطبي: " فلو كان شيء أفضل من العلم لأمر الله _تعالى_ نبيه _صلى الله عليه وسلم_ أن يسأله المزيد منه كما أمر أن يستزيده من العلم ", وقال الله: " يرفع الله الذين أمنوا منكم والذين أتوا العلم درجات ", قال ابن عباس: " يرفع الله العلماء يوم القيامة على سائر المؤمنين بسبعمائة درجة مابين الدرجتين خمسمائة عام.
لا شك أن العلم من أفضل القربات لله _تعالى_ فقد تكاثرت الآيات والأخبار والآثار وتواترت وتطابقت الدلائل الصريحة وتوافقت على فضيلة العلم والحث على تحصيله والاجتهاد في اقتباسه وتعليمه.
وفي الصحيحين عن معاوية _رضي الله عنه_ قال: قال رسول الله _صلى الله عليه وسلم_: " من يرد الله به خيراً يفقه في الدين ".
وعن أبي الدر داء _رضي الله عنه_ قال: سمعت رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ يقول: " من سلك طريقا يبتغي فيه علما سهل الله له طريقا إلى الجنة وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاء وإن العالم ليستغفر له من في السماوات ومن في الأرض حتى الحيتان في الماء " الحديث رواه أبو داود والترمذي وغيرهما.
ولكن ليس كل من طلب العلم يصدق عليه الآيات والأحاديث السابقة بل لا ينال هذا الثواب إلا العالم العامل بعلمه المخلص الصادق الذي تعلم لله وعلم الناس لله وعمل بعلمه لله. ودعا الخلق إلى الله بطريق العلم وزهد في الفانيات ورغب في الباقيات الصالحات وتورع عن الحرام والشبهات وعرف الله بما يجب له من الأسماء والصفات.
لذلك بوب الأمام البخاري في صحيحة باب " العلم قبل القول والعمل لقول الله _تعالى_: " فاعلم أنه لا إله إلا الله ", قال الحافظ في الفتح (1/193): قال بن المنيَر:(115/876)
أراد به العلم شرط في صحة القول والعمل. فلا يعتبران إلا به فهو متقدم عليهما؛ لأنه مصحح للنية المصححة للعمل ".
إذا تبين لك هذا فاعلم أن هذا العلم لابد أن يتبعه عمل. فإن العمل هو ثمرة العلم وهو أساس العلم ومقصودة. فيجب على طلبة العلم العمل بما علموا وإلا كان هذا العلم عليهم حسرة ووبال..
قال الله _تعالى_ - في ذم اليهود -: " مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا بئس مثل القوم الذين كذبوا بآيات والله لا يهدي القوم الظالمين ".
فإن الله _عز وجل_قد ذم اليهود في عدم انتفاعهم بما معهم من العلم ولم يعملوا به فمن علم ولم يعمل كان كما قال الله في اليهود والنصارى.
قال الشيخ الشنقيطي في أضواء البيان (5/346): وهذه الآية مما ينبغي الحذر منها وخاصة لطلاب العلم وحملته. كما قال الله _تعالى_ " بئس مثل القوم " أي تشبيههم في هذا المثل بهذا الحيوان المعروف, فإن العالم لا يسمى عالم إلا بعد العمل بعلمه.
رؤية السنة للعلم بلا عمل..< font/>
ففي الصحيحين عن أسامة بن زيد _رضي الله عنه_ قال: إن رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ قال: " يؤتي الرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندل أتنابه (أمعائه) فيدور بها كما يدور الحمار في الرحى فيجتمع عليه أهل النار فيقولون يا فلان مالك ألم تكن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر فيقول: بلى كنت أمر بالمعروف ولا آتيه وأنهى عن المنكر وآتيه ", انظر إلى هذا الرجل وتعوذ بالله أن تكون مثل هذا الرجل. فإنه كان يدل الناس على الخير ولا يفعل الخير وينهى عن المنكر ويفعله. تعوذ بالله من النفاق وأهله,وهذا الحديث يدل دلالة على وجوب العمل بالعلم ومواقفه القول للفعل ظاهرا وباطنا. وأن من علم ولم يعمل فقد شابه المنافقين في أفعالهم حيث أنهم يقولون مالا يفعلون.
وقد عاتب الله _عز وجل_عباده المؤمنين في قوله _تعالى_: " يا أيها الذين أمنوا لم تقولون مالا تفعلون كبر مقتًا عند الله أن تقولوا مالا تفعلون ".
وفي سنن الترمذي عن أبي برزة الأسمى قال: قال رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ :" لا تزول قدم عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع عن عمره فيما أفناه وعن علمه فيما فعل به وعن ماله من أين أكتسبه وفيما أنفقه، وعن جسمه فيما أبلاه ".
وروي الخطيب البغدادي في كتابه اقتضاء العلم العمل وصححه الألباني عن جندب بن عبدالله قال: قال رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ " مثل العالم الذي يعلم الناس الخير وينسى نفسه كمثل السراج يضئ للناس ويحرق نفسه " ورواه الطبراني في الكبير وأيضا عن أبي برزة قال: قال رسول الله _صلى الله عليه وسلم_: " مثل الذي يعلم الناس الخير وينسى نفسه مثل الفتيلة: تضئ للناس وتحرق نفسها ".
قال المناوي في الفيض الكبير (5/508): فالعلماء ثلاثة إما منقذ لنفسه وغيره. وهو الراغب إلى الله عن الدنيا ظاهرا وباطنا، وإما مهلك نفسه وغيره وهو الداعي إلى الدنيا، وإما مهلك نفسه منقذ لغيره وهو من دعا إلى الآخرة ورفض الدنيا ظاهرا ولم يعمل بعلمه باطنا. وهذا وعيد لم كان له ذكر أو ألقى السمع وهو شهيد.(115/877)
وقد كان علماء الصحب في غاية من الوجل والخوف. ولذلك قالت عائشة _رضي الله عنها_ لفتى أختلف إليها ليسألها وتحدثه فجاءها ذات يوم فقالت أي شئ عملت بعد ما سمعت قال: هه، قالت فما تستكثر من حجج الله علينا وعليك.
وقال عيسى _عليه السلام_ للحواريين: تعملون للدنيا وأنتم ترزقون فيها بلا عمل ولا تعملون للآخرة وأنتم لا ترزقون فيها إلا بعمل.
وقال: يا علماء بلا علم، جعلتم الدنيا على رؤوسكم والآخرة تحت أقدامكم قولكم شقاء وعملكم داء كشجرة الدفلي تعجب من رآها وتقتل من أكلها..
وروي الخطيب البغدادي أيضا في اقتضاء العلم العمل عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ " أتيت ليلة أسرى بي على قوم تقرض شفاههم بمقاريض من نار كلما قرضت وفت. فقلت يا جبريل من هؤلاء قال خطباء من أمتك الذين يقولون ولا يفعلون ويقرؤون كتاب الله ولا يعلمون " حسنه الألباني "
توصيف علماء السلف لمقام العمل من العلم: < font/>
فقد روي أثار كثيرة جدا عن السلف الصالح رضوان الله عليهم في الحث على العلم والعمل به حيث أنهم فهموا الفهم الصحيح من أهمية العمل بالعلم.
1ـ فعن علي بن أبي طالب _رضي الله عنه_ قال: " هتف العلم بالعمل فإن أجابة وإلا ارتحل " (أخرجه الخطيب البغدادي في اقتضاء العلم العمل), نعم فإن السلف _رضي الله عنهم_ كانوا يستعينون بحفظ العلم عن طريق العمل به, فقد ذكر الخطيب البغدادي بسنده قال كان إسماعيل بن إبراهيم بن جارية يقول " كنا نستعين على حفظ الحديث بالعمل به ", وقال الحسن بن صالح " كنا نستعين على طلبه بالصوم " [الجامع في الحث على حفظ العلم ]
2ـ وروي الدارمي في مقدمة سنة (1/93) عن يزيد بن جابر قال: قال معاذ بن جبل _رضي الله عنه_: " أعملوا ما شئتم بعد أن تعلموا فلن يأجركم الله بالعلم حتى تعملوا " صححه موقوفا على معاذ بن جبل الحافظ العراقي وضعيف مرفوع, قال المناوي في فيض القدير (3/253) قال العلائي " مقصود الحديث أن العمل بالعلم هو المطلوب من العباد النافع يوم القيامة. ومتى تخلف العمل عن العلم كان حجة على صاحبه وخزيا وندامه يوم القيامة.
3ـ روي البيهقي في سننه عن لقمان يعني بن عامر قال كان أو الدرداء رضي الله عنه يقول " إنما أخشى من ربي يوم القيامة أن يدعوني على رؤوس الخلائق فيقول لي يا عويمر فأقول: لبيك رب فيقول ما عملت فيما علمت " صحيح لغيره الألباني, قال المناوي في الفيض القدير (5/58): هذا الأدلة الشرعية على قبح الجهل وعلى وبال عدم العمل بالعلم وهو استعظام لما يقع يومئذ من الدهشة. والتميز في الجواب والارتباك فيما لا حيلة في دفعه ولا سبيل إلى التخلص منه وأن ما يحدث المرء به نفسه ويسهله عليها تعلل بباطل وطمع فيما لا يجدي فأفاد أن الغفلة عن الله على ضربين، الجهل بأمر الدين فلا يعرف ما يأتي ولا يعلم ما يذر. والسهو عما يعلم ذهابا عن إتيان ما أمر الله به وركوبا لما نهى عنه بشهوة النفس وغرور الدنيا وزخارفها وهذا أقبح النوعين.(115/878)
4ـ قال عبد الله بن مسعود _رضي الله عنه_: " إن الناس أحسنوا القول كلهم؟ فمن وافق قوله فعله فذلك الذي أصاب حظه، ومن خالف قوله فإنما يوبخ نفسه " (أخرجه ابن المبارك في الزهد وابن عبد البر في الجامع بإسناد حسن (جزء 1/696))
نعم من خالف قوله فعله فعد الذي يستحق التوبيخ لأنه ضيع المقصود الأصلي من العلم وهو تحقيق العبودية لله _عز وجل_فإن العلم ليس مقصودا لذاته ولكن المقصود الأصلي للعلم وهو العمل به. لأن العلم كالشجرة والعمل بالعمل بالعلم هو الثمرة. فإذا كانت الشجرة لا تثمر فلا فائدة لها فاستحقت أن تستأصل.
5ـ وعن الحسن قال " اعتبروا الناس بأعمالهم ودعوا أقوالهم فإن الله لم يدع قولا إلا جعل عليه دليلا من عمل يصدقه أو يكذبه، فإذا سمعت قولا حسنا فزيدوا بصاحبه فإن وافق قوله عمله فنعم ونعمة عين " أخرجه ابن المبارك في الزهد (77) وذكره ابن عبد البر في الجامع, وقال الحسن البصري في تعريف الفقيه: " إنما الفقيه الزاهد في الدنيا الراغب في الآخرة المتبصر بذنبه المداوم على عبادة ربه الورع الكاف " (مختصر منهاج القاصدين).
6ـ قال بن أبو الدرداء " لا تكون تقيا حتى تكون عالما، ولا تكون بالعلم جميلا حتى تكون به عاملا " (أخرجه الدارمي في مقدمه سننه (1/88) وابن عبد البر في الجامع)
قال الخطيب البغدادي في اقتضاء العلم العمل: " إني موصيك يا طالب العلم بإخلاص النية في طلبه وإجهاد النفس على العمل بموجبه. فإن العلم شجرة والعمل ثمرة وليس يعد عالما ن لم يكن بعلمه عاملا " وقيل العلم والد والعمل مولود والعلم على العمل والرواية مع الدراية. فلا تأنس بالعمل ما نمت مستوحشا من العلم. ولا تأنس بالعلم ما كنت مقصرا في العمل. ولكن اجمع بينهما وإن قل نصيبك منهما. وما بشيء أضعف من عالم ترك الناس علمه لفساد طريقته وجاهل أخذ الناس بجهله لنظرهم إليه والقليل من هذا مع القليل من هذا أنجى في العاقبة إذا تفضل الله بالرحمة وتمم على عبده النعمة. فأما المدافعة والإهمال وحب الهوينى والاسترسال وايثار الخفض والدعة والميل مع الراحة والسعة فإن خواتم هذه الخصال ذميمة وعقباها كريهة وثخيمه, والعلم يرد للعمل كما العمل يراد للنجاة. فإذا كان العمل قاصرا على العلم كلا على العالم وتعوذ بالله من علم لا عادا وأورث ذلا وصار في رقبة صاحبه غلا " أ هـ
قال الغزالي _رحمه الله_ في الحث على العلم والعمل به.
" ... . لابد للعبد من أربعة أشياء: العلم والعمل والإخلاص والخوف. فيعلم الطريق أولا وإلا فهو أعمى ثم يعمل بعلمه ثانيا إلا فهو محجوب ثم يخلص العمل ثالثا وإلا فهو مغبون ثم لا يزال يخاف ويحذر من الآفات وإلا فهو مغرور، فإن الأعمال بخواتيمها وما يدري ما يختم له " [الفوائد المكية]
وترك العمل على قسمين: < font/>
الأول: ترك الائتمار بالواجبات الشرعية، وترك الانتهاء عن المحرمات الشرعية فهذا كبيرة من الكبائر، وعليه تحمل الآيات والأحاديث المتوعدة متى ترك العمل بالعلم.(115/879)
الثاني: ترك المستحبات وترك اجتناب المكروهات فهذا قد يزم ولكن لا يدخل في أحاديث الوعيد، إلا أن العالم وطالب العلم ينبغي لهما المحافظة على السنن،واجتناب
المكروهات أ هـ. [عوائق الطلب]
قال ابن الجوزي في صيد الخاطر:" والمسكين كل المسكين من ضاع عمره في علم لم يعمل به ففاته لذات الدنيا وخيرات الآخرة قد مفلسا مع قوة الحجة عليه " ا هـ.
فيا طالب العلم يجب عليك العمل بالعلم والإخلاص لربك فليس مقصودنا أن يكون العمل ظاهرا فقط بل لابد من أن تعمل بهذا العلم ظاهرا وباطنا بأن تخلص لربك في كل أعمالك وترجو اليوم الآخر ولا ترجو اليوم الأخر وأن تؤمن بكل ما علمت ثم تعمل به إذ لا يمكن العمل إلا بالإيمان، فإن لم يوفق الإنسان لذلك فعلمه غير نافع بل هو ضار, وبعد ذلك إن أردت أن تعلم هل هذا العلم نافع أم لا؟ فانظر لتلك العلامات التي ذكرها الشيخ بكر أبو زيد للعلم النافع وهي:
1.. العمل به. 2.. كراهية التزكية والمدح، والتكبر على الخلق به
3.. تكاثر تواضعك كلما ازددت علما. 4.. الهرب من حب الترؤس والشهرة والدنيا.
5.. هجر دعوى العلم.
6.. إساءة الظن بالنفس وإحسانه بالناس.
قال الخطيب البغدادي: قال بعض السلف " أخي إياك وتأمير التسويف على نفسك وإمكانه من قلبك فإنه محل إكلال وموئل التلف وبه تقطع الآمال وفيه تنقطع الآجال. فإنك إن فعلت أولته من عزمك هواك عليه فعلا واسترجاعا من بدنك من السآمة ما قد ولى عنك فعند مراجعته إياك لا تنتفع نفسك من بدنك بنافعة. وبادر يا أخي فإنه مبادر بك. وأسرع فإنك مروع بك وجد فإن الأمر جد. وتيقظ من قدرتك وانتبه من غفلتك وتذكر ما أسلفت وقصرت وفرطت وجنيت وعملت فإنه مثبت محصى عليك ".
ـــــــــــــــــــ
التربية الإسلامية بين اهتمام المنهج وتفريط المربين
مجدي مصطفى
13/6/1427
ارسل تعليقك ...
تعليقات سابقة ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
إنك لا تسأل أحداً من الناس عن رغبته في مستقبل أبنائه وأخلاقهم وتعلمهم لأمور دينهم وأدبهم وعلوهم في المناصب والدرجات العلمية في مجتمعهم إلا وسمعت منه أنه يرغب في أن يكون أولاده أفضل الناس وأحسنهم أخلاقا وتديناً وأعلاهم في الدراسة والدرجات العلمية وأن يكونوا في أعلى المناصب والرتب والدرجات في أعمالهم وبالرغم من ذلك فإنك ترى من أحوال الناس تناقضاً غريباًَ وعجيباً فإنهم(115/880)
يريدون أبناءهم على هذه الحالة من السمو والارتفاع ومع ذلك لا يبذلون مجهوداً ولا يتخذون الخطوات اللازمة لتوصيل أبنائهم لهذه الحالة من الترقي والتقدم والسمو.
إن العجب كل العجب من ذلك الأب وتلك الأم الذين أهملوا في تربية أولادهم ولم يبذلوا من السعي نحو تربيتهم إلا الأماني!! حتى إنك تراهم وقد تركوا أبناءهم مع صحبة لا يعلمون عنها شيئا ثم إذا بهم يتأسفون ويتألمون مما يرون من سوء أخلاق أبنائهم وتصرفاتهم المشينة في شتى المواقف الحياتية وعدم التزامهم بالآداب العامة أو حتى الآداب الشرعية وللأسف فإن هذا موجود ليس فقط عند عامة الناس فحسب بل وعند كثير ممن يفترض فيهم أنهم على معرفة بآداب الإسلام وتعاليمه فهؤلاء كمن ترك أرضه طوال العام بلا رعاية أو اهتمام ثم إذا به يوم الحصاد يستغرب أنه لا حصاد له!! لقد حصد من جد وتعب و ربى أولاده وتعب معهم وباشر أحوالهم وحسن أخلاقهم ورباهم على ما ربى عليه رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ أصحابه ليفوزوا في الدنيا والآخرة كما فاز أصحاب رسول الله _صلى الله عليه وسلم_.
إنك لا تسأل أحداً من الناس عن رغبته في مستقبل أبنائه وأخلاقهم وتعلمهم لأمور دينهم وأدبهم وعلوهم في المناصب والدرجات العلمية في مجتمعهم إلا وسمعت منه أنه يرغب في أن يكون أولاده أفضل الناس وأحسنهم أخلاقا وتديناً
لقد كان السلف الصالح يهتمون بالتربية مع أنهم كانوا يعيشون في أجواء إيمانية خالصة، وينعمون بالتحاكم إلى الله ورسوله _صلى الله عليه وسلم_ في كل أحوالهم صغيرا كان أو كبيرا، ودين الله كان في أعلى مكانه بين الأمم، فكيف الحال بالمسلمين اليوم في أمر اهتمامهم بالتربية وقد تحكم فيهم عدوهم وبسط نفوذه عليهم، وابتلي المسلمون في كل مكان وأقبلت عليهم الفتن من كل باب، ورمتهم قوى الشر والكفر في كل الدنيا عن قوس واحدة، وانتشرت في بلاد المسلمين الأفكار الهدامة والإباحية
فما أحوج المسلمين اليوم في هذا الواقع المرير الأليم أن يهتموا بأمر التربية وأن يتلمسوا خطى الحبيب _صلى الله عليه وسلم_ في تربية أصحابه؛ عسى الله أن يفك هم هذه الأمة ويفرج كربها ويصلح حالها.
لقد كان السابقون يهتمون بأمر التربية ويعهدون بأبنائهم إلى مربين يقومون خصيصاً على تربيتهم وتأديبهم وتعليمهم سنه نبيهم _صلى الله عليه وسلم_ ودينهم وشرعهم.
يقول أحدهم لما دفع ولده إلى المؤدب: (قد دفعت إليك مهجة نفسي وثمرة قلبي، فصير يدك عليه مبسوطة، وطاعتك عليه واجبة، أقرئه القرآن، وعرفه الأخبار، وروه الأشعار، وعلمه السنن، وبصره بمواقع الكلام وبدئه, وامنعه من الضحك إلا في أوقاته، ولا تمرن به ساعة وإلا وأنت مغتنم فائدة تقيده إياها، من غير أن تحزنه فتميت ذهنه ولا تمعن في مسامحته فيستحلي الفراغ ويألفه، وقومه ما استطعت بالقرب والملاينة فإن أباهها فعليك بالشدة والغلظة).
وقال آخر ينصح مؤدب ولده: (علمهم الصدق كما تعلمهم القرآن، واحملهم على الأخلاق الجميلة، وروهم الشعر يشجعوا وينجدوا، وجالس بهم أشراف الرجال وجنبهم السفلة والخدم فإنهم أسوأ الناس أدبا، ووقرهم في العلانية وأنبهم في السر، وأضربهم على الكذب إن الكذب يدعو إلى الفجور وإن الفجور يدعو إلى النار).(115/881)
وهذا هو ما نحتاج إليه الآن وهو ما غاب عن أذهان كثير من الناس حتى الذين يهتمون منهم بتربية أبنائهم على أصول المعاملة مع الآخرين لأنهم يرون ذلك من التقدم والرقى ولا يرون أن له علاقة بالدين.
وهاهو _صلى الله عليه وسلم_ يخرج على أصحابه عند الصلاة وكأنه رآهم غير معتدلين في الصف، فماذا فعل؟ هل فوت تلك الفرصة في تعليم أصحابه؟ على الرغم من أن الصلاة قد أقيمت؛
ينبغي أن يعلم الجميع أنه لن يصلح أخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، ما أحوج هذه الأمة اليوم إلى تلمس خطي الرسول _صلى الله عليه وسلم_ في تربية أصحابه وصقل مواهبهم، ولا سبيل إلى ذلك إلا بإتباع هدي النبي _صلى الله عليه وسلم_ يقول _تعالى_: " لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنه لمن كان يرجوا الله واليوم الآخر" سورة الأحزاب (21)، ويقول عز من قائل: " واتبعوه لعلكم تهتدون" سورة الأعراف (158)
فلنلتمس سوياً هديه _عليه الصلاة والسلام_ في تربية أصحابه؛ لنتعلم منه كيف تكون التربية الصحيحة وطرقها.
(1) اغتنامه _صلى الله عليه وسلم_ الفرصة في تربية أصحابه.
وتلك وسيلة مهمة جداً من وسائل المربي وهي تحتاج إلى فطنه عالية وتستلزم انتباهاً كبيراً من المربي حتى لا يفوت فرصة إلا واستغلها.
ولقد كان _صلى الله عليه وسلم_ لا يرى شيئا يستحق التعليق أو التنبيه إلا وعلق عليه وأشار إليه, وكان النبي _صلى الله عليه وسلم_ يستغل الفرص والمواقف لينصح أصحابه وكان لذلك الأثر الكبير في نفوسهم فإن النصيحة أو التوجيه من خلال موقف أمر لا ينسي وينطبع في الذاكرة.
كما أن ترك النصيحة في وقتها ربما جعل من تقوم بتربيته يظن أن ما فعله صحيحاً!
وهاهو _صلى الله عليه وسلم_ يتجول في السوق يوماً فمر على صبره طعام (يعنى كومه من الطعام) فأدخل يده فيها فنالت أصابعه بللاً فقال: "ما هذا يا صاحب الطعام؟" قال: أصابته السماء يا رسول الله (يقصد أصابه المطر) قال: "أفلا جعلته فوق الطعام حتى يراه الناس، من غشنا فليس منا" رواه مسلم..
وفي هذا الحديث انتهز _صلى الله عليه وسلم_ هذه الفرصة في تعليم هذا الصحابي وتعليم جميع المسلمين من التجار حرمة الغش في البيع وإخفاء عيب السلعة، وكيف أن من غش المسلمين فليس منهم
وهاهو _صلى الله عليه وسلم_ يخرج على أصحابه عند الصلاة وكأنه رآهم غير معتدلين في الصف، فماذا فعل؟ هل فوت تلك الفرصة في تعليم أصحابه؟ على الرغم من أن الصلاة قد أقيمت؛ فعن جابر بن سمره _رضي الله عنهما_ قال: خرج علينا رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ فقال: "ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربهم" فقلنا: يا رسول الله وكيف تصف الملائكة عند ربها؟ قال: "يتمون الصفوف الأول ويتراصون في الصف" رواه مسلم.
فهذه نصيحة عمليه منه _صلى الله عليه وسلم_ لأصحابه من خلال موقف وعند أداء فريضة فلعلهم لا ينسون تلك النصيحة أبداً كلما وقفوا للصلاة تذكروها.(115/882)
فعلى كل ولي أمران ألا يفوت فرصة في النصح لأولاده أو من يقوم بتربيتهم متحججاً بأنهم مازالوا صغاراً بل ينتهز كل فرصة وموقف ليوجههم ويرشدهم فتنطبع نصائحه في أذهانهم ولا ينسوها.
(2) ومن هديه _صلى الله عليه وسلم_ في التربية أنه كان يسبق أصحابه في فعل ما أمرهم به.
وهو أمر له فعل السحر في القلوب فإنك إن فعلت ما تأمر به الناس وكنت أول الفاعلين تشجع الجميع لفعل الأمر وعلموا أن المسألة ليست بالصعبة هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى علموا بتواضع معلمهم ورئيسهم وأنه لا يتكبر عن فعل شيء يأمرهم به، فإنك ترى وتسمع عن تعليق يصدر كثيراً جداً من العاملين تجاه رئيسهم أنه يصدر أوامر وفقط وأنه لا يشعر بهم ولا يفهم أن هذا أمر صعب عليهم ولا يتحمل، وأنه لو كان معهم في هذا الأمر وتلك الصعوبة التي يفرضها عليهم لما قال هذا الكلام ولما ألزمهم بفعل هذا العمل، إنه في البرج العالي يأمر وينهى ولا يشعر بشعور الآخرين، أما رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ فكان يبادر ويسبق أصحابه في فعل ما يأمرهم به.
لقد كان _صلى الله عليه وسلم_ في الحرب مثلا في أوائل الصفوف وكان الصحابة _رضوان الله عليهم_ يحتمون به إذا حمى القتال في المعركة، هو أمرهم بالقتال ورغبهم فيه وفي بذل نفوسهم رخيصة لله _سبحانه وتعالى_ ثم هو في الصفوف الأولى يقاتل معهم لا كما يفعل القواد الآخرين يجلسون على بعد بلاد وبلاد من موقع المعركة ولا يعرضون أنفسهم ولا حتى لغبار المعركة.
وفي حفر الخندق حول المدينة شارك _صلى الله عليه وسلم_ أصحابه في حفر الخندق بنفسه وهو يربط على بطنه حجراً من الجوع وهو يقول:
اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة - فارحم الأنصار والمهاجرة
والصحابة يردون عليه ويقولون:
نحن الذين بايعوا محمداً - على الجهاد ما بقينا أبداً
بالله عليكم لو ذهب مسئول اليوم في زيارة موقع للعمل لساعة من الزمان وسلم على بعض العمال واكتفى بأن يربت على أكتافهم ويقول لهم أحسنتهم اجتهدوا، لو فعل ذلك لعدوه شيئاً كبيراً وتواضعاً منه واهتماماً بالعالمين وتشجيعاً لهم، فكيف برسول البشرية وهو لا يكتفي بأن يكون معهم طوال الوقت وكفى بل يعمل معهم بيده ويحطم الحجارة بنفسه، فأي تأثير يفعله ذلك في نفوسهم وهو يعمل معهم _صلى الله عليه وسلم_ بيده، لاشك أنهم سيفعلون الأعاجيب ويعملون بأقصى طاقة لهم، بل ويعملون وهم سعداء مسرورون.
ينبغي ألا ينسى أي مربٍ قوله _تعالى_:"أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون "(سورة البقرة آية 44).
وقديماً قال القائل: (عمل واحد يؤثر في ألف وأقوال ألف قد لا تؤثر في واحد).
(3) ومن هديه _صلى الله عليه وسلم_ في تربيه أصحابه أنه كان يتفقد أحوالهم وعبادتهم.(115/883)
وذلك له أثر على النفوس حسن فإن السؤال عن الأحوال يشعر من أمامك أنك مهتم به وبشئونه وأن سلامته وصلاح أحواله تهمك.
ولقد كان _صلى الله عليه وسلم_ يعرف أصحابه كلهم ويتفقد أحوالهم ويسأل عن غائبهم ويتعهدهم جميعا؛ فعن أبى هريرة _رضي الله عنه_ قال: قال رسول الله _صلى الله عليه وسلم_: "من أصبح منكم اليوم صائماً؟" قال أبو بكر: أنا، (لقد كان سؤال النبي _صلى الله عليه وسلم_ لأصحابه بعد أن انتهى من صلاة الفجر واستدار لأصحابه) قال: "فمن تبع منكم اليوم جنازة؟ " قال أبو بكر: أنا، قال: "فمن أطعم منكم اليوم مسكيناً؟" قال أبو بكر: أنا، قال: "فمن عاد منكم اليوم مريضاً؟ " قال أبو بكر: أنا، قال النبي _صلى الله عليه وسلم_: "ما اجتمعن في امرئ إلا دخل الجنة" رواه مسلم والبخاري .
وفي هذا الحديث نراه _صلى الله عليه وسلم_ قد نشط أصحابه على العمل الصالح بطريقة عملية ومبتكرة ودون أن يلوم أحداً منهم على تقصيره أو يسأله ماذا فعل بالضبط، لكنه كان يسأل سؤالاً عاماً من فعل كذا وكذا فلما اجتمعن في أبى بكر كانت المفاجأة في النهاية أن جائزته هي الجنة، وفي ذلك حافز رهيب للجميع على العمل لنيل نفس الجائزة وهو ما يحتاج إلى جهد وعمل ومواظبة على الخير، كما أن كل واحد من الحاضرين سوف يوبخ نفسه بنفسه ويلومها على تقصيرها فيكون في ذلك دافعا لهم جميعا على الخير.
وهذه قصه يرويها لنا الصحابي الجليل جابر بن عبد الله رضي الله عنه تدلل لنا كيف كان _صلى الله عليه وسلم_ يسأل ويعرف ويهتم بأخبار أصحابه جميعاً.
فقد روى البخاري ومسلم وابن سعد في طبقاته وابن هشام في سيرته عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: خرجت مع رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ إلى غزوة ذات الرقاع على جمل لي ضعيف فلما قفل رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ (يعنى رجع من الغزو) جعلت الرفاق تمضى وجعلت أتخلف حتى أدركني رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ (كان _صلى الله عليه وسلم_ يذهب في طول الجيش وعرضة يتفقد أصحابة) فقال مالك يا جابر؟، قلت يا رسول الله أبطأ بي جملي هذا، قال أنخه، فأنخته وأناخ رسول الله _صلى الله عليه وسلم_، ثم قال أعطني هذه العصا من يدك، ففعلت فأخذها فنخسة بها نخسات ثم قال اركب، فركبت فخرج والذي بعثه بالحق يواهق ناقته مواهقه (يعنى يسابقها وقد تغيرت حالته من البطء إلى السرعة والنشاط) وتحدثت مع رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ فقال لي: أتبيعني جملك هذا يا جابر؟، قلت: يا رسول الله بل أهبه لك، قال: لا ولكن بعنية، قلت: فثمنيه يا رسول الله (يطلب منه تقدير ثمنه) قال: آخذه بدرهم، قلت: لا إذن تغبنني يا رسول الله، قال: فبدرهمين، قلت: لا، فلم يزل يرفع لي رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ في ثمنه حتى بلغ الأوقية فقلت: أفقد رضيت يا رسول الله، قال: نعم. قلت: فهو لك، قال قد أخذته، ثم قال: يا جابر هل تزوجت بعد؟، قلت: نعم يا رسول الله، قال أثيباً أم بكراً؟، قلت: لا بل ثيباً، قال: أفلا جارية تلاعبها، قلت: يا رسول الله إن أبى أصيب يوم أحد وترك لي بناتاً سبعاً فنكحت امرأة جامعة تجمع رؤوسهن وتقوم عليهن، قال: أصبت _إن شاء الله_ أما إنا لو قد جئنا صراراً (وصرار مكان بأطراف المدينة) أمرنا(115/884)
بجزور فنحرت وأقمنا عليها يومنا ذاك وسمعت بنا فنفضت نمارقها (يعنى أنها إذا سمعت بمقدمهم أصلحت وسائدها ومنزلها واستعدت) فقلت: والله يا رسول الله مالنا من نمارق قال: إنها ستكون فإذا أنت قدمت فاعمل عملاً كيساً.
قال جابر: فلما جئنا صراراً أمر رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ بجزور فنحر وأقمنا عليها ذلك اليوم فلما أمسى رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ دخل ودخلنا المدينة.
قال جابر: فلما أصبحت أخذت برأس الجمل فأقبلت به حتى أنخته على باب رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ ثم جلست في المسجد قريبا منه فخرج رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ فرأي الجمل فقال ما هذا قالوا يا رسول الله هذا جمل جاء به جابر قال فأين جابر فدعيت له فقال يا ابن أخي خذ برأس جملك فهو لك ودعا بلالاً فقال له أذهب بجابر فأعطه أوقية فذهبت معه فأعطاني أوقية وزادنى شيئاً يسيراً فو الله مازال ينمو عندي ويرى مكانه من بيتنا.
ومن هذه القصة ينبغي أن يتعلم كل مرب كيف يهتم بأصحابه وبأحوالهم فالنبي _صلى الله عليه وسلم_ برغم مشاغلة الكثيرة إلا أنه يعرف من أحوال جابر الكثير وكيف ضاحكه وواساه بطريقة لطيفة وحدثه في أمر زواجه وداعبه بمسألة شراء جملة منه ثم هو انتهزها فرصة لمساعدته فأعطاه الجمل والمال في آن واحد.
ينبغي أن يفهم المربى أنه ليس مجرد مصدر للمعلومات البحتة التي يلقيها على من يتعلمون منه وفقط لكنه شخص يهتم بكل أحوالهم وشؤونهم الاجتماعية والاقتصادية والنفسية فكل ذلك يمثل وحدة واحدة لا تتجزأ
ـــــــــــــــــــ
وصايا الصالحين..
خالد روشه
6/6/1427
ارسل تعليقك ...
لا توجد تعليقات ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
نحتاج دوماً إلى النصيحة الصالحة التي تحث على التقوى والاستقامة, وتقوم الطريق وتزيل الغشاوة وتبصر بالأخطاء وتوجه نحو الأمام, ويا لها من نصيحة تلك التي تأتينا من قوم صالحين قد عملوا فأجادوا وأخلصوا فأظهر الله ما قدموا وبارك في خطاهم وصاروا للأمة قدوة وهداة, قال الله _تعالى_: " ولقد وصينا الذي أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله ", وقال _سبحانه_ " ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وانتم مسلمون ".
فالوصية إذن من تمام النصيحة لله ولرسوله _صلى الله عليه وسلم_ وللمسلمين والتواصي بينهم بالحق قال _تعالى_ " والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر ", وكما ثبت في صحيح مسلم(115/885)
وغيره من حديث تميم الداري قال: قال رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ " الدين النصيحة قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم ", فمن هنا أخذ السلف _رضوان الله عليهم_ العمل بالنصح فيما بينهم وصدق فيهم قول الله _تعالى_ " المؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن بالمنكر... ", وفي مقالنا هذا نحاول معك أيها القارئ الكريم أن نتجول جولة محب بين بساتين ووصايا و نصائح هؤلاء الصالحين محاولين أن نقتفي بعض الأثر ونقطف ماأبيح من الثمر.
نحتاج دوما إلى النصيحة الصالحة التي تحث على التقوى والاستقامة, وتقوم الطريق وتزيل الغشاوة وتبصر بالأخطاء وتوجه نحو الأمام, ويالها من نصيحة تلك التي تأتينا من قوم صالحين قد عملوا فأجادوا وأخلصوا فأظهر الله ما قدموا وبارك في خطاهم وصاروا للأمة قدوة وهداة
أنفع الوصايا:
قال شيخ الإسلام بن تيمية _رحمه الله_: " أما الوصية " فما أعلم وصية أنفع من وصية الله ورسوله لمن عقلها واتبعها. قال _تعالى_: "ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله" ووصى النبي _صلى الله عليه وسلم_ معاذاً لما بعثه إلى اليمن فقال:" يا معاذ اتق الله حيثما كنت. واتبع السيئة الحسنة تمحها. وخالق الناس بخلق حسن ", وكان معاذ _رضي الله عنه_ من النبي _صلى الله عليه وسلم_ بمنزلة عليه فإنه قال له: يا معاذ والله إني لأحبك وكان يردفه وراءه.. وكان ابن مسعود _رضي الله عنه_ يقول: " إن معاذاً كان أمه قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين تشبيها له بإبراهيم.
فالوصية بتقوى الله هي أنفع وأجمع الوصيات حيث بها قوام الدين و التقوى أصل من أصول الصلاح حيث وصف الله بها عبادة المؤمنين في كتابه وأثنى عليهم " (الوصية الصغرى)
نصيحة الصديق رضي الله عنه:
قال أبو بكر الصديق _رضي الله عنه_ حينما خطب الناس: " إن الله لا يقبل من الأعمال إلا ما أريد بها وجهه، فأريدوا الله بأعمالكم واعلموا أن ما أخلصتم لله من أعمالكم فطاعة أتيتموها وحظ ظفرتم به وضرائب أديتموها وسلف قدمتوه من أيام فانية لأخرى باقية لحين فقركم وحاجتكم، اعتبروا عباد الله بمن مات منكم وتفكروا فيمن كان قبلكم أين كانوا أمس؟ وأين هم اليوم؟ أين الجبارون الذين كان لهم ذكر القتال والغلبة في مواطن الحروب؟ قد تضعضع بهم الدهر وصاروا رميما قد تركت عليهم القالات الخبيثات، إنما الخبيثات للخبيثين، والخبيثون للخبيثات ... ... . (البداية والنهاية).
وقال أيضا: " أما تعلمون أنكم تغدون وتروحون لأجل معلوم، فمن استطاع أن يقضي الأجل، وهو في عمل الله فليفعل، ولن تنالوا ذلك إلا بالله _تعالى_, وإن قوما جعلوا آجالهم لغيرهم، فنهاكم الله أن كونوا أمثالهم " ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم ". سورة الحشر. [ آية 19].(115/886)
قال عبد الله بن الإمام أحمد لأبيه يوما أوصني يا أبت قال: " يا بني إنوي الخير فإنك لا تزال بخير ما نويت الخير "
وقال أيضاً: " لا خير في قول لا يراد به وجه الله ولا خير في مال لا ينفعه في سبيل الله، ولا خير فيمن جهله حلمه، ولا خير فيمن يخاف في الله لومة لائم ". (ذكره بن كثير في تفسيره وقال هذا إسناده جيد ورواته ثقات).
فالصديق _رضي الله عنه_ ينصح ببذر بذور الإخلاص في النفوس وتعاهد النقاء في الأعمال وتصحيح الرغبة في الابتغاء, فلا ابتغاء سوى ابتغاء وجهه _سبحانه_ إذ إن هذه الأيام إلى فناء ومن تدبر تعقل, فإياك أن تجعل أجلك لغيرك ولكن اجعله ليوم تلقى فيه ربك.
نصيحة الفاروق _رضي الله عنه_:
قال عمر بن الخطاب يوماً: " أيها الناس، اتقوا الله في سريرتكم وعلانيتكم، وأمروا بالمعروف وانهوا عن المنكر ولا تكونوا مثل قوم كانوا في سفينة فأقبل أحدهم على موضع يخرقه فمنعوه فقال: هو موضعي ولى أن أحكم فيه فإن أخذوا على يديه سلم وسلموا وإن تركوه هلك وهلكوا، وهذا مثل ضربته لكم رحمنا الله وإياكم ا. هـ " (ذكره بن عبد ربه في العقد الفريد (2/362)..
فالفاروق ههنا ينصح بالشفافية في الشخصية لكل مسلم وألا يكون بوجهين كالمنافق, فالمؤمن سريرته وعلانيه سواء, بل إن سريرته أحسن من علانيته, ويبين الفاروق أن تقويم الآخر وتوجيهه ودعوته وبيان المعروف هو من أول واجبات كل مؤمن فإياك أن تذر الذين يخرقون السفينة بغير أن تأخذ على أيديهم..فإنهم سوف يغرقونها بالجميع قال الله _سبحانه_ " واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة "
نصيحة علي _رضي الله عنه_:
" ولما ضرب بن ملجم عليا _رضي الله عنه_ دخل منزله فاعترته غشية، ثم أفاق، فدعا الحسن والحسين _رضي الله تعالى عنهما_ وقال:
" أوصيكما بتقوى الله _تعالى_ والرغبة في الآخرة، والزهد في الدنيا ولا تأسفا على شئ فإنكما عنها راحلان افعلا الخير وكونا للظالم خصما وللمظلوم عونا.
ثم دعا محمدا ولده وقال له: أما سمعت ما أوصيت به أخويك. قال بلى. قال: فإني أوصيك به، ثم قال: يابني أوصيكم بتقوى الله في الغيب والشهادة وكلمة الحق في الرضا والغضب والقصد في الغنى والفقر والعدل في الصديق والعدو والعمل في النشاط والفتور والرضا عن الله في الشرة والرخاء. بابني ما شر بعده الجنة بشر، ولا خير بعد النار بخير. كل نعيم دون الجنة حقير وكل بلاء دون النار فما فيه, يا بني من أبصر عيب نفسه اشتغل عن عيب غيره ومن رضي بما قسم الله له لم يحزن عما فاته، ومن سل سيف البغي قتل به، ومن حفر لأخيه بئراً وقع فيها, ومن هتك حجاب أخيه هتك عورات بنيه، ومن نسي خطيئتة استعظم خطيئة غيره، ومن أعجب برأيه ضل ومن استغنى بعقله زل، ومن تكبر على الناس ذل ومن خالط الأنذال احتقر ومن دخل مداخل السوء اتهم نفسه ومن جالس العلماء وقر، ومن مزح استخف به، ومن أكثر من شيء عرف به، ومن كثر كلامه كثر خطؤه. وقل حياؤه، ومن قل حياؤه قل ورعه، من قل ورعه مات قبله، ون مات قبله دخل النار, يا بني الأدب(115/887)
ميزان الرجال، وحسن الخلق خير قرين، يا بني العافية عشرة أجزاء تسعه منها في الصمت إلا عن ذكر الله وواحدة في ترك مجالس السفهاء, يا بني لا شرف أعلى من الإسلام، ولا كرم أعز من التقوى، ولا شفيع انجح من التوبة، ولا لباس أجمل من العافية، يا بني الحرص مفتاح التعب ومطية النصب " (المستطرف)
وللصالحين نصائح ووصايا..
فعن ابن جريح أن طاووسا أخبره: أنه سأل بن عباس عن الركعتين بعد العصر؟ فنهاه عنهما، قال طاووس: فقلت له: ما أدعهما, فقال ابن عباس " قال _تعالى_: ما كان لمؤمن ولا مؤمنه إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم. ومن يعص الله فقد ضل ضلالاً مبيناً " (الرسالة للشافعي ص 443).
• وأيضا أن سعيد ابن المسيب رأى رجلاً يصلى بعد طلوع الفجر أكثر من الركعتين يكثر فيهما الركوع والسجود فنهاه. فقال يا أبا محمد يعذبني الله علي الصلاة؟ فقال لا ... ولكن مع خلاف السنة " (عبد الرزاق – في الصلاة)
• وقال رجل للإمام مالك بن أنس: يا أبا عبد الله من أين أحرم؟ فقال مالك من ذي الحليفة من حيث أمرهم رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ فقال: إني أريد أن أحرم من المسجد عند القبر. قال: لا تفعل فإني أخشى عليك الفتنه، فقال: وأي فتنه في هذه؟ إنما أميال أزيدها؟! قال: وأي فتنه أعظم من أن ترى أنك سبقت إلى فضيلة عنها رسول الله _صلى الله عليه وسلم_؟ يقول الله _تعالى_: " فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنه أو يصيبهم عذاب أليم " (ذكره البغدادي في الفقيه والمتفقة (1/148).
• وقال الشافعي _رحمه الله_: " وأوصي بتقوى الله _عز وجل_، ولزوم السنة والآثار عن رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ وأصحابه وترك البدع والأهواء واجتنابها ... .(وصية الشافعي)
أيسر الوصايا:
قال عبد الله بن الإمام أحمد لأبيه يوما أوصني يا أبت قال: " يا بني انوِ الخير فإنك لا تزال بخير ما نويت الخير " , قال ابن مفلح: " وهذه وصية عظيمة سهله على المسئول سهلة الفهم والامتثال على السائل وفاعلها ثوابه دائم مستمر لدوامها، واستمرارها وهي صادقة على جميع أعمال القلوب المطلوبة شرعاً سواء تعلقت بالخالق أو بالمخلوق وأنها يثاب عليها ولم أجد في الثواب عليها خلافا, قال الشيخ تقي الدين في كتاب الإيمان " ما هم به من القول الحسن والعمل الحسن فإنما يكتب له به حسنه واحدة وإذا صار قولا وعملا كتب له عشرة حسنات إلى سبعمئة ضعف ذلك الحديث المشهور في الهمة. ويلزم من العمل بهذه الوصية ترك أعمال القلوب المذمومة شرعا وأن من عملها لم يبق في حرز من الله وعصمته وقد وقع من الخالق عليه من الشر والعذاب... (نقلا الآداب الشرعية لابن مفلح (1/139).
ابن حزم يداوي النفوس بالنصيحة:
• قال ابن حزم: " ولا تأس إذا ذممت بما ليس فيك، بل افرح فإنه فضلك ينبه الناس عليه، ولكن افرح إذ إن فيك ما تستحق به المدح سواء مدٌحت به أو لم تمدح، واحزن إذا كان فيك ما تستحق به الذم وسواء ذممت به أو لم تذم".(115/888)
• وقال أيضاً: " ولا تنصح على شرط القبول، ولا تشفع على شرط الإجابة ولا تهب على شرط الإنابة لكني على سبيل الفضل وتأدية ما عليك من النصيحة والشفاعة وبذل المعروف.
• .. وقال أيضاً: النصيحة مرتان (فالأولى: غرض ودينه.. والثانية تنبه وذكر.. وأما الثالثة فتوبيخ وتقريع، وليس وراء ذلك إلا التركل واللطامة، وربما أشد من ذل البطئ والأذى، اللهم إلا في معلى الديانة فواجب على المرء تزداد النصح فيها رضا المنصوح أو سخط تأذى الناصح بذل أو لم يتأذ.
وإذا نصحت فانصح سرا لا جهرا وبتعريض لا تصريح إلا أن يفهم المنصوح تعريضك فلا بد ن التصريح ولا تنصح على شرط القبول منك.
فإن تعديت هذه الوجوه فأنت ظالم لا ناصح، وطلب طاعة وملك لا مؤد حق ديانه وأفوه، وليس هذا حكم العقل ولا حكم الصداقة ولكن حكم الأمير مع رعيته والسير مع عبيده.
ويقول أيضا " الاتساء بالنبي _صلى الله عليه وسلم_ في وعظه أهل الجهل والمعاصي والرذائل واجب. فمن وعظ بالجفاء والاكفهرار فقد أخطأ وتعدى طريقه _صلى الله عليه وسلم_ وصارفي أكثر الأمر مغريا الموعظ الجافي فيكون في وعظه سيئا لا محسنا ".
ومن وعظ ببشر وتبسم ولين ـ وكأنه مستنير برأي، مخبر عن خير الموعظ بما يستقبح من الموعوظ فذلك أبلغ وأنجح في الموعظة فإن لم يتقبل: فلينتقل إلى الوعظ بالتحشيم وفي الخلاء، فإن لم يقبل ففي حضرة من يستحي منه الموعوظ، فهذا أدب الله _تعالى_ في أمره بالقول اللين.. وكان _صلى الله عليه وسلم_ لا يواجه الموعظة لكن كان يقول " ما بال أقوام يفعلون كذا.. وقد أثنى عليه الصلاة والسلام على الرفق، وأمر بالتيسير ونهي عن التنفير.وكان يتخول بالموعظة خوف الملل.
ـــــــــــــــــــ
المؤثرات المعاصرة في التربية
محمد فهمي
29/5/1427
ارسل تعليقك ...
تعليقات سابقة ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
تحول الدور المؤثر والكبير في التربية الآن من المؤثرات الأساسية، وهي الأسرة والمسجد والمدرسة، إلى مؤثرات جديدة معاصرة، تتجاوز حدود البيئة المحلية، إلى بيئة لا هوية محددة لها، ولا ضوابط واضحة تحكمها، وصار لها الكلمة الأولى في تحديد أخلاق الأجيال وثقافتها، هذه المؤثرات هي التلفزيون, وأطباق الاستقبال، والكمبيوتر, والإنترنت، والمحمول، وألعاب الفيديو جيم وغيرها..!(115/889)
لم يكن أحد يشعر بآثار هذه الوسائل السلبية، لأنها قد تكون لها آثار إيجابية متوقعة, وحاجة الحياة المعاصرة إلى هذه الوسائل كبيرة وملحة، كما أن آثارها السلبية لم تظهر مرة واحدة – برغم تحذيرات كثير من التربويين منها قبل انتشارها -، وإنما ظهرت أولاً بشكل محدود نوعاً ما، ثم أخذ أثرها السلبي في الظهور والاتساع بمرور الزمن, وتطور تلك الوسائل وانتشارها.
والخطير في هذه القضية هو حجم التأثير الكبير والعميق وسرعة التغيير الذي تحدثه تلك الوسائل المعاصرة في مستوى التدين والثقافة والسلوك والمفهومات والذوق العام على شبابنا وفتياتنا، فمحاولات التغريب كانت تسير في مجتمعاتنا ببطء شديد، ولم يكن دعاة التغريب يحلمون بحدوث التغيير إلا بعد أجيال عدة، أما بعد انتشار تلك الوسائل الإعلامية والثقافية فمكاسب التغريب أكبر كثيراً مما كان يحلم به أولئك، فالتغيير في الأخلاق والمفهومات أصبح الآن يحدث عبر جيل واحد مرة أو مرتين.
تحول الدور المؤثر والكبير في التربية الآن من المؤثرات الأساسية، وهي الأسرة والمسجد والمدرسة، إلى مؤثرات جديدة معاصرة، تتجاوز حدود البيئة المحلية، إلى بيئة لا هوية محددة لها، ولا ضوابط واضحة تحكمها
وهذا التغيير السريع والتأثير الفوضوي الكبير يؤدي إلى إخفاق العملية التربوية في المجتمع، ويسبب لها الإرباك والتهدم، وتتفسخ الروابط بين الأجيال، ويرى كل جيل لنفسه الحق في التبرؤ من الجيل الذي سبقه، والاستقلال عن مفهوماته وأجوائه، حتى يفقد الوالدان القدرة على التفاهم مع أولادهما، ويقعان في حيرة في اختيار نوع التوجيه المناسب لهم، ويعجزان عن السيطرة على تصرفاتهم وتقويمها، بل قد لا يجدان الوقت لممارسة التوجيه والتربية سواء بالمواقف أو الأقوال، ليس لانشغالهما؛ بل لأن أولادهما لا وقت لديهم، لانشغالهم بالدش والكمبيوتر أو الإنترنت!
ولا يتسع المجال هنا إلا للإشارة إلى بعض ما في هذه العوامل المعاصرة من سلبيات تؤثر في عملية تربية الأجيال الناشئة، وتتوزع الآثار السلبية لهذه الوسائل على جانبين:
الجانب الأول: هو آثار المميزات التقنية لهذه الوسائل:
فمن أهم مميزات الوسائل الحديثة السرعة والانفتاح، حيث تتيح الوصول السريع لكل ما هو معروض ومتاح، وإذا كانت السرعة في عرض المفهومات التربوية الإيجابية غير صحية في تنشئة الطفل والمراهق، حيث يجب مراعاة المرحلة العمرية في تقديم المفهومات ومراعاة الوقت في ترسيخها؛ فما ظنك حينما تكون ميزة السرعة التي توفرها تلك الوسائل الحديثة مستغلة في الوصول إلى المفهومات الفاسدة!
وكذلك الانفتاح الكبير الذي يزداد يوماً بعد يوم مع تطور تقنية تلك الوسائل، مما يؤدي إلى فوضى كبيرة في عرض العقائد والثقافات والأفكار والعادات، وهو ما لا يصح في عملية التكوين التربوي، فقد يرى المراهق ويطلع على عقائد باطلة ومفهومات فاسدة عبر تلك الوسائل المنفتحة وهو لا يملك من المعايير الصحيحة ما يميز به بين الحق والباطل.
ومن آثار هذا الانفتاح الإخلال بتقديم الأولويات التربوية، ومن ثم تيسر الوسيلة الوصول المبكر لمفهومات اجتماعية قبل وقتها، عبر ما يعرض من ألعاب أو أفلام(115/890)
أو إعلانات متلاحقة، كمفهوم العلاقة بين الرجل والمرأة، فمن السهل جداً أن يرى ملامح تلك العلاقة طفل, لم يبلغ الخامسة أو السادسة, في كثير من أفلام الأطفال، فكثير من أفلام الكارتون التي تعرضها قنوات الأطفال الفضائية العربية مثلاً، تحوي في مضمونها وإسقاطاتها عوامل هدم وفساد، وإذا ذهبنا إلى ما بعد الطفولة، فهناك الأفلام والأغاني والبرامج التافهة والإعلانات الساقطة، والتي تعمل على إثارة الشهوات وغرس الرذائل، مما له تأثير ضار في الإنسان، وخصوصاً فيمن هم في سن المراهقة.
قبل انتشار الوسائل الحديثة كان الوالدان يستطيعان التحكم في التغذية العقلية للطفل، فيتحكمان فيما يسمع وفيما يقرأ وفي الأماكن التي يرتادها وتكوين الصداقات، لكن الوسائل الحديثة الآن بما توفره من سرعة وانفتاح تهدم سيطرة الوالدين وتخرجهما تماماً من التأثير في العملية التربوية.
ولا شك أن لميزتي السرعة والانفتاح أهمية كبيرة على مستوى الكبار سناً على وجه العموم، وكلما ارتفعنا في المستوى الثقافي أو التجاري وغير ذلك ازدادت أهمية سرعة تلك الوسائل وانفتاحها بالضوابط الشرعية، لكن كلما نزلنا إلى مستويات أقل في المراهقة والطفولة وثقافات أقل؛ تحولت تلك الأهمية للسرعة والانفتاح إلى خطورة ومفاسد، مما يحتم أهمية وجود إشراف من أولياء الأمور لتنظيمها وتوجيهها.
ومن ميزات تلك الوسائل تقديمها المواقف بصورة ممثلة مصحوبة بمؤثرات مرئية وصوتية، وهي ميزة لها آثار إيجابية كثيرة ونافعة، لكن مع ذلك لها آثار غير صحية في التربية، قد تضر بالنفس والعقل إذا ما تُركت مطلقة بلا ترشيد وتوجيه، حيث تؤدي إلى ملء خيال الطفل بها، مما يؤدي إلى ثبات هذا المواقف في الذاكرة بصورة قوية وملحة، والخطر هنا يكمن في أن تكون تلك المواقف والمشاهد غير مناسبة لسن الطفل أو المراهق، أو مواقف فاسدة، أو مواقف مفزعة تسبب الفزع للطفل أثناء النوم، أو تزرع فيه الخوف والقلق والاكتئاب، أو مواقف دافعة لارتكاب الجرائم والفواحش.
وهنا تجدر الإشارة إلى أن كثيراً من الأفلام التي تقدمها قنوات الأطفال الفضائية من النوع الذي يقدم شخصيات خيالية مفزعة تتمتع بقوى خارقة، وتقوم مواقف الفيلم كلها على الصراع والتدمير، كذلك الحال في ألعاب الفيديو جيم التي ينتشر فيها ألعاب الصراع الدموي العنيف، وهي ألعاب لا تزرع الشجاعة والقوة في نفس الطفل والمراهق، بل تزرع فيه إما العنف والقسوة والظلم، وإما القلق والخوف.
كما قد يكون لكثرة الملازمة للمواقف المصورة التي يمر بها الطفل أو المراهق عبر الوسائل الحديثة تأثير في قدرته في التصور العقلي، حيث يعتاد العقل مشاهدة كل شيء مصوراً أمامه، جامداً على الصورة المشخصة التي تقدمها اللعبة أو فيلم الكارتون، فيضعف فيه حس الخيال والتصور النظري، بل قد يصل الحال إلى عجزه عن تصور مسألة حسابية بسيطة وحلها دون كتابتها على الورقة، بسبب ما قد تصيب به تلك الوسائل العقل من سلبية في التلقي، التي ينبغي أن تكون مزيجاً من التفاعل بين السماع والرؤية والنقاش والتفكير.(115/891)
وهناك خطر آخر في ميزة تصوير كل شيء للمشاهد، فالطفل والمراهق الذي يشاهد الآن التمثيليات والأفلام والإعلانات ويرى فيها كثيراً من القصص والمواقف التي لها إسقاطات ودلالات كثيرة قد تولّد آثاراً خطيرة في النفس من الصعب معالجتها بعد ذلك، لأن التقليد بالنسبة إلى الطفل أو المراهق يغلب التفكير العقلي، فعلى سبيل المثال قام طالب بمحاولة السطو على بنك في مصر بعد مشاهدته لفيلم عربي، والذي تضمن مشاهد عن قيام أبطال الفيلم بالسطو على بنك بواسطة خداع الموظفين بلف السيجار بالأسلاك الكهربائية على أنها ديناميت، فقام الطالب بتنفيذ ما شاهده في الفيلم على الطبيعة محاولاً السطو على 50 ألف جنيه.
وتقف ميزة الجذب الشديد لتلك الوسائل على رأس مميزاتها، فهي وسائل تتمتع بقوة جذب شديدة التأثير، تؤدي في كثير من الأحيان إلى نوع من الإدمان، وقد تكون أخي القارئ قد شاهدت بنفسك صوراً من ذلك، فيمن يدمن مشاهدة القنوات، أو ينكب على الحاسوب، أو رأيت ذلك في إدمان الأطفال لألعاب الفيديو جيم والكمبيوتر، حيث يقع هؤلاء تحت تأثير تلك الوسائل وجذبها، فمنهم من يفقد الإحساس بنداء الصلاة، ومنهم من يفقد الإحساس بمن حوله فلا يشعر بنداء، ومنهم من يفقد الإحساس بالوقت حتى يضيع مسؤولياته وواجباته.
نشرت بعض الصحف منذ سنوات محاولة انتحار فتاة ألقت نفسها من شرفة المنزل، هذه الحادثة لفتت انتباه المجتمع المصري، لأن أسبابها لم تكن عاطفية أو دراسية أو مالية، وإنما كان إدمان الإنترنت، ومع أن والد الفتاة أستاذ بإحدى كليات الهندسة، ووالدتها ذات منصب كبير في التلفزيون، لكن ذلك لم يهيئ لها البيئة التربوية التي تحميها من أمراض العصر، فأدمنت الإنترنت بلا حدود على مدار 24 ساعة، مما دفع والديها إلى منعها خوفاً على صحتها، فكان ردها هو الانتحار!
والجانب الآخر: هو آثار المضمون الذي يُقدم من خلال هذه الوسائل:
لا يخفى أن هذه الوسائل وما يتطور عنها وظفها الغرب، كما وظفها كثير من الفاسدين في مجتمعاتنا، لتحقيق مآربهم الخبيثة في التغريب، للسيطرة على الأجيال القادمة وتذويب هويتها، وحققوا في ذلك تقدماً عظيماً، ومما زاد الطين بلة غياب أو ضعف الرقابة الفعالة، سواء على مستوى الهيئات الرسمية أو على مستوى الآباء والأمهات في الأسرة، والإهمال في تحمل المسؤولية الدينية والتربوية والثقافية، فأصبحت الكلمة الأولى والأخيرة في التربية لمن يسيطر على توجيه تلك الوسائل، ويضع لها المضمون الذي يُبث من خلالها، وتُركت تلك الوسائل المعاصرة وحدها لكي تشكل العقول، وتغرس العادات والتقاليد، وتؤصل الثقافات، وتصوغ المفهومات التربوية والاجتماعية بحسب رغبة مالكيها والقائمين عليها وتوجهاتهم الفكرية.
ونتاج التربية الواقعة تحت سيطرة هذه الوسائل المسخرة لتغريب مجتماعتنا المسلمة لن يكون إلا الفساد والانحلال والفوضى الأخلاقية والاجتماعية، وهذه بعض نماذج تمثل هذا النتاج:
1- (نموذج الهوس بأهل المجون): قال رب أسرة من مدمني التلفزيون: "إن اللهجة اللبنانية يجب أن تكون هي اللغة العربية الأم". وهذا في الحقيقة ليس لأن اللهجة اللبنانية قريبة من الفصحى، ولكن لهوس ذلك الرجل ببعض ماجنات الغناء.(115/892)
2- (نموذج ستار أكاديمي وسوبر ستار وعلى الهوا سوا): حيث تُفاجأ بحجم المتابعات الكبيرة لهذه النوعية من البرامج الفاسدة، والذي يثبتها ويدل عليها الكم الهائل من المكالمات التي يجريها الجمهور لترشيح نجمتهم أو نجمهم المفضل في تلك البرامج الساقطة، إضافة إلى الرسائل التي تظهر على الشاشة، والتي تحتوي على عبارات فاضحة هي في الوقت نفسه مصدر دخل عظيم لهذه القنوات.
3- (نموذج الولع بأرقام المحمول المميزة): حيث تقام في بعض دول الخليج مزادات يتنافس فيها الأثرياء لشراء أرقام هواتف جوال مميزة، وعلى سبيل المثال فقد تم بيع رقم خط لهاتف جوال في مزاد علني تم تنظيمه في الدوحة بمبلغ عشرة ملايين ريال قطري بما يعادل 2.754 مليون دولار، بعد مزايدة حامية عليه بين 8 من الأثرياء.
4- (نموذج الإقبال على المواقع المنحرفة): في دراسة للدكتور عبد العزيز كابلي -كلية المعلمين بالمدينة- ذكر أن 50 % من استخدام الشباب للمقاهي العنكبوتية هو من أجل أمور منافية للأخلاق والقيم.
كيف يمكن أن نتخيل صورة أجيال تنشأ في ظل هذه الأجواء! كيف لو أردنا أن نصف صورة شخص ترعرع عوده على إسفافات التلفزيون، وفضائحيات الدش، وإباحيات الإنترنت، وأنغام السديهات والكاسيت، وغراميات المحمول!
موقفنا من تلك الوسائل المعاصرة:
نشرت بعض الصحف خبراً، له دلالات كبيرة مفيدة في موضوعنا هذا إن صح، مضمون الخبر أن سكان قرية كوبال الباكستانية جمعوا كل أجهزة التلفزيون وأقراص الكمبيوتر وأشرطة الفيديو في قريتهم ثم أحرقوها، لأنهم رأوا أنها مسؤولة عن انتشار الرذيلة، وسبب ظهور المجون والخلاعة والأمراض الاجتماعية (الجمهورية- مصرية- 13 / 3/ 2006)، فهل ما أدركه سكان هذه القرية من خطر لتلك المؤثرات لا تشعر به سائر المجتمعات؟ الجواب أن صيحات التحذير ظهرت مبكراً، وهي كثيرة ومتكررة إلى الآن، حتى في تلك الدول التي ظهرت فيها الوسائل الإعلامية والثقافية المعاصرة قبل غيرها، ومن ذلك على سبيل المثال كتاب (أربع مناقشات لإلغاء التلفزيون) للكاتب الأمريكي جيري ماندر.
لكن هذه التحذيرات كانت تسير في طريق مسدود، لأنها كانت تطالب بإلغاء ما يصعب إلغاؤه في الواقع، وقد يتبع ما فعله سكان هذه القرية، بعد مدة من الزمن، ردة فعل قوية تطالب بفسح المجال لاستعمال تلك الأجهزة. وقد حدث مثل هذا، فعندما ظهرت أطباق الاستقبال الفضائية حاولت بعض الدول منعها، لكن الأمر آل في النهاية إلى انتشارها وانكسار أصوات التحذير وقرارات المنع أمام موجة التقنية الحديثة العاتية التي تجتاح العالم.
إذاً فالحل – في رأيي- ليس هو المنع المطلق لتلك الوسائل ومحاربتها والمطالبة بالتوقف عن استعمالها، لأن ذلك أولاً لا يتماشى مع واقع الحياة المعاصرة وحاجات الناس، ولعل من المشاهد المعبرة عن ذلك حينما هز زلزال 92 أرجاء مصر، هرع الناس من بيوتهم إلى الشوارع ينشدون النجاة، غير أن رجلاً في إحدى المدن التي تأثرت بالزلزال انطلق يعدو من بيته هارباً بجلده بينما كان يضم إلى صدره التلفزيون!(115/893)
وثانياً لأن هذه العوامل الحديثة في التربية يمكن أن يتم تطويعها لتكون عوامل تربوية إيجابية في بناء الأجيال، لأنها مجرد آلات وليس الشر أو الفساد حالاً أو وصفاً ملازماً لها لا تنفك عنه، وخصوصاً مع تطور التقنية التي تتيح قدراً أكبر من التحكم في تلك الأجهزة على المستوى الفردي، ومع ظهور الإيجابيات التي تتيحها تلك الوسائل ثقافياً واجتماعياً واقتصادياً، وكثرة المضمون النافع الذي يعرض في تلك الوسائل وتنوعه.
وإن كان الحل الأمثل لتجنب فساد تلك الوسائل قبل سنوات والأولى هو المنع المطلق، فالأولى – في رأيي- الآن، وبعد تطور تقنيات التحكم وظهور القنوات والمواقع الإسلامية، ونمو الإنتاج الثقافي والترفيهي الإسلامي نوعاً ما، هو دعم الدعوة إلى التعامل الصحيح مع تلك الوسائل، والتمييز بين خيرها وشرها، ووجوب اتخاذ الإجراءات التي تمنع أو تحد من مفاسدها، على مستوى المجتمع أو مستوى الأفراد، ومن ثم ينبغي أن تتوجه الجهود التربوية والدراسات نحو البحث في آثار هذه العوامل الحديثة، والوقوف على سلبياتها وإيجابياتها، والعمل على تقديم التصورات والأفكار القائمة على أسس إسلامية أصيلة، والتي تتيح لنا الاستفادة منها تربوياً وحماية أجيالنا من آثارها السلبية، حتى نتمكن من تحويلها من مؤثرات سلبية إلى مؤثرات تربوية نافعة، والسيطرة على أثرها التربوي في المجتمع.
وهذه بعض التصورات التي تساعد في تحويل تلك الوسائل إلى وسائل تربوية نافعة:
1- لا يخفى ما ينبغي فعله على مستوى الهيئات والمؤسسات التي تتحكم في تلك الوسائل، وما يجب على الدعاة والمصلحين.
2- لكن العلاج الأساسي مع ذلك كله، وهو في متناول الجميع، هو أن يؤدي كل واحد واجبه الشرعي في ذلك " كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته".
3- العمل على بناء إعلام إسلامي قوي، يكون له حضور جذاب، فهذه الوسائل الثقافية والإعلامية المعاصرة إن لم نملأها بإنتاج إعلامي إسلامي راق وكبير؛ فسوف تُملأ بإنتاج مليء بالباطل, وعلى الرغم من التقدم الواضح في السنوات الأخيرة في مجال استثمار تلك الوسائل إسلامياً؛ فإن المسافة لا تزال كبيرة بين الإنتاج القوي الذي يغطي احتياجات المجتمعات المسلمة في مجال تلك الوسائل المعاصرة، وتكون على المستوى الراقي الجذاب المطلوب، وبين واقع الإنتاج الإسلامي الحالي.
4- نشر التوعية بطرق استعمال تلك الوسائل استعمالاً مفيداً تربوياً، يعطي للآباء نظماً ومناهج ونصائح تعينهم على توجيه الأبناء لحمايتهم من آثارها السلبية، وتشجعهم على تنظيم تعامل أولادهم مع تلك الوسائل، والاستفادة منها.
5- الترويج لمواقع الإنترنت المفيدة، والقنوات الفضائية الإسلامية، وقنوات الثقافة والترفيه التي تخلو من الأضرار التربوية والمخالفات الشرعية، وألعاب الكمبيوتر النافعة.
6- العمل على نشر الأجهزة والبرامج التي تمكّن أولياء الأمور من السيطرة على تلك الوسائل، والتعريف بها وشرح استعمالها، كمميزات تشفير أو إلغاء القنوات المنحرفة في أجهزة الاستقبال الفضائية، والبرامج التي تمنع ظهور الصور الإباحية(115/894)
في مواقع الإنترنت، أو التي تمنع الدخول للمواقع المخلة بالآداب، أو التي تضبط وقت الجلوس أمام الحاسوب، أو التي تنبه لأوقات الصلاة.. وما شابه ذلك، وبيان الأهمية الدينية لاتخاذ إجراءات الحماية والوقاية التربوية.
7- العمل على توجيه الدول المصنعة لتلك الأجهزة على توفير ما يلزم فيها من تقنية للتحكم، أو مراعاة القيم الإسلامية في إنتاج البرامج.. وغير ذلك، والأولى أن تدخل مجتمعاتنا في معترك إنتاج تلك الوسائل. وهناك كثير من الأمثلة الواقعية التي تدل على استعداد بعض الدول لمراعاة قيمنا وأخلاقنا تحقيقاً لمصالحها الاقتصادية، ففي مجال الاقتصاد مثلاً أكدت تقارير "أن اليابان تدرس القواعد المالية التي تراعي الشريعة الإسلامية على أمل جذب العائدات النفطية إلى مصارفها والدخول إلى الأسواق المالية في الدول الإسلامية، إثر الارتفاع الكبير في أسعار النفط الخام" (موقع جريدة الاقتصادية 19/06/2006 م).
8- العمل على توجيه وسائل الإعلام التي تسير في طريق يخالف دين المجتمع وهويته وثقافته الأصيلة، وتقديم النصح لها، ونقدها عبر وسائل الإعلام إن لم تصحح مسارها وتوقف مفاسدها.
إن الخطر عظيم، وسرعة تطور وسائل الاتصال والثقافة والترفيه وتنوعها كبيرة، وإن لم نسرع باتخاذ الإجراءات اللازمة للتعامل الصحيح معها فإنها سوف تغرقنا بآثارها السلبية، والقضية لا تتعلق بفرد أو أسرة أو مدينة هنا أو هناك، إنها قضية أمة، وقضية أجيال، قضية دين ووجود وهوية، والتقصير في معالجة هذا الأمر يعني انهيار الأمة من داخلها، وعلى يد أبنائها
ـــــــــــــــــــ
حتى لا نفقد هويتنا(*)
د. فوز كردي
22/5/1427
ارسل تعليقك ...
تعليقات سابقة ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
أولاً لابد أن نعرف من نحن..
لقاء تربوي بعنوان "من أنا ؟" قدّمتُه لشرائح متنوعة في المجتمع النسائي قدمته للصغيرات في المدارس الابتدائية، ونفذتُه مع المراهقات في مراحل المتوسطة والثانوية، وجلست تحت مظلته مع طالبات المرحلة الجامعية، كما كان موضوعه مجال حديث مع زميلات مهنة التعليم والتربية ورفيقات درب الدعوة. حددت له أهدافاً واضحة منها: إثارة التفكير والتأمل، والدعوة للوقوف والتبصّر، والدعوة لتجديد النيّة واستحضار معاني العبودية في كل حركة وسكنة. واتبعته بمحاضرات: "وأنتم الأعلون"، "أنتم كالشامة"...(115/895)
وقد كان المنطلق الذي على أساسه اخترت هذا الموضوع بعناوينه ومضامينه الواقع الذي نعيشه ألماً وأملاً، واقع تعيشه شرائح من الأمة غافلة عن هويتها، لاهثة وراء كل ناعق حتى أضناها السير وأتعبها الضرب في بيداء الحياة وانتهت إلى تجرع مرارة الذل مخدوعة بجمال الكأس الذي يقدم فيه. وشرائح أخرى مخدّرة ترقب بعين ناعسة وجسد هدّته المحن أن تحدث معجزة فتعود الأمة للريادة وينهض المسلمون من غفلتهم!
نحن أصحاب رسالة ما طرق العالم شريعة أكمل منها، وقاعدة الكمال فيها مطّردة في جميع جوانبها
وشريحة ثالثة تقف حائرة متخبّطة مترددة، متناقضة مع نفسها تعلن بهيئتها ومظهرها تبعية مزرية، ولكنها تنهض لتهتف مع الهاتفين أحياناً: "العزة للإسلام والمسلمين"!!
وشريحة أخرى تتقوقع على نفسها خائفة على ثوابتها تطلق زفرات حرّى على واقع أليم وجراحات نازفة تعيشها الأمة، وتدعو من قلب مكلوم: أنْ اللهم عجّل بالنصر.
وشريحة أخيرة نأمل أن تكون أكثر ظهوراً وبروزاً، صورتها تتجسد في مسلمة تسير رافعة رأسها معتزة بإسلامها، متميزة بلباسها وحركتها وسكنتها لا تلتفت لنداءات المثبطين ولا تغتر ببريق زائف أو سراب خادع.. تؤمن بالله، وبقَدَرِه: حلوه ومره، وتدرك السنن الربانية؛ فتشمر عن ساعد الجِد معلّمة ومُذكّرة، وتنتصب قائمة داعية، وتنطرح ساجدة متضرعة.. عزيزة بانتمائها..عزيزة باعتقادها.. عزيزة بفكرها.. عزيزة بلباسها.. عزيزة باهتماماتها.. عزيزة في حياتها.. عزيزة في مماتها.. عزيزة بوعد ربها....
ومن أجل تحقيق هذا الأمل كان لقاء "من أنا ؟"، لنقف في لحظات تأمل وتبصر ثم نمضي معاً لنخطو خطوتنا نحو استعادة عزتنا تحدونا نماذج مضيئة كان شعارها "نحن قوم أعزنا الله بالإسلام"، فاعتزازنا بالدين يحقق الأمل المنشود.. ونحن إن عرفنا من نحن فوق هامات المجد...
لاشك أننا تلك الأمة التي اختلطت دموعها بدمائها وأنهكتها الجراحات وأحلَّ الكفر بساحاتها ضيماً يطول عليه النحيب..
ولا ننكر تخلّفنا في كثير من جوانب الحياة المادية.. ولا نستطيع أن نغض الطرف عن ضعف قوتنا العتادية...
إلا أننا يجب ألا ننسى في خضم هذه الهزائم المادية أننا أتباع سيد المرسلين _صلى الله عليه وسلم_، وأفراد خير أمة أخرجت للعالمين، وبيدنا حبل الله المتين، به نستطيع أن ننهض من كبوتنا ونستعلي بعد ذلتنا..
نحن أصحاب رسالة ما طرق العالم شريعة أكمل منها، وقاعدة الكمال فيها مطّردة في جميع جوانبها قال ابن القيم مبيناً استغناء الأمة بما جاء به الرسول عن كل ما سواه: "وبالجملة فقد جاءهم بخير الدنيا والآخرة برمّته، ولم يحوجهم الله إلى أحد سواه".
يجب أن لا ننسى أننا - إن تمسكنا بالذي أوحي إلى نبينا - فلن نضل أبداً، وسيتحقق منتهى مرادنا الذي نسأل الله ليل نهار أي يمن به علينا مبتهلين في كل ركعات(115/896)
صلاتنا: "اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ الضَّآلِّينَ"..
يجب ألا ننسى من نحن..
فنحن أفراد في ركب شريف عزيز على الله _عز وجل_، يتقدّمه محمد _صلى الله عليه وسلم_ والنبيين _عليهم أفضل الصلوات وأتمّ التسليم_..
ركبٌ يسير فيه أبوبكر وعمر والعشرة المبشّرين..
ركبٌ فيه خديجة وعائشة وسائر أمهات المؤمنين، ومن رجاله ابن المسيب والبصري _رضي الله عنهم أجمعين_ وغيرهم من الصالحين على امتداد التاريخ...
ونحن - إن صدقنا وما بدّلنا - معهم - بإذن الله- سائرين نسمع مواعظ الحبيب، وكلمات الناصحين وتسبيح المسبحين بما يحرك في القلب المحبة، ويوقظ من الغفلة، ويُنهض من الكسل، ويحذّر من الفتنة، ويخوّف من البدعة، ويُعظم الأنس والرغبة..
يجب أن لا ننسى من نحن؛ حتى لا نفقد هويتنا متأثرين بواقعنا الأليم..
ولكن إن حصل ما نخافه - وقد نسي فئام من الأمة، أو غفلوا عن حقيقة كوننا الأعلى -، فلابد أن يستمر التذكر أننا أصحاب أكمل رسالة، وأشمل منهج للحياة، وأننا في غنى عن كل من سوانا وكل من سوانا محتاج لما عندنا، فما ترك نبينا خيراً إلا ودلنا عليه ولا شراً إلا وحذرنا منه فجزاه الله عنا بخير ما جزى نبياً عن أمته.
يجب أن نُذكّر حتى تقل مظاهر التبعية التي تعدت عامة الناس وألقت بظلالها المخيفة على أوساط المثقفين وطلبة العلم والتربويين؛ فبعض الأفكار والقيم داخلتها اللوثات المادية النفعية الغربية أو تلك الفلسفات الروحية الشرقية.
وطريقة الملبس والزينة أصبح نموذجها ما تقرره بيوت الأزياء العالمية وإن كان يتسم بالصفاقة والإباحية . ولبلوغ كمال الأناقة لا بد من إظهار أنها من ماركة أجنبية.
والتغذية والحمية أصبح مصدرها الآيروفيدا الهندية، أو الفلسفة الماكروبيوتيكية.
أما الطب والصحة فتجدها - بزعمهم - في طاقة الأحجار والأهرامات، وفي شوربة الميزو اليابانية، كما لابد من ترك العسل واللبن وجميع المنتجات الحيوانية، وإن كان يحبها خير البرية...
والرياضة واللياقة والقوة أنفعها تلك المأخوذة من الديانات الصينية وتحت دعاوى استمداد الطاقة الكونية. ولن تصبح مميزاً فيها ما لم تتلقاها في المعابد الوثنية على أيدي النسّاك وأصحاب اللّمسة العلاجية!
أما عن أفضل منهج للحياة بتفاؤل وإيجابية، والتواصل مع النفس ومع البيئة الخارجية فهذا لا يوجد بكفاءة إلا عند أهل البرمجة اللغوية العصبية!
وإن أردت تميّزاً أكثر، فخلّل كلامك بلغة أوربية، واللحن في لغتك العربية بلكنة أعجمية. واذكر أسماء أساتذتك ومدربيك من المدارس الغربية الأمريكية أو البريطانية، أو المدارس الشرقية الصينية واليابانية.
ومن المعلوم أنه كما قال الإمام ابن تيمية: "من شأن الجسد إذا كان جائعاً فأخذ من طعام حاجته استغنى عن طعام آخر، حتى لا يأكله إن أكل منه إلا بكراهة وتجشّم، وربما ضرّه أكْله، أو لم ينتفع به، ولم يكن هو المغذي له الذي يقيم بدنه، فالعبد إذا أخذ من غير الأعمال المشروعة بعض حاجته، قلّت رغبته في المشروع وانتفاعه(115/897)
به، بقدر ما اعتاض من غيره بخلاف من صرف نهمته وهمته إلى المشروع؛ فإنه تعظم محبته له ومنفعته به، ويتم دينه، ويكمل إسلامه".
فلما أقبل الناس على هذه الأفكار وازدحموا في دوراتها التدريبية، وتناقلوا أخبار وصفاتها العلاجية.. انتشرت صور جديدة من صور التبعية.. وظهرت بصورة محزنة جماهير في طريقها لفقدان الهوية، فلا تميّز ولا تفاضل؛ فالدين واحد تحت مظلة الأخوة الإنسانية.. حتى قرأنا في أحد الصحف المحلية أن المدرب البريطاني الكافر يؤدي الصلاة مع المسلمين بالثياب العربية في مشاركة وجدانية!!
فحتى لا نفقد هويتنا.. وحتى لا تميّع عقيدتنا.. وحتى لا تزعزع ثوابتنا، لابد أن ننتبه؛ فالغزو الفكري العقدي في صورة المذاهب المادية والتطبيقات الروحية الفلسفية الحديثة يتسلل إلى بيتي وبيتك عبر شاشات الفضائيات في البرامج والأفلام الكارتونية وعبر مواقع الشبكة العنكبوتية، وعبر ألعاب الأطفال، وبطريق وصفات علاجية في كثير من عيادات الاستشفاء البديل، ومن خلال الدورات التدريبية، وفي مقالات المجلات والجرائد، متلفّعة بالنفع، متلوّنة بالسعادة على حين غفلة من جند الحق..
فاستمسك بالكتاب والسنة وكن حارسًا يقظًا لفكرك وفكر أهل بيتك، فلا تجد هذه اللوثات طريقها إليك مهما تزيّنت وتزخرفت أو تلوّنت وتنوعت...
________________
(*) نشر بالاتفاق مع موقع:http://www.alfowz.com/
ـــــــــــــــــــ
محطات إيمانية في تربية الطفل(*)
موقع المسلم
15/5/1427
ارسل تعليقك ...
لا توجد تعليقات ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
يقول الرسول المصطفى _صلى الله عليه وسلم_: " كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه"، وفسّره الشيخ العلامة سفر الحوالي بأن "الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- قد أودع في فطر النَّاس الإيمان بالله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- فكل مولود من بني آدم يولد، فهو مقر بالله ومتجهٌ بفطرته إليه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ومفطور عَلَى الإقرار والإيمان به -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بحيث لا يحتاج إِلَى أن يلقن ذلك ولا أن يعلّم، بل هو مولود عَلَى نفس هذه الملة -ملة الإسلام- ".
وعلى ذلك تظهر أهمية الاهتمام بدين المولود، والمحافظة على فطرته الإسلامية الصحيحة، وترسيخ ذلك في حياته اللاحقة، منعاً لدخول ما قد يشوبها من أفكار خاطئة، قد تؤدي إلى ضلالة أو تفضي إلى انحراف.(115/898)
ويستعين الأهل بعد الله ا_عز وجل_، بالكثير من الطرق والأساليب في تنمية هذا الجانب الإيماني لدى أبنائهم، وتعظيم وحدانية الله _عز وجل_ في نفوسهم، ومنها ما يشير إليها الدكتور عدنان علي النحوي بالقول: " إن قضية تربية الطفل عملية إعداد وبناء ليصبح قادراً عند بلوغه سن الرشد على تحمُّل المسؤولية التي كلّفه الله بها، سليم الفطرة، سليم الإيمان والتوحيد، يحمل العلم من منهاج الله قدر وسعه الصادق خلال مراحل نموّه. وأدب الأطفال الإسلامي يساهم مساهمة كبيرة في بناء العقيدة السليمة وفي حماية الفطرة في مراحله المختلفة".
تظهر أهمية الاهتمام بدين المولود، والمحافظة على فطرته الإسلامية الصحيحة، وترسيخ ذلك في حياته اللاحقة، منعاً لدخول ما قد يشوبها من أفكار خاطئة، قد تؤدي إلى ضلالة أو تفضي إلى انحراف
مرحلة الحمل والولادة:
يرى الدكتور عدنان النحوي أن أول قطعة من الأدب الإسلامي للطفل وللكبير هي شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ولذلك ورد في الأثر الأذان في الأذن اليمنى للطفل والإقامة في الأذن اليسرى ، فعن أبي رافع _رضي الله عنه_ قال: "رأيت رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ أذَّن في أذن الحسن بن علي حين ولدته أمه فاطمة _رضي الله عنه_ا بالصلاة" [رواه أبو داود والترمذي]. فيكون أول كلمة تدخل فطرة المولود بالأذان هي الشهادتان، كلمة تتجاوب مع فطرته التي فطره الله عليها، تدخل الأذن وتمتدّ في كيان المولود ما شاء الله لها أن تمتد على سنن ربّانية، لتنمّي غرسة الإيمان والتوحيد وصفائهما، الغرسة التي وضعها الله في فطرة هذا المخلوق الجديد، ولتصبح مسؤولية الإنسان ابتداءً بالوالدين مسؤولية مباشرة عن رعاية العقيدة وسلامتها وصحّتها".
ويضيف "ثم تمضي الشهادتان في حياة الطفل كلها تتردّد مع مراحل نموه حتى بلوغه رشده وشبابه وكهولته وحياته كلها حتى يلقى الله ربه عليها، فيُلقّنها عند الموت"، مورداً دليلاً على استمرار ذلك إلى الموت، بحديث أبي سعيد وأبي هريرة وعائشة _رضي الله عنه_م عن الرسول _صلى الله عليه وسلم_ قال: "لقّنوا موتاكم لا إله إلا الله" [رواه أحمد ومسلم وابن ماجه والنسائي].
فهذه الكلمة: "لا إله إلا الله" هي القاعدة الصلبة في التربية في الإسلام، وهي تمثّل النهج والغاية، وهي تمثّل الحقيقة الكبرى في الكون والحياة، وتمثّل الانطلاقة الأولى والهدف الربّاني الأول للمسلم في تبليغ دعوة الله للناس كافّة".
ويرى الدكتور النحوي أن من معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم أن نبّهنا إلى نشاط حاسة السمع لدى المولود ولو لم يدرك المعنى، ولكن الصوت وأمواجه تترك أثرها بطريقة ربانية، وقد ثبت علمياً اليوم أن حاسة السمع لدى الجنين قبل أن يولد تكون عاملة، تتأثر وتستقبل الصوت، ويترك الصوت أثره في الجنين بطريقة لا يدركها العلم، ولكن يعلمها الله رب العالمين.
وتقول د. آريان آيزنبرغ وزميلتاها في كتابهنّ: "ماذا تتوقع عندما تنتظر الجنين" حيث إن حاسة السمع عند الجنين تكون قد تطورت تطوراً كبيراً مع نهاية المرحلة الثانية أو بداية الثالثة، فيصبح من الحقيقة أن الأجنّة عند أصدقائك يسمعون ما يدور(115/899)
من موسيقى ومن قراءات، ولكن ما هو تأثير ذلك في مقبل الأيام لم يتأكد حتى الآن، ويعتقد بعض الباحثين المختصين في هذا العلم أنه من الممكن إثارة الجنين قبل ولادته ليكون جنيناً متميزاً"
ولذلك ينصح بعضهم بأن تقرأ الأم شيئاً يسمعه الجنين دون أن يعي المعنى، فيترك ذلك أثره، وكذلك الحديث الذي يجري في البيت بين الأبوين أو غيرهما قد يترك أثره، ويتّضح لنا هنا أهمية نقاء جو الأسرة وصفاء العلاقة بين الزوجين، حتى تسود الكلمة الطيبة التي أمر الله بها، والكلام الحسن الذي أمر الله به، ليتلقَّى الطفل وهو جنين أصوات الخير والكلم الطيب، وذكر الله، واستمرار الدعاء، وتلاوة القرآن الكريم وقراءة أحاديث الرسول _صلى الله عليه وسلم_، وأصوات الوداد والمحبّة والكلم النقيّ من الأدب الإسلامي.
كلُّ ما يجري في بيت الأسرة يمكن أن يؤثّر على الجنين بالصوت، لذلك حرص الإسلام على تنظيم جو الأسرة وتفصيل العلاقات بين أفرادها، فيكون دور أدب الأطفال الإسلامي أن يُغذّي هذا الجو وهذه العلاقات.
ويتابع الدكتور النحوي في محاضرة ألقاها خلال ندوة "أدب الأطفال الإسلامي" في الرياض خلال عام 1427هـ "عندما يولد الطفل تظل حاسة السمع عاملة فيه دون أن يدرك معنى الأصوات التي تصله، والتي تستقبلها أجهزة فطرته الأخرى بطريقة ربّانية، فهو يتأثر بنفس الطريقة بحنان الأم وهدهدتها له، ومناغاتها، بين كلمات الحب العميق والحنان الشديد، ويتأثر بضمّه إلى صدرها، وإرضاعها له، حين تخرج الكلمات من الأم عفو الخاطر والبديهة، فتلتقي الفطرة الصافية بالفطرة الصافية، فينال الطفل الغذاء الصافي على جرس المناغاة، لتكون النص الثاني الذي يتلقّاه الطفل.
ولقد سنَّ الإسلام سُنناً في رعاية المولود كالأذان والإقامة في أذنيه كما ذكرنا، وكذلك التحنيك والعقيقة وغير ذلك، ولكن الخطوة المهمة في هذه المرحلة هي اختيار اسم للمولود، اختيار اسمه الذي سيُرافقه حياته كلّها، والذي سيظل الناس ينادونه به، فمن مسؤولية الوالدين اختيار الاسم الحسن الطيب في معناه ومبناه، وجرسه ولفظه وكتابته، كما وردت الأحاديث الشريفة بذلك.
ويصبح هذا الاسم من أوائل الكلمات التي يسمعها والتي تظل تطرق أذنيه، ثم يتعلمها فينطق بها لسانه، وكأنما اسمه قطعة أدبية محببة إلى الطفل، يتعلّمها في سن مبكرة.
إنها النغمة الحلوة التي تحمل الصورة الأدبية بمعناها وظلالها وجرسها، وقد أخذت جهداً حقيقياً من الوالدين حتى اختارا هذا الاسم لطفلهما، وربما اشترك معهما بعض الأقرب والأرحام، وكأنّ هذا الاسم أصبح النص الأدبي الثاني الذي يتلقاه الطفل بعد الشهادتين والأذان والإقامة في أُذنيه.
وتأتي القطع الأدبية الثالثة مع أول مراحل نمو الطفل من خلال مناغاته وتسهيل نومه بالنغمة الحلوة، والشعر البسيط، مما لا يدرك معناه ولكن يؤثر فيه الإيقاع الرتيب الحلو، وأرى أنه يجب الحرص على أن لا يدخل أذن الطفل في جميع مراحل تربيته إلا اللغة العربية الصحيحة والمعاني الكريمة، مع إدراكي صعوبة تحقيق ذلك في عالم ضعفت فيه منزلة اللغة العربية الفصيحة، وانتشرت اللهجات العامية المختلفة،(115/900)
ولكن يجب علينا أن نظل نذكّر بالقواعد الرئيسة في الإسلام، والتزام اللغة العربية الصحيحة أمر هام فعليه أن يسعى ويجاهد من أجل إتقانها، وخاصة في واقعنا اليوم.
ويتدرّج الطفل في تقبّل الشعر وتمثُّله عاماً بعد عام، حتى يصل إلى مرحلة يستطيع فيها أن يحفظ الأناشيد الحماسية، والقصص الشعرية، ويرددها مع زملائه في المدرسة، أو بين والدين متعاونين وأسرة مترابطة، ويفخر بالتغنّي بها".
مرحلة ما بين السنة الأولى والثانية حتى الفطام:
يقول الدكتور النحوي معلقاً على الآية الكريمة: "وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا... الآية" (البقرة: من الآية233). "إنه أسلوب رباني معجز في التربية والتعهد والبناء، لا يمكن أن تجده خارج أجواء الإسلام والبيت المسلم الملتزم. وأطيب الكلام وأغناه كلام الله، فيسمع منه مع السنة الثانية بعض الآيات القصيرة، ثم يزداد ذلك مع نموّه، ليُغْرس في فطرته الكلم الطيب الطاهر، وتُحمى فطرته بذلك، ويمكن للشعر السهل الخفيف أن يسمع منه شيئاً، وفي آخر السنة يمكن أن يحفظ بعضه، شعراً طيباً في نغمته ومعناه، مع ما يسمع من آيات كريمة قصيرة، ويظل جو الأسرة المسلمة يؤثر في تربية الطفل بما فيه من سكن ومودّة وتعاون. ويكون الطفل في هذه المرحلة قد تعلّم المشي، وتعلّم بعض الكلمات السهلة أيضاً مثل: بابا، ماما، هات، ربي، الله، الحمد لله، مع بعض الآيات القصيرة والشعر السهل كما ذكرنا، وينمو قاموس الطفل ليبلغ بحدود (250) كلمة".
مرحلة ما بين السنة الثانية والرابعة أو الخامسة:
وعن هذه المرحلة، يورد الدكتور عدنان النحوي دليلاً من حديث الأسود بن سريع عن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "قال مولود يولد على الفطرة حتى يُعْرِبَ لسانه فأبواه يهوّدانه أو ينصّرانه أو يمجّسانه".
ويضيف "يبدأ الطفل في هذه المرحلة بالتقليد وبالتعرّف على ما حوله، وتزداد قدراته على التعلم، فنراه يقلّد والديه في الركوع والسجود، وقد يقف بجانبهما في الصلاة، أو يقف وحده، أعمال يُقبل عليها بالفطرة، فتُغْرس فيه بعض معاني الإيمان وبعض أعمال الإسلام وآدابه، ويتعلّم التحيّة و"بسم الله الرحمن الرحيم"، وتقوى ملكة النطق عنده ويستقيم لسانه، فيمكن أن يحفظ سوراً قصيرة وأحاديث قصيرة، ومقاطع شعرية خفيفة، ويستمتع بالسماع إلى القصة القصيرة الممتعة، فيعطى من عناصر أدب الأطفال الإسلامي ما يوفر له المتعة والفائدة معاً، وما ينمي إيمانه وعلمه وقدرته على حسن الاستماع والنطق والفهم، لينمو بذلك زاده كله، وينمو قاموسه اللغوي مع السنة الرابعة إلى (1600) كلمة، وينمو إيمانه، ويتعلم بعض قواعد الإيمان والتوحيد.
يتعلم الطفل في هذه المرحلة بالتلقين المباشر، والتقليد، والتعرف على ما حوله، وبالاستماع، والنظر في الصور، وما يعرض عليه من كتب مصورة، وتنمو حواسه كلها، وينمو إدراكه".
مرحلة السنة الخامسة إلى السنة السابعة:(115/901)
وعن هذه المرحلة الهامة في حياة الإنسان، يورد الدكتور النحوي دليلاً آخر عن عبد الله بن عمر _رضي الله عنه_ما عن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع واضربوهم عليها وهم أبناء عشر وفرقوا بينهم في المضاجع" [رواه أبو داود].
ويضيف بالقول: "في هذه المرحلة يحسن أن يوفر للطفل جو الرفقة الطيبة، فالرفقة ضرورية للتربية ومراعاة الحاجات النفسية كلها، والتدريب على حب التعاون وتنمية الروابط الإيمانية في أجواء اجتماعية من ألفة ومحبة. وننصح في هذه المرحلة، وعندما يقترب الطفل من الخامسة، بأن ينظم الأب جلسة يومية أو أسبوعية على الأقل، نسميها "مجلس العائلة"، يكون له منهج ممتع مسل ومفيد، ينال الطفل من خلاله أفضل غذاء من الكتاب والسنة واللغة العربية، ومن الكتاب الإسلامي من شعر أو قصة أو حكاية، ومن فكاهة وطرفة، ومن خبر وأحداث، ذلك كله يخضع لنهج محدد وخطة مدروسة تعين على تحقيق الأهداف المرجوة، ومن خبر وأحداث، ذلك كله يخضع لنهج محدد وخطة مدروسة تعين على تحقيق الأهداف المرجوة، يضعها الوالدان المسؤولان ويشرفان على تنفيذها، وقد ينضم إلى المجلس أبناء الأرحام والأقارب والجوار. وجميع ما يعطى للطفل من مواد مناسبة من أدب الأطفال الإسلامي، يظل ينمو مع نمو الطفل من مرحلة إلى مرحلة، فينمو الشعر وتنمو القصة".
ويتابع بالقول: "يزداد هنا اهتمام الوالدين بتدريب أولادهما على الصلاة ووعي فرضيتها والمحافظة عليها، حتى إذا بلغ السابعة أمر بها كما جاء في حديث الرسول _صلى الله عليه وسلم_، ويفرق بين الأبناء في المضاجع، وتبدأ الفروق تظهر بين البنين والبنات مع آخر هذه المرحلة، ويصبح لهذه الفروق أثر في التربية، وأحاديث شريفة أخرى. ولم يأت الأمر بالضرب إذا امتنع الطفل عن الصلاة وهو ابن عشر سنين، إلا لأن التربية في الإسلام نهج وخطة متكاملة تتجاوب مع فطرة الطفل ووسعه وقدراته، وتقضي هذه الخطة والنهج أن الطفل عندما يؤمر بالصلاة في السنة السابعة سيستجيب الطفل السوي إلى هذا الأمر بسهولة ويسر استجابة فطرة وإيمان بناء على نجاح التربية في المراحل السابقة ووضوح آثارها، فإن لم يستجب وهو ابن عشر سنين، فيكون الطفل بحاجة إلى هزّة توقظ فطرته، والله أعلم بما يحتاجه الطفل في هذه الحالة، فهو تشريع رباني أعلى من كل تجربة بشرية علمانية، تطويها تجارب أخرى، وحين ترفض المناهج العلمانية الضرب فذلك يعود إلى أنه لم يبق في حياتهم ما يوجب الضرب في مراحل تربية الطفل، فهم لا يدركون خطورة الصلاة ولا خطورة الإيمان والتوحيد، ولا خطورة البعث والحساب وعذاب النار، وهم قد أباحوا الزنا والفاحشة واللواط، فلم يبق شيء يستحق حتى التنبيه أو اللوم، كل المحرمات أبيحت.
وهم لا يعترضون على مبدأ الضرب فقط ، وإنما يعترضون على الإسلام كله بنهجه وتشريعه.
والتفريق هنا في المضاجع، وفي مراعاة الاحتياجات المختلفة المتجاوبة مع طبيعة كل من البنين والبنات، ولا تجوز التفرقة في المعاملة والحب والحنان، حتى لا يشعر(115/902)
أحد أنه نال اهتماماً أقل في النظرة أو القبلة أو الحنان أو العطاء، كما تبين لنا ذلك أحاديث شريفة.
ويكون الطفل مع السنة الخامسة والسادسة قد بدأ يتعلم الكتابة، وتتحسن كتابته وقراءته في السابعة من عمره، مما يُهيّئ الطفل إلى مرحلة جديدة بعد السابعة، ينمو معه فيها غذاؤه من أدب الطفل الإسلامي، قرآناً وسنّة ولغة عربية، وشعراً، وقصة، وغير ذلك، وبذلك ينمو قاموسه اللغوي حتى يبلغ بحدود (3000) كلمة".
مرحلة ما بين السابعة إلى العاشرة:
يقول الدكتور النحوي: " في هذه المرحلة يجب أن يتأكد الوالدان من التزام ابنهما للصلاة، ومن حسن تعلمه لها وتطبيق أحكامها، ويمكن أن يُلجأ إلى الضرب عند الحاجة. وفي هذه المرحلة تنمو قدرة الطفل على الكتابة والقراءة، وتنمو قدرته على التفكير والتصور الذهني والخيال، وينمو تصوره الإيماني ووعيه لأسس قواعد الإيمان والتوحيد، وإدراك معنى طاعة الله ورسوله. وفي هذه المرحلة يكون قد أصبح طالباً في المدرسة يتلقى فيها مختلف العلوم الأولية، فيصبح البيت مرتبطاً بالمدرسة كمركزين من مراكز التربية والبناء وإعداد الطفل ليتحمل مسؤولياته في الحياة، وكذلك أصبح يرتاد المسجد ويقيم الصلاة، ويرى المؤمنين صفوفاً متراصة منتظمة، في أوقات محدّدة، فيتعلم احترام الوقت وتنظيمه، ويتعلم ارتباطه مع أمّته من خلال هذه المراكز الثلاثة المترابطة: البيت، والمسجد، والمدرسة. ويتلقى الآن نصوصاً أعلى وأغنى من أدب الأطفال الإسلامي وأولها من منهاج الله، ثم من الشعر والقصة، وربما يدخل المسرح في هذه المرحلة جزءاً من نشاط المدرسة يتدرّب فيها الطفل على الإلقاء والحوار ومقابلة الجمهور، وبناء العلاقات الاجتماعية من خلال نصوص مختارة من أدب الأطفال الإسلامي. يتعلّم هنا معاني الألوهية والربوبية وعبوديّة الإنسان لربه من خلال الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة، ومن الأناشيد والقصائد، ومن القصص أيضاً".
ويضيف "ويستمر (مجلس العائلة) وينمو مع نمو الطفل، ويزداد عطاؤه وبركته، وتُحبّب إليه القراءة والمطالعة باختيار أنسب الكتب، حتى يحب الطفل في هذه المرحلة قصص المغامرات التي توسّع من خياله وتُنَمّيه، كما يُحِب المسلسلات والألغاز، وسير الأبطال من تاريخ أمة الإسلام، تقدّم له قصصاً غنيّاً وأدباً نديّاً. ويجب أن نلاحظ ونؤكد أن للإسلام نظريته الفريدة في التربية والبناء، وله نهجه الفريد الذي يمتدّ نهجاً واحداً متكاملاً بين البيت والمسجد والمدرسة، حتى لا يجد الطفل المسلم أيّ تناقض بين ما يتلقّاه هنا وهناك، بل يجد التناسق والترابط، ويظلّ الأدب يؤدي دوره غنيّاً نديّاً، ممتعاً ومفيداً.
ومع هذه الحياة الجديدة بين هذه المراكز الثلاثة، يتعلم الطفل نصوصاً من الكتاب والسنة، ومن مصادر أدبية أخرى، تُغذّي فيه عزّة الإيمان وروابطه القويّة المتينة، التي تربط المسلمين أمّة واحدة في الأرض، نقيّة من العصبيات الجاهلية التي حرّمها الإسلام: "... إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ..." (الحجرات: من الآية10)".
مرحلة السنة العاشرة إلى السنة الخامسة عشرة:(115/903)
ويتابع الدكتور النحوي مع الأطفال عند بلوغهم، قائلاً: " يبيّن لنا الإسلام هذه المرحلة وتميّزها من غيرها بقوله سبحانه وتعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ... الآية" (النور: من الآية58)".
ويقول: "هذه مرحلة غيّة ثريّة يتزايد فيها العطاء ويتسارع، حيث تنمو لدى الطفل قدرته ووسعه الصادق الذي وهبه الله إياه، والذي سيحاسبه عليه، وتنمو كذلك قدرته على التفكير والخيال مع نمو زاده كلّه.
إن نمو الطفل في هذه المرحلة آخذ بالاتجاه إلى الرجولة وتحمّل المسؤولية والأمانة التي خُلِق للوفاء بها، ولا بد أن يكون توضيح هذه المهمة التي خُلق للوفاء بها جزءاً رئيساً من منهج هذه المرحلة.
وقد بيّن الله لنا غاية الحياة الدنيا والمهمة الملقاة على الإنسان فيها ليحاسَب عليها يوم القيامة، بيّنها لنا سبحانه وتعالى بأربعة مصطلحات نصفها من جوانبها الأربعة مع ظلالها، ثم فصَّلها تفصيلاً بالآيات الكريمة والأحاديث الشريفة، وهذه المصطلحات الأربعة هي: العبادة، والأمانة، والخلافة، والعمارة.
ويتضح من ارتباط هذه الكلمات بعضها ببعض وضوح مهمة الإنسان في الحياة الدنيا وامتداد معنى العبادة في الإسلام، ليشمل كل عمل المسلم إذا أخلص فيه نيّته الواعية لله رب العالمين، واتبع في عمله شرع الله وخضع له. وجعل الله برحمته الوفاء بهذه المهمة التي خُلق الإنسان لها عهداً وميثاقاً مع الله سبحانه وتعالى، وجعل الوفاء بهذه الأمانة يتمّ من خلال ابتلاء وتمحيص لكل إنسان، ولكل أمة، وكان هذا المعنى من أكثر المعاني التي يؤكّدها القرآن الكريم".
ويضيف بالقول: " ومن أهم قواعد الإيمان والتوحيد التي يجب أن يتعلّمها الطفل في هذه المرحلة خاصة قضية النية وإخلاصها لله، ليعي الطفل حقيقة معنى النية وخطورتها، فتشرح له من خلال الآيات والأحاديث، ليدرك أن النية ليست تمتمة شفاه، ولكنّها تحديد لهدف رباني، وتحديد لدرب يوصف إلى الهدف، ليتحقق معنى في سبيل الله، وإعداد الوسائل والأساليب الربانية. وآيات أخرى كثيرة، ثم يأتي حديث رسول الله _صلى الله عليه وسلم_: "إنما الأعمال بالنيّات..." موضحاً ومؤكداً معنى النيّة ودورها في ميدان الممارسة والتطبيق، فالآيات الكريمة والأحاديث الشريفة نصوص أدبيّة رائعة غنية، تمد الطفل المسلم في هذه المرحلة باللغة والأدب والإيمان والعلم، وتمتدّ به النيّة إلى آفاق الكون وإلى ميادين السعي والعمل. ويوضّح للطفل أن هذه النية الواعية شرط لقبول العمل عند الله، وأنها بالصدق تكون إشراقة في النفس وجمالاً في العطاء، وأساساً للجمال الفني في النص الأدبي ومنطلقاً له، وأنّ النيّة ضرورية في كل عمل المسلم في كل ميادين السعي في الحياة، حتى يكون عمل المؤمن عبادة لله إذا استكمل الخضوع لشرعه. وتجتمع وسائل الإعداد والتدريب من خلال جميع الوسائل والنصوص على إعداد الطفل على تحمّل المسؤولية شيئاً فشيئاً، وعلى العمل المنهجي والتخطيط، والإدارة والنظام، وحسن تنظيم الوقت والاستفادة منه، ليرتبط عمله كلّه بالنيّة الصادقة الواعية لله، وليكون عمله كلّه عبادة وطاعة له".
المنهاج الفردي:(115/904)
عن المنهج الفردي في تربية العقيدة الإسلامية لدى الأطفال، يقول الدكتور النحوي: " من أهم ما نوصي به في هذه المرحلة، بالإضافة إلى "مجلس العائلة" الذي سبق ذكره، "المنهاج الفردي" بمرونته وشموله وتكامله، المنهاج الفردي لكل مسلم ليتعلّم من خلاله الاعتماد على نفسه، واحترام مسؤولياته، والتدرّب على النهج والتخطيط والإدارة، وتنظيم الوقت وإدارته، وتغذية الإيمان والتوحيد، مصاحبة منهاج الله مصاحبة منهجيّة مصاحبة عمر وحياة، والتقويم وكثير غير ذلك، ويكون الأدب الإسلامي من أهم بنوده، ليساهم الأدب الملتزم بالإسلام في بناء العقيدة الصحيحة".
الواقع:
ويختتم محاضرته القيّمة بالقول: "ينمّى في هذه المرحلة في الطفل وَعْي الواقع حوله بصورة أكبر مما كان في المراحل السابقة، ليُصبح في هذه المرحلة موضوعاً رئيساً منهجياً يلقى العناية من البيت والمسجد والمدرسة، لأهميته في بناء العقيدة الصحيحة في قلب المسلم، وهذا الموضوع يعني دراسة الواقع من خلال منهاج الله والتدرّب على ردّ جميع الأمور إليه. ومنهاج الله، وكذلك النصوص الأدبية من أبواب الأدب المختلفة، عوامل أساسيّة في دراسة الواقع، ويمثّل "الواقع" ودراسته الركن الرئيس الثاني في النظرية العامة للتربية الإسلامية، حين يكون الركن الأول هو منهاج الله، وينهض الركنان الرئيسان على القاعدة الصلبة، الإيمان والتوحيد، الحقيقة الكبرى في الكون والحياة".
ويضيف "من خلال هذه النظرية ونظرية المنهاج الفردي ونظرية منهج "لقاء المؤمنين"، ليكون الطفل المسلم قد أُعدَّ لتحمُّل المسؤولية والوفاء بالمهمة التي خلقه الله لها، والتكاليف الربانية التي أُمِر بها، واستقرّت في نفسه معاني الإيمان والتوحيد، والخلق الإسلامي، ونهج التفكير الإيماني، ووعي الواقع وردّه إلى منهاج الله في حدود وسعه الصادق، ويكون قد نما زاده من الكتاب والسنّة واللغة العربية.
وأدب الأطفال الإسلامي يجب أن يساهم في بناء هذه المبادئ والقواعد والمناهج في قلب الطفل المسلم حتى تستقرّ العقيدة الصحيحة في حياته دون خلل أو اضطراب أو شرك".
__________________
(*) من محاضرة للدكتور عدنان علي رضا محمد النحوي بعنوان: (أثر أدب الأطفال الإسلامي في تربيتهم العقدية الصحيحة).
حق الصغير في التنشئة الصالحة (1-2)
عبدالعزيز بن سعد الدغيثر
1/5/1427
ارسل تعليقك ...
لا توجد تعليقات ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...(115/905)
من أعظم النعم أن يرزق الإنسان ذرية تسعده وتبره في حياته وتحمل اسمه من بعده بعد مماته، وفي هذه العصور يشتكي كثير من الناس من وجود عناصر خارجية مؤثرة في تربية الصغار كالإعلام والمدارس وغيرها. وفي هذه المبحث محاولة لمعرفة بعض الطرق التربوية المستخرجة من التراث الإسلامي المليء بالكنوز لمن أراد نبشها وإظهارها، والله المستعان وعليه التكلان.
تعويد الصغار على الالتزام بالشعائر التعبدية:
أولا: تعويدهم على الصلاة:
يقول الله _تعالى_: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ..." (التحريم: من الآية6) قال علي _رضي الله عنه_: "علموهم وأدبوهم"(1)، وعن الحسن البصري مثله(2). وقال _تعالى_ مادحاً نبيه إسماعيل _عليه السلام_: "وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ..." (مريم: من الآية55) وقال _تعالى_: "وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا..." (طه: من الآية132) قال ابن مسعود _رضي الله عنه_: "حافظوا على أبنائكم في الصلاة ثم تعودوا الخير فإن الخير بالعادة"(3) وكان عروة يأمر بنيه بالصيام إذا أطاقوه وبالصلاة إذا عقلوا"(4).
من أعظم النعم أن يرزق الإنسان ذرية تسعده وتبره في حياته وتحمل اسمه من بعده بعد مماته، وفي هذه العصور يشتكي كثير من الناس من وجود عناصر خارجية مؤثرة في تربية الصغار كالإعلام والمدارس وغيرها
ولا مانع من إعطائهم الهدايا التشجيعية على أداء الصلاة، فقد روت عائشة _رضي الله عنها_ أنهم كانوا يأخذون الصبيان من الكُتَّاب ليقوموا بهم في رمضان ويرغبونهم في ذلك عن طريق الأطعمة الشهية(5). وكان بعض السلف يعطون الأطفال الهدايا التشجيعية على أداء الصلاة(6). ومن ذلك ما كان من زبيد بن الحارث _رحمه الله_ وكان مؤذن مسجد، فكان يقول للصبيان: يا صبيان تعالوا فصلوا أهب لكم الجوز، قال: فكانوا يجيؤون فيصلون، ثم يحوطون حوله، فقال بعضهم: ما تصنع بهذا؟ فقال: وما علي أن أشتري لهم جوزا بخمسة دراهم وتعودون الصلاة(7).
ثانياً: تعويدهم على الصيام:
روى البخاري ومسلم عن الربيع بنت معوذ قالت: "أرسل النبي _صلى الله عليه وسلم_ غداة عاشوراء إلى قرى الأنصار: من أصبح مفطراً فليتم بقية يومه ومن أصبح صائما فليصم، قالت: فكنا نصومه بعد ونصوم صبياننا ونجعل لهم اللعبة من العهن، فإذا بكى أحدهم على الطعام أعطيناه ذلك حتى يكون عند الإفطار"(8)، وجيء بسكران في رمضان إلى عمر بن الخطاب _رضي الله عنه_ فقال له موبخاً وزاجراً: "في رمضان ويلك وصبياننا صيام" فضربه(9). وكان _صلى الله عليه وسلم_ يعظم يوم عاشوراء ويدعو برضعائه ورضعاء فاطمة فيتفل في أفواههم ويأمر أمهاتهم ألا يرضعن إلى الليل(10).
القدوة وأثرها في تعبد الصغار:(115/906)
ذكر ابن الجوزي عن نفسه أنه كان يتأثر ببكاء بعض شيوخه أكثر من تأثره بعلمهم(11). وكان عبدالله التستري يردد في طفولته قبل أن ينام: الله شاهدي الله ناظري الله معي(12)، ولا شك أنه لشيء رآه من والديه أو أحدهما في هذا الأمر.
وقال عتبة بن أبي سفيان لمؤدب ولده: ليكن أول إصلاحك لولدي إصلاحك لنفسك فإن عيونهم معقودة بك، فالحسن عندهم ما صنعت والقبيح عندهم ما تركت، وعلمهم كتاب الله ولا تكرههم عليه فيملوه، ولا تتركهم منه فيهجروه، ثم روهم من الشعر أعفه، ومن الحديث أشرفه، ولا تخرجهم من علم إلى غيره حتى يحكموه، فإن ازدحام الكلام في السمع مضلة للفهم..."(13).
ويحذر ابن مسكويه من ترك التربية للخدم خوفا عليهم من أن يتأثروا بأخلاقهم وأفعالهم(14).
الحرص على تعليمهم الخير:
وهذا من تمام القيام بالأمانة التي وليها الوالدان، روى ابن أبي شيبة أن النبي _صلى الله عليه وسلم_ كان يعلم الغلام من بني عبدالمطلب إذا أفصح قول الله _تعالى_: "الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك" سبع مرات. وكان علي بن الحسين يعلمهم: "قل آمنت بالله وكفرت بالطاغوت"، وكان بعض السلف يعلم الصبيان قول "لا إله إلا الله"(15).
كما أن السلف كانوا يقدمون الغالي والرخيص ليرغبوا الأطفال في العلم فقد روى النضر بن شميل قال: سمعت إبراهيم بن أدهم يقول: قال لي أبي: يا بني اطلب الحديث فكلما سمعت حديثاً وحفظته فلك درهم فطلبت الحديث على هذا(16). وقالت أم سفيان الثوري لسفيان: يا بني اطلب العلم وأنا أكفيك بمغزلي، وقالت أيضا: يا بني إذا كتبت عشرة أحاديث فانظر هل ترى من نفسك زيادة في مشيك وحلمك ووقارك، فإن لم يزدك فاعلم أنه يضرك ولا ينفعك(17).
ومن أعظم ما حرص عليه السلف أن يتشرب الصغار السيرة النبوية لتكون نبراسا لهم ولتزيد محبتهم للصدر الأول، كما أن في معرفتهم للسيرة تكوين للقدوات التي يولع بها كثير من الصغار، ومن ما ورد عن السلف في تحبيب الصغر للسيرة ما قاله علي بن الحسين: "كنا نعلم مغازي النبي _صلى الله عليه وسلم_ كما نعلم السورة من القرآن الكريم" وقال إسماعيل بن محمد بن سعد: "كان أبي يعلمنا مغازي رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ ويعدها علينا وسراياه ويقول: يا بني: هذه مآثر آبائكم فلا تضيعوا ذكرها".
ولما كان الاختلاط بالأعاجم مظنة لفساد اللسان العربي، حرص السلف على تقويم ألسنة الصغار من اللحن فقد جاء عن نافع عن ابن عمر _رضي الله عنهما_ "أنه كان يضرب بنيه على اللحن"(18).
ولم يكن السلف غافلين عن العلوم الأخرى المفيدة كالأنساب والشعر فقد أرسل معاوية _رضي الله عنه_ إلى دغفل فسأله عن العربية وعن أنساب العرب وسأله عن النجوم فإذا رجل عالم. قال: "يا دغفل من أين حفظت هذا؟ قال: بلسان سؤول وقلب عقول وإن آفة العلم النسيان. قال: انطلق بين يديَّ – يعني ابنه يزيد – فعلمه العربية وأنساب قريش والنجوم وأنساب الناس"(19).(115/907)
ولما دفع عبدالملك ولده إلى الشعبي يؤدبهم قال: علمهم الشعر يمجدوا وينجدوا وحسن شعورهم تشتد رقابهم وجالس بهم علية الرجال يناقضوهم الكلام(20).
ولأن السلف أمة مجاهدة، كانوا يربون أبناءهم على حب هذه الشعيرة والتدرب عليها ليكونوا على استعداد تام عند لاحاجة إليهم. فقد أوصى عمر بن عبدالعزيز مؤدب ولده سهلا قائلاً: "وليفتح كل غلام فيهم بجزء من القرآن يثبت في قراءته فإذا فرغ تناول قوسه ونبله وخرج إلى الغرض حافيا فرمى سبعة ارشقة ثم انصرف إلى القائلة"(21).
قال ابن القيم _رحمه الله_: "إذا رأى الصبي وهو مستعد للفروسية وأسبابها من الركوب والرمي واللعب بالرمح وأنه لا نفاذ له من العلم ولم يخلق له ومكنه من أسباب الفروسية والتمرن عليها فإنه أنفع له وللمسلمين"(22).
وليعلم أن معرفة السباحة غاية في الأهمية ولذا أوصى الحجاج مؤدب بنيه بقوله: "علمهم السباحة قبل الكتابة فإنهم يجدون من يكتب عنهم ولا يجدون من يسبح عنه"(23).
ومن الأساليب التي يحببون بها العلم إلى الصغار الاحتفال بهم، قال أبو خبيب الكرابيسي: كان معنا ابن لأيوب السختياني في الكتاب فحذق الصبي فأتينا منزلهم فوضع له منبر فخطب عليه ونهبوا علينا الجوز وأيوب قائم على الباب، يقول لنا: ادخلوا، وهو خاص لنا(24). وقال يونس : حذق ابن لعبدالله بن الحسن، فقال عبدالله: إن فلاناً قد حذق، فقال الحسن _رضي الله عنه_: كان الغلام إذا حذق قبل اليوم نحروا جزوراً وصنعوا طعاماً للناس(25).
ومن ذلك أن الصبي إذا كان ذا موهبة خطابية فإن الأولى بمعلمه أن ينمي هذه الموهبة، وقد كان ابن الجوزي الواعظ من ثمار الشيخ أبي القاسم البلخي، فإنه علمه كلمات ثم أصعده المنبر فقالها وكان عمره ثلاث عشرة سنة، قال ابن الجوزي: وحزر الجمع يومئذ بخمسين ألفا. وهو أول مجالسه رحمه الله(26).
ومن الأمور التي ينبغي أن يعلمها الصبي، الجرأة على طرح أفكاره، ويكون هذا بمجالسة العقلاء الكبار ليكبر عقله وينضج تفكيره، فمن الخطأ أن يمنع الصغير من حضور مجالس أهل الخبرة والتجربة، وقد مر عمرو بن العاص _رضي الله عنه_ على حلقة من قريش فقال:" ما لكم قد طرحتم هذه الأغيلمة؟ لا تفعلوا، أوسعوا لهم في المجلس، وأسمعوهم الحديث، وأفهموهم إياه، فإنهم صغار قوم أوشك أن يكونوا كبار قوم، وقد كنتم صغار قوم فأنتم اليوم كبار قوم"(27). بل كان ابن شهاب الزهري رحمه الله يشجع الصغار ويقول:" لا تحتقروا أنفسكم لحداثة أسنانكم فإن عمر بن الخطاب كان إذا نزل به الأمر المعضل دعا الفتيان فاستشارهم يتبع حدة عقوله"(28).
وتعليم الصبي الاعتماد على النفس بتعلم صنعة أو تجارة أمر مهم من أهم واجبات الولي، فقد روى أبو داود أن النبي _صلى الله عليه وسلم_ رأى غلاما لا يحسن سلخ الشاة فقال له: تنح حتى أريك، فأدخل يده بين الجلد واللحم فدحس بها حتى توارت إلى الإبط ثم مضى(29).(115/908)
وقال علي بن جعفر: مضى أبي إلى أبي عبدالله- يعني الإمام أحمد- وذهب بي معه فقال له: يا أبا عبدالله، هذا ابني، فدعا لي، وقال لأبي: ألزمه السوق وجنبه أقرانه(30).
وبعكس النظرة الموجودة لدى الآباء بمحاولة نفخ الصغير والتحسر على نحافته نجد السلف يحذرون من تسمين الصغار. قال إسماعيل بن عبيدالله: أمرني عبدالملك بن مروان أن أجنب بنيه السمن وأن لا أطعمهم طعاما حتى يخرجوا إلى البراز وأن أجنبهم الكذب وإن كان فيه بعض القتل(31).
يتبع...
_________________
(1) رواه ابن جرير في تفسيره 28/175.
(2) كتاب العيال لابن أبي الدنيا 1/495-496.
(3) رواه ابن أبي الدنيا في العيال 1/ 469 والبيهقي في الكبرى 3/84 وعبدالرزاق في المصنف (7299) وابن أبي شيبة 1/348..
(4) رواه ابن أبي الدنيا في العيال 1/470 وعبدالرزاق (7293).
(5) رواه البيهقي في الكبرى 2/459.
(6) الطب الروحاني لابن الجوزي /60, عن كتاب مسؤولية الأب المسلم في تربية الولد /124.
(7) كما في ترجمته في السير عن محاضرة: نشأة ناشئة السلف للدكتور عبدالعزيز العبداللطيف.
(8) رواه البخاري رقم(1960) ومسلم (1136).
(9) رواه البخاري(1690) تعليقا وصله سعيد بن منصور كما في فتح الباري 4/201..
(10) رواه ابن خزيمة 3/289 وتوقف ابن خزيمة في تصحيح الحديث بسبب خالد بن ذكوان وهو محتج به في الصحيح.
(11) صيد الخاطر/140.
(12) مسؤولية الأب المسلم في تربية الولد/470.
(13) البيان والتبيين /249.
(14) تهذيب الأخلاق /63، عن كتاب حماية الطفولة في الشريعة لمحمد عبدالجواد /60.
(15) رواه ابن أبي شيبة في المصنف 1/348.
(16) اتحاف الخيرة المهرة في معرفة وسائل التربية المؤثرة لأم عبدالرحمن الجودر نشر مكتبة التوبة /68.
(17) عن محاضرة نشأة ناشئة السلف لعبدالعزيز العبداللطيف.
(18) رواه ابن أبي الدنيا في العيال 1/ 508 والبيهقي في الكبرى 2/18.
(19) رواه ابن أبي الدنيا في العيال 1/ 528.
(20) رواه ابن أبي الدنيا في العيال 1/ 512.
(21) التربية البدنية والرياضية في التراث /38.(115/909)
(22) المرجع السابق /77.
(23) عيون الأخبار 2/166.
(24) رواه ابن أبي الدنيا في العيال 1/ 485.
(25) رواه ابن أبي الدنيا في العيال 1/ 489.
(26) المنتظم 17/236، والبداية والنهاية طبعة دار هجر 16/271.
(27) ثقافة الطفل المسلم/ 158 عن شرف أصحاب الحديث /65.
(28) رواه ابن عبدالبر في جامع بيان العلم وفضله /1/85.
(29) رواه أبو داود (185).
(30) رواه الخلال في الحث على التجارة /29.
(31) رواه ابن أبي الدنيا في العيال 1/511.
التربية بالحب:
ولهذا النوع من التربية مظاهر منها:
تقبيل الصغير واحتضانه وشمه:
من مظاهر الحب التقبيل للصغار وضمهم وهذا من الرحمة التي يؤجر العبد عليها وقد جاء في حديث أبي هريرة _رضي الله عنه_ أن النبي _صلى الله عليه وسلم_ قبل الحسن وعنده الأقرع بن حابس التميمي جالسا فقال الأقرع: إن لي عشرة من الولد ما قبلت منهم أحدا، فنظر إليه النبي _صلى الله عليه وسلم_ ثم قال: من لا يرحم لا يرحم"(1).
من مظاهر الحب التقبيل للصغار وضمهم وهذا من الرحمة التي يؤجر العبد عليها
وقال بريدة: كان رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ يخطبنا فجاء الحسن و الحسين عليهما قميصان أحمران يمشيان ويعثران، فنزل رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ من المنبر فحملهما فوضعهما بين يديه وقال: صدق الله: "إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ" (التغابن: من الآية15) نظرت إلى هذين الصبيين يمشيان ويعثران فلم أصبر حتى قطعت حديثي ورفعتهما(2).
ومن ذلك الدعاء للصغير:
وهذا هو هدي الأنبياء والصالحين فعباد الرحمن يقولون: "رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ" (الفرقان: من الآية74)، ويدعو لهم بصلاح العقيدة: "وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ" (إبراهيم: من الآية35) ويدعو لهم بأن يكونوا مقيمين للصلاة: "رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي" (إبراهيم: من الآية40).
وعن ابن عباس _رضي الله عنهما_ قال: "ضمني رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ وقال: "اللهم علمه الكتاب" وفي رواية: "اللهم علمه الحكمة" وفي أخرى: "اللهم فقهه في الدين"(3).
وعن أسامة بن زيد _رضي الله عنه_ قال: إن كان رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ ليأخذني ويقعدني على فخذه ويقعد الحسن على الأخرى ثم يضمنا ثم يقول: اللهم ارحمهما فإني أرحمهما(4). وفي رواية: (اللهم إني أحبهما فأحبهما)(5).(115/910)
أما الدعاء عليهم فقد ورد النهي عنه في حديث جابر _رضي الله عنه_ أن رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ قال: "لا تدعوا على أنفسكم ولا تدعوا على أولادكم ولا تدعوا على أموالكم، لا توافقوا من الله ساعة يسأل فيها عطاء فيستجيب لكم"(6).
وجاء رجل إلى ابن المبارك يشكو عقوق ابنه فسأله إن كان قد دعا عليه أم لا، فأجاب: بأنه قد دعا عليه، فقال له حينئذ: أنت أفسدته(7).
ومن ذلك ممازحتهم وتفريحهم:
فقد كان _صلى الله عليه وسلم_ يمازح الصغار فقد قال لأحدهم: (يا ذا الأذنين)(8)، ومج _صلى الله عليه وسلم_ الماء في وجه محمود بن الربيع وهو ابن خمس سنين(9). وقال لأحدهم: "يا أبا عمير ما فعل النغير"(10).
وعن أبي هريرة _رضي الله عنه_ قال كان رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ إذا أتى الثمر أُتي به فيقول: (اللهم بارك لنا في مدينتنا وفي مُدِّنا وفي صاعنا بركة مع بركة) ثم يعطيه أصغر من بحضرته من الولدان(11).
ومر ابن عمر _رضي الله عنهما_ في طريق فرأى صبياناً يلعبون فأعطاهم درهمين(12).
وعن أنس _رضي الله عنه_ قال كان رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ يزور الأنصار ويسلم على صبيانهم ويمسح رؤوسهم"(13).
وعن يعقوب بن سرجس - مولى أم سلمة – أنه أتي به وهو صغير إلى أم سلمة زوج رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ فمسحت رأسه وبركت عليه . وهكذا فعل أبو هريرة مع فاطمة بنت سعد(14).
السماح لهم باللعب فهو ربيع الصغار:
عن أبي هريرة _رضي الله عنه_ "أنه صلى مع رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ العشاء فأخذ الحسن والحسين يركبان على ظهره فلما جلس وضع واحدا على فخذه والآخر على فخذه الأخرى ..."(15) وعن ابن مسعود _رضي الله عنه_ قال: كان النبي _صلى الله عليه وسلم_ يصلي والحسن والحسين يثبان على ظهره فيأخذهما الناس فقال: دعوهما بأبي هما وأمي، من أحبني فليحب هاذين)(16).
وعن عبدالله بن الحارث _رضي الله عنه_ قال: كان _صلى الله عليه وسلم_ يصف عبدالله وعبيدالله – من بني العباس- ثم يقول: من سبق إلي كذا فله كذا وكذا، قال: فيستبقون إليه فيقعون على ظهره وصدره فيقبلهم(17).
وورد عنه _صلى الله عليه وسلم_ أنه كان من أفكه الناس مع صبي(18).
ونقل ابن مفلح عن ابن عقيل أنه قال: "والعاقل إن خلا بأطفاله خرج بصورة طفل ويهجر الجد في ذلك الوقت"(19).
وعن الحسن أنه دخل منزله وصبيان يلعبون فوق البيت ومعه عبدالله ابنه فنهاهم فقال الحسن: دعهم فإن اللعب ربيعهم(20).
وعن إبراهيم النخعي قال: كانوا يرخصون للصبيان في اللعب كله إلا بالكلاب(21).
وفي حديث الجاريتين أنهما كانتا تغنيان وتضربان بالدف عند عائشة _رضي الله عنها_ في العيد من أيام منى(22).
كما ورد عنها _رضي الله عنها_ أنه كان لها فرس له جناحان(23).(115/911)
ويجوز لعب الأطفال ببعض الحيوانات والطيور إذ لم يكن فيه أذى لها، ففي الصحيحين عن أنس _رضي الله عنه_ أن النبي _صلى الله عليه وسلم_ قال لأخ لأنس: "يا أبا عمير ما فعل النغير"(24).
التوسعة عليهم عند اليسار:
وهذا داخل في عمومات النصوص التي منها: "خيركم خيركم لأهله" وحديث: "إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده"، ومن أولى ما يدخل في ذلك التوسعة على الأولاد باللبس الحسن والطعام الحسن بل وتطييبهم بأنفس الطيب، قالت أم أبي محمد التمار: ربما حملنا أولاد أيوب فعبق لنا من ريحهم ريح المسك أو الطيب(25).
حقوق الصغار في أبواب الآداب:
من ذلك تشميت الصغير إذا عطس، ومن حق الصغير أن يسلم عليه فعن أنس _رضي الله عنه_ قال: "كنت مع النبي _صلى الله عليه وسلم_ فمر على صبيان فسلم عليهم"(26).
ومن ذلك أن يُستأذن عليه عند الدخول فقد قال جابر _رضي الله عنه_: "يستأذن الرجل على ولده وأمه وإن كانت عجوزا وأخيه وأخته وأبيه"(27).
ولا يقدم عليهم في حقهم إلا بإذنهم فعن سهل بن سعد _رضي الله عنه_ أن رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ أتي بشراب فشرب منه وعن يمينه غلام وعن يساره الأشياخ فقال للغلام: "أتأذن لي أن أعطي هؤلاء، فقال الغلام: والله يا رسول الله لا أؤثر بنصيبي منك أحدا، فتله رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ في يده"(28).
ومن ذلك أنه لا يجوز أن يكذب عليهم فعن عبدالله بن عامر _رضي الله عنه_ قال: "أتانا رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ في بيتنا وأنا صبي، قال: فذهبت أخرج لألعب، فقالت أمي: يا عبدالله تعال أعطيك، فقال رسول الله _صلى الله عليه وسلم_: وما أردت أن تعطيه؟ قالت: تمرا، فقال: أما إنك لو لم تفعلي كتبت عليك كذبة"(29)، وصح عنه _صلى الله عليه وسلم_ أنه قال: (إن الكذب لا يصلح منه جد ولا هزل ولا أن يعد الرجل ابنه ثم لا ينجز له)(30).
حفظ نظر الصغير بتعليمه الاستئذان في أوقات الراحة:
قال _تعالى_: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ..." (النور: من الآية58)، يقول أنس _رضي الله عنه_: "كنت خادماً للنبي _صلى الله عليه وسلم_ فكنت أدخل بغير استئذان فجئت يوما فقال: كما أنت يا بني فإنه قد حدث بعد أمر، لا تدخلن إلا بإذن"(31). وقد ذكر ابن قدامة أن الطفل يؤمر بالاستئذان في سن التمييز(32).
تقويم سلوك الصغار:
قد يظن ظان أن أسرع طريقة للتقويم الضرب وهو مخالف للهدي النبوي كما أن الدراسات الحديثة أثبتت أن استخدام الوسائل الأخرى أكثر تقويما للسلوك. ولنتأمل في هذه القصة التي رواها أحمد أن رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ خرج إلى طعام كان قد دعي إليه مع بعض أصحابه فاستقبل رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ أمام القوم وحسين مع غلمان يلعب، فأراد رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ أن(115/912)
يأخذه فطفق الصبي ها هنا مرة وها هنا مرة، فجعل النبي _صلى الله عليه وسلم_ يضاحكه حتى أخذه(33). فهذه وسيلة سهلة توصل إلى المقصود.
ومن الأساليب أيضا العتاب الرقيق فقد قال أنس بن مالك _رضي الله عنه_: كان رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ من أحسن الناس خلقا، فأرسلني يوما لحاجة، فقلت: والله لا أذهب – وفي نفسي أن أذهب لما أمرني نبي الله _صلى الله عليه وسلم_- قال: فخرجت حتى أمر على الصبيان وهم يلعبون في السوق، فإذا رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ قابض بقفاي من ورائي فنظرت إليه وهو يضحك فقال: يا أنيس اذهب حيث أمرتك، قلت: نعم أنا أذهب يا رسول الله(34).
والضرب وسيلة تقويم وقبلها وسائل، وقد ورد الأمر بتعليق العصا في البيت(35).
وعن عائشة _رضي الله عنها_ قالت في أدب اليتيم: إني لأضرب اليتيم حتى ينبسط(36).أي يعتدل. وقال الإمام أحمد: اليتيم يؤدب ويضرب ضربا خفيفا(37).
وكان عمر بن عبدالعزيز _رحمه الله_ يكتب للأمصار: لا يقرن المعلم فوق ثلاث فإنها مخافة للغلام(38). – يعني لا يجمع ثلاث ضربات. وسئل الإمام أحمد عن ضرب المعلم الصبيان، فقال: على قدر ذنوبهم، ويتوقى بجهده الضرب، وإن كان صغيرا لا يعقل فلا يضربه(39).
وتأمل أيها القارئ هذا الموقف من الأحنف حينما غاضب معاوية _رضي الله عنه_ ابنه يزيدا فقال له الأحنف بن قيس: هم ثمار قلوبنا وعماد ظهورنا ونحن لهم أرض ذليلة وسماء ظليلة وبهم نصول إلى كل جليلة، فإن غضبوا فأرضهم، وإن طلبوك فأعطهم يمحضوك ودهم، ويلطفون جهدهم، ولا تكن عليهم ثقيلا لا تعطيهم إلا نزرا فيملوا حياتك ويكرهوا قربك. فكان ذلك سببا لتراضيهما(40).
الإنكار عليهم:
جاءت النصوص بالأمر بالإنكار على الصغار إن ارتكبوا محرما فعن عمر بن أبي سلمة قال: كنت في حجر رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ وكانت يدي تطيش في الصحفة فقال لي: "يا غلام سم الله وكل بيمينك وكل مما يليك"(41).
روى سعيد بن جبير أنه كان مع عبدالله بن عمر _رضي الله عنهما_ في الطريق فإذا صبيان يرمون دجاجة فقال ابن عمر: من فعل هذا؟ فتفرقوا، فقال: إن رسول الله صلى عليه وسلم لعن من مثل بالحيوان(42).
اختيار أصحابهم:
قال علي بن جعفر: مضى أبي إلى أبي عبدالله- يعني الإمام أحمد- وذهب بي معه فقال له: يا أبا عبدالله، هذا ابني، فدعا لي، وقال لأبي: ألزمه السوق وجنبه أقرانه(43).
قال الغزالي: ويحفظ الصبي من الصبيان الذين عُوِّدوا التنعم والرفاهية ولبس الثياب الفاخرة(44).
_________________
(1) رواه البخاري (5997) ومسلم(2318).
(2) رواه أبو داود كما في العون 3/458، والترمذي كما في التحفة 10/278، وابن ماجه 2/1190 وحسنه الأرناؤوط في تحقيق جامع الأصول9/33.(115/913)
(3) رواه البخاري في كتاب العلم 17، وكتاب المناقب 138، وكتاب الوضوء 10.
(4) أخرجه البخاري 8/10 .
(5) رواه البخاري 1/29.
(6) رواه مسلم (3009).
(7) مسؤولية الأب المسلم في تربية الولد.
(8) رواه أبو داود(5002).
(9) رواه البخاري 1/29.
(10) رواه البخاري 8/55.
(11) رواه مسلم 2/1000، والبخاري في الأدب المفرد (362) .
(12) رواه البخاري في الأدب المفرد(1303).
(13) رواه النسائي وغيره وصححه الألباني في صحيح الجامع/ 4947 والصحيحة/1278.
(14) رواهما ابن أبي الدنيا في كتاب العيال 1/411، 1/414 .
(15) أخرجه أحمد 2/513 .
(16) رواه ابن حبان كما في الموارد2233، والطبراني في الكبير3/40، والبيهقي في الكبرى مرسلا 2/263 ورواه أبو يعلى بمعناه 8/434 وحسنه العدوي في فقه تربية الأطفال/71..
(17) رواه أحمد 1/214 وقال في المجمع 5/263: رواه أحمد وفيه يزيد بن أبي زياد وفيه ضعف لين. وقال أبو داوود: لا أعلم أحدا ترك حديثه، وغيره أحب إلي منه، وروى له مسلم مقرونا، والبخاري تعليقا، وبقية رجاله ثقات..
(18) رواه البخاري في الأدب المفرد باب قبلة الصبيان.
(19) الآداب الشرعية 3/228.
(20) وابن أبي الدنيا في العيال 2/791.
(21) رواه البخاري في الأدب المفرد (1297و ابن أبي الدنيا في العيال 2/798.
(22) رواه مسلم 2/608.
(23) رواه أبو داود(4932) .
(24) رواه البخاري(6129) ومسلم(2150).
(25) رواه ابن أبي الدنيا في العيال 1/561.
(26) رواه الترمذي 4/1602 (2837) وقال الترمذي: حديث صحيح.
(27) رواه البخاري في الأدب المفرد (1066).
(28) رواه البخاري 5/2130 (5297) ومسلم 3/1604 (2030).
(29) رواه أحمد 3/447 وأبو داود 4/298 (4991)
(30) رواه الحاكم 1/127.
(31) رواه البخاري في الأدب المفرد 2/271.
(32) المغني 9/496.
(33) رواه أحمد 4/172.
(34) رواه أبو داود(4473).(115/914)
(35) رواه ابن أبي الدنيا في العيال 1/494 وحسنه الألباني في صحيح الجامع.
(36) رواه ابن أبي الدنيا في العيال 2/832.
(37) الآداب الشرعية 1/477.
(38) ابن أبي الدنيا في العيال 1/531.
(39) الآداب الشرعية 1/477.
(40) ابن أبي الدنيا في العيال 1/308.
(41) رواه مسلم 3/1599 (2022).
(42) رواه الدارمي 2/84.
(43) رواه الخلال في الحث على التجارة /29.
(44) الإحياء 3/70.
ـــــــــــــــــــ
"سوء الظن".. منشأ النزاعات.. وسرطان العلاقات
اللجنة التربوية
23/4/1427
ارسل تعليقك ...
لا توجد تعليقات ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
سوء الظن هو الاتهام بغير دليل أو كما قال البعض: هو غيبة القلب، يُحَدث نفسه عن أخيه بما ليس فيه، وقيل: اعتقاد جانب الشر وترجيحه على جانب الخير فيما يحتمِلُ الأمرين معاً.
وقد يسوء ظن المرء بربه، وقد يسوء ظنه بنفسه، وقد يسوء ظن المرء بالناس، فيشك في نواياهم ويؤول أقوالهم وأعمالهم.
فقد يكون في معدن بعض الناس خِسَّةٌ ونقص في المروءة وسقوط في الهمة وإفلاس من الخير ومرض في القلب، فيجتمع كل ذلك، مع تسويف في توبته لربه وسوء في طويته، فينصِبُ الواحد منهم نفسه رقيبا على الناس يقيس المسلمين بمقاييس السوء الدائم، فلا يرى إلا المنكر أينما ولى وجهه!!
رؤية الشريعة لسوء الظن:
قال الله _سبحانه_: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ".
قد يسوء ظن المرء بربه، وقد يسوء ظنه بنفسه، وقد يسوء ظن المرء بالناس، فيشك في نواياهم ويؤول أقوالهم وأعمالهم
و قال رسول الله _صلى الله عليه وسلم_: "إياكم والظنَّ، فإن الظن أكذبُ الحديث. ولا تَحَسَّسُوا، ولا تَجَسَّسُوا، ولا تنافسوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا. وكونوا عباد الله إخوانا كما أمركم. المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يخذُله ولا يحقِره. التقوى ههنا -(115/915)
ويشير إلى صدره- بِحَسْبِ امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم. كل المسلم على المسلم حرام. دمه وعرضُه ومالُهُ. إن الله لا ينظر إلى أجسادكم ولا إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم". رواه الشيخان عن أبي هريرة _رضي الله عنه_.
وجاءه رجل يقول: "إن امرأتي ولدت غلامًا أسود. فقال النبي _صلى الله عليه وسلم_: هل لك من إبل؟ قال: نعم. قال: فما ألوانها؟ قال: حُمْرُ. قال: هل فيها من أورق؟ [يعني فيه سواد] قال: إن فيها لأورقًا. قال: فأنى أتاها ذلك. قال: عسى أن يكون نزعه عِرْقٌ. قال: وهذا عسى أن يكون نزعه عِرْق"[رواه البخاري ومسلم واللفظ له].
وفي الحديث: "إذا سمعتم الرجل يقول: هلك الناس، فهو أهلكهم" رواه مسلم، (إما بفتح الكاف "فهو أهْلكَهم" على أنه فعل ماض، أي: كان سببا في هلاكهم بفعله وسوء ظنه، وإما بضم الكاف "فهو أهلكُهم"، أي أشدهم وأسرعهم هلاكا).
وأما السلف الصالحون فقد نأوا بأنفسهم عن هذا الخلق الذميم، فتراهم يلتمسون الأعذار للمسلمين، حتى قال بعضهم: إني لألتمس لأخي المعاذير من عذر إلى سبعين، ثم أقول: لعل له عذرًا لا أعرفه... وقد قال العلماء: أن كل من رأيته سيئ الظن بالناس طالبًا لإظهار معايبهم فاعلم أن ذلك لخبث باطنه، وسوء طويته؛ فإن المؤمن يطلب المعاذير لسلامة باطنه، والمنافق يطلب العيوب لخبث باطنه..، وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لا تظن بكلمة خرجت من أخيك المؤمن شرًّا، وأنت تجد لها في الخير محملاً..
وحكم الله فيمن يسيء الظن بالناس نجده في قول الله تبارك وتعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ " فمثلاً: إذا أسأت الظن بأهلك في البيت، فقد يُؤدي ذلك إلى اتهامهم بما هم منه براء، وقد يؤدي ذلك إلى إفساد الأسر والمجتمعات، وإذا أسأت الظن بطلابك دفعتهم إلى الريبة وأفسدت نياتهم وإخلاصهم، وإذا أسأت الظن بجارك كان ذلك مدعاة إلى قطع العلاقة بينك وبينه، وهكذا.
قال الإمام ابن حجر: سوء الظن بالمسلم من الكبائر الباطنة وقال: وهذه الكبائر مما يجب على المكلف معرفتها ليعالج زوالها لأن من كان في قلبه مرض منها لم يلق الله _ والعياذ بالله _ بقلب سليم، وهذه الكبائر يذم العبد عليها أعظم مما يذم على الزنا والسرقة وشرب الخمر ونحوها من كبائر البدن؛ وذلك لعظم مفسدتها، وسوء أثرها ودوامه إذ إن آثار هذه الكبائر ونحوها تدوم بحيث تصير حالاً وهيئة راسخة في القلب، بخلاف آثار معاصي الجوارح فإنها سريعة الزوال، تزول بالتوبة والاستغفار والحسنات الماحية، وقال ابن قدامه: فليس لك أن تظن بالمسلم شراً، إلا إذا انكشف أمراً لا يحتمل التأويل
وسوء الظن نوعان:
1- سوء الظن بالله: وهو أعظم إثمًا وجرمًا قال _تعالى _: " يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ " [ سورة آل عمران : آية 154 ] ، وقال _تعالى_ في المنافقين : " الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ".(115/916)
2- سوء الظن بالمسلمين: وهو أيضًا من الكبائر، فمن حكم على غيره من المسلمين بشر بمجرد الظن وحده حمله الشيطان على احتقاره وعدم القيام بحقوقه وإطالة اللسان في عرضه والتجسس عليه.
وأما سوء الظن بأهل الفجور ومشيعي الفواحش والفتن والضلالات, مع وجود الدليل والبرهان، فهذا لا يدخل في الظن السيئ، بل في الحذر المطلوب والحرص على مصالح المسلمين.
وهنا لفتة مهمة إذ يقول الإمام الحسن البصري "إن قوما ألهتهم الأماني حتى ماتوا ولم يعملوا حسنة ويقول أحدهم أنا أحسن الظن بربي, وقد كذبوا، فلو أحسنوا الظن لأحسنوا العمل" فمن كان صادقاً في ظنه بربه أن يدخله جنته فعليه بالإيمان والعمل الصالح.
أسباب سوء الظن:
إن أهم أسباب سوء الظن هي ما يفعله الشيطان من تسويل في قلب المسلم فيدفعه إلى سوء ظنه، مع وجود جبن وضعف في نفس سيء الظن إذ تذعن نفسه لكل فكر فاسد يدخل في وهمه، كذلك فإن العجب بالنفس والفرح بزينتها من أهم أسبابه، قال بعض الصالحين: «ويلكم عبيد السوء ترون القذى في أعين غيركم ولا ترون الجذع في أعينكم»، إنّ من يستعظم نفسه وعمله ويرى في ذاته ومناهجه الكمال ويرى نفسه فوق الآخرين يستفزّه أن يسبقه أخوه إلى عمل خير أو أن يسمع الناس يمتدحون منافسه، كذلك فإن لخبث الباطن وسوء الطوية أثر كبير في إنبات سوء الظن، فإنّ من تعوّد على الحيلة والمكر والخديعة يتصوّر الآخرين كذلك ومن كانت كلماته سلسلة من الأكاذيب لا يستطيع أن يرى غير الكذب في كلمات الآخرين، كذلك فإن أحكام التعميم منبتة لسوء الظن, فقد يصطدم المرء بحقيقة مرّة يكتشفها فجأة في صديق، أو عالم، أو عامل فيفقد ثقته بكل الأصدقاء والعلماء والعاملين، إن ذلك يعد من أكبر السقطات ومن أكبر عوامل سوء الظن... فتدبر.
رؤية ناقصة وشر مستطير:
إن المؤمن حَسَن الظن بالله وبعباد الله فهو "غر كريم والفاجر خَبٌّ لئيم" كما في حديث أبي داود والترمذي وغيرهما بإسناد حسن عن أبي هريرة، لكنَّ المؤمن يُحسن الظَّن أولاً، ثم إذا بدا من أحد بادرةُ سوء كان منه على حذر، ولكننا نجد أقوما جعلوا الأصل عندهم هو الاتهام، والأصل في الاتهام الإدانة، خلافا لما قررته القواعد أن المتهم بريء مادام لا دليل على إدانته.
فالأصل في المسلم العدالة والاستقامة، ما لم يظهر فسقاً وعصياناً أو بدعة في دينه، فإذا كان المسلم مستور الحال ولم يظهر منه فساد أو معصية فسوء الظن به حرام _كما بينا_.
هذا مع أن المسلم لا يغتر بعمله أبداً، ويخشى أن يكون فيه من الدَّخَل والخلل ما يحول دون قبوله وهو لا يدري، والقرآن يصف المؤمنين السابقين بالخيرات، فيقول في أوصافهم: "والذين يُؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلةٌ أنّهم إلى ربِّهم راجعون" (المؤمنون: 60)، وقد ورد في الحديث أن هذه الآية فيمن عمل الصالحات، ويخاف ألاّ يقبل الله منه.(115/917)
.. ثم إن المحسن الظن بإخوانه، الذي يلتمس لهم المعاذير، ويحملهم على أحسن المحامل يعيش في راحة بال، واطمئنان نفس، والعكس صحيح، فإن المسيء الظن بالناس يعيش في شؤم وتعاسة وإن أظهر خلاف ذلك.
وتجد مرضى القلوب بذلك الداء دائماً يسارعون إلى سوء الظن والاتهام لأدنى سبب، فلا يلتمسون المعاذير للآخرين، بل يفتشون عن العيوب، ويتصيدون الأخطاء، ويجعلون من الخطأ خطيئة.
وإذا كان هناك قول أو فعل يحتمل وجهين: وجه خير وهداية، ووجه شر, رجحوا احتمال الشر على احتمال الخير، خلافا لما أثر عن علماء الأمة من أن الأصل حمل حال المسلم على الصلاح، والعمل على تصحيح أقواله وتصرفاته بقدر الإمكان، وقد كان بعض السلف يقول: إنّي لألتمس لأخي المعاذير ثم أقول: لعلّ له عذراً آخر لا أعرفه!
إن آفة هؤلاء هي سوء الظن، ولو رجعوا إلى القرآن والسنة لوجدوا فيهما ما يغرس في نفس المسلم حسن الظن بعباد الله، فإذا وجد عيبا ستره ليستره الله في الدنيا والآخرة، وإذا وجد حسنة أظهرها وأذاعها، ولا تنسيه سيئة رآها في مسلم حسناته الأخرى، ما يعلم منها وما لا يعلم.
إن حسن الظن يؤدي إلى سلامة الصدر وتدعيم روابط الألفة والمحبة بين أبناء المجتمع، فلا تحمل الصدور غلاًّ ولا حقدًا، وقد أوجب الإسلام على المسلم أن يحسن الظن بإخوانه المسلمين، فلا يحل لأحد منهم أن يتهم غيره بفحش أو ينسب إليه الفجور أو يسند إليه الإخلال بالواجب أو النقص في الدين أو المروءة، أو أي فعل من شأنه أن ينقص من قدره أو يحط من مكانته، بل قد أمر الله بالتثبت؛ ونهى عن تصديق الوهم والأخذ بالحدس والظن، فقال: "ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا".
نظرة للعلاج:
إن أول خطوات العلاج أن يتذكر حكم الإسلام في مثل هذه الحالات، وما أمر به من حمل أمور الناس على البراءة الأصلية وعدم المسارعة إلى التأويلات السيئة ويتذكر ما نهى عنه من سوء الظن بالله وبالناس، وإلى جانب السيطرة على الشعور الباطن بالحوار الداخلي وتذكير النفس بالله وبأحكام الشرع الحنيف عليه أن يتحكم في الانحرافات الباطنة والظاهرة التي يفضي إليها سوء الظن مثل الحسد والحقد والغيبة والتجسس، قال ابن قدامه : متى خطر لك خاطر سوء على مسلم، فينبغي أن تزيد في مراعاته وتدعو له بالخير، فإن ذلك يغيض الشيطان ويدفعه عنك. وإذا تحققت هفوة مسلم، فانصحه في السر.
وإذا رأى الإنسان من أخيه ما يستنكره فعليه أن يتأوله ـ ما وجد له في الخير مذهباً ـ.
وإذا لم يجد باباً من التأويل ولا ما يدفع سوء الظن فليبادر إلى مواجهة المظنون به، وليفاتحه بما ينسب إليه، فإما أن يعترف ويستمرئ ما هو عليه، وبذلك يسلم من إثم الظن، لأن الظن لا يتحول إلى يقين فيكون ما ظنه حقاً فلا تكون التهمة خالية من الدليل؛ وإما أن يحدث توبة ويستأنف حياة نظيفة فيكون ذلك من أعظم الخير الذي أسداه إليه؛ وإما أن تظهر براءته، ويكون الظن قائماً على غير أساس, فأسئ الظن(115/918)
بنفسك وأحسن الظن بالمؤمنين، واستكشف مواطن الخلل والنقص في ذاتك فـ«طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس».
كذلك فإن من سبل العلاج أن تتعامل مع المرض تعاملاً عكسياً بمعنى أنك إذا خالجك سوء الظن بأحد فابحث له عن صفات الخير التي فيه وذكر نفسك بها وتفقد سمات الصلاح التي به والزم فكرك إياها، وإذا عرفت سقطة مسلم فانصحه في السِّر ولا تبادر إلى اغتيابه وإذا وعظته فلا تعظه وأنت مسرور بإطلاعك على عيبه، بل ينبغي أن يكون قصدك استخلاصه من الإثم وتكون محزوناً كما تحزن على نفسك إذا دخل عليك ذنب.
وعليك كذلك أن تحاسب نفسك دائماً وتبتعد عن مواطن الثرثرة والنميمة وذكر عيوب الناس فإنها بيئة ينبت فيها سوء الظن.
ـــــــــــــــــــ
الكبر.. داء القلب العضال
خالد روشه
16/4/1427
ارسل تعليقك ...
تعليقات سابقة ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
الكبر: شعور خادع بالاستعلاء، مصحوب باحتقار الناس والترفع عليهم، فهو انفعالات داخلية أساسا، كما قال الله _عز وجل_: "إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ" (غافر: من الآية56).. وما يظهر من سلوكيات المتكبر ترجمة لهذه الانفعالات.
وقد قسم العلماء الكبر إلى باطن وظاهر "فالباطن: خلق في النفس، والظاهر: أعمال تصدر عن الجوارح، فالأصل هو الخلق الذي في النفس، وهو الرضا إلى رؤية النفس فوق المتكبر عليه؛ وبه ينفصل الكبر عن العجب؛ فإن العجب لا يستدعي غير المعجب.
والكبر سمات تظهر في سلوكيات المتكبر حتى تعلو كلامه وحركاته وسكناته.. بل وطموحاته وأفكاره، وينتج عنها وضع نفسه في مكانة أعلى من الآخرين..
وقد يحاول المتكبر أن يخفي تلك الصفة الذميمة إذا انكشف بعض حاله ولكنه يقاسى في سبيل ذلك ثم إذا بصفته تلك تنكشف شيئا فشيئا في زلفات اللسان ومختلف المواقف.
سماته وعلاماته:
والكبر سمات تظهر في سلوكيات المتكبر حتى تعلو كلامه وحركاته وسكناته.. بل وطموحاته وأفكاره، وينتج عنها وضع نفسه في مكانة أعلى من الآخرين
إن شر أنواع الكبر ما يمنع استفادة العلم وقبول الحق والانقياد له فقد تحصل المعرفة للمتكبر ولكن لا تطاوعه نفسه على الانقياد للحق قال الله _تعالى_: "وَجَحَدُوا بِهَا(115/919)
وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً" (النمل: من الآية14) ومن أنواع الكبر الدعاوى والمفاخر وتزكية النفس وحكايات الأحوال في معنى المفاخرة للغير والتكبر بالنسب فمن له نسب شريف يحتقر من ليس له ذلك النسب وان كان أرفع منه عملاً قال ابن عباس _رضي الله عنهما_: "يقول الرجل للرجل: أنا أكرم منك وليس أحد أكرم من أحد إلا بالتقوى" وكذلك التكبر بالمال والولد "أنا أكثر منك مالاً وولداً" "أنّى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال" التكبر بالجمال والقوة وكثرة الأتباع ونحو ذلك "ليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي" "وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي" وفي الجملة فكل ما يمكن أن يعتقد كمالاً وإن لم يكن كمالاً في نفسه أمكن أن يتكبر به حتى إن الفاسق ليفتخر بكثرة شربه للخمر مثلا ولفجوره لظنه أن ذلك كمالاً.
رؤية الإسلام لمرض الكبر:
قال الله _تعالى_: "سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ" (الأعراف: من الآية146)، وقال _سبحانه_: "كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ" (غافر: من الآية35)، وقال _سبحانه_: "إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ" (النحل: من الآية23).
وقال _صلى الله عليه وسلم_ "لا يدخل الجنة من كان في قلبه حبة خردل من كبر" أخرجه مسلم، وقال _صلى الله عليه وسلم_: "يقول الله _تعالى_: "الكبرياء ردائي والعظمة إزاري فمن نازعني فيهما ألقيته في جهنم ولا أبالي " أخرجه مسلم عن أبي هريرة، وقال _صلى الله عليه وسلم_: "ألا أخبركم بأهل الجنة كل ضعيف متضاعف لو أقسم على الله لأبره ألا أخبركم بأهل النار كل عتل جواظ مستكبر" رواه البخاري.
قال سفيان بن عيينة: "من كانت معصيته في شهوة فأرجوا له التوبة فإن آدم _عليه السلام_ عصى مشتهيا فغفر له، ومن كانت معصيته في كبر فاخشوا عليه اللعنة، فإن إبليس عصى مستكبرا فلعن".
والعبد المؤمن يستعذب طاعة الله وترتاح لعبادته نفسه إذا علم نفسه الخضوع والذل له _سبحانه_ قال _سبحانه وتعالى_: " إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ" ووصف الصالحين من عباده، فقال: " فَإِنْ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ". وقال _سبحانه_: "إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُون".
تواضع النبي _صلى الله عليه وسلم_:
قال الله _تعالى_: "وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً" (الفرقان: من الآية63) ولقوله _عز وجل_: "وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ" (الحجر: من الآية88) وقد كان _صلى الله عليه وسلم_ مثالا يحتذى به في تواضعه وسمته أليس قد وصفته عائشة _رضي الله عنها_ بأن كان خلقه القرآن؟ فهاهو يخبر عن نفسه فيقول: "لا آكل متكئا" وكانت مشيته عليه _صلى الله عليه وسلم_ كأنما ينحدر من صبب وكان يجلس حيث انتهى به المجلس، وقال _صلى الله عليه وسلم_: "لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم إنما أنا عبد فقولوا: عبدا لله ورسوله" ولما أراد أحدهم أن يحدثه أخذته هيبة فارتعد، فقال له _صلى الله عليه وسلم_: "هون عليك إنما أنا ابن(115/920)
امرأة كانت تأكل القديد بمكة" وفي البخاري من حديث انس _رضي الله عنه_ قال: كانت الأمة من إماء أهل المدينة....
لتأخذ بيد رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ فتنطلق به حيث شاءت وكان الرجل إذا دخل على أصحاب النبي _صلى الله عليه وسلم_ يسأل أيكم محمد.
والصديق _رضي الله عنه_ يودع جيش أسامة وأسامة _رضي الله عنه_ على فرسه وهو يسير على قدميه فيقول أسامة لتركب أو لأنزل فيقول الصديق ومالي لا أغبر قدمي ساعة في سبيل الله ثم يستأذن أسامة وهو الخليفة يستأذن أسامة في عمر فيقول: أتأذن لي بعمر استعين به على أمور المسلمين؟!!
وعمر _رضي الله عنه_ لبس ثيابه يوم الجمعة وكان قد ذبح للعباس فرخان وكان للعباس ميزاب على طريق عمر، فلما وافى عمر الميزاب صب ماء بدم الفرخين فأصاب عمر فأمر عمر بقلعه أي الميزاب ثم رجع فطرح ثيابه ولبس ثيابا غيرها ثم جاء وصلى بالناس ثم أتاه العباس، فقال: والله إنه للموضع الذي وضعه رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ فقال عمر للعباس: وأنا أعزم عليك لما صعدت على ظهري حتى تضعه في الموضع الذي وضعه رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ ففعل ذلك.
أنواع الانحرافات الباطنة المرتبطة بالكبر:
كثير من الانحرافات يؤدي إليها الكبر مثل: رفض الحق، وازدراء الآخرين، وسوء الظن بهم،والكذب في مدح النفس، وذكرها بما فيها وما ليس فيها، وسرعة الغضب والانتقام، وحب السيطرة، والافتخار، والرياء، والمن، ورد النصيحة، كما يخفي الكبر حيلا دفاعية؛ كإسقاط الأخطاء على الآخرين، وتبرير التصرفات وتصويبها على كل حال.
وبالجملة فما من خلق ذميم إلا وصاحب الكبر مضطر إليه ليحفظ عزه، وما من خلق حميد إلا ويتنازل عنه ليحفظ كبره، فلا يترك له هذا الكبر خلقا من أخلاق أهل الجنة إلا جرده، فلا غرابة أن يخبر _صلى الله عليه وسلم_ بأن من في قلبه مثقال حبة من خردل من كبر لا يدخل الجنة".
أسبابه:
قد يكون الكبر ناتجاً عن شعور بالنقص أو شعور بالكمال، فهو في كلتا الحالتين ناتج عن إدراك خادع للذات، فإذا توافرت في يد الشخص الأدوات التي يعبر بها عن هذا الشعور الخادع ظهر الكبر في سلوكه.
والإنسان محب لنفسه بالأصالة ساع إلى تجميل ذاته وتزينها فاهتمامه بنفسه أكثر من أي شئ آخر في العالم، والمتكبر تكمن مشكلته في أنه يرى نفسه على إنه شئ كبير للغاية وقد يعلم عن نفسه النقص في جانب من الجوانب لكنه يعتز بذلك النقص إعزازا ينسيه مساوئه.
والمتكبر مصطلح مع نفسه في مواطن الفخار وعندما يعظمه الآخرون ويوقرونه إلا إنه حيث كان إهماله والتنزيل من قدره فهو متصارع مع نفسه مختل في توازنه، لذلك فأكثر المتكبرين سريعو الغضب لأنفسهم، لا يطيقون المكوث في مكان لا يعبرون عن أنفسهم فيه كما إن كثيرا من المتكبرين على علاقة سيئة بكثير من المحيطين بهم.(115/921)
والأشياء التي يكون بها الكبر كثيرة، غير أن هذه الأشياء التي يكون بها التكبر، ليست هي السبب في تكبر أصحابها، فهي من نعم الله، تكون في أيدي البعض سببا للكبر، وفي أيدي آخرين مدعاة للتواضع، وهذا يعود بنا إلى تعريف الكبر،وأنه إدراك خادع للذات والواقع، يلتمس الظهور بأعمال، وتسخر لأجله أدوات.
ولا شك أن التمييز بين الشعور الباطن والتصرفات الظاهرة سيوجهنا عند المعالجة حتى نعرف ماذا نعالج؟ فالذي يعالج هو ذلك الشعور الناشئ عن أفكار واعتقادات خاطئة، فإذا تعدلت الأفكار تغيرت طريقة التصرف تبعاً لها.
علاجه:
علاج الكبر يبدأ أولا بالوعي بهذا الخلق، وضرورة تعديله، ولهذا فإن أول علاج هو معرفة ضرر هذا المرض الخبيث، ثم الاستعاذة بالله _سبحانه_ منه قال _سبحانه_: "إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ" (غافر: من الآية56).
فإذا تغيرت نظرته للمرض واتضحت له حقيقته وأصبحت موازينه في الحكم عليه هي موازين الإسلام، اجتهد للتخلص منه فيأخذ حينئذ بخطوات العلاج الأخرى وهي خطوات علمية وعملية.
فالعلاج العلمي وهو استكمال لذلك الحكم العام الذي استفاده من القرآن والسنة، أن يعدل أفكاره عن نفسه، ليكون نظرة صحيحة عن الذات فهو الضعيف الفقير الذليل الذي ما يلبث عمره أن ينتهي في أية لحظة وما يلبث أن يمرض بأصغر وأقل فيروس أو بكتيريا وما يلبث أن ينقطع جهده بأقل مجهود أو عمل!! "يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ" (فاطر:15)، قال الغزالي: "أن يعنف نفسه، ويعرف ربه _تعالى_، ويكفيه ذلك في إزالة الكبر؛ فإنه مهما عرف نفسه حق المعرفة، علم أنه أذل من كل ذليل، وأقل من كل قليل، وأنه لا يليق به إلا التواضع".
والكبر مرض يمكن علاجه ولكن قد فشلت فيه الأدوية البعيدة عن الإيمان إذ إنه ينمو في بيئة الأثرة وحب الذات، وأما العلاج الإيماني فهو النافع فيه إذ يأمر الإيمان بالحرص على مصلحة الآخرين والتواضع لهم وخفض الجناح قال الله _تعالى_: "وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ" (الحجر: من الآية88)، وقال _سبحانه_: "أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ" (المائدة: من الآية54)، وقال النبي _عليه الصلاة والسلام_ "المؤمن للمؤمن كالأرض الذلول" رواه أحمد.
إن الموازين الإسلامية القائمة على التفاضل بالتقوى والعمل الصالح هي التي تمنع التكبر بالمال والنسب والعلم والجمال والقوة وغيرها؛ فعلاج الكبر يدخل في منظومة متكاملة لتربية الشخص على التعامل بموازين الإسلام في الحياة.
وهذه مهمة كل الوسائل التربوية التي تتعاون فيما بينها لإخراج الشخصية الإسلامية التي تفكر بمنطق الإسلام وتتعامل بموازين الإسلام.
هذا عن شعور الكبر نفسه، وأما معالجة السلوكيات فإن من علاج الكبر مقاومة مظاهره السلوكية بالمواظبة على أخلاق التواضع، والاطلاع على سير المتواضعين والتأسي بهم، كذلك صحبة أهل التواضع والفقراء ومجالسة المساكين، كذلك قد وصف العلماء للمتكبر الذي يريد معالجة نفسه أن يتصنع التواضع كعلاج لذلك.. ولمن كبرت عليه نفسه أن يكسر شوكتها.(115/922)
وقد يختلط الكبر، وهو شعور منحرف، بالطموح إلى الزينة من غير كبر،وهو شعور قد يخالج البعض، ولذلك لما قال النبي _صلى الله عليه وسلم_: "لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال حبة من خردل من كبر، قيل: يا رسول الله: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسناً ونعله حسناً، قال _صلى الله عليه وسلم_: الكبر بطر الحق وغمط الناس". وبطر الحق: رده وغمط الناس: ازدراؤهم واحتقارهم، فتنمية المسلم لذوقه في الثوب والمركب والدار سلوك سليم، والفرق يظهر في القصد والنية، فذاك يقصد التكبر على الناس والتعالي عليهم، وهذا يقصد التأدب بآداب دينه من نظافة وحسن هندام.
وعلى أي حال فقد كان حال أغلب السلف الصالحين خشونة العيش حتى في أوقات الغنى وصفيق الثياب والبعد عن بناء الدور وسكن القصور..
ـــــــــــــــــــ
رسالة إلى العصرانيين
د. محمد العبدة
9/4/1427
ارسل تعليقك ...
لا توجد تعليقات ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
لا تناقض بين الاحتفاظ بالمبادئ نقية وفاعلة والعض عليها بالنواجذ، مهما اختلفت الظروف وتقلبت بالمسلم الأحوال وبين اليسر الإسلامي ورفع الحرج وسماحة الشريعة وتغير الفتوى مكاناً وزماناً لأسباب يجتهد فيها العلماء الراسخون.
وما هذا اليسر إلا لحياطة تلك المبادئ وحتى تسير الحياة الإنسانية وفقاً للفطرة ووفقاً للشريعة التي من أهم صفاتها السماحة، ولكن بعض الناس يعدون التمسك بالمبادئ والثوابت من التشدد والتزمت، فهل حقاً هو كذلك؟ وهل يمكن أن يكون الحق نصف حق، والباطل نصف باطل؟ أسئلة يجب على المسلم أن يقف عندها طويلاً قبل أن يقع في أحابيل من يسمون أنفسهم بـ(الإسلام المتنور) إلى أسماء كثيرة ابتدعوها.
قد لا يفقد المسلم صلاته، فالرسول _صلى الله عليه وسلم_ يخبرنا أن آخر ما نفقد الصلاة، ولكن هذا المسلم يبدأ بالتنازلات في المبادئ والعقائد ليقال عنه: معتدل أو متنور، وقد لا يكون عند هذا المسلم من العلم والذكاء والخبرة ما يميز به بين الانفتاح الصحي والمناسب وبين تسليم القلعة للمهاجمين، أي ليس لديه فكرة عن دوافع الغير حين يردد أفكارهم، هؤلاء الذين يتحدثون باسم (التجديد الديني) بينما هو في الحقيقة تجريد للدين من مضمونه ورسالته.
لا تناقض بين الاحتفاظ بالمبادئ نقية وفاعلة والعض عليها بالنواجذ، وبين اليسر الإسلامي ورفع الحرج وسماحة الشريعة وتغير الفتوى مكاناً وزماناً لأسباب يجتهد فيها العلماء الراسخون
إن قتال أبي بكر _ رضي الله عنه _ لمانعي الزكاة يجب أن نستخلص منه دروساً كثيرة، كان _رضي الله عنه_ يتشبث بالمبادئ التي لا تنازل عنها (ولو جرت الكلاب(115/923)
بأرجل أمهات المؤمنين) وإذا لم نقتدِ بأبي بكر في المحافظة على المبادئ فسوف لا نفقد (عقالاً) بل نفقد روح الإسلام.
إن الخطر كل الخطر هو في فقدان الثقة بالمعتقدات التي هي حياة الأمة، بل يمكن أن نقول: إن الأمة لا تنهض على قيم نسبية ليست ثابتة أو على أخلاق نسبية.
هناك فرق بين دين أنزله الله من السماء وبلغه محمد _صلى الله عليه وسلم_ للناس وبين (ساحة) اليونان والرومان التي تحدثوا فيها كثيراً واخترعوا فيها من الفلسفات والقوانين وسجلوها قيماً ومبادئ بعضها صحيح وأكثرها غير صحيح، إنه الفرق بين منطق اليونان ومنطق القرآن، قال _تعالى_: "ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ" (الجاثية:18).
طريق الاندماج مع أفكار غريبة عنّا طريق مسدود، طريقنا هو الاستقلال العقدي والتشريعي والحضاري، وبعد ذلك نأخذ ما يناسب وندَع ما يخالف.
ـــــــــــــــــــ
أثر كلمة التوحيد في نورانية القلوب
بقلم: خالد روشه
2/4/1427
ارسل تعليقك ...
تعليقات سابقة ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
إن البداية الصحيحة في الطريق إلى الله _سبحانه وتعالى_... هي كلمة التوحيد؛ "لا إله إلا الله" فبها يضئ القلب وبها توهب له الحياة. وكلما بعد الإنسان عن كلمة التوحيد كلما اقترب من المرض والموت، وأظلم قلبه واسود.
ومن ثم فإن المربين الراشدين يضعون نصب أعينهم أن يملؤوا قلب المبتدئ بمعاني لا إله إلا الله محمد رسول الله، فمتى استنار القلب بنور التوحيد وانسجم سلوك الإنسان مع سنة نبيه صلى الله عليه وسلم من خلال علم وعمل وذكر والتزام صحيح بكتاب ربه وسنة نبيه، فإن تغييرا هائلا يحدث في ذلك الإنسان ويظهر عليه من الأعمال ما يحير العقول ويدهشها من الفتح الرباني والثبات والصمود والبذل والجهاد والدعوة والعلم.
إن العرب قبل الإسلام لم تكن لهم حضارة تذكر، ولا ثقافة عريقة يعودون إليها ولا خبرة لهم بالحكم والإدارة ولا بالتقدم والابتكار...
ولكنهم قبلوا كلمة التوحيد، وتحققت بها قلوبهم وأنارت كما قال الله _سبحانه_ عنهم: "وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا" (الفتح: من الآية26)، فصاروا أهل كلمة التوحيد وانسجم سلوكهم مع القرآن ـ كتاب التوحيد ـ فتغير حالهم وخرجت الأعاجيب من أفعالهم وصاروا نور الدنيا أجمعها وهداة الخلق أجمعين ودانت لهم الأرض بجوانبها فصاروا أقوى أمة وأرقى حضارة وهزموا الممالك والدول العظمى وأخذ شعوب العالم دين الإسلام دينا لهم.(115/924)
إن البداية الصحيحة في الطريق إلى الله سبحانه وتعالى... هي كلمة التوحيد؛ "لا إله إلا الله" فبها يضيء القلب وبها توهب له الحياة
واليوم والمسلمون في حال تخلف وانحدار وضعف وهزيمة واستهتار حتى صاروا في ذيل الأمم واستهانت بهم القوى العالمية.
إن شيئا واحدا هو الذي سيعيد لهم المجد ويختصر الطريق، إنها كلمة التوحيد وسلوكهم تبعا لسنة النبي _صلى الله عليه وسلم_ من خلال علم وعمل وتفاعل وعطاء، إن هذا وحده هو الذي سيختصر الطريق ويعيد لنا الماضي المجيد؛ إذ إنه بهذه الكلمة سيوجد الإنسان الراقي ذو القلب السليم وهو لبنة بناء الشعوب الفائزة والمنتصرة.
أشعة لا إله إلا الله...
يقول الإمام ابن القيم _رحمه الله_:
"اعلم أن أشعة لا إله إلا الله تبدد ضباب الذنوب وغيومها بقدر قوة ذلك الشعاع وضعفه، فلها نور، وتفاوت أهلها في ذلك النور ـ قوة وضعفا ـ لا يحصيه إلا الله تعالى؛ فمن الناس من نور هذه الكلمة في قلبه كالشمس، ومنهم من نورها في قلبه كالكوكب الدري، ومنهم من نورها في قلبه كالمشعل العظيم، وآخر كالسراج المضيء، وآخر كالسراج الضعيف، ولهذا تظهر الأنوار يوم القيامة بأيمانهم وبين أيديهم على هذا المقدار، بحسب ما في قلوبهم من نور هذه الكلمة علما وعملا، ومعرفة وحالا". مدارج السالكين
إن عباد الله الصالحين... يعيشون في هذه الدنيا مع الناس وبينهم ولكن قلوبهم متعلقة بالآخرة، إن قلوبهم تحيا في حياة رغده سعيدة هانئة، لو عرفها الملوك لقاتلوهم عليها؛ لأنها ألذ من لذاتهم وأروح لأنفسهم وريحانا لقلوبهم في ذات الوقت الذي يعانى في الناس من حولهم من الألم والقلق والحيرة والتخبط والتنازع والتقاتل.
يقول الله _سبحانه_: "أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا" (الأنعام: من الآية122). فالأول كان ميتا فاستنار قلبه بالإيمان ودبت فيه الحياة وهو المؤمن الصالح والثاني الغافل المعرض عن ذكره في الظلمات... قد مات قلبه.
نور الإيمان...
قال الإمام ابن القيم _رحمه الله_: "والشأن كل الشأن والفلاح كل الفلاح في النور كل النور، والشقاء في فواته". الوابل الصيب
يقول الإمام: "ولهذا كان النبي _صلى الله عليه وسلم_ يبالغ في سؤال ربه _تبارك وتعالى_ حين يسأله أن يجعل النور في لحمه وعظامه وشعره وبشره وسمعه وبصره ومن فوقه ومن تحته وعن يمينه وعن شماله وخلفه وأمامه حتى يقول: "واجعلني نورا". (رواه البخاري ومسلم واللفظ واجعلني لمسلم وفي البخاري واجعل لي)
أنوار تحيط بالمؤمن:
قال الإمام ابن القيم: "فدين الله _عز وجل_ نور، وكتابه نور، وداره التي أعدها لأوليائه نور يتلألأ، وهو _تبارك وتعالى_ نور السماوات والأرض، ومن أسمائه النور، وأشرقت الظلمات لنور وجهه" الوابل الصيب.(115/925)
وقال ابن مسعود _رض الله عنه_: ليس عند ربكم ليل ولا نهار، نور السماوات من نور وجهه. وقال _تعالى_: "وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا" (الزمر: من الآية69) فإذا جاء _تبارك وتعالى_ يوم القيامة للفصل بين عبادة أشرقت بنوره الأرض وليس إشراقها يومئذ بشمس ولا قمر، فإن الشمس تكور والقمر يخسف ويذهب نورهما.
وحجابه _تبارك وتعالى_ النور؛ قال أبو موسى: قام فينا رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ بخمس كلمات، فقال: "إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل النهار وعمل النهار قبل الليل، حجابه النور، ولو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه" رواه مسلم عن أبي موسى، فاستنارة ذلك الحجاب بنور وجهه سبحانه، ولولاه لأحرقت سبحات وجهه ونوره ما انتهى إليه بصره، ولهذا لما تجلى _تبارك وتعالى_ للجبل وكشف من الحجاب شيئا يسيرا جدا ساخ الجبل في الأرض وتد كدك ولم يقم لربه تبارك وتعالى، وهذا معنى قول ابن عباس عل قوله _سبحانه وتعالى_: "لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ" (الأنعام: من الآية103) قال: "ذلك الله _عز وجل_ إذا تجلى بنوره لم يقم له شيء وهذا من بديع فهمه _رضي الله عنه_ ودقيق فطنته..." الوابل الصيب.
كيف يحدو النور إلى القلب؟!!
إنها ثلاثة آثار بها يحدو النور إلى قلب المؤمن، وبزيادتها يزداد نوره حتى لا تبقى به ظلمة، فأما الأول: فهو كلمة التوحيد وتحقيق شروطها وأما الثاني فهو نبذ الذنب والإقبال على العبادة، وأما الثالث فهو تحقيق معاني العبودية ظاهرا وباطنا..
أما الأثر الأول: فهو أثر كلمة التوحيد "لا إله إلا الله" في القلب وأثر العلم بها نفيا وإثباتا وتطبيق شروطها بالحقيقة، والإخلاص لها والإقبال عليها، فمن قام بذلك خرج من ظلمة الغفلة إلي نور التوحيد، وعلامة ذلك كره الشرك بجميع صوره وأشكاله ونبذه، والبراءة منه قولا وعملا واعتقادا، وكذلك فإن من علاماته الإقبال على الله بالكلية ومحاولة تنقية الأعمال من مراءاة الناس ومحاولة جمع القلب على الله _سبحانه_، فمن قام بذلك حدا النور نحو في أول آثاره، ووجد ذلك في قلبه وحياته.
الأثر الثاني: وهو أثر نبذ الذنب والإكثار من العبادة والذكر حتى إنه ليكره الذنب تماما ويتوب من ذنبه التوبة النصوح وينسى لذة الذنب ويكره أن يعود إليه ويفارق المعاصي كفراق المشرق للمغرب، وهو دعاء النبي _صلى الله عليه وسلم_، "اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب" رواه البخاري عن أبي هريرة، وكذلك أن يكثر من الطاعات فيقوم بحق الفرائض كاملة غير منقوصة ثم يكثر ما شاء الله له من النوافل وهو جاء في الحديث القدسي: "ومازال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه"، ثم يكثر من ذكر الله _سبحانه وتعالى_ قياما وقعودا ليلا ونهارا سرا وجهارا وهو قول الله _تعالى_: "الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ" (آل عمران: من الآية191), وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يزال لسانك رطبا من ذكر الله" رواه أحمد والترمذي. فإذا نبذ الذنب وأقبل على العبادة وملأ قلبه وجوانحه ذكرا لله سبحانه، حدا إليه النور خطوة أخرى ووجد ثاني آثاره، إذ يشعر بالنور في قلبه ويبدأ في التحرر من سجن الدنيا ويجد نفسه حرا خفيفا من أثر نفسه وهواه ودنياه. ويشعر بلذة الطاعة تسري في عروقه.(115/926)
الأثر الثالث: وهو أثر تحقيق معاني العبودية الكاملة وهو قول شيخ الإسلام ابن تيمية _رحمه الله_: " من أراد السعادة الأبدية فليلزم عتبة العبودية ".
فيقوم المؤمن بالتدريج في مراتب العبودية شيئا فشيئا مستعينا بالله عز وجل، يقول الله _سبحانه وتعالى_: "وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ" (العنكبوت:69)، فيقوم بالجهاد في سبيل الله بنفسه وماله وما يحب، ويحسن خلقه مع الناس، وترقى منزلته في منازل العبودية، فيحقق التوبة والإنابة، والتفكير والاعتصام بالله، والخوف منه، والفرار إليه، والإشفاق من عذابه، والإخبات إليه، والزهد فيما عند الناس، والورع فيما بين يديه، والإخلاص في كل سكناته وحركاته، والتوكل عليه، والثقة بما في يديه، والرضا بقضائه، والحياء منه، والطمأنينة في ذكره، والمحبة له، والفرح بقربه... إلى غير ذلك من مراتب العبودية.
فإذا حقق ذلك هداه الله سبحانه ونصره على الشيطان وعلى هوى نفسه، ووجد أثر النور في قلبه ويضئ طريقه... ويثبته في الفتن...
كيف يؤدي النور عمله؟
إن عمل النور في قلب الإنسان كشاف مضيء في ليل مظلم، فهو الذي يكشف لك الأشياء على حقيقتها، فتراها كما هي ولا تراها أبدا كما زينت في الدنيا ولاكما زينها الشيطان للغافلين ولا كما زينها هوى النفس في أنفس العاصين.
يرى الزنا فلا ينظر إليه أنه متعه ورغبة ولا يرى المرأة في وقتها بزينتها ولا بجمالها، ولكنه يضئ له فيرى الزنا ظلمة وفقرا وغما وكبيرة، ونهايته العذاب والحسرة والدمار... يرى الرشوة... فلا ينظر إليها أنها مال ولا غنى ومتاع، ولكنه يراها على أنها لعنة وحسرة وعقبتها الخسران.
يرى الدنيا... فلا يراها على أنها متاع براق ولا زينة خلابة ولا أمل وضئ ولكن يراها دار ابتلاء واختبار وأنها لا تساوي عند الله شيئا... وهكذا يعمل النور... لذلك فلابد للعاملين لله سبحانه من البحث عن كيفية إيجاد النور في قلوبهم وكيفية تنوير قلوبهم ليروا حقائق الأشياء ويسيروا على هدي من الله سبحانه.
وفقدان هذا النور ظلمة وطمس للبصيرة وتخبط وتعثر وهم وضيق صدر دائم، قال الله _سبحانه_: "أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ..." (الزمر: من الآية22) الآيات.
وقال _سبحانه_: "أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا..." (الأنعام: من الآية122) الآيات.
قال الإمام ابن القيم ـ رحمه الله ـ: "أصل كل خير للعباد ـ بل لكل حي ناطق ـ كمال حياته ونوره فالحياة والنور مادة كل خير.. فبالحياة تكون قوته وسمعه وبصره وحياؤه وعفته.. وكذلك إذا قوي نوره، وإشراقه انكشفت له صور المعلومات وحقائقها على ما هي عليه، فاستبان حسن الحسن بنوره وآثره بحياته. وكذلك قبح القبيح" (إغاثة اللهفان) .
ـــــــــــــــــــ
سباق نحو الجنان...
علي الزباني(115/927)
25/3/1427
ارسل تعليقك ...
لا توجد تعليقات ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
(الجزء الثالث من سلسلة موضوعات للكاتب بعنوان: جدد حياتك العائلية)
إن الآباء والأمهات حقاً هم من يفكرون أن يجتمع شمل أسرتهم في الجنة فنزرع الخير فيهم لنحصده غداً وكم من والد لم ينل مرتبته من الجنة وفقه الله بالوصول إليها بصلاح ابنه وحفظه للقرآن الكريم فلنعود أبناءنا على الخير ونحثهم عليه فإن الخير عادة وإليك بعض الأفكار المعينة على ذلك:
• علمهم القرآن واجعل بينهم منافسات في حفظه فمن يحفظ جزءا في شهر ينال جائزة كبرى وهكذا حتى يختم كثير منهم كتاب الله _جل وعلا_.
• الصلاة الصلاة فهي شعار البيوت المؤمنة ومن صلحت صلاته صلح عمله كله.
• البذل والصدقة فلنتصدق في ثياب لم نلبسها أو لعب لم نستعملها وغيرها مما يصلح للصدقة ويستحب ترغيبهم في مثل هذه الصدقات والذهاب بهم أيضاً لأماكن الفقراء والمساكين والأيتام وغيرهم حتى يحسوا بقيمة النعمة التي يعيشون فيها.
• يستحب أيضاً ترغيبهم في النوافل كصلاة الضحى والسنن الرواتب وغيرها صيام يوم من أهل البيت جميعاً من أعظم ما يقوي إيمانهم وحبذا لو كان الإفطار في مكان خارج المنزل
إن الآباء والأمهات حقاً هم من يفكرون أن يجتمع شمل أسرتهم في الجنة, فنزرع الخير فيهم لنحصده غداً, وكم من والد لم ينل مرتبته من الجنة وفقه الله بالوصول إليها بصلاح ابنه وحفظه للقرآن الكريم
• حثهم على المبادرة للمسجد والحرص على الصف الأول والاتفاق مع إمام المسجد للثناء عليهم.
• الذكر حصن حصين فليكن لهم منه نصيب في يومهم وليلتهم ومتابعتهم على ذلك.
• علم أولادك صلة الأرحام بأخذهم معك إلى أقاربهم وأهليهم.
• الخلق الحسن شعار المؤمنين فليكن لأولادك نصيب من محاسن الأخلاق وجوامع الآداب فذكرهم بآداب المخبر والمظهر بآداب التحية والاستئذان آداب الزيارة والمحادثة والصحبة والضيافة والآداب مع الوالدين وعيادة المرضى وغيرها من الآداب التي حثت عليها شريعتنا المطهرة.
• شاركه العبادة وكن معه ليلة من الليالي.
• الاشتراك في عمرة وحبذا الذهاب مع أحد الأبناء لتتوطد العلاقة فيما بينكم.
• هناك مجموعة كثيرة من الآباء والأمهات يشكون مع مشاكل مع أولادهم المراهقين فخذ أحد هؤلاء الأبناء المراهقين واذهب معه في عمرة ثم عش معه يومين أو ثلاثة في ذلك المكان الرائع ثم ابدأ بعد ذلك في معالجة وتغيير وبأسلوب جميل ورائع وهادف وسترى أثر هذه الرحلة بعد ذلك.(115/928)
مكتبة الطفل:
يحتاج عقل الطفل لاهتمام بالغ لجميع المؤسسات التربوية ولذا فإن فكرة إنشاء مكتبة الطفل من الأمور الهامة لتغذية فكره وتنمية عقله وتنشيط خياله وتربية وجدانه ومشاعره وتهذيب نفسه كذلك وبناء على هذا فإنه واجب اليوم على المختصين إعداد مكتبة نموذجية للطفل وتكون في متناول يده فإن العلم لا يكون سراً ويمكن وضع مكتبة في المنزل أو مكتبة متنقلة أو تطوير مكتبة المدرسة وهكذا وينبغي المسارعة في هذه المشاريع فإن القراءة رافداً مهماً للرقي والتحضر وبنظرة عاجلة لحركة نشر كتب الأطفال في العالم يتضح لك الأمر جلياً واضحاً فقد جاءت إحصائية التعاون والاهتمام بالأطفال في مجال القراءة كالتالي:
الطفل الأمريكي: نصيبه من الكتب في العام 13260 كتاباً.
الطفل الإنجليزي: نصيبه من الكتب في العام 3838 كتاباً.
الطفل الفرنسي: 2118 كتاباً
الطفل الإيطالي: 1340 كتاباً
الطفل الروسي: 1485 كتاباً في العام
أما المكتبة العربية: فكتب الأطفال قد وصل عددها في أحد الأعوام 322 كتاباً فقط وأكثر من 54 مليون طفل يمثلون 42% من العدد الكلي للسكان وتشير إحصائية منظمة التربية والثقافة والعلوم (اليونسكو) إلى أن متوسط قراءة الطفل في العالم العربي لا يتجاوز 6 دقائق في السنة وأكد المنظمة الدولية إلى أن مجموع ما تستهلكه كل الدول العربية مجتمعة من ورق ومستلزمات الطباعة أقل من استهلاك دار فرنسية واحدة فلنبدأ في تكوين مكتبة تكون زاداً لأبنائنا في حياتهم وتربيتهم بها ليحصل تربية لأولادهم بعد ذلك ولنحسن في اختيار الكتب المناسبة للأسرة جميعاً من كتب مصورة وكتاب تفسير وفقه وحديث وأدب ورحلات ومسابقات وأشرطة سمعية ومرئية وانظر بدايته في القراءة إلى أن يصل إلى سن المراهقة.
وتعجبني قصة ذكرها الدكتور: محمد الوهابي أشرككم فيها أيها الإخوة لتشعروا بأهمية القراءة وتربية الأبناء يقول الدكتور محمد الوهابي –وهو أديب وطبيب للأطفال:
بينما أنا عائد يوماً من هولندا إلى بلجيكا بالقطار كان بجانبي سيدة هولندية بمعية ابنها الصغير وفجأة بدأ الصغير في البكاء ففتحت أمه حقيبة يدها وسلمت له ماذا أيها الإخوة ؟
سلمت له مالاً ؟
أو حلوى ؟
أو عصيراً ؟
لا إنها سلمت له كتاباً وراح يقرأ بأعجوبة وارتياح وانقطع عن البكاء واستغربت من هذه الحادثة؛ لأنني ظننت أن الهولندية ستسلم لابنها الحلوى فإذا بها تقدم له زاداً نفسياً لا ينضب معينه وهو الزاد الفكري والذي يحتاجه أطفالنا كثيرا.
وثمة تجربة قامت بها أحد الأخوات فقد وضعت في أحد أركان المنزل كرسياً مريحاً وله وسادة للقدمين ومزود بإضاءة موضوعة بجانبه ويعرب هذا الكرسي في وسط(115/929)
العائلة بكرسي القراءة وإلى جانبه وضع جدول ليقوم الأب بوضع مواعيد لحجز الكرسي للقراءة وبجوار الكرسي كان هناك منضدة وضع عليها الكثير من الكتب المتنوعة والمجلات.
إنها تجربة والأفكار كثيرة لتفعيل هذه القضية المهمة في حياة أبناءنا إننا يجب أن نوقن -أيها الآباء أيتها الأمهات أيها المربون- أن أمة لا تقرأ أمه لا تنهض فلنحرص على هذه القضية أيتها الإخوة والأخوات.
فتى القرآن:
إن ربط أبنائنا بالقرآن سبب من أسباب ثباتهم على الطريق المستقيم _بإذن الله جل وعلا_ فينبغي على الوالدين تعليم الطفل القرآن الكريم منذ صغره وقد قال السيوطي:
تعليم الصبيان القرآن أصل من أصول الإسلام فينشؤون على الفطرة وتسبق إلى قلوبهم أنوار الحكمة قبل تمكن الأهواء منها وسوادها بأكدار المعصية والضلال.
ولهذا قد تولى هذه المهمة كبار أصحاب النبي _صلى الله عليه وسلم_، فقد روى أبو يعلى أن سعد بن أبي وقاص _رضي الله عنه_ كان يأخذ ولده مصعب، ويقول له: قد قال نبينا _صلى الله عليه وسلم_: خياركم من تعلم القرآن وعلمه ثم يأخذ بيد مصعب ويبدأ في تعليمه القرآن الكريم وكان أنس _رضي الله تعالى عنه_ يجمع أهله وأولاده بعد ختمه للقرآن وهاهو ابن عباس _رضي الله تعالى عنه_ قرأ المحكم وهو ابن عشر سنين واستمر الناس على مثل هذا الخلق العظيم فلقد كان القاضي الورع عيسى بن مسكين بعد صلاة العصر في كل يوم يدعوا ابنتيه وابنتي أخيه يعلمهن القرآن والعلم وكذلك فعل أسد بن الفرات بابنته أسماء بل من القصص العجيبة التي ذكرها الذهبي _رحمه الله_ في السير: أن الضحاك بن مزاحم معلم القرآن كان يطوف على حماره لكثرة طلابه فقد بلغ طلابه ثلاثة آلاف طالب وهذا يدل على اهتمام سلفنا الصالح بالقرآن الكريم.
والبيت الذي يُتلى فيه هذا القرآن بيت خير وبركة ولهذا قال أبو هريرة رضي الله تعالى عنه: إن البيت الذي يُتلى فيه القرآن يتسع بأهله ويكثر خيره وتحضره الملائكة وتخرج منه الشياطين وأن البيت الذي لا يُتلى فيه كتاب الله -عز وجل- يضيق بأهله ويقل خيره وتخرج منه الملائكة وتحضره الشياطين وإذا أراد الإنسان أن يعرف هل هو محب لله ورسوله فليرَ اعتناءه بهذا القرآن العظيم قال ابن مسعود _رضي الله عنه_ لا يسأل أحدكم عن نفسه إلا بالقرآن فإن كان يحب القرآن ويعجبه فهو يحب الله ورسوله.
ولذا فإنه من المناسب -أيها الإخوة والأخوات- إحياء مثل هذه البرامج التي تتعلق بكتاب الله -عز وجل- حتى يكون في بيوتنا لدينا فتى القرآن وكذلك فتاة القرآن.
ومن البرامج العملية والأفكار التي يمكن أن يستغلها ويستفيد منها الوالدان في إحياء كتاب الله -عز وجل- داخل بيوتهم الأفكار التالية:
• حكاية قصص وأمثال كتاب الله _سبحانه وتعالى_ فالله -عز وجل- يقول: "نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ" (يوسف:3) وأسلوب القصة له حلاوة وتشويق وله أثر مباشر وسريع أيضاً(115/930)
على السامع والقارئ والقصص في كتاب الله -عز وجل- كثيرة منها ما هو قديم في الأمم السابقة ومنها ما هو غيبي سيأتي.
فلهذا لنقص على أطفالنا قصص القرآن حتى نربطهم بهذا الكتاب العظيم وحتى يتعلقوا به ويبدؤوا في حفظه والاهتمام به فلنقص عليهم مثلاً: آداب العفة من خلال قصة يوسف وأدب العلماء في قصة موسى والخضر وطاعة الأب والأم في قصة إبراهيم ووالده الحرف وعمل اليد في قصة صناعة السفينة من قبل نوح _عليه السلام_ عن الإخوة وآدابها في قصة يوسف علامات آخر الزمان في نزول عيسى وقصة يأجوج ومأجوج وقصة الدابة إذا أردنا مثلاً أن نحدثهم عن الشر ونحدثهم عن طلب الشيطان وعن فرعون والسحرة وعن أصحاب الفيل وعن النمرود وغير ذلك إن هذه القصص لا شك أنها ستربطهم في هذا الكتاب برباط الحب والشوق والإعجاب وأنهم دائما ًيتشوقون لسماعه وسماع قصصه.
ولهذا أيها الوالدان الكريمان أيها المربي الفاضل: حبب القرآن إلى أبنائك من خلال جلسة يومية أو أسبوعية أو شهرية كل منهم يحمل القرآن بين يديه ويسمع ما يقصه عليهم والدهم أو تقصه عليهم أمهم بطريقة وبصورة مشوقة ومحببة.
• ومن الأشياء والأفكار التي تربطهم أيضاً بكتاب الله _جل وعلا_ المنافسة والمسابقة فيما بينهم فالتسابق بين النفس وخاصة هؤلاء الأبناء الذين يكونون في عمر الزهور والنشاط والحيوية يحبون التسابق والتنافس ولا شك أن المسابقة والمنافسة لها أهمية كبيرة في حياة الأبناء فالتسابق والتنافس ينمي فيهم الروح الجماعية والابتعاد عن الفردية ويدربهم على فهم الحياة فتارة يربح وتارة يخسر ومرة يعرف الجواب ومرة لا يعرف ولهذا جاءت السنة النبوية بحث الناس على التسابق في هذا القرآن الكريم.
فالنبي _صلى الله عليه وسلم_ يقول في الحديث الصحيح: "اقرأ وارتق ورتل فإن منزلتك عند أخر آية تقرأها" ويقول النبي _صلى الله عليه وسلم_ أيضاً: "من قرأ حرفا من كتاب الله فله به حسنة والحسنة بعشر أمثالها" ويقول _عليه الصلاة والسلام_ أيضاً فيما أخرجه أحمد ابن ماجه: "الذي يقرأ القرآن وهو ماهر به مع السفرة الكرام البررة".
كل هذه الأحاديث تدلنا على أهمية إحياء التنافس بين أبناءنا في هذا القرآن الكريم حتى يتعلقوا به ويحرصوا على تلاوته وحفظه.
ولهذا حببهم في هذا القرآن من خلال التنافس فيما بينهم في مسابقة كأن تقول لهم: من يخبرني كم جزءا في القرآن ؟ وكم حزب فيه ؟ كم عدد السور ؟ كم عدد الآيات ؟ كم عدد مواضع سجود التلاوة ؟ ما هي أسماء الأنبياء ؟ أو أسماء البلدان في القرآن ؟ أو الأقوام ؟ أو أسماء الحيوانات ؟ أو النباتات ؟ أو ما هي المهن التي ذكرت في كتاب الله -عز وجل- ؟ من يذكر لي سبب نزول سورة كذا ؟ أي سورة تعدل ثلث القرآن ؟ ما اسم عروس القرآن ؟ أي سورة تعصم من الجدال ؟ ما السورة التي تقرأ عند النوم ؟ وغيرها وغيرها من الأسئلة التي لا شك تحيي روح التنافس بين أبنائك والخلاصة -أيها الوالدان الكريمان-: اجعلا القرآن الكريم موضوع المسابقة والمنافسة بين الأبناء(115/931)
وأنت ذاهب إلى المدرسة وفي السيارة وفي النزهة وفي رحلة طويلة أو قصيرة حتى يتعلق الأبناء بكتاب الله -عز وجل- ويكون حبهم له أوسع.
• ومن الأفكار العملية أيضاً: أن تلتقي الأسرة في آخر كل أسبوع أو في يوم يحدد لهم في مكان رائع وهادئ وجميل تلتقي الأسرة فيه ويبدأ كل واحد منهم بتلاوة شيء من كتاب الله _جل وعلا_ وحبذا لو كان هناك تعليق من الأب أو الأم.
• ومن الأفكار العملية أيضاً: أن يكون القرآن شفيعاً له في الدنيا فلقد ثبت عن نبينا _صلى الله عليه وسلم_ أنه قال: "البقرة وآل عمران تشفعان لصاحبهما" وفي الحديث الآخر أيضاً عنه _صلى الله عليه وسلم_ أنه قال: "يأتي القرآن والصيام شفيعاً يوم القيامة" فلم لا نجعل القرآن أيضاً شفيعاً لأبنائنا في هذه الحياة الدنيا فنقول مثلاً لابننا الحافظ أو الذي انتهى من ورده وقد ارتكب إساءة معينة نقول له سامحناك لأنك قرأت جزءاً أو حفظت سورة الكهف أو قرأت سورة الكهف يوم الجمعة إننا بهذه الطريقة سوف نحببهم في القرآن ونجعلهم يتعلقون به ويحبوه لأنه كان لهم شفيعاً في الدنيا قبل الآخرة.
ومن خلال هذه البرامج التي ذكرناها أو الأفكار العملية يمكن فعلاً أن يتعلقوا بكتاب الله -عز وجل- إلا أننا ينبغي أن نضيف إليها فكرة أخرى وبرنامجاً مهماً حتى يتعلقوا بهذا القرآن الكريم حفظهم لسور منه أو حفظه كاملاً وهذه أهم مرحلة تجعلهم يتعلقون بكتاب الله _سبحانه وتعالى_ ويمكن أن نجعل الحفظ بمستويات مختلفة على حسب أعمار الأبناء فنجعل مثلاً آيات منثورة أو سور معينة أو أجزاء ويمكن أيضاً أن يختلف أسلوب الحفظ فتارة قد يكون أسلوب فردي أو ثنائي أو جماعي من خلال حلقة قرآن كريم أو غير ذلك.
ومن المهم عندما نبدأ معهم في هذا المشروع في داخل بيوتنا أو إلحاقهم بحلقة تحفيظ للقرآن الكريم أن نذكرهم بأمور:
• أن نذكرهم بفضل العمل الذي يقومون به.
• وأن من حفظ كتاب الله -عز وجل- لن تمسه النار كما ذكر ذلك النبي _صلى الله عليه وسلم_ كما في جامع الترمذي.
• تقديم مكافأة لهم بين مدة وأخرى وينبغي أن تتعدد أشكال المكافأة ولا تكن دائماً مكافأة مالية.
• أيضاً متابعته فإن بعض الأبناء يحفظ جزءاً كبيراً من كتاب الله جل وعلا ولكن لا يجد متابعة في داخل البيوت وحبذا لو تابع الوالد والوالدة الحفظ الموجود عند ولدهم وتشجيعه في الاستمرار في حفظ كتاب الله _سبحانه وتعالى_.
• يمكن أيضاً تكريمه بحفل خاص به لتجاوزه لعشرة أجزاء أو خمسة أجزاء أو جزء إن كان صغيراً في السن.
• إشراكه في المسابقات سواء كانت المسابقات على مستوى المسجد أو على مستوى منطقة معينة أو غير ذلك.
• ومن الأشياء اللطيفة التي ينبغي أن يحرص عليها الوالدان مصاحبته إلى الحلقة كأن يذهب به الوالد إلى الحلقة حتى يشعر الولد باهتمام والده به.(115/932)
وهذه الأفكار ستعينه _بإذن الله تعالى_ وستعينك أيها الوالد في تحبيبه بالحفظ وأن تجعله أيضاً مستمراً فيه حتى ينجز أكبر قد ممكن في فترة قليلة على أن يكون حفظه قوياً وثابتاً أيضاً في صدره.
البخاري الصغير:
ومن البرامج العملية أيضاً: وهو آخر هذه البرامج في هذا السلسلة المباركة _بإذن الله تعالى_ علمهم سنة نبيهم _صلى الله عليه وسلم_ .
لقد دعا رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ بالنضارة لمن حفظ أقواله _عليه الصلاة والسلام_ واعتنى بها فقد قال _صلى الله عليه وسلم_: نضر الله امرأ سمع مقالتي ووعاها.
إن حفظ أحاديث رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ من أبواب محبته إضافة لما له من الأجر العظيم في حفظها وأيضاً الاهتمام في حفظ هذه الأحاديث يجعل الإنسان يعيش مع سنته _صلى الله عليه وسلم_ فتحقق للإنسان كمال الإقتداء والحب هذا الحب الذي كان أو تحقق في جمادات فأحبته حتى بكت لفراقه كما في حنين الجذع وكان الحسن _رحمه الله تعالى_ إذا حدث بحديث حنين الجذع بكى وقال: هذه خشبة تحن إلى رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ فأنتم أحق إلى أن تشتاقوا إليه وصدق الشاعر حينما قال:
أعميت عيني عن الدنيا وزينتها ... ...
فأنت والروح شيء غير مفترق
إذا ذكرتك وافى مقلتي أرق ... ...
من أول الليل حتى مطلع الفلق
وما تطابقت الأجفان عن سنة ... ...
إلا وأنت بين الجفن والحدق
وأحمد بن حنبل الإمام الحافظ المقتدي بهدي نبينا _صلى الله عليه وسلم_ لقد لقننا درساً حينما قال: ما كتبت حديثاً إلا وقد عملت به حتى مر بي أن النبي _صلى الله عليه وسلم_ احتجم وأعطى أبا طيبة ديناراً فأعطيت الحجام ديناراً حينما احتجمت بل ينقل صاحبه إبراهيم ابن هانئ واقعة أغرب من الخيال فيقول إبراهيم اختبأ عندي أحمد بن حنبل ثلاث ليال ثم قال لي: اطلب لي موضعاً حتى أدور قلت يا إمام إني لا آمن عليك يا أبا عبد الله فقال الإمام أحمد: النبي صلى الله عليه وسلم اختفى في الغار ثلاثة أيام وليس ينبغي أن نتبع سنته في الرخاء ونتركها في الشدة.
ومن القصص الظريفة في هذا المعنى أن تلميذاً كان يأتي إلى شيخه فيقول له: أريد أن أرى رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ في المنام فاستضافه ليلة عنده وقدم له وجبة العشاء وكانت مليئة بالملح ثم أكل ذلك التلميذ وكان جائعاً فلما انتهى من عشائه احتاج الماء فإن كثرة الملح تصيب الإنسان بكثرة العطش فلم يعطه أو قال له إن الماء غير موجود في هذا المنزل ثم نام ذلك الشاب فلما استيقظ بعد ذلك سأله الشيخ: وقال له: ماذا رأيت في منامك؟ فقال: رأيت الأمطار تمطر والأنهار تجري وبحار تسير فقال الشيخ: صدقت نيتك فصدقت رؤيتك ولو صدقة محبتك لرأيت رسول الله _صلى(115/933)
الله عليه وسلم_ ولذا كان مالك بن أنس يقول: ما نمت ليلة إلا ورأيت النبي _صلى الله عليه وسلم_ في المنام.
وما تأخري جسمي عن لقائكم ... ...
إلا وقلبي شيق عجل
وكيف يقعد مشتاق يحركه ... ...
وبكم الحافزان الشوق والأمل
فإن نهضت مالي غيركم مطر ... ...
وإن قعدت فمالي غيركم شغل
وكم تعرض للأقوام بعدكم ... ...
يستأذنون على قلبي فما وصلوا
فلنَخُضْ غمار هذه التجربة, من خلال:
• إحياء أحاديث رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ في بيتنا, قولاً وعملاً.
أيضاً تحفيظ أبنائنا سنة النبي _صلى الله عليه وسلم_ ولنبدأ معهم مثلاً: بتحفيظهم الأربعين النووية, أو جمع أحاديث مختارة بعناية لصحابي واحد, وتكون صحيحة إما في البخاري أو في مسلم وتكون هذه الأحاديث قصيرة جداً ومن المناسب جداً أن يوضع في كل صفحة, ثلاثة أحاديث وتكون لصحابي واحد كأبي هريرة _رضي الله عنه_, ويكون الكتاب المخرج منه هذه الأحاديث هو كتاب واحد كالبخاري مثلاً, أو مسلم ثم يعطى لهذا الولد ثم يبدأ في حفظها, وهذه الأحاديث لاشك أنها سترسخ في ذهنه, خاصة إذا كانت ألفاظها قصيرة وغير طويلة .
أيها الإخوة والأخوات: لقد سعدت في السلسلة معكم في طرح هذه البرامج العملية التي نحاول من خلالها تجديد حياتنا العائلية.
وأذكر الإخوة والأخوات جميعاً أننا بهذه البرامج سوف نضفي جواً أخر داخل بيوتنا شعارنا فيه المودة والألفة والتفاهم, وكسر كل الحواجز داخل بيوتنا, ولكي نستفيد فعلاً من هذه البرامج, لا بد من التدرج في تطبيقها, والبدء بما يناسب أفراد الأسرة.
أسأل الله -عز وجل- أن يقر أعيننا جميعاً بصلاح أولادنا وأن يبارك لنا فيهم, وأن يوفقنا لكل خير.
ـــــــــــــــــــ
لا تكن..(كنتياً)!
حسين بن علي الزومي
18/3/1427
ارسل تعليقك ...
تعليقات سابقة ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
ذكرت لنا المرويات أن الإمام الصنعاني عبد الرزاق سأل يوماً معلمه معمر بن راشد الأزدي عن (الكنتي) فقال معمر: الرجل يكون صالحا ثم يتحول رجل سوء.(115/934)
قال أبو عمرو: يقال للرجل إذا شاخ (كنتي) كأنه نسب إلى قوله: كنت في شبابي كذا. قال:
فأصبحت كنتيا وأصبحت عاجنا ... ...
وشر خصال المرء كنت وعاجن
إن ممارسات هؤلاء (الكنتيون) وتقوقعهم، ونظرة المجتمع لهم على أنهم قدوات (كانوا). . تعدى تأثيرها الذوات السلبية و تسببت في نشوء كثير من السلوكيات الخاطئة لدى الآخرين ممن حمل في قلبه لهم كل حب وتبجيل
عجن الرجل إذا قام معتمداً على الأرض من الكبر.
وقال ابن الأعرابي:(الكنتي) هو الذي يقول:كنت شاباً وكنت شجاعاً. و(الكاني) هو الذي يقول: كان لي مال وكنت أهب، وكان لي خيل وكنت أركب(1).
نحن اليوم – مع بالغ تعجبي – في عصر (الاكتنات) إذ ليس من الصعب أن تجد كناتيت الدعاة البائسين، والعاملين المحبطين هنا وهناك، فرادى ومثنى وثلاث وربما مزيجاً من الدوائر الحلزونية التي شكلت أرخبيلاً متعثراً من المجموعات. . وجل هم أحدهم أن يفوح بالزفرات الحرى على ماض نهضوي (كان) وأزمنة دعوية (كانت).
لقد ماتت أحاسيس كثير من هؤلاء (الكنتيون) حتى لتمر عليهم فواجع الأمة اليوم فلا يحركون لها ساكناً وهي أطم وأطغى من فواجع الأمس التي طالما ارتفع فيها صراخهم وتحرقت لها أكبادهم، وصار بهم الحال كما قال الأول:
إذا ما كنت ملتمساً لغوث ... ...
فلا تصرخ (بكنتي) كبير!
فليس بمدرك شيئاً بسعي ... ...
ولا سمع ولا نظر بصير
وإذا طلبت من (الكنتي)المساهمة معك في ساحة (الدعوة) اليوم، نفض يده عنك مبرراً بما تجود به القريحة:(تركت لكم الميدان. . يكفيني ما قدمت. . قد كنت يوماً ما أنشط منك. . وأفضل منك. . لا تتعب نفسك أنت تنفخ في قربة مفقوعة. . . إلخ).
إن ممارسات هؤلاء (الكنتيون) وتقوقعهم، ونظرة المجتمع لهم على أنهم قدوات (كانوا). . تعدى تأثيرها الذوات السلبية و تسببت في نشوء كثير من السلوكيات الخاطئة لدى الآخرين ممن حمل في قلبه لهم كل حب وتبجيل. . فمنهم من واصل الإقتداء بهم في مسار (الاكتنات) في الواقع الدعوي واكتفى بذلك. . ومنهم من نبذ طريق الاستقامة كارها لطريقتهم.
وقد صح عن النبي _صلى الله عليه وسلم_ أنه كان يستعيذ بالله من (الحور بعد الكون) في دعاء سفره وقد فسره الإمام الترمذي بـ(إنما هو الرجوع من الإيمان إلى الكفر أو من الطاعة إلى المعصية، إنما يعني الرجوع من شيء إلى شيء من الشر).(2)
وقد سئل عاصم عن (الحور بعد الكون) قال: يقولون حار بعدما كان(3)
قال ابن الأثير: يعني: أعوذ بك من النقص بعد الوجود والثبات(4).(115/935)
قال أبو عمر بن عبد البر (يعني رجع عما كان عليه من الخير، ومن رواه (الحور بعد الكور) فمعناه أيضاً مثل ذلك أي رجع عن الاستقامة وذلك مأخوذ عندهم من كور العمامة وأكثر الرواة إنما يروونه بالنون)(5)
وقد سئل يحيى بن معين عن حديث (أعوذ بك من الحور بعد الكون) فقال بعضهم: إنما هو الحور بعد الكور. فقال يحيى: ليس يقول هذا أحد إنما هو الحور بعد الكون لا يقول مسلم خلاف هذا.(6)
قال النووي تعليقاً على الحديث في شرحه لصحيح الإمام مسلم:(هكذا هو في معظم النسخ من صحيح مسلم (بعد الكون) بالنون بل لا يكاد يوجد في نسخ بلادنا إلا بالنون، وكذا ضبطه الحفاظ المتقنون في صحيح مسلم)(7).
إن (الكنتي) مازال يعيش على أفياء الماضي (الصحوي) ومازال يردد في المجالس بطريقة تنبئ عن إسقاط للواقع الدعوي الحالي. . (كنت شعلة من النشاط. . كان الشباب قمة في الأخوة والإخلاص. . كان أحدنا يؤثر أخاه بكل شيء حتى. . . كنت أشعر أنني أعيش بين الصحابة!. . كنت. . . وكنت. . . إلى آخر الكناتيت)
حقيقة. . أنا لا أمانع أن يتذكر الإنسان ماضيه الجميل بشكل متوازن إذا كان ذلك الماضي سيدفعه للعمل الإيجابي الطموح.
وفرق كبير بين من يعيش (الماضي) وبين من يستلهم (الماضي) ليعيش (الحاضر)، وقد يكون الرجل (الكنتي) صادقاً في تعبيره ومشاعره، كما أن ما ذكره أيضاً صحيح. . لكن يبقى أنه أغفل كثيراً من الجوانب الإيجابية في واقعنا (الدعوي) اليوم.
لقد كانت الصحوة في الماضي تعيش عزلة (شعورية) أدت بها حتماً للعزلة (الاجتماعية) عن الآخرين، وهذا ما نتج عنه الانتعاش من (الداخل). . وبالمقابل كانت النظرة لبقية المسلمين خارج الصف (الصحوي) نظرة سوداوية يشوبها كثير من الكراهية.
أما حركة الإسلام اليوم فقد أصبحت أكبر وأضخم من أن تحويها منظمة أو تيار واحد. . بل أستطيع القول جازماً أن أثرها تعدى الحدود (الاجتماعية) إلى التأثير (سياسياً) و(اقتصادياً) و(عالمياً) ولا حاجة لضرب الأمثلة على ذلك فهي أشهر من أن تذكر.
إن هذا (الانفتاح) الإيجابي له ضريبته (السلبية). فأنت مثلاً حينما تستخدم جالوناً من (الطلاء الأبيض) لتضرب به متراً مربعاً وحداً أسود، ستنسى ربما في المستقبل أن هذا المتر الواحد كان في يوم ما (أسوداً).
لكنك إن استخدمت الجالون ذاته لطلاء كيلومتر مربع واحد فسيبدو لك الفرق واضحاً، وسترى اللون باهتاً أقرب ما يكون إلى (الرمادي) منه إلى (الأبيض)! وبالتالي ستتذكر دوماً أنه ليس بالشكل المناسب.
فأصبح التيار الصحوي ما بين (كنتي) يتأمل في الطلاء الجديد، ويتذكر الطلاء الأبيض القديم، ورجل آخر عقد همته وعزمه على حمل الجوالين (البيضاء) والمشاركة في صناعة المجتمع (النقي).
إن ظاهرة (الاكتنات)- أي الخضوع – ظاهرة تستحق منا الوقوف طويلاً لعلاجها واجتثاثها من نفوس العاجزين الثقات، والمتهالكين على طريق الدعوة.(115/936)
قيل لصبيّة من العرب: ما بلغ الكبر من أبيك؟
قال: قد عجن وخبز وثنى وثلث وألصق وأورص وكان وكَنَت!
فكأني بك أخي القارئ قد أصبحت (كنتياً) وأنت لا تشعر، فلربما صرت (كنتياً) في سلوكك أو في دعوتك أو مع أسرتك أو. . حتى مع نفسك.
فلا (تكتنت) أخي. . ولا ترض بما أنت فيه، ولتكن محلقاً بحركتك على امتداد الأزمنة المتغايرة، وكن كعبد الله بن مسعود رضي الله عنه حينما دخل مسجداً وعامة أهله (الكنتيون) قال الراوي سائلاً: وما الكنتيون؟ فقال: الشيوخ الذين يقولون كان كذا وكذا وكنت.
فقال عبد الله: دارت رحى الإسلام علي خمسة وثلاثين، ولأن تموت أهل داري أحب إليّ من عدتهم من الذِّبَّان والجعلان!(8)
والله المستعان،،،
______________
(1) تفسير القرطبي 10/7065 .
(2) سنن الترمذي 5/497 (باب ما يقول إذا خرج مسافراً ) من حديث عبد الله بن سرجس المزني – رضي الله عنه .
(3) مسند عبد بن حميد – حديث رقم 511 .
(4) النهاية في غريب الحديث .
(5) التمهيد 24/353 .
(6) تاريخ ابن معين 3/565 .
(7) شرح النووي على ( صحيح مسلم ) 9/111 .
(8) لسان العرب – مادة ( كون ) .
ـــــــــــــــــــ
برامج عملية للحياة الأسرية
علي الزباني
12/3/1427
ارسل تعليقك ...
لا توجد تعليقات ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
(الجزء الثاني من سلسلة موضوعات للكاتب بعنوان: جدد حياتك العائلية)
1- حلقة نقاش أسرية:
أول هذه البرامج التي نحاول أن نطبقها, في داخل منزلنا, هو برنامج حلقة نقاش.
من المهم عقد حلقات نقاش أسرية, عند شرب الشاي, أو عند ركوب السيارة, أو الذهاب في نزهة, والغرض من هذا النقاش إشاعة جو المحبة والألفة داخل الأسرة, وبداية لصداقة متينة, تدريب الأبناء على التعبير عن وجهات نظرهم ومشاعرهم.(115/937)
وتعليمهم أيضاً آداب الحوار والنقاش, بصورة عملية وودية, وليس مهماً عند النظر في الأهداف السابقة, أن تكون الأهداف المطروحة جادة جملة وتفصيلاً لأن الغرض هو ما سبق ذكره من أهداف, لو تحقق بعضها لكان خيراً عظيماً, ولذا فمن المناسب طرح موضوعات شائقة في أول الأمر, ثم نتدرج إلى أشياء نافعة أخرى, فمثلاً في أول لقاءاتنا وحلقات النقاش.
نناقش معهم مثل هذه القضايا:
لقد كانت حياة النبي _صلى الله عليه وسلم_, مليئة بالاستشارة لأصحابه، وأيضاً في أهله في قضية التخيير، ولهذا أيها المربون, أيها الوالدان الكريمان لا بد من إحياء هذا الخلق في حياتنا
(ماذا تفعل إذا وجدت نفسك في السوق فجأة بدون والديك؟)
(كيف نتغلب على البرودة؟) (ماذا يحدث لو فهمت لغة الطيور؟)
ثم بعد ذلك نناقش معهم أشياء جادة, بعد تلك النقاشات الظريفة اللطيفة, فنناقش معهم مثلاً:
كيف تختار صديقك؟
لماذا يقلد الشباب الآخرين ؟
ما هي أمانيكم وأحلامكم في هذه الحياة ؟ .. وهكذا ..
2- مجلس الشورى العائلي:
لقد كانت حياة النبي _صلى الله عليه وسلم_, مليئة بالاستشارة لأصحابه, كما في بدر وأحد والخندق, وغيرها, وكما أيضاً في أهله في قضية التخيير, وما حصل منه أيضاً في غزوة الحديبية, ولهذا أيها المربون, أيها الوالدان الكريمان لا بد من إحياء هذا الخلق في حياتنا.
وتكمن أهمية التشاور في العائلة, في عدة أمور:
• تحصين الناشئة ضد الفردية والاستبداد.
• لتعميق مبدأ الشورى في نفوس الأبناء.
• لنعلمهم كيف يحسنوا التحاور والاختيار.
• وأيضاً من الأشياء المهمة التي سنستفيد منها بعد هذا البرنامج, وهو مجلس الشورى العائلي, ليتعلموا كيف يتخذوا قراراً صحيحاً, فهو سيسمع من أخيه الأكبر قراراً وسيسمع من والده آخر, وسيسمع من والدته, ومن ثم بعد ذلك يجمعوا على رأي واحد, وهنا سيستفيد هذا الولد, ويتعلم كيف يتخذ قراراً صحيحاً, بعيداً عن الفردية والاستبداد, أيضاً ليتعلموا على مبدأ: إن يد الله مع الجماعة, والتعاون أيضاً على البر والتقوى.
فلماذا أيها الإخوة والأخوات, لا نتشاور مع أبنائنا مثلاً, في أي مكان ستكون رحلة الصيف ؟ من يتولى شراء أغراض المنزل؟ كيف نحل مشكلة التخلف والتأخر عن الصلاة؟ كيف نعالج الكلمات النابية, منا أو من أولاد الجيران؟ إن هذا البرنامج إذا بدأنا في تطبيقه داخل المنازل, فسوف نجد أيضاً ثمرات كثيرة, تحصل في حياة أولادنا.
3- عشاءُ عمل:(115/938)
كم هو رائع وجميل أن ينتظر الابن عودة أبيه إلى المنزل! حتى يشاركه في أكله وطعامه, أو يناقشه أيضاً في آماله, وآلامه, أو يسمع منه حكاية لطيفة, تنطبع معانيها في فؤاده, طوال العمر, وعلى الآباء والأمهات كذلك أن لا يغفلوا عن هذا الأمر مهما كثرت مشاغلهم, فقد روى الإمام مسلم في صحيحه أن رجلاً اعتمى عند النبي _صلى الله عليه وسلم_ أي تأخر بعد صلاة العشاء, ثم رجع إلى أهله, فوجد الصبية قد ناموا, فأتى أهله بطعامه, فحلف أن لا يأكل من أجل صبيته, ثم بدا له فأكل, فأتى رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ فذكر له ذلك, فقال له النبي _صلى الله عليه وسلم_: "من حلف على يمينٍ, فرأى غيرها خيراً منها, فليأتها وليكفر عن يمينه" فانظر يا رعاك الله, إلى الصحابي الذي تأخر في أمر هام مع رسول الله _صلى الله عليه وسلم_, ولم يمنعه هذا العذر الوجيه, أن يسأل عن الصبية, ولما فاته الجلوس معهم, حلف ألا يأكل, كأنه يعاقب نفسه من أجل تأخره عن العشاء مع أولاده.
ولقد نشرت أيضاً جريدة الأهرام المصرية, في عدد 24046 دراسة أسبانية أكدت أن جمع شمل الأسرة, حول مائدة الطعام, يعزز استقرار الصحة النفسية والعقلية لدى الأبناء, وتوصلت الدراسة, إلى أن الأبناء في سن المراهقة, الذين يشاركون أبنائهم في تناول الطعام, يتمتعون بحالة نفسية جيدة, وأن تناول الوجبات اليومية, التي تضم جميع أفراد الأسرة, ولأكثر من خمس مرات في الأسبوع, له أثر جيد, على الصحة النفسية للأبناء, فيا أيها الوالد الكريم, ما أجمل أن تجتمع مع زوجتك وأولادك حول مائدة الطعام, فيطمئن كل منكم على الآخر, ويبادله حباً بحب, ومودة بمودة, يتعلم فيها الأبناء آداب الطعام تطبيقاً عملياً مع والديهم, إضافة لنشر الحب بين جميع أفراد الأسرة.
4- رحلة سعيدة:
نحرص على هذه الرحلات لأنه لا بد من الراحة بعد التعب, ولكسر الروتين في هذه الحياة, وأيضاً لزيادة التعاون والترابط بين أفراد الأسرة, ولكن المهم, أنه عندما نفكر في رحلة معينة, لا بد من التخطيط لها, فلا تقتصر أيها الإخوة الكرام, فوائد الرحلة, من المتعة والتعرف على الأماكن وتجديد النشاط, بل يمكن أن نضيف لهذا كله, التعليم والمتعة والتدريب على القيادة, وتعويد الأبناء على التخطيط والتفكير, وإليكم هذه الأفكار العملية, التي يمكن تطبيقها قبل وأثناء وبعد الرحلة الأسرية, حتى تكون نافعة _بإذن الله سبحانه وتعالى_, من هذه الأفكار, اجتماع العائلة لإعلان وقت الرحلة في وقت كافي والاستشارة في وقت السفر, وموعد المغادرة, وهذا يدعوا الجميع للاستعداد للرحلة, ولهذا من المؤسف أن الأبناء في بيوتنا قد لا يعلمون بموعد تلك الرحلة, إلا قبل سفرهم بيوم أو يومين, ومن الأشياء المهمة لتكون رحلتنا سعيدة, تقسيم المهام على الأبناء.
فالابن الأكبر: مهمته إعداد السيارة, أو حجز تذاكر السفر, وتحمل مسؤولية الحقائب, وكتابة جميع احتياجات السفر, وإعداد مذكرة لكل فرد من الأسرة, توضح له أهم ما يجب أن يأخذه أثناء سفره.
والابن الثاني: هو مسؤول الميزانية, تسلم له ميزانية محددة قبل المغادرة, وتكون الوجبات والمواصلات والمشروبات من تلك الميزانية الموجودة عند ذلك الولد, وعند(115/939)
طلب أحد الأفراد شيئاً يكون اتخاذ القرار من هذا الابن بالسماح أو المنع, في ضوء الميزانية المعطاة له, ويساعده أيضاً الأب في التوفير والاقتصاد.
والثالث: من الأولاد هو المسؤول عن برنامج الرحلة, فمهمته التخطيط في أماكن النزهة, والحصول أيضاً على المعلومات عن الأماكن والمدن, إضافة لأدوات تحديد القبلة.
والرابع: هو المسؤول عن البرنامج الترفيهي للرحلة, فمهمته إعداد الألعاب والأنشطة المسلية, التي تمارس أثناء تلك الرحلة.
والخامس: مهمته حقيبة صغيرة تؤخذ معكم في الطائرة فيها قصص ودفاتر وأقلام وغيرها من الأشياء.
5- أيام لا تنسى:
ومن البرامج العملية أيضاً: (أيام لا تنسى) أيها الأب هل جربت مرة, أن تقص على أبنائك قصصا من حياتك, أو مواقف مرة بك, لقد حان الوقت لتفعل ذلك, بلقاء عائلي, عقب وجبة أو غيرها, وسترى بريقاً في أعين صغاركم, يتابعون بشغف, ما تسرده عليهم, تذكر قصصك, وأعد ترتيبها من جديد, واختر منها واحدة لتحكيها لأبنائك, على العشاء اليوم, وسترى النتيجة بنفسك, قُص عليهم مثلاً: أول حجة حججتها, أو يوم دخلت فيه الوظيفة, ذكريات الشباب وعمرك خمسة عشرة سنة, أول يوم في المدرسة, مواقف محرجة مرت بك في حياتك, ليلة عرسك كيف كانت, بعض أحداث الطفولة, ألعاب الطفولة, أحداث غيرت مجرى حياتك, ظروف ولادة أولادك, وكيف اخترت أسماءهم, كم أتعبوك وهم صغار, وهكذا, إن ثمة قصص كثيرة في حياتنا, نحن بحاجة فعلاً أن نخرجها لهؤلاء الأبناء, الذين يعجبهم أن يسمعوا أخبار وحكايات والديهم, التي حصلت لهم في أول سنين حياتهم.
6- كيس النقود:
ومن البرامج العملية أيضاً: كيس النقود، أو سمه المكافأة المسبقة.
نحن أيها الوالدان الكريمان تتعدد لدينا أشكال المكافأة التي نقدمها لأبنائنا، فمنها البسمة والقبلة, والشكر والاستحسان وغير ذلك, ومن وسائل المكافأة التي يستخدمها كثير من الآباء والأمهات إعطاء الابن مبلغاً من المال، مع التحذير -أيها الإخوة والأخوات- أن يكون هذا ديدنا للمكافأة, فتصبح حينئذ الحافز الوحيد لطاعتهم لك, ولكن هذا المال الذي نحن نعطيه يمكن أن نعاقبه به, وإليك هذه الفكرة:
أخبر الولد بأن له مبلغاً من المال سوف يأخذه في آخر الأسبوع, وليكن هذا المبلغ مثلاً خمسون ريالاً أو أكثر أو أقل, ثم يخبر هذا الولد أن كل تصرف خاطئ يقوم به, سوف يخصم من هذا المبلغ حتى نهاية الأسبوع, فمثلاً يُقال له: إذا ضربت أحد إخوانك من غير حق فإنه سيخصم عشرة ريالات, إذا تأخرت عن تكبيرة الإحرام, سوف يخصم عليك عشرة ريالات, إذا رفعت صوتك على أحد والديك, يخصم عليك مبلغ من المال, وهكذا وبهذه الطريقة -أيها الوالدان الكريمان- سوف نزرع في نفوس أبنائنا كثيراً من الأخلاق التي –أحياناً- نتعب في محاولة زرعها في نفوسهم
7- صندوق المفاجآت:(115/940)
أيها الوالد الكريم, ماذا تفعل عندما تدخل بيتك, فترى كثيرا من أغراض المنزل وحاجيات الأولاد من ملابس ومواد دراسية, ملقاة على الأرض بلا عناية, قد يغضب الوالد, ويتحول أحياناً الغضب إلى صياح وتهديد وضرب ووعيد, ولكن نقل لك, هدئ من روعك وخفف من غضبك, واسمع قصة هذا الأب الحنون, لقد اعتاد أبناؤه رمي ملابسهم في نواحي البيت, فاتفق معهم, على وضع برميل في الصالة, يلقى فيه كل ما يجدونه داخل بيتهم, من الحاجيات التي لا يحتاجونها, وعلى صاحب الشيء البحث عنه داخل البرميل, وقبيل النوم, يلتف الجميع حول ذلك البرميل, ليروا ما به من حاجيات, ويحددوا أيضاً أصحابها, ويأخذوا ما يحتاجونه وثم يرموا مالا يحتاجون إليه, وبهذه الطريقة, وبهذا البرنامج العملي, تحول غضب الأب, إلى فكاهة وتربية ومحبة.
8- دعونا نحتفل:
يخيم الروتين على حياتنا, حتى أضحت الأعمال اليومية المتكررة على الأسرة تبعث على الملل, ونحن حينئذ بحاجة إلى شيء يكسر جو الرتابة والتكرار في حياتنا العائلية, فدعونا نحتفل, فربما قام بعض أفراد الأسرة بعمل يستحق أن يكافأ عليه كانتظام في صلاة أو تفوق في دراسة, أو تحسن في سلوك, أو قام بمبادرة طيبة مع أسرته, أو كانت مناسبة دينية كالعيد مثلاً, من أجل ذلك نحن بحاجة أن نقول لأهل المنزل قد آن الأوان للاحتفال.
ولكي يكون احتفالنا رائعاً, فلنحدد موعد الاحتفال, وليكن يوم إجازة, ومن ثم نجعل من مائدة ذلك اليوم مميزة, تختلف عن كل يوم, ثم نبدأ بعد ذلك في ترتيب فقرات الحفل:
فنجعل كلمة الحفل يلقيها: أصغر الأبناء, ما أمكن ذلك.
ومن ثم تكريم المتفوقين, من الأبناء, ويكون هذا التكريم, من قبل الوالدين, ومن المناسب عند التكريم, وضع كرسي خاص بالمتفوق, مع بيان سبب التفوق, وإعطاء شهادة تقدير موقعاً عليها من الوالدين, وإخوته كذلك, تقديم هدية مناسبة له.
وثم بعد ذلك يحث بقية الأبناء على التنافس الحميد فيما بينهم.
ومن المناسب أيضاً في هذا الاحتفال: أن يُعلق اسم هذا الابن في لوحة الشرف, ليراها أقاربه وزوار المنزل بعد ذلك, وخذ هذين المقترحين الجميلين لشهادة تقدير يقدمها الوالد والوالدة لأولادهم:
النموذج الأول: نموذجاً مقدماً من الوالد لولده:
ابني الغالي:
احترت في كلمة الشكر, فلم أجد ضالتي, لم أجد ما يكفيني لأعبر لك عن مدى الامتنان لك, ففي قلبي لك أيها الابن الغالي سعادة وحب ومودة, أقول لك من أعماق قلبي, جزاك الله عني خيرا يا بني , التوقيع " والدك
و نموذج أخر مقدم من الوالدة إلى أحد أولادها تقول فيه:
يا قلباً ينبض بأرق شعور, يا نسمة تسري في حياتي, فتنشر فيها العطر والنور, من قلب صادق وبحب دافق, أهتف وأقول لك أحبك دائماً يا بني.
التوقيع "والدتك "(115/941)
فبهذه الطريقة وبهذه الشهادة التي ستعطى لهذا الابن, انظر كيف ستكون نتائجها بعد ذلك على هذا الولد من شعوره بانتماء لهذه الأسرة, وحب ورغبة أيضاً في التعاون داخل البيت.
9- النظام أولاً:
إننا أيها الإخوة والأخوات نعيش في عصر لا مجال للعشوائية فيه, إذ هي السبب في ضياع كثير من فرص التقدم في الأمة بصفة عامة, وتحقيق التقدم والنجاح المطلوبين على مستوى الأفراد بصفة خاصة, وهذا ما تقدم به الغرب على المسلمين.
قبل مدة قليلة نشرت إحدى الدول الغربية خطتها المئوية، فأين نحن عن مثل هذا الإعداد والاستشراف للمستقبل؟! إن اللبنة الأولى التي ينبغي أن نعتني بها هي أولادنا, من خلال برامج عملية تحقق خصلة الترتيب والنظام في حياتنا.
ولكن هناك عوامل ينبغي أن يراعيها ولي الأمر قبل أن يعلم أولاده هذه الخصلة المهمة, ومن هذه العوامل:
أولاً: القدوة.
فالقدوة أقصر الطرق للإقناع, فليكن الوالدان أول من يعتني بتنظيم نفسه وشؤون حياته.
ثانياً: الصبر.
فتغيير العادات القديمة وزرع سلوكيات جديدة يستلزم وقتاً طويلاً وجهداً ومثابرة, فلا ينبغي أن نتراجع أبدا.
والأمر الثالث: المتابعة.
فينبغي أن نراقب ونقيس مدى اقتراب أبنائنا من تبني هذا النهج في التفكير, والتعامل بهم في حياتهم, ومساعدتهم وتشجيعهم أيضاً على الاستمرار, اشتر له ساعة لمعرفة الوقت, اجعله يحترم المواعيد, أهد له مفكرة, علمه احترام وقت غيره, دربه أيضاً على التخطيط والنظام.
10- غرفة جميلة منظمة:
ففي جلسة عائلية هادئة يعلن الأب أو الأم عن مسابقة جميلة بين أفراد الأسرة وتتلخص في أجمل غرفة في البيت يعطى الابن صاحب أفضل غرفة مرتبة هدية قيمة ووساما على باب غرفته.
أما طريقة تطبيق هذه الفكرة فيضع الأب أو الأم ورقة كبيرة على باب غرفة كل ابن من الأبناء بها الخانات التالية :
السرير, الدولاب, المكتب, السجاد, ركن الألعاب, وغيرها من الأشياء التي تحتويها الغرفة, وينبغي أن تكون الورقة مفصلة بجميع محتويات الغرفة, مع تخصيص زاوية بعنوان (الابتكار), لتساعد الأبناء على التفكير الإبداعي, وإضافة العنصر الجمالي في داخل غرفهم, تحدد ساعة يمر فيها الوالدين أو أحدهما على غرفة الأبناء يقيم كل غرفة, وبعد مرور أسبوع تجتمع الأسرة وتحدد الفائزين في جو عائلي جميل.
11- علموا أولادكم حرفة:(115/942)
إن من مأثور الحكم عند الناس: حرفة في اليد أمان من الفقر, وأن خير ما أكله الإنسان ما كان من عمل يده, ولهذا قال النبي _صلى الله عليه وسلم_ في الحديث الصحيح: (ما أكل عبد طعاما قط, خير من أن يأكل من عمل يده, وإن نبي الله داود عليه السلام كان يأكل من عمل يده).
فينبغي للوالدين أن يستشعرا أهمية هذا الجانب في تربية الطفل, من ناحية صقل شخصيته واعتماده على نفسه والقدرة على الكسب والرجولة المبكرة وغير ذلك.
قال أحد العلماء: من حق الولد على والده, إذا بلغ سن التمييز أن يعلمه أخلاق الصلحاء, وأحكام الدين, ويرشده إلى المكاسب خشية أن يكون عالة على الناس.
فلنعلم أولادنا حرفة يغتنون بها, ولنعاونهم على اكتشاف ميولهم وقدراتهم, وتشجيعهم على تنميتها وصقلها بالتدريب المتدرج, ويمكن في البداية, تدريبه على أمور بسيطة كإصلاح كرسي, أو مروحة, أو تدريبه على تشغيل الكمبيوتر والطباعة عليه, ونحو ذلك.
ومن العجيب أيها الإخوة أن هناك رسالة علمية بعنوان كيف يربي اليهود أطفالهم, كان من ضمن فصولها, تمجيد اليهود للعمل اليدوي عند الأبناء, فهل سنمجد مثل هذا الأمر في نفوسهم, حتى لا نجعلهم يوماً من الأيام عالة على غيرهم من الناس.
12- لنصلح معاً:
إن تعليم الأبناء الإصلاح لما يتعطل من الأجهزة والأدوات عمل مفيد جداً, لأمور كثيرة, يعلمهم ويعودهم على الإيجابية, يربيهم على أن لا يكونوا عالة على غيرهم, ويبعدهم أيضاً عن المطالبة المستمرة لتغيير كل ما تعطل, فلنجعل مثلاً أبناءنا الذكور يبدؤون في إصلاح دراجاتهم إذا تعطل إطارها, أو إصلاح ألعابهم إذا تعرضت لكسر.
أما البنات, فيكمن تعليم البنت مبادئ الخياطة كتركيب الأزرار وغيرها, أو خياطة جزء مقطوع من ردائها, وننصحك بكتب تفيدك في هذا الأمر مثل كتاب: الإصلاح المنزلية, وطرق عمل الديكورات الداخلية للمهندس محمد عادل المهدي, وأيضاً فصل في كتاب أطفالنا, وهذا الفصل بعنوان: في بيتنا ورشة, وثمة كتاب أيضاً بعنوان الأشغال الفنية للأطفال للأستاذ أحمد البيومي وهو من الكتب التي اعتنت بذكر مقترحات كثيرة يمكن أن نطبقها في مثل هذا البرنامج.
13- الإبداع المنزلي:
يتسابق الأبناء اليوم في كتابة لوحات تعليمية أو إرشادية لإحدى المواد الدراسية, وجميل أن تُنقل هذه الفكرة إلى بيوتنا, في كتابة بعض اللوحات المنزلية المفيدة, وتكون بتصميم جذاب, مع اختيار عبارات رائعة لها, والتي لا تُنسى وتظل عالقة في الذهن, وهذا ما يسميه علماء التربية (التربية بالإيحاء), فمن هذه العبارات المقترحة التي يمكن أن تعلق مثلاً داخل المنزل:
• (من أصلح ما بينه وبين الله, أصلح الله ما بينه وبين الناس)
• (إذا قابلت الإساءة بالإساءة, فمتى تنتهي الإساءة)
• أكثر من الصلاة على النبي _صلى الله عليه وسلم_)(115/943)
• (حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسبوا)
• (العربة الفارغة, أكثر إزعاجاً من العربة الممتلئة)
• (العمل مهما قل, أفضل من الكلام مهما كثر)
• (الصدق ربيع القلب وشعاع الضمير)
• (الطمع رق مؤبد)
• (تذكر أن الله يراك في كل وقت وفي كل مكان)
ويمكن كتابة آداب الطعام مثلاً وغيرها من الآداب بشكل جميل وتعلق في الأماكن المناسبة, وحبذا طباعتها من قبل الأبناء.
ومن التجارب اللطيفة في هذا عبارة في المكتبة تقول: الرجاء لا تتركني للضياع.
• والأخرى مكتوب عليها: أعدني إلى مسكني على الرف.
• وثالثة في مكان الطعام: من فضلك لا تتركنا على الأرض.
• وساعد والدتك في تنظيفنا.
ومن الكتب النافعة في ذلك: أقوال مأثورة وكلمات جميلة للأستاذ محمد لطفي الصبار, ولا تنسى أن تحفظ هذه العبارات في ملف لأبنائك.
14- يوم التنافس, أو يوم الإبداع أو الابتكار:
وهو يوم يتنافس فيه الأبناء, حول قضية يحددها لهم والدهم, فمثلاً:
• حفظ أول سورة الكهف.
• حفظ جملة من الأذكار.
• أو حفظ قصيدة جميلة.
• أو كتابة مقال عن موضوع معين.
• أو إبداع رسمة رائعة.
• أو اقتراح أية فكرة قد يخدم بها دينه.
• أو صحيفة عائلية, وهي عبارة عن صفحة واحدة, يحاول فيها الأبناء محاكاة عمل الصحف اليومية, فتجرى مسابقة أسبوعية بين الأبناء في تحرير هذه الصحيفة العائلية فلكل ابن الحرية في نوعية الكتابة في حدود الجاد والمفيد, فيمكن أن يكتب فيها أخبار الأسرة بشكل ظريف, كعنوان: العلاقات متوترة بعض الشيء هذا الأسبوع, الطقس غائم جزئي بين بعض أفراد الأسرة, حكم وأمثال, وبيت شعر جميل, والتعريف بشخصية مهمة, وتفسير آية, وشرح حديث مختصر, وهكذا, ويمكن أن يشترك بعض الإخوة في تحريرها كل أسبوع, فيعطى صاحب أحسن صحيفة جائزة مناسبة مع الحرص على المواضيع والنظافة وحسن الترتيب, وجمال الخط, ثم توزع الصحيفة الفائزة على جميع أفراد الأسرة, وتعلق في مكان بارز, وحبذا لو حفظ ما كتبه الأبناء في ملف خاص, يستفاد منه في وقت آخر.
إن هذه الأفكار, أو هذا البرنامج وهو البرنامج التنافسي والإبداعي, سيكشف لنا حقائق مهمة عن أبنائنا, فإن هؤلاء الأبناء كتلة من المواهب, هم بحاجة لمن يبعث هذه المواهب في نفوسهم, ويخرجها للناس.
15- يوم الخدمة المنزلية:(115/944)
في هذا اليوم تأخذ الأم إجازة من الأعمال المنزلية ويتولى الأبناء إدارة المنزل كاملاً تحت نظرك ومتابعتك, ومن المناسب عمل جدول لجميع أفراد الأسرة, محتوياً على أهم مهام المنزل, وتوزيعها عليهم على مدار الأيام, وما أجمل أن يكون من ضمن هذه المهام عليهم, الإيقاظ للصلاة, ومتابعة إخوانه في المسجد, وغيرها من المهام الجادة, وهكذا تعيش الأسرة روح التعاون والمحبة والمودة, ويشعر الجميع ما تبذله الأم من مجهود لأجل راحتنا.
16 - المربي المتفرغ:
فللوالدين أشغالهما التي قد تحول دون القيام بالمهمة على أتم وجه, وأحسن حال, ولذا فإن من المقترح, تفريغ أحد المربين الصالحين لملازمة الأبناء وتربيتهم وتعليهم القرآن وآدابه, والعلم الشرعي وأحكامه وطبعهم أيضاً على العادات الحكيمة والأخلاق الكريمة, وقد بدأت بعض الأسر في تطبيق هذا الأمر ووجدوا له ثمرة عظيمة في أبناءهم خاصة إذا أحسن اختيار المربي.
17 - شخصية الشهر:
يمكنك أيها الوالد الكريم, ويا أيتها الوالدة الفاضلة, أن تختار بمشاركة أبنائك شخصية تاريخية إسلامية, لتكون شعار هذا الشهر, تتناقش معهم حولها في أوقات مختارة مسبقاً من الأسرة, وتحاول أن لا ينقضي هذا الشهر إلا وقد درس أبناؤك معالم هذه الشخصية, ولكي تنجح هذه الفكرة حدد الشخصية في وقت مبكر, ووفر لهم المراجع حولها, علمهم كيف يستفيدوا من هذه الشخصية, وما الجوانب المهمة في حياة هذا الشخص الذي اختير, نوِّعْ لهم الشخصيات فتارة عالم, وتارة زاهد, وأخرى أديب, وهكذا.
وكذلك يمكن أن تختار خُلق الشهر, بدلاً من شخصية الشهر, ثم تشترك الأسرة كلها في جمع القصص والأمثال والحكم والشعر والمقالات حول هذا الخلق, ثم الاتفاق بعدها على تلخيص هذه الأشياء, على أن يقوم على هذا التلخيص الأولاد بنين وبنات, في ورقة واحدة تعلق في المنزل, في خطوات عملية لتطبيقها داخل الأسرة, ويمكن إهداؤها كذلك إلى بقية الأسر من الأقارب والأرحام.
18 - لقاء البيت:
وهو من البرامج العملية المهمة والتي أخرتها من أجل أن نبني في نفوس أبنائنا المحبة والألفة ويتقبلوا منا بعد ذلك مثل هذه اللقاءات العملية الجادة.
قال الله -عز وجل- مخاطباً نساء النبي _صلى الله عليه وسلم_: "وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفاً خَبِيراً" (الأحزاب:34), ففي هذه الآية مفهوم ومضمون, أما المفهوم فيدل على أن هناك تالياً يتلوا عليهن القرآن, فهناك إذاً تعليم, وأما المضمون فهو أمرهن بالتذكر, فهناك إذاً تعلم, ومن هنا كان لا بد من تنظيم العلم والتعلم الشرعي في كل بيت مسلم, وذلك من خلال لقاءات علمية تفقهية, تضم كل أفراد الأسرة من أطفال ورجال ونساء, ومن هنا جاءت أهمية لقاء البيت, وهو عبارة عن ملتقى دوري يضم كل أفراد الأسرة, ويتوافر له ما يتوافر للقاءات المهمة من مظاهر الإعداد والاستعداد, مثل تخصيص وقت ومكان والتهيؤ له, وهكذا.(115/945)
وحتى ينجح هذا اللقاء -يا أيها الإخوة والأخوات- لا بد أن ننتبه لعدة أمور:
• لا تطل اللقاء في البدايات, فإن النفس تمل, والتدرج حسن في مثل هذه الأمور.
• لا تجعل لقاء الأسرة كاجتماع المؤسسات والشركات جاداً فتنفر النفوس منه.
• القرآن والحديث عنصران أساسيان في أي لقاء.
• يُراعى إشراك الزوجة والأبناء في التحضير والإلقاء والحوار وغيرها.
• يُراعى عنصر التجديد والتشويق في اللقاء, فمرة نجلس في البيت, وأخرى في الحديقة, وثالثة على الشاطئ, وهكذا.
• تذكر أن ما تقوم به عبادة لله -عز وجل- وأنه سبب لإنقاذ الأهل من النار, وهدايتهم إلى طريق الجنة, والله -عز وجل- يقول: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ" (التحريم: 6).
• تعاونا وتفاهما أنت وزوجتك فإن ذلك من أسباب النجاح لهذا الأمر.
• استشر أهل الخبرة في الطرق والوسائل والكتب وغيرها.
• ولا تنسى الدعاء والتماس التوفيق من الله _تعالى_.
• أدخل الخير وأهله في بيتك ومجلة إسلامية وشريطا نافعا وأصدقاء صالحين ونساء صالحات يجعلون البيت حديقة معطاء
ـــــــــــــــــــ
قيمة التربية الأسرية:وصايا وتوجيهات
على الزباني
4/3/1427
ارسل تعليقك ...
لا توجد تعليقات ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
(الجزء الأول من سلسلة موضوعات للكاتب بعنوان: جدد حياتك العائلية)
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراًَ إلى يوم الدين أما بعد:
كثر الحديث في أيامنا هذه عن أهمية التربية في إعداد الناشئة في زمان كثير المتطلبات كثير المغريات زائد التحديات ويتم التركيز على الأسرة لتؤدي الدور المنوط بها في إصلاح الأولاد لأنه هو الحصن الأخير الذي لا زال لأهله نوع من السيطرة عليه.
ومهمة الأسرة وعملها تزداد يوماً بعد يوم في عصر العولمة وتهميش سلطات الأسرة والمدرسة والمجتمع والإغراء أيضاً بالتمرد على الأعراف وتوسيع دوائر الحرية الفردية وغيرها أيضاً من الأشياء السلبية لهذه العولمة التي جعلت العالم فعلاً كقرية واحدة وتربية الأبناء الذي نتحدث عنه هي سهلة أيها الإخوة ولكنها سهلة على من لا(115/946)
أولاد له ومع هذا كله فإنه ليس أمامنا أي اختيار غير الاستمرار في جهودنا التربوية وتحصين ظروف عملنا كلما وجدنا إلى ذلك سبيلا.
كثر الحديث في أيامنا هذه عن أهمية التربية في إعداد الناشئة في زمان كثير المتطلبات, كثير المغريات, زائد التحديات, ويتم التركيز على الأسرة لتؤدي الدور المنوط بها في إصلاح الأولاد
إننا أمة تملك شيئين:
أولهما: المنهج الرباني الأقوام الذي أكرمنا الله به.
وثانيهما: العنصر البشري المتعاظم حيث قارب المسلمون أن يكونوا ربع سكان الأرض.
إن هذه العشرات التي تدفع بهم الملايين من الأرحام سنوياً بحاجة إلى تربية وتوجيه وتأهيل للعيش في زمان مفعم بالتحديات وإذا لم نقم بدورنا كآباء وأمهات فإننا سنعرض أجيالنا لخطر كبير إن هذه الأجيال المعاصرة نحن مسئولون عنها أمام الله سبحانه وتعالى كيف ورسولنا _صلى الله عليه وسلم_ يقول: "كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، فالرجل راع في أهله ومسؤول عن رعيته والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها" أخرجه البخاري ومسلم من حديث ابن عمر والقيام بهذا الحق جزء من شكر نعمة الله علينا فالأولاد نعمة من الله _عز وجل_ والله يقول: "وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً" (النحل: من الآية72) وتكمل النعمة وتعظم حينما يكون الولد صالحاً؛ لأنه هو الذي يريده الشارع لإقامة شرعه وعمارة أرضه "وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً" (الفرقان:74) ولذا فنحن بحاجة ماسة لاستصلاح هؤلاء الأبناء ليكونوا قرة عين لنا في الدنيا والآخرة وذلك من عملية تربوية منظمة تحقق أهدافها_ بإذن الله جل وعلا_.
ومن المناسب في البداية أن نذكر بأن الأشياء العظيمة لا تنجز بالاندفاع بل تنجز بجمع سلسلة من الأشياء الصغيرة وقد قيل أيضاً: ربما كانت الأفكار الصغيرة بداية لإنجازات عظيمة والمتأمل في تاريخ المسلمين وتواريخ غيرهم أيضاً يلاحظ أن ثمة أفكار كانت صغيرة جداً بسيطة جداً ثم بورك بعد ذلك فيها ونفع الله _عز وجل_ بها.
ومع هذه الحاجة الماسة للتربية إلا أننا نجد أنفسنا أمام مشكلة كبيرة وهي الرتابة في أساليبنا التربوية فلو فكر كثير منا في أساليب تعامله مع أطفاله لوجد أنها أساليب محددة متكررة ليس فيها شيء من التجديد أو الإبداع مما يضفي على علاقته مع أطفاله صورة من الرتابة المملة على مستوى طرفي العلاقة على حد سواء فالمربي مثلاً يكرر نفسه فيمل من كثر ما يبدء ويعيد في أساليبه والطفل الناشئ وهو ينمو بنفسه طلعه وهمة طموح يجد الطرف الآخر لا يبالي بطموحه بل يسعى أحياناً لتحجيمه وتحطيمه ومن ثم تنشأ في نفسه روح التمرد والتفكير في كسر الطوق المفروض حوله وتنموا تلك الروح وتتطور وتبدأ الهوة تتسع بينه وبين مربيه فهل فكرنا أيها الإخوة والأخوات بين الحين والآخر بإعادة النظر في أساليبنا وتقويمها وتطويرها لتتلاءم مع مستجدات الحياة التي تفرض نفسها علينا إن الحياة أيها الإخوة والأخوات لم تعد بسيطة كما كانت من قبل لقد دخل معك أيها المربي على الخط(115/947)
جهات أخرى تنازعك مسؤوليتك وتتسلل إلى بيتك من غير استئذان وتنافسك أكثر الأحيان منافسة غير شريفة على أحب الناس إليك فلذات كبدك وهي متسلحة بأقوى الأساليب وأفتك الأسلحة لماذا أيها الإخوة. لأنها تخاطب الأهواء لا العقول وتدغدغ المشاعر والعواطف ولا تواجه بالحجة والمنطق فهل تقبل التحدي أيها المربي؟ لا بد أيها الإخوة والأخوات لأنه لا خيار أمامنا ولا مفر لنا من تحمل المسؤولية فلنبحث عن أفكار وأساليب تكون أنفع لنا وأبلغ في تحقيق أهدافنا و.....
وتجديد الأساليب الذي نتحدث عنه في مثل هذه البرامج لا شك أنه يدفع عن النفس السأم ويقتل الملل وينمي الذات ويصقل المواهب وكن على ثقة أخي المربي ذكر أو أنثى أنك أمام اختيار صعب فإما أن تجدد أساليبك وإما أن ترضى باستهلاك نفسك والتآكل من الداخل.
لهذا جاءت هذه السلسلة المباركة الذي تقدم نوعاً من البرامج العملية التي تقدم على حياتنا نوعاً من الألفة والمحبة والخروج عن المألوف الذي اعتدنا عليه كثيراً في حياتنا.
لماذا يطرح هذا الموضوع؟
إن السؤال الذي يطرح نفسه منذ أول اللقاء أيها الإخوة والأخوات: لماذا هذه البرامج؟ لماذا الدعوة إلى التجديد في حياتنا العائلية؟ لماذا نحرص على تربية أبنائنا؟ إن ثمة أمور تدعوننا لطرح مثل هذا الموضوع أول هذه الأمور أن تربية الأولاد والعناية بالأهل فريضة شرعية والله -_عز وجل_- يقول: "يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً" (التحريم: من الآية6) قال قتادة: أي يأمرهم بطاعة الله وينهاهم عن معصيته وأن يقوم عليهم بأمر الله يأمرهم به ويساعدهم عليه وقال الضحاك ومقاتل: حق على المسلم أن يعلم من قرابته وإمائه ما فرض الله عليهم وما نهاهم عنه قال علي رضي الله عنه: علموهم وأدبوهم وقال أيضاً الكي الطبري: فعلينا تعليم أطفالنا وأهلينا الدين والخير وما لا يستغنى عنه بني آدم وقد بوب البخاري في صحيحه باب (تعليم الرجل آمته أهله) ثم ساق حديث ثلاثة لهم أجران: وذكر في ذلك الحديث ورجل كانت عنده آمة فأدبها فأحسن تأديبها وعلمها فأحسن تعليمها ثم أعتقها فتزوجها فله أجران. قال ابن حجر رحمه الله تعالى مطابقة الحديث للترجمة أي عنوان الباب في الآمة بالنص وفي الأهل بالقياس إذ الاعتناء بالأهل الحرائر في تعليم فرائض الله وسنن رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ آكد من الاعتناء بالإماء ومن الأمور كذلك صبغة المجتمع بصبغة إسلامية صحيحة فتربية الأولاد تساهم بشكل فعال في إنشاء جيل صالح يصلح المجتمع بصلاحه وتنتشر الفضيلة فيه ومنها أيضاً حاجة الناس للتوعية التربوية في ظل المتغيرات الحديثة والمتسارعة جداً أيضاً بناء مجتمعاً أكثر تجانساً وانسجاماً مليء بالحب والألفة والمودة ومن هذه الأمور التخطيط لتربية أبناءنا وجعله أعظم استثمار يبذله الإنسان في هذه الحياة تربية الأجيال القادمة في أجواء أكثر سعادة وطمأنينة يسودها التفاهم بين الوالدين ومن الأمور أيضاً غياب الترفيه المرشد تربوياً ولكي نجعل تربينا لأبنائنا أكثر متعة وسعادة.(115/948)
أيها الإخوة والأخوات: إن بناء الإنسان عمل مدهش أخاذ إلا أن تربية الإنسان وبناء نفسه وخلقه أشد دهشة وروعة وكلما أجاد المربي ذلك البناء تألقت التحفة البشرية التي بين يديه وخرجت مشكاة هداية ورشد وصلاح ونحن بحاجة لوضع أعمدة لهذا البناء الشامخ.
أولا: وصايا تربوية:
قيل من يبني بيته على الصخور لا يعبأ بالعواصف وإليك أخي الكريم/ أختي الكريمة وصايا مهمة نستعين بها بعد توفيق الله -_عز وجل_- في تربينا لأولادنا أول هذه الوصايا:
1. الإخلاص في تربية الأبناء: فإن تربيتهم عبادة وقد قال النبي _صلى الله عليه وسلم_ في الحديث الصحيح: "إنما الأعمال بالنيات" فلا تربي ليقال هذا ولد فلان تعب في تربيته، بل رب من أجل أن يصلح هذا الولد ويكون قرة عين لك في الدنيا والآخرة احتسب الأجر عند الله، فالتربية أيها الإخوة والأخوات شاقة لا راحة معها وطويلة لا انتهاء لها ومكلفة لا شحاحة فيها وكثير من الناس يمارسون التربية ولكن ليس كل الناس يؤجرون عليها.
2- ادعوا لأولادك بالصلاح والهداية والله _جل وعلا_ يقول: "إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ" (القصص:56) ويقول _سبحانه وتعالى_: "لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ"(البقرة: من الآية272) فارفع يديك في مواطن الدعاء أن يصلح الله _عز وجل_ أولادك وأن يجعلهم قرة أعين لك في هذه الحياة
3-كن قدوة في داخل بيتك فابدأ بنفسك فأصلحها يصلح الله لك رعيتك فإنهم إن سمعوا منك ما يناقض فعلك يقع الخلل ويعظم الزلل ويصبح الدين شعارات براقة عندهم وكلمات جوفاء ليس لها في حياتهم أثر ولا في واقعهم عمل.
مشى الطاووس باختيال ... ...
فقلد شكل مشيته بنوه
قال علام تختالون قالوا ... ...
سبقت به ونحن مقلدوه
وينشأ ناشئ الفتيان فينا ... ...
على ما كان عوده أبوه
فانظروا -يا إخواني- إلى هذه الأبيات التي هي في الحقيقة تحكي واقع كثير من الأسر, التي تأمر بأشياء ولكنها تخالفه, والله المستعان, ومن الوصايا المهمة.
4- الرفق نعمة عظيمة, فاحرص على الرفق إن الرفق يؤثر في النفوس الكريمة, ما لا تؤثره القسوة والغلظة, والله _جل وعلا_ يقول عن نبيه _صلى الله عليه وسلم_: "فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ"(آل عمران: من الآية159), ويقول نبينا _صلى الله عليه وسلم_ في الحديث الصحيح, "ما يكون الرفق في شيء إلا زانه, ولا ينزع من شيء إلا شانه", وفي الحديث الآخر عن الطبراني بإسناد صحيح قال _عليه الصلاة والسلام_: "ما أعطي أهل بيت الرفق, إلا نفعهم, ولا منعوه, إلا ضرهم" ومن الأشياء المهمة:(115/949)
5- سعة البال وعدم الاستعجال, وطول النفس في التربية, فالتدرج والبدء بالأهم فالأهم, وعدم استعجال النتائج, هو الطريق الصواب لتربية أبنائك, لا تتأخر في التربية, أو تؤجلها عن حينها, فالزوجة تبدأ معها في أول خطوة تخطوها في بيتها الجديد, والأبناء من أول يوم أيضاً يستهلون فيه صارخين من بطون أمهاتهم.
6- قبل أن تزرع الأرض طَهِّرْها من الآفات, وامنع عنها المهلكات, ثم ازرع فيها ما تشاء, وطب نفساً ما تجني يوم الحصاد, فالحذر من فتنة الأولاد في دينهم, وصدهم عن الحق, بتوفير وسائل الشر والفساد في داخل المنزل, فإن تربية سنة, قد تهدمه وللأسف بعض وسائل الشر في دقائق معدودات وقد قيل: بدلاً من إضاعة الوقت في جمع الأوراق الطائرة, أغلق النافذة.
ثانيا: وصايا ذهبية:
• تعلم الثناء على أولادك, واشكرهم على حسن صنيعهم, وقد قال النبي _صلى الله عليه وسلم_ : "من لا يشكر الناس, لا يشكر الله" فأحسن إلى المحسنين واشكر العاملين, تثبيتاً لهم, وتحفيزاً أيضاً لهمة غيرهم, من بقية الأولاد, استغل كل وقت للتربية, بالقصة وضرب المثل, واستغلال حدث معين, أو عند ركوب سيارتك, بل عندما توصل أولادك في صبيحة كل يوم إلى مدارسهم, احرص على هذا الوقت, وحاول أن تزرع قضية تربوية في نفس الولد, من خلال قصة أو مثل, أو غير ذلك.
• لا تلق باللائمة على أي أحد عند إخفاقك في تربية أولادك, حتى وإن كان ما تقوله صحيحا فلا بد أن تعلم أنك أنت المسؤول الأول عن إسعاد أسرتك وتربيتهم,
• وقبل أن تُطالب بحقوقك, تأكد أنك تقوم بواجباتك, ادرس خصائص المراحل العمرية, وطبيعة ما يناسب كل مرحلة من الناحية العملية, فأنت أيها المربي الكريم, ينبغي أن نعلم جميعاً أن ابن السادسة غير ابن الثانية عشرة, وأن ابن الخامسة عشرة غير الطفل الصغير الذي لا يزال في السنوات الأولى من عمره, إن لكل واحد منهم خصائص تميزه, لذلك لا بد للإنسان أن يطلع على تلك الخصائص, وأن يعرف ما الذي يميز هذا, حتى يستطيع أن يتعامل معه التعامل الصحيح المناسب لهذه السن التي يعيش فيها هذا الولد, الشمولية في التربية لأبنائنا, في جوانب التربية المختلفة, الإيمانية والعلمية والاجتماعية والنفسية والأخلاقية والسلوكية والمهنية والجمالية وغيرها من الأشياء, فليس صحيحاً أن الإنسان يركز على جانب معين, ثم يغفل الجوانب الأخرى.
• إن من الأشياء المثيرة التي نراها في حياتنا أن كثير من الناس وللأسف يحرصون على تفوق أطفالهم دراسياً وهذا حسن, ولكن المشكلة أنهم لا يحرصون على تفوق أولادهم دينياً فتجد هذا الابن حريصا على دراسته مهتما بها, لكنه مفرط تفريطا كبيرا في مسألة الحرص على الصلاة وغيرها من شعائر الدين التي فرضها الله -_عز وجل_- على عباده, ولهذا ندعو المربين جميعاً إلى التوازن بتحقيق جوانب التربية كلها, فلا يطغى الجسد, على حساب الروح والعقل, ولا العقل أيضاً على حساب الروح والجسد.
• ثم من الوصايا المهمة, النظر إلى غاية التربية, وهي تهذيب الإنسان وإصلاحه لتحقيق العبودية لله تبارك وتعالى, ومن هذه الوصايا التربوية المهمة الرحمة بالأولاد(115/950)
والتصابي معهم, ولهذا حفظ لنا التاريخ قصة جميلة عن أحد عمال عمر ابن الخطب _رضي الله عنه_ فقد دخل هذا العامل على عمر _رضي الله عنه_ فوجده مستلقياً على ظهره, وصبيانه يلعبون على بطنه فأنكر ذلك عليه فقال له عمر: كيف أنت مع أهلك؟ , قال: إذا دخلت سكت الناطق, فقال عمر له: اعتزل, فإنك إن كنت لا ترفق بأهلك وولدك, فكيف ترفق بأمة محمد _صلى الله عليه وسلم_,
وثمة وصايا أيها الإخوة والأخوات إدارية مبثوثة في كتب الإدارة وفي غيرها أيضاً من الكتب, هي من الوصايا المهمة التي ينبغي أن يعتني بها المربي في أثناء تربيته لأولاده, من هذه الوصايا:
• دقيقة تخطيط أفضل من ساعة مناقشة عن أسباب الفشل.
• من أساسيات التحفيز احترام الأخر والثقة بقدراته.
• إذا أردت أتباع المتميزين علمهم أن يكونوا أحرارا.
• تذكر رسالتك دائماً, وفكر فيها عملياً.
• من لم تكن له بداية محرقة, لم تكن له نهاية مشرقة.
• الخطة الناجحة يتبناها الجميع, ويتحمسون لتنفيذها.
• ثم آخر هذه الوصايا: لا بد من الرقابة في بيوتنا, ليس للتخول ولكن لمنع التفريط.
ثالثا: لأجل أن تنجح برامجنا التربوية:
إن البرامج التي نسعى لتطبيقها في حياتنا العائلية, وحتى تحقق الهدف المنشود من ورائها, لا بد من مجموعة من القضايا المهمة, التي يجب أن يتذكرها المربون وخاصة الوالدان في بداية طرح هذه البرامج في داخل بيوتهم.
• اعقد لقاء ثنائياً بينك وبين زوجتك, لمناقشة قضايا الأولاد والاتفاق على مشروع تربيتهم, فاليد الواحدة لا تصفق.
• اجعل لكل واحد من الأبناء, ملفا في مكان أمين, توضع فيه تطورات ابنك, ومشاكله ليتم نقاشه بعد ذلك من الزوجة, أو استشارة من تثق فيه.
• لا تتأخر في بداية البرنامج, ولا تتوهم أوهاما قد تعوقك عن العمل, ومن يتهيب صعود الجبال يعش أبد الدهر بين الحفر.
• خطط برنامجك بوضوح تام, غير مغفل الرفق بأولادك, مع مراعاة دراستهم وحفظهم للقرآن, وتدرب على التخطيط واستعن بأهل الخطة في ذلك.
• حاول أن تتعرف على قدرات أبنائك, وميولهم, ورغباتهم, وأعط كل واحد منهم ما يناسبه.
• ومن القضايا المهمة, التربية الدينية مطلب أساسي, وبدونها ينهار البناء, ويضيع العمر.
• أطلع أبناءك على البرنامج بتفاصيله, واستمع إلى آرائهم, وإن شئت فاكتب عقداً بينك وبينهم, بالاتفاق على ما فيه, ثم التوقيع بعد ذلك من جميع أطراف الأسرة, فالخطة الناجحة هي التي يتبناها الجميع, ويتحمسون لتنفيذها, فإذا اطلع الأبناء على هذا البرنامج, وعلى هذه الخطة بتفاصيلها, فإنهم سيتحمسون لها, فإذا كان الأبناء يحسنون القراءة والكتابة, فحبذا الإهداء لهم (مفكرة) تضبط لهم مواعيدهم وأعمالهم فيها, لا ينقطع البرنامج بانقطاعك بسفر أو نحوه, أعلن موعد البرنامج في مكان(115/951)
بارز, لا بأس بدعوة الأقارب والأرحام في بعض الأوقات, لبعض فقرات البرنامج, وضوح الهدف من هذه البرامج وأنه لإشاعة ذكر الله _تعالى_, ورفع الجهل عن النفس, لتكن لكم منهجية واضحة في تربية الأبناء والحياة داخل المنزل.
• ليكن شعار الجميع في داخل المنزل التعاون, وليتحقق هذا, لا بد من توزيع الأدوار داخل البيت, وإشراك الأبناء في هذا التعاون.
يتبع- (انتهى الجزء الأول من سلسلة "جدد حياتك العائلية " للشيخ على الزباني)
ـــــــــــــــــــ
علاقة أدب الأطفال الإسلامي بالتربية
إعداد/ معمر الخليل
27/2/1427
ارسل تعليقك ...
تعليقات سابقة ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
في بحث له حمل عنوان "علاقة أدب الأطفال الإسلامي بالتربية"، جاء ضمن ندوة "منهج الأدب الإسلامي في أدب الأطفال" لرابطة الأدب الإسلامي العالمية في الرياض، يلقي الدكتور محمد شاكر سعيد(*) ضوءاً مركّزاً على أهمية الاستفادة من أدب الأطفال، في تربية النشء الجديد، وفي إدخال مفردات التربية والأخلاق الإسلامية في وجدان وعقل الطفل.
ويؤكد الدكتور سعيد على أهمية التربية، كعلم تطبيقي ونظري، في حياة المجتمعات والأفراد؛ لأنها تلعب دوراً مهماً في تنشئة الأبناء وإعدادهم بما يتناسب مع تطلعات مجتمعاتهم وأهدافها، ولأنها تقوم بدور فاعل في المحافظة على "تراث الأمة" و"تقاليدها"، كما أنها أداة تقدم المجتمعات وتطويرها وإغنائها، من خلال توفير سبل التفاعل مع المعرفة المتطورة للأفراد، وتنمية شخصياتهم ليكونوا قادرين على مواجهة المشكلات بجهودهم الذاتية، ومهاراتهم المكتسبة.
ويقدم تصوره عن معنى (التربية) في الإسلام قائلاً: "إن (التربية) في التصور الإسلامي تعني: تنشئة الأطفال وإعدادهم للدنيا والآخرة، ورعاية نموهم رعاية شاملة لجميع جوانب النمو الجسدي والنفسي والعقلي والاجتماعي والخلقي والروحي. وهدفها الأسمى هو: أن تنتج النموذج، وتنقل التراث، وتساعد الفرد على التوافق مع أفراد المجتمع وأهدافه ومتطلباته".
إن (التربية) في التصور الإسلامي تعني: تنشئة الأطفال وإعدادهم للدنيا والآخرة، ورعاية نموهم رعاية شاملة لجميع جوانب النمو الجسدي والنفسي والعقلي والاجتماعي والخلقي والروحي
وينتقل الدكتور سعيد إلى أدب الأطفال، كأحد الأشكال التي تدخل سريعاً في قلب الطفل، حيث يرى أن أدب الأطفال يشكل وجدان الطفل، وينمي عواطفه، ويساعده(115/952)
على ضبط انفعالاته، ويسهم في نمو لغته، وتشكيل قيمه، وإمداده بالمعلومات، وتنمية مشاعر الولاء والانتماء للأمة والوطن.
ويؤكد على أهمية الاستفادة من هذا العلم في التربية بالقول: "إننا نؤكد أن "أدب الأطفال" يعد من أهم الوسائط التي تسهم في "تربية" الطفل وإعداده لمواجهة تحديات عصره ومستقبله إلى جانب الوسائط التربوية الأخرى؛ لأننا عن طريقه نستطيع أن نكرس في نفوس الأطفال مجموعة القيم الاجتماعية، والأخلاقية، والوطنية، والقومية، والجسمانية، والترويحية، وتكامل الشخصية، وقيم الحياة العامة التي إذا أُحسن بناؤها في نفوسهم فقد ضمنا جيلاً لا يشكل عبئاً على مجتمعه، ولا يكون مصدر خطر على الحياة والعالم".
التربية مسؤولية دينية:
ويجد الدكتور محمود أهمية الازدواج الحاصل بين شقي الجملة، موضحاً أنه إذا كانت "التربية" تسعى إلى تغيير ما في نفس الفرد عن طريق تنمية مواهبه، وتعديل سلوكه وميوله وإصلاح سيرته؛ فإن "الأدب" يستطيع أن يحقق للتربية ما تسعى إليه بجهد أقل وبأسلوب أيسر مما لو اتُّخذت إجراءات تربوية طويلة إذا كان ذلك الأدب خَيِّراً.
فهل يتعاون أدباؤنا وتربويونا لإدخال مفهوم "التربية الإسلامية المتكاملة" لأطفالنا؟؟؟
هذا ما تدعو إليه هذه الدراسة من خلال تعاون الأدباء والمفكرين الذين يسعون إلى إيجاد طفولة إسلامية سعيدة واعدة، وإعداد أطفالنا لمستقبل باهر واعد، وبعلاقة تكاملية تواصلية بين "أدب الأطفال" و"التربية" مع تأكيد أن كل ما ذكرنا من مواصفات الأدب الخيِّر الموجه للأطفال لا يتوافر إلا في رحاب أدب الأطفال الإسلامي.
ويركز الدكتور في محاضرته التي ألقاها ضمن ندوة (منهج الأدب الإسلامي في أدب الأطفال) ضمن فعالية لرابطة الأدب الإسلامي العالمية في الرياض، عقدت في شهر صفر 1427هـ، على أن التربية هي مسؤولية دينية قبل أن تكون مسؤولية اجتماعية؛ مستنداً إلى أن هذا المفهوم هو واجب نصت عليه كثير من نصوص ديننا الإسلامي الحنيف، وقد عرفها بعضهم بأنها: "تنشئة الأطفال وإعدادهم للدنيا والآخرة، ورعاية نموهم رعاية شاملة لجميع جوانب النمو الجسدي والنفسي والعقلي والاجتماعي والخلقي والروحي".
لا غرابة إذا رأينا عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – يوصي ابنه عبد الرحمن قائلاً: "يا بني، احفظ محاسن الشعر يكثر أدبك، فمن لم يعرف الشعر لم يؤد حقّاً، ولم يقترف أدباً"
وهدفها الأسمى (كما يراه بعض المفكرين والتربويين) هو: أن تنتج النموذج، وتنقل التراث، وتساعد الفرد على التوافق مع المجتمع.
وكشرط لنجاح يضيف بالقول: "لا يمكن أن يتحقق هذا الهدف أو غيره من أهداف التربية إلا إذا تفاعلت التربية مع المؤسسات والوسائط التربوية الأخرى التي تلعب دوراً رئيسياً في الضبط والتكامل الاجتماعي؛ وذلك لأن الأجهزة التعليمية النظامية(115/953)
تنوء بحمل مسؤولية تربية الأجيال المتلاحقة في عصر يتسم بالديناميكية التقنية، والتفجر السكاني، والتفجر المعرفي، وفي ظل الظروف الاقتصادية والاجتماعية المتغيرة".
لذا كان لا بد للوسائط التربوية الأخرى من أن تضطلع بدورها التربوي، وأن تكون أهدافها أكثر عمقاً وأوسع شمولاً لتنمية الفرد نمواً ذاتياً متكاملاً من خلال تشجيع التفكير الإبداعي.
أخطاء في أدب الأطفال:
يشير الدكتور محمد شاكر سعيد إلى بعض الأخطاء التي يرتكبها بعض كتاب أدب الأطفال، وإغفالهم للأخلاق الإسلامية الحميدة، أو التربية الدينية القويمة، قائلاً: "لما كان كل مجتمع مرهوناً بظهور نتوءات تشذ عن القاعدة الاجتماعية في شتى الجوانب بعامة، وفي "الأدب" بخاصة؛ لذا فلا غرابة أن ترى بعض "الأدباء" يوجهون الناشئة إلى وجهات ترضي ميولهم الشخصية، ولكنها تتنافى مع التوجيه الأخلاقي العام للمجتمع، على الرغم من أن "تهذيب الأخلاق في نظر بعض المربين هو الغرض الأسمى من التربية، فإذا عني المتعلم بتغيير ما في نفسه من بعض النواحي، وأهمل هذه الناحية المهمة، كانت تربيته وبالاً عليه ومفسدة لمجتمعه؛ إذ ليس ثمة ما يمنعه من استعمال عقله وعلمه في سبيل الشر".
مشيراً إلى إدراك الأدباء السابقين لهذه السمة والنوعية من الأدب، مع ذكر أمثلة تاريخية على ذلك قائلاً: "من أجل ذلك فقد أدرك أدباؤنا القدامى هذه الحقيقة وكان الأدب يقبل أو يرفض من خلال المنظور التربوي؛ حيث كان أدباؤنا يرون أن الغايات الأخلاقية تتحقق في أغراض الشعر الخيرية، وأن ممارسة الشعر في حدود الخير إبداعاً ورواية وحفظاً تزيد القدر ونباهة الذكر، أما الأشعار التي تتناول الشر للترغيب فيه والدعوة إلى ممارسته فهي أشعار تفسد الطبائع وتثير الفتن. لذا فلا غرابة إذا رأينا عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – يوصي ابنه عبد الرحمن قائلاً: "يا بني، احفظ محاسن الشعر يكثر أدبك، فمن لم يعرف الشعر لم يؤد حقّاً، ولم يقترف أدباً"، ونقل عنه – رضي الله عنه – أنه قال: "ارووا من الشعر أعفه، ومن الأحاديث أحسنها... فمحاسن الشعر تدل على مكارم الأخلاق، وتنهى عن مساويها".
ويضيف قائلاً: "قد أدرك علماؤنا – قديماً – الأثر السلبي الذي يتركه "الأدب" في نفوس الأطفال إذا لم يقدم إليهم بطريقة صحيحة؛ حيث رأينا الجاحظ يؤكد "علاقة الأدب بالتربية" حين رأى أن ذكر السعالي والأوهام والأشباح والعوالم الخفية الأخرى التي لا وجود لها حقيقة كالسمكة التي نصفها إنساني، والنصف الآخر سمكة؛ تكون من أخطر السلبيات في تربية الأطفال فتسبب ضعفاً في إدراكهم وقصوراً في تفكيرهم".
أهمية ارتباط الأدب بالتربية الإسلامية:
وينطلق الدكتور سعيد للتركيز على أهمية ارتباط الأدب الموجه للطفل، بالتربية الإسلامية، ويقول: "من هنا فإننا نؤكد أنه لا يمكن أن نركن إلى كل نتاج أدبي يوجه للأطفال لنضمن أنه يحقق الأهداف المرجوة والأهداف التي تتوخاها "التربية" منه.(115/954)
وبناء على ذلك يبرز السؤال المهم – هنا – وهو: ما المواصفات والمعايير التي يمكن أن ترشح "أدب الأطفال" ليكون قادراً على تحقيق ما نصبو إليه من الأهداف والنتائج؟
ومع تأكيد كثير من الدراسات عدم وجود ضوابط ومعايير علمية وموضوعية تضبط صناعة النص الأدبي الموجه للأطفال من حيث الشكل والمضمون ووسائط الإيصال، وتقيم قواعد ثابتة في مجال تقويم ونقد العمل الأدبي المقدم للأطفال، وأن الأمر لا يزال متروكاً للمبادرات الفردية والقناعات الشخصية والأمزجة المختلفة، إلا أن المهتمين بالأدب الإسلامي للأطفال قد وضعوا معايير ومواصفات يمكن أن ترشح "أدب الأطفال الإسلامي" ليكون قادراً على تحقيق ما نصبو إليه من الأهداف والنتائج".
ويورد أفكاراً لأحد رواد أدب الأطفال الإسلامي، قائلاً: "أوضح الدكتور نجيب الكيلاني (وهو رائد من رواد الأدب الإسلامي وأدب الأطفال الإسلامي) الأهداف التي يمكن أن يحققها أدب الأطفال ضمن عدد من المحاور التي لخصها الدكتور عبد القدوس أبو صالح في المحاور التالية:
محور الأهداف الدينية.
محور الأهداف السلوكية.
محور الأهداف الفنية.
محور الأهداف التعليمية.
كما يعرج الكاتب على المعايير التي يجب أن يتضمنها الأدب الموجه للأطفال، مشيراً إلى ما حدده محمد أديب الجاجي (وهو من المهتمين بالأطفال وأدب الأطفال والرؤية الإسلامية لأدب الأطفال) من معايير تصلح لبناء وتقويم العمل الأدبي المقدم للأطفال، والتي حصرها في المعايير التالية:
المعيار الشرعي: لمطابقة النص الأدبي المقدم للأطفال للحقائق الشرعية والقيم العقدية والإيمانية.
المعيار العلمي: لمطابقة النص للحقائق العلمية الثابتة التي استقرت عليها نظريات العلوم في أحدث تحقيقاتها.
المعيار القيمي: لتقويم ما اشتمل عليه النص من القيم والاتجاهات كهدف يبنى عليه العمل الأدبي.
المعيار المرحلي: لمراعاة إعداد النص وفقاً لمرحلة النمو اللغوي والإدراكي للجمهور المستهدف.
المعيار الفني: لمراعاة تقديم القيمة أو المعلومة وفقاً للمواصفات الفنية والإبداعية للنوع الأدبي الموجه للأطفال، بما في ذلك مواصفات الإخراج الفني من جميع نواحيه.
المعيار المهني: لمراعاة تمتع المبدع بالثقافة الشاملة والموهبة المتألقة والخلفية المهنية اللائقة بكتابة النوع الأدبي وفق المعايير والمواصفات المقبولة.(115/955)
معيار السلامة: أي سلامة النص الأدبي من كل ما يتناقض أو يتنافى أو لا ينسجم مع المعايير اللازمة.
المعيار النقدي: الذي يضعه الأديب الناقد بين يديه وهو يحكم على "النص" أو يقومه في ضوء ما سبق من المعايير والمواصفات.
وهي تشكل مجموعة من المعايير وقواعد النقد يمكن الإفادة منها في مجالي الإبداع للطفل وتقويم ما يُنتج له من ألوان الأدب والثقافة.
ويضيف قائلاً: "إن هذه التحديات ستتضاعف مستقبلاً عن التحديات المعاصرة، وسيتفرع عنها كثير من التحديات والمشكلات مما يؤكد أن نجاح خطط التنمية في أمتنا مرهون بمقدرتها على إعداد أطفالها الإعداد الأمثل الذي يساعدهم على مجابهة التحديات ضمن المحاور التالية:
المحور الروحي والأخلاقي:
حيث إن أمتنا الإسلامية تمتلك تراثاً روحياً وعقدياً وخلقياً متميزاً تربت على أساسه أجيال أمتنا في عصورها المختلفة، وبدت آثاره جلية في تربية أبنائنا في مختلف العصور، ولكن الاحتكاك بالثقافات الأخرى، وانتشار وسائل الإعلام، والاتصال السريع؛ حتى عبر بعضهم عن ذلك بأن شبه العالم في هذا العصر بالقرية الصغيرة يعرض أبناءنا لبعض التيارات الفكرية والثقافية التي يُخشى أن يكون لها آثار سلبية على تربيتهم وأخلاقهم".
ويتابع بالقول: "يمكن أن نوظف "أدب الأطفال الإسلامي" في سبيل تربية أبنائنا وتحقيق متطلبات المحور الروحي والأخلاقي عن طريق: استغلال الأشكال الدرامية من قصة ومسرحية ومسلسلات وأشعار وغيرها في تقديم مواقف سلوكية إيجابية تسهم في غرس القيم الخلقية الأصيلة في نفوس وعقول الأطفال؛ لأن التربية الروحية للأطفال من أهم عوامل نجاحهم في حياتهم المستقبلية، ومن أهم عوامل نجاح الأمم وبقائها، حتى إن (دوركيم) شبهها بالزي المميز بقوله: "إن الأنظمة الأخلاقية [والروحية] للمجتمعات من أكثر الأنظمة أهمية لأنها بالنسبة للمجتمع تشبه السترة المميزة له". وبخاصة في وقت "بدأت فيه قوة الدين تضعف في أوروبا تدريجياً نتيجة لازدهار المادية ونمائها، مما أطلق العنان للأنانية والحقد واستغلال النفوذ والكراهية" مع ملاحظة أن اتصالنا مع تلك المجتمعات قد صار سهلاً وميسراً لكثير من أطفالنا في هذه الأيام بعد تعدد وسائل الاتصال وانتشارها.
الإكثار من الكتب التي تسهم في تعويد الأطفال ممارسة العبادات بطريقة سهلة مبسطة لزيادة ارتباطهم بخالقهم – عز وجل – لأن الابتعاد عن الالتزام الخلقي في مجال العبادات والمعاملات هو بداية الهلاك والانهيار للأمم والمجتمعات، إذ قال تعالى: "وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً" (الإسراء:16).
الإفادة من إمكانيات وسائل الإعلام المختلفة في عرض "أدب الأطفال الإسلامي" المناسب، حتى نضمن لهم مستقبلاً فاعلاً في صنع حضارة إنسانية راقية، ونجنبهم ضراوة الصراعات المادية والأخلاقية – بإذن الله -، وحتى نرسم لهم الحدود المثلى لعلاقة الأنا بالآخر".(115/956)
ويختتم هذا المحور بالقول: "إن تراثنا الديني – والحمد لله – يزخر بالمواقف والشخصيات التي يمكن الإفادة منها في هذا المحور المهم، مع تأكيدنا أن التربية الروحية للأطفال من أهم عوامل نجاحهم في حياتهم المستقبلية بطريقة تميزهم عن غيرهم من أبناء المجتمعات التي وصلت إلى ما وصلت إليه نتيجة تخليها عن الجانب الروحي في تربية أبنائها".
المحور العلمي والتكنولوجي:
وفيه يذكر الكاتب أن الصراع في العصر الحديث قائم على التفوق العلمي؛ لذا فنحن بحاجة إلى غرس القدرة على التفكير العلمي لدى أطفالنا؛ لأن "التفكير العلمي من شأنه أن يوفر أسباب الرخاء والرفاهية، وعن طريق التفكير العلمي قفز الإنسان من عصر الحجر إلى عصر المعدن، ومن عصر الدابة إلى عصر البخار، ثم عصر الكهرباء فعصر الذرة والفضاء في حقبة لا تزيد على واحد بالمئة من حياة الإنسان على الأرض" وإذا لم ينافس أطفالنا في مجال التفوق العلمي فإنهم سوف يتخلفون عن ركب الحضارة والتقدم، ويبقون عالة على من يتصدق عليهم بما يستغني عنه من المعارف والمعلومات وأسرار العلم والتكنولوجيا.
ويقول: "ويمكن أن يتم ذلك عن طريق البرامج الإذاعية والتلفزيونية، وكتب الأطفال ومجلاتهم، إلى جانب تدريبهم على جمع البيانات وتصنيفها وتحديد المشكلات، وفرض الفروض والاستنباط والتجريب وغير ذلك من عمليات التفكير العلمي؛ لأن غرس التفكير العلمي في أذهان الأطفال هو أول خطوة على الطريق الصحيح نحو تربية علمية صحيحة".
المحور الاجتماعي:
يشير الكاتب هنا إلى أن علماء النفس والتربية عندما درسوا النمو العقلي والوجداني للطفل، وجدوا أن هناك بعض الخصائص النفسية التي لو أشبعها "الأدب" لعمل على استواء شخصية الطفل واستقرارها.
فإذا ما واجه طفل إحباطاً من والديه ونظرائه؛ فإنه سينشأ لديه إحساس بالحاجة إلى الرفيق المثالي الذي يرتاح إليه، ويملأ عزلته تعويضاً عما افتقده في منزله، ومن ثم فإن "قصة" تتضمن صداقة بين شخصين – بشراً كانوا أو حيوانات – بحيث يجد كل منهما في صاحبه العون والرعاية والمؤازرة والأنس، يمكن أن تشبع لدى هذا الطفل إحساسه بالحاجة إلى الرفيق المثالي أو على الأقل ترضي هذا الإحساس بما يجعل الطفل يقبل على مثل هذه القصة وما تتضمنه من قيم ومبادئ يراد غرسها في نفسه، بالإضافة إلى الرحلة والمتعة التي تنتج من إشباع هذا الاهتمام.
المحور السياسي والتاريخي:
يقول الكاتب: "إن أخطر التحديات في العصر الحديث هي التحديات السياسية، ومن مظاهر ذلك أن بعض الشعوب تدفعها أوهامها التاريخية والأسطورية وتغريها قوتها وعنجهيتها إلى مغامرات عدوانية تستهدف أمن الغير ووجودهم واستقرارهم؛ لذا فإن من أهم واجبات المجتمعات الواعية تربية الأبناء على قيم المحبة الإنسانية ووحدة(115/957)
الوجود الإنساني، والابتعاد عن العنف والقسوة والاعتداء على الآخرين بغير حق، والابتعاد عن صفات الغلو والتطرف والتشدد".
ويتابع الدكتور محمد شاكر سعيد قائلاً: "يرى بعضهم أن "التربية" و"أدب الأطفال" يسيران في طريق واحد، وأن "أدب الأطفال" ليس إلا جهداً إضافياً أو تكميلياً يُفرض على الأطفال ويحملهم فوق ما يستطيعون.
ولهذا نؤكد أن مسألة "أدب الأطفال" ودوره في "التربية" لا تزال دون المستوى المرغوب فيه، ولا تزال بعيدة عن مكانها الذي يجب أن تصل إليه، والذي تؤكده عملية التربية الحديثة انطلاقاً من مسلمة أن الطفل هو محور العملية التعليمية وهو كذلك بالنسبة لأدب الأطفال".
ويضيف "لذا لا غرابة إذا رأينا الدكتور شكري عياد يؤكد: "أن أدب الأطفال ليس عملاً تربوياً فحسب، ولكنه عمل فني أيضاً بل هو عمل فني أولاً، وكم نشفق على الملايين من أطفالنا لأنهم لا يجدون إلا القليل من الأعمال التربوية، ولا يكادون يجدون شيئاً على الإطلاق من الأعمال الفنية!".
وهذا يؤكد أن اهتمام الأدب بجوانب النبل والفضيلة لا يجيز له أن يتخلى عن رسالته في عالم الذوق الفني والمهارة الإبداعية؛ لأن ذلك ينقله من قائمة "الأدب" إلى جاني الوعظ والإرشاد".
________________
(*) أستاذ الأدب والنقد بجامعة القاهرة ورئيس قسم اللغة العربية بكلية دار المعلمين بأبها سابقاً.
ـــــــــــــــــــ
أبو حنيفة النعمان... السيرة العطرة والشخصية القدوة 1
عبدالعزيز بن سعد الدغيثر
12/2/1427
ارسل تعليقك ...
تعليقات سابقة ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
النجاح طموح سامٍ يتمناه كل إنسان، ولذا فإن الله _تعالى_ وجه هذه الغريزة الإنسانية والفطرة البشرية لأن تكون ضمن إطارها الصحيح.
وتجد ذلك جليا في دعاء عباد الرحمن الذين نالوا رضاه _تعالى_ ومن ثم النعيم الدائم في جنان الخلد، ومن دعائهم: "وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً" (الفرقان: من الآية74).
وإمامة المتقين لا تكون إلا لمن نال قدراً كبيراً من التقوى والعلم، ولكن العلم لا يستطاع براحة الجسد، بل لا بد من بذل الجهد العظيم والوقت الكثير لتحصيل ذلك العلم. .
فإن العلم بالوحيين من إرادة الله الخير للعبد كما في قوله _تعالى_: "يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً" (البقرة: من الآية269)، وكما في قول(115/958)
رسول الله _صلى الله عليه وسلم_:" من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين". أخرجه البخاري ومسلم من حديث معاوية.
والعلم بالشرع طريق إلى الجنة كما في قول رسول الله _صلى الله عليه وسلم_: "من سلك طريقا يطلب فيه علما سلك الله به طريقا من طرق الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضىً لطالب العلم، وإن العالم ليستغفر له من في السماوات ومن في الأرض، والحيتان في جوف الماء، وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما، إنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر" رواه أبو داود والترمذي وحسنه الأرناؤؤط، وحيث إن أصحاب المذاهب المتبوعة قد وصلوا إلى درجة عليا من الإمامة في الدين، فقد بدأت بأولهم زمنا وأكثرهم أتباعا وهو الإمام أبو حنيفة رحمه الله _تعالى_.
النجاح طموح سامٍ يتمناه كل إنسان، ولذا فإن الله _تعالى_ وجه هذه الغريزة الإنسانية والفطرة البشرية لأن تكون ضمن إطارها الصحيح
نبذة عن التعريف بالإمام:
هو الإمام الجليل أبو حنيفة النعمان بن ثابت بن زوطى , ولد رحمه الله سنة 80 هـ , كان أبو حنيفة _رحمه الله_ خزازاً يبيع الخز والأقمشة , وعن أبي يوسف قال: كان أبو حنيفة ربعة من أحسن الناس صورة وأبلغهم نطقا وأعذبهم نغمة وأبينهم عما في نفسه.
ويعد أبو حنيفة من صغار التابعين الذين يشملهم حديث ابن مسعود _رضي الله عنه_ أن النبي _صلى الله عليه وسلم_ قال: "خير الناس قرني ثم الذين يلونهم"رواه البخاري ومسلم.
وقد روى عن خلق كثير منهم: عطاء بن أبي رباح وهو أكبر شيخ له وأفضلهم على ما قال وعن الشعبي وعن جبلة بن سحيم وعدي بن ثابت وعبد الرحمن بن هرمز الأعرج وعمرو بن دينار وأبي سفيان طلحة بن نافع ونافع مولى ابن عمر وقتادة وقيس بن مسلم وعون بن عبد الله بن عتبة والقاسم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود وآخرين
أما أكبر شيوخه في الفقه فهو هو حماد بن أبي سليمان، لدرجة أن الذهبي قال عن حماد: وبه تفقه، مما يدل على أنه لازمه ملازمة كبيرة بحيث عرف به. وسبب الملازمة الطويلة لحماد قصة ذكرها من ترجم له، فقد رووا عن أبي حنيفة أنه قال: قدمت البصرة فظننت أني لا أسأل عن شيء إلا أجبت فيه فسألوني عن أشياء لم يكن عندي فيها جواب فجعلت علي نفسي ألا أفارق حماداً حتى يموت فصحبته ثماني عشرة سنة.
منزلته العلمية:
الثناء على أبي حنيفة في فقهه وتدينه وورعه وصدقه مبثوث في كتب الجرح والتعديل، قال محمد بن سعد العوفي سمعت يحيى بن معين يقول كان أبو حنيفة ثقة لا يحدث بالحديث إلا بما يحفظه ولا يحدث بما لا يحفظ.(115/959)
وقال صالح بن محمد سمعت يحيى بن معين يقول كان أبو حنيفة ثقة في الحديث وروى أحمد بن محمد بن القاسم بن محرز عن ابن معين كان أبو حنيفة لا بأس به وقال مرة هو عندنا من أهل الصدق ولم يتهم بالكذب ولقد ضربه ابن هبيرة على القضاء فأبى أن يكون قاضيا , وذكره ابن حبان في معرفة الثقات , إلا أنه لا بد من التنبيه إلى أن أبا حنيفة لم يكن من المتخصصين في رواية الحديث مع جلالته، ولذا طعن عليه جمع من أهل الحديث لوجود الخطأ في رواياته..
أما في الفقه: فقد قال الذهبي: وأما الفقه والتدقيق في الرأي وغوامضه فإليه المنتهى والناس عليه عيال في ذلك. قال ضرار بن صرد سئل يزيد بن هارون أيما أفقه الثوري أو أبو حنيفة فقال أبو حنيفة أفقه وسفيان أحفظ للحديث. وفي ترجمته من تهذيب الكمال عن روح بن عبادة قال: كنت عند بن جريج سنة خمسين يعني ومئة وأتاه موت أبي حنيفة فاسترجع وتوجع وقال: أي علم ذهب؟
وأما في العقيدة: فلم يغفل الإمام أبو حنيفة جانب العقيدة، فقد كان له مع المبتدعة صولات وجولات، فله مناظرات معهم تدل على فهم سلفي وبعد عن البدع في الجملة.
روى الخطيب بسنده، عن يحيى بن نصر، قال: كان أبو حنيفة يفضل أبا بكر وعمر، ويحب علياً وعثمان، وكان يؤمن بالأقدار، ولا يتكلم في القدر، وكان يمسح على الخفين، وكان من أعلم الناس في زمانه وأتقاهم.
وعن أبي يوسف، عن أبي حنيفة، أنه قال: من قال: القرآن مخلوق فهو مبتدع، فلا يقولن أحدٌ بقوله، ولا يصلين أحدٌ خلفه.
وأما تعظيمه للنصوص: فقد كان أبو حنيفة من أشد المعظمين للنصوص، وقد جعل منهجه ولمن تبعه أن يقدم النص على كل قول، فقد روى نوح الجامع عن أبي حنيفة أنه قال ما جاء عن الرسول _صلى الله عليه وسلم_ فعلى الرأس والعين وما جاء عن الصحابة اخترنا وما كان من غير ذلك فهم رجال ونحن رجال.
وقال وكيع: سمعت أبا حنيفة يقول: البول في المسجد أحسن من بعض القياس.
وقال أبو يوسف: قال أبو حنيفة: لا ينبغي للرجل أن يحدث إلا بما يحفظه من وقت ما سمعه.
طلابه:
وللإمام أبي حنيفة طلاب ملازمون، أخذوا عنه الفقه وطريقة الاستنباط، كما أن له طلاباً أخذوا عنه الرواية، فممن تفقه عليه زفر بن الهذيل وداود الطائي والقاضي أبو يوسف ومحمد بن الحسن وأسد بن عمرو والحسن بن زياد اللؤلؤي ونوح الجامع وأبو مطيع البلخي وغيرهم كثير جداً.
مكانته في نظر معاصريه:
ولأبي حنيفة _رحمه الله_ تأثير كبير فيمن عاصره، ونجد ذلك منثورا في طيات كلامهم عنه، فنجد عبد الله بن المبارك يقول: لولا أن الله أعانني بأبي حنيفة وسفيان كنت كسائر الناس. وعنه قال: ما رأيت رجلا أوقر في مجلسه ولا أحسن سمتا وحلما من أبي حنيفة. وقال أيضاً كما في (تهذيب الكمال): أفقه الناس أبو حنيفة ثم قال: ما رأيت في الفقه مثله(115/960)
وقال أبو نعيم: كان أبو حنيفة صاحب غوص في المسائل.
وقال عبدالله بن داود الحربي ينبغي للناس أن يدعوا في صلاتهم لأبي حنيفة لحفظه الفقه والسنة عليهم وقال سفيان الثوري وابن المبارك كان أبو حنيفة أفقه أهل الأرض في زمانه، وقال أبو نعيم: كان صاحب غوص في المسائل وقال مكي بن إبراهيم: كان أعلم أهل الأرض.
ولما انتقد بعض المثبطين القاسم بن معن في جلوسه مع صغار الطلبة بين يدي أبي حنيفة، بطريقة استفزازية، نجد الرد المليء بالحب والإعجاب بهذا العالم المربي، فقد قيل للقاسم بن معن ترضى أن تكون من غلمان أبي حنيفة قال ما جلس الناس إلى أحد أنفع من مجالسة أبي حنيفة وقال له القاسم تعال معي إليه فلما جاء إليه لزمه وقال ما رأيت مثل هذا.
وقال مكي بن إبراهيم كان أعلم أهل زمانه وما رأيت في الكوفيين أورع منه.
وقيل لمالك: هل رأيت أبا حنيفة؟ قال: نعم، رأيت رجلا لو كلمك في هذه السارية أن يجعلها ذهباً لقام بحجته.
وروى حيان بن موسى المروزي قال: سئل ابن المبارك، مالك أفقه أو أبو حنيفة قال: أبو حنيفة.
وقال الشافعي: الناس في الفقه عيال على أبي حنيفة.
علاقته بالحكام:
ابتلي أبو حنيفة بالسلطة السياسية في وقته فقد جربوا معه فتنة المال وفتنة السجن فلم يهتز أو يتأثر، قال عبد الله بن المبارك: ما رأيت أحداً أورع من أبي حنيفة وقد جرب بالسياط والأموال.
وفد كان لأبي حنيفة مصادمات مع الولاة، فقد كان يرفض الأوامر الخاصة كتوليته القضاء، وقد روي من غير وجه أن الإمام أباحنيفة ضرب غير مرة على أن يلي القضاء فلم يجب، فقد كان ابن هبيرة قد أراده على القضاء في الكوفة أيام مروان الجعدي فأبى وضربه مئة سوط وعشرة أسواط كل يوم عشرة وأصر على الامتناع فخلى سبيله، وكان الإمام أحمد إذا ذكر ذلك ترحم عليه.
وعن مغيث بن بديل قال دعا المنصور أبا حنيفة إلى القضاء فامتنع فقال: أترغب عما نحن فيه فقال: لا أصلح، قال: كذبت. قال: فقد حكم أمير المؤمنين علي أني لا أصلح فإن كنت كاذباً فلا أصلح وإن كنت صادقاً فقد أخبرتكم أني لا أصلح فحبسه.
محفزات للاستمرار:
من توفيق الله _تعالى_ أن تهيأت له أسباب لطلب العلم والاستمرار فيه، فمن تلك الأسباب:
فقد وفقه الله _تعالى_ للتعلم على يد حماد الفقيه وملازمته السنوات الطوال.
ومن ذلك استغناؤه بالتجارة عن الحاجة للولاة ومنتهم، قال الذهبي عنه: كان لا يقبل جوائز السلطان بل يتجر ويتكسب, وفي شذرات الذهب: وكان لا يقبل جوائز الدولة بل ينفق ويؤثر من كسبه له دار كبيرة لعمل الخز وعنده صناع وأجراء رحمه الله _تعالى_. وهذا يدل على أنه لم تشغله التجارة عن العلم، بل يشرف على عملهم ويستعين بالثقات في إدارة تجارته.(115/961)
وفي الرؤى مبشرات للمؤمنين، فقد جاء عنه أنه قال: رأيت رؤيا أفزعتني رأيت كأني أنبش قبر النبي _صلى الله عليه وسلم_ فأتيت البصرة فأمرت رجلا يسأل محمد بن سيرين فسأله فقال: هذا رجل ينبش أخبار رسول الله _صلى الله عليه وسلم_.
مظاهر القدوة في شخصية أبي حنيفة:
احترامه وتقديره لمن علمه الفقه، فقد ورد عن ابن سماعة، أنه قال: سمعت أبا حنيفة يقول: ما صليت صلاة مُذ مات حماد إلا استغفرت له مع والدي، وإني لأستغفر لمن تعلمت منه علماً، أو علمته علما.
ومن السمات المميزة لأبي حنيفة سخاؤه في إنفاقه على الطلاب والمحتاجين وحسن تعامله معهم، وتعاهدهم مما غرس محبته في قلوبهم حتى نشروا أقواله وفقهه، ولك أن تتخيل ملايين الدعوات له بالرحمة عند ذكره في دروس العلم في كل أرض. نسأل الله من فضله، ونسأل الله لإمامنا أن يتغمده بواسع رحمته، ومن عجائب ما ورد عنه أنه كان يبعث بالبضائع إلى بغداد، يشتري بها الأمتعة، ويحملها إلى الكوفة، ويجمع الأرباح عنده من سنة إلى سنة، فيشتري بها حوائج الأشياخ المحدثين وأقواتهم، وكسوتهم، وجميع حوائجهم، ثم يدفع باقي الدنانير من الأرباح إليهم، فيقول: أنفقوا في حوائجكم، ولا تحمدوا إلا الله؛ فإني ما أعطيتكم من مالي شيئا، ولكن من فضل الله عليَّ فيكم، وهذه أرباح بضاعتكم؛ فإنه هو والله مما يجريه الله لكم على يدي فما في رزق الله حول لغيره. وحدث حجر بن عبد الجبار، قال: ما أرى الناس أكرم مجالسة من أبي حنيفة، ولا أكثر إكراماً لأصحابه. وقال حفص بن حمزة القرشي: كان أبو حنيفة ربما مر به الرجل فيجلس إليه لغير قصد ولا مجالسة، فإذا قام سأل عنه، فإن كانت به فاقة وصله، وإن مرض عاده.
ومن أشد مظاهر القدوة في شخصيته تصحيحه لمفاهيم مخالفيه بالحوار الهادئ وقد كان التعليم بالحوار سمة بارزة لأبي حنيفة، وبه يقنع الخصوم والمخالفين
حرصه على هيبة العلم في مجالسه، فقد ورد عن شريك قال كان أبو حنيفة طويل الصمت كثير العقل.
الاهتمام بالمظهر والهيئة، بما يضفي عليه المهابة، فقد جاء عن حماد بن أبي حنيفة أنه قال: كان أبي جميلا تعلوه سمرة حسن الهيئة، كثير التعطر هيوباً لا يتكلم إلا جواباً ولا يخوض _رحمه الله_ فيما لا يعنيه. وعن ابن المبارك قال: ما رأيت رجلا أوقر في مجلسه ولا أحسن سمتاً وحلماً من أبي حنيفة.
كثرة عبادته وتنسكه _رحمه الله_، فقد قال أبو عاصم النبيل كان أبو حنيفة يسمى الوتد لكثرة صلاته، واشتهر عنه أنه كان يحيى الليل صلاة ودعاء وتضرعا. وذكروا أن أبا حنيفة _رحمه الله_ صلى العشاء والصبح بوضوء أربعين سنة. وروى بشر بن الوليد عن القاضي أبي يوسف قال بينما أنا أمشي مع أبي حنيفة إذ سمعت رجلاً يقول لآخر هذا أبو حنيفة لا ينام الليل فقال أبو حنفية والله لا يتحدث عني بما لم أفعل فكان يحيى الليل صلاة وتضرعا ودعاء , ومثل هذه الروايات عن الأئمة موجودة بكثرة، والتشكيك في ثبوتها له وجه، لاشتهار النهي عن إحياء الليل كله، وأبو حنيفة _رحمه الله_ قد ملأ نهاره بالتعليم مع معالجة تجارته، فيبعد أن يواصل الليل كله. ولكن عبادة(115/962)
أبي حنيفة وطول قراءته أمر لا ينكر، بل هو مشهور عنه _رحمه الله_. فقد روي من وجهين أن أبا حنيفة قرأ القرآن كله في ركعة.
خوفه من الله _تعالى_، فقد روى لنا القاسم بن معن أن أبا حنيفة قام ليلة يردد قوله _تعالى_ " بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر " القمر 46 ويبكي ويتضرع إلى الفجر.
ومن مظاهر القدوة شدة ورعة، وخصوصا في الأمور المالية، فقد جاء عنه أنه كان شريكاً لحفص بن عبد الرحمن، وكان أبو حنيفة يُجهز إليه الأمتعة، وهو يبيع، فبعث إليه في رقعة بمتاع، وأعلمه أن في ثوب كذا وكذا عيباً، فإذا بعته، فبين. فباع حفص المتاع، ونسى أن يبين، ولم يعلم ممن باعه، فلما علم أبو حنيفة تصدق بثمن المتاع كله.
تربيته لنفسه على الفضائل كالصدقة، فقد ورد عن المثنى بن رجاء أنه قال جعل أبو حنيفة على نفسه إن حلف بالله صادقا أن يتصدق بدينار وكان إذا أنفق على عياله نفقة تصدق بمثلها.
وله رحمه الله حلم عجيب مع العوام، لأن من تصدى للناس لا بد وأن يأتيه بعض الأذى من جاهل أو مغرر به، ومن عجيب قصصه ما حكاه الخريبي قال: كنا عند أبي حنيفة فقال رجل: إني وضعت كتابا على خطك إلى فلان فوهب لي أربعة آلاف درهم فقال أبو حنيفة إن كنتم تنتفعون بهذا فافعلوه. وقد شهد بحلمه من رآه، قال يزيد بن هارون ما رأيت أحدا أحلم من أبي حنيفة , وكان ينظر بإيجابية إلى المواقف التي ظاهرها السوء، فقد قال رجل لأبي حنيفة اتق الله فانتفض واصفر وأطرق وقال جزاك الله خيرا ما أحوج الناس كل وقت إلى من يقول لهم مثل هذا , وجاء إليه رجل، فقال: يا أبا حنيفة، قد احتجت إلى ثوب خز , فقال: ما لونه؟ قال: كذا، وكذا , فقال له: اصبر حتى يقع، وآخذه لك، _إن شاء الله تعالى_ , فما دارت الجمعة حتى وقع، فمر به الرجل، فقال: قد وقعت حاجتك، وأخرج إليه الثوب، فأعجبه، فقال: يا أبا حنيفة، كم أزن؟ قال: درهماً , فقال الرجل: يا أبا حنيفة ما كنت أظنك تهزأ , قال: ما هزأت، إني اشتريت ثوبين بعشرين ديناراً ودرهم، وإني بعت أحدهما بعشرين ديناراً، وبقي هذا بدرهم، وما كنت لأربح على صديق.
الجدية والاستمرار وتحديد الهدف، فقد وضع نصب عينيه أن ينفع الأمة في الفقه والاستنباط، وأن يصنع رجالا قادرين على حمل تلك الملكة.
ترك الغيبة و الخوض في الناس فعن ابن المبارك: قلت لسفيان الثوري، يا أبا عبد الله، ما أبعد أبا حنيفة من الغيبة، وما سمعته يغتاب عدوا له قط. قال: هو والله أعقل من أن يسلط على حسناته ما يذهب بها. بل بلغ من طهارة قلبه على المسلمين شيئا عجيبا، ففي تاريخ بغداد عن سهل بن مزاحم قال سمعت أبا حنيفة يقول: "فبشر عباد الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه" قال: كان أبو حنيفة يكثر من قول: اللهم من ضاق بنا صدره فإن قلوبنا قد اتسعت له.
ومن أهم مظاهر القدوة في شخصيته حرصه على بناء شخصيات فقهية تحمل عنه علمه، وقد نجح أيما نجاح. ومن طريف قصصه مع تلاميذه التي تبين لنا حرصه على تربيتهم على التواضع في التعلم وعدم العجلة , كما في (شذرات الذهب): لما(115/963)
جلس أبو يوسف _رحمه الله_ للتدريس من غير إعلام أبي حنيفة أرسل إليه أبو حنيفة رجلا فسأله عن خمس مسائل وقال له: إن أجابك بكذا فقل له: أخطأت، وإن أجابك بضده فقل له: أخطأت فعلم أبو يوسف تقصيره فعاد إلى أبي حنيفة فقال "تزبيت قبل أن تحصرم" – يعنى تصدرت للفتيا قبل أن تستعد لها فجعلت نفسك زبيبا وأنت لازلت حصرما –.
ومن أشد مظاهر القدوة في شخصيته تصحيحه لمفاهيم مخالفيه بالحوار الهادئ وقد كان التعليم بالحوار سمة بارزة لأبي حنيفة، وبه يقنع الخصوم والمخالفين، وروى أيضا عن عبد الرزاق قال: شهدت أبا حنيفة في مسجد الخيف فسأله رجل عن شيء فأجابه فقال رجل: إن الحسن يقول كذا وكذا قال أبو حنيفة أخطأ الحسن قال: فجاء رجل مغطى الوجه قد عصب على وجهه فقال: أنت تقول أخطأ الحسن ثم سبه بأمه ثم مضى فما تغير وجهه ولا تلون ثم قال: إي والله أخطأ الحسن وأصاب بن مسعود.
ومن مظاهر القدوة عدم اعتقادة أنه يملك الحقيقة المطلقة، وأن غيره من العلماء على خطأ، فقد جاء في ترجمته في تاريخ بغداد عن الحسن بن زياد اللؤلؤي يقول: سمعت أبا حنيفة يقول قولنا هذا رأي، وهو أحسن ما قدرنا عليه فمن جاءنا بأحسن من قولنا فهو أولى بالصواب منا.
وفاته:
قال الذهبي: توفي شهيداً في سنة خمسين ومئة وله سبعون سنة , وقال الفقيه أبو عبد الله الصيمري لم يقبل العهد بالقضاء فضرب وحبس ومات في السجن _رحمه الله_.
ـــــــــــــــــــ
الارتقاء بتلقي الأخبار وروايتها.. نظرة شرعية
معمر الخليل
6/2/1427
ارسل تعليقك ...
لا توجد تعليقات ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
تشهد حياتنا المعاصرة؛ طفرة في تعدد وسائل الإعلام وتناقل الأخبار ومتابعة الأحداث المحلية والعالمية، وسط كم هائل من المعلومات المتداخلة في كثير من أوجهها.
وربما كانت التكنولوجيا الحديثة، وسهولة التواصل، وسرعة الاتصال، إحدى أهم العوامل التي ساعدت في تحوّل عصرنا إلى عصر المعلومات.
والمتابع منّا يعجب أحياناً من التناقض الحاصل في المعلومات التي توردها بعض وسائل الإعلام، المحلية أو العالمية. ما يجعل المتابع متحيّراً في أمره، أي الفريقين يصدّق. وهذا ما يحتّمه النقل الغير مسؤول لبعض أوجه الأحداث، وتسييس جميع الأمور بما يخدم مصلحة الوسيلة الإعلامية، ومالكها أو ممولها.. ما يؤكد باستمرار، أنه لا يوجد إعلام حيادي.(115/964)
ولطالما كان لكل مهنة أخلاقيات وسلوكيات تحددها قيم المجتمع الذي تنشأ أو تنتشر فيه.. ومنها كانت أخلاقيات مهنة نقل المعلومات.
الأستاذ أحمد الصويان، أحد أكفأ العاملين في مجال الإعلام في السعودية، نشر كتاباً منذ عدّة سنوات، حمل عنوان (نحو منهج شرعي لتلقي الأخبار وروايتها) عالج فيه أخلاقيات نقل وتلقي الأخبار في المجتمعات الإسلامية، انطلاقاً من المنهج الإسلامي الشريف والصادق، ليجعل الإعلام وسيلة لنشر الصدق، وغاية لكمال الأخلاق.
والمتابع منّا يعجب أحياناً من التناقض الحاصل في المعلومات التي توردها بعض وسائل الإعلام، المحلية أو العالمية. ما يجعل المتابع متحيّراً في أمره، أي الفريقين يصدّق
تحت عنوان (آفات تفسد الأخبار)، ذكر الكاتب جملة من الآفات التي تصيب الأخبار، فتفسدها، ورأى أن أهمها:
الآفة الأولى: الكذب وخطورته:
مواضع الزلل والتقصير عند الإنسان لا تكاد تنحصر في جانب دون الجوانب الأخرى، ولكن من أخطر وأسوأ ما يقع فيه الناس: الكذب، فهو صفة ذميمة، تظهر فيها الخيانة وتسقط بها المروءة، والكذب يقلب الأمور، ويُغير الواقع، ويزور الحقائق؛ فتصير العيوب محاسن والمحاسن عيوباً، ويجعل الحسن قبيحاً والقبيح حسناً، وينسب للناس خلاف ما قالوه أو فعلوه.
ويبدو أن الكذب حينما يطفو على السطح يكون ناتجاً عن تراكم مجموعة من الأخلاق المذمومة، كقلة الدين والورع، وكالحقد والحسد وغيرها، كما أن الصدق ناتج عن عفة النفس، ونبل المقصد، وإرادة الحق، وحينما تترفع النفوس عن أهوائها وشهواتها، تنساب عفة وطهارة لا ترجو إلا الله والدار الآخرة.
قال الله _تعالى_: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ" (التوبة:119).
وقال الله _تعالى_: "إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ" (النحل:105).
وعن ابن أبي مُليكة أن عائشة – رضي الله تعالى عنها – قالت: "ما كان خُلُق أبغض إلى رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ من الكذب، ولقد كان الرجل يكذب عند رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ الكذب، فما يزال في نفسه عليه حتى يعلم أنه قد أحدث منها توبة".
الكذب من أجل المصلحة:
من أعجب مكائد الشيطان – أخزاه الله تعالى – على بعض الدعاة: أن الواحد منهم قد يفتري الكذب قصداً على بعض إخوانه الدعاة انتصاراً لنفسه أو لفئته، ويسوِّغ لنفسه هذا المزلق الخطير من بال: "مصلحة الدعوة"!!
فقد يتهم صاحبه بالجهل... أو بقلة الدين... أو حتى بالعمالة.. وهو يعلم يقيناً أنه منها بريء، ولكن مصلحة الدعوة – بزعمه – تقتضي هذه المخادعة!
ذكر بعض الحقيقة وإخفاء بعضها:
في هذا الباب، يقول الأستاذ الصويان: إن من أخطر أنواع الكذب وأشدها فاعلية وأكثرها خفاءً: ذكر بعض الحقيقة وإخفاء بعضها؛ لأن الناقل يُعطي بذلك صورة(115/965)
ناقصة مبتورة لا تُمثل الواقع بتمامه، فمن الناس من ينتقي ما يوافق هواه من الخبر ويحذف ما بقي منه، وهو بذلك لا يُعطيك إلا شطراً واحداً من الحقيقة ويدفن ما سواه، أو يقطع الخبر من سياقه والملابسات المحيطة به؛ فيكون الخبر غفلاً من قضايا أخرى لازمة لتكميل القضية ووضوحها.
التوسع في المعاريض:
بعض الصالحين يحفظه الله – عز وجل – من الكذب فلا يقع فيه ولا يتجاسر عليه، لكنه قد لا يسلم من المعاريض المحتملة لأكثر من وجه، فيُسرف فيها إسرافاً شديداً، والمعاريض إذا لم توضع في موضعها الشرعي الصحيح تصبح نظيرة للكذب!
وإذا كان متلقي الخبر فطناً يقظاً استطاع أن يُميز الخبر المكذوب المختلق والخبر المنقوص المبتور، كما استطاع بذكائه وبصيرته أن يُميز المعاريض من غيرها، ويتعامل مع كل حدث بما يستحقه من الحكمة والبصيرة.
قال ابن تيمية: "والرجل الصادق البار يظهر على وجهه من نور صدقه، وبهجة وجهه سيما يُعرف بها، وكذلك الكاذب الفاجر".
ومن مخاطر التوسع في المعاريض: أن الحقيقة إذا ما ظهرت للسامع بخلاف ما فهمه من التعريض ظنّ أن محدِّثه كاذباً، وهو ليس كذلك.
خطورة الكذب:
خطورة الكذب تكمن في أن مرتكبه قد ينسف بخبر واحد مكذوب أو منقوص أعمالاً جليلة ومكانة سامقة، ويرمي بالكذبة لا يُلقي لها بالاً تبلغ من خطورتها وضررها آفاقاً بعيدة، فقد يسقط الرجل عند الناس من الثُّريا إلى الثرى بكلمة واحدة ملفقة!
من أجل ذلك كان التحذير من الكذب بالغاً، والعقوبة المترتبة على فعله في غاية الشدة، حتى يكون المسلم أبعد ما يكون عن هذه الآفة المهلكة.
الآفة الثانية: الشائعة:
ويرى الأستاذ الصويان أن الآفة الثانية في نقل الأخبار، هي آفة الكذب، ويتابع في كتابه قائلاً: " قال ابن منظور في (لسان العرب): "شاع الخبر في الناس يَشيع شَيْعاً وشَيَعاناً ومَشاعاً وشَيْعُوعة، فهو شائعٌ: انتشر وافترق وذاع وظهر، وأشاعه هو وأشاع ذِكْر الشيء: أطاره وأظهره، وقولهم: هذا خبر شائع، وقد شاع في الناس؛ معناه: قد اتصل بكل أحد فاستوى علم الناس به، ولم يكن علمه عند بعضهم دون بعض، والشاعة: الأخبار المنتشرة".
والشائعات بمعناها الاصطلاحي: "عبارة عن أقوال أو أخبار أو أحاديث يختلقها البعض لأغراض خبيثة، ويتناقلها الناس بحسن نية، دون التثبت في صحتها، ودون التحقق من صدقها".
ويُعرفها بعضهم بأنها: "عبارة عن نبأ أو حدث مجرد من أية قيمة يقينية، ينتقل من شخص لآخر، قادر على زعزعة الرأي العام أو تجميده".
والإشاعة في أغلب الأحوال ما هي إلا تضخيم للأخبار الصغيرة، وإظهارها بصورة تختلف عن صورتها الحقيقية، أو هي تسخير للأخبار المكذوبة وطلاؤها بطلاء براق يلفت إليها الانتباه، من أجل إشاعة الفُرقة والبغضاء بين العباد، ثم تسري هذه الأخبار بعد ذلك سيراً وبائياً بين الصفوف التي تكون – في أغلب الأحوال – لسوء التربية،(115/966)
ولغياب الموازين العلمية المعتمدة في القبول والرد، ولغياب المرشدين الأمناء مرعىً خصيباً لمثل هذه الشائعات.
والإشاعة هي بداية الاختلاف والتفرق، وسرعان ما ينتهي الحال إلى معركة دامية تُسلُّ فيها الألسن، وتسقط فيها القيم والمثل، وربما يُشهر فيها السلاح. نسأل الله السلامة..!
وحسبك أن تصغي إلى أحاديث الناس في منتدياتهم العامة، بل وفي مجتمعاتهم الخاصة، لتسمع ضجيج الشائعات يطغى على كل شيء، وسأترك الأمر للقارئ الكريم ليتأمل في حال الناس من حوله، وينظر كم تتغير الأحوال وتتبدل القلوب، بسبب ذلك الهراء الذي يُشيعه بعض الناس بين آونة وأخرى...؟!
وتبدأ الشائعات عادة بكلمة صغيرة ثم يزيدها الناس من هنا وهناك: "حتى تصّاعد في سرعة إلى عنان السماء، فتحجب عن الرأي – أو تكاد – آفاق الرؤية الواضحة، وتسد أمام ناظريه السبيل، فلا يرى جبال الحقائق الموضوعية الراسخة، هذه التي تحدد قممها في سماء صافية من المنطق".
والنفوس مجبولة على التطلع إلى غرائب الأخبار ونوادر الحوادث، فأنت ترى أن الأنظار تنجذب إلى ذلك المرء الذي يثير الأخبار من هنا وهناك ولو لم تكن ثابتة، ولقد أثبتت الأيام بما لا يدع مجالاً للشك، أن الشهرة والسمعة تكون دائماً حليف المرء الذي يُحسن عرض الشائعة، ويُزينها بآهات التحسر وإظهار الغيرة على الدين وأهله!!
ويرى الأستاذ الصويان أن الإشاعة تتولد عادة من خلال إحدى ثلاث حالات:
1 – إيجاد خبر لا أساس له من الصحة.
2 – تلفيق خبر لجزء منه نصيب من الصحة.
3 – المبالغة الجسيمة في نقل خبر ينطوي على بعض العناصر الصحيحة.
نماذج للشائعات:
التاريخ الإسلامي مليء بالحوادث والأخبار التي ظهرت فيها الآثار السلبية للشائعات، أقتصر على ذكر مثالين فقط:
المثال الأول:
من الحوادث المزعجة التي حصلت في تاريخ هذه الأمة: (قصة الإفك المشهورة) حيث كانت تلك الفرية الآثمة التي أشاعها بعض المنافقين، ورددها بعض المؤمنين بدون تورع أو تثبت، من أثقل ما مرَّ على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل بيته وصحبه الكرام – رضي الله تعالى عنهم أجمعين-.
المثال الثاني:
نقل ابن هشام – رحمه الله تعالى – عن ابن إسحاق – رحمه الله تعالى – قال: "بلغ أصحاب رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ الذين خرجوا إلى أرض الحبشة إسلام أهل مكة، فأقبلوا لما بلغهم ذلك، حتى إذا دنوا من مكة، بلغهم أن ما كانوا تحدثوا به من إسلام أهل مكة كان باطلاً، فلم يدخل منهم أحد إلا بجوار أو مستخفياً".
فهذا الخبر يبين أن أهل مكة أشاعوا كذباً إسلام قريش، حتى يضمنوا رجوع المهاجرين المسلمين من الحبشة، وفعلاً استبشر المسلمون بهذا النبأ، ورجع بعضهم(115/967)
ثم علموا بطلان هذه الفرية، فلم يستطيعوا دخول مكة خفية أو محتمين إلا بجوار أحد من المشركين!
الحذر من ترويج الشائعات:
قد يُصبح المرء الصالح مطية يروِّج بعض الأخبار الشائعة المكذوبة من حيث لا يدري، فهو يتقبل الأخبار أياً كان مصدرها، دون تفكير متزن ولا وعي بمقتضى هذه الأخبار ومقاصدها، وإنما عن تلقين أو تقليد من غير تأمل أو نظر..!
قال جوزيف دي مستير: "الآراء الكاذبة كالعملة المزيفة، يسكها مجرمون عتاة، ثم يتداولها أناس شرفاء، وتستمر على أيديهم الجريمة، دون أن يعلموا ماذا يفعلون؟!".
وفرق كبير جداً بين خبر يُبنى على الأدلة والبراهين والوقائع الثابتة... وآخر يبنى على الدلائل الظنية والأسانيد الواهية، ولذا جاءت توجيهات النبي _صلى الله عليه وسلم_ في غاية الوضوح والبيان والقوة، للتحذير من إشاعة أخبار لم يتبين صدقها من كذبها، فعن المغيرة بن شعبة – رضي الله تعالى عنه – قال: قال رسول الله _صلى الله عليه وسلم_: "إن الله حرَّم عليكم عقوق الأمهات، ووأد البنات، ومنعاً وهات، وكره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال".
وعند أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله _صلى الله عليه وسلم_: "كفى بالمرء إثماً أن يُحدِّث بكل ما سمع".
وفي رواية أخرى: "كفى بالمرء كذباً أن يُحدِّث بكل ما سمع".
أسباب انتشار الشائعات:
الأسباب التي تجعل الأخبار المكذوبة تشيع وتحل محل الحقائق في أذهان كثير من الناس بدون تفكير أو تدبر، أساب عديدة، منها:
أولاً: فصاحة قول المشيع وحسن منطقه، وإجادته عرض الشائعة، وهذا من أسباب رواج إشاعات المنافقين بين الناس، ولهذا قال الله عز وجل في وصف المنافقين: "وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ" (المنافقون: من الآية4)، وعن عمر بن الخطاب – رضي الله تعالى عنه – قال: قال رسول الله _صلى الله عليه وسلم_: "أخوف ما أخاف على أمتي: كل منافق عليم اللسان".
ونظير هذا ما جاء عن أم سلمة – رضي الله تعالى عنها_ قال: قال رسول الله _صلى الله عليه وسلم_: "إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إليّ، فلعلَّ بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له على نحو ما أسمع، فمن قضيت له بحق مسلم؛ فإنما هي قطعة من النار فليأخذها أو ليتركها".
وكما قال أحد الشعراء:
في زخرف القول تزيين لباطله ... ...
والحق قد يعتريه سوء تعبير
ثانياً: كون المشيع ممن تميل إليه قلوب سامعيه، إما بسبب الصحبة أو التحزب أو التمشيخ، أو غيرها، وهذا يمنع السامع من البحث والنظر فيما يُنقل إليه.
وإحسان الظن لدرجة الغفلة وعدم التثبت سذاجة غير محتملة من شباب الصحوة ودعاتها – على الإطلاق!(115/968)
ينبني على ذلك أن من الناس من لم يرزقه الله بصيرة ناقدة، بل يُردد ما يقوله الناس كالإمعة الذي لا يدري ما يقول! وقد جاء في وصية الإمام علي بن أبي طالب – رضي الله تعالى عنه – لكُميل بن زياد النَخعي قوله: "الناس ثلاثة: فعالم رباني، ومتعلِّم على سبيل النجاة، وهَمَجٌ رِعاعٌ أتباع كل ناعق، يميلون مع كل ريح، لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجؤوا إلى ركن وثيق".
وكما قال العلامة الفحل ابن خلدون – رحمه الله تعالى -: "فالتحقيق قليل، وطرف التنقيح في الغالب كليل، والوهم نسيب للأخبار وخليل، والتقليد عريق في الآدميين وسليل".
ثالثاً: موافقة الخبر هوىً في نفس السامع، كأن يرى في هذا الخبر انتصاراً لنفسه وفئته، أو تقليلاً من قدر الفئات الأخرى، وهذه ظاهرة نفسية عجيبة لا مجال لإنكارها أو التغاضي عنها، فإنها تفتك بالقلوب، وتمزِّق وحدة الصفوف، وإلى هذا أشار العلامة ابن خلدون – رحمه الله تعالى – بقوله: "ولما كان الكذب متطرقاً للخبر بطبيعته وله أسباب تقتضيه: فمنها التشيُّعات للآراء والمذاهب، فإن النفس إذا كانت على حال الاعتدال في قبول الخبر أعطته حقه من التمحيص والنظر حتى تتبين صدقه من كذبه، وإذا خامرها تشيُّع لرأي أو نحلة قبلت ما يوافقها من الأخبار لأول وهلة، وكان ذلك الميل والتشيُّع غطاءً على عين بصيرتها من الانتقاد والتمحيص، فتقع في قبول الكذب ونقله".
رابعاً: أن تتسم الوقائع الحقيقية بشيء من الغموض.
خامساً: الفراغ؛ حيث يشغل الفارغون الباطلون أوقاتهم بالقيل والقال، ويصبح جل همهم البحث والتنقيب في أحوال الناس. وأسوأ ما يكون ذلك عند بعض من ينتسب إلى العلم والدعوة والدعاة، حيث تستهلك الطاقات والأوقات في أخبار الناس، ويصبح شغلهم في لحوم الناس وأعراضهم. ومن تدنَّت همته ولم يجد بيئة كريمة تدفعه إلى العطاء والإنجاز؛ ولغ في حضيض التفاهة ولم يعرف إلا بالقيل والقال..!!
ملامح المنهج الشرعي للتعامل مع الأخبار:
يستعرض الكاتب الآفات التي تصيب الأخبار، وصولاً إلى تقديم الرؤية الشرعية الصحيحة لمسألة نقل الأخبار والتثبّت منها، وفي ذلك يستعرض:
أولاً: التثبت في الأخبار:
تمتلك هذه الأمة – بفضل من الله – تعالى – ومنِّه – أعظم منهاج في تنقيح الأخبار والمرويات، وقد بنى أئمتنا الكرام – رضي الله تعالى عنهم – هذا المنهاج الكريم على أسس قويمة وضوابط علمية دقيقة لا لبس فيها ولا غموض، فميزوا بين الثقات والمجروحين من الرواة، والصحيح والضعيف من المرويات، بكل تثبت وإنصاف، بعيداً عن الأهواء الشخصية، والتعصبات المذهبية.
ولم تظهر آثار هذا المنهاج الكريم في تنقيح السنة النبوية المشرفة فحسب – وإن كان هذا هو أبرز المجالات وأجلها – بل تعداه ليشمل جوانب متعددة من الفكر الإسلامي، كالتاريخ ورجاله، والأدب ورجاله وغيرها.
وفي هذا العصر الذي اندرس فيه منار الإسلام، واختلطت فيه السبل، نحتاج إلى إحياء هذا المنهاج لكي يتضح الطريق، ونعرف الحق من الباطل، ونميز أقدار(115/969)
الرجال ومنازلهم، ورحم الله إمام دار الهجرة مالك بن أنس إذ يقول: "ما في زماننا شيء أقل من الإنصاف". ولست أدري ماذا نقول نحن عن زماننا..؟!
الأمر بالتثبت:
جاء الأمر بالتثبت في قبول الأخبار في آية عظيمة من كتاب الله عز وجل، قال الله _تعالى_: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ" (الحجرات:6).
وعلى قراءة أخرى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَثَبَّتُوا" الآية.
قال الإمام ابن جرير – رحمه الله تعالى -: "واختلف القراء في قراءة قوله: "فتبينوا" فقرأ ذلك عامة قراء أهل المدينة "فتبينوا" بالباء، بمعنى: أمهلوا حتى تعرفوا صحته، لا تعجلوا بقبوله، وكذلك معنى فتثبتوا، والصواب من القول في ذلك: أنهما قراءتان معروفتان متقاربتا المعنى، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب".
إذاً فالتثبت أو التبين هو الأصل الذي يُبنى عليه نقل الخبر، والتأني ثم التحري في صحة النقل دليل الكياسة والفطنة وكمال العقل، فإن: "أصل العقل التثبت"، وكما قال أحد الشعراء:
قد يُدرك المتأني بعض حاجته ... ...
وقد يكون مع المستعجل الزللُ
الاعتماد على ضبط النقلة وصحة فهمهم:
من القضايا المشكلة الخفية التي قد يغفل عنها بعض الأفاضل: أنهم بادئ ذي بدء ينظرون إلى عدالة الناقل وأمانته دون النظر إلى ضبطه وإتقانه في النقل..!
وعندما تكون استجابة الإنسان استجابة عاطفية، فإنه عادة يعجز عن تمييز الحقائق، فقد يكون الناقل قد بلغ الغاية في التقوى والورع، لكنه قليل الضبط، قليل التيقظ، ضعيف الحفظ لما يسمع.
وهذا يذكرني بقول ابن أبي الزناد – رحمه الله تعالى -: "أدركت بالمدينة مئةً كلهم مأمون؛ ما يؤخذ عنهم الحديث، يقال: ليس من أهله".
وقال الإمام مالك بن أنس – رحمه الله تعالى -: "إن هذا العلم دين، فانظروا عمن تأخذونه، لقد أدركت سبعين ممن يقول: قال رسول الله _صلى الله عليه وسلم_. عن هذه الأساطين – وأشار إلى المسجد – فما أخذت عنهم شيئاً، وإن أحدهم لو ائتمن على بيت مال لكان أميناً، إلا أنهم لم يكونوا من أهل هذا الشأن".
وهي من طريف ما يمكن ذكره في هذا الموضع: أن أحد الإخوة الأفاضل دخل على أحد أشياخه في مجلسه، فنظر إليه شيخه نظر عتاب وملامة، فلما سأله عن ذلك؟! أخبره شيخه أنه قد سمع أنه يتأول صفة اليد لله – سبحانه وتعالى – بالقوة والقدرة..! فقال صاحبنا: سبحانك ربي هذا بهتان عظيم... وكيف أطيق هذا..؟!
فتهلل وجه الشيخ بعد اطمئنانه، وقال: لعل الناقل لم يثبت من فهمه!
ثم تذكر صاحبنا أنه تحدث قبل أيام مع بعض أصحابه في تفسير قول الله – عز وجل-: "وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ" (الذاريات:47)(115/970)
فقال: بأيد، يعني بقوة، كما نقل ذلك الحافظ ابن كثير – رحمه الله تعالى – عن ابن عباس ومجاهد وقتادة والثوري وغير واحد، ولم يتطرق صاحبنا لصفة اليد لله – سبحانه وتعالى – ولكن فهم منه الناقل فهماً بعيداً عن المراد فأبعد النجعة..!
وقديماً كان الحكماء يقولون: "وما آفة الأخبار إلا رواتها"، وما أجمل قول أبي الطيب المتنبي:
وكم من عائب قولاً صحيحاً ... ...
وآفته من الفهم السقيم
ولكن تأخذ الأذهان منه ... ...
على قدر القرائح والعلوم
الاعتماد على القرائن في قبول الأخبار وردها:
مما تقدم يتبين لنا: أن الخبر إذا نقل عن أحد من العلماء أو الدعاة، ولم يتأكد لنا صحة النقل، أو صحة فهم الدلالة، فينبغي أن يُعرض ذلك الخبر على أقواله وأفعاله السابقة واللاحقة، ويُقاس بطريقته وأحواله، فإن خالف ذلك الخبرُ المعروفَ من سيرته وقوله، كانت هذه قرينة مهمة في رد الخبر، أو حمله على المعروف من حاله.
وأعتقد أن هذه الطريقة – أعني: الاعتماد على القرائن – من الوسائل المفيدة جداً في تمييز الأخبار وتنقيحها، قال الإمام ابن القيم – رحمه الله تعالى-: "والكلمة الواحدة يقولها اثنان، يُريد بها أحدهما: أعظم الباطل، ويُريد بها الآخر محض الحق، والاعتبار بطريقة القائل وسيرته ومذهبه، وما يدعو إليه ويُناظر عنه".
وتقدم قريباً قول الإمام السبكي – رحمه الله تعالى -: "فإذا كان الرجل ثقة مشهوداً له بالإيمان والاستقامة، فلا ينبغي أن يُحمل كلامه وألفاظ كتاباته على غير ما تُعوِّد منه ومن أمثاله، بل ينبغي التأويل الصالح، وحسن الظن الواجب به وبأمثاله".
الخبر التحليلي:
ومما يُؤثِّر على صياغة الخبر ونقله ويوجب التحري والتثبت: أن الناقل للخبر يقرن بين ذكره للخبر وبين رأيه هو وتحليله... حتى إن السامع يظن أن كل ما ينقل هو الخبر، وتختلط بين يديه الأوراق ولا يستطيع بعد ذلك أن يُميز بين الخبر وبين تصورات الناقل وتحليلاته الشخصية، وهناك فارق جوهري بين ذكر الخبر مجرداً، وبين الخبر التحليلي، ولا شك بأن الالتزام بالأسلوب العلمي في عرض الأخبار شرط أساس في صحة النقل وإبراء الذمة.
ومما تجدر الإشارة إليه أيضاً: أن رؤية الإنسان الفكرية وانطباعاته النفسية لها تأثير كبير على صياغة الخبر ونقله، فقد يثير الناقل حول الخبر ضباباً كثيفاً، يحجب رؤية السامع ويُعمي بصيرته، ومعلوم أن الخبر الواحد يمكن أن يروى على سبعين وجهاً، ويستطيع الناقل أن يتخير أحسن الألفاظ وأعفها، كما أنه يستطيع اختيار أقسى الألفاظ وأفحشها...!!
ومن روائع الإمام ابن القيم قوله – رحمه الله تعالى -: "وكل أهل نحلة ومقالة يُكسبون نحلتهم ومقالتهم أحسن ما يقدرون عليه من الألفاظ، ومقالة مخالفيهم أقبح ما يقدرون عليه من الألفاظ، ومن رزقه الله بصيرة فهو يكشف بها حقيقة ما تحت تلك الألفاظ من الحق والباطل، ولا تغتر باللفظ، كما قيل في هذا المعنى:(115/971)
تقول: هذا جنيّ النحل تمدحه ... ...
وإن تشأ قلت: ذا قيء الزنانير
مدحاً وذماً وما جاوزت وصفهما ... ...
والحق قد يعتريه سوء تعبير
فإذا أردت الاطلاع على كنه المعنى هل هو حق أو باطل، فجرِّده من لباس العبارة، وجرِّد قلبك عن النفرة والميل، ثم أعط النظر حقه ناظراً بعين الإنصاف، ولا تكن ممن ينظر في مقالة أصحابه ومن يحسن ظنه فيهم – نظراً تاماً بكل قلبه، ثم ينظر في مقالة خصومه وممن يسيء ظنه به كنظر الشزر والملاحظة، فالناظر بعين العداوة يرى المحاسن مساوئ، والناظر بعين المحبة عكسه، وما سلم من هذا إلا من أراد الله كرامته وارتضاه لقبول الحق".
وقد يكون الخبر المنقول صحيحاً، ولكن الناقل يُخبر به بصيغة التهكم والاستهزاء، والتهكم سلاحٌ خفي لاذع يُسقط من قيمة الآخرين، ويُقلل من احترامهم.. "فطعن اللسان أنفذ من طعن السنان".
فاللغة التي يُصاغ فيها الخبر تؤثر تأثيراً بالغاً على المتلقي، سلباً أو إيجاباً، وجزماً أن الخبر إذا عرض بأدب وورع: تقبله المخالف واطمأنت إليه النفس، ولكن إذا عرض في سفهٍ وتشفٍّ: أثار المخالف وجعله يُصر على عناده وباطله وتكذيبه للخبر!!
وأشار الجاحظ إشارة عجيبة إلى هذا الشأن، حيث قال: "اللفظ الهجين الرديء، والمستكره الغبي، أعلق باللسان، وآلف للسمع، وأشد التحاماً بالقلب، من اللفظ الشريف، والمعنى الرفيع الكريم".
وأكثر دقة منه قول الإمام أبي محمد ابن حزم – رحمه الله تعالى -: "من العجائب أن الفضائل مستحسنة ومستثقلة، والرذائل مستقبحة ومستحبة".
وهذا عند من لم ينوِّر الله فؤاده بنور الإيمان.. وأما من اطمأنت نفسه بذكر الله، وخالطت بشاشته سويداء قلبه، كان للكلم الطيب أقرب، وعن اللغو الباطل أبعد، قال الله _تعالى_: "قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ" (المؤمنون:1-3).
ـــــــــــــــــــ
نحو صحوة للذاكرين!
محمد سعد الشعيرة
25/1/1427
ارسل تعليقك ...
تعليقات سابقة ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
مضى زمن طويل ومفهوم الذكر يشوبه لدى كثير من الناس أوهام وأباطيل، ومن أخطر تلك الصور التي أُلصقت زوراً بالذكر والذاكرين صور الغفلة والتصوف المذموم، حتى صارت تلك الصور لدى بعض الناس علامة على أحوال الذاكرين،(115/972)
فأطلقوا عليهم الدراويش ونحو ذلك من الألفاظ التي تعني غياب النفس وشرود الذهن أو العزلة عن الحياة أو الغفلة، فتلقف هذه الصور أعداء الإسلام الكارهين له لتشويه الدين، وجعلوها سمة للذاكرين في كثير من وسائل الإعلام، وسعوا إلى تأصيلها في كتاباتهم ورواياتهم وأفلامهم، وقرنوا بين التخلف والجهل وقلة الوعي وبين فئات الذاكرين، وكأنه لا يُتصور أن يكون الذاكر من أهل العلم والدراسة، والتفوق والنجاح، والقوة والعزة، والحكمة والوعي بالواقع، أو كأنه لا يصح تصور أن يكون المتخصصون في دراسة العلوم الحديثة والتكنولوجيا المتقدمة من الذاكرين لله _تعالى_!
ساهم في تكوين هذه المفهوم الذي يربط بين الذكر وغياب النفس عن الواقع، والعزلة في الزوايا والتكايا، فئات من أتباع الطرق الصوفية التي انحرفت عن الفهم الصحيح لحقيقة الذكر، فخرجوا به عن منهجه القويم ومقصده العظيم إلى بدع وعادات ليست من الإسلام، فما أن تُنطق كلمة الذكر حتى ينصرف معناها لدى كثير من عامة الناس إلى الحلقات والحضرات والزار, والإنشاد بمصاحبة آلات العزف والدفوف، حتى ظن بعض الناس أن ذكر الله تعالى لا يعني غير ما توحي به هذه الطرق من أوراد مخترعة، ولا يتم إلا بأسلوبها المبتدع من تمايل وإنشاد وغناء فردي وجماعي، وكأن أتباع هذه الطرق جعلوا الغفلة هدفاً، والذكر وسيلة للوصول إليه، فاتخذوا من أورادهم المبتدعة وسيلة لكي يصلوا إلى تغييب عقولهم عن الواقع، ورغبة في تحقيق ذلك قاموا فتمايلوا يمنة ويسرة، فأوهموا أنفسهم أن ما يصيبهم من دوار بسبب التمايل هو لحظة الذكر الحقيقي والوجد والوصول إلى الله _سبحانه_.
مضى زمن طويل ومفهوم الذكر يشوبه لدى كثير من الناس أوهام وأباطيل، ومن أخطر تلك الصور التي أُلصقت زوراً بالذكر والذاكرين صور الغفلة والتصوف المذموم
وما أشد فرح أعداء الإسلام، في الماضي والحاضر، بهذه الطرق المبتدعة في الذكر، والتي تغيب فيها العقول، وتغفل النفوس، فقد ذكر المؤرخون أن نابليون نفسه كان يحضر حفلات المولد، ويشهد حلقات الذكر الصوفي، كما فعل مثله فيما بعد مندوب الاحتلال البريطاني في مصر، وما ذلك إلا لأنهم علموا أن هذه الطرق تصل بالعقول إلى الغفلة، وبالنفوس إلى السلبية، قال الدكتور عمر فروخ: "ومن أجل ذلك يجب ألا نستغرب إذا رأينا المستعمرين يُغدقون الجاه والمال على الصوفية، فربّ مفوض سام لم يكن يرضى أن يستقبل ذوي القيمة الحقيقية من وجوه البلاد، ثم تراه يسعى إلى زيارة حلقة من حلقات الذكر، ويقضي هنالك زيارة تستغرق الساعات! أليس التصوف على هذا الشكل يقتل عنصر المقاومة في الأمم؟!".
ولو كان ما ألصقته تلك الطرق من بدع بالذكر خيراً لكان أول من وصل إليه الأنبياء والمرسلون، وفي مقدمتهم نبينا محمد _صلى الله عليه وسلم_، ولكان الصحابة _رضي الله عنهم_ هم أول من سارعوا إلى ذكر الله _تعالى_ بهذه الطرق. ولو زعم أتباع هذه الطرق أن فعلهم هذا يساعد الذاكر على أن يغيب عن الخلق ليتذكر الخالق، فهذا زعم مردود، لأن الذاكر كلما زاد قرباً وذكراً لله _تعالى_ زادت بصيرته بالخلق، وأعطاه الله _تعالى_ فرقاناً يعرف به الحق، وهذا يعني أنه سيكون أكثر(115/973)
وعياً بحاله، وأشد بصيرة بواقعه، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وخاتم الرسل _صلى الله عليه وسلم_، قد أمر أمته بعبادات شرعية من صلاة، وذكر، ودعاء، وقراءة، لم يأمرهم قط بتفريغ القلب من كل خاطر، وانتظار ما ينزل . ... ولكن التفريغ والتخلية التي جاء بها الرسول أن يفرغ قلبه مما لا يحبه الله، ويملؤه بما يحبه الله، فيفرغه من عبادة غير الله ويملؤه بعبادة الله.....".
ولفظ الذكر نفسه دليل على حضور القلب ويقظة العقل، لأن الذكر ضد الغفلة والنسيان، وإنما سميت عبادة الذكر ذكراً لأنها عبادة تُخرج الإنسان من الغفلة إلى الصحو، وتنقله من غياب العقل إلى إفاقته، ومن ضعفه إلى قوته، ومن ظلامه إلى بصيرته، فذكر الله حضور لا غيبة، وصحو لا غفلة، ونور لا ظلمة، قال الله _عز وجل_: "إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ" [الأعراف: 201].
ولو كان الذكر يُقصد به وبكثرته ذهاب العقل وغيابه عن الواقع، لما ورد الأمر بكثرته في ساحة الجهاد، حيث قال _تعالى_: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيراً..." [الأنفال: 45]، وهو موقف يحتاج فيها المجاهد إلى قوة العقل، والوعي بما يدور حوله، وإدراك ما كُلّف به من مهمات، والذكر الكثير الذي يقوم على الكتاب والسنة، وحضور القلب، هو أكبر معين على ذلك، لما يزرعه _بإذن الله تعالى_ وقت المعركة في قلوب الذاكرين من توكل، وصبر، وثبات، ولجوء إلى الله _سبحانه_.. ولو كان الذكر هنا يهدف إلى غفلة النفس عن الواقع لكان الذكر سبباً للهزيمة لا للنصر.
غير أن غفلة القلب عن ذكر الله _تعالى_ علامة على ضعف الإيمان، بل تكون مع قسوة القلب من علامات النفاق، والتي ينبغي للمؤمن أن يفرّ منها
وقد حذّر الله _تعالى_ من ضد الذكر وهو غياب العقل، فحذّر من كل ما يؤدي إلى غياب العقل والوعي، فمن الأسباب التي ذكرها الله _تعالى_ في تحريم الخمر أنه يصد عن الذكر؛ لأن الخمر تُذهب العقل: "إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُون" [المائدة: 91]. وبيّن _سبحانه وتعالى_ أن الذكر نفسه وسيلة من وسائل مقاومة النسيان، فقال _عز وجل_: "... وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَداً" [الكهف: 24].
وفي المقابل هناك فئة أخرى، لم تغرق في حلقات الذكر المبتدعة لكنها قصرت ذكرها على تحريك اللسان، دون تدبر لمعناه، أو تأثر بمقتضاه، فلا يذكرون الله _تعالى_ في ذكرهم، ومع أنهم يقلّبون المسابح، ويحركون الأصابع، إلا أن قلوبهم في واد آخر، تمر الأذكار على ألسنتهم ولا تنطق بها قلوبهم، ومع أن ذكرهم هذا لا يخلو من فائدة تعود عليهم من الفضل والثواب، وهذا من عظيم رحمة الله _تعالى_ بعباده ورأفته بهم حيث يثيب عباده على مجرد حركة ألسنتهم بالذكر الصحيح، لما لأذكار الكتاب والسنة من بركة تعم كل من قام بها أو حام حولها، إلا أنهم حرموا أنفسهم من كمال الأجر الذي يترتب على موافقة القلب للسان في الذكر، قال المناوي: (الاستغفار باللسان فقط حسنة أيضاً؛ إذ حركة اللسان به عن غفلة؛ خير من حركته(115/974)
في تلك الساعة بغيبة أو فضول، بل خير من السكوت، فيظهر فضله بالإضافة إلى السكوت عنه، وإنما يكون نقصاً بالإضافة إلى عمل القلب).
غير أن غفلة القلب عن ذكر الله _تعالى_ علامة على ضعف الإيمان، بل تكون مع قسوة القلب من علامات النفاق، والتي ينبغي للمؤمن أن يفرّ منها، قال _تعالى_: "إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللّهَ إِلاَّ قَلِيلاً" [النساء: 142]، قال يحيى بن معاذ الرازي: "كم من مستغفر ممقوت، وساكت مرحوم، هذا استغفر الله وقلبه فاجر، وهذا ساكت وقلبه ذاكر".
ليس من مقصود هذه العبادة العظيمة أن تذهب عقول المسلمين، ولا أن يغيب وعيهم، ولم تُشرع هذه العبادة لإرهاق الألسنة والقلوب غافلة، كما أن الذكر ليس عبادة منفصلة عن الحياة كما يتصور بعضنا ذلك خطأ، حين يظن أن الإنسان إذا أراد أن يكون من الذاكرين فإنه ينزوي عن مجتمعه، أو يهمل في عمله، أو يغفل عن درسه، ليقصر حياته على ترديد الأذكار بلسانه فقط، وقد يكون بعد ذلك ظالماً أو مرائياً أو مرابياً أو سيئ الخُلُق.
إذا أردت أن ترى صورة صحيحة لحال الذاكرين فتأمل حال الأنبياء والمرسلين عليهم السلام، لتعرف كيف كانت حياتهم ذكراً وذكرهم حياة، فهم في عباداتهم وأعمالهم وكل أحوالهم ذاكرون لله _تعالى_، حتى وهم ملوك وقادة يديرون شؤون البلاد والعباد، لم يشغلهم عن ذكر الله _تعالى_ مُلك ولا مال ولا جاه ولا سلطان، ولم يغفلوا عن ذكر الله _تعالى_ في ملكهم أو مالهم وجاههم وسلطانهم، لا كما نرى قادة أو زعماء أو غيرهم يرفضون قيام بلادهم على هوية الإسلام، أو ينادون برفع كلمة الإسلام من دساتير بلادهم، أو يجردونها من مجرد ذكر البسملة! يقول الله تعالى عن داود عليه السلام الذي كان نبياً ملكاً يحكم ويقود شعباً، كيف أنه كان يذكر الله تعالى، ولم يخفض ذلك من شأنه أو يهز ملكه، بل زاد الله تعالى ملكه عزة وقوة، ومدحه على ذكره هذا في كتابه الكريم، فقال: "... وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ [ 17] إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ [18] وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ [ 19] وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ" [ص: 17 - 20]، ويخبرنا _سبحانه_ عن سليمان _عليه السلام_ حين لا ينسى شكر الله _تعالى_ وهو يقود الجيوش ويسير بها في مهمات عسكرية: "وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ [17]... قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ" [النمل: 17 - 19].
ورسول الله _صلى الله عليه وسلم_ هو إمام الذاكرين، وطريقته خير طريقة، وأفضل الأوراد هي ما سنّه لنا من أذكار، وعلّمنا إياه من ألفاظ، وأعظم حال وأحسنه في الذكر هو حاله _صلى الله عليه وسلم_، حيث كانت حياته كلها _عليه الصلاة والسلام_ تدور مع الذكر، ولم يكن فيها غيبة ولا غفلة، قال الأشرفي: "الذكر نوعان قلبي ولساني والأول أعلاهما وهو المراد في الحديث وفي قوله _تعالى_: "اذكروا اللّه ذكراً كثيراً" وهو أن لا ينسى اللّه على كل حال، وكان للمصطفى _صلى اللّه(115/975)
عليه وسلم_ حظ وافر من هذين النوعين، إلا في حالة الجنابة ودخول الخلاء، فإنه يقتصر فيهما على النوع الأعلى الذي لا أثر فيه للجنابة، ولذلك كان إذا خرج من الخلاء يقول: (غفرانك)".
لقد جعل الله _تعالى_ الذكر من أكبر وسائل البناء والتقويم في الأمة، لا من وسائل الانزواء والضعف والسلبية، حيث قال _تعالى_: "اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ..." [العنكبوت: 45]، ولا يتحقق هذا من عبادة الذكر إلا باتباع الهدي النبوي فيها، ومجاهدة النفس على حضور القلب لا غيبته، وتدبر العقل لا غفلته، كما قال القرطبي: "والذكر النافع هو مع العلم وإقبال القلب وتفرغه إلا من الله"، لتكون القلوب موصولة بالله _تعالى_ حقيقة لا وهماً، قريبة من رضاه _سبحانه_ واقعاً لا خيال
ـــــــــــــــــــ
بيوت الأتقياء ..وجنان العابدين
خالد روشه
17/1/1424
ارسل تعليقك ...
لا توجد تعليقات ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
هي مراح ومستراح للأرواح الرفرافة الطاهرة ومأوى ومستقر للأجساد العابدة , وموضع طمأنينة ومكان سكينة للقلوب النقية , وموضع سعادة وأنس وجمال للنفوس المطمئنة , إنها بيوت الله في الأرض , المساجد , التي لا يتعلق بها قلب مخلص إلا كان علامة على تقواه ولا يلازمها عبد صالح إلا رفع الله شأنه وطهر قلبه وغلب أعداءه ..
من مواضع السجود فيها خرج العابدون , ومن مدارسها نبغ العلماء , ومن جوانبها خرجت ثورات الأمة على كل ظالم جبار ..قال الله _تعالى_: " في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو الآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله .. الآيات " سورة النور , وعن أبي الدر داء _رضي الله عنه_ قال : سمعت رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ يقول : " المسجد بيت كل تقي وتكفل الله لمن كان المسجد بيته بالروح والرحمة والجواز على الصراط إلى رضوان الله إلى الجنة " (رواه الطبراني وصححه الألباني في الترغيب والترهيب )
هي مراح ومستراح للأرواح الرفرافة الطاهرة ومأوى ومستقر للأجساد العابدة , وموضع طمأنينة ومكان سكينة للقلوب النقية , وموضع سعادة وأنس وجمال للنفوس المطمئنة , إنها بيوت الله في الأرض , المساجد
فهي المدرسة التربوية الكبرى التي تتربى فيها الأمة كبيرها وصغيرها وهي الحصن الذي لا يستطيع عدو أن يخترقه ..(115/976)
وها نحن ذا نرتشف تلك المعاني وغيرها من حديث النبي _صلى الله عليه وسلم_ وفي ظلاله حول بيوت الأتقياء وجنة العابدين ..
1 ـالارتباط بالمساجد والمشي إليها :
وأقصد بالارتباط بالمساجد: تعلق القلب بها ودوام التردد عليها وكثرة الجلوس بها وحبها وإكرامها والإكثار من بنائها وتطيبها وإحياء العبادات بها، والاجتماع على طاعة الله فيها .
وقد رغب الإسلام في الارتباط بالمساجد ترغيبا كبيرا وكأن الإسلام ينطلق من المساجد نحو العالم أجمع، وكأن الشارع يقول للخلق: يا أيها العالمين توحدوا في مساجد الله ثم تعلموا واعبدوا ثم انطلقوا لتضيئوا الدنيا بأجمعها ..
فعن أبي هريرة _رضي الله عنه_ أن النبي _صلى الله عليه وسلم_ قال: " من غدا إلى المسجد أو راح أعد الله له نزلا كلما غدا أو راح " رواه مسلم , فأي مكرمة تلك المكرمة ؟ وأي فضيلة تلك الفضيلة ؟
وعن أبي هريرة _رضي الله عنه_ أن النبي _صلى الله عليه وسلم_ قال: " من تطهر في بيته ثم مضى إلي بيت من بيوت الله ليقضى فريضة من فرائض الله، كانت خطواته إحداها تحط خطيئة والأخرى ترفع درجة " رواه مسلم , فالخطى إلى بيوت الله ليست فقط خطى إلى مراكز تربوية نورانية، بل هي تشفيف للروح وتنقية للذنب قبل الوصول إليها وتطييب للخطى أثناء العزم ..فتدبر
بل إن رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ قد أكد على فضل المشي إلى المساجد البعيدة وأنه نوع ثواب كبير وترك أثر لا ينمحي حتى يرث الله الأرض ومن عليها فعن جابر _رضي الله عنه_ قال : خلت البقاع حول المسجد فأراد بنو سلمة أن ينتقلوا قرب المسجد، فبلغ ذلك النبي _صلى الله عليه وسلم_ فقال لهم : " بلغني أنكم تريدون أن تنتقلوا قرب المسجد، قالوا : نعم يا رسول الله قد أردنا ذلك، فقال: " بني سلمة دياركم تكتب أثاركم، دياركم تكتب أثاركم "، فقالوا ما سرنا أنا كنا تحولنا رواه مسلم
وقد رغب الإسلام في الارتباط بالمساجد ترغيبا كبيرا وكأن الإسلام ينطلق من المساجد نحو العالم أجمع وكأن الشارع يقول للخلق ياايها العالمين توحدوا في مساجد الله ثم تعلموا واعبدوا ثم انطلقوا لتضيئوا الدنيا بأجمعها
وعن أبي بي كعب _رضي الله عنه_ قال : كان رجل من الأنصار لا أعلم أحدا أبعد من المسجد منه، وكانت لا تخطئه صلاه ، فقيل له: لو اشتريت حمارا لتركبه في الظلماء وفي الرمضاء ، قال: ما يسرني أن منزلي إلى جنب المسجد، إني أريد أن يكتب لي ممشاي إلى المسجد ورجوعي إذا رجعت إلى أهلي، فقال _صلى الله عليه وسلم_ : "قد جمع الله لكم ذلك كله " رواه مسلم
2ـ مغفرة للذنب:
إن لأهل المساجد الساعين إليها والمتعلقين بها والمرتبطين بها لفضيلة أي فضيلة , تلك التي تمحو السيئات وترفع الدرجات وتزين بالمكرمات , فبين خطا تمحو الخطايا وبين ركعات تذيب الذنوب وبين رحمة من الله أعدت لهم ..فعن عبد الله بن عمرو _رضي الله عنه_ قال: قال رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ : " من راح إلى مسجد الجماعة فخطوة تمحو سيئة وخطوة تكتب له حسنة ، ذاهبا وراجعا " رواه احمد(115/977)
وعن عثمان رضي الله عنه أنه قال : سمعت رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ يقول: " من توضأ فأسبغ الوضوء، ثم مشى إلى صلاة مكتوبة، فصلاها مع الإمام غفر له ذنبه " رواه ابن خزيمه وصححه الألباني
وعن أبي هريرة _رضي الله عنه_ قال : قال رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ يقول : " لا يتوضأ أحدكم فيحسن وضوءه فيسبغه، ثم يأتي المسجد لا يريد إلا الصلاة فيه، إلا تبشبش الله إليه ، كم يتبشبش أهل الغائب بطلعته " رواه ابن خزيمه وصححه الألباني
3ـ نور المشائين في الظلمات:
أما الذين يكابدون آلام الدنيا ومشاقها في سبيل الله فإن ربهم سيخلف عليهم خير إخلاف وسيبدلهم بخوفهم أمنا وببذلهم عطاء وبالظلام الذي عانوه نورا وحبورا ..
فعن بريدة _رضي الله عنه_ عن النبي _صلى الله عليه وسلم_ قال: " بشر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة " رواه أبو داوود , قال الألباني _رحمه الله_: " والحديث يعنى العشاء والصبح لأنها تقام بغلس " ( يعني بظلمة) .
وعن أبي هريرة _رضي الله عنه_ أن رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ قال: " إن الله ليضيء للذين يتخللون إلى المساجد في الظلم بنور ساطع يوم القيامة " رواه الطبراني وحسنه الألباني في الترغيب , ولنا أن نلحظ أن جميع تعبيرات الأحاديث تدل على شدة النور وعمومه وسطوعه وتمامه فضلا من الله ونعمة .
إن لأهل المساجد الساعين إليها والمتعلقين بها والمرتبطين بها لفضيلة أى فضيلة , تلك التي تمحو السيئات وترفع الدرجات وتزيم بالمكرمات , فبين خطا تمحو الخطايا وبين ركعات تذيب الذنوب وبين رحمة من الله أعدت لهم
وعن أبي الدرداء _رضي الله عنه_ عن النبي _صلى الله عليه وسلم_ قال: " من مشى في ظلمة الليل إلى المسجد لقي الله _عز وجل_ بنور يوم القيامة " رواه ابن حبان وصححه الألباني , قال ابن عثيمين _رحمه الله_: " لا شك أن الذي يذهب إلى المسجد في الظلم فإن جزاءه من جنس العمل، يعني كما تجشم الظلم وأتى إلى المساجد فإنه يكتب له النور يوم القيامة " شرح رياض الصالحين
4ـ أحب الأماكن إلى الله المساجد :
لقد دلت الأخبار الصحاح على فضل المسجد كمكان تقام فيه العبادة ويستمع فيه الذكر وتصنع فيه الخيرات ويؤمر فيه بالمعروف , فعن أبي هريرة _رضي الله عنه_ عن النبي _صلى الله عليه وسلم_ قال : " أحب البلاد إلى الله _تعالى_ مساجدها ، وأبغض البلاد إلى الله أسواقها " رواه مسلم
وعن جبير بن مطعم _رضي الله عنه_: أن رجلا قال : يا رسول الله ، أي البلدان أحب إلى الله وأي البلدان أبغض إلى الله ؟ قال : " لا أدري حتى أسأل جبريل _عليه السلام_ " ، فأتاه جبريل فأخبره : " إن أحسن البقاع إلى الله المساجد، وأبغض البقاع إلى الله الأسواق " رواه احمد وصححه الألباني
5ـفضائل أهل المسجد :(115/978)
عن أبي الدر داء رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " المسجد بيت كل تقي وتكفل الله لمن كان المسجد بيته بالروح والرحمة والجواز على الصراط إلى رضوان الله إلى الجنة " رواه الطبراني وصححه الألباني
وعن أبي هريرة _رضي الله عنه_ عن النبي _صلى الله عليه وسلم_ قال : " ما توطن رجل المساجد للصلاة والذكر إلا تبشبش الله _تعالى_ إليه كما يتبشبش أهل الغائب بغائبهم إذا قدم عليهم " ، وفي رواية لابن خزيمة قال : " ما من رجل كان توطن المساجد، فشغله أمر أو عله ثم عاد إلى ما كان إلا يتبشبش الله إليه كما يتبشبش أهل الغائب بغائبهم إذا قدم " رواه ابن حبان
وعن أبي هريرة _رضي الله عنه_ قال: سمعت رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ يقول: " سبعة يظلهم الله بظله، يوم لا ظل إلا ظله: الإمام العادل، وشاب نشأ في عبادة الله _عز وجل_ ، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله ، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه ، ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه " متفق عليه
6ـالتربية على الارتباط بالمساجد :
إن الأحاديث السابقة التي سقناها في بيان قيمة المسجد في التربية الإيمانية لهي دافعة لكل المربين والمعلمين أن يعتمدوا الارتباط بالمساجد كوسيلة هامة ومؤثرة في البناء الروحي والإيماني للأفراد، ومن ثم عليهم أن يوجهوا جهودهم تجاه وضع البرامج التي تهدف إلى ذلك، وللتربية على الارتباط بالمساجد نحاول أن نقف على عدة توجيهات بإيجاز : ـ
أ ـ التأكيد على صلاة الجماعة في المساجد:
فيجب على كل مسلم أن يعلم أهمية صلاة الجماعة في المساجد، وأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بها وحذر من التخلف عنها، فعن ابن عباس _رضي الله عنه_ قال: قال رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ قال : " من سمع النداء فلم يجب فلا صلاة له إلا من عذر" أخرجه ابن ماجة وصححه الألباني
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لقد هممت أن آمر فتيتي فيجمعوا لي حزما من حطب، ثم آتي قوما يصلون في بيوتهم فأحرقها عليهم" رواه مسلم
ب ـ تربية النشء في المساجد: فإذا ارتبط الشاب منذ صغر سنه بالمسجد شب على ذلك وكبر عليه وصار المسجد بالنسبة له مأوي يأوي إليه وملاذا يطمئن فيه قلبه .
جـ ـ عقد اللقاءات في المساجد :
فيتعود الشباب أن يعقدوا ارتباطاتهم ولقاءاتهم ومواعيدهم في المساجد، ولقاءهم في المساجد يمنعهم من حديث الدنيا ومن اللهو والهوى ، وربما يسمعون في المساجد خيرا فيفيدهم ، وربما تنقلب لقاءاتهم إلى لقاءات قراءة للقرآن أو تدارس علم أو غيره .
د ـ التأكيد على سنة انتظار الصلاة:(115/979)
فهي سنة كما دلت الأحاديث تعين على زيادة الإيمان وتكفير الذنوب ومحو الخطايا، فيوجه إليها المعلمون ويؤكدون عليها ويبدءون بأنفسهم فينتظرون الصلاة بعد الصلاة ، ويحثون الناس على ذلك ويبينون لهم فضائلها .
هـ ـ البيئة الاجتماعية في المساجد :
وبعض الدعاة الصالحين يجعل من علاقات أهل المسجد علاقات حميمة قوية جدا بغير مصلحة دنيوية ولا هدف غير الالتقاء على محبة الله _سبحانه_، فتراهم يجعلون من مجتمع المسجد مجتمعا مترابطا كأنهم أهل بيت واحد، فيسأل الحاضر عن الغائب ويعود الصحيح المريض، ويعين الميسر المعسر، ويجتمع الجميع في كل صلاة من الصلوات على طاعة الله وكره والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولو صارت كل مساجدنا هكذا لتغير حال مجتمعنا من الداخل، ولقويت الروابط، ولسهل أمر الدعوة إلى الله .
ـــــــــــــــــــ
خاطبوا الناس على قدر عقولهم
خالد السيد روشه
8/1/1427
ارسل تعليقك ...
تعليقات سابقة ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
نخطئ كثيراً عندما نظن أن أسلوباً واحداً في الخطاب هو الأسلوب المناسب لجميع الناس للتأثير فيهم وحثهم على الإيمان والعمل, كما يخطئ آخرون إذ يظنون أن طريقة واحدة هي الشدة في توصيل المفهوم وبيانه بالطريقة الخطابية وجمع كل الأدلة له أمام السامع هي الطريقة المثلى التي تجمع القلوب وتغير القناعات..
إن الناس طوائف مختلفة وجماعات شتى وثقافات متباينة وانتماءات متكاثرة وعقليات متفاوتة وعادات وتقاليد عديدة.. ومن ظن من الدعاة أنه يستطيع أن يهمل كل هذه الاعتبارات ويختزل طريقة الدعوة إلى الناس أجمعين في طريقة يظنها جديرة بذلك مهملاً عقول الناس وطاقاتهم واستيعابهم وفهمهم, فنحن ههنا نبين له مجانبته للصواب, كما نبين له كيف كان _صلى الله عليه وسلم_ (وهو معلم البشرية جمعاء) ينوع أسلوبه ويختار ما يناسب عقول الناس، بل ويأمر أتباعه من الدعاة إلى الله بمخاطبة الناس على قدر عقولهم..
كونوا ربانيين..
الداعية إلى الله حكيم حليم عاقل هدفه الوصول إلى قلوب الناس قبل عقولها؛ لأنهم لو أحبوه وآمنوا بما يقول فسيِعملون عقولهم في كلامه إعمال القابل الراضي لا إعمال الرافض الساخط..
نخطىء كثيرا عندما نظن أن أسلوبا واحدا في الخطاب هو الأسلوب المناسب لجميع الناس للتأثير فيهم وحثهم على الإيمان والعمل,(115/980)
والداعية إلى الله يتعامل مع العقول حسب مقدرتها لا حسب مقدرته، ولا يحملها فوق طاقتها. وقد فهم ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قول الله _تعالى_: " ولكن كونوا ربانيين " فقال: (كونوا حلماء فقهاء) وقال البخاري: (ويقال: الرباني الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره) والبدء بصغار العلم مرجعه مراعاة العقول حتى لا تنفر من الدعوة. قال ابن حجر: (والمراد بصغار العلم ما وضح من مسائله، وبكباره ما دق منها) فتح الباري 1\162
وربانية الدعوة إلى الله لا تتم بمجرد تبليغ الأحكام والأدلة فقط وإنما باتخاذ الوسائل الحكيمة للوصول إلى هداية الناس, ويشهد لهذا الأصل من أصول الدعوة كثير من النصوص نذكر منها:
1ـ ساق البخاري حديثا ترجم له بقوله: (باب من ترك بعض الاختيار مخافة أن يقصر فهم بعض الناس عنه فيقعوا في أشد منه. ثم أخرج من طريقه إلى " الأسود " قال: " ابن الزبير ": (كانت عائشة تسر إليك كثيراً، فما حدثتك في الكعبة؟ قلت: قالت لي: قال النبي _صلى الله عليه وسلم_: يا عائشة، لولا قومك حديث عهدهم ... ـ قال ابن الزبير: بكفر ـ لنقضت الكعبة فجعلت لها بابين باب يدخل الناس وباب يخرجون.قال ابن حجر ـ رحمه الله ـ (ويستفاد منه ترك المصلحة لأمن الوقوع في المفسدة) فتح الباري 1\224 واعتبر كثير من العلماء هذا الحديث وغيره من أعمدة الموازنة بين المصالح وأنه لابد من تقييم قدرة فهم السمع للعلم والدليل خوفا من الوقوع بما هو أشد لقصور فهمه عنه..
2ـ وقال البخاري ـ رحمه الله ـ (باب من خص بالعلم قوما دون قوم كراهية ألا يفهموا، وقال " على " حدثوا الناس بما يعرفون، أتحبون أن يكذب الله ورسوله). قال ابن حجر ـ رحمه الله ـ وممن كره التحديث ببعض دون بعض، أحمد ومالك في أحاديث الصفات. وأبو يوسف في الغرائب، ومن قبلهم أبو هريرة في الجرابين، وأنه كره أن يحدث بأحدهما ونحوه عن حذيفة، وعن الحسن أنه أنكر تحديث " للحجاج " بحديث العرانيين؛ لئلا يتخذها وسيلة إلى ما كان يعتمده من المبالغة في سفك الدماء بتأويله الواهي)
3ـ وأخرج الأمام مسلم عن ابن مسعود قوله: (ما أنت محدثا قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنه).
4ـ وأخرج البخاري (إن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "يا معاذ بن جبل قال: لبيك يا رسول الله وسعديك قال: يا معاذ. قال: لبيك يا رسول الله وسعديك (ثلاثاً) قال: ما من أحد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله من قلبه إلا حرمه الله على النار. قال: يا رسول الله: أفلا أخبر به الناس فيستبشرون؟ قال: إذن يتكلوا". وأخبر بها معاذ عند موته تأثماً). وكأن رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ قد رأى أنه ليس كل الناس يحسن معهم الإبلاغ بذلك المعنى المهم لئلا يحملهم على القعود عن العمل بفهم خاطئ, ولكنه قد اختص به بعض أصحابه الذين تحمل عقولهم القدرة على ذاك الفهم والاستيعاب وتقدير المراد من الخطاب.(115/981)
من حكمة الداعية وفهمه أن يختار الأساليب المشوقة المؤثرة والمناسبة في ذات الوقت وأن يتجنب العبارات الخشنة الجارحة والتي قد يسهل استبدالها بالأساليب الجميلة الحلوة المؤدية لنفس المعنى
مبررات الحديث الحكيم..
إن المستمع إذا ما تلقى علماً لا يستوعبه أو أن حدود تجاربه الحيوية وطبيعته النفسية والحياتية وقدراته الفهمية والثقافية ومدركاته العقلية لا تستطيع إدراكه فإنه يؤدي به إلى عدم التوازن, يقول الغزالي في إحيائه: " أن يقتصر بالمتعلم على قدر فهمه فلا يلقى إليه مالا يبلغه عقله فينفر أو يخبط عليه عقله, ولذلك قيل: كل – بكسر الكاف – لكل عبد بمعيار عقله وزن له بميزان فهمه حتى تسلم منه وينتفع بك وإلا وقع الإنكار لتفاوت المعيار " (إحياء1\57)
ومبررات الخطاب الحكيم المناسب كثيرة متعددة نذكر بعضاً منها للدلالة لا للحصر:
1- من أجل عدم انفضاض الناس من حول الدعاة, فالأسلوب الذي لا يناسب المستمع والذي ينفره يجعلنا نخسر كثيراً من المدعويين الذين قد تكون قلوبهم وصدورهم على استعداد لسماع والهداية, والطريقة العلمية المركزة وجمع الأدلة كلها وسوق التعليقات والردرد والشبهات وتفنيدها وغيره قد لا يناسب بعض المدعويين، بل قد يجر الملل والسأم إليهم، وبالتالي يفقد العلم هيبته يقول في (عيون الأخبار): إن العالم الحكيم يدعو الناس إلى علمه بالعمل والوقار وإن العلم الأخرق يطرد الناس عن علمه بالهذر والإكثار.
2- الأمان من الخطأ: فإن كثرة الحديث تورد الخطأ والالتباس عند الناس وفي القلة والتركيز والتيسير والتسهيل أمان من ذلك فكثرة الكلام ينسي بعضه بعضا وقد أور الإمام مسلم في مقدمة صحيحه قول النبي _صلى الله عليه وسلم_: " كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع..".. وقد علق الإمام النووي على ذلك بقوله: ففيه الزجر عن التحديث بكل ما سمع الإنسان, فإنه يسمع في العادة الصدق والكذب, فإذا حدث بكب ما سمع الإنسان فإنه يسمع في العادة الصدق والكذب فإذا حدث بكل ما سمع فقد كذب " شرح مسلم 1\75
3- ..اختلاف أصناف الناس: فالناس أصناف: أولهم العوام غير المتعلمين، والتعامل معهم ودعوتهم تحتاج إلى خبرة واسعة وتجربة وفهم، وكل صعوبة أو تعقيد قد يصرفهم عن الدعوة. وهؤلاء لا تلقى عليهم المسائل العويصة، والتفاصيل الدقيقة، والبراهين المعقدة والنظم المتشعبة، وهذا الصنف يحتاج إلى المتخصص في فن دعوتهم ومخاطبتهم. وهم يعتمدون على الحس والتأثير أكثر مما يعتمدون على جمع الأدلة وخلافات الأقوال، وهؤلاء تؤثر فيهم العاطفة بدرجة كبيرة ومما يشحذ هممهم قصص الصالحين، والترغيب والترهيب وأحاديث الرقاق, والصنف الثاني: المتعلمون من خريجي الجامعات، ومن في مستواهم في التقدم المعرفي، وهؤلاء يبحثون عن التحليل والاستنتاج والمعنويات ودلائل الإعجاز، وعند مخاطبتهم فإنه لابد من مراعاة ذلك، ومن يستطيع مخاطبة العوام قد لا يستطيع مخاطبة الخواص إذا خاطبهم من هو دونهم لا يقنعهم أو يؤثر فيهم, والصنف الثالث: أصحاب التخصصات العلمية، إذ لكل تخصص مصطلحاته ووسائله، ومن يتعرف على هذا(115/982)
المناخ الخاص فإنه أقدر على توجيهه, كما قد يختلف الحديث مع أصحاب الاهتمامات المختلفة بعضهم عن بعض وكذلك تختلف أصناف الناس تبعا لاختلاف طبائع مجتمعاتهم المحلية وصفاتها وخصائصها فيجب على الدعاة إلى الله دراسة ذلك وتحريه.
الحديث المشوق:
من حكمة الداعية وفهمه أن يختار الأساليب المشوقة المؤثرة والمناسبة في ذات الوقت وأن يتجنب العبارات الخشنة الجارحة والتي قد يسهل استبدالها بالأساليب الجميلة الحلوة المؤدية لنفس المعنى, ففي الصحيح قول النبي _صلى الله عليه وسلم_: " لا يقولن أحدكم خبثت نفسي ولكن ليقل لقست نفسي "يقول ابن حجر تعليقاً على الحديث: يؤخذ من الحديث استحباب مجانبة الألفاظ القبيحة والأسماء والعدول إلى ما لاقبح فيه وإن كان المعنى يتأدى بكل منهما " (فتح الباري 10\564), فالعبارات الجميلة دليل على حسن انتقاء الداعية ورقته وقد كان أصحاب النبي _صلى الله عليه وسلم_ ينتقون الكلام لبعضهم البعض كما ينتقى أطايب التمر, فأين ذلك من الخطباء والمحاضرين الذين يصيحون في الناس متهمين إياهم بالفسوق والعصيان وبالعجز والتقاعص وبالجهل والفساد؟!! إن هؤلاء لا يزيدون الناس إلا نفورا ولا يزيدون المجتمعات إلا تحزبا ضدهم..يقول الشاطبي – رحمه الله -: (وعلى هذا النحو مر السلف الصالح في بث الشريعة للمؤالف والمخالف, ومن نظر في استدلالهم على إثبات الأحكام التكليفية علم أنهم قصدوا أيسر الطرق وأقربها إلى عقول الطالبين, لكن من غير ترتيب متكلف ولا نظم مؤلف, بل كانوا يرمون بالكلام على عواهنه ولا يبالون كيف وقع ترتيبه إذا كان قريب المأخذ سهل الملتمس) (الموافقات 1\59).
ـــــــــــــــــــ
الطب النفسي والدعوة إلى الله
القسم التربوي بموقع (المسلم)
30/12/1426
ارسل تعليقك ...
تعليقات سابقة ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
كيف تكون العلوم الإنسانية والطب النفسي خاصة وسيلة تحمل محتوى الدعوة الصحيحة إلى الناس تحت سلطان منهج أهل السنة، وفي إطار هدي الإسلام القويم؟
سؤال أجاب عنه الدكتور/ عبد الله الخاطر – رحمه الله – في كتابه (الطب النفسي والدعوة إلى الله) من خلال عرضه لهذا العلم والأساليب المتبعة فيه وكيف تطبق هذه الأساليب في مجال الدعوة لتحقق النجاح في الوصول إلى أكبر شريحة من الناس الذين نود مخاطبتهم.(115/983)
يصنف الكاتب نظرة الناس في العالم الإسلامي إلى العلوم الإنسانية التي يتعلمونها في بلاد الغرب كعلم النفس، وعلم الاجتماع وعلم الإدارة وعلم الاتصالات وغيرها إلى ثلاثة أقسام:
قسم ينادي بعدم الأخذ بهذه العلوم على الإطلاق؛ لأنها بنيت على أساس خاطئ، فالنتائج حتماً ستكون خاطئة.
وقسم يطالب بالأخذ بهذه العلوم كلها بخيرها وشرها، إيجابياتها وسلبياتها.
وقسم ثالث يدعو إلى تنقية هذه العلوم بأخذ إيجابياتها وترك سلبياتها، ويؤيد الكاتب هذه النظرة، حيث يرى أننا نتعلم الآن من جميع التخصصات على طريقة تفكير الغرب لا على طريقة التفكير الإسلامي الصحيح، والمطلوب من الشباب المسلم أن ينقي ويهذب ما يتلقاه، ويسخر كل ما يحصل عليه من علوم لخدمة هذا الدين سواء في الأسلوب أو في الهدف الذي يوجه إليه.
كيف تكون العلوم الإنسانية والطب النفسي خاصة وسيلة تحمل محتوى الدعوة الصحيحة إلى الناس تحت سلطان منهج أهل السنة، وفي إطار هدي الإسلام القويم؟
ويبحث الدكتور عبد الله الخاطر في كتابه هذا الطب النفسي كأحد هذه العلوم التي يتلقاها شباب المسلمين من الغرب كأي دراسة طبية أخرى، ويبين أن مثل هذه العلوم فيها الكثير من الحشو وتحتاج أن توجه الوجهة الصحيحة، وهذا الجهد هو ما نفتقده في عالمنا الإسلامي عند الكثير منا، اللهم إلا القليل من علمائنا الذين لديهم الفكرة ولكنهم يحتاجون إلى تطوير مناهجهم وطريقة تفكيرهم، ويحتاجون إلى إخضاع علوم الطب النفسي للفكر الإسلامي الصحيح.
ويبين أن الوصول إلى ذلك يستدعي الاهتمام بالأسلوب الذي يتبعه الطبيب النفسي في جميع المعلومات وتحليلها وكسب ثقة الآخرين، وما إلى ذلك، إذ إننا مأمورون في دعوتنا بأن نتخذ الأسلوب الأفضل في تعاملنا، حيث يقول الحق _سبحانه وتعالى_: "ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ" (النحل: من الآية125).
وعلّل الدكتور عبد الله الخاطر أن من الأسباب التي جعلته يبحث أسلوب الطب النفسي وإمكانية تطبيقه في الدعوة إلى الله امتناعه التام بأن الداعية يملك مضموناً عظيماً وأفكاراً قويمة، لكنها تحتاج فقط إلى أسلوب شيق للعرض وللتأثير في المتلقين؛ وهذا ما يفتقر إليه كثير من الدعاة، ويفتقر إليه بعض علمائنا أحياناً.
ويستعرض الدكتور الخاطر في كتابه؛ الأساليب التي يستخدمها الطب النفسي والذي يمكن أن يستفيد منها الداعية:
الطبيب النفسي يستطيع كسب ثقة مريضه في اللقاء الأول ويستطيع الداعية فعل ذلك..
أولاً: دعه يتحدث عن نفسه، فهي خطوة أولى لكسب ثقته دون أن تقاطعه أو تبدي استغراباً لما يقوله.
ثانياً: الاهتمام بطريقة الاستماع للمتحدث كطريقة الجلسة أو اختيار المكان والوقت المناسب.(115/984)
ثالثاً: إشعاره بأهمية حديثه، وأنك متابع ما يقول كأن تردد ملخص ما قاله، واسأله باستمرار لتشعره باهتمامك.
رابعاً: تعلم فن الأسئلة كالسؤال المفتوح؛ وهو السؤال الذي يكون له عدة إجابات ولا يكون له جواب واحد بـ(نعم) أو (لا) فهذا الجواب يجعل الحديث قاصراً أو مختصراً، وهو حديث المحققين، كما يجب أن تكون أسئلتك صريحة اللفظ.
خامساً: التعليق على مشاعره، يجعله يتحدث أكثر كأن تقول له يبدو أنك متضايق اليوم مما يجعله يفضي بأسباب انزعاجه مثلاً.
سادساً: الهمهمات وتعبيرات الوجه.
سابعاً: الاهتمام بحاجات الناس والحرص على خدمة الآخرين متمثلاً قول الرسول _صلى الله عليه وسلم_: "إن أسعى بحاجة أخي خير من أن أعتكف شهراً" فالسعي لخدمة الآخرين يؤدي دوراً عظيماً في عملية الدعوة؛ لأنك بهذا تستأثر بقلوبهم.
كيف تؤثر في الناس؟
يبين "الخاطر" أن أعظم ما يكون التأثير في الآخرين بالقدوة الحسنة وليس بالكلمات والمواعظ وحدها ولا بد أن تستفيد من أسلوب علم النفس في التعامل مع الآخرين في طريق الدعوة، فالأسلوب مهم جداً لجعل الناس يتقبلون كلامنا، مما يجعل أمر الحوار معهم ممكناً وسهلاً.
ومن أساليب التأثير في الناس:
1- أن تذكر إيجابياتهم قبل السلبيات.
2- مخاطبة الناس على قدر عقولهم.
3- تقويم طريقة التفكير الخاطئة.
4- تهيئة الجو المناسب للشخص المقصود بسماع الموعظة، ولم تكن عادة الرسول _صلى الله عليه وسلم_ الدخول في الموعظة مباشرة، بل كان يمهد لها بغيرها، وأحياناً يبدأ بالسؤال عن معلومة ما.
واستخدم الرسول _صلى الله عليه وسلم_ في تنويع أسلوب الحوار وتهيئة المستمع وإثارة شغفه وذهنه وتشويقه كقوله: "ألا أدلكم على كنز من كنوز الجنة".
فلو تتبعنا حديثه _صلى الله عليه وسلم_ لرأينا كيف أنه سابق الزمن وفاق كثيراً مما يتشدق به خبراء التربية الأجانب الآن في الأساليب التربوية الحديثة.
يوضح الدكتور "الخاطر" أن طبيعة الناس تتفاوت؛ فكل إنسان له ميوله واتجاهاته وعلاماته البارزة التي تميزه عن غيره، ويمكن التعرف وتحديد شخصية الإنسان من خلال التعايش معه كمرافقته في السفر لمسافات كبيرة أو الاعتكاف معه أو المعايشة عن قرب وخصوصاً في التجارة والتعامل بالمال.
وهنا يجب أن تكون الموعظة حسب شخصية من تريد إقناعه، فمن أساليب الرسول _صلى الله عليه وسلم_ في تحديد الشخصية عندما جاءه أحد الصحابة يقول: أوصني يا رسول الله! قوله _صلى الله عليه وسلم_: "لا تغضب". قال: أوصني، قال: "لا تغضب"، قال: أوصني، قال: "لا تغضب"؛ حتى يعرف أن هذه صفة بارزة عنده. ويأتي آخر ليقول: يا رسول الله! أوصني، فأوصاه بذكر الله.(115/985)
ويوضح "الخاطر" أن الوصية تغيرت بين سائل وآخر؛ لأن رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ أراد أن يبين لنا أن الموعظة ليست مجرد كلام وإنما هي وضع النقاط على الحروف أو القول المناسب في المكان المناسب.
ويشير "الخاطر" إلى أن تشجيع السلوك الطيب من الأمور المهمة في مجال الدعوة، وأن له تأثيراً كبيراً في النفس، وتحفيز للإنسان لكي يستزيد من الأعمال الصالحة والسلوك المرغوب فيه.
هل يصلح أسلوب العلاج الجماعي للدعوة؟
يبين الدكتور الخاطر أن الطب النفسي يستخدم أحياناً أسلوب العلاج الجماعي؛ وذلك بأن عدداً معيناً من الناس، يشعر الطبيب بأن هنا تجانساً في حالتهم ويشير إلى أن هذا الأمر وارد في موضوع الدعوة؛ إذ يصبح هذا الالتفاف، وهذا التعايش أمراً عظيماً ومؤثراً في تغيير السلوك؛ إذ يشعر كل فرد في المجموعة أنه أمام قضية مهمة؛ لأنها تخص عدداً كبيراً من الناس؛ إلى جانب المحاكاة؛ حيث يحاول كل منهم ألا يكون شاذاً عن الجماعة، ففي هذا الالتفاف تشجيع لهم.
ويختم الدكتور عبد الله الخاطر كتابه بالإشارة إلى تربية السلوك وتهذيبه عند وقوع الحدث؛ وهذا أمر جدير بالملاحظة والاهتمام، إذ لا بد من ربط أحداث الحياة كافة لتكوين شعور عام، أو تغيير سلوك إلى الأفضل؛ فعندما يقع حدث ما يصاحبه شعور بالتقصير يستقر ذلك في الذاكرة، ويرتبط بأحداث أخرى فتكون مجتمعة سبباً في تغيير السلوك.
ـــــــــــــــــــ
اليوجا وأخواتها.. رياضات أم عبادات فلسفية ؟
محمد سعد
22/12/1426
ارسل تعليقك ...
لا توجد تعليقات ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
اليوجا، والتاي شي، والماكروبيوتيك، وغيرها، رياضات عقلية وبدنية فلسفية(1) ، انتشرت الدعوة إليها في الآونة الأخيرة، في بعض البلاد العربية وغيرها، وأقام بعض دعاتها مجموعات ومدارس لتعليمها، وألفوا أو ترجموا في سبيل نشرها والدعوة إليها العديد من المؤلفات، وهي وإن كانت رياضات فلسفية قديمة، إلا أن شهرتها زادت بالترويج لها عبر وسائل الإعلام الحديثة من قنوات فضائية وإنترنت.
ولا عجب من رواج تلك الرياضات لدى غير المسلمين في الغرب أو الشرق، وإنما العجب من اغترار بعض المسلمين بها، إلى درجة نصح بعضهم للآخرين بها والدعوة إليها، بعبارات براقة، وتحت مسميات مختلفة، مثل الوصول إلى قوة التركيز ونقاء النفس وصحة البدن والوقاية والعلاج من الأمراض.(115/986)
وبإطلالة سريعة على أصول تلك الرياضات يتبين أنها ليست تمارين عقلية وبدنية مجردة، بل هي في الأصل طقوس وعبادات وثنية لديانات وفلسفات صوفية وكهنوتية، لها تصوراتها الباطلة عن الخالق والإنسان والكون، غير أنها تختلط ببعض ما يكتسبه البشر من خبرات علاجية وصحية، من تمارين وحركات رياضية، قد تفيد أو لا تفيد من الناحية العقلية أو البدنية، وهذا الجانب هو الذي ترتكز عليه الدعاية لتلك الفلسفات الباطلة، فيغتر بعض الجهلة ظناً أنها مجرد أنشطة بدنية وعقلية بحتة، لا علاقة لها بالعقيدة، فيطمع في أن تساعده على التركيز وصفاء النفس واستجماع الطاقة الذهنية والبدنية، ثم يجد نفسه بعد ذلك منخرطاً في عقائد تلك الرياضة الفلسفية وما تفرضه من طقوس وعبادات وتصورات، لا يمكنه فصلها عن ممارسة تلك التمارين.
لا عجب من رواج تلك الرياضات لدى غير المسلمين في الغرب أو الشرق، وإنما العجب من اغترار بعض المسلمين بها، إلى درجة نصح بعضهم للآخرين بها والدعوة إليها
وكعادة بعض وسائل الإعلام، في عدم التمييز بين حق وباطل فيما تعرضه على المسلمين، تقدم تلك الفلسفات والرياضات على أنها رياضات نافعة للبدن والعقل، متجاهلة أن تلك الرياضات الفلسفية مبنية على تصورات وعقائد باطلة، وأن تلك التمارين البدنية والعقلية والتأملات تمثل جزءاً من طقوس تلك الفلسفات والديانات وعباداتها، ومن يقوم بها فهو يقوم بعبادات تلك الديانات الباطلة. ففي قناة فضائية مشهورة عرض برنامج شامل عن رياضة اليوجا، فيما يشبه الترويج لها، وبعض القنوات تتبنى نشر فلسفة الماكروبيوتيك، وتفتح المجال لدعاته والمروجين له، كما كثرت الدعوة إليها في بعض مواقع الإنترنت العربية، ويتناقلها بعض أعضاء المنتديات جهلاً بخطورتها، وتجد مثل هذه العبارات: هل تشعر بالقلق.. اليوجا هي الحل، اليوجا ملاذ الرجال الذين يعانون من ظروف عمل صعبة، اليوجا دواء لكل داء. فأين المسؤولية الإعلامية لدى تلك القنوات؟! وأين أمانة الكلمة لدى هؤلاء الذين ينقلون لغيرهم الباطل في المنتديات وغيرها من المواقع؟! مع أن نقل مثل هذه الأشياء قد يتسبب في تضليل بعض الناس وفتنتهم عن دينهم!
يتضح من خلال النظر في تلك الرياضات الفلسفية، على اختلاف أنواعها وأسمائها، أن بينها عقائد وطقوس مشتركة، لأنها تعود في الغالب إلى الفلسفات والديانات الهندوسية والبوذية، منها وجود طاقة أو قوة كامنة في الإنسان منبثقة من قوة الخالق، وهو ما يعرف بعقيدة (وحدة الوجود)(2) ، وتلك الطقوس كلها تسعى، بأشكال مختلفة، إلى إخراج تلك الطاقة بالتوحد مع الذات العالية، وإيجاد التناغم بين الجانبين السلبي الإيجابي اللذين يتكون منهما الوجود، والاستفادة من ذلك في التركيز والصحة وعلاج الأمراض، من خلال تصفية النفس، والصمت والاسترخاء والتأمل، لكنها تختلف فيما بينها في باقي العقائد والطقوس.
فاليوجا (Yoga) مذهب فلسفي هندوسي، يهدف إلى السيطرة التامة على الجسد، وضبط القوى الحيوية، وبلوغ الكمال، ومن ثم الاتحاد بالروح، وذلك بالتصوف والتنسك، كالجلوس طويلاً من دون حركة إطلاقاً، والتأمل(3). وجاء في (معجم(115/987)
ديانات وأساطير العالم) أن "يوجا" (Yoga) كلمة "سنسكريتية تعني : "النير" أو "الاتحاد"، وهي مدرسة هامة في الفلسفة الهندوسية، أثّرت بقوة في الفكر الهندي، نصوصها الأساسية هي "سوترا اليوجا"، والجانب العملي في هذه الفلسفة أهم من النظري: ضبط النفس، والجلوس في وضع معين، الامتناع عن ممارسة الجنس ..إلخ"(4).
و"التاي شي شوان" رياضة طاوية كهنوتية صينية، تتكون من سلسلة من الحركات الدائرية، وتشبه الرقص، ويفضلون أن تمارس في الهواء الطلق، وهي طقوس رياضية لكهنة الطاويين، ترجع جذورها إلى القرن الحادي عشر، وتنسب إلى المفكر الطاوي "شانج سان"، حيث يقال إنه خرج يبحث عن طريقة لتطوير الروح بعيداً عن خوض المعاناة والقسوة، فشاهد أفعى تروغ من غراب مكوّنة شكلاً دائرياً، فصارت هذه الحركة أساساً لرياضة القبضة التي تسعى إلى امتلاك الإنسان نفسه والسيطرة عليها، ثم تطورت تلك الرياضة، وصارت طقوساً يمارسها رهبان الديانة الطاوية في معابدهم. لكنها انتشرت بعد ذلك خارج المعابد بزعم أن لها فوائد صحية وعلاجية، وتقوم فلسفة هذه الرياضة، كما يقول "لي جوان"، أحد الأساتذة الصينيين المتخصصين فيها، على الصبر والتدبير والقدرة على التأقلم والتغير، وإعادة التوازن لطاقة الحياة المعروفة "تشي" بهدف سيطرة الإنسان على حالته الذهنية والوجدانية(5).
والطاوية هي الديانة الثانية في الصين(6) ، وتقوم على عقيدة اتحاد الخالق بالمخلوق (وحدة الوجود)، ويؤمنون بقانون سماوي هو أصل الحياة والحركة في السماء والأرض، وأن على "الطاوي" أن يتجرد من الماديات ليصبح روحاً خالصاً، وأعلى مراتب التصوف عندهم هي مرحلة الوحدة التامة بين الفرد والقانون الأعظم، بحصول اندماج المتصوف بالذات العليا لتصيران شخصية واحدة، وعندما يصل الإنسان إلى المعرفة الحقة يستطيع أن يصل إلى الحالة الأثيرية حيث لا موت ولا حياة، وتتركز الفضيلة لديهم على ترك العمل والاقتصار على التأمل داعين إلى الحياة على الجبال المقدسة وقرب الجزر النائية، ويهاجمون الشرائع والقوانين والعلم وما إلى ذلك من مظاهر المدنية ويرون أنها تفسد الفطرة، ويسعون إلى تحقيق طول العمر رغبة في الخلود، ويزعمون أنه يمكن الوصول إلى الخلود بواسطة تدريبات ورياضات خاصة جسدية وروحية – كما يزعمون-(7).
أما الماكروبيوتيك، فمصطلح، مكون من ألفاظ يونانية قديمة، يعني فن الصحة، ويعد الفيلسوف الياباني "أوشاوا" هو أول من استعمل هذا المصطلح في العصور الحديثة، وتهدف فلسفته عموماً إلى تحقيق الصحة والصفاء وإطالة الحياة بفلسفة خاصة مقتبسة من بعض الديانات الوثنية والفلسفات الهندوسية والطاوية والبوذية وغيرها، وتعتمد على فكرة وحدة الوجود، والعمل على إيجاد توازن بين الجانب السلبي والإيجابي في الحياة، للحصول على حياة صافية نقية بعيدة عن الآلام والأمراض، والتحكم في الطاقة الكامنة في الإنسان، ولكي يتم نشر هذا الفكر وما وراءه من معتقدات، يُظهرون تلك الفلسفة على أنها تهتم بالوصول إلى النقاء وصحة البدن باختيار الأطعمة الطبيعية المناسبة، وتنظيم تناولها.(115/988)
وهذه في الظاهر دعاية يغتر بها من لا يعرف حقيقة تلك الفلسفة الباطلة، لأن الحقيقة هي أنها تنتهي بمتبعيها إلى الخروج من دين الإسلام، لأن هذه الفلسفة تضع لهم نظماً تحكم حياتهم وأفكارهم، تخالف الإسلام، كتحريم تناول اللحوم والأجبان والعسل، وتلزمهم بطرق مبتدعة في مضغ لقمة الطعام تصل إلى 40 – 60 مرة قبل بلعها، وللمريض 200 مرة، ثم تتعدى نطاق الغذاء الذين يدعون إليه علناً، لتصل، في محاضراتهم وتعليماتهم التي يلقنونها أتباعهم ويدربونهم عليها، إلى اعتقاد أن القرآن محرف من التوراة، وكره النبي صلى الله عليه وسلم، وعبادة الله تعالى بالطريقة التي يراها كل إنسان، والانطلاق في كل شيء من القناعة، ومن ثم يترك الشاب الذي يتبعهم كثيراً من دينه، وتتخلى المسلمة عن حجابها، لأنها ولدت لديهم عدم قناعة بتلك التعاليم والعقائد الإسلامية، ولا يتسع المقام لعرض سائر ضلالاتهم.
ويشبه الماكروبيوتيك، إلى حد كبير، فلسفة المهاريشي، التي هي مزيج من اليوجا وغيرها من الفلسفات الهندوسية والبوذية إضافة إلى الفلسفة الإشراقية لأفلوطين، وفلسفة فرويد في التحليل النفسي، ظهرت المهاريشية في أمريكا على يد فقير هندوسي اسمه (مهاريشي)، نشر تلك الفلسفة الهندوسية بين الشباب الضائع الذي أنهكته الحياة المادية، وبقي 13 عاماً يدعو إليها حتى صار له الكثير من القصور والأتباع والأعوان والخبراء، سافر بعدها إلى أوروبا لنشر دعوته هنالك، كما حاول أتباعه نشرها في بعض الدول العربية(8). وتشير دلائل كثيرة إلى صلة هذه جماعة المهاريشية بالماسونية والصهيونية التي تسعى إلى تحطيم القيم الدينية وإشاعة الفوضى العقدية والانحلال.
وباختصار شديد لا تؤمن هذه الجماعة بالله تعالى، ويتخذون المهاريشي إلهاً وسيداً للعالم، ويكفرون بجميع الأديان، لكنهم يظهرون للناس أهدافاً براقة لديانتهم، مثل (علم الذكاء الخلاق)، الذي يزعمون الوصول إليه عن طريق (التأمل التجاوزي)، والذي يتحقق بدوره عن طريق الاسترخاء والصمت، يتم ذلك عبر 4 جلسات موزعة على أربعة أيام، كل جلسة مدتها نصف ساعة، مع عدم إلزام النفس بأي شيء يحول بينها وبين شهواتها(9).
ولا يتسع المقام هنا إلى التفصيل في عرض الأسس العقدية التي قامت عليها تلك الرياضات الفلسفية(10) ، لكن يلاحظ مما سبق، على وجه العموم، أن تلك الرياضات الفلسفية تقوم على عقائد باطلة، تتعارض مع عقيدة الإسلام تعارضاً صريحاً واضحاً، وأن حركاتها وتمارينها البدنية والعقلية لا تعتمد على أسس علمية معروفة ومعتمدة، بل تقوم على محض خبرات بطبيعة البدن وعلاج بعض الأمراض، قد يصح بعضها وقد لا يصح، مبنية على عقائد وتصورات باطلة تماماً عن الخالق والكون والحياة، فممارسة تلك الرياضات الفلسفية واتباع تعاليمها وطقوسها التي تعارض عقائد الإسلام وتخالف وأحكامه، كما هو ظاهر، قد يصل بمتبعيها إلى الانحلال من دين الإسلام.
وينبغي هنا التحذير من مزلق خطير، قد يقع فيه بعض المخدوعين بتلك الرياضات، حتى يسوّغ لنفسه اتباعها والعمل بتعاليمها، وهو سعي بعض المتبعين لتلك الرياضات إلى تأصيلها بأدلة شرعية، ومحاولة تشبيه بعض الأفكار فيها والنصائح(115/989)
الطبية وغيرها بما ورد في الكتاب والسنة، وهذا مسلك غير صحيح، لأن المسميات إن كانت واحدة فإن مضمونها يختلف تماماً، فمعنى كلمة إله ومدلولها لدى المسلم، مثلاً، ليس هو المعنى والمدلول نفسه لكلمة إله لدى الهندوسي، مع أن الكلمة واحدة، وهكذا.
وأما ما يوجد لديهم من تصورات أو أفكار قد يكون فيها بعض الصحة من بعض الجوانب، فهذا لا يعني أنها دليل على صحة فلسفتهم كلها، وإلا لصحت جميع عقائد غير المسلمين كلها لوجود اتفاق في بعض مفرداتها مع ما يفهم من القرآن الكريم، وهذا لا يقول به عاقل، كما لا يعني أن فلسفتهم وديانتهم صحيحة؛ لأنهم يقرنون بهذا التصور أو المعنى الصحيح تصورات باطلة، ويتحدثون عنها ويقدمونها كشيء واحد لا يفرقون فيه بين صحيح وباطل؛ لأنه كله صحيح عندهم، فلا يصلح إذن أن يستدل أحد على صحة تلك الرياضات الباطلة بالكتاب والسنة.
وخير لمن يحاول الاستدلال على صحة تلك الرياضات الفلسفية الباطلة بالكتاب والسنة أن يريح نفسه ويتبع الكتاب والسنة، ولا ينظر إلى غير الإسلام، الذي جعله الله _تعالى_ شاملاً لخيري الدنيا والآخرة، قال _تعالى_: "إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ..." [الإسراء : 9]، وقال _عليه الصلاة والسلام_: "إن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد"(11) _صلى الله عليه وسلم_، فهدي الرسول _صلى الله عليه وسلم_ هو أكمل الهدي وأحسنه، في كل شيء، سواء في الإيمان والعبادة، أو في تهذيب النفس وتزكيتها، أو في الطعام والشراب، أو النوم واليقظة، أو الصمت والكلام، أو الحفاظ على الصحة والعلاج..كل جوانب الحياة، وكثير من الدراسات والبحوث، لا سيما التي يقوم بها غير المسلمين، تكشف ذلك لغير المسلمين وتؤكده ولا تزال.
وما يدعونه من وجود منافع في تلك الرياضات الفلسفية الوافدة، لا يُبيح للمسلم أخذها والعمل بها ودعوة الآخرين إليها؛ لما فيها من اعتقادات باطلة وما يترتب عليها من مخالفات شرعية وفلسفات تحكم حياة الإنسان وتوجهها بعيداً عن عقيدة الإسلام وشريعته، وحين قرأ رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ قوله _تعالى_: "اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ..." [التوبة : 31] قال عدي بن حاتم: "يا رسول الله، إنهم لم يعبدوهم"، فقال _عليه الصلاة والسلام_: "بلى؛ إنهم حرموا عليهم الحلال، وأحلوا لهم الحرام، فاتبعوهم فذلك عبادتهم إياهم"(12).
وإذا كانت هذه الفلسفات الرياضية تنتشر لدى غير المسلمين، فذلك لما في قلوبهم من فساد إيماني، من وثنية وشرك وكفر، وانكباب على الشهوات، يؤدي بهم إلى الاضطراب والقلق والحيرة والإحساس بالضياع، وغير ذلك من الأمراض العقدية، فوجدوا أمامهم تلك الفلسفات الضالة التي لن تصل بهم إلى ما يريدون، إلا أنها سترميهم في مزيد من الضلال والعمى، ولن تروي حاجتهم إلى الإيمان الصحيح، فنقاء النفس والسعادة وراحة القلب والاطمئنان لا تنبت إلا في حقل الإسلام، بالإيمان بالله وتوحيده وذكره والعمل بشريعته، قال _تعالى_: "وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَاراً" [الإسراء : 82]، وقال تعالى: "... قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاء وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى(115/990)
أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ" [فصلت : 44]، وقال _تعالى_: "الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ" [الرعد : 28].
________________
(1) الحديث هنا ليس عن الرياضات العقلية أو البدنية المجردة، والتي تقوم على أسس علمية وطبية بحتة، ولا علاقة لها بتلك العقائد الباطلة والنظريات الفلسفية، ولا تخالف دين الإسلام، فمن المعروف أنه لا يوجد في الإسلام ما يمنع من الاستفادة منها.
(2) انظر: علم الطاقة الباطني، الدكتورة فوز بنت عبد اللطيف كردي، أستاذة العقيدة والأديان والمذاهب المعاصرة، http://www.alfowz.com/
(3) انظر: المنجد في اللغة العربية، المعاصرة، كلمة "(يوغا)، ص 1573.
(4) انظر: معجم ديانات وأساطير العالم، الأستاذ الدكتور إمام عبد الفتاح إمام، المجلد الثالث. ص 474.
(5) الدكتور محمد المخزنجي، العربي، 437، ص 133.
(6) شعار هذه الديانة "ين يانج" دائرة بها خط ملتو يقسمها إلى قسمين، أحدهما أبيض والآخر أسود، وفي كل قسم توجد دائرة صغيرة، السوداء في القسم الأبيض، والبيضاء في القسم الأسود، وهو شعار يمثل الجانب المظلم والجانب المشمس من التل في الأساطير والفلسفة الصينية، وهو رمز للصراع، تمثل فيه "ين" جانب الأنثى وهو السلبية، و"يانج" جانب الذكر وهو الإيجابية. وهذا الشعار مشهور، ويوضع على بعض المصنوعات، انظر: معجم ديانات وأساطير العالم، ج3، ص 473. وعالم تحكمه الرموز، شوقي رافع، العربي، 422، ص 54.
(7) انظر: الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب المعاصرة، الندوة العالمية للشباب الإسلامي، ص 359 وما بعدها.
(8) وصل بعضهم إلى دبي، وعقدوا اجتماعاً في بعض الفنادق، يدعون فيه علانية لمذهبهم، وقد ألقي القبض على هؤلاء الأشخاص وأبعدوا عن البلاد، كما وصل بعضهم إلى الكويت، بدعوى إقامة مؤسسة خيرية، مارسوا هناك بعض النشاطات قبل أن تنكشف أهدافهم الحقيقية. (الموسوعة الميسرة، ص 461، 462).
(9) انظر: الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب المعاصرة، الندوة العالمية للشباب الإسلامي، ص 457 وما بعدها.
(10) لمن أراد الاطلاع على تفصيلات علمية شاملة حول هذه الرياضات الفلسفية، يمكنه قراءة بحث (الفكر العقدي الوافد ومنهجية التعامل معه) في الموقع الآتي:
http://www.alfowz.com/
(11) أخرجه مسلم في صحيحه، رقم 867.
(12) انظر غاية المرام، رقم 6، حديث حسن.
ـــــــــــــــــــ
ربانية الحج (1/2)
خالد السيد روشه
8/12/1426(115/991)
ارسل تعليقك ...
لا توجد تعليقات ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
الإنسان المؤمن ليس عقلاً مجرداً.. ولا كائناً جامداً.. ولا تركيباً صامتاً.. إنه عقل وقلب, إيمان وعاطفة, قناعة وتأثر.. وفي ذلك سر من أسرار شرفه وكرامته, وتفانيه وتضحيته, ومن استطاع أن يسيطر على عواطفه وأشبع بها عقله.. استطاع أن يوجهه ويقوده ويأسره..
فأنت ترى أن الله _سبحانه_, وهو العليم الخبير, الذي يعلم خلقه تمام العلم ويعرفهم كامل المعرفة, لم يجعل صلة العبد المؤمن بربه صلة جامدة عقلية مجردة, ولم يجعلها كذلك قائمة على خضوع وقوانين ومحددات حسابية جافة, إنما هي صلة حب وتفان ورغبة, صلة تحمل على البكاء رغبة وشوقا.. وتحمل على بذل النفس حباً وكرامة.. قال الله _تعالى_: " قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ" (التوبة:24).
الإنسان المؤمن ليس عقلا مجردا.. ولا كائنا جامدا.. ولا تركيبا صامتا.. إنه عقل وقلب, إيمان وعاطفة, قناعة وتأثر.. وفي ذلك سر من أسرار شرفه وكرامته
والمؤمن دائماً فقير إلى غذاء قلبه أكثر مما هو فقير إلى غذاء جسده, وهو محتاج دائما إلى أن يقضي شوقه, ويبث حنينه, ويعرب عن حبه..
وانظر إلى كيف يرغب القرآن والسنة في ارتياد الأماكن الطاهرة التي يذكر فيها المرء ربه, ويناجيه: فعند أصحاب السنن وصححه الألباني في الترغيب والترهيب قول النبي _صلى الله عليه وسلم_: "المسجد بيت كل تقي", وفي صحيح مسلم من السبعة الذين يظلهم الله في ظله "ورجل قلبه معلق بالمساجد".
يقول الغزالي: فالشوق إلى لقاء الله _عز وجل_ يشوقه إلى أسباب اللقاء لا محالة, هذا مع أن المحب مشتاق إلى كل ماله إلى محبوبه إضافة, والبيت مضاف إلى الله _عز وجل_, فالحري أن يشتاق إليه لمجرد هذه الإضافة, فضلاً عن الطلب لنيل ما وعد عليه من الثواب الجزيل".
ويقول: "ووضعه – أي البيت – على مثال حضرة الملوك يقصده الزوار من كل فج عميق, ومن كل أوب سحيق, شعثاً غبراً, متواضعين لرب العالمين, ومستكينين له, خضوعاً لجلاله واستكانة لعزته مع الاعتراف بتنزيهه وتقديسه _سبحانه_,..... لذا فقد وظف عليهم أعمالاً لا تأنس إليها النفوس ولا تهتدي إلى معانيها العقول؛ كرمي الجمار بالأحجار، والتردد بين الصفا والمروة على سبيل التكرار، وبمثل تلك الأعمال يظهر كمال الرق والعبودية.."
لبيك بحجة حقاً.. تعبداً ورقاً...(115/992)
يقول القاسمي: "إذا اقتضت حكمة الله _تعالى_ ربط نجاة الخلق بالانقياد وعلى مقتضى الاستعباد كان ما لا يهتدى إلى معانيه كلها أبلغ في تزكية النفس إذ عليها فيه الانقياد والطاعة.. وصرفها عن مقتضى الطباع والأخلاق إلى مقتضى الاسترقاق".
لذا كان تعظيم شعائر الله _تعالى_ بإجلالها بالقلب ومحبتها، وتكميل العبودية فيها؛ يقول ابن القيم: "وروح العبادة هو الإجلال والمحبة، فإذا تخلى أحدهما عن الآخر فسدت".
وقال النبي _صلى الله عليه وسلم_: "لا تزال هذه الأمة بخير ما عظموا هذه الحرمة [يعني: الكعبة] حق تعظيمها، فإذا ضيعوا ذلك هلكوا" أخرجه ابن ماجه.
تسليم كامل.. وانقياد فياض:
إن المؤمن بحاجة دائماً إلى تذكير نفسه وترويض عقله على التسليم والانقياد..كما قال _سبحانه_: "فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً" (النساء:65).
والحج خير مثال لتحقيق هذا التسليم، فإنّ ذاك السفر وذاك التنقل بين الأماكن ثم الطواف حول البيت، ورمي الجمار, ثم الحلق.. والذبح وغيره.. كل ذلك نماذج تطبيقية للتحقيق العملي لمعنى التسليم حيث يقوم المؤمن بذلك في سعادة غامرة وإقبال فياض.
وانظر إلى عمر وهو يتفهم هذا المعنى بجلاء، فيقول عن الحجر الأسود: "إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقبلك ما قبلتك" أخرجه البخاري.
يقول الحافظ ابن حجر: "وفي قول عمر هذا التسليم للشارع في أمور الدين، وحسن الاتباع فيما لم يكشف عن معانيها، وهو قاعدة عظيمة في اتباع النبي _صلى الله عليه وسلم_ فيما يفعله ولو لم يعلم الحكمة فيه" (فتح الباري).
ويقول ابن القيم: "إن مبنى العبودية والإيمان بالله وكتبه ورسله على التسليم، وعدم الأسئلة عن تفاصيل الحكمة في الأوامر والنواهي والشرائع، ولهذا لم يحك الله _سبحانه_ عن أمة نبي صدقت نبيها وآمنت بما جاء، أنها سألته عن تفاصيل الحكمة فيما أمرها بها، ونهاها عنه، وبلغها عن ربها، بل انقادتْ، وسلمتْ، وأذعنت" (الصواعق المرسلة).
نهل بالتوحيد..
لقد علم رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ أن يستهل المؤمن حجه بالتلبية رافعاً لواء التوحيد: «لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك», قال جابر بن عبد الله _رضي الله عنه_ راوي حديث حجة الوداع "ثم أهل – يعنى النبي صلى الله عليه وسلم – بالتوحيد" رواه مسلم, ومن أجل التذكير بذلك وتحقيقه فقد شُرع للحاج أن يقرأ في ركعتي الطواف ـ بعد الفاتحة ـ بسورتي الإخلاص "قل هو الله أحد"، و"قل يا أيها الكافرون"، كما كان يفعل الرسول _صلى الله عليه وسلم_.
كما شَرعَ له التهليل عند صعود الصفا والمروة كذلك بالتوحيد، بقول: «لا إله إلا الله، والله أكبر، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، يحي ويميت، وهو(115/993)
على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده».
وأن يقول يوم عرفه: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، يحي ويميت، وهو على كل شيء قدير».
ـــــــــــــــــــ
ربانية الحج (2/2)
خالد السيد روشه
10/12/1426
ارسل تعليقك ...
لا توجد تعليقات ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
إنهم هناك.. في أيام المشاعر المعظمة.. تجتمع هممهم, وتتجرد للطاعة والابتهال قلوبهم, وترتفع إليه سبحانه أيديهم وتمتد إليه أعناقهم وتشخص نحو السماء أبصارهم, مجتمعين بهمة واحدة على طلب الرحمة والغفران.. فلا ثم منفعة شخصية دنيوية, ولا رغبة مال أو متاع, ولكن رجاء ألا يخيب الله منهم الظنون ويقبل منهم السعي, ويفيض عليهم من رحماته ورضوانه, فهل ترى يكون هناك خلق بغيض لمن صدق؟ أو سوء سلوك لمن أخلص؟ كيف وهم يحلون بمواضع لم يزل الصالحون يعظمونها ويحلون فيها ويعمرونها بذكر الله, والملائكة يتنزلون من حولهم بكل موضع..
فاللباس الأبيض المشابه للكفن, الذي يستوي فيه الجميع غنيهم وفقيرهم عزيزهم وذليلهم هو علامة التواضع وشارة التسوية ولذلك يقول _صلى الله عليه وسلم_: "من ترك اللباس وهو يقدر عليه تواضعا لله _تبارك وتعالى_ دعاه الله _تبارك وتعالى_ يوم القيامة على رؤوس الخلائق حتى يخيره في حُلل الإيمان أيها شاء" رواه أحمد والترمذي... فلا مكان إذن للخيلاء ولا للزينة ولا للفخر ولا للزخرف تطبيقا لقوله _صلى الله عليه وسلم_: "إن الله أوحى إليّ أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد" رواه ابن ماجه.
إنهم هناك.. في أيام المشاعر المعظمة.. تجتمع هممهم, وتتجرد للطاعة والابتهال قلوبهم, وترتفع إليه _سبحانه_ أيديهم وتمتد إليه أعناقهم وتشخص نحو السماء أبصارهم, مجتمعين بهمة واحدة على طلب الرحمة والغفران
وهم فوق ذلك في مدرسة للتربية على العفو والصفح، والنسيان والغفران, والتغاضي عن الزلات.. قال _تعالى_: "فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ", فهم يذكرون قول الله _تعالى_: "خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ" وذكر الله من صفات المؤمنين بقوله: "الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ". وقوله: "إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ"، "وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ"(115/994)
وقد ذكرت عائشة - رضي الله عنها - عندما سئلت عن أخلاق النبي _صلى الله عليه وسلم_ فقالت: "لم يكن فاحشاً ولا متفحشا، ولا صخابا في الأسواق ولا يجزي بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويصفح " رواه الترمذي وقال حسن صحيح. وقال _صلى الله عليه وسلم_: "من كتم غيظا وهو قادر على أن ينفذه دعاه الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق حتى يخيره من الحور العين فيزوجه منها ما شاء" رواه الترمذي.
إحياء الثورة.. وتجديد الفكرة..
إنه عرضة سنوية للملة الحنيفية, تعمد بقاءه وترفع أصالته, فمهما حورب هذا الدين ومهما قوتلت هذه الثورة.. فالإسلام باق, والقرآن باق, ولباس الحج الأبيض يحيط بموروثات تلك الشريعة الربانية, فبوجود تلك المؤسسة العظيمة تبقى هذه الأمة عبر الأجيال رافعة نبراسها, خفاقة أعلامها, محتفظة بطبيعتها, مهما ادعى المدعون تغير الزمان وتبدل الأحوال, فهو ذات المنظر الذي حج به هادي البشرية منذ مئات السنين, وحوله حواريوه وربانيوه, فلتبق هذه الأمة محتفظة بطبيعتها الإبراهيمية العطوف الرءوم, الثائرة القوية, تتوارثها الأجيال فلكأنها القلب الحي الفياض الذي يضخ الدم كل عام في شرايين ذلك المجتمع مترامي الأطراف...
ولاء وبراء..
ومهما تفرقت لبنات الأمة أو تشرزمت جماعاتها، فالحج يجمع الشمل، وينمي الولاء ويعيد الحب ويدعو إلى النصرة، وإذا كان المسلمون يجمعهم مصدر واحد في التلقي وقبلتهم واحدة، فهم في الحج يزدادون صلة واقتراباً، حيث يجمعهم لباس واحد، ومكان واحد، وزمان واحد، ويؤدون مناسك واحدة.
كما أن في الحج أنواعاً من صور الولاء للمؤمنين: حيث الحج مدرسة لتعليم السخاء والإنفاق، وبذل المعروف..
كما أن فيه ترسيخ لعقيدة البراء من المشركين ومخالفتهم؛ يقول ابن القيم: "استقرت الشريعة على قصد مخالفة المشركين لا سيما في المناسك".
لقد لبى النبي _صلى الله عليه وسلم_ بالتوحيد، خلافاً للمشركين في تلبيتهم الشركية، وأفاض من عرفات مخالفاً لقريش حيث كانوا يفيضون من طرف الحرم، كما أفاض من عرفات بعد غروب الشمس مخالفاً أهل الشرك الذين يدفعون قبل غروبها.
ولما كان أهل الشرك يدفعون من المشعر الحرام (مزدلفة) بعد طلوع الشمس، فخالفهم الرسول _صلى الله عليه وسلم_، فدفع قبل أن تطلع الشمس.
وأبطل النبي _صلى الله عليه وسلم- دعوى الجاهلية كما في خطبته في حجة الوداع، حيث قال: " كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع" أخرجه مسلم, يقول ابن تيمية: "وهذا يدخل فيه ما كانوا عليه من العادات والعبادات، مثل: دعواهم يا لفلان، ويا لفلان، ومثل أعيادهم، وغير ذلك من أمورهم" (اقتضاء الصراط المستقيم).
يا زائرين.. متى نلحق بركب الصالحين؟
لقد تذكرت حجة النبي _صلى الله عليه وسلم_ وأنا أكتب ذلك المقال, وذكرت كيف ذرفت عينا أبي بكر رضي الله عنه لما علم أنها الحجة الأخيرة.. وأنه الوقت الموعود.. وأنها أيام الفراق..(115/995)
لكأني أرى النبي _صلى الله عليه وسلم_ وهو يخطب في أمته ويعظ العالمين, وهيبته قد غطت المقام, ودموع أصحابه تذرف وقلوبهم توجل, والميثاق تتنزل كلماته تترا..ليؤذن أنه وحي خالد ودين راسخ.
فيا زائرا مع الزائرين: هل تراك ذكرت أن ربك قد اصطفاك هذه الأيام من دون خلقه ليزداد قربك منه وتضع قدمك موضع سيد الأبرار؟ ويطلع عليك في عرفه, ويباهي بك ملائكته؟ هل تراك وأنت تذرف الدمع الساخن, حمدت الله على النعمة؟ وجددت العهد مع الرحيم؟ ومحوت بالتوبة النصوح زلات السنين؟
ويا أيها الذي لم يقدر له أن يلحق بالزائرين.. متى تخلص في الدعاء ليلحقك بالصالحين؟!!
ـــــــــــــــــــ
معالم في طريق تكوين شخصية القائد..
خالد روشه
3/12/1426
ارسل تعليقك ...
تعليقات سابقة ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
لا تستحق شخصية من الشخصيات أن تسمى قائدة إلا إذا حصلت مؤهلين اثنين : الأول ..الدوافع القوية لاتخاذ القرار الجريء تجاه الباطل ونصرة الحق , والثاني .. الأخلاق القيادية التي تضبط السير في طريق القيادة حتى تبلغ غاياتها المنشودة....
والحق الذي لا يماري فيه منصف أن التاريخ لم يعرف ولن يعرف منهجا يستطيع أن يؤهل الشخصيات ويصقلها ويربيها ويهيئها للقيادة على أكمل وجه كمنا يفعل المنهج الإسلامي الإيماني العظيم.
وتعود هذه الحقيقة إلى أن منهج الإسلام في تكوين الشخصية التي تقود العالم هو منهج من عند الله _سبحانه وتعالى_ الذي يعلم طاقات الإنسان ويستطيع أن يستثيرها ويوجهها وينميها نحو تحقيق أكرم الأهداف.
فأما المؤهل الأول للقيادة – وهو الدافع القيادي لاتخاذ القرار ضد الباطل –فقد تكفلت به في الإسلام عقيدة إيمانية تحب الخير وتبغض الشر وتتقرب إلى الله بالشفافية الكاملة والمراقبة المخلصة تجاه فعل الخير وحبه ومضادة الشر وكراهيته , بل إنها تدفعه دفعا لنيل الثواب بالمسارعة إلى إبطال الباطل وإحقاق الحقوق ولو كان ذلك على نفسه أو أقرب المقربين إليه "يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين " النساء
والحق الذي لا يماري فيه منصف أن التاريخ لم يعرف ولن يعرف منهجا يستطيع أن يؤهل الشخصيات ويصقلها ويربيها ويهيئها للقيادة على أكمل وجه كمنا يفعل المنهج الإسلامي الإيماني العظيم.(115/996)
وأما المؤهل الثاني – وهو أخلاق القيادة – فقد تكفلت به تربية ربانية إيمانية للشخصية المسلمة وضع مقوماتها القرآن وبين فروعها وتطبيقها النبي _صلى الله عليه وسلم_ وتبعها صحبه الكرام وتابعوهم ..
وسنحاول أن نتتبع بإيجاز أثر العقيدة الإسلامية والتربية الإسلامية في تكوين شخصية القائد:
أولا أثر العقيدة:
ونقصد بالعقيدة جميع القنا عات العقلية والقلبية الجازمة التي يزرعها الإسلام في قلوب أتباعه عن الخالق سبحانه وصفاته وأفعاله وعن الإنسان وعلاقته بربه ووظيفته ومركزه ومصيره وعن الآخرة وما سيكون فيها من حساب وجزاء وثواب وعقاب ..إننا نرى أن أركان الإيمان كلها تقف وتتكاتف في تكوين أعظم الدوافع.
1- عقيدة الإيمان بالله وأثرها في تكوين شخصية القائد:
إن التحرر من العبودية لغير الله عز وجل لهو الخطوة الأولى والدفعة الأقوى في سبيل التغلب على قياد النفس وهواها ومن ثم الانطلاق نحو الحياة في مصاف الصادقين أصحاب التضحيات العظام فلا خضوع حينئذ لبريق شهوة ولا خنوع لسطوة قوة أرضية مهما غشمت فالحياة حينئذ تكون لله وحده والنفس تكون عبدة مخلصة لباريها ترى سعادتها في إنفاذ أمره وتستشعر خلودها في الفناء في سبيل مرضاته , أما الذين يسترقون أنفسهم بدراهم ما تزال أن تنتهي ومراكز ما تلبث أن تخلو وقصور ما تلبث أن تخرب .. فأولئك هم العبيد المسترقون لعدوهم المستذلون لأنفسهم عليهم شعار الخيبة ودثار المهانة ولما عرف العدو هؤلاء المرضى، وأدرك ما يعبدون من الشهوات، عرض عليهم قسطا وافرا منها، فأسال لعابهم، فساومهم على مبادئهم وقيمهم وعلى أوطانهم وأمتهم بل على أهلهم وأعراضهم ، فدفعوها أثمانا لما يطلبون فاتخذ منهم عملاء وخونة وجواسيس، وفرض عليهم مناهج وشروطا، فأطاعوه مقابل ما يضمن لهم من الهوى.
ففي إحدى المعارك مع الروم قال بعض المسلمون : إنه قد حضركم جمع عظيم من الروم ونصارى العرب ، فإن رأيتم أن تتأخروا، ويكتب إلى أبي بكر، فيمدكم، فقال هشام ابن العاص _رضى الله عنه_: إن كنتم تعلمون أنما النصر من عند العزيز الحكيم، فقاتلوا القوم: وان كنتم تنتظرون نصرا من عند أبي بكر، ركبت راحلتي ألحق به، فقالوا : ما ترك لكم هشام بن العاص مقالا: فقاتلوا قتالاً شديداً، وهزم الله الروم، فمر رجل بهشام وهو قتيل فقال له : رحمك الله هذا الذي كنت تبغي!
وفي يوم مؤته كان المسلمون ثلاثة آلاف رجل، ولما وصلوا إلى معان (بلدة في جنوب الأردن) بلغهم أن هرقل نزل في مئة ألف جندي من الروم، وانضم إليه من نصارى العرب مئة ألف آخرون، فقال بعض المسلمين: نكتب إلى رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ نخبره بعدد عدونا، فإما أن يأمرنا بأمره، فنمضي له، فقام عبد الله بن رواحه ـ رضي الله عنه ـ وخطب الناس فقال: يا قوم : والله إن كان التي تكرهون للتي خرجتم تطلبون، إنها الشهادة، وما نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا كثرة ، ما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به، فانطلقوا، إنها إحدى الحسنيين، إما ظهور وإما شهادة، فقال الناس: قد والله صدق ابن رواحه.(115/997)
روى ابن إسحاق عن معاذ ابن عمرو ابن الجموح قال: سمعت القوم وهم يقولون: أبو الحكم لا يخلص إليه، فجعلته من شأني، فصمدت نحوه، فلما أمكنني حملت عليه، فضربته ضربه قطعت قدمه بنصف ساقه، وضربني ابنه على عاتقي فطرح يدي، فتعلقت بجلدة من جنبي، وأجهضني (أي: غلبني واشتد عليه) القتال عنه؛ فلقد قاتلت عامة يومي، وإني لأسحبها خلفي، فوضعت عليها قدمي، ثم تمطيت عليها حتى طرحتها... ( فانظر ماذا فعلت قوة الروح في هذا الرجل، حتى تخلى عن ذراعه بتلك الطريقة التي ذكرها، ولم يمنعه الألم ونزف الدم من مواصلة القتال؛ حيث غطت قوة يقينه على كل ألم).
2- أثر الإيمان بالرسول _صلى الله عليه وسلم_ في تكوين الشخصية القيادية:
إن المؤمن الذي أيقن في أن رسوله قد جاء بالهدى والنور لهذه البشرية فأحبه حباً اكتمل معه إيمانه فصار أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين.. كان سعيه في الإقتداء به سعي الصادقين ..فإذا بالحياة في الاقتداء بالنبي _صلى الله عليه وسلم_ كلها نور وحبور وصلة بالأرض للسماء وغدا الكون كله جنديا معه يكافح ويناضل في صفه ..ولما كانت شخصية النبي _صلى الله عليه وسلم_ قد اكتملت كشخصية قيادية نموذجية كان في الاقتداء بها خطوة كبرى على طريق القيادة الناجحة المنجزة .. التي تجمع بين رضا الرب سبحانه وفهم الناس وحسن القرار ونبل الهدف وإخلاص السلوك .. ولقد بينت لنا السير كيف كان حرص قادة هذه الأمة الأوائل على اقتفاء أثر النبوة في قيادتهم للبشرية في كل حين ووقت ..حتى إن أحدهم ليقيم مدى نجاحه وفشله بمدى تطبيقه لأوامر نبيه _صلى الله عليه وسلم_ ونواهيه وأخذه وعطائه وإقدامه وإحجامه..
3- أثر الإيمان باليوم الآخر في تكوين شخصية القائد:
إن الذي يحيا متيقنا بالحياة الآخرة يقينا لا غبش فيه ولا شك, تتغير حياته تغيرا إيجابيا يكاد يرفعه إلى مصاف الصالحين فور إيمانه بذلك.. والذي يعيش منتظرا النهاية والموت في كل حين يعيش معدا لها.. والذي يحب الجنة لاشك يبذل لها .. والذي يخشى النار لاشك يهرب منها.. لذا كان عجب السلف الصالحين أكثر ما يكون ممن (أيقن بالجنة ولم يفر إليها وأيقن بالنار ولم يهرب منها).
إن عقيدة المؤمن الراسخة لتشده إلى الحياة الروحانية في ظل وارف من ظلال الجنة و يستهين في الحياة فيها بزخرف الدنيا ومتاعه ويستصغر كل زينة فيها لمل يقارنها بموعود صادق من ربه له في الآخرة ... وإذا كان المسلم بالشهادتين ينطلق ويندفع إلى التضحية، فإن عقيدته وتصوره عن الآخرة تشده إلى العطاء الدائم شدا، وتملأ قلبه بالشوق إلى الشهادة، لأن هذه العقيدة تعرفه على حقيقة هذه الدنيا، وقيمة متاعها، وأنها ليست سوى مرحلة من مراحل وجوده، وممر ووسيلة إلى مرحلة نهائية، فيها القيم الخالدة، والتجارة الرابحة، والفوز الحقيقي .
يروى عن صلاح الدين الأيوبي أنه كان يحمل معه صناديق مقفلة في أيام جهاده، وكان يحرص عليها أعظم الحرص، ويرعاها أشد الرعاية، وبعد وفاته فتحت هذه الصناديق فوجد الذين فتحوها أنها تحوي وصية صلاح الدين وكفنه وكمية من(115/998)
التراب من مخلفات أيام جهاده .. فانظر إلى حياة القائد المنتصر كيف يراها موصولة في سبيل الله أرضها وسماءها , موتها وحياتها..
ورد عن أم حارثة سراقة أنها أتت النبي _صلى الله عليه وسلم_ فقالت: يا نبي الله، ألا تحدثني عن حارثة ـ وكان قتل يوم بدر بسهم ـ فإن كان في الجنة صبرت، وإن كان غير ذلك اجتهدت عليه في البكاء؟ قال: يا أم حارثة، إنها جنان في الجنة، وإن ابنك أصاب الفردوس الأعلى. فانظر إلى هذه الصحابية الجليلة كيف استقر في قلبها أن الخسران الذي يستحق البكاء هو فوات الجنة، بعدم إحراز الشهادة.
وروى البخاري عن أنس _رضي الله عنه_ قال: لما طعن حرام بن ملحان، قال بالدم هكذا، فنضحه على وجهه ورأسه، وقال: فزت ورب الكعبة. و أن الذي قتله جبار بن سلمى الكلابي. قد سأل ما قوله فزت ؟ متعجبا .. قالوا يعنى الجنة فقال: صدق الله، ثم أسلم !!
4- أثر الإيمان بالقدر في تكوين شخصية القائد:
والإيمان بالقدر يغير النفس من نفس خائفة وجلة مهتزة مترددة إلى نفس واثقة مطمئنة ثابتة فتصلح حينئذ لتلقي مهام القيادة ويلتف حولها الناس مستلهمين منها اليقين تطبيقاً لا قولاً , ويراها الجميع أجدر ما تكون بالقيادة .. فالإيمان بقضاء الله يحطم الحواجز المثبطة للإنسان عن البذل والعطاء ويقتل الخوف على الرزق أو النفس مادام ذلك لله .. روى أصحاب السنن قول النبي _صلى الله عليه وسلم_: "لا يمنعن أحدكم مخافة الناس أن يقول بحق إذا رآه أو سمعه فإنه لا يقرب من أجل ولا يباعد من رزق"..
فبالإيمان بقدر الله _عز وجل_ في الآجال والأعمار وأسباب انتهائها يتحرر المؤمن من الخوف من الموت؟، والخوف على الحياة، حيث آمن أن الله _عز وجل_ هو الذي يحيي ويميت، وأن أسباب الموت والحياة بيده سبحانه، وأن لكل مخلوق لحظة محددة في علم الله _عز وجل_ يخرج فيها من هذه الدنيا، مهما اتخذ لنفسه من وسائل الحماية والوقاية.
وقد أنكر الله _سبحانه_ على الذين يظنون القعود الكسل والخنوع مهربا من الموت قال _عز وجل_ " وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غزي لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا، ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم، والله يحيي ويميت، والله بما تعملون بصير".
إن القائد المؤمن إذا أحيا في نفسه هذه المعاني اليقينية السامية انطلق في الرحاب بنورانية لم تسبق وشجاعة لم يعتادها الدنيويون ..
ثانيا : أثر التربية الإسلامية في تكوين شخصية القائد:
1- استواء الشخصية وطهارة الباطن:
المنهج الإسلامي التربوي حريص دائما على بلورة شخصية القائد بشكل يتم فيه استواء شخصيته مع زيادة إيمانه , فلا يفرق المنهج الإسلامي التربوي بين زيادة الإيمان وحسن السلوك وطهارة الباطن , بل رفع النبي صلى الله عليه وسلم منزلة الخلق الحسن فقال كما روي في الصحيح " إن أقربكم منى مجلسا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا " ..لذلك لا تكتمل شخصية القائد على المستوى التربوي في النهج(115/999)
الإسلامي حتى يكتمل شخصيتة من شتى الجوانب وتهذب أخلاقه وتتضح مبادئه وتعلو قيمه ..
فقد كتب عمر بن الخطاب _رضي الله عنه_ إلى قائدة سعد بن أبي وقاص _رضي الله عنه_ ومن معه من الأجناد : أما بعد، فإني آمرك ومن معك من الأجناد بتقوى الله على كل حال؛ فإن تقوى الله أفضل العدة على العدو، وأقوى المكيدة في الحرب، وآمرك ومن معك أن تكونوا أشد احتراسا من المعاصي منكم من عدوكم؛ فإن ذنوب الجيش أخوف عليهم من عدوهم، وإنما ينصر المسلمون بمعصية عدوهم لله، ولولا ذلك لم تكن لنا بهم قوة؛ لأن عددنا ليس كعددهم ولا عدتنا كعدتهم ، فإن استوينا في المعصية كان لهم الفضل علينا في القوة، وإلا ننصر عليهم بفضلنا لم نغلبهم بقوتنا، واعلموا أن عليكم في سيركم حفظة من الله يعلمون ما تفعلون ، فاستحيوا منهم، ولا تعملوا بمعاصي الله وأنتم في سبيل الله، ولا تقولوا: إن عدونا شرمنا فلن يسلط وإن أسأنا، فرب قوم سلط عليهم شر منهم، كما سلط على بني إسرائيل لما عملوا بمساخط الله كفرة المجوس " فجاسوا خلال الديار وكان وعدا مفعولا " الإسراء ـ الآية 5 ، واسألوا الله العون على أنفسكم كما تسألونه النصر على عدوكم ... ).
2- وضوح الهدف ووجود الدافعية:
إن المنهج التربوي الإسلامي ليؤكد دائما على وضوح الهدف من سلوك العطاء مهما كان عظيما أو قليلا .. ففي الصحيح أن النبي _صلى الله عليه وسلم_ سئل عن الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حمية أي ذلك في سبيل الله؟ فقال : من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله " ...كما أنه _صلى الله عليه وسلم_ قد حذر من شوائب النوايا في الأعمال الصغيرة، فقال: " اتقوا الشرك الأصغر فإنه أخفي من دبيب النمل " يقصد الرياء ..فانظر إلى أي مدى يؤكد هذا المنهج على وضوح المقصود وشفافية النوايا..
بل إن النبي _صلى الله عليه وسلم_ قد خوف الذين ينأون بأنفسهم عن تغذية دوافعهم الذاتية للبذل والعطاء والجهاد والفداء فقد قال _صلى الله عليه وسلم_ فيما رواه مسلم "من مات ولم يغز ولم يحدث به نفسه مات على شعبة من النفاق" .
ولقد تخرج على هذه التربية نماذج من القادة لم تعرف البشرية لهم مثيلا سواء على مستوى وضوح الهدف وجلاء المرتجى أو على مستوى ذاتية الدافع نحو العطاء والبذل على كافة المستويات , فإنك تجد نماذج ربانية لا تبالي بحياة وارفة ولا نعيم زائل .. بل ترفرف نحو الجنان غير عابئة بقلة زاد الدنيا .. مهما ندر.
فقد دعا عبد الله بن جحش ربه، فقال: اللهم إني أقسم عليك أن ألقى العدو غدا، فيقتلوني، وشوهد آخر النهار وأنفه وأذناه معلقان في خيط .
ولما خرج رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ إلى بدر أراد سعد بن خيثمة وأبوه جميعا الخروج معه، فذكر ذلك للنبي، فأمران يخرج أحدهما ، فقال خيثمة لابنه سعد: إنه لابد لأحدنا أن يقيم ، فأقم مع نسائك، فقال سعد: لو كان غير الجنة لآثرتك به، إني أرجو الشهادة في وجهي هذا ، فأسهما، فخرج سهم سعد، فخرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بدر ، فنال الشهادة.(115/1000)
و عن ابن عمر _رضي الله عنهما_، قال: عرضت على رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ يوم بدر فاستصغرني ، فلم يقبلني، فما أتت علي ليلة قط مثلها في السهر والحزن والبكاء؛ فحمدت الله على ذلك.
وقال محمد بن سيرين: إن كان الرجل من أصحاب النبي _صلى الله عليه وسلم_ يأتي عليه ثلاثة أيام لا يجد شيئا يأكله، فيأخذ الجلدة فيشويها فيأكلها، فإذا لم يجد شيئا أخذ حجرا فشد به صليه .
وأخرج الترمذي وصححه ( أن الرسول _صلى الله عليه وسلم_ كان إذا صلى بالناس يخر رجال من قامتهم في الصلاة من الخصاصة ) .
ويوم الأحزاب كان رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ وصحابته يحفرون الخندق، وقد شدوا على بطونهم الحجارة من الجوع . وفوق الجوع والعطش كانوا _رضوان الله عليهم_ يتحملون ويصبرون على قلة ذات اليد، وقلة الثياب والأمراض والجراح في سبيل الله :ـ
3- العطاء:
هو دليل أكيد على حسن تربية المؤمن تبعا لهذا المنهج التربوي الصالح , والقائد الذي لا يتصف بالعطاء هو القائد ذي المنافع الشخصية الذي يزدريه الناس وينفر منه القريب والبعيد , وقد أكد المنهج الرباني على معنى العطاء تأكيدا كبيرا، فقال الله _سبحانه_ : " إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله، فيقتلون ويقتلون.." (التوبة الآية 111).
وقال _عز وجل_: " يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم ، تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ، ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون " (الصف ـ الآيتان 10، 11).
وقد روى مسلم عن عائشة _رضي الله عنها_ لما سئلت : هل كان رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ يصلي قاعداً ؟ فقالت:" نعم بعدما حطمه الناس " , تقصد أتعبوه وأرهقوه وبذل معهم الجهد والمشقة في تبليغهم الخير وحل أزماتهم وتعليمهم الإيمان والهدى غير عابئ ببذل أو عطاء مهما كبر وعظم .
لذا تعلم منه أصحابه _رضي الله عنهم_ .. فجاءه أبو بكر بماله كله ينفقه لله ولما سأله ماذا أبقيت لأهلك قال : أبقيت لهم الله ورسوله , وجاء عمر بشطر ماله .. وجهز عثمان جيشا بأكمله .. وتصدق طلحة بخير ما يحب من بساتينه .. وترك صهيب تجارته وماله وهاجر فقيراً بلا درهم ولا دينار، ومات مصعب ولم يجدوا له شيئاً يكفنونه به ..فأي عطاء منحه هؤلاء وأي بذل نثروه
ـــــــــــــــــــ
غياب الأمن.. كيف يؤثر في التربية؟
يزيد حمزاوي
25/11/1426
ارسل تعليقك ...
لا توجد تعليقات ...
ارسل الصفحة ...(115/1001)
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
وقعت عيني على كلام نفيس للماوردي، في صدد حديثه عن ضرورة إشباع حاجة الإنسان إلى الأمن.
يقول الماوردي: " ليس لخائف راحة، ولا لحاذر طمأنينة، فالأمن أهنأ عيش، والعدل أقوى جيش؛ لأن الخوف يقبض الناس عن مصالحهم ويحجزهم عن تصرفهم، ويكفهم عن أسباب الموارد التي بها قوام أودهم... ومن عمه الأمن كمن استولت عليه العافية، فهو لا يعرف قدر النعمة بأمنه حتى يخاف، كما لا يعرف المعافى بعافيته حتى يُصاب".
والدراسات الحديثة في علم النفس والاجتماع وغيرهما، كلها تذهب إلى ما ذهب إليه الماوردي، فنرى مثلاً أبراهام ماسلو في تصنيفه لحاجات الأفراد، حسب هرمه المشهور، يجعل الأمن من أولى الحاجات التي يجب إشباعها بعد الحاجات الفسيولوجية، كالنوم والماء والطعام والهواء... وربنا _جل وتعالى_ يشير إلى هذه الحقيقة في القران الكريم في قوله: " فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف" فمن الله على قريش بأن أنعم عليها بنعمتي الطعام والأمن، وقرن بين هاتين الحاجتين الإنسانيتين اللتين لا استغناء لأحد عنهما.
أمام علماء الصحوة اليوم دور ضروري ومحوري، وهو تهدئة العالم الإسلامي وبث الطمأنينة في النفوس، ورفع درجة الوعي حتى لا يتم استدراج المسلمين إلى مستنقع اللا أمن، الذي يخدم المتصيدين في الماء العكر من أعداء الأمة
ولأهمية الأمن كان إبراهيم- عليه السلام- أبو الأنبياء يدعو ربه في تضرعاته" رب اجعل هذا البلد آمنا" فأُجيبت دعوته، فكان الحرم وما حوله في أمن وسلام"آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا".
روى الترمذي عن النبي – عليه الصلاة والسلام- أنه قال: "من أصبح منكم آمنا في سربه، معافى في جسده، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها".
وليس الأمن هبة يهبها الله بلا مقابل، إنما هي نعمة ربانية يتفضل بها على عباده المؤمنين الصالحين، ومن أشد عقوبات الله إيلاماً على الفرد والمجتمع أن يحرمهم الأمن ويلبسهم الخوف، فالزيغ عن منهج الله والحكم بغير ما أنزل الله من دين وشريعة مدعاة إلى رفع الأمن وحرمان الناس منه، فالأمن أخو الإيمان، إذا انتفى أو ثلم هذا الأخير زال الأول، قال المولى _سبحانه_: "وضرب الله مثلاً قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغداً من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون".
وقال أيضاً:"ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين".
والسؤال المتبادر إلى الذهن اليوم هو ما نصيب العالم الإسلامي من هذه النعمة؟
إن أغلب الأقطار الإسلامية محرومة من هذه الحاجة الإنسانية والضرورة البشرية، ومظاهر ذلك الحرمان تقفز إلى أعين كل مشاهد للفضائيات كلما جلس أمام التلفاز، وجدير بالذكر أن الدراسات الإعلامية، وخصوصاً دراسة تحليل محتوى وسائل(115/1002)
الإعلام الغربية، تبين أن أغلب المواضيع التي تنشرها عن العالم الإسلامي، تندرج تحت ما يسمى بالاضطرابات والمشاكل والقلاقل والحروب، ولا تتعدى نسبة المحتويات الإيجابية إلا بضعة مواضيع قليلة خلال السنة، وتخلو مضامين الإعلام الغربي التي تتحدث عنا، من موضوعات المخترعات أو الابتكارات أو المعارف أو العلوم أو الثقافة الجادة إلا فيما ندر.
إن قائمة الأقطار المسلمة التي تعيش الخوف اليومي والرعب المتواصل طويلة، والملاحظ للوضع الأمني في دولنا المسلمة يشاهد ظاهرة عجيبة، وهي ظاهرة دوران سلطان اللا أمن والخوف بين تلك الدول، وتبقى كل دولة تنتظر دورها المصيري دون حراك فعال، إن الأمر أشبه بالأوركسترا المنظمة، كلما خبا صوت هنا أردفها صوت هناك، وللأسف أن سمفونية الخوف في عالمنا الإسلامي لم تعرف التوقف منذ قرون مديدة، وفي زماننا هذا تسللت أطراف معادية على حين غرة إلى الأوركسترا، حتى باتت "المايسترو" الذي يقود جوقة المغفلين إلى حتفها.
من العراق إلى فلسطين ومن أفغانستان إلى كشمير ثم السودان والصومال...وليس الوضع مثاليا في الجزائر أو مصر أو اليمن أو لبنان ... فأينما وليت وجهك فالخوف سيد المكان وعدم الاستقرار هو السائد.
ويعود غياب الأمن في بلادنا الإسلامية إلى عدة أسباب منها: الخارجية كتسلط الأعداء المستعمرين، كالأمريكان في العراق أو الصهاينة في فلسطين أو الروس في الشيشان أو الهندوس في كشمير..أو لأسباب داخلية، كما هو الحال في الجزائر ومصر واليمن وسوريا وغيرها، وأغلب الأسباب الداخلية نابعة من الاستبداد الحكومي الجاثم على الشعوب، فلا يمنحها حق التعبير ولا حق المشاركة في الحكم والقرار السياسي، بل إن بعض الأنظمة السياسية تشتد وطأتها على شعوبها لدرجة حرمانها من أبسط الحقوق الإنسانية والطبيعية.
والاستبداد أول خطوات الخوف العام؛ لأن غياب العدل وفشو الظلم دعوة صريحة للعنف المضاد، فدفع الظلم غريزة متأصلة في الإنسان، ولا يقنع بالظلم إلا من ماتت فيه تلك الغريزة.
ولما كانت الأنظمة المستبدة تغلق منافذ التعبير والتغيير السياسي والاجتماعي الشرعي في وجوه المضطهدين، يلجأ هؤلاء إلى ركوب سفينة التعبير والتغيير بالثورة والانقلاب والعمل المسلح، بما فيه من إراقة الدماء وتدمير البلاد وتحطيم مقدرات الدولة.
ومن أسباب غياب الأمن نشوب خلافات داخلية بين الفرقاء في الدولة الواحدة، مثل: السودان ولبنان والصومال...، حيث يتقاتل المواطنون، كل حزب بما لديهم فرحون، وتتدخل الأطراف الأجنبية لتفرض أجندتها السياسية، فيصبح كل فريق وكيلا للمستعمر وناطقا باسم العدو الأجنبي بشعور أو بدون شعور، وفي النهاية تتشرذم الدولة الإسلامية وتُنتقص من أطرافها، والنموذجان السوداني والعراقي أفضل من يمثل هذه الحالة، حيث إن البلدين على وشك التقسيم.
ومما يزيد الطين بلة في أزمة غياب الأمن في العالم الإسلامي، انسياق بعض من يدعون تمثيل المشروع الإسلامي، وراء أفكار متنطعة خارجة عن الضوابط(115/1003)
الشرعية، تسهم بشكل خطير في نشر صورة مشوهة عن فريضة الجهاد ومبادئ الإسلام في الحرب والسلم.
وبسبب الدعاية الإعلامية المغرضة يتم إبراز الشباب المسلم على أنه كله على هذه الشاكلة، بينما يتم عمدا التعمية على جهود شباب الصحوة المنضبطين بقواعد الشرع، وهم الأكثرية في العالم الإسلامي، والهدف من ذلك أخذ المنضبطين بجريرة المتنطعين لمنع الصحوة ورجالها من تسيير عقلاني شرعي لدفة الدعوة، ولذلك لا نستغرب إذا علمنا أن كثيرا من العنف المنسوب إلى الشباب المسلم، ما هو إلا أحداث مفتعلة يقف وراءها المتآمرون.
المتتبع للساحة الإعلامية في العالم اليوم لا يسمع إلا بمن يشوه صورة الإسلام، حتى بين أهله، مما يدفع الشعوب المسلمة إلى نبذ الخيار الإسلامي في الحكم مستقبلا، لأن هذا الخيار ارتبط دائما بعدم الاستقرار والويلات في الإعلام المغرض وفي أذهان السذج، حتى بتنا نسمع كلاما بينهم مفاده "أننا تعبنا من أصحاب اللحى فمنذ أن برزوا على الساحة لم نذق طعم الأمن والراحة"!!.
أمام علماء الصحوة اليوم دور ضروري ومحوري، وهو تهدئة العالم الإسلامي وبث الطمأنينة في النفوس، ورفع درجة الوعي حتى لا يتم استدراج المسلمين إلى مستنقع اللا أمن، الذي يخدم المتصيدين في الماء العكر من أعداء الأمة، ولقد تأخرت كل الأعمال الإسلامية في حقل الدعوة بسبب هذه الظاهرة، وتوقفت مشاريع خيرية وعطلت نشاطات هائلة على المستوى المحلي والعالمي، في الوقت الذي فتحت على مصراعيها أواب التنصير والعلمنة والعولمة الثقافية والغزو الفكري والأيدلوجي.
إن جو الخوف ومناخ اللا أمن يصنعه أعداؤنا، لإرباكنا وإشغالنا عن جهودنا التي لا تثمر في هكذا جو ومناخ، والمسلمون بحاجة إلى استقرار حتى يستطيعوا ترتيب بيتهم من الداخل وتنظيم أمورهم، والدعوة الإسلامية تفتقر إلى الهدوء لتكمل مشوارها التجديدي البعيد المدى، الذي بدأته بعيداً عن الأفعال الانتقامية والتكتيكات الآنية وردود الأفعال المتشنجة.
إن "الصحوة بحاجة إلى صحوة"، تقطع الطريق على الفوضى المنظمة، التي صيرتها مجرد طبل يملأ الجو ضجيجاً، وهي لا تعدو أن تكون جزءاً من السيمفونية التي يعزفها "المايسترو" الأجنبي باقتدار.
ـــــــــــــــــــ
حاجتنا إلى الانتقاء في التربية
محمد جلال القصاص
16/11/1426
ارسل تعليقك ...
لا توجد تعليقات ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
وأعني بالانتقاء انتقاء الأفراد وانتقاء المناهج التعليمية.(115/1004)
بعد استسلام المقاتلين في (عين التمر)(1) لخالد بن الوليد - رضي الله عنه - دخل خالدٌ الحصن فوجد فيه كنيسة بها أربعين غلاما من خيرة غِلمانهم قد حبسوهم على تعلم النصرانية، فأخذهم خالد بن الوليد وفرقهم بين المسلمين فكان من ذرية هؤلاء كثير من أئمة المسلمين فيما بعد من أمثال محمد بن سرين وموسى بن نصير وغيرهم من أئمة التابعين وقادة الفتوحات الإسلامية(2).
واشتهر في التاريخ اصطفاء مجموعة من الأفراد ذوي المهارات المعينة من أجل تنفيذ مهام محددة، وكان أكثر ذلك في القتال، وعلى سبيل المثال المماليك البحرية(3) والفتيان العامريون(4) والانكشارية(5).
ومن هذا الكلية التي أنشأها اللورد (كرومر) و(الشيخ) محمد عبده (1849م - 1905م) في مطلع القرن العشرين لتخريج قضاة شرع من ذوي الطابع التحرري... كانت بمثابة محضن تربوي لمجموعة منتقاة من الطلبة وتعتمد على برامج علمية منتقاة أيضا لتحقيق أهداف خاصة... كانت (نظم تذود الطالب ببرامج ثقافية ذات طابع تحرري ولا تحصر الطالب في الدراسات الخاصة) و(قد كانت تجربة أثبتت نجاحها من كل والوجوه) كما يقول (كرومر) في تقريره لحكومته عام 1905م(6). وهذه المدارس هي التي خرج منها جيل كامل من الشاذين فكريا وأصحاب الطموحات الدنيوية - كما يصفهم الدكتور محمد محمد حسين - يرحمه الله - والذين كانوا سببا رئيسيا من أسباب تغريب الأمة.
إننا اليوم بحاجة إلى مناهج تربوية جديدة تقوم على مبدأ الانتقاء، مناهج تربوية تميز بين الذكور والإناث في العملية التعليمية، وتميز بين الأذكياء ومحدودي الذكاء، وتعطي كلا ميولاته الفكرية والعملية
وقد فطن عباد الصليب إلى هذا الأمر فعمدوا إلى إنشاء مدارس تربوية خاصة. تعتمد مناهج معينة تحقق أهدافهم، وتقبل طلابا بصفات معينة من الذكاء أو الوضع الاجتماعي - أبناء الأمراء وكبراء القوم - ولكي تعرف خطورة هذه المدارس أنقل لك كلمة أحدهم، يقول وقد أسس مدرسة في اسطنبول عام 1863م: « لقد أنشأ الأتراك حصناً لفتح اسطنبول، وأنا سأنشئ هنا مدرسة لهدمهم »، وما يعنيني هنا أن هذا المدارس قامت على نوعي الانتقاء الذي أتكلم عنه انتقاء الأفراد وانتقاء المنهج، وكانت محصلتها ما نحن فيه اليوم(7).
إننا اليوم بحاجة إلى مناهج تربوية جديدة تقوم على مبدأ الانتقاء، مناهج تربوية تميز بين الذكور والإناث في العملية التعليمية، وتميز بين الأذكياء ومحدودي الذكاء، وتعطي كلاً ميولاته الفكرية والعملية.
إذ لا يُعقل أن يكون نفس المناهج التعليمية للذكر هي هي التي تدرس للأنثى، فالله عز وجل خلق كائنين بصفات خُلقية وجسدية تختلف عن الآخر، و"ليس الذكر كالأنثى" وكل منهما يصلح لأداء مهمة لا يصلح لها الآخر(8). ومعلوم أن نضوج الأنثى عقلا وجسما يكون قبل الذكر وهذا الأمر أيضا يحتاج لمراعاة في العملية التعليمية.
إننا اليوم بحاجة إلى مناهج تربوية جديدة تحقق الهدف الرئيسي من عملية التعليم في الإسلام وهو - كما أراه - هداية الناس في الدنيا لينجوا من عذاب الله ويفوزوا بنعيمه في الآخرة. وتدريس علوم الدنيا يكون من هذا المنطلق.(115/1005)
مجموعة منتقاة ولا منهج:
بعد التضييق على حِلَقْ العلم في المساجد في كثير من البلدان الإسلامية انتشرت الدعوة الفردية في البيوت، وهذه الدعوة على أشدها الآن، والقائمون عليها صغار السن قليلو العلم تحركهم الغيرة على الدين وحب الخير للناس، يَدْرسُ - أو يقرأ - أحدهم الرسالة الصغيرة ويُدَرْسها لمن لَحِقَهُ في (الالتزام)، وجلها لا تحكمه منهجية علمية محددة... يسمع أحدهم المحاضرة أو يقرأ الكتاب فيعجبه فيوصي به قرنائه أو يدرسه لزواره.
فهذه مجموعة منتقاة ولا منهج، ولا بد من مد يد العون لها وتقديم مادة علمية مناسبة في صورة كتب أو مقالات توجيهيه هادفة، وهذا الأمر متاح الآن بعد ظهور مواقع عديدة لشيوخ الصحوة - حفظهم الله-.
إن لم نتدارك هذه الحلق اليوم ونقدم لها مادة علمية مناسبة فلا ندري ماذا سيخرج لنا غدا من أحاديث الغرفات التي تستمر بالساعات يوميا - أو يكاد - تحت ستار الليل.
فقد تفرز لنا هذه الحلقات (أئمة) و(شيوخ) ولا ندري بما سيخرجون علينا. فمن الآن.
خطوات للتنفيذ:
من المعلوم أن إنشاء مدارس (رسمية) لهذا الغرض أمر مستحيل في معظم البلدان الإسلامية، ولكن ما لا يدرك كله لا يترك كله. وإن صدقنا النية مع الله تفتحت لنا الأبواب، وأبواب الخير في هذا المجال كثيرة أذكر منها.
- أن تنشط الهمم لكتابة منهج تربوي جديد يخاطب إنسان اليوم، هذا المنهج يستقيم وأهدافنا الإسلامية الكلية، وهي - في جملة واحدة -: هداية الناس في هذه الحياة والنجاة من عذاب الله يوم القيامة والفوز بنعيمه كما أسلفت.
- تدريب مجموعة من الشباب ذوي الخبرات الخاصة - إلقاء... ممارسة دعوة فردية بين الشباب.. خطابة... الخ.- على هذا المنهج. وذلك في حلقات العلم الخاصة التي تعقد في المساجد أو في البيوت في البلدان التي يُضيق فيها على أهل السنة ويمنعون من حلق العلم في المساجد.
- ومنها: تبني طلبة العلم... الإنفاق عليهم وتفريغهم لطلب العلم الشرعي والدعوة إليه، ومن لا يستطيع أن يشارك كليا فبما يستطيع. فهناك كثيرون تصرفهم لقمة العيش، ولولا ذاك لتفرغوا وأثمروا.
وليس شرطا أن يكون من خلال مؤسسات رسمية - خاصة في البلاد التي لا تسمح بذلك - وإنما يتفقد كل من أراد الخير من حوله ولا بد أنه سيجد من يحتاج مساعدته.
- ومن لا علم له يُعلمه ولا مال عنده ينفقه فعليه أن ينشر أحوال الصالحين، ويكثر من الثناء عليهم بين الناس، فهذا دور مهم فقد لمع أهلُ الباطل أهلَ الخنا والفجور حتى صاروا بين الناس (رواد) نهضة و(أئمة هدى).
_______________
(1) إحدى معارك فتوحات العراق في عهد أبي بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ في سنة 12 هـ .
(2) الكامل في التاريخ جـ 2/246. ط2. دار الكتب العلمية بيرون تحقيق عبد الله القاضي .(115/1006)
(3) وهم من المماليك الترك ويعرفون في كتب التاريخ بالمماليك البحرية نسبه لقلعتهم التي كانت بالروضة في البحر (نهر النيل) . جلبهم الملك الصالح نجم الدين أيوب المتوفي سنة 647 هـ واستعان بهم في حروبه الداخلية والخارجية، ثم استلوا بعد ذلك على الحكم وقامت لهم دولة في مصر والشام سنة 650هـ، وهم من تصدوا بعد ذلك للتتار . وخلفهم في الحكم المماليك البرجية ثم المماليك الشراكسة . واستمرت دولتهم إلى أن قضى عليها السلطان سليم الأول العثماني سنة 922هـ (أنظر البداية والنهاية لابن كثير أحداث عام 922هـ
(4) ينسبوا إلى الحاجب المنصور بن أبي عامر أمير الأندلس الشهير المتوفي عام 393 هـ ، وكانوا من العبيد البيض (الصقالبة)، دربهم وأحسن تدريبهم، واعتمد عليهم في تثبيت أركان ملكة والقضاء على خصومه . وكانوا أحد الأسباب الهامة في الفتن الداخلية التي نشأة في الأندلس وكانوا سببا في ما عرف تاريخيا بدولة الطوائف الثانية . أنظر ترجمة الحاجب المنصور في أحداث عام 392 وما تلا ذلك من أحداث . البداية والنهاية بن كثير .
(5) كلمة (انكشارية) كلمة عربية محرفة لكلمة تركية هي (يني تشاري) وتعني الجيش الجديد، وهم مجموعة من الشبان صغار السن من أسرى الحرب أخذهم السلطان الغازي (أورخان الأول) ورباهم تربية إسلامية بحيث لا يعرفون أبا إلا السلطان ولا حرفة إلا الجهاد في سبيل الله، ولعدم وجود أقارب لهم بين الأهالي لا يخشى من تحزبهم مع الأهالي على الدولة . وكانوا في البداية فرقة صغيره ثم زاد عددهم حتى صار لا يعول إلا عليهم في الحروب ن وكانوا من أهم وأكبر عوامل امتداد سلطة الدولة العثمانية، واشتهروا بالفتك بخصومهم والغدر أحيانا، كما أنهم خرجوا فيما بعد عن حدودهم وتعدوا واستبدوا بما جعلهم سببا في تأخر الدولة وتقهقرها . انظر ـ إن شئت ـ تاريخ الدولة العلية العثمانية ج1/ص123. محمد فريد بك . دار النفائس بيروت . بتصرف يسير .
(6) العلمانية للشيخ الدكتور سفر بن عبد الرحمن الحوالي 576، 577
(7) لمزيد من التفاصيل حول التعليم الأجنبي في العالم الإسلامي، انظر (التعليم الأجنبي مخاطر لا تنتهي) لـ مهيمن عبد الجبار .مجلة البيان العدد / 174صـ18، والعدد 175 صـ 8 .
(8) انظر (حراسة الفضيلة) للشيخ الدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد، الفصل الأول: وجوب الإيمان بالفوارق بين الذكر والأنثى.
ـــــــــــــــــــ
التخلف.. الواقع والأسباب
جماز الجماز
9/11/1426
ارسل تعليقك ...
لا توجد تعليقات ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...(115/1007)
طباعة ...
الحمد لله رب العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
المقدمة:
فنحن " أمة رسالة" مهمتنا الأولى في هذه الحياة, ليست إعمار الأرض ولا تحقيق الرفاهية أو تحسين الحالة الصحية,أو تأمين عبور القارات فحسب, بل محاولة التحقق والتلبس بالعبودية الكاملة لله تبارك وتعالى وإعلاء كلمته في العالمين.
الواقع:
إذا أجلنا النظر في حال الأمة اليوم ومدى التزامها بدينها, أمكن أن نلحظ الواقع المرير الذي يعيشه المسلمون في عدة نقاط, ومنها:
أولاً: انحرافات في مفاهيم العقيدة الأساسية:
سواء ما يتعلق بالذات الإلهية, أو ما يتعلق بالنبوة والرسالة, أو ما يتعلق باركان الإسلام أو الإيمان, أو ما يتعلق منها بنواقص الإسلام, أو غير ذلك.. وهي تتفاوت بين بلد وآخر, فمثلاً في عقيدة الإيمان بالقضاء والقدر يعتقد المسلم أن الرزق مقسوم, ولكنه في الواقع يأكل الربا ويمارس الغش, ويأخذ الرشوة,ويُذل نفسه وينغمس في الرذيلة ويضيع كثيرا من الفرائض والواجبات طلباً للمال...
نكاد نجزم بأن من الأسباب الرئيسة للتخلف الذي يمر به بعض المسلمين هو أننا جعلنا التفكير ورسم الخطط, مهمة آحاد من الناس, أما البقية فهم يتفرجون لا يتجاوز دورهم تكثير السواد
ثانياً: الجهل بأحكام الدين:
ومن أعظم أسباب ذلك, تحجيم المواد المدرسة في التربية الإسلامية في السواد الأعظم من البلدان الإسلامية إلى درجة لا تبتعد عن العدم كثيراً, وتشويه كثير من وسائل الإعلام والمنشورات والمطبوعات لحقائق هذا الدين, وتسليط الضوء على جانب من الإسلام وإسدال الستار على جوانب أخرى, بسبب ذلك كله اختلطت أمور الحلال والحرام, وكثر التهاون بالكبائر, وساد إهمال الفرائض...
ثالثاً: غلبة النزعة المادية وسيطرتها على مشاعر المسلمين وهمومهم:
ومن أسباب ذلك, التأثر بالحضارة الغربية المادية, وصار هم كثير من الناس ما زاد في ثروته وما كان في مصلحته, حتى ضعف استعمال الوصف للإنسان ب " الصالح _ التقي _ الصادق " وحل محلها
" الذكي_ الناجح _ البارع "
ناهيك عن الأحوال المعيشية السيئة للسواد الأعظم من المسلمين, حيث أذل الفقر والمرض والجهل المسلم, وضغط على قيمه وأخلاقه, ودفعه إلى الوقوع في كثير من الدروب المظلمة المقفلة...
رابعاً: اختلال الموازين في الأولويات والمنهيات الشرعية:
ففي بعض البلدان الإسلامية, يحرص كثير من المسلمين على الأضحية وغسل الجمعة وهما نافلة أكثر من حرصهم على الصلاة المفروضة, ويهتمون بالصيام أكثر(115/1008)
من اهتمامهم بالصلاة,مع أنها آكد وأهم في نظر الشرع وتحرص كثير من النساء على أداء صلاة العيد,ويخرجن وهن متعطرات وفي أبهى حُلة..
وعندما يتكلم إنسان بكلام يفهم منه صدقه وحبه للدين, يُحسن الظن به, مع أن واقع حياته وأعماله هو الصد عن سبيل الله عز وجل والاستهانة بأمره
خامساً: التقصير الكبير في نشر الدعوة الإسلامية:
وذلك خارج المجتمعات الإسلامية, والتقصير في التوعية الإسلامية داخلها, ومنه عزوف أهل العلم والفكر عن مهمتهم التي لا يستطيع أن يقوم بها غيرهم, وهي التوعية والقيام بأمر الدعوة فينخرطوا بين الناس, ويُحسوا بشعورهم, ويتبنوا مشكلاتهم, ويعالجوا قضاياهم ولو لم يكن في شرح الإسلام للعالم سوى تحسين صورة المسلمين التي شوهها الأعلام الصهيوني أمام الآخرين لكان ذاك كبيراً
وما يبذل من جهد في دعوة غير المسلمين في بلاد المسلمين إلى الإسلام يكاد يكون محدوداً أو مخصوصاً, مع أن الجالية غير المسلمة قد سببت الكثير من المتاعب للإسلام والمسلمين.
وهكذا حال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتوعية عامة المسلمين داخل بلدانهم هو أمر يحتاج إلى متابعة ومضاعفة جهد في بعض الأقطار, فليس على المستوى المطلوب..
هذه بعض ملامح الواقع المرير الذي نعيشه مع ما يشوبه من عوامل مادية من فقر ومرض وأمية وقهر, وصار كل منها يُمد في سلطان الآخر حتى وصلنا إلى ما نحن فيه..
وقد أخبر الله _تعالى_ أن هلاك الأمم السابقة وسوء أحوالها, لم يكن بسبب تقصيرها في إعمار الأرض والسيطرة على الطبيعة, وإنما بسبب استدبارها لرسالات السماء وبعدها عن المنهج الذي سنته لهم, فلنحذر من مغبة ذلك الركون...
الأسباب:
نكاد نجزم بأن من الأسباب الرئيسة للتخلف الذي يمر به بعض المسلمين هو أننا جعلنا التفكير ورسم الخطط, مهمة آحاد من الناس, أما البقية فهم يتفرجون لا يتجاوز دورهم تكثير السواد, ومن الأسباب:
أولاً: الاختلاف والانقسام:
فيُلحظ اختلاف في وجهات النظر بين أصحاب الخبرة وأصحاب القرار, مما سبب التمزق والحيرة والقلق, وهكذا أصحاب التخصصات العلمية والفنية بينهم وبين القيادات بون شاسع أدى بهم إلى أن يرسموا في الفراغ
ولهذا وغيره حُرمت الدولة الإسلامية من الخبرات والكفاءات التي تساعد على اتخاذ القرارات الراشدة واستكشاف آفاق المستقبل
وسبب ذلك ضعف تطوير الأنظمة الإدارية المختلفة بما يناسب اتساع رقعة العالم الإسلامي وتغير كثير من أحواله...
ثانيا: ضعف البحوث العلمية والتصنيع:
ففي أيام الدولة العثمانية, كانت الجهود في البحث العلمي والتصنيع متواضعة ضعيفة, إلى أن تم تفجير البلاد من الداخل, بسبب قصور داخلي وتآمر خارجي(115/1009)
وانفرط عقد الخلافة ودخلت أكثر الدول الإسلامية الموالية للغرب مرحلة النهب العالمي وبدأ استنزاف كنوز العالم الإسلامي وثرواته وخبراته وعقول أبنائه, بخلاف أوربا في ذلك الوقت فقد بذل كثير من عُلمائها جهوداً مُغنية في البحث العلمي مكنته من سيل من الاختراعات والمصنوعات المدنية والعسكرية حتى وصلت إلى ما وصلت إليه.
ثالثاً: عدم استثمار الطاقات في العالم الإسلامي:
فكثير من القوى الفاعلة فيه, لا تعرف موقعها الحضاري على خارطة العالم, ولا تعرف حجم الهوُة التي تفصل بيننا وبين العالم المتطور, ذلك لأن المعني بتفعيل هذه الطاقات, أصيب بداء (تمجيد الذات) فهي لا تذكر إلا الإنجازات, وتخفي حجم المشكلات التي تعاني منها الأمة.
وكثير من الصفوة الرواد, غرقوا في تخصصاتهم النظرية والعلمية إلى الآذان, مما أفقدهم الرؤية الصحيحة, والتعرفُ على حجم المشكلات التي نعيشها, يكون عن طريق الحصول على الأرقام الحقيقية للمدخلات والمخرجات الحضارية..
والأرقام والإحصاءات لدينا قليلة وغير دقيقة, وهذا ظاهر في الدول الإسلامية المستدمرة المستعمرة, حيث كانت السياسة الاستدمارية الاستعمارية تقضي بحجب الإحصائيات, أو إعلانها جزئيا, بل وصل الأمر إلى تزويرها, وبعد الاستقلال لم تستطع الدول الإسلامية القيام بإحصاءات دقيقة حول واقعها الاقتصادي والاجتماعي, للنقص في قدراتها المادية والفنية أو لعدم وعي القائمين على السلطة بأهمية هذه الإحصاءات
رابعاً: الاستدمار وويلاته على جميع الصُعُد:
فحين غزت أوربا العالم الإسلامي, لم يكن لديها رسالة حضارية تنقلها, بل ولم تكن حريصة على نقل شيْ من بلادها إلى الخارج, وإنما كان الواقع هو نهب المواد الخام, والآثار والكنوز والمخطوطات, ثم تأمين أسواق لمنتجاتهم الكثيرة والمتنوعة, وقد فعلوا
لقد خنقوا الاقتصاد الوطني للدول المُُستدمرة المستعمرة من خلال ضرب كل الصناعات التي تنافس مصنوعاتهم في بلادهم كما فعلت بريطانيا العظمى في الهند, وفرنسا في لبنان والجزائر
وعلى الصعيد الثقافي والاجتماعي والسياسي لم يخرج المُستدمر المستعمر, حتى ترك وراءه مالا يحصى من المشكلات
وانصبت جهود المُستدمرين على إقناع شعوب العالم الإسلامي بتبني عاداتهم وتقليدهم على جميع الصعد, وأنهم أقرب إلى البداوة والتوحش, وأن الحل الوحيد, هو الاندماج في القيم والعادات التي نقلها المُستدمر إليهم, وكانت النتيجة هي تدمير الشخصية والبنيات الوطنية المحلية, فضلا عن القنابل الموقوتة مما يتعلق برسم الحدود بين الدول حيث رُسمت بطريقة لا منطقية ولا تاريخية, وتولى كِبر ذلك الإنجليز, الذين أظهروا براعة خاصة في هذا الشأن(115/1010)
وإن تعجب فعجب أن الطاقات الحية تُهدر في فض الخلافات التي ولدها رسم الحدود السيء الماكر, في وقت قد نشبت فيه الحروب الطاحنة بين الأشقاء ودول الجوار بسبب ذلك.
وتُنفق عشرات البلايين على شراء الأسلحة وتكاليف الحروب, مما يحتاجه المسلمون أمس الحاجة في بناء دولهم ورفع اقتصاد شعوبهم...
خامساً: سيطرة الإعلام الغربي:
عانى المسلمون طويلاً, ومازالوا يعانون من السيطرة الإعلامية للعالم الغربي, وقد استفاد الغربيون من التطور التقني الضخم, في تنفيذ سياساتهم المختلفة من بسط سلطان ثقافتهم والترويج لمصنوعاتهم وإعادة تشكيل عقول الناس وفق مصالحهم وأهوائهم, فمصادر الأخبار العالمية والإسلامية والعربية تتمثل في وكالات الأنباء العالمية " رويتر _ فرانس برس _ بي بي سي _ منتاكارلو _ يونايتد برس _أسوشيتد برس _ تاس"
وهذه الوكالات هي التي تصنع الخبر والرأي والموقف والتحليل, وعنها تأخذ كل وكالات الأنباء الوطنية موادها, وترسخ قيمها, وعن طريقها أصبحت تتكون لدينا كل المعايير" الحق والباطل, الصواب والخطأ, الجيد والرديء "
وزاد الطين بله, ما تم إنجازه اليوم من البث المباشر, حيث صارت تُنقلُ الصوت والصورة إلى بلاد المسلمين من غير رقيب, فضلاً عن المشاهد والصور الجارحة للحياء, الملهبة للشهوات, والمؤسسات الإعلامية المنافسة في العالم الإسلامي اليوم, كثير منها لا يُرسخ القيم الإسلامية أو حتى الثقافة المحلية الوطنية,وإنما هو امتداد بصورة ملطفة للإعلام الغربي في المضامين والأسس والمنطلقات والوسائل, وقد آثر أكثرها الاستيطان في ديار الغرب ليكون قريبا من مصادر الصناعة الإعلامية وليُفلِتْ من أية مؤاخذة أو رقابة...
سادساً: تحكم الدول الصناعية الكافرة في خيرات الدول المسلمة:
ومن أسباب ذلك, التنوع الهائل للاحتياجات, وقصور المصانع الوطنية عن تصنيع الناتج المحلي, وعدم قدرة الدولة النامية على جعل منتوجاتها تخوض المنافسة الدولية, وعدم وجود سوق إسلامية تؤدي إلى التكامل,وأدى ذلك كله إلى نتيجة وخيمة,هي تراجع أسعار المنتجات الإسلامية, وتحكم الدول الصناعية بتلك الأسعار على حين أنها ترفع أسعار منتوجاتها بطريقة شبه حرة, لا تقيدها إلا المنافسة العالمية بينها
واستفاد العالم الغربي من هيمنته الاستدمارية الاستعمارية في الماضي في تهميش العلاقات الاقتصادية بين الدول الإسلامية, فإذا فاض لدى شعب من الشعوب الإسلامية نوع من منتجاته لم يجد له سوقا إلا في الغرب, وإذا احتاج إلى شي لم يجده إلا هناك
ناهيك عن حجم التجارة بين الدول الإسلامية حيث انه لا يزيد على 4% من مجمل تجارتها الدولية, وهذا كله أدى إلى ضعف إمكانات التكتلات الاقتصادية والصناعية والإنتاجية في العالم الإسلامي....
الخاتمة:(115/1011)
وبعد هذا الاستعراض السريع لواقع أمتنا المرير والأسباب التي أدت إليه, لابد من النزول إلى الساحة, فالساحة فارغة, ولابد من الاهتمام بالأجيال الإسلامية, فالأجيال متعطشة, ولنترك الكسل والترهل والاستنامة إلى الفتن والشهوات, فهي مرتع وبيل, لم تجن منه الأمة الإسلامية إلا السير إلى الوراء, ولنسعَ جميعا في ركاب العلم النافع الذي يبني ولا يهدم...
ودعوتي لكم أيها الدعاة:
دعوة إلى المزيد من المنهجية والتفكير المثمر, وإن على عاتق كل واحد منكم, تحرير العقول من العبودية للأحزاب, ومن الذوبان في أقوال الشيوخ, فإن ذلك مطلب رئيس, للنهوض بالعمل الإسلامي من الرتابة والدوران حول الذات..
ولعل من أبرز مقومات نجاح العمل الإسلامي, أن تستحث تلك الطاقات الكامنة الخاملة, إلى النظر والتأمل, وفق الأسس والموازين الشرعية, فلأن تُفكر الأمة بمئة عقل, خير لها وأنفع, من أن تُفكر بعقل واحد...
والحمد لله رب العالمين, وصلى الله وسلم على نبينا محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه أجمعين..
_________________
المراجع:
• نحو فهم أعمق للواقع الإسلامي لعبد الكريم بكار صفحة 37 _53
• فصول في التفكير الموضوعي لعبد الكريم بكار صفحة 45
• مجلة البيان عدد 17صفحة 108
• مجلة البيان عدد 82 صفحة 101_
ـــــــــــــــــــ
أُمة.. وقيادة، فمن يجيب؟
محمد جلال القصاص
3/11/1426
ارسل تعليقك ...
لا توجد تعليقات ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
لا يشك عاقل في أن الفكرة هي التي تُشكل الواقع وليس الواقع هو الذي يُشكل الفكرة. على مستوى الفرد وعلى مستوى الأمم.
فمجموعة الأفعال الخارجية للفرد هي لا زم عمل القلب الذي ينشأ - ولابد - من المعرفة الخبرية (الإدراك).
يَلْبِسُ أحدنا من الثياب ما يعكس ما بداخله من مفاهيم وتصورات بيئية أو عقدية، ويأكل أحدنا ما يستقيم مع تصوراته ومفاهيمه، فمِنْ خلق الله من يأكل الخنزير، ومن خلق الله من لا يبالي بما يأكله أمن حلال أم من حرام، ومن خلق الله من يتقي الله في ما يدخل جوفه. فصيام وحلال... الخ.(115/1012)
والأمر نفسه على مستوى الأمم، فالأمم التي لا تُحرِّم الخمر ولا الغناء، تُنشأ البارات وتحمي أهل الخنا والفجور، والأمم التي لا ترى في الشذوذ عيبا تزوج الرجال من الرجال. وجملة كلٌ يحب من يوافق هواه أو مصلحته وينصره، وتمام المحبة تستلزم تمام النصرة والحصة للحصة.
والمقصود أن السلوك الخارجي ينضبط بأفكار ومفاهيم داخلية ولابد.
إن الفكرة هي التي تُشكل الواقع وليس الواقع هو الذي يُشكل الفكرة. على مستوى الفرد وعلى مستوى الأمم، فمجموعة الأفعال الخارجية للفرد هي لا زم عمل القلب الذي ينشأ - ولابد - من المعرفة الخبرية (الإدراك)
فلا سبيل لضبط العمل الخارجي طوعا إلا من خلال ضبط المفاهيم والتصورات الداخلية.
هذه مسلمة لا أحسب أن عاقلا يجادل فيها.
ومن البديهي إذا أن ضبط سلوك الناس على منهج الله العظيم _سبحانه وتعالى_ يتطلب تصحيح المفاهيم والتصورات على وفق الشريعة الإسلامية. أليس كذلك؟
بلى ولكن ليس فقط.
هناك من الناس من يقف عند حد المعرفة الخبرية (الإدراك أو التصديق) ولا تنشئ هذه المعرفة في قلبه أثرا يضبط سلوكه. وهذا واقع مشاهد.
فنحن الآن أمام مطلبين:
الأول: نشر مفاهيم صحيحة.
الثاني: تفعيل هذه المفاهيم في حياة الناس.
فكيف؟
يتولى هذا الأمر نخبة من الناس، هي التي تنشر المفاهيم الصحيحة،وهي التي تحمل الناس على العمل بها(1).
فالأمر لا بد له من الاثنين، الأمة والقيادة، والاثنين معا.
فقيادة بلا أمة، مهما كانت قوتها لا تستطيع أن تفعل شيئا، وقد كان موسى وهارون عليهما السلام.. نبيين أحدهما من أولي العزم، وما استطاعا أن يدخلا بيت المقدس ببني إسرائيل.
وأمة بلا قيادة لا تستطيع أن تفعل شيئا بل تتخبط وتمشي وراء من يأخذ بزمامها، ولعل في انقياد الأمة وراء (الثوار الأحرار) في منتصف القرن الماضي دليل على قولي، فقد انقادت الأمة ل- (الثوار الأحرار)، وهي لم تأخذ منهم إلا حلو الكلمات، ولم يتغير حالها على أيديهم كثيرا.
والأمة ذات المفاهيم الفاسدة كالأمة الغائبة، وقد رأينا كيف تأبَّت الأمة على عليّ بن أبي طالب - رضى الله عنه - حين انتشر فيها الإفراط والتفريط (الخوارج وأهل الإرجاء).
فالصورة الصحيحة - من وجهة نظري - نخبة - غير قليلة - تعالج الأمة حتى تسير بها على صراط الله المستقيم. وهكذا بدأت الأمة الإسلامية في يومها الأول.
فقد كان لحبيبنا المصطفى - صلى الله عليه وسلم - حوار في الأسواق والنوادي يستهدف عوام الناس، وكانت له حلقات علم في البيوت - دار بن الأرقم - لتنشئة(115/1013)
النخبة، التي هاجرت وأنفقت وجاهدت في سبيل ربها حتى كتب الله لها النصر من عنده.
إن كل الناس لا يُصْغون لخطاب التمكين وإن اقتنعوا به فهناك من لا هم له إلا لقمة عيشه، وهو وراءها، وهناك من لا تحركه إلا عصى السلطان، وهناك من لا حظ له إلا مشاهدة الصراع بين الحق والباطل حتى تتميز الصفوف بوضوح ثم هو مع من غلب.
هي دعوة لعلماء الأمة ودعاتها بتبني:
- حوار عام تخاطب به الجماهير ويرد به على المشككين من العلمانيين المنافقين والكافرين.
- وكذا - وهو ما كتبت من أجله - التوجه نحو تربية كوادر تحمل هم الدعوة فيما بعد وتأخذ بزمام الأمة وتسير بها على صراط الله المستقيم.
أتساءل: لو أن كل واحد من شيوخ الصحوة - حفظهم الله - خلف للأمة عشرة مثله... فكيف الحال بعد عشرين أو ثلاثين عاما؟!
إننا نعاني اليوم من العمل الارتجالي أو الفردي أو الحزبي الذي يسير وراء الحدث وتستغرقه الجزئيات لا ونفتقد العقلية التي تسعى لصناعة الحدث أو توجيهه.
ومن يتدبر يجد أن هذا الأمر - الاتصال بالأمة مع تربية الكوادر العلمية - هو الذي حفظ الله به الدين في القرون الماضية، حتى في القرون الأولى.
فماذا لو كان التعليم في القرون الإسلامية الأولى وخاصة الثاني والثالث تابع لعلماء السلطان فقط (أعني المؤسسات الرسمية)، ولم يكن هناك حلق علم؟
لانتشر الكلام والفلسفة، وكل فكر هدام. ثم التشيع فيما بعد.
ولكن تواجد حِلق العلم الخاصة، أو قل المحاضن التربوية الخاصة، التي أخرجت للأمة الأمام أحمد والبخاري والشافعي وغيرهم من علماء الأمة هي التي أمسكت الأمة على دين الله وردت كيد الظالمين من المبتدعين والمتجبرين.
فهل تجد دعوتي من يجيب؟
_______________
(1) ولستُ ممن يؤمن بنظرية ( العبقريات ) التي قال بها المؤرخون الألمان ونقلها عنهم بعض المفكرين العرب . . . والتي تقول بأن التاريخ يصنعه أفراد هم ( العباقرة ).
ـــــــــــــــــــ
بر الوالدين
عبد الله بن راضي المعيدي
29/10/1426
ارسل تعليقك ...
تعليقات سابقة ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...(115/1014)
حكى الأصمعي يوماً فقال: حدثني رجل من الإعراب قال: خرجت من الحي اطلب أعق الناس وابر الناس.. فكنت أطوف بالأحياء.. حتى انتهيت إلى شيخ في عنقه حبل.. يستقي بدلو لا تطيقه الإبل.. في الهاجرة والحر الشديد.. وخلفه شاب في يده رشاء من قد ملوي.. يضربه به قد شق ظهره بذلك الحبل..!! فقلت: إما تتقي الله في هذا الشيخ الضعيف؟ أما يكفيه ما هو فيه من مدى هذا الحبل حتى تضربه؟ قال: انه مع هذا أبى...!! قلت: فلا جزاك الله خيرا. قال: اسكت فهكذا كان هو مع أبيه..!! وكذا كان يصنع أبوه بجده..!! فقلت: هذا هو أعق الناس... ثم جلت أيضا..حتى انتهيت إلى شاب وفي عنقه زبيل.. فيه شيخ كأنه فرخ.. فكان يضعه بين يديه في كل ساعة فيزقه كما يزق الفرخ.. فقلت: ما هذا؟ قال: أبى وقد خرف وأنا اكفله..قلت: فهذا ابر الناس...
أيها الأخ..أيتها الأخت... هذه قصة من بين قصص كثيرة.. وهي فيض من غيض.. تبين لنا صور متكررة لواقع كثير من الناس مع والديهم.. براً وعقوقاً..
حكى الأصمعي يوماً فقال: حدثني رجل من الإعراب قال: خرجت من الحي اطلب أعق الناس وابر الناس..
نعم أيها المحب.. بر الوالدين.. والإحسان إليهما.. ذلك الحق العظيم، والمضيع عند كثير من الأبناء.. ذلك الحق الذي ـ ولأهميته وعظمه ـ قرنه الله مع أعظم حقوقه وهو توحيده فقال: " وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولاً كريماً * وأخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل ربي ارحمهما كما ربياني صغيراً " [ الإسراء: 23-24 ]
وقال صلى الله عليه وسلم:" رضى الله في رضى الوالدين وسخطه في سخطهما "
[ الترمذي ح 1899 وصححه الألباني في الصحيحة رقم 516 ]...
معنى بر الوالدين:
البر: الإحسان.. ومنه قول الرسول صلى الله عليه وسلم: " البر حسن الخلق " وهو في حق الوالدين والاقربين ضد العقوق. فالعقوق: هو الإساءة وتضييع الحقوق قال الحسن البصري: البر أن تطيعهما في كل ما أمراك به مالم تكن معصية لله والعقوق هجرانهما وان تحرمهما خيرك
بر الوالدين بعد موتهما:
يقول شيخنا ابن عثيمين رحمه الله تعالى: " وأما بعد موتهما فيكون برهما بالدعاء لهما والاستغفار لهما.. وإنفاذ وصيتهما م بعد هما ن وإكرام صديقهما.. وصلة الرحم التي لا صلة لك بها إلا بهما.. هذه خمسة أشياء من بر الوالدين بعد الموت.. أما الصدقة عنهما فهي جائزة.. ولكن لا يقال للولد تصدق.. بل يقال إن الصدقة جائزة.. وإن لم تتصدق فالدعاء لهما أفضل.. لقول النبي صلى الله عليه وسلم:" إذا مات الإنسان عمله إلا من ثلاث: إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعوا له".. فذكر النبي صلى الله عليه وسلم الدعاء بمقام التحدث عن العمل.. فكان هذا دليلاً على أن الدعاء للوالدين بعد موتهما افضل من الصدقة عنهما، وأفضل من العمرة لهما، وأفضل من قراءة القرآن لهما، وأفضل من الصلاة لهما.. لأن النبي(115/1015)
صلى الله عليه وسلم لا يمكن أن يعدل عن الأفضل إلى المفضول.. بل لا بد أن يبين عليه الصلاة والسلام ما هو الأفضل ويبين جواز المفضول.. وقد بين في هذا الحديث ما هو الأفضل. أما بيان جواز المفضول فإنه جاء في حديث سعد بن عباده حين أستأذن النبي صلى الله عليه وسلم أن يتصدق عن أمه، فأذن له.....
ومن العقوق يا معشر الأبناء أن ينظر الولد إلي أبيه نظرة شزر عند الغضب أو يتعاظم عن تقبيل يدي والديه أو لا ينهض لهما احتراما وإجلالا
صور مشرقة:
* عن انس بن النضير الاشجعي: استقت أم ابن مسعود ماء في بعض الليالي فذهب فجاءها بشربة فوجدها قد ذهب بها النوم فثبت بالشربة عند رأسها حتى اصبح.
* وهذا ظبيان بن علي الثوري ـ وكان من ابر الناس بأمه ـ وكان يسافر بها إلى مكة فإذا كان يوم حار حفر بئر ا ثم جاء بنطع فصب فيه الماء ثم يقول لها: ادخلي تبردي في هذا الماء
* وكان حيوه بن شريح وهو أحد أئمة المسلمين يقعد في حلقته يعلم الناس فتقول له أمه: قم ياحيوة فالق الشعير للدجاج فيقوم ويترك التعليم.
أيها المحب... قارن بين حال هؤلاء.. وحال كثير من الأبناء اليوم.. انقلبت الموازين واختلت المعايير...... تأفف وتضجر وإظهار للسخط وعدم الرضا... بل بعضهم يهرب من أبيه حال كبره.. ولا يزوره إلا في فترات متباعدة.. بل ربما وضعه في أحد الملاجئ أو دور العجزة وربما نهر أمه أو أباه بصوت مرتفع وكلام سيئ.. وكأنه يتخاصم مع عدوه. بل ـ والله ـ تجد والعياذ بالله من يتعامل بحسن خلق ولين جانب مع الكفار وهو سيئ الطبع والخلق مع والديه.. فسبحان الله العظيم مااحلمه علينا..!!
وأما غالب حال الشباب اليوم فان منزلة الصديق أعلى منزلة واجل مكانة من الوالدين ولا حول ولا قوة إلا بالله.... وما حصلت هذه الصور المبكية... لعدم مقدرة عند هولاء.. ولكنها قسوة القلوب نعوذ بالله من ذلك..
من مظاهر العقوق:
1) إبكاؤهما وتحزينهما بقول أو فعل أو غير ذلك.. فعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يبايعه فقال: جئت أبايعك على الهجرة وتركت أبوي يبكيان. قال: " فارجع أليهما فأضحكهما كما أبكيتهما " قال ابن عمر: بكاء الوالدين من العقوق والكبائر.
2) إدخال المنكرات أو مزاولتها أمامهم: مثل ترك الصلاة عمدا وشرب الخمر واستماع آلات اللهو ومشاهدة ما حرم الله عز وجل من الأفلام الخليعة والصور الماجنة وغيرها من المنكرات.
3) البراءة منهما أو التخلي عنهما: فعن انس الجهني عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن لله تعالى عبادا لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولا ينظر إليهم " قيل: من أولئك يا رسول الله؟ قال: " متبرئ من والديه راغب عنهما ومتبرئ من ولده ورجل انعم عليه قوم فكفر بنعمتهم وتبرا منهم "(115/1016)
4) تقديم الزوجة على الام والأب فيما للوالدين فيه دخل: وهذا قد انتشر في زماننا ويزداد الأمر سوءا إذا كانت الزوجة سيئة أنانية تحاول إبعاد زوجها عن والديه ليبقى لها وحدها أو تتأذى من بقائهما في داره وهذا من اكبر العقوق...
5) عدم زيارتهما والسؤال عنهما أو التأخير في ذلك:
6) ومن العقوق يا معشر الأبناء أن ينظر الولد إلي أبيه نظرة شزر عند الغضب أو يتعاظم عن تقبيل يدي والديه أو لا ينهض لهما احتراما وإجلالا
7)التسبب في شتم الوالدين.. قال صلى الله عليه وسلم " من الكبائر شتم الرجل والديه " قالوا: وكيف يشتم أو يسب الرجل والديه؟ فقال " يسب أبا الرجل فيسب أباه ويسب أمه فيسب أمه " أي: يصير متسببا في شتم والديه.. وقال صلى الله عليه وسلم:" لعن الله من لعن والديه"
فضل بر الوالدين:
أولا: انه من افضل الأعمال: عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: سالت رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الأعمال احب إلى الله؟ قال: " الصلاة في وقتها " قلت: ثم أي؟ قال: " بر الوالدين " قلت: ثم أي؟ قال:" الجهاد في سبيل الله " [ متفق عليه ]
ثانيا: انه سبب من أسباب مغفرة الذنوب: قال تعالى " ووصينا الإنسان بوالديه إحسانا " إلى أن قال في آخر الآية الثانية " أولئك الذين نتقبل عنهم احسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم في أصحاب الجنة وعد الصدق الذي كانوا يوعدون "
ثالثا: انه سبب في زيادة العمر: عن انس بن مالك " من سره أن يمد له عمره ويزاد في رزقه فليبر والديه وليصل رحمه " [رواه احمد].
رابعا: انه سبب في حصول مبرة الأبناء لمن بر ولوالديه: فعن أبى هريرة رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بروا آباءكم تبركم أبناؤكم وعفوا تعف نساؤكم " [رواه الطبراني].
قصة وعبره:
.. يقول الشيخ الفاضل عبد الملك القاسم: حدثني من أثق به عن ولد عاق لامه.. أودعها في إحدى دورا لعجزة ولم يزرها إطلاقا حتى تردت حالتها.. وعندها طلبت من مسئول الدار الاتصال على ابنها لتراه وتقبله قبل أن تموت.. وسبقتها الدموع وهي تنادي باسمه أن يحضر ولكن العاق العاصي ـ والعياذ بالله ـ رفض ذلك وادعى ضيق الوقت.. فلما توفيت الام تم الاتصال بالابن العاق فكان جوابه: اكملوا الإجراءات الرسمية وادفنوها في قبرها... [ انظر ففيهما فجاهد لعبد الملك القاسم ]
واخيرا يرعاك الله:
إن إحسان الوالدين عظيم.. وفضلهما سابق.. ولا يتنكر له ألا جحود ظلوم غاشم قد غلقت في وجهه أبواب التوفيق ولو حاز الدنيا بحذافيرها؟!
فالأم التي حملت وليدها في أحشائها تسعة اشهر.. مشقة من بعد مشقة.. لا يزيدها نموه إلا ثقلا وضعفا ووضعته كرها.. وقد أشرفت على الموت..فإذا بها تعلق آمالها على هذا الطفل الوليد رأت فيه بهجة الحياة وزينتها وزادها بالدنيا حرصا وتعلقا..ثم شغلت بخدمته ليلها ونهارها تغذيه بصحتها.. وتريحه بتعبها طعام هدرها..وبيته(115/1017)
حجرها ومركبه يداها.. وصدرها تحوطه وترعاه..تجوع ليشبع وتسهر لينام.. فهي به رحيمة وعليها شفيقة.. إذا غابت دعاها وإذا أعرضت عنه ناجاها وان أصابه مكروه استغاث بها.. يحسب أن كل الخير عندها وان الشر لا يصل إليه إذا ضمته إلى صدرها أو لحظته بعينها..
ابعد هذا يكون جزاؤها العقوق والأعراض؟! اللهم عفوا ورحما..
أما الأب.. فالابن له مجبنة مبخلة.. يكد ويسعى ويدفع صنوف الأذى.. بحثا عن لقمة العيش لينفق عليه ويربيه.. إذا دخل عليه هش وإذا اقبل إليه بش.. وإذا حضر تعلق به وإذا اقبل عليه احتضن حجره وصدره..يخوف كل الناس بابيه ويعدهم بفعل أبيه..أبعد هذا يكون جزاء الأب التنكر والصدود؟ نعوذ بالله من الخذلان.. أن الإحباط كل الإحباط أن يفجا الوالدان بالتنكر للجميل..وقد كانا يتطلعان للإحسان ويؤملان الصلة بالمعروف..فإذا بهذا الولد ـ ذكر أو أنثى ـ يتخاذل ويتناسى ضعفه وطفولته..ويعجب بشأنه وفتوته ويغره تعليمه وثقافته.. ويترفع بجاهه ومرتبته يؤذيهما بالتأفف والتبرم..ويجاهر هما بالسوء وفحش القول يقهرهما وينهرهما..يريدان حياته ويريد موتهما..كأني بهما وقد تمنيا أن لو كانا عقيمين..تئن لحالهما الفضيلة وتبكي من اجلهما المروءة..
فليحذر كل عاقل من التقصير في حق والديه..فان عاقبة ذلك وخيمة.. ولينشط في برهما فانهما عن قريب راحلين.. وحينئذ يعض أصابع الندم ولآت ساعة مندم..
نعم أن بر الوالدين من شيم النفوس الكريمة..لكان مدحة بين الناس لجليل قدره كيف وهو علاوة علي ذلك تكفر به السيئات..وتجاب الدعوات عند رب البريات.. وبه تنشرح الصدور وتطيب الحياة ويبقى الذكر الحسن بعد الممات.. اللهم اغفر لنا ولوالدينا وارحمها كما ربونا صغارا واجزهم عنا خير ما جزيت به عبادك الصالحين..
والله اعلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى اله وصحبه أجمعين..
ـــــــــــــــــــ
كيف تصبح طالباً للعلم؟
جماز الجماز
4/10/1426
ارسل تعليقك ...
تعليقات سابقة ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
تثير همة الكثير من الشباب طلب العلم الشرعي، ويبحثون عن كيفية الحصول عليه، والمذهب الذي يجب أن يتبعوه، والكتب التي يقرؤها.
وإلى هؤلاء جميعهم، أنصحكم ببعض الأمور التي أتمنى أن تعينكم على أن تصبحوا طلاباً للعلم، منها:
* بأن تهتم بإخلاص القصد, فيكون تعلمك للعلم لوجه الله _تعالى_.(115/1018)
* واحرص على أن تكون همتك عالية, فاستكثر من القراءة والفهم والحفظ.
* تعرف على سير العلماء, كيف كانت هممهم, وكيف كانوا يضحون بأوقاتهم, كالطبري والقرطبي وابن الجوزي وأبي قدامة والنووي وابن تيمية وابن القيم وابن كثير وابن حجر وغيرهم.
* اعلم أن العلم لن تناله براحة الجسم, فلتكن عزيمتك جادة.
* حبب إلى نفسك العلم, كأن تقرأ في الحث على طلب العلم وفضله, وفيه كتاب ميسر, فانتخب مجموع (الجامع في الحث على حفظ العلم) جمع وتحقيق الحداد. وهو مأخوذ أصلاً من البغدادي والعسكري وابن عساكر وابن الجوزي.
* عليك أن تقرأ في أدب العلم قبل طلب العلم, ومن أخصر الكتب وأيسرها (تذكرة السامع والمتكلم في أدب العلم والمتعلم) لابي جماعة.
تثير همة الكثير من الشباب طلب العلم الشرعي، ويبحثون عن كيفية الحصول عليه، والمذهب الذي يجب أن يتبعوه، والكتب التي يقرؤها
* تحل بالأخلاق الحسنة من القناعة والمروءة وطلاقة الوجه, وليكن لك سمت حسن من الوقار والسكينة والتواضع.
* يجب أن تتلقى العلم من أهله, فتأخذ عن المتخصصين في العلوم الشرعية, فإن لم تجد, فاظفر بعالم تتلقى عليه سائر العلوم, فإن لم تجد, فعالم في فن أو فنين, وليكن من أكثر أهل البلد علماً, وأحسنهم ورعاً, وأجملهم خلقاً, وأفضلهم أدباً.
* احذر كل الحذر أن تأخذ العلم عن الذي يتلقون العلم من الكتب, ولا يجلسون بين يدي الشيوخ.
* اتخذ لك صديقاً يعينك على طلب العلم, وليكن من الجادين صاحب همة عالية.
* اعلم أن العلماء متوافرون في كل مكان, فابحث عنهم تجدهم, إما بالرحلة, أو سماع شروحهم مسجلة, أو سؤالهم عبر وسائل الاتصال إذا أشكل شيء.
* يجب أن تهتم بالأمور العملية الواضحة, ولا تضيع وقتك في الأمور الجدلية والمسائل التي لم تقع.
* إذا أردت ثبات العلم, فاعمل بعلمك.
* اهتم بالدعاء: (اللهم انفعني بما علمتني, وعلمني ما ينفعني, وزدني علماً)
* أنت مبتدئ, وليس أمامك إلا التقليد, وشيخك عليه أن يبصرك بكل ما هو نافع ومفيد, ويحذرك من كل ما هو ضار مشين.
* المذهب الذي ننصحك باتباعه فقط, أحد المذاهب الأربعة مذهب أبي حنيفة أو مالك أو الشافعي أو أحمد, وتختار لك المذاهب السائد في بلدك من أحد المذاهب الأربعة المذكورة, لأنه أسهل وأيسر في طلبه ومعرفته, وتوافر شيوخه, شريطة ألا تتعصب له, وتنتقص غيره, فإذا بلغت مبلغ طالب العلم أو أكثر, فعليك باتباع القول الذي يعضده الدليل ويسانده التعليل.
* الكتب التي ننصحك بها, المفترض أن تكون من اختيار شيخك, وخاصة في الفقه, فهو أعلم بحالك, وعلى كل حال نختار لك الآتي:-
* في التفسير وعلوم القرآن:
1. زبدة التفسير من فتح القدير, لمحمد الأشقر.(115/1019)
2. تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان, لعبد الرحمن السعدي.
3. تفسير القرآن العظيم, لابن كثير.
4. مباحث في علوم القرآن, لمناع القطان.
* في التوحيد:
1. حاشية الأصول الثلاثة, لعبد الرحمن بن قاسم (الأصول الثلاثة لمحمد بن عبد الوهاب).
2. المخلص في شرح كتاب التوحيد, لصالح الفوزان (كتاب التوحيد لمحمد بن عبد الوهاب).
3. شرح العقيدة الواسطية, لصالح الفوزان (العقيدة الواسطية لابن تيمية).
* في الحديث وعلومه:
1. التعليقات الآثرية على المنظومة البيقونية, لعلي حسن علي عبد الحميد (المنظومة البيقونية للبيقوني).
2. بهجة الناظر في شرح رياض الصالحين, لسليم الهلالي (رياض الصالحين للنووي).
3. الترغيب والترهيب للمنذري.
4. توضيح الأحكام الشرعية بلوغ المرام, لعبد الله البسام (بلوغ المرام لابن حجر).
* في السيرة النبوية:
1. مختصر سيرة النبي _صلى الله عليه وسلم_ وسيرة أصحابة العشرة, لعبد الغني المقدسي.
2. السيرة النبوية الصحيحة, لأكرم ضياء العمري.
* في أصول الفقه والقواعد الفقهية:
1. رسالة لطيفة جامعة في أصول الفقه, لابن سعدي, ومعها شرحها (جمع المحصول في شرح رسالة ابن سعدي في الأصول لعبد الله الفوزان)
2. منظومة القواعد الفقهية, لابن سعدي ومعها شرحها (مجموعة الفوائد البهية لصالح الأسمري)
* في الفقه:
كما تقدم تختار لك المذهب السائد في بلدك, على النحو التالي:
- الحنابلة/ دليل الطالب لمرعي المكرمي, ومعه شرحه (منار السبيل) لابراهيم الضويان.
- الشافعية/ غاية الاختصار, لابن الحسين الأصفهاني متن أبي شجاع, ومعه شرحه (الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع للشربيني.
- المالكية/ التلقين في الفقه المالكي, للقاضي عبد الوهاب البغدادي.
- الحنفية/ الهداية, للمرغينامي, ومعه شرحه (فتح القدير لابن الهمام.
* في التاريخ والتراجم:
1. معجزة التاريخ الإسلامي, لأحمد العسيري.
2. صفة الصفوة, لابن الجوزي.
3. نزهة الفضلاء في تهذيب سير أعلام النبلاء, لمحمد حسن عقيل موسى.(115/1020)
* في الآداب والأخلاق:
1. العطر الوردي شرح لامية ابن الوردي, لمصطفى بن كرامة الله.
2. مختصر منهاج القاصدين, لابن قدامة.
والله أسأل لك التوفيق والسداد, وصلى الله وسلم على نبينا محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه أجمعين.
ـــــــــــــــــــ
تدبر القرآن.. الأثر القلبي والسبيل العملي
خالد السيد روشه
20/9/1426
ارسل تعليقك ...
لا توجد تعليقات ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
عندما ترتطم أمواج البحر الهائج وتتضايق ملمات الحياة وتزداد الخطوب المؤلمة.. عندها لا يجد المرء غير ربه سبحانه, يبث إليه شكواه, ويناجيه في جوف الليل البهيم, بكلمات صادقة ودعاء لحوح مخلص.. أن ينجيه الله مما يكره ويقربه من كل ما يحب...
والمؤمن المتصل بربه برباط وثيق يفزع إلى كتاب ربه القرآن فتهدأ نفسه بقراءته وتطمئن روحه بقربه وتسليته وتأمن ذاته بالإيمان بمعانيه.
والقلب الصدوق يتعلق بالقرآن الكريم فلكأن القرآن دائما قنديل يضيء ظلمته وكوكب دري يوقد من شجرة مباركة يمدها الحق واليقين.
وعندما ينتشي العبد الصالح بينما هو يقرأ القرآن نشوة الشعور بقدر النعمة ويتدبره تفيض آثار القرآن على جوارحه عامة.. فهو يرى بالقرآن ويسمع بالقرآن ويتحرك بالقرآن.. لكأنما قرآن يتلى كلما ترك بصمة إيمان وتقوى في كل مكان يحضره.. قال الله _تعالى_: " إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً وعلى ربهم يتوكلون ".
عندما ترتطم أمواج البحر الهائج وتتضايق ملمات الحياة وتزداد الخطوب المؤلمة.. عندها لا يجد المرء غير ربه _سبحانه_, يبث إليه شكواه, ويناجيه في جوف الليل البهيم, بكلمات صادقة ودعاء لحوح مخلص
نظرة لمقدار النعمة:
إن العبد الصالح ليتأمل قدر تلك النعمة العظيمة التي اختص الله سبحانه بها تلك الأمة وهي القرآن المجيد, فأي فضيلة تكافئ ذاك الخير العميم وتلك الرحمة الربانية؟
يقول _سبحانه_: " هذا بصائر من ربكم وهدى ورحمة لقوم يؤمنون "
وقال _سبحانه_: " لقد جاءكم من الله نور وكتاب مبين, يهدي الله به من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم ".(115/1021)
وقال _سبحانه_: " ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى..".
وقال _سبحانه_: " أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون ".
وروى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال النبي _صلى الله عليه وسلم_: " ما من نبي إلا أعطي من الآيات ما مثلها آمن عليه البشر, وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلى فأرجو أن أكون أكثرهم تبعا يوم القيامة "يقول ابن مفلح ناصحا حامل القرآن بشكر تلك النعمة العظيمة " أن يعتقد جزيل ما أنعم الله عليه إذ أهله لحفظ كتابه, ويستصغر عرض الدنيا أجمع في جنب ما خوله الله _تعالى_ ويشكره.
فاقة في القلب لا يسدها غير القرآن..
إن بالقلب لفقرا وفاقة مستشعرة من كل أحد كما يستشعر بنقص ذاتي في إيمانه كلما عصى ربه وخالف أمره, ومن ثم فهو بحاجه لسد ذاك الثلم وإبعاد تلك الفاقة بالتوبة وبالقرآن وتدبره وتعلم مقاصده سد لذاك الخلل والذوبان في آفاقه علاج لتنلك الوحشة..
قال الله _سبحانه_: " ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق... الآيات " قال محمد بن كعب:كان الصحابة في مكة مجاهدين فلما هاجروا أصابوا الريف والنعمة ففتروا عما كانوا فيه فقست قلوبهم فوعظهم الله فأفاقوا " تفسير القرطبي, وعن ابن عباس قال, قال أبو بكر: يا رسول الله أراك قد شبت! فقال النبي _صلى الله عليه وسلم_: "شيبتني هود وأخواتها " أخرجه الترمذي
ويقول ابن مسعود: "إن أقواما يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم, ولكن إذا وقع في القلب فرَسخ فيه نفع "
وقال جندب بن عبد الله :" كما مع النبي _صلى الله عليه وسلم_ ونحن فتيان فتعلمنا الإيمان قبل أن نتعلم القرآن ثم تعلمنا القرآن فازددنا إيمانا ".
إن العبد الصالح ليتأمل قدر تلك النعمة العظيمة التي اختص الله _سبحانه_ بها تلك الأمة وهي القرآن المجيد
وقال النووي _رحمه الله_: " ينبغي للقارئ أن يكون شأنه الخشوع والتدبر والخضوع فهذا هو المقصود المطلوب وبه تنشرح الصدور وتستنير القلوب ودلائله أكثر من أن تحصر وأشهر من أن تذكر " قال الله _سبحانه_: " الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم..." الآيات .
الصالحون لا يقرؤون القرآن إلا تدبرا..
قال الله _سبحانه_: " قل آمنوا به أو لا تؤمنوا إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا, ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا".
قال القرطبي: " فكانت حالهم – يعنى رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ وأصحابه – الفهم عن الله والبكاء خوفا منه "
فالصالحون هكذا دائما وقافون عند تدبر الآيات يرددونها ويتفهمون معانيها,(115/1022)
فقد أخرج أحمد من رواية أبي ذر أن النبي _صلى الله عليه وسلم_ قام بآية حتى أصبح يرددها والآية " إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم "
ووقف تميم بن أوس الداري _رضي الله عنه_ بآية يقرؤها ويرددها في جوف الليل الآخر حتى أصبح قوله _تعالى_1: " أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون " .
وقال ابن أبي مليكة: سافرت مع ابن عباس من مكة إلى المدينة فكان يقوم نصف الليل فيقرأ القرآن حرفا حرفا ثم يبكي حتى نسمع له نشيجا ".
ويقول إسحاق بن إبراهيم عن الفضيل بن عياض: " كانت قراءته حزينة شهية بطيئة مترسلة كأنه يخاطب إنسانا، وكان إذا مر بآية فيها ذكر الجنة يردد فيها ويسأل ".
وقال محمد بن كعب: لأن أقرأ " إذا زلزلت الأرض زلزالها والقارعة أرددهما وأتفكر فيهما أحب إلى من أن أهز القرآن كله هزا".
قال النووي: وقد بات جماعة من السلف يتلو الواحد منهم الآية الواحدة ليلة كاملة أو معظمها يتدبرها عند القراءة "
وقال ابن القيم: " هذه كانت عادة السلف يردد أحدهم الآية إلى الصبح "
السبيل العملي التربوي لتدبر القرآن
لاشك أننا بحاجة جميعا إلى تدبر السبل العملية التي ننهجها لتدبر هذا القرآن العظيم اقتداء بالنبي _صلى الله عليه وسلم_ وصحبه والصالحين, ونحن نقف معك أخي القارئ الكريم عند مجموعة من السبل العملية التي لا ينقصها سوى العزم على التطبيق والمداومة عليه:
1- عقد العزم واستحضار النية لتدبر القرآن, فلا يكون التدبر عابرا بل يكون عبادة كأي عبادة تلزمه النية المنعقدة المخلصة لله وحده, قال الشافعي: " حق على طلبة العلم بلوغ غاية جهدهم في الاستذكار من علمه والصبر على كل عارض دون طلبه وإخلاص النية لله في استدراك علمه نصا واستنباطا والرغبة إلى الله في العون عليه, فإنه لا يدرك إلا بعونه " .
2- اعتبار الإنسان نفسه هو المخاطب بآيات القرآن التي يقرؤها, يقول ابن القيم: " أكثر الناس لا يشعرون بدخول الواقع تحته وتضمنه له ويظنونه في نوع وفي قوم قد خلو من قبل ولم يعقبوا وارثا, وهذا هو الذي يحول بين القلب وبين فهم القرآن, ولعمر الله إن كان أولئك قد خلو فقد ورثهم من هو مثلهم أو شر منهم أو دونهم وتناول القرآن كتناوله لأولئك " (مدارج السالكين), وقال محمد بن كعب: " من بلغه القرآن فكأنما كلمه الله " .
3- الانفراد والوحدة والتفكر: فقد قال الله _تعالى_: " كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون " ويقول الحسن البصري: " مازال أهل العلم يعودون بالتذكر على التفكر وبالتفكر على التذكر ويناطقون القلوب حتى نطقت بالحكمة " ويقول ابن القيم: " التفكر في القرآن نوعان: تفكر فيه ليقع على مراد الرب _تعالى_ منه وتفكر في معاني ما دعا عباده إلى التفكر فيه.(115/1023)
4- محاولة التطبيق الفوري للأوامر والانتهاء الفوري عن النواهي: قال ابن مسعود في قوله _تعالى_: " يتلونه حق تلاوته " قال: والذي نفسي بيده إن حق التلاوة أن يحل حلاله ويحرم حرامه ويقرؤه كما أنزله الله ".
_________
مراجع للموضوع:
1- مدارج السالكين للإمام ابن القيم
2- مفتاح دار السعادة للإمام ابن القيم
3- تدبر القرآن للسنيدي
4- التبيان في آداب حملة القرآن للنووي
5- مختصر منهاج القاصدين للمقدسي
ـــــــــــــــــــ
أسلوب الدعوة الفردية
17/9/1426
ارسل تعليقك ...
لا توجد تعليقات ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
الدعوة الفردية هي: ما يقوم به المسلم من جهود دعوية بمفرده، والفردية قد تكون من جهة الداعية، أو من جهة المدعو.
مثال الأول: عمل الشخص منفرداً عن الجماعة، بحيث يكون مستقلاً بدعوته للناس، وذلك من خلال المحاضرات، والدروس، والخطب.
ومثال الثاني: كون الداعية يدعو الناس منفردين، من خلال اللقاء الفردي، وجلسات المجالس (1).
ومن خلال عرض الرسول _صلى الله عليه وسلم_ الدعوة على الناس، نجد أنه كان يمشي منفرداً في الأسواق، يدعو الناس،ويذهب إليهم في منازلهم، ونواديهم، ليس هذا فقط ولكن أيضاً يسافر إليهم بمفرده، كما في سفره _صلى الله عليه وسلم_ إلى الطائف، وتعرضه للأذى من السفهاء، ثم عاد إلى مكة ليكمل مشوار الدعوة دون ملل أو يأس، بل إن همه الأول الدعوة إلى الله _تعالى_ وهداية الناس، وإخراجهم من الظلمات إلى النور، حتى وفق الله تعالى الأنصار للقاء الرسول _صلى الله عليه وسلم_ فدعاهم منفرداً، فقبلوا دعوته بتوفيق الله _تعالى_ لهم.
الدعوة الفردية هي: ما يقوم به المسلم من جهود دعوية بمفرده، والفردية قد تكون من جهة الداعية، أو من جهة المدعو.
وأيضاً بَعْثه _صلى الله عليه وسلم_ مصعب بن عمير _رضي الله عنه_ إلى المدينة بمفرده ليعلم الناس أمور دينهم، فدعا رضي الله عنه وأخلص وضّحى بكل غال ونفيس، وخاطر بحياته من أجل تبليغ الدعوة، وأثمرت هذه الدعوة الفردية المباركة بإسلام معظم أهل المدينة.(115/1024)
أيضاً دعوة كعب بن مالك _رضي الله عنه_ لأبي جابر _رضي الله عنه_ كانت دعوة فردية، اجتهد فيها كعب _رضي الله عنه_ وحرص كل الحرص على تبليغ الدعوة، واستغل الفرصة أحسن استغلال، فأسلم أبو جابر _رضي الله عنه_.
فالدعوة الفردية سهلة المنال، يمارسها المسلم الصادق، الذي يحمل هم الدعوة في أي مكان وزمان.
ويُذكر أنه عندما (استدعى المندوب السامي الفرنسي، الشيخ عبد الحميد الجزائري، وقال له: إما أن تقلع عن تلقين تلاميذك هذه الأفكار، وإلا أرسلت جنوداً لإغلاق المسجد الذي تنفث فيه السموم ضدنا، وإخماد أصواتكم المنكرة. فأجاب الشيخ عبد الحميد: أيها المسيو الحاكم إنك لاتستطيع ذلك. فاستشاط غضباً وقال: كيف لاأستطيع؟ فقال له: إذا كنت في عرس علمت المحتفلين، وإذا كنت في مأتم وعظت المعزين، وإذا، جلست في قطار علّمت المسافرين، وإن دخلت السجن أرشدت المسجونين، وإن قتلتموني التهبت مشاعر المواطنين، وخير لكم أيها المسيو أن لا تتعرضوا للأمة في دينها ولغتها) (2).
فالمسلم عليه أن يقتدي برسول هذه الأمة _صلى الله عليه وسلم_، امتثالاً لقول الله تعالى { لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا } (3)، ويستن أيضاً بأصحابة الكرام رضي الله عنهم امتثالاً لموعظة الرسول _صلى الله عليه وسلم_ التي رواها الإمام أحمد وأصحاب السنن – رحمهم الله - من حديث العِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ _رضي الله عنه_ قَالَ: صَلَّى بَنَا رَسُولُ اللَّهِ الْفَجْر، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا، فَوَعَظَنَا مَوْعِظَةً بَلِيغَةً، ذَرَفَتْ لَهَا الْأَعْيُنُ، وَوَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ، قُلْنَا أَوْ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَأَنَّ هَذِهِ مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ فَأَوْصِنَا، قَالَ: " أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ، وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، وَإِنْ كَانَ عَبْدًا حَبَشِيًّا، فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ يَرَى بَعْدِي اخْتِلَافًا كَثِيرًا، فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ، فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ " (4).
ومن المؤسف أننا نجد من بعض الدعاة اليوم من يستخدم بعض الوسائل أو الأساليب في دعوة الناس بطريقة عشوائية وغير مدروسة وتجانب الحكمة
فهذا الأسلوب المهم من أساليب الدعوة التي ينبغي للداعية أن يحرص على استخدامها وفق ما تقتضيه مصلحة المدعو، وأن يختار بدقة الوسيلة والأسلوب الذي يتناسب مع المدعو للوصول إلى الهدف المنشود.
ومن المؤسف أننا نجد من بعض الدعاة اليوم من يستخدم بعض الوسائل أو الأساليب في دعوة الناس بطريقة عشوائية وغير مدروسة وتجانب الحكمة، وهذا بلا شك ما يفسده أكثر مما يصلحه، ولو تأملنا القرآن الكريم، لوجدنا أن الله _تعالى_ أمر أنبياءه -كما مر بنا في الآيات السابقة- باستخدام الموعظة الحسنة مع فئة من المدعوين، والغلظة والشدة مع فئة أخرى، واللين والرفق مع آخرين وهذا بلا شك يعطينا درساً مهماً في ضرورة الدقة في اختيار الوسائل والأساليب التي تناسب حال المدعوين.
المراجع:
(1)انظر الداعي إلى الله (تكوينه و مسؤوليته) د. زيد الزيد،ص67.
(2)نحو أسلوب أمثل للدعوة الإسلامية، محمود عمارة، ص92.(115/1025)
(3)سورة الأحزاب، الآية (21).
(4)رواه الإمام أحمد- رحمه الله- في مسنده، برقم/16521، ج4،ص126.
---------------
* محاضرة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية كلية الدعوة والإعلام
ـــــــــــــــــــ
أهم مراجع الموضوع:
سير أعلام النبلاء – للذهبي
شذرات الذهب – لابن العماد
تذكرة الحفاظ - للذهبي
المنتظم - لابن الجوزي
البداية والنهاية – لابن كثير
وفيات الأعيان - لابن خلكان
الطبقات السنية في تراجم الحنفية - للغزي
ـــــــــــــــــــ
المُعلم بين تقدير السلف وإهانة الخلف
يزيد حمزاوي
7/9/1426
ارسل تعليقك ...
تعليقات سابقة ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
دخلت ذات يوم إلى جامعة إسلامية عريقة في بلد إسلامي، فاستأذنت أستاذ اللغة العربية لحضور محاضرته، لعلي أستفيد مما علمه الله، فأذن لي فجلست خلف الصفوف، حتى لا أزعج أحداً بوجودي، فانتظر الأستاذ طويلاً حتى يدخل الطلاب المتأخرون والمتسكعون في الردهات والممرات، وبعد أن جلسوا انتظرهم مرة ثانية طويلاً حتى يكفوا أحاديثهم الجانبية التي تعلو من كل مكان، فانقضى ربع الوقت ولم تبدأ المحاضرة.
وبحسي الصحفي أرسلت بصري ليجول بين الطلاب، بعد أن بدأ الأستاذ بالكلام فعاد بصري محملاً ومثقلاً بما يُبكي العين.
فذاك الطالب لا يزال يُكلم زميله عما اقترفه بالأمس من صبيانيات، وذلك الآخر يغمز بعينه لامزاً أستاذه، وثالث من هناك يقهقه مخفياً وجهه بيده عن معلمه كي لا يراه.
ولما استرسل الأستاذ في إملاء بعض القواعد اللغوية، يوقفه هذا طالبا منه التمهل، ويبطئه الثاني مؤنباً معلمه ومشتكياً من سرعة الإلقاء، ويتأفف الثالث، ويقف الرابع من مكانه ويتجه إلى زميل يطلب ورقة يكتب عليها، بعدما كان تصدق عليه آخر بقلم.(115/1026)
كان الجو مفعماً بالتشويش، ولم تكن القاعات المجاورة أحسن حالاً، فقد كان يصلنا ضجيجها والأبواب موصدة، ولما قمعت نفسي حتى لا تنفجر من الداخل لما أشهده من إهانة العلم والمعلم..أنصت إلى الأستاذ وهو يقدم لنا أمثلة عن أوزان الأسماء والأفعال ...فيذكر الكلمة ويردفها بوزنها...فعل .. فعول.. فعلل.. مفاعيل..ولم أكد أخطف معلومة مفيدة حتى قاطعه زعماء التشويش، من طلبة لا يعرفون للعلم والمعلم وقاراً، فهذا يسخر بسؤاله عن وزن " فول " وثان في أقصى القاعة يسأل عن وزن " تاكسي " وثالث يسأل عن وزن " بوستاجي " ...وتتقاطع القهقهات ويدوي الصف بقنبلة من الضحك الهستيري عند كل سؤال، و حتى حان وقت الخروج، راح الطلاب يتنافسون في ابتكار كلمات تقتلهم ضحكاً، بعدما ماتت قلوبهم وهم لا يزالون يقهقهون.
دخلت ذات يوم إلى جامعة إسلامية عريقة في بلد إسلامي، فاستأذنت أستاذ اللغة العربية لحضور محاضرته، لعلي أستفيد مما علمه الله، فأذن لي فجلست خلف الصفوف، حتى لا أزعج أحدا بوجودي، فانتظر الأستاذ طويلا حتى يدخل الطلاب المتأخرون والمتسكعون في الردهات والممرات، وبعد أن جلسوا انتظرهم مرة ثانية طويلا حتى يكفوا أحاديثهم الجانبية التي تعلو من كل مكان، فانقضى ربع الوقت ولم تبدأ المحاضرة
وفي ساحة الجامعة سألت نفسي هل حقيقة أنا في جامعة إسلامية، سيكون خريجوها غدا حملة المشروع الإسلامي إلى العالم؟
أم أني أخطأت الطريق ودخلت من غير شعور مسرحاً تُعرض على خشبته مسرحية عنوانها " مدرسة المشاغبين"؟
تذكرت حينها أن تلك المسرحية المشؤومة وما شابهها وجدت رواجاً في جو الانهزامات العربية أمام اليهود في الأيام الحالكة، التي ضاعت فيها البقية الباقية لفلسطين.
وها هو الشباب اليوم في زمن الانهزامات في أفغانستان والعراق يحافظ على نفس عاداته التربوية على مقاعد الدراسة.
وبهذا النوع من التربية في بلادنا الإسلامية، لا مجال لنعتب على الأمريكي الذي يصول ويجول على أرضنا، كما لا مجال لعتاب اليهود الذين يستحمروننا، مواجهين إيانا بالطاقات الخلاقة وأصحاب الكفاءات العالية من المتعلمين، الذي حصدوا مرة أخرى هذه السنة جوائز نوبل للفيزياء والكيمياء والطب والاقتصاد، بينما نواجههم نحن بجيوش من المشاغبين والخريجين العاجزين عن التأثير والتغيير.
وحتى لا نسبح بعيداً عن موضوعنا الرئيس، وهو ضرورة احترام المعلم، فإني أرى أن العالم الإسلامي اليوم مطالب بأن يعيد الاعتبار إلى المعلم، ويعرف له مكانته التي منحها له الله _تعالى_ في عدة آيات قرآنية وأحاديث نبوية،.يجب أن يلقى الاحترام الكامل والتقدير الكافي حتى يستطيع أداء مهمته على أحسن وجه، فمعلم الناس الخير يستغفر له كل من في البر والبحر حتى الحيتان في الماء، ويوم أن كان المعلم معلماً، وكان المعلمون يحظون بالتقدير والاحترام خرج لنا نابغون في شتى العلوم تركوا بصمتهم على صفحة التاريخ الإسلامي الزاهرة.(115/1027)
وإذا كانت لا تخفى على أحد الآيات القرآنية والأحاديث النبوية في رفع شأن العالم المعلم، فإنه لا يدري الكثيرون كيف كان سلفنا الصالح يُقدرون المعلم، فهاك أخي القارئ بعض سيرهم وأقوالهم في ذلك:
روى أبو حامد الغزالي عن علي ابن أبي طالب- رضي الله عنه - أنه كان يقول: من حق العالم عليك أن تسلم على القوم عامة وتخصه بالتحية، وأن تجلس أمامه، ولا تشير عنده بيديك، ولا تعمد بعينيك غيره، وان كانت له حاجة سبقت القوم إلى خدمته، ولا تشبع من طول صحبته.
أما الشافعي إمام الدنيا، فكان يقول :كنت أقلب الورق بين يدي مالك تقليباً رقيقاً هيبة من أن يسمع وقعه.
واستمع أخي المسلم، الذي يريد أن يكون خادماً لدينه ما ينصح به بدر الدين ابن جماعة، أحد علماء التربية المسلمين: ينبغي ألا يخاطب المتعلم شيخه بتاء الخطاب وكافه، ولا يناديه من بعيد، بل يقول يا أستاذي، وأن يعرف له حقه ولا ينسى فضله، وأن يعظم حضرته، ويرد غيبته ويغضب لها، وألا يدخل على الشيخ إلا باستئذان، وأن ينقاد للشيخ في أموره، ويكون معه كالمريض مع الطبيب الماهر، فيشاوره فيما يقصده، ويتحرى رضاه، وينظر إليه بعين الإجلال، ويجلس بين يديه جلسة الأدب، وأن يحسن خطابه، وأن لا يكرر سؤال ما يعلمه، ولا يسبق شيخه إلى شرح مسألة، وأن لا يقطع على الشيخ كلامه ولا يسابقه فيه، وإذا مشى معه فليكن أمامه بالليل وخلفه بالنهار، إلا أن يقتضي الحال خلاف ذلك، ويتقدم عليه في المواطئ المجهولة الحال والخطرة، وإذا صادف الشيخ في طريقه بدأه بالسلام.
ويِؤكد أحد فطاحلة التربية الإسلامية، وهو الزرنوجي كلام ابن جماعة إذ يقول: على المتعلم ألا يمشي أمام شيخه، ولا يجلس مكانه، ولا يبدأ الكلام إلا بإذنه، ولا يكثر الكلام عنده، ولا يسأل شيئاً عند ملالته، ولا يتكلم عنده مع شريكه...ويراعي الوقت ولا يدق الباب عليه بل يصبر حتى يخرج.
أولئك هم السلف الذين نزعم الانتماء إليهم، أولئك هم المتعلمون والمعلمون، كانوا بتقدير بعضهم لبعض منارات هدى فتحت العالم شرقاً وغرباً.
إن العلم الذي تلقوه ونوع العملية التربوية التي خضعوا لها جعلت منهم جيلاً فريداً، يفخر إلى يوم الدين بأنه جلس على مقاعد الدراسة ليطلب العلم، لقد كان جيلاً راشداً لم يعهد الصبيانية والشغب .
لقد كانت التربية في زمن انتصاراتهم نقطة القوة، لكنها في زمن انهزاماتنا نقطة الضعف الأولى، فيا ليتنا نعيد النظر في القضية التربوية برمتها في عالمنا الإسلامي، فنوليها اهتماما كما أولها ربنا وديننا وسلفنا فنفوز كما فازوا، ونكون بحق خير خلف لخير سلف.
ـــــــــــــــــــ
ظاهرة الأعمال المبتورة .. الأسباب والعلاج
خالد السيد روشه
1/9/1426
ارسل تعليقك ...(115/1028)
تعليقات سابقة ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
khaled_rousha@yahoo.com
هناك ظاهرة سلبية فوضوية تشوب الكثير من أعمالنا.. هي ظاهرة الأعمال التي لا تكتمل, حيث نكتفي من
أعمالنا بالشروع فيها أو – في أحسن الأحوال – الابتداء بإنجازها.. ونعد ذلك إنجازاً, ثم إذا بنا ننقطع عن إكمال تلك الأعمال وإنهائها..!
إنها ظاهرة الأعمال المبتورة التي لا تكتمل؛ ونحن لو أجرينا إحصاء لمرات البدء في الأعمال المختلفة في ميدان العمل الإسلامي - سواء على مستوى الأفراد أو الجماعات - ثم أحصينا كم من الأعمال بلغت النهاية أو حتى قاربت بلوغها،، ستصيبنا صدمة كبيرة إذ إننا سنجد أن معظمها لم تبلغ حتى خط المنتصف, ولا أبالغ إذا ما قلت إن غالبية تلك الأعمال تنتهي فور بدايتها!!
نظرة لأهم أسباب تلك الظاهرة:
1- العشوائية التي تسود مجتمعاتنا, والعادات اللانظامية التي ينشأ الشباب عليها فهم يرون جميع من حولهم هكذا يبتدئون ثم ينقطعون, بل ولا أبالغ إذا قلت أن هذا الداء قد أصيب به كثير من الدعاة إلى الله, فأحدهم يبدأ بقراءة كتاب ثم ما يلبث ينقطع, والآخر يبدأ في شرح درس علم ثم ما يلبث أن تراه قد توقف, وثالث يحفظ شيئا من القرآن ثم يهجره!!
2- ضياع لذة الأعمال والاستشعار بها, ففي خضم زحمة الحياة ودورتها يصبح العمل الصالح بالنسبة لكثيرين هو أداء واجب لازم فهو يفعله ليتخلص منه ولينتهي من مسؤوليته, أو يراه وكأنه فضل يأتيه ويرتجي ثوابه الآني السريع والحق أن المسلم في طريقه لربه يحتاج إلى أن يحب عمله ويستشعر لذته ليتوق إليه دائما فلا ينقطع عنه, والمسلم الذي لم يستشعر حب العمل ولم يذق طعم حلاوته لن يصبر عليه ولن يثابر في الثبات عليه.
3- اهتمام المربين بالأوامر والغفلة عن تبيين سبيل التطبيق, فقد صار المربون يوجهون الناس إلى العبادات ويحثونهم عليها بل ويعظونهم فيها وقد يغلظون لهم القول وهم لم يعلموهم كيف التطبيق القلبي الكامل لذاك العمل, بل وكيف يرتبط قلبه به ليحب العودة إليه, لقد كان النبي _صلى الله عليه وسلم_ يعلم أصحابه أن ترتبط قلوبهم بالعمل قبل جوارحهم فلقد كان يقول لبلال: " أرحنا بالصلاة يا بلال " فليست الصلاة عبادة بدنية قولية فحسب, إنما هي راحة للقلب وإزالة للهم ولذة للروح...
هناك ظاهرة سلبية فوضوية تشوب الكثير من أعمالنا.. هي ظاهرة الأعمال التي لا تكتمل, حيث نكتفي من أعمالنا بالشروع فيها أو – في أحسن الأحوال – الابتداء بإنجازها.. ونعد ذلك إنجازا, ثم إذا بنا ننقطع عن إكمال تلك الأعمال وإنهائها ..!
إنها ظاهرة الأعمال المبتورة التي لا تكتمل
نظرة الكتاب والسنة لظاهرة انقطاع الأعمال:(115/1029)
يقول الله _سبحانه_: " أفرأيت الذي تولى وأعطى قليلاً وأكدى أعنده علم الغيب فهو يرى أم لم ينبأ بما في صحف موسى وإبراهيم الذي وفى, ألا تزر وازرة وزر أخرى وأن ليس للإنسان إلا ما سعى وأن سعيه سوف يرى ثم يجزاه الجزاء الأوفى وأن إلى ربك المنتهى ".
فالقرآن يلفتنا إلى أولئك الذين تنقطع بهم أعمالهم الصالحات ويتولون عن العطاء والبذل والتضحية, وهم لم يعطوا حقاً لربهم ولا لدينهم ولا لآخرتهم إلا قليلاً من عمل ونزراً من عطاء, فكأن صورتهم هي صورة الباحث عن ماء ليطهر نفسه ويرتوي من عطش فهو يحفر بئر ماء وبينما هو يبتدئ بالحفر إذ تواجهه صخرة (كدية) توقفه عن العمل والحفر والبحث عما يسعده وينفعه.. وههنا تقول العرب عنه: (أكدى) يعنى انقطع بينما هو يبحث عن مائه.. فلا هو انتفع بما حفر سابقاً ولا هو انتفع بماء وجده!!
كما ينبهنا القرآن العظيم إلى حال هذا الشخص المنقطع عمله.. فهو لم يعلم علم الغيب أن له عمرا آخر يستطيع أن يتدارك فيه ما قصر, كما أنه تغافل عما علمه من وصايا الشرائع كلها أنه لن ينفعه سوى بذله الدائم وسعيه المستمر, وأن ليس للإنسان إلا ما سعى, وأن ذاك السعي سوف يراه ربه _سبحانه_ فينبغي أن يحرص على نقائه وشفافيته وكماله واستمراره, وبقدر اكتمال سعيه بقدر ما يجازى به من الخير من ربه..
ويقول الله _تعالى_: " وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون ".
فالصبر على العمل والثبات عليه مع اليقين الجازم بقدرة الله _سبحانه_ على تحقيق وعده هو من أعظم صفات الدعاة إلى الله ومن أسمى صفات الأئمة الذين هم يعدون أنفسهم لقيادة هذه الأمة, فأما الذين لا يصبرون على عباداتهم وعلى أعمالهم الصالحات أيا ما كانت وإذا بهم يغيرون قناعاتهم ومبادئهم مائلين في ذلك إلى متاع الدنيا الزائل فأولئك لا يستحقون مكانة في هذا السبيل مهما كانوا إذ إنهم انقطعت بهم الأعمال ولم يكملوا السبيل ولم يثبتوا عليه.
ويقول الله _تعالى_: " يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون "
يقول القرطبي – رحمه الله – " تضمنت هذه الآية من الوصايا التي جمعت الظهور في الدنيا والفوز بنعيم الآخرة, فحض على الصبر على الطاعات وعن الشهوات... ثم قال: والمصابرة قيل: إنها إدامة مخالفة النفس عن شهواتها فهي تدعو وهو ينزع وقيل صابروا الوعد الذي وعدتم به.... ثم قال: وأما المرابطة, فالرباط في اللغة هو العقد على الشيء حتى لا ينحل ومنها الرباط ملازمة الثغور ومواظبة الصلاة وقال الشيباني: ماء مترابط يعنى دائم لا ينزح فالمرابط على العبادة من يحبس قلبه على النية الحسنة والجسم على فعل الطاعة في سبيل الله " (تفسير القرطبي)
ومن السنة: عن عائشة _رضي الله عنها_ فيما رواه مسلم " سئل رسول الله _صلى الله عليه وسلم_: أي العمل أحب إلى الله؟ قال:" أدومه وإن قل ", ولمسلم أيضا بلفظ " كان عمله ديمة ".(115/1030)
يقول النووي – رحمه الله شارحا الحديث: " وفيه الحث على المداومة على العمل وأن قليله الدائم خير من كثير ينقطع؛ لأنه بدوام القليل تدوم الطاعة والذكر والمراقبة والنية والإخلاص والإقبال على الله _سبحانه_ ويثمر القليل الدائم بحيث يزيد على الكثير المنقطع أضعافا مضاعفة.(شرح مسلم للنووي)
وقد وعى الصحابة الكرام ذاك التوجيه العظيم وعياً سليماً فكان أحدهم لا ينقطع عن عمل أبدا حتى يكمله.. وكان أحدهم يستمسك بالسنة حتى يلقى ربه مستمسكاً بها.
فقد أخرج مالك في الموطأ عن عائشة _رضي الله عنها_ أنها كانت تصلي الضحى ثماني ركعات ثم تقول: لو نشرني أبواي ما تركتها.
وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة _رضي الله عنه_ قال: قال رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ لبلال عند صلاة الفجر: " يا بلال حدثني بأرجى عمل عملته في الإسلام، فإني سمعت دف نعليك بين يدي في الجنة"، قال: "يا رسول الله ما عملت عملاً أرجى عندي أني لم أتطهر طهوراً في ساعة من ليل ولا نهار إلا صليت بذلك الطهور ما كتب لي أن أصلي".
وأخرج الترمذي عن بريدة قال: أصبح رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ فدعا بلالاً فقال: بم سبقتني إلى الجنة؟ ما دخلت الجنة قط إلا سمعت خشخشتك أمامي قال: يا رسول الله، ما أذنت قط إلا صليت ركعتين، فقال رسول الله: بهما.
وعن علي بن أبي طالب _رضي الله عنه_ قال: أتانا رسول الله فوضع رجله بيني وبين فاطمة - رضي الله عنها - فعلمنا ما نقول إذا أخذنا مضاجعنا، فقال: يا فاطمة إذا كنتما بمنزلتكما فسبحا الله ثلاثاً وثلاثين، وحمدا ثلاثاً وثلاثين، وكبرا أربعاً وثلاثين قال علي: والله ما تركتها بعد.
- لماذا الاستدامة على العمل وعدم الانقطاع؟
إن للاستدامة على الأعمال الصالحة وعدم قطعها فوائد لا تحصى, فهي سبب لمداومة الاتصال بالله _سبحانه_, إذ إن المنقطع عن عمله غافل في لحظة من اللحظات عن صلة ربه, ومن وصل بربه لم يضره الدنيا بما فيها, كذلك فإن اتصال العمل واستمراره فيه تعاهد النفس عن الغفلة، وترويضها على لزوم الخيرات حتى تعتادها
كذلك فإن الاستمرار على الطاعات يتابع نقاوة السريرة والظاهر ويتعاهدهما فيكن سبب لمحو الخطايا والذنوب، قال _صلى الله عليه وسلم_ فيما أخرجاه في الصحيحين: " لو أن نهراً بباب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرات هل يبقى من درنه شيء؟ قالوا: لا، قال: فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا".
كذلك فالاستمرار والمداومة وعدم الانقطاع في الطريق سبب لحسن الختام، قال _تعالى_:" و الذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين"، فهو لما جاهد نفسه وثبت على طاعة ربه هداه الله إلى سواء الصراط.
كذلك هي سبب للنجاة من النفاق، فقد أخرج الترمذي قال رسول الله _صلى الله عليه وسلم_: " من صلى أربعين يوماً في جماعة يدرك التكبيرة الأولى كتبت له براءتان، براءة من النار، وبراءة من النفاق". فانظر كيف أنه لما ثبت وداوم على تلك العبادة الأيام المتتابعة شهد له بذلك.. فأي فضيلة تلك وأي مقام...(115/1031)
كيف نربي شبابنا على الثبات على الأعمال؟
1- نشر فكرة الثواب المترتب على الاستدامة على العمل: فالمتطلع إلى الثواب يكون الثواب دافعه ورجاؤه, وقد سبق ورأينا كيف يحفز النبي _صلى الله عليه وسلم_ الثابتين على الصالحات بالعتق من النار والبراءة من النفاق وغيرها, فينبغي أن ننشر بين شبابنا ثقافة الثواب المتعلقة باستمرار العمل حتى الإنجاز فيه.
2- تربية الشباب على أن الدنيا كلها هي دار عمل صالح وليست دار راحة وكسل فالمسلم دائما حارث وهمام بالصالحات في سبيل ربه وهو لا ينقطع عن ذلك أبداً ومشهور قول الإمام أحمد لولده لما سأله يا أبت متى الراحة، فقال الإمام: عند أول قدم أضعها في الجنة.
3- الإنكار على المنقطعين والمتخاذلين في وسط الطريق, وبيان قبح أعمالهم ففي الصحيح أن النبي _صلى الله عليه وسلم_ قال لعبد الله بن عمرو: ياعبد الله لا تكن كفلان كان يقوم من الليل فترك قيام الليل.
4- تعويد الأبناء على عدم التأثر بمدح المادحين ولا بذم الذامين, فهو عامل مؤثر للغاية في الاستمرار, فالمرء الذي ينتظر المدح من الناس على عمله سوف ينقطع ولا محالة عندما لا يجد ذلك المديح.. فانظر وتأمل!
5- الإسرار بالعمل, فعمل السر أدوم وثوابه أعظم, وهو أرجى ألا ينقطع إذ إنه بعيد عن مراءاة الخلق ورجاء ثوابهم فهو لله _سبحانه_ ومن داوم على عمل السر صار من الصالحين ذوي الصلة الوثيقة بربه.
6- التربية على الدليل والبرهان والإقناع ومعرفة سبب كل عمل يستجده ولماذا, ولا يكون المرء مقلدا للناس فيما يراهم يفعلونه من الأعمال فحسب ولكن يفتح عقله وقلبه ليدرك المعاني العظيمة والحكم الرائعة من وراء الإعمال فيعدها كمبادئه وقيمة من قيمه فيحافظ عليها ولا يفرط فيها.
ـــــــــــــــــــ
عملية إنتاج المربي (1/2)
خالد السيد روشه
14/8/1426
ارسل تعليقك ...
تعليقات سابقة ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
تظل العملية التربوية قاصرة عاجزة على أن تؤتى ثمارها مادامت الحركة الإسلامية لم تستطع أن تنتج المربين الأكفاء الذين يستطيعون التطبيق العملي للأطر النظرية المنهجية للعمل الإسلامي.
وعملية إنتاج المربي الكفء عملية معقدة للغاية تتشابك فيها عدة محاور إنسانية واجتماعية ونفسية تخرجها عن كونها عملية معملية قياسية بالمعنى الذي ينص عليه المنهج التجريبي العلمي المعملي..(115/1032)
فالعناصر الإنسانية المتكاثرة - كمدى رسوخ العقائد والقيم والمبادئ الشرعية ومدى الاستقرار النفسي للمربي وقربه أو بعده عن الشخصية السوية ومدى تشربه للأخلاق النبوية ومدى الاستعداد للبذل في سبيل تلك العقائد والقناعات - والتي لا يمكن اختبارها معملياً، حيث يستحيل تثبيت بعض العوامل المؤثرة في الاختبار وتغيير الأخرى تجعل هناك ما يشبه الاستحالة في قبول معادلات كتلك المعادلات الكيميائية ثابتة النتائج أو التطبيقات الفيزيائية ثابتة التجريب في عملية التربية الإنسانية!
تظل العملية التربوية قاصرة عاجزة على أن تؤتى ثمارها مادامت الحركة الإسلامية لم تستطع أن تنتج المربين الأكفاء الذين يستطيعون التطبيق العملي للأطر النظرية المنهجية للعمل الإسلامي.
وإذا اعتبرنا العملية التربوية الناجحة هي " ما يجب أن تقوم على عدة خطوات متتالية ومتجانسة ومتبادلة بين القائم بها (المربي) والمستقبل لها (المتعلم أو المتربي) وأن يكون ذلك في إطار نظري منهجي مقبول يعتمد على أساليب مختلفة بما يتناسب وظروف التطبيق ".. فإننا ندرك مدى أهمية القائم المحرك لتلك العملية وهو المربي.
- نظرات التربويين.. رؤية مقارنة
اختلفت نظريات التربويين فيما هو أساسي وما هو فرعي من العناصر الأولية المطلوب وجودها لإنجاح عملية تكوين وإنتاج المربي الكفء، وكان من نتيجة هذا الخلاف أن نادى البعض بتحويل المجتمع المسلم كله إلى مربين ورأى هؤلاء إمكانية تحويل أي مسلم أياً كانت صفاته وإمكاناته إلى مرب لأجيال وموجه لأمة...
ولاشك أن هذا الاتجاه – وهو الاتجاه السائد الآن بين طوائف العمل الإسلامي – لا يفرق بين الأدوار التي يجب أن يقوم بها الأفراد كل على حده وما هي المواصفات المطلوبة لكل دور، فإنه ولاشك يجب أن يفرق بين دور المسلم كداعية إلى الله وبين دوره كإداري وقيادي ميداني وبين دوره كمرب ومعلم..
فالداعية وصف عام يجمع شتى الأدوار وأما القيادي الميداني والإداري فيحتاج إلى مواصفات قد تخصه بالذات دون غيره, من الخبرة و الحزم الشديد والجرأة والشجاعة والمغامرة والمبادرة والتتبع والاستقصاء و الحكمة والفراسة... إلى غير ذلك مما هو معروف مما كان يتصف به وبأكثر منه القادة المغاوير أصحاب النبي _صلى الله عليه وسلم_ في غزواتهم وحروبهم وفتوحاتهم.. فلك أن تتصور شخصية كشخصية خالد بن الوليد أو عمرو بن العاص أو غيرهم في مقابلة شخصية مدار عملها على التربية والتعليم والتقويم والتوجيه للأمة كمعاذ بن جبل وعبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس _رضي الله عنهم أجمعين_..
- اتجاهات اختيار الصفات..
فشخصية القائد إذن هي تلك الشخصية التي تستطيع تحقيق إنجازات الأهداف المعينة لها من خلال توجيه الأفراد التابعين لها، فهي إذن شخصية ينتهي دورها المعين عند بلوغ الهدف المحدد ،
أما شخصية المربي: فهي تلك الشخصية التي تستطيع تشكيل الأفراد وتهيئتهم على شتى المستويات العلمية والإيمانية والسلوكية وغيرها..
وبالعموم فإن هناك اتجاهين في طريقة اختيار المربين:(115/1033)
الأول: اتجاه التشدد في الانتقاء و المبالغة في تحديد الصفات الخاصة بالمربي، وهو اتجاه تغلب عليه المثالية في تصور حال المربي؛ بحيث ينتهي الأمر عند مطابقة هذه المواصفات واقعياً إلى صورة نظرية على الأوراق لا علاقة لها بالتطبيق في الواقع
الثاني: يقوم على التساهل في انتقاء صفات المربي؛ بحيث تتسع الدائرة لتشمل أعداداً كبيرة جداً، ودافع ذلك الاتجاه تغليب احتياجات الدعوة وتبعات انتشارها وانفتاحها وزيادة أعداد المتلقين
وكلا الاتجاهين قد أثبت الواقع التطبيقي فشله..!
فالاتجاه الأول تعطيل للعمل التربوي إذ يربطه بالمثال النادر التحقق، وإعاقة لجهود الارتقاء به، ومدعاة لكل من يعجز عن محاكاة الصورة المثالية أن يتراجع ويترك العمل،
أما الاتجاه الثاني يؤدي إلى إتاحة الفرصة لغير ذوي الأهلية والكفاية وهي مهلكة لهم، فوق أنها مضيعة للعمل.
وهنا تبرز الحاجة لوضع نموذج للقائمين على العملية التربوية يسترشدون على أساسه بحيث يتلافى سلبيات النموذجين السابقين ويسهل تطبيقه واقعيا.
- العناصر الأساسية المطلوبة لإنتاج المربي الكفء
ونستطيع أن نقول من خلال الاستقراء العملي والعلمي: إن هناك معطيات معينة تقترب - إذا اجتمعت - من عملية ناجحة لإنتاج مرب ناجح، وهذه المعطيات هي (العمق الإيماني، الشخصية السوية، العلم التطبيقي، البيئة المناسبة للتربية، المهارات المخصوصة، التقويم)
ونحاول أن نتلمس أهم مواصفات كل عنصر من تلك العناصر:
أولاً: العمق الإيماني:
وهو العنصر الأول الذي ينبغي توافره في الشخصية المرشحة للقيام بالعملية التربوية، فبدونه تفشل الشخصية في تحقيق أهدافها، بل لا نبالغ إذا قلنا: إن العملية كلها تتعرض للفشل الذريع، ومن عجب ما رأينا في بعض أوساط العمل الإسلامي أن تسند العمل التربوي إلى بعض المربين لا لشيء غير أنهم نشطاء حركيين – كما يحلو للبعض تسميتهم – وتناسى من كلفهم بتلك الأعمال شرط الإيمان العميق الذي هو الشرط الأول في الشخصية التربوية، والذي يقوم أساسه على عدة محاور نذكر بعضها:
شخصية المربي: فهي تلك الشخصية التي تستطيع تشكيل الأفراد وتهيئتهم على شتى المستويات العلمية والإيمانية والسلوكية وغيرها..
أ- الإخلاص:
فكلام المربي الذي يفتقر إلى الإخلاص كدخان في الهواء لن ينتفع به أحد، وإنما الإخلاص زينة الكلام وعطره، يجذب إلى سماعه السامعين ويقرب منه اللاهين، سمع الحسن يوماً واعظاً يعظ الناس، فقال له: يا هذا إما أن يكون في قلبك شراً أو في قلبي، إن حديثك لا يمس قلبي!!(115/1034)
والمربي المخلص يوفقه الله في انتقاء كلامه وموافقة المناسب من أوقاته والمؤثر من ألفاظه والحديث المخلص هو أشد الأحاديث إقناعاً وثباتاً في قلب السامع، يروي أحد تلاميذ القعنبي شيخ البخاري يقول: كان الشيخ يحدثنا ولحيته ترتش بالدموع!!
ب – الصبر:
ودافع الصبر هو الإيمان العميق الذي نتحدث عنه وإذا ضعف الإيمان ضعف الصبر، ومقصودنا في الصبر كعنصر أساسي من عناصر شخصية المربي المكونة أن يستطيع الصبر على متعلميه ومتربيه والمجتمعات التي يتوجه إليها، وكذا الصبر على دعوته وأن يثبت عليها وعلى مبادئه وقيمه ومعتقداته، روى عبد الله بن الإمام أحمد أنه سأل أباه يوماً: يا أبت متى الراحة؟ فقال: عند أول قدم أضعها في الجنة!
ج – الزهد:
وهو مطلب هام وعنصر أساس في شخصية المربي، ومعناه الإعراض عن الزينة والالتفات عن المتاع ورجاء الجنة في الآخرة، فليس شيئاً أسوأ من مرب غارق في ملذات الدنيا ومتاعها وزخرفها وما من شيء أسوأ أثراً على المتربين من مرب منكب على جمع الدينار والدرهم وتغيير الثياب وتبديلها، وتعمير البيوت وبنائها، ومهما اختلف الناس في تعريف الزهد والنظر له يبقى حال النبي _صلى الله عليه وسلم_ والصحابة والتابعين والعلماء هو النموذج المثالي الأوضح للاقتداء به، ولقد علمنا أنه ما من أحد منهم إلا وكان معرضا عن الدنيا وزينتها راغباً في الآخرة وجنتها ... وللأسف فكم رأينا من أحوال لمن يشتغلون بالعملية التربوية في هذه الأزمان وهم غارقون في الإسراف والزخرف، فكيف إذن نتصور صفات الجيل الناتج من هكذا مربين؟!
يروي الذهبي في السير أن الإمام أحمد لما سافر إلى عبد الرزاق انقطعت به النفقة فاشتغل حمالاً بأنصاف الدراهم ليشترى طعاما يتقوت به، فرآه عبد الرزاق وهو يحمل على ظهره المتاع، فانفرد به خلف باب بيته وهو قادم للدرس فقال له: يا أحمد إنه عادة لا تجتمع عندي النفقة ولكنني جمعت لك من أهل البيت بعض الدراهم فخذها وانتفع بها فقال أحمد: لو كنت آخذاً من أحد لأخذت منك يا إمام، ولكنني معي نفقتي التي تكفينى وتزيد حتى أعود!!
عملية إنتاج المربي (2/2)
خالد السيد روشه
21/8/1426
ارسل تعليقك ...
لا توجد تعليقات ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
نتابع في الحلقة الثانية من موضوع عملية إنتاج المربي تلمس العناصر الأساسية المطلوبة لإنتاج المربي الكفء، وهي: ثانياً: الشخصية السوية: فإنه يجب عند اختيار شخصية المربي وتأهيله أن يتصف بسواء الشخصية ووسطيتها, والشخصية السوية(115/1035)
هي تلك الشخصية وسطية الانفعال, طبيعية التأثر, سلسة السمات, بادية التدين, قريبة التحاب, تبادلية المشاعر, فهي بالعموم ما ورد في الحديث " المؤمن هين لين هش بش كالأرض الذلول " فهو لا يحتاج إلى تكلف عند معاملته, ولا يشعر من يقترب منه بالشك أو الريبة أو الرغبة في التحفظ منه, يقترب منه الناس عند همومهم وغمومهم فيجليها عنهم ويبث إليه الناس مشكلاتهم ومعضلاتهم فيخففها عنهم, ليس بالفظ الغليظ ولا بالممازح التافه, بطيء الغضب, سريع الفيئة عن الغضب, جدير بثقة الناس فيه, أهل للصداقة والأخوة، والمربي إذا انتكست عناصر شخصيته ساء خلقه وفسدت طباعه ولم يعد قادراً على ممارسة دوره التربوي, فالغضوب مثلاً كثير فقد المحبين, والشكاك يفقد ثقة الناس به وفيه ويمنعهم من القرب منه, والموسوس يخشاه الناس ويتحفظون معه, والمتعالي المتكبر لا أنصار له ولا شيعة, والرعديد الجبان يستهين به الناس ويحتقرونه, وسريع التقلب مع أصدقائه وأقربائه لا صديق له دائم ولا حبيب له مقرب... وهكذا ثالثاً: العلم التطبيقي: روى مالك في الموطأ من حديث معاذ بن جبل: إنما العلم الخشية. فالعلم لا يصير علما إلا عند تطبيقه والعمل به, والذين يحفظون العلوم حفظا ثم لا يطبقونها هم أشبه ما ينطبق عليهم قوله سبحانه عن بني إسرائيل " مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفاراً بئس مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله.." كما أن هناك فرقا بين تحصيل العلم للاستظهار والامتحان، وبين تحصيله لتبليغه وتربية الناس عليه: فطالب العلم للامتحان يهتم أساساً بحفظ الألفاظ وضبط الاختلافات، ويغيب عنه الكثير من المعاني والدلالات بينما طالبه لتبليغه وتعليمه تكون بغيته الأولى فضل العلوم ورغبته الترسخ في فهم دلالاتها الخفية, وليس أقوى في ذلك من اتباع طريقة السلف في حفظ العلم عن طريق العمل به, كذلك فيجب أن يستمر المربي في العملية التعليمية بلا انقطاع أو توقف, فإذا توقف كان إلى الجهل أقرب. قال سعيد بن جبير: "لا يزال الرجل عالماً ما تعلَّم، فإذا ترك العلم وظن أنه قد استغنى واكتفى بما عنده فهو أجهل ما يكون" ويجب على المربي أن يتقن العلوم المحتاج إليها إتقانا مناسبا (كعلم العقيدة, والفقه, والحديث) حتى إذا قام بدوره في التعليم لم يخطئ ولم يتعلم منه الناس خطأ. رابعاً: البيئة المناسبة للتربية: وأعنى بها تلك البيئة المتاحة أو المصنوعة والتي يمكنها أن تؤثر تأثيرا إيجابيا في تنمية شخصية المربي وتطوير صفاته. وتلك البيئة كما سبق إما أن تكون متاحة (كبيئة المسجد و المدرسة) أو مصنوعة (كبيئة الرحلات والمعسكرات والمخيمات وبيئات الكشافة والبيئات التي تفرضها الظروف الخاصة, وغيره) ولاشك أن للبيئة المنزلية أكبر الأثر على شخصية المربي سلبا وإيجابا, فالبيت الذي يسيطر عليه الجهل والخلق السيئ, وينتشر فيه الغضب والعصبية والتدافع بين أفراد الأسرة الواحدة والتسارع لكسب المال وغيره له أكبر الأثر السيئ على تكوين تلك الشخصية – حتى لو كانت شخصية سوية في أصلها – وعلى الضد فالبيت الذي يغلب عليه العلم والتدين ويتصف أهله بحسن الخلق وحسن العلاقة بين أفراده ليعتبر بيئة تربوية مناسبة للتطوير. وعلى أية حال فينبغي توفير ما يمكننا أن نسميه محاضن تربوية للشخصيات المأمول تخريجها كمربين والمرجو تطوير وتأهيل صفاتهم للقيام بذاك الدور الهام. خامسا: المهارات الخاصة: فإن(115/1036)
الأعمال الهامة والمؤثرة التي تنتظر عمل المربي وتأثيره لا يمكن أن تؤتي ثمارها بدون صفات مهارية تتميز بها شخصية ذاك المربي المنوط به العملية التربوية التعليمية ومن هنا كان لزاما على القائم بهذا الدور من أن تتوافر فيه تلك المهارات، ومن أهمها: 1- مهارة فهم الشخصيات وتصنيفها ومعرفة مفاتيحها: وهي مهارة هامة وصعبة في نفس الوقت حيث تتطلب تفهما للتنوع الشخصي والفروق الفردية بين الناس وطبيعة التغيرات المرحلية وصفات وميزات كل مرحلة عمرية, كما تتطلب تفهما لنتاج المزج بين طبيعة المجتمع الذي تتفاعل معه تلك الشخصية وصفاتها الداخلية وما ينتج عن ذلك من تكوينات نفسية قد تؤثر على اختيارات وقرارات كل شخص على حده, ومن هنا تختلف أساليب التعامل مع الشخصيات وتختلف مفاتيح الشخصيات التي على أساسها يتم التوجيه والنصح وتتم عمليات التفريغ الوجداني وغيره..وقد كان النبي _صلى الله عليه وسلم_ ينصح رجلاً يسأله عن النصح بشي يناسب مفاتيح شخصيته في حين ينصح آخر سأله نفس السؤال بنصح مختلف تماما لأن شخصيته مختلفة ومفاتح توجيهه مختلفة ففي الصحيح أن رجلا سأل النبي _صلى الله عليه وسلم_ نصحاً، فقال له:" لا تغضب " ثم
سأله آخر فقال له: " قل آمنت بالله ثم استقم ". ثم سأله آخر، فقال له: "أمسك عليك لسانك وليسعك بيتك ".. وهكذا 2- مهارة الحب: وأقصد به مهارة كيف تجعل المتربي يحبك أيها المربي.. كيف تجعله يتعلق بك (لا أعنى بصورة شخصية بحتة) ولكنني أعنى كيف تدخل إلى قلبه لتدخل كلماتك وتوجيهاتك إلى قلبه فور سماعه إياها.. فالحب هو مقدمة القبول للنصح والتوجيه، والنبي _صلى الله عليه وسلم_ لما أراد أن ينصح معاذ بن جبل وكان رديفه على حمار قال له – كما في الصحيحين:" يا معاذ والله إني لأحبك فلا تدعن في دبر كل صلاة أن تقول: اللهم أعنى على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك "..إن الحب وبلا شك يمثل الخطوة الأولى والهامة في توطيد العلاقة الناجحة بين المربي والمتربي.. والذين يتصفون بالشخصيات الجامدة الغير محبوبة لا يمكن أن يقوموا بعمل المربي.. فالنفعيون والشخصانيون والمنطوون على أنفسهم والذين لا يفرقون بين معاملة الناس حسب اختلاف نوعياتهم.. أولئك يتحتم عليهم الفشل الذريع ولاشك في العملية التربوية.. 3- مهارة التوجيه والنصح وبث الدافعية للإنجاز: وهي مهارة أخرى ولاشك, قد يستهين بها البعض إلا أن العملية التربوية لا تتم بدونها, فكثير هم الذين يتصفون بالعلم ويجمعونه من أطرافه ولكن قليل هم الذين يستطيعون بثه للناس, وأمتنا لا تشتكي من قلة الخطباء ولا الناصحين ولا الموجهين.. فهم كثر.. إنما تشتكي الأمة ممن يسمع لهم وتفتح لهم القلوب ويعلمون كيف ينصحون الناس ويوجهونهم ويدفعونهم نحو إيجابية السلوك.. ولنا نموذج عملي فائق النجاح من فعله _صلى الله عليه وسلم_ يوم أن جاءه شاب يسأله أن يرخص له في الزنا..فما زال النبي _صلى الله عليه وسلم_ به حتى قال: " لقد جئتك يا رسول الله وما من شيء أحب إلى قلبي من الزنا وأنا الآن لا أبغض شيئا بغضي له " فانظر إلى المعلم العظيم والمربي المكرم _صلى الله عليه وسلم_ كيف هدى الله به الأمم.
ـــــــــــــــــــ(115/1037)
مشكلة السعادة
فرحان العطار
9/8/1426هـ
ارسل تعليقك ...
لا توجد تعليقات ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
لا يوجد مصطلح يؤثر في نفس الإنسان، ويحدث في نفسه هزة كمصطلح السعادة، ولذلك أستغل هذا المصطلح أسوأ الاستغلال، وتعرض لعلميات تعليب وتغير، وزيادة وبتر، وأصبحت ترى أفواجاً من الناس يموجون يمنة وسره كأنهم دمي، وذلك لما يعرض عليهم من سلع وخدمات، وأعمال واجتماعات، بدعوى أنها تجلب لهم السعادة ولكن هؤلاء العابثون اللاهون من الصنفين قد واجهوا حقيقة مرة، واصطدموا بمشكلة كبيرة، أينما توجهوا وجدوها إنها مشكلة "عدم تحقق السعادة ".
لقد تفننوا في التنقيب عن طرق تجلبها، وسخروا عقولهم وطاقاتهم في سبيل تحقيقها، وأنفقوا أموالهم وأوقاتهم من أجل تحصيلها، حتى بدؤوا يشعرون بالذعر والخوف والقلق، ولكن ليس بسبب "عدم تحقق السعادة " التي يطلبون فقط ، ولكن لشعورهم باستنفاذ الوسع، وبلوغ الغاية، والنتيجة في كل مرة " لاشيء "، وعلى أحسن الأحوال " سعادة مؤقتة " ثم يعود الأمر إلى ما كان عليه أو ربما أسوأ، صاحب هذا عدم وجود بوارق أمل يدفعون ما يشعرون به من موجات القلق والاضطراب.
لا يوجد مصطلح يؤثر في نفس الإنسان، ويحدث في نفسه هزة كمصطلح السعادة، ولذلك أستغل هذا المصطلح أسوأ الاستغلال
ووجدوا في تحصيل السعادة واستمرارها عقبات ومشاكل منها:
1ـ أن السعادة شيء معنوي، وهم يتعاملون مع المحسوس، يعني ذلك أنهم لا يستطيعون أن يضعوا مصطلح السعادة تحت سندان الترهيب، ولا أن يذيقوه حلاوة الترغيب، فلا يستطيعوا أن يجيشوا الجيوش الجرارة فيحطموه ولا أن يغدقوا عليه الأموال فيستميلوه.
2ـ وجدوا في السعادة مشكلة أنها تتعامل مع الحقائق مباشرة ولا تقبل الوساطة، فلا يُحسّن عندها القبيح، و لا يُقبّح عندها الحسن، ولا ينطوي عليها تشويه الحقائق و لوسموها بغير لسمها، هذا يعني أن الإمكانيات الإعلامية الضخمة من المقروء والمسموع والمشاهد، لا تغني ولا تسمن من جوع مع المصطلح الذي يتهافتون عليه.
3ـ وجدوا في السعادة مشكلة أنها لا تقبل التناقض، وتنفر منه وتأباه و ترفضه، وأشد أنواع التناقض هو تناقض الروح والجسد، فالجسد يلقي أشد العناية والاهتمام، بينما تطرح الروح على مائدة الحرمان، بل وتقبع في عالم النسيان، و السعادة تشترط التوافق بين الروح و الجسد كشرط وجود، مما يعني حتمية التنازل عن كثير من المبادئ و القيم الغربية، فكيف وهم يعدونها شرطاً لقيادة العالم والإمساك بزمامه، فهم بين شرطين أحلاهما مُر، إما القيادة و إما السعادة.(115/1038)
4ـ وجدوا في السعادة مشكلة أنها لا تقبل التشكل والتلوين، فأحضروا علماء الزينة والمكياج، لإجراء عملية تجميل لها، ليشهدوا وجهها، ويطيلوا شعرها، ويضيقوا خصرها، ويوسعوا عينها، ولكن الفريسة في هذه المرة نفرت، ورفضت وتمنعت، وقالت: لا، في وقت قال الكثير: نعم، وهزت رأسها سلباً، في وقت هز الكثير رؤوسهم إيجاباً.
5ـ المشكلة في السعادة أنها تحكمها المبادئ والثوابت، ولكن القوم حذفوا هذا المصطلح من قاموسهم فليس عندهم ثوابت ومبادئ تحكم حياتهم ويرجعون إليها عند الحاجة، بل هم تائهون في كل يوم لهم وجهة، وهذا من أسرار عدم مصاحبة السعادة لهم، واستمرارها معهم، أنهم يفارقونها عند مفترق الطرق، فبيناهم يأخذون طريق المنعطفات والعقبات، وربما يعودون إلى من حيث ما بدؤوا، تسير السعادة في طريقها الواضح على ضوء المبادئ والثوابت لم يثنها تثبيط المثبطين، و لا انقطاع المنقطعين، ولازالت القافلة تسير تحمل معها الكثير من الأعباء والمخالفات، ثم يزعمون مع هذا أنهم يجلبون السعادة للبشرية، ويحهم! عن أي سعادة يتحدثون؟ وأرقام الجريمة والانتحار والقتل والإدمان والقلق والاضطرابات العصبية أصبحت من أسباب انزعاجهم، فضلاً عن خواء الروح و تولي الشيطان و الخوف من المستقبل...إلخ، ثم يزعمون بعد ذلك تصدير السعادة، و جندوا فئة من التعساء يضعون قواعد السعادة ويحدون حدودها، وهم أبعد الناس عن ذلك، حتى ضاقت السعادة ذرعاً بذلك، وكادت تعلن الرحيل لولا يقينها بأن هناك بقايا ممن يعيشون على المنهج الحق ويحملون همّيه، هم الاحتفاظ به وهم تبليغه للناس، فتطلق صيحة مدوية في وجوه الأعداء " لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خذلهم حتى تقوم الساعة " ثم تدلهم على طريقها المستقيم الواسع الواضح "من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون".
ولذلك عبر عنها من ذاقها بكلمات صادقة، لا أدري أتكلم بها لسانه أم نضح بها فؤاده، حين قال: أبو العباس ابن تيمية – رحمه الله –: " من أراد السعادة الأبدية، فليلزم عتبة العبودية "
فيا من يُريد السعادة الحقيقية: الزم الباب، و اطّرح على عتبة العبودية، و رابط حتى يُفتح لك، فإن السعادة ثمّ.
ـــــــــــــــــــ
الرجولة .. والفتوة ..الصفات الغائبة
خالد السيد روشه
30/7/1426
ارسل تعليقك ...
تعليقات سابقة ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...(115/1039)
مع اغتراب كل جميل وفاضل.. تغترب الصفات السامية والمعاني الراقية والنماذج السامقة الرفيعة.. ولا يكاد يبقى بين الناس من نماذج الأخلاق الكريمة سوى التسمية والأوصاف..
ويظل الباحث عن المعالي حائراً بين دياجير الأخلاق الخبيثة التي قد امتلأ بها المجتمع سعياً وراء لهاث زائل ما يلبث أن ينقضي، ويظل يرنو إلى تحقيق تلك الصفات الشفافة بأوصافها الحقيقية لا الموهومة، وفي كل مرة يرهقه السير إلى استراحات إيمانية رقراقة يرى فيها المثال ويتعلم فيها أجل المعاني..
وصفة الرجولة قد ألبسوها في عصرنا ذاك الحديث ثوب زور لا يناسبها ولا يليق بها، ووصفوها بأوصاف تترفع عنها وتأنف أن تتواصل بها إلى الناس..إذ جعلوها تارة صفة للفحولة والذكورة، وتارة صفة للقدرة على الغلبة، وتارة صفة للقدرة على ظلم الغير بغير حق، وتارة صفة على طول الشوارب وفتولة العضلات!!
ونحن هنا نحاول أن نميط اللثام عن الوجه الحقيقي الغائب للرجولة في الإسلام بمعانيها الرائعة الكريمة.. نبينها.. ونجليها.. علنا أن ننتمي إليها فنحيي بها الدنيا ونرفع بها الدين..
مع اغتراب كل جميل وفاضل .. تغترب الصفات السامية والمعاني الراقية والنماذج السامقة الرفيعة .. ولا يكاد يبقى بين الناس من نماذج الأخلاق الكريمة سوى التسمية والأوصاف ..
أولاً: نظرة العلماء للرجولة والفتوة
قال الفضيل بن عياض: " هي الصفح عن عثرات الإخوان "..
فنظرة الفضيل إليها هي نظرة من وجه آخر قد لا يتطرق إلينا ساعة أن نتحدث عن الرجولة والفتوة في الإسلام، فهو يراها القدرة على الصفح ونسيان الألم الذي يلاقيه الإنسان من إخوانه في بعض الظروف، وكذا الصفح عن زلاتهم معه ومع غيره، فما من أحد إلا وله كبوة، والقوة النفسية أن يستطيع المرء تجاوز عثرات الناس والصفح عنهم، ودليلها في كتاب الله، يقول _سبحانه_: " ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور ".
وقال الإمام أحمد: " ترك ما تهوى لما تخشى "..
وأما الإمام أحمد إمام أهل السنة فينظر إلى تلك الصفة من منظور مختلف فهو يراها القدرة على السيطرة على النفس وهواها ورغباتها وكبح جماحها خوفاً من الوقوع في غضب الرب الجبار _سبحانه_ وإشفاقاً من عذاب الله _تعالى_، وفيها دليل من حديث رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ قوله: " ليس الشديد بالصرعة إنما الشديد من يملك نفسه عند الغضب "
وقال سهل بن عبد الله: " هي اتباع السنة ".. وأما التابعي الجليل سهل فهو يراها القدرة على الثبات في متابعة السنة حتى الموت فمن قدر على متابعة السنة ظاهرا وباطنا فهو الرجل المسلم الحق وهو صاحب الفتوة الإسلامية الحقة.
وقال شيخ الإسلام: " فضيلة تأتيها ولا ترى نفسك فيها "..
ويعالج شيخ الإسلام آفة قد تطرأ على الرجولة والفتوة بأن يرد المرء الخير لنفسه ويرى القدرة منبعها ذاته ويرد الفضل لقدرته على الفعل والمنع، فنرى شيخ الإسلام(115/1040)
في نظرته للرجولة يؤكد على أنها فضيلة يتصف بها المرء ويراها محض فضل من المعطي _سبحانه_ الغنى الجواد الكريم " وما بكم من نعمة فمن الله ".
وقال الحافظ: " ألا تحتجب ممن قصدك "..
والحافظ يضيف معنى آخر لتلك المعاني، فهي عنده بذل الوسع في العطاء البدني والمالي مهما كان حالك، فلا تحتجب ممن قصدك في خير، ولا تتحجج بحجة واهية، بل أن تكون دائماً معطاءً ودوداً مشاركاً لإخوانك معيناً لهم على نوائب الضرمهما كان حالك.
وقال ابن القيم: " ألا تهرب إذا أقبل طالب المعروف "..
وابن القيم هنا يعالج المرض ذاته الذي تكلم عنه الحافظ ولكن يوضح الأمر بصورة أخص، فهو يراها الإقبال على أهل المعروف للمشاركة في صنيعهم الحسن وعدم الهروب إذا أقبلوا، والأمر هنا يداخله العمل الدعوى وما يختص بتعليم الناس الخير وإرشادهم للإيمان، وقد علم الله _سبحانه_ ذلك في كتابه بقوله: " ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ".
وقال في موضع آخر: " إظهار النعمة وإخفاء المحنة "...
أما في هذا الموضع فالإمام ابن القيم يرى وجهاً آخر للرجولة الإسلامية والفتوة الإيمانية الحقة، فهي إظهار النعمة والتحديث بها وبيان الاستغناء عن الخلق بالخالق وإخفاء الآلام والمحن وبث الشكوى لله وحده فهي مظهر رفيع من مظاهر الرجولة والفتوة.
ابن حزم يصف الرجولة فى دين الله:
كتب الإمام ابن حزم الأندلسي في كتابه (مداواة النفوس) وصفاً عجيباً للرجولة والمروءة في دين الله نحاول أن نتدبره: قال " لا يبذل نفسه إلا فيما هو أعلى منها وليس ذلك إلا في ذات الله في دعاء لحق أو حماية عرض أو في دفع هوان لم يوجبه عليك خالقك أو في نصر مظلوم، وباذل نفسه في عرض الدنيا كبائع الياقوت بالحصى، فلا مروءة لمن لا دين له، والرجل العاقل لا يرى لنفسه ثمناً إلا الجنة، وهو لا يغتبط بصفة يفوقه فيها سبع أو بهيمة أو جماد وإنما يغتبط بتقدمه في الفضيلة التي أبانه الله _تعالى_ بها عن هؤلاء، وهي التمييز الذي يشارك فيه الملائكة ".
ثانياً: مظاهر الرجولة وسماتها:
وباستقصاء كلام العلماء الأشراف وما اتفقت عليه مروءات الرجال عبر العصور وأجمعت عليه عقول ذوي النهى والبصيرة نستطيع أن نجمل لك جملة من سمات الرجولة والفتوة في دين الله، فمن اتصف بها فهو الرجل الفتي، ومن جانبها فهو العاري عن تلك الأوصاف:
1- ترك الخصومة والتغافل عن الذلة ونسيان الأذى: فلا يخاصم بلسانه ولا ينوى الخصومة بقلبه ولا يخطرها على باله، وهو في ذلك عامل بوصف النبي _صلى الله عليه وسلم_ للرجل من أهل الجنة " أنه يبيت وليس في قلبه غل لأحد "، بل إن النبي _صلى الله عليه وسلم_ كان كثيراً ما يدعو في وتره بقوله: " وبك خاصمت وإليك حاكمت ". وأما تغافله عن ذلة غيره أمامه فمعناه أن يتصنع أنه لم يره على ذلته لئلا يعرضه لكسر نفسه وشعوره بالوحشة فيتفرد به الشيطان وحده.(115/1041)
2- أن تقرب من يقصيك وتكرم من يؤذيك.. وهي سمة للرجولة رآها العلماء في سيرة النبي _صلى الله عليه وسلم_ فكم من مؤذ للنبي _صلى الله عليه وسلم_ أعطاه النبي ثم أعطاه ليرضى وكم من مقص له قربه ليدعوه إلى الخير والإيمان والهدى..قال ابن القيم: " وما رأيت ممن عايشتهم قط أجمع لهذه الخصال من شيخ الإسلام ابن تيمية فقد كان بعض أصحابه الأكابر يقول: وددت أنى لأصحابي مثله لأعدائه وخصومه وما رأيته يدعو على أحد منهم قط، بل كان يدعو لهم ".
3- أن ينظر إلى عيوب نفسه ولا يرى عيوب غيره المؤمنين، فلا يشتغل بنقض الناس ولا عيوبهم ولا يتحسس أحوالهم أو يتجسس عليهم راجياً نبش العيوب، بل يسترها ويبحث في علاج حال نفسه.
4- أن يتعامل مع الناس بالحياء والأدب: وللأسف فكثير من الناس يرون الحياء نقصا وشينة في ذات الوقت الذي يرون فيه الوقاحة رجولة ومهابة!! فتغيرت القيم وصار القبيح حسناً والحسن قبيحاً!
5- بذل النفس والمال والجهد في معونة المؤمنين ومساعدتهم وقضاء حوائجهم في كل وقت بغير مسألة منهم.
ثالثاً: التربية على الرجولة:
هناك عدة مداخل هامة لتربية الأجيال على الرجولة والفتوة لزم أن نسوق طرفاً منها إذ التهاون في تطبيقها له سيئ الأثر في تشكيل الحالة التربوية لأخلاق أجيالنا الإسلامية:
1- تكوين النموذج المثالي في القدوة: فهي صور تنطبع في ذهن الشاب المؤمن متراكمة عن النموذج الذي يجب أن يقتدي به تتكون منذ صغره من قصص وروايات الآباء والأمهات عن الفارس القوي الذي يستطيع هزيمة الجيوش وفتح البلاد ودحر الأشرار وهكذا. وصفات ذلك الفارس المسلم تلك الصفات النبيلة الرائعة المتمثلة بأخلاق الشرع الحنيف، كما تنطبع في ذهنه عبر تكوين نموذج الصداقة النبيلة التي تتكون على عين الوالدين في كل مراحلها، كما تتكون عبر ما يبثه المربون عن شخصية القدوة الفتي وسمات رجالات الإسلام وعقد المقارنات بينهم وبين غيرهم من الدنيويين الراضين بالمتاع وغير ذلك.
2- نشر ثقافة الفتوة والرجولة: وأعنى بها تلك المعلومات والفعاليات المستمرة المتتالية التي تعنى بنشر المعلوماتية حول المروءة والرجولة كثقافة مضادة لثقافة التميع والانحلال الخلقي وثقافة النفعية الخاصة وما اشتهر منها في الغرب.
3- تعميق الدور المؤسسي في التربية على مفاهيم الرجولة والفتوة: وأهم تلك المؤسسات هي المؤسسات التعليمية والإعلامية، حيث يمكن توظيف طاقات عملاقة للتأثير في تغيير النمط الخلقي للشباب نحو المفهوم الصائب للرجولة والاتصاف بها.
4- الدور الفعال للمسجد وللخطباء والعلماء والدعاة عبر المساجد، حيث يرتادها أعداد لازالت كبيرة بين المجتمعات المسلمة فلزم قيام هؤلاء الموجهين بأدوار مختلفة يقوم بتنسيقها القائمون على العملية التربوية.
ـــــــــــــــــــ
لم لا نفكر..؟!(115/1042)
محمد المصري
23/7/1426
ارسل تعليقك ...
لا توجد تعليقات ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين محمد _صلى الله علية وسلم_، وبعد:
فهذا مبحث أرجو أن يكون مبادرة موفقة لدعم مزيد من التفكير بمنهجية، بعيداً عن الرتابة والتقليد، فما كان من خير فهو من الله وحده وما كان من شر فهو من نفسي والشيطان.
إن الفئة المسلمة بحاجة ماسة إلى العقول الناضجة المستنيرة القادرة على التفكير والإبداع؛ و على المربى أن يستشعر أهمية ذلك فيحيي هذه الملكة في نفوس أتباعه، فلأن يقود أسوداً متوثبة يقظة، خير له وأنفع من أن يقود قطيعاً من الخرفان التي لا تعي ولا تدرك، ولن يقوى المربى على ذلك إلا إذا كان أسداً، فهل من أسود!!
ويكاد المرء الناظر للواقع الإسلامي يقطع بأن من الأسباب الرئيسة للتخلف الفكري والمنهجي الذي تمره به الفئة المسلمة هو أننا جعلنا التفكير ورسم الخطط مهمة آحاد من الناس، أما البقية فهم متفرجون، لا يتجاوز دورهم تكثير السواد.
ولعل من أبرز مقومات نجاح العمل الإسلامي أن تستحث تلك الطاقات الكامنة الخاملة، إلى النظر والتأمل، وفق الأسس والموازين الشرعية، فلأن تفكر الأمة بمئة عقل خير لها وأنفع من أن تفكر بعقل واحد...!
إن الفئة المسلمة بحاجة ماسة إلى العقول الناضجة المستنيرة القادرة على التفكير والإبداع؛ و على المربى أن يستشعر أهمية ذلك فيحي هذه الملكة في نفوس أتباعه
القرآن يدعو إلى التأمل والتفكير:
إن الخطاب القرآني ليس خطاباًَ وعظياً مجرداً وإنما هو في أصله خطاب برهاني يعتمد على البيان التفصيلي الدقيق للحجج والبراهين "قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ"(البقرة: من الآية111).
وتتوالى النصوص الشرعية للتأكيد على ضرورة التعقل والتدبر والنظر في ملكوت السماوات والأرض، وتستحث العقل البشري على ضرورة البحث والمراجعة والتأمل وتنعي على المقلدة منهجهم وتذمهم على جمودهم وعجزهم وقصورهم، ويأتي اليوم الذي يتحسر فيه القوم ويندمون على مناهجهم وطريقتهم "وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ" (الملك:10).
الرسول _صلى الله عليه وسلم_ يربي تربية القادة لا تربية العبيد :
حرص الرسول _صلى الله عليه وسلم_ على تربية أصحابه تربية القادة لا تربية العبيد، فالرسول _صلى الله عليه وسلم_ يستشير أصحابه ويدع رأيه لرأيهم، ففي بدر(115/1043)
يتكلم (الحباب بن المنذر) بشأن المكان الذين ينزلون فيه، فينهض الرسول _صلى الله عليه وسلم_ ويتحول إلى المكان الذي يسير به الحباب _رضي الله عنه_.
وفي غزوة أحد إستشار النبي _صلى الله عليه وسلم أصحابه في الخروج لملاقاة العدو أو البقاء في المدينة ، وكان رأي كثير من الصحابة ممن لم يكن لهم شرف حضور بدر الخروج لملاقاة العدو خارج المدينة، ولم يزل أصحاب هذا الرأي برسول الله _صلى الله عليه وسلم_ حتى وافقهم عليه ثم ندموا، وقالوا : "استكرهناك يا رسول الله ولم يكن لنا ذلك، فإن شئت فاقعد، فقال _صلى الله عليه وسلم_ : "ما ينبغي لنبي إذا لبس لامته (درعه) أن يضعها حتى يقاتل".
وفي غزوة الخندق قبل رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ مشورة سلمان الفارسي بحفر الخندق وكان _صلى الله عليه وسلم_ يعمل إلى جانب العاملين ...
في كل هذه الأمثلة نرى تربية الرسول _صلى الله عليه وسلم_ لأصحابه واعترافه برأيهم ورضاه بصراحتهم وجراءتهم في الحق، وهذه التربية تنتج قادة يحملون التبعات، لا أتباعاً يسيرون وراء كل ناعق، ومن أمثلة هذه المواقف موقف الصحابي أبي حذيفه حين قال رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ "من لقي منكم العباس بن عبدالمطلب عم النبي _صلى الله عليه وسلم_ فلا يقتله فإنما أخرج مستكرهاً . فقال أبو حذيفه بن عتبة بن ربيعة: أنقتل آباءنا وأبناءنا وعشائرنا ونترك العباس ؟ والله لأن لاقيته لألجمنه بالسيف" إنه لموقف يتجلى فيه الصدق والصراحة والجراءة. ما كان الأصحاب ليقفوا مثل هذه المواقف لولا ما عهدوا من رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ من حسن استقباله للقول الذي يندفع به صاحبه ما يدفعه إلا الصدق والإخلاص في القول.
هكذا كانت تربية الرسول _صلى الله عليه وسلم_ تربية لروح النقد والصراحة بالحق والجهر به تربية تهدف إلى إنشاء قادة يستطيعون أن يضطلعوا بأعباء القيادة حين تغيب القيادة وفي هذه التربية يشعر كل فرد بأنه مسئول عن الدعوة الإسلامية حتى ولو كان وحده، وكل فرد مسئول في وظيفته الخاصة في الجماعة كما هو مسئول عن سير الجماعة كلها، ولأدنى فرد في هذه الجماعة أن يقف أمام خليفة المسلمين ليدلي برأيه وليعارض أي رأي يجد فيه خطأ.
عمر _رضي الله عنه_ يطبق الميزان:
تأمل حال عمر بن الخطاب _رضي الله عنه_ حينما يقول على المنبر: (إذا أصبت فأعينوني، وإذا أخطأت فقوموني، فقال له رجل من بين الناس: إذا أخطأت قومناك بسيوفنا!".
عمر بن الخطاب _رضي الله عنه_ لا يرضى بتعبيد الناس للناس ومصادرة عقولهم ، وتغييبهم عن الساحة ، بل يطالبهم بالمشاركة والناس لا يرضون بالتبعية والعجز .. وهكذا تبنى الأمم .
أسباب مرض الرتابة وعدم التفكير والاتكال على الغير في التفكير:
1. تأثير العادات والأعراف:
إن من أخطر العوامل المؤثرة سلباً على طريقة التفكير والتحليل بناء المعارف العلمية على العادات والأعراف التي ينشأ عليها الإنسان فهو يعتقد صحة المسألة(115/1044)
لكثرة تكرارها وتداولها في بيئته التي نشأ فيها، فهي معارف مبينة على التقليد والمحاكاة وليس على التفكير والتدبر، وكثيراً ما نعتقد صحة فكرة ما من الأفكار حتى تصبح مسلمة عندنا حتى إذا خرجنا إلى بيئة أخرى اكتشفنا بطلانها وخطأها، وقديماً كان يقال: (لا يعرف الإنسان خطأ شيخه حتى يجلس عند شيوخ آخرين)، إن الشعور بالسلامة المطلقة للبيئة التي يعيش فيها الإنسان واعتقاده بكمالها وخلوها من الأمراض يقوده إلى التبعية وحبس العقل عن التدبر والتأمل، وسوف يؤدي هذا إلى الضمور والتآكل، وأما الإحساس بضرورة النمو والتحسين وليس بالضرورة الخطأ، فإنه يقوده إلى الإبداع والتجديد وتطوير الطاقات، فالتفكير المبدع هو الذي يحول الركود والرتابة والتلقائية إلى حركة حية منتجة تتطلع دائماً إلى المزيد، وكما قال الفضل : "التفكر مرآة تريك حسناتك وسيئاتك"(دار السعادة)، وقال ابن القيم: "التفكر والتذكر بذار العلم، وسقية مطارحته، ومذاكرته تلقيحه"((دار السعادة)، فالتفكير الصحيح وسيلة من وسائل الانفتاق من آثار العادة والاتكال على تفكير الآخرين، ولهذا تضمنت دعوات الأنبياء جميعاًَ – عليهم الصلاة والسلام – دعوة للتفكر والنظر، والتخلص من إرث الآباء والأجداد . قال الله _تعالى_: "إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ"(سبأ: من الآية46).
الخروج من إطار القوقعة الفكرية وعدم الاقتصار على فرد بعينه، بل يجب الانفتاح على الأفكار الناضجة التي تثير ملكة العقل للتفكير والابتكار
2. التربية الحزبية:
لقد نجحت التربية الحزبية في صناعة الببغاوات والقطعان الهائمة التي لا تجيد إلا فن التصفيق والإشادة واجترار الشعارات ولكنها فشلت فشلاً ذريعاً في بناء العقول الحية المبصرة القادرة على بناء المواقف وصناعة الأحداث، فالتربية الحزبية أفضل طريقة لوأد العقل وإماتة البصائر هذه التربية التي تبنى على ضرورة التسليم والانقياد دون النظر والتفكير (ومن قلد عالماً لقي الله سالماً)، هكذا هم يقولون، أخزى الله التبعية الصماء كم قتلت من الطاقات ؟!
لذلك فإن العمل الإسلامي ينبغي أن يكون على هيئة (إطار عمل) وليس (إطار انتماء).
3. الهزيمة النفسية:
أصيب كثيراً من المسلمين بمرض فتاك، وهو الهزيمة النفسية، ولهذا المرض شق يختص بموضوعنا وشق آخر يتعلق بالانقياد بالأعداد والتشبه بهم، أما فيما يتعلق بموضوعنا فنجد أن كثيراً من الطيبين على الساحة الإسلامية يقولون بذلنا ما في وسعنا لإمامة دولة الإسلام ولم تقم منذ كم ونحن ندعو ونربي ؟! ... إلخ. وتدعو هذه النفسية المنهزمة إلى الانغلاق على النفس والتفكير ببلاده بدلاً من أن يفكر في إيجاد حلول عملية إيجابية لترشيد الأخطاء وتصحيحها حتى يتم التمكين لهذا الدين في أسرع وقت وبأقل طاقة ممكنة ومن مشاهد الهزيمة النفسية مشهد التقليد وعدم الابتكار فنجد كثير من المسلمين لا يفكر في قضية الابتكار والاختراع في النواحي العلمية ولا يفكر في يوم من الأيام أين يكون مخترعاً أو مفكراً أو مبتكراً فتجد أنه في(115/1045)
كثير من الدول لا يستطيع حتى صناعة الأمور البسيطة من حاجياتها ولله الأمر من قبل ومن بعد ...
وعلى إثر تحديد الداء يكون تحديد الدواء أيسر بإذن الله _سبحانه وتعالى_ .
بعض الحلول:
1- الخروج من إطار القوقعة الفكرية وعدم الاقتصار على فرد بعينه بل يجب الانفتاح على الأفكار الناضجة التي تثير ملكة العقل للتفكير والابتكار .
2- التربية على علو الهمة كما كان النبي _صلى الله عليه وسلم_ يربي أصحابه، وقد ذم النبي _صلى الله عليه وسلم_ التواني والكسل ويعلمنا الدعاء "اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، وأعوذ بك من العجز والكسل، وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال" رواه البخاري. فالمسلم يجب أن تكون عنده نفسية قوية فإذا أخطأ أو حدثت له مشكلة، فيقول: " قدر الله وما شاء فعل" ويبدأ من جديد ويعمل للمستقبل، فهذا علي بن أبي طالب _رضي الله عنه_ يربي أحد أبنائه إلى التطلع للأحسن ،فقد ورد عن علي بن أبي طالب: (أنه سأل ابنه: تريد أن تكون مثل من ؟ فقال له أحد أبنائه: أريد أن أكون مثلك، فقال له: لا بل قل إنك تريد أن تكون مثل رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ لأنك إذا كان هدفك أن تكون مثل علي فلعلك لا تصل إلى علي ؟ ولو كان هدفك الرسول _صلى الله عليه وسلم_ وهو قدوتك ، قد تكون أفضل من علي بن أبي طالب). ( يقول المحقق: إنه لم يجد له أصلاً، والله أعلم) .
3- الابتعاد عن التشاؤم والمتشائمين؛ لأنهم من الذين يثبطون الهمم، فهذا ابن عباس _رضي الله عنه_ حبر الأمة يلتمس أخاً له ليسلكا طريق العلم فيثبطه بمقولة: ( فما جدوى ذلك والأمة الإسلامية مليئة بالعلماء أمثال ابن مسعود وغيره)، فيتركه ابن عباس _رضي الله عنه_ حتى يكون له الباع في العلم ويفتتح جامعته الذي كان فيها مديرها وأستاذها فهكذا تصنع الهمم العالية بأصحابها.
والله المستعان وعليه التكلان...
___________________
المصادر:
- مجلة البيان العدد ( 82 ) مقال للشيخ أحمد بن عبد الرحمن الصويان بعنوان ( لم لا نفكر؟! ) .
- الهزيمة النفسية عند المسلمين - د . عبد الله الخاطر.
- سبيل الدعوة الإسلامية – د . محمد أمين المصري.
- رجع إلى مبحث (( أزمة العقل المبدع )) للباحث.
ـــــــــــــــــــ
عبث الصغار ...!
أحمد بن عبد المحسن العساف
16/7/1426
ارسل تعليقك ...
تعليقات سابقة ...
ارسل الصفحة ...(115/1046)
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
الأطفال زينةُ الحياة الدنيا وبهجتها؛ بهم تزدان البيوت وبضجيجهم العذب تأنس النفوس، وكم يقاسي المحروم منهم من لوعة وأسىً وغصصٍ لا يهونها إلا رجاء الأجر والمثوبة من عند الله الوهاب.
ولأن الأطفال - صغار البيوت - لا يعرفون نظام المنزل ولا يلتزمون رسومه؛ فهم سبب أكيد في بعض المشكلات ما بين إشعال حريق أو إثارة جمر كامن أو كسر زجاج أو بعثرة أثاث أوإفساد ذات بين مما يجعل الأبوان – كبار البيوت – في مقام التربية وتقويم الأود وإصلاح النفوس بما يحميها من مهامه الفساد والغواية فينتفع منها أهل البيت أو على أقل تقدير يرتدع الصغار عن الشر بالزواجر التي تمنع الاستفحال والشر المستطير.
وقد كان من القضاء الماضي أن يكون لكل كبار صغار؛ ومن الواجب على صغار القوم توقير كبارهم واحترامهم والصدور عن مشورتهم؛ ومن مسؤولية الكبار تقديم القدوة الحسنة للصغار وهدايتهم للمحامد والمكارم وتجنبيهم المهالك والسوءات مع ضرورة الاحتفاء بوهجهم الذهني ونشاطهم البدني واحتواء طاقاتهم المتدفقة بما يجعلها إيجابية نافعة، ومن الطبيعي أن يصاحب منع الصغار من محبوباتهم المؤذية بعض التذمر واللجج الذي لا يأبه له المربي ولا يلتفت إليه البتة لأن مصلحة المجموع مقدمة على مصلحة الفرد غالباً فكيف إن لم يكن للفرد مصلحة فيما يفعل !
ولأن الأطفال - صغار البيوت - لا يعرفون نظام المنزل ولا يلتزمون رسومه؛ فهم سبب أكيد في بعض المشكلات ما بين إشعال حريق أو إثارة جمر كامن أو كسر زجاج
وليس تهالك الصغار على الأخطاء والانغماس فيها بدوافع الشر والإجرام دوماً؛ فقد يكون لخلل في التفكير أو نقص في التجربة أو انسياقاً وراء المجهول وحباً للمغامرات واغتراراً ببعض الشعارات والقناعات التي لا تصمد أمام رجاحة العقل وهدوء الطباع وسابق التجربة، وليس بلازم أن يكون الصغار صغار سنيٍ وأيام فقط؛ فلربما اكتهل المرء ولما يزل صغيراً بعدُ، وقد يكون الإنسان كبيراً وهو في ميعة الصبا وعنفوان الشباب.
والصغير الذي لم يُفطم عن المخازي يصعب خلاصه منها فتكبر مخازيه وتزداد ويظل هو في تنامي صغاره فتضج من شناعاته الأرض ومَنْ فوقها ولا يرتاح أحد منه حتى يقلع عن غيه أو تنقطع خطاه وتنمحى آثاره، وكم شقي الناس بصغير يفتي من غير إجازة ويعلم بلا حكمة ويدعو دون بصيرة ويحكم من غير برهان ويعاقب ويكافئ من غير نظام ويأمر وينهى بلا زمام من علم ولا خطام من مصلحة ويفتئت على شريعة الله دونما حياء ويهجم على منابر الخير وأهله بلا حجة ويفتح الباب للمجون دون نظر للعواقب ولا اعتبار بحالٍ أو مآل ويسفك الدماء بلا حق ويتلف الممتلكات والأموال لمجرد الزهو بالخراب؛ إلى غير ذلك مما يطول سرده ولا ينقضي حصره من البلاء الذي يجر مثله في السوء وإن خالفه في الاتجاه.(115/1047)
وحيث لا يرتدع الصغار عن صَغَارِهم إلا بمواقف الكبار وصبرهم باستصحاب العزم والحزم فلا بد من أداء الواجب المنوط بكل أحد بحسبه؛ فعلى من بسط الله يده بالسلطان والقوة أن يقيموا ما أعوج من حال الصغار حتى تستقيم الأمور على سنن واضح وقسطاس مستقيم يأمن فيه الناس على دينهم وأوطانهم وأعراضهم ودماءهم وأموالهم ؛ وعلى أهل العلم واجب البيان والبلاغ بالدليل الشرعي والحجج الدامغة؛ وواجب على المحتسبين الاستمرار في حسبتهم من سبلها ومنافذها التي تمنع الشر وتمكن الخير ولا تثير الإحن؛ وعلى من جعل الله عقول الناشئة وأفئدتهم تحت يديه واجب كبير جليل في التربية والتعليم والهداية وقمين بمن هذه مهمته تهيئة نفسه لهذا العبء وتبرئة ذمته أمام الله ثم التاريخ.
ومما ينبغي التنبيه إليه أن "نفخ" الصغار وتكبيرهم طريقة أهل الأهواء ومسلكهم ليتخذوا من صغيرهم المُكَبَّر ركناً يأوون إليه ومأرزاًً يجتمعون عنده؛ ومن ذلك ما فعله قوم الكذاب مسيلمة معه؛ وما يفعله أصحاب التوجهات والأفكار مع مَنْ يمثلهم بخلع الصفات البراقة عليه وقد يعلم هو قبل غيره بطلانها؛ ومثل ما يفعله المعجبون بمن يفتتنون به لحسن صوته أو جمال صورته أو قدرته الفائقة على التحكم بجسده أو ببعضه؛ وكذلك سلوك عمي البصائر مع الذين يسوغون خطلهم باسم الدين أو المصلحة أو غير ذلك.
وحيث لا يرتدع الصغار عن صَغَارِهم إلا بمواقف الكبار وصبرهم باستصحاب العزم والحزم فلا بد من أداء الواجب المنوط بكل أحد بحسبه
وأكثر من يمارس هذا التزوير المشين علانية بعض الإعلاميين فيقومون بعملين منكرين متناقضين: تقزيم العمالقة وتضخيم التافهين لهوى مريض في نفوسهم أو لثارات قديمة وتصفية حسابات لم تغلق وخصومات لم تنتهي.
ومهما يكن من أمر؛ فإن الكبير عند الله وصالح المؤمنين سيبقى كبيراً وإن تناوشه البطالون بكل نقيصة؛ وليس يضير الصادق والمخلص شيئاً فغاية مطلوبه رضا الله وإن سخط عليه أبالسة الأرض وإمعاتها
ـــــــــــــــــــ
تأملات في دموع الفرح
9/7/1426
ارسل تعليقك ...
تعليقات سابقة ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
كثيرة هي العيون الباكية، والقلوب الخاشعة، التي تراها في بيوت الله _سبحانه وتعالى_، فما تكاد تنظر هنا أو هناك إلا ورأيت تائباً يبكي ذنبه، وآخر يرجو رحمة ربه، وثالثاً يناجي مولاه، ورابعاً ينادي: لم يبق للعاصي عذر، يا غيوم الغفلة عن القلوب تقشعي، يا شمس التقوى في قلوب العائدين أشرقي، يا ميزان الأعمال الصالحة ارتقي، يا نفوس الصائمين اقنعي، ويا تائبين اسجدوا واركعوا، يا همم(115/1048)
المؤمنين أسرعي، ويا همم المحبين بغير الله لا تقنعي، فطوبى لمن أجاب، وويل لمن طرد عن الباب...
وكثير هم الذين يكتبون كلاماً تبكي منه العيون، وأكثر منهم الذين يسعون لمسح تلك الدموع، فيا ليتهم عرفوا لِمَ تلك العيون تبكي !! تراها لِمَ تبكي ؟!
بكت منذ زمن لكن لم يرها أحد، فبينما كان أصحابها يضربون في مناكب الأرض، يبحثون عن طريق يوصلهم إلى السعادة، اكتشفت نفوسهم أن طريق السعادة طريق وعر حُف بالشوك والمكاره، ولن يصل إليه إلا من رفض الدنيا، فهو يمتلكها ولا تملكه، يعدها جسراً يعبر عليه إلى دار الخلود، ترتسم على شفتيه بسمة عريضة ساخرة بها نفسه ملئت شوقاً، ومآقيه دموعاً، وعزمه إصراراً، شوقه أسرع من دقات قلبه، يدفعه إلى التقدم والمثابرة، يجتاز طريقاً ما أطوله على قصره، يقوم من سباته ويفض همومه، وتهطل دموعه، ويعلو نشيجه، فتخنقه الدموع، يتضرع ويدعو، راجياً عفواً ممن بيده الملكوت، فيُقبل على العبادة بروح عاشق، يقوم الليل ويصوم النهار، ليطير فكره بعيداً عن هذه الدنيا، يشق الفضاء ويمضي بعيداً، حيث الجنان والحور قد تزينت للأتقياء .
كثيرة هي العيون الباكية، والقلوب الخاشعة، التي تراها في بيوت الله _سبحانه وتعالى_، فما تكاد تنظر هنا أو هناك إلا ورأيت تائباً يبكي ذنبه
هي أول صلاةٍ له منذ عشرين سنة مضت، لم يعرف للمسجد طريقاً، وغابت عنه حقيقة الخلق، فبكت عينه وخشع قلبه، وارتعدت فرائسه خوفاً من الله ورجاءً إليه .. بكت لما أدركت نفسه أنه راحل لا محالة، ومحاسب على دموعه التي تدفقت على مشهد سينمائي أو مسلسل غرامي أو أغنية ماجنة ... فصرخ في نفسه ألم يأنِ لهذه النفس أن تشبع، وهذه الأذن أن تسمع، وهذا القلب أن يخشع، وهذه العين أن تبكي خوفاً من الله _عز وجل_ ... نعم لقد آن ... فما أجمل البكاء من خشية الله فتلك عين لا تمسها النار .
هدأت نفسه وسكنت جوارحه واطمأن فؤاده لمّا رأى تلك الأفواج تدخل بيت الله – سبحانه وتعالى - لتؤدي ما فرض الله عليها من صلاة وقيام وصيام ... لكن سرعان ما عاد إلى البكاء !!
سألته ما يبكيك ؟! قال : تلك الأفواج التي أتت سريعاً ورحلت سريعاً...
ـــــــــــــــــــ
متلازمة كشاجم !
أحمد بن عبد المحسن العساف
3/7/1426
ارسل تعليقك ...
لا توجد تعليقات ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...(115/1049)
المواهب فضل من الله وهبة يمتن بها على من يشاء من عباده، وقد تتكاثر في إنسان وتقل عند آخر، وربما استعملها الأول في الخير والثاني في الشر، وأحياناً يعلم الإنسان بموهبته وربما يحتاج تنبيهاً عليها من غيره لكن الشيء المشترك في الناس غالباً هو ظنهم الحسن المفرط في أنفسهم ومواهبهم حتى أدخل البعض نفسه في متاهة قادته للهاوية كما حدث مع الدكتور أجاكس " لويس " عوض كمثال معاصر حين كشف عواره العلامة أبو فهر محمود محمد شاكر _رحمة الله عليه_.
وكشاجم هو أبو الفتح بن محمود بن شاهيك من شعراء القرن الرابع المعدودين في شعراء بلاط سيف الدولة و" كشاجم " لقب له منحوت من أوائل حروف مواهبه؛ لأنه كان كاتباً شاعراً أديباً جميلاً مغنياً، وقد أضاف لها في آخر عمره حرف الطاء تعبيراً عن طبخه أوطبه – على خلاف في الرواية - لكنها لم تشتهر عنه، و أسلوب النحت مشهور قديم كما في " حنفش "، حيث كان حنبلياً فحنفياً ثم شافعياً وكما في الدمعزة والطلبقة وغيرهما .
ومتلازمة كشاجم وعقدته تبرز بوضوح عند كثير من الساسة والكتاب وأساتذة الجامعات فيهرفون بما لا يعرفون هروباً من فضيلة " لا أعلم "
ومتلازمة كشاجم وعقدته تبرز بوضوح عند كثير من الساسة والكتاب وأساتذة الجامعات فيهرفون بما لا يعرفون هروباً من فضيلة " لا أعلم "، وهي منتشرة عند شعوب العالم الثالث الذين يتكلمون في الدين والسياسة والطب دون علم أو تخصص، بل بجهل واضح وتخرص بين لا يحتاج إثباته لكبير عناء، فمن ذا الذي يحجب الظلام عن العيون المبصرة ؟
ولا يعني هذا غياب الموسوعات من عالمنا وتكريس التخصص فهنا وهناك أسماء لامعة بارزة نهلت من العلوم والفنون والمعارف ما جعلها قبلة محبي العلم ومحط الأنظار والآمال ولازالت الأمة ولود منجبة _بفضل الله ومنته_ ولكن المأساة في تكلم الجهلة وتصدر الرويبضة حتى يصدق عليهم قول ابن دقيق العيد _رحمه الله_ :
يقولون هذا عندنا غير جائزٍ ! ... ...
فمن أنتمو حتى يكون لكم عند
وغدوا كما قال الناظم :
صار ينهى عن المعالي سفيه ... ...
لا يساوي ثيابه وهو فيها !
ومن المضحكات اتهام الإمام الشافعي من قبل كشاجمي مزيف معاصر بأنه عميل للدولة الأموية، علماً أن الشافعي ولد بعد نهاية الدولة الأموية بثمانية عشر عاماً ! وكشاجمية أخرى تعزو التخلف في بلاد المسلمين لحجاب النساء مع أن الحجاب في بلادها منزوع مذ مئة عام دون تقدم ملحوظ، بل حالهم فقر وتقهقر وقهر، وعلى ذين المثالين قس، وعلى كل كشاجمي مزيف يصدق قول أهل الصين: " لا تقس عمق الماء بقزم ".
وتعود عقدة الكشاجمية عند كثير من أصحابها إلى مركب النقص الداخلي فيسعى صاحبه إلى تغطية نقصه بالبهرج الزائف الذي لا يروج على عقول الأغيلمة بله الرجال، وربما تعود هذه العقدة إلى مكانة صاحبها الاجتماعية أو مقدرته المالية(115/1050)
فتعطيه دنياه المقبلة حسنات غيره وتستر عيوبه فتراه الشاعر الكاتب الفارس المفكر الفنان .. إلى ما يريد هو من ألقاب تساق إليه كرهاً وتنضاف إلى اسمه بلا حق يشهد به أهل الشأن والمعرفة.
اللهم اهد ضال المسلمين، واحفظ بلادنا وبلاد المسلمين من خطر أعداء الخارج ومن كيد خفافيش الداخل الذين " تكشجموا " بهتاناً وزوراً، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
ـــــــــــــــــــ
العقول الفارغة !!
25/6/1426
ارسل تعليقك ...
لا توجد تعليقات ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
لقد اهتم الإسلام بالعقل اهتماماً واضحاً، حيث جعله مناط التكليف وموضع التكريم، الذي به تتحقق أهلية الإنسان لكي يصبح خليفة في الأرض، يسعى في إعمارها كما قال _تعالى_ :"...هوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا..." ذلك أن العقل هو المحور والموجه لهذا البناء وتلك الخلافة، فالحضارة تقوم على عقول نيرة وأفهام راسخة تنطلق من أرضيات صلبة.
ولقد خاطب القران الكريم العقل الواعي، ورسم له حدود السكون، وحدود الحركة، فأصبح العقل المسلم بعد هذا كله....عقلاً مدركاً حكيماً رشيداً يميز الأمور قبل أن يصدر حكماً تجاهها.
فضرب أمثلة عن الأمم البائدة وكيفية استخراج العظات والعبر من خلال سيرها..قال _تعالى_:"وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِم مِّنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ اتَّقَواْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ" (يوسف109).
لقد اهتم الإسلام بالعقل اهتماما واضحا، حيث جعله مناط التكليف وموضع التكريم، الذي به تتحقق أهلية الإنسان لكي يصبح خليفة في الأرض
والعقل المسلم من أوثق العقول فهماً وإدراكاً نظير ما يستند عليه في فهمه ومعرفته واستقائه من المنهج الإلهي، فهو حرٌ لا يخضع لأي مؤثر خارجي سوى منهجه الذي ينطلق منه ويستند عليه.
ولكن مع التردي الحاصل لأمة الإسلام، وخاصة في هذه الأوقات، والتي أصبحت فيه أمتنا كلأً مباحاً لأمم الاستكبار والغطرسة، فأصبح العقل المسلم عقلاً رتيباً خاملاً ينزع في تفكيره إلى الأمعية والتبعية، وبذلك تاه العقل المسلم بين ركامات الحضارة الغربية وبهارجها، والتي يحسبها الظمآن ماءً حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً، وانطبقت عليه مقولة العلامة ابن خلدون في مقدمته: "المهزوم دائماً مغرم بتقليد المنتصر – نظرية التابع والمتبوع – " وانعكس هذا الأمر جلياُ على أمور الحياة بعمومها... مما(115/1051)
أخرج نتاجاً قبيح الطعم والمظهر، والذي تولى كِبر هذا التوهان وهذا الانحراف المشين للعقل المسلم.... هي وسائل الإعلام بكل ارتباطاتها وما تصل إليه أذرعتها الناطقة والمؤثرة، والتي أخذت على عاتقها حرف العقول المسلمة عن مبتغاها إلى مبتغى، وأهواء القائمين عليها من أساطين الإعلام الغربي وملاكه.
فالإعلام بكل وسائله أصبح له دور رئيس وكبير في ا لتلاعب بالعقول, والتأثير على الشعور والمشاعر، وذلك من خلال اختلاق واستعمال مختلف الحيل الكلامية، ورسم صور كاذبة، وتمرير تلفيقات مختلقة عن طريق ربطها بجزء بسيط من الحقيقة لعلمهم أن هاتيك الحيل لا تنتشر ولا يحفلُ بها المتلقي إلا من خلال خلطها ببعض الحق المجتزئ، ولعل إعلامنا العربي بجميع أنواعه سواءً الحكومي منه أو الفضائي خير مثال على ما يحدثه الإعلام من خللٍ كبير في التصورات والأحكام، بل تعدى ذلك كله في كثير من الأحيان إلى التأثير المباشر في منظومة القيم الإسلامية، والتي تحكم سير المرء المسلم في هذه الحياة، وهذا التأثير – المباشر - يطلق عليه دارسي علم الاتصال الإعلامي بنظرية الحقنة (injection theory ) والتي نجدها واضحة جلية من خلال سيل الرسائل الإعلامية الموجهة لتغيير بعض المفاهيم والقيم الإسلامية، والتي في مجملها تهدف إلى زعزعة استقرار العقلية المسلمة لكي تؤمن بالتغيير السلبي المراد، ولعل في بعض القضايا المطروحة سواء على الشأن الداخلي أو الخارجي أكبر دليل على ذلك..... وخذوا على ذلك أمثلة توضح بجلاء مدى عمق العملية المنفذة والمدارة بحرفية تامة لتغييب الرأي الحر، وسلب الإرادة الحرة التي لا تخضع إلا لميزان القيم السماوية.... فخيار المقاومة أصبح إرهاباً !!... وتمسك المرأة المسلمة بعزتها وعفافها وحجابها .. أصبح تخلفاً !!.. والزج بها في غياهب كل مجهول – مرة في نوعها ككائن حي ( الجندر ) ومرة في فكرها وأخرى في حقوقها السياسية - أصبح تقدماً.!! ... ومع ذلك وغير ذلك آمن وصدق بهذه المقولات الدعية أصحاب العقول الفارغة ..... والذين أصبحوا _وللأسف الشديد_ خطاً رافداً وداعماً لكي تغريب يراد للمجتمعات المسلمة فهم غنيمة باردة للمستهدفين، وإن كنت حقيقة لا أعجب من هذه الاستماتة، وهذا الاستبسال البطولي من قبل الطابور الخامس – طابور المستغربين - بالرغبة بضم أولئك الفئام من الناس، ولكن العجب الأكبر والأكثر خطراً، والذي يحز في النفس حقيقة هو الانقياد الأعمى والبليد من قبل أصحاب العقول الفارغة ممن بلغ سن الرشد ولا زالت روح المراهقة – بكل ما تعنيه هذه الكلمة - تدب في دمه وأوصاله ألهذا الحد تعمل وسائل الإعلام عملها المشين في عقله وفي مفاهيمه وفي اعتقاده حتى تجعله يحسب كل صيحة عليه؟! أين الثبات؟ أين الشخصية السوية التي تحلل بوعي، وتدرس بروية، وتراجع بدقة قبل أن تصدر حكماً تجاه أي حدث يُثار؟
ومن تأمل هذا الأمر حق التأمل وجد أننا أما عملية جدُ خطيرة يراد من خلالها إحداث تغييراً معرفيا لعقلية المسلم (cognitive change)، ولذلك نحن بحاجة ماسة لزرع الثقة بالنفس المسلمة وتربيتها وتعليمها أكثر مما هي علي، وإذكاء روح التحدي وروح المقاومة وروح المنافسة، والثبات على المواقف التي ترتكز على عقيدة صلبة وراسخة؛ لأن التغيير الذي تُحدثه هذه الوسائل لم يأتي إلا من خلال الضعف الحاصل(115/1052)
في تكوين الأفراد وضعف بنائهم الذاتي المتمثل في عدم تغلغل واستقرار مكونات ثقافتهم في شخوصهم، وهذا الأثر البالغ التي تحدثه هذه الوسائل نجد أنه يؤثر أكثر في المراهقين ومحدودي الثقافة الأصيلة لمجتمعهم وقيمهم الإسلامية، مما جعلهم أكثر عرضة لمحتوى الرسائل الإعلامية الموجهه والمخالفة لمنظومة قيم المجتمع الإسلامي، فلذلك يجب على ذوي الرأي في المجتمع المسلم مراجعة الذات والأخذ على أيدي السفهاء من أبنائه والنصح لهم لكي لا ينحدروا بأمتهم إلى أمور لا تحمد عقباها.
وقى الله أمتنا ومجتمعاتنا كل بلاء ومكروه
ـــــــــــــــــــ
الموضوعية والمراكز الصيفية
محمد بن عبدالمحسن العبدالكريم*
18/6/1426
ارسل تعليقك ...
تعليقات سابقة ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
الحديث هذه الأيام عن المراكز الصيفية ، وتناولها بالنقد اللاذع والحانق ، والمطالبة بإلغائها وإزالتها ونحو ذلك من قبل بعض الكتاب ، هو مثال على سلوكيات التفكير السلبي وطبيعة نظرة بعضنا إلى بعض ، ومثال على ثقافة التناحر الداخلي ، الذي يراه البعض على أنه سلم الوصول إلى الشهرة والمكانة، وهو في الحقيقة مما يَفرَح به العدو ويحسن قطف ثماره ، والتنازع إنما هو نذير فشل وسقوط .
وما لبثنا أن رأينا الهجوم الشرس والمتبجح في الصحافة الغربية ومن يهتف معها على هذا المجتمع ، وإلصاق ما شاؤوا من التهم جزافاً . ولم يرد كيدهم ويزيد في غيظهم إلا التلاحم الصادق بين ولاة أمر هذا البلد وعلمائه وأبنائه _ولله الحمد_ .
ولكننا نجد بين الفينة والأخرى كتاباً من بني جلدتنا وفي صحفنا يثيرون الزوبعة من جديد ، ويوقدون نار التنازع ، ويحيون الفتنة من جديد ، وكأنهم لا يريدون لهذا البلد أن يستقر ولا ليجتمع .
كلما فرح الجميع بانتصار الأمن ، وقمع الفتنة ورؤوسها ، قاموا يوقدون ناراً للفتنة هنا وهناك ، لقد رأيناهم من قبل يتهجمون على المناهج ، ثم على المؤسسات الدينية بل والجامعات الإسلامية ثم حلقات تحفيظ القرآن الكريم ثم أئمة المساجد وخطبائها ثم معلمي التربية الإسلامية ، والآن المراكز الصيفية !
الحديث هذه الأيام عن المراكز الصيفية ، وتناولها بالنقد اللاذع والحانق ، والمطالبة بإلغائها وإزالتها ونحو ذلك من قبل بعض الكتاب ، هو مثال على سلوكيات التفكير السلبي
ترى ماذا يريد هؤلاء ؟(115/1053)
ألا يعلمون أنهم بهذا يهتفون مع أعداء هذا البلد ، ويصدقون صحة ما يتهمونه به ؟ أهذا هو دور الكتاب والصحفيين ؟
ثم ماذا يريدون من استهداف المؤسسات الدينية خصوصاً ، أهو تهجم على دين هذا المجتمع ؟ أم ماذا يا ترى ؟!
ثم من المستفيد من هذه الزوابع التي يثيرونها ، والتنازع الذي يحيونه ؟! من المستفيد من تعكير الصفو ؟ وتلفيق التهم ؟ وإثارة البلبة ؟
أم أنه منهج جديد لحل المشكلات وعلاجها ؟! أم أنه اصطياد في الماء العكر ؟ وصعود على أنقاض الآخرين ؟! أم ماذا يا ترى ؟! ولكن كلما أوقدوا ناراً للفتنة أطفأها الله .
والمراكز الصيفية- مدار الحديث - هي ليست حديثة النشأة ، ولا هي إفراز الأحداث ، بل عريقة التاريخ ، أصيلة المنطلقات ، قد تضمنتها أهداف سياسة التعليم ، وتبنتها وزارة التربية والتعليم ، ولها أهدافها المرسومة ، وبرامجها المفسوحة ، وميزانيتها الرسمية، وتشرف عليها إدارات التربية والتعليم ، ومن ورائها مشرفو الوزارة . يزورها المسؤولون والمربون وأولياء الأمور ، وتعلن أنشطتها على صفحات الصحف اليومية ، ويشارك بها مئات المعلمين وألوف الطلاب .
فهي ليست مخابئ ولا أوكار ، وإنما مؤسسات تربوية تقوم بواجبها إلى جنب أخواتها من مؤسسات رعاية الشباب والطلاب في هذا البلد _ولله الحمد_ .
خرّجت عبر تاريخها جيلاً رشيداً فاعلاً منتجاً ، تقلد مسئوليات تربوية ، وأمنية واجتماعية .
و ساهمت في تغطية حاجات شريحة هامة في المجتمع ، ولا تزال قائمة بالواجب ، واقفة على الثغر ، صابرة على الأذى ، محتسبة الأجر ، مخلصة النية والقصد، وآثارها ملموسة ، ونتائجها محسوسة قطفها من دنا منها ، وسمع بها من لم يرها ، وتحدث عنها عدوها ، أو ليست ذات جدوى ؟! أفتكون بعد ذلك مشكوك فيها ؟! زعموا !
ماذا يريد هؤلاء الكتاب _هداهم الله_ من وراء إثارة الزوبعة حولها؟ ألمجرد الإثارة ؟ أم لمقاصد أخرى ؟!
وليس معنى ذلك أنها لا تنتقد ، كلا فهي ليست مقدسة ولا منزهة عن النقص والخطأ حالها حال سواها من العمل البشري، بل إنها بحاجة ماسة إلى النقد البناء والتطوير والدعم والمساندة لتغطية احتياجات الشباب بما يواكب ظروف العصر، فالعاملون بها بحاجة إلى التدريب على أجود المهارات والقدرات القيادية والإدارية والعلاقات الإنسانية، وبرامجها بحاجة إلى تطوير في أساليبها ووسائلها إلى أحدث المستويات وأرقاها تربوياً وتقنياً .
كما أنها بحاجة إلى عملية تقويم علمية وموضوعية ، تقيس مدى تحقق الأهداف ، وتكشف نقاط القوة والضعف في سبيل الإصلاح والبناء المتدرج .
وهي أهل أن تكون ميدان من ميادين الدراسات العلمية والأبحاث التربوية في الجامعات والمؤسسات التربوية .(115/1054)
فالإصلاح الصادق ، والنقد لبناء إنما يقوم على أساس الموضوعية العلمية والتي تبدأ بتحديد المشكلة ووصفها وتقديرها بحجمها وقدرها ومن ثم النظر الدقيق المبرهن في أسباب حدوثها ، ثم الحلول المقترحة والمتوقعة لها ثم تطبيق أفضلها ثم دراسة النتائج وتقويمها .
أما أسلوب التهويش والتشويش ، والتفنن في إلصاق التهم ، وتضخيم الأخطاء والتركيز على السلبيات والتلويح بعصا الإرهاب إنما هو أسلوب العشوائية والغوغائية ، لا تصلح به المجتمعات ولا تعالج به المشكلات ولا يستقر به الأمن، ومع ذلك لا يزال بعض هؤلاء الكتاب يصر على انتهاجه ؟! إن أمرهم لعجب ! حتى وصل الأمر عند بعضهم إلى تهميش قضية الشباب ، وأنه لا داعي للقيام على رعايتهم وتوجيههم واستثمار قدراتهم ومهاراتهم بما ينفعهم وينفع بلدهم ومجتمعهم ! كل ذلك من أجل ألا يكون للمراكز الصيفية حاجة تستوجب الإبقاء عليها واستمرارها ! واعتبر ما تقوم به المراكز الصيفية إنما هو عملية تكويم وتجميع ! أليست هذه مكابر؟ وتجاهل للواقع أو جهل به ؟ أم أن ذلك انسحاب من الميدان وهروب من المسؤولية ؟ !
إذا لم يكن لدى هؤلاء الكتاب الناقمين على المراكز الصيفية وغيرها ليس لديهم ما يقدمونه للشباب من النافع المفيد، فلماذا يغتاظون إذا قام به غيرهم ؟
ثم أين قلم المحرر الصحفي الذي اؤتمن على موضوعية الطرح ، واحترام القارئ وثقافته وفكرهن والحفاظ على مصداقية الكلمة وشرف المهنة ؟ ليميز ما يصلح للنشر وما لا يصلح ، ما ينفع نشره وما يضر .
وختاماً : أحب أن أنبه إلى أنه يجب ألا يولد التطرف تطرفاً مضاداً، وألا يحملنا العنف الممقوت إلى عنف مثله، فكلا طرفي قصد الأمور ذميم، فعلينا أن نحافظ على الاعتدال والوسطية، وأن نناقش قضايانا بالعقل والحكمة، ولا يضرنا شنآن المعتدين ، ولا يستفزنا تطرف المتطرفين حتى يوقعنا في النيل من الدين والمتدينين فكلنا أهل دين ، و هذا البلد هو رأس المسلمين ، ومأرز الدين ، وشعاره كلمة التوحيد ، بها يرفرف علمه وتعلو بها رايته، والحمد لله رب العالمين .
ـــــــــــــــــــ
* مشرف تربوي – ماجستير أصول تربية
حفرالباطن
ـــــــــــــــــــ
التربية في العالم الإسلامي: إشكالية الموازنة بين تلقين المعرفة وغرس القيم
يزيد حمزاوي
11/6/1426
ارسل تعليقك ...
لا توجد تعليقات ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...(115/1055)
التربية السليمة هي تنمية جميع جوانب شخصية الإنسان، دون طغيان جانب على آخر، وهي عملية مستمرة مدى الحياة، فهي بذلك ميكانيزم يحتل الفضاء الزماني والمكاني لكل إنسان يدب على الأرض، وهذه الفلسفة التربوية الشاملة والكاملة تنطبق بامتياز على النظرية التربوية الإسلامية.
إن التربية الإسلامية تنظر للإنسان ككائن متكامل، الغاية من وجوده توحيد الله وعبادته، ولا يمكن أن تتحقق هذه الغاية السامية، إلا بإعداد المسلم إعداداً يأخذ بعين الاعتبار الجانب الروحي والعقلي والخلقي والجسمي، ويتفرع عن هذه الأربعة كل الجوانب الأخرى كالتربية الجمالية و السياسية و الاجتماعية و البيئية...إلخ.
هذا على الأقل من الناحية النظرية، لكن من المُلاحظ في الواقع أن النظام التربوي (من الإعدادية إلى الدكتوراه) في العالم الإسلامي لا يراعي هذه الشمولية، التي تختص بها النظرية التربوية الإسلامية، ولا أريد هنا أن أسرد مظاهر التقصير في تنمية كافة جوانب شخصية المسلم، لكنني أكتفي بالإشارة إلى قضية خطيرة باتت تُميز النظام التربوي في العالم الإسلامي، وهي الخلل التربوي المتمثل في تزايد الفجوة بين تقديم المعرفة المجردة و غرس القيم التربوية.
إن التربية الإسلامية تنظر للإنسان ككائن متكامل، الغاية من وجوده توحيد الله وعبادته، ولا يمكن أن تتحقق هذه الغاية السامية، إلا بإعداد المسلم إعدادا يأخذ بعين الاعتبار الجانب الروحي والعقلي والخلقي والجسمي
يعتقد كثير من المتحكمين في زمام التربية، في عالمنا الإسلامي، أن الهدف من المدرسة والجامعة هو تقديم المعارف والمعلومات للتلميذ والطالب فحسب، كما يعتقدون أن تعليم القيم المختلفة هي من مهمة مؤسسات اجتماعية أخرى، كالأسرة ودور العبادة...وان هذا الاعتقاد الخاطئ هو المُطبق فعلاً في مؤسساتنا التعليمية، إذ صارت مقاعد الدراسة مكاناً يُحشى فيه عقل المتعلمين بالمعارف والمعلومات، حتى أضحى أولئك المتعلمون أشبه بأجهزة الحاسب، التي لا يتعدى دورها تسجيل تلك المعلومات داخل الدماغ، وتفريغها عند الحاجة على ورقة الامتحان، هذه الطريقة أفقدت المتعلم إنسانيته، وحولته بالتدريج إلى مجرد قرص مرن أو مدمج يُخزن ويعرض البيانات والمعطيات المجردة.
وعلينا أن نتصور الإنسان المسلم المتخرج من هذا النوع من التعليم، عندما نفاجئ بأن حتى المؤسسات التربوية المعول عليها في تنمية القيم المختلفة، هي نفسها مقصرة أشد التقصير في هذه المهمة، فبالنسبة للأسرة، فهي لم تعد تملك حتى الوقت القليل للاهتمام بتربية أبنائها، بسبب انشغالها بتوفير سبل العيش، في عالم إسلامي تزداد فيه الظروف الاقتصادية تدهورا، مما يدفع بالأبوين معا، للعمل خارج البيت لساعات طويلة، إضافة إلى أن كثيراً من الأبوين، أنفسهم، لا يملكون مخزوناً متوازناً من القيم يقدمونه لأولادهم، وفاقد الشيء لا يعطيه.
أما المسجد، فهو يواجه في كثير من البلدان الإسلامية حصاراً من النظام السياسي، مما يشل نشاطه التربوي، وقد تحولت كثير من المساجد إلى جدران تُتلى فيها الخطب والعظات، التي لا تترك أي أثر تربوي، كما أن متابعة متفحصة للقائمين على هذه المساجد، يُصدم من الرداءة التي تميز هذا القطاع، فالتربية المسجدية توكل إلى أُناس(115/1056)
يشترط فيهم حفظ القرآن ومعرفة بعض فقه الصلاة، وفي أحسن تقدير إلى بعض خريجي المعاهد الدينية، الذين هم نسخة من الأقراص المدمجة التي تحدثنا عنها في السابق.
هذا باختصار، وتأتي مؤسسة تربوية أخرى، لكنها تخريبية، وأقصد بها وسائل الإعلام، وهي في أغلبها مؤسسة تعمل على تدمير القيم الإسلامية، بدل تنميتها أو تعزيزها، كما أنها تُكرس الاستلاب والتغريب، الذي يهدف إلى تأجيج العداوة بين المسلم وقيمه الأصيلة، وبرامج هذا الإعلام، كثيراً ما تطعن في القيم الدينية، وتصمها بنعوت التخلف والرجعية والتحجر.. وتعرض القيم الغربية الفاسدة في أبهى صورة، وتصفها بالقيم الحضارية والعالمية والمتفتحة والعصرية والتقدمية والمتحررة والإنسانية !!! وإذا كان الأطفال، مثلاً، يقضون من خمس إلى عشر ساعات يومياً أمام التلفاز - حسب ما تذكره الدراسات العلمية- يمكننا تخيل حجم التأثير السلبي على القيم الإيجابية التي بحوزتهم، التي تُضاف إلى التأثيرات الأخرى، لتربية الشارع والنادي والملعب...، التي هي في الأعم تنشر قيماً السلبية، إلا في ما ندر.
فلا مناص إذا من العودة للتربية الرسمية والمقصودة، وهي التربية المدرسية، التي عليها أن تلعب دوراً رئيساً في ترسيخ القيم الإيجابية في المتعلمين بالتوازي مع ما تقدمه من معارف، أما ما هو موجود حالياً في بعض المناهج، على تفاوت بين الدول الإسلامية من قيم إيجابية، فهي باهتة وغير كافية، ولا يكاد الصالح منها يُسمع صوتُها وسط جلبة وضجيج القيم السلبية التي تحيط بالفرد من كل جانب.
لذلك لم يعد الملاحظ يستغرب من السلوكيات والتصرفات لخريجي المدارس في العالم الإسلامي، وهي سلوكيات تدل بوضوح أن المسلم يفتقر إلى القيم الإيجابية التي تجعل منه إنساناً إيجابياً في مجتمعه، بل كثيراً من المتعلمين اليوم صاروا يتصرفون تصرفات لا يسلكها عوام الناس ممن سلمت سريرتهم من الأمراض.
ومن أمثلة ذلك بتنا نسمع بمهندسين في البناء والعمارة، يشيدون العمارات والمباني، سرعان ما تنهار على ساكنيها أو تتصدع من كل جانب، بسبب غش أولئك المهندسين وعدم تقيدهم بمعايير البناء القانونية، وهم بفعلهم هذا رجاء الربح المادي، الذي يُعرض الأموال للضياع والأنفس لخطر الموت، فأين القيم التي تعلموها على مقاعد كليات الهندسة؟
من الأمثلة كذلك، الأطباء، وقد رأيت وسمعت وقرأت عن جراحين لا ضمير لهم ولا تقوى، يوهمون مرضاهم بأنهم يعانون أمراضاً لا يتعافون منها إلا بإجراء جراحة، وإن بعض أولئك الجراحين يجرون جراحات على مرضاهم بشق سطحي على البطن تظهر من بعده غرز الإبر، كأنهم أجروا فتحاً حقيقياً، لكن شيئاً من ذلك لم يكن، ويدفع المريض مالاً جمعه بشق الأنفس، مقابل عملية جراحية وهمية، فماذا كان يتعلم هؤلاء على مقاعد كلية الطب؟
المحامون، وما أدراك ما المحامون !!..فثمة قصص وروايات في العالم الإسلامي كله عن تلاعبهم في القضايا واستنزافهم لموكليهم، حتى وان كانوا من أفقر الناس..فماذا تعلم هؤلاء في كلية الحقوق؟(115/1057)
لا شك أن هناك من لا ينتمي إلى هذه الفئات المريضة، وهم كثر، فماذا عسانا نفعل إذا كان واحد يبني ومئة يهدمون؟
و مما يدفعني أكثر للكتابة في هذا الموضوع، والإشارة إلى هذه الظاهرة التربوية التي استفحلت، هو وصولها إلى المعاهد والكليات والجامعات الإسلامية، و من المفروض أن يكون خريجو هذا النوع من التعليم، على قدر كبير من المعرفة الدينية الإسلامية، ويتمتعون بثروة من القيم الإسلامية الإيجابية، لكن هل هذا هو الواقع؟
دون تعميم، الجواب لا، وقد نبه علماؤنا قديماً وحديثاً على ضرورة تزويد طلاب العلم الشرعي بالقيم الإسلامية الرفيعة التي تجعل منهم قدوة، وأن عليهم العمل بما يقولون، وألا تبقى معلوماتهم الشرعية حبيسة الذاكرة، و أن تظهر ثمارها على جوارحهم، وعلى طالب العلم أن يتحلى بالقيم المستحبة والإيجابية، كالصدق وحب العمل وإتقانه والشجاعة واحترام الآخرين وعفة اللسان والمحافظة على الوقت...وغيرها من القيم.
لكن كثيراً من أولئك – إلا من رحم الله – يُضيعون أوقاتهم في تجمعات لا هدف منها إلا علك الكلام، والطعن في العلماء والدعاة والعاملين في حقل الدعوة ، ولم يسلم منهم حتى من علمهم وحشا عقولهم بالمعرفة في الصف الدراسي.
وقد شاع في بعضهم حب البطالة فهنئوا بالصدقة، يترفعون عن المهن اليدوية؛ لأنها عيب في حقهم، لأنهم كأنهم لم يُخلقوا إلا لمهنة الإفتاء والتوجيه وتصنيف الناس و تبديعهم وحتى تكفيرهم، أما البعض الآخر ممن يُحشى دماغه بالكتب والمتون والأسانيد، دون قيم تصحب ذلك فقد صاروا وبالاً على الصحوة والدعوة، ويعلم الله كم مرة سمعت الشيخ أحمد حُطيبة في الإسكندرية يقول لطلبة العلم: "إن سيرتنا صارت سوداء بين الناس".
كما أتذكر قبل سنوات أن بعض من فاضت ذاكرته بالمتون والأسانيد والدراية والرواية..كانوا يسطون على تأليفات الغير وينسبونها لأنفسهم، بلا قيم ولا خلق، وقد تفاقم ذلك السطو المنظم حتى وصلت رائحته الآسنة إلى صفحات الجرائد اللا دينية، بل والى المحاكم العلمانية، مما أثار شكوكاً وتساؤلات في تلك الأوساط عن القيم التربوية التي تلاقها أولئك، والتعليم الذي خضعوا له.
هذه بعض الأمثلة فقط، ولا أريد من طرح هذه القضية التربوية على المهتمين مجرد التهويل، ولأقول "هلك الناس"، وإنما لأشير إلى أن التحديات الدولية خطيرة، والنظام العالمي يسير نحو فرض المعرفة والقيم التربوية الغربية، ولن تكتفي العولمة بابتلاعنا سياسياً واقتصادياً، وإنما أخبث ما في العولمة بُعدها التربوي والثقافي والقيمي، ولقد بدأت بالفعل تبرز تشوهاتها في كثير من مجتمعاتنا الإسلامية، أتمنى أن يتنبه الساسة والمربون والعلماء والدارسون إلى هذه القضية ويعطوها جهداً كافياً من البحث والدراسة وتقديم الحلول، وإذا لم نُعد النظر في منهجنا التربوي برمته، والموازنة بين غرس القيم بقدر تنمية المعرفة، فستصبح الأجيال المسلمة القادمة عاجزة عن فرض وجودها، السياسي والاقتصادي والحضاري، مقابل الوجود الغربي اللبرالي الصليبي، مما يعني تحقق نبوءة فرنسيس فوكوياما "بانتهاء التاريخ".(115/1058)
ـــــــــــــــــــ
مواعظ عصرية
أحمد بن عبد المحسن العساف
4/6/1426
ارسل تعليقك ...
لا توجد تعليقات ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
كنت قد قرأت في سيرة إبراهيم بن أدهم -رحمه الله- موعظة رائعة بطلب من شاب منغمس في المعاصي والذنوب؛ وملخص هذه النصيحة الخماسية أن يراعي هذه الأمور حين الهم بالمعصية: أن يعصي الله من غير أن يراه، وأن يعصي الله في غير أرضه، وأن لا يأكل من رزق الله مادام يعصيه، وأن يطلب من ملك الموت تأجيل قبض روحه إذا حانت منيته، وأن يفلت من الزبانية إذا أرادوا قذفه في النار؛ وحيث تستحيل هذه الخمس فقد فرق الشاب وفزع وعزم ألا يقارف المعاصي بعد.
ومن فوائد هذه القصة أن الشاب المذنب هو من طلب النصيحة لشعوره بألم المخالفة، وهكذا يجب أن نكون معشر الخطائين؛ ثم أنه خاف وتأثر ولم يكن حاله مع النصيحة مجرد " انفعال صورة " يزول بزوال المؤثر، بل بقيت نصيحة حاضرة حية في خلده؛ وكذلك جمال وكمال نصيحة العابد الزاهد الذي هجر دنيا المال والجاه وهي مقبلة عليه فأعرض عنها مقبلاً على الله والدار الآخرة.
ولأننا نعيش عصراً مختلفاً بأناس مختلفين ومغريات تعيش مع الإنسان حتى في أخص أحواله؛ ولأن ترك القبيح صار جميل وحسنة من الإنسان على نفسه ومجتمعه؛ لذا فقد تخيلت واعظاً زاهداً كإبراهيم أو الحسن –رحمهما الله - يخاطب أهل زماننا فيقول:
ولم يكن حاله مع النصيحة مجرد " انفعال صورة " يزول بزوال المؤثر، بل بقيت نصيحة حاضرة حية في خلده؛ وكذلك جمال وكمال نصيحة العابد الزاهد الذي هجر دنيا المال والجاه وهي مقبلة عليه فأعرض عنها مقبلاً على الله والدار الآخرة
• إذا كنت عاصياً ولا بد فلا تستحلن المعصية ولو انهمكت فيها انهماك من لا ينزع البتة.
• إذا عصيت فلا تجاهر واستخف ما وسعك الجهد في ذلك.
• لا تقارف كبيرة ولا موبقة وابتعد عن مظانهما ففيهما العطب.
• لا تكن قدوة لغيرك في الإثم فتكون كالشقي من ابني آدم.
• لا تكن رأساً في الباطل وعلم سوء يأرز إليه الأبالسة والمبطلون.
• لا تجعل خطيئتك من الباقيات السيئات وبادرها بخير مااستطعت إلى ذلك سبيلاً؛ ولا تستكثر على نفسك أو منها الخير.
• لا تتخذ من ذنبك طريقاً لمزيد من الذنوب فثم الهاوية!(115/1059)
• كن هماماً بالتوبة وحدث نفسك بالأوبة، ولا تقطع عليك خط الرجعة، فالله _سبحانه_ يحب العبد التواب.
• لا تسوغ خطأ الآخرين؛ لأنك واقع في ذات الخطأ أو غيره.
• لا تعنف ناصحاُ ولا تشغب على محتسب، وتذكر أنك من جلب على نفسه الناصحين والمحتسبين.
• لا يتسلل لعقلك الباطن شعور باستحالة ترك المعصية وهجرانها، ولا تستسلم لعدونا المتربص _ أعاذنا الله وإياك منه _.
• كلنا ذوو خطأ ولا جرم؛ ولكن لنحفظ أنفسنا ومجتمعاتنا من أن يكون واحدنا شيطاناً مريداً ضالاً مضلاً.
وبعد؛ فليس فيما سبق ما يدعو للمعصية أو يهون من شأنها؛ وكل ما سبق راجع لنصوص أو أصول شرعية وما كان منها مخالفاً للشريعة المطهرة فمطروح مردود وأستغفر الله منه.
ـــــــــــــــــــ
آداب طالب العلم 1/2
الشيخ/ فهد العيبان
19/5/1426
ارسل تعليقك ...
لا توجد تعليقات ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
هذا سائل يسأل فيقول: شيخنا الفاضل تقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال ونهنئكم بالعيد ونسأل الله أن يعيده علينا وعليكم ونحن في صحة وعافية.
سؤالي: ما حال طالب العلم بعد رمضان ولا سيما في مثل هذه الأوقات التي تعج بهذه الفتن وجزيتم خيراً؟
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، هذا السؤال الذي سأله السائل لا شك أنه سؤال مهم بالأخص ما يتعلق فيما بعد رمضان وأنا الحقيقة سجّلت بعض المسائل قد لا تكون لها علاقة بالسؤال مباشر هي ما يتعلق بوصايا مهمة لطالب العلم وبالأخص في مثل هذه الأوقات، لكن إجابةً لهذا السؤال وما يتعلق برمضان وما بعد رمضان لا شك أن طالب العلم له خصوصية فيما يتعلق برمضان فليس هو كغيره من الناس بل له ما يخصه من العبادات والصفات والأوصاف الذي ينبغي لمثله أن يتصف بها ونحن نشاهد كثيراً من الوعاظ وأهل العلم والمصلحين ينتقدون ويعيبون على الذين لا يعرفون الله إلا في رمضان فلا يعرفون الفريضة وإقامة الصلاة في المساجد إلا في رمضان ولا يكفّون عن معصية الله عز وجل إلا في رمضان فهذه الحال لا شك أنها حال مستقبحة وقد استنكرها سلف الأمة وخلفها من أهل العلم.(115/1060)
إن من أعظم ما يوصى به طالب العلم في مثل هذه الأيام هو ما يتعلق بالتعبد فهي أعظم وصية ينبغي لطالب العلم أن يحتذي حذوها وينتفع بها
فكذلك هناك صنف آخر ينبغي التنبه له أو صفة أخرى ينبغي التنبه لها وهذه الصفة أيضاً أمرها أيضاً مستقبح عند أهل العلم وهذه الصفة هي ليست صفة بعض عوام الناس أو بعض العصاة الذين لا يقيمون الصلاة إلا في رمضان بل هذه الصفة قد يتّصف بها كثير من الشباب ممّن هم على طريق الهداية أو سيماهم سيم الخير والصلاح وهم أولئك الذين لا يعرفون بعض العبادات إلا في رمضان ولا شك أن هذا خطأ ولا يليق بطالب العلم ولا يليق بمن سلك طريق الهداية ألا يعرف قراءة القرآن مثلاً إلا في رمضان ولا يعرف الصيام والقيام والوتر وكثير من الطاعات إلا في رمضان فطالب العلم بالذات له خصوصيته والحقيقة مما يُعجَب له أن كثيراً من كبار السن من عامة الناس تجده محافظاً على كثير من الطاعات أكثر بكثير من كثير من الشباب الذين ظاهرهم الخير والصلاح ولا شك أن هذا مسلك خطير وله أثر في سلوك طالب العلم فله أثر حتى في طلبه للعلم فطلب العلم المجرّد هكذا الذي لا يسنده سلوك حسن ولا تسلكه عبادة خاصة ولا يسلكه تعبّد وإخبات لله عز وجل هذا ما أسرع أن ينقطع عن طلب العلم بخلاف ذلك الذي له خبيئة مع الله وله طريقته مع الله عز وجل وعلاقته مع الله عز وجل في تعبده وسلوكه وبكائه وانطراحه بين يدي الله إلى آخر تلك الصفات التي كان سلف الأمة يحرصون عليها.
ولو قرأتم في سير سلف الأمة من العلماء والذين ذُكر تراجمهم وفُصّلت تراجمهم فيما يتعلق بعبادتهم لرأيتم عجباً كيف هؤلاء العلماء الأفذاذ تفرغوا لكثير من العبادات حتى أصبحوا يسابقون العبّاد الذين هم متخصصون فقط في العبادة فتجد طالب العلم أو العالم الذي شُغِل وقته بكثير من التأليف والتعليم والتعلّم والرحلة في طلب العلم إلا أنه أيضاً تجده مسابقاً في العبادة فيُضرب به المثل في قنوته وتعبّده وقيامه لليل وصيامه للنهار إلى آخر أنواع العبادات التي يسابق فيها وهذا للأسف – أقول للأسف – لأنه ملاحَظ فقد مثل هذا التعبد عند كثير من الشباب وكثير بالأخص من طلبة العلم ولا شك أن هذا الأمر ينبغي أن نتناصح به جميعاً نحن وإياكم جميعاً فالكل عنده تقصير ولكن كما قلت إن العلم الشرعي لوحده لا يستطيع الإنسان أن يواصل فيه ما لم يكن له مع الله عز وجل صلة وهذه الصلة هي زاد، زادٌ له يقويه على الصبر والتحمل في سلوك طريق العلم والصبر والتحمل حتى عند البلاء وفي حال الفتن وفي حال الابتلاءات التي تصيب العبد.
فلذلك ينبغي لطالب العلم أن يحرص على هذا المقام، هذا مقام رفيع يغفل عنه كثير من الشباب وكثير من طلاب العلم ولو سألت نفسك أو فتّشت فيمن حولك من الشباب أو من طلاب العلم لوجدت قصوراً ظاهراً في هذا الجانب فتجد من لا يعرف أن يختم مثلاً إلا في رمضان وستجد من لا يحافظ على الوتر إلا في رمضان وستجد من لا يصوم إلا رمضان إلى آخر أنوع عبادات مشهورة ومعروفة يعني المفترض من طالب العلم أن يحافظ عليها محافظة ظاهرة وهذه المحافظة لا يلزم منها أن تكون يعني أن تقوم الليل كله ولا أن تصوم أيام السنة كلها ولا يلزم أن تختم في كل ثلاث ليال، ولكن أن يكون لك عبادة تداوم عليها تكون صلة بينك وبين ربك ولو كانت(115/1061)
قليلة، النبي صلى الله عليه وسلم مدح العمل القليل الذي يداوم عليه صاحبه فأحب الأعمال كما قال النبي صلى الله عليه وسلم أدومها وإن قل أو "أحب العمل إلى الله أدومه وإن قل".
فلاحظ نفسك فيما يتعلق بقيام الليل ولو ليلة في الشهر تقومها لله قبل الفجر بساعة أو نصف ساعة وتحافظ على وترك بعد العشاء ولو ركعة واحدة تركعها وهكذا شيئاً فشيئاً حتى تزيد، الصيام تحرص أن تصوم ولو يوماً واحداً في الشهر أو يومين أو ثلاثة إن استطعت وهكذا تبحث عن نفسك في مثل هذه العبادات، ختم القرآن لو مرة في الشهر بأن تقرأ كل يوم جزءاً، وكل يوم جزء يعني كل فرض أربعة أوجه من المصحف وهذا لا يكلف على أحد وبالأخص أولئك الحفاظ الذين يحفظون كلام أو كتاب الله كاملاً فلا تُخلي نفسك من هذه الصفات التي هي زاد للعبد ولا شك أنها من أعظم الزاد وكثير من أولئك الذين خارت قواهم في سلوك طلب العلم إنما كان من أعظم أسبابه أنه لم يكن لهم خبيئة بينهم وبين الله أو صلة بينهم وبين الله في مثل هذه العبادات الخفية وأيضاً أولئك الذين خارت قواهم في زمن الفتن أو في زمن الابتلاء أيضاً كان من أعظم أسبابه أنه لم يكن بينهم وبين الله عز وجل وهذه الصلة لا يلزم منها أن تكون كما قلت يعني من كبار العبّاد أو ممن تتفطر قدماه في الليل أو ممن يصوم يوماً ويفطر يوماً ولكن أن يكون لك عمل قليل تسعد به في الدنيا والآخرة.
وذُكر عن كثير من السلف كما ذُكر أو نُقل عن شيخ الإسلام القصة المشهورة أنه كان يجلس من بعد الفجر حتى تطلع الفجر يذكر الله لا يحل حبوته فسئل عن ذلك فقال: هذا زادي لو لم أتزود به لخارت قواي وصدق رحمه الله، وكذلك كان سلف الأمة لهم خبيئة مع الله عز وجل وهذه الخبيئة هي العمل الصادق القليل الخفي الذي لا يعلمه إلا الله عز وجل تختفي به عن أعين الناس وتداوم به مع الله عز وجل هذا العمل له لذته وله أنسه ولو كان قليلاً يسيراً محتقراً في نظر كثير الناس، يعني كثير من الناس يحتقر أن يوتر لله بركعة بعد صلاة العشاء أو قبل ينام أو بثلاث ركعات فيظن أن هذا عمل قليل، يعني إما أن يصلي أحد عشرة ركعة كما هي السنة وإلا لن يصلي شيئاً.
وكذلك يحتقر بعض الناس أن يخصص يوماً في الشهر يصومه فضلاً أن يصوم الاثنين والخميس أو يداوم على صيام الأيام البيض الثلاثة، هذه الأعمال ولو كانت قليلة إلا أن الله يبارك فيها ويكون فيها أجر عظيم وهي أحب الأعمال إلى الله، أما أولئك الذين يتحمسون ويشتدون في العبادة فتجده من بعد رمضان يشتد في قيام الليل وصيام النهار وختم القرآن كل ثلاثة أيام ثم ما إن تمر أيام قلائل حتى يفتر وينقطع فهذا العمل لا شك أن فيه خيراً لكنه ليس بأحب إلى الله عز وجل من ذاك الذي داوم على فعل القليل لكنه استمر معه إلى أن يشاء الله.
هذا فيما يتعلق ما بعد رمضان فاحذر أن تفوّت على نفسك هذه الدربة والمدرسة التي تعلمت فيها القيام والصيام والدعاء وقراءة القرآن وختمه هذه مدرسة وثق أنك ستعجز عن كثير من مثل هذه العبادات بعد أشهر إذا لم تواصل بعد رمضان فبادر من الآن بادر من الآن خصّص لنفسك جزءاً كل يوم وخصّص لنفسك ثلاثة أيام من كل شهر أو يوماً واحداً واعزم على ألا يفوتك الوتر ولا ليلة واحدة ولو كانت ركعة(115/1062)
واحدة بعد صلاة العشاء، واعزم على أن تجعل لنفسك ولو يوماً واحداً في الشهر تقوم قبل الفجر بنصف ساعة وتصلي فإن قُدّر لك أن تقوم أكثر الليالي أو كل ليلة فلا شك أن هذا عمل عظيم.
وقد أدركنا كثيراً من طلبة العلم الذين سبقونا في العلم وفي السن ممن هم الآن من كبار أهل العلم يعني أدركنا بعضهم ممن لا يفوته قيام الليل مطلقاً ولا يفوته صيام الاثنين والخميس وصيام ثلاثة أيام من كل شهر ولا يفوته أن يختم كل أسبوع أو أسبوعين أو ثلاثة فمثل هؤلاء لا شك أنه قدوة لنا ومن لاحظ كثيراً من أهل العلم الموجودين الآن ممن نعرف عن قُرب لا يتركون قيام الليل بل نعرف من العوام الذين ليسوا من أهل العلم بل بعضهم لا يستطيع أن يقرأ قراءة صحيحة إلا أنه ممن لا يترك قيام الليل بل يقوم قبل الفجر بثلاث ساعات وبعضهم بساعتين لا يفوته قيام الليل مطلقاً ويختم القرآن ما يمر عليه الأسبوع أو الأسبوعان إلا وقد ختم كلام الله عز وجل فلا يكون مثل هؤلاء سباقون إلى الخير ونحن متقاعسون.
فأقول إن من أعظم ما يوصى به طالب العلم في مثل هذه الأيام هو ما يتعلق بالتعبد فهي أعظم وصية ينبغي لطالب العلم أن يحتذي حذوها وينتفع بها وإلا مجرد طلب العلم، طلب العلم فيه جمود وفيه نوع من القساوة إذا الإنسان استمر عليه دونما تعبّد ودونما اتعاظ بمواعظ الله عز وجل في كتابه وبمواعظ رسوله عليه الصلاة والسلام فالعلم المجرد فقط فيه نوع من القساوة فينبغي لطالب العلم أن يمزج العلم بالعمل وأن يمزج العلم بالتعبد لله عز وجل ولعل بعض هذه الوصايا نمر عليها سريعاً غير ما يتعلق برمضان.
من أهم الوصايا ما يتعلق بطالب العلم هو اقتران العلم بالعمل، وهذا الكلام كثيراً ما يُردّد ولعلنا نعرض أهم هذه الوصايا على سبيل الإيجاز فأول هذه الوصايا اقتران العلم بالعمل هذا من أعظم الأمور التي ينبغي لطالب العلم أن يعتني بها والكلام الذي سبق ذكرته متعلق بهذا الأمر فطالب العلم الذي يتعلم العلم ويتعلم قيام الليل ويتعلم الصيام ويتعلم الأحكام الشرعية ثم هو لا يقوم بها لا شك أن هذا فيه قصور وهذا سبب من أسباب فتح العلم على العبد فطالب العلم إذا أراد أن يُفتح عليه العلم عليه بالعمل فكلما أحسنت العمل كلما حسن بك أن تضبط العلم وتنفتح لك أبوابه وكلما ضعف عندك جانب العلم كلما انغلقت عليك أبواب العلم وهذا أمر قد جرّبه كثير من الناس أو كثير من طلبة العلم وكثير من أهل العلم جرّبوا ذلك وقد كان هذا هو دأب السلف.
وتذكرون أو سبق وذكرت لكم قصة الإمام أحمد الذي أعطى الحجّام ديناراً أو دينارين اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم لأنه كان ما يمر به حديث إلا ويعمل به أو ما يروي حديثاً مما يُعمل به إلا ويَعمل به حتى إنه أعطى الحجّام كما أعطاه النبي صلى الله عليه وسلم مع أن هذا ليس سنة يعمل بها ولكن حباً في الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم وحباً في العمل بالسنة أو العمل بالحديث فإذا كان هذا دأب السلف في مثل هذه الأمور فكيف بما هو أكبر منها وأعظم شأناً من هذا فالعمل بالعلم لا شك أنه من أعظم الأمور التي يوصى بها طالب العلم والتي أيضاً من أعظم الأمور التي تفتح(115/1063)
أبواب العلم وكلام السلف في ذلك كثير وألّفوا فيه مؤلفات كثيرة فيما يتعلق بالعمل بالعلم.
الوصية الأخرى ما يتعلق بالإخلاص لله _عز وجل_ في جميع شؤونك وليس فقط في العلم أن يدرّب الإنسان نفسه على أن يخلص لله _عز وجل_ في كل شأنه هذا من أعظم الأمور التي تؤدي بزكاة النفس وتجعل الأعمال مقبولة عند الله _عز وجل_ وأيضاً تجعل للأقوال والأعمال أثراً يعني مما نلاحظ في أنفسنا وفي كثير من الناس للأسف أن أقوالنا وأعمالنا ليس لها أثر في الناس وليس لها أثر فيمن حولنا وهذا لعله والله أعلم من أعظم أسبابه ضعف الإخلاص لا أقول قلة الإخلاص، عفواً لا أقول فقد الإخلاص، ولكن أقول ضعف الإخلاص في كثير من الأعمال، إما أن نغفل عن قضية استحضار النية في العمل أو قد يشوبها ما يشوبها من الرياء أو العجب أو ما أشبه ذلك من أدواء القلوب.
فالإخلاص له أثر في قبول العمل عند الله _عز وجل_ وفي أثره في النفس بتزكيتها وفي أثره في الناس فيمن حوله له أثر في هذه الأمور الثلاثة، وهذه الأمور الثلاثة أو هذه المنافع الثلاث يغفل عنها أكثر الناس فأكثر الناس يظن أن الإخلاص فقط له علاقة بقبول العمل نعم هو له علاقة، بل هو أساسه في قبول العمل لكن له نفع آخر في جانبين مهمين وهو في تزكية النفس أن تزكو النفوس أن نلاحظ مثلاً كثير ممن يصلي ويقوم الليل ويصوم النهار ويطلب العلم لكن لا نجد زكاة هذا العمل في نفسه يعني لا تزكو نفسه وتصفو لله ويكون فيه من الخشية والإخبات وتعظيم الله وتعظيم أمره ونهيه كما نشاهده أو كما نسمع به عند سلف الأمة أو خيار الأمة من المتأخرين نجد لبعضهم زكاة النفس ظاهرة عليه في إخباته وخشوعه وخشيته لله _عز وجل_ وكل ذلك بسبب الإخلاص.
فينبغي للعبد أن يحذر من مسالك الهوى ومسلك الهوى يؤثر حتى على طالب العلم في مسألة الترجيح بين الأقوال والأخذ بالأقوال وحتى على العالم قد يؤثر عليه فليس فقط في حق الشاب أو المبتدئ
وأيضاً المنفعة الأخرى نفع الناس وانتفاعهم بأقواله وأعماله تجد بعض الناس على قلة عمله إلا أنه ما إن يُرى أو يُسمع قوله أو يُرى عمله إلا وتجد نفوذاً في النفوس وقوة في التأثير بشكل عجيب جداً، ولعل من أبرز الأمثلة المشاهدة أو التي أدركتموها شيخنا ابن باز _رحمه الله_ تجد يعني لما تسمع كلامه أو ترى بعض أفعاله تجد أنها أفعال يفعلها كثير من الناس وأقواله يحفظها كثير من الناس، لكن ما إن تستمع لها إلا تجد لها أثراً في قلبك وأثراً في نفسك، لقد استمعنا كثيراً من مواعظه _رحمه الله_ وكلامه لا يعدو على أن يفسر سورة العصر أو يقرأ أو يتكلم بكلام موجود في الأصول الثلاثة يكرره كثيراً _رحمه الله_ ويذكر كلاماً يحفظه صغار طلبة العلم، لكن سبحان الله هذا الكلام وهو يقوله أو يتلفظ به يستمع له الكبير والصغير العالم وطالب العلم وكأنما على رؤوسهم الطير، وهم يستمعون إليه أيضاً تجد له أثراً في نفوسهم وكأنهم يستمعون كلاماً الساعة عرفوه أو سمعوه مع أنه كلام حفظوه مراراً وتكراراً يعني ألقي على مسامعهم لكن لا شك أنه من آثار فيما نعلم ونحسبه والله حسيبه من آثار الإخلاص في ذلك الرجل.(115/1064)
فكلما كان الإنسان أقرب إلى الإخلاص إلى الله _عز وجل_ كلما كانت أقواله وأفعاله لها آثار في نفوس من حوله، بل حتى مجرد العمل تجده _رحمه الله_ وغيره أيضاً من أهل العلم مجرد أن تشاهد صلاته أو مجرد أن تشاهد مجلسه أو تحضر درسه إلا وتجد له أثراً في نفسك، فقط مجرد أن يتسوك بسواكه تجد له أثراً في نفسك، مجرد أن تشاهده حتى وهو يعمل أعمالاً بسيطة قد لا تكون من التعبد لكن تجد لها أثراً في نفسك فكيف بعبادته التي يؤديها أمامك أو تشاهده وهو يتعبد الله _عز وجل_ في صلاته في سجوده وركوعه تجد لها أثراً في نفسك فضلاً عن أخلاقياته وسلوكه بين الناس هذا موجود في هذا الشيخ _رحمه الله_ وفي غيره من أهل العلم وفي غيره من الصالحين فأقول: إن الإخلاص له أثر في قبول العبادة وله أثر في تزكية النفس وقربها من الله _عز وجل_ وإخباتها لله وله أثر أيضاً في إصلاح من حولك وتأثر من حولك.
أيضاً من الوصايا أهمية صلاح الظاهر والباطن والعناية بصلاح القلوب مما يُلحظ أيضاً على كثير منا أننا نعتني كثيراً بصلاح الظاهر، وهذا لا شك أنه مطلوب أن يصلح الإنسان من ظاهره وأن يستقيم بظاهره على السنة لكن أعظم من ذلك أن نعتني بصلاح الباطن، ونعني بصلاح الظاهر الذي يعتني به كثير من الناس يعني يعتني بثيابه ولحيته وطريقة ركوعه وطريقة تحريك أصبعه في الصلاة طريقة سجوده إلى آخر ذلك من أنواع السنن والواجبات التي هي ظاهرة للناس، لكن هناك من يصلح هذا الظاهر وهو أمر مطلوب ويغفل عن الباطن وهو صلاح القلوب وأعمال القلوب أعمال كثيرة وهي عظيمة والباطن إذا صلح صلح الظاهر، وأما الباطن إذا فسد فالظاهر لا قيمة له يصبح رياءً وسمعة أو يصبح لا نفع له ولا بركة فيه.
فعلى العبد أن يحسن ظاهره وباطنه ويستقيم بظاهره وباطنه على سنة النبي _صلى الله عليه وسلم_ فكما يحرص على أدق السنن أن يطبقها وتظهر على جوارحه فكذلك عليه أن يحرص على أن يصلح قلبه فيما يتعلق بمسائل المحبة والخوف والتوكل والرجاء والإخلاص لله _عز وجل_ والبعد عن الكِبْر والعُجب والحسد وما أشبه ذلك من أمراض القلوب فكل ما يتعلق بأعمال القلوب يحرص على إحسانها وإظهارها بالمظهر الحسن لله _عز وجل_ لأن الله هو الذي يطلع عليها بخلاف أعمال الظاهر فالله _عز وجل_ يراها ومطلع عليها وكذلك خَلقه يرونها لكن أعمال الباطن لا يراها إلا الله _عز وجل_ فلذلك من يحسنها ويصلحها إنما يصلحها لله _عز وجل_ لأنه لا يعلمها إلا الله _عز وجل_.
ثم إن صلاح الباطن يكفي معه قليل العمل، ولذلك أصحاب النبي _صلى الله عليه وسلم_ بإجماع العلماء أنهم ليسوا أكثر الناس تعبداً، بل وُجد في التابعين من أتباعهم من هو أكثر منهم صلاة وصياماً وأكثر منهم بكاءً مع القرآن وأكثر منهم جهاداً ولكن أولئك لا شك أنهم سبقوا العالمين ممن جاءوا بعدهم إلى جنات الله _عز وجل_ ولا شك أنهم أرفع الناس بعد الأنبياء درجة وإن كانوا أقل من غيرهم تعبداً أو عبادة، فمثلاً أبو بكر سيد أمة النبي _صلى الله عليه وسلم_ بعد نبيها هذا الرجل شهد له أصحاب النبي _صلى الله عليه وسلم_ أنه لم يكن أكثرهم صلاة ولا صياماً ولا قياماً(115/1065)
ولا جهاداً ومع ذلك سبق الأمة في الفضل وعدّوا ذلك كما عدّه ابن مسعود ما وقر في قلبه أي من أعمال القلوب.
فعمل القلب لا شك أنه يسبق به العبد كثيراً من أعمال الظاهر، بل يكفي مع عمل القلب إذا صلح يكفي معه العمل القليل ولذلك صلاة واحدة أو ركعتان يركعهما الإنسان مخلصاً فيهما لله _عز وجل_ خير من ألف ركعة يركعها بلا إخلاص وبلا خشوع وبلا إنابة إلى الله _عز وجل_ ولعل معنا حديث اليوم حديث عثمان _رضي الله عنه_ وفي آخره من توضأ نحو وضوئي هذا ثم صلى ركعتين لا يحدّث فيهما نفسه إلا غُفر له ما تقدم من ذنبه فلاحظ ركعتين تُغفر بها جميع الذنوب المتقدمة.
أيضاً ما يتعلق بهذه المسألة أو بوصايا طالب العلم سريرة طالب العلم مع ربه حتى يقوى على مواجهة الفتن وهذا ذكرناه قبل قليل فيما يتعلق بأعمال ما بعد رمضان.
كذلك اطراد الطالب مع العلم والعمل الاطراد مع العلم والعمل هذا أمر مهم، وهذا ملاحَظ أيضاً فينا كثيراً أو في كثير من طلاب العلم أنه مسألة أن يسير على سيرة واحدة ويستمر عليها مدة من الزمن هذا تكاد تجده قليلاً أو قد يكون مفقوداً إلا عند من شاء الله _عز وجل_ فمثلاً كثيراً ما تشاهد الشاب أو طالب العلم اليوم على طريقة أو على منهج أو على فكرة أو على كتاب أو على شيخ أو على أسلوب في طلب العلم ثم بعد سنة واحدة فقط تلتقي به وإذا كثير من برامجه قد تغيرت يعني نظرته فكره أعماله حتى طريقته في طلب العلم حتى الكتب التي يقرأها حتى مشايخه غيّر وبدّل فيهم فتجد الحقيقة قضية الاطراد والسير على منهج واحد لا أقول مفقودة لكنها قليلة جداً يعني القليل من نجده السنة والسنتين والعشر سنوات وهو على طريقة واحدة من سمته وعبادته وخشوعه وعلمه وطلبه للعلم وفكره وأسلوبه يعني الشباب أصبح عندهم نوع من يعني التغيير هذا أصبح عندهم شيئاً ألفته النفوس يعني كل يوم له منهج كل يوم له طريقة وحتى أنك أحياناً تلتقي ببعض الشباب تخشى عليه أن يكون انحرف بسبب كثرة هذا التنقل والتغيير، وهذه مسألة الحقيقة خطيرة.
وينبغي لطالب العلم أن ينتبه لها يعني من أحسن الأمور أن الإنسان أو طالب العلم يستقيم على حالة واحدة ويستمر عليها هذه الاستقامة على حالة واحدة هي أعظم أو من أعظم أسباب بلوغ الهدف الذي تصبو إليه وهو نيل درجات العلم والوصول إلى ما تصبو إليه من أن تنفع الأمة بعلمك أما المتنقل المتقطع هذا في الغالب لا يصل إلى هدفه الذي يرسمه والذي يريده غالباً مثل هؤلاء ينقطعون ولا يستمرون على ما هم عليه فلذلك من أعظم الأمور التي ينبغي لك أن تعتني بها أن تكون على استقامة واحدة وعلى طريقة واحدة ولا يعني هذا أن الإنسان إذا كان تكشّف له أنه كان أخطأ في أسلوب معيّن ألا يغيره ويستمر على ما هو عليه، لا نعني به ذلك لكن ما هو معقول أيضاً أن طالب العلم كل يوم له منهج وكل يوم له كتاب وكل يوم له أسلوب وكل يوم له فكر هذا الحقيقة يدل على تخبط يدل على أنه يمشي على هواه لو كان يمشي على بصيرة وعلى نور من الله وعلى سؤال أهل العلم وسؤال أهل الخبرة ممن سبقوه ما كان يحدث عنده هذا التنقل لكن لأنه كل يوم على مزاجه وهواه يغيّر من شاء من مشايخه ويغيّر من شاء من أفكاره ومنهجه وأسلوبه حتى سلوكه بدأ يغيّر فيه.(115/1066)
لا شك أن مثل هذا واضح أنه يسير على هواه ما يسير على بصيرة وعلى نور من الله _عز وجل_ فمسألة قضية الاطراد وقضية الاستقامة على منهج وعلى طريقة واحدة بحيث يعني تلتقي بالشخص من عشر سنوات أو عشرين سنة هذا هو فلان ما تغيّر إلا أنه ازداد علماً ازداد تقى ازداد ورعاً لا إشكال في هذا يدل على استقامته على البناء، أما والله أحياناً أنك تواجه إنساناً تتكلم معه وتشعر أنه هذا ما هو رفيقك الأول تغير منهجه تغيرت طريقته تغيرت أفكاره يمكن هذا من أعظم أسبابه كثرة الخوض في الفتن وبالأخص فيما يتعلق بالإنترنت ووسائل الإعلام كل يوم يسمع رأي، وكل يوم يسمع شبهة فتقلب رأسه وأيضاً بُعده عن أهل العلم، بُعده عن طلبة العلم، بُعده عن السؤال والتثبت هذا مما يجعله يتقلّب تختلط عليه الأمور.
الوصية ما قبل الأخيرة الهوى مسلك خطير واتباع الهوى لا شك أنه من أعظم البلايا التي يبتلى بها العبد أن يكون متبعاً لهواه ومسألة اتباع الهوى هذه ملاحظة الحقيقة في زماننا هذا كثيراً تجد كثيراً من الناس في اتخاذه لقراره أو في ترجيحه أو في أخذه لبعض الأمور أو سلوكه لبعض المسالك تجد يغلب عليها الهوى ما يغلب عليها اتباع ما جاء به النبي _صلى الله عليه وسلم_ أو الحرص على أن يتبع ما جاء به النبي _عليه الصلاة والسلام_، تجد يغلب فيها جانب من الهوى فبعض الشباب يأتي ويسترشد برأيك في مسألة من أخطر المسائل في قضايا العقيدة وقضايا المنهج، فتقول قال الله وقال الرسول _عليه الصلاة والسلام_ وهذا مسلك أهل العلم وهذا مسلك جمهور المسلمين وهذا وهذا ثم تفاجأ بأنه ينسف ما قلته له من الأدلة والبراهين والحجج ويقول لك بس لكن كذا، طيب لكن هذه من أين أتيت بها؟ من هواه فقط من الهوى ليس عن حجة أو برهان.
فمثلاً آخرهم قبل أيام جاءني أحد الشباب يناقش في بعض القضايا أو الحوادث الواقعة في هذا الزمن وتناقشه وتبين له بالأدلة خطورة ما هو عليه من مسلك أو خطورة ما هو عليه من أفكار ثم تفاجأ بأنه يقول: لكن، بس، وشاهدنا، ما تشاهد وسائل الإعلام، أنت إذن تمشي على هواك ما تمشي على بينة أو على برهان أنت ما جئت تسأل عن قال الله وقال رسوله يعني الهوى ينبغي للإنسان أن يتخلص منه وأن يأخذ بزمام نفسه ويقودها بقوة على صراط الله المستقيم فأصحاب النبي _صلى الله عليه وسلم_ كان من أعظم ما كانوا يحذّرون ويحذَرون منه مسألة اتباع الهوى، واتباع الهوى قد حذّر الله _عز وجل_ منها وحذّر منها النبي _صلى الله عليه وسلم_ لأنها من أعظم الطرق التي يؤدي بالإنسان إلى نار جهنم فاتباع الهوى والتعصب للهوى والمنافحة عنه والمجادلة بالباطل بالهوى كل هذه من أعظم الأمور التي تؤدي بالإنسان إلى الخلل وتؤدي به إلى الضلال والزلل والوقوع في الفتن والشبهات، وعمر _رضي الله عنه_ قَصصه مشهورة في ذلك فكان إذا تُليت عليه الآية أو قيل له قال رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ أحجمت نفسه وتوقف وعلم أنه الآن على مسلك خطير إذا تجاوز ولم يتبع هواه ولم يقل: لكن، وبس، ولكن، ويبدأ يورد عليك حججاً ليست بحجج وإنما هي شهوات وشبهات.
فينبغي للعبد أن يحذر من مسالك الهوى ومسلك الهوى يؤثر حتى على طالب العلم في مسألة الترجيح بين الأقوال والأخذ بالأقوال وحتى على العالم قد يؤثر عليه فليس(115/1067)
فقط في حق الشاب أو المبتدئ في طلب العلم فيعني الهوى ومسلك الهوى خطير حتى على كبار العلماء في أن يقعوا في الزلل، فكل إنسان على خطر في اتباعه للهوى.
أيضاً فيما يتعلق بالوصايا الفتوى وخطورة الجرأة عليها وخصوصاً في مثل هذه الأزمنة وخصوصاً أيضاً في القضايا الكبرى للأمة تجد كثيراً من الشباب بدؤوا يتجرؤون على الفتيا والوقوع فيها من غير ما يشعرون يعني بعض الناس مثلاً وأنت تناقشه أو تتكلم معه في مجلس واحد يصدر لك ثلاثة أو أربعة أو خمسة فتاوى هذه الفتاوى لو تُعرض على كبار أهل العلم لتوقفوا فيها وهو في مجلس واحد يقول لك فلان كافر ويجب أن يُقتل فلان أو يجب أن نقاتل أو يجب أن نفعل أو هذا ضلال أو أنت منحرف أو أنت مبتدع لاحظ عدة أوصاف هذه كل هذه الأوصاف فتاوى لكن بعض الناس ما يظن أنه أفتى لازم الفتوى عنده أن يقول هذا حلال أو هذا حرام، بينما أنت لما تقول هذا مبتدع هذا فاسق هذا ضال هذا حلال الدم هذا كافر هذه فتاوى ولو لم تصدرها برقم وتاريخ هي فتوى ما يلزم أنك تقول في بدايتها هذه فتوى أو أفتي بكذا هي فتوى أنت الآن توقّع عن رب العالمين بأن هذا كافر وهذا ضال وهذا منحرف، أو هذا يجب أن نفعل فيه كذا أو يصن جهة من الجهات بكذا أو يوجب على جهة من الجهات أن تفعل كذا أو يحكم في قضايا الجهاد أو قضايا التفكير أو قضايا الأمة الكبرى أو يبدّع في جهات معينة كل هذه فتاوى.
الإنسان ينبغي أن يحفظ لسانه عن أن يخوض فيما لا قِبَل له به وما لا حجة عنده فيه فيلقى الله _عز وجل_ ولا حجة له فالفتوى أمرها خطير ومن تجرأ عليها وأكثر من الخوض فيها حُرم نور العلم وحُرم بركة العلم وقد يكون هذا سبباً من وقوعه في الفتن فضلاً عن المسائل التي هي أقل من هذه القضايا الكبرى كالخوض في مسائل الفقه المعروفة فتجد يعني دائماً يخوض فيها الناس ويقعون في الفتيا وهم لا يشعرون.
آخر مسألة فيما يتعلق بوصايا طالب العلم فيما يتعلق بالشمولية في حياة طالب العلم وأعني بالشمولية أن يكون طالب العلم له حظ من كل شيء من أعمل البر والخير فإن جئنا في باب العلم فهو ميدانه الذي هو منطلق فيه ومتميز فيه عن غيره وحتى في العلم يكون عنده نوع من الشمولية وإن جئنا في الدعوة إلى الله _عز وجل_ له حظ فيها وإن ليس بالضرورة أن يتخصص فيها ويتفرغ لها لكن يكون لك حظ منها، كذلك في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يكون له حظ فيه وهكذا في سائر أعمال البر سواء الأعمال الخاصة بك من أنواع التعبد أو الأعمال المتعدي نفعها للناس يكون عند طالب العلم نوع من الشمولية أما الانغلاق والتقوقع على أمر معين كالتقوقع على طلب العلم لكن لا حظ في نصرة قضايا الأمة ولا حظ له في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولا حظ له في الدعوة إلى الله _عز وجل_ ولا حظ له في مشاركة الناس أعمال البر والإحسان والخير كإغاثة الملهوفين والقيام على الأرامل واليتامى ونحو ذلك.
لا شك أن هذا خطأ وخطر كبير؛ لأن الغالب على مثل هؤلاء أن يستديم انغلاقهم هذا وتقوقعهم هذا ثم لا يكون لهم نفع في الأمة في المستقبل يستلذون الخلوة والعزلة حتى يصبح أبد الدهر على هذه الحال إلى أن يلقى الله _عز وجل_ ثم لا يكون لعلمه ولا لأعماله وأقواله نفع في الأمة فتكون حجة عليه يوم القيامة وأعرف من طلبة العلم(115/1068)
ممن هم تقوقعوا مثل هذا التقوقع ولم يشاركوا الأمة في أفراحها وأتراحها ولم يشاركوا مجتمعهم بالدعوة إلى الله ولا الأمر بالمعروف ولا النهي عن المنكر استلذوا هذا التقوقع، إلى يومنا هذا لا يدري ما يدور في الدنيا ولا يعرف شيئاً وأكبر همه أن يبحث هذا الحديث ويقرأ في هذه المسألة فقط لكن من حواليه حتى أهل بيته ليسوا منتفعين به هذا لا خير فيه وإن حصّل كثيراً من العلوم وإن حفظ كثيراً من المسائل وإن حفظ كثيراً من الأحاديث هذا لا خير فيه لأن علمه إن لم يتدراكه الله برحمته حجة عليه يوم القيامة ماذا عملت بهذا العلم لم يأمر بمعروف ولم ينه عن منكر ولم يناصح جاراً ولم يدعُ إلى الله _عز وجل_ ولم يقم على شيء من أعمال البر بل حتى أهل بيته لم ينتفعوا بعلمه.
إذن ما فائدة مثل هذا وهذا من أعظم أسبابه أنهم تقوقعوا في بداية حياتهم لما نظرت في سيرة مثل هؤلاء من طلبة العلم أو من بعض أهل العلم وجدت أن من أعظم أسبابها أنهم كانوا في بداية طلب العلم متقوقعين لا يشعرون بمن حولهم ولا يشاركون من حولهم وأنا لا أعني بهذا أن طالب العلم يتفرغ للأعمال الخيرية ولأعمال الدعوة والأمر بالمعروف هذا غير مستطاع وليس هذا هو المقصود لكن أنا أقول ليكن لك حظ من هذه الأعمال ولو شيء يسير تشارك فيه ما بين فترة وأخرى بمعنى أنك لا تقوقع فقط على طلب العلم وتنسى الأمة وتنسى مجتمعك ومن حولك من الناس لا يكون لك معهم نصيب ولا مشاركة ولا شيء من ذلك فتستلذ مثل هذه الحالة ثم يُختم عليك فتصبح على هذه الحال إلى أن تلقى الله _عز وجل_ وهذا الأمر لا أتكلم فيه من فراغ أنا أشاهده وأعرف أشخاصاً مثل هؤلاء حتى أنك تأتي إليهم تريد منهم أن يشاركوا في بعض قضايا الأمة ما تجد عنده أدنى مشاركة بل ولا أدنى مشاعر تتحرك لواقع أمته ومجتمعه.
فنسأل الله _عز وجل_ أن ينفعنا بما نقول ونسمع، وهذه الوصايا هي غير مرتبة ولكن أحببت أن أقدّم بها بعد هذا التوقف وبالأخص بعد رمضان وبالأخص في مثل هذا الزمان الذي كما قلنا كثرت فيه الفتن وكثرت فيه الملهيات فنسأل الله _عز وجل_ أن يسلكنا جميعاً في طريق طاعته والاستقامة على هدي نبيه _صلى الله عليه وسلم_، والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد.
ـــــــــــــــــــ
جدل القيادة أم قيادة الجدل ؟
أحمد العساف
15/5/1426
ارسل تعليقك ...
تعليقات سابقة ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...(115/1069)
ثارت في الأسابيع السالفة مسألة قيادة المرأة للسيارة وكثر الحديث حولها ما بين مؤيد ومعارض ومتوقف ؛ ولازال السجال مستمراً في المجالس والمنتديات والصحف مع تتابع تصريحات المسؤولين بعبثية طرح هذه المسالة أصلاً .
ولست بصدد الكتابة عن صلب هذا الموضوع لكثرة ما خطته الأقلام بما يغني عن التكرار مع الدعاء الخالص لمن كتب فيه بأن يجعل الله الأجر نصيبهم وأن يوفقهم للحق والعدل دوماً . وعوضاً عن ذلك رأيت الكتابة عن موضوع معاكس لجدل القيادة وهو كيف نقود الجدل في الموضوعات التي سوف تطرح كثيراً وسيكون إيرادها واحدة تلو الأخرى تمالئاً من المفسدين على إشغالنا وسحبنا إلى حلبات وهمية أو حقيقية ليمرر من خلالها مشاريع الفساد وأجندة حزب الظلام ؛ وهم يمكرون والله فوقهم يسمع ويرى ويمكر بهم وهو خير الماكرين .
فكيف نقود الجدل ؟ للجواب أجتهد فأقول :
• الدعوات التي لا تتبنى بناء المفاهيم وترسيخها في النفوس يكون مصيرها الانكسار أمام الزوابع والأعاصير ، ولذا فلابد من جعل الرسالة الدعوية مشحونة بالقيم والمفاهيم مع تكرار ترسيخ هذه المفاهيم بعدة طرق وغير ما مناسبة . وهذا الموضوع – بناء المفاهيم – يحتاج إلى كتابة خاصة وعسى الله أن يوفق لها أحد عباده قريباً .
هذا ولا يزال الحق والباطل في سجال وتدافع حتى يرث الله الأرض ومن عليها ؛ وواجب في أعناقنا لاانفكاك منه حتى آخر رمق
• جرت العادة بتقسيم مواقف الناس تجاه القضايا إلى ثلاثة أصناف : موافق ومعارض ومحايد ؛ ومع منطقية هذا القسمة وسهولة التعامل معها إلا أنني أقترح الاستفادة من المنهج الإحصائي الذي يقسم الناس إلى خمسة أقسام : موافق جداً وموافق ومحايد ومعارض ومعارض جداً ؛ والفائدة من وراء هذا التقسيم المتوسع تنويع الرسالة الموجهة إلى كل قسم فما يطلب من الموافق جداً غير ما يطلب من الموافق وما يقال للمعارض جداً وعنه غير ما يقال للآخر وعنه .
• مَنْ يخدم الناس ويحسن إليهم يسهل عليه قيادة المجتمع وتوجيهه ؛ فالنفوس مفطورة على حب المحسن وطاعته ؛ ولذا فمع الأجر العظيم المترتب على نفع الناس يجب ألا نغفل أهمية تقديم الخدمات المختلفة وتلمس حاجات المجتمع وتلبيتها بما يتوافق مع رسالتنا السامية .
• لابد من استغلال المنابر المتاحة الاستغلال الأمثل لتوجيه الناس الذين يتعطشون للحقيقة ؛ ومن الاستغلال تجديد استخدام هذه المنابر والتنسيق بين القائمين عليها ، ومن الحكمة التوسع في البحث عن منابر أخرى تحسباً لأي عارض وما أغلق باب إلا فتح غيره لمن تفاءل ونظر .
• التواصل مع العلماء في دوائرهم الرسمية ومنازلهم ومساجدهم ومن خلال طلابهم ؛ وهذا التواصل يجب فيه الاستمرار وألا يكون حال النوازل فقط . وفائدة هذا العمل المبارك الحصول على تأييد العلماء والقضاة من خلال إصدار الفتاوى ونصيحة المسؤولين وترشيد الشباب وغير ذلك مما لا يخفى من بركة العلم وأهله .(115/1070)
• التواصل مع أصحاب القرار بالبرقيات وعن طريق العلماء والمقربين لهم من صالح المستشارين والأبناء والزوجات ؛ وينبغي في هذا التواصل مراعاة حال المسؤول ومكانته وبيان ما يعود من فوائد أو مضار عامة للمسألة المطروحة مع المقارنة والتوضيح .
• تحريك أصحاب الشأن لينطقوا بالحق المبين ؛ ففي قضية المرأة مثلاً ينبغي أن تكون الصالحات – وهن كثر – في مقدمة المحاربين ؛ وهكذا في كل شأن .
• إبراز المتخصصين في الموضوعات والمسائل المثارة ، لأن حديث المتخصصين يلقم حجاراً صلبة في أفواه عشاق الكلام الذي يجلب الغثيان والقيء .
• الحرص على توثيق المعلومات والأرقام بدراسات رزينة معتبرة ليكتب لها القبول ؛ ويجب الحذر من الاستشهاد بأي معلومة غير دقيقة .
• إعداد الملفات الجاهزة عن الموضوعات " الغاطسة " التي تغوص ثم تطفو من جديد ؛ وهدف الإعداد مواجهة أي طارئ وتسليح القريبين من الموضوع والمهتمين به بما يكون مفيداً لهم .
• صناعة الرموز العلمية والفكرية التي يأنس لها المجتمع وتثق بها الجماهير حتى يكونوا مرجعاً في المدلهمات والخطوب ؛ ونحن لا نزال نعيش في تراث الإمامين الرمزين الشيخ عبد العزيز بن باز والشيخ محمد بن عثيمين رحمهما الله غير أن المسائل تتجدد ولا بد من الرموز المعاصرة .
• خير وسيلة للدفاع الهجوم ؛ وإن حصون أهل الباطل ومنابرهم - بله أشخاصهم - مليئة بالعوار والنقائص وجدير بنا إشغالهم بالمطالبة الدائمة المستمرة المتجددة بالإصلاح والتصحيح من باب الاحتساب العام معذرة إلى الله ولعلهم يرجعون فنكسب منابر جديدة أو نأمن شرهم على الأقل .
هذا ولا يزال الحق والباطل في سجال وتدافع حتى يرث الله الأرض ومن عليها ؛ وواجب في أعناقنا لاانفكاك منه حتى آخر رمق أن نكون من حاملي المشاعل الذين ينيرون الدروب لهم وللسائرين حتى يقضي الله أمراً كان مفعولا
ـــــــــــــــــــ
حتى لا نضيع في الزحام
نيرة بنت محمد عبد العليم
12/5/1426
ارسل تعليقك ...
لا توجد تعليقات ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
كنت أنتظر مجيء دوري في إحدى العيادات،وكالعادة أخذت معي كتابا لأستفيد من الوقت الذي يضيع في الانتظار،كانت العيادة مزدحمة تضج بأصوات العاملين والمنتظرين،والذي جعل الجو حلوا رغم مرارته أصوات الأطفال ومناظرهم الجميلة،وقفت طفلة أمامي تنظر إليّ في دهشة وكأنها تستغرب الكتاب في(115/1071)
يدي،أخرجت من حقيبتي كتابا آخر يخص الأطفال،ومددت يدي لأعطيها إلا ورن في مسامعي صوت رجل وهو يناديها:يارا تعالي هنا ..
يارا..
ردد لساني ذلك الاسم الذي شوه براءة الطفولة والفطرة التي خلقت عليها ، رفعت بصري لأراها مرة أخرى فهي في الخامسة من عمرها ترتدي بنطلونا وبلوزة بخيطين علاقتين ،لأول وهلة ظننتها من بني الأصفر "أقصد الأجانب "..ولكن المرأة التي بصحبتها ترتدي حجابا لا يظهر منها شيئا والرجل الذي ناداها تبدوا عليه ملامح بني جلدتنا ..
بدأت أفكر..
هذا اللبس وذاك الاسم ..
الطريق بين هذا وهجر الإسلام وتغيير العقائد قصير، ولكن هل من بصير ؟
نعم. فنفس الإنسان الضعيفة المتطلبة إلى الكد والمعاناة من أجل العيش،الأمارة بالسوء حينا ، والتواقة إلى الدعة والكسل لأقل الأسباب حينا آخر بحاجة إلى ما يبث فيها التفاول والأمل..
فالشيطان لا يأتي إلا خطوة خطوة
والعاقل من يبصر خطواته
صدق رسول الهدى-صلى الله عليه وسلم- الذي قال:"ما من مولود إلا و يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه ........" [1].
فالوالدان لا يلقنان أولادهما دين اليهودية أو النصرانية أو المجوسية،بل يمهدان لهم الطريق وقد لا يشعران بذلك
قطع أفكاري صوت الممرضة وهي تنادي :يارا موهمد "محمد"..
أخذت أردد الاسم مرة أخرى :يارا محمد
ثم تذكرت أن زميلتي خديجة قد أنجبت قبل أيام بنتا واختار هي وزوجها لها اسم "تارا".
وأن صديقتي عائشة أنجبت ابنا سُمّي "دودي"،وعندها بنت من قبل كانت قد سمتها "ديانا".
وفي أحد الأيام اتصلت بي طالبة للتسجيل في المعهد فدونتُ اسمها لحجز المقعد "لارا".
وأن الطالبة التي كانت تزورني لأراجع حفظها أنجبت وسمت ابنتها "شادن".
لارا ..تارا ..ريل ..شادن ..أنجي ..مي ..هيا ..هلا..هيام..دنيا..رهام،ديانا أسماء كثيرة حلت في ساحتنا دون أن نكترث لها.
فللأسماء تأثير كبير وواضح على المسميات ، والمسميات تتأثر بالمعاني التي تحملها أسماؤها.
أذكر ذات يوم سألت ابنة صديقتي عن اسمها فقالت لي :اسمي زينب، ثم أسرعت وهي تقول: بنت الرسول-صلى الله عليه وسلم- كمان اسمها زينب وسأكون مثلها.
هكذا يكون تأثر المسمى بالاسم، وتأثير الاسم في المسمى.(115/1072)
ولا يخفى علينا وجود ارتباط بين الأسماء والمسميات كذلك الارتباط الذي بين الأرواح والأجسام،ويتجلى لنا ذلك بالتأمل في مسمى النبي-صلى الله عليه وسلم -.
فهو محمد في الأرض لكثرة ما فيه من الصفات المحمودة،وأحمد في السماء لشرف صفاته وفضلها على صفات غيره_صلى الله عليه وسلم تسليما كثيراً_.
كذلك لا يخفى علينا أنه ما إن نسمع اسما إلا ويبادر العقل في التفكير فيما يحمل ذلك الاسم من معان وحقائق ..
معان جميلة أو قبيحة..
وحقائق سامية مثيرة أو مخيفة أو سخيفة.
وقد كان النبي-صلى الله عليه وسلم- يأخذ المعاني من أسمائها في السفر والحضر والمنام واليقظة ،ومن أمثلة ذلك:
1. رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه في دار عقبة بن نافع،فأُتوا برُطب من رُطب ابن طاب،فأولها - صلى الله عليه وسلم- بمعاني الأسماء
رافع:بأن لهم الرفعة في الدنيا.
عقبة:بان لهم العاقبة في الآخرة.
رطب وطاب : بأن الدين الذي اختاره الله لهم قد ارطب وطاب. [2]
وأذكر هنا لطيفة أن لي زميلة اسمها مُحَال وهي إمرأة خيّرة وكلما رأتني نزلت عليّ بهالات من السلام والدعوات ، وفي أحد الأيام مازحتني وقالت لي :وراءك وراءك في كل مكان .
فقلت لها: مواعيد الزيارة في اليقظة فقط ،وممنوعة من الزيارة في المنام
قالت لي،سأزُورك ،سأزُورك في النوم أو اليقظة
قلت لها :أرجوك في النوم لا لئلا تستحيل أموري..فضَحِكَت
2. أنه - صلى الله عليه وسلم- مر في بعض غزواته بين جبلين فسأل عن اسميهما، فقالوا: فاضح ومخز، فعدل عنهما، ولم يجز بينهما.
وقد غير - صلى الله عليه وسلم-الأسماء ذات الأوصاف القبيحة ،أو الأسماء التي تحمل معنى أجنبيا،أو التي تحمل مدحا قد يورث في قلب صاحبه العجب ،ومن أمثلة ذلك:
1. واسم حرب إلى سلم .[رواه أبو داود، 4956]
2. واسم شهاب إلى هشام.[ابن حبان،5823].
3. وأرض غدرة إلى خضرة.[ابن حبان،5821].
4. واسم شعب الضلالة إلى شعب الهدى.[رواه أبو داود،4956].
ولما أراد تغيير اسم "الحزن" إلى "سهل" لم يرض جد سعيد بن المسيب -رضي الله عنهم - بذلك فتركه -صلى الله عليه وسلم -وشأنه ،ولكن يقول سعيد فما زالت فينا حزونة بعد.[البخاري ،5836، ابن حبان، 5822].
ولما قدم -صلى الله عليه وسلم- المدينة وكان اسمها يثرب فغيره بطيبة ،فقال -صلى الله عليه وسلم-:[إن الله سمى المدينة طابة ".[رواه مسلم 1385].
هلا نظرنا إلى روعة اختيار الأسماء.. زرع، رشد، هدى، سلم.. إنها تبعث في النفس الراحة والسكينة وتولد الهمة وتقوي العزيمة(115/1073)
نعم. فنفس الإنسان الضعيفة المتطلبة إلى الكد والمعاناة من أجل العيش،الأمارة بالسوء حينا ، والتواقة إلى الدعة والكسل لأقل الأسباب حينا آخر بحاجة إلى ما يبث فيها التفاؤل والأمل..
وبحاجة إلى التشجيع والتقوية
وبحاجة إلى شد الهمم وبناء العزائم
ولذلك كان يُعجب النبي -صلى الله عليه وسلم- الاسم الحسن،فعن ابن عباس -رضي الله عنهما- كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يتفاءل ،ويعجبه الاسم الحسن" [3] .
أمر النبي-صلى الله عليه وسلم- أمته بتحسين الأسماء ،وأخبر أنهم يُدعون يوم القيامة بها، كما جاء في الحديث الشريف عن أبى الدرداء -رضي الله عنه- قال:قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: "إنكم تدعون يوم القيامة بأسمائكم وأسماء آبائكم ،فأَحسنوا أسماءكم" [5].
وندب إلى التسمية بأسماء الأنبياء والصالحين
فقد جاء في الحديث الشريف عن أبي وهب الجشمي –رضي الله عنه-وكانت له صحبة-قال: قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: "تسموا بأسماء الأنبياء ،وأحب الأسماء إلى الله عبد الله وعبدالرحمن، وأصدقها حارث وهمام،وأقبحها حرب ومرة" [6].
وذلك للاقتداء بأعمالهم،والتأثر بأوصافهم،والتخلق بأخلاقهم،والتحلق في أحوالهم ،فهم أهل الصلاح والتقوى ،أقوياء في العزائم و أشداء في الهمم، ذللوا كل الصعاب في طريقهم إلى الله.
وكل مسلم سائر إلى الله،
"كل الناس يغدوا فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها" [رواه مسلم ج1،رقم 223].
ولُقب الصحابة والتابعين بألقاب البطولة،فذاك أبو بكر الصديق،وعمر الفاروق ، و حمزة سيد الشهداء،وجعفر الطيار ، وغيرهم _رضي الله عنهم وأرضاهم_ .
إن حسن اختيار الاسم مسؤولية الوالدين،ومن حقوق الطفل ليعيش حياة كرامة،ويفكر تفكير المعالي،ويعيش وهو يقلب فكره في سير العظماء،ويعلق قلبه بأعمال النجباء،فيقتدي بهديهم،ويسير على نهجهم.
وقد أنجبت إحدى الأخوات الفاضلات ولدا، وسمته نور الدين، ولما سُئلت عن السبب، قالت: ليكون مثل نور الدين زنكي ، واعترض الجميع وعرضوا عليها أن تسمي ابنها اسما جديدا،ولا تسميه اسما قديما .
ولكنها ردت بقولها: ولكن القدماء هم الذين بنوا مجد الأمة.
عندما تنادي الملائكة على رؤوس الأشهاد أسماءنا يا ترى ماذا تكون مشاعرنا إذا سمعناها تقول لنا :
يارا تارا لارا أنجي ديانا
أو تقول لنا :
خديجة حفصة عائشة حمنة زينب فاطمة(115/1074)
ويا ترى من أي الحزبين نكون ،حزب الله ورسوله الذين أحبوا الله ورسوله وأحيوا كتاب الله وسنته،أم حزب "المرء مع من أحب " ؟
اللهم اهد آباءنا ليحسنوا أسماءنا
واجعلنا من الذين يدعون يوم القيامة بأحسن الأسماء وأحبها.
_______________
[1] رواه البخاري،ج1،[1292].
[2] رواه مسلم،رقم :[2270].
[3] رواه بن حبان في صحيحه،ج13/ ص140.
[4] رواه ابن حبان في صحيحه، ج13،رقم:[5826].
[5] رواه أحمد في مسنده ،ج5،رقم:[21739]،و أبو داود،ج4،رقم [4948].
[6] رواه أبو داود،ج 4،رقم: [4950].
ـــــــــــــــــــ
تأملات في "السيارة"
أحمد بن عبد المحسن العساف
5/5/1426
ارسل تعليقك ...
تعليقات سابقة ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
السيارة من المخترعات الحديثة التي فتح الله بها على الإنسان المعاصر؛ وتختلف نظرة الناس للسيارة، فالأطفال يرونها وسيلة للمتعة، وتسيطر السيارات على أحلام المراهقين واهتمامهم فإذا ما ظفروا بها اتخذوها دمية ولعبة يلقون عليها الحتف ويؤذون بها الخلق، أما الراشدون فيرونها نعمة قربت المسافات وحفظت الأوقات وأعانت على الوصول للمآرب؛ وفئام من مرضى القلوب يرونها فخاً مناسباً ومدخلاً لتخريب المرأة في بعض البلاد وكأنه لم يبق من هم النساء إلا قيادة السيارة.
وقد نظرت في السيارة فوجدت عبراً ودروساً وحكماً منها:
• لا يسمح لأحد بقيادة السيارة قبل أن يتدرب عليها ويتعلم قوانين المرور ثم يحصل على رخصة قيادة؛ فعجبت ممن هجموا على شرع الله وكسروا باب الفتوى بلا علم ولا إذن أشياخ الفنون والعلوم؛ فنتج من هذه الهمجية التي فقدت المنهجية السائق المتهور "الغلاة" والسائق الأخرق "الجفاة".
• قبل قيادة السيارة لابد من تهيئتها حتى تقطع الطريق بسلام وتبلغ الغاية بلا توان، غير أن بعض الناس لا يعي هذه القاعدة فيروم الوصول بلا أسباب ويرفض نظرية " النفس الطويل " ويتكئ على حسن المقصد وصفاء السريرة؛ وكم شهدت الميادين الكبرى تحطم أفخم السيارات وموت من بداخلها دون أن يستفيدوا من جودة الصنعة وقوة المحرك!(115/1075)
• سائق السيارة لا يقف في منتصف الطريق أبداً؛ وكذا الذين يملكون رؤية منهجية مطردة فيقبلون ما وافقها ويردون ما خالفها مبتعدين عن التميع وأنصاف الحلول
• من يقود السيارة يراقب خزان الوقود ويتأكد من صلاحية إطاراتها، وهكذا من يلج أمراً أو يهم بشأن لابد أن يتأكد من أهليته لذلك وامتلاكه عدة هذا الشأن ومتطلباته.
• سائق السيارة لا يقف في منتصف الطريق أبداً؛ وكذا الذين يملكون رؤية منهجية مطردة فيقبلون ما وافقها ويردون ما خالفها مبتعدين عن التميع وأنصاف الحلول.
• ولقائد السيارة هدف يسعى لبلوغه دون التفات لمن وراءه إلا من خلال مرآة يرى الناس بها ولا يرونه ، وأصحاب الهمم العالية والرؤى العميقة والهم الكبير يمضون في طريقهم راشدين من غير اعتبار لمرجف أو مخذل أو جبان.
• وإذا رغب السائق في الانعطاف لزمه تنبيه الآخرين بإشارة حتى لا يصطدم بغيره ويكون الحق للآخر؛ والواجب على من يغير رأياً له في مسألة مهمة أو عامة أن يناقش العارفين قبل أن يعلن رأيه لعله أن يكون غير مصيب في التغيير فتنفعه الإشارة!
• والحاذق الماهر يراعي السيارات الأخرى ويحترم مسارها وحقها في الطريق؛ وبعض قومنا يتصرف وكأنه الوحيد في الدنيا فلا يراعي باقي السائرين معه مما يجعلهم ناقمين عليه وقد يتمالؤون فيضيقون عليه الطريق حتى لا يجد مسلكاً ولا مخرجاً.
• وما من سيارة في الدنيا إلا وتحتاج لإعادة ملء الوقود وتغيير الزيوت والتنظيف المستمر وفحص المحرك وكل ما من شأنه الإبقاء على المركبة سليمة خادمة صاحبها؛ ومن المدهش أن البعض لا يسعى في تجديد معارفه ومراجعة آرائه وفحص مواقفه وتنويع ثقافته وكأنه النموذج المثالي بعد رفع النبوة.
• وكما يسعد المالك بتسجيل سيارة فخمة باسمه ولا يفرح بتسجيل أخرى بالية عليه؛ فكذلك يجب على المفكرين والكتاب والأدباء والساسة أن يسعوا لنسبة الحسن إلى فكرهم وأقلامهم وقراراتهم ونبذ القبيح المشين عنهم؛ لأن التاريخ يروي ولا يجامل.
• ولا نزال في عالم الفخامة؛ فالسيارات الفارهة دليل على ثراء أصحابها وارتفاع قدرهم، وهكذا الفكر السامي يشير إلى نباهة أهله ويبقى الوضيع أسير الأفكار التافهة.
• والسيارات الفخمة تأبى مسابقة السيارات البالية؛ والعلماء والمخلصون لا يجارون أهل الأهواء ولا ينساقون لخدعهم وأباطيلهم؛ فمن رأي سيارة بنصف مليون تسابق أخرى لا قيمة لها؟
• وتجديد السيارة مطلب خاصة مع كثرة الاستخدام؛ لكننا نشمئز من أشيب يركب سيارة سباق أو كشف ولا نصدق أن مراهقاً يمتطي الفخمة الرزينة إلا أن يشينها بلهوه وعبثه.
• وكما تحتاج السيارة للصيانة بعرضها على الفنيين؛ فكذلك النفس تحتاج إلى عرض على العلماء ليصححوا الخطأ وعلى المربين ليقوموا السلوك وعلى الزهاد ليرققوا القلوب؛ ومن يعتني بسيارته يذهب إلى وكالتها؛ ومن يعتني بنفسه يذهب بها إلى أعلم الناس بخالقها _سبحانه_؛ ولله المثل الأعلى.(115/1076)
• وللسيارة علامات تنبي عن الخطر كنفاد الوقود أو ارتفاع الحرارة أو فراغ الشاحن، وينبغي لكل واحد منا أن يتخذ لنفسه من نفسه مؤشرات الخطر ونذر السقوط لئلا يقع ولات حين مندم.
• وينبغي على قائد السيارة أن يستفيد من الأنوار والمرايا وأن يراعي ناقل السرعة ويلاءم بينه وبين الدفع والكبح؛ وذات الأمر يجب على من يقود أمراً بأن يستفيد من ذوي الخبرة والشأن وألا ينفرد بالرأي كي لا يقع في حادث تصادم مريع!
• وحين تنتهي صلاحية إطارات السيارات يبحث مالكها عن بديل من نفس المادة الأصلية لها ويستحيل أن يطلب إطارات خشبية أو حديدية أو حتى ذهبية ولو فعل لما تحركت سيارته شبراً، ولذا فليت الذين يبحثون عن نماذج النجاح في التعليم والإصلاح العام ألا ينقلوا لمجتمعنا المسلم تجارب مجتمعات تخالفنا في كل شيء عدا الأصل البشري إلا ما كان من هذه النماذج متوافقاً مع بنيتنا الثقافية وثوابتنا الشرعية لأننا حينها فقط سوف نتحرك.
وأشير في الختام إلى أن هذه الوقفات تأملات مجردة فلا أقصد بها عين إنسان أبداً منعاً لأي تأويل فاسد لها؛ خاصة مع كثرة من يفسر المقاصد ويغوص في النوايا ثم لا تراه إلا مشنعاً على غيره بهذه النقيصة وهي به ألصق
ـــــــــــــــــــ
تقويم الذات (بين المدح والذم)
خالد روشه
28/4/1426
ارسل تعليقك ...
تعليقات سابقة ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
أن يقدر الناس قدرك من العلم أو المهارة أو الأثر الدال عليك فذاك أمر متعارف عليه.. أما أن تقدر نفسك أو تقيمها أو تحدد قدرها سواء في مواطن الحاجة إلى ذلك أو عدمه فذاك الأمر الصعب، وهو المستنكر عند كثير من مستقبلي الرسالة الدعوية أو الموظفين فيها..
فقد يضطر الداعية فرداً كان أو مسؤولاً إلى الحديث عن نفسه مدحاً أو ذماً، ويتباين حجم هذا الحديث من شخص لآخر كما يختلف خفة وجنوحاً، وتختلف الدوافع له..
فقد يتحول تقييم الذات من التواضع الملازم لنقد الشخص لنفسه إلي التكلف، ومن المدح التعريفي إلي الغرور المذموم وتتباين استجابة الآخرين كذلك لكل من المدح والذم معا بين مصدق ومكذب، أو بين راض مشارك أو رافض معارض.
ومن جهة أخري قد يلجأ الداعية المربي أو المعلم لتبيان قدر نفسه بالحق بمقدار الخير الذي عنده، ووفق موازين شرعية صحيحة ولكن قصور الفهم عند غيره يؤدي بهم إلى نقده وتجريمه..
هل أذم نفسي على الملأ؟!!(115/1077)
أن يقدر الناس قدرك من العلم أو المهارة أو الأثر الدال عليك فذاك أمر متعارف عليه.. أما أن تقدر نفسك أو تقيمها أو تحدد قدرها سواء في مواطن الحاجة إلى ذلك أو عدمه فذاك الأمر الصعب
روى البخاري ومسلم قول النبي _صلى الله عليه وسلم_: " لا يقولن أحدكم خبثت نفسي ولكن ليقل لقست نفسي"
يقول الإمام ابن حجر في شرحه للحديث: " إن المراد طلب الخير حتى بالفأل الحق ويضيف الخير إلى نفسه ولو بنسبة ما، ويدفع الشر عن نفسه ما أمكن، ويقطع الوصلة بينه وبين أهل الشر حتى في الألفاظ المشتركة ويلحق بهذا أن الضعيف إذا سئل عن حاله لا يقول: لست بطيب، بل يقول: ضعيف " (1)
مما يدل علي كراهية مثل تلك الأقوال أمام الناس وأنها ليست من التواضع وإن كان صاحبها صادقاً لما في ذلك من أثر تربوي سيئ على النفس القائلة والنفس السامعة.. كمحاولة إظهار فضل النفس وتواضعها فالأمر أقبح وأسوأ وهو من الرياء المبطن والتكلف المذموم..
يقول الحسن: " ذم الرجل نفسه في العلانية، مدح لها في السر" ويقول: " من أظهر عيب نفسه فقد زكاها "
ـ وقد يحصل أحياناً أن ينقد المرء نفسه حتى ينسحب من تكليف أو نتيجة ضعف ثقة بالنفس.. أما إذا أراد الإنسان معاتبة نفسه ورد كيد الشيطان عنه ومحاسبة ذاته فهذا كله أمر حسن، ولكن بشرط أن يفعله بينه وبين ربه لا أمام الناس وإلا تحول إلى نوع من الغرور..(2)
بين المحاسبة وذم النفس:
(إن محاسبة النفس – وهي التمييز بين ماله وما عليه – هي الأساس الأول للتوبة، بل يصح أن نقول: إن التوبة واقعة بين محاسبتين، قبلها تقتضي وجوبها وبعدها تقتضي حفظها قال الله –تعالى-: " يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد " فأمر _سبحانه_ أن ينظر المرء إلى ما قدم لغد، وهذا يقتضي محاسبتها على ذلك.
وقال عمر: " حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ".. وقال الحسن " المؤمن قوام على نفسه يحاسبها ") (3)
ومن مقتضيات المحاسبة الشرعية توبيخ النفس ومعاتبتها وذمها لتقويمها فالنقد للنفس والمعاتبة في الخلوات هو المطلوب ويزداد عز المؤمن وتطمئن نفسه كلما رآها مقصرة واستصغر عمله أمام ربه وبعض الناس يخلط بين المحاسبة – التي تقتضي ذم النفس سرا – وبين الحديث عن نفسه وذمها علنا وذكر عيوبها أمام الناس فيظن أن ذكره لعيوب نفسه ومعاصيها وتقصيرها من الدين والأمر ليس كذلك فإن ذكر الذنوب والمعاصي ومذام النفس لا يصلح إلا في إطار ضيق للغاية له محدداته التي سنحاول تبيانها
مديح النفس.. بين العجب والنصح للمسلمين:
أما مدح الإنسان نفسه فالأصل فيه عدم الجواز: قال _تعالى_: " فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى " وهذا سواء كان بينه وبين نفسه أو بينه وبين الناس، بل إن الذاتية(115/1078)
و كثرة مدح النفس تولد الأمراض القلبية الكثيرة كحب الإمارة والرئاسة والكبر والغرور وحسد الغير.
ولكن قد يستثنى من هذا الأصل في عدم جواز مدح النفس حالات يحددها عمل المصلحة الشرعية:
قال النووي _رحمه الله_: اعلم أن ذكر محاسن نفسه ضربان: مذموم ومحبوب... فالمذموم أن يذكره للافتخار وإظهار الارتفاع والتميز على الأقران وشبه ذلك، والمحبوب: أن يكون فيه مصلحة دينية. (4)
وقال ابن حجر في شرحه تعليقا على حديث النبي _صلى الله عليه وسلم_: " أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب " أخرجاه في الصحيحين ": وفيه جواز الانتساب إلى الآباء ولو ماتوا في الجاهلية وفيه شهرة الرئيس نفسه في الحرب مبالغة في الشجاعة وعدم المبالاة بالعدو وقد مدح عثمان نفسه في وقت الحاجة.. حيث قال محاججاً عن نفسه: ألستم تعلمون أن رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ قال: من حفر بئر رومة فله الجنة فحفرتها ألستم تعلمون أنه قال: من جهز جيش العسرة فله الجنة فجهزتها.
قال ابن حجر تعليقاً على هذا الحديث: وفيه جواز تحدث الرجل بما فيه عند الاحتياج إلى ذلك لدفع مضرة أو تحصيل منفعة، وإنما يكره ذلك عند المفاخرة والمكاثرة والعجب. (5)
كما روى البخاري عن ابن مسعود أنه قال: " والله الذي لا إله غيره ما أنزلت سورة من كتاب الله إلا أنا أعلم أين أنزلت ولا أنزلت آية من كتاب الله إلا أنا أعلم فيمن نزلت ولو أعلم أحداً أعلم منى بكتاب الله تبلغه الإبل لركبت إليه "
وكذا قول الله _تعالى_: "اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ" (يوسف: من الآية55) قال القرطبي: " دلت الآية على أنه يجوز للإنسان أن يصف نفسه بما فيه من علم وفضل"(6)
قال ابن القيم: " فمن أخبر عن نفسه بمثل ذلك ليكثر به من يحبه الله ورسوله من الخير فهو محمود وهذا غير من أخبر بذلك ليتكثر بذلك عند الناس ويتعظم وهذا ما يجازيه الله بمقت الناس والصغر في عيونهم والأول يكبره ويكثره في قلوبهم وعيونهم وإنما الأعمال بالنيات، وكذلك إذا أثنى الرجل على نفسه ليخلص بذلك من مظلمة وشر أو ليستوفي بذلك مقالة يحتاج فيها إلى التعريف بحاله أو ليقطع عنه أطماع السفلة فيه أو عند خطبته إلى من لا يعرف حاله " (7)
أحوال جواز تقديم النفس بميزاتها وذكر محاسنها أمام الناس:
وقد حاول بعض العلماء والباحثين حصر المواطن والأحوال التي يجوز فيها تقديم الإنسان نفسه بمحاسنها ومميزاتها للآخرين، وهذه بعض منها:
1- الدفاع عن النفس أو إظهار الصواب في مظلمة متنازع عليها.
2- تعريف الإنسان بنفسه عند الإقبال على عمل أو مهمة تحتاج الثقة فيه، وتتطلب وثوق العاملين معه فيه.
3- في مواطن يكون عز الإسلام فيها ذكره لميزاته.
4- الانتصاب كمعلم وقدوة(115/1079)
5- عندما لا يكون هناك من يصلح لمهمة دعوية أو شرعية وهو يعلم من نفسه إقامة الدين فيها.
هذه بعض الأحوال التي يجوز فيها مدح النفس.
التوجه التربوي لتقويم الذات.. هدفه ومحدداته:
تتنازع النفس البشرية تنازعات مختلفة تجعلها أكثر ما تكون اهتماماً بحكم الناس عليها أو رأى الناس فيها، ولذلك حذر الشرع من مراءاة الناس ومن العمل بغية مدحهم له بل سماه النبي _صلى الله عليه وسلم_: " الشرك الخفي " وقال: " إنه أخفى من دبيب النمل " أخرجه أحمد , وفى الصحيحين عن جندب بن عبد الله قول النبي _صلى الله عليه وسلم_ " من سمع سمع الله به ومن يراء راء الله به "..
فأكثر الناس يحبون تجميل أنفسهم أمام بعضهم وذكر محاسنهم والمبالغة فيها وإنكار مساويهم وغض الطرف عنها..
وإنما يهدف حديثنا عن تقويم الذات عن وضع الأطر الشرعية والتربوية للاستفادة بالمباح الجائز منها والممنوع المرغوب عنه منها..
والأمر في ذلك محدد بمحددات شرعية ذكرنا بعضها، كما أنه مؤطر بأطر تربوية لابد من تحديدها..
أولاً: ينبغي تربية المؤمن على استواء مدح الناس وذمهم عنده، وألا يرتجى من الناس ثواباً، وأن يكون عمله كله لله وألا يزيد إتقاناً في عمله بمدحهم له ولا يقصر فيه بذمهم له أو عدم التفاتهم له، والحق أن هذه الصفة يفتقدها كثير من الشباب المسلم الذي ربط عمله وإنجازه بشكر الناس أو عيبهم له فقعد عن التقدم وكسل عن التطور.
ثانياً: القائد في الإسلام لا يولى مسؤولية لأحد رغب فيها ولا سألها ولا تاقت نفسه إليها، بل على العكس من ذلك (إنا لا نوليها من سألها).. ذلك إن حب الرئاسة والإمارة من مفسدات النفس ومهلكات الأخلاق بل في الحديث الثابت قول النبي _صلى الله عليه وسلم_: " ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه "
ثالثا: قد يقبل المربي من متعلميه بعض المواقف والأقوال مثل (أن يبدي أحدهم أنه أعلم الناس بالبلد الفلاني أو بمنطقة كذا أو أنه أعلم الناس بالقوم المعينين أو بالحدث المعين أو بالشخصية الفلانية أو مثال ذلك).
وقد يرى المرء من فعل العلماء السابقين وقولهم ما يبدو منه مراح آخر في ذلك الإطار، فمن ذلك ما كتبه إمام الحرمين يصف كتابه (النظامي) بقوله: قد تقدم الكتاب محتوياً على عجب العجاب ومنطوياً على لب الألباب أحدوثة على كر العصر وغرة على جبهة الدهر.....إلى آخر كلامه.
ومن ذلك ما كتبه السيوطي فى مقدمة الأشباه والنظائر " وإذا تأملت كتابي هذا علمت أنه نخبة عمر وزبدة دهر حوى على المباحث المهمات وأعان على نزول الملمات وأنار مشكلات المسائل المدلهمات...إلى آخر كلامه
والحديث يطول في سياق ذلك ومقصودنا البيان والإعلام دون الإسهاب والإطناب والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل..
___________________(115/1080)
(1) فتح الباري – ابن حجر العسقلاني - 10\564
(2) تقويم الذات – عادل الشويخ- ص9 وما بعدها
(3) مدارج السالكين – ابن القيم – 1\115
(4) الأذكار للنووي 238
(5) فتح الباري 5\408
(6) القرطبي تفسير سورة يوسف
(7) مفتاح دار السعادة- ابن القيم – 1\139
ـــــــــــــــــــ
عندما تنهار الجهود على ورقة الاختبار!!
مريم أحمد الأحيدب
25/4/1426
ارسل تعليقك ...
لا توجد تعليقات ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
عندما ندقّ أجراس الإنذار معلنين بداية الاختبار أعود بذاكرتي للوراء.. عندما كنت طالبة، كنا نستنفذ الطاقات، ونكثف الجهود، ونختزل الأوقات لأجل إعطاء هذا الحدث جلّ وقتنا حتى وإن كان على حساب نومنا وأكلنا وشربنا.
وكل ذلك يعكسه ما نحصّله من درجات، وما نناله من امتيازات، فيقطف منا المجدّ ثمرته على قدر اجتهاده وتعبه.. نعم كذا كنا.
واليوم نجد البون الشاسع والفارق الكبير بين أجيال اليوم وأجيال الأمس.. فالمعلمة تدخل الصف شارحةً مادتها بكل اقتدار، ملمة بما استجدّ من طرق تدريس، مدعمة درسها بالوسائل، حريصة على التماس الجانب النفسي للطالبات، مراعية الفروق الفردية، وما أن يحين موعد الاختبار تكون المعلمة قد قلبت الكتاب مع الطالبات رأساً على عقب مراجعةً لدروسٍ سابقة، وشرحاً لمسائل مبهمة، واختصاراً لمواضيع مفصلة، ثم تأتي الأسئلة مقننة حسب الطلب، من كل بستان زهرة.. ولأن نفسية الطالبة في القمة لذلك يراعى خلال وضع الأسئلة وضوح الخط، وجودة التصوير، وقلّة المطالب، وتنوع الأسئلة الموضوعية، و..، و.. ثم ماذا!!
إن مقياس الاختبارات اليوم لم يعد راجح الكفة.. فلم نعد نراه يقيس المستوى العقلي والجهد المبذول بصدق كما كان يقيسه بالأمس.. لم يا ترى؟!!!.. ما هو الفرق بين جيلنا وجيلهم؟!!!
عند التصحيح نرى العجب العجاب.. فالإجابات ركيكة ومتآكلة؛ عجز في التعبير، وقلة في التركيز، تكاد الطالبة لا تفقه ما تكتب، فالأجوبة أشبه ما تكون بالخربشة، نتأمل المرحلة الدراسية التي وصلت إليها الطالبة فنزداد تعجباً..(115/1081)
أين أثر التعليم على الطالبة طيلة تلكم السنوات؟!!!.. لم نعد نرى التميز الذي كنا نلمسه من قبل.. بل إننا أصبحنا نلحظ تدني مستويات التفكير، وتقلّص نسب الذكاء لدى الطالبات جيلاًُ بعد جيل.. وهذا ما أقلقنا حقيقة..
إن التجديد في العطاء أمر ضروري، بل هو المحور الأساسي في العملية التربوية.. وكلنا يسعى إلى رفع مستوى التعليم بشتى الوسائل الممكنة.. ولكن ما أردت إيضاحه والإسهاب في بيانه هو أن مقياس الاختبارات اليوم لم يعد راجح الكفة.. فلم نعد نراه يقيس المستوى العقلي والجهد المبذول بصدق كما كان يقيسه بالأمس.. لم يا ترى؟!!!.. ما هو الفرق بين جيلنا وجيلهم؟!!!.
- المناهج هي المناهج.. بل ربما طوّرت وحسّنت.
- المعلمة.. لا يشك عاقل.. بل لا يختلف اثنان على أن التعليم في وقتنا صار كثير التبعات، وأن المعلم صار متعدد الالتزامات، ودرجة الرقابة شُدّدت عليه أكثر من ذي قبل، فبذل المعلم بالتالي تضاعف، وعطاؤه ازداد..
- الطالبة.. طالبة اليوم لم تعاني ما عانته طالبة الأمس.. طالبة الأمس ربة بيت صغيرة إن لم تكن زوجة في بعض الأحيان.. طالبة الأمس واجهت شظفاً في العيش وقسوة في الظروف بينما طالبة اليوم تعيش جواً من الرفاهية ليس له مثيل، بل إن الفراغ لديها أضحى مشكلةً في حد ذاته، الإمكانات المادية متاحة.. لا منغصات.. لا مسؤوليات.
- الوالدان.. بالأمس يندر أن تجد أمّاً قارئة فضلاً أن تكون متعلمة، بينما في هذا الجيل تكاد تنعدم شريحة الأمهات الأميّات.. فالحال يدلّ على ازدياد نسبة الوعي داخل البيوت.. فطالبة اليوم لن تقف حائرة ولن تشعر بالإحباط كما شعرت طالبة الأمس.. فكلّ مشكلة لديها ستجد لها حل.. فالأب متعلم.. والأم متعلمة.
إذن.. أين تكمن المشكلة؟!!.. وأين يوجد الخلل؟!!!
على الرغم من هذه الأجواء المشجعة على العلم والتعليم نجد الهبوط الشديد في التحصيل، والتدني الهائل في القدرات العقلية.. وبعد تفكيرٍ و تمحيص، وبحثٍ و تنقيب عن أسباب هذه المعضلة، وجدنا أن أصابع الاتهام بدأت تتوجه أولاً وقبل كل شيء إلى المؤسسة التربوية الأولى في حياة الطالبة، والتي تعدّ أقوى مؤسسة تربوية على الإطلاق..[ الأسرة ].. فنجدها تُعامل على أنها طفلة، تكبر وتبلغ ويشتدّ عودها وهي لا تزال في نظر والديها طفلة، لا توكل إليها مسؤولية، ولا تكلّف بعمل، محاصرة بالدلال، محاطة بالرفاهية، فقل إنتاجها العملي وهذا بدوره أثر تأثيراً بالغاً على نتاجها العقلي وإنجازها العلمي، لذلك نراها - وهذا أمر ملموس – تضيق ذرعاً إذا كثرت عليها الدروس، و تكتئب إذا زادت عليها الضغوط التي تعد طبيعية لمن هم في مثل سنها.. لماذا؟!!
لأنها واجهت ما خالف طبيعتها، وغيّر نظام حياتها التي اعتادت عليها أو بمعنى أصحّ عوّدت عليه..
ثانياً: تقليص أهمية العلم.. فنجد أن اهتمام الأهل انحصر في حجم التحصيل الدراسي متناسين الهدف الأصلي من التعليم وهو الرقي بالمستوى العقلي والديني والتربوي والأخلاقي للدارسة.. فنجد الطالبات - وهذا أمر محزن- قد خرجن من المدارس كما(115/1082)
دخلن غير أن مسمى المرحلة يختلف من سنة إلى أخرى.. فلو أعطي للعلم قيمته، وأشعرت الطالبة بأهمية حيازته، لتغيرت النظرة إلى ما تتلقاه من علوم، و لأبدعت ونبغت، ولا ننسى أن هذه المسألة لن يعجز عنها الوالدان المتعلمان.
ثالثاً: وسائل الإعلام.. والتي تمثل عامل قوي لا يستهان به.. فمع كثرة قنواته، وتعدد مصادره، صار ينافس البيت والمدرسة في التربية بل في كل شيء..فلم يعد الكتاب له مكان في حياة الطالبة، ولم تعد القراءة لها هواية كما كانت بالأمس، ولم يعد القلم الجميل يجد إلى أناملها طريقاً.. فلما اجتمع إلى ذلك كلّه الفراغ القاتل، و النقص في التوجيه، و قلة الرقابة على هذه الوسائل تسربت الجهود، وضاعت الطاقات.. فالتركيز بحدّ ذاته على ما يعرض على هذه الشاشات بغض النظر عن ما تحمله من أخطار جعل ينخر كالسوس في عقول وقلوب الفتيات، فأورثهن ذلك خواء في الفكر، وتشتت للذهن، وصعوبة في الاستيعاب، ونقص في الإدراك، فضلاً عن ما تحمله هذه الوسائل من سموم أضعفت لدى الطالبة الكثير من القيم والمبادئ التي تتعلمها كل يوم، وهذا التصادم يولد بدوره المزيد من التبلّد.
رابعاً: تبسيط المعلومات وكثرة التسهيلات.. وهذا الجانب تشترك فيه المدرسة مع البيت على حدٍ سواء.. وذلك عند عرض الدروس، أو أثناء طرح الواجبات، أو خلال الامتحانات.. فالمعلومة التي تحتاج إلى استيعاب وتركيز تُنحى جانباً، والمسألة الصعبة ليست واردة في الاختبار، بل ربما حذفت من باب التخفيف والتسهيل، الموضوع الطويل يختصر إلى الربع،.... وهكذا.. والطالبة في معظم الأحوال تقشر لها التفاحة وتعصر دون أدنى جهد مبذول من قبلها.. المهم أنها تنجح وتجتاز.. وهذا ما أضعف قدرات الكثيرات.. فمن المعلوم أن الصعوبة في معظم الأحيان تساعد على تثبيت المعلومة وترسيخها في الذهن.. وهذا شيء مجرب ومعلوم.. فما أتى بسهولة ذهب بسهولة.. والمعلومة السهلة الميسرة سرعان ما تتلاشى وتذهب أدراج الرياح لأن العقل لم يحتويها الاحتواء المطلوب.
لذلك أؤكد وبقوة على ضرورة المسارعة في وضع الحلول الممكنة لعلاج هذه المشكلة.. ورأب هذا الصدع الذي بدأ يظهر واضحاً جلياً في السنوات الأخيرة.. فالطالبة التي نبنيها يوما بعد يوم فكريا وعقليا وعلمياً نجد أن جهودنا معها تنهار على ورقة الاختبار.. حينما تضرب المعلمة أخماس في أسداس بل ربما سكبت العبرات وهي تجني ثمرة جهدها علقماً وصبراً.. فأين أثر العلم؟!!!
لم يعد يهمنا ما تحصله الطالبة من درجات بقدر ما يهمنا ما تصل إليه من وعي وما تبلغه من نضج.
نريدها فتاة قادرة على التعبير، تعي ما تنطق، وتتدبر ما تسمع، أكسبها العلم وقار حامله، وأخلاق ناقله.
نريدها فتاة مؤهلة لحمل المسؤولية التي ستلقى على عاتقها في الغد.. نريد أن نسلمها الأمانة وكلنا أمل أن نرى فيها امتداداً لما قدمناه من عطاء وما بذلناه من جهد، وسنسعد أكثر وأكثر عندما نراها تنافسنا وتتفوق علينا؛ لأننا بذلك سنحظى بأعظم شهادة شكر قُدمت لنا.
ـــــــــــــــــــ(115/1083)