وتقدرها وتصبر عليها ، ولتعلم أن كل ذلك مدخر أمام الله عزوجل ، وأنها بذلك تحسن الطاعة لزوجها بإحسانها لأمه ، وحسن معاملة الزوجة لأم زوجها سوف يعود علها بالحب من قبلها ومن قبل الزوج ، كيف لا ؟ وبر الوالدين من أجلِّ القربات عند الله عزوجل ، وهذه الزوجة الفاضلة في كل يوم لا تفتأ تعينه على هذا البر فيصبح بذلك الحب لها أعظم والقرب منها أكثر .
16 ـ لا تنظري إلى غيرك في أمور الدنيا :
بعض النساء همها الأكبر أن تقتني كل ماهو جديد ، وتنظر لغيرها في تلك الأمور المادية ، فهذه صديقتي قد اشترت هذا الشيء وأنا أريد أن أشتريه ، فليست هي أفضل مني في شيء ، ولست أقل منها .
اعلمي أيتها الأخت الفاضلة أن التسابق يجب أن يكون في أمور الآخرة ، وليس في أمور الدنيا ، قال الله تعالى : { وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين } .
بينما في امور الدنيا يسير المرء على قدر حاجته ، ولا ينظر إلى من سبقه فيها ، قال صلى الله عليه وسلم : { انظروا إلى من هو أسفل منكم ، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم ، فهو أجدر أن لا تزدروا نعمة الله عليكم } .
ولا يقصد من ذلك أن لا يسعى المرء إلى وضع أفضل مما هو فيه إن كان معسراً ، وإنما لا يكن همه الدنيا والنظر إلى غيره ، والأجدر أن ينظر إلى من هو أصلح منه ، فيبتغي الصلاح والمسارعة لإرضاء الله عزوجل حتى يفوز بنعيمي الدنيا والآخرة ،وأن يطلب العبد الدنيا للآخرة ، فإذا رزقه الله تصدق وعمل بحق الله فيه ، قال صلى الله عليه وسلم : { ويل للنساء من الأحمرين : الذهب والفضة } .
والمعنى أن الواجب على المرء أن يكون الشاغل إصلاح نفسه وتربيتها على الفضائل ثم يأتي إصلاح حاله الدنيوي في الطريق ، لا أن يكون شغله الشاغل ما يأكل وما يلبس وما يسكن مهملاً حقيقته ونفسه وروحه
17 ـ شكر الزوج شكر :
كلمة الشكر والثناء محببة للنفس ، مزيلة للهم ، مفرجة للكرب ، وكم يشعر الزوج بالسعادة لشكر زوجته إياه ، وربما تقول الزوجة : وهل أشكر الزوج على واجبه نحوي ؟
فأقول لها : نعم ، وما المانع أن تشكري زوجك على واجبه نحوك !! أليس لو قصَّر في واجبه يكون مُلاماً ؟! إذن فإن أدى واجبه فهو مشكور ، ثم إن الشكر يزيد المودة والنعمة والحب ، وهو واجب في حق الزوجة لزوجها ، ومن لا يشكر الناس لا يشكر الله كما جاء في الحديث الصحيح .
والشكر لا يكون باللسان فقط ، بل بالفعل والعمل ، والإخلاص للزوج ، ومن شكر الزوج ألا تعيب زوجته شيئاً فيه ، في أخلاقه مثلاً أو صفاته ، وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد أوصى الرجل بألا يقبح زوجته ، فمن بابٍ أولى أن المرأة لا يجوز لها أن تعيب شيئا في زوجها ، ففضله عليها كبير ، وحقه عليها عظيم ، قال صلى الله عليه وسلم : { حق الزوج على زوجنه أن لو كانت به قرحة فلحستها ما أدت حقه } .(115/216)
كذلك على الزوجة ألا تعيب شيئاً اشتراه زوجها فإن ذلك يحزنه ، بل يمكن أن تخبره بما تحب بتجمل في الأسلوب من غير أن تسبب له إحراجا .
18 ـ تعلمي فن التعامل مع الواقع :
إذا كانت السياسة هي ( فن الممكن لا فن المستحيل ) فلتكن هذه سياسة الزوجة في بيتها ، ولتحاول الزوجة أن تتعامل مع متغيرات المنزل ومع ظروف الزوج ، الظروف المادية والنفسية ، واعلمي أن الحياة كفاح ، فالنعمة لا تدوم لأحد ، والأيام تتقلب تقلب المِرجل إذا استجمع غليانه .
فإذا تقلبت بك الأيام فأبشري ولا تجزعي ، وكوني عوناً لزوجك على نوائب الدهر ، ولا تكوني عوناً لها عليه ، ولا تطلبي من زوجك دائماً إمدادك بوسائل الرفاهية أو الراحة ، وانظري إلى من سبقك من جيل الأمهات القدامى كيف كنَّ في قوة ، وكانت الواحدة منهن تقوى على ما تقوى عليه عشرة من نساء اليوم اللائي تعوَّدن الركون إلى اادعة والراحة ، فخارت عزائمهم من بعد ما خارت قواهم ، واذكري أن النبي صلى الله عليه وسلم حين طلبت منه ابنته فاطمة وزوجها علياً رضي الله عنهما ، أن يمدهما بخادم ، وكانت يد فاطمة رضي الله عنها قد تورَّمت من قسوة الشغل بها في البيت ، فما كان من النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن أمرها بالذكر ، ولم يمدهما بخادم .
19 ـ اعلمي أن الصبر ضياء :
تتعرض الحياة الأسرية لنكبات ، وهذه سنة الحياة ، قال تعالى : { ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين } .
وقال صلى الله عليه وسلم : { الصبر ضياء } .
ولتعلم الزوجة أن الصبر بالتصبر ، وأنها حين يراها الزوج صابرة صامدة ، تقوى عزيمته ، ويقوى على مواجهة الحياة ، ويزداد حبه وإعزازه لها ، قال صلى الله عليه وسلم : { من يتصبر يصبره الله ، وما أعطي أحد عطاءاً خيراً وأوسع من الصبر } .
والمرأة لما جبلها الله عليه من عاطفة جياشة فهي أسرع للجزع من الرجل ، وقد جاء أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على امرأة مريضة فوجدها تلعن الداء ، فكره منها هذا وقال : { إنها ـ يعني الحُمة ـ تذهب خطايا بني آدم كما يذهب الكير خبث الحديد } .
وبعض الزوجات يكثرن الشكوى عند كل مُلِمة ، وبعضهن يتمارضن كثيراً وتشتكي بين لحظة وأخرى من أي شيء بسيط ، وهذه الشكوى أيتها الزوجة تقلق الزوج ، أفلا تكوني صبورة ؟! ألا تستطيعين تحمل ما يُلِم بك بصبر جميل من غير أن تكثري الشكوى للزوج ؟!
فما أجمل الصبر عند الزوجات .
20 ـ أعيني زوجك على طاعة الله :
نعمت الحياة الزوجية حين تعين الزوجة زوجها على طاعة الله عزوجل ، وتذكره بالآخرة وبالجنة والنار وبالنية الحسنة عند كل عمل ، وبالإخلاص لله ومراقبته في كل حال .(115/217)
قال النبي صلى الله عليه وسلم : { رحم الله رجلاً قام من الليل ، فصلى وأيقظ أهله ، فإن أبت نضح في وجهها الماء ، رحم الله امرأة قامت من الليل فصلت وأيقظت زوجها ، فإن أبى نضحت في وجهه الماء } .
وأخيراً : تلك كلمات نابعة من القلب لتلك الزوجة الصالحة والتي أسأل الله أن يزيدها نفعاً وبركة بعد قراءتها لهذا الموضوع وتطبيقه في واقعها وحياتها الزوجية ، فليس أجمل من أن تستضيء المرأة بنور الكتاب والسنة ، ولله الحمد أولاً وآخرا
ـــــــــــــــــــ
... دعوا أطفالكم يلعبون في المساجد
يسرا علاء –
أيها الآباء والأمهات من واقع ملاحظاتكم ونظراتكم الصامتة لأطفالكم؛ ستجمعون على أن ليس هناك لفظ يليق أن يوصفوا به سوى الشقاوة والحركة الدائمة المستمرة؛ فهم كتلة مشحونة بالطاقة والحيوية، فكما لا يمكننا أن نتخيل نمو النبتة بلا جذور كذلك لا يمكن أن نتوقع النمو العقلي والجسمي للطفل بلا حراك أو نشاط، إذ أنه لا يمكنه التعرف على الحياة وأسرارها واكتشاف عالمه الذي يعيش في أحضانه إلا عن طريق التجول والسير في جوانبه، وتفحص كل مادي ومعنوي يحتويه، والتلفت يمنة ويسرة للإحاطة بكل ما حوله والتعرف على ماهيته، وحيث إن الله تعالى خلق فينا حب الاستطلاع، والميل إلى التحليل والتركيب كوسيلة لإدراك كنه هذا الكون فإن هذه الميول تكون على أشدها عند الطفل.
وإذا كان حب الاستطلاع والاستكشاف يلازمنا نحن الكبار حتى لحظتنا هذه التي نحياها، بل ويلازم كل فرد طوال رحلة حياته حتى يلقى وجه ربه، فما بالنا بالدرجة التي يحتلها هذا الجانب في لب الطفل ووجدانه وهو الكائن الذي هلَّ وجهه على هذه الدنيا مؤخرًا، ولم ينل بعد الفرصة الكافية لإشباع ذاته بالخبرة التي تشعره بالأمن والطمأنينة في عالم جديد لم يعهده من قبل. وما دام الأمر كذلك فنحن مطالبون بأن نفسح المجال، ونفتح الطريق أمام فلذات أكبادنا ليتمكنوا من تنمية كافة جوانبهم الجسمية والروحية والعقلية، تلك الجوانب التي ترسم الإطار السوي لشخصية كل إنسان.
ما سبق ذكره ما هو إلا هدف تربوي يتصل اتصالاً وثيقًا بقضيتنا المطروحة ولا يتحقق إلا من خلالها، وبأخذها في الحسبان باعتبارها واحدة من آلاف المواقف التي تخدم هذا الهدف التربوي؛ الذي هو أهم ما يسعى كل فرد لتحقيقه ليتمكن من التكيف في هذه الحياة.
إننا حين نطالب بتوفير ساحة واسعة الأرجاء يُمنح الطفل فيها حرية النشاط والانتشار؛ لتشكيل شخصيته وتنميتها في البيت والمدرسة والنادي والشارع وكل مكان ويسمح له بتكوين خبراته عن طريق اختلاطه بمن حوله في تلك الأماكن، فليس لنا الحق في أن نسلط له الضوء الأحمر في المسجد، وأن نقف سدًا منيعًا يحول دون تحقيق المسجد دوره الذي أصبح يقتصر الآن على تحقيق أهداف دينية تنمي الجانب الروحي في ذاته وشخصيته.(115/218)
البعض منا يجنب أطفاله دخول المساجد مطلقًا حرصًا على راحة المصلين، وحفاظًا على استمرارية الهدوء فيها، والبعض الآخر دائم الاهتمام باصطحاب أطفاله إلى المسجد بالجسد دون الروح؛ فهو قد هيأه ماديًا لا معنويًا، فحرمه من الخبرة اللازمة والتهيئة الضرورية التي تحفظ للمسجد قدسيته وحرمته، والتي كان من الواجب أن تحتل مكان الصدارة في ذهن كل أب وأم ليمدوا به أطفالهم قبل أن يأخذوا بأيديهم إلى أبواب المساجد، فهم لم ينيروا الطريق أمام أبنائهم بتوجيهاتهم الرشيدة ليقتبسوا منها سلوكًا قويمًا يهتدون به ويتصرفون بمقتضاه في هذا المكان الطاهر، وبذلك نجد أنفسنا أمام صنفين من الآباء والأمهات على طرفين نقيض صنف أغلق الأبواب وحال دون وصول الأطفال إليها، والآخر فتحها على مصارعها وأتاح للصغار حرية مطلقة لا تحكمها مجموعة من المبادئ والقيود.
وبما أننا أمة وسط وديننا يميل إلى التوسط في الأمور كلها فليس هناك ما يحول بيننا وبين الاحتكام إلى الوسطية في هذه القضية، فديننا الحنيف لم يرد فيه من النصوص ما يشير إلى المنع البات لدخول أطفالنا المساجد حتى نميل بمقتضاه إلى الرأي الأول؛ بل على العكس من ذلك فقد ورد الكثير من الأحاديث التي يُستدل منها على جواز إدخال صبياننا المساجد: من ذلك ما رواه البخاري عن أبي قتادة قال: "خرج علينا النبي صلى الله عليه وسلم وأمامة بنت العاص على عاتقه فصلى فإذا ركع وضعها وإذا رفع رفعها"، وأيضًا ما رواه البخاري عن أبي قتادة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إني لأقوم في الصلاة أريد أن أطول فيها فأسمع بكاء الصبي فأتجوز في صلاتي كراهية أن أشق على أمه" وكذلك ما رواه البخاري عن عبد الله بن عباس قال: "أقبلت راكبًا على حمار أتان؛ وأنا يومئذٍ قد ناهزت الاحتلام، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بالناس بمنى إلى غير جدار، فمررت بين يدي بعض الصف فنزلت وأرسلت الأتان ترتع ودخلت في الصف فلم ينكر ذك علي" وإذا كانت هذه هي الأدلة النقلية التي تهتف بنا قائلة: "دعوا أطفالكم يدخلون المساجد" وكفى بها أدلة تجعلنا نبادر بالخضوع والاستجابة لهذا النداء.
ـــــــــــــــــــ
... الصلاة الصلاة يا زوجتي
لا يخفى عليك يا زوجتي الغالية أن الصلاة من أحب الأعمال إلى الله تعالى...
وهي الركن الثاني من أركان الإسلام وهي أول ما يحاسب عنه العبد يوم القيامة وهي نور للعبد في الحياة وبعد الممات وفي الآخرة .
زوجتي ... إن الصلاة هي طريق السعادة وباب الطمأنينة وعنوان الفلاح في الدنيا والآخرة ووالله لن يكون لكِ قدر عند الله إلا بالمحافظة على الصلاة .
وأنا أقدم لك هذه النصيحة
أذكر فيها بهذه العبادة العظيمة لأنني لاحظت عليك بعض التساهل فبعض الأحيان تؤخرينها عن وقتها وأحياناً تسرعين في أدائها .
وهذا كله مخالف لما أمرنا الله به ولما أرشدنا إليه صلى الله عليه وسلم .
فيا زوجتي الغالية : الصلاة الصلاة فهي التي ستنفعك عند الله تعالى .
ـــــــــــــــــــ(115/219)
... الحب الزوجي
د.سلمان بن فهد العودة 03/04/2004
زارني قبل سنة!
وكان يقفز على الدرج بتوثب ونشاط.
لم أصدق أنه ابن ثمانين سنة أو يزيد.
فقد كان الرجل بكل حيوية الشباب وهو في هذا العمر؛ ثم اكتشفت شيئًا من سر ذلك:
- تزوج عام 1368 هـ! وهو ابن ثلاثين سنة تقريباً!
- وقال لي: لا أتذكر أني غضبت عليها مرة واحدة، أو تكدرت نفسها مني، أو دَعَتْ عَلَيَّ أو على أحد من أولادها، وإذا شعرتُ بالصداع؛ فمن المستحيل أن تنام حتى أنام.
- يقول في تأثر: لا يمكن أن أذهب حتى لشراء الحاجيات، إلا وهي معي، وأنا أمسك يدها، كما لو كنا عروسين تزوجا البارحة.
وعلى إثر عملية جراحية؛ توقفَتْ عن الإنجاب! قال لها: أنت أغلى عندي من الأولاد، وأهم ما أصبو إليه حياتك!!
-يقول لي: ما دامت تطأ الأرض؛ فلا تفكير في الزواج.
لقد كنت أقرأ أن الحب عند الكبار؛ كالحريق في المباني القديمة، سرعان ما يأتي على كل شيء.
لكن من يرى هذه التجربة؛ يعلم أن الأمر ليس كذلك.
إن هذا نموذج حيٌّ واقعي، ولكن -من خلال التجارب ومراعاة أحوال الناس- يعتبر نموذجاً مثالياً.
لكن لا يلزم أن نعلِّق أنفسنا بمثل هذا النموذج، فيعود الواحد منا إلى زوجته ليطالبها بكل شيء، بينما لم يقم هو بأي شيء.
إن الزوجية حب ومودة:"خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً"[الروم:21]، ولهذا، يحنُّ كلٌّ من الجنسين للآخر ويصبو إليه ويشتاقه!
وكأنه يبحث عن نصفه المفقود!
لما ماتت امرأة أبي ربيعة الفقيه دفنها ونفض يديه، ثم رجع إلى داره، فحوقل واسترجع، وبكت عيناه!
ثم قال يخاطب نفسه: الآن.. ماتت الدار أيضاً يا أبا خالد!!
إن البناء يحيا بروح المرأة التي تتحرك بداخله.
الحب من طرف واحد
كانت لابن عمر –رضي الله عنهما- جارية، وكان يحبها حباً شديداً، حتى إنها سقطت مرة عن الفرس التي كانت تركبها، فجاء إليها راكضاً، وجعل يمسح التراب عن وجهها وعن رأسها بحنان، ويفدّيها (يقول لها: فدتك نفسي فدتك نفسي). وهي تقول له: قالون قالون. (كلمة فارسية معناها: أنت رجل ممتاز).
ثم أتيح لها فرصة فهربت منه!!
فالتفت ابن عمر –رضي الله عنهما-؛ فلم يجد من كان يحبها؛ فكان يقول:
قد كنت أحسبني قالون فانصرفت(115/220)
فاليوم أعلم أني غير قالون
وذكر ابن حزم - رحمه الله- في كتابه (طوق الحمامة): أن محمد بن عامر كان يرى الجارية فيحبها ولا يصبر عنها، ويأتي عليه الهم والغم إلى أن يشتريها ويتملكها! وبعد أن تصبح ملكًا له، تتحول المحبة نفوراً، ويصبح الأنس شروداً! فيتخلص منها!! حتى إنه أتلف بذلك مالاً عظيماً.
وكان أديباً نبيلاً، حسن الوجه والصورة! يضرب به المثل في حسنه وجماله، وتقف الألفاظ عند وصفه.
يقول ابن حزم: "ولقد مات من محبته عددٌ من الجواري، بعد أن تسلل الملل إلى علاقته بهن، وأنا أعرف جارية منهن، كانت تسمى: عفراء، لا تتستر عن محبته حيثما جلست، وكانت لا تجف دموعها أبداً".
إن الحب الزوجي بحاجة إلى مجهود غير عادي من الطرفين، من أجل أن يظل واقفاً على قدميه.
فمشكلة الحب الزوجي ليست في الخلافات العادية الحياتية، التي يتم تجاوزها، بل ربما تكون سبباً في تجديد العلاقة، أو هي (بهارات) تضاف إلى هذه الطبخة الجميلة.
وأحسن أيام الهوى يومك الذي
تهدد بالتحريش فيه وبالعتب
إذا لم يكن في الحب سخط ولا رضى
فأين حلاوات الرسائل والكتب
إن المشكلة تكمن في ثلاث نقاط:
الأولى: عدم قدرة الإنسان على فهم الطرف الآخر؛ بل ربما عدم قدرته على فهم نفسه هو.
الثانية: عدم القدرة على التكيف مع هذه الشراكة الجديدة، أو التكيف مع الأوضاع المتغيرة، وكأننا نريد باستمرار أن يكون ما كان على ما هو عليه.
الثالثة وهي الأهم: عدم الإخلاص لهذه العلاقة، وعدم الاستماتة من الطرفين في ديمومتها وبقائها وإزالة وطرد كل ما يعكرها.
لهذا أنت بحاجة إلى فهم قوانين اللعبة كما يقال وكما سمتها صاحبة كتاب (إذا كان الحب لعبة فهذه قوانينها).
الوسائل العشر للحب الدائم:
إذا كان الحب الزوجي عرضة للمرض أو للموت فعليك أن تحاول تجديده والمحافظة عليه.
أولاً: تعود على استخدام العبارات الإيجابية، كالدعوات الصالحة، أو كلمات الثناء.
قل لزوجتك: لو عادت الأيام؛ ما اخترت زوجة غيرك! وقولي أنت لزوجك مثل هذا.
إن الكلام العاطفي يثير المرأة، وهو السلاح الذي استطاع به اللصوص اقتحام الحصون والقلاع الشريفة، وسرقة محتوياتها الثمينة.
إن الكلمة الطيبة تنعش قلب المرأة؛ فقلها أنت قبل أن تسمعها من غيرك.(115/221)
ثانياً: التصرفات الصغيرة المعبرة.
مثل: إن وجدتها نائمة؛ فضع عليها الغطاء.
اتصل بها من العمل لتسلم عليها فقط وأشعرها بذلك.
أو أن تجد المرأة الرجل نائماً؛ فتقبله على رأسه حتى لو ظنت أنه لا يشعر؛ فإن له حاسة تعمل، حتى خلال النوم! لا تظني أنه لا يدري!
أرأيت كيف قال النبي - صلى الله عليه وسلم-:"حَتَّى اللُّقْمَةَ تَجْعَلُهَا فِي فِيِّ امْرَأَتِكَ" صحيح البخاري (5354)، وصحيح مسلم (1628).
قد يعني هذا: الإنفاق على المرأة، لكن النبي - صلى الله عليه وسلم- لم يعبر بالإنفاق، وإنما عبر باللقمة يضعها أحدنا في فيِّ امرأته.
وهكذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم- يصنع مع أهله.
إن ذلك جزء من الذوق، إذا تعود المرء عليه؛ فإنه لا يحتاج إلى كبير جهد لممارسته.
ومن لم يتعود ذلك، ربما إذا سمع هذا الكلام يشعر بالخجل وبالإحراج ويفضل بقاء الأمور كما هي عليه، بدلاً من هذه المحاولة، التي ربما يعتبرها مغامرة.
أنت بحاجة إلى أن تدخل عادات جديدة في حياتك، و سلوكك، وإلا سوف تظل تواجه المشكلات.
ثالثاً: تخصيص وقت للحوار بين الزوجين.
الحوار عن الماضي، وذكرياته الجميلة؛ فإن الحديث عنها يجددها كما لو كانت وقعت بالأمس.
الحوار عن المستقبل، وعن وعوده، و خططه، وحظوظه الجيدة.
الحوار عن الحاضر وإيجابياته وسلبياته وكيف نستطيع التغلب على مشكلاته.
رابعاً: التقارب الجسدي.
ليس فقط من خلال الوصال والمعاشرة، بل الاعتياد على التقارب في المجالس و في المسير.
وإن كان هناك من لا يزال يستحي أن يرى الناس امرأته تمشي بجانبه، أو حتى تمشي وراءه.
خامساً: تأمين المساعدة العاطفية عند الحاجة إليها.
فقد تكون المرأة حاملاً، أو في فترة الدورة الشهرية؛ و تحتاج إلى الوقوف معها معنويًّا؛ وذلك بتقدير حالتها النفسية؛ فقد قال أهل الطب: إن معظم النساء في حالة الحمل أو الحيض أو النفاس يعانين من توتر نفسي تضطرب معه بعض تصرفاتها.
ومن هنا تحتاج المرأة إلى مؤازرة عاطفية تشعرها بحاجة الزوج لها وعدم استغنائه عنها خاصة في مثل هذه الحالة.
وقد يكون الزوج أيضاً مريضاً، أو مجهداً فينبغي للزوجة أن تراعي ذلك، وأي علاقة بشرية - إذا أراد طرفاها أن تدوم – فلا بد فيها من أن تشعر الآخر بقربك منه وبوقوفك معه.
سادساً: التعبير المادي عن الحب.
من خلال الهدية سواء كان ذلك بمناسبة أو بغير مناسبة، والمفاجأة لها وقع جميل.(115/222)
اختر هدية معبرة، وليس المهم في الهدية قيمتها المادية عند المرأة؛ بل بمناسبتها وملاءمتها لذوقها وما تحبه، وتعبيرك عن شعورك بها، واستذكارك لها.
سابعاً: إشاعة روح التسامح والتغافل عن السلبيات.
كرر الصفح ونسيان الأخطاء خاصة في الأمور الحياتية البسيطة التي ينبغي لكريم النفس ألا يتعاهدها بالسؤال.
وفي حديث أم زرع:" قَالَتِ الْخَامِسَة: زَوْجِي إِنْ دَخَلَ فَهِدَ، وَإِنْ خَرَجَ أَسِدَ، وَلاَ يَسْأَلُ عَمَّا عَهِدَ" صحيح البخاري (5189)، وصحيح مسلم (2448).
يقول ابن حجر في الفتح : يحتمل المدح بمعنى: أنه شديد الكرم كثير التغاضي لا يتفقد ما ذهب من ماله وإذا جاء بشيء لبيته لا يسأل عنه بعد ذلك أو لا يلتفت إلى ما يرى في البيت من المعايب بل يسامح ويغضي .
ولا تنتظر أن يرد عليك من تصاحبه الحسنة بمثلها دائماً، فلا بد من العدل والإنصاف.
ومن الخطأ، أن نضع إبهامنا على طرف الكفة عند حسابنا أخطاء الآخرين؛ وأن نطيل ونفصل عند حساب صوابنا!!
وفي الأثر: " يُبْصِرُ أَحَدُكُمْ الْقَذَاةَ فِي عَيْنِ أَخِيهِ وَيَنْسَى الْجِذْعَ فِي عَيْنِهِ" انظر السلسلة الصحيحة (33).
قال ابْنُ مُفْلِحٍ:
عَجِبْت لِمَنْ يَبْكِي عَلَى مَوْتِ غَيْرِهِ
دُمُوعًا وَلَا يَبْكِي عَلَى مَوْتِهِ دَمَا
وَأَعْجَبُ مِنْ ذَا أَنْ يَرَى عَيْبَ غَيْرِهِ
عَظِيمًا وَفِي عَيْنَيْهِ عَنْ عَيْبِهِ عَمَى
ثامناً: التفاهم حول القضايا المشتركة:
كالأولاد، المنزل، العمل، السفر، المصروف، بعض المشكلات التي قد تهدد الحياة الزوجية.
تاسعاً: التجديد وإذابة الجليد.
بإمكان الإنسان - رجلاً, أو امرأة - أن يقرأ كتاباً, أو يسمع شريطاً؛ حتى يستطيع أن يجدد الحياة الزوجية! وأن يضيف عليها من المعاني، والتنويع في: الملبس، والمأكل، والمشرب، والأثاث، والمنزل، وطرق المعاملة، والمعاشرة. ما يجعل الحياة تستمر، وتجدّ، ولا يتسرب إليها الملل, أو السأم.
عاشراً: حماية العلاقة من المؤثرات السلبية مثل:
المقارنة مع الأخريات.
فإن الكثير من الرجال يقارنون زوجاتهم مع زوجة فلان، أو حتى مع فتاة رآها في مجلة، أو في الشاشة، أو غيرها.
والمرأة قد تقارن نفسها مع صديقاتها!!
فهذه زوجها غني، وتلك زوجها وسيم، وهذه زوجها كثير السفر معها، وهكذا...
فتقارن نفسها بهؤلاء، وبالتالي تشعر بالغبن, أو النقص.
إن هذه المقارنات تدمر الحياة الزوجية، وتزهد كلاًّ منهما في الآخر.(115/223)
والمفترض أن تكون النظرة المقارنة مع من هو أقل منك!
عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم-:"انْظُرُوا إِلَى مَنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلاَ تَنْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقَكُمْ فَهُوَ أَجْدَرُ أَنْ لاَ تَزْدَرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ" صحيح البخاري (6490)، وصحيح مسلم (2963).
علينا أن نتعود أن نعيش واقعنا، وأن نقنع بما كتب الله - سبحانه وتعالى- لنا، وألا نمد أبصارنا وأعيننا إلى ما عند الآخرين، فالشيء القليل الذي عندك إذا أحسنت استخدامه سيكون كثيراً.
وقد يكون كثير ممن يتحدثون عن السعادة ويثنون على أزواجهم غير صادقين في ذلك، ولكنهم يتشبعون بمثل هذه الأمور، أو يقولونها من باب المجاملة عند الآخرين.
وعادة ما تبدو الزهور التي في بساتين غيرنا أجمل ! بسبب أن أيدينا لا تقترب منها.
ـــــــــــــــــــ
... كيف تصلح زوجتك ؟
إذا كانت الزوجة صالحة فبها ونعمت وهذا من فضل الله وإن لم تكن بذلك الصلاح فإن من واجبات رب البيت السعي في إصلاحها . وقد يحدث هذا في حالات منها :
أن يتزوج الرجل امرأة غير متدينة أصلا لكونه لم يكن مهتما بموضوع التدين هو نفسه في مبدأ أمره أو أنه تزوجها على أمل أن يصلحها أو تحت ضغط أقاربه مثلا فهنا لابد من التشمير في عملية الإصلاح .
ولابد أن يعلم الرجل أولا أن الهداية من الله والله هو الذي يصلح ومن منة الله على عبده زكريا قوله فيه ( وأصلحنا له زوجه ) الأنبياء 90.
سواء كان إصلاحا بدنيا أو دينيا قال ابن عباس كانت عاقرا لاتلد فولدت . وقال عطاء كان في لسانها طول فأصلحها الله .
ولإصلاح الزوجة وسائل منها :
1- الإعتناء بتصحيح عبادتها لله بأنواعها على ما سيأتي تفصيله .
2- السعي لرفع إيمانها في مثل :
أ - حضها على قيام الليل .
ب- وتلاوة الكتاب العزيز .
ج- وحفظ الأذكار والتذكير بأوقاتها ومناسبتها .
د- وحثها على الصدقة .
ه- قراءة الكتب الإسلامية النافعة.
و- سماع الأشرطة الإسلامية المفيدة العلمية منها والإيمانية ومتابعة إمدادها بها .
ز- اختيار صاحبات لها من أهل الدين تعقد معهن أواصر الأخوة وتتبادل معهن الأحاديث الطيبة والزيارات الهادفة .
ح- درء الشر عنها وسد منافذه إليها بإبعادها عن قرينات السوء .
للشيخ / محمد صالح المنجد ،،،
ـــــــــــــــــــ
... الرجل العابث(115/224)
حياته تمضي دون هدف ، وساعاته تنقضي بلا فائدة ، وعمره يذهب سُدى دون أدنى مردود .
تراه يدور كالرحى ، ليطحن وقته الغالي ويبدد زمانه الثمين ، فهو مشغول بلا مهمة ، متحرك في غير نفع ،
متعب بلا فائدة ، مرهق بدون نتيجة ، مجهد بغير ثمرة ..
لا يعرف قيمة التخطيط ، ولا أهمية التنظيم ، ولا ضرورة الترتيب ، فتارة يبني كأحسن ما أنت راءٍ ،
فإذا به ينقض غزله ، ويهدم بنيانه ، ويحرق أوراقه ، وكأن شيئاَ لم يكن .
ينشط كالعاصفة ، ويثور كالبركان ، ويضطرب كالزلزال ، ويضرب كالموج ، وينحدر كالسيل ..
يقاوم الإعصار ، ويسبح ضد التيار ، ثم يستسلم بما لا يرضاه مسلم !
يعتني بمن حوله ، ثم ينقلب عليهم ، فيلتهمهم ، كقطة السوء ، تعتني بصغارها ، فإذا جاعت أكلتهم .
يقدح ثم يمدح ، يبرئ ثم يزري ، يثور ثم يخور ، يفرض ثم يرفض ، ليس له مبدأ يعيش عليه ،
ولا حد يقف عنده أو اتزان يضبط حركته وينظم مسيرته .
أعماله مرتجلة ، وأفكاره مشتتة ، وقراراته عشوائية ، وحياته فوضوية ..
فليته عكف على نفسه الثائرة فهذبها ، وحركته الهائجة فضبطها ، ومسيرته المعوجة فقومها ،
لكان خيراً له من جمع غثاء السيل أو زبد البحر !
وأخيراً أقول : الاتزان طريق الأمان ، والعمل المؤسس المدروس خير من الارتجال الذي يقود للضلال ،
ويد الله مع الجماعة ، والراكب شيطان ، والثلاثة ركب ، والله الهادي إلى صراط مستقيم
بقلم : عبداللطيف بن هاجس الغامدي
ـــــــــــــــــــ
... كيف تستخرجين كلمات الحب من فم زوجك
إذا كنتِ أيتها الزوجة الطيبة العفيفة ، تعانين من ندرة كلمات الحب والعطف والحنان من زوجك – ذلك لأن أغلب الأزواج يحاول إخفاء هذه المشاعر وعدم إظهارها للزوجة المسكينة ؛ ظناً منه أن هذا التصرف يؤثر على رجولته وجديته معها !! فتسقط هيبته ويقل احترامه في نظره !! - ، وتشعرين أنه غير مبال بك أو بمظهرك ..
إذا كنت تعانين من هذه المشكلة ، عليك القيام بالآتي ، مع الصبر والتحمل حتى تقطفي ثمرة النجاح :-
أ - إذا أردت لزوجك أن يتغير .. وينطلق لسانه بالكلمات العذبة التي تتشوقين لسماعها منه ، فعليك بممارسة هذا التغيير على نفسك أولاً ، وأعطيه الفرصة(115/225)
ليتعرف على المشاعر التي تولدها لمسة عاطفية أو لحظة اهتمام .. فإن محصلة اهتمامك به ستكون مثيرة لاهتمامه بك بالطريقة العاطفية ذاتها ..
مثال على ذلك :-
عندما ترينه جالساً على مكتبه أو مستلقياً على سريره .. فتقدمي إليه بلطف واسأليه هل يريد .. هل يطلب .. هل يتمنى .. هل يشتهي أي شيء ؟
ثم بعد ذلك أسرعي بتحضير ما طلب – ولنفرض أنه طلب منك تحضير فنجان قهوة أو شاي - ، وقدميه له واحرصي على أن تكون يدك في أسفل هذا الطبق ، وعند تقديمه له حاولي أن تلمس يدك يده بحنان وأنت تداعبينه بأطراف أصابعك .. متبعة ذلك بابتسامة رقيقة ، وحاولي في هذه الابتسامة عن ألا تزيد من أن تظهر مقدمة الأسنان ، لا أن تظهر الفم وما حوى !! وقولي له تفضل ( حبيبي ) .. أو تمهل ( حياتي ) فهو لا يزال ساخناً ..
انصرفي واتركيه يشرب على مهله ، وبعدها عودي وتأكدي من أنه قد انتهى من شربه ، خذي الكأس أو الفنجان ، وانصرفي وقبل ذلك طبعاً لا تنسي الابتسامة التي طلبناها أثناء التقديم ، وقولي له بالهناء .. عسى أن يكون قد أعجبك .. هل تريد المزيد ؟ فإن طلب المزيد فلا تتأففي بل سارعي على الفور وبنفس الأسلوب مع حركة أخرى ..
مثال : إن طلب كوباً من الماء أو العصير .. حاولي أن تسقيه بنفسك إن استطعت ، واسأليه إن كان بإمكانك أن تشربي معه من نفس الكأس ، فإن وافق ، فبادري على الفور بسؤاله عن المكان الذي شرب منه ، ولا تتقززي من هذا الفعل .. ثم أتبعي ذلك بقولك إن العصير أو الماء قد أصبح طعمه أحلى .. هل تعرف لماذا ؟ لأنك شربت منه .. ثم دعيه ليستريح وانصرفي لعملك ، وقبل ذلك اطلبي منه أن يغمض عينيه ، فإن فعل ، فلا تبخلي عليه بقبلة رقيقة لا تكاد تسمع إلا كالهمس ..
ب - ضعي كلمات الحب في أذن زوجك ، حتى يتعلم كيف ينطقها .. واطبعي كلمات الحب أمام ناظريه ، حتى يعرف متى يستخدمها ، ودعيه يشعر بالألفة مع تعابيرك العاطفية ..
مثال على ذلك : احرصي دائماً على ترديد كلمة ( أحبك ) على مسمع زوجك بين الفينة والأخرى ، واسأليه بعدها هل هو أيضاً يحبك ؟ ولا تقبلي أن تكون إجابته بهز الرأس أو الإيماء ، وإنما حاولي أن تستخرجيها من فمه قدر المستطاع حتى يتتدرب ويعتاد لسانه على نطقها ..
ولا تطمعي حتى يقول ما تتطلعين إليه بشكل كامل ، ولا تيأسي من محاولاتك واصبري عليه ؛ لأن الرجل يتعلم منذ طفولته كيف يخفي عواطفه خلف مظهر هادي وصامت ، حتى يعطيه صورة الرجل الحقيقي في نظره !! .
مثال آخر : قومي بكتابة بعض الكلمات الجميلة ذات المعاني النبيلة والتي تثير انتباه الزوج ، وتختلف هذه الكلمات بحسب حالة الرجل ، مثل كلمة : ( أحبك .. حياتي .. عمري .. روحي .. مشتاقة لك .. فديتك .. تصبح على خير .. صباح الخير .. ) إلى غيرها من الكلمات التي تسري في النفس البشرية ، وتعمل في قلوب وأحاسيس الرجال العجائب ..(115/226)
وبعد كتابتها قومي بوضعها على فراش زوجك ، أو على مكتبه في البيت أو في درج السيارة ، أو في أي مكان ترينه مناسباً .. بشرط أن يكون في مكان يثير انتباهه ..
(( لطيفة )) .. بعض الزوجات المبدعات في حياتهن الزوجية ، يحرصن على أن لا تغيب هذه الكلمات عن نظر زوجها ، وخاصة حينما يكون في البيت .. فتستغل كل وسيلة ممكنة للتعبير عما في خلجات نفسها من عواطف جياشة لزوجها .. فتقوم بكتابة بعض الكلمات أو العبارات الجميلة الرقيقة في أماكن لا تخطر على بال أحد ..
مثلاً : تقوم بكتابة كلمة ( صباح الخير .. أو سأشتاق إليك ) بأحمر الشفاه – حتى يسهل تنظيفه - على زجاج المرآة التي يستخدمها الزوج في الصباح ، في أثناء استعداده للذهاب إلى العمل ..
أو أن تقوم باستغلال شاشة التوقف الخاصة بالحاسب الألى الخاص بالزوج ، وتقومي بكتابه ما تريدين من كلمات في المكان الخاص بها .. وحينما يقوم الزوج بتشغيل الجهاز ليقوم بعمله ، قد يتركه لبعض الوقت فتظهر شاشة التوقف و يقرأ ما سطرته أنامك الرقيقة من كلمات ..
ج - لا تبخلي عليه بكلمات الإعجاب .. وعليك أن تشجعيه بالابتسام والقبول الواضح لمحاولاته ، ولا تتوقعي كل ما تتمنين ، ومع هذا لا تيأسي من محاولاتك واستمري ..
مثال على ذلك ..
إذا رأيته قد استعد للخروج من المنزل للذهاب إلى ( العمل .. زيارة أحد من الأقارب أو الأصدقاء .. لصلاة الجمعة مثلاً .. الخ ) فأسرعي بتحضير البخور ، وسليه عن نوع العطر والطيب الذي يريد أن يضعه على ثيابه .. ثم إذا رأيته قد أتم لباسه واستعد للخروج ، هنا يبدأ دورك في المديح والاعجاب – والرجل عادة يحب أن يمتدح أحد لباسه أو مظهره وبالأخص الزوجة أو الأصدقاء ، وإن لم يتلفظ هو أو يطلب رأيك في مظهره ، لكنه بلسان حاله يقول هيا بادري .. أعطيني رأيك .. - ، فلا تبخلي عليه بكل كلمة تعرفينها في المدح والثناء ..
كما أنه لا ينبغي لك أن تفوتي فرصة الدعاء له والتبريك عليه ليحميه الله من العين والحسد ..
مثال آخر متعلق بكِ أنتِ أيتها الزوجة ..
احرصي على تجديد شبابك ومظهرك ، حتى يراك كأجمل امرأة في العالم .. و اهتمي بمظهرك وزينتك في بيتك لزوجك ، وتزيني له بكل ما تملكين من نفيس وغال لتكوني في أجمل حلة وأبهى زينة وأحسن شكل .. لتستنطقي قلبه قبل لسانه .. وتستخرجي مكونه الدفين من حب وعبارات رقيقة ..
د - قد يهوى زوجك الكتابة .. أو نظم الشعر .. وكتاباته هذه قد تكون دون المستوى ، وأحب يوماً أن يسمعك بعض ما يكتبه ، هنا يأتي دورك في كسب زوجك وجعله ينطق بالكلمة التي تريدين وهو في قمة الفرح ، هنا عليك أن تسمعيه كلمات المديح والثناء ، وتشجعيه على هذه الموهبة ، حتى ولو كنتِ أنتِ المعجبة الوحيدة بهذا !! .(115/227)
ولكِ أن تتصوري مشاعر الراحة والسعادة التي تتركها كلماتك هذه في نفس زوجك ، بدلاً من أن تؤذي مشاعره وتجلبي نقمته وكراهيته .
لفتة وفائدة للزوجات .. أرجو إخفائها عن الأزواج !!
يمكنك أختي الزوجة العاقلة الحكيمة الذكية أن تثني على كرم زوجك ، وتبالغي في مديحه والحديث عن عطفه ؛ كأن تقولي : أنت قد غمرتني بفضلك و رعايتك .. أنت قد أكرمتني بعطاياك وهداياك .. أنت لم تترك في نفسي حاجة إلا وقد جلبتها لي .. لا أعرف كيف أشكرك على هذا الكرم وهذا الحنان .. الخ .. لتحصلي على كل ما تريدي وما تشتهي – طبعاً في حدود المعقول وفي مقدور الزوج - ، وزوجك راض ومستسلم وفرحان ..
بدلاً من الكلمات التي تثير غضبه ، وتحسه بتقصيره ، والمقارنة بينه وبين أزواج صديقاتك أو أخواتك ، فإن ذلك سوف يجلب المشاكل ويزداد عناداً وكرها لك ، وتزداد المشاكل ..
وختاماً أتمنى أن أكون قد وفقت في طرح هذا الموضوع وهذه النصائح .. ولكِ أن تتصوري أيتها الزوجة مدى السعادة التي ستحصلين عليها عن طريق رضا زوجك عنك ومحبته ووده ، كيف ؟ بقليل من الذكاء واللباقة في اللسان والكلمات الرقيقة .. والله الموفق ..
ـــــــــــــــــــ
... المرأة بين التحرير والتغرير
د. نهى قاطرجي
لقد أخذت قضية تحرير المرأة حيزاً مهماً من تفكير الناس في العصر الحالي حتى عُقدت من أجل هذه القضية المؤتمرات والندوات التي تطالب برفع الظلم عن المرأة وإعطائها حقوقها التي حرمتها منها الأديان والأعراف والتقاليد.
وقد استفحل هذا الأمر حتى خرج عن إطار اللهو والتسلية لبعض النساء الفارغات عن أي عمل لتنعكس آثاره الخطيرة على المرأة بالدرجة الأولى، وإذا كنَّا في لحظة من اللحظات أُعجبنا بامرأة شابة تعمل شرطية على الطريق أو جندية تحمل السلاح ووجدنا في هذا الأمر قوة إرادة وتحدٍّ عند من فعلن هذا، فإن الأمر خرج عن إطار التسلية عندما أصبحنا نرى امرأة أخرى عجوزاً تبحث في القمامة أو تجوب الشوارع تجر عربتها الثقيلة لتؤمن رغيف خبزها.
إن الأمر لم يعد لعبة ومزحة تتسلى بها الفتاة التي تخرجت من الجامعة لتثبت للناس أنه لا فرق بينها وبين الرجل في الذكاء والعطاء فتنافس الرجل في وظيفة وتتساوى معه في أجر أو حتى تسلبه وظيفة بأجر أقل لتنفق ما تقبضه على الزينة والتبرج والترف بينما يكون الرجل الذي نافسته مسؤولاً عن أسرة، أو على الأقل يسعى لبناء أسرة.
إن العمل بالنسبة للفتاة يبقى في إطار تمضية الوقت وإثبات الذات فترة طويلة من الزمن، حتى تصبح ذات يوم فتجد أن الوظيفة التي كانت تتسلى بها أصبحت تأخذ منها كل وقتها (من الفجر إلى النجر) فلا حياة اجتماعية ولا أصدقاء ولا فرصة حتى للتعرف على فتى الأحلام، فهي تعود من العمل متعبة فتنام كالقتيل، هذا الأمر(115/228)
لم يعد يرضي أحداً! كيف ستمضي بقية عمرها! وكيف ستتعرف على فتى أحلامها الآتي على حصان أبيض! الأمر قد يطول على هذه الحالة! ولكن لا بديل آخر، فهي لا تستطيع أن تترك العمل وقد اعتادت أن تجد المال بين يديها ولا تستطيع أيضاً أن تعيش الفراغ في المنزل تنتظر فارس الأحلام الذي قد يتأخر في المجيء أو حتى لا يجيء! أما إذا جاء فانه يجيء بشروط، ففيما كان هو الذي يأتي على حصان أبيض لينقذ المرأة من وضعها الأسري، اختلف الوضع اليوم فأصبحت المرأة هي التي تأتي على حصان أبيض لتقدم للرجل حلولاً لمشاكله المادية، فيعملان معاً (من الفجر إلى النجر) لكي يصبح العمل بالنسبة للمرأة واجباً وليس تطوعاً.
ما ورد كان نموذجاً عن وضع من أوضاع المرأة المتحررة اليوم، ذكرتها كمقدمة للحديث عن قضية تحرير المرأة.
أصل القضية
بدأت القضية مع المرأة الغربية، وهذا لا يعني أن المرأة المسلمة لم تكن تعاني من المشاكل والهموم، فلو كان هذا الأمر صحيحاً لما وجد هؤلاء الغربيون ثغرة يدخلون بها إلى مجتمعاتنا، ولكن الفرق بين الشرق والغرب شاسع، ذلك أن المرأة في العالم الإسلامي لم يكن لها قضية خاصة إنما كانت القضية الحقيقية هي تخلف المجتمع وانحرافه عن حقيقة الإسلام،"وما نتج عن هذا التخلف في جميع مجالات الحياة، وما تحقير المرأة وإهانتها وعدم إعطائها وصفها الإنساني الكريم إلا مجال من المجالات التي وقع فيها التخلف عن الصورة الحقيقة للإسلام".
إن الصورة الحقيقية للإسلام ممكن أن تُقرأ واضحة في كتب السِّيَر والتاريخ الإسلامي التي ذكرت كيف كان للمرأة في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام كيان مستقل عن الرجل تطالب بحقها الذي أعطاها إياه الإسلام بكل جرأة، فها هي تقف في وجه عمر بن الخطاب رضي الله عنه تطالب بحقها في صلاة الجماعة في المسجد كما فعلت عاتكة بن زيد، وها هي تمارس حقها بإدارة أموالها بمعزل عن زوجها كما فعلت ميمونة أم المؤمنين بجاريتها دون علم رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكما فعلت أم سليم بنت ملحان التي أهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم عرسه هدية باسمها لا باسم زوجها، فقالت: "يا أنس، اذهب بهذا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقل: بعثت بهذا إليك أمي، وهي تقرؤك السلام وتقول: إنّ هذا منّا قليل يا رسول الله".
هذا في الإسلام،أما في الغرب فإنه كان للمرأة بالفعل قضية ومعاناة، إذ إها كانت "في اعتقاد وعقيدة الأوروبيين حتى مئتي سنة مطيّة الشيطان، وهي العقرب الذي لا يتردد قط عن لدغ أي إنسان، وهي الأفعى التي تنفث السم الرعاف... في أوروبا (أيتها الأخوات) انعقد مؤتمر في فرنسة عام 568م، أي أيام شباب النبي صلى الله عليه وسلم، للبحث هل تعدّ المرأة إنساناً أم غير إنسان؟ وأخيراً قرروا: إنها إنسان خلقت لخدمة الرجل فحسب!
والقانون الإنكليزي حتى عام 1805 م كان يبيح للرجل أن يبيع زوجته بستة بنسات فقط، حتى الثورة الفرنسية التي أعلنت تحرير الإنسان من العبودية والمهانة لم(115/229)
تشمل المرأة بحنوِّها، والقاصرون في عرفها: الصبي والمجنون والمرأة، واستمر ذلك حتى عام 1938 م، حيث عُدِّلت هذه النصوص لصالح المرأة".
إن أصل القضية في الغرب يعود لاحتقار الكنيسة النصرانية للمرأة احتقاراً جعل رجالها يبحثون إذا كان ممكناً أن يكون للمرأة روح، وهذا ما حصل "في مؤتمر "ماكون Macon" وما شفع بالمرأة آنذاك هو كون مريم أم يسوع امرأة ولا يجوز أن تكون أم يسوع بلا روح".
إن أصل القضية إذن بدأ من الديانة النصرانية حيث أساءت الكنيسة كمؤسسة في فهم الدين المسيحي في روحيته وأخذت تطبقه وفقاً لذهنية القائمين عليها، ومن هؤلاء القديس بولس الذي قال: إن المرأة خُلقت للرجل، والقديس توما الأكويني الذي ذهب إلى أبعد من ذلك إذ صنّف المرأة بعد العبيد.
ولقد استمرت الكنيسة النصرانية في تغيير التعاليم الدينية وَفْقاً للمفاهيم والاعتبارات السائدة في البلدان التي كانت تريد السيطرة عليها فقدّست "مفهوم الأمومة مثلاً عندما أرادت السيطرة على الحضارة اليونانية، وألغت هذا التقديس عندما انتقلت إلى السيطرة على الحضارة الجرمانية، واستبدلته بالاعتبارات المعمول بها في هذه الحضارة حيث كان التقديس للملكية الخاصة ولاعتبار المرأة ملك الرجل وفي مصاف القاصرين" .
من هنا يمكن أن نستشف أن الفرق بين المرأة الغربية والمرأة المسلمة يعود إلى الجذور، ومن هنا عدم صحة إسقاط الحلول الغربية على الوضع الإسلامي، فالوضع بين الحضارتين مختلف، والمرأة هنا غير المرأة هناك، وقد أكدت الراهبة "كارين أرمسترونغ"هذا الاختلاف بين ماضي المرأتين بما يلي: "إن رجال الغرب النصراني حين حبسوا نساءهم ومنعوهم من مخالطة الرجال ووضعوهن في غرف منعزلة في جوف البيوت إنما فعلوا ذلك لأنهم يكرهونهن ويخافونهن ولا يأمنون لهن وَيَرَوْنَ الخطيئة والغواية كامنة فيهن، فهم يخرجوهن من الحياة بهذا الحبس إلى خارجها أو هامشها، بينما حجز المسلمون نساءهم في البيوت ولم يخرجوهن إلى الشوارع تقديراً لهن ولأنهم يعتبرون زوجاتهم وأمهاتهم وبناتهم حَرَماً خاصاً وذاتاً مصونة وجواهر مقدسة يصونونهن ويحملون عنهن عبء الامتهان في الأسواق والطرق".
إن هذا الاختلاف لم يفهمه دعاة التحرر الذين حاولوا إسقاط حلول المجتمع الغربي على المجتمع الإسلامي، فلم يفهموا حرص الرجل على زوجته وحمايته لها، بل اعتبروا أن حجاب المرأة وعدم اختلاطها بالرجل يعود إلى عدم ثقة الرجل بالمرأة وخوفه منها، الأمر الذي جعلهم يرون أن المرأة مظلومة قد ظلمها الرجل عندما فرض عليها الحجاب وحرمها من إنسانيتها وقد تناسوا أنه "لم يكن الرجل هو الذي فرض الحجاب على المرأة فترفع المرأة قضيتها ضده لتتخلص من الظلم الذي أوقعه عليها، كما كان وضع القضية في أوروبا بين المرأة والرجل، إنما الذي فرض الحجاب على المرأة هو ربها وخالقها الذي لا تملك إن كانت مؤمنة أن تجادله سبحانه فيما أمر به، ويكونَ لها الخِيَرَةُ من الأمر".
تطور القضية(115/230)
ساعدت الثورة العلمية التي حصلت في أوائل القرن الماضي الإنسان بشكل عام والمرأة بشكل خاص على المطالبة بالتحرر من الظلم الذي وقع عليها من الكنيسة، حيث كان لاستعانة الثورة الصناعية بالنساء من أجل التحرر من مطالب الرجال المالية دور مهم في خروج المرأة من قمقمها وسعيها لتغيير واقعها المعاش، فلم تجد عدواً تواجهه وتعتبره سبباً مباشراً لمعاناتها إلا الكنيسة التي كانت تحمي الرجال وتحثهم على ظلم النساء، مما جعل عدو النساء الأول هو الدين، فالمرأة هي التي "تدفع ضريبة الانتماء الديني في هذا الواقع وتتحمل مآسيه أكثر من الرجل". ومن هنا جاءت ضرورة نبذ الدين وتأييد النظريات العلمانية الحديثة التي تعتبر أن "الدين هو أفيون الشعوب"، وأن السبيل للنهوض بالأمم يكون بفصل الدين عن الدولة، هذا الأمر الذي دعا إليه المسيح عليه السلام نفسه عندما قال: " دع ما لقيصر لقيصر وما لله لله".
فالعلمنة إذن هي نبذ الدين و"إحلال العلم، في نموذجه الطبيعي، محل النص والإله في تفسير كل ما يختص ويتصل بالإنسان"، وقد بالغ كثير من العلماء في تقديس العلم إلى حد أَن اعتبروه ديناً جديداً، فقال أحدهم : "العلم الحديث هو إنجيل الحضارة الحديثة"، وقال آخر: "العلم الصحيح، أي العلم الاختياري، دين أيضاً" .
وهكذا وجاءت نظرية التطور لـ "دارون" لتقول إن أصل الإنسان قرد تطور مع الزمن إلى أن وصل إلى الحالة التي هو عليها الآن، لتعتمد على إيحاءين خطيرين كان لهما أثر في نصر نظرية المرأة الغربية الداعية إلى نبذ الدين، وهذان الإيحاءان هما:
1-الإيحاء بالتطور الدائم الذي يلغي فكرة الثبات.
2- الإيحاء بحيوانية الإنسان وماديته وإرجاعه إلى الأصل الحيواني وإغفال الجانب الروحي إغفالاً تاماً.
وهكذا أصبح الإنسان الغربي بعد هذه النظرية العلمانية "لا يستطيع تجنب اعتبار نفسه حيواناً" كما أصبح "التفسير التطوري لكل شيء هو العقيدة الجديدة للغرب".
وقد استفادت المرأة ومن تبعها من دعاة التحرر من الرجال من هذه العقيدة الجديدة استفادة كبيرة،فاعتبرت أن النصوص التشريعية التي تختص بها لم تعد تصلح لهذا الزمن المتطور، وقالوا بنسبية القوانين والتشريعات والأخلاق مما يعني عدم صلاحية هذه التشريعات للتطبيق في هذا الزمن، لذلك كانت الدعوة من أجل الثورة، هذه الثورة التي وإن كانت ممكنة بالنسبة للمرأة النصرانية التي تدرك تماماً أن التشريع الكنسي تابع لأقوال العلماء إلا أنها صعبة بالنسبة للمرأة المسلمة التي تدرك أن التشريعات الإسلامية مستمدة من النصوص القرآنية، لذلك دعا أنصار تحرير المرأة إلى رفع راية التطور التاريخي في حال أرادت المرأة مهاجمة النصوص الدينية، تقول إحدى دعاتهن: أنه "إذا ثارت المرأة اللبنانية وتعاونت المرأة المسيحية مع المرأة المحمدية استطاعتا رفض الدين الأولى باسم الدين نفسه والثانية بموجب الإيمان بسنة التطور التاريخي".
وهذه الدعوة إلى الإيمان بالتطور التاريخي لوضع المرأة ذكره أحد دعاتهم وهو سلامة موسى مخاطباً المرأة: "أنت ثمرة ألف مليون سنة من التطور".(115/231)
وبناء على ذلك كان "طبيعياً أن يفسر حجاب المرأة وعدم مخالفتها للرجل بأنه أثر من آثار الأمم الوحشية ونتيجة لتطور وظهور نظام العائلة ودخول المرأة فيه، ووقوعها بذلك تحت سيطرة الرجل، وهو التفسير الذي ذكره كل من تكلم من رواد تحرير المرأة".
قضية تحرير المرأة المسلمة
هبط الغرب على العالم الإسلامي بجيوشه وعساكره وهو يعلم بتجربة الحروب الصليبية أن تطويع هذا العالم لن يكون بالحروب، بل يكون بإيجاد جيل جديد ينتمي إليه فكراً وعقيدة، فعمدوا من أجل ذلك إلى إنشاء المدارس الغربية التي تدرِّس اللغة والتاريخ والثقافة الغربية، وبعد ذلك عمدوا إلى إرسال خريجي هذه المدارس في بعثات خارجية إلى الجامعات التي تكفلت بما بقي من العقول الإسلامية كما تكفل الفساد المنتشر في البلاد التي سافرت إليها العقول بتضييع البقية الباقية من جيل شباب عاد ليخرب الأمة ويعمل على تحويل المجتمعات العربية الإسلامية إلى صورة من المجتمعات التي عاد منها.
وكان من بين الخريجين "قاسم أمين" المخرب الأول الذي عاد من الغرب بكل مفاهيمه ليطبقها على مجتمع لا يمت إليه بصلة، فطالب بتعليم المرأة وتحريرها على المنهج ذاته الذي وضعه الغرب لهدم الإسلام،"وقاسم أمين شاب نشأ في أسرة تركية مصرية فيه ذكاء غير عادي، حصل على ليسانس الحقوق الفرنسية من القاهرة وهو في سن العشرين ... ومن هناك التقطه الذين يبحثون عن الكفاءات النادرة والعبقريات الفذة ليفسدوها، ويفسدوا الأمة من ورائها! التقطوه وابتعثوه إلى فرنسا... اطلع قبل ذهابه إلى فرنسا على رسالة لمستشرق يتهم الإسلام باحتقار المرأة وعدم الاعتراف بكيانها الإنساني، وغلى الدم في عروقه، كما يصف في مذكراته، وقرر أن يرد على هذا المستشرق ويفند افتراءاته على الإسلام. ولكنه عاد بوجه غير الذي ذهب به! لقد أثرت رحلته إلى فرنسا في هذه السن المبكرة تأثيراً بالغاً في كيانه كله، فعاد إلى مصر بفكر جديد ووجهة جديدة، عاد يدعو إلى تعليم المرأة وتحريرها على المنهج ذاته الذي وضعه المستشرقون وهم يخططون لهدم الإسلام".
عاد ليطالب بنزع حجاب المرأة...
عاد ليطالب بتعليم المرأة وخروجها من بيتها...
عاد ليطالب باختلاط المرأة بالرجل...
لقد أدرك قاسم أمين أن الوصول إلى الغاية لن تأتي مرة واحدة، لذلك عمد هو ومن تبعه إلى أسلوبين:
1- أسلوب التدرج حيث إنه لم يطالب في البداية بنزع حجاب الرأس كلياً، بل نادى بسفور الوجه فقط، ولم يطالب بتعليم المرأة لتصل إلى مستوى جامعي بل نادي بالتعليم الابتدائي، ولكنه كان حريصاً في كل ما يكتب على أن يضع كلمة "الآن" التي تعني الاكتفاء بهذا الحد من المطلب وقت مطالبته به إلى آن آخر، فيقول: "ربما يتوهم ناظر أنني أرى (الآن) رفع الحجاب بالمرة.. إنني لا أقصد رفع الحجاب(115/232)
(الآن) دفعة واحدة والنساء على ما هن عليه اليوم.. وإنما أطلب (الآن) ولا أتردد في الطلب أن توجد هذه المساواة في التعليم الابتدائي".
وهكذا تتطور الدعوة مع الزمن فمن المطالبة "بالمساواة في التعليم إلى المطالبة بالمساواة في الميراث، ومن المطالبة بحريتها في الدخول والخروج والتنزه إلى المطالبة بحريتها في السفر وقضاء السنوات الطوال منفردة، وافق زوجها أو لم يوافق، ومن المطالبة بتقييد حق الرجل في التعدد إلى المطالبة بحقها هي في التعدد ثم حقها أن يكون لها الصديق التي ترتضيه".
2- التشكيك في النصوص القرآنية والدعوة إلى اللحاق بركب التطور ومن هنا كانت دعواهم إلى إعادة قراءة النصوص قراءة جديدة مراعين مبدأ تاريخية النصوص ونسبيتها، حيث أن كثيراً من الأحكام لم تعد تلائم العصر المتطور الحالي، فكما كان هناك رجال فقهاء اجتهدوا وفهموا النصوص القرآنية فهماً يوافق عصرهم يوجد في عصرنا الحالي رجال "بل ونساء" ممكن أن يجتهدوا بالنصوص اجتهاداً معاصراً، لذلك كثيراً ما رفع هؤلاء شعار "هؤلاء رجال ونحن رجال" لرفض اجتهادات مثل اجتهاد الشافعي ومالك وغيرهما من الفقهاء واعتماد فتوى معاصرة مثل فتوى محمد شحرور الذي يرى أن الجيب الذي ورد في القرآن هو شِقُّ الإبط.
ومن النماذج المعاصرة عن هجومهم على النصوص القرآنية قول أحدهم: "اعتبرت الشريعة المرأة نصف إنسان، فشهادة امرأتين بشهادة رجل ونصيب الرجل من الميراث نصيب امرأتين، كان ذلك طفرة في العصر الذي نزلت فيه الشريعة الإسلامية، بل إنه أكثر من طفرة، غير أن 15 قرناً من الزمان كافية في الواقع أن تهيئ العقلية الإنسانية إلى خطوات أخرى في التشريع للمرأة".
هذا باختصار السبيل الذي سلكوه من أجل الوصول إلى ما سَمَّوْهُ تحرير المرأة تحريراً كاملاً يجعلها متساوية مع الرجل في كل المجالات دون مراعاة للفروقات البيولوجية بين الاثنين، ودون مراعاة لشرع أو دين، لأن الشرائع تتطور أحكامها كما سبق أن أسلفنا.
أما أبرز ما دعا إليه هؤلاء فيكمن في نبذ كل ما يمنع هذه المساواة بين الجنسين ويكرس التفرقة على أساس الجنس، لهذا رَأَوْا في بنود المساواة رفع حجاب المرأة، اختلاطها بالرجال، وتعليمها.
مفهوم المساواة
إن أصل هذا المطلب بدأ أيضاً مع الثورة النسوية في أوروبا حيث كان للمرأة بالفعل قضية، قضية المساواة في الأجر مع الرجل الذي يعمل معها في المصنع نفسه وفي ساعات العمل نفسها بينما تتقاضى هي نصف ما يتقاضاه الرجل من الأجر.
هذا المطلب كان في البداية يمثل منتهى العدل، وهذا أمر لا يختلف عليه اثنان، أما بعد ذلك فقد تطور هذا المطلب ليشمل المساواة في كل شيء، وهذا أمر، كما تعلمون مستحيل، هذا ببساطة لأن بينهما اختلافات حقيقية جسمية ونفسية، حتى ولو نجحت بعض النساء في تبوء المراكز العالية وفي القيام بأعمال جسدية شاقة إلا أن هذا لا يعني أن كافة النساء يمكنهن أداء ذلك العمل أو يرغبن فيه. فمهما ارتقت(115/233)
"المرأة في مستواها العلمي والثقافي ومهما كانت دوافعها النفسية أو الاقتصادية للخروج إلى العمل، تبقى رغبة المشاركة في تكوين أسرة إحدى أهم مكونات فطرتها الأصلية، كما يشير الاستبيان الذي أُجْرِي بين الفتيات في بعض الدول العربية".
وقد أكدت الدكتورة إلهام منصور، إحدى مناصرات تحرير المرأة، على هذا الأمر فقالت: "إن الثقافة كما لم تفعل بعد في الرجل اللبناني فهي كذلك لم تفعل بعد في المرأة اللبنانية التي تعتبر مثقفة لأن أغلب النساء المثقفات هن راضيات بوضعهن، ويعملن على ترسيخه، وينادين بوجوب إعطاء حقوق للرجل تفوق حقوق المرأة، وهذا الواقع يدلنا دلالة مباشرة واضحة أن العلم بالنسبة للمرأة اللبنانية ليس سوى وسيلة للحصول على الزوج الأفضل وذلك لأن أغلب الشبان قد أصبحوا اليوم مثقفين ويفضلون الزوجات المثقفات، والثقافة هنا تأخذ طابع الزيادة الخارجية عند المرأة فهي لا تنصهر مع شخصيتها كي تغيرها من الداخل".
هذه الحقيقة في تباين أهداف المرأة والرجل أكد عليها الفيلسوف "أوجست كونت" أحد فلاسفة الغرب المعاصرين حيث يقول: "إن الرجل والمرأة يهدفان إلى آيات متباينة في الحياة، فمرمى الرجل هو العمل وآية المرأة الحب والحنان"، ويقول الفيلسوف أيضاً: "حتى في الزواج لا يوجد مساواة بين الرجل والمرأة، لأن لهما حقوقاً وواجبات مختلفة فالرجل قَوّامٌ على البيت وهو الذي يعول المرأة، لأن المرأة يجب أن تجرّد من هموم المادة".
هذا الكلام الذي ورد على لسانهن ولسان فلاسفتهن يعتبر أكبر دليل على أن ما يطالبون به مخالف لفطرة الله سبحانه وتعالى، والإسلام إنما جاء ليثبت هذه الحقيقة لا ليدعُوَ إلى أمر لا أساس له من الصحة، فالإسلام كدين لا يهتم بمصالح فرد دون آخر، وهو عندما بيَّن للمرأة حقوقها وواجباتها فرض على الرجل أيضاً حقوقاً وواجبات مغايرة تتناسب مع تركيب كل منهما البيولوجي والنفسي والجسدي، كما تتناسب مع قواعد العدل والتوازن لا المساواة المطلقة، فالمساواة المطلقة كما قلنا عدوة الفطرة، "بينما العدل هو الذي يضع الموازين القسط لكل شيء، ولكل علاقة، فيعطي لكل شيء حقه، حسب فطرته وأهليته ووظيفته التي وجد من أجلها .
فللمرأة إذن وظيفة تتناسب مع فطرتها التي فطرها الله عليها، "وعناصر تكوينها أنها ذات بطن يلد وحضن يربي، ومكانتها الفذة هي فيما فُطرت عليه فقط، ومن الممكن توفير المساواة المطلوبة بينها وبين الرجل.. ولكن ذلك يكون على حساب امتيازاتها.. والنتيجة تحويلها إلى نوع جديد من الرجال".
ويمكن أن أختم فكرة المساواة بلطيفة وردت في القرآن الكريم تدل على قمة المساواة والعدل وعدم التفرقة بين المرأة والرجل حيث وردت كلمة رجل مفردة 24 مرة، ووردت كلمة امرأة مفردة 24 مرة أيضاً، قمة المساواة.
حجاب المرأة
إن أول حاجز حاول الغربيون وأتباعهم من أنصار تحرير المرأة اختراقه هو حاجز الحجاب، إذ اعتبروا أن في ستر الرأس إهانة للمرأة ولكرامتها الإنسانية وعائقاً يمنعها من مشاركة الرجل في نهضته الفكرية والثقافية والاجتماعية، ودعموا(115/234)
مزاعمهم بحالة التخلف الفكري والثقافي عند المرأة المتحجبة اليوم في بعض أقطار الجزيرة العربية والخليج العربي، والواقع أنه لا تلازم بين الاثنين فلا مجال للربط بين حجاب المرأة وتخلفها لأن ما حصل لهؤلاء النسوة ليس سببه الإسلام بل يعود إلى "ظروف استعمارية وفكرية معينة، وليس أسهل على المصلحين إذا أرادوا الإصلاح الحقيقي من أن يفصلوا بين الواقعين بوعي إسلامي سديد، يؤيد الستر والاحتشام ويدفع إلى التزود من العلوم والثقافة النافعة، ويجعل من كل منهما عوناً للآخر".
وأكبر دليل على هذا الفصل هو تفوق كثير من فتياتنا الجامعيات المتحجبات بحجاب الإسلام، المستمسكات بحكم الله عز وجل، وهنّ مع ذلك " أسبق إلى النهضة العلمية والثقافية والنشاط الفكري والاجتماعي من سائر زميلاتهن المتحررات... وإن كل مُطَّلِع على التاريخ يعلم أن تاريخنا الإسلامي مليء بالنساء المسلمات اللواتي جمعن بين الإسلام أدباً واحتشاماً وستراً، وعلماً وثقافة وفكراً، وذلك بدءاً من عصر الصحابة فما دون ذلك إلى عصرنا الذي نعيش فيه ".
أما ثاني مزاعمهم فهو رفضهم الربط بين الحجاب والعفة، فيقولون: إن عفة الفتاة حقيقة كامنة في ذاتها، وليست غطاء يلقى ويسدل على جسمها، وكم من فتاة متحجبة عن الرجال في ظاهرها هي تمارس معهم البغي والفجور في سلوكها، وكم من فتاة حاسرة الرأس سافرة الوجه لا يعرف السوء سبيلاً إلى نفسها وسلوكها. إن هذا الكلام فيه شيء من الصحة فما كان للثياب أن تنسج لصاحبها عفة مفقودة، ولا أن تخلق له استقامة معدومة، وربّ فاجرة سترت فجورها بمظهر سترها، ولكن من هذا الذي زعم أن الله إنما شرع الحجاب لجسم المرأة لتخلق الطهارة في نفسها أو العفة في أخلاقها؟ ومن هذا الذي يزعم أن الحجاب إنما شرعه الله ليكون إعلاناً بأن كل من تلتزمه فهي فاجرة تنحط في وادي الغواية مع الرجال؟
إن الله عز وجل إنما فرض الحجاب على المرأة محافظة على عفة الرجال الذين قد تقع أبصارهم عليها، لا حفاظاً على عفتها من الأعين التي تراها ... .
فالمرأة عندما تستر زينتها بالحجاب ولا تتبرج تبرج الجاهلية تكون بذلك قد سدَّت باب الفتنة من ناحيتها ويكون لغض بصر الرجل دور في إخماد الفتنة ومنع تأجج الشهوات التي تؤدي إلى ارتكاب الفواحش والمنكرات، ثم لنتساءل: هل المرأة التي لا تلتزم بالشرع وتخرج من بيتها سافرة قد غطت وجهها بالمساحيق، هل هي حقاً حرة؟ "أم أنها أسيرة من حيث لا تدري، وإلا فبماذا نفسر عدم قدرتها على مغادرة المنزل إلا بعد أن تسحق بشرتها بأنواع السحوق...".
وبماذا نفسر العري الإباحي الذي يأبى أن يستر إلا مساحة قليلة من الجسد، هل يدل تصرف مثل هذا على التحرر الفكري لمن تمارسه، أم يدل على سعي حثيث للفت نظر شباب يجدون في اتباع موضة رخيصة تحرراً وعصرنة؟ ويعتبرون من تحافظ على حشمتها مثالاً للرجعية والتخلف؟
إن مثل هذا النوع من النساء نوع جاهل إذ تعتقد الواحدة منهن أن ما تفعله من تبرج وزينة يمكن أن يجلب إليها الأنظار أو يجلب لها الأزواج، لا، إن الواقع غير هذا تماماً، فالرجل الشرقي قد يعجب بالشكل واللباس الإباحي لمتعة النظر واللمس(115/235)
أحياناً أما عند الزواج فإن الأمر يختلف، وقد وصف د. "محمد سعيد رمضان البوطي" حال رجل اليوم بقوله: إن الرجال اليوم "نظروا فوجدوا فرص المتعة الخلفية المستورة قد كثرت أمامهم بفعل بحث النساء عن أزواج لهن في المجتمع، وأعجبهم الوضع.. فازدادوا تثاقلاً وزهداً في الزواج، لتزداد النساء بحثاً عنهم وسعياً وراءهم، وهكذا كان سعي المرأة في البحث عن الزوج أهم سبب من أسباب فقدها له".
الاختلاط
كلمة اختلاط لفظ مستحدث في عصرنا، فهذه الكلمة لم تستعمل في أي موضع من القرآن الكريم سواء بلفظها أو مدلولها، ولم ترد في أي حديث نبوي ولا في أي كتاب من كتب الفقه والتشريع، ولكن بدأ الكلام يكثر عن الاختلاط بعد أن رأى رجال الإصلاح من المسلمين ما هي عليه المرأة الأوروبية من زينة وتجمل "وحرية في الحركة والجولة ونشاط زائد في الاجتماع الغربي، ولما رَأَوْا كل هذا بعيون مسحورة وعقول مندهشة تمنوا بدافع الطبيعة أن يجدوا مثل ذلك في نسائهم أيضاً، حتى يجاري تمدنهم تمدن الغرب، ثم أثّرت فيهم النظريات الجديدة من حرية المرأة وتعليم الإناث ومساواة الصنفين".
إن المطالبين بحرية المرأة واختلاطها بالرجل هم أحد فريقين، "فريق يعلم جيداً أن الطريق الذي تسير فيه القضية سيؤدي إلى انحلال أخلاق المجتمع وتفككه كما حدث في أوروبا، وهو يريد ذلك ويسعى إليه جاهداً لأنه من الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا، وفريق آخر مخدوع مستغفَل لأنه مستعبَد للغرب لا يرى إلا ما يراه الغرب ... وهذا وذاك مسخران معاً لخدمة الصليبية في المجتمع الإسلامي، وخدمة اليهودية العالمية كذلك".
إن مخطط الغرب في تدمير الإسلام ليس مخططاً حديثاً، فقد شرح "شكيب أرسلان" في مقالة نشرتها المنار 1925 م. هدف دعاة الحرية والمساواة المطلقة بين المرأة والرجل بقوله: "عند إعلان الدستور العثماني سنة 1908 م قال أحمد رضا بك ـ من زعماء أحرار الترك ـ: ما دام الرجل التركي لا يقدر أن يمشي علناً مع المرأة التركية على جسر "غلطة" وهي سافرة الوجه فلا أعد في تركيا دستوراً ولا حرية".
لقد عمل هؤلاء منذ تلك الفترة على تنفيذ مخططاتهم التدميرية فنجحوا، بعد أن أبعدوا المسلم عن دينه وعقيدته، في بث الشكوك والتساؤلات حول القضايا الاجتماعية مستعينين بالنصوص الإسلامية من ناحية وبالجدل من ناحية أخرى.
أما النصوص الإسلامية فقد اعتبروها حجة على المعارضين للاختلاط بحجة أن الإسلام أباح للمرأة الخروج للصلاة في المسجد كما سمح لها بالجهاد مع الرجال ومداواة الجرحى. إن الرد على هذا الأمر بسيط، ذلك أن مفهوم الاختلاط المباح في الإسلام هو ذلك الاختلاط "المأمون، وهو الذي يكون لأسباب طبيعية. وتتحقق خلاله مصالح اجتماعية أو اقتصادية، وقد كفل الإسلام للمرأة حقوقها في طلب هذه المصالح في ظل الآداب والأخلاق، وليس هو الاختلاط العابث الماجن المستهتر الذي من شأنه مضيعة الوقت والعبث بالفضيلة والانطلاق العابث بغير حدود وقيود" ، فإن مثل هذا النوع من الاختلاط لا يقره أي دين مهما بلغت درجة تقدمه وانفتاحه.(115/236)
أما أسلوب الجدل فاستخدموه لإثبات نظرياتهم النفسية الجنسية الحديثة التي لا ترضى عنها الشرائع ولا الأخلاق، فيقولون : "إنه إذا شاع الاختلاط بين الرجل والمرأة تهذبت طباع كل منهما وقامت بينهما بسبب ذلك صداقات بريئة لا تتجه إلى جنس ولا تنحرف نحو سوء! أما إذا ضُرب بينهما بسور من الاحتجاب فإن نوازع الجنس تلتهب بينهما وتغري كُلاًّ منهما بصاحبه! فتُشيع في ذلك الكبت في النفوس والسوء في الطباع".
و(الجواب على هذا القول): إنه صحيح أن مظاهر الإغراء قد تفقد بعض تأثيراتها بسبب طول الاعتياد وكثرة الشيوع، ولكنها إنما تفقد ذلك عند أولئك الذين خاضوا غمارها وجنوا من ثمارها خلال فترة طويلة من الزمن، فعادوا بعد ذلك وهم لا يحفلون بها، وبديهي أن ذلك ليس لأنهم قد تساموا بها بل لأنهم يشبعون كل يوم منها.
من هنا نؤكد على أهمية اجتناب الاختلاط بغير سبب، خاصة في الحفلات العامة والحفلات الخاصة، والابتعاد عن مواطن الشبهات ومزالق الشهوات، خاصة أن كثيراً من حفلات الاختلاط تشوبها الخلوات، والإسلام لا يجيز أن تخلو المرأة برجل أجنبي عنها ولو كانت محتشمة في لباسها ومظهرها، وفي ذلك جاء الحديث الشريف "ما خلا رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما".
علم المرأة وعملها
لم يكن الذين يدعون إلى تحرير المرأة في بداية القرن يحلمون بالوصول إلى ما وصلت إليه المرأة اليوم من العلم، بل إنهم كانوا يعترفون أن أقصى ما يطالبون به هو تعليم المرأة العلم الابتدائي الذي يساعدها على تربية أولادها ومساعدتهم على التعلم، أما ما وصلت إليه المرأة الآن من الثقافة والعلم فهذا أمر لم يكن بالحسبان، خاصة أن طموح المرأة لا يقف عند حد، فهي تسعى لإزالة كل ما يمكن أن يؤدي إلى التفرقة في المساواة بينها وبين الرجل، لهذا ليس من المستغرب أن نجد في بنود الاتفاقيات الدولية الخاصة بالمرأة بنوداً تتعلق بواجب الدول الموقعة على الاتفاقيات في إيجاد المساواة بين الرجل والمرأة عبر تهيئة " نفس الظروف للتوجيه الوظيفي والمهني، وللوصول إلى الدراسات والحصول على الدرجات العلمية في المؤسسات التعليمية في جميع الفئات، في المناطق الريفية والحضرية على السواء".
والواقع أن هذه الاتفاقيات إذا كان يمكن أن تتماشى مع المجتمعات الغربية الأخرى فإنها لا تتماشى مع المجتمعات العربية التي لا زالت الفطرة تغلب على شريحة كبيرة من نسائها، حيث لازالت الفتاة تتعلم لمجرد أن تنال شهادة ما تؤمن لها الزوج المناسب وتقيها عثرات الأيام، هذا ما تؤكد عليه الدكتورة إلهام منصور حيث تقول عن المرأة اللبنانية: "إذا سألنا الأهل عن فائدة العلم بالنسبة للفتاة نسمع، في أغلب الأحيان، الجواب التالي: إن واجب المرأة الأول هو الزواج، وإن لم توفق المرأة بزوج كما تريد، أو إذا افتقر هذا الزوج أو إذا انقطع عن العمل لسبب من الأسباب فالمرأة المثقفة تستطيع العمل لتأمين العيش فقط، فالعلم والعمل عند المرأة اللبنانية هما قوة احتياطية أكثر الأحيان لا تُستغل".(115/237)
لقد أنكر دعاة التحرر رغبات المرأة وحاجاتها الفطرية إلى تكوين الأسرة وإنجاب الأولاد، وحاولوا الإثبات أنه ليس هناك فروق بيولوجية تمنع المرأة من العلم والعمل وإثبات الذات، إنما الموانع هي موانع خارجية تتمثل في الإسلام الذي يقف حاجزاً في سبيل تعلم المرأة، مع أن هذا مناف للحقيقة، فالإسلام "لن يمنع المرأة من طلب العلم، فهو الذي يدعوها إليه بل يفرضه عليها، ولكن الإسلام يشترط في تعليمها وفي نشاطها كله شرطين اثنين: أن تحافظ على تربيتها وأخلاقها، وأن تحافظ على وظيفتها الأولى التي خلقها الله من أجلها، وهي رعاية الأسرة وتنشئة الأجيال، وفي حدود هذين الشرطين تتحرك حركتها كلها".
هذا هو المطلوب فقط، المطلوب التعامل مع الأولويات ومع حاجات المرأة بصراحة لا كبتها كما تطلب إحداهن من زميلاتها المتحررات حيث تقول: "المتحررة حقاً هي التي تستطيع أن ترفض أي تدبير يتنافى مع اكتمال شخصيتها وتحقيق استقلالها، وبين الاستقلال والزواج تختار المرأة المدركة الواعية الاستقلال حتى ولو ضحت بحياتها الاجتماعية، لأنها تعلم أن حياتها الحالية في حياة لا تحمل مقومات استمرارها إلا من حيث الناحية الحيوانية فقط".
هل هذا الكلام مقبول؟ لا، إن الإصلاح لابد أن يراعي حاجات الإنسان والمجتمعات، ولا يفكر في مصلحة فرد دون آخر، فما ينفع النساء إن حصلن على الشهادات العالية وحُرمن من نعمة الأمومة، التي لا تكتمل كيان المرأة إلا بها، وصَدَقت يمان السباعي حين قالت: "ويل لأمة تفخر بنسائها في كليات الهندسة ورجالها على الأزقة لا يجدون عملاً، ولا يفكرون في قضية، ولا يحملون مسؤولية، ويل لأمة أهانت رجالها لتثبت ذاتية نساء ضائعات".
أسئلة لا بد من الإجابة عليها:
ما هو مفهوم الحرية؟ ومن هو الإنسان المتحرر (رجلاً كان أم امرأة)؟ هل هو ذلك الإنسان الذي أطلق العِنان لنفسه وشهواته يفعل ما يشاء متى شاء وفي أي وقت شاء؟ وهل الحرية تعني تفلت الإنسان من المسؤوليات والواجبات كي يصبح كالحيوان هدفه من الحياة إشباع غرائزه وشهواته؟
لا، إن معنى التحرر هو ذلك "التفكير العقلي والمنطقي في التخطيط للحياة بعيداً عن غول المؤثرات الخارجية مثل الأجواء والبيئة والعادات والتقاليد ومتطلبات العصر وغيرها، أو الداخلية مثل النفس، والشهوات والغرائز وما شابه، والتحرر أيضاً يعني العمل قدر الإمكان والمستطاع لإعطاء كل ذي حق حقه فللنفس حق.. وللغرائز حق.. وللمجتمع حق.. وحدود كل ذلك هو عدم تجاوز حقوق النفس والآخرين، وعدم الإسراف في ذلك" .
هذا المعنى لم يفهمه بعض دعاة التحرر من المسلمين الذين اعتبروا التحرر إطلاق العِنان للغرائز والشهوات دون اعتبار لمصلحة المرأة أو مصلحة عائلتها، لقد فهموا التحرر بأنه التهجم على القيم والأخلاق والإسلام الحامي لهذه القيم، لذلك اعتبروه العدو الأول للمرأة دون تفكير أو دراسة لتاريخه وتشريعه مكتفين بترداد ما نقله المستشرقون الحاقدون دون تمحيص، مما يسهل على المطلعين على أقوالهم انتقادهم بسهولة لما فيها من كذب وتدجيل، من هؤلاء أتباع الحركة النسوية العربية حيث(115/238)
تقول إحداهن: إن المرأة في الجاهلية كانت تتمتع بمزايا وحقوق سلبها منه الإسلام (السعراوي، 1982) وتقول أخرى أن أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها منحت الرسول أول عمل له ليتاجر في دمشق وكان عمره 12 عاما (الحبري،82).
إن المشكلة التي تعاني منها المرأة العربية المعاصرة هي الفجوة الزمنية التي تفصلها عن العالم الغربي حيث تخطت الحركة النسوية العالمية feminism مرحلة تحرير المرأة والمطالبة بمساواتها بالرجل لتصل إلى مرحلة جديدة تسمى "مرحلة ما بعد الفمنزم" تحول فيها عمل المرأة العالمية إلى معالجة المشاكل الاجتماعية التي تسببت بها خروج المرأة إلى العمل وإهمالها لأسرتها.
لقد كان من آثار اتجاه المرأة نحو العمل: ذلك التفكك الأسري الكبير الذي ترك بصماته على وضع المرأة بشكل خاص والمجتمع بشكل عام، فكانت أولى هذه النتائج غياب نموذج الأسرة التقليدية التي تشير الإحصائيات الغربية إلى أن نسبتها المئوية في تناقص كبير، فنسبة الأسر التي يعمل الأب فيها بينما تبقى الأم في البيت لرعاية الأطفال، أصبحت تمثل 30% من العوائل في أميركا و 11% في بريطانيا، كما ارتفع في الوقت نفسه نسبة الذين يعيشون حياة زوجية دون رابطة قانونية، ففي بريطانيا ازدادت نسبة النساء اللاتي يعشن مع رجل دون رابطة رسمية من 8 % علم 1981 إلى 20% عام 1988 .
وكان من هذه النتائج أيضاً: تقليل معدلات الولادات، ورفع نسبة الطلاق وانتشار ظاهرة الأمومة المنفردة والعنف المنزلي الذي كثيراً ما يستدعي تدخل الدولة لتخليص المعنفة، وظهور مشكلة المسنين التي أصبحت أحدث مظهر من مظاهر تحلل روابط الأسرة التي لا تكن للمشاعر العائلية أي اعتبار.
أخيراً.. هل المرأة عندنا متخلفة؟ نعم، قد يكون ذلك واقعاً جزئياً وليس وهماً، المرأة عندنا مهضومة الحقوق؟ نعم، فإنه في مجتمعات ابتعدت بصورة أو بأخرى عن هدي الإسلام لا بد أن يحدث مثل ذلك، ولكن هل هي وحدها التي تعاني؟ والرجل ما شأنه؟ إنه أيضاً متخلف في عديد من مجالات الحياة، إنه أيضاً مهضوم الحقوق في كثير من الصور (ويعاني)... فليست مشكلة المرأة عندنا في حجابها... ولا في قضية عملها، ولا في قضية التزامها ببيتها وزوجها وأولادها... إن مشكلة المرأة ومشكلة المجتمع بعامة عندنا تتلخص بأنه من الضروري أن يتنور كل من الرجل والمرأة وأن يتعلّما، وينفّذا قواعد الإسلام، وعندئذ يستطيع المجتمع المؤلَّف من الرجل والمرأة تحديد ما يريد بناء على بصيرة ونور من هدي رب العالمين.
شكرا جزيلا للأخت الفاضله د. نهى قاطرجي
على هذا الجهد و أسال الله ان يكون في مسزان حسناتها
http://www.lahaonline.com/Studies/QandA/a1-24-09-2004.doc_cvt.htm
سبحانك اللهم و بحمدك نشهد أنه لا أله إلا انت نستغفرك و نتوب أليك اللهم تقبل منا
الفقير إلى عفو ربه تعالى
أخوكم في الله الذي يحبكم فيه
زهير محمود البدري
ـــــــــــــــــــ(115/239)
... كيف أساعد طفلي على اختيار أصدقائه؟
أسماء نذير المحيميد
مما لا شكّ فيه، أنّ الطفل يتأثر كثيراً بتعامله مع أصدقائه، وينجم عن تفاعله معهم خصالٌ حميدةٌ، أو سيئةٌ، وذلك بحسب صفات هذا الصديق.
إنّ الأطفال قد يختلفون فيما يواجهونه من مشكلات مع أصدقائهم؛ بداية من اختيار الأصدقاء، ونهاية بالتعامل اليوميّ معهم.
ولكن..
كيف يمكنك أن تجعلي أصدقاء طفلك لبنة صالحة، تُضاف إلى البناء التربوي لطفلك؟!.
إليك بعض المقترحات التي قد تساعدك على ذلك:
- دعي طفلك يختار صديقه بنفسه، لأن ذلك يشعره بالراحة، والثّقة في نفسه.
وإذا تعرّف طفلك على صديق لا ترضين عنه، فحاولي أن تغيّري ما لا يرضيك في هذا الصديق، وذلك بدعوته إلى البيت، والعطف عليه، وممارسة ما تطلبين منه من سلوكيات، وقيم أمامه.
- إذا واجه طفلك صعوبة في اختيار صديقه فعليك بمساعدته في توسيع فرص اختيار الأصدقاء، وفتحها أمامه، سواء من المسجد، أو من المدرسة، أو الجيران.
- اجعلي بيتك مكاناً يحبُّ أصدقاء طفلك زيارته، وذلك بحسن الاستقبال، والاحترام، وإتاحة الفرصة لهم باللعب، والأمان، وعدم الإكثار عليهم من النصائح. فقط اختاري الوقت المناسب، لقليل من النصائح.
- إذا تأثّر طفلك بأحد أصدقائه سلباً، فحاولي تقليل فرص الالتقاء بهذا الصديق تدريجياً إلى أن يتوقف، أو يتغير هذا الصديق، وحاولي أن يكون لك أثر إيجابي في طفلك وذلك بالاقتراب منه، والاستماع إليه، ومعرفة ما يجذبه إلى هذا الصديق، وتعويضه عنه.
- احرصي على أن تكوني الصديق المفضل لطفلك، لأنك تحبينه، وتقدرينه، وتحترمينه، وتثقين به.
- إذا كان طفلك يحرص على اختيار أصدقاء لا ترضين عنهم، فقد يكون مردُّ ذلك إلى خلل في علاقتك به، فقد تكونين دائمة التحكّم به، فأراد أن يثبت عكس ذلك، أو قد تبالغين في نقده، وإشعاره بعدم الثقة، فيلجأ إلى الانتقام منك باختيار أصدقاء لا يعجبونك.
- غالباً ما يختار الأطفال أصدقاء يشاركونهم الطباع والاهتمامات نفسها، فإذا كان طفلك مغرماً بالرياضة فتوقّعي أنه سيختار أصدقاء يشاركونه الاهتمام نفسه. المهمّ أن تتحدثي مع طفلك، وتفهمي وجهة نظره في اختيار صديقه، وإذا لم يعجبك هذا الاختيار فاستمري في مناقشته بهدوء حتى تغيّري رأيه.
- إذا تشاجر طفلك مع صديقه فلا تسارعي بالانحياز إليه ضد صديقه، أو توبيخه أو لومه، فقط استمعي إليه، وقدّري مشاعره، وساعديه على أن يحلّ مشكلاته بنفسه.(115/240)
- لا تقلقي من كثرة أصدقاء طفلك، أو قلتهم فهناك عدد مثالي من الأصدقاء. بعض الأطفال يفضلون الاقتصار على صديق واحد، والبعض الآخر يفضّل مجموعة من الأصدقاء، وهناك من يفضل البقاء دون أصدقاء، تقبّلي اختيار طفلك واحترميه.
- ثقي أنّ طفلك سيقلدك في اختيار أصدقائه، فكوني قدوة له، ولا تصاحبي من يرى طفلك منهن ما تنهينه عنه.
ـــــــــــــــــــ
... أنصحك بالتبرج
جلست أتأمل في قول النبي محمد - [ - لجابر بن عبدالله: «هلا بكراً تلاعبها وتلاعبك» وفي رواية «تداعبها وتداعبك»، ولعل اللفظ الأول وهو (تلاعبها) لم يستوقفني لأن الرجل من طبيعته المبادرة والتجديد في المعاشرة الزوجية ولكن الذي استوقفني هو كلمة (تلاعبك) أي بنفس مستوى الرجل من الإقبال والتشويق والإغراء، ولعل هذا النص يتعارض مع واقعنا المعاصر وما نعيشه من تخلّف في ثقافة المعاشرة الزوجية، مما دفع كثيراً من الأزواج وأحياناً الزوجات من منطلق (العيب والحياء المزيف) إلى الخيانة الزوجية .
ولهذا حذّر النبي - [ - أمته من ذلك فقد روي الطبراني عن النبي - [ - قوله: «اغسلوا ثيابكم وخذوا من شعوركم واستاكوا وتزينوا وتنظفوا، فإن بني إسرائيل لم يكونوا يفعلون ذلك فزنت نساءهم».
أحببت أن أكتب هذه المقدمة وأنا أدعو الزوجات إلى (التبرج الزوجي) وهو يختلف عن تبرج الجاهلية الأولى والذي حذرنا الله منه، ولكن أريد أن (تتبرج) الزوجة لزوجها، وتستخدم كافة قدراتها الأنثوية من أجل الاستمتاع في الحياة الزوجية حتى يُشبع كل واحد منهما الآخر.
أكتب هذه الكلمات بعدما انهالت عليّ رسائل كثيرة عبر البريد الإلكتروني عن شكوى الأزواج والزوجات في علاقتهما الخاصة مع بعضهما البعض، وبعض الرسائل أجيب عليها وأكثرها أحيلها إلى صديق متخصص في المسائل الجنسية ليجيبهم عليها، ولكن ما لفت نظري في هذه الرسائل شبه ثقافة موجودة عند الرجال بعدم تزين الرجل لزوجته والتجمّل لها وإشباع رغبتها، بحجة أن هذا يقلل من هيبته، وثقافة تقليدية أخرى مماثلة لديهم هي أنهم عندما تتقرب زوجة الرجل إليه وتبدع في ذلك بلباسها وزينتها فإنه يسألها: من أين تعلمت هذه التصرفات؟!، ويشك فيها ويفتح معها ملف تحقيق فتنقلب لحظات السعادة والمتعة إلى شقاء وعذاب، ونسي هذا الرجل أن النبي - [ - وصف ورَغّبَ فيمن تمتلك صفة (وتداعبك)، (وتلاعبك). فأي جاهلية جنسية نعيشها اليوم وهي البعيدة عن هدي الحبيب محمد- [ - ، وأقول كذلك مما لاحظته من الرسائل ذلك الحياء المزيّف عند المرأة في عدم تبرجها لزوجها والتفنن في إشباع حواسه، بينما هي تتبرج في الخارج تبرج الجاهلية الأولى من غير حياء، فأي تناقض هذا الذي تعيشه (غرف نومنا)؟، ولهذا نلاحظ أسراً مفككة ومهلهلة بسبب عدم الاستقرار الجنسي بين الزوجين .
بعض الرسائل تأتيني من أزواج يطلبون من زوجاتهم أن يتحدثوا معهم بكلام غزلي فيرفضن، والبعض يطلب من زوجته أن ترقص له فترفض ، وآخر يطلب منها أن(115/241)
تلبس له لباساً معيناً فترفض، وإذا خرج من منزله وقعت عيناه على كل ساقطة ولاقطة ثم نشتكي من كثرة الخيانة! وبعض الزوجات يشتكين من روائح أزواجهن الكريهة، والبعض يعاملها زوجها وكأن المعاشرة الزوجية واجب لابد أن يتخلص منه، فتعيش الأسرة في معاناة والواقع اليوم لا يرحم ، كما صرحت بذلك الكاتبة البريطانية «فيكس وارد» في تحقيق صحفي كشف التحالفات بين مجلات المرأة ومجلات الجنس بشكل واضح، كما أن القنوات الفضائية تزيد من شعلة الإثارة وفي مقابل هذا كله لايوجد (تبرج زوجي).
ولهذا نلاحظ أن النبي - [ - كان يبعث عند عودته من السفر من يخبر أهل المدينة بقدومهم (حتى تمتشط الشعثاء وتستعد المغيبة)، ولقد كان الرسول يوصي أصحابه ألا يدخلوا على أهليهم بليل حتى لا يروهم إلا في أحسن هيئة ومظهر.
كل هذا الفقه العظيم الذي عندنا في التأكيد على (التبرج الزوجي) بحاجة اليوم إلى أن يظهر من جديد بدءاً من (تلاعبها وتلاعبك) وانتهاء بتلك النصوص التي ذكرناها، يقول الله تعالى:{هن لباس لكم وأنتم لباس لهن}على اعتبار أن فاللذة مشتركة بين الطرفين. والغريب في الموضوع كما ذكر د. أحمد الأبيض أن أوروبا لم تكتشف أن المرأة تلقى لذة إلا في القرن التاسع عشر من قبل دعاة - التطوير - (ذكرتها شرادر كليبرت في كتابها - الثورة الثقافية للمرأة).
وأقول ختاماً: إن الإسلام هو السبّاق دائماً حتى في الثقافة الجنسية وأقول للأزواج والزوجات: نعم أنصحك بالتبرج، وأنصح زوجك بالتبرج لك.
ـــــــــــــــــــ
... سـ 60 ـتون طريقة ذهبية لتكسبين زوجك
1 - أنت ريحانة بيتك فأشعري زوجك بعطر هذه الريحانة منذ لحظة دخوله البيت.
2 - تفقدي مواطن راحته سواء بالحركة أو الكلمة، واسعي إليها بروح جميلة متفاعلة.
3 - كوني سلسة في الحوار والنقاش وابتعدي عن الجدال والإصرار على الرأي.
4 - افهمي القوامة بمفهومها الشرعي الجميل والذي تحتاجه الطبيعة الأنثوية، ولا تفهميها على أنها ظلم وإهدار لرأي المرأة.
5 - لا ترفعي صوتك في وجوده خاصة.
6 - احرصي أن تجتمعا سويا على صلاة قيام الليل بين الحين والآخر فإنها تضفي عليكما نورا وسعادة ومودة وسكينة، ألا بذكر الله تطمئن القلوب.
7 - عليك بالهدوء الشديد لحظة غضبه ولا تنامي إلا وهو راض عنك ... زوجك جنتك ونارك.
8- الوقوف بين يديه لحظة ارتداء ملابسه وخروجه.
9- أشعريه بالرغبة في ارتداء ملابس معينة واختاري له ملابسه.
10- كوني دقيقة في فهم احتياجاته ليسهل عليك المعاشرة الطيبة دون إضاعة وقت.
11- لا تنتظري أو تتوقعي منه كلمة أسف أو اعتذار بل لا تضعيه في هذا الموضع إلا إذا جاءت منه وحده ولشيء يحتاج اعتذاراً فعلا.(115/242)
12- اهتمي بمظهره وملبسه حتى ولو كان هو لا يهتم به ويتباسط في الملبس إلا انه يشرفه أمام زملائه أن يلبس ما يثنون عليه.
13- لا تعتمدي على انه هو الذي يبادرك دائما ويبدي رغبته لك.
14- كوني كل ليلة عروسا له ولا تسبقيه إلى النوم إلا للضرورة.
15- لا تنتظري مقابلا لحسن معاملتك له فإن كثيرا من الأزواج ما ينشغل فلا يعبر عن مشاعره بدون قصد.
16- كوني متفاعلة مع أحواله ولكن ابتعدي عن التكلف.
17- البشاشة المغمورة بالحب والمشاعر الفياضة لحظة استقباله عند العودة من السفر.
18- تذكري دائما أن الزوج وسيلة نتقرب بها إلى الله تعالى.
19- احرصي على التجديد الدائم في كل شيء في المظهر والكلمة واستقبالك له.
20- عدم التردد أو التباطؤ عندما يطلب منك شيئا بل احرصي على تقديمه بحيوية ونشاط.
21- جددي في وضع أثاث البيت خاصة قبل عودته من السفر وأشعريه بأنك تقومين بهذا من اجل إسعاده.
22- احرصي على حسن إدارة البيت وتنظيم الوقت وترتيب أولوياتك.
23- تعلمي بعض المهارات النسائية بإتقان فإنك تحتاجينها لبيتك ولدعوتك وأداؤها يذكرك بأنوثتك.
24- استقبلي كل ما يأتي به إلى البيت من مأكل وأشياء أخرى بشكر وثناء عليه.
25- احرصي على أناقة البيت ونظافته وترتيبه حتى ولو لم يطلب منك ذلك مع الجمع بين الأناقة والبساطة.
26- اضبطي مناخ البيت وفق مواعيده هو ولا تشعريه بالارتباك في أدائك للأمور المنزلية.
27- كوني قانعة واحرصي على عدم الإسراف بحيث لا تتجاوز المصروفات الواردات.
28- مفاجأته بحفل أسري جميل مع حسن اختيار الوقت الذي يناسبه هو.
29- إشعاره باحتياجك دائما لأخذ رأيه في الأشياء المهمة والتي تخصك وتخص الأولاد دون اللجوء إلى عرض الأمور التافهة.
30- تذكري دائما أنوثتك وحافظي عليها وعلى إظهارها له بالشكل المناسب والوقت المناسب دون تكلف.
31- عند عودته من الخارج وبعد غياب فترة طويلة خارج البيت لا تقابليه بالشكوى والألم مهما كان الأمر صعبا.
32- أشركي الأولاد في استقبال الأب من الخارج أو السفر حسب المرحلة السنية للأولاد.
33- لا تقدمي الشكوى للزوج من الأولاد لحظة عودته من الخارج أو قيامه من النوم أو على الطعام لأن لها آثارا سيئة على الأولاد والوالد.
34- لا تتدخلي عند توجيهه أو عقابه للأولاد على شيء.(115/243)
35- احرصي على إيجاد علاقة طيبة بين الأولاد والأب مهما كانت مشاغله ولكن بحكمة دون تعطيل لأعماله.
36- أشعريه رغم انشغاله عن البيت بالدعوة بأنك تتحملين رعاية الأولاد بفضل دعائه لك وباستشارته فيما يخصهم.
37- لا تتعجلي النتائج أثناء تطبيق أي أسلوب تربوي مع أبنائك لأنه إن لم يأخذ مداه والوقت الكافي الذي يتناسب مع سن الطفل يترتب عليه يأس وعدم استمرار في العملية التربوية.
38- اجعلي أسلوبك عند توجيه الأبناء شيقا جميلا يخاطب العقل والوجدان معا ولا تعتمدي على التنبيه فقط حتى تكوني قريبة إلى قلوب أبنائك (أي إقناع الولد بالخطأ الذي اقترفه وليس الزجر فقط).
39- أبدعي في شغل وقت فراغهم خاصة في الإجازات وتنمية مهاراتهم وتوظيف طاقاتهم على الأشياء المفيدة.
40- كوني صديقة لبناتك أدركي التغيرات النفسية التي تمر بها الفتاة في كل مرحلة.
41- ساعدي الصبية على إثبات الذات بوسائل عملية تربوية.
42- احرصي على إيجاد روح التوازن بين واجباتك تجاه الزوج والأولاد والبيت والعمل.
43- احترام وتقدير والديه وعدم التفريق في المعاملة بين والديه ووالديك فهما أهديا إليك أغلى هدية وهي زوجك الغالي.
44- استقبلي أهل الزوج بترحيب وكرم وتقديم الهدايا لهم في المناسبات وحثه على زيارتهم حتى وان كان لا يهتم بذلك.
45- الاهتمام بضيوفه وعدم الامتعاض من كثرة ترددهم على البيت أو مفاجأتهم لك بالحضور بل احرصي على إكرامهم لأن هذا شيء يشرفه.
46- اهتمي بأوراقه وأدواته الخاصة وحافظي عليها.
47- اجعلي البيت مهيأ لأن يستقبل أي زائر في أي وقت ونسّقي كتبه وأوراقه بدقة وبشكل طبيعي دون أن تتفقدي ما يخصه طالما لا يسمح لك.
48- لا تعتبي عليه تأخره وغيابه عن البيت بل اجمعي بين إشعاره بانتظاره شوقا والتقدير لأعبائه فخرا.
49- لا تضطرينه أن يعبر عن ضيقه من الشيء بالعبارات ولكن يكفي التلميح فتبادري بأخذ خطوة سريعة.
50- أشعريه دائما أن واجباته هي الأولوية الأولى مهما كانت مسؤولياتك وأعمالك.
51- لا تكثري نقل شكوى العمل الدعوي أو المهني لزوجك.
52- اعلمي أن من حقه أن يعرف ما يحتاجه عن طبيعة ما تقومين به من عمل دون التعريض لتفاصيل ما يدور بينك وبين أخواتك.
53- أشعريه باهتمامك الشخصي فالزوجة الماهرة هي التي تثبت وجودها في بيتها ويشعر بها زوجها طالما وجدت حتى وان كان وقتها ضيقاً.
54- انتبهي أن تؤثر على طبيعتك الأنثوية كثرة الأعمال الدعوية والمهنية.(115/244)
55- حافظي على أسرار بيتك وأعينيه على تأمين عمله بوعيك وإدراكك لطبيعة عمله.
56- لا تضعيه أبدا في موضوع مقارنة بينه وبين آخرين بل تذكري الصفات الجميلة التي توجد فيه.
57- تعرفي على الفقه الدعوي الذي يساعدك على التحرك بسهولة وحكمة في الوسط النسائي حتى تحققي الأهداف المطلوبة في الوقت المطلوب دون إضاعة وقت.
58- تعرفي على المقاييس المادية التي تشغل عموم النساء ليسهل عليك إخراجهن منها وتخيري مداخل الحديث المناسب لهن.
59- احرصي عند متابعة عملك مع أخواتك أن تخاطبي القلب قبل العقل لمناسبة ذلك مع الطبيعة النسائية.
60- احرصي على التوريث والتفويض وإيجاد الردائف حتى لا تكبر معك أعباؤك ومسؤولياتك فيتوفر من يقوم بها بدلا منك.
وأخيرا لا تعتمدي على الجهد البشري كلية ولا تنسي أننا دائما نحتاج إلى توفيق الله.
ـــــــــــــــــــ
... أسباب البركة العائلية
أسباب البركة:
1ـ قراءة القرآن: كما يقول الله تبارك وتعالى: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ} [الأنعام:92]، فالقرآن جعله الله بركة من خلال اتباع تعاليمه وقراءته وتحكيمه والتداوي به، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [[البيت الذي يذكر فيه القرآن تسكنه الملائكة، وتهجره الشياطين، ويتسع بأهله ويكثر خيرًا]].
2ـ التقوى والإيمان بالله: يقول تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ} [الأعراف:96]، ويتضح لنا من قول الله تعالى أن الإنسان المؤمن التقي سوف يشعر بالبركة في حياته وفي زوجته وفي أولاده.
3ـ البسملة: يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: [[إذا دخل الرجل بيته فذكر الله تعالى عند دخوله وعند طعامه قال الشيطان لأصحابه: لا مبيت لكم ولا عشاء]], إذًا فذكر الله والبسملة لا بد أن يبدأ بهما الإنسان في كل شيء حتى عند جماع الزوجة يقول: [[اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا]], فإذا رزق بمولود في تلك الليلة بارك الله له فيه لأن أي عمل لا يبدأ باسم الله فهو أبتر أي مقطوع البركة.
4ـ الاجتماع على الطعام وبعض الأطعمة: كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: [[كلوا جميعًا ولا تفرقوا فإن البركة في الجماعة, فطعام الواحد يكفي لاثنين وطعام الاثنين يكفي الثلاثة والأربعة]] وكذلك هناك بعض أنواع الطعام فيها بركة مثل اللبن والعسل والزيت والتمر.
5ـ السحور: كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: [[تسحروا فإن في السحور بركة]] والمراد في البركة الأجر والثواب، ولكي يكون الإنسان مرتاحًا في الصوم.
6ـ ماء زمزم: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [[إن ماء زمزم مباركة إنها طعام طعم وشفاء سقم]].(115/245)
8ـ ليلة القدر: يقول الله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} [الدخان:3] ويعني ليلة القدر، فهي خير من ألف شهر.
9ـ العيدان: تقول أم عطية: كنا نؤمر أن نخرج يوم العيد حتى تخرج البكر من خدرها، ويخرج الحيض فيكن خلف الرجال، [[يرجون بركة ذلك اليوم وطهرته]].
10ـ المال الحلال: فالله تعالى طيب لا يقبل إلا طيبًا، يقول سهل رحمه الله في آكل الحرام: عصت جوارحه شاء أم أبى، ومن أكل الحلال أطاعت جوارحه ووفقت للخيرات.
11ـ كثرة الشكر والحمد: قال تعالى: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم:7].
12ـ الصدقة: كما أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم: [[صدقة السر تطفئ غضب الرب]].
13ـ البر وصلة الرحم: يقول النبي صلى الله عليه وسلم: [[صلة الرحم وحسن الخلق وحسن الجوار يعمرن الديار ويزدن في الأعمار]].
14ـ التبكير في طلب الرزق: فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: [[بورك لأمتي في بكورها]] ولذلك فإن كثيرًا من الأشخاص الأغنياء عندما سئلوا عن سر غناهم قالوا السبب التبكير ومنهم صخر الغامدي الذي قال: عندما سمعت حديث رسول الله عن التبكير أصبحت أرسل تجارتي في أول النهار ويروى أنه أُثرِي ثراءً عظيمًا.
15ـ الزواج: يعتبر الزواج من الوسائل الجالبة للبركة على الزوج والزوجة كما يقول الله تعالى: {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور:32] ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: [[التمسوا الرزق في الزواج]].
16ـ إقامة الصلاة: يقول الله تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه:132].
17ـ التوكل على الله: يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: [[لو أنكم توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصًا وتروح بطانًا]].
18ـ الاستغفار: يعتبر الاستغفار مصدرًا للبركة كما يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: [[من لزم الاستغفار جعل الله له من كل ضيق مخرجًا ومن كل هم فرجًا ورزقه من حيث لا يحتسب]].
ـــــــــــــــــــ
... المرأة عندنا
المرأة .. هذه الإنسانة التي جعلها كل من هب ودب قضيته ! حتى وإن أساؤا إليها ولم يحسنوا .. فأثاروا حولها الشبهات دون شبهات!! .. ونادو بتحريرها من قيود الإسلام التي كبلها بها .. زعموا ... باطلاً وزوراً.
قالوا إن الإسلام لم ينصفها .. واضطهدها وانتقصها حقوقها .. وتشعبت بهم الطرق ... طرق الضلالة .. فذهبوا في كل واد وناد يدعون لتحريرها !! .. تحريرها مماذا ؟! .. مما يصون كرامتها، ويحفظ عزتها، ويدعون الحرص على إعطائها كافة حقوقها ومساواتها بالرجل في كل شيء !! .. فهل حقاً ما ذهبوا إليه ؟! .. لندع التاريخ بحقائقه يرد على شبهاتهم وإفتراءاتهم .. ولننظر ماذا قدم الإسلام للمرأة .. وماذا قدم غيره من المناهج المختلفة والشرائع المتباينة .. وبمقارنةٍ سريعةٍ .. بين(115/246)
حالة المرأة في الشرائع المختلفة، وحالتها في شريعة الإسلام الغراء .. يمكن أن تتضح الصورة وتظهر الحقائق ..
فعند اليونان .. ماذا كانت؟ .. في أول عهدها كانت محتقرة مهينة حتى جعلوها رجساً من عمل الشيطان .. كانت كسقط المتاع تباع وتشترى في الأسواق ! .. محرومة من حق الميراث والتملك ولا أهلية لها .. يقول فيلسوفهم سقراط: " إن وجود المرأة هو أكبر منشأ ومصدر للأزمة والانهيار في العالم .. إن المرأة تشبة شجرة مسمومة، حيث يكون ظاهرها جميلاً ولكن عندما تأكل منها العصافير تموت حالاً "! ..
ثم في أوج حضارتهم تبدلت المرأة، واختلطت بالرجال، وشاعت الفاحشة .. حتى أصبح الزنا علناً .. واتخذوا التماثيل العارية باسم الأدب والفن! .. وعُدَّ من الحرية أن تكون المرأة عاهراً لها عشاق!! .. وأفرغوا على الفاحشة ألوان القداسة بإدخالها المعابد!! .. فماذا كان المصير؟ سقطت اليونان، وانهارت حضارتها، وزالت .. { وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ }[هود:102].
أما عند الرومان .. فلم تكن بأحسن حالاً منها عند اليونان .. إذ كان الشعار عندهم فيما يتعلق بالمرأة " إن قيدها لا ينزع، ونَيْرَها لا يخلع " .. وكان الأب غير ملزم بضم أبنائه إليه .. وله أن يضم لأسرته من الأجانب عنها ما شاء .. ويخرج منها من أبنائه ـ عن طريق البيع ـ ما شاء!. وكانت سلطة رب الأسرة على أبنائه وبناته وزوجته وزوجات أبنائه تشمل البيع والنفى والتعذيب وربما القتل أحياناً ! .. حتى جاء قانون "جوستيان عام 565م" فجعل سلطة الأب تأديبية فقط ..
وليس للمراة عند الرومان أية حقوق أهلية أو مالية بل لم يكن لها التصرف في مالها الخاص .. فهو يخضع لأبيها ثم للوصي الشرعي عليها من بعده .. فهى في حالة رق مدى حياتها .. تنتقل من رق أبيها إلى رق زوجها ..
وعندهم في قوانين الألواح الاثنى عشر أن فقدان الأهلية هي السن والحالة العقلية والجنس ـ أى الأنوثة ـ ولذا كانوا يفرضون الحجر عليها لأنوثتها !!!
هذا في حين أننا نجد المرأة عند الصينيين القدماء مشبهة بالمياه المؤلمة تغسل السعادة والمال وكان للصيني الحق في بيع زوجته أو دفنها حية، وإذا مات تورث لأهله!.
بينما نجدها في قانون حمورابي في عداد الماشية المملوكة .. فمن قتل بنتاً لرجل أعطاه ابنته ليقتلها أو يتملكها.
أما عند اليهود ففي شريعة مانو أن المرأة لا تعرف السلوك السوى ولا الشرف ولا الفضيلة وإنما تحب الشهوات الدنسة والزينة والتمرد والغضب، لذا لم يكن لها الحق في الاستقلال عن أبيها أو زوجها أو ولدها، وهي قاصرة طيلة حياتها، بل لم يكن لها حق الحياة بعد وفاة زوجها فهي تحرق معه حية على موقد واحد يوم وفاته وإلا .. عادت لاتعامل كإنسانة .. فقد كانوا ينظرون إلى المرأة التي لا زوج لها على أنها منبوذة ومدنسة لكل شيء تمسه .. والمنبوذ عندهم في رتبة الحيوان ! ..(115/247)
وفي شرائع الهندوس يقولون: ليس الصبر المقدر والريح والموت والجحيم والسم والأفاعى والنار أسوأ من المرأة .. فيا عجباً .. كيف جعلوا المرأة بلية فوق كل بلية .. !
وفي شريعة الفرس أبيح الزواج من المحارم كالأمهات والأخوات والعمات والخالات .. إلى آخره .. وكانت تحت سلطة الرجل المطلقة .. يحق له أن يحكم عليها بالموت .. أو ينعم عليها بالحياة!! .. وكانت تُنْفى أيام الحيض إلى مكان بعيد، لا يجوز لأحد مخالطتها! ..
ثم نادى " مزدك " فيهم باقتسام الأموال والنساء والمتعة، فشاعت الفوضى وعم الدمار .. وأصبح الرجل يدخل على نساء غيره .. حتى صار لا يَعْرفُ الرجل منهم ولده .. ولا المولود يعرف أباه فماذا عنها ؟ .. انهارت وسقطت { فَهَلْ تَرَى لهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ } [الحاقة ـ آية :8]
وعند اليهود كانت تعتبرها بعض الطوائف في مرتبة الخادم .. ! وكان لأبيها الحق في بيعها قاصرة، وهي لا ترث إذا كان لأبيها بنون ..
واليهود يعتبرون المرأة لعنة لأنها أغوت آدم .. جاء في التوراة (المحرفة): " المرأة أمرّ من الموت ".
وعندما يصيبها الحيض لا يجالسونها ولا يؤاكلونها، بل يعتبرونها نجسة، وكل ما تلمسه من طعام أو إنسان أو حيوان نجساً .. فبعضهم يطردها خارج البيت حتى تطهر .. وبعضهم ينصب لها خيمة يجعلها فيها ويضع أمامها خبزاً وماءً .. !!
فتأمل مدى القسوة التي كانت تعامل بها في أيام تكون فيها مضطربة النفس .. ومحتاجة إلى شيء من العطف والرفق ..
وفي النصرانية هال رجال المسيحية الأوائل ما رأوا في المجتمع الروماني من انتشار الفواحش وما آل إليه حالهم من انحلال أخلاقي شنيع، فاعتبروا المرأة باباً للشيطان، وأنها مسئولة عن هذا كله لاختلاطها بالرجال في فوضي شديدة .. فقرروا أن الزواج دنس يجب الابتعاد عنه .. وأن العلاقة بالمرأة رجس في ذاتها .. !
قال أحد قديسيهم ويسمى ترتوليان: " إنها مدخل الشيطان إلى النفس، ناقضة لنواميس الله .. مشوهة للرجل " .. !
وقال آخر ويُسمى سوستام: " إنها شر لابد منه، وآفة مرغوب فيها، وخطر على الأسرة والبيت، ومحبوبة فتاكة، ومصيبة مطلية مموهة ".
وكان من المضحكات المبكيات أن يجتمع مجمع " ماكون " ليبحث فيما إذا كانت المرأة مجرد جسم لا روح فيه أم لها روح ؟!!
ثم انتهوا إلى أنها خلو من الروح الناجية " أى من عذاب القبر " .. عدا مريم أم المسيح عليهما السلام ..
ثم عقد الفرنسيون عام 586 للميلاد مؤتمر للبحث: هل تعد المرأة إنساناً أم غير إنسان ؟! .. وأخيراً قرروا أنها إنسان خُلق لخدمة الرجل فحسب !
ثم أصدر البرلمان الإنجليزى في عصر هنري الثامن قراراً يحظر على المرأة أن تقرأ " العهد الجديد " لأنها تعتبر نجسة .. !!(115/248)
وفي سنة 1500 للميلاد شُكل مجلس إجتماعي في بريطانيا خصيصاً لتعذيب النساء .. وكان ضمن مواده .. تعذيبهن وهن أحياء بالنار !!.. وذلك في القرن الخامس عشر!
ومن الظريف أ ن القانون الإنجليزي عام 1805 للميلاد وكان يبيح للرجل أن يبيع زوجته بستة بنسات ـ يعنى نصف شلن ـ فما أرخص المرأة عندهم ! ..
أما القانون الفرنسي الذي وُضِع عقب الثورة الفرنسية في نهاية القرن الثاني عشر والتي أعلنت تحرير الإنسان من العبودية والمهانة، فقد نص على أن المرأة ليست أهلاً للتعاقد ! .. كما نص على أن القاصرين الذين يحجر عليهم هم: الصبى المجنون والمرأة .. واستمر الحال كذلك حتى عام 1938 حتى عُدل ! ..
وإذا نظرنا إلى حالة المرأة عند العرب قبل الإسلام فسنراها مهضومة في كثير من حقوقها ، ليس لها حق الإِرث .. فقد كانوا يقولون: " لا يرثنا إلا من يحمل السيف ويحمى البيضة " .. ولم يكن لها على زوجها أى حق ، وليس للطلاق عدد معين .. ولا لتعدد الزوجات عدد محدود ..
وإن مات الرجل عن زوجته وله أولاد من غيرها .. كان الولد الأكبر أحق بزوجة أبيه " نكاح المقت " ويعتبرها إرثاً كبقية أموال أبيه، إن شاء ألقى عليها ثوباً؛ إظهاراً لرغبته في زواجها .. أو يتركها لأهلها، أو يحبسها حتى تفتدى نفسها، أو تموت فيذهب بمالها ..
أما بعض القبائل فكانت تتشاءم من ولادة الأنثى فتئذها؛ إما خشية العار أو خشية الفقر .. وكانت هذه العادة منتشرة في "بعض" القبائل فقط ، منها ربيعة وكِندة وتميم وطييء .. ومنهم من دفن في الجاهلية إحدى عشرة بنتاً موؤودة ! ..
وكان عندهم أنواع من الزواج بغيضة فاسدة .. أبطلها الإسلام جميعاً ما عدا الزواج الراقي التي كانت تُعرف به قريش من خطبة ومهر وعقد فقد أقره الإسلام مع إبطال بعض العادات الظالمة للنساء فيه من استبداد في تزويجهن كرهاً أو عضلهن أو أكل مهورهن ..
وما كانت المرأة العربية تفتخر بشيء قبل الإسلام على أخواتها في العالم كله سوى حماية الرجل لها، والدفاع عن شرفها، والثأر لامتهان كرامتها .. وهذا لم يكن عند كل العرب ؛ وإنما كان من بعض القبائل دون غيرها.
أما المرأة في الإسلام .. فما أجلَّ الإسلام .. وما أجلَّ شريعته وأحكامه .. فلم يعتبرها جرثومة خبيثة كما اعتبرها الآخرون ـ ولكنه قرر أنها بين يدى الإسلام قسيمة الرجل ..
وبداية .. قرر أنها والرجل في الإنسانية والكرامة والأهلية سواءّ بسواء .. قال تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ }[النساء:1] .. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:[إنما النساء شقائق الرجال] رواه أحمد و الترمذي وأبو داود عن عائشة.
وقد وردت آيات كثيرة تساوى الرجال بالنساء في الإنسانية .. كما وردت الآيات تساويهن بالرجال في الإيمان .. والجزاء والمثوبة، قال تعالى: { فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ }[آل(115/249)
عمران:195] .. { وَعَدَ اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا }[التوبة:72].
ثم إن الإسلام كرمها وليدةً .. وصبية ً .. وأختاً .. وزوجاً .. وأمّاً. والأحاديث الصحيحة في هذا كثيرة .. ولو ذهبنا نعدد الآيات والآحاديث التي جاءت توصي بالمرأة خيراً منذ ولادتها حتى مماتها .. ومن ترغيب الأب في رحمتها وحسن رعايتها وتأديبها ابنة .. وحفاظا على كرامتها وصونها أختا ًوحسن عشرتها والإحسان إليها زوجة .. والشفقة بها والحنو عليها والتلطف والتأدب معها أمّاً .. لفاض الكلام واتسع .. ولكن حسبنا التنويه بالحقائق والثوابت ..
فمن السنة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحمل أمامة ابنةَ ابنته زينب وهو يصلى .. والصلاة من أجلّ العبادات .. ومن وصاياه صلى الله عليه وسلم: [ استوصوا بالنساء خيراً ] (متفق عليه)، وعن عائشة رضى الله عنها قالت: [ ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده خادماً قط ولا امرأة ] (رواه مسلم) .. فأين هذا من إهانتها وتعذيبها وضربها في الشرائع السابقة التي أوردتها ..
ثم إن الإسلام جعل لها الحق في الميراث .. خلافاً للشرائع الأخرى، وجعل لها الأهلية الكاملة في التعامل والبيع والشراء والتصرف في أموالها، ولها حق التملك ولم يحجر عليها كما في الشرائع الأخرى ..
ثم جعل كرامتها مثل كرامة الرجل سواءً بسواء .. فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة لأم هانيء بنت أبي طالب ـ وقد أجارت رجلين من أحمائها قد استوجبا القتل ـ [ قد أجرنا من أجرت يا أم هانيء، وأمّنّا من أمّنت ](رواه البخارى بنحوه).
أما مراعاته لمشاعرها ونفسيتها ففي هذا يفيض الكلام فانظر كيف كان يعامل رسول الله صلى الله عليه وسلم الحائض .. فعن عائشة رضي الله عنها قالت:[ كنت أشرب من الإناء وأنا حائض ثم أناوله للنبي صلى الله عليه وسلم فيضع فاه على موضع فيَّ ](رواه مسلم).
وعنها أن النبي صلى الله عليه وسلم [ كان يتكيء في حجري وأنا حائض فيقرأ القرآن ](متفق عليه) .. وهذا خلافا لمن يعدونها نجسة .. ويطردونها من البيت إن حاضت .. فتأمل .. حتى في آخر خطبة خطبها النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع أوصى بالنساء خيراً .. وكان آخر ما وصى به رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث كلمات، ظل يتكلم بهن حتى تلجلج لسانه صلى الله عليه وسلم جعل يقول: [ الصلاة الصلاة .. وما ملكت أيمانكم، لاتكلفوهم مالا يطيقون .. الله الله في النساء فإنهن عوان في أيديكم ](رواه النسائي وابن ماجه).
فهل هناك مقارنة بين ما أكرمها به الإسلام وبين ما كانت عليه من امتهانٍ وضعة ؟
ـــــــــــــــــــ
... صور من المرأة التقية
أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حافلة بذكر المرأة التقية التي تنأى عن التبذل، وتلتزم أمر الله ورسوله صلى الله علية وسلم وتنتهي عما يغضب الله تعالى،(115/250)
فينعكس تقواها على البيت رحمة وسعادة وعلى المجتمع صفاء ونقاء، وعلى الحياة صلاحاً وإصلاحاً.
ألم يقل الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: «الدنيا متاع، وخير متاعها المرأة الصالحة» ويوصي الزوج المؤمن بامرأته المؤمنة خيراً: «لايفرك مؤمن مؤمنة، إن كره منها خلقاً رضي عنها آخر» وفي حجة الوداع قال:« ألا واستوصوا بالنساء خيراً».
وها أنا أقدم صورا من النساء التقيات في أحاديثه صلى الله عليه وسلم، ففي الحديث الذي رواه عبدالله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما في النفر الثلاثة الذين باتوا في الغار، فانحدرت صخرة من الجبل فسدت عليهم الغار فتوسلوا إلى الله تعالى أن ينجيهم فذكروا صالح أعمالهم، يقول الثاني منهم: «اللهم إنه كانت لي ابنة عم كانت أحب الناس إلي، وفي رواية، كنت أحبها كأشد مايحب الرجال النساء، فأردتها على نفسها، فامتنعت مني حتى ألمّت بها سنة من السنين فجاءتني فأعطيتها عشرين ومائة دينار على أن تخلي بيني وبين نفسها ففعلت، حتى إذا قدرت عليها، قالت: اتق الله، ولاتفض الخاتم إلا بحقه. فقد كانت نقية لم تمكنه من نفسها ابتداء، فلما ضعفت لفقرها، وكاد الفقر أن يكون كفراً، اضطرت إلى ماطلب وذكرته بالله تعالى وتقواه، وهزت فيه المشاعر الإيمانية وأن عليه- إن أرادها- أن يتزوجها حلالاً ولايقع عليها زنا، فارعوى وتاب إلى الله تعالى، فكان لها الفضل الأكبر عليه حقيقة، في انفراج شيء من الصخرة يوم سدت باب الغار.
وما أروع ماقالته السيدة هاجر رضي الله عنها زوج إبراهيم وأم إسماعيل عليهما السلام حين تبعت زوجها، بعد أن وضعها وابنها في واد غير ذي زرع ومضى، تكرر على مسامعه: ياإبراهيم: أين تذهب وتتركنا في هذا الوادي الذي ليس فيه أنيس ولاشيء؟. وجعل لايلتفت إليها، فقالت له: آالله أمرك بهذا؟. قال: نعم. قالت والإيمان رفيقها والتسليم لقضاء الله غايتها، والاعتماد عليه سبحانه وتعالى رائدها: إذاً لايضيعنا. نعم، إن الله لايضيع عباده الصالحين، ألم يعوض الله سبحانه وتعالى الرجل وزوجته في سورة الكهف {وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين فخشينا أن يرهقهما طغياناً وكفرا، فأردنا أن يبدلهما ربهما خيراً منه زكاة وأقرب رحما}
ألم يحفظ الله تعالى صاحب الكنز، الرجل الصالح، في ولديه حين أمر صاحب موسى أن يبني الجدار من جديد فيثبته حتى يكبر ولداه فيأخذا كنز والدهما؟ قال تعالى: {أما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما وكان أبوهما صالحاً فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك}.
الى كل شاب أو فتاة حاولت وحاولت وفكرت بالأجتهاد في الطاعات وتجد تسويف في قلبها ، توكلي على الله أولا وأدعي الله بأن يوفقك للخير وثقي بأن الله يفرح بقرب العبد منه
الفشل طريق النجاح
حتى ندرك النجاح، لابد من معرفة معنى الفشل، والفشل: هو عدم وضع هدف ثم العمل على تحقيقه مهما كانت العوائق. فكما أن النجاح أمر نختاره ثم نسعى لتحقيقه، فإن الفشل يمكن أن يكون كذلك. فعندما نرى الأشخاص الذين يفتقدون(115/251)
الأهداف والحوافز التي تدفعهم للنجاح فإننا نرى أشخاصاً يعيشون بدون غرض ولايستمتعون بحياتهم، بل إنهم يشعرون أنها مليئة بالفشل.
سئل أحد المخترعين الكبار بعد أن جرب 100 طريقة ولم تنجح: هل تشعر بالفشل؟
أجابهم قائلاً: لا، لكني تعلمت 100 طريق لاتؤدي إلى النجاح. هذا المخترع لإصراره على النجاح توصل إليه أخيراً، وماكان يمكنه ذلك لولا أنه قطع الطريق إلى النجاح، فكان من الصعب ألا ينجح في المرات التالية.
نخطئ عندما نستخدم كلمة «حاولت» لتبرير فشلنا. وعندما يكون هناك هدف محدد فإننا إما ننجح أو نفشل في تحقيقه، وليس هناك نقطة في الوسط. ولكن غياب النجاح السريع لايعني الفشل، بل معلومات تفيد في ضبط المسار وتعديل خطط تحقيق الهدف، ولذلك فإن كلمة «حاولت» قد تجعل الإنسان يتوقف بدلاً من استمرار السعي لتحقيق الهدف.
عندما يريد شخص أن يصعد جبلاً، فإن عدد مرات سقوطه لايدل على قدرته على الوصول إلى القمة، ولكن عدد المرات التي ينهض فيها بعد السقوط هو مايدل على قدرته على ذلك. ويفشل هذا الشخص عندما يقول: «حاولت ولم أنجح» فهذا يعني أنه توقف عن النهوض والسعي لتحقيق هدفه، أو أنه يبرر فشله وعجزه. وكلا الأمرين لايفيد.
مثال ذلك: ضع قلماً أمامك على الطاولة، ثم حاول أن ترفعه، هناك احتمالان:
إما أن ترفعه أو ألا ترفعه. عندما ترفع القلم فإنك لم تحاول رفع القلم، بل رفعته فعلاً، قد تفيد المحاولة ويكتفى بها في مراحل التعليم والتدريب، ولكنها في الحياة العملية يجب ألا يساء استعمالها، فتكون مبرراً للفشل كما رأينا
الى خير أمة ..أمة محمد صلى الله عليه وسلم
الفشل طريق النجاح ... عودي لكتاب ربك
وأبشري بسعدك
ـــــــــــــــــــ
... افكار في كيف نحبب أبنائنا بالصحابة الكرام
بعض الأساليب والطرق المفيدة لنحبب أبناءنا وبناتنا بالصحابة رضوان الله عليهم أجمعين:
1-إذا كان الابن يحمل اسم صحابي ، فقل له قصة ذلك الصحابي وبعض مآثره.
2-العب معه ( قصة وشخصية ): ضع مجموعة أسماء من الصحابة ومجموعة قصص ، ثم اذكر له القصة واطلب منه أن يختار الصحابي الذي حصلت
له القصة.
3-اطلب منه أن يقوم بعد أسماء الطلاب في صفه أو أبناء الجيران الذين يحملون أسماء صحابة واجعل له مكافأة على ذلك واجعله يخبر أصدقاءه بذلك.
4-كتب السير مليئة بأسماء الصحابة وعددهم وقصصهم .
5-من الجميل أن تجتمع العائلة أسبوعياً وتختار ( شخصية الأسبوع ) على أن تكون مرة من الصحابة الذكور ومرة من الإناث وتختار بعض القصص المذكورة عنهم ، ويتفق أفراد العائلة على تمثل هذه الأخلاق ، مثلاً: كان الصحابي الجليل عبد(115/252)
الرحمن بن عوف – رضي الله عنه – كثير الصلة للأرحام والسعي على الأرملة والمسكين .. فيصبح هذا شعار الأسبوع ( السعي على الأرملة والمسكين) .
6-( تمثيل الأدوار ) فيقوم كل من الأم والأب باختيار موقف لصحابي اشترك فيه عدة أشخاص ، وتحاول العائلة مجتمعة أن تصيغ ( سيناريو وحوار ) للحدث وتتخيل الكلام الذي قيل، وتقوم بعمل ( سكيتش ) يمثل فيه كل واحد من الأسرة دور في الحدث ، وهو أدعى لتجسيد واقع الصحابة رضوان الله عليهم .
7-زيارة مواقع زارها الصحابة بقصد التعرف على حياتهم والأماكن التي نزلوا فيها بعيداً عن الشرك – مثل الأردن فهي مليئة بآثار الصحابة الكرام.
8-مسابقة ( أين دفن هذا الصحابي؟؟) فالصحابة قد انتشروا في أرجاء المعمورة ومعظم البلاد الإسلامية تضم في أحضانها رفات بعض الصحابة الكرام مثلاُ: أبو أيوب الأنصاري في تركيا فمن الجميل أن يربط الابن بين الصحابي
والبلد الذي دفن فيه من خلال مسابقة أو لعبة .
9-إطلاق كنية على الأبناء مرتبطة باسم أحد الصحابة يغرس في قلب الطفل حب الصحابي وهو صغير سواء من الذكور أو الإناث .
10- استثمار حدث سلبي أو إيجابي لتقول لابنك: لماذا لا تكون مثل فلان؟ أو أنت مثل فلان ، وتسمي له أحد الصحابة – وطبيعي سيسأل ماذا فعل فلان ؟؟ ثم تخبره بقصة تناسب الموقف ، وذلك أدعى لأن يلتصق بذهنه الصحابي والحدث .
11-الكثير من الطرق والمناطق والمدارس سميت على أسماء بعض الصحابة الكرام، فمن الجميل عندما نمر بإحداها أن نتعرف على ذلك الصحابي وأن نطلب من الأبناء البحث عن سيرة ذلك الصحابي وأن نجعل على ذلك مكافأة .
12-عود أبنك على مشاهدة كتب السير التي تتحدث عن حياة الصحابة ، وتدرج معهم في ذلك من الكتب السهلة البسيطة وحتى الكتب الكبيرة .
13- إرشادهم إلى احترام الصحابة وعدم إهانتهم أو شتمهم.
14-بيان شهرة كل صحابي ( أبو بكر الصديق) ( عمر الفاروق) ( عثمان الحياء)
( خالد بن الوليد القوة ) .
15-قراءة سلسلة ( صور من حياة الصحابة
ـــــــــــــــــــ
... طرق لنشر الخير في المدارس
إبراهيم الحمد
الحمد لله ، والصلاة والسلام على خير خلق الله وآله وصحبه ومن والاه ... وبعد :
فمما لا شك فيه ، ومما لا يجادل فيه عاقل أنه بتربية النشء تتقدم الأمة ، وبتعليم الشباب تتحصن بل وتهاجم أعداءها . ومن المعلوم أن نظام التعليم في هذه البلاد – بفضل الله – قد أتاح الكثير من الفرص لنشر الخير داخل المنشآت التعليمية التي يقضي فيها شباب الأمة وقتاً ليس باليسير ، ومن المؤسف أن البعض ينظر إلى التعليم على أنه مجرد معلومات ، ناسين أو متناسين الدور الحقيقي للتربية والتعليم ، وإسهاماً مني في نشر الخير ، وإحياءً للدور الحقيقي للتعليم كتبت هذه الطرق التي استفدتها من خلال التجربة ومن إخواني الأفاضل .(115/253)
فإلى كل من أراد إصلاح مدرسته وأداء أمانته أهدي هذا الكتاب .
بين يدي الكتاب
أخي الفاضل إليك هذه التنبيهات :
1- لا يمكن أن نعمل على الإصلاح ما دمنا لم نشعر ولم نعِ أهمية نشر الخير في مدارسنا وبين النشء .
نعم غيرنا يهدم والهدم أسهل من البناء ، لكن قد يكون البناء صامداً لا يسهل هدمه ، ثم كوننا نبني وغيرنا يهدم أقل ضرراً من أن نظل متفرجين صامتين لهدم شبابنا بل أمتنا .
2- سأذكر في هذا الكتاب الأنشطة الخيرية – فقط – وهذا لا يعني عدم الاهتمام بالأمور التنظيمية والترفيهية التي تساعد على نجاح الطرق الخيرية ،كما أني لم أذكر واجب المعلم المنهجي في الفصل، فهناك كتب متخصصة في ذلك .
3- لا ينبغي أن نكون في دعوتنا وحلولنا بعيدين عن واقع الطلاب وما يواجهون .
4- قد تتداخل هذه الطرق فيما بينها ، وقد يُستطاع فعل بعضها دون الآخر ، لذا يُؤخذ منها ما يُستطاع ويناسب .
5- ينتبه عند تطبيق بعض البرامج إلى أخذ الإذن فيها قبل العمل بها .
6- أقترح تشكيل لجنة أو مجموعة في المدرسة تهتم بتنفيذ مثل هذه الأمور ، وتخطط لها في بداية الفصل الدراسي التخطيط السليم المتابع .
7- وجود طابع التدين في المدرسة وذلك بتعاملها وكثرة برامجها – بشكل عام – يحل كثيراً من الإشكالات الطلابية ويقللها .
8- ينبغي على المسئولين في المدارس التعاون والتشجيع المادي والمعنوي لنشر الخير .
9- هذه الطرق الخيرية يقوم بها المعلمون وكذلك الطلاب أو على الأقل يتم توصيلها إلى المعلمين الأفاضل ، وأقول : ما كان عندك قديماً كان عند غيرك جديداً ، وأرجو ألا تعدم الفائدة من هذا الكتاب .
10 - لا مانع من استخدام هذه الطرق في مدارس البنين وكذلك مدارس البنات حسب المناسب .
11-أذكرك – أخي الفاضل – باستصحاب الإخلاص فيما تقوم به من دعوة وإصلاح .
12-لا بد أن نعلم أن الدعاء والقدوة الحسنة والتعامل الطيب هو بداية القبول بإذن الله .
11 طريقة لنشر الخير بين المعلمين
الطريقة الأولى :
التعاون على إبعاد أي بادرة شحناء بين المعلمين ، والعمل على إيجاد روح التآلف بين المعلمين حسب الإمكان والمصلحة ، ومما يعين على ذلك :
أ – لقاء أسبوعي أو شهري خارج الجو التعليمي 0
ب- التحذير من النميمة والغيبة في الحال وإقناع الزملاء بالبعد عنها .(115/254)
جـ - إحياء خُلُق التسامح عن الزلات ، والتنازل عن بعض الرغبات في سبيل الأخوة في الله .
الطريقة الثانية :
النصح الودي بين المعلمين بالأسلوب المناسب ، وذلك عند وجود أي خطأ سواء في المظهر أو الملبس أو الكلام أو غير ذلك ، ووجود النصح يضفي على المدرسة طابع التدين مما يجعل كثيراً من المعلمين يعمل ويتعاون على ذلك .
وقد يتحرج البعض من النصح المباشرة ، فأقترح وضع صندوق للمراسلة بين المعلمين .
الطريقة الثالثة :
الاهتمام بغرفة المعلمين ، وذلك بالطرق التالية :
أ - وضع مكتبة مسموعة ومقروءة فيها بعض المجلات النافعة والكتيبات المناسبة .
ب- وضع فيديو تُعرض فيه الأشياء المفيدة .
ج - وضع لوحات إرشادية مثل : ( ركن الفتوى الأسبوعية ) ، و ( حديث الأسبوع ) ، و ( ركن الإعلانات الخيرية ) .
الطريقة الرابعة :
عرض المشاريع الخيرية على المعلمين مثل ( كفالة الأيتام - بناء المساجد – الاشتراك في المجلات الإسلامية – تفطير الصائمين – دعم المشاريع الخيرية بشكل عام ) وغيرها .
ويفضل ما يلي :
أ - استضافة أحد مندوبي بعض المؤسسات ليطرح الفكرة ( المشروع الخيري ) على المعلمين .
ب- الاستفادة من لوحات الإعلانات في الإعلان عن بعض المشاريع .
ج- أن يعرض كل فكرة لوحدها .
الطريقة الخامسة :
الارتقاء بفكر وثقافة المعلم وتطلعاته وذلك :
أ - بتعريف المعلم ببعض أحوال إخوانه المسلمين في العالم الإسلامي في الأحاديث والجلسات بين المعلمين أو اللوحات الحائطية أو النشرات المدرسية .
ب- طرح دورات تعليمية وتدريبية للمعلمين داخل المدرسة أو المشاركة في الدورات المقامة خارج المدرسة .
الطريقة السادسة :
طرح مسابقة خاصة بالمعلمين تناسب مستوى المعلم .
الطريقة السابعة :
رسالة إلى المعلم ، وذلك بأن يجهز للمعلم ظرف فيه بعض المطويات الخيرية وكتيب أو مجلة أو غير ذلك من الأشياء المناسبة والمفيدة للمعلم ، تكون هذه الرسالة كل شهر مثلاً .
الطريقة الثامنة :(115/255)
استضافة أحد المشايخ – أحياناً – عند لقاء المعلمين خارج المدرسة ، وإن لم يكن لقاء خارج المدرسة فيستضاف في بعض الاجتماعات المدرسية .
الطريقة التاسعة :
إقامة بعض المحاضرات في المدرسة خاصة بالمعلمين مع استضافة معلمي المدارس الأخرى ، وذلك خارج وقت الدوام الرسمي . وأتمنى أن تتبنى هذه الطريقة والتي قبلها الجهة المختصة في إدارة التعليم .
الطريقة العاشرة :
عرض فكرة الاشتراك في الشريط الخيري . حيث يوفر للمدرس المشترك شريط كل أسبوعين أو كل شهر ، وذلك بعد إعطاء سعر رمزي في بداية السنة .
الطريقة الحادية عشرة :
استغلال مجلس الآباء كأن تُلقى كلمة توجيهية أو تُوزع بعض النشرات التوجيهية 0
تنبيه : ينبغي أن يكون للمربين والدعاة في المدرسة وجود سواءً في الجلسات الداخلية والخارجية أو في تنظيم المدرسة أو غير ذلك بحيث يكون لهم قبول أكثر عند الآخرين 0
35 طريقة لنشر الخير بين الطلاب
من المعلوم أن هناك أوقاتً مخصصة للناط في المدارس كحصة النشاط والريادة والجماعات ، وسأذكر بعض الطرق الخيرية التي تناسب هذه الأوقات وغيرها – بشكل عام – عسى الله سبحانه وتعالى أن ينفع بها :
الطريقة الأولى :
المحاضرات التربوية : ومن المفضل :
أ - أن يستضاف لها أحد المحاضرين المناسبين ، وأن تكون ذات موضوع مناسب .
ب- الإعلان عنها وتحريض الطلاب على الاستفادة منها .
ج- تنبيه الطلاب بإجراء مسابقة على المحاضرة في الغد .
د - ليس باللازم أن تكون إلقاء ، فبالإمكان إجراء مقابلة – مثلا – مع أحد المسئولين في هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، أو مكاتب دعوة الجاليات ، أو إحدى المؤسسات الخيرية أو مع أحد العائدين إلى الله .... إلخ .
الطريقة الثانية :
كلمات ما بعد الصلاة : ومن المفضل :
أ - أن يلقيها المعلمون المناسبون بالتناوب ، أو أحد الطلاب ، ثم يعقب أحد المعلمين عليها أو بدون تعقيب .
ب- أن تكون كلمة واحدة فقط أو كلمتين كل أسبوع لا يُطال فيها ، وأن تكون العناوين مرتبة وهادفة .
ج- إما أن تكون تنبيهاً عاماً أو تكون مسلسلة مثل ( قصة كل أسبوع ) حيث تذكر القصة مع التعليق اليسير عليها ، أو حديث ( الأسبوع ) بالتعليق أو بدونه ، أو ( كتاب الأسبوع ) حيث يتم التعريف بكتاب يُحَثُّ الطلاب على اقتنائه ، أو ( مشكلة وحل ) ، أو ( فتوى الأسبوع ) وجميع الكلمات تحقق الهدف المرجو بإذن الله .
الطريقة الثالثة :(115/256)
تطوير طريقة الإذاعة المدرسية ( وخاصة وقت الطابور الصباحي ) ، ومن تطويرها ما يلي :
أ - الاستفادة من الطريقة رقم ( 2 ) فقرة ( جـ ) .
ب- تعويد الطلاب على الإلقاء الارتجالي .
ج- إيجاد بعض البرامج المفيدة مثل ( استماع إلى شريط قرآن أو محاضرة ثم تعريف به - ذكر بعض جراحات العالم الإسلامي وتبصير الطلاب بواقعهم – مقابلة مع أحد المسلمين الجدد – مقابلة مع أحد الدعاة المسلمين من بعض الدول النائية ) وغيرها .
الطريقة الرابعة :
حلقة القرآن الصباحية :
وتكون في وقت الطابور بحيث من يرغب المشاركة فيها يُعفى من حضور الطابور ، ومدتها تقريباً 20 دقيقة يحفظ فيها الطلاب كل يوم بعض الآيات من كتاب الله ، مع وجود سجل للحضور والغياب والحفظ .
الطريقة الخامسة :
حلقة القرآن المسائية :
فينشأ حلقة في المساء داخل المدرسة مع وضع الحوافز المشجعة لها ، بإشراف أحد المعلمين أو غيره يعطى مكافأة من ميزانية المدرسة ، فإن لم يتم إنشاء الحلقة داخل المدرسة فينشأ حلقة في الحي القريب من المدرسة في أحد المساجد .
الطريقة السادسة :
النشرات الخيرية [1] :
بحيث يتم توزيع النشرات الخيرية على الطلاب وهي على قسمين :
أ - نشرات توجيهية مرتبة ومسلسلة يعدُّها المعلم – وقد تكون جاهزة – يعالج فيها بعض الأخطاء أو يُذكِّر بموضوع مُهمٍّ ( كالصلاة – بر الوالدين – حفظ اللسان – صلاة الوتر – حكم الإسبال ..... إلخ ) . وتكون عليها أسئلة مدرجة كمسابقة مدرجة في آخرها يكون عليها جوائز .
ب- نشرات توجيهية أوقات المواسم ( رمضان – عاشوراء – عشر ذي الحجة ... إلخ ) وهي - ولله الحمد – متوفرة .
الطريقة السابعة :
إعداد المسابقات :
أ - مسابقة القرآن الكريم .
ب- مسابقة حفظ الأحاديث .
ج- مسابقة حفظ الأذكار .
د - مسابقة على نشرة أو كتيب بعد توزيعه .
ذ - مسابقة عامة ( منوعة أو بحوث ) .
ر - مسابقة الأسرة ( يجيب عنها الطالب مع مشاركة أفراد أسرته ) وتكون إما عامة أو على شكل كتيب موزع مثلاً .
ز - مسابقة الإلقاء .(115/257)
الطريقة الثامنة :
الجمعيات المدرسية : التي تحوي نخبة من الطلاب جديرة بالاعتناء أكثر ، ومن برامجها :
أ - البرامج المنوعة داخل الفسح ( لقاء – مشاهدة جهاز (( الفيديو )) – مسابقة – شريط ... إلخ ) .
ب- إعداد بعض الأعمال الخيرية في المدرسة ( الإعلانات – توزيع الأشياء الخيرية – وضع اللافتات الخيرية ... إلخ ) .
ج - الزيارات والرحلات الممتعة المفيدة ، واكتشاف وتنمية مواهب الطلاب .
وينبغي :
أ - الإعلان عنها بصورة قوية .
ب- حث المعلمين والطلاب على المشاركة فيها ، وعند كثرة عدد الطلاب المناسبين يفتح أكثر من جماعة أو أكثر من غرفة باسم جماعة واحدة .
الطريقة التاسعة :
إقامة الرحلات والزيارات لطلاب المدرسة بشكل عام ، مثل : زيارة العلماء – زيارة معارض الكتاب – زيارة معرض أضرار التدخين والمخدرات ..... إلخ ) .
الطريقة العاشرة :
الاهتمام بالطلاب الكبار في المدرسة وإعطاؤهم قدراً أكبر من التقدير والعناية مع وجود الجلسات الخاصة بهم ، ومحاولة جعلهم قدوات في المدرسة .
الطريقة الحادية عشرة :
إنشاء ( غرفة انتظار ) التي تستخدم عند غياب المعلم .
حيث تُهيأ غرفة فيها ( جهاز فيديو – مجلات مفيدة – مسجل مع بعض الأشرطة – كتيبات ) .
الطريقة الثانية عشرة :
إعداد حقائب الانتظار ( الحقائب الدعوية ) :
وهي عبارة عن حقيبة داخلها مثلاً : ( مجلات مفيدة – كتيبات قصصية وغيرها – مسجل وأشرطة – مسابقات ) يستخدمها من هو مكلف بحصة الانتظار ، ومن المستحسن أن يكون لكل مستوى دراسي حقيبة خاصة قد تختلف عن المستوى الذي بعده ، وهي مجربة ومفيدة جداً .
الطريقة الثالثة عشر :
وجود مكتبة صغيرة في كل فصل للاستعارة ، يكون المسئول عنها رائد الفصل أو غيره وإن لم يتيسر في كل فصل فيوجد غرفة في المدرسة ( كالإذاعة 9 تقوم بهذا الأمر ، ولكن المهم أن يكون لها تنظيم ، ويشجع الطلاب على الاستفادة منها .
الطريقة الرابعة عشر :
تعليق أذكار الصباح في كل فصل على لوحه جيدة ، حيث يسهل على الطلاب ذكرها ، أو تغليف كارت الأذكار وإعطاؤه للطلاب وحثهم عليه .
الطريقة الخامسة عشر :(115/258)
وضع لوحة في كل فصل ويكون فيها نصائح أو توجيهات أو إعلانات أو فتاوى أو غيرها يتولاها مجموعة من المعلمين أو الطلاب أو إحدى الجمعيات المدرسية .
الطريقة السادسة عشر :
إقامة بعض المعارض المفيدة في المدرسة مثل : ( معرض للكتاب – معرض للشريط الإسلامي – معرض جراحات العالم الإسلامي – معرض أضرار المخدرات والتدخين )
الطريقة السابعة عشر :
مشاركة الطلاب في بعض الأعمال الخيرية في المدرسة وفي الأحياء ( كالاشتراك في المجلات الخيرية مع قسيمة الاشتراك – التبرعات – توزيع بعض النشرات في المساجد وعند المناسبات العائلية – الاهتمام بهداية الخدم والسائقين .... إلخ ) ومن المناسب أن يقوم أحد المعلمين بتوفير هذه الأمور ليسهل على الطالب ذلك .
الطريقة الثامنة عشر :
النصح الفردي : ويقصد بذلك محاولة انتشار النصح بين المعلم والطالب ، وكذلك بين الطلاب مع بعضهم كإهداء شريط أو كتيب أو كلمة توجيهية ، وينبغي ألا يكون ذلك منقطعاً ، وقليل دائم خير من كثير منقطع .
الطريقة التاسعة عشر :
وضع شاشة أو شاشات تُعرض فيها الأشياء المفيدة في فناء المدرسة أو في بعض الغرف ، وتستخدم إما في الفسح أو حصة النشاط .
الطريقة العشرون :
الدورات التعليمية : حيث تقام في المدرسة بعض الدورات المفيدة مثل : ( دورة في التجويد – دورة في الحاسب الآلي – دورة في الفقة – دورة في الإنجليزي – دورة في علوم القرآن – دورة غي الخطابة والإلقاء – دورة تربوية – دورة في إحدى القضايا التي يحتاجها الطالب ... إلخ ) ، وأقترح أن تكون داخل وقت الدوام الرسمي ( في الفسح أو في حصة النشاط ) ويعطى القائم عليها مكافأة من ميزانية المدرسة ، وأتمنى أن يتبنى ذلك المعلمون والجهات المختصة في إدارة التعليم .
الطريقة الحادية والعشرون :
تهيئة الجو لأداء بعض السنن في المدرسة كصلاة الضحى والسنة الراتبة للظهر ، وذلك بعد حث الطلاب على ذلك .
الطريقة الثانية والعشرون :
توجيه الطلاب على كيفية الاستفادة من أوقاتهم وخاصة في العطل الصيفية وغيرها ، ومن ذلك :
أ - إقامة المراكز والبرامج الصيفية في المدرسة وحث الطلاب على المشاركة فيها .
ب- تحديد يوم يلتقي فيه بعض المعلمين والطلاب لممارسة بعض الأنشطة التربوية والترفيهية وخاصة القصيرة .
ج - طرح مسابقة في أوقات العطل .
الطريقة الثالثة والعشرون :(115/259)
الاهتمام بهداية عمال المدرسة ومتابعتهم ، وكذلك إعداد بعض الهدايا المفيدة للضيوف من أولياء الأمور وغيرهم .
الطريقة الرابعة والعشرون :
رسائل لأولياء الأمور : وذلك بأن يوضع ظرف فيه رسالة ونحوها تذكر ولي الأمر بأمور مهمة ينبغي التنبه لها مثل : ( الصلاة – الأطباق الفضائية – أهمية الصحبة الطيبة – أهمية حلقات التحفيظ – حفظ اللسان .... إلخ ) مما يساعد في تربية الطالب تعاوناً بين المنزل والمدرسة ، وقد تكون هذه الرسائل لجميع أولياء الأمور أو بعضهم .
الطريقة الخامسة والعشرون :
الرسائل الأسرية : وهي ظرف موجه إلى أسرة الطالب بشكل عام باسم المدرسة ، فيه أشياء خيرية تناسب المستوى الأسري ، أو فيها حث على التبرع لمشروع خيري أو غير ذلك .
الطريقة السادسة والعشرون :
وضع استبانة حول قضية من القضايا كسماع الغناء – مثلاً – وإخراج النسبة المئوية ثم ذكر الحلول لها في نشرة المدرسة أو نشرة خاصة أو في كلمة تلقى في المدرسة .
الطريقة السابعة والعشرون :
تشكيل لجنة (( متابعة السلوك )) : ( وذلك بالتعاون مع المرشد الطلابي ) وأقترح أن :
أ - تقوم بمتابعة سلوكيات الطلاب وحلها جماعياً أو فردياً .
ب- إعداد رسائل خاصة لعلاج بعض الأخطاء مثل : ( رسالة لمن يحب سماع الأغاني والفنانين ) ، ( رسالة لمن يكثر من الحلف الكاذب ) ، ( رسالة لمن هو مبتلى بالتدخين وما شابهه ) ، ( رسالة لمن هو مغرم بمتابعة الأطباق الفضائية ) ، ( رسالة لمن لا يهتم بالصلاة ) ، يُوضع معها ما يعالج هذه الأخطاء من ( أشرطة وكتيبات ) مع عدم الاكتفاء بأسلوب الرسائل في التوجيه .
الطريقة الثامنة والعشرون :
إخراج عمل خيري تستفيد منه بقية المدارس – عن طريق إدارة التعليم – ( كإخراج مطوية – كتاب مسابقات – شريط – مسابقة في الحفظ – مسابقة بحوث ) وتكون باسم المدرسة .
الطريقة التاسعة والعشرون :
استغلال المقررات الدراسية والواجبات والمشاركة في التوجيه والإصلاح .
الطريقة الثلاثون :
صحيفة أحاديث الفضائل : حيث تكتب أحاديث في فضائل منوعة في عدة لوحات على عدد الفصول ، وكل أسبوع يغيَّر مكانها من فصل إلى آخر ، ويكون مكان تعليقها في الفصل مناسباً .
الطريقة الحادية والثلاثون :(115/260)
كروت الفوائد : وهي أن يعد المعلم كروت صغيرة في كل كارت فائدة أو حديث توزع في بداية الحصة فقط أو في حصة الانتظار ، ثم ت}خذ من الطلاب ، وبإمكانه استخدامها في باقي الفصول .
الطريقة الثانية والثلاثون :
طرح فكرة استبدال الأشرطة الضارة بأشرطة مفيدة وذلك بالتعاون مع إحدى التسجيلات ولو بسعر رمزي .
الطريقة الثالثة والثلاثون :
إيجاد سلة لباقي المأكولات وأخرى للأوراق المحترمة بدلاً من رميها .
الطريقة الرابعة والثلاثون :
العناية بالطلاب الموهوبين ومتابعة عطائهم وتربيتهم فردياً .
الطريقة الخامسة والثلاثون :
استغلال مصلى المدرسة – وخاصة أوقات الفسح – في البرامج المفيدة .
وفي الختام
هذا الكتاب مشاركة يسيرة ، وأتمنى من المدارس والمدرسين والطلاب التعاون فيما بينهم لنشر الخير والدعوة إليه ، كما أتمنى من إدارة التعليم المزيد من تبني بعض الطرق الخيرية في المدارس كما أنبه على أن طرق الخير غير محصورة في هذه الطرق وغير قاصرة على المدارس فقط .
وأسأل الله تعالى أن ينفعني وإياكم بما نقول ونعمل ، ونستغفر الله من الخطأ والزلل ، وصلى الله على نبينا محمد وسلم تسليماً كثيراً .
قال صلى الله عليه وسلم (( كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته )) .
ـــــــــــــــــــ
... إلى الزوجة المسلمة كيف تعاملين أمك الثانية؟
ـ هل تحبين زوجك؟
ـ هل تحبين أم زوجك؟
ـ هل تعتبرينها مثل والدتك؟
ـ هل تعرفين أن أم زوجك مفتاح من مفاتيح سعادتك الزوجية؟
في هذا العصر وفي مجتمعنا تأتي الزوجة الجديدة إلى بيت الزوجية وهي ترفع شعارات تحرير المرأة، وتتبنى نظرة مشوهة إلى الزواج فتراه مجرد إجراء اجتماعي يكمل صورة الإنسان ولا يترتب عليه أية واجبات، ولا تعلم هذه الزوجة الحديثة أن الله يمهل ولا يهمل وأن التاريخ سيعيد نفسه إن رزقت بالولد، وأن المثل الشعبي القائل 'مصيرك يا زوجة أن تصبحي حماة' هو مثل بليغ في الواقع الاجتماعي.
وفي الحديث الشريف: [[البر لا يبلى والذنب لا ينسى والديان لا يموت, افعل ما شئت فكما تدين تدان]].
ولأهمية هذا الموضوع وتأثيره على حياتك الزوجية إليك هذه الخطوات العريضة للتعامل مع أم زوجك:
1ــ تجنبي الشكوى لزوجك عما فعلته أمه:(115/261)
لأن هذه معادلة صعبة بالنسبة للزوج فيقف حائرًا بين طرفين هامين في حياته أمه وزوجته، لذا احرصي على إسماعه كل ما يبهجه ويثير السرور في نفسه، ويقلل من متاعبه إذ إن الشكوى قد تولد نتائج غير حميدة.
2ــ تكلمي عنها بخير:
سواء أمامها أو بعيدًا عنها، أمام زوجها وأقاربها أم أمام الغرباء لأن ذلك يشعر الحماة أن هذه الزوجة تحبها بصدق وإخلاص.
3ــ زيارتها وتفقد أحوالها:
إن كانت تسكن في منزل آخر، احترامًا لها وتقربًا منها عندها ستكونين لديها أفضل من بناتها.
4ــ احترمي خصوصية العلاقة بين زوجك ووالدته:
يعني اتركي لها مع زوجك مساحة, فإذا همس زوجك في أذن أمه أو العكس فلا تحرصي على معرفة ماذا قال لها، فمن الوقار وحسن الخلق أن تدركي أن الأمر لا يعنيك.
5 ــ اغرسي في نفوس أطفالك محبة جدتهم وجدهم:
بأن يقدموا للجدة فروض التوقير والتقدير، ومساعدتها إن احتاجت المساعدة، وتقديم الهدايا لها وغير ذلك.
6ــ دللي حماتك وامنحيها الأولوية:
فالحماة امرأة كبيرة السن سهرت وتعبت وبذلت وقدمت الكثير لأبنائها، لذلك من الضروري أن تشعر أن لمطالبها القابلة للتنفيذ الأولوية.
7ــ قابلي حماتك بوجه طلق وابتسامة صادقة:
فالابتسامة لها مفعول السحر، وهي تزرع المودة في القلوب وتزيل جليد العلاقات المتوترة.
والزوجة الواعية تستطيع أن تتعلم من حماتها إذا أحسنت معاملتها، ولكنها تخسر مستقبلها أو راحتها إذا عاملتها معاملة ندية أو فظة، أو عدائية، فالإسلام يأمرنا أن نحسن معاملة الكبير.
ــ وأخيرًا تذكري أنه كلما كان إيمانك عميقًا وصادقا كان تعاملك مع والدة زوجك في ضوء هذا الإيمان.
1ــ أختي الغالية:
حلول أبعثها لك عبر السطور إذا واجهتك مشكلة مع أم زوجك:
1- اعملي الخير لوجه الله لأنك الفائزة, وناكر الجميل هو المسيء الخاسر.
2- انتبهي إلى مقومات فن اكتساب الآخرين وفي مقدمتها نبل الشخصية وحسن الخلق.
3- عاملي أم زوجك بالحسنى وبتقوى الله، فتقوى الله تفتح للإنسان الأبواب المغلقة يقول تعالى: {وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ}.
4- ولاستقرار حياتك الأسرية لا تنسي الفضيلة المنسية وهو فضيلة الصبر، وغالبًا ما يكون الصبر مقترنًا بالإيمان في كتاب الله كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران:200](115/262)
5- فاصبري أيتها الزوجة على أم زوجك لتنالي أعلى الدرجات يقول تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ}.
6- كوني هادئة تصنعي المعجزات:
هناك مثل قديم يقول: 'إن نقطة من العسل تصيد من الذباب أكثر مما يصيد برميل من العلقم 'وكذلك الحال مع البشر.
والحقيقة إن العنف يولد العنف، والغضب يولد الغضب، أما الهدوء فإنه يطفئ الغضب كما يطفئ الماء النار، فكوني هادئة في تعاملك مع أم زوجك، واستخدمي لباقتك وتكلمي بعبارات رزينة وودية فهذا هو الطرق لكسب حبها ونيل إعجابها.
ولي وقفة قصيرة مع الأم الكبيرة العظيمة [الحماة]:
انظري إلى زوجة الابن نظرتك إلى ابنة من بناتك، ساقتها الأقدار لتكون زوجة لابنك وأصبحت فردًا من أفراد الأسرة.
وعليك أن تضحي ولا تتدخلي في الخصوصيات صنيعك مع ابنتك، فكما أنك تريدين لابنتك أن تعيش حياتها الزوجية بكل جوانبها هانئة سعيدة مستقلة راضية، لا ينغص عيشها تدخل مزعج في خصوصياتها، كذلك تحبين لزوجة ابنك ما تحبين لابنتك.
ـ ولو أن كلاً من الحماة وزوجة الابن أقرت بحق كل منهما في الحياة كما رسمه الإسلام، ووقفت عند الحد الذي أمرها بالوقوف عنده، لتلاشت تلك العلاوة التقليدية بين الحماة وزوجة الابن.
أيتها الزوجة المسلمة المنشأة على قيم الإسلام وأخلاقه لو أنك نظرت إلى حماتك نظرتك إلى أمك لما حدث أي خلاف بينكما، ولن تكون العلاقة بينكما إلا كل ود وحب واحترام.
وتذكري أنك فارقت ديار والديك إلى دار الزوجية فلا بد أن تتفهمي وتتأقلمي مع حياتك الجديدة، وتتفهمي زوجك وعائلة زوجك لاستقرار حياتك الأسرية, هذا في الدنيا ولتنالي رضى الله ـ تعالى ـ في الآخرة ولا تنسي القاعدة الأساسية في علاقتك بأم زوجك:
المثل الشعبي: 'مصيرك يا زوجة الابن أن تصبحي حماة'.
والحديث الشريف: [[البر لا يبلى والذنب لا ينسى والديان لا يموت, افعل ما شئت فكما تدين تدان]].
ـــــــــــــــــــ
... مع التدين يسمو الحب وتسعد الحياة
• لم يكن التدين الإسلامي قطّ أمراً كمالياً أو زائداً عن ضروريات الحياة ، بل هو أساس بناء الحياة الإنسانية الكاملة والسليمة والسعيدة .
فالحيوانات تعيش ، والسكارى والمجرمون والملاحدة يعيشون ويأكلون ويتناسلون .
ولكن الإنسان السوى هو الإنسان الذى يفهم الحياة فى مختلف جوانبها وعلاقاتها وأهدافها ، ويفهم كيف وجدت الحياة ولماذا وما الغاية منها وإلى أين تنتهى ..
هذه القضايا لا يجيب عنها كثرة الأكل أو المال أو الشغل أو الانغماس فى الملذات والحياة المادية أو التكنولوجيا ..(115/263)
• إن للدين وجوداً عقلياً ونفسياً وفلسفياً لا يستغنى عنه عاقل ..
والتدين الإسلامى هو دستورالحياة الطيبة . للفرد والأسرة والمجتمع والعالم ..
• ليس التدين بالادعاء ومجرد الإنتماء أو التظاهر ، بل هو حقائق عملية واعتقادية تعصم الفكر والعمل من الخطأ ولابد من الإلتزام بالمظهر الإسلامى والأخلاق والعقائد والشريعة الإسلامية ليكون التدين حقيقياً ..
• ليست الأسرة المتدينة خالية من المشاكل والخلافات ، بل يوجد فيها مثل ذلك ، ولكنها لا تكون هشة تمزقها الأنانية وتحطمها النزاعات وتضمحل لأدنى مشكلة أو ضائقة ، كما هو الحال في الأسر غير المتدينة ..
• التدين يدعم الأسرة ويمنح أفرادها ثقة وأمناً وطمأنينة بلا حدود وأملاً فى المستقبل وتفاؤلاً لا ينتهى وسعياً حثيثاً نحو الفضيلة والأكمل ..
• تديّن الزوجين يجعلهما أكثر إنسانية وسمواً .. لأن التدين أكرم صفات الإنسان ومزاياه ..ـــــــــــــــــــ
... زوجك أولى بعفوك
كثير من الزوجات يبحثن عن سر السعادة الزوجية .. ويتمنين رغد الحياة وطيب العيش مع أزواجهن بلا منغصات ، لكنهن لا يبذلن شيئا لتحقيق ذلك ، ويعتقدن أن تلك مسؤولية الزوج ، فهو الذي يجب أن يبتسم ويلاطف ويداعب ويتسامح ويقدر الجهد التي تقوم به الزوجة في تربية الأولاد وترتيب البيت وتجهيز الطعام وغير ذلك من الأمور المرهقة !!!
إذا كان بيت الزوجية ميدانا تتصارع فيه الأفراح والأتراح ... فإن هناك سراً عجيبا وبلسماً شافي إن اكتشفته سيضفي على حياتك مزيدا من السعادة والسرور وراحة البال ..
إنه العفو والتسامح والتجاوز وكظم الغيظ .... فقبل أن تكوني زوجة .. فأنت إنسان تحبين من يتجاوز عن زلاتك .. وتقصيرك .. وأخطائك ..
وتتمنين أن يحلم الناس عليك ، ويتسامحون معك.. وها أنت الآن قد أصبحت أميرة في مملكتك الصغرى فعفوك نافذ .. وصفحك مؤثر ..
فما ظنك بإساءة وجهها إليك زوجك قوبلت منك بكظم الغيظ والصبر ثم العفو والتسامح !! وبعدها لا تسألي كيف نفذت إلى قلبه وتملكته ؟!.. بل وألجمت حتى لسانه فما عاد قادرا على التعبير عما بداخله لماذا ؟!.. لأنه علم أنه أخطأ في حقك أو جرح مشاعرك أو تعدى عليك .. في الوقت الذي وقفت أمامه طودا شامخا بالعفو والتجاوز!!
قد تقولين : إن ظلم هذا الرجل لا يطاق .. أو أن مشاكله لا تحتمل , أو .. أو .. لكن رويدك .. ألا تحوي حياتك معه ذكريات جميلة بينكما حتى وإن كانت قليلة ؟؟! فلماذا النسيان عند لحظات الشدائد والمنغصات ؟!
من الإنصاف أن لا تنسي معروفه مهما تبدلت عليك الأيام ومهما تغيرت الأحوال .. وألا تجحدي خيره ولو كان قليلا .. ولا تكوني ممن يكفرن العشير ويرفعن شعار "لم أر منه خيرا قط" !!(115/264)
إن الزوج مهما كان عظيم الكيد والبطش والظلم إلا أنه يظل محتاجا إلى زوجة يأوي إليها طالبا ودها ورحمتها فلا تقفي أمامه دائما مطالبة بحقك بل اكظمي غيظك وانسي أحيانا أن لك حقا عنده وتجاوزي عن زلله طمعا في كسب وده وحبه واحترامه ، وطمعا فيما عند الله للصابرين..
وإن جالت بك نزوات الشيطان وأيقظت في نفسك محبة الانتصار فاستحضري ثواب كاظم الغيظ ، وتذكري المواقف الطيبة والذكريات الجميلة التي جمعت بينكما والتي كان الود والألفة فيها طيورا تغرد في جنباتها ، وبعد ذلك فقط ستعلمين أن لزوجك حقا عظيما لا تفي السطور بذكره .. فارجعي إليه واكتنفيه بعظيم عفوك ورحمتك .. وحينها سترين كيف أصبحت حياتك أكثر سعادة
ـــــــــــــــــــ
... أفكارتزيد من محبة الزوجة لزوجها
أختي القارئة.... حرصاً منا على الابتكار في توددك لزوجك ، قمنا ببحث ميداني على مجموعة من النساء المتزوجات من ذوات الخبرة في هذا المجال وكتبن عن فنهن في معاملة أزواجهن فنسأل الله أن يوفقنهن في حياتهن الأسرية ، وأن يوفقنا إلى الإقتداء بهن ، فإن هذه من العبادات المفقودة في هذا الزمان .
ملاحظة : إن هذه الوسائل ليست ترفاً ذهنياً يقرأ وإنما تؤجر عليه المرأة إذا نوتها لله تعالى ... فانظري ما يناسبكِ وحاولي القيام به .
استقبال الزوج حال دخوله المنزل :
1- ألبس له أجمل الثياب .
2- أعلّم الأطفال كيفية استقبال الوالد (قبلة ، نشيد ... )
3- أستقبله بالتهليل والترحيب وبث الأشواق .
4- أقبّله عند دخول المنزل .
5- أصحبه إلى أن يجلس أو يغير ملابسه .
6- أسأل عن حاله وظروفه اليومية .
7- أحضر له كأساً من الماء أو العصير إن كان عطشاناً .
8- أحرص على ألا يشتم مني إلا رائحة طيبة .
استقبال ضيوف الزوج :
9- أستقبل خبر حضورهم بالبشرى وعدم التأفف من كثرة حضورهم أو عددهم .
10- أطيب مكان جلوسهم .
11- أعدّ لهم الطعام والشراب وما يناسبهم .
12- أتعرف على زوجات أصحابه وأتودد إليهن .
غضب الزوج :
13- أحاول تهدئته وأضبط انفعالاتي وإن كان الحق معي .
14- أحاول فتح الموضوع من جديد بعد نسيانه بأسلوب شيق ولطيف .
15- لا أكون نداً له فأردده وأستفزه .
16- أحرص على ألا أنام ليلتها إلا برضاه .
17- أتذكر الحديث الشريف (( زوجك جنتك أو نارك )) .(115/265)
مرض الزوج :
18- أخفف بعض آلامه بروايات مسلية .
19- أجلس عنده لمساعدته .
20- أقبل رأسه بين فترة وأخرى .
21- أردد عليه (( إن المنزل من غيرك لا يساوي شيئاً )) وبعض الكلمات الجميلة .
22- أخفف من حركة الأطفال حتى لا تزعجه .
نوم الزوج :
23- أبتسم له دائماً .
24- أدعوا له بالشفاء .
25- أذكر له بعض أعماله الحسنة ومآثره الحميدة .
26- أهيئ له الفراش وأقوم بتطييبه .
27- أحرص على نوم الأطفال مبكراً .
28- أذكّره قبل النوم بقراءة آية الكرسي .
29- أذكره بتطبيق السنة وهي قراءة المعوذات والنفث باليد ثلاثاً قبل النوم .
30- ألبس له أجمل الثياب .
31- أمازح زوجي وأضحك معه .
32- أذكر له بعض الحكايات المفيدة .
سفر الزوج :
33- أحضّر ملابسه وأرتبها في الحقيبة .
34- أطيب حاجاته بالبخور والعطور .
35- أضع له بعض الرسائل الغرامية في حقيبته دون علمه ، وأضع ما يحتاجه من ( إبرة ، خيط .. ) .
36- لا أثقّل عليه بالطلبات .
37- أودعه وأعبّر له عن مقدار الفراغ الذي سيتركه حال سفره .
38- أضع مصحفاً صغيراً في جيبه .
39- أحفظه أثناء سفره في ماله وعياله وبيته .
40- أحضّر له بعض الأطعمة إن كان سفره بالسيارة .
كسب قلب والديه وبالأخص والدته :
41- أساعدها في أعمال المنزل وبالأخص إن كان عندها وليمة .
42- أختار مناسبات لإهدائها .
43- أحضر لها أطباقاً شهية بين فترة وأخرى .
44- لا أتحدث بالشيء الذي تكرهه .
45- أذكر مزايا ابنها أمامها ولا أذكر عيوبه .
46- أحث زوجي على كثرة زيارة والدته وبرها .
47- أحرص عند زيارتها على حفظ أولادي بقربي حتى لا أزعجها .
48- أطلب من زوجي أحياناً شراء العشاء وتناوله في منزل والدته .(115/266)
49- أكرم صديقاتها .
متفرقات :
50- أتصل به عند تأخره في العمل وأسأل عنه .
51- أمدح الأشياء التي اشتراها .
52- أعمل الوجبة ( الطبخة ) التي يحبها .
53- أغير مكان الأثاث بالمنزل بين فترة وأخرى .
54- أردد عليه (( يا حبيبي ..... يا عيني ... )).
55- أعمل مسابقة بيننا للجلوس لصلاة الفجر .
56- أشركه في همومي وآخذ برأيه .
57- أطيّبه وأبخّره بين حين وآخر وخاصة يوم الجمعة .
58- أكون منطقية في طلباتي وأتذكر دائماً المثل (( إن المرأة لا تريد إلا الزوج ، فإذا حصلت عليه أرادت كل شيء )) .
59- أحرص علي أن أتعلم كل جديد من طبخ وهواية وفن حتى يرى مني كل يوم جديدا .
60- أذكّره بأعماله في الصباح .
61- إحياء مفهوم ( نحن لا نختلف على الدنيا ) فلا نختلف على تسمية مولود أو قطعة أثاث أو على نوع الطعام .
62- التغيير الشكلي أمامه بين حين وآخر كقص الشعر ووضع المكياج ، (( وغيرها إن كان هو يحب ذلك )) .
الملاطفة والمعاشرة :
63- أشرب من المكان الذي شرب منه في الكأس .
64- أهيئ له الجو وأظهر له أني مشتاقة إليه وأقبّله .
65- أتفنن في الحوار الجنسي معه فمثلاً أحدثه ببعض الأحاديث المهيجة له وببعض الكلمات الغزلية مع اللمسات الخفيفة والمنوعة .
66- أغير الأوضاع والأشكال بين حين وآخر في لقائي مع زوجي .
67- أستخدم أنوثتي في إغرائه بشتى الوسائل .
68- لا أكون شريكة سلبية معه بل أتحبب إليه وأتقرب منه وأبادله الشعور العاطفي والجسدي .
69- أضع الروائح الطيبة في جميع الجسد .
70- أستخدم الابتسامة والضحكة قبل المعاشرة .
71- أداعبه قبل المعاشرة فقد قال تعالى في وصف الحور العين {فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً*عُرُباً أَتْرَاباً} العُرُب جمع عرُب وهي المرأة المتحببة إلى زوجها .
ـــــــــــــــــــ
... افكار تزيد من محبة الزوج لزوجته
أخي القارئ ....(115/267)
حرصاً منا على الابتكار في توددك لزوجتك ، قمنا ببحث ميداني على مجموعة من العائلات وقد كتبت لنا أفكاراً تزيد من محبة الزوجة لزوجها من خلال تجاربهما . وأننا نسأل الله تعالى أن تنفعك هذه الأفكار في سعادة أسرتك .
التعامل مع الزوجة
1- أوفر الراحة لها في كل الظروف الحياتية .
2- لا أظهر عيوبها في الملابس أو الطعام أو الكلام بشكل مباشر .
3- أشتري لها هدية بين حين وآخر وأبتكر في تسليم الهدية لها كأن أخفيها في مكان ثم أدعوها إليه مثلاً
4- لا أكون متعنفاً في التعامل معها وأتذكر أنها امرأة (( فرفقاً بالقوارير )) .
5- إذا كانت لديها هواية أشجعها عليها وأشاركها في إبداء الرأي ولا أقول (( أنا لا أفهم في الطبخ أو الزراعة أو الخياطة أو الكمبيوتر ... )) .
6- أراعيها في بعض حالاتها النفسية وخصوصاً في وقت ( الدورة – الحمل – النفاس ) .
7- إذا دخلت المنزل فلا أفكر بعملي وأتحدث معها باهتماماتها وأحوالها اليومية .
8- أناديها باسم مميز أتحبب به إليها كما كان النبي صلى الله عليه وسلم ينادي ((عائشة)) رضي الله عنها بـ (( عائش )) .
9- تقبيل رأسها إذا بذلت مجهوداً من أجلي أو عند دخولي المنزل .
10- أشجعها على حضور بعض الدروس الدينية والبرامج والأنشطة الإسلامية الثقافية .
11- أفاجئها ببعض الطلبات التي كنت أرفضها فأحضرها لها .
12- إذا أعطتني هدية أنقل لها رأي أصدقائي فيها .
الزينة :
13- أزين ألفاظي عند ندائها أو أثناء الحديث معها ولا أعاملها كما يعامل الرئيس مرؤوسه بالأوامر فقط .
14- أتخذ الزينة في لباسي فإن ذلك محبب إليها .
15- أحاول قول الشعر فيها أو النشيد في وصفها .
16- أتغزل بها بين حين وآخر سواء كان الغزل قولاً أو فعلاً .
17- أمتدح زينتها إن تزيّنت ، وأبالغ في المدح .
18- أمتدح رائحة المنشفة وطريقة ترتيب الفراش ووضع الملابس وتطييبها وتنسيق الزهور وكل ما لامسته يدها .
الطعام :
19- أمدح الطعام أو الشراب الذي أعدته وأبين مزاياه ومدى رغبتي إلى هذه الوجبة وإنها كانت في خاطري منذ يوم أو يومين .
20- أحرص على أن لا آكل أبداً حتى تحضر إلى المائدة فنأكل معاً .
21- أعلّم الأبناء ألا يتقدموا على والدتهم بالطعام .
22- أساعدها في تجهيز المنزل إن كان لديها وليمة مثلاً .
23- إذا أعدت طعاماً لأصدقائي أنقل لها مدحهم للطعام على التفصيل .(115/268)
الخدمة :
24- إذا دخلت المنزل ورأيتها مشغولة فأخفف عنها بعض أشغالها حتى أزيل عنها الهم في ذلك . (( وخيركم خيركم لأهله )) كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم .
25- مساعدتها أثناء الطبخ أو تنظيف المنزل .
26- أسألها بين فترة وأخرى عن حاجاتها المنزلية .
27- القيام بمتطلبات الأطفال ليلاً لتخفيف العبء عليها .
28- أفرّق في معاملتي المالية معها بين ظروف الحياة اليومية العادية وبين المناسبات والمواسم فلا بد أن أفتح يدي عليها بالإكرام في المناسبات وأحياناً في بعض الأيام لتتجدد الحياة بيننا .
أهل الزوجة :
29- أساعدهم وبالأخص إذا وقعوا في مشكلة .
30- لا أمنعها من صلة أرحامها وزيارة والديها .
31- أظهر البشاشة عند زيارتهم .
32- أحضر لهم هدية بين حين وآخر .
33- أمدحها أمام أهلها في حسن تربيتها للمنزل وتربية أولادها .
34- أكون علاقات طيبة مع إخوانها .
35- إذا غضب أهلها عليها أرد عليهم بكلمات طيبة ملطفة للجو ومهدئة لها .
مرض الزوجة :
36- أهتم بها ، وأقبّلها وأوفر الجو الصحي لها .
37- أقوم بالأعمال التي كانت تعملها بالمنزل .
38- أعطيها هدية بعد شفائها .
39- أسهر على راحتها .
40- أدعوا لها بالشفاء .
41- أقرأ عليها القرآن وأرقّيها بالأذكار المشروعة .
42- أوفر لها الطعام ولا آمرها بالطبخ .
تربية الأبناء :
43- أربي أبنائي على احترام والدتهم وطاعتها .
44- أربيهم على تقبيل رأس أمهم .
45- إذا طلب مني الطفل شيئاً ... أقول له ماذا قالت أمك ؟ حتى لا أعارضها .
46- أعاونها في تنظيف الأبناء فهي تغسلهم مثلاً وأنا ألبسهم ملابسهم .
47- أتفق معها على أسلوب لتربية الأبناء حتى لا نختلف في ذلك .
48- أصحبهم معي خارج المنزل أحياناً لتستريح والدتهم من إزعاجهم .
الإجازة :
49- أجعل يوماً واحداً في الأسبوع للأسرة للخروج والزيارة للترفيه عن النفس والابتعاد عن الروتين المنزلي .
50- أجتمع معها لعبادة الله ، كقيام الليل أو قراءة القرآن أو غيره لنستفيد من إجازتنا بما يقوي علاقتنا وينفعنا في ديننا .(115/269)
51- أذكرها يوم الجمعة بقراءة سورة الكهف قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( من قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة أضاء له من النور ما بين الجمعتين )) .
52- أسافر معها إن استطعت ذلك .
53- إذا سافرت عنها أخبرها بمشاعري تجاهها ومكانتها في قلبي .
ـــــــــــــــــــ
... تربية الأطفال.. الوسائل والمعوقات
الأطفال تلك الزهرات الندية, والبراعم الطرية، التي خلقها الله من رحم الحياة الزوجية التي تكون سكناً ورحمة بين الأبوين، وليتمم لهما هذه السعادة, فيخلفهما من بعدهما، ويبر بهما إذا كبرا، وهم زينة الدنيا وبرائتها التي يهفو لها كل حي، وهم النواة الحقيقة للمجتمع الناشئ الذي يكفل استمرار الأمة المسلمة. وتصحيح بناء هذا المجتمع الناشئ وتشكيله بشكل قويم هو مساهمة كبيرة نحو تصحيح الكتلة الكبرى والرقي بها.. إن مسئولية الأطفال عظيمة، وقد حمَلها الله تعالى للأبوين, ورتب أحكاماً كثيرة متعلقة بهم ترعى وتضمن لهم حقوقهم كالرضاعة والحضانة وحسن التربية، وقد شددت الشريعة الغرى على التربية والنشأة.. ولعل ما جاءت به السنة المطهرة من هديه صلى الله عليه وسلم مع الأطفال منذ ولادتهم إشارة لبداية ربطهم بالدين والتنشئة عليه، فأمرنا بالأذان في أذنه وتحنيكه، كذلك حض صلى الله عليه وسلم على تربية الابن تربية على الصدق؛ فلا يمد أحدنا يده لطفله كأن بها شيئاً وهو كاذب كما جاء النهي عن ذلك في حديث عبد الله بن عامر.
ولعل من أهم الطرق التي يمكن بها إيصال الأخلاق والتصرفات الحميدة إلى أطفالنا "القدوة"، فلا ينبغي أن يرى الطفل إلا ما يحسن من أبويه؛ فالطفل يفتح عينيه وأذنيه وقلبه على ما يشاهده ويسمعه منهما، ولذا تنعكس على شخصيته كل الأشياء التي يستقبلها منهما بوله وشغف في هذا السن، وقد تعود عليه سلباً وإيجاباً بحسب طبيعتها فإن كانت الأسرة خيّرة نشأ الطفل على حب الخير وإن كانت عكس ذلك بدا ذلك على الطفل وسلوكه، ولذا فقد ينشأ الطفل بعيداً عن طاعة الله إذا كان والداه أو أحدهما كذلك، وقد يتعلم كل صفة وخلق ذميم وقد ينزلق في لجج الدخان والمخدرات ورفقة السوء كذلك.. فشخصية الطفل كما أسلفنا انعكاس لنوع التربية التي تلقاها في صغره، ويكفي أن نعرف أن أغلب سمات الشخصية لدى الأطفال تتكون خلال الخمس سنوات الأولى والتي قد يهملها الكثير من الآباء.. وليس من الحسن أبداً أن يستمع الطفل إلى نقاش الأبوين الحاد؛ لأن هذا قد يؤثر عليه ويسبب له شخصية مضطربة وغير هادئة..
وعلى الآباء أن يراعوا النمو العقلي لدى الطفل خاصة في سن السابعة حيث يكون أكثر إدراكاً لما يرى ويسمع. ولعل لغة الحوار هي من أنجح الوسائل لإيصال المفاهيم السليمة إلى عقل الأطفال. ومن المهم أن يجد الابن مع والديه فرصة ليتجاوب فكرياً معهما، ويتعلم الحديث منهما والقدرة على المشاركة في الموضوعات والحوارات، ومن الخطأ الشائع أن بعض الآباء يظن أن الأطفال لا يدركون الأمور ولا يعقلونها؛ فيكبر الابن في ظل هذه القيود ولا يجد الحوار إلا مع رفقته الصغار وهم عندما يتحاورون يتشاجرون فلا يكبر عقله, ولذا كان على(115/270)
الأبوين تعويد أنفسهم على الحوار مع أبنائهم دائماً وخصوصاً عند وقوع الأبناء أو أحدهم في الخطأ.
ومن الحسن أن نبيّن أن الارتكازات التي تقوم عليها عملية التربية السليمة قد لا تتوفر لدى بعض الآباء، ومن هنا ربما يرى بعض المختصين من الأفضل لأولئك الآباء توصية من يعلمون فيه الخير واكتمال صفات المربين، ليكفل لهم تربية أنبائهم وتوجيههم، وهذا لا ينزع عن الأبوين مهمتهما الأولى بالتمام، إذ يبقى بعد ذلك شيء يقدر عليه كل أحد من البشر ولا يصح إلا أن يكون من الأبوين.. وفي العموم أعتقد أن الصفات المطلوبة في المربي هي صفات يسيرة غير معجزة للمتوسطين من الناس.
صفات المربي
يحتاج الطفل إلى وقت طويل يكتسب فيه أنواع الخبرات كي يصل معها إلى مرحلة من مراحل الوعي والإدراك يستطيع بها إدراك الأمور بنفسه، مع عدم استغنائه عن والده بطبيعة الحال. وحين نزعم هذا الزعم فنحن أيضاً بحاجة لتحديد هوية هذا المربي ـ الوالد أو غيره ـ الذي يستطيع أن يصنع هذا الصنع، ويمكننا استعراض صفات المربي وإمكانياته اللازم وجودها فيه حين نتساءل عن ماهية صفات المربي الذي يُنتظر منه القيام بهذا الدور؟
من أولى ما يجب أن يتصف به المربي هو أن يحوز شيئاً من العلم الشرعي فالتربية في الإسلام هي إعداد المرء للعبودية لله تعالى وذلك لا يعرف إلا بالعلم الشرعي، وكذلك عليه أن يضيف إلى ذلك ثقافة عامة مناسبة يدرك بها ما حوله، إضافة إلى معرفته بالإنسان وطبيعة المراحل التي يمر بها الطفل وكيف يتعامل معها.
ومن صفات المربي أن يمتلك القدرة على العطاء، وهذا يتطلب تفريغ جزء من وقت الأب لأسرته وأبنائه ليعطي ما تعلمه من الحياة بلا حدود، وكذلك الأم يتطلب الأمر منها أن تفرغ جهدها لأجل أسرتها، وأن تعيد النظر في أولياتها لتعيد تنظيمها بما يتناسب مع حاجة أبنائها وتربيتهم. ولا يكفي كون المربي قادراً على العطاء بل لابد من أمر آخر وهو أن يكون حسن العطاء، فمجرد أن يكون لدى المربي ما يعطيه ليس كافياً في شؤون التربية، إنما ينبغي أن يعطيه بطريقة حسنه وإلا ضاع الأثر المطلوب أو انقلب إلى الضد حين يعطي المربي ما عنده بطريقة منفره.
ومن صفاته القدرة على المتابعة، فالتربية عمليه مستمرة لا يكفي فيها توجيه عابر إنما يحتاج إلى المتابعة والتوجيه المستمر، كذلك يصاحب هذه الصفة صفة أخرى وهي القدرة على التقويم والتصحيح الفعّال والمؤثر الذي قد يكون قاسماً للنجاح في هذا الحقل أو عدمه.
ومن صفاته أيضاً الاستقرار النفسي فهو يتعامل مع نفس بشرية ومع طبيعتها المعقدة فلا بد أن يملك قدراً من الاستقرار النفسي، ولا يكون متقلب المزاج سريع التغير مضطرباً فضلاً عن كونه غير مصاب بمرض نفسي.
ومن صفاته السمت والهدي الحسن، فالمربي قدوة بأعماله وسلوكه موجه لأحد، والفعل والهدي يترك أثراً على النفس أعظم من أثر القول.(115/271)
ومن صفاته الاعتدال والاتزان فسنة الله تعالى في خلقه قائمة على ذلك وحياة الإنسان الجسمية والعقلية قائمة على أساس هذا الاعتدال والاتزان، والغلو والشذوذ أمر ممقوت أياً كان مصدره.
والكمال والنقص من صفات البشر ومن الذي ترضى سجاياه كلها. وحين نسعى لاستجماع هذه الصفات في كل مربي بالقدر الأمثل فنحن نبحث عن عناصر نادرة لا يمكن أن تفي بجزء من متطلبات الجهد التربوي المنوط بالصحوة اليوم، لكنها منارات نسعى للتطلع إليها والاقتراب منها متذكرين أن النقص والقصور سمة بشريه وأن الكمال عزيز ومالا يدرك كله لا يترك جله.
المرحلة الإبتدائية
لاشك أن سنوات الطفل الأولى هي من أخصب أوقات التلقي والتأثير لديه، وهي المرحلة المثالية لغرس الخصال الجميلة فيه، ولسنا بذلك نوهن بقية المراحل ونغض من طرفها، بل ربما كانت تلك المرحلة يتسم بها الطفل بالقدرة المذهلة على التلقي والاكتساب، ولكن حين نتأمل المرحلة الابتدائية تبرز سمات مميزة وأساسية لتكوين تلك الشخصية الطرية وأهم ما يميزها ما تحمله من جوانب حسنة وسيئة, تؤثر في صياغة شخصية الطفل، ومن أهم الجوانب الحسنة اختيار المعلم الجاد في تعامله مع الطلاب المتحبب إليهم، الذي يغرس في نفوسهم المبادئ العالية، ويصنع فيهم الشخصية الجادة، ويرسم لهم الطريق رسماً واضحاً، ويدلهم عليها ويسوقهم إليها بخطى ثابتة, فيعلمهم فن التخاطب وفن الكلمة وفن القراءة وقوة الطموح، ويكون قدوة حسنةً لهم.
ومن الجوانب الحسنة أيضاً الاهتمام بالمناهج للمرحلة الابتدائية، وتكثيف الحوار والمناقشة والقراءة والإطلاع، ومن الجوانب الحسنة وجود مكتبة علمية في المدرسة ووضع درس لذلك. ومن الجوانب الحسنة الاهتمام بالنشاط اللاصفي الذي يفتح للطالب باب المواهب والابتكار. هذا جزء من الجوانب الإيجابية التي يمكن استغلالها.
وأما الجوانب السيئة فيمكن التطرق لها عبر هذه النقاط:
ـ الضعف عند بعض المدرسين وعدم استشعاره للمسؤولية.
ـ عدم متابعة الطالب بعد المدرسة وربما يتلقفه أحد وهو خارج إلى بيته.
ـ الإهمال من جانب الأبوين وعدم مصارحة الطفل ومجالسته وسؤاله عن دراسته وزملائه.
ـ عدم وجود ما يحبب الطفل للمدرسة من برامج حية وأنشطة متنوعة.
ـ الدراسة النظرية المملة دون التطبيق العلمي كالوضوء مثلاً, الصلاة, آداب الزيارة.. وغيرها من الوسائل.
ـ انعدام التوعية الاجتماعية، وكذلك فقد الطالب للرؤية المستقبلية لحياته، وعدم معرفته للأمور التي لابد من أن يعرفها في مستقبله.
ـ عدم الإيضاح للطالب بالأخطار المحدقة به كالغزو الفكري, خطر اليهود, المخدرات, وسائل الإعلام, العفن الفني, العته الرياضي وغيرها من الأخطار.
لعب الأطفال(115/272)
ساحات لعب الأطفال أماكن يرسم فيها خطوط عريضة من شخصياتهم وأبعاد طويلة من تفكيرهم قد يصل إلى ترسيخ نواح عقدية في نفوسهم، وهو ضرورة من ضروريات مرحلة الطفولة، وهي حقيقة علمية ثابتة حتى في أطفال الحيوانات. أما عن أبرز ضوابطه فهي أن يكون بأدوات مباحة، وكذا أن يكون مأمون الخطر والضرر، وأن يمارس باعتدال بحيث لا يستهلك جل وقت الطفل ويكون شغله الشاغل، وأن يكون تحت إشراف الوالدين وتحت مراقبتهما حتى يتم التوجيه والتصويب للخطأ إن وقع منهم.
وسائل تربية الأطفال
دعوة الأطفال همّ جديد قديم الجذور يشغل ذهن كثير من الدعاة والمصلحين والمربين الغيورين على مستقبل هذه الأمة، فما هي الوسائل الممكنة لذلك والتي من خلالها يمكن للمربي والمربية استنتاج جدول وبرنامج قومي متضمن ومناسب لمن تحت أيديهم من الأطفال ويتمشى مع جميع الظروف والأحوال؟
لعل من أهم الوسائل التي يحسن بالمربي أن يلم بها غرس العقيدة في النفوس والفهم الحقيقي لمعنى العقيدة وأنها ليست شعارات تردد أو طقوس ينادى لها بدون روح وحياة في القلب، فيغرس في قلبه (من ربك؟) بمعنى من إلهك الذي تعبده، ويبين له شيئاً من صفات الله، وأن الله يسمعك ويراك لا يخفى عليه شيء، وأن الله هو القوي وهو القادر على كل شيء، وأنه هو الرزاق وأن حياتنا وموتنا بيده، ويشرح لهم بوضوح حديث ابن عباس رضي الله عنه "يا غلام إني معلمك كلمات، احفظ الله يحفظك..." ثم يغرس في نفوسهم العبادة لله وحده مثل الصلاة والصيام والصدقة، وأن الصلاة تقرب العبد لربه، وأن الله هو الذي أمرنا بها، ثم نبين له أحكام الصلاة وكيف يصلي؟ ثم نبين لهم حب النبي صلى الله عليه وسلم ومن هو الرسول؟ وماحقه علينا وما واجبنا نحوه صلى الله عليه وسلم، ثم حقوق الآخرين كحق الوالدين والجار والصديق القريب والمعلم وغير ذلك.
ومن الوسائل النافعة وضع مكتبة في البيت، وتكون مكتبة مصغرة يستطيع الطفل أن يتعامل مع هذه المكتبة وأن يقرأ الكتب الموجودة بين يديه، وهذه الكتب ينبغي أن تكون مختارة مناسبة للطفل.
ومن الوسائل وضع البرامج الهادفة من وسائل الإعلام وأشرطة الفيديو أو بعض الأشياء الهادفة، ويا ليت الأخوة في كلية الدعوة والإعلام يركزون على جانب الإخراج الطيب لأشرطة مرئية للطفل ويتبنون ذلك، وعلى أقل الأحوال يخرج لنا في السنة شريط أو شريطان تجمع بين الترويح والجد.
ومن الوسائل النافعة والجيدة التعاقد مع مربي فاضل يجتمع أبناء الحي أو الشارع الواحد عنده فيربيهم على الأخلاق الطيبة والصراحة وتنمية مواهبهم وأفكارهم.
ومن الوسائل التشجيع للطفل إذا رأى منه أحد أبواه خيراً, فإذا صلى الفجر مثلاً لا مانع أن يسبقه الأب إلى البيت, وإذا وصل إلى البيت قادماً من المسجد شكره ودعا له وأعطاه هدية يفرح بها ويشعره أنه راضٍ عنه، كما كان صلى الله عليه وسلم يشجع صغار الصحابة في طرح المسائل العلمية ويشجعهم على الرمي بل يرمي معهم.(115/273)
ومن الوسائل إبعادهم عن المعوقات التي يمكن أن تقف في طريق دعوتهم. وكذلك من الوسائل القدوة الحسنة فلا ينهى المربي الولد عن الكذب وهو يكذب وليمتثل قول الشاعر:
لا تنه عن خلق وتأتي مثله
عار عليك إذا فعلت عظيم.
ومن الوسائل إذكاء الإيمان في قلب الطفل، وربطه باليوم الآخر وغرس حب الجنة ورؤية الله فيه حتى يزهد في الدنيا ولا يلتفت إليها، فالإيمان باليوم الآخر قضية لابد من ذكرها. ولا تذكر من جانب الخوف وهو الخوف من الموت وإنما تذكر على أنها حياة عظيمة وحياة جزاء وحساب.
المعوقات
أما عن المعوقات فالمعوقات كثيرة ومنها، تشاغل الأبوين عن أداء دورهم ومهمتهم، أو عدم اهتمامهما بذلك، فتجد الاهتمام في المأكل والمشرب واللباس دون الاهتمام بروح الطفل وتوجيهه الوجهة السليمة، ولعل بعض البيوت ترمي بأطفالها على الخادمة أو المربية فيكون لها تأثير سلبي على الطفل، وربما غرست في نفسه أمراً من جوانب العقيدة يصعب عليه التخلص منها بعد ذلك.
ومن المعوقات الكبيرة وسائل الإعلام التي ينسى بعض الآباء أطفالهم عندها بلا رقابة أو أدنى اهتمام، خاصة تلك الأفلام التي تنخر في جانب العقيدة، والحرب اليوم مركزة على الطفل والإحصائيات في حقائق الأفلام أو الألعاب التي تعرض مخيفة جدا.
ومن المعوقات الألعاب الإلكترونية التي يظهر كثير منها بشكل مركز ومستهدف لهدم العقيدة والأخلاق، وهي ذات أثر في صرف الطفل عن الجوانب المهمة في التربية، مما تكون سبباً في سلب عقله وأسر فؤاده وتعلقه بها حتى تكون شغله الشاغل.
ومن المعوقات المدرسة إذا كان المدرس لا يدرك مستوى المسؤولية التي أنيطت بعاتقه و الأمانة التي يحملها, ودوره في المدارس التي ينبغي أن تكون محاضن إيمانية للأطفال.
الوسائل الإعلامية
وسائل الإعلام اليوم بأنواعها وقنواتها المتعددة لها تأثير كبير في تشكيل فكر الطفل وتوجيه سلوكه نظراً لما تبثه من مواد إعلامية فيها من التشويق والإثارة والجذب الشيء الكثير، وإذا تساءلنا عن ماهية هذه الوسائل التي تسهم بإعداد الطفل المسلم، فإننا يمكن أن نتحدث عن المستوى الذي ينبغي أن تصله الوسائل الإعلامية لتحقيق هذا الهدف، ويتشكل المستوى في أمور منها:
• أن تكون البرامج المقدمة للطفل منبثقة أساساً من العقيدة الإسلامية أو على الأقل لا تتعارض معها.
• أن تهدف البرامج الموجهة للطفل أو تثير اهتمامه إلى غرس محبة الله ورسوله في نفس الطفل وتربي في نفسه تقوى الله وخشيته في نفس الوقت.(115/274)
• أن تقدم للطفل البرامج التي تغرس في نفسه الاعتزاز بدينه وتاريخه وحضارته, وكل ما جاء به الدين.
• أن تشجع هذه البرامج حاجات الطفولة وتكون على درجة عالية من الجودة والإخراج, والتنافس مع البرامج المستوردة.
• أن تسهم هذه البرامج في تنمية قدرات الطفل وتوجيهها السليم وتنمي مواهبه واستعداداته الإيجابية.
• أن تغرس وسائل الإعلام في نفس الطفل الأخلاقيات الفاضلة والسلوك القويم من خلال القصص المقدمة والبرامج المختلفة والمنوعة
ـــــــــــــــــــ
... كوني له جارية يكن لك عبدا
هذه العبارة هي إحدى الوصايا العشر المشهورة التي قالتها الأعرابية لأبنتها المتزوجة حديثا .
قد تقولون إن هذا الكلام سوف يقلل من قيمة أو كرامة المرأة أو الرجل .. لكن لا ..
فقط تأملوا العبارة .. تأملوها بدون غضب أو عصبية .
ماذا نفهم من (جارية و عبد) ؟
انهم يطيعون الأوامر و ينفذون الطلبات , لكن كيف ؟! و لماذا ؟!
يمكن النساء لا يقبلن بهذه العبارة لكن إرضاء الرجل هو بأن تستمعي إليه, أن تفهمي ماذا يقول و لماذا
يقول و إذا أراد شيئا حاولي معرفته قبل أن يقول ..
تقولين كيف ؟
بنظرة من عينيه و أنت قد فهمت دواخل نفسه عندها تعرفين ماذا يريد..
لكن السؤال هذا كيف يتحقق ؟
بالحب, بقليل من التنازل و الكثير من إنكار الذات .
بهذه الأشياء يمكنك أن تواجهي صعوبة الانسجام و يمكنك أن تصححي من أغلاط زوجك بأن يكون
ودود محبوب لك و للناس. ثقي بالله أنك إن اتبعت هذه الوصفة , سوف لن يرى زوجك غيرك من
النساء بإذن الله , و إن تكبرت و أصابك الغرور فسوف يبتعد عنك و لا ينظر لك .
قابليه بالابتسامة و ودعيه بالدعاء و اسعدي أيامه بكلمات الحب و الطرفة و الضحكة الصافية.
قد تقولين وهل الكلام لنا فقط نحن النساء ؟
هذا لان بنا تبنى البيوت و نحن الحرث لاشجار الغد و لأننا أطول بالا و اشد بأسا و اكثر صبرا
و نحن أمهات الرجال أنفسهم . جعل الله لنا عقلا ندير به المنزل و نربي الأطفال و نراعي الزوج
و إن أمكن أيضا أن نعمل للمساهمة في الحياة .
هل لنا من الرجال الرعاية و الاهتمام و العناية ؟(115/275)
نعم لنا هذا , لقول الرسول الكريم صلى الله عليه و سلم ((رفقا بالقوارير)) .
يا أيها الزوج الكريم,
أليس لزوجتك الحق بعد هذه المسؤوليات بكلمة حلوة و حديث طيب و مساعدة رقيقة ؟
هل ثقيل عليك بعد عودتك من العمل أن تقول لها اشتقت لك ؟
كلمة طيبة ابتسامة صافية...
اسمع لها ساعدها انصحها أرشدها كل هذا ليس صعبا عليك .
و لكما معا أقول :
بالحب, بقليل من التنازل و الكثير من إنكار الذات يمكنكما أن تقودا سفينة حياتكما السعيدة , و بحبكما
تبنون أسرة و تربون أولادا و تخرجون نشئا قويا , و اعيا ثابت الرأي و واثقا من نفسه .
كوني له جارية بحبك و شغفك و تفهمك ... يكن لك عبدا بحبه و ولهه و عشقه و
كيانه .
ـــــــــــــــــــ
... برنامج لتحفيظ القرآن لأبنائنا
الحمد لله كفى والصلاة والسلام على نبي الهدى.
يا رعاكم الله ..! زادكم الله حرصا وعلما ونفع بكم . وأستعملكم في مرضاته . آمين.
البرنامج المذكور هو لتحفيظ القرآن لأبنائنا من سن 3 سنوات .. و هو مخصص لتقوم به أخواتي أمهات العرين..!!
وهذا نصه :ـ
إن القاعدة التي يقوم عليها البرنامج هي قاعدة عددية..
فبإستخدام المصحف المطبوع في مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف. والمعروف ذو اللون الأخضر ، الذي يحتوي على 604 صفحة دون فيها القرآن الكريم كاملا . وفي كل صفحة 15 سطراً.
ووفقا لهذه الأسس يتكون الجدول كالتالي.
الثلاث سنوات الأولى يتم تحفيظ أبنك أو إبنتك البالغة من العمر 3 سنوات يوميا 3 أسطر فقط.وذلك للأيام من السبت إلى الثلاثاء ويوم الأربعاء والخميس والجمعة يجعل لمراجعة ما أخذ في الأربع الأيام الأولى من الأسبوع ، ثم جعل شهرا واحد في السنة يتم فيها مراجعة ما تمت دراسته طيلة السنة .
بهذا النظام ستجدين أبناءك قد وصلوا إلى سنة التمهيدي في المدرسة، وقد أكملوا الحفظ من سورة الناس إلى سورة فاطر.
الثلاثة سنوات التالية يتم فيها زيادة عدد الأسطر وجعلها نصف صفحة يوميا مع المراجعة لصفحة كاملة وذلك للأيام من السبت إلى الثلاثاء وباقى أيام الأسبوع يخصص لمراجعة ما حفظ في الآسبوع .مع جعل شهر واحد للمراجعة المكثفة وليكن في رمضان .(115/276)
بهذه الطريقة ستجدين أن أبناءك مع نهاية سنة خامس إبتدائي قد أنتهوا من حفظ القرآن الكريم كاملا .
ما تحتاجينه للتنفيذ:
الصبر والمصابرة والمرابطة.( تحتاجين النفس الطويل).
تخصيص مدة ساعتين يوميا لتنفيذ هذا الجدول ، لا يعدل مهما كانت الظروف ، مثلا الخروج للبر ، زيارات الأهل والأقارب حدوث طوارئ كوفاة أحد الأقارب أو زفاف أخت قريبة أو بعيدة او أحد الأبناء ، أو دخول أو الأب المستشفى أو حدوث حوادث مرور , أو في أوقات اختبارات المدرسية . كل هذه الطوارئ يشترط عليك أن لا تجعلك تهملين يوما واحدا من هذا الجدول . حتى يختم.
أخيرا تحتاجين توفير أحد الحفاظ أن يراجع لإبنك وإبنتك بعد الإنتهاء من كل خمسة أجزاء لعمل اختبار شامل للأجزاء التي ختمت .
أسلوب التحفيظ .:
بما أنك تبدأين من سن صغيرة جدا فأنت محتاجة لعدة أساليب.أعطيك بعضها ويمكنك ابتكار غيرها..:
عمل مسابقة .مثلا استخدام سلم الخطوات بمعنى أن يقف ثلاثة عند خط واحد ثم يخطو كل واحد بعد أن يقرأ أية من السورة التي يراد تسميعها .فإذا أخطا يتأخر وإن كانت صحيحة يتقدم . وعند النهاية يكافئ الفائز بعلبة حلوى أو آيس كريم ..أو ما شابهه .
يمكن لطفلك أن يتلو وهو على الأرجوحة أو في حجرك أو أن تطلبي منه أن يذكر آية وهو جالس وأية وهو واقف وهذه الأساليب تشجعه على الإستمرار والإهتمام بمتابعة الحفظ ، أو أن تحضري له ميكرفون صغير وتجعلينه يردد الآيات ويتلوها . ومن المهم جدا كلما أنهى جزاءا أن تسجليه وتحتفظى به ثم تديريه ليسمعه في الرحلات أو أمام أقرانه ليشعر بالإعتزاز ولا تفتر همته للمواصلة.
وعليك اختي الحرص الكامل على الإستمرار وعلى المحافظة على شدة التزامك الشخصي وثباتك لإكمال الطريق .
وتذكري دائما أن الله تعالى لا يضيع أجر من أحسن عملا لعل الله أن يجعلها لك من الباقيات الصالحات .
كيفية التلقين..
ترديد كل آية عشر مرات ثم الإنتقال للتي بعدها عشر مرات ثم الآيتين مع بعضهما خمس مرات ، ثم الآية الثالثة تكرر عشر مرات ثم الثلاث الآيات مع بعضهم خمسة مرات ... وهكذا .
إذا أخطأ الطفل أو الطفلة في أية أثناء التسميع، عندها ينبغي إعادة ترديدها عشرة مرات فأن لم تثبت تكرر عشرة أخرى .. وهكذا.
أختى الحبيبة ..يا رعاك الله !!
ويمكن الإستعانة بأخت أو جارة أو معلمة تكون صديقة للمساعدة في التسميع ..كما أن الإلتزام بالجدول بشكل مستمر حتى أيام الأعياد والمناسبات يضع أسس إلتزام(115/277)
الأبناء مستقبلا على قراءة ومراجعة ورد ثابت يوميا لا يتخلفون عنه مما كان السبب..
ولا يحتاج هذا البرنامج إلى إقحام الأزواج مع الأم فيه لسببين:
أولهما: لأنه غالبا يكون مشغولآً بأمور الدعوة أو غيرها خارج المنزل.
الثاني: أنهم لا يجيدون حسن التعامل مع الأطفال في هذه السن المبكرة.
ومن المهم جدا أختى عندما تقومين بترديد الآيات أو التسميع أن يكون بصوت مسموع ، حتى يسمع إبنك الحرف بأذنه ، وأن يكون جلوسك أمامه مباشرة، وأن تحتفظي بالتركيز عليه بجعل عينك في عين طفلك ، عندها سيشعر بجدية الموضوع وإحتواءك له . فإن كانوا أكثر من واحد وكلهم يحتاجون التسميع . فيمكنك تقسيم الوقت عليهم مثلا نصف ساعة لكل واحد على حده ، مع الحرص بالتركيز على كل واحد منهم لوحده .
في البداية قد تشعرين ببطئ في سرعة التحصيل (الحفظ والإسترجاع)، لكن عليك بالصبر فستنموا ملكة الحفظ عندهم تدريجيا وستشعرين بالفرق مع مرور الآيام.
تأكدي أخية أن هذا البرنامج لا علاقة له بدرجة ذكاء إبنك لآنه وضع لمن هم في الدرجة المتوسطة من الذكاء.
يا رعاك الله ..!! وعادة يذهب إبنك من سن 6 أو 7 إلى حلقات التحفيظ في المسجد ، فإن كان إبنك منهم فلا يجب أن تتوقفي عن البرنامج ، وسيكون برنامج المسجد معينا لك في مراجعة ما تم إبنك حفظه.
أيتها المباركة .. يا رعاك الرحمن ..!!
أسأل الله لك من وسيع فضله ومنّه أن ينعم عليك بحفظ أبناءك القرآن ،وأن يرزقهم العمل به ، وأن يرفعهم ويرفعك معهم إلى الدرجات العلى من الجنة .اللهم آمين.
والله من وراء القصد ،،،
أختكم / بنت الرسالة.
(رحمها الله وعفا عنها )
ـــــــــــــــــــ
... كيف ننقش القرآن على صدور صغارنا؟
لأن التعليم في الصغر كالنقش على الحجر، فإن أفضل مراحل تعلم القرآن، الطفولة المبكرة من (3 - 6) سنوات؛ حيث يكون عقل الطفل يقظًا، وملكات الحفظ لديه نقية، ورغبته في المحاكاة والتقليد قوية، والذي تولوا مسئوليات تحفيظ الصغار في الكتاتيب أو المنازل يلخصون خبراتهم في هذا المجال فيقولون:
إن الطاقة الحركية لدى الطفل كبيرة، وقد لا يستطيع الجلوس صامتًا منتبهًا طوال فترة التحفيظ، ولذلك لا مانع من تركه يتحرك وهو يسمع أو يردد.
- المكافأة مدخل طيب لتحبيب الطفل في القرآن، وذلك بإهدائه شيئًا يحبه حتى ولو قطعة حلوى، كلما حفظ قدرًا من الآيات، وعندما يصل الطفل إلى سن التاسعة أو العاشرة يمكن أن تأخذ المكافأة طابعًا معنويًا، مثل كتابة الاسم في لوحة شرف، أو تكليفه بمهمة تحفيظ الأصغر سنًا مما حفظه وهكذا.(115/278)
- الطفل الخجول يحتاج إلى معاملة خاصة، فهو يشعر بالحرج الشديد من ترديد ما يحفظه أمام زملائه، ولهذا يمكن الاستعاضة عن التسميع الشفوي بالكتابة إن كان يستطيعها، وإذا كان الطفل أصغر من سن الكتابة يجب عدم تعجل اندماجه مع أقرانه، بل تشجيعه على الحوار تدريجيًا حتى يتخلص من خجله.
- شرح معاني الكلمات بأسلوب شيق، وبه دعابات وأساليب تشبيه، ييسر للطفل الحفظ، فالفهم يجعل الحفظ أسهل، وعلى الوالدين والمحفظين ألا يستهينوا بعقل الطفل، فلديه قدرة كبيرة على تخزين المعلومات.
- غرس روح المنافسة بين الأطفال مهم جدًا، فأفضل ما يمكن أن يتنافس عليه الصغار هو حفظ كتاب الله، على أن يكون المحفظ ذكيًا لا يقطع الخيط الرفيع بين التنافس والصراع، ولا يزرع في نفوس الصغار الحقد على زملائهم المتميزين.
- ومن الضروري عدم الإسراف في عقاب الطفل غير المستجيب، فيكفي إظهار الغضب منه، وإذا استطاع المحفظ أن يحبب تلاميذه فيه، فإن مجرد شعور أحدهم بأنه غاضب منه؛ لأنه لم يحفظ سيشجعه على الحفظ حتى لا يغضب.
- على المحفظ محاولة معرفة سبب تعثر بعض الأطفال في الحفظ "هل هو نقص في القدرات العقلية أم وجود عوامل تشتيت في المنزل" وغير ذلك بحيث يحدد طريقة التعامل مع كل متعثر على حدة.
- من أنسب السور للطفل وأيسرها حفظًا قصار السور؛ لأنها تقدم موضوعًا متكاملاً في أسطر قليلة، فيسهل حفظها، ولا تضيق بها نفسه.
- وللقرآن الكريم فوائد نفسية جمة، فهو يُقوِّم سلوكه ولسانه، ويحميه من آفات الفراغ، وقد فقه السلف الصالح ذلك فكانوا يحفظون أطفالهم القرآن من سن الثالثة
ـــــــــــــــــــ
... نصائح خاصة للزوج
الدكتور حسان شمسي باشا
السعادة الزوجية أشبه بقرص من العسل تبنيه نحلتان ، وكلما زاد الجهد فيه زادت حلاوة الشهد فيه ، وكثيرون يسألون كيف يصنعون السعادة في بيوتهم ، ولماذا يفشلون في تحقيق هناءة الأسرة واستقرارها .
ولا شك أن مسؤولية السعادة الزوجية تقع على الزوجين ، فلا بد من وجود المحبة بين الزوجين. وليس المقصود بالمحبة ذلك الشعور الأهوج الذي يلتهب فجأة وينطفئ فجأة ، إنما هو ذلك التوافق الروحي والإحساس العاطفي النبيل بين الزوجين .
والبيت السعيد لا يقف على المحبة وحدها ، بل لا بد أن تتبعها روح التسامح بين الزوجين ، والتسامح لا يتأتى بغير تبادل حسن الظن والثقة بين الطرفين .
والتعاون عامل رئيسي في تهيئة البيت السعيد ، وبغيره تضعف قيم المحبة والتسامح . والتعاون يكون أدبياً ومادياً . ويتمثل الأول في حسن استعداد الزوجين لحل ما يعرض للأسرة من مشكلات ، فمعظم الشقاق ينشأ عن عدم تقدير أحد الزوجين لمتاعب الآخر ، أو عدم إنصاف حقوق شريكه .(115/279)
ولا نستطيع أن نعدد العوامل الرئيسة في تهيئة البيت السعيد دون أن نذكر العفة بإجلال وخشوع ، فإنها محور الحياة الكريمة ، وأصل الخير في علاقات الإنسان .
وقد كتب أحد علماء الاجتماع يقول : " لقد دلتني التجربة على أن أفضل شعار يمكن أن يتخذه الأزواج لتفادي الشقاق ، هو أنه لا يوجد حريق يتعذر إطفاؤه عند بدء اشتعاله بفنجان من ماء .. ذلك لأن أكثر الخلافات الزوجية التي تنتهي بالطلاق ترجع إلى أشياء تافهة تتطور تدريجياً حتى يتعذر إصلاحها " وتقع المسؤولية في خلق السعادة البيتية على الوالدين ، فكثيراً ما يهدم البيت لسان لاذع ، أو طبع حاد يسرع إلى الخصام ، وكثيراً ما يهدم أركان السعادة البيتية حب التسلط أو عدم الإخلاص من قبل أحد الوالدين وأمور صغيرة في المبنى عظيمة في المعنى .
وهاك بعضاً من تلك الوصايا التي تسهم في إسعاد زوجك :
. لا تُهنْ زوجتك ، فإن أي إهانة توجهها إليها ، تظل راسخة في قلبها وعقلها . وأخطر الإهانات التي لا تستطيع زوجتك أن تغفرها لك بقلبها ، حتى ولو غفرتها لك بلسانها ، هي أن تنفعل فتضر بها ، أو تشتمها أو تلعن أباها أو أمها ، أو تتهمها في عرضها .
2. أحسِنْ معاملتك لزوجتك تُحسنْ إليك ، أشعرها أنك تفضلها على نفسك ، وأنك حريص على إسعادها ، ومحافظ على صحتها ، ومضحٍّ من أجلها ، إن مرضتْ مثلاً ، بما أنت عليه قادر .
3. تذكر أن زوجتك تحب أن تجلس لتتحدث معها وإليها في كل ما يخطر ببالك من شؤون. لا تعد إلى بيتك مقطب الوجه عابس المحيا ، صامتا أخرسا ، فإن ذلك يثير فيها القلق والشكوك .!!
4. لا تفرض على زوجتك اهتماماتك الشخصية المتعلقة بثقافتك أو تخصصك ، فإن كنت أستاذا في الفلك مثلا فلا تتوقع أن يكون لها نفس اهتمامك بالنجوم والأفلاك !!
5. كن مستقيما في حياتك ، تكن هي كذلك . ففي الأثر : " عفوا تعف نساؤكم " رواه الطبراني . وحذار من أن تمدن عينيك إلى ما لا يحل لك ، سواء كان ذلك في طريق أو أمام شاشة التلفاز ، وما أسوأ ما أتت به الفضائيات من مشاكل زوجية !!
6. إياك إياك أن تثير غيرة زوجتك ، بأن تذكِّرها من حين لآخر أنك مقدم على الزواج من أخرى ، أو تبدي إعجابك بإحدى النساء ، فإن ذلك يطعن في قلبها في الصميم ، ويقلب مودتها إلى موج من القلق والشكوك والظنون . وكثيرا ما تتظاهر تلك المشاعر بأعراض جسدية مختلفة ، من صداع إلى آلام هنا وهناك ، فإذا بالزوج يأخذ زوجته من طبيب إلى طبيب !!
7. لا تذكِّر زوجتك بعيوب صدرت منها في مواقف معينة ، ولا تعيِّرها بتلك الأخطاء والمعايب ، وخاصة أمام الآخرين .
8. عدِّل سلوكك من حين لآخر ، فليس المطلوب فقط أن تقوم زوجتك بتعديل سلوكها، وتستمر أنت متشبثا بما أنت عليه ، وتجنب ما يثير غيظ زوجتك ولو كان مزاحا .
9. اكتسب من صفات زوجتك الحميدة ، فكم من الرجال ازداد التزاما بدينه حين رأى تمسك زوجته بقيمها الدينية والأخلاقية ، وما يصدر عنها من تصرفات سامية(115/280)
10. الزم الهدوء ولا تغضب فالغضب أساس الشحناء والتباغض . وإن أخطأت تجاه زوجتك فاعتذر إليها ، لا تنم ليلتك وأنت غاضب منها وهي حزينة باكية . تذكَّر أن ما غضبْتَ منه - في أكثر الأحوال - أمر تافه لا يستحق تعكير صفو حياتكما الزوجية ، ولا يحتاج إلى كل ذلك الانفعال . استعذ بالله من الشيطان الرجيم ، وهدئ ثورتك ، وتذكر أن ما بينك وبين زوجتك من روابط ومحبة أسمى بكثير من أن تدنسه لحظة غضب عابرة ، أو ثورة انفعال طارئة
11. امنح زوجتك الثقة بنفسها . لا تجعلها تابعة تدور في مجرَّتك وخادمة منفِّذةً لأوامرك . بل شجِّعها على أن يكون لها كيانها وتفكيرها وقرارها . استشرها في كل أمورك ، وحاورها ولكن بالتي هي أحسن ، خذ بقرارها عندما تعلم أنه الأصوب ، وأخبرها بذلك وإن خالفتها الرأي فاصرفها إلى رأيك برفق ولباقة .
12. أثن على زوجتك عندما تقوم بعمل يستحق الثناء ، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول : " من لم يشكر الناس لم يشكر الله " رواه الترمذي .
13. توقف عن توجيه التجريح والتوبيخ ، ولا تقارنها بغيرها من قريباتك اللاتي تعجب بهن وتريدها أن تتخذهن مُثُلاً عليا تجري في أذيالهن ، وتلهث في أعقابهن
14. حاول أن توفر لها الإمكانات التي تشجعها على المثابرة وتحصيل المعارف . فإن كانت تبتغي الحصول على شهادة في فرع من فروع المعرفة فيسِّرْ لها ذلك ، طالما أن ذلك الأمر لا يتعارض مع مبادئ الدين ، ولا يشغلها عن التزاماتها الزوجية والبيتية . وتجاوبْ مع ما تحرزه زوجتك من نجاح فيما تقوم به
15. أنصتْ إلى زوجتك باهتمام ، فإن ذلك يعمل على تخليصها مما ران عليها من هموم ومكبوتات ، وتحاشى الإثارة والتكذيب ، ولكن هناك من النساء من لا تستطيع التوقف عن الكلام ، أو تصبُّ حديثها على ذم أهلك أو أقربائك ، فعليك حينئذ أن تعامل الأمر بالحكمة والموعظة الحسنة
16. أشعر زوجتك بأنها في مأمن من أي خطر ، وأنك لا يمكن أن تفرط فيها ، أو أن تنفصل عنها
17. أشعر زوجتك أنك كفيلٌ برعايتها اقتصاديا مهما كانت ميسورة الحال ، لا تطمع في مالٍ ورثتْهُ عن أبيها ، فلا يحلُّ لك شرعاً أن تستولي على أموالها ، ولا تبخل عليها بحجة أنها ثرية ، فمهما كانت غنية فهي في حاجة نفسية إلى الشعور بأنك البديل الحقيقي لأبيها .
18. حذار من العلاقات الاجتماعية غير المباحة . فكثير من خراب البيوت الزوجية منشؤه تلك العلاقات
19. وائم بين حبك لزوجك وحبك لوالديك وأهلك ، فلا يطغى جانب على جانب ، ولا يسيطر حب على حساب حب آخر . فأعط كل ذي حق حقه بالحسنى ، والقسطاس المستقيم
20. كن لزوجك كما تحب أن تكونَ هي لك في كل ميادين الحياة ، فإنها تحب منك كما تحب منها . قال ابن عباس رضي الله عنهما : إني أحب أن أتزين للمرأة كما أحب أن تتزين لي 21 . أعطها قسطا وافرا وحظا يسيرا من الترفيه خارج المنزل ، كلون من ألوان التغيير ، وخاصة قبل أن يكون لها أطفال تشغل نفسها بهم .(115/281)
22 . شاركها وجدانيا فيما تحب أن تشاركك فيه ، فزر أهلها وحافظ على علاقة كلها مودة واحترام تجاه أهلها
23. لا تجعلها تغار من عملك بانشغالك به أكثر من اللازم ، ولا تجعله يستأثر بكل وقتك، وخاصة في إجازة الأسبوع ، فلا تحرمها منك في وقت الإجازة سواء كان ذلك في البيت أم خارجه ، حتى لا تشعر بالملل والسآمة .
24. إذا خرجت من البيت فودعها بابتسامة وطلب الدعاء . وإذا دخلت فلا تفاجئها حتى تكون متأهبة للقائك ، ولئلا تكون على حال لا تحب أن تراها عليها ، وخاصة إن كنت قادما من السفر .
25. انظر معها إلى الحياة من منظار واحد ..وقد أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنساء بقوله:" أرفق بالقوارير " رواه أحمد في مسنده ، وقوله : " إنما النساء شقائق الرجال " رواه أحمد في مسنده ، و قوله : " استوصوا بالنساء خيرا " رواه البخاري
26. حاول أن تساعد زوجك في بعض أعمالها المنزلية ، فلقد بلغ من حسن معاشرة الرسول صلى الله عليه وسلم لنسائه التبرع بمساعدتهن في واجباتهن المنزلية . قالت عائشة رضي الله عنها : " كان صلى الله عليه وسلم يكون في مهنة أهله -يعني خدمة أهله- فإذا حضرت الصلاة خرج إلى الصلاة " رواه البخاري
27. حاول أن تغض الطرف عن بعض نقائص زوجتك ، وتذكر ما لها من محاسن ومكارم تغطي هذا النقص لقوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم " لا يفرك ( أي لا يبغض ) مؤمنٌ مؤمنة إن كرِهَ منها خُلُقاً رضي منها آخر "
28 . على الزوج أن يلاطف زوجته ويداعبها ، وتأس برسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك : " فهلا بكرا تلاعبها وتلاعبك ؟ " رواه البخاري ، وحتى عمر بن الخطاب رضي الله عنه - وهو القوي الشديد الجاد في حكمه - كان يقولم : " ينبغي للرجل أن يكون في أهله كالصبي ( أي في الأنس والسهولة ) فإن كان في القوم كان رجلا " .
29. استمع إلى نقد زوجتك بصدر رحب ، فقد كان نساء النبي صلى الله عليه وسلم يراجعنه في الرأي ، فلا يغضب منهن
30 . أحسن إلى زوجتك وأولادك ، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول : " خيركم خيركم لأهله " رواه الترمذي ، فإن أنت أحسنت إليهم أحسنوا إليك ، وبدلوا حياتك التعيسة سعادة وهناء ، لا تبخل على زوجك ونفسك وأولادك ، وأنفق بالمعروف ، فإنفاقك على أهلك صدقة . قال صلى الله عليه وسلم : " أفضل الدنانير دينار تنفقه على أهلك ... " رواه مسلم وأحمد
ـــــــــــــــــــ
... نصائح خاصة للزوجة
اولاً - تطبعي بطبع زوجك واطيعيه في كل شيء ولا تخالفيه الا في معصية الله ورسوله ، و أفعلي ما يريد ولو كان مالا تحبين ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( حق الزوج على زوجته ؛ لو كانت به قرحه ، أو انتثر منخراه صديداً أو دماً ، ثم بلعته ؛ ما أدت حقه )) ابن حبان و الحاكم وغيرهم . وقوله ايضاً (( لو(115/282)
كنت آمر احداً ان يسجد لغير الله لأمرت المرأة ان تسجد لزوجها )) ابن حبان و ابن ماجه وغيرهم . وتذكري قول السيدة الحكيمة التى تنصح ابنتها العروس قائلها : (( يا بنية ، إنك خرجت من العش الذي فيه درجت ، فصرت الى فراش لا تعرفينه ، وقرين لا تألفينه ، فكوني له أرضاً يكن لك سماءً ، وكوني له مهادً يكن لك عمادً ، وكوني له امة يكن لك عبداً ، لا تلحفي به فيقلاك ( يبغضك ) ، ولا تباعدي عنه فينساك ، إن دنا منك فاقربي منه ، و إن نأى ( ابتعد ) فابعدي عنه ، واحفظي أنفه وسمعه وعينه ، فلا يشمن منك إلا ريحاً طيباً ، ولا يسمع إلا حسناً ، ولا ينظر إلا جميلاً )) .
ثانياً - تحري رضا زوجك لقول الرسول صلى الله عليه وسلم (( أيما امرأة ماتت و زوجها عنها راض دخلت الجنة )) رواه الترمذي وخاصة قبل نومك لقوله عليه الصلاة والسلام : (( إذا دعا الرجل امرأته الى الفراش فلم تأته فبات غضبان عليها ، لعنتها الملائكة حتى الصبح )) متفق عليه .
ثالثاً - لا ترفعي صوتك في وجه زوجك فذلك اكره ما يكون لنفس الزوج ولا تكثري ولا تلحي على الطلبات التي فوق قدرته ، ولا يكن حبك للمال كما قال الشاعر فيها : اذا رأت اهل الكيس ممتلئا - تبسمت ودنت مني تمازحني وان رأته خاليه من دراهمه تجهمت وأنثنت عني تقابحني انما يجب ان تقف بجانبه في المواقف الصعبة والظروف الحرجة واعتبري من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لزوجه عائشة رضي الله عنها حين قال لها : (( يا عائشة ، إذا أردت اللحوق بي فليكفك من الدنيا كزاد الراكب ، وإياك ومجالسة الأغنياء ، ولا تستخلعي ثوباً حتى ترقعيه )) الترمذي . فكوني بارك الله فيك صابرة راضية ، محتسبة عند ربك .
رابعاً - اعتذري لزوجك وان كان هو المتسبب بالخطاء وتذكري قول الرسول صلى الله عليه وسلم (( نسائكم من اهل الجنة : الودود ، الولود ، العؤود على زوجها ؛ التي اذا غضب جاءت تضع يدها في يد زوجها ، . قالت : هذه يدي في يدك . لا اذوق غمضاً حتى ترضى )) النسائي .
خامساُ – أبهجي قلبه حينما يعود من العمل بمظهرك الجميل وابتسامتك العذبة ومنزلك المعطر المرتب وطعامه الجاهز واطفاله بالملبس النظيف ، و اجلي كل ما يضايقه من طلبات واخبار الى وقت غير هذا الوقت ، واعلمي ان هذا الوقت هو مفتاح سعادة يومك .
سادساً - اعلمي ان زوجك في حقيقته – طفل كبير – اقل كلمة حلوه تسعده ؛ فعامليه على هذا الأساس بأن تختاري له اسما مثل : ( حبيبي ) ( روحي ) .. وان تمدحيه وتشكريه و تبيني له حسناته ومواقفه الرجولية وانك سعيده بان الله جعله زوجا لك وان تهيئى له الجو العاطفي والرومانسي ولا تحاولي صده اذا ما طلبك ووفري له كل ما يحتاج وعليك وقت خروجه ان تلبيسه و تعطيره وتبخيره لقول عائشة رضي الله عنها ( كنت اطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم – لإ هلاله – بأطيب ما أجد ) البخاري ومسلم. و بيني لزوجك بأنك تشتاقين له في خلال اللحظات التي يغيب فيها عن البيت لينجذب لك وتقوى علاقتكما .(115/283)
سابعاً - تجنبي مجالسة اصدقاء السوء لكي لا تتأثري بهم وتهدمي منزلك لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( ومثل جليس السوء كمثل صاحب الكير ))ابي داود ، وفي رواية البخاري : (( وكير الحداد يحرق بيتك او ثوبك او تجد منه ريحاً خبيثة )) .
ثامناً - لا تفشي سراً لزوجك ولا تسربي خلافاتكم الزوجية ولا تبوحي بأسرار الفراش فتكوني من شر الناس عند الله يوم القيامة ، و قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (( فلا تفعلوا ؛ فإنما ذلك مثل الشيطان لقي شيطانةً في طريق ، فغشيها والناس ينظرون )) احمد .
تاسعاً - احذري ان تذهبي الى بيت اهلك لحظة الغضب فساعتها لا تنتظري ان يأتي ليصالحك .
عاشراً : تجنبي التصرف في ماله او ادخال أي شخص المنزل او الذهاب الى أي مكان إلا باذنه .
الحادي عشر : عدم التدخل في شؤونة الخاصة التي لا تعنيك .
الثاني عشر: امدحي أهله وأصدقائه ولا تحقريهم وأحسني استقبال ضيوفه وشجعيه على صلة رحمه ولا تحاولي التفريق بينه وبين اهله وخاصة امه ، فلا تأمني لرجل خذل والديه ان لا يخذلك واعلمي انهم اولى عليه منك عند الله ورسوله فأتقي نار جهنم يرحمك الله .
الثالث عشر - لا تلعني او تسبي زوجك او صغارك ؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( يا معشر النساء ؟ تصدقن ؛ فإني رايتكن اكثر اهل النار )) فقلن : وبم يا رسول الله ؟ قال : (( تكثرن اللعن ، وتكفرن العشير )) البخاري .
الرابع عشر – اتقى غضب الله ولا تطلبي الطلاق على أتفهه الأمور لقوله عليه الصلاة والسلام : (( أيما امرأة سألت زوجها طلاقاً من غير بأس ؛ فحرام عليها رائحة الجنة ))ابو داود والترمذي وغيرهم
ـــــــــــــــــــ
الخطاب الإسلامي .. مقاربة منهجية
خالد روشه
19/1/1428
ارسل تعليقك ...
تعليقات سابقة ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
khaled_rousha@yahoo.com
لقد تعددت طرق التناول في الخطاب الإسلامي لدي كثير من المتحدثين الإسلاميين بين مغلق لأبواب الاجتهاد والبحث , ومنفتح انفتاحا غير مقنن , والحقيقة فإن تناول الخطاب الإسلامي الوسطي المعتدل الذي يؤكد على الثوابت الأصيلة وفي ذات الوقت لايهمل متطلبات الواقع صار قضية حتمية النقاش والبيان وصار لازما على(115/284)
الأمة أن تصاغ لها المحددات الأساسية للخطاب الإسلامي الصائب بلا ميل أو شطط .
والخطاب الديني هو البيان الذي يوجه باسم الإسلام إلى الناس مسلمين وغير مسلمين لدعوتهم إلى الإسلام أو تعليمه لهم أو تربيتهم عليه عقيدة وشريعة , عبادة ومعاملة , فكرا وسلوكا , لشرح موقف الإسلام من قضايا الحياة والإنسان والعالم فرديا أو اجتماعيا روحيا أو ماديا نظرية أو عملية
- توصيف المشكلة :
ليس في الإسلام أي نوع من نقص أو خلل بل لقد أتم الله الدين وأكمل علينا نعمته " اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا" , ولكن النقص والخلل إنما يأتي من نوع تناول أو تعامل مع ذلك المنهج الرباني المتكامل ..فالمشكلة هنا هي مشكلة من يتعامل مع النص الشرعي ومن يتفهم الواقع الحقيقي ومن يسقط الدليل على الحادثة , وقد تكون المشكلة هي تعطيل التناول الاجتهادي ذاته في بعض الأحيان أو جمود الطرق البحثية في الوصول إلى التصور الصائب ..
والخطاب الديني هو البيان الذي يوجه باسم الإسلام إلى الناس مسلمين وغير مسلمين لدعوتهم إلى الإسلام أو تعليمه لهم أو تربيتهم عليه عقيدة وشريعة
- في كل عصر مجتهدوه :
ولقد حفل التاريخ الفقهي الإسلامي بعصور المجتهدين الذين أثروا الفكر الإسلامي وقعدوا القواعد المنهجية المتكاملة المتعاضدة وبينوا الثوابت واجتهدوا في المتغيرات بحسب القواعد المسموح بها , ولا يكاد عصر من العصور يخلو من مجتهدين أكفاء
ففي القرن الثامن الهجري ظهرت مدرسة شيخ الإسلام ابن تيمية التجديدية باجتهاداتها التي خالفت فيها بعض المألوف والمأثور في مسائل مختلفة ..
وفي القرن نفسه ؛ كان في المغرب الأندلسي : الإمام الأصولي أبو إسحاق الشاطبي صاحب ( الموافقات ) .
وفي القرن التاسع ظهر في مصر الإمام السيوطي الذي كتب رسالته القيمة في الرد على من قيد الاجتهاد ( الرد على من أخلد إلى الأرض وجهل أن الاجتهاد في كل عصر فرض ) وأثبت في كتابه هذا من وصلوا إلى مرتبة الاجتهاد من العلماء ، ومن خالفوا مذاهبهم في عدد من المسائل ، وإن لم يعلنوا أنهم مجتهدون : وقال السيوطي : إن الناس يدعون اجتهادا واحدا ، وأنا أدعي اجتهادات ثلاثة : اجتهاد في اللغة ، واجتهاد في الحديث ، واجتهاد في الفقه .
وفي القرن الثاني عشر ظهر في الهند ولي الدين الدهلوي ليجلي علوم الحديث ، ويخفف من التعصب للمذهب الحنفي ، وصنف جملة كتب في هذا الاتجاه ، أهمها كتابه الفريد ( حجة الله البالغة ) في أسرار الحديث الشريعة .
وفي نفس العصر ظهر علامة اليمن محمد بن إسماعيل الأمير الشهير بـ ( الصنعاني ) صاحب (سبل السلام ) وغيره
وفي القرن الثالث عشر ظهر علامة اليمن محمد ابن على الشوكاني الذي ملأ الدنيا علما في الأصول والفروع ، وترك وراءه آثار علمية تجديدية ، تشير إليه ، وتدل عليه ، مثل : ( نيل الأوطار ) و ( السيل الجرار ) و( الدراري المضيئة ) و ((115/285)
وإرشاد الفحول ) في علم الأصول ، و( فتح القدير ) الجامع بين الرواية والدراية في التفسير ، وغيرها . وكلها تنحو منحى الاجتهاد .
- من أين جاء الخلل ؟
لقد جاء الخلل في تناول قواعد الخطاب الإسلامي عندما تصدى لتوصيفه طائفة مالت إلى أفكار خاصة بعضها اقترب إلى حد كبير من العلمانية وإن كان بعضهم قد اشتغل بوظائف التدريس الشرعي أو التعليم في بعض الجامعات في البلاد الإسلامية , وقد مال هؤلاء بالكلية ميلا نحو تهميش التناول في الخطاب الإسلامي ولم يتوقفوا عند ثوابته بل تعدوا عليها عبر باب الاجتهاد المزعوم – بحسب رؤيتهم – وكان مراد معظمهم من ذلك مسايرة العصر والانفتاح على الغرب وغيره , بل قد اتهم بعضهم بالرغبة في إذابة الروح القدسية للمشروع الإسلامي
فالمشكلة هنا هي مشكلة من يتعامل مع النص الشرعي ومن يتفهم الواقع الحقيقي ومن يسقط الدليل على الحادثة
ومن هؤلاء محمد أركون في بحثه نقد العقل الإسلامي، ولؤي صافي في كتابه تجديد الخطاب بإعمال العقل، وعبد المجيد الصغير في كتابه المعرفة والسلطة وإشكالية التأسيس الأصولي، وعبد الجواد ياسين في مؤلفه نقد العقل الفقهي السلفي، وطه عبد الرحمن في كتابه فلسفة الدين أو خطاب القول الإنشائي، وهشام جعيط في بحثه إشكالية العلاقة بين الإسلام والحداثة، وصاحب كتاب تأويل التراث في التوظيف الأيديولوجي، وأبو يعرب المرزوقي في كتابه النهضة المستحيلة , ولقد انحرف كثير من هؤلاء عن المسلك الصائب في تناول الثوابت الشرعية بوجهة نظر فلسفية لا نتفق معهم فيها , بل آل الحال ببعضهم إلى الشطط البالغ .
مقاربة منهجية :
وقد حاولت أن أعقد مقاربة منهجية بين نوعين من التناول التنظيري للخطاب الإسلامي لباحثين مهمين أحدهما هو تناول الدكتور يوسف القرضاوي الذي تناوله خلال كتابه ( خطابنا الإسلامي في عصر العولمة) الذي قد أثار جدلا بين بعض الأوساط الإسلامية , والثاني هو تناول الدكتور عبد الوهاب المسيري الأكاديمي ومستشار المعهد العالمي للفكر الإسلامي بواشنطن وصاحب موسوعة اليهودية الشهيرة .
ونحاول من خلال هذه المقاربة الوصول إلى تصور عام لموضوع البحث .. وأحب أن أشير هنا إلى أننا إذ نتناول هذه المقاربة لا يعني ذلك أننا نتفق اتفاقا كاملا مع أحد الرؤيتين المعروضتين , ولكننا لنا بعض الوقفات الهامة سنحاول بيانها أثناء العرض وبعده .
* * أولا : مدخل للرؤية :
يرى الدكتور القرضاوي أنه يجب الترحيب بتجديد الخطاب الديني , كما يجب أن يحذر من الأهداف الخبيثة من وراء بعض الدعوات إلى تغيير الخطاب , يقول في بداية بحثه : أننا نرحب بتجديد الخطاب الديني .. فكرة وأسلوبا , والمسلم ينشد الأحسن دائما ولكننا نحذر من خطورة التنادي المستمر بتغيير الخطاب الديني(115/286)
الإسلامي في هذا الوقت خاصة ولاسيما من أقلام مشبوه .. لا تبالى برضا الله أو سخطه ولكن يعنيها كل العناية أن يرضى السيد الأمريكي عنها .
أما مدخل الدكتور عبد الوهاب المسيري لبحثه فهو أن تجديد الخطاب الديني أمر مهم للغاية وأنه يعتمد على الاجتهاد وأنه متعدد وليس واحديا , يقول في بحثه : يميل بعضنا إلى تصوير الخطاب الإسلامي باعتباره خطابًا واحديًا، أي ذا بُعد واحد... والدين الإسلامي هو ولا شك عقيدة التوحيد، والخطاب الإسلامي إنما هو اجتهادات المسلمين داخل الزمان والمكان. ومن ثم فهو –أيضًا- متعدد وكثير، وتاريخ المسلمين هو تعبير عن هذه الكثرة والتعددية.
ولقد حفل التاريخ الفقهي الإسلامي بعصور المجتهدين الذين أثروا الفكر الإسلامي وقعدوا القواعد المنهجية المتكاملة المتعاضدة وبينوا الثوابت واجتهدوا في المتغيرات
ثانيا : خطر التغيير
يقول القرضاوي : إن التغيير في هذا الوقت محفوف بخطرين الأول خطر الإذعان للضغوط المدججة بالسلاح والمال والثاني خطر تمكين الأفكار اللادينية لتروج فكرها المستورد تحت عنوان التجديد والتطوير وإنما هو التبديد والتخريب ولاشك أن حذر القرضاوي في مكانه إذ تحاول أقلام متكاثرة مأجورة في بعض الأحيان وموتورة في أحيان أخرى أن تدخل في الحوار حول مستقبل الخطاب الديني بتلك الإراة الخبيثة التي تحدث عنها.
- هل يتغير الخطاب الديني من عصر إلى آخر ؟
إن الدين في أصوله و كلياته العقائدية والتعبدية والأخلاقية والشرعية لا يتغير ولكن الذي قد يتجدد هو أسلوب تعليمه والدعوة إليه لا محتوى هذا التعليم.
يقول القرضاوي في ذلك : إذا كان المحققون من أئمة الدين وفقهائة قد قرروا أن الفتوى تتغير بتغير الزمان والمكان والعرف والحال والفتوى تتعلق بأحكام الشرع فإن تغير الدعوى والخطاب أحق وأولى فما يقال للمسلمين غير ما يقال لغير المسلمين وما يقال للمسلم الحديث عهد بالإسلام غير ما يقال للمسلم الغير حديث عهد بالإسلام .... وما يقال للناس في قرية من قرى الخليج أو صعيد مصر أو ريف باكستان غير ما يقال للناس عبر قنوات الفضاء ويشاهده ويسمعه العالم , لا شك أن هناك أقدارا مشتركة تقال للجميع ويخاطب بها الجميع ولكن يبقى هنا خصوصية لكل فئة توجب على العالم والداعية أن يوجه لها خطابا خاصا يجيب عن تساؤلاتها ويحل مشكلاتها ويرد على شبهاتها ..... يقول : وأقوى دليل على تغير الخطاب بتغير موجباته وتغير ملابساته هو القرآن ذاته فموضوعات القرآن المكي تختلف عن موضوعات القرآن المدني وأسلوبهما يختلف ومن الأدلة على تطوير الخطاب ما رواه أبو داوود والحاكم والبيهقي عن أبي هريرة ( إن الله يبعث على رأس كل مائة سنة لهذه الأمة من يجدد لها دينها ) ... ولكن ما معنى التجديد المطلوب إن التجديد المطلوب لا يمس الثوابت التي لا تتغير بتغير الزمان والمكان والإنسان من العقائد والعبادات وأصول الفضائل والرذائل والأحكام القطعية في ثبوتها ودلالاتها .... لا يمس الجديد هذه الثوابت إلا من جهة أسلوب عرضها أما غير الثوابت فهي التي يدخلها الاجتهاد والتجديد وهي معترك لإفهام أهل العلم الأصلاء ففيها مجال للاجتهاد(115/287)
الجزئي والكلي والاجتهاد المقيد والاجتهاد المطلق والاجتهاد الانتقائي والاجتهاد الإنشائي
أما المسيري فيرى أن هناك نوعين من الخطاب قد مرا بالساحة الإسلامية المعاصرة , خطاب قديم وخطاب حديث , وهو هنا يقسم النوعين طبقا لتعاملهما مع الحضارة الغربية :
يقول المسيري : هناك خطاب إسلامي ظهر مع دخول الاستعمار العالم الإسلامي، وحاول أن يقدم استجابة إسلامية لظاهرتي التحديث والاستعمار، وقد ظل هو الخطاب المهيمن حتى منتصف الستينيات، وهو ما نشير إليه بالخطاب الإسلامي القديم , وظهر خطاب آخر كان هامشيًا، ولكن معالمه بدأت تتضح تدريجيًا في منتصف الستينيات، وهو ما نشير إليه بالخطاب الإسلامي الجديد. ونقطة الاختلاف بين الخطابين هي الموقف من الحداثة الغربية .
فرؤية القرضاوي إذن تقوم على إمكانية تحديث الخطاب الديني من عصر إلى آخر بغير المساس بثوابته , أما رؤية المسيري فهي ارتباط هذا الخطاب بالحضارة الغربية .
وقد يرى الكثيرون نوعا من القصور في تصنيف المسيري للخطاب الديني حيث إنه من المعروف أن الخطاب الديني ظل محتفظا بكينونته لفترات طويلة وكان يحفظه للأمة علماؤها وأئمتها , نعم قد نتفق معه في كون البعض قد تأثر بالتماس بالحضارة الغربية كالشيخ محمد عبده وغيره إلا أنهم أيضا – كما لاقوا بعض المستجيبين لهم من محبي التقليد للغرب - قد ووجهوا برفض واسع على مستوى النخبة المثقفة والمتعلمة من الأزاهرة والعلماء .
ويقسم المسيري الخطاب الإسلامي من حيث القائمين به إلى ثلاثة أصناف :
الخطاب الجماهيري الشعبي وهو خطاب القاعدة العريضة من الجماهير الإسلامية التي شعرت بفطرتها أن عمليات التحديث والعلمنة والعولمة لم يكن فيها خير ولا صلاح لها، هذه الجماهير تحاول التمسك والتشبث بالإسلام (فهي تعرفه جيدًا) إلى أن يأتي الله بالفرج؛ فهي تتحرك بموروثها الإسلامي، وتستغيث في الوقت نفسه من خلال هبَّات تلقائية غاضبة ضد أشكال التغريب المتطرف والغزو الاستعماري تارة، وتارة أخرى من خلال "فعل الخير" الفردي (إعطاء الصدقات) والاجتماعي (تأسيس مساجد ومستشفيات ومدارس وموائد الرحمن ... إلخ).
,والخطاب السياسي وهو خطاب بعض أعضاء الطبقة المتوسطة من المهنيين والأكاديميين وطلبة الجامعات والتجار ممن شعروا –أيضًا- بالحاجة إلى عمل إسلامي يحمي هذه الأمة. وقد رأوا أن العمل السياسي هو السبيل إلى هذا، فقاموا بتنظيم أنفسهم على هيئة تنظيمات سياسية لا تلجأ للعنف،
والخطاب الفكري وهو الخطاب الذي يتعامل أساسًا مع الجانب التنظيري الفكري داخل الحركة الإسلامية.
يقول الدكتور المسيري : وهذا التقسيم لا يعني انفصال مستويات الخطاب الثلاثة؛ فالخطاب الجماهيري والسياسي متداخلان، وقل الشيء نفسه عن الخطابين السياسي(115/288)
والفكري، ورغم انفصال الخطاب الجماهيري عن الخطاب الفكري إلا أن تداخلاً يحدث بينهما من خلال الخطاب السياسي وهكذا..
ثالثا : سمات الخطاب الإسلامي :
* * رؤية الدكتور المسيري لسمات الخطاب الإسلامي :
الموقف من الحداثة الغربية هو نقطة الانطلاق الأساسية التي تتفرع عنها كل السمات الأخرى عند الدكتور عبد الوهاب المسيري , و التي يمكن أن نوجزها فيما يلي: ( أنه يراه ليس اعتذاريا ومع هذا لا يرفض حملتة الغرب بشكل قاطع ولا يصورونه باعتباره مصدرًا لكل الشرور، ما يرفضه الخطاب الإسلامي في واقع الأمر هو المركزية والعالمية التي يضفيها الغرب على نفسه .
كما يرفض الخطاب الإسلامي الإمبريالية الغربية وعمليات النهب والقمع التي قام بها في الماضي والتي تأخذ أشكالاً جديدة في الحاضر لا تقل ضراوة عن سابقتها، وهو يرفض الجوانب السلبية في الحداثة الغربية ويدرك أزمتها تمام الإدراك.
وهو خطاب جذري توليدي استكشافي فهو يبدأ من نقد جذري للحضارة الغربية الحديثة، ويحاول اكتشاف معالم المنظومة الغربية الحديثة باختصار شديد: الخطاب الجديد –انطلاقًا من أرضية إسلامية- يفتح باب الاجتهاد بالنسبة للمنظومة الغربية والموروث الثقافي الإسلامي .
وهو خطاب يصدر عن رؤية معرفية شاملة ويتسم بأنه بالضرورة خطاب شامل، فهو على المستوى الجماهيري يطرح شعار (الإسلام هو الحل)، ولكن على المستوى الفلسفي يطرح شعار (الإسلام هو رؤية للكون)، وهو يتعامل مع كل من اليومي والمباشر والسياسي والكلي والنهائي؛ أي أن الخطاب الإسلامي الجديد يصدر عن رؤية معرفية شاملة يولد منها منظومات فرعية مختلفة: أخلاقية وسياسية واقتصادية وجمالية، فهو منظومة إسلامية شاملة تفكر في المعمار والزواج والاقتصاد وبناء المدن والقانون وفي كيفية التحلي والتفكير، وفي توليد مقولات تحليلية مستقلة، ولذا فالخطاب الإسلامي الجديد لا يقدم خطابًا للمسلمين فحسب وإنما لكل الناس، حلاً لمشاكل العالم الحديث، تمامًا مثلما كان الخطاب الإسلامي أيام الرسول –عليه الصلاة والسلام
وهو خطاب قادر على الاستفادة من الحضارة الغربية , فمقولات مثل: العدل الطبقي، وضرورة التوزيع العادل للثروة، وقضية المرأة، وأثر البيئة على تشكيل شخصية الإنسان: هي قضايا كانت مطروحة داخل المنظومة الإسلامية، ولكن حساسية الخطاب الجديد وإداركه المتعمق لها ازداد من خلال احتكاكه بالحداثة الغربية.
كما أن حملة الخطاب لا مانع عندهم من الاستفادة بهذه الحداثة في اكتشاف آليات الحلول أو حتى الحلول ذاتها، طالما أنها لا تتناقض مع النموذج الإسلامي., وهو كذلك خطاب يحرص على أسلمة المعرفة الإنسانية:
إذ يدرك الخطاب الإسلامي أن العلوم الإنسانية ليست علومًا دقيقة عالمية محايدة (كما يدعي البعض)، وأنها تحتوي على تحيّزات إنسانية عديدة تختلف بشكل جوهري عن العلوم الطبيعية.(115/289)
ولذا فالخطاب الإسلامي يحاول أن يؤسس علومًا إنسانية لا تستبعد الإنسان، ومن ثم فهي مختلفة في منطلقاتها وطموحاتها ومعاييرها عن العلوم الطبيعية، ولا نزعم أنها محايدة منفصلة عن القيمة، بل تعبّر عن المنظومة القيمية الإسلامية (وهذه هي إسلامية المعرفة).
وهو كذلك خطاب يميز بين إنجازات الغرب وبين رؤيته القيمية , فمثلاً: في حالة انفصال العلم والتكنولوجيا عن القيمة في الغرب يحاول الخطاب الإسلامي الاستفادة من العلم والتكنولوجيا وكل ثمرات الحضارة الغربية النافعة دون أن يتبنى رؤيتها للكون والقيم ، بحيث يمكن مزاوجة الرؤية العلمية الحيادية والمنظومة القيمية الإسلامية .
وهو خطاب يعمل على تأسيس رؤية إسلامية مستقلة في التنمية , فهو مدرك تمامًا لمشكلة البيئة ولعل من أهم القضايا التي تشغل الخطاب الجديد هي نظرية التنمية، فالخطاب الجديد يرى أن نظريات التنمية الإسلامية لا بد أن تكون مختلفة جذريًا عن نظريات التنمية الغربية التي تروج لها المنظمات التي يقال لها دولية، والتي أثبتت فشلها في الممارسة، والتي أدت إلى الأزمة البيئية .
و الخطاب الإسلامي يدرك القضية الفلسفية الأساسية في العالم الحديث، وهي قضية النسبية المعرفية التي تؤدي إلى العدمية، وهو يطرح في مقابلها ما أسماه (النسبية الإسلامية)
ويؤمن كذلك بالحركة والتدافع كأساس للحياة: وأن العالم ليس في حالة جمود وإنما هو في حالة حركة، والتدافع ليس بالضرورة الصراع، حتى إن أخذ هذا الشكل أحيانًا، وثمة إيمان -أيضًا- بفكرة التداول، و قبول التعايش مع الآخر واكتشاف الرقعة المشتركة معه، ومن هنا ظهر فقه الأقليات الحديث، سواء الأقليات غير المسلمة في المجتمعات الإسلامية أو الأقليات المسلمة في المجتمعات غير المسلمة، وهذا الفقه يصدر عن مفاهيم العدل والمساواة في الإسلام. في إطار الأحكام الشرعية المقبولة .
وهو خطاب قادر على الرؤية المتكاملة للشريعة وإنزالها على الواقع المعاصر: : فالخطاب الإسلامي في المجتمعات الإسلامية التقليدية هو الشريعة. فالشريعة لا تزال هي الخطاب الإسلامي القديم والجديد، ولكن الخطاب الجديد يحاول أن يحل ماخفي من هذا المصطلح، بحيث يمكن استخلاص الحكمة الكامنة فيه وإنزالها إلى الواقع المعاصر، ومثل هذا الاجتهاد سيساعدنا على زيادة المقدرة التوليدية للمنظومة الفقهية، كما سيساعد المسلمين على ترسيخ أقدامهم على أرضيتهم العقائدية.
وهو خطاب قادرعلى صياغة نموذج معرفي إسلامي والاحتكام إليه: هذا النموذج يأخذ شكل هرم على قمته شهادة أن لا إله إلا الله، تليها القيم الأساسية ، ثم تأتي بعد ذلك الأحكام الجزئية المختلفة، ومن ثم يمكن توسيع نطاق الاجتهاد دون خوف كبير من الزلل؛ إذ أن الاجتهاد سيتم في إطار النموذج المعرفي الهرمي الذي تم استخلاصه (عبر الاجتهادات المستمرة) من القرآن والسنة، وهذا النموذج سيكون هو وحده المعيار الذي يتم من خلاله إصدار الأحكام )(115/290)
- هذا هو اختصار تقريبي لرؤية الدكتور المسيري لسمات الخطاب الإسلامي الحديث
* * ولنا مع تلك الرؤية عدة وقفات مختصرة هي :
1- أنه قد صاغ تلك الرؤية للخطاب الإسلامي بصورة تنظيرية هي أقرب للفلسفية وهي تحتاج إلى حد كبير إلى تطبيق مفرداتها واقعيا قبل القبول
2- أن تلك الرؤية افتقرت إلى تحديد الثوابت والمتغيرات في الخطاب الإسلامي وربما يعزى ذلك لعدم تخصص الدكتور المسيري في شئون الشريعة الإسلامية بصورة أكاديمية
3- أنها لم تحل الإشكالية بين الثوابت والمتغيرات في ممارسة السياسة الشرعية بصورة مقننة مقبولة
4- أنها استخدمت مصطلحات فضفاضة كالنسبية الإسلامية وفكرة التناوب وغيرها مما يلزمه تحديد دقيق لئلا يساء فهمه ومن ثم تطبيقه ويمنع التداخل في المفاهيم
5- تواجه رؤية المسيري بانتقاد حاد من قبل العلماء الشرعيين الذين يريدون منهجا واضحا في الاستمساك بالثوابت ويقبلون التحديث على مستوى الوسائل والأساليب وهي الرؤية الأمثل التي يميل إليها الكثيرون وهي مفتقرة في عرض الدكتور المسيري حتى الآن
* * رؤية الدكتور القرضاوي لسمات الخطاب الإسلامي :
تعتمد رؤية القرضاوى للخطاب الدينى على مفهوم الوسطية التى جعلها المحور الأساسي لسمات الخطاب الإسلامي من وجهة نظره فهو يقول : إن خصائص هذا الخطاب : انه ,( يؤمن بالله ولايكفر بالإنسان فهو يحرص على العقيدة وأيضا يراعي فطرة الإنسان وغرائزه ويعمل على تصريفها في الحلال ويشرع الاستمتاع بالزينة والطيبات في غير إسراف ولا اعتداء ويرعى كرامة الإنسان حيا وميتا ويرعى حرمة دمه وماله وعرضه ويحرم الظلم والتفرقة العنصرية بين الناس على أي أساس غير التقوى .
كذلك فإن هذا الخطاب يؤمن بالوحي ولا يغيب العقل , فالإسلام يحترم العقل لأننا به نفهم خطاب الله ورسوله وبه نعرف الكون والحياة
كذلك فهو خطاب يدعو إلى الروحانية ولايهمل المادية , ذلك أن الإنسان كائن مزدوج فالجانب الروحي يشمل الإيمان والعبادة والتقوى وفعل الخيرات والجانب المادي يشمل عمارة الدنيا بالمباح والتمتع بالمال المباح والاستمتاع بالطيبات
وهو خطاب يعني بالعبادات الشعائرية ولا يغفل القيم الأخلاقية , فمنظومة الأخلاق الإسلامية منظومة شاملة كاملة والإسلام لا يقبل الفلسفة القائلة أن الغاية تبرر الوسيلة ومثل المسلمين في أخلاقهم هو نبيهم صلى الله عليه وسلم
وهو خطاب يدعو إلى الاعتزاز بالعقيدة كما يدعو إلى التسامح والحب فالمسلم لا يساوم على دينه ولا يتهاون فيه بحال ولا يبيعه بمثل الدنيا وما فيها ويصبر عليه حتى يلقى ربه, وهو يدعو إلى التسامح مع المخالفين ويدعوهم إلى الإسلام ويبذل وسعه في الدعوة إلى الإسلام(115/291)
وهو خطاب يغري بالمثال ولا يتجاهل الواقع فالإسلام ينشد الفرد المثالي ولكنه يعترف بقدرة الإنسان وضعفه وإمكانية وقوعه في الخطأ
وهو خطاب يدعو إلى الجد ولا ينسى الترويح , فالمسلم لابد له في أحيان أن يستريح إذا تعب ويسعد إذا مل وهو خطاب يحرص على المعاصرة ويتمسك بالأصالة فلا يتقوقع على الماضي وحده ولا يعيش في الكتب القديمة وحدها ولكن الحياة تتطور فهو ابن زمانه ومكانه وبيئته وهذا التجديد لا يعني التنكر للقديم وهذه المرونة لا تعني التنكر للثوابت ولكن هناك ثباتا للأهداف وتطورا للوسائل
وهو خطاب يتبنى التيسير في الفتوى والتبشير في الدعوى , وهو يرجح التيسير على التعسير في الفقه لأن الشريعة مبناها على اليسر ولأن الناس في عصرنا أحوج ما يكونوا إلى اليسر , وهو خطاب ينصف المرآة ولا يجور على الرجل ويثبت حقوق الأكثرية ولا يجور على الأقلية ..)
** تلك أهم السمات التي ذكرها الدكتور القرضاوي في بحثه حول الخطاب الإسلامي , ولنا عليها بعض الوقفات :
1- هناك اتفاق على الأسس العامة والعناوين الكبيرة التي ذكرها الشيخ القرضاوي إلا أن جدلا واسعا ينشأ عند الاسترسال في التطبيق وفي قراءة النماذج التي قدمها , من مثال ماذكره في بحثه من استبدال كلمة " الكفار " بكلمة غير المسلمين , واستبدال لفظة أهل الذمة بلفظة المواطنين واستنكاره على من يدعو على اليهود وغيرها مما قد خالفه فيها كثير من العلماء .
2- أن رفع لواء التيسير واليسر في الشريعة والديانة أمر مهم وعصري مناسب إلا أن دعوى التيسير في الخطاب الإسلامي قد التصقت باختيارات فقهية قد تكون مرجوحة عند جماهير العلماء في أحيان كثيرة
3- أن الدعوة إلى الوحدة والتعاون أمر محمود ولاشك إلا أن هناك خلافا بين الشيخ وبين كثير من العلماء في ما يتعلق بالتقارب والتسامح مع بعض المذاهب التي يراها كثيرون أنها هدامة وطائفية كالطائفة الشيعية الإنثى عشرية الجعفرية التي تسب الصحابة رضوان الله عليهم .
رابعا : الخطاب الإسلامي والاجتهاد :
وفي نهاية هذا العرض نحاول الوقوف على مفهوم الاجتهاد في الخطاب الإسلامي في عصرنا من خلال رؤية العلماء :
فمن خصائص خطابنا الإسلامي في عصرنا هذا : أنه ينادى بالاجتهاد في فهم الشريعة : جزئيا وكليا ، انتقائيا وإنشائيا ، بوصفه طريقا شرعه الإسلام لاستنباط الأحكام من النصوص ،ومما لا نص فيه , ولا يقيم حربا بين نصوص الشريعة ومقاصدها ، بل يفهم النصوص الجزئية في إطار المقاصد الكلية .
ما يهمنا أن يفتح باب الاجتهاد لأهله في محله ، فلا يدخل هذا الباب إلا من كان أهلا له ، ومن يملك الشروط التي اتفق عليها العلماء للمجتهدين , الخطر يكمن ، حين يدخل الاجتهاد من ليس أهله ، أو يكون الاجتهاد في غير محله .
إن الدخلاء على العلم الشرعي هم الذين يفسدون حيث يزعمون أنهم يصلحون ، ويهدمون من حيث يعلنون أنهم يشيدون .(115/292)
ويجب أن نذكر أن الاجتهاد كما عرفه الأصليون . هو استفراغ الفقيه وسعه في نيل الأحكام الشرعية بطريق الاستنباط , فلا اجتهاد إلا بعد بذل أقصى الجهد في تتبع الأدلة ، والبحث عنها في مظانها ، وبيان منزلتها من القوة والضعف ، والموازنة بينها إذا تعارضت ، بالاستفادة مما وضعه أهل الأصول من قواعد التعادل والترجيح .
كما يجب أن نذكر أن مجال الاجتهاد هو الأحكام الظنية الدليل ، أما ما كان دليله قطعيا فلا سبيل إلى الاجتهاد فيه ، فلا يجوز إذن فتح باب الاجتهاد في حكم ثبت بدلالة القرآن القاطعة ، مثل فرضية الصوم على الأمة ، أو تحريم الخمر ، أو لحم الخنزير ، أو أكل الربا ، أو القصاص من القاتل المتعمد ، أو توريث الأولاد للذكر مثل حظ الأنثيين .. ونحو ذلك من أحكام القرآن والسنة اليقينية ، التي اجتمعت عليها الأمة ، وأصبحت معلومة من الدين بالضرورة ، وصارت في عماد الوحدة الفكرية والسلوكية للأمة .
كما ينبغي أن نحذر من الوقوع تحت ضغط الواقع القائم في مجتمعاتنا المعاصرة فليس معنى الاجتهاد أن نحاول تبرير هذا الواقع على ما به ، وجر النصوص لتأييده ، وافتعال الفتاوى لإضفاء الشرعية على وجوده ، إن الواجب أن يخضع الواقع للشرع ، لا أن يخضع الشرع للواقع ، لأن الشرع يمثل كلمة الله ، وكلمة الله هي العليا .
كما ينبغي في القضايا الجديدة الكبيرة ألا نكتفي بالاجتهاد الفردي ، وان ننتقل من الاجتهاد الفردي إلى الاجتهاد الجماعي ، الذي يتشاور فيه أهل العلم في القضايا المطروحة ، وخصوصا فيما يكون له طابع العموم ، ويهم جمهور الناس .
فرأي ا لجماعة اقرب إلى الصواب من رأى الفرد , هذا الاجتهاد الجماعي يتمثل في صورة مجمعات علمية إسلامية عالمية تضم العلماء
أهم المراجع :
1- بحث منشور للأستاذ الدكتور عبد الوهاب المسيري بعنوان (معالم الخطاب الإسلامي الجديد )
2- كتاب ( خطابنا الإسلامي في عصر العولمة ) للدكتور القرضاوي
3- كتاب ( الصحوة الإسلامية من المراهقة إلى الرشد ) الدكتور القرضاوي
4- مذكرة أصول الفقه للشنقيطي
ـــــــــــــــــــ
دندنة على باب معلم ..
الهيثم زعفان
27/12/1427
ارسل تعليقك ...
تعليقات سابقة ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...(115/293)
طباعة ...
الغاية المثلي من العلم هو العمل به مما يجعل ثمرته تعود على الفرد والمجتمع سواء كان ذلك في حياة الفرد أو بعد مماته فعن أبي قتادة رضي الله عن قال : قال رسول الله صلي الله عليه وسلم " خير ما يخَّلفُ الرجل من بعده ثلاث : ولد يدعو له وصدقة تجري يبلغه أجرها وعلم يُعمل به من بعده " صدق رسول الله ، رواه ابن ماجه وصححه المنذري والألباني .
وعن سهل بن معاذ بن انس عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " من عّلم علما فله أجر من عمل به لا ينقص من أجر العامل شئ " رواه ابن ماجه وحسنه الألباني .
يقول ابن القيم " لو نفع العلم بلا عمل لما ذم الله سبحانه أحبار أهل الكتاب ، ولو نفع العمل بلا إخلاص لما ذم المنافقين "
فالأصل في العلم هو العمل وبالتالي فالعلم وسيلة وليس غاية يقول الشاطبي " العلم وسيلة من الوسائل ليس مقصودا لنفسه من حيث النظر الشرعي وإنما هو وسيلة إلى العمل ، وكل ما ورد في فضل العلم فإنما هو ثابت للعلم من جهة ما هو مكلف بالعمل به، فلم يثبت فضل العلم مطلقا ، بل من حيث التوسل به إلى العمل " وبالتالي فانه لابد للعلم أن يكون له ثمرة تكليفية ويوضح الشاطبي "أن عامة المشتغلين بالعلوم التي تتعلق بها ثمرة تكليفية تدخل عليها الفتنة والخروج عن الصراط المستقيم ويثور بينهم الخلاف والنزاع المؤدي إلى التقاطع والتدابر والتعصب حتى تفرقوا شيعا ، وإذا فعلوا ذلك خرجوا عن السنة ولم يكن أصل التفرق إلا بهذا السبب ، حيث تركوا الاقتصار من العلم على ما يعني وخرجوا إلى ما لا يعني ، فذلك فتنة على المتعلم والعالم وتعطيل للزمان في غير تحصيل "
فالأصل في العلم هو العمل وبالتالي فالعلم وسيلة وليس غاية يقول الشاطبي " العلم وسيلة من الوسائل ليس مقصودا لنفسه من حيث النظر الشرعي وإنما هو وسيلة إلى العمل ، وكل ما ورد في فضل العلم فإنما هو ثابت للعلم من جهة ما هو مكلف بالعمل به، فلم يثبت فضل العلم مطلقا ، بل من حيث التوسل به إلى العمل "
وبالتالي فإن كل علم لم يثمر عملاً – في القلب أو الجوارح – فإنما يلزم صاحبه الحجة أمام الله عز وجل والتي لن يستطيع التوصل إليها لعدم وجود أصل لها في الشرع . يقول الشاطبي " كل علم لا يفيد عملا فليس في الشرع ما يدل على استحسانه ولو كان له غاية أخرى شرعية لكان مستحسنا شرعا " ويعلق محقق كتاب الموافقات على كلام الشاطبي بقوله : " أن مقصود الشاطبي هي العلوم النظرية أما العلوم العملية كالهندسة والطب ليست داخلة في كلامه لأنها علوم يتوقف عليها حفظ مقاصد الشره في الضروريات والحاجيات والمصالح المرسلة تشملها وهي وسيلة إلى التعبد لان التعبد هو تصرف العبد في شئون دنياه وأخراه بما يقيم مصالحهما بحيث يجري في ذلك على مقتضى ما رسم له مولاه لا على مقتضى هواه "وهنا يتضح كلام أبي حامد الغزالي حيث يقول: "العلوم شرعية وغير شرعية ... وأعني بالشرعية ما استفيد من الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه ولا يرشد العقل إليه مثل الحساب ولا التجربة مثل الطب ولا السماع مثل اللغة والعلوم الشرعية فهي محمودة(115/294)
كلها والعلوم التي ليست بشرعية تنقسم إلى ما هو محمود والى ما هو مذموم والى ما هو مباح ... فالمحمود هو ما يرتبط به مصالح أمور الدنيا كالطب والحساب وذلك ينقسم إلى ما هو فرض كفاية والى ما هو فضيلة وليس بفرضة "
ويوضح الشاطبي أنه " لما ثبت أن العلم المعتبر شرعاً هو ما نبني عليه عمل صار ذلك منحصراً فيما دلت عليه الأدلة الشرعية فما اقتضته فهو العلم الذي طُلب من المكلف أن يعلمه في الجملة وهذا ظاهر ، غير أن الشأن إنما هو في حصر الأدلة الشرعية فإذا انحصرت انحصرت مدارك العلم الشرعي والشرع قد جاء ببيان ما تصلح به أحوال العبد في الدنيا والآخرة على أتم الوجوه وأكملها فما خرج عن ذلك قد يظن أنه على خلاف ذلك "
وهنا قاعدة جليلة فالعلم النافع الصحيح مضبوط ومتوقف على الأدلة الشرعية والأدلة الشرعية يتم استنباطها والتوصل لأحكامها من خلال الاجتهاد والذي له شروط وضعها العلماء لاستنباط الأحكام التي تضبط النظام الإنساني نفسياً واجتماعياً واقتصادياً وسياسياً وقضائياً وذلك بضوابط شرعية تبعاً لمراد الشارع لا لهوى الناظر وبالتالي يخرج المظنون عن دائرة المعلوم لأن الأصل في مراد الشارع أنه قطعي مكتمل والمجتهد يستنبطه بالأدوات والمصطلحات الشرعية لا بغيرها من الوسائل والمصطلحات البشرية الوضعية ويطبقه المجتمع الإسلامي يقيناً دون إشراك للظنيات ، أما ما يتعلق بصلاح البدن جسدياً وعمارة الأرض فواضح اتفاق العلماء على فرضية خروج طائفة من أبناء الأمة لتعلم تلك الصناعات ولكن بقصد أصلي وهو سيادة الأمة ومن حيث هو وسيلة للتعبد لله مع المطالبة بتحصيل واستيعاب أحدث ما توصلت إليه الخبرة البشرية في تلك العلوم العملية وبما لا يخالف معلوماً من الدين بالضرورة وذلك باعتبار أنها علوم مشاع للبشرية جمعاء بخلاف غيرها من العلوم الظنية التي تتدخل فيما نظمته الشريعة للإنسان ومن هنا تتضح أهمية الثمرة التكليفية للعلم واعتبار العمل هو ثمرة العلم وتشديد الشرع على ذلك يقول تعالى " والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر " تلك الآيات التي نقل عنها ابن القيم رحمه الله كلام الشافعي رحمه الله حيث قال : قال الشافعي رضي الله عنه " لو فكر الناس كلهم في هذه السورة لكفتهم وبيان ذلك أن المراتب أربعة وباستكمالها يحصل للشخص عناية كاملة إحداهما : معرفة الحق والثانية عمله به والثالثة تعليمه من لا يحسنه والرابعة صبره على تعلمه والعمل به وتعليمه .
وهنا قاعدة جليلة فالعلم النافع الصحيح مضبوط ومتوقف على الأدلة الشرعية والأدلة الشرعية يتم استنباطها والتوصل لأحكامها من خلال الاجتهاد والذي له شروط وضعها العلماء لاستنباط الأحكام التي تضبط النظام الإنساني نفسياً واجتماعياً واقتصادياً وسياسياً وقضائياً
فذكر تعالى – والكلام للشافعي – المراتب الأربعة في هذه السورة وأقسم سبحانه في هذه السورة بالعصر أن كل أحد في خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وهم الذين عملوا بما علموه من الحق فهذه مرتبة أخرى وتواصوا بالحق وصى بها بعضهم بعضا بالصبر عليه والثبات فهذه مرتبة رابعة وهذا نهاية الكمال فإن الكمال(115/295)
أن يكون الشخص كاملاً في نفسه مكملاً لغيره وكماله بإصلاح قوتيه العلمية والعملية فصلاح القوة العلمية بالإيمان وصلاح القوة العملية بعمل الصالحات وتكميله غيره بتعليمه اياه وصبره عليه وتوصيته بالصبر على العلم والعمل " انتهي
ولله در ابن الخطاب إذ يقول " إن أخوف ما أخاف على هذه الأمة المنافق العليم . قالوا وكيف يكون منافقا عليما ؟ .... قال : عليم اللسان جاهل القلب والعمل ."
ومن هنا فإن المسلم مطالب من قبل الشرع بالبحث عن العلم النافع الصحيح فعن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال " سلوا الله علماً نافعاً وتعوذوا بالله من علم لا ينفع " صدق رسول الله .. رواه ابن أبي شيبه وابن ماجه
وفي هذا الموضع يقول الغزالي " لا تكن بحاثاً عن علوم ذمها الشرع وزجر عنها ولازم الإقتداء بالصحابة رضي الله عنهم واقتصر على اتباع السنة فالسلامة في الإتباع والخطر في البحث عن الأشياء والاستقلال ولا تكثر اللجج برأيك ومعقولك ودليلك وبرهانك وزعمك أني أبحث عن الأشياء لأعرفها على ما هي عليه فأي ضرر في التفكير في العلم ؟ فإن ما يعود عليك من ضرره أكثر ، وكم من شئ تطلع عليه فيضرك إطلاعك عليه ضررا يكاد يهلكك في الآخرة إن لم يتدارك الله برحمته "
والذي يقع في هذه العلوم الضارة ويهديه الله ويكشف عنه غمامة التيه ويبدأ في تحصيل العلوم النافعة فإنه مكلف أولا بمهمة لا يستطيع القيام بها أحد إلا الشخص نفسه وضريبتها عالية لأنها قد تصطدم مع مكانة بلغها الشخص من خلال العلوم الضارة لكن هذه المهمة شرط هداية وضعه العلماء ومفاده تفريغ القلب من تلك العلوم وتهيئته لتعبئة العلم النافع يقول ابن القيم رحمه الله " قبول المحل لما يوضع فيه مشروط بتفريغه من ضده " ولا غضاضة في أن يبدأ العالم في التعلم من أول الطريق الصحيح ولنا في قصة سيدنا موسى عليه السلام والخضر العبرة والأسوة فضلاً عن الوعد اليقيني إذ يقول صلى الله عليه وسلم " من ترك شيئا لله عوضه الله خيراً منه " صدق رسول الله
هذا من ناحية ومن ناحية أخرى فإن هذا الشخص الذي أنعم الله عليه بنعمة الهداية يملك من الملكات والإمكانات التي تعينه على توضيح مضار العلم الفاسد عملاً بالآية الكريمة " ولتستبين سبيل المجرمين " الآية وفي ذلك يقول ابن القيم عليه رحمة الله :" الناس على أربع فرق :-
الأولى : من استبان له سبيل المؤمنين وسبيل المجرمين على التفصيل علماً وعملاً وهؤلاء أعلم الخلق.
الثانية : من عميت عنه السبيلان من أشباه الأنعام وهؤلاء بسبيل المجرمين أحضر ولها أسلك .
الثالثة : من صرف عنايته إلى معرفة سبيل المؤمنين دون ضدها فهو يعرف ضدها من حيث الجملة والمخالفة وأن كل ما خالف سبيل المؤمنين فهو باطل وإن لم يتصوره على التفصيل بل إذا سمع شيئاً مما خالف سبيل المؤمنين صرف سمعه عنه ولم يشغل نفسه بفهمه ومعرفة وجه بطلانه وهو بمنزلة من سلمت نفسه من إرادة(115/296)
الشهوات فلم تخطر بقلبه ولم تدعه إليها نفسه بخلاف الفرقة الأولى فإنهم يعرفونها وتميل إليها نفوسهم ويجاهدون على تركها لله .
الرابعة : فرقة عرفت سبيل الشر والبدع والكفر مفصلة وسبيل المؤمنين مجملة وهذا حال كثير ممن اعتني بمقالات الأمم ومقالات أهل البدع فعرفها على التفصيل ولم يعرف ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم بل عرفه معرفة مجملة وإن تفصلت له في بعض الأشياء ومن تأمل كتبهم رأى ذلك عياناً وكذلك من كان عارفاً بطرق الشر والظلم والفساد على التفصيل معرفة من أفنى عمره في تصرفها وسلوكها .
والمقصود أن الله سبحانه يحب أن تعرف سبيل أعدائه لتجتنب وتبغض كما يحب أن تعرف سبيل أوليائه لتحب وتسلك" .
ولله در سهل رحمه الله إذ يقول " العلم كله دنيا والآخرة العمل به والعمل كله هباء إلا الإخلاص والناس كلهم موتى إلا العلماء والعلماء سكارى إلا العاملين والعاملون كلهم مغرورون إلا المخلصين والمخلص على وجه حتى يدري ماذا يختم له به "
وهذا بدوره يسحبنا إلى الارتباط بين العلم والإخلاص يقول الشاطبي – عليه رحمة الله – "كل علم شرعي – مشروع – فطلب الشارع له إنما يكون حيث هو وسيلة إلى التعبد به لله تعالى لا من جهة أخرى فإن ظهر فيه اعتبار جهة أخرى فبالتبع والقصد الثاني لا بالقصد الأول" .
بمعنى أن كل طالب علم عليه أن يخلص نيته كاملة لله وأن يعتبر العلم الذي يطلبه هو وسيلة لعبادة ربه فإن أشرك في مقصده لطلب العلم غاية أخرى سقط المقصد الأول وبقي المقصد الآخر والذي هو في جميع الأحوال من مطالب الدنيا وشهوات النفس الإنسانية ... روى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " من تعلم علماً مما يبتغى به وجه الله عز وجل لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضا من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة " صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم .... عرفها يعني ريحها "
وعن أبي هريرة أيضاً قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " من جاء مسجدي هذا لم يأته إلا لخير يتعلمه أو يعلمه فهو بمنزلة المجاهدين في سبيل الله ومن جاء لغير ذلك فهو بمنزلة الرجل ينظر في متاع غيره " صدق رسول الله ... رواه ابن ماجة والبيهقي .
ومن أهم المؤثرات في عدم الإخلاص هو الرياء الذي سئُل الشافعي – رحمه الله – عنه فقال " الرياء فتنة عقدها الهوى حيال أبصار قلوب العلماء فنظروا إليها بسوء اختيار النفوس فأحبطت أعمالهم "
وسوء اختيار النفوس الذي ذكره الشافعي يجعله إبليس ديدنا له فيقعد لطلبة العلم والعلماء حتى يقعوا في فخه فيخسرون وتحبط أعمالهم وفي ذلك يقول ابن الجوزي – رحمه الله – " لبس إبليس على الكاملين في العلوم فيسهرون ليلهم ويأبون نهارهم في تصانيف العلوم ويريهم إبليس أن المقصود نشر الدين ويكون مقصودهم الباطن انتشار الذكر وعلو الصيت والرسالة وطلب الرحلة من الآفاق إلى المصنف ، وينكشف هذا التلبيس بأنه لو انتفع بمصنفاته الناس من غير تردد إليه أو قُرئت على نظيره في العلم فرح بذلك إن كان مراده نشر العلم وقد قال بعض السلف – ما من(115/297)
علم علمته إلا أحببت أن يستفيد الناس من غير أن يُنسب إليّ- ومنهم من يفرح بكثرة الأتباع ويلبس عليه إبليس بأن هذا الفرح لكثرة طلاب العلم وإنما مراده كثرة الأصحاب واستطارة الذكر ومن ذلك العجب بكلماتهم وعلمهم ، وينكشف هذا التلبيس أنه لو انقطع بعضهم إلى غيره ممن هو أعلم منه ثقل ذلك عليه وما هذه صفة المخلص في التعليم لأن مثل المخلص مثل الأطباء الذين يداوون المرضى لله سبحانه وتعالى فإذا شفي بعض المرضى على يد طبيب فرح منهم فرح الآخر "
ويوضح الفقهاء أن من أسباب انتكاسة الأمة هو عدم إخلاص العلماء في رحلتهم العلمية بدءً من طلبه انتهاءً بتعليمه ومن ثم يكون الاهتمام بتحقيق غايات دنيوية يتساوى في حالتها تمكين الأمة مع عدمه بل في بعض الأحيان إذا تعارض الخاص مع العام يقدم الأول على أعناق الثاني ... يقول الشيخ مصطفى صبري – عليه رحمة الله – " الطائفة المتعلمة التي يكون مقصودها من طلب العلم الحصول على شهادة العلم نفسه ، إذا استفادوا بتلك الشهادة شيئا من الدنيا كالمال والجاه والشهرة كان ذلك شهادة على شهادتهم التي تحتاج إلى شهادة ... وهذه الطائفة لا يعنيهم الدين ولا صلته بالعلم ولا مبلغ هذا العلم من القوة والأهمية وهم الذين يكونون على كثرتهم وتجارتهم الرابحة رمزا لفقر البلاد وإفلاسها المعنويين "
العلم بين طالبه ومعلمه
أولا .. العلم وطالبه
طلب العلم شرف ما بعده شرف وقد أوضحت الشريعة السمحاء فضل طلب العلم والمرتبة التي يحصلها طالبه من جراء طلبه ففي الصحيحين من حدث معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين " صدق رسول الله
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله عليه وسلم " من سلك طريقا يلتمس فيه علماً سهل الله له طريقا إلى الجنة وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضا بما يصنع وإن العالم ليستغفر له من في السموات ومن في الأرض حتى الحيتان في الماء وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب وإن العلماء ورثة الأنبياء إن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهماً إنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر " صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم ... رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة وابن حبان في صحيحه وحسنه الألباني .
وعن صفوان بن عسال المرادي رضي الله عنه قال : أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد متكئ على بُرد أحمر فقلت له : يا رسول الله إني جئت أطلب العلم فقال صلى الله عليه وسلم " مرحبا بطالب العلم إن طالب العلم تحفه الملائكة بأجنحتها ثم يركب بعضهم بعضا حتى يبلغوا السماء الدنيا من محبتهم لما يطلب " صدق رسول الله رواه أحمد والطبراني وحسنه الألباني
وهناك أكثر من طريقة لطلب العلم حيث يوضح الشاطبي أن أخذ العلم عن أهله له طريقين :-
الطريق الأول : المشافهة وهي أنفع الطريقين وأسلمهما .
الطريق الثاني : مطالعة كتب المصنفين ومدوني الدواوين وهو أيضا نافع بشرطين :(115/298)
أ - أن يحصل له من فهم مقاصد ذلك العلم المطلوب ومعرفة اصطلاحات أهله ما يتم له به النظر في الكتب وذلك يحصل بالطريق الأول من مشافهة العلماء والكتب وحدها لا تفيد الطالب منها شيئا دون فتح العلماء .
ب - أن يتحرى كتب المتقدمين من أهل العلم المراد فإنهم أقعد به من غيره من المتأخرين ".
وهذا الشرط الأخير عند الشاطبي قد يختلف في حالة العلوم العملية ذات الثمرة التكليفية كالطب والهندسة .
وهناك مجموعة من الخصائص والتنبيهات التي يرى العلماء وجوب توافرها في طالب العلم ومنها :
1- الاشتغال بطهارة الباطن والظاهر من شوائب المخالفات ، يقول الإمام الشافعي شكوت وكيع سوء حفظي ******** فأرشدني على ترك المعاصي وأخبرني بأن العلم نور ******** ونور الله لا يهدى لعاص
2- يقول الماوردي :" ينبغي لطالب العلم أن لا يتأخر في طلبه وينتهز الفرصة به فربما شح الزمان بما سمح وضن بما منح .
3-إخلاص النية لله .
4- حسن السؤال ... فهناك من يحرم العلم لعدم حسن سؤاله إما لأنه لا يسأل أو يسأل عن شئ وغيره أهم منه .
5- حسن الإنصات والاستماع كما قال ابن القيم .. فهناك من يحرم العلم لسوء إنصاته فيكون الكلام آثر عنده وأحب إليه من الإنصات ... وهي آفة تمنع علما كثيرا ولو كان حسن الفهم .
6- يطالبه الماوردي بأن يجعل ما من الله عليه من صحة القريحة وسرعة الخاطر مصروفا إلى علم ما يكون أنفاق خاطره فيه مذخورا ، وكد فكره فيه مشكورا . بمعنى أن يوجه طالب العلم طاقاته إلى العلم النافع الذي يحبه ثمرة تكليفية ينال بها الجزاء من الله سبحانه وتعالى ويعود نفعها على الأمة الإسلامية .
7-يقول ابن جماعة : " على طالب العلم أن يحذر في ابتداء أمره من الاشتغال في الاختلاف بين العلماء أو بين الناس مطلقا في العقليات والسمعيات فإنه يُحير الذهن ويدهش العقل .
8- توقير العلماء والتملق والتذلل للعالم لأن التملق للعالم يظهر مكنون علمه والتذلل له سبب لإدامة صبره . وبإظهار مكنونه تكون الفائدة وباستدامة صبره يكون الإكثار .
9-يقول العلماء لا تعرف العلم بالرجال لان من عرف العلم بالرجال حار في متاهات الضلال فاعرف الحق تعرف أهله إن كنت سالكا طريق .
ثانياً .. العلم والعالم
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " لا حسد إلا في اثنتين : رجل آتاه الله مالا فسُلط على هلكته في الحق ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها " صدق رسول الله .... أخرجه البخاري ومسلم .(115/299)
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " بلغوا عني ولو آية وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج ومن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار " صدق رسول الله عليه وسلم .. متفق عليه
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال : سمعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالما اتخذ الناس رؤوسا جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا " صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم أخرجه البخاري ومسلم واللفظ للبخاري .
وعن أسامة بن زيد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين " صدق رسول الله أخرجه ابن عدي والدارقطني .
يقول الشاطبي :" لابد في تحصيل العلم من الرجال وأصل هذا في الصحيح " أن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من الناس ولكن يقبضه بقبض العلماء " الحديث ، فإذا كان كذلك فالرجال هم مفاتحه بلا شك فإذا تقرر هذا فلا يؤخذ إلا من تحقق به.وهذا واضح في نفسه وهو أيضاً متفق عليه بين العقلاء ، إذ من شروطهم في العالم بأي علم اتفق:أن يكون عارفاً بأصوله وما ينبني عليه ذلك العلم قادراً على التعبير عن مقصوده فيه عارفاً بما يلزم عنه قائماً على دفع الشبه الواردة عليه فيه"
ومهمة العالم مهمة جليلة فهي قائمة على البذل فالعالم يجمع في بداية طلبه ليعطي في نهاية تحصيله ... يقول الغزالي في الإحياء " للإنسان في علمه أربعة أحوال كحاله في اقتناء الأموال : إذ لصاحب المال حال استفادة فيكون مكتسباً ، وحال ادخار لما اكتسبه فيكون غنياً عن السؤال وحال إنفاق على نفسه فيكون منتفعاً ، وحال بذل لغيره فيكون به سخياً متفضلاً، وهو أشرف أحواله ... فكذلك العلم يقتنى كما يقتنى المال فله حال طلب واكتساب وحال تحصيل يغني عن السؤال وحال استبصار وهو التفكر في المحصل والتمتع به وحال تبصير وهو أشرف الأحوال فمن علم وعمل وعلّم فهو كالمسك الذي يطيب غيره وهو طيب "
والعالم دائم التعلم مهما بلغ من مراتب العلم ولسيدنا موسى عليه السلام في ذلك العبرة فهو في موقفه مع الخضر متعلماً على الرغم من ارتفاع مرتبة سيدنا موسى عن الخضر وفي ذلك يقول القرطبي :" المتعلم تابع للعالم وإن تفاوتت المراتب ولا يظن أن في تعلم موسى من الخضر ما يدل على أن الخضر كان أفضل منه فقد يشذ عن الفاضل ما يعلمه المفضول والفضل لمن فضله الله ".
حلية العالم كما حددها العلماء :
1- تقديم طهارة النفس عن رذائل الأخلاق ومذموم الأوصاف .. يقول الغزالي " إن قلت كم من طالب ردئ الأخلاق حصل العلوم نقول هيهات ما أبعده عن العلم الحقيقي النافع في الآخرة الجالب للسعادة فإن من أوائل ذلك العلم أن يظهر له أن المعاصي سموم قاتلة" .(115/300)
2- يقول عمر ابن الخطاب رضي الله عنه " تعلموا العلم وتعلموا للعلم السكينة والحلم وتواضعوا لمن تعلمون وليتواضع لكم من تعلمونه ، ولا تكونوا من جبابرة العلماء فلا يقوم علمكم بجهلكم "
3- الشفقة على المتعلمين . يقول الغزالي " المعلم هو المفيد للحياة الأخروية الدائمة أعني معلم علوم الآخرة أو علوم الدنيا على قصد الآخرة لا على قصد الدنيا ، فأما التعليم على قصد الدنيا فهو هلاك وإهلاك" .
4- ينبغي أن يكون للعالم فراسة كما قال الماوردي يتوسم بها المتعلم ليعرف مبلغ طاقته وقدر استحقاقه ليعطيه ما يتحمله بذكائه ويضعف عنه ببلادته فإنه أروح للعالم وأنجح للمتعلم .
5- يقول الغزالي :" على العالم أن يقتدي بصاحب الشرع صلوات الله عليه وسلامه فلا يطلب على إفادة العلم أجراً ولا يقصد به جزاءً ولا شكرا ، بل يُعلّم لوجه الله تعالى وطلبا للتقرب إليه ، ولا يرى لنفسه منة على المتعلمين وإن كانت المنة لازمة عليهم بل يرى الفضل لهم إذ هذبوا قلوبهم لأن تتقرب إلى الله تعالى بزراعة العلوم فيها كالذي يعيرك الأرض لتزرع فيها لنفسك زراعة فمنفعتك بها تزيد على منفعة صاحب الأرض " وأحسب أن هذا الأمر لا يتعارض مع ما يخصصه ولى الأمر من رواتب للعلماء والمعلمين لأن مقصود الغزالي هو قبول الأجر وما على شاكلته من طلاب العلم أنفسهم مما يفسد أداء العالم ويجعلها مجرد وظيفة إن دفع له الطالب علمه وإلا امتنع .
6- أن ينبه العالم المتعلم أن الغرض بطلب العلوم هو القرب إلى الله تعالى دون الرياسة والمباهاة والمنافسة ويقدم قبيح ذلك في نفسه بأقصى ما يمكن ، فليس ما يصلحه العالم الفاجر بأكثر مما يفسده.
7- من آداب العلماء أن لا يعنفوا متعلما ولا يحقروا ناشئا ولا يستصغروا مبتدئا فإن ذلك أدعى إليهم وأعطف عليهم وأحث على الرغبة فيما لديهم ومن آدابهم ألا يمنعوا طالباً ولا يؤيسوا متعلما لما في ذلك من قطع الرغبة فيهم والزهد فيما لديهم واستمرار ذلك مفض إلى انقراض العلم بانقراضهم
8- على العالم العمل بما علم حتى يكون قوله مطابقا لفعله، فإن كان مخالفاً له فليس بأهل لأن يؤخذ عنه ولا أن يُقتدى به في علم .
9- يقول اللواء دكتور فوزي طايل – رحمه الله – في كتابه القيم - كيف نفكر استراتيجيا – " لا ينبغي على علماء الأمة الهجرة إلى خارجها والإقامة هناك إلا لطلب العلم ولاستكمال البحث والدراسة ثم العودة فور انتهاء مهمتهم وذلك لاحتياج أمتهم إليهم " .
وختاماً لله در على ابن أبي طالب إذ يقول :
ما الفخر إلا لأهل العلم إنهم على الهدى لمن اهتدى أدلاء
وقدر كل امرئ ما كان يحسنه والجاهلون لأهل العلم أعداء
ففز بعلم تعش حياً به أبدا الناس موتى وأهل العلم أحياء
ـــــــــــــــــــ
أيها المربي هل أنت قدوة ؟(115/301)
عصام العلي
13/12/1427
ارسل تعليقك ...
تعليقات سابقة ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
القدوة الحسنة هي من أنجح الوسائل وأكثرها فاعلية في حياة المربين ... وتظل كلمات المربين مجرد كلمات ويظل المنهج مجرد حبر علي ورق ويظل معلقا في الفضاء ما لم يتحول إلي حقيقة واقعة تتحرك في واقع الأرض .. وما لم يترجم إلي تصرفات وسلوك ومعايير ثابتة ، عندئذ يتحول هذا المنهج إلي حقيقة واقعة ، وتتحول هذه الكلمات إلي سلوك وأخلاق , عندئذ فقط تؤتي الكلمات ثمارها في حياة المربين .
ولقد بين الله سبحانه أنه لابد من قلب انسان يحمل هذا المنهج ويحوله إلي حقيقة ، لكي يعرف الناس أنه حق .. ثم يتبعوه
* لابد إذن من قدوة ..
إن القدوة الصالحة عنصر رئيس ذو أهمية بالغة في البناء والتربية .. وإن لم تكن وحدها المؤثرة بناء الأشخاص فهناك جوانب أخري يجب مراعتها في العملية التربوية إلا أن هذه الجوانب الأخرى لا تؤتى ثمارها أيضا بغير القدوة الصالحة ، بل قد تأتي بثمار عكسية إذا وجدت القدوة السيئة . فالقدوات التي يغلب عليها الجانب النظري أو الفكري ويضعف عندها الجانب العملي والروحي والإيماني والدعوي هي فتنة للمتعلمين والمتربين .. ولهذه الشخصيات تأثيرها السلبي على المسيرة التربوية ، حيث يصبح مألوفا أن نقرأ ونتعلم ثم نتكلم أو نكتب ، ولا يهم بعد ذلك أن تكون أرواحنا وقلوبنا وأعمالنا وبذلنا على نفس الدرجة التي يوحي بها كلامنا أو شهرتنا .
إن القدوة الصالحة عنصر رئيس ذو أهمية بالغة في البناء والتربية .. وإن لم تكن وحدها المؤثرة بناء الأشخاص فهناك جوانب أخري يجب مراعتها في العملية التربوية إلا أن هذه الجوانب الأخرى لا تؤتى ثمارها أيضا بغير القدوة الصالحة ، بل قد تأتي بثمار عكسية إذا وجدت القدوة السيئة
ومثل هذه الشخصيات لا تؤثر مواعظها في القلوب كما قال مالك بن دينار رحمه الله ( إن العالم إذا لم يعمل بعمله زلت موعظته عن القلوب كما تزل القطرة عن الصفا ). وعن عبدالله بن المبارك قال : قيل لحمدون بن أحمد : ما بال السلف أنفع من كلامنا ؟ قال : لأنهم تكلموا لعز الإسلام ونجاة النفوس ورضا الرحمن ، ونحن نتكلم لعز النفوس وطلب الدنيا ورضا الخلق .
ودعوة الإسلام لم تعرف في تاريخها المشرق وظيفة العالم أو المفكر الذي لا علاقة له بمتاعب العمل والبذل والعطاء .. فالذي يحرك الأمة في الحقيقة هم الدعاة والمربون الذين يفعلون ما يقولون(115/302)
و القادة مهما كانوا بارزين علميا وفكريا ولكنهم مع ذلك قليلي العبادة , ضعيفي البذل , سيئي السلوك لا يمكن أن تنمو في ظلهم دعوة قوية أبدا ، بل هم بهذه التركيبة الخطيرة يقتلون فيمن حولهم كثيرا من المعاني السامية الجميلة من صفاء القلوب وقوتها وصدق المحبة والأخوة وحسن العبادة والإقبال عليها ، والاستقامة والورع ، والبذل والعطاء والتضحية ..
إن القدوة الصالحة من أعظم المعينات على بناء العادات والأخلاق والسلوكيات الطيبة لدى المتربى حتى إنها لتيسر معظم الجهد في كثير من الحالات ، والإسلام لا يعتبر التحول الحقيقي قد تم حتى يتحول إلي عمل ملموس في واقع الحياة .
ولقد كان - صلى الله عليه وسلم – قدوة للناس .. يرونه – وهو بشر منهم – تتمثل فيه هذه الصفات والطاقات كلها فيصدقون هذه المبادئ الحية لأنهم يرونها رأي العين ولا يقرأونها في كتاب أو فقط يستمعون إليها على المنابر !
يرونها تتحرك فتتحرك لها نفوسهم وتهفو لها مشاعرهم ويحاولون أن ينهلوا منها .. كل بقدر ما يطيق أن ينهل وكل بقدر ما يحتمل كيانه الصعود . لا ييأسون ولا ينصرفون ولا يدعونه حلما مترفاً لذيذاً يطوف بالأفهام .. لأنهم يرونه واقعاً يتحرك في واقع الأرض كما يرونه سلوكا عمليا لا أمانى في الخيال .
لقد كان – صلى الله عليه وسلم – قدوة جعلها الله متجددة علي مر الأجيال والله سبحانه لا يعرض علينا هذه القدوة للإعجاب السلبي والتأمل التجريدي في سبحات الخيال إنه يعرضها علينا لنحققها في ذوات أنفسنا وذوات من نقوم علي تربيتهم ، ومن ثم تظل حيويتها دافقة شاخصة ولا تتحول إلي خيال مجدد تهيم في حبة الأرواح دون تأثر واقعي ملموس ولا اقتداء .
ودعوة الإسلام لم تعرف في تاريخها المشرق وظيفة العالم أو المفكر الذي لا علاقة له بمتاعب العمل والبذل والعطاء .. فالذي يحرك الأمة في الحقيقة هم الدعاة والمربون الذين يفعلون ما يقولون
والإسلام يرى أن القدوة معلم أساسي وقاعدة أساسية للتربية ابتداءً من مرحلة الطفولة إلي أن يحملوا أمانة هذا الدين .
نعم على المربي أن يحقق في نفسه ما يريد أن يحققه في الآخرين ، فيتعهد نفسه بالرعاية ويمتاز بالشفافية ، ويتحرى الصدق في المواقف ، والإخلاص في النية .
ومالم يستمد قادة الدعوة ومربوها نورهم من مشكاة النبوة وأخلاقهم من أخلاق النبوة فإن دعوتهم ستبقى ناقصة .
هذا المعلم أو هذا الأساس - القدوة – الذي هو من أهم أسس التربية والذي لن يفيدنا كثيرا إلا بعد أن نراه مطبقا بالفعل ويفيدنا أكثر أن نراه مطبقا في أعلى صوره لأن ذلك سوف يعطينا فكرة عملية عن المدى الذي يمكن أن يبلغ إليه هذا العنصر لنقيس به جهدنا إليه في كل مرة ونحاول المزيد .
وجانب القدوة المتمثل في شخصه – صلي الله عليه وسلم – لن يتكرر في أي جيل آخر لكن لدينا سيرة مفصلة لحياته - صلي الله عليه وسلم - كأنه حى بين ظهرانينا . ولئن أثر رسول الله - صلي الله عليه وسلم - بشخصه في بناء هذا الجيل الفذ الفريد فإن سيرته التي بين أيدينا تدعونا أن نكون كالجيل الأول وهذا الذي حدث لجيل(115/303)
التابعين فهو لم يشهد الرسول – صلى الله عليه وسلم – وإنما سمع سيرته كما نقرؤها أو نسمعها نحن.
يقول الشاطبي ( إذا وقع القول بيانا فالفعل شاهد له ومصدق ) الموافقات 3/ 317
صدق والله فكم من دعاة ومربين أشعلوا حماسا وأحيوا فينا حب العمل والمثابرة والجد و الصبر ثم ما لبثوا أن سقطوا من أعيننا ومن أعين أتباعهم في لحظات بسبب كلمة أو تصرف لم يكن متناسبا مع مكانتهم كقدوات للآخرين وما الذي جعل أحمد بن حنبل إماما للسنة إلا بصبره في المحنة وإحيائه عقيدة السلف .
أبو جعفر الأنباري صاحب الإمام أحمد عندما أخبر بحمل الإمام أحمد للمأمون في الأيام الأولى للفتنة ( فعبر الفرات فإذا هو جالس في الخان ، فسلم عليه وقال : أنت اليوم رأس والناس يقتدون بك ، فوالله لئن أجبت إلي خلق القرآن ليجيبنك بإجابتك خلق من خلق الله وإن أنت لم تجب ليمتنعن خلق من الناس كثير ، ومع هذا فإن الرجل - يعني المأمون – إن لم يقتلك فأنت تموت ، ولابد من الموت فاتق الله ولا تجبهم إلي شيء . فجعل أحمد يبكي ويقول : ما قلت ؟ فأعاد عليه , فجعل يقول : ما شاء الله ، ما شاء الله ) مناقب الإمام أحمد 314 .
إن القدوة الصالحة من أعظم المعينات على بناء العادات والأخلاق والسلوكيات الطيبة لدى المتربى حتى إنها لتيسر معظم الجهد في كثير من الحالات ، والإسلام لا يعتبر التحول الحقيقي قد تم حتى يتحول إلي عمل ملموس في واقع الحياة .
و المروزي أحد أصحابه يدخل عليه أيام المحنة ويقول له ( يا أستاذ قال الله تعالى " ولا تقتلوا أنفسكم " فقال أحمد : يا مروزي اخرج ، انظر أي شيء ترى . قال فخرجت إلي رحبة دار الخليفة فرأيت خلقا من الناس لا يحصى عددهم إلا الله والصحف في أيديهم والأقلام والمحابر في أذرعهم فقال لهم المروزي : أي شيء تعملون ؟ فقالوا : ننظر ما يقول أحمد فنكتبه، قال المروزي : مكانكم
فدخل إلي أحمد بن حنبل فقال له : رأيت قوما بأيديهم الصحف والأقلام ينتظرون ما تقول فيكتبونه فقال : يا مروزي أضل هؤلاء كلهم ! أقتل نفسي ولا أضل هؤلاء ) مناقب الإمام أحمد 330
* ونذكر هنا بعضا من أبرز الجوانب لتفعيل القدوة في حياة المتربى وجعله من المستويات الجيدة الفعالة في الدعوة إلي الله .
1- الايمان بالفكرة :
إن ايمان المربي بالفكرة التي يتحرك من خلالها ويؤمن بها لهو من أهم الأسباب لاستقرار المتربى وسيره قدما في طريق الدعوة فلا يمكن بحال أن تثمر العملية التربوية إذا كانت من أشخاص لديهم غبش أو تزعزع في الفكرة التي يحملونها أو عدم وضوح في صحة الطريق الذي يسلكونه ونحن هنا لا نتكلم عن صحة الفكرة أو صواب الطريق نحن نتكلم عن الأصوب سواء فيم يتعلق بالفكرة التي يحملها المربي أو فيما يتعلق بصحة الطريق الذي يسلكه .
فمن يسير في طريق يصل من خلاله لرضا ربه وإبلاغ الدين للخلق ينبغي أن تكون رؤية هذا الطريق واضحة تماما معالمها أمامه ، ومن ثم فعلي من يرى في نفسه أهلية لممارسة عملية البناء التربوي أن يسعى حثيثا لفهم الفكرة التي ينطلق من(115/304)
خلالها بوضوح وجلاء , ولابد أن تكون هذه الفكرة قد تبلورت على أيدي علماء أثبات وأهل علم راسخين وخبراء متخصصين في فهم شتى المناحي .
2- تعلم العلم :
إذا كان العلم ضروريا لكل مسلم ، فالداعية القدوة هو أكثر الناس حاجة لتعلم العلم ، قال عمر بن الخطاب – رضي الله عنه - : ( تعلموا قبل أن تسودوا ) فتح الباري 1/165
فالدعوة تحتاج إلي علم يتأكد فيه القدوة من صحة خطواته ، ويصحح فيه خطوات الآخرين , والدعوة التي تلقي بزمامها بين يدي أناس قليلي الخبرة أو ضعيفي العلم فهي دعوة محكوم عليها بالفشل من أول يوم
إن المربي ينبغي أن تكون فيه صفات معينة تؤهله لهذه المهمة الخطيرة ، فينبغي أن يشعر الشخص الذي يتلقى التربية أنه في موقف المتلقي المتعلم من مربيه , هذه حقيقة نفسية تعمل عملها تلقائيا في النفوس ! فأنت لكي تتلقى لابد أن تقتنع أنك في موقف المتلقي ، وإلا فلو أحسست أنك في الموقف الأعلى أو المساوي فما الذي يدفعك أن تتلقى من شخص بعينه من الناس والعلو أمر شامل يشمل مسائل كثيرة فقد يكون علوا روحيا ، أخلاقيا أو يكون تفوقا علميا وهو المعني هنا ، فعلى المربين أن يهتموا ببناء أنفسهم بناءً علميا رصينا قويا حتى لا يقف المربي عند حد معين ومن ثم تقف الدعوة ككل وتعجز عن أن تعطي أفضل ما لديها أو تهتم بتنمية المواهب والقدرات الفذة لأن ما عندها أصبح لا يكفي للكبار فتدور الدعوة في حلقة مفرغة , فالفشل والسير في المحل والواقع يحدثنا عن دعوات مرت عليها سنون إلا أن أجيالها تتآكل وصفوفها تتساقط لأنه ليس لدى قادتها ومربيها ما يؤهلهم للسير قدما في الطريق .
وليس يكفي أن تكون شخصية المربي أكبر من شخصية المتلقي إنما أن تكون عنده حصيلة علمية بمفهومها الشامل يعطيها للآخرين من خلال علمه الذي ثابر على تحصيله ومن خلال تجربته الواقعية ومن خلال حركته بهذا الدين , ومن ثم متطلبات هذا العلم من خشية وربانية وعبودية وتطبيق لذاك العلم .
3- الورع :
يقول الامام بن القيم : قال لي يوما شيخ الاسلام ابن تيمية ( قدس الله روحه ) في شيء من المباح : هذا ينافي المراتب العلية ، وإن لم يكن تركه شرطا في النجاة . ثم يقول ابن القيم ( فالعارف يترك كثيرا من المباح إبقاء على صيانته ، ولا سيما إذا كان ذلك المباح برزخا بين الحلال والحرام) مدارك السالكين 2/26 .
إنها الصيانة التي نريدها للداعية القدوة وهو يزاول عملية الصعود في مدارج السالكين فحذار وأنت تصعد أن تستهويك بعض مناظر الأرض الجذابة ، فتقف برهة تلتفت للوراء لإشباع رغبة النظر فتتأخر عن الصعود ، ذلك إن لم تهو إلي الأرض بعد أن صعدت منها .
وعملية الصعود هذه علم كيف يتقنها ( يحى بن يحى ) الذي أهداه الامام مالك جزاء على ذلك لقب ( عاقل أهل الأندلس ) وذلك أنه رحل إلي الإمام مالك وهو صغير(115/305)
وسمع منه وتفقه ( وكان مالك يعجبه سمته وعقله ، روى أنه كان يوما عند مالك في جملة اصحابه إذ قال قائل : قد حضر الفيل ،
فخرج أصحاب مالك لينظروا إليه غيره ( أي وبقى يحى مكانه ) فقال له مالك : لم تخرج فترى الفيل ، لأنه لا يكون بالأندلس ، فقال له يحى : إنما جئت من بلدي لأنظر إليك وأتعلم من هديك و علمك ولم أجئ لأنظر إلى الفيل فأعجب به مالك وسماه ( عاقل أهل الأندلس ) طبقات الفقهاء 152
إنه من المباح مشاهدة حيوان غريب .. ولكن وقت الداعية القدوة المربي أضيق من أن يشغل شيئا منه في مباح لا يجني من ورائه شيئا لقضيته التي تشغله ليل نهار .
وإنه من المباح شراء سيارة فارهة ثمينة بطولها وعرضها ، ولكن .. لا يدري ذلك المربي القدوة أن وراءه أتباعا يتساءلون عن مدى إقباله على المتاع الذي لطالما نصحهم بالتقلل منه ؟!
أشياء كثيرة نقترفها أمام من نربيهم ، ثم نشتكي من سلبية ( غير أصلية ) طرأت عليهم
دون علمنا بأننا من المتسببين في نشؤ السلبية بسبب سهو عن محاسبة دائمة للنفس حتى تكون في حمى مما توشك أن ترتع فيه من مزالق .
فعلى المربي أن يعي أنه تحت رقابة دقيقة ممن يقوم بتربيتهم ، فيحاسب نفسه على كل كلمة أو تصرف صغر أم كبر .
كما اننا لا نستغرب عندما يطلق (ابن الحاج) على الخطورة التى تترتب على ذلك (السم القاتل)
و يعلل ذلك بأن (الغالب علي النفوس الاقتداء فى شهواتها و ملذاتها و عاداتها أكثر مما تقتدي به فى التعبد الذى ليس لها فيه حظ 0 فإذا رأت ذلك من عالم - و إن أيقنت أنه محرم أو مكروه أو بدعة - ، تقول لعل لهذا العالم علم بجواز ذلك لم نطلع عليه أو رخص فيه العلماء , فإذا رأت من هو أفضل منها فى العلم و الخير يرتكب شيئا من ذلك ، فأقل ما فيه من القبح (الاستصغار و التهاون) بمعاصي الله تعالى المدخل لابن الحاج 1/107 00
* و فى سيرته - صلى الله عليه و سلم - جملة من الحوادث و الأمثلة ظهر فيها كيف استخدم صلى الله عليه و سلم القدوة الحسنه فى تربية أصحابه – رضي الله عنهم – كأسلوب متميز عن باقي الأساليب الدعوية .
ففي صلح الحديبية وبعد أن فرغ الرسول – صلى الله عليه وسلم – من قضية الكتاب قال للصحابة – رضي الله عنهم – ( قوموا فانحروا ، ثم احلقوا )
يقول الراوي : ( فوالله ما قام منهم رجل واحد حتى قال ذلك ثلاث مرات ، فلما لم يقم منهم أحد ، قام فدخل على أم سلمة ، فذكر لها ما لقي من الناس فقالت أم سلمة : يا رسول الله : أتحب ذلك ؟ أخرج ثم لا تكلم أحدا منهم حتى تنحر بدنتك ، وتدعو حالقك فيحلق لك ، فقام فخرج فلم يكلم أحدا منهم حتى فعل ذلك : نحر بدنته ، ودعا حالقه فحلقه ، فلما رأى الناس ذلك قاموا فنحروا ، وجعل بعضهم يحلق بعضا ، حتى كاد بعضهم يقتل بعضا غما ) زاد المعاد لابن القيم 3/295 .
من هذا المثال يتبين لنا مدى فاعلية التربية الصامتة في تربية الأتباع .(115/306)
كذلك ينبغي للمربي أن يوضح بعض التصرفات التي يقوم بها- لاسيما التي تحمل التأويل السيء- لمن يربيهم مع اهتمام المربي بتفعيل مبدأ حسن الظن في المجتمع المسلم مع من يقوم على تربيتهم .
ولم تفت على مربي الرعيل الأول - صلى الله عليه وسلم – أهمية هذا الأمر فعندما جاءت صفية – رضي الله عنها – زوج الرسول – صلى الله عليه و سلم – إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم- تزوره فى اعتكافه فى المسجد فتحدثت عنده ساعة ثم قامت تنقلب فقام النبي – صلى الله عليه و سلم – معها يقلبها ، حتى إذا بلغت باب المسجد عند باب أم سلمة مر رجلان من الأنصار فسلما على رسول الله – صلى الله عليه و سلم – فقال لهما النبى صلى الله عليه و سلم :" على رسلكما إنما هى صفية بنت حي " فقالا سبحان الله يا رسول الله ، و كبر عليهما ، فقال النبي – صلى الله عليه و سلم - : ( إن الشيطان يبلغ من ابن آدم مبلغ الدم ، و إني خشيت أن يقذف فى قلوبكما شيئا ) فتح البارى 2035.
يقول ابن دقيق العيد ( و هذا متأكد فى حق العلماء و من يقتدى به فلا يجوز أن يفعلوا فعلا يوجب سؤ الظن بهم و إن كان لهم فيه مخلص لأن ذلك سبب إلى ابطال الانتفاع بعلمهم ، و من ثم قال بعض العلماء : ينبغى للحاكم أن يبين للمحكوم عليه وجه الحكم إذا كان خافيا نفيا للتهمة )
فتح البارى 4/280
وفي حنين ، وجنود المسلمين يفرون والأعداء يرشقونهم بالنبل
هل كان قائدهم ومربيهم يكتفي بوعظهم بالثبات في مثل هذا الموقف ؟ إن مئات الكلمات والمواعظ والخطب الرنانة في الثبات لا تفعل فعله صلى الله عليه وسلم لا سيما والجنود في حالة من الخوف والهلع . إنهم في حاجة في مثل هذا الموقف إلي القائد المربي القدوة الذي يرجعهم إلي الجادة التي انحرفوا عنها .
يقول العباس رضي الله عنه : شهدت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم حنين، فلزمت أنا وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم نفارقه ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - على بغلة له بيضاء أهداها له فروة بن نفاثة الجذامى ، فلما التقى المسلمون والكفار ولى المسلمون مدبرين فطفق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يركض بغلته قبل الكفار ، قال عباس : وأنا آخذ بلجام بغلة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أكفها إرادة آلا تسرع وأبو سفيان آخذ بركاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم - ، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أي عباس ناد أصحاب السمرة فقال عباس – وكان رجلا صيتا – فقلت بأعلى صوتي أين أصحاب السمرة . وفي رواية فنزل واستنصر وقال أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب ) مسلم 1775 ، 1776 .
وماذا كانت نتيجة هذا الموقف من النبي – صلى الله عليه وسلم – القائد المربي
يقول العباس : فوالله لكأن عطفتهم حين سمعوا صوتي عطفة البقر على أولادها ، فقالوا : يالبيك يا لبيك ) .
إن مسؤلية القائد المربي مسؤلية عظيمة أمام الله تبارك وتعالى وأمام أتباعهم .. فلا ينبغي له أن يتوارى في المواقف التي ينبغي أن يظهر فيها سواء في حل المشاكل أو(115/307)
فيما يتعلق بمواجهة الناس في فيرها من المواقف ، فلقد كان صلى الله عليه وسلم أشجع الناس سباقا في شدائد الأمور فعن أنس بن مالك – رضي الله عنه قال : كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم أحسن الناس وكان أجود الناس وكان أشجع الناس ، ولقد فزع أهل المدينة ذات ليلة فانطلق ناس قبل الصوت ، فتلقاهم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – راجعا وقد سبقهم إلي الصوت وهو على فرس لأبي طلحة عرى في عنقه السيف وهو يقول ( لم تراعوا لم تراعوا )
إن القدوة الأولى المتمثلة في المربي الأول محمد – صلى الله عليه وسلم – هي التي خرجت أجيالا على مر العصورعرفنا من خلالها معنى الصبر والتحمل والشجاعة .
فهذا هو يوسف بن يحي البويطي ، خليفة الإمام الشافعي ، ( وكانت الفتاوى ترد على البويطي من السلطان ، فمن دونه وهو متبوع في صنائع المعروف كثير التلاوة ، لا يمر يوم وليلة غالبا حتى يختم ، فسعى به من يحسده وكتب فيه إلي ابن أبي دؤاد بالعراق فكتب إلي والي مصر أن يمتحنه أى يسأله هل القرآن مخلوق أم غير مخلوق وهي بدعة المعتزلة ، وكان على رأسهم ابن أبي دؤاد – فامتحنه فلم يجب أي بخلق القرآن – فقال له : قل فيما بيني وبينك ، قال : ( إنه يقتدي بي مائة ألف ولا يدرون المعنى ) وكان أمر أن يحمل إلي بغداد في أربعين رطل حديد – يقول الربيع صاحب الشافعي – ولقد رأيته على بغل وفي عنقه غل وفي رجليه قيد وبين الغل والقيد سلسلة حديد وهو يقول – إنما خلق الله الخلق بكن فإذا كانت مخلوقة فكأن مخلوقا خلق بمخلوق ، ولئن أدخلت عليه لأصدقنه – ولأموتن في حديدي هذا حتى يأتي قوم يعلمون أنه قد مات في هذا الشأن قوم في حديدهم ) طبقات الشافعية 1/275
بل إن التجرد من عبودية العبيد وعبودية المال والاخلاص لله صفة لازمة للداعية المربي ومن دون ذلك يصبح من المتعذر عليه أن ينشأًَ جيلا من الدعاة إذ أن الناس جبلوا على اتباع المتجرد الذي لا ينوي بعمله إلا وجه الله .
جاء في ترجمة الخطيب البغدادي ، أنه ( دخل عليه بعض العلوية وفي كمه دنانير فقال للخطيب فلان يسلم عليك ويقول لك اصرف هذا في بعض مهماتك ، فقال الخطيب : لا حاجة لي فيه ، وقطب وجهه ، فقال العلوي : كأنك تستقله ونفض كمه على سجادة الخطيب وطرح الدنانير عليها فقال : هذه ثلثمائة دينار ، فقام الخطيب محمرا وجهه وأخذ السجادة وصب الدنانير على الأرض وخرج من المسجد ) طبقات الشافعية 3/14 .
وحركة ( نفض السجادة ) التي لم تستغرق دقيقة واحدة من الخطيب ، ربت أتباعه الذين كانوا في المسجد على معاني العزة وحقارة العبودية لغير الله ، ظهرت في قول أحدهم ( ما أنس عز خروج الخطيب وذل ذلك العلوي وهو قاعد على الأرض يلتقط الدنانير من شقوق الحصير ويجمعها )
طبقات الشافعية 3/14
ولنعلم أن نصر الله منوط باستقامة حملة الدعوة سواء قادتها ومربوها , وتلك نقطة قد نغفل عنها أحيانا حيث نركز على صحة أفكارنا وما نقدمه للناس ثم تدور في نفوسنا التساؤلات : لم لا ننتصر إذن !(115/308)
مع أننا لو تأملنا في كتاب الله لوجدنا فيه إناطة النصر للمؤمنين بما يتصفون به في ذواتهم وما يفعلونه لا مجرد ما يقولونه للناس .
وبعد فما أردنا من هذا العرض إلا اخراج بعض المعاني التي غارت في الأرض ، ليتذكر فيها من نسي من مربينا ويعلم فيها من جهل أهمية القدوة في عملية البناء التربوي .
ـــــــــــــــــــ
ربانية الحج : بين إحياء الثورة .. وتجديد الفكرة
خالد روشه
2/12/1427
ارسل تعليقك ...
لا توجد تعليقات ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
khaled_rousha@yahoo.com
الإنسان المؤمن ليس عقلاً مجرداً.. ولا كائناً جامداً.. ولا تركيباً صامتاً.. إنه عقل وقلب, إيمان وعاطفة, قناعة وتأثر.. وفي ذلك سر من أسرار شرفه وكرامته, وتفانيه وتضحيته, ومن استطاع أن يسيطر على عواطفه وأشبع بها عقله.. استطاع أن يوجهه ويقوده ويأسره..
فأنت ترى أن الله _سبحانه_, وهو العليم الخبير, الذي يعلم خلقه تمام العلم ويعرفهم كامل المعرفة, لم يجعل صلة العبد المؤمن بربه صلة جامدة عقلية مجردة, ولم يجعلها كذلك قائمة على خضوع وقوانين ومحددات حسابية جافة, إنما هي صلة حب وتفان ورغبة, صلة تحمل على البكاء رغبة وشوقا.. وتحمل على بذل النفس حباً وكرامة.. قال الله _تعالى_: " قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ" (التوبة:24).
والحج خير مثال لتحقيق هذا التسليم، فإنّ ذاك السفر وذاك التنقل بين الأماكن ثم الطواف حول البيت، ورمي الجمار, ثم الحلق.. والذبح وغيره.. كل ذلك نماذج تطبيقية للتحقيق العملي لمعنى التسليم حيث يقوم المؤمن بذلك في سعادة غامرة وإقبال فياض.
والمؤمن دائماً فقير إلى غذاء قلبه أكثر مما هو فقير إلى غذاء جسده, وهو محتاج دائما إلى أن يقضي شوقه, ويبث حنينه, ويعرب عن حبه..
وانظر إلى كيف يرغب القرآن والسنة في ارتياد الأماكن الطاهرة التي يذكر فيها المرء ربه, ويناجيه: فعند أصحاب السنن وصححه الألباني في الترغيب والترهيب قول النبي _صلى الله عليه وسلم_: "المسجد بيت كل تقي", وفي صحيح مسلم من السبعة الذين يظلهم الله في ظله "ورجل قلبه معلق بالمساجد".(115/309)
يقول الغزالي: فالشوق إلى لقاء الله _عز وجل_ يشوقه إلى أسباب اللقاء لا محالة, هذا مع أن المحب مشتاق إلى كل ماله إلى محبوبه إضافة, والبيت مضاف إلى الله _عز وجل_, فالحري أن يشتاق إليه لمجرد هذه الإضافة, فضلاً عن الطلب لنيل ما وعد عليه من الثواب الجزيل".
ويقول: "ووضعه – أي البيت – على مثال حضرة الملوك يقصده الزوار من كل فج عميق, ومن كل أوب سحيق, شعثاً غبراً, متواضعين لرب العالمين, ومستكينين له, خضوعاً لجلاله واستكانة لعزته مع الاعتراف بتنزيهه وتقديسه _سبحانه_,..... لذا فقد وظف عليهم أعمالاً لا تأنس إليها النفوس ولا تهتدي إلى معانيها العقول؛ كرمي الجمار بالأحجار، والتردد بين الصفا والمروة على سبيل التكرار، وبمثل تلك الأعمال يظهر كمال الرق والعبودية.."
** لبيك بحجة حقاً.. تعبداً ورقاً...
يقول القاسمي: "إذا اقتضت حكمة الله _تعالى_ ربط نجاة الخلق بالانقياد وعلى مقتضى الاستعباد كان ما لا يهتدى إلى معانيه كلها أبلغ في تزكية النفس إذ عليها فيه الانقياد والطاعة.. وصرفها عن مقتضى الطباع والأخلاق إلى مقتضى الاسترقاق".
لذا كان تعظيم شعائر الله _تعالى_ بإجلالها بالقلب ومحبتها، وتكميل العبودية فيها؛ يقول ابن القيم: "وروح العبادة هو الإجلال والمحبة، فإذا تخلى أحدهما عن الآخر فسدت".
وقال النبي _صلى الله عليه وسلم_: "لا تزال هذه الأمة بخير ما عظموا هذه الحرمة [يعني: الكعبة] حق تعظيمها، فإذا ضيعوا ذلك هلكوا" أخرجه ابن ماجه.
** تسليم كامل.. وانقياد فياض:
إن المؤمن بحاجة دائماً إلى تذكير نفسه وترويض عقله على التسليم والانقياد..كما قال _سبحانه_: "فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً" (النساء:65).
فلا ثم منفعة شخصية دنيوية, ولا رغبة مال أو متاع, ولكن رجاء ألا يخيب الله منهم الظنون ويقبل منهم السعي, ويفيض عليهم من رحماته ورضوانه, فهل ترى يكون هناك خلق بغيض لمن صدق؟ أو سوء سلوك لمن أخلص؟
والحج خير مثال لتحقيق هذا التسليم، فإنّ ذاك السفر وذاك التنقل بين الأماكن ثم الطواف حول البيت، ورمي الجمار, ثم الحلق.. والذبح وغيره.. كل ذلك نماذج تطبيقية للتحقيق العملي لمعنى التسليم حيث يقوم المؤمن بذلك في سعادة غامرة وإقبال فياض.
وانظر إلى عمر وهو يتفهم هذا المعنى بجلاء، فيقول عن الحجر الأسود: "إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقبلك ما قبلتك" أخرجه البخاري.
يقول الحافظ ابن حجر: "وفي قول عمر هذا التسليم للشارع في أمور الدين، وحسن الاتباع فيما لم يكشف عن معانيها، وهو قاعدة عظيمة في اتباع النبي _صلى الله عليه وسلم_ فيما يفعله ولو لم يعلم الحكمة فيه" (فتح الباري).(115/310)
ويقول ابن القيم: "إن مبنى العبودية والإيمان بالله وكتبه ورسله على التسليم، وعدم الأسئلة عن تفاصيل الحكمة في الأوامر والنواهي والشرائع، ولهذا لم يحك الله _سبحانه_ عن أمة نبي صدقت نبيها وآمنت بما جاء، أنها سألته عن تفاصيل الحكمة فيما أمرها بها، ونهاها عنه، وبلغها عن ربها، بل انقادتْ، وسلمتْ، وأذعنت" (الصواعق المرسلة).
** نهل بالتوحيد..
لقد علم رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ أن يستهل المؤمن حجه بالتلبية رافعاً لواء التوحيد: «لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك», قال جابر بن عبد الله _رضي الله عنه_ راوي حديث حجة الوداع "ثم أهل – يعنى النبي صلى الله عليه وسلم – بالتوحيد" رواه مسلم, ومن أجل التذكير بذلك وتحقيقه فقد شُرع للحاج أن يقرأ في ركعتي الطواف ـ بعد الفاتحة ـ بسورتي الإخلاص "قل هو الله أحد"، و"قل يا أيها الكافرون"، كما كان يفعل الرسول _صلى الله عليه وسلم_.
كما شَرعَ له التهليل عند صعود الصفا والمروة كذلك بالتوحيد، بقول: «لا إله إلا الله، والله أكبر، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، يحي ويميت، وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده».
وأن يقول يوم عرفه: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، يحي ويميت، وهو على كل شيء قدير».
فالإسلام باق, والقرآن باق, ولباس الحج الأبيض يحيط بموروثات تلك الشريعة الربانية, فبوجود تلك المؤسسة العظيمة تبقى هذه الأمة عبر الأجيال رافعة نبراسها, خفاقة أعلامها, محتفظة بطبيعتها, مهما ادعى المدعون تغير الزمان وتبدل الأحوال,
إنهم هناك.. في أيام المشاعر المعظمة.. تجتمع هممهم, وتتجرد للطاعة والابتهال قلوبهم, وترتفع إليه سبحانه أيديهم وتمتد إليه أعناقهم وتشخص نحو السماء أبصارهم, مجتمعين بهمة واحدة على طلب الرحمة والغفران..
فلا ثم منفعة شخصية دنيوية, ولا رغبة مال أو متاع, ولكن رجاء ألا يخيب الله منهم الظنون ويقبل منهم السعي, ويفيض عليهم من رحماته ورضوانه, فهل ترى يكون هناك خلق بغيض لمن صدق؟ أو سوء سلوك لمن أخلص؟ كيف وهم يحلون بمواضع لم يزل الصالحون يعظمونها ويحلون فيها ويعمرونها بذكر الله, والملائكة يتنزلون من حولهم بكل موضع..
فاللباس الأبيض المشابه للكفن, الذي يستوي فيه الجميع غنيهم وفقيرهم عزيزهم وذليلهم هو علامة التواضع وشارة التسوية ولذلك يقول _صلى الله عليه وسلم_: "من ترك اللباس وهو يقدر عليه تواضعا لله _تبارك وتعالى_ دعاه الله _تبارك وتعالى_ يوم القيامة على رؤوس الخلائق حتى يخيره في حُلل الإيمان أيها شاء" رواه أحمد والترمذي... فلا مكان إذن للخيلاء ولا للزينة ولا للفخر ولا للزخرف تطبيقا لقوله _صلى الله عليه وسلم_: "إن الله أوحى إليّ أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد" رواه ابن ماجه.(115/311)
وهم فوق ذلك في مدرسة للتربية على العفو والصفح، والنسيان والغفران, والتغاضي عن الزلات.. قال _تعالى_: "فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ", فهم يذكرون قول الله _تعالى_: "خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ" وذكر الله من صفات المؤمنين بقوله: "الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ". وقوله: "إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ"، "وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ"
وقد ذكرت عائشة - رضي الله عنها - عندما سئلت عن أخلاق النبي _صلى الله عليه وسلم_ فقالت: "لم يكن فاحشاً ولا متفحشا، ولا صخابا في الأسواق ولا يجزي بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويصفح " رواه الترمذي وقال حسن صحيح. وقال _صلى الله عليه وسلم_: "من كتم غيظا وهو قادر على أن ينفذه دعاه الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق حتى يخيره من الحور العين فيزوجه منها ما شاء" رواه الترمذي.
** إحياء الثورة.. وتجديد الفكرة..
إنه عرضة سنوية للملة الحنيفية, تعمد بقاءه وترفع أصالته, فمهما حورب هذا الدين ومهما قوتلت هذه الثورة.. فالإسلام باق, والقرآن باق, ولباس الحج الأبيض يحيط بموروثات تلك الشريعة الربانية, فبوجود تلك المؤسسة العظيمة تبقى هذه الأمة عبر الأجيال رافعة نبراسها, خفاقة أعلامها, محتفظة بطبيعتها, مهما ادعى المدعون تغير الزمان وتبدل الأحوال, فهو ذات المنظر الذي حج به هادي البشرية منذ مئات السنين, وحوله حواريوه وربانيوه, فلتبق هذه الأمة محتفظة بطبيعتها الإبراهيمية العطوف الرءوم, الثائرة القوية, تتوارثها الأجيال فلكأنها القلب الحي الفياض الذي يضخ الدم كل عام في شرايين ذلك المجتمع مترامي الأطراف...
** ولاء وبراء..
ومهما تفرقت لبنات الأمة أو تشرزمت جماعاتها، فالحج يجمع الشمل، وينمي الولاء ويعيد الحب ويدعو إلى النصرة، وإذا كان المسلمون يجمعهم مصدر واحد في التلقي وقبلتهم واحدة، فهم في الحج يزدادون صلة واقتراباً، حيث يجمعهم لباس واحد، ومكان واحد، وزمان واحد، ويؤدون مناسك واحدة.
كما أن في الحج أنواعاً من صور الولاء للمؤمنين: حيث الحج مدرسة لتعليم السخاء والإنفاق، وبذل المعروف..
كما أن فيه ترسيخ لعقيدة البراء من المشركين ومخالفتهم؛ يقول ابن القيم: "استقرت الشريعة على قصد مخالفة المشركين لا سيما في المناسك".
لقد لبى النبي _صلى الله عليه وسلم_ بالتوحيد، خلافاً للمشركين في تلبيتهم الشركية، وأفاض من عرفات مخالفاً لقريش حيث كانوا يفيضون من طرف الحرم، كما أفاض من عرفات بعد غروب الشمس مخالفاً أهل الشرك الذين يدفعون قبل غروبها.
ولما كان أهل الشرك يدفعون من المشعر الحرام (مزدلفة) بعد طلوع الشمس، فخالفهم الرسول _صلى الله عليه وسلم_، فدفع قبل أن تطلع الشمس.
وأبطل النبي _صلى الله عليه وسلم- دعوى الجاهلية كما في خطبته في حجة الوداع، حيث قال: " كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع" أخرجه مسلم, يقول ابن تيمية: "وهذا يدخل فيه ما كانوا عليه من العادات والعبادات، مثل: دعواهم يا(115/312)
لفلان، ويا لفلان، ومثل أعيادهم، وغير ذلك من أمورهم" (اقتضاء الصراط المستقيم).
** يا زائرين.. متى نلحق بركب الصالحين؟
لقد تذكرت حجة النبي _صلى الله عليه وسلم_ وأنا أكتب ذلك المقال, وذكرت كيف ذرفت عينا أبي بكر رضي الله عنه لما علم أنها الحجة الأخيرة.. وأنه الوقت الموعود.. وأنها أيام الفراق..
لكأني أرى النبي _صلى الله عليه وسلم_ وهو يخطب في أمته ويعظ العالمين, وهيبته قد غطت المقام, ودموع أصحابه تذرف وقلوبهم توجل, والميثاق تتنزل كلماته تترا..ليؤذن أنه وحي خالد ودين راسخ.
فيا زائرا مع الزائرين: هل تراك ذكرت أن ربك قد اصطفاك هذه الأيام من دون خلقه ليزداد قربك منه وتضع قدمك موضع سيد الأبرار؟ ويطلع عليك في عرفه, ويباهي بك ملائكته؟ هل تراك وأنت تذرف الدمع الساخن, حمدت الله على النعمة؟ وجددت العهد مع الرحيم؟ ومحوت بالتوبة النصوح زلات السنين؟
ويا أيها الذي لم يقدر له أن يلحق بالزائرين.. متى تخلص في الدعاء ليلحقك بالصالحين؟!!
ـــــــــــــــــــ
بين الدين والدنيا .. لماذا تأخرت الأمة ؟ **
خالد روشه
23/11/1427
ارسل تعليقك ...
لا توجد تعليقات ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
khaled_rousha@yahoo.com
مفهوم خاطىء سرى بين أبناء أمة الإسلام أضر بقيمتها وخلف ركبها عن التقدم والطموح والإنجاز والعمل , إنه سوء الفهم في التفريق بين الدين والدنيا , أو قل إذا شئت " فصل الدين عن الدنيا "
(وفي محاضرة قيمة منشورة للشيخ الدكتور محمد العبدة - حفظه الله - أجلى فيها كثيرا من الغبش الحاصل حول ذلك الموضوع , وحاولنا في هذا المقال متابعة الفكرة وزيادة تبيين المقصود )..
فبين رؤية البعض أن الدنيا لابد منها ليتمكن المرء من العيش الكريم السوي وتتمكن أمته من النهوض والتقدم والغلبة والتمكين وبين رؤية البعض الآخر أنه أن الدنيا لاقيمة لها أبدا بحال وأنها يجب أن تهجر هجرا تاما ..
هذا التضاد الموجود في شخصية كثير من المسلمين كان من الأسباب الخفية التي أدت إلى ضعف المسلمين اليوم ..(115/313)
, وقد تلقف الفكر الصوفي ذلك الفصل بين الدين والدنيا وضخمه أيما تضخيم وعرض للناس تفسيرا لكثير من النصوص يدفعهم دفعا للقعود عن الإنجاز والعمل والبناء والسعي لنصرة الأمة .
مفهوم خاطىء سرى بين أبناء أمة الإسلام أضر بقيمتها وخلف ركبها عن التقدم والطموح والإنجاز والعمل , إنه سوء الفهم في التفريق بين الدين والدنيا , أو قل إذا شئت " فصل الدين عن الدنيا "
ويعتبرالسبب الرئيس في ذلك هو الفهم الخاطئ لكثير من الآيات والأحاديث الواردة في ذم الدنيا :
فالقرآن عندما يذم الدنيا لا يذمها مجردة وإنما يذمها مقارنة بالآخرة ونعيمها " وفرحوا بالحياة الدنيا وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع " " إنما هذه الحياة الدنيا متاع وإن الآخرة هي دار القرار " ..
كما أن القرآن قد ذم الغرور بالدنيا وأن يعمل الإنسان لمجرد العمل فيكون كالحيوان يأكل ويشرب ويتمتع " إنما الحياة الدنيا لهو ولعب وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد .."
كما أن القرآن قد ذم الدنيا كذلك لمن رضيها حظا لنفسه وجعلها مبلغ مراده " ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها " يونس 7
كذلك فقد ذم القرآن الدنيا لتنبيه الغافلين وخاصة ذوي الجاه والأموال الذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم قال سبحانه حاكيا عن قوم قارون له : " إذ قال له قومه لاتفرح إن الله لايحب الفرحين وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولاتنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض " القصص .. ..
وليس المراد إهمال الدنيا بالكلية واجتثاثها , بل تصريفها في أغراض الحق واستعمالها في نفع أمة الإسلام وقيم الإيمان ووراثتها لإقامة العدل والصلاح " ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون " الأنبياء 105
ومن هذا الفهم المغلوط لبعض النصوص خرج ماأشرنا إليه من الفكر الصوفي في ترك الدنيا بالكلية والقعود عن معالي الأمور , فقد قيل لبعض المتصوفة : كيف ترى الدنيا ؟ قال : ما الدنيا ؟ لا أعرف لها وجودا ، و سمع بعضهم من يقرأ قوله تعالى " منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة " فصاح وأين من يريد الله ؟ ! قال الشيخ رشيد رضا – معلقا على هذه المقولة - : " وهو قول حسن في الظاهر قبيح في الباطن . فالآية خطاب لخيار الصحابة وارادة الدنيا والآخرة بالحق هي إرادة لمرضاة الله " المنار(238/2)
فالفهم الصحيح لهذه الآيات أن نقول إن المراد هو استخدام الدنيا في طاعة الله عز وجل , وعدم إرادتها لمعصيته أو الغفلة عنه .
ويعتبرالسبب الرئيس في ذلك هو الفهم الخاطئ لكثير من الآيات والأحاديث الواردة في ذم الدنيا :
فالقرآن عندما يذم الدنيا لا يذمها مجردة وإنما يذمها مقارنة بالآخرة ونعيمها " وفرحوا بالحياة الدنيا وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع " " إنما هذه الحياة الدنيا متاع وإن الآخرة هي دار القرار " ..(115/314)
وإذا كانت هذه الدنيا هي وسيلة أو قنطرة إلى اليوم الآخر . أليس من الواجب إصلاح هذه القنطرة بالإيمان أيضا لكي نتمكن من الوصول للغاية الكبرى وهي الفوز بالجنة والنجاة من النار ؟!
بل ورد الأمر صلى الله عليه وسلم أن نصلح دنيانا وإن قامت الساعة : فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة ( وهي النخلة الصغيرة أو الودية ) فإن استطاع أن لا تقوم حتى يغرسها فليغرسها " رواه أحمد والبخاري في الأدب المفرد وقال الألباني صحيح على شرط مسلم و حسنه البدر العيني في عمدة القارئ (155/12)
وأيضا روى عن الحارث بن لقيط قال : "كان الرجل منا تنتج فرسه فينحرها فيقول أنا أعيش حتى أركب هذه ؟ فجاءنا كتاب عمر : أن اصلحوا ما رزقكم الله فإن في الأمر تنفسا " رواه البخاري في الأدب المفرد (478) وصححه الألباني
وأيضا روى البخاري في الأدب المفرد عن عبد الله بن سلام قال " إن سمعت بالدجال قد خرج وأنت على ودية تغرسها فلا تعجل أن تصلحه فإن للناس بعد ذلك عيشا " صححه الألباني
وأيضا روى ابن جرير عن عمارة بن خزيمه بن ثابت قال : " سمعت عمر بن الخطاب يقول لأبي : ما يمنعك أن تغرس أرضك ؟ فقال له أبي : أنا شيخ كبير أموت غدا . فقال له عمر : أعزق عليك لتغرسها. فلقد رأيت عمر بن الخطاب يغرسها بيده مع أبي .
إلى غير ذلك من الأحاديث والآثار في الأمر بإصلاح الدنيا ولأن من إصلاح الدنيا صلاح الدين .
- نتيجة التفرقة بين الدين والدنيا ؟
"إن البشرية قد مرت عليها فترات طويلة في الماضي والحاضر كانت تمشي بهذه التفرقة بين طريق الدين وطريق الدنيا وتعتقد أن العمل للآخرة يقتضي الانقطاع عن الدنيا والعمل للدنيا يزحم وقت الآخرة . وكانت هذه الفكرة عميقة الجذور في النفس البشرية بل وتعدت هذه الفكرة إلى مفاهيم الأخلاق . إلى غير ذلك من التفرقات التي تنبع من نقطة واحدة وهي " التفرقة بين الدنيا والدين " .
وأدت هذه التفرقة إلى عزلة بعض الناس وتنسكهم وتبتلهم بعيدا عن مجتمعاتهم وتكالب آخرين على الحياة يجعلونها همهم الأوحد ينتهبون ما فيها من متعة قبل وقت الفوات فتملكهم شهوتهم ولا يملكون نفسهم منها وتقتلهم في نهاية الأمر أو تشقيهم بالتعلق الدائم الذي يهنئ ولا يستقر .
كذلك فقد ذم القرآن الدنيا لتنبيه الغافلين وخاصة ذوي الجاه والأموال الذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم قال سبحانه حاكيا عن قوم قارون له : " إذ قال له قومه لاتفرح إن الله لايحب الفرحين وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولاتنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض " القصص .. ..
إن العجيبة في هذا الكيان البشري عجيبة الفطرة التي فطره الله عليها ، أن هذا الشتات النافر المنتشر يمكن أن يجتمع و يتوحد و يمكن أن يترابط ثم يصبح في وحدته تلك وترابطه أكبر قوة على الأرض , والطريق الأكبر لتوحيد هذا الشتات(115/315)
النافر المنتشر وربطه كله في كيان هو توحيد الدنيا والآخرة في طريق , فعندئذ لا تتوزع الحياة عملا وعبادة منفصلين حين يلتقي طريق الدنيا بطريق الآخرة وتلتحم النفس المفردة بكيانها الأكبر فعندئذ تستريح إليه وتنسجم وتدخل في إطاره .
والذي يصنع ذلك هو الفهم الصحيح للإسلام . فالإسلام هو الذي يصنع هذه العجيبة " وهو توحيد الدين والدنيا في نظامه " .
قال الله تعالى : وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا " القصص الآية ((77 .
وقال تعالى :" قل من حرم زينة الله التي أخرج لعبادة والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة " الأعراف الأية (32) .
وقال تعالى : " هو الذي أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها "
وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم هو الترجمة الكاملة الصادقة لهذه الحقيقة الإسلامية ومن ثم كانت الدنيا والآخرة في نفسه طريقا واحدا ونهجها واحدا فكانت كل أعماله صلى الله عليه وسلم مقصود بها وجه الله تعالى وحده . وهو صلى الله عليه وسلم لم يكف لحظة عن تعمير الدنيا والعمل لإصلاح الأرض وإحسان الاستخلاف فيها
فهو صلى الله عليه وسلم القدوة الحسنه وهو الواضع لهذا المنهج القويم لتحقيق الإسلام في عالم الواقع . فكان صلى الله عليه وسلم يحارب في سبيل الله يسالم في سبيل الله ويدعو في سبيل الله ويتزوج في سبيل الله وعلى سنة الله ويأكل بسم الله . فكل عمله إذن عبادة يتوجه بها إلى الله والطريق أمامه طريق واحد . وهو الطريق إلى الله ولا يكل ولا يمل حتى آخر لحظة في حياته . صلى الله عليه وسلم كان يسير في الطريق فيعمل في الدنيا وهو يعنى الآخرة ويعمل للآخرة بالعمل في الأرض .
وقال الله تعالى " لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر " الأحزاب الآية (21) .
نعم إن في ذلك من حياته صلى الله عليه وسلم لدرسا يقتدي فيه المسلمون بينهم ويهدون به البشرية الضالة إلى سواء السبيل يتعلمون أن يربطوا طريق الدنيا بطريق الآخرة ويتعلمون أن الدين ليس عزلة عن الحياة وإنما هو صميم الحياة .
ولا يظنوا أن الدين هو بعد عن المجتمعات وانعزال عن عمارة الأرض والطموح في بنائها وإصلاحها والسعي لرفعة أمة الإسلام ..
ولا يظنو أنهم لو دخلوا تيار الحياة إنهم بذلك لن يرضوا الله عز وجل وإنهم لو دخلوا المدرسة أو الجامعة فلن يرضوا ربهم أو المعمل أو المتجر أو المصنع أو غير ذلك ولكن المفهوم الصحيح للإسلام هو أن يأكلوا بسم الله ويتزوجوا بسم الله ويتعلموا باسم الله ويعمروا باسم الله ويتقدموا باسم الله وفي سبيل الله .
وحين يعلم المسلمون ذلك سيلتحقون بما سبقنا فيه الغرب وتخلف فيه المجتمع المسلم فانتشرت البطالة والفقر وعم القعود والكسل
وقد كان المسلمون وهم يؤمنون بدينهم ويعملون به يبنون أروع حضارات الأرض وينشئون أرفع مفاهيمها ولا ينحرفون عن طريق الله .(115/316)
فكانت طاقة العمل تدفعهم لإصلاح الأرض والإنشاء والتعمير والفتح في الأرض فبلغوا في لمحة خاطفة من الزمن ما لم يبلغه غيرهم في قرون وكل هذا كان في سبيل الله ولم يفصلوا بين الدين والحياة .
فالعمل في الأرض لا ينبغي أن ينقطع لحظة حتى ولو كانت القيامة بعد لحظة بل ينبغي عليهم أن يعملوا ولا يساموا من العمل ولا ينتظروا الثمرة في الحال بل عليهم أن يعملوا ويصبروا ولا ييأسوا بسبب الفشل . فإن كل المعوقات والمسيئات والمستحيلات كلها لا وزن لها ولا حساب لها ولا قيمة .
وبمثل هذه الروح الجبارة تعمر الأرض حقا وتشيد فيها المدنيات والحضارات وتعود للمسلمين قوتهم وحضارتهم ويستطيعوا من خلال ذلك نشر الإسلام ونشر العقيدة الصحيحة ونبذ الشرك وهدمه في قلوب الناس .
ويقول الشيخ رشيد رضا : " وليس من هدي الإسلام أن يترك المسلمون الدنيا ومعانيها وسياستها ويكونوا فقراء أذلاء تابعين لغيرهم من الأقوياء ولا أن يكونوا كالأنعام لا همَ لهم إلا في شهواتهم البدنية " المنار 118/1))
• نعم إن من المعروف إنه كان هناك من الصحابة على عهده صلى الله عليه وسلم مثل عبد الرحمن بن عوف أو عثمان أو غيرهم من الصحابة أصحاب الثروات الهائلة ولم يكد أن يطلب منهم الرسول صلى الله عليه وسلم من أن يتركوا هذا المال والمتاجرة به ويلتحفون الفقر ويلبسون جلود الضأن . بل كانوا يستخدمون المال في سبيل الله حتى جهز عثمان بن عفان رضي الله عنه جيشا كاملا زاد به عن حياض الإسلام ورفع به راياته ..واشترى بئرا للمسلمين يسقون منه ويشربون في وقت جفت حلوقهم من العطش ..
فلذلك فإن للمال أهميته في الإسلام , فعن طريقه يمكن أن يكون عونا على طاعة الله و هذا المال لا يكون إلا عن طريق مزج الدين بالحياة .
فإن المسلمين في حالة التقهقر الحضاري رجعوا إلى التبذير والسفه حين لا يقدر قيمة المال وينفق في أغراضه الخاصة . ولا يستخدمون المال في النفع العام للمسلمين .
إننا هنا لا نتحدث عن أفراد بحالاتهم الفردية ولكننا نتحدث عن حال جمعي للأمة الإسلامية التي تئن وتنزف تحت وطأة عدوها من جهة وضعف أبنائها من جهة أخرى ..
لقد حملت النظرة الخاطئة للكسب والعمل والمعاش الإمام محمد بن الحسن الشيباني على تأليف كتابه " الكسب " بين فيه أهمية العمل والأدلة على ذلك ..
وكتب أبو بكر الخلال كتاب " الحث على التجارة " .
وقد اهتم ابن خلدون أيما اهتمام بالكسب الحقيقي والسعي إذ تحدث عن الصنائع وارتباط الفكر باليد لأكتساب المهارة في الحرف وانتقد المجتمع الذي غلبت البداوة عليه فابتعد عن الصناعة إذ إنه يكون أسيرا لما يأتيه من المجتمعات الأخرى التي ربما تناصبه العداء فيكون عندئذ شقاؤه ونهايته ..
* * المقال هو متابعة للمحاضرة القيمة للشيخ الدكتور محمد العبدة – حفظه الله – بعنوان " الدين والدنيا "
ـــــــــــــــــــ(115/317)
" الآداب " .. بين توجيهات الشرع وانحرافات الناس )
خالد روشه
6/11/1427
ارسل تعليقك ...
تعليقات سابقة ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
Khaled_rousha@yahoo.com
يخجل المرء عندما يريد أن يكتب عن مستوى الأدب الذي صار إليه الناس في هذه الأيام, وكذلك مستوى الأدب الذي صار إليه شباب أمة الإسلام.
ولقد حاولت أن أرقب مستوى الآداب من حولنا حتى لا أكون جائرًا في حكمي - إذا حكمت - فما رأيت ما يُعدل فكرتي ولا ما يحسن وجهتي.
فقد رأيت شدة الغضب في غير حلم, بدرجة تنفر الحبيب من حبيبه والقريب من قريبه, والرجل من زوجته والزوجة من زوجها, وقد يزداد الغضب إلى درجات أكبر فيحصل ما هو أكبر, وبحثت عن الحلم فما وجدت أهله, أو ربما هناك بعضهم ولكنهم لقلتهم قد تاهوا في وسط أهل الغضب.
ورأيت الجبن في غير شجاعة, إلى حد أن يجبن فيها السائر في الطريق عن إنقاذ جريح خوفًا من المساءلة, ويجبن فيها الناس عن كلمة إنكار لفعل قبيح في الطريق, ويجبن فيها آخرون عن جلوس مجلس علم في مسجد!!
ورأيت الجور والظلم في غير عدل, بدرجة لا يقوى فيها المظلوم أن يبث شكواه أمام الظالم, ويُغَير فيها المظلوم أهدافه وطريقة حياته خوفًا من الظالم.
ورأيت الشهوانية بغير عفة, إلى حد أن يتتبع الشاب موقع العري والفجور ويدفع في سبيله ماله, وبدرجة أن يسهر آخرون حتى الصباح على مشاهدة الفجور
ورأيت الشهوانية بغير عفة, إلى حد أن يتتبع الشاب موقع العري والفجور ويدفع في سبيله ماله, وبدرجة أن يسهر آخرون حتى الصباح على مشاهدة الفجور, ولحد أن تغزو المجتمع الإسلامي أفكار المثلية الجنسية واللواط ..وإلى حد أن يجتمع مئات الشباب في الشوارع لينهشو لحم أي فتاة تمر ويهتكوا سترها – كما حدث في بلد عربي كبير قبل أيام -
ورأيت البخل في غير كرم, إلى حد أن تقوم أسرة مسلمة عددها ثمانية أفراد شهريًا لا تجد أكثر من ثمن الخبز, وجارها يركب أفخر السيارات ويشتري حذاءه بثمن خمسة أشهر من قوت جيرانه!!
ورأيت الصراع على المال إلى حد أن يفقد الأخ أخاه والحبيب حبيبه من أجل المال.
كل ذلك ظاهر معروف معلوم لا يحتاج لبصيرة نافذة كي يُعرف وهو في ديار الإسلام يختلف باختلاف أحوال البلد.
وقد يقول قائل: لا تنظر إلى السوء ولكن أنظر إلى الخير. وأقول له: إنني لا أشك في وجود الخير, ولكن النوع الآخر قد طغى وغطى وانتشر, والخير يأرز إلى أهل(115/318)
الغربة ويسكن عندهم, وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بدأ الإسلام غريبًا وسيعود غريبًا كما بدأ, فطوبى للغرباء) رواه مسلم عن أبي هريرة
فحاولت في تلك النظرة أن أذكر القارىء بأهم مواقع الأدب والخلق وتوجيهات الإسلام العظيم فيهما ثم أن أنظر إلى أدب الصالحين ثم أعود إلى واقعنا المرير وأتساءل عن الأسباب والدواقع ..
1- القرآن يأمر بالأدب:
قال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ} [النحل: 90].
وقال سبحانه: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ}
[الأعراف:199]
وقال سبحانه: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ}
[لقمان: 17]
وقال سبحانه: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}
والأدب للدعاة إلى الله سبحانه أمر لازم يحتاجه الداعية كحاجته للسانه وقلمه بل قد يزيد
[المائدة: 13]
وقال سبحانه: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت: 34].
وقال سبحانه: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 134].
2- آدابه صلى الله عليه وسلم :
قال الله عنه: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4].
* وكان صلى الله عليه وسلم يقول: (اللهم حسن خَلقي وخُلقي) أخرجه أحمد (6/68).
* وكان يقول صلى الله عليه وسلم: (اللهم جنبني منكرات الأخلاق) أخرجه الترمذي
وكان صلى الله عليه وسلم: أحلم الناس, وأشجع الناس, وأعدل الناس, وأعف الناس, لم تمس يده قط يد امرأة لا تحل له, وكان أسخى الناس لا يبيت عنده دينار ولا درهم, وإن فضل شيء ولم يجد من يعطيه وفجأه الليل لم يأو إلى منزله حتى يتبرأ منه إلى من يحتاج إليه, لا يُسأل شيئًا إلا أعطاه, وكان يخصف نعله ويرقع ثوبه ويخدم أهله, وكان أشد الناس حياءً لا يثبت بصره في وجه أحد.
ويجيب دعوة الحر والعبد, ويقبل الهدية ولو كانت جرعة لبن, ولا يأكل الصدقة ولا يستكبر عن إجابة الأمة والمسكين.
يغضب لربه ولا يغضب لنفسه أدبًا, وكان يعصب الحجر على بطنه من الجوع, يأكل ما حضر ولا يرد ما وجد, لا يأكل متكئًا ولا على خوان.
لم يشبع من خبز بُر ثلاثة أيام متوالية حتى لقي الله تعالى, وكان أشد الناس تواضعًا وأسكتهم في غير كبر وأحسنهم بشرًا, لا يهوله شيء من أمور الدنيا, يركب الحمار ويردف خلفه عبده أو غيره.(115/319)
يعود المرضى في أقصى المدينة, يحب الطيب, ويجالس الفقراء ويؤاكل المساكين, ويكرم أهل الفضل ويصل رحمه, ولا يجفو على أحد, يقبل معذرة المعتذر, يمزح ولا يقول إلا صدقًا.
لم يرتفع على خدمه في مأكل ولا ملبس, لا يمضي له وقت في غير عمل لله تعالى أو فيما لابد منه من صلاح نفسه, لا يحتقر مسكينًا لفقره, ولا يهاب ملكًا لملكه, قد جمع الله تعالى له السيرة الفاضلة والسياسة التامة, ما ضرب بيده أحدًا أبدًا, إلا أن يضرب بها في سبيل الله, وما انتقم من شيء إلا أن تنتهك حرمات الله , وما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما, صلى الله عليه وسلم
قال في موعظة المؤمنين: "وإنما حرم الذكر باللسان - الغيبة - لما فيه من تفهيم الغير نقصان أخيه وتعريفه بما يكرهه
3- بين العلم والأدب:
لا أدب إلا بعلم, ولا ينفع العلم بغير أدب, بل العلم بغير أدب قد يضر صاحبه فيهلكه, روى الذهبي عن محمد بن إبراهيم بن سعيد قال: "من أراد العلم والفقه بغير أدب فقد اقتحم أن يكذب على الله ورسوله".
والأدب هو القيد الحسن الذي يقيد الأخلاق عن الانحراف والجنوح والشطط, ومن لا أدب له لا صحبة له ولا أخوة, وينفض الناس من حوله, ويبغضه أقرب الناس إليه, وعديم الأدب تسيطر عليه نفسه فتدفعه إلى هواها فيقع في المحظور، وقليل الأدب لا يبدو عليه العلم مهما تعلم, ولكن تراه كالحمار يحمل أثقالاً.
وجدير بشباب أمة الإسلام وطلبة العلم الإسلامي الذين حرصوا على جمع العلم وتحصيله أن يتعلموا الأدب ويبذلوا جهدهم في تحصيله والتخلق به, ولو احتاج ذلك منهم إلى أوقات كثيرة؛ لأنه باب العلم والطريق إليه, قال يوسف ابن الحسين: بالأدب تتفهم العلم, وبالأدب تحمل العلم, وبالعلم يصح لك العمل, وبالعمل تنال الحكمة.
ومن الآداب ما هو واجب وتركه محرم, ومنها ما هو مستحب وتركه مكروه, لذا فإن العلم لا يكفي لتربية النفس إن لم يكن مقترنًا بالأدب وملفوفًا في ثوبيه.
والأدب لطالب العلم يستر عورته ويخفي سوءته, وهو للعالم يرفع درجته ويُعلي شأنه ويكثر بين الناس أحبابه ومريديه وتلامذته.
وصدق الحكيم الذي قال: "أدب السائل أنفع من الوسائل".
والأدب للدعاة إلى الله سبحانه أمر لازم يحتاجه الداعية كحاجته للسانه وقلمه بل قد يزيد, وإنه لمما يحزن أنك ترى بعض الدعاة إلى الله سبحانه قد عافوا الأدب وأعرضوا عنه, وولغوا في قصعة السفهاء والجهال.
فقلدوهم في طريقة حديثهم, فلا تسمع منهم إلا صوتًا صاخبا, وألفاظًا سفيهة تافهة يقلدون بها الجهال, وتعلو أصواتهم بالقهقهة والمزاح الخارج, وقلدوا الجهال في السخرية من الناس ورفع مقام ذوي المال والسلطان وتنزيل مقامات أهل العلم والإيمان .
وقلدوا الجهال في ترك معالي الأهداف والمبادئ وسحبتهم الأموال, فتصارعوا عليها, بل استساغ بعضهم أن يفقد دعوته وينسلخ من طريقه الذي سار فيه سنين(115/320)
طويلة يتعلم ويدعو إلى الله, لا لشيء إلا لإغراء المال... ولعمري إذا فسد أدب هؤلاء من إذن ينتظر منه أن يعلم الناس الأدب والأخلاق ؟!
4- رأس الأدب الحياء:
الحياء رأس الأدب, وخلق الإسلام, ومن أبرز الصفات التي تنأى بالمرء عن الرذائل وتحجزه عن السقوط إلى سفاسف الأخلاق وحمأة الذنوب, كما إنه من أقوى البواعث على الفضائل وارتياد معالي الأمور, وعلى حسب حياة القلب يكون فيه قوة خلق الحياء.
وقلة الحياء من موت القلب والروح, فكلما كان القلب أحيى كان الحياء أتم, ويكفي الحياء خيرًا كونه على الخير دليلاً, إذ مبدأ الحياء انكسار وانقباض يلحق الإنسان مخافة نسبته إلى القبيح, ونهايته ترك القبيح, قال النبي صلى الله عليه وسلم : (الحياء لا يأتي إلا بخير) متفق عليه
وضد الحياء: الوقاحة, وهي مذمومة في كل الناس, ومن حرم الحياء هجمت عليه الوقاحة فأسرته في صفها, قال مالك بن دينار: "ما عاقب الله تعالى قلبًا بأشد من أن يسلب منه الحياء".
وقال سفيان بن عيينة: "لا يخاف العبد حتى يستحي, وهل دخل أهل التقوى في التقوى إلا من الحياء".
* أما كيف نولد الحياء في قلوبنا؟ فهو بأمرين: تذكر نعمة الله, ومعرفة تقصيرنا في حقه.
لما احتضر الأسود بن يزيد بكى, فقيل له: ما هذا الجزع؟ فقال: "ما لي لا أجزع ومن أحق بذلك مني؟ والله لو أتيت بالمغفرة من الله تعالى لأهمني الحياء منه مما صنعت, إن الرجل ليكون بينه وبين الرجل الذنب الصغير فيعفو عنه, ولا يزال مستحيًا منه".
وشهد الفضيل بن عياض موقف عرفات, فرفع رأسه إلى السماء وقد قبض على لحيته وهو يبكي بكاء الثكلى ويقول: "وا سوأتاه منك, وإن عفوت".
وقال الفضيل: "خمس من علامات الشِّقوة: القسوة في القلب, وجمود العين, وقلة الحياء, والرغبة في الدنيا, وطول الأمل".
وهذا الفاروق عمر رضي الله عنه يقول: "من قل حياؤه قل ورعه, ومن قل ورعه مات قلبه, من استحيا استخفى, ومن استخفى اتقى, ومن اتقى وقى".
وعن الحسن رحمه الله - وذكر عثمان رضي الله عنه وشدة حيائه - قال: "إن كان ليكون في البيت والبيت عليه مغلق, فما يضع عنه الثوب ليفيض عليه الماء, يمنعه الحياء أن يقيم صلبه".
وعن أبي موسى رضي الله عنه قال: "إني لأغتسل في البيت المظلم فما أقيم صلبي حتى آخذ ثوبي حياء من ربي عز وجل".
وعلى المرء الصالح أن يستحي من الله سبحانه ثم من ملائكته ثم من الناس ونفسه.
قال ابن القيم رحمه الله: "قال بعض الصحابة رضي الله عنهم: إن معكم من لا يفارقكم فاستحيوا منهم وأكرموهم". وقد نبه سبحانه على هذا المعنى فقال: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَاماً كَاتِبِينَ. يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ}[الانفطار:10-12] أي: استحيوا من هؤلاء - الملائكة - الحافظين الكاتبين وأجلوهم أن يروا منكم ما تستحيون أن(115/321)
يراكم عليه من هو مثلكم, والملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم, فإن كان ابن آدم يتأذى ممن يفجر ويعصي بين يديه وإن كان يعمل مثل عمله, فما الظن بأذى الملائكة الكرام الكاتبين؟ والله المستعان"الداء والدواء.
* وعن أسامة بن شريك رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ما كرهت أن يراه الناس فلا تفعله إذا خلوت) الصحيحة للألباني.
* وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم لأصحابه: (استحيوا من الله حق الحياء), قالوا: إنا نستحي يا رسول الله, قال: (ليس ذاكم, ولكن من استحيا من الله حق الحياء: فليحفظ الرأس وما وعى, وليحفظ البطن وما حوى, وليذكر الموت والبلى, ومن أراد الآخرة ترك زينة الدنيا, فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء) رواه أحمد والترمذي.
5- أدب اللسان:
لقد ندبنا الله سبحانه إلى اختيار أحسن الكلام وأكرمه وأصفاه وأكمله حيث قال سبحانه: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} , ثم بين سبحانه أن النزول عن درجة التي هي أحسن في الكلام يعطي فرصة للشيطان أن يوقع بين الناس فقال سبحانه: {إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوّاً مُبِيناً} [الاسراء: 53].
هل نؤاخذ بما نقول؟
* عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله: هل نؤاخذ بما نقول؟ فقال صلى الله عليه وسلم : (وهل يكب الناس على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم؟) أخرجه أحمد والنسائي والترمذي.
* وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت) متفق عليه.
لا تتكلم فيما لا يعنيك:
إن سبب الكلام فيما لا يعني حرص الإنسان أن يعرف ما لا حاجة له به, أو قضاؤه الأوقات في الحكايات التي لا فائدة فيها, أو فضوليته لمعرفة أحوال غيره أو استشراف ما خبئ عنه, وكلها أخلاق مذمومة ينبغي على أهل الإسلام التطهر منها والتنزه.
فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم : (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه) أخرجه أحمد والترمذي وابن ماجه.
الكلمة الموبقة:
وهي كلمة المعصية, يقولها الإنسان وقد لا يهتم بها, وقد ينساها, ولكن ربك لا يضل ولا ينسى, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (إن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله ما يظن أن تبلغ ما بلغت فيكتب الله عليه بها سخطه إلى يوم القيامة) أخرجه أحمد والترمذي
ليس المؤمن هكذا:
عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان ولا الفاحش ولا البذيء) أخرجه أحمد(115/322)
والطعان الذي يطعن في خلق الناس وفي أعمالهم وصفاتهم بالسوء, واللعان الذي يكثر اللعن في كلامه وحديثه, والفاحش الذي لا يستحي من ذكر الأمور المستقبحة بالعبارات الصريحة, والبذيء هو عديم الحياء, فتأمل هذا الحديث وأدب نفسك بآدابه... تتأدب .
هل تمزح ؟
لا يليق بطالب العلم ولا الدعاة إلى الله كثرة المزاح والمداومة عليه والإفراط فيه؛ فإن الأمة الجادة لا تعرف المزاح, والمداومة على المزاح تسقط الهيبة والوقار, وتسبب كثرة الضحك, وأما الذي يليق بأهل الإيمان ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم, عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إني أمزح ولا أقول إلا حقًا) أخرجه الطبراني في الكبير, وصححه الألباني.
وقال عمر بن الخطاب: من مزح استخف به, وقال سعيد بن العاص لابنه: يا بني لا تمازح الشريف فيحقد عليك (يضيق صدره منك), ولا تمازح الدنيء فيجترئ عليك.
المؤمن لا يكذب: فالكذب في الكلام - ولو كان بكلمة واحدة - من قبائح الذنوب وفواحش العيوب, قال النبي صلى الله عليه وسلم : (إياكم والكذب, فإنه مع الفجور وهما في النار) أخرجه أحمد وابن ماجه
ما الغيبة؟
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم : (الغيبة ذكرك أخاك بما يكرهه) أخرجه مسلم
قال القاسمي: "حد الغيبة أن تذكر أخاك بما يكرهه لو بلغه سواء ذكرته بنقص في بدنه أو نسبه أو في خلقه أو فعله أو في قوله أو في دينه أو في دنياه حتى في ثوبه وداره ودابته".
هل الغمز من الغيبة؟
قال في موعظة المؤمنين: "وإنما حرم الذكر باللسان - الغيبة - لما فيه من تفهيم الغير نقصان أخيه وتعريفه بما يكرهه, ولذا كان التعريض به كالتصريح, والفعل فيه كالقول, والإشارة والإيماء والغمز والهمز والكتابة والحركة, وكل ما يُفْهِم المقصود فهو داخل في الغيبة وهو حرام".
هل أرد غيبة أخي؟
إذا جلست مجلسًا ذُكر فيه أخوك بما يكره وجب عليك أن ترد غيبته, فعن جابر بن عبد الله قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من امرئ مسلم ينصر مسلمًا في موضع ينتهك فيه عرضه ويستحل حرمته إلا نصره الله في موطن يحب فيه نصره, وما من امرئ خذل مسلمًا في موطن تنتهك فيه حرمته إلا خذله الله
في موضع يحب فيه نصرته)أخرجه أحمد وأبو داوود, وفي رواية: (من رد عن عرض أخيه بالغيب كان حقًا على الله أن يرد عن عرضه يوم القيامة).
6- ثورة الغضب:
إن الغضب شعلة نار مستكنة في الفؤاد استكنان الجمر تحت الرماد, ويستخرجها الشيطان اللعين ويزكيها داء الكبر في قلب الغضبان.(115/323)
والغضب مفتاح كل شر, وقال الحكماء: رأس الحمق الحدّة وعموده الغضب. وقال الحسن: المؤمن لا يغلبه الغضب.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء رجل للنبي صلى الله عليه وسلم وقال له: أوصني. قال صلى الله عليه وسلم: (لا تغضب), فكرر مرارًا, فقال: (لا تغضب)البخاري.
هل يمكن زوال الغضب؟
نسمع كثيرًا من الناس يصفون أنفسهم بشدة الغضب ولا يجدون لذلك دواءً, وقد بين العلماء أن زوال الغضب يكون بالتدريب على ذلك ورياضة النفس عليه، فمن عود نفسه التحلم صار - بطول الوقت - حليمًا, وإنما الحلم بالتحلم, وليس التدريب ورياضة النفس لينعدم الغضب, ولكن ليستعمله على حد يستحبه الشرع, فيكون في محاب الله وليس انتصارًا للنفس, قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما العلم بالتعلم والحلم بالتحلم)حسنه الألباني.
7- الرفق الجميل:
إذا كان الغضب والشدة نتيجة الفظاظة والغلظة, فإن الرفق واللين نتيجة حسن الخلق والأدب, ولا يرفق إلا مؤدب, ولأجل هذا فقد أثنى النبي صلى الله عليه وسلم على الرفق وبالغ في الثناء عليه.
* فعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا أحب الله أهل بيت أدخل عليهم الرفق)أخرجه أحمد.
* وعن عائشة أيضًا رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عليك بالرفق؛ فإنه لا يدخل في شيء إلا زانه, ولا ينزع من شيء إلا شانه)أخرجه مسلم
وما أجمل طالب العلم والداعية إلى الله إذا اتصف بالرفق, ما أجمله! ما أجمله!
8- من آداب الصالحين :
روى الذهبي أن جابر بن عبد الله قال: قال عمر بن الخطاب: "أبو بكر سيدنا أعتق بلالاً سيدنا".
وذكر الذهبي عن معاذ قال: "ما بزقت عن يميني منذ أسلمت".
وعن أبي رزين قال: قيل للعباس: أنت أكبر أو النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: هو أكبر وأنا ولدت قبله.
قال الذهبي: وورد أن عمر عمد إلى ميزاب للعباس على ممر الناس فقلعه, فقال له العباس: أشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي وضعه في مكانه, فأقسم عمر: لتصعدن على ظهري ولتضعنه موضعه.
وعن أبي سلمة أن ابن عباس قام إلى زيد بن ثابت, فأخذ له بركابه, فقال: تنح يا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال: هكذا نفعل بعلمائنا.
وروى الذهبي عن مغيرة قال: خرج عديٌ وجرير البجلي وحنظلة الكاتب من الكوفة, وقالوا: لا نقيم ببلد يشتم فيه عثمان.(115/324)
وعن عبد الرحمن بن رزين قال: أتينا سلمة بن الأكوع, فأخرج إلينا يدًا ضخمة كأنها خف البعير, فقال: بايعت بيدي هذه رسول الله صلى الله عليه وسلم, قال: فأخذنا يده فقبلناها.
وكان علي بن الحسين إذا سار في المدينة على بغلته, لم يقل لأحد: الطريق, ويقول: هو مشترك ليس لي أن أنحي عنه أحدًا.
قال سفيان بن عيينة: لما مات مسلم بن يسار قال الحسن البصري: وامعلِّماه.
وقال ابن جريج عن عطاء: إن الرجل ليحدثني بالحديث, فأنصت له كأني لم أسمعه وقد سمعته قبل أن يولد.
وعن أيوب قال: قيل لعمر بن عبد العزيز: يا أمير المؤمنين, لو أتيت المدينة؛ فإن قضى الله موتًا في موضع القبر الرابع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم , قال: والله لأن يعذبني الله بغير النار أحب إليّ من أن يعلم من قلبي أني أراني لذلك أهلاً.
وعن عاصم بن أبي النجود قال: ما قدمت على أبي وائل من سفر إلا قبَّل كفِّي.
وقال أبو زرعة: كنت عند أحمد بن حنبل, فذكر إبراهيم, وكان متكئًا من علة فجلس, وقال: لا ينبغي إن ذكر الصالحون فيُتكأ.
وعن يحيى بن يمان قال: كان سفيان الثوري إذا قعد مع إبراهيم بن أدهم تحرز من الكلام (تأدبًا).
قال أبو مصعب: سمعت مالكًا يقول: ما أفتيت حتى شهد لي سبعون أني أهل لذلك.
وقال: كان مالك لا يُحدث إلا وهو على طهارة إجلالاً للحديث.
وقال ابن وهب: ما نقلنا من أدب مالك أكثر مما تعلمنا من علمه.
وعن مالك قال: ما جالست سفيهًا قط.
وعن مالك قال: إن الرجل إذا ذهب يمدح نفسه ذهب بهاؤه.
وعن ابن وهب: سمعت مالكًا يقول: حق على من طلب العلم أن يكون له وقارٌ وسكينة وخشية.
وقال عبد الله بن صالح: صحبت الليث عشرين سنة, لا يتغذى ولا يتعشى إلا مع الناس.
وسئل ابن المبارك بحضور سفيان بن عيينة عن مسألة فقال: إنا نهينا أن نتكلم عند أكابرنا.
قال إبراهيم بن الأشعث: رأيت سفيان بن عيينة يُقبل يد الفضيل مرتين.
وقال سَلْم بن جنادة: جالست وكيعًا سبع سنين, فما رأيته بزق ولا مس حصاة ولا جلس مجلسًا فتحرك, وما رأيته إلا مستقبل القبلة وما رأيته يحلف بالله.
قال الفلاس: ما سمعت وكيعًا ذاكرًا أحدًا بسوء قط.
وقال الربيع: سمعت الشافعي يقول: ما شبعت منذ ستة عشرة سنة.
وقال الشافعي: لو أعلم أن الماء البارد ينقص مروءتي ما شربته.
وقال أبو إسحاق الجوزجاني: سمعت يحيى بن معين يقول: الذي يحدِّث ببلد به من هو أولى بالتحديث منه أحمق.
وقال بكر بن منير: سمعت أبا عبد الله البخاري يقول: أرجو أن ألقى الله ولا يحاسبني أني اغتبت أحدًا.(115/325)
وعن سهل بن عبد الله التستري قال: من أخلاق الصديقين أن لا يحلفوا وأن لا يغتابوا ولا يُغتاب عندهم, وأن لا يشبعوا, وإذا وعدوا لم يخلفوا ولا يمزحون أصلاً.
وعن ابن سيرين: أن عمر كتب في عهد حذيفة على المدائن: اسمعوا له وأطيعوا واعطوه ما سألكم, فخرج من عند عمر على حمار فوكف, تحته زاده, فلما قدم استقبله الدهاقين وبيده رغيف وعرق.
وعن مروان الأصفر, سمع الأحنف يقول: اللهم إن تغفر لي فأنت أهل لذلك وإن تعذبني فأنا أهل لذلك.
وقال الأحنف: ثلاث فيّ ما أذكرهُن إلا لمعتبر: ما أتيت أبواب السلاطين إلا أن أدعى, ولا دخلت بين اثنين حتى يدخلاني بينهما, وما أذكر أحدًا بعد أن يقوم من عندي إلا بخير.
وكان الأحنف إذا أتاه رجل وسع له, فإن لم يكن له سعة, أراه كأنه يوسع له.
وعن ثابت البناني: أن أبا برزة كان يلبس الصوف, فقيل له: إن أخاك عائذ ابن عمرو يلبس الخزّ (الثمين من الثياب), قال: ويحك ومن مثل عائذ؟ فانصرف الرجل فأخبر عائذًا, فقال: ومن مثل أبي برزة؟ قال الذهبي: هكذا كان العلماء يوقرون أقرانهم.
قال أبو المنهال: سألت البراء عن الصَّرف, فقال: سل زيد بن أرقم, فإنه خير مني وأعلم.
قال محمد بن سيرين: جلست إلى عبد الرحمن بن أبي ليلى وأصحابه يعظمونه كأنه أمير.
وقال مورق العجلي: ما قلت شيئًا قط إذا غضبت أندم عليه إذا زال غضبي.
وعن جميل بن مرة قال: كان مورِّق العجلي رحمه الله يجيئنا فيقول: أمسكوا لنا هذه الصرة فإن احتجتم فأنفقوها, فيكون آخر عهده بها.
وعن عمرو بن مالك قال: سمعت أبا الجوزاء يقول: ما لعنت شيئًا قط ولا أكلت شيئًا ملعونًا قط, ولا آذيت أحدًا قط ولا ماريت أحدًا قط, قال الذهبي: فانظر إلى هذا السيد واقتد به.
وقال وهب بن منبه: لباس الإيمان التقوى وزينته الحياء وماله الفقه.
وقال وهب: المؤمن ينظر ليعلم ويتكلم ليفهم ويسكت ليسلم ويخلو ليغنم.
ـــــــــــــــــــ
القادة .. بين المناقب والمثالب
عصام العلي
22/10/1427
ارسل تعليقك ...
لا توجد تعليقات ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
إن الصفات التي يجب أن يتحلى بها قادة العمل الإسلامي كثيرة جدًا كالإخلاص لله تعالى، والصدق مع الله عز وجل ومع خلقه، والعلم، وملازمة العبادة والذكر،(115/326)
والاعتصام بالكتاب والسنة، والتجرد للحق من أي هوى أو عصبية، والزهد، والورع، والحلم، والصفح وسعة الصدر، والصبر، والثبات، والقدوة الحسنة، والرحمة، والعطف، ولين الجانب، وخفض الجناح للمؤمنين، والثقة بنصر الله عز وجل، وعدم الاغترار بالنفس وتطهيرها من الكبر, والتقليد الأعمى, والاستئثار بالرأي والشجاعة في الحق، وعدم الحرص على الإمارة وحب الظهور، وسلامة الصدر من الغل والحسد والخيانة والحقد والضغينة، وقبول النصيحة، والالتفات إلى عيب النفس، والاعتراف بالخطأ، وقبول النقد من الآخرين، والوضوح في الأفكار والأهداف.
هذه بعض الصفات التي يجب أن تتوفر في الدعاة فضلاً عن قادتهم، وعلى قادة العمل الإسلامي الاستمرار في مجاهدة أنفسهم, حتى يغرسوا فيها ما تتحلى بها من فضائل هذه الصفات, ويجاهدوها كذلك حتى تتخلى عن رذائل هذه الصفات، فكمال النفس البشرية إنما يأتي عن طريق المجاهدة، وإذا صدق العبد في مجاهدته لنفسه, ورغب في هداية ربه, فلا بد أن يجد ثمرة هذه المجاهدة بتوفيق وعون وهداية من الله سبحانه قال تعالى: ?وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ? [العنكبوت:69]، وقال تعالى: ?وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ? [محمد:17].
اعتاد بعض القادة على التغاضي عن أخطائهم, والحرص الشديد على تسويفها والتماس المعاذير لدفعها والسكوت عنها... بل قد يتجرأ بعضهم في الدفاع عنها وتحويلها إلى مكاسب وحسنات, كما اعتاد بعضهم النظر إلى الناقد ـ أيا كان هدفه أو أسلوبه ـ بعين الريبة والشك, ومن ثم التهميش والإهمال..!
و سنتكلم حول بعض هذه الصفات التي يجب أن يتحلى بها قادة العمل الإسلامي محذرين لبعض المثالب والأخطاء التي قد يقعون فيها سائلين الله سبحانه أن ينفع بها.
(1) القادة بين الصراحة وتبرير الأخطاء:
اعتاد بعض القادة على التغاضي عن أخطائهم, والحرص الشديد على تسويفها والتماس المعاذير لدفعها والسكوت عنها... بل قد يتجرأ بعضهم في الدفاع عنها وتحويلها إلى مكاسب وحسنات, كما اعتاد بعضهم النظر إلى الناقد ـ أيا كان هدفه أو أسلوبه ـ بعين الريبة والشك, ومن ثم التهميش والإهمال..!
ربما يكون ذلك: ضعفًا في التربية والتكوين النفسي للفرد, مما يجعله يخاف من الاعتراف بالخطأ, وربما يظن أن اعترافه بالخطأ يسقط من قدره ومكانته, وربما يكون سبب ذلك: التعصب والتحزب الذي يقود إلى الهوى الذي يعمي ويصم, وربما تكون هناك أسباب أخرى تختلف باختلاف الناس والأحوال..!
لكن القرآن الكريم يربينا على منهج آخر, إنه منهج المراجعة والمحاسبة وتدارس الأعمال بكل صدق وتجرد, ومن ثم المصارحة والمكاشفة التي تتلمس مواضع النقص, والعيب, لا تضخيمها وازدراء النفس من أجلها, ولكن من أجل تدارك الحال وتقويمه.
فالله عز وجل عاتب نبيه r ـ وهو سيد ولد آدم وقائد المسلمين الأعظم ـ في غير آية, قال الله تعالى: ?عَبَسَ وَتَوَلَّى, أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى, وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى, أَوْ يَذَّكَّرُ(115/327)
فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى, أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى, فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى, وَمَا عَلَيْكَ أَلا يَزَّكَّى, وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى, وَهُوَ يَخْشَى, فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى? [عبس: 1ـ10].
وقال تعالى: ?يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ?[التحريم:1].
وقال تعالى: ?عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ?[التوبة:43].
غاية في الوضوح والصراحة التي تبني الثقة في نفس الإنسان وتجعله يستثمر هفواته وأخطائه في تقويم النفس وتزكيتها، وإعادة بنائها.
ليس عجيبًا أن تتواتر النصوص في التحذير من السعي إلى الإمارة فهي فتنة تتساقط تحتها كرامة الرجال، وتنكشف أمامها كمائن القلوب..!
والمصارحة في بيان الأخطاء تعني: التناصح وتسديد المعايب بمحبة ورحمة وإشفاق وهي تعني أيضًا القرب من الناصحين المخلصين لا ازدرائهم وتهميشهم لمجرد أنهم ينصحون لله عز وجل.
وتعني أيضًا البعد عن المجاملين والمداهنين فهؤلاء ينفخون في الذات الإنسانية حتى تظن أنها قد بلغت الكمال أو قاربت.
(2) القادة بين الإخلاص وبريق الإمارة:
ليس عجيبًا أن تتواتر النصوص في التحذير من السعي إلى الإمارة فهي فتنة تتساقط تحتها كرامة الرجال، وتنكشف أمامها كمائن القلوب..!
ولقد اعتدنا ذلك من الساسة وطلاب الدنيا وأصحاب المغانم الفانية، ولكن الغريب كل الغرابة أن ينتقل الداء داخل بعض التجمعات الدعوية ويسيطر على بعض النفوس المريضة، من حيث تشعر أحيانًا ومن حيث لا تشعر أحيانًا أخرى!
حتى يصبح هَمُّ المرء أن يسود على خمسة أو عشرة ـ أو أقل أو أكثر ـ دون أن يفكر بورع صادق في تبعات ذلك في الدنيا والآخرة.
إن الإنسان عندما يستشرف منصبًا أو موقعًا أو مكانةً أو درجةً داخل العمل الدعوي الذي أسس على التقوى، والذي غالبيته عبادة الله وحده، ونيل رضاه من خلال القيام بوظيفة الأنبياء ـ وهي الدعوة إلى الله عز وجل ـ فهذه لاشك كارثة جليلة وهو بذلك يهدم ماضيه المشرق في عمله الدعوي ويكشف عن نوايا غير حسنة للانضمام لهذا العمل.
وفي الحديث الذي رواه أحمد والترمذي عن كعب بن مالك الأنصاري، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها، من حرص المرء على المال والشرف لدينه)).
والحرص على الإمارة: إما في الرغبة في الوصول إلى مرتبة معينة داخل العمل الدعوي، وكأن الأمر لم يعد عبادة ودعوة إنما هو مغنم ومنصب، وهذا المعنى إنما يغيب عن حس الإنسان عند ضعف الإيمان.
وإما في حرصه على الاستمرار في عمل معين أو استمرار غيره في إمرة معينة، لا من أجل القدرة والكفاءة بل من أجل ميل نفسه إليه بسبب قرابة أو جنس أو أي اعتبارات أخرى.(115/328)
إن ضبابًا كثيفًا يطغى على بصر الإنسان حينما يرى لمعان وبريق القيادة وقد تسلمها وتظل نفسه تحدثه ويمنيه هواه بالبقاء فيها، حتى وإن قل عطاؤه، حتى وإن قلت تضحياته.
حتى وإن أصبح صورةً، والأمور تدور من حوله دون أن يكون له فيها عمل ملموس، فتراه ينسى نفسه من أجل البقاء فيما مُنح له، ويعض عليه بالنواجذ.
إن من أعظم نعم الله ـ تعالى ـ على العبد المسلم أن يجعل صدره سليمًا من الشحناء والبغضاء نقيًا من الغلّ والحسد، صافيًا من الغدر والخيانة، معافى من الضغينة والحقد، لا يطوي في قلبه إلا المحبة والإشفاق على المسلمين.
لبئست الدعوة حينما تكون مغنمًا وجاهًا وشرفًا، ينتفخ فيها المرء ويتيه ويتبختر..! وبئس الدعاة ـ فضلاً عن قادتهم ـ حينما يسعوا لاهثين وراء زخرف عاجل وعرض قريب، وليعلم القادة ومن حُملت بأعناقهم مسئولية وأمانة هذا الدين أن هذا تكليف وليس تشريف، ليس شرفًا لك أن تكون قائدًا، بل تكليف تتحمل تبعاته يوم القيامة إن لم تقم بحقه.
وليعلم الجميع أن نصر الله سبحانه وتأييده لا يتنزل إلا على عباده المخلصين، الأخفياء، الأتقياء الذين تشرئب أعناقهم وتتطلع قلوبهم إلى النعيم المقيم، في مقعد صدق عند مليك مقتدر، قال الله تعالى: ?تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ?[القصص:83].
(3) القادة بين سلامة الصدر وحب الانتقام:
إن من أعظم نعم الله ـ تعالى ـ على العبد المسلم أن يجعل صدره سليمًا من الشحناء والبغضاء نقيًا من الغلّ والحسد، صافيًا من الغدر والخيانة، معافى من الضغينة والحقد، لا يطوي في قلبه إلا المحبة والإشفاق على المسلمين.
قد يجد المرء من بعض إخوانه أذىً أو يصيبه منهم مكروه، وربما يسرف بعض إخوانه في جرحه أو الحط من قدره.. ومع ذلك تراه يدعو الله ـ عز وجل ـ بقلب صادق أن يتوب على إخوانه، ويتجاوز عنهم، ويهديهم سبل الرشاد، ولا يجد في نفسه سبيلاً للانتقام أو الانتصار للنفس، وبقدر إدبارهم عنه وأذاهم له، يكون إقباله عليهم وإحسانه إليهم.
ما أجمل أن يتحلى القادة بهذا الخلق الرفيع متمثلين دائمًا قول الحق تبارك وتعالى: ?وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ، وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ?[فصلت:35].
وقول النبيصلى الله عليه وسلم فيما رواه عنه أبو هريرة رضي الله عنه: أن رجلاً قال: يا رسول الله! إن لي قرابة أصلهم ويقطعوني، وأحسن إليهم ويسيئون إلي، وأحلُمُ عنهم ويجهلون علي! فقال رسول اللهصلى الله عليه وسلم: ((لئن كنت كما قُلت فكأنما تُسِفُّهم الملَّ، ولا يزال معك من الله تعالى ظهير عليهم ما دمت على ذلك)) أخرجه مسلم، في كتاب البر والصلة، باب صلة الرحم وتحريم قطيعتها،.
لم يعلو قدر الإنسان، وتشرُف منزلته حينما يصل إلى هذه المنقبة العظيمة والخلة الكريمة التي لا يقوى عليها إلا ذوو الصدق، والإخلاص.. ولا يستطيع أن يصل إلى أعتابها إلا من جاهد نفسه حق المجاهدة، وفطمها عن شهواتها..؟!(115/329)
وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثًا إلى صحابي جليل أنه من أهل الجنة فلما ذهب إليه عبد الله بن عمرو بن العاص وبات عنده ثلاث ليال فلم يره فعل كبير عمل، فعجب عبد الله من حاله وسأله: ما الذي بلغ بك ما قال رسول الله r؟ فقال الرجل: «ما هو إلا ما رأيت، غير أني لا أجد في نفسي لأحد من المسلمين غشًا، ولا أحسد أحدًا على خير أعطاه الله إياه» فقال عبد الله: هذه التي بلغت بك، وهي التي لا نطيق مسند أحمد (3/166) بإسناد صحيح.
إن هذه الصفة الجليلة من الصفات التي رفعت أقدار الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ قادة الأمة فيما مضى ونحن نهيب بقادة الأمة ودعاتها أن يتحلوا بهذه الصفة الجليلة.
قال سفيان بن دينار لأبي بشير ـ وكان من أصحاب علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ أخبرني عن أعمال من كان قبلنا؟ قال: «كانوا يعملون يسيرًا ويؤجرون كثيرًا». فقال سفيان: ولم ذلك؟ قال: «لسلامة صدورهم» الزهد (2/600)..
ومن ثم فعلى القادة أن لا يشغلوا قلوبهم بما نالهم من الأذى وطلب الوصول إلى درك ثأرهم وشفاء أنفسهم بل يُفرغوا قلوبهم من ذلك، ويروا أن سلامة قلوبهم وخلوها من الثأر أنفع لهم وألذ وأطيب وأعون على مصالحهم، فإن القلب إذا اشتغل بشيء فاته ما هو أهم عنده وخيرًا له منه، فيكون بذلك مغبونًا، والرشيد لا يرضى بذلك، ويرى أنه من تصرفات السفيه، فأين سلامة القلب من امتلائه بالغل والوساوس وإعمال الفكر في إدراك الانتقام.
(4) القادة بين لين الجانب وموهبة القيادة:
القيادة موهبة توحي للمتلقي أن يتلقى أولاً، وأن يطمئن لما يتلقى ثانيًا، لكن أن يطيع وبدون هذه الثقة لدى المتلقي فلا يكون للتوجيه جدوى ولو كانت التوجيهات صحيحة.
أن تصدر الأمر هذا وحده لا يكفي.. ولو كان الأمر صحيحًا في ذاته وضروريًا في مناسبته. إنما ينبغي أن تكون لدى القائد القدرة على جعل المتلقي ينفذ ذلك الأمر، وإلا فالنتيجة أسوأ من عدم إصدار أمر على الإطلاق!
نعم قد يحدث أحيانًا أن يكون العيب في المتلقي؛ لأنه عاص متمرد شاذ الطبع لكن ليس كل إنسان طيب الخصال هو قادر على القيادة، فعلى القائد أن يكون له من شخصيته ما يفرض طاعته على الناس بغير سلطان وهكذا ينبغي أن يكون القادة، فالقيادة فن معاملة الطبيعة البشرية والتأثير في السلوك البشري وتوجيههم نحو هدف معين وبطريقة تضمن بها طاعته وثقته واحترامه.
ومركز القائد في الدعوة أي دعوة مركز حساس وما لم تتوفر في شخصيته الصفات القيادية اللازمة فسيبقى المركز القيادي مزعزعًا مضطربًا.
فالقدرة على القيادة فرع عن الشخصية القوية، ولكن هناك حالات تكون فيها الشخصية قوية في ذاتها ومع ذلك تكون عاجزة عن القيادة لفظاظة أو عزلة أو عزوف عن الناس أو رعونة وعدم حكمة
وسبحان موزع الطاقات وموزع الأرزاق فلا يقبلها إلا من يرى نفسه أهلاً لها ولقد كان في رسول الله صلى الله عليه وسلم من صفات العظمة الخارقة ما يحبب فيه أتباعه حبًا كان يغيظ قريشًا ويثير عجبها حتى قال أبو سفيان ـ قبل إسلامه ـ حانقًا: «ما رأيت أحدًا يحب الناس كحب أصحاب محمد محمدًا»!.(115/330)
وكان فيه من صفات القيادة والزعامة ما يجعله مطاع الأمر بين أتباعه بغير سلطان. وما كان له عليهم من سلطان قبل إقامة دولة الإسلام إلا سلطان الحب الخالص والإعجاب العميق، وكان شديد الاهتمام بهم، يرعى كل واحد فيهم كأنما هو صاحبه الأوحد أو صاحبه الأثير عنده. وكان يمنحهم من الحب ما تقر به نفوسهم فيطمئنون على مكانتهم عنده، ويبادلونه الحب بأقصى ما تستطيع نفوسهم الصافية.
ثم.. لقد كان عنده ما يعطيه.. وأي عطاء؟!
منهج الحياة كلها.. كبيرها وصغيرها.. دنياها وآخرتها.. روحها وماديها والنعمة الكبرى التي تؤهل الإنسان لرضاء الله.
(5) القادة بين الإمكانات وتحقيق الأهداف:
عندما يحالف العبد التوفيق، لتحقيق أهدافه التي يرسمها لنفسه فإنه يهتدي إلى: وضع الهدف الذي يتناسب مع حجمه، وطاقته وقدراته، ويحدد الفترة الزمنية للوصول إلى هذا الهدف، على سبيل التقريب، ويقوم بالتخطيط الذي يعين على حسن استخدام الوسائل لتحقيق الأهداف، وبالتالي يجند طاقته، ويضع كل شيء في مكانه وهو فوق ذلك كله يستعين بالله عز وجل ويتوكل عليه.
والمرء بهذه المثابة، لا يتعامل مع الأهداف والوسائل بالأسلوب الخيالي، فينسى طاقته وجهده ويضع لنفسه من الأهداف ما يجعله يضيع جهده ووقته دون جدوى، وهذا هو الذي يقع فيه بعض القادة أحيانًا فهم ـ بدافع الخير والحرص على تحقيق الأهداف العظيمة ـ قد يرنو ببصرهم إلى غايات عظيمة وأهداف سامية، غير ناظرين إلى وسائلهم المحدودة، فينظرون لأمور تحتاج إلى إمكانات عظيمة، ثم التحرك لتحقيق ذلك بإمكانات محدودة وكان الأولى في حقهم أن يجعلوا مثل هذا الهدف على مراحل متعددة حتى يصلوا إلى ما يريدوا، ولكنهم بهذا الأسلوب بددوا الطاقة دون تحقيق ما يريدوا فلا هم الذين وفروا على أنفسهم ما بذلوه من جهد ووقت وإمكانات مادية، ولا هم الذين حققوا ما يريدون.
ولا شك أن هذا يحتاج إلى الاستفادة من التجارب التي يمروا بها وأن لا يتكرر مثل هذا الخطأ، وأن لا يحملهم الطموح في تحقيق الخير إلى التسرع والتهور الذي لا يعود عليهم بخير.
(6) القادة بين الشورى واستبداد الرأي:
الاستبداد صفة من صفات التسلط وفرض الرأي بالقوة، وهو يقتضي تكميم الأفواه، وقطع الألسن فلا تتحدث إلا في مجال محدود لا تتجاوزه وبطريقة معينة لا تتغير..
بل ينطلق الاستبداد أحيانًا ليحجر على أفكار الإنسان وخواطره، بل أنفاسه وذفراته..!
ولقد وصف بعض الدعاة هذه الحالة من استبداد القادة بالجندي مع قائده، المطلوب منه أن ينفذ دون أن يفهم ولأن الظاهرة شملت قطاعًا آخر وهو مجتمع النساء فلقد وصفت إحدى الداعيات إلى الله عز وجل هذه الحالة من تكميم القادة للأفواه واستبدادهم بآرائهم بالديكتاتورية ومعاذ الله أن يكون هذا حكمًا عامًا يتساوى فيه جميع القادة، ولكن بعضًا قد يأخذ بنصيب وافر أحيانًا من هذه الصفة، وهذه الشريحة لا ينبغي إغفالها أو تجاهلها، والاستبداد الدعوي إن صح التعبير ـ ممارسة تربوية(115/331)
ذات أبعاد خطيرة، تقتل ملكات الإبداع والإنتاج، وتعطل الطاقات؛ ولذا كان لازمًا علينا أن نسلط الضوء عليها بجرأة، لعلاجها والتخلص منها.
ورحم الله شيخ الإسلام ابن تيمية حين قال: «المؤمن للمؤمن كاليدين تغسل إحداهما الأخرى، وقد لا ينقطع الوسخ إلا بنوع من الخشونة لكن ذلك يوجب من النظافة والنعومة، ما نحمد معه ذلك التخشين» الفتاوى (28/53).
أرأيت إلى ذلك القائد الذي لا يُحب أن يَسمع رأيًا غير رأيه، ولا يرضى باقتراح أو نصح من أحد، فإذا تكلم، فمن حوله سكوت، وإذا أشار فالناس له تبع، أتباعه ومريدوه حقهم السمع والطاعة، في المنشط والمكره، في العسر واليسر، في الخير والشر..!
مفهوم الشورى عنده إخبار الآخرين بما يرى فإن وافقوه فبها ونعمت، وإن خالفوه، فالشورى عنده مُعلمة لا ملزمة.
ولسان حالهم يقول من أنتم حتى تستشاروا أو تبدوا رأيًا يخالف قادتكم؟
هكذا توأد الأفكار، وتخنق الأصوات وتحطم ملكات الإبداع والإنتاج، وينزوي أصحاب الأفكار والملكات بعيدًا عن ساحة العمل الدعوي لأن الساحة لا تسعهم وقادتهم.
أخزى الله الاستبداد، فكم قتل من الطاقات، وكم قطع من طرقٍ للتصحيح والتغيير..!
إن مصادرة آراء الآخرين، وغلق الأبواب في وجوههم؛ يجعل جذور الخطأ تمتد إلى الأعماق، ثم يصعب تصححيها على الأقل أو تخفيفها؛ ومن ثم فنحن في حاجة شديدة إلى ترويض ومتابعة؛ لكي نتعلم كيف نقدر الرأي الآخر، وننجو من مصادرة عقول الآخرين.
ولقد كان السلف الصالح والأئمة الأخيار يختلفون فيقول قائلهم: «جائز ما قلت أنت، وجائز ما قلت أنا، وكلانا نجم يهتدى به فلا علينا شيء من اختلافنا» سير أعلام النبلاء (10/617).
إن الاستبداد خصلة لا يعجز عنها أحد في الغالب، وهو دليل على العجز والضعف. ولكن فتح أبواب المشورة، والتراجع عن الخطأ، واتساع الصدر للرأي المخالف، منزلة لا يرقى إليها إلا عباد الله المخلصين.
(7) القادة بين النصح في السر والنقد في العلن:
لقد كان من نتاج الصحوة المباركة أن توافد فئام من الشباب الغض إلى ركاب الصالحين؛ بل إن عامة أتباع الصحوة اليوم وحاملي لوائها هم من الشباب وليس ذلك بغريب؛ إذ إن ذلك سنة الله في الأمم السابقة واللاحقة.
وحين يتأمل المصلحون اليوم واقع الشباب يرون أن ثمة ثغرات ومواطن ضعف وخلل لديهم لابد من علاجها وتسديدها.
ويأخذ معظم الحديث في هذه الدائرة صفة النقد، ومع الحماس وتوقد العاطفة يتحول إلى نقد لاذع؛ كأن يقال الشباب مهملون في جانب العبادة ومقصرون في الدعوة، ومفرطون في حق الأخوة، وضعاف في العلم الشرعي، والتزامهم غير جاد إلى غير ذلك.(115/332)
إن النقد العلمي الموضوعي المعتدل مطلب لابد منه؛ لكن الإفراط في استخدام هذا الأسلوب من قبل القادة ينطوي على محاذير.
فهو يخرج جيلاً فاقدًا للثقة بنفسه، محطم الآمال، يشعر أنه مجموعة متراكمة من الأخطاء؛ بل إنه يشك في صدق انتمائه وصلاحه؛ إذ هو لا يسمع إلا النقد والتقريع ـ سواء نقدًا له مباشرة أو نقدًا لإخوانه.
ولا شك أن جيلاً يعيش هذه النفسية سيكون بعيدًا عن المزاحمة في ميادين العمل والنشاط الدعوي.
إن غير واحد حدثني أنه يُفضل أن يمكث في بيته يطلب العلم بدلا ًمن مزاحمته ميادين العمل مع كثير من النقد والتقريع.
وهذا لا يعني التخلي عن النقد، ولا عن بيان الأخطاء والحديث عنها لكن كون الأمر لا يروق لنا كقادة أو لم نألفه أو لم يُعجب فلانًا من الناس ـ أو حكم عليه فلان بأنه غير مناسب ـ مهما كان شأن هذا الشخص الذي أصدر هذا الحكم... كل ذلك إذا لم يكن منطلقًا من جانب شرعي مراعيًا فيه الآداب والأخلاق النبوية فلا يسوغ قبوله، فضلاً عن أن يكون سببًا في الحكم على إخواننا وإسقاطهم.
ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يبين الأخطاء ويثني أيضًا على أصحابه فليكن ذلك بتوازن واعتدال وإخلاص ولا يمنع أن يفوق المُرَبَى المربِي سواء في الفهم أو التحضير والإلقاء فالدعوة ليست حكرًا على أشخاص بعينهم.
وأخيرًا... فإن أهم ما أحب التأكيد عليه هو أن أتوجه بالنصح لكل قادة العمل الإسلامي بأن يتجردوا للحق من كل هوى وأن يؤثروا المصلحة العليا للإسلام والتنازل عن حظ النفس وهو الذي يخزي الشيطان، ويفوت على الأعداء ما يريدون، ويجمع القلوب على محبة الله ونصرة دينه ويحمل الصادقين على حسن التعاون وعلى التفاهم بروح المحبة والألفة التي يفرضها الإيمان.
والله أسأل... أن يطهر القلوب مما علق بها من الغل والحقد وسوء الظن وأن يجمعها على محبته وطاعته والدعوة إلى سبيله إنه على كل شيء قدير والله ولي الهداية والتوفيق.
ـــــــــــــــــــ
نظامنا المعرفي و أسباب التخلف الحضاري
د. ليلى بيومي
7/10/1427
ارسل تعليقك ...
لا توجد تعليقات ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
يمثل النظام التعليمي والمعرفي في أي مجتمع من المجتمعات الآلية الأهم والمرتكز الأبرز الذي ترتكز عليه الأجيال في ثقافتها وتنمية مداركها ويمثل ذلك النظام حجر الأساس في تحديد مستوى القدرة على التطبيق الفعلي للمعلومات النظرية المدروسة(115/333)
عبر سني التعليم , ويعتبر المنهج الإسلامي هو أول المناهج دافعية للإيجابية وتشجيعا للتطبيق للمعلومات المتعلمة , يقول ابن مسعود رضي الله عنه : " لم نكن نتعلم القرآن كتعلمكم ذلك , إنما كنا نتعلم عشر آيات بعشر آيات فإذا حفظناها وعملنا بها تعلمنا عشرا أخر " و يقول أحد السلف " هتف العلم بالعمل فإن أجابه وإلا رحل " ومنهج الإيجابية التعليمية وتطبيق النموذج المعرفي الناجح كما أنه سبيل التقدم والنمو فهو أيضا الوصفة المثلى للتأخر والتخلف إذا أهمل أو أسيء تنفيذه , وهو للأسف ما تشتكي منه معظم دولنا الإسلامية .
في حديث لصاحب شركة البرمجة العالمية " ميركروسفت " بيل غيتس قال – منتقدا نظام التعليم الأمريكي _ : (إن المدارس الأميركية باتت بالية، ومدارسنا الثانوية حتى عندما تعمل وتدار على النحو المخطط له، لا تستطيع أن تدرس التلاميذ ما ينبغي أن يحصلوا عليه من معرفة في عالم اليوم، وتدريب قوة عمل المستقبل في مدارسنا الثانوية بوضعها الراهن أشبه بمحاولات تدريس تلاميذنا علوم أجهزة الكمبيوتر الحديثة باستخدام الأجهزة التي ظهرت قبل خمسة عقود، جرى تصميم مدارسنا على نحو يجعلها قادرة على تلبية احتياجات القرن الواحد والعشرين، فإننا سنحد وربما نحطم، قدرات ملايين الأميركيين سنوياً).
ويعتبر المنهج الإسلامي هو أول المناهج دافعية للإيجابية وتشجيعا للتطبيق للمعلومات المتعلمة , يقول ابن مسعود رضي الله عنه : " لم نكن نتعلم القرآن كتعلمكم ذلك , إنما كنا نتعلم عشر آيات بعشر آيات فإذا حفظناها وعملنا بها تعلمنا عشرا أخر " و يقول أحد السلف " هتف العلم بالعمل فإن أجابه وإلا رحل "
فإذا كان هذا هو حال التعليم في الولايات المتحدة التي يعتبرها العالم أفضل نظم التعليم العالمية من ناحية التطبيق المعرفي والتقني فكيف يكون حال التعليم عندنا ، وكم هو بحاجة ملحة لإنقاذ روحه، أو ما بقي منها بعد؟!.
نحن لا نشك أن منهجنا الإسلامي التعليمي المعرفي هو أفضل المناهج وأعظمها على الإطلاق ولكن هذا المنهج السامي العظيم يفتقر في بلادنا للتطبيق والتنفيذ , إلا أننا في الواقع الحسير قد حاولنا التشبه بالغرب ونبذنا منهجنا الرائع ثم فشلنا في التشبه بإيجابيات النظم المعرفية والتعليمية الغربية وسقطنا في هوة عميقة من التخلف العقيم ..!!
إننا كثيراً ما نسمع في بلادنا العربية عن تطوير مناهج التعليم، ولكن ذلك كله يتحول ، مثل غيره من دعوات الإصلاح والتطوير، إلى جعجعة بلا طحين، يكثر الحديث فيها وعنها، من دون أن تجري ترجمتها على أرض الواقع إلى أفعال ملموسة، ربما لعدم توفر الرغبة والإرادة الصادقتين والجادتين، وربما لعدم توفر القدرة والإمكانية على ذلك أيضاً.
فمدارسنا وجامعاتنا مكتظة بأعداد ضخمة من الطلاب، تفوق قدرتها وطاقتها على الاستيعاب، والميزانيات المخصصة للتعليم، والثقافة عموماً، هي الأقل والأفقر قياساً إلى بقية دول العالم النامية وليس المتقدمة، كماليزيا التي تخصص 18% من ميزانيتها لتطوير التعليم والمناهج، على سبيل المثال لا الحصر، أما عن المستوى المادي والاجتماعي للمعلم عندنا، فحدث ولاحرج، ويكفي للمقارنة أن نذكر أن(115/334)
متوسط المرتب السنوي للمدرس في ألمانيا أو اليابان هو 50 ألف دولار سنوياً، بينما متوسط المرتب السنوي للمدرس في البلاد العربية الغنية هو 5 آلاف دولار، وفي البلاد العربية الفقيرة ألف دولار.
أساليب التعليم لدينا قديمة وبالية، أما أساليب التعليم الحديثة، في الدول الأخرى، فإنها تهتم على نحو متكامل بتنمية الفرد تنمية متوازنة في المجالات المعرفية المختلفة، مع الاهتمام بالبحوث والدراسات، مع ضرورة وجود مراكز خاصة لها، بما يساعد على إنتاج قوى عاملة مؤهلة ومدربة، يمكنها الحصول على فرصتها في العمل والحياة، وليس البطالة والتعطل.
إننا كثيراً ما نسمع في بلادنا العربية عن تطوير مناهج التعليم، ولكن ذلك كله يتحول ، مثل غيره من دعوات الإصلاح والتطوير، إلى جعجعة بلا طحين، يكثر الحديث فيها وعنها، من دون أن تجري ترجمتها على أرض الواقع إلى أفعال ملموسة،
وفي معايير التنمية يعتبر التعليم أحد العناصر الحاسمة في تحديد مستقبل أي مجتمع، فجوهر التنمية هو بناء البشر وتطوير قدراتهم بما يمكنهم من أن يصبحوا قوى كفؤة ودافعة للتقدم والتطور. وكلما ازداد الاهتمام بتطوير العملية التربوية والتعليمية، من حيث المحتوى والأدوات، كلما أصبح المجتمع أكثر قدرة على التعامل مع معطيات العالم المتغير بسرعة مدهشة.
والنمو الاقتصادي يعتمد الآن، بكل فروعه على نوعية المعلومة. وبات منتجو المعلومات يحتلون في السنوات الأخيرة، أهمية ومكانة تفوقان أهمية ومكانة منتجي السلع المادية. وأضحت صناعة الاتصالات وأجهزتها تتبوأ مكان الصدارة في الحياة الاقتصادية الدولية.
تحذير من الأمم المتحدة
أول تقرير مفصل نشره برنامج الأمم المتحدة الإنمائي UNDP حذر من خطورة تدني مستوى التعليم في العالم العربي، مؤكداً أنه على الرغم من الجهود التي بذلها العالم العربي في ميدان التربية والتعليم منذ منتصف القرن العشرين، أي بعد استقلال معظم الدول العربية، لازال مستوى التعليم دون معدل معظم البلدان النامية. فنسبة الأمية بين البالغين، وإن انخفضت من 60% إلى 43% في منتصف التسعينات، فإن التقرير يرى أنها عادت للارتفاع وأن العالم العربي دخل القرن الحادي والعشرين بعبء أكثر من 60 مليون أمي، غالبيتهم من النساء. ومن المتوقع ألا يستطيع العالم العربي القضاء على أمية الرجال قبل 2025، أما بالنسبة للنساء، فسوف لن يكون ذلك قبل 2040.
فقد رفعت الدول العربية نسبة الملتحقين بالمراحل التعليمية الثلاث، الابتدائي والمتوسط والعالي، من 31 مليون في الثمانينات إلى 56 مليون عام 1995، كما يعد العالم العربي أفضل من بعض الدول النامية فيما يتعلق بنسبة الدخل القومي العام الذي ينفق على التعليم.
وارتفع الإنفاق على التعليم في الدول العربية من 18 مليار دولار عام 1980 إلى 28 مليار دولار عام 1995. ولكن هذه الطفرة في نفقات التعليم بدأت تتراجع مع(115/335)
اعتماد العديد من الدول العربية برامج إصلاح هيكلي أدت إلى تخفيض الإنفاق على الخدمات العمومية.
ويرى التقرير أن الأنظمة التربوية العربية تفتقر إلى التنوع والى الجودة التي تسمح للطالب باقتناء المعرفة الضرورية للإبداع، والقادرة على مساعدة الدول العربية على الخروج من دوامة التخلف. وما هو أخطر في نظر معدي التقرير كون هذا النقص في جودة التعليم قد يهمش العالم العربي ويجعله عاجزا على مواكبة التطورات التكنولوجية والمعلوماتية في العالم.
وفي معايير التنمية يعتبر التعليم أحد العناصر الحاسمة في تحديد مستقبل أي مجتمع، فجوهر التنمية هو بناء البشر وتطوير قدراتهم بما يمكنهم من أن يصبحوا قوى كفؤة ودافعة للتقدم والتطور. وكلما ازداد الاهتمام بتطوير العملية التربوية والتعليمية، من حيث المحتوى والأدوات، كلما أصبح المجتمع أكثر قدرة على التعامل مع معطيات العالم المتغير بسرعة مدهشة.
وتقارير التنمية الإنسانية العربية تدق الناقوس
التقارير المتوالية للتنمية الإنسانية في الدول العربية لا تكف عن المطالبة بتقليص "الفجوة في المعرفة" التي تعاني منها هذه الدول عن طريق رؤية إستراتيجية قائمة على حرية الرأي والتعبير والتنظيم وضمانها بالحكم الصالح، ونشر التعليم وتطويره وتوطين العلم وبناء قدرات البحث العلمي، والتحول نحو نمط إنتاج المعرفة وتأسيس نموذج معرفي عربي أصيل.
وحسب هذه التقارير فإن الثقافة العربية في أوجها كانت هي المثال الذي كانت تحتذي به الثقافات الأخرى، قبل أن يضربها التخلف الثقافي في الوقت الذي تبرز فيه ثقافة عالمية جديدة.
وحالة المعرفة بشقيها من نشر للمعرفة وإنتاجها تعتريها في الدول العربية تنشئة قد تكبح الفكر، ويتهمها الكثيرون بالتذبذب بصورة تؤثر سلبا على عملية نمو الاستقلال والثقة بالذات والكفاءة الاجتماعية، والقدرة على التفكير، خاصة لدى الأطفال؛ وهو ما يجعلهم يعتادون منذ صغرهم على كبح التساؤل والاكتشاف والمبادرة.
ورغم ما حققته الدول العربية من توسع كمي في مجال التعليم على مدى النصف الثاني من القرن الماضي، إلا أن وضع التعليم ما زال متواضعا مقارنة بإنجازات دول أخرى، حتى في العالم النامي. والمشكلة الأخطر في التعليم في البلدان العربية هي تردي نوعيته، وهذا يقوض أحد أهم أهدافه الأساسية، وهو تحسين نوعية الحياة وإثراء قدرة المجتمعات.
ورغم انتشار الفضائيات فإن نسبة وسائل الإعلام لعدد السكان هي الدنيا في العالم العربي قياسا بالمستوى العالمي، كما أن أكثر من 70% من قنوات التلفاز العربية -وعددها نحو 1200 قناة- تخضع لإشراف الدولة التي تملك أيضا وكالات الأنباء، ونتيجة لذلك فإن أكثرية نشرات الأخبار والمواد الإعلامية المذاعة هي نشرات رسمية وسلطوية الطابع وهزيلة المضمون، وتكاد تقتصر على الأنباء الرسمية وأنشطة كبار رجال السياسة، وقلما تحمل معلومات أو أخبارا تغذي المعرفة النافعة للناس، أو تهم أغلبيتهم أو تعنى بشئونهم، وهو أمر لا يساعد على توسيع مداركهم(115/336)
ووعيهم أو تكوين وجهة نظر حيال الأحداث الجارية، سواء كانت قضايا وطنية أو إقليمية أو دولية.
تراجع الترجمة والبحث العلمي
ورغم أن الترجمة تعتبر من القنوات الهامة لنشر المعرفة والتواصل مع العالم؛ فإن حركة الترجمة العربية ما زالت ضعيفة، فمتوسط الكتب المترجمة لكل مليون شخص من العرب كان في السنوات الأولى من الثمانينيات يساوي 4.4 كتابا؛ أي أقل من كتاب واحد كل سنة، بينما بلغ 519 كتابا في المجر، و920 كتابا في إسبانيا.
والبحث العلمي في الدول العربية يعاني، هو الآخر، من شح الإنتاج، وضعف في مجالات أساسية، وشبه غياب في حقول متقدمة، مثل المعلوماتية والبيولوجيا الجزئية، ويعاني البحث العلمي أيضا من انخفاض الإنفاق عليه وغياب الدعم المؤسسي وعدم توافر البيئة العلمية المواتية لتنمية العلم وتشجيعه وانخفاض عدد المؤهلين للعمل في مجاله.
أما عملية ترويج نتائج البحث والتطوير فتواجه صعوبات وعقبات أساسية بسبب ضعف الروابط بين مؤسسات البحث والتطوير وقطاعات المجتمع الإنتاجية وقصور ملحوظ في ممارسة النشاطات الابتكارية، وبقي الجزء الأكبر من الإنجازات البحثية والتطويرية والإبداعية التي تتم في مؤسسات البحث والتطوير العربية غير مكتمل من حيث الوصول إلى حيز الاستثمار.
إن هناك 371 باحثا ومهندسا فقط من بين كل مليون مواطن في الدول العربية بالمقارنة مع المعدل العالمي وهو 979 لكل مليون. كما أن 1.6% من السكان العرب لديهم إمكانية استخدام الإنترنت بالمقارنة مع 69% في بريطانيا و79% في الولايات المتحدة. وهناك 18 جهاز كمبيوتر لكل ألف شخص عربي مقابل 78 جهاز كمبيوتر لكل ألف شخص في العالم.
وقد نجم عن البيئة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الطاردة تنامي ظاهرة هجرة العقول العربية، ويقدر عدد الجامعيين العرب المهاجرين إلى أوروبا وأمريكا عام 1995/1996 بـ75 ألفا، وكان عدد الأطباء العرب المهاجرين بين العامين 1998 و2000 حوالي 15 ألف طبيب.
ولعل أهم أسباب التخلف المعرفي في العالم العربي ترجع إلى وضع الحريات وحقوق الإنسان في الدول العربية مقارنة بدول العالم. فالقمع والتهميش في معظم البلدان العربية أسهما في قتل الرغبة في الإنجاز والسعادة والانتماء، ومن هنا ساد الشعور باللامبالاة والاكتئاب السياسي؛ ومن ثم ابتعاد المواطنين عن المشاركة في إحداث التغيير المنشود. وبسبب غياب التنافس والتداول تخضع المؤسسات العلمية في أحيان كثيرة للإستراتيجيات السياسية ، وتتقدم مقاييس الولاء في الاختيار للإدارة والترقية بدلا من الكفاءة والمعرفة، وأدى التقييد على البحث والإبداع العلمي إلى تكبيل العقول وإخماد جذوة المعرفة وقتل حوافز الإبداع في غالب الدول الإسلامية والعربية.
مستوى جامعاتنا العلمي متواضع(115/337)
وقد أكدت أبحاث عديد من العلماء على الأثر القوي للتعليم على الإنتاج وعلى التطور الاقتصادي والتقدم التقني، فخلف كل مظاهر التقدم التقني والاقتصادي تكمن جهود العلماء الباحثين في مختبراتهم. فمؤسسات البحث العلمي تلعب دورا مهما في تطوير الإنشاءات، وضمان نجاح التخطيطات الاقتصادية وتصحيحها وتقييمها. كما تؤدي البحوث إلى حدوث اكتشافات علمية تؤثر في طبيعة فهم الإنسان ونظرته إلى العالم وفي كشف مناطق جديدة من المعلومات والاحتمالات التطبيقية التي تتحول إلى وسائل وأدوات تكنولوجية للإنتاج والمواصلات وغيرها.
فالبحث العلمي هو استنباط للمعرفة، وتطوير لمنتج، وتخلف البحث العلمي في القطاع الصناعي أو الاجتماعي أو غيره يحول دون تطوير هذه القطاعات والتغلب على مشاكلها؛ وبالتالي فإنه لا يمكن مع هذا التخلف تطوير تكنولوجيات أو تحسين مستويات هذه القطاعات ولا النهوض بها ولا إنتاج الثروات.
إن الاستقلالية التكنولوجية، وإخضاع هذه المعارف وتطويرها رهين بالبحث العلمي وسياسة واستثمار الموارد البشرية، والجامعات بما تضمه من مخابر البحث، وورش التجريب ومدرجات التدريس تعد من أهم وسائل إعداد الطاقة البشرية وصقلها، وتنمية مهاراتها بالعلم والمعرفة والتدريب.
يلاحظ بعض الباحثين أن جامعاتنا لا تقر سياسات البحث العلمي، ولا تحدد أهدافًا إستراتيجية على المدى القصير ولا على المدى الطويل ولا المتوسط، ولا تضم البرامج السنوية للجامعات برامج بحوث بالمفهوم العالمي إلا نادرا، وغالبا ما تكون مشاريع البحوث المنجزة من تلقاء مبادرة فردية أو مجموعات بحث صغيرة.
فهذه الجامعات لم تكن مجالا للبحث العلمي قط. فقد انهمكت بعد حصول بلداننا على الاستقلال في تكوين الكوادر من أطباء وحقوقيين ومدرسين ورجال إدارة؛ ليحلوا محل الكوادر الاستعمارية، واستمرت هذه الوضعية ردحا من الزمن، وبعد ذلك عند دخول هذه الدول فيما يسمى بالتقويم الهيكلي الاقتصادي الذي أملاه صندوق النقد الدولي، قلت الاعتمادات المالية والنفقات الاستثمارية في التعليم وفي سائر القطاعات. فبدأت ظاهرة بطالة الخريجين التي ما زلنا نعانيها: طوابير من المتعلمين والكفاءات معطلة عن الإنتاج، لا تتاح لها فرصة القيام بدور منتج، مشلولة مهمشة، رغم الحاجة الوطنية الملحة إلى المتعلمين كافة وفي سائر التخصصات.
خلل في أركان المعرفة
وإذا كانت المعرفة منتَج اجتماعي واقتصادي معا، فإن ممانعات المعرفة أو منشطاتها في المجتمع العربي ترتبط بالسياق الاجتماعي الثقافي السائد.
وبالنظر في أركان مجتمع المعرفة، نعرف لماذا يقف المجتمع العربي ممانعا وعائقا أمام تأسيسها في فضائنا العربي. وهذه الأركان هي: حرية الرأي والتعبير، نشر وتعميم التعليم وردم الفجوة المعلوماتية، إنتاج المعرفة وتوظيفها بكفاءة في النسيج المجتمعي، وأخيراً إبداع نموذج معرفي ذي خصوصية ثقافية.
والاختلال في الأركان السابقة في الحالة العربية معروفة ومتفق عليه إلى جانب بعض مظاهر الخلل في الأداء السياسي، وسيادة السلطة الأبوية وقيم المحافظة في التنشئة العربية. وتخلف التعليم العربي وضعف الإنفاق على البحث العلمي،(115/338)
واستيراده عوضا عن إنتاجه يسم الحالة المعرفية العربية، حيث يسود الكم على الكيف في التعليم العربي، وتقف معدلات الأمية المرتفعة حائلا دون الانخراط في مجتمع المعرفة، وخاصة مع تدني نسب الالتحاق بالمراحل الأعلى من التعليم النظامي مقارنة بالمعدلات العالمية.
ويعتبر التعليم أهم أدوات عبور خط التقسيم الرقمي وتخطي الفجوة الرقمية، والتي يمكن تحديد موقعها من أسس أركان إقامة مجتمع المعرفة الأربعة التي هي: اتصال و إعلام، ثقافة مجتمع المعرفة وعلومه وأركانه، رأس مال بشري، ثم مستوى تعليم راق.
وربما كانت سيادة العقلية التلقينية، والقائمة على الحفظ والاجترار والتكرار في مؤسسات التعليم العربي من أهم عوامل إجهاض الدخول إلى مجتمع المعرفة الذي يشجع في المقابل الحوار والإبداع، والتعلم الذاتي، وثقافة السؤال. ويحتاج إنتاج المعرفة إلى وجود ثقافة معرفية متميزة في المجتمع تساندها وتشجعها وتبرز وتحترم قدرات التفكير والإبداع والسؤال والتأمل والبحث.
أهمية الإدارة الأهلية لمؤسسات التعليم
حينما تتاح الفرصة للمجتمع أن يؤسس مؤسسات أهلية يديرها بنفسه، فإنها في الغالب الأعم تكون أعلى كفاءة في الأداء، وأرقى نوعا في النتائج، وخذ في ذلك مثلا المدارس والمستشفيات الأهلية في بعض البلاد العربية، مقارنة بنظائرها الحكومية، فإنها في أغلب الأحوال تفوقها تنظيما وأداء ونتائج، حتى أصبحت المدرسة الحكومية في أكثر البلاد العربية عنوانا للفوضى، وتدني المستوى التعليمي، وضعف الخريجين منها، وأصبحت المدرسة الأهلية عنوانا لأضداد ذلك، وينطبق الأمر ذاته على المستشفيات والمؤسسات الصحّية، فكأنما هذه المؤسّسات إذن نهضت في أداء مهامها لما تحررت من ربقة الدولة، وتكفل بها المجتمع، وكأنما كانت الدولة هي العائق دون نهضتها.
والعقول المفكرة من أبناء الأمة تظل عاطلة أو تكاد عن الابتكار والريادة، ضئيلة الفاعلية في تحريك الواقع والتأثير فيه، وذلك حينما تكون تحت رعاية الدولة، وضمن مؤسساتها، وفي نطاق خططها وتوجيهاتها، فإذا ما تحررت منها، وهاجرت إلى فضاء خارجي، ظهر تفوقها وإبداعها في مجال العلم النظري، وتأثيرها وفعاليتها في مجال التنمية الواقعية، ووصلت في ذلك إلى أعلى درجات العلم والعمل، وذلك هو المفتاح الأساسي من مفاتيح النهضة، وليس أدل على ذلك من أن الجوائز والتقديرات العلمية العالمية، إنما حصلت عليها تلك العقول العربية، التي هاجرت من بلادها، التي تديرها الدولة الحديثة إلى البلاد الغربية، وكأنما إدارة تلك الدولة الحديثة، هي التي كانت تعيقها عن الإبداع، فلمّا تحررت منها أبدعت.
ـــــــــــــــــــ
الحرب على المناهج التربوية الإسلامية
الهيثم زعفان
12/9/1427
ارسل تعليقك ...(115/339)
لا توجد تعليقات ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
في أعقاب أحداث الحادي عشر من سبتمبر استحدثت آليات جديدة في إدارة الصراع مع العالم الإسلامي حيث وضعت مظلة عامة تتحرك تحتها تلك الآليات ألا وهي مظلة " الإرهاب " ذلك المصطلح غير المعروف والذي بناء عليه أعلنت الولايات المتحدة والغرب الحرب على المؤسسات الخيرية الإسلامية وكذا علماء ودعاة الإسلام بل كل ما هو إسلامي فأصبح الإسلام عند الغرب مرادفا للإرهاب!.
ولم يكتف القائمون على الصراع بذلك بل ذهبوا إلى أن ما يفرخ "الإرهابيين" بزعمهم هي تلك التعاليم الإسلامية التي يدرسها طلاب المدارس بالدول الإسلامية ومن ثم أعلنت الحرب الدولية على المناهج الإسلامية من أجل تنقيحها من كل ما لا يريده الغرب بل وإحلال ذلك بمادة تعمل على ترسيخ الاستسلام والخنوع والقبول بالأمر الواقع.
ونحاول من خلال هذا المقال – بإيجاز - إلقاء الضوء على وجهة النظر الغربية حيال المناهج التربوية الإسلامية والمطالب التي يطلبونها من حكومات الدول الإسلامية لتغيير تلك المناهج وكذا بعض الاعتمادات المالية التي تسخر لتغيير المناهج في بلداننا.
ويحتوي تقرير مركز الحريات الدينية على تفاصيل واقتباسات كثيرة من مناهج وكتب الدراسات الإسلامية منذ المرحلة الأولى الابتدائية وحتى المرحلة الثانوية
، حيث ينتقد التقرير الكتب الدراسية بأنها تعلم الطلاب أن العالم ينقسم إلى مؤمنين وكفار
ففي صحيفة الواشنطن بوست نشرت" نينا شاي" Nina Shea مديرة مركز الحريات الدينية بمؤسسة فريدوم هاوس Freedom House في واشنطن مقالاً بعنوان: "هذه هي المناهج السعودية -بعد إزالة التعصب-" حيث استهلت مقالها بزعم أن مناهج التعليم في المدارس الحكومية السعودية تناوئ الغرب وتكفر أصحاب الديانات الأخرى من مسيحيين ويهود وغيرهم. هذا المقال كما أشار تقرير واشنطن الصادر عن معهد الأمن العالمي World Security Institute بأمريكا هو خلاصة تقرير(38 صفحة) نشر بعنوان مناهج التعصب السعودية Saudi Arabia’s Curriculum of Intolerance والذي صدر مؤخرا عن مركز الحريات الدينية التابع لمؤسسة فريدوم هاوس بالتعاون معهد دراسات الخليج. والتي تعتبر كاتبة مقال الواشنطن بوست المحررة الرئيسة للتقرير.
تقول الكاتبة "إن إلقاء نظرة سريعة على نماذج من الكتب الرسمية للدراسات الإسلامية المستخدمة خلال العام الأكاديمي الحالي 2006 يكشف أن أيدلوجية الكراهية ضد المسيحيين واليهود والمسلمين لازالت واقعاً قائماً في النظام التعليمي على الرغم من كل التصريحات حول إزالتها وتعديلها". وهي بذلك تنتقد المناهج السعودية لتناولها أسس العقيدة الإسلامية الصحيحة بعيداً التحريف والمفسدة, هي تلومها على رعايتها لدينها ومؤسساتها العلمية وحفظ تراثها الرباني الخالد!(115/340)
ويحتوي تقرير مركز الحريات الدينية على تفاصيل واقتباسات كثيرة من مناهج وكتب الدراسات الإسلامية منذ المرحلة الأولى الابتدائية وحتى المرحلة الثانوية
، حيث ينتقد التقرير الكتب الدراسية بأنها تعلم الطلاب أن العالم ينقسم إلى مؤمنين وكفار " ومعلوم أن القران والسنة النبوية المطهرة هما اللذان أوضحا ذلك, وأن كل دين هناك من يؤمن به وهناك من يكفر به, وأن ذلك قد نطقت به كل الرسل وكل الرسالات ومن ثم فهو ليس تقسيم بشري اختياري.. فهل يريد التقرير تعديل الرسالات وكلام الأنبياء ليوافقا الهوى الأمريكي؟ إنما كان يجب على هذا التقرير وكاتبيه أن ينظروا ويبحثوا في مدى سماحة هذا الدين في معاملة غيره المختلف معه ومدى الحرية التي يمنحها للمخالف ومدى العدالة التي يقوم على أساسها بناؤه وحكمه.
كما ينتقد التقرير المساحة الزمنية المخصصة لتدريس المواد الإسلامية والتي وصفها أنها تشغل من ربع إلى ثلث الساعات الدراسية في المرحلة الابتدائية والإعدادية في المدارس السعودية، فضلاً على عدة ساعات من كل أسبوع في المرحلة الثانوية". وهذا انتقاد ليس له ما يبرره نظراً لكون المملكة العربية السعودية هي دولة الحرمين ومركز إشعاعي يضم كبار علماء الأمة وحري بها أن تخرج للأمة من يحملون لواء الإسلام بقيمه وأخلاقه التي لا مثيل لها في الرقي والسمو.
وهذا انتقاد ليس له ما يبرره نظراً لكون المملكة العربية السعودية هي دولة الحرمين ومركز إشعاعي يضم كبار علماء الأمة وحري بها أن تخرج للأمة من يحملون لواء الإسلام بقيمه وأخلاقه التي لا مثيل لها في الرقي والسمو .
التقرير خلص إلى القول أن التعليم هو صلب معركة الحرية في العالم الإسلامي، وأن فشل المملكة في إصلاح المناهج الدينية سيقوض فرص نجاح السياسة الخارجية الأمريكية فهل ستنجح الخارجية الأمريكية في تحقيق سياستها؟
في النهاية تعترف الكاتبة بفضل المعارض السعودي الشيعي "على الأحمد" المقيم في واشنطن في إعداد التقرير حيث أمدها بنسخ من الكتب الحديثة التي تدرس في المدارس الحكومية والتي لم تستطع أن تحصل عليها من خلال الحكومة السعودية.
بعد أيام قليلة من نشر المقال في صحيفة الواشنطن بوست عقد معهد أمريكان إنتر برايز ندوة بعنوان "الإصلاح في السعودية: كتب جديدة وأفكار قديمة" حيث أشار "تقرير واشنطن" إلى أن الإعداد السريع لعقد الندوة بعد أيام قليلة من صدور التقرير ونشر المقال يدل على وجود تنسيق بين إدارة معهد أمريكان انتربرايز وناشري التقرير. كما أشار أنه بذلك إنما يهدف إلى تفعيل الضغط من أجل اتخاذ قرارات جذرية لتعديل مناهج التعليم في المدارس.
في تلك الندوة كان الكلام أكثر انفتاحاً حيث بدأت محررة التقرير "نينا شاي" كلمتها بالتأكيد على أن هذه الكتب والمناهج هي التي أفرزت "الإرهاب" وطالب المشاركون في الندوة أن تقوم وزارة الخارجية الأمريكية بالإطلاع على هذه الكتب والمناهج ومن ثم التحرك للضغط على الحكومة السعودية من أجل القيام بتعديل حقيقي لمناهج تعليم الدراسات الإسلامية في مدارسها.(115/341)
إن الأمر لا يقتصر على هذا التقرير أو تلك الندوة لكنه صار سياسة مشتركة لدى المراكز البحثية الموجهة في الولايات المتحدة ففي الندوة السنوية لمركز الدراسات العربية المعاصرة في جامعة جورج تاون Georgetown University
نصحت "سيرا كيردار" Serra Kirdar الباحثة بجامعة هارفارد السلطات في البلدان العربية المتفاوتة بإعادة التفكير في الحصة المخصصة للمواد الدينية التي تستغرق 10 بالمائة من الوقت داخل المدارس المصرية و 33 بالمائة داخل المدارس السعودية. وانتقدت كيردار تلك المواد واصفة إياها بأنها برامج جامدة تقلل احتمالات الإبداع والتفكير الحر من قبل المدرسين والتلاميذ والمجتمع المحلي على حد سواء. كما اتفقت معها "إيلينور دوماتو" Eleanor Doumato الباحثة في جامعة براون الأمريكية حيث وجهت نقداً لاذعاً إلى برنامج التعليم الديني في المملكة العربية السعودية والتي وصفته بنشر "الكراهية نحو الآخرين".
أن الأمر جد خطير فصناع القرار في الغرب يوضحون أن تغيير المناهج الإسلامية هي من استراتيجيات الحرب على الإرهاب والمراكز البحثية الغربية موجهة جميعها إلى تأجيج حرب المناهج الإسلامية والجهات المانحة الدولية تضع كافة الاعتمادات اللازمة لإنجاح تلك الحرب
وعلى حد قول دوماتو فبرنامج تعليمية أخرى في تسعة دول عربية درستها الباحثة بالتفصيل – على حد زعمها - تنفي وجود تعددية داخل الإسلام بشكل عام حيث ترسم صورة للإسلام لا يوجد فيها الشيعة أو الزيدية أو البهائية أو أي طوائف أخرى.
ورأت الندوة أن أفضل نموذج لتعديل المواد الدينية هو ما تم بجامعة الزيتونة بتونس..! حيث كشفت الندوة على أن المسئولين بالزيتونة رأوا أن التعليم الديني بحاجة إلى أن يوسع تركيزة حتى يشمل الأديان غير التوحيدية مثل البوذية الهندية وديانات اليابان وذلك بجانب دراسات الأديان السماوية (الإسلام،المسيحية واليهودية)، وذلك نظراً إلى حجة المسئولين بعدم معرفة غالبية العرب بأي شيء عن طبيعة هذه الأديان وعلى ضوء ذلك تم إرسال هؤلاء الأساتذة إلى بعثات قصيرة إلى ألمانيا لدراسة الأديان المقارنة. فهل يراد للمدارس والجامعات العربية وباقي الهيئات التعليمية الإسلامية أن تحذو حذو جامعة الزيتونة ليرضى عنها الغرب؟!
إن الهجوم الحاد على المناهج الإسلامية قد لاقى صدى في بعض الدول العربية وقد استقبله بعض العلمانيين بالترحاب..!
ففي تقرير أعدته لجنة رسمية في دولة " الإمارات " خلُص إلى وجود حاجة لتعديل شامل في مناهج التربية الإسلامية في المدارس بسبب ما يسودها من الارتجال والعشوائية!
وقال التقرير الذي رُفع إلى الحكومة لاتخاذ قرار بشأن التوصيات التي انتهى إليها "إن المناهج تشتمل على قيم يهدم بعضها بعضاً بحيث تدفع بعض القيم إلى الإيجابية والفعالية، فيما يقود البعض الآخر إلى التواكل والتراخي والسلبية، وبعضها يدفع للتفاعل مع الآخر، وبعضها يغرس مفاهيم العداء للآخر والرغبة في استئصاله."(115/342)
أما عن الدعم المادي لتحقيق عملية غربلة المناهج الإسلامية من كل ما يعترض عليه الغرب - والذي يحتاج إلى موضع تفصيلي أكبر- نجد أن الجهات المانحة وضعت على قائمة أجندتها التمويلية تعديل المناهج الدينية في البلدان الإسلامية فعلى سبيل المثال وافق البنك الدولي على قرض بمبلغ 120 مليون دولار أمريكي لدعم تطوير نظام التعليم في " الأردن " على كافة المستويات بدءا من التعليم قبل المدرسي وانتهاء بالتعليم الثانوي كما وافق أيضاً البنك الدولي على تقديم قرض للعراق بقيمة 100 مليون دولار، من أجل العملية التعليمية في العراق والذي سيشمل الإنفاق على إعداد المناهج التربوية.
كما كشفت "لورا بوش"، عن برنامج جديد للمساعدات الأمريكية لأفريقيا يتضمن تقديم 15 مليون كتاب مدرسي لطلاب المدارس في القارة السوداء.
ويعتبر هذا البرنامج جزءا من مبادرة الرئيس الأمريكي جورج بوش للتعليم في إفريقيا، والتي بلغ حجمها 600 مليون دولار موزعة على كتب مدرسية، ومنحات دراسية، ومنح تدريبية للمعلمين.
وقد تم حتى الآن شحن أكثر من مليوني كتاب مدرسي إلى المدارس والمكتبات الإفريقية.
أن الأمر جد خطير فصناع القرار في الغرب يوضحون أن تغيير المناهج الإسلامية هي من استراتيجيات الحرب على الإرهاب والمراكز البحثية الغربية موجهة جميعها إلى تأجيج حرب المناهج الإسلامية والجهات المانحة الدولية تضع كافة الاعتمادات اللازمة لإنجاح تلك الحرب ومرتزقة المجتمع المدني العلماني في العالم العربي يقبضون التمويل ويعدون التقارير عن المناهج ويضغطون على الحكومات من الداخل ليدعم ذلك الضغط الخارجي..
وفي ظل غياب قوى التوازن من قبل علماء الأمة المسلمين وتكوين هيئة علمية شرعية للدفاع عن المناهج الإسلامية ونصح ولاة الأمور فنخشى أن تلقى تلك الدعوات قبولا في بعض الأوساط الحكومية وأن تستجيب الحكومات للضغوطات الخارجية والداخلية وتمحى البقية الباقية من الخير في مناهجنا.
ـــــــــــــــــــ
المدارس الأجنبية في بلادنا ... غزو آن له أن ينتهي
د. ليلى بيومي
25/8/1427
ارسل تعليقك ...
لا توجد تعليقات ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
في تقرير لروبرت ساتلوف مدير قسم السياسة والتخطيط في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى قال: " المدارس الأمريكية في البلاد العربية والإسلامية ليست مجرد(115/343)
صروح تعليمية رفيعة المستوى، بل هي سلاحنا السري في معركة أمريكا الأيديولوجية لأمركة المجتمعات العربية والإسلامية "
وفي مقالته يكشف روبرت ساتلوف النقاب عن وجود 185 نوع من المدارس الأمريكية منتشرة في 132 دولة , من بينها 50 مدرسة ( بفروعها ) في البلدان العربية والإسلامية، وأنها تخضع مباشرة لإشراف وزارة الخارجية الأمريكية من خلال مكتب خاص يسمى مكتب المدارس الأمريكية عبر البحار!
ويركز ساتلوف على اعتماد المدارس الأمريكية على مبدأ الاختلاط بين الذكور والإناث في جميع المراحل الدراسية، وعلى الدور الذي تقوم به في فرض نمط الحياة الأمريكية على طلابها من العرب والمسلمين من خلال الترويج للثقافة الأمريكية وأسلوب الحياة الأمريكية بين طلابها وطالباتها العرب والمسلمين.
هذه شهادة من أهلها نقدمها إلى قومنا في البلاد العربية والإسلامية الذين يرفضون صيحات التحذير من تلك المدارس التي تقوم بدور موجه لتغيير أنماط الفكر والسلوك لدى أبنائنا ومن ثم لدى الشباب
هذه شهادة من أهلها نقدمها إلى قومنا في البلاد العربية والإسلامية الذين يرفضون صيحات التحذير من تلك المدارس التي تقوم بدور موجه لتغيير أنماط الفكر والسلوك لدى أبنائنا ومن ثم لدى الشباب ويعتبرون ذلك انسياقاً وراء مفهوم المؤامرة الذي يجعلنا نعلق كل مشاكلنا على شماعة الغرب لنخلي مسؤوليتنا عنها.
إن التعليم هو أحد المحاور الرئيسة في تكوين الشخصية وصبغها بالشكل الذي تنمو عليه، وهو الذي يعمل على صياغة العقول والنفوس منذ الصغر.
وعلى سبيل المثال فإن المدارس البروتستانتية الأمريكية التي انتشرت في بلادنا مثلت في مجموعها منظومة تعليمية عملت على ربط أبناء هذه المدارس بالشكل الديني (البروتستانتي) وفيما بعد بمنظومة الحياة الأمريكية.
لذلك نجد نظام التعليم بها يصنع في عقول التلاميذ نوعا من الإكبار إن لم يكن التقديس للمنظومة الأمريكية، سواء في القيم أو العادات أو حتى في النمط الاستهلاكي؛ ومن ثم نجد أن أغلب المنتجات الأمريكية تستند في ترويجها إلى تلاميذ هذه المدارس الذين يزرعون في من حولهم حب التشبه بهم، فيمتد الترويج لما هو أمريكي بين الجميع.
وسائل ومضامين مسمومة
يقول د. إبراهيم الريس أستاذ مناهج التربية : إن خطورة هذه المناهج الأجنبية التي تدرس في المدارس الأجنبية في البلدان العربية أنها تحمل لنا وسائل وأدوات ومعاني مسمومة ومضامين ذات أبعاد إيديولوجية وسياسية تخالف تقاليدنا ومعلوماتنا ومعارفنا , بل ووصل الأمر في بعض الدول العربية للاستعانة بأمريكيين وأجانب لوضع المناهج الدراسية العربية، مما أثار انتقادات بشأن حذف مقررات دينية معينة أو سور قرآنية عن اليهود (لتسهيل التطبيع)، غير حذف بعض المعارك والبطولات العربية باعتبارها عنف لا مبرر له للطلبة!.
أما أخطر ما في هذه المناهج الأجنبية فهو تكريس وترسيخ معنى ذهني خطير في عقول الأجيال وهو ضرورة فصل الدين عن الدولة بمعانٍ مختلفة ومتداخلة وخفيةٍ(115/344)
والاتجاه بفكر هذه الأجيال إلى نهج الدولة العلمانية، وهذا الاستيراد الآلي غير المدروس والذي تتلقاه عقول أبنائنا على أرض هذه الدولة جاء في ظل غياب هيئة رقابية وطنية عليا مختصة، وعلى دراسة دقيقة بأمر هذه المناهج الأجنبية وفرزها وفق الأسس والضوابط الخاصة بتقاليد وأخلاقيات كل دولة، وليس هذا غريبًا، خصوصًا أن غالبية هذه المدارس والجامعات الأجنبية لا تخضع مناهجها للمراقبة من قبل وزارات التعليم في الدول العربية، وقد نتج عن ذلك حالات غريبة لتدريس كتب ومواد تخالف تاريخ وتقاليد وعادات المجتمعات العربية.
وعلى سبيل المثال فإن المدارس البروتستانتية الأمريكية التي انتشرت في بلادنا مثلت في مجموعها منظومة تعليمية عملت على ربط أبناء هذه المدارس بالشكل الديني (البروتستانتي)
فبجوار ما سبق كشفه من كتب تدرس في الجامعة الأمريكية بالقاهرة، تم كشف كتب أخرى مشبوهة تدرس في المدارس، ففي إحدى المدارس الأجنبية تم الكشف عن كتاب في مادة التاريخ كان يدرس للطلاب تاريخ قيام دولة إسرائيل، كما أن بعض المدارس تتعمد ألا تقدم شيئًا عن تاريخ الدول العربية والإسلامية ولا لغتها، وإذا تم تدريسها في بعض من تلك المدارس الأجنبية فإنه يدرس من وجه نظر أجنبية.
وهذا الأمر- كما يقول د. إبراهيم الريس- قد يؤدي في المستقبل إلى نتائج خطيرة وإلى تجزئه ثقافية في فكر المجتمع وإلى نوع من الاختراق الثقافي والاجتماعي والطائفي والسياسي والاقتصادي، وإلى نوع من التآكل الفكري والحضاري لكل مقومات الوطن الحضارية والتاريخية والدينية، وبالتالي اقتلاع كل الجذور التي صنعتها مؤسساتنا الاجتماعية والتربوية الوطنية في فكر المجتمع.
ليسوا أبرياء
ويذهب الخبير التربوي الدكتورعماد حسين إلى إن القائمين على التعليم الأجنبي من الأجانب لم يأتوا إلى بلاد المسلمين أبرياء من الهدف، وبالتالي لابد أن نبحث عن الأهداف التي تركوا بلادهم وأهلهم من أجلها، لا توجد أعمال خيرية في العلاقات الدولية، ولذلك فإن هناك أهدافا غير بريئة من وراء وجود المدارس الأجنبية في أراضي المسلمين.
والمستعمرون أنفسهم اعتبروا السياسيات التعليمية أحد أهم المحاور التي يجب السيطرة عليها؛ ولذلك وجدنا دانلوب في مصر يقوم بوضع برامج تخدم إنجلترا، والسلطة الفرنسية في الجزائر منعت التعليم باللغة العربية، وأغلقت كافة المدارس الإسلامية بما يتيح لثقافتها أن تسود.
القادمون إلى بلادنا من الغرب يحملون أهدافا تركوا من أجلها راحتهم وبلادهم، وعلى هذا فهم قد تفرغوا للقيام برسالة يؤمنون بها، وهي ألا يتكرر مشهد الفتوحات الإسلامية مرة ثانية، سواء ما حدث في العهد الأول من الدولة الإسلامية، أو ما حدث على يد الدولة العثمانية من محاصرة العواصم الأوربية تحت راية الإسلام، وبالتالي فهم يهدفون بشكل أساسي إلى تمييع المعاني والعقائد الإسلامية؛ حتى لا يتكرر مثل هذا الجيل مرة ثانية؛ ولهذا فإن ما يتوجه إليه الغرب الآن من توجيه قدراته نحو المناهج والمدارس الإسلامية ليس إلا حلقة جديدة في هذا المخطط.(115/345)
مأوى للتبشير والاستعمار
أما أخطر ما في هذه المناهج الأجنبية فهو تكريس وترسيخ معنى ذهني خطير في عقول الأجيال وهو ضرورة فصل الدين عن الدولة بمعانٍ مختلفة ومتداخلة وخفيةٍ والاتجاه بفكر هذه الأجيال إلى نهج الدولة العلمانية،
يذهب د. محمدي سلامة أستاذ التاريخ إلى أن المدارس الغربية في البلاد العربية والإسلامية مأوى للتبشير والاستعمار معاً، وهي تجعل من نفسها داعية لدين غير دين البلاد، كما تجعل من نفسها حكومة داخل حكومة البلاد، وفي ذلك إهدار للاستقلال، ومدعاة للفساد.
إن الأمم الحريصة على توحيد كلمتها وتوحيد آمالها، تصب أبناءها في قالب واحد، حتى يكونوا متفقين متساندين، أما هذه المدارس فتجعل أبناء البلاد شيعاً كل طائفة تصطبغ بصبغة خاصة، وهنا تتضارب الميول، وتتنازع الآمال، ويكون أبناء البلد الواحد، بعضهم أعداء بعض وفي ذلك من الفساد ما لا يخفى.
ويضيف د. محمدي أن من الخطأ أن يُسلِم الوالد ولده إلى المدرسة التبشيرية لتأخذه عدة سنوات، فتتسلمه ولداً صحيحاً بعقيدته وثقافته ودينه، ثم بعد حين ترده إلى أهله وأمته وبلاده ولداً مزيفاً، ما كان فيه قد أُخِذَ منه، وما أعطيه ففاسد لا جدوى منه ولا منفعة.
وليس من المعقول ولا من الجائز أن تستورد أمة لها شخصيتها ورسالتها، ولها عقائدها ومناهج حياتها، ولها طبيعتها ونفسيتها، ولها تاريخها وماضيها، ولها محيطها الخاص وظروفها الخاصة، أن تستورد نظاماً تعليمياً من الخارج، ولا أن تكل وظيفة التعليم والتربية وتنشئة الأجيال، وصياغة العقول إلى أناس – مهما بلغوا من البراعة في التدريس، وإتقان اللغات والفنون- لا يؤمنون بهذه الأسس والعقائد، ولا يتحمسون لشرحها وتعضيدها.
ازدواج لهوية الطفل
ومن جانبه يؤكد الأستاذ الدكتور يونس الحملاوي الأستاذ في جامعة الأزهر والأمين العام للجمعية المصرية لتعريب العلوم : أن التعليمَ باللغات الأجنبية للأطفال دون سن الثانية عشرة يؤدي إلى حدوث التشويش اللغوي لديهم فتختلف عليهم الحروف العربية والحروف الأجنبية، وتوجد دراسات أخرى حول قضية الازدواج اللغوي وخطورة هذا الازدواج على هوية الطفل وانتمائه الحضاري؛ لأن فرنجة اللسان قد يستتبعها فرنجة العقل والسلوك، وهنا مكمن الخطورة، وتؤكد تلك الدراسات على ضرورة أن يتعلم الطفل في بدايات حياته باللغة العربية حتى إذا أتقنها اتقانًا تامًّا نبدأ في تعليمه اللغات الأجنبية حتى لا يُعاني الازدواج اللغوي.
ومخاطر التدريس باللغات الأجنبية ليست مقصورة على مستوى ما قبل الجامعة، ولكن هناك مخاطر التدريس داخل جامعاتنا العربية باللغات الأجنبية، وهي مخاطر واضحة على كفاءة العملية التعليمية وكفاءة الخريجين وإهدار الأموال على تعليمٍ يعطي مردودًا متدنيًا إلى جانب العدوان على اللغة العربية وإهانتها في وطنها فلا توجد دولة في العالم تقوم بتدريس العلوم التطبيقية بغير لغاتها القومية، فاليابانيون يدرسون تلك العلوم باليابانية والصهاينة بالعبرية والألمان بالألمانية.. وهكذا،(115/346)
جامعاتنا فقط هي التي لا تعرف أهمية اللغة العربية وتشعر بالدونية أمام اللغات الأجنبية.
كما أن استمرار التدريس باللغات الأجنبية يجهض أي مشروع لإنتاج المعرفة والإبداع في المجالات المختلفة؛ لأن هناك حقيقةً تربويةً ونفسيةً تؤكد أن الإنسان لا يستوعب العلم ولا يستطيع أن يُبدع إلا من خلال لغته القومية، والمتأمل في المستوى العلمي للخريجين من الكليات التطبيقية يفاجأ بتدني هذا المستوى وعدم قدرتهم على الاستيعاب وضعفهم في اللغتين العربية والأجنبية معًا، وهناك دراسات مصرية وأردنية وسعودية تشير إلى أن كفاءة التعليم والتعلُّم باللغة الوطنية تفوق بكثير التعليم والتعلم باللغة الأجنبية، وهذه الدراسات موجودة ومنشورة.
وجهة نظر مخالفة
إلا أن هناك وجهة نظر أخرى تتبناها د. كوثر كوجك خبيرة المناهج التي ترى أن التعليم الأجنبي مدخل معقول للتغلب على مشكلات التعليم الحكومي، وأننا يجب أن نختار بين تعليم أجنبي حديث فيه بعض السلبيات التي قد تؤثر في الهوية والثقافة واللغة العربية، وتعليم حكومي مليء بالسلبيات ولا يواكب العصر , وتقول إن الكثيرين يصورون التعليم الأجنبي على أنه كلَّه شرور، والهدف منه تغريب المجتمع والأمة، وإبعادنا عن الدين الإسلامي، وفي هذا مبالغة – بحسب قولها - لأن المتأمل للتعليم الأجنبي يجد أن له إيجابيات ، واختيار التعليم الأجنبي قد يعكس رغبة جدية في النهضة، ومواكبة العصر، والإفلات من حالة التخلف. كما ترى أنه من المهم في هذه الحالة التأكيد على دور وسائل التنشئة الاجتماعية الأخرى لتفادي ما يحدث من خلل ومن سلبيات، ونعني بشكل خاص التربيةَ الأسرية، ودور المؤسسات الإعلامية والتعليمية والدينية , وقد يكون لوجهة نظر الدكتورة كوثر صدى لدى بعض المشجعين للثقافة الانفتاحية الغير مقيدة بضوابط البيئة الإسلامية وقيمها , إلا أن هذا الكلام لا يمكن أن يعدو الحديث النظري الخالي من التدقيق والبحث العلمي حيث ثبت بما لا يدع مجالا للشك الدور السلبي والتغريبي الخطير الذي تقوم به هذه المدارس التي يغلب عليها الفكر التبشيري المتحرر
أهداف تربوية مختلفة
ترى د. بثينة عبد الرءوف رمضان أستاذة التربية أن المدارس الخاصة التي تقوم بتطبيق نظام تعليمي أجنبي انجليزي أو أمريكي أو فرنسي أو كندي تقوم بتدريس مناهج تختلف حسب البلد التابعة له وتحقق الأهداف التربوية للبلد الأصل، ومعظم هذه المدارس ارتبط دخوله إلي مصر في الماضي بفترات الاستعمار، والمدارس التي تقوم بتدريس المنهج الأمريكي هي الأكثر انتشارا في بلد مثل مصر. إن هناك اختلافا بين كل من نظام التعليم الأمريكي والتعليم المصري من حيث مرجعية الأهداف، وهذا يعني أن هناك اختلافا في النتائج، والتي يمكن تلخيصها في ثلاث نقاط، أولا، دخول الأطفال في سن مبكرة إلي المدارس الأمريكية يؤدي إلي صراع داخل الفرد لتشكيل الهوية. ثانيا: تسهم المناهج الأمريكية في نقل القيم الأمريكية بما يؤدي إلي ضعف الولاء والانتماء للمجتمع المصري. ثالثا: تعلم المدارس الأمريكية علي تهميش الثقافة الوطنية واللغة القومية.(115/347)
اللغة هي الوسيلة الوحيدة التي يستطيع بها الإنسان إدراك هويته، فإذا فقدت الأمة لغتها فقدت هويتها. ومن حق الشعوب تعلم اللغات الأجنبية بما لا يؤثر علي اللغة الأم وينعكس سلبا علي الهوية القومية. إن عصر العولمة يتطلب معرفة بمختلف اللغات مع ضرورة الاحتراس من أضرارها. وتعلم التلاميذ اللغات الأجنبية في سن مبكرة لا ينبغي أن يكون علي حساب اللغة الأساسية لتلك الجماعات والأمم. فاللغة الأساسية هي التي تؤثر في وجدان الشخص، أما اللغات الأجنبية علي أهميتها فلا تؤثر في وجدانه. إن اللغة تمثل حلقة وصل بين الماضي والحاضر والمستقبل.
تفكيك ثقافي
أما د. حامد عمار - شيخ التربويين المصريين- فلا يستبعد، بل يرجح، من المنظور الثقافي، أن التعليم الأجنبي أو باللغة الأجنبية قد يراه الغرب وسيلة لتكوين عقلية وثقافة تخفف ما يزعمونه من أن نظم تعليمنا ومناهجها وأجواءها مصادر لتوليد العنف الذي قد يشتط ليصل إلي مرحلة يسمونها الارهاب, وبذلك يصبح التعليم الجديد أداة للاندماج في ثقافة الغرب وقيمه والتقدير الوافر لها ولفرصها في العمل. ويكفي هنا أن نشير إلي دعاوي اليمين المسيحي الصهيوني في أمريكا، وإلي تنظيرات هنتنجتون وفوكوياما في اعتبار الإسلام العدو الحالي لحضارة الغرب في صراع الحضارات بعد زوال الاتحاد السوفييتي عدوهم السابق.
وثمة علاقة بين اتفاقية الدول الثماني الكبرى بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، فيما عرف بمشروع الشرق الأوسط الكبير، من أجل إعادة تشكيل خريطة المنطقة، وتفكيك الروابط والوشائج التاريخية والثقافية بين الدول العربية، وإذ تعتبر تدريس اللغة العربية والتعليم من خلالها عقبة في تحقيقه. وينبغي العمل علي استبداله بلغة أجنبية، بما يعين علي التخلخل الثقافي، بل ذوبان ما تبقي من عوامل التواصل والارتباط في دائرة الوطن الغربي.
وباختصار فإن موجة التعليم باللغة الأجنبية، إنما تتجه في تعليمها إلي الخارج، إلي السوق العولمي إلي إنتاج الفرد السوقي، لا المواطن العربي المسلم. يتم ذلك في مؤسسات وثقافات تتسرب دون وعي يقظ منا لأهدافها المستترة تحت مظلة نشر العلم والمعرفة الجديدة لصالح سياقنا الإنمائي والحضاري والديمقراطي. وهو شعار حق يراد به باطل من حيث مخاطره والتي قد تؤدي إلي ذوبان هويتنا الحضارية، بل وانسلاخ أجزاء الوطن العربي من ثقافتها وتراثها الحي ولغتها ومصالحها.
ـــــــــــــــــــ
التربية الإيمانية ..مفاهيم أساسية
خالد روشه
7/8/1427
ارسل تعليقك ...
تعليقات سابقة ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
Khaled_rousha@yahoo.com(115/348)
إن لشخصية القائد المربي المعلم الأثر الكبير في صياغة التكوين الفكري والسلوكي والنفسي لمتعلميه ومتربيه والعاملين معه؛ ولسلوكه وطريقته في الأداء والتعليم والتوجيه والتربية أكبر الأثر في التقدم بنجاح نحو الأهداف الفردية لكل فرد من المحيطين به وكذلك في الإنجازات العامة.
ومسألة التربية الإيمانية والتزكية النفسية, تحتاج - بوجه خاص - إلى موجه عليم يأخذ بيد الأفراد, ويقوّم سلوكهم, ويعينهم في علاج أمراضهم, ويعلمهم العلم, ويتدرج معهم من مستوى إلى آخر ومن إنجاز إلى آخر وفق منهج علمي تربوي مدروس.
ولقد سارت العملية الإيمانية العلمية دومًا بمساعدة القادة المؤمنين والعلماء الربانيين والدعاة المخلصين, وما علمنا أحدًا نجح في الوصول إلى المستويات العالية السامقة وليس له قدوة أو معلم أو موجه, حتى الذين حالت ظروفهم دون التعليم المباشر من معلمين لطالما حاولوا الاقتداء بالصالحين والعلماء عن طريق سيرهم وخطواتهم وكتبهم وتوجيههم, وكانوا يشعرون بغاية الألم والحزن من نقص المعلمين والمربين من حولهم الذين يبينون لهم الطريق وييسرون لهم العلوم ويدفعونهم إلى العلا دفعًا...
ولقد سارت العملية الإيمانية العلمية دومًا بمساعدة القادة المؤمنين والعلماء الربانيين والدعاة المخلصين, وما علمنا أحدًا نجح في الوصول إلى المستويات العالية السامقة وليس له قدوة أو معلم أو موجه, حتى الذين حالت ظروفهم دون التعليم المباشر من معلمين لطالما حاولوا الاقتداء بالصالحين والعلماء
ونؤكد هنا حول عدة محاور مهمة في دور المربي :
- من السلبية إلى الإيجابية :
يبدأ المرء حياته الإيمانية محملاً بتصورات شتى عن الكون والحياة والإسلام, وتكون معظمها تصورات سلبية لم يوجهه فيها أحد أو يعلمه أحد, وإنما تكون معظمها مستقاة من واقع المجتمع الذي ظل عمره يعيش بداخله, فتأثر بأدوات الإعلام فيه وبالقيم والمبادئ السارية فيه.
وكان دومًا ما يرى مبادئ الإسلام الحقة مستغربة عنه لم يجد هناك من يوجهه إليها ولا من يربيه عليها, ولكن اكتفى ذلك المجتمع منه بحاله , ولم يكن ذلك المجتمع أن يقوى إيمان هذا المسلم أو يدفعه إلى الطاعات والعبادات, ولكن كان دومًا ما يبث فيه التصورات السلبية تجاه ما يحيط به من حياة.
وللمعلم هنا دور بالغ الأهمية في تعديل تلك التصورات السلبية واستبدالها بتصورات إيجابية إيمانية تجاه الناس والحياة والعبادات وغيرها من تصورات الإسلام وقيمه.
وهو دور صعب في واقع الأمر ويصعب أن يقوم به معلم وحده, ولكن ينبغي أن تكون هناك مؤثرات أخرى تؤثر على ذلك الإنسان ليستبدل تصوراته تلك السلبية بأخرى إيجابية إيمانية.
ونحن في هذا المقام نوجه النظر إلى مجموعة تصورات ينبغي التأكيد على تغييرها فاتحين المقام لكل معلم أن يوجه سلوك متعلميه إلى الأحسن والأفضل دومًا.
- وجوب رحمة الدعاة وشفقتهم بالناس وحبهم لهم :(115/349)
على الداعية إلى الله أن يكون رحيما شفيقا على الناس , يريد لهم الخير والنصح, فيدعوهم إلى شرائع الدين, ويحب لهم ما يحبه لنفسه من الإيمان والهدى, فالداعي الرحيم لا يكف عن دعوته ولا يسأم من الرد والإعراض؛ لأنه يعلم خطورة عاقبة المعرضين العصاة وهو يعلم أن إعراضهم بسبب جهلهم, فهو لا ينفك عن إقناعهم وإرشادهم.
وهو حليم بهم رحيم محب لهم, شفيق عليهم وله في ذلك قدوة في رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128].
*وعن جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من يحرم الرفق يحرم الخير كله) رواه مسلم.
فإنه قد ساد في مجتمعات المسلمين مفهوم خاطئ تجاه الذنب والمعصية, وهو أنه لا بأس للإنسان من أن يرتكب الذنب تلو الذنب والمعصية بعد المعصية, وإذا أنكر عليه أحد أو نصحه أو عاتبه رد عليه بأن الله غفور رحيم, وأنه سبحانه سيغفر الذنوب في أي وقت ولا بأس بأن يظل الإنسان يعبث بدينه ويجاهر ربه بالآثام لأنه في أي وقت سوف يتوب ويتوب الله عليه.
*وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (ألا أخبركم بمن يحرم على النار - أو بمن تحرم عليه النار؟ - تحرم على كل قريب هين لين سهل) أخرجه الترمذي
وهكذا كان الأنبياء جميعًا رحماء بمن أرسلوا إليهم مشفقين عليهم من العذاب
ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يغضب لنفسه من الناس أبدًا, فعن أنس رضي الله عنه قال: "كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه بُردٌ نجراني غليظ الحاشية, فأدركه أعرابي فجبذه بردائه جبذة شديدة, فنظرت إلى صفحة عاتق النبي صلى الله عليه وسلم وقد أثرت بها حاشية البُرد من شدة جبذته, ثم قال: يا محمد مُرْ لي من مال الله الذي عندك, فالتفت إليه فضحك ثم أمر له بعطاء"متفق عليه
* وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: كأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكي نبيًا من الأنبياء - صلوات الله وسلامه عليهم - ضربه قوم فأدموه وهو يمسح الدم عن وجهه ويقول: (اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون) متفق عليه
والرحمة تهون على الداعي ما يلقاه من أصحاب الغفلة والجهالة؛ لأنه ينظر إليهم من مستوى عال رفيع أوصله إليه إيمانه بربه وصلته به, ولذا فهو ينظر إليهم كصغار يعبثون, والشأن في الصغار العبث والجهل وعدم الإدراك لما ينفعهم؛ ولذلك لا يعجب الداعي من مقابلة نصحه لهم بالإعراض والصدود والأذى, ولكنه يعيد الكرة عليهم ومعهم ويتحمل أذاهم ويدعو لهم بالهداية.. أصول الدعوة
- على الداعي إلى الله سبحانه أن يعفو وأن يغفر وأن يسامح :
وأن يتصف بالحكمة في المعاملة مع الناس ومع المجتمع الذي هو فيه, وأن يقيس المصلحة والمفسدة في كل عمل يعمله حتى وإن كان عمل خير أو أمرًا بمعروف أو نهيًا عن منكر.(115/350)
ذكر ابن الجوزي عن ميمون بن مهران أنه قال: سمعت ابن عباس يقول: "ما بلغني عن أخ مكروه قط إلا أنزلته إحدى ثلاث منازل: إن كان فوقي عرفت له قدره, وإن كان نظيري تفضلت عليه, وإن كان دوني لم أحفل به, هذه سيرتي في نفسي, فمن رغب عنها فأرض الله واسعة"صفة الصفوة
أهل السنة والجماعة لا يخرجون أحدًا من الإسلام فَعلَ فعلاً مكفرًا, إذا كان جاهلاً أو متأولاً أو مكرهًا - إن كان قلبه مطمئنًا بالإيمان - إلا بعد إقامة الحجة عليه التي يكفر تاركها , وقد عهد الإسلام إقامة الحجة للعلماء الشرعيين الراسخين والقضاة الشرعيين المرضيين
وعن حميد الطويل عن أبي قلابة قال: إذا بلغك عن أخيك شيء تكرهه فالتمس له العذر جهدك, فإن لم تجد له عذرًا فقل في نفسك: لعل لأخي عذرًا لا أعلمه
وعن ابن المديني قال: سمعت سفيان يقول: كان ابن عياش يقع في عمر بن ذر ويشتمه, فلقيه عمر فقال: يا هذا لا تفرط في شتمنا وأبق للصلح موضعًا, فإنا لا نكافئ من عصى الله فينا بأكثر من أن نطيع الله فيه
وقال يونس الصدفي: ما رأيت أعقل من الشافعي, ناظرته يومًا في مسألة ثم افترقنا ولقيني فأخذ بيدي, ثم قال: يا أبا موسى ألا يستقيم أن نكون إخوانًا وإن لم نتفق في مسألة؟!
وقال ابن السماك - لما قال له صديق له: الميعاد بيني وبينك غدًا لنتعاتب - قال له: بل بيني وبينك غدًا لنتغافر.
وفي الحقيقة جواب ابن السماك يأخذ بمجامع القلوب, ملؤه فقه وواقعية يشير إلى وجود قلب وراء هذا اللسان يلدغه واقع المسلمين وتؤلمه أسباب تفرقهم, فلماذا التعاتب المكفهر بين الإخوة؟ كل منهم يطلب من صاحبه أن يكون معصومًا؟ أليس التغافر أولى وأطهر وأبرد للقلب؟ أليس جمال الحياة أن تقول لأخيك كلما صافحته: رب اغفر لي ولأخي هذا, ثم تضمر في قلبك أنك قد غفرت له تقصيره تجاهك؟ أوليس عبوس التعاتب تعكيرًا تصطاد الفتن فيه كيف تشاء؟ بلى والله..العوائق
- الحكمة في معاملة الناس والمجتمع:
فالدعوة إلى الله تقوم على الحكمة والموعظة الحسنة, وتظهر الحكمة في معرفة المناسب لكل مجتمع من أساليب الدعوة مما يتلاءم مع عاداته وصفاته وأحواله, وكذلك المناسب من الدعوة لكل فئة من الناس, والداعية الحكيم لا يقول كل ما يعرف لكل من يعرف, وهو يتعامل مع العقول حسب مقدرتها لا حسب مقدرته ولا يحملها فوق طاقتها.
وقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عباس فقال: (اللهم علمه الحكمة) رواه البخاري , وقد فهم ابن عباس - رضي الله عنهما - قول الله تعالى: {كُونُوا رَبَّانِيِّينَ} فقال: "كونوا حكماء فقهاء", وقال الحافظ: والرباني الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره
والبدء بصغار العلم مرجعه مراعاة العقول حتى لا تنفر من الدعوة, قال الحافظ: والمراد بصغار العلم ما وضح من مسائله وبكباره ما دق منها.(115/351)
قال البخاري رحمه الله: "باب من ترك بعض الاختيار مخافة أن يقصر فهم بعض الناس عنه فيقعوا في أشد منه, ثم ساق حديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يا عائشة لولا أن قومك حديثٌ عهدهم لنقضت الكعبة فجعلت لها بابين؛ باب يدخل الناس وباب يخرجون), قال ابن الزبير: (حديث عهدهم) يعني بكفر, قال ابن حجر: "ويستفاد منه ترك المصلحة لأمن الوقوع في المفسدة" فتح
فالحكمة إذن تكون في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أيضًا, وللأسف فإن كثيرًا من الدعاة إلى الله يفتقرون الحكمة في التعامل مع مجتمعاتهم ودعوتها.
وعلى المعلمين والمربين بيان معاني الحكمة لطلبتهم وللمدعوين, وعليهم أن يعلموهم اجتناب خوارم الحكمة وموانعها وهي كالتالي - باختصار -:
1ـ الهوى وعدم التجرد:
قال تعالى: {وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [ص: 26].
2ـ الجهل:
قال سبحانه: {وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا الْعَالِمُونَ}[العنكبوت:43].
3- الاستدلال بالأدلة في غير موضعها أو الأخذ بظاهر النص دون فهمه ,
4ـ الاعتداد بالنفس وعدم مشاورة الأكثر خبرة وتجربة وعلمًا(فالحكمة إذن تستدعي استشارة أهل العلم والأثبات الناصحين والانطلاق من فتواهم المقبولة المعتبرة، وكم رأينا من بلية سببها التعالم أو إهمال رأي العلماء!!. )
5- العجلة وعدم ضبط النفس والحماس الزائد غير الموجه ولا المتعقل.
6ـ عدم إتقان قاعدة المصالح والمفاسد:
"وهذا يؤدي إلى تقديم جلب المصلحة على دفع المفسدة ويؤدي إلى دفع المفسدة الصغرى بالكبرى, وجلب المصلحة الدنيا وترك العليا, وليس الحكيم هو من يعرف الخير من الشر ولكن الحكيم من يعرف خير الخيرين وشر الشرين .." الحكمة
- يسر الإسلام والبعد عن المشقة :
فكثير من الناس ينظرون إلى واجبات الإسلام كتكليف ومشقة يلزمهم أن يقوموا بها, وقليل منهم من ينظر إليها من جهة حاجتهم إليها وفقرهم تجاه ربهم سبحانه وتعالى وحبهم للعبادة .
ويترتب على شعورهم تجاه العبادة أنها مشقة وتكليف أنهم لا يشعرون بحلاوة التوحيد والإيمان والعبادة وكذلك فإنهم قد يتركون الالتزام بالعبادة في بعض الأحيان لشعورهم بمشقتها عليهم, أما إن صار لديهم شعور وفهم وتصور صحيح تجاه التوحيد والعبادة, وأنها لا غنى للمرء عنها, وأن حاجته للعبادة أشد من حاجته إلى الطعام والشراب, وأنه لا تقوم حياة مسلم بغيرهما, إذا فهموا هذا المعنى أحبوا العبادة, وصار إيمانهم بربهم بحب للإيمان به, وحب لله ولرسوله ولكل ما يقرب إلى حبه سبحانه وتعالى.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان, أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما, وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله, وأن يكره أن يعود إلى الكفر كما يكره أن يقذف في النار) رواه البخاري
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في بيان ضرورة التوحيد للعباد:(115/352)
"هذه قاعدة جليلة في توحيد الله وإخلاص الوجه والعمل له, عبادة واستعانة, قال تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5], وقال تعالى: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [هود: 123].
ثم قال - رحمه الله -: وذلك أن العبد, بل كل حي, بل وكل مخلوق سوى الله فقير محتاج إلى جلب ما ينفعه ودفع ما يضره, والمنفعة للحي هي من جنس النعيم واللذة, والمضرة هي من جنس الألم والعذاب؛ فهنا أربعة أشياء:
أحدها: أمر محبوب مطلوب الوجود.
الثاني: أمر مكروه مبغض مطلوب العدم.
الثالث: الوسيلة إلى حصول المطلوب المحبوب.
الرابع: الوسيلة إلى دفع المكروه.
فهذه الأمور الأربعة ضرورية للعبد ولا يقوم صلاحه إلا بها, إذا تبين لك ذلك فبيان ما ذكرته من وجوه:
- أن الله تعالى هو الذي يجب أن يكون هو المقصود المدعو المطلوب, وهو المعين على المطلوب, وما سواه هو المكروه, وهو المعين على دفع المكروه, فهو سبحانه الجامع للأمور الأربعة (التي لا تقوم حياة العبد إلا بها) دون ما سواه.
وهذا معنى قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}, فإن العبودية تتضمن المقصود المطلوب لكن على أكمل الوجوه, والمستعان هو الذي يستعان به على المطلوب.
- أن الله خلق الخلق لعبادته الجامعة لمعرفته والإنابة له ومحبته والإخلاص له, وحاجتهم إليه في عبادته إياه كحاجتهم في خلقه لهم, فإن ذلك هو الغاية المقصودة, ولهذا كان الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء, ولهذا كانت لا إله إلا الله أحسن الحسنات, وكان التوحيد بقول لا إله إلا الله رأس الأمر".
- أن المخلوق ليس عنده للعبد نفع ولا ضر ولا عطاء ولا منع ولا هدى ولا ضلال, بل ربه هو الذي خلقه ورزقه وبصره وهداه, فإذا مسه الله بضر فلا يكشفه عنه غيره, وإذا أصابه بنعمة لم يرفعها عنه سواه, وأما العبد فلا ينفعه ولا يضره إلا بإذن الله...
- أن تعلق العبد بما سوى الله مضرة عليه؛ إذا أخذ منه القدر الزائد على حاجته في عبادة الله, فإنه إن نال من الطعام والشراب فوق حاجته ضره وكذلك من النكاح واللباس.
واعلم أن كل من أحب شيئًا لغير الله فلابد أن يضره محبوبه ويكون ذلك سببًا لعذابه, وهذا معنى ما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الدنيا ملعونة, ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه) رواه الترمذي وغيره.
- أن الله سبحانه غني حميد كريم واجد رحيم, فهو سبحانه محسن إلى عبده مع غناه عنه, فالمخلوق لا يقصد منفعتك بالقصد الأول إنما يقصد منفعته بك, والرب سبحانه يريدك لك ولمنفعتك بك لا لينتفع بك, وذلك منفعة عليك بلا مضرة, فتدبر هذا.
- أن الخلق لو اجتهدوا أن ينفعوك لم ينفعوك إلا بأمر الله, ولو اجتهدوا أن يضروك لم يضروك إلا بأمر قد كتبه الله عليك, فلا تعلق بهم رجاءك) مجموع الفتاوى
- التوجيه نحو الطاعة وعدم الاستهانة بالذنب :(115/353)
فإنه قد ساد في مجتمعات المسلمين مفهوم خاطئ تجاه الذنب والمعصية, وهو أنه لا بأس للإنسان من أن يرتكب الذنب تلو الذنب والمعصية بعد المعصية, وإذا أنكر عليه أحد أو نصحه أو عاتبه رد عليه بأن الله غفور رحيم, وأنه سبحانه سيغفر الذنوب في أي وقت ولا بأس بأن يظل الإنسان يعبث بدينه ويجاهر ربه بالآثام لأنه في أي وقت سوف يتوب ويتوب الله عليه.
ونتج من هذا المفهوم - الذي فيه حق وباطل - أن استهان الناس بالمعاصي وجاهروا بها ورفضوا كل منكر لها, بل حتى لقد عاتبوا من ينصح فيها وجعلوه متشددًا وناسيًا لرحمة الله تعالى, كذلك فقد نتج عن هذا المفهوم الادعاء بأن النية قد تكون في القلب صالحة تقية عالية رغم أن صاحبها لا يفعل الطاعات أبدًا, فتهاون الناس في كثير من الطاعات محتجين بعفو الله ورحمته ومضيعين أمره ونهيه.
وفي مقولتهم حق وباطل, وقد اتخذوا الحق الذي فيها سُلَّمًا للباطل.
فأما الحق الذي في مقولتهم فهو أن الله غفور رحيم عفو يغفر الذنب ويستر العيب, ولو جاءه العبد بملء الأرض خطايا ثم لقيه لا يشرك به شيئًا لجاءه بملئها مغفرة.
وأما الباطل الذي فيها فهو اتخاذهم عفو الله ورحمته حجة لعصيانه ومخالفته ونسيانهم الخوف منه سبحانه وخشيته وتقواه وعذابه وتضييع أوامر الشرع ونواهيه.
وقد بين الإمام ابن قيم الجوزية هذا المعنى بوضوح وجلاء في كتابه الجواب الكافي إذ يقول:
[وكثير من الجهال اعتمدوا على رحمة الله وعفوه وكرمه, فضيعوا أمره ونهيه ونسوا أنه شديد العقاب, وأنه لا يرد بأسه عن القوم المجرمين, ومن اعتمد على العفو مع الإصرار على الذنب فهو كالمعاند, قال معروف: رجاؤك لرحمة من لا تطيع من الخذلان والحمق, وقال بعض العلماء: من قطع عضوًا منك في الدنيا بسرقة ثلاثة دراهم, لا تأمن أن تكون عقوبته في الآخرة نحو هذا, وقيل للحسن: أراك طويل البكاء؟ فقال: أخاف أن يطرحني ولا يبالي. وكان يقول: إن قومًا ألهتهم أماني المغفرة حتى خرجوا من الدنيا بغير توبة, يقول أحدهم: لأني أحسن الظن بربي, لو أحسن الظن لأحسن العمل, وسأل رجل الحسن فقال: يا أبا سعيد, كيف نصنع بمجالسة أقوام يخوفوننا حتى تكاد قلوبنا تطير؟ فقال: والله لأن تصحب أقوامًا يخوفونك حتى تدرك أمنًا, خير لك من أن تصحب أقوامًا يؤمنونك حتى تلحقك المخاوف.
وقد ثبت في الصحيحين من حديث أسامة بن زيد قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (يجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار, فتندلق أقتاب بطنه, فيدور بها في النار كما يدور الحمار برحاه, فيطوف به أهل النار فيقولون: يا فلان, ما أصابك؟ ألم تكن تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟ فيقول: كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه, وأنهاكم عن المنكر وآتيه) أخرجه البخاري , وفي صحيح مسلم عنه, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار, فيصبغ في النار صبغة, ثم يقال له: يا ابن آدم هل رأيت خيرًا قط؟ هل مر بك نعيم قط؟ فيقول: لا والله يا رب, ويؤتى بأشد الناس بؤسًا في الدنيا من أهل الجنة فيصبغ في الجنة صبغة, فيقال له: يا ابن آدم هل رأيت بؤسًا قط؟ هل مر بك شدة قط؟ فقول: لا والله يا رب, ما مر بي بؤس قط ولا رأيت شدة قط) ]الجواب الكافي(115/354)
- الحب والرحمة للأفراد والمجتمعات بدلا من العداوة والبغضاء :
قد يسيطر على الشاب في بداية طريق التزامه وتعلمه العلم , شعور بالمفارقة بينه وبين مجتمعه, وبالغربة في الحياة لأنه يستمسك بآداب الشرع وأحكامه, والناس أكثرهم لا يفعلون ذلك – وهو فهم خاطىء -
وإذا به يقرأ من الأحاديث الصحاح عن غربة الإسلام في آخر الزمان ما يفهم منه المبتدئ – خطأ - تقوية هذا الوازع في مفارقة المجتمع. وهذا الشعور بمفارقة المجتمع والاغتراب عنه - رغم ما يمكن أن ينشأ منه من سلوك التزامي واستمساك بالسنة - قد ينتج عنه من الأخطاء الكبيرة ما ينبغي على المربين وأهل العلم أن يقوموه ويعدلوه.
ذلك أن ذلك قد يتطور في بعض الأحيان لرؤية المجتمعات رؤية غير صائبة, فيصف الشاب المجتمع بالكفر وربما يتهم آحاده كذلك, أو إنه ليحكم على الناس بالضلال والشرك, وهذه الزلة زلة خطيرة, وهي كفيلة بإفساد دعوته ووقوعه في المحظور الشرعي والمحظور الدعوى, فأما المحظور الشرعي فلخطأ ذلك شرعًا مما سنبينه بعد قليل, وأما المحظور الدعوى فلأنه إذا نظر إلى الناس بهذه العين مقتهم واحتقرهم ولم يبذل نفسه في دعوتهم وساء خلقه معهم, إلى غير ذلك مما هو معلوم معروف.
وإنما يكبر هذا الشعور لدى الشاب في بداية طريقه لكثرة ما يجده من حوله من تضييع لأوامر الله تعالى والمجاهرة بالمعاصي والذنوب والآثام فيجب الانتباه لهذه الزلة وعلاجها ببيان المنهج الإسلامي الصحيح عقيدة وعلمًا وعملاً ودعوة.
ونحن هنا نبين بعضا من المفاهيم الشرعية الهامة :
1ـ الإيمان قول وعمل:
قال شيخ الإسلام في الواسطية: "ومن أصول أهل السنة والجماعة أن الدين والإيمان قول وعمل, قول القلب واللسان وعمل القلب واللسان والجوارح" العقيدة الواسطية
فقول القلب: اعتقاده وتصديقه وإقراره.
وقول اللسان: إقراره العمل؛ أي النطق بالشهادتين والعمل بمقتضياتها.
وعمل القلب: نيته وتسليمه وإخلاصه وإذعانه وحبه وإرادته للأعمال الصالحة.
وعمل اللسان والجوارح: فعل المأمورات وترك المنهيات.
فبهذا يتبين أن الإيمان يشمل هذه الأشياء كلها شرعًا, وشمول الإيمان لهذه الأشياء لا يعني أنه لا يتم إلا بها, بل قد يكون الإنسان مؤمنًا مع تخلف بعض الأعمال, لكنه ينقص إيمانه بقدر ما نقص من عمله.
2ـ الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية:
يقول الله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} وأسباب زيادة الإيمان أربعة:
أ - معرفة الله تعالى بأسمائه وصفاته.
ب - النظر في آيات الله الكونية والشرعية.
جـ - كثرة الطاعات وإحسانها.
د - ترك المعصية تقربًا إلى الله عز وجل.(115/355)
وأسباب نقص الإيمان أربعة:
أ - الإعراض عن معرفة الله تعالى وأسمائه وصفاته.
ب - الإعراض عن النظر في الآيات الكونية والشرعية.
جـ - قلة العمل الصالح.
د - فعل المعاصي.
قال الشافعي رحمه الله: "الإيمان قول وعمل, يزيد وينقص, يزيد بالطاعة, وينقص بالمعصية, ثم تلا: {وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانا}"
وقال ابن عبد البر في "التمهيد": "أجمع أهل الفقه والحديث على أن الإيمان قول وعمل, ولا عمل إلا بنية, والإيمان عندهم يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية, والطاعات كلها عندهم إيمان"
وقال الإمام أحمد: "الإيمان يزيد وينقص؛ فزيادته بالعمل, ونقصانه بترك العمل".
3ـ أهل السنة لا يكفرون أحدًا من أهل القبلة بالمعاصي والكبائر:
فإن أهل السنة لا يكفرون أحدًا من أهل القبلة بكل ذنب, إلا ذنبًا يزول به أصل الإيمان.
قال شيخ الإسلام: "وهم مع ذلك لا يكفرون أهل القبلة بمطلق المعاصي والكبائر كما يفعله الخوارج, بل الأخوة الإيمانية ثابتة مع المعاصي .. ولا يسلبون الفاسق الملي الإسلام بالكلية ولا يخلدونه في النار...".
ثم قال: "ونقول: هو مؤمن ناقص الإيمان أو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته".
فالإيمان عند أهل السنة والجماعة لا يزول إلا بزوال أصله, وأما زوال فرعه بارتكاب المحذورات وترك الواجبات فيُنْقص الإيمان ويضعفه ولكنه لا يزيله ولا يذهبه بالكلية.
فأهل السنة والجماعة لا يكفرون المسلم بالمعاصي والكبائر, بل الأخوة بين المؤمنين ثابتة ولو مع المعصية , وعلى هذا فلو مررت بصاحب كبيرة فإني أسلم عليه لأن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر من حقوق المسلم على المسلم: (إذا لقيته فسلم عليه) مسلم, وهذا الرجل ما زال مسلمًا فأسلم عليه .. شرح الواسطية
4ـ أهل السنة والجماعة لا يخرجون أحدًا من الإسلام فَعلَ فعلاً مكفرًا, إذا كان جاهلاً أو متأولاً أو مكرهًا - إن كان قلبه مطمئنًا بالإيمان - إلا بعد إقامة الحجة عليه التي يكفر تاركها.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "فالمتأول الجاهل والمعذور, ليس حكمه حكم المعاند والفاجر, بل قد جعل الله لكل شيء قدرًا..."
وقال-رحمه الله-: "وإذا عرف هذا فتكفير المعين من هؤلاء الجهال وأمثالهم بحيث يحكم عليه بأنه مع الكفار لا يجوز الإقدام عليه إلا بعد أن تقوم على أحدهم الحجة الرسالية التي يبين لهم بها أنهم مخالفون للرسول, وإن كانت مقالتهم هذه لا ريب أنها كفر, وهكذا الكلام في جميع تكفير المعينين" اهـ.
وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من اتهام الناس بالكفر أو اتهام المجتمعات بالكفر تحذيرات شديدة جدًا:(115/356)
فقال صلى الله عليه وسلم: (أيما امرئ قال لأخيه: يا كافر, فقد باء بهما أحدهما؛ إن كان كما قال وإلا رجعت عليه) رواه البخاري
وقال صلى الله عليه وسلم: (من دعا رجلاً بالكفر أو قال: عدو الله, وليس كذلك إلا حار عليه) متفق عليه
وقال صلى الله عليه وسلم: (لا يرمي رجل رجلاً بالفسوق ولا يرميه بالكفر إلا ارتدت عليه إن لم يكن صاحبه كذلك) أخرجه البخاري
وأهل السنة كذلك لا يكفرون المعين, وإنما يفرقون بين الحكم على القول بأنه كفر والحكم على صاحب القول بأنه كافر؛لأنه يمكن أن يكون متأولاً أو جاهلاً أو مكرها- كما سبق -, فتكفير المعين من الجهال وأمثالهم لا يجوز إلا بعد إقامة الحجة عليه من أهل العلم الأثبات والقضاة الشرعيين , والحجة ينبغي أن تكون على مستوى فهمهم, ويعطي لعقولهم فرصتها حتى يستوعبوا الحجة والأدلة, وإنما يقوم بذلك أهل العلم من القضاة الشرعيين أو العلماء المرضيين.
5- أهل السنة يرون وجوب طاعة ولاة أمور المسلمين ما لم يأمروا بمعصية, قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59].
*وقال صلى الله عليه وسلم : (من أطاعني فقد أطاع الله ومن عصاني فقد عصى الله, ومن يطع الأمير فقد أطاعني, ومن يعص الأمير فقد عصاني) متفق عليه
*وقال صلى الله عليه وسلم: (تسمع وتطيع للأمير وإن ضرِب ظهرك وأخذ مالك فاسمع وأطع)رواه مسلم
*وقال صلى الله عليه وسلم: (من كره من أميره شيئًا فليصبر عليه, فإنه ليس أحد من الناس خرج من السلطان شبرًا فمات عليه إلا مات ميتة جاهلية) رواه مسلم
فطاعة أولي الأمر في المعروف من أصول أهل السنة والجماعة, وهي أمر أساسي لوجود الانضباط في دولة الإسلام والوقاية من الفتن.
وأهل السنة يرون الصلاة خلفهم والدعاء لهم بالصلاح والاستقامة ومناصحتهم, ويحرمون الخروج عليهم بالسيف إذا ارتكبوا مخالفة دون الكفر.
قال النووي رحمه الله: "وأما النصيحة لأئمة المسلمين فمعاونتهم على الحق, وطاعتهم فيه وأمرهم به وتنبيههم وتذكيرهم برفق ولطف, وإعلامهم بما غفلوا عنه" شرح مسلم
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "ويرون إقامة الحج والجهاد والجمع والأعياد مع الأمراء أبرارًا كانوا أو فجارًا"
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: "فأهل السنة رحمهم الله يخالفون أهل البدع تمامًا, فيرون إقامة الحج مع الأمير وإن كان من أفسق عباد الله..." ثم قال: "فهم يرون إقامة الحج مع الأمراء وإن كانوا فساقًا, حتى وإن كانوا يشربون الخمر في الحج, لا يقولون: هذا إمام فاجر لا نقبل إمامته؛ لأنهم يرون أن طاعة ولي الأمر واجبة وإن كان فاسقًا".
ثم قال - رحمه الله -: "والأمور التي فيها تأويل واختلاف بين العلماء إذا ارتكبها ولاة الأمور لا يحل لنا منابذتهم ومخالفتهم, لكن يجب علينا مناصحتهم بقدر المستطاع(115/357)
فيما خالفوا فيه مما لا يسوغ فيه الاجتهاد, وأما ما يسوغ فيه الاجتهاد فنبحث معهم فيه بحث تقدير واحترام؛ لنبين لهم الحق لا على سبيل الانتقاد لهم والانتصار للنفس, وأما منابذتهم وعدم طاعتهم فليس من طريق أهل السنة والجماعة" شرح الواسطية
ومن ولي الخلافة واجتمع عليه الناس ورضوا به أو غلبهم بسيفه حتى صار خليفة وجبت طاعته وحرم الخروج عليه, قال الحافظ ابن حجر: "وقد أجمع الفقهاء على وجوب طاعة السلطان المتغلب والجهاد معه وأن طاعته خير من الخروج عليه"الفتح
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وقل من خرج على إمام ذي سلطان إلا كان ما تولد على فعله من الشر أعظم مما تولد من الخير"منهاج السنة النبوية
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: "بشرط أن لا يخرجه فسقه إلى الكفر البواح الذي عندنا فيه من الله برهان "شرح الواسطية.
خاتمة : وإنما يصلح في ختام ذلك الحديث أن نؤكد على أهمية دور المربي الناصح العالم الخبير في توجيه الناس نحو الإصلاح والتقدم والتنمية العامة لأمة الإسلام أجمعها والدعوة إلى الاعتدال والوسطية في كل مأخذ , والدعوة إلى اتباع العلماء الكبار الراسخين والاقتداء بهم والصدور عن فتواهم وتوقيرهم وتقديرهم وعدم الاعتداد بالآراء الشخصية الشاذة المنفردة , والدعوة إلى وحدة أمتنا الحبيبة ..التي لايزال الخير فيها نابضا والأمل فيها كبيرا .
ـــــــــــــــــــ
العلاقة الإيمانية بين المربي وتلاميذه (1/2)
خالد روشه
27/6/1427
ارسل تعليقك ...
تعليقات سابقة ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
khaled_rousha@yahoo.com
إن العلاقة الإيمانية بين المربي ومتربيه هي الطريق الذي من خلاله تمر العمليات التربوية والتعليمية بينهما، إذ لا سبيل لإحداث العملية التعليمية والتربوية بدون طريق بين المرسل والمستقبل، وهذا الطريق هو العلاقة الإيمانية بينهما، فإن نجحت صلحت العملية التعليمية والتربوية، وإن فشلت أو شابها ما يفسدها فشلت العملية التربوية والتعليمية بينهما.
وتقوم العلاقة الإيمانية النموذجية الناجحة بين الداعية والمدعو أو بين المربي وتلاميذه ومتربيه على ثلاثة أسس أصلية هي: " الحب في الله، والنصيحة في الله، والعطاء لله "
الحب في الله
هو ركن ركين في العلاقات الإيمانية بين الناس جميعا، ويتأكد دوره وأثره في العلاقة بين الأستاذ والتلميذ،وبين المربي والمتعلم، وبين الداعية والمدعو، وهو شعبه من شعب الإيمان، وطريق أكيد للشعور بحلاوة الأخوة الإيمانية ولذة الإيمان.(115/358)
إن العلاقة الإيمانية بين المربي ومتربيه هي الطريق الذي من خلاله تمر العمليات التربوية والتعليمية بينهما، إذ لا سبيل لإحداث العملية التعليمية والتربوية بدون طريق بين المرسل والمستقبل
فعن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود للكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار " متفق عليه.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا ". رواه مسلم.
أ ـ أساس الارتباط.. الحب:
يصعب أن تجد أحدا من الناس يقبل على آخر ليتعلم منه ويقتدي به من غير أن يحبه وأن يتفتح له قلبه وتطمئن عنده نفسيته، لذا فإني أقول للدعاة إلى الله جميعا: دعوتكم أيها الدعاة إلى الله هي دعوة حب كما إنها دعوة علم، فبلا حب تفشل دعوتكم وتفشلوا مع الناس.
ومن كرهه الناس وابغضوه فلا سبيل له أن يدعوهم أو يعلمهم أو يوجههم. وأنت أيها الداعية المعلم قد يسر الله عليك سبيل الحب في الله لينشأ بينك وبين الناس بشيء واحد فقط ليس غيره، ألا وهو اقتفاء سنة نبيك صلى الله عليه وسلم والاقتداء بأفعاله، فهو سبيل بناء الحب بينك وبين الناس، أن تتخلق بأخلاقه صلى الله عليه وسلم في البشاشة والتبسم في اللقاء، والإقبال على الناس، والتواضع للكبير والصغير، واختيار أحسن الكلام، والسعي في حاجة الناس، والصبر على الأذى، واليسر في التعليم، واختيار طرق الفهم المناسبة للناس، إلى غير ذلك كثير كثير مما اتصف به صلى الله عليه وسلم كخير المعلمين وسيد المرسلين، فابحث إذن عن أخلاقه صلى الله عليه وسلم واقتد بها فثم الطريق.
وإذا تمت علاقة الحب في الله بين الداعية وبين الناس أطاعوه، وتعلموا منه، وأقبلوا عليه، ودافعوا عنه وأعانوه، وصاروا يدعون معه إلى فكرته وعلمه.
والله سبحانه قد علمنا أن الطريق إلى ذلك صفاء القلب والإخلاص لله في العمل والإقتداء بسنته صلى الله عليه وسلم في كل شئ، فإذا تم له ذلك تمت له محبة الله سبحانه، قال سبحانه: [ قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم ] آل عمران: 31، وإذا أحب الله سبحانه وتعالى العبد فقد وضع له القبول في الأرض ولا شك.
فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إذا أحب الله العبد نادى جبريل: إن الله تعالى يحب فلانا فأحببه، فيحبه جبريل، فينادي في أهل السماء: إن الله يحب فلانا فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض ". [ رواه البخاري ومسلم ].
وقد بوب الإمام مسلم رحمه الله له بابا قال فيه: باب إذا أحب الله عبدا حببه إلى عباده، وروي بسنده عن سهيل بن أبي صالح أنه قال: كنا بعرفة فمر عمر بن عبد العزيز وهو على الموسم، فقام الناس ينظرون إليه، فقلت لأبي: يا أبت، إني أرى الله(115/359)
يحب عمر بن عبد العزيز. قال: وما ذاك؟ قلت: لما له من الحب في قلوب الناس، فقال: بأبيك أنت سمعت أبي هريرة يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ذكر الحديث السابق.
كنا بعرفة فمر عمر بن عبد العزيز وهو على الموسم، فقام الناس ينظرون إليه، فقلت لأبي: يا أبت، إني أرى الله يحب عمر بن عبد العزيز. قال: وما ذاك؟ قلت: لما له من الحب في قلوب الناس،
وقال النووي رحمه الله في شرح مسلم: ومعنى " يوضع له القبول في الأرض ": أي الحب في قلوب الناس ورضاهم عنه، فتميل القلوب إليه وترضى عنه، وقد جاء في رواية: " فتوضع له المحبه ". [صحيح مسلم بشرح النووي ].
وقال ابن علان في شرح رياض الصالحين: المراد بالقبول: الحب في قلوب أهل الدين والخير له والرضا به، واستطابه ذكره في حال غيبته، كما أجرى الله عادته بذلك في حق الصالحين من سلف هذه الأمة ومشاهير الأئمة.
ب ـ حب في الله وفقط:
فهذه العلاقة الحميمة التي هي الحب لا تتم أواصرها ولا تترسخ قواعدها إلا إذا كانت في الله وفي الله وفقط، فهي العلاقة التي تدوم، وما كان الله دام واتصل وما كان لغيره انقطع وانفصل، فيجب أن ينزه المربي علاقته بالمدعو عن كل متعلقات الدنيا أيا كانت، وعن كل مصالحها مهما بلغت ليجعلها صافية خالصة ابتغاء مرضاته سبحانه وتعالى.
بل لقد نصح بعض الدعاة ألا يقيم الداعية علاقة مالية أو مادية أيا كانت مع المدعو، وإن لكلامهم وجاهه فإن علاقات الشراكة والتجارة وغيرها علاقات قد تنتهي بشكل من أشكال الاختلاف، وقد تدعو إلى الغضب والحزن وتتسبب في تجرؤ كل طرف على الآخر؛ فتفسد علاقاتهم خصوصا إذا كانت في مراحلها الأولى.
وهناك موقف قل وجوده من إما أهل السنة الإمام أحمد مع إمام كبير أيضا هو الإمام عبد الرزاق.
ذكر ابن الجوزي في صفة الصفوة عن إسحاق بن راهوية قال: لما خرج أحمد بن حنبل إلى عبد الرزاق انقطعت به النفقة، فأكرى نفسه مع بعض الحمالين إلى أن وافى صنعاء، وقد كان أصحابه عرضوا عليه المواساة فلم يقبل من أحد شيئا، ثم قال: وقال الرمادي: سمعت عبد الرزاق ـ وذكر أحمد بن حنبل فدمعت عيناه ـ فقال: قد وبلغني أن نفقته نفدت، فأخذت عشرة دنانير وأقمته خلف الباب، وما معي ومعه أحد، وقلت: إنه لا تجتمع عندنا الدنانير وقد وجدت الساعة عند النساء عشرة دنانير، فخذها فأرجو ألا تنفقها حتى يتهيأ عندنا شئ، فتبسم وقال لي: " يا أبكر: لو قبلت شيئا من الناس قبلت منك " ولم يقبل.
وروى الذهبي رحمه الله أن عبد الله بن الإمام أحمد قال: كنت أسمع أبي كثيرا يقول في دبر الصلاة: " اللهم كما صنت وجهي عن السجود لغيرك فصنه عن المسألة لغيرك ".
فهل ينتفع الدعاة وأهل العلم والمربون بمثل هذه الصفات السامية وبمثل هذا التجرد في العلاقات لله وبمثل هذا الزهد في أيدي الناس.(115/360)
وهو معني صحيح معنى ذلك الأثر: " ازهد فيما أيدي الناس يحبك الناس " [ أخرجه ابن ماجه ]، فإن الناس إذا علموا منك زهدا وإعراضا عما في أيديهم عظمت في أعينهم، وزادت هيبتك، ونبتت في قلوبهم محبتك.
ونقل ابن جرير عن إمام التابعين طاوس بن كيسان قوله: " الشح أن يحب المرء أن له ما في أيدي الناس، ثم ذكر أن سفيان بن عمرو كان يقول:وما رأيت أحدا أشد تنزها مما في أيدي الناس من طاوس، رحمهم الله جميعا.
ج ـ نموذج وبشرى:
عن أبي إدريس الخولاني رحمه الله قال: دخلت مسجد دمشق فإذا فتى براق الثنايا، وإذا الناس معه، فإذا اختلفوا في شئ أسندوه إليه وصدروا عن رأيه، فسألت عنه، فقيل: هذا معاذ ابن جبل رضي الله عنه، فلما كان من الغد هجرت فوجدته قد سبقني بالتهجير، ووجدته يصلى فانتظرته حتى قضى صلاته، ثم جئته من قبل وجهه، فسلمت عليه ثم قلت: والله إني أحبك، فقال: آلله؟ فقلت آلله، فقال: آلله؟ فقلت: آلله، فأخذني بحبوة ردائي فجذبني إليه، فقال: أبشر فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " قال الله تعالى: وجبت محبتي للمتحابين في والمتجالسين في والمتزاورين في ". [ رواه مالك في الموطأ ].
فهذا معاذ رضي الله عنه نموذج للمعلم والمربي الناجح المحبوب، المبتسم المقبل على الناس الذي التف حوله الناس ليتعلموا منه ويصدروا عن رأيه وعن علمه وهم جميعا يحبونه ويقبلون عليه.
وهذا أبو إدريس الخولاني ـ التابعي الجليل ـ نموذج للمتعلم، أحب معلمه لما رآه من حسن فعله ولما سمعه من كثير علمه وجليل فضله.
ثم هذه العلاقة الإيمانية الصافية النقية البعيدة من شوائب المصالح الدنيوية والمتعلقات المادية، يحدوها الحب بين يديها، فتدفع المعلم أن يُهجر ويُبَكر ليلتقي بحبيبه ومعلمه ليخبره بحبه.
ثم ها هو ذا يتأدب مع أستاذه تمام الأدب فينتظره حتى ينهي صلاته،ثم يأتيه من قبل وجهه ـ تأدبا ـ فيسلم عليه ثم يقبل عليه فيقول له ـ يقسم ـ: والله إني لأحبك.
ويرتقي هذا الحب ليبلغ الآفاق فتعجز عنه الأمثلة والحكايات ويصفو شيئا فشيئا حتى يصبح رقيقا كالماء الزلال، محببا كقطرة الماء البارد، ترطب الحلق عند شدة العطش، عزيزا كقطراتها في جدب الصحراء!
قال الذهبي: وقال عبد الله بن أحمد: ربما سمعت أبي في السحر يدعو لأقوام بأسمائهم، ثم قال: وكان من أحيى الناس، وأكرمهم، وأحسنهم عشرة، وأدبا، كثير الإطراق، لا يُسمع منه إلا المذاكرة للحديث، وذكر الصالحين في وقار وسكون ولفظ حسن، وإذا لقيه إنسان بش به، وأقبل عليه، وكان يتواضع للشيوخ تواضعا شديدا ويحبهم، وكانوا يعظمونه ويحبونه، وكان يفعل بيحيى بن معين بما لم أره يعمل بغيره من التواضع والتكريم والتبجيل.
د ـ حب بلا تجاوز:
قال في حلية طالب العلم: " تنبيه مهم: أعيذك بالله من صنيع الأعاجم والطرقية والمبتدعة والخلفية، من الخضوع الخارج عن آداب الشرع من لحس الأيدي وتقبيل(115/361)
الأكتاف والقبض على اليمين باليمين والشمال عند السلام كحال تودد الكبار للأطفال، والانحناء عند السلام واستعمال الألفاظ الرخوة المتخاذلة: سيدي ومولاي ونحوها من ألفاظ الخدم والعبيد ".
والواقع أن التجاوز ليس فقط في طريقه التوقير الزائدة التي ينكرها كل من عنده مسكة عقل، ولكن من التجاوز في المحبة أشكال أخرى كثيرة.
فكثرة اللقاءات الزائدة عن الحد المعقول تَجَاوُز؛ خصوصا إذا صاحبها ضياع وقت أو اطلاع على نواقص أو عيوب، فإن كثرة اللقيا وطول الاصطحاب مذموم غير مرغوب فيه، إلا إذا كان في علم وتعلم، وهذا صعب الحصول طول الوقت.
فنحن لا ننصح المربين بطول فترة اللقاء مع المدعويين والمتعلمين، ولا ننصحهم بكثرة العشرة وكثرة المبيت معا والسفر معا إلا أن يكون في شأن من شئون العلم أو الدعوة أو المشاركة في صالح الأعمال، ولسنا ننصح بذلك إلا لأن التجارب أكدته؛ فإن كثرة الصحبة ـ إن لم تكن فيما سبق من خير ـ تفسد كثيرا وتضر ضررا بالغا، فهي تظهر من عيوب المعلم لطالبه ما خفى عنه، وتجرئه عليه، وتزهد فيه، وتنشئ الحسد من قرنائه له في كثرة مصاحبته وهم ممنوعون من ذلك، وإنما يفعل من المربين من قلت خبرته.
روى ابن الجوزي عن على بن المديني أنه قال: " قال لي أحمد بن حنبل: إني لأحب أن أصحبك إلى مكة، وما يمنعني من ذلك إلا إني أخاف أن أملّك أو تملّني، قال: فلما ودعته قلت: يا أبا عبد الله توصيني بشئ؟ قال: نعم، ألزم التقوى قلبك، وألزم الآخرة أمامك ".
وكذلك فإن من التجاوز في المحبة الاقتصار على أستاذ واحد أو معلم واحد فقط في تعلم العلم والأدب، ولكن ليكن لكل طالب علم معلم بعلمه ويوجهه ويربيه، ولا يمنعه ذلك من الأخذ عن الآخرين والجلوس إليهم، وقد سبق أن بينا أن على المعلم أن يوجهه المتعلم إلى منابع العلم المختلفة و إلى أهل العلم الأتقياء الصلحاء النابهين.
قال جعفر بن محمد: سمعت الإمام البخاري يقول: " كتبت عن ألف شيخ من العلماء وزيادة ".
وقد بين الحافظ بن حجر رحمه الله في هدي الساري في تقديم فتح الباري بشرح صحيح البخاري أن طبقات الشيوخ الذين حدث عنهم البخاري خمسة، ثم قال: " روى ابن شيبه عن وكيع قال: لا يكون الرجل عالما حتى يحدث عمن هو فوقه وعمن هو مثله وعمن هو دونه، وعن البخاري أنه قال: لا يكون المحدث كاملا حتى يكتب عمن فوقه وعمن مثله وعمن دونه ".
وقال النووي رحمه الله: " أخذ مالك من تسعمائة شيخ منهم ثلاثمائة من التابعين وستمائة من تابعيهم، ممن اختاره وارتضى دينه وفقهه وقيامه بحق الرواية وشروطها، وخلصت الثقة به، وترك الرواية من أهل دين وصلاح لا يعرفون الرواية ".
قال الذهبي: وأول طلب مالك للعلم في حدود سنة عشرين ومائة، وفيها توفي الحسن البصري، فأخذ عن نافع ولازمه، وعن سعيد المقبري، ونعيم المجمر، ووهب بن كيسان، والزهري وابن المنكدر، وعامر بن عبد الله بن الزبير، وعبد الله بن دينار،(115/362)
وزيد بن أسلم، وصفوان بن سليم، وإسحاق بن أبي طلحة، ومحمد بن يحيى، ويحيى بن سعيد، وأيوب السختياني، وأبي الزناد، وربيعة بن أبي عبد الرحمن، وخلق سواهم من علماء المدينة.
وأما الشافعي رحمه الله فقد تعلم الفقه أولا علي يد مسلم بن خالد الزنجي وغيره من أئمة مكة، ثم رحل إلى المدينة قاصدا الإمام مالك بن أنس ولازمه، ثم سافر إلى اليمين وأخذ عن علمائها، ثم رحل إلى العراق وأخذ من علمائها، ونشر العلم هناك، وأقام مذهبه وكتب كتابه القديم المسمى " كتاب الحجة "، ثم خرج إلى مصر سنة تسعة وتسعين ومائة، وصنف كتبه الجديدة كلها بمصر.
وكذا كان جميع أهل العلم قاطبة يأخذون العلم عن أكثر من معلم، وإن كانوا يكثرون من أحدهم وينتمون إليه.
وربما قال قائل: إن الحال تغير وليس الزمان هو الزمان، ولا شك أن هناك تغير وتبدل عن زمان العلماء الكبار هؤلاء إلا أن مقصود كلامنا أن لا يمنع المعلم طلبته من الأخذ من أكثر من معلم، وكذا لا يقتصر الطالب على أستاذ واحد فقط.
ولكن لا بأس أن يتأدب ويتوجه ويكثر من أحدهم عن الآخر خصوصا مع قلة أهل العلم وجودا في هذه الأيام، أما إن لم يتيسر له العلم إلا من أستاذ واحد فلا باس أيضا بذلك على إنها أقل الأحوال.
وكذلك فإن التعصب لمذهب الشيخ أو المعلم أو رأيه أو فكرته بغير حكمة ونظر من أشكال المحبة المذمومة، ذلك أن كل الناس يؤخذ من رأيهم ويرد إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، و للاختلاف وليس من آدابه التعصب بحال، وإنك لتعجب حين ترى من الناس من يتكلم كثيرا في ذم التعصب الفقهي المذهبي وذم فاعلة ويؤصلون ذلك تأصيلا، ثم إنك تراهم حين يتعصبون لرأي مخالف ويدافعون عنه، لا لشئ إلا لأنه من معلمهم أو شيخهم أو أستاذهم، وإن ذلك والله لهو الجور وهو الكيل بمكيالين.
فعلى طالب العلم أن يتعلم العدل وحسن التأدب في الاختلاف وآدابه وأحكامه، ويدرسون لهم قاعدة " عدم الإنكار في المسائل الاجتهادية "، وهي القاعدة التي تلقاها العلماء بالقبول والتطبيق.
روى الذهبي أن يحيى بن معين قال: ما رأيت مثل أحمد بن حنبل، صحبناه خمسين سنة، ما افتخر علينا بشيء مما كان فيه من الخير.
وروي ابن كثير أن الأمام الشافعي رحمه الله قال: للإمام أحمد رحمه الله: يا أبا عبد الله إذا صح عندكم الحديث فأعلمني به أذهب إليه حجازيا كان أم شاميا أو عراقيا أو يمنيا. قال ابن كثير: يعني لا يقول بقول فقهاء الحجاز الذين لا يقبلون إلا رواية الحجازيين، وينزلون أحاديث من سواهم منزلة أحاديث أهل الكتاب، وقول الشافعي له هذه المقالة تعظيم لأحمد وإجلال له، وأنه عنده بهذه المثابة إذا صحح أو ضعف يرجع إليه.
وأكثر جورا من التعصب للمعلم في مسائل الاختلاف هو جور في التعصب للمعلم في مسائل الدعوة وطرقها وأساليبها، فإن الاختلاف والتعصب بهذه المسائل عندئذ يكون تحزبا وفرقه، ويكون مخالفة للأمر الصريح للأمة بالاعتصام في قوله تعالى: (واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا) [ آل عمران: 103 ].(115/363)
ولست هنا أتهم أحدا ممن تعاون مع إخوانه على البر والتقوى لنشر العلم والهدى مخلصا خالصا مستنا بسنته صلى الله عليه وسلم، بريئا من التعصب والتحزب والغبية والنميمة والصراع والشجار وسوء الظن وتصيد الأخطاء والسقطات والهفوات والزلات، بعيدا عن الاتهام والسخرية والتحقير متأدبا بأدب الخلاف، محبا لجميع العاملين لدين الله، معينا لهم، متعاونا معهم، يعذرهم إذا أخطاؤا ويسترهم إذا هفوا، ويغفر لهم إذا زلوا، ويدعو لهم بالتوفيق والهداية والصواب فهؤلاء على الجادة الصائبة.
ثانيًا: النصيحة في الله
هي أمر شرعي وسلوك إيماني مؤثر في جميع أنواع العلاقات بين المسلمين, والنصيحة طريقة رفيعة سامية في بث الخير ونشر الاستقامة بين الناس.
وتخيل معي مجتمعًا ينصح بعضه بعضًا ويتقبل بعضه النصح من بعض, كيف يكون حاله؟ إنك لتجد حاله في استقامة بعد اعوجاج, وإيجابية بعد سلبية, وتقدم بعد تأخر, لذا ولغيره شرع الله سبحانه أمر النصيحة بين عباده, والنصيحة الإيمانية باختصار هي "توجيه المرء أخاه نحو ما يحبه تجاه نفسه", فهو يوجه أخاه في الله في موقف أو إلى سلوك أو معرفة يحب أن لو كان مكانه لفعلها, فإذن النصيحة مدارها حول حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)(1).
ولقد جعل الشارع النصيحة من المسلم شاملة حياته كلها.
* فعن تميم بن أوس الداري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الدين النصيحة) قلنا: لمن؟ قال: (لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم)(2).
إن المرء دائمًا في حاجة إلى من يوجهه ويحذره ويدفعه ويمنعه ويقيمه ويشجعه, إنه بحاجة دائمًا إلى من ينصحه, لا سيما إن كان في طريق ابتداء طلب العلم أو الدعوة إلى الله أو التوبة والاستقامة.
والمرء إذا فقد الناصح فقدْ فَقَدَ أهم عوامل الاستقامة وعدم الانحراف أو الاعوجاج, والمربي هنا يقوم بهذا الدور الهام
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يبايع عليها.
* فعن جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال: "بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والنصح لكل مسلم"(3).
وأما وصف النصيحة فقد بينه العلماء بيانًا شافيًا, قال ابن دقيق العيد: "النصيحة كلمة جامعة معناها إرادة جملة الخير, وهي من وجيز الأسماء ومختصر الكلام, وليس في كلام العرب كلمة مفردة يستوفى بها العبارة عن معنى هذه الكلمة"(4).
وقال الخطابي: "وأما نصيحة المسلمين فإرشادهم لمصالحهم في آخرتهم ودنياهم وإعانتهم عليها, وستر عوراتهم وسد خلاتهم, ودفع المضار عنهم وجلب المنافع لهم, وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر برفق وإخلاص, والشفقة عليهم, وتوقير كبيرهم, وتخولهم بالموعظة الحسنة, وترك غشهم وحسدهم, وأن يحب لهم ما يجب لنفسه من الخير, ويكره لهم ما يكره لنفسه من المكروه, والذب عن أموالهم وأعراضهم, وحثهم على التخلق بجميع ما ذكرناه من أنواع النصيحة"(5) اهـ.(115/364)
فهذا الذي ذكره الإمام الخطابي في تعريف النصيحة شاف كاف لمن أراد التطبيق العملي للنصيحة, فراجعه مرات ومرات فإنه غال وثمين جدًا.
أ - أركان النصيحة: فأركان النصيحة خمسة فكرر معي ففي التكرار تذكار:
• الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر برفق وإخلاص وشفقة.
• ستر العورات.
• الإرشاد لمصالح الآخرة والدنيا بالتعليم والتوجيه والموعظة الحسنة.
• أن تحب لهم ما تحب لنفسك.
• دفع المضار والذب عن الأموال والأعراض.
ب - فرق بين النصيحة والتأنيب:
قال ابن القيم: "والفرق بين النصيحة والتأنيب أن النصيحة إحسان إلى من تنصحه بصورة الرحمة له والشفقة عليه, والغيرة له وعليه, فهو إحسان محض يصدر عن رحمة ورقة, ومراد الناصح بها وجه الله ورضاه والإحسان إلى خلقه.
فيتلطف في بذلها غاية اللطف, ويحتمل أذى المنصوح ولائمته, ويعامله معاملة الطبيب العالم المشفق على المريض المشبع مرضًا, وهو يحتمل سوء خلقه وشراسته ونفرته, ويتلطف في وصول الدواء إليه بكل ممكن, فهذا شأن الناصح.
ونقصد بالعطاء في هذه العلاقة عدة معان يصعب أن تنفصل عن بعضها إذا أردنا إكمال معنى العطاء: الكرم والخدمة وقضاء الحوائج وإدخال السرور
وأما المؤنب فهو رجل قصده التعيير والإهانة وذم من أنبه, وشتمه في صورة النصح, فهو يقول له: يا فاعل كذا وكذا, يا مستحقًا للذم والإهانة في صورة ناصح مشفق, وعلامة ذلك أنه لو رأى من يحبه ويحسن إليه على مثل عمل هذا أو شر منه لم يعرض له, ولم يقل له شيئًا ويطلب له وجوه المعاذير فإن غلب قال: وإني ضمنت له العصمة؟ والإنسان عرضة للخطأ, ومحاسنه أكثر من مساويه, والله غفور رحيم"(6).
جـ - الارتباط بين الحب والنصيحة:
هو ارتباط وثيق لا ينفك, ارتباط المحرك بالفعل, فأنت إذا أحببت: نصحت, وإذا زاد حبك: زاد الإخلاص في نصحك, وقد لا تهتم بمن لا تحب فتهمل نصحه أو تؤثر السكوت على النصح له, ولكنك قلما تؤثر السكوت على نصح المحبوب, فأنت تريد له الخير ولو عاد ذلك عليك بشيء من ضرر. وانظر إلى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم يتبين لك:
عن معاذ رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ بيده وقال: (يا معاذ إني لأحبك, ثم أوصيك يا معاذ: لا تدعن في دبر كل صلاة تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك)(7).
فتأمل كلامه صلى الله عليه وسلم تجد أنه صلى الله عليه وسلم قد قدم إثبات الحب لمعاذ رضي الله عنه, ثم نصحه نصيحة تنفعه في آخرته وتضيء بها دنياه.
د - كيف تقوم النصيحة بدور مؤثر في العلاقة التربوية؟(115/365)
إن المرء دائمًا في حاجة إلى من يوجهه ويحذره ويدفعه ويمنعه ويقيمه ويشجعه, إنه بحاجة دائمًا إلى من ينصحه, لا سيما إن كان في طريق ابتداء طلب العلم أو الدعوة إلى الله أو التوبة والاستقامة.
والمرء إذا فقد الناصح فقدْ فَقَدَ أهم عوامل الاستقامة وعدم الانحراف أو الاعوجاج, والمربي هنا يقوم بهذا الدور الهام وهو قائم على أساس الحب السابق الذي قد بناه بينهما, فيبتدئ المعلم بتوجيهه توجيهًا يملؤه الحب والشفقة والرحمة, ويبدأ بتعديل سلوكه تجاه الناس والمخلوقات خطوة بخطوة وشيئًا فشيئًا, حتى يعتاد الطالب أن ينصحه أستاذه ولا ينفر من نصيحته ولا يستكبر, والطريق الأكيد لضمان عدم نفرة الطالب من النصيحة والاستكبار عنها أن تخرج بحب ظاهر, وبعطف بالغ, وبكلام هين لين, وبتقديم الثناء الحسن فيما أحسن, وأن تكون النصيحة لله وحده.
وعلى المعلم أن يضرب للمدعو المثال في التضحية والعطاء بفعاله, فربما تلقى المعلم السهام بصدره رجاء ألا تصيب الناس, وربما وضع نفسه موضع الضرر حتى لا يصيب الناس الضرر
وينبغي أن تستمر هذه النصيحة باستمرار العلاقة التربوية التعليمية, وعلى المربي أن يختار الأوقات المناسبة للتوجيه والطريقة المناسبة للتعديل والتقويم, وإذا استوفت النصيحة شروطها بين المربي والطالب أنتجت أحلى الثمار وبالغ الآثار, حتى إنه ليجد يومًا طالبه ومدعوه ليأتيه فيسأله أن ينصحه ويوجهه بغير ابتداء فعل من المعلم, وإذا حصل ذلك فهو دليل على نجاح عملية النصح بينهما, فلقد صارت النصيحة محبوبة لديه ولها مكان بين جانبيه, فهو يستأخرها إذا غابت عنه ويستوحش بدونها إذا أبطأت عليه.
وينبغي على المعلم أن يطبق جميع المعاني العامة للنصيحة, وقد سبق أن بينا أركان النصيحة, فليست النصيحة مجرد كلام لتوجيه الفعل ولكنها فعل أيضًا لتوجيه الفكر, فهي أمر بالمعروف للمتعلم ونهي عن المنكر, وهي قائمة حتى في غيبته, فهي ستر لعوراته ورد لغيبته ودفع للضرر عنه.
عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما من امرئ مسلم ينصر مسلمًا في موضع ينتهك فيه عرضه ويستحل حرمته إلا نصره الله في موطن يحب فيه نصره, وما من امرئ خذل مسلمًا في موطن تنتهك فيه حرمته إلا خذله الله في موضع يحب فيه نصرته)(8).
وقد يجد المربي من طالبه يومًا رغبة أن ينصحه أو ينبهه إلى خير, وعندئذ يجب على المربي التواضع لنصحه وقبوله وشكره على فعله والدعاء له وتشجيعه على أن يعود إلى ذلك كلما رأى خيرًا يريد أن ينصحه به.
فالنصيحة عملية تبادلية بين الطرفين, إلا أنها تكثر من الطرف كثير العلم والتجربة القائم بالتوجيه والتربية أكثر, ولكن ذلك لا يمنع المبادلة في الخير فإنه ليس على النصح كبير.
* * *
ثالثا : العطاء في الله(115/366)
وهو الأساس الثالث من أسس العلاقة الإيمانية بين الداعية والمدعو وبين المعلم والطالب, وبدونه لا تكتمل هذه العلاقة ولا تتم التمام الصحيح ولا تؤتي ثمارها المرجوة.
ونقصد بالعطاء في هذه العلاقة عدة معان يصعب أن تنفصل عن بعضها إذا أردنا إكمال معنى العطاء: الكرم والخدمة وقضاء الحوائج وإدخال السرور.
1ـ الكرم:
وهو خلق لازم للمؤمن ويتأكد لزومه لأهل العلم والدعوة, فينبغي على هؤلاء أن يكونوا كرامًا جوّادين إلى أقصى الدرجات؛ فإن الناس يبخلون لأنهم يجمعون الدنيا, وأهل العلم إنما يجمعون للآخرة, فينبغي عليهم بذل الدنيا للآخرة, وما ظنك بمربٍ أو معلم لا يتصف بصفة الكرم إلا أن يكون شحيحًا منفرًا للناس عن دعوته, وهذه هي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أمامك فتعلم منها:
* عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا ابن آدم إنك أن تبذل الفضل خير لك, وإن تمسكه شر لك, ولا تلام على كفاف, وابدأ بمن تعول, واليد العليا خير من اليد السفلى)(9).
وعن جابر رضي الله عنه قال: ما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا قط فقال: لا(10).
بل إنه صلى الله عليه وسلم كان يحذر من البخل والشح, بل كان يحذر من الادخار.
فعن أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا توكي فيوكِ الله عليك)(11) وتوكي أي تدخري.
وعن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة, واتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم, حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم)(12).
ورسول الله صلى الله عليه وسلم - وهو خير المعلمين - علم أصحابه الجود والكرم والعطاء في كل الأحوال حتى صار ذلك سمة من سماتهم وخلقًا من أخلاقهم رضي الله عنهم.
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: بينما نحن في سفر مع النبي صلى الله عليه وسلم إذ جاء رجل على راحلة له, فجعل يصرف بصره يمينًا وشمالاً, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من كان معه فضلُ ظهر فليعُد به على من لا ظهر له, ومن كان له فضل من زاد فليعد به على من لا زاد له), فذكر من أصناف المال ما ذكر حتى رأينا أنه لا حق لأحدٍ منا في فضل(13).
فعلى الدعاة إلى الله أن يتصفوا بصفة الكرم وأن يبذلوا أموالهم للناس وخصوصًا طلبة العلم والسائرين في طريق الاستقامة.
قال القاسمي رحمه الله(14): "والمواساة بالمال مع الإخوة على ثلاث مراتب:
أدناها: أن تنزله منزلة خادمك فتقوم بحاجته من فضلة مالك, فإذا سنحت له حاجة وكانت عندك فضلة عن حاجتك أعطيته ابتداءً ولم تحوجه إلى السؤال, فإن أحوجته إلى السؤال فهو غاية التقصير في حق الأخوة.(115/367)
والثانية: أن تنزله منزلة نفسك وترضى بمشاركته إياك في مالك ونزوله منزلتك حتى تسمح بمشاطرته في المال.
والثالثة: وهي العليا أن تؤثره على نفسك وتقدم حاجته على حاجتك, وهذه رتبة الصديقين ومنتهى رتبة المتحابين.
فإن لم تصادف نفسك في رتبة من هذه الرتب مع أخيك, فاعلم أن عقد الأخوة لم ينعقد بعد في الباطن, وإنما الجاري بينكما مخالطة رسمية لا وقع لها في العقل والدين, فقد قال ميمون ابن مهران: من رضي من الإخوان بترك الإفضال فليؤاخ أهل القبور.
وأما الدرجة الأولى فليست أيضًا مرضية عند ذوي الدين, روي أن عتبة الغلام - رحمه الله - جاء إلى منزل رجل كان قد آخاه فقال: أحتاج من مالك إلى أربعة آلاف, فقال: خذ ألفين, فأعرض عنه. وقال: آثرت الدنيا على الله؟ أما استحيتت أن تدعي الأخوة في الله وتقول هذا!
وأما الرتبة العليا فهي التي وصف الله تعالى بها المؤمنين في قوله: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [الشورى: 38], أي: كانوا خلطاء في الأموال لا يميز بعضهم رحله عن بعض.
كان منهم من لا يصحب من قال: نعلي؛ لأنه أضافه إلى نفسه, ومنهم من كان يعتق أمته إذا حدثته بمجيء أخيه وأخذه من ماله حاجته في غيبته سرورًا بما فعل.
وقال زين العابدين علي بن الحسين لرجل: هل يدخل أحدكم يده في كُم أخيه أو كيسه فيأخذ منه ما يريد بغير إذن؟ قال: لا. قال: فلستم بإخوان.
وقال ابن عمر رضي الله عنه: أهدي لرجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رأس شاة, فقال: أخي فلان أحوج مني إليه, فبعث به إليه, فبعثه ذلك الإنسان إلى آخر, فلم يزل يبعث به واحد إلى آخر حتى رجع إلى الأول بعد أن تداوله سبعة. وقال أبو سليمان الداراني: لو أن الدنيا كلها لي فجعلتها في فم أخ من إخواني لاستقللتها له"(15).
2ـ الخدمة وقضاء الحوائج:
وأقصد به قيام كل أخ بخدمة أخيه وقضاء حوائجه ويبذل في ذلك جهده وطاقته, قال الشيخ أحمد فريد: "ومن أخلاق السلف رضي الله عنهم: كثرة سؤالهم عن أحوال أصحابهم, وذلك لأجل أن يواسوهم بما يحتاجون إليه من الطعام والثياب والنقود ووفاء الديون وتحمل الهموم, وهذا خلق صار أهله غرباء في هذا الزمان, فإن الناس اليوم على خلاف ذلك, وربما يقول أحدكم لصاحبه: إيش حالكم؟ فيقول: طيب, ويكتم أمره لعلمه بفراغ قلب صاحبه منه, وأن قوله: إيش حالكم؟ بحكم العادة من غير ثمرة, كما هو مشاهد, بل وكثيرًا ما يقول المار على صاحبه: إيش حالكم؟ ولا ينتظر الجواب مثلاً, فلا السائل يتربص حتى ينتظر الجواب, ولا المسئول يكلف نفسه النطق بالجواب" (16).
وروى الذهبي أن ابن المبارك إذا كان وقت الحج اجتمع إليه إخوانه من أهل مرو فيقولون: نصحبك, فيقول: هاتوا نفقاتكم, فيأخذ نفقاتهم فيجعلها في صندوق ويقفل عليها, ثم يكتري لهم ويخرجهم من مرو إلى بغداد, فلا يزال ينفق عليهم, ويطعمهم أطيب الطعام وأطيب الحلوى, ثم يخرجهم من بغداد بأحسن زي وأكمل مروءة حتى(115/368)
يصلوا إلى مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم فيقول لكل واحد: ما أمرك عيالك أن تشتري لهم من المدينة من طُرَفها؟ فيقول: كذا وكذا, ثم يخرجهم إلى مكة, فإذا قضوا حجهم قال لكل واحد منهم: ما أمرك عيالك أن تشتري لهم من متاع مكة؟ فيقول: كذا وكذا, فيشتري لهم ثم يخرجون من مكة.
فلا يزال ينفق عليهم إلى أن يصيروا إلى مرو, فيجصص بيوتهم وأبوابهم, فإذا كان بعد ثلاثة أيام, عمل لهم وليمة وكساهم فإذا أكلوا وسروا, دعا بالصندوق, ففتحه ودفع إلى كل رجل منهم صرته عليها اسمه"(17).
وروى ابن الجوزي عن مصعب بن مصعب قال: قدم المروزي إلى بغداد يريد مكة, وكنت أحب أن أصحبه, فأتيته واستأذنته في الصحبة فلم يأذن لي في تلك السنة, ثم قدم سنة ثانية وثالثة فأتيته فسلمت عليه وسألته فقال: أعزم على شرط: أن يكون أحدنا الأمير لا يخالفه الآخر, فقلت: أنت الأمير. فقال: لا بل أنت, فقلت: أنت أسن وأولى. فقال: فلا تعصين, فقلت: نعم, فخرجت معه, وكان إذا حضر الطعام يؤثرني فإذا عارضته بشيء قال: ألم أشترط عليك أن لا تخالفني؟ فكان هذا دأبنا حتى ندمت على صحبته لما يُلحق نفسه من الضرر, فأصابنا في بعض الأيام مطر شديد ونحن نسير, فقال لي: يا أبا أحمد اطلب الميل [يعني اذهب إلى أقرب حجر يبنى للمسافر للحج للاهتداء به] ثم قال لي: اقعد في أصله, فأقعدني في أصله وجعل يديده على الميل وهو قائم قد حنا عليّ وعليه كساء قد تجلل به يُظلني من المطر, حتى تمنيت أني لم أخرج معه لما يلحق نفسه من الضرر, فلم يزل هذا دأبه حتى دخل مكة رحمة الله عليه"(18).
قال القاسمي رحمه الله: "وللأخوة حق في قضاء الحاجات والقيام بها قبل السؤال وتقديمها على الحاجات الخاصة وهذه أيضًا لها درجات.
فأدناها: القيام بالحاجة عند السؤال والقدرة ولكن مع البشاشة والاستبشار وإظهار الفرح وقبول المنة, قال بعضهم: إذا استقضيت أخاك حاجة فلم يقضها فذكره الثانية فلعله أن يكون قد نسي, فإن لم يقضها فكبر عليه واقرأ هذه الآية: {وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ}, وكان في السلف من يتفقد عيال أخيه وأولاده بعد موته أربعين سنة يقوم بحاجاتهم يتردد كل يوم إليهم ويمونهم من ماله, فكانوا لا يفقدون من أبيهم إلا عينه, بل كانوا يرون منهم ما لم يروا من أبيهم في حياته, وكان أحدهم يتردد إلى باب دار أخيه يقوم بحاجته من حيث لا يعرفه أخوه, وبهذا تظهر الشفقة والأخوة, وإذا لم تثمر الشفقة حتى يشفق على أخيه كما يشفق على نفسه فلا خير فيها, قال ميمون بن مهران: من لم تنتفع بصداقته لم تضرك عداوته, وبالجملة فينبغي أن تكون حاجة أخيك مثل حاجتك أو أهم من حاجتك, وأن تكون متفقدًا لأوقات الحاجة غير غافل عن أحواله كما لا تغفل عن أحوال نفسك, وتغنيه عن السؤال إلى الاستعانة, ولا ترى لنفسك حقًا بسبب قيامك بها, بل تتقلد منه بقبول سعيك في حقه وقيامك بأمره"(19).
3- إدخال السرور:
وهو المعنى الثالث المكمل لمعاني العطاء ولا عطاء بغير إدخل السرور؛ إذ إن السرور هو الدليل على الانتفاع بالعطاء والبذل, وهو الدليل على الانتفاع بالكرم والخدمة, لذا كان السرور الذي يدخله المسلم على أخيه من أحب الأعمال إلى الله(115/369)
سبحانه كما قاله صلى الله عليه وسلم, فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن من أحب الأعمال إلى الله إدخال السرور على قلب المؤمن, وأن يفرِّج عنه غمًا, أو يقضي عنه دينًا, أو يطعمه من جوع) (20).
وهناك ألف طريق وطريق لإدخال السرور على قلب أخيك أذكرك ببعضها:
• تبشيره بالبشرى التي يحبها.
• إخباره بأخبار الخير التي ينتظرها.
• قضاء دينه.
• إهداؤه الهدية.
• إخباره بأنك تحبه.
• إكرام أهله وأولاده.
• توقيره بين معارفه وأصحابه.
• المسارعة في محباته.
وغيرها كثير جدًا وهي معلومة معروفة ولكننا فقط نذكر {فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات: 55], وقد يكون إدخال السرور على المسلم بكلمة خير واحدة أو ببسمة رائقة أو بمصافحة مقبلة فتأمل ذلك.
4- معان قريبة:
هذا ويلحق بتلك المعاني كل معنى حسن يزيد في إيضاح المراد من العطاء من التضحية في سبيل الأخوة والصبر عليها وتحمل الأذى والثبات أمام التقلبات والتغيرات.
وعلى المعلم أن يضرب للمدعو المثال في التضحية والعطاء بفعاله, فربما تلقى المعلم السهام بصدره رجاء ألا تصيب الناس, وربما وضع نفسه موضع الضرر حتى لا يصيب الناس الضرر(21), وهو في كل ذلك يضرب أروع الأمثلة في الصبر لله والتضحية لله والبذل لله, فيكون معطاءً أينما كان, باذلاً أينما حل, تنطق أفعاله كلها بهذا المعنى, وهو في ذلك يقتدي بمعلمه صلى الله عليه وسلم .
ففي الصحيح من حديث عائشة رضي الله عنها أنها سئلت: هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي قاعدًا؟ قالت: نعم, بعدما حَطَمه الناس(22).
وكان الشافعي رحمه الله ينفي أن تصح مروءة داعية يطلب الراحة, فكان يقول: "طلب الراحة في الدنيا لا يصح لأهل المروءات, فإن أحدهم لم يزل تعبان في كل زمان".
وقال ابن الجوزي عن سبيل المؤمن ليكون من صفوة الله: إذا خلع الراحة أعطى المجهود في الطاعة.
وأما الإمام أحمد فقد ترجمت سيرته في محنته وحياته هذه الأوصاف عملاً حتى قال لابنه: "يا بني, لقد أعطيت المجهود من نفسي" وهو بذلك قد حد حدًا لا يسع الداعية النقصان فيه ولا التخلف عنه.
فعلى الداعية إلى الله بذل المجهود من نفسه, واستفراغ كل طاقته في خدمة الدعوة, طريق رسمه الإمام أحمد لا يسعنا أن نحيد عنه, ومقدار قدَّره للدعاة ليس لهم أن يقفوا دونه, نصيبًا مفروضًا هو: المجهود من النفس, وعلامته حين المحن: الصبر(115/370)
على الأذى حتى الموت, وعلامته في حياتك اليومية: أنك إن جئت إلى فراشك ليلاً لتنام وجدت لركبتيك أنينًا وفي عضلاتك تشنجًا, لكثرة تعبك في نهارك.
ومن لا يعلم موازين المؤمنين يظن ذلك حرمانًا من لذة الدنيا, ولكن من أوتي علم الكتاب يعرف أن الراحة الحقيقية: راحة الآخرة لا راحة الحياة الدنيا, ولذلك لما قيل للإمام أحمد: متى يجد العبد طعم الراحة؟ قال: عند أول قدم يضعها في الجنة(23).
ولما تعجب غافل من باذل وقال له: إلى كم تتعب نفسك؟ كان جواب الباذل سريعًا حاسمًا: راحتها أريد(24), فالطالب الصادق في طلبه كلما خرب شيء من ذاته جعله عمارة لقلبه وروحه, وكلما نقص شيء من دنياه جعله زيادة في آخرته, وكلما منع شيئًا من لذات دنياه جعله زيادة في لذات آخرته, وكلما ناله هم أو حزن أو غم جعله في أفراح آخرته(25).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) رواه البخاري ومسلم عن أنس رضي الله عنه, البخاري 1/ح 13/ فتح, مسلم 1/ إيمان / 67/71.
(2) رواه مسلم 1/ إيمان / 74/95.
(3) متفق عليه, أخرجه البخاري 1/57 / فتح, ومسلم 1/ إيمان / 75/ 97.
(4) شرح الأربعين - ابن دقيق العيد، ص 29، دار البصيرة.
(5) رواه أبو داود 2/ ح1522, والنسائي 3/ ح1302 صححه الألباني في صحيح النسائي برقم 1236.
(6) أخرجه أحمد 4/30, وأبو داود 4884, وحسنه الألباني في صحيح الجامع 5690.
(7) رواه مسلم 2/ زكاة/ 718/ ح97, والترمذي 4/ ح2343.
(8) متفق عليه, البخاري 10/ ح6034/ فتح, مسلم 4/ فضائل/ 1805/ ح56.
(9) أخرجه البخاري 3/ ح1433/ فتح.
(10) أخرجه مسلم 4/ بر / 1996 / ح56.
(11) رواه مسلم 3/ لقطة / 1354/ ح18.
(12) نقلاً عن كتاب: موعظة المؤمنين, ومعلوم أنه اختصار لإحياء علوم الدين للغزالي - رحمه الله - فنسبة القول للقاسمي هنا هي نسبة لاختصاره فقد يكون الكلام للغزالي نفسه.
(13) موعظة المؤمنين: للقاسمي جـ1 ص178, 179.
(14) من أخلاق السلف, أحمد فريد, ص52.
(15) تهذيب سير أعلام النبلاء 2/ 654.
(16) أين نحن من أخلاق السلف, ص112.
(17) موعظة المؤمنين, للقاسمي, ص180.
(18) أخرجه البيهقي في شعب الإيمان, وحسنه الألباني في الصحيحة 1494, صحيح الجامع 1096.
(19) تهذيب سير أعلام النبلاء 2/ 654.
(20) أين نحن من أخلاق السلف, ص112.(115/371)
(21) وهو من باب تحمل الضرر الخاص في سبيل تفادي الضرر العام.
(22) رواه مسلم في صحيحه برقم 732, كتاب صلاة المسافرين وقصرها, باب جواز النافلة قائمًا وقاعدًا.
(23) طبقات الحنابلة 1/293, مناقب الإمام أحمد لابن الجوزي 339.
(24) الفوائد لابن القيم، ص 64.
(25) الرقائق ص61, 62.
ـــــــــــــــــــ
الأجندة الشخصية لتقويم الدعاة
خالد روشه
5/6/1427
ارسل تعليقك ...
لا توجد تعليقات ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
يحتاج المرء دائماً إلى وقفة تقويم متكررة يراجع فيها جوانب تكوينه الشخصي وسلوكه وإنجازه, ويتأكد ذلك بشدة في حق الدعاة إلى الله الذين هم القدوة العملية المتحركة بتلك الدعوة أمام الناس, وهم الصف المتقدم للدفاع عن الدين وحماية عرض الأمة, ونشر البلاغ وأداء أمانة البذل لله والعطاء في سبيله, فالداعية إلى الله يجب أن يراجع خطته العملية والعلمية التي ينبغي أن يكون قد وضعها لنفسه ليحقق م أراده من قرب إلى ربه وتصحيح لمسار عمله وتطوير لآليات دعوته مع تعديل لسلوكه الشخصي وتقويم لذاته ودواخلها وعلاج لأمراض نفسه وقلبه وتجديد العهد مع ربه وتجلية القلب من ران الذنب وتكاثف البخار الأسود لرغبات الدنيا الزائلة.. يقول الله _تعالى_ " يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون ".
إنها دعوة لتقويم الذات سلوكيا ونفسيا وتطبيقيا وقد قسمتها إلى نقاط أساسية أحاول بيان المطلوب منها في إيجاز:
يحتاج المرء دائما إلى وقفة تقويم متكررة يراجع فيها جوانب تكوينه الشخصي وسلوكه وإنجازه, ويتأكد ذلك بشدة في حق الدعاة إلى الله الذين هم القدوة العملية المتحركة بتلك الدعوة أمام الناس
أولا: التقويم النفسي:
وأعني به مراجعة وتقويم أمرين أساسيين:
أولهما دوافع السلوك والثاني تفاعلات القلب, فأما دوافع السلوك فهي تلك الدوافع الكامنة وراء كل سلوك تجتمع معه فتكون الفعل الظاهر العملي في الخارج, فلكل فعل دافعية تدفعه نحو الخروج إلى عالم التنفيذ وقد أمر الإسلام بمراجعة تلك الدوافع قال الله _سبحانه_: " وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة " فالعمل العبادي هنا لابد أن تدفعه دافعية(115/372)
الإخلاص الكامل لله وحده لاشريك له, ومن ثم فحديث النبي _صلىالله عليه وسلم_ يعلمنا أن الحساب على ما وقر في القلب وخرج في الفعل لا ما ظهر من السلوك فحسب فيقول _صلىالله عليه وسلم_ في المتفق عليه " إن الله لا ينظر إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم ", فأصل التقويم هو تقويم ذلك الدافع الذي يجب أن يكون خالصا لله سبحانه وابتغاء الدار الآخرة, والداعية إلى الله سبحانه إذا كانت دافعية سلوكه دوما ابتغاء رضا ربه وامتثال لأمره فهو الناجح الذي سيظل في إنجازه وتقدمه وإذا سقط إلى هاوية رغبات الهوى وابتغاء رؤية الناس ومديحهم له أو افتخار لقدر نفسه أو أن يكون فعله عادة تعودها أو أن دعوته إلى الله واطأت رغبة محمومة في نفسه بالتقدير أو التوقير أو صحبة قوم بأعينهم أو مصلحة ذاتية معينة فعنذئذ قد خاب عمله وساء سعيه وفشل مراده فلن يجني من تعبه إلا الحنظل المر والشوك الدامي إذ إنه استحب العاجلة على الآجلة الخالدة, يقول النبي _صلىالله عليه وسلم_ كما عند أصحاب السنن " رب صائم ليس له من صومه إلا الجوع والعطش ورب قائم ليس له من قيامه إلا السهر والتعب " والأمر ههنا مطرد في كل عمل, وعمل الدعوة من باب أولى فهو نوع عبادة أيضا فنستطيع أن نقول أيضا أنه: رب داعية متحرك ليس له من دعوته ولا من حركته إلا الجهد والتعب...
وهناك أمر آخر خفي أحب أن أنبه إليه الدعاة إلى الله أن ينتبهوا له ويحذروا منه وهو أن بعض العاملين في ساحات العمل الدعوى يعتادون عملهم كعادة متعودة لهم, فيلقى ذلك في نفوسهم رضا وراحة حيث يدعوهم الناس بأسماء أهل العلم (كالشيخ والأستاذ والمعلم والداعية..الخ) ويسألونهم في مشكلاتهم, ويوقرونهم في مجالسهم ويدعونهم في مأدباتهم ويثنون عليهم,.والناس بطبيعتهم يحبون الصالحين, فقد يجد ذلك استحسانا في قلب بعض الدعاة فيكون عملهم رجاء تثبيت هذه المكانة والرفعة من ذلك القدر وتحصيل هذا المقام وليس ابتغاء رضوان الله الواحد القهار, فيتحول عمله إلى تجارة دنيوية نتاجها بوار وخسران, وربما يكون ذلك هو تفسير استمساك بعض الدعاة بكثرة عدد الحضور في مجالسهم وتغير وجوههم عند ذكر الآخرين من الدعاة الذين يكثر تلاميذهم, وربما يكون هو كذلك سبب استمساك البعض بتلك الأنماط المعروفة من الملبس وطريقة الحديث والمعاملة تشبها بالعلماء والدعاة الكبار, ولست أقصد أن أعيب التشبه بالصالحين فالتشبه بهم منقبة خير ولكنني أحذر الدعاة إلى الله أن يكون عملهم نمط ظاهر لا إخلاص فيه ولا إنابة منه ولا تحصيل لثواب في الآخرة, وقد كان العلماء الصالحون لا يحرصون على الخير من الدنيا بحال بل ولم يكونوا يستحبون كثرة الأتباع في الطرقات ولا أن يقال أنه صالح أو أنه عالم أو أنه كذا أو كذا: قال الشافعي _رحمه الله_:
والعرف والتقاليد جزء من تكوين شخصية المسلم ولكنه ذلك العرف الذي لا يتعارض مع كتاب الله أو سنة نبيه، فالكتاب والسنة أولا ثم تأتى الأعراف والتقاليد إذا اتفقت مع أوامر الله ونواهيه، وكذلك أوامر الرسول ونواهيه
أحب الصالحين ولست منهم عسى أن أنال بهم شفاعة
وأكره من تجارته المعاصي وإن كنا سواء في البضاعة
وأنشد أحمد يوماً بعدما أغلق على نفسه بابه:(115/373)
إذا ما قال لي ربي أما استحييت تعصيني.. وتخفي الذنب عن خلقي وبالعصيان تأتيني.
وأما الأمر الثاني: فهو تقويم تفاعلات القلب وعلاج أمراضه, فإن الله سبحانه قد أمر بتطهير القلب وتزكيته وتخليصه من درنه ومرضه, قال ابن القيم رحمه الله: في قوله _تعالى_ " وثيابك فطهر": جمهور المفسرين من السلف ومن بعدهم على أن المراد بالثياب هنا هو القلب, بل قال سبحانه عن الفاسدين والمبعدين عن رحمته وفضله " أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب أليم " فجعل عدم تطهير تلك القلوب من أهم الأسباب الموجبة للعذاب, قال _صلى الله عليه وسلم_: "ألا وإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلا وَهِيَ الْقَلْبُ " رواه البخاري ومسلم.
وقال الله سبحانه: " هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ " فقدم التزكية على التعليم من باب تقديم الغرض والغاية على الوسيلة التي تؤدي إليها, فالأصل هو: تزكية هذه القلوب التي هي موضع نظر الله من العبد, وقد علمنا الشرع الحنيف أن الله _تعالى_ لا يقبل من الأعمال إلا ما خرج من قلب سليم فقال سبحانه " يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم " والقلب السليم هو الذي خلصت عبوديته لله سبحانه وخلص عمله له وهو السالم من كل شبهة وشهوة تخالف أمر الله وخبره _سبحانه وتعالى_, ومن ظن أن أشد ابتلاء العبد هو ابتلاؤه في جسده فقد أخطأ إنما هو ابتلاء القلوب قال الله _سبحانه_: " وليبتلي الله ما في صدوركم وليمحص ما في قلوبكم وقال سبحانه " أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى "
وتفاعلات القلب هي صراعاته التي تحدث في داخله بين مراداته الصالحة وطغيان أمراضه الخبيثه, فأيهما ينتصر؟!! ولذلك فإنك قد تجد أن بعض الدعاة قد تحسن له صفة وتسوء له أخرى, بل أنه في بعض الأحيان يظهر بصورة الحليم الكريم وفي بعضها الآخر يبدو في صورة العتل الغليظ الصاخب الغضوب البخيل, وما ذلك إلا لغلبة مرض القلب في بعض الأحيان على مراده الصالح, ولذلك فقد علمنا النبي _صلى الله عليه وسلم_ أن نهتم بتقويم ذلك الصراع وتلك التفاعلات القلبية فقال _صلى الله عليه وسلم_: ولكن الشديد من يملك نفسه عند الغضب ", وقال من كظم غيظا وهو قادر على أن ينفذه ناداه الله على رؤس الخلائق يزوجه من الحور كيف يشاء " وعلّم أن من ترك المراء وهو محق فله بيت في ربض الجنة... إلى غير ذلك, بل في بعض أحاديثه _صلى الله عليه وسلم_ قد شرح لنا وفصل جانبا من ذلك التفاعل وكأننا نشاهده رأي العين فقال في حديث حذيفة عند مسلم " تعرض الفتن على القلوب كعرض الحصير عودا عودا فأيما قلب أشربها نكتت فيه نكته سوداء وأيما قلب ردها نكتت فيه نكتة بيضاء حتى تعود القلوب على قلبين أسود مربادا كالكوز مجخيا لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا إلا ما أشرب من هواه وأبيض مثل الصفا لا يضره شىء ما دامت الأرض والسماء ".. وكل هذا التفاعل نحن عنه غائبون ولا ندري ما يحدث في ذلك القلب, ولكن صاحبه يدري به ويستشعر أثره فراقب ربك يأيها الداعية إلى الله واحرص أن يكون رجاء الله دائما هو الغالب وعالج(115/374)
قلبك واكبح جماح نفسك وعالج هواها من قبل أن يأتي يوم " لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة "
ثانيا: التقويم السلوكي:
ونحب أن نؤكد فيه على أمرين أساسيين:
أولهما: تقويم الأخلاق العامة وثانيهما تقويم أخلاق أهل العلم والدعاة,
الإسلام دائما يحث المسلم على إتباع الخلق الحسن كما قال الله عز وجل في كتابه الكريم " خذ العفو وأؤمر بالعرف واعرض عن الجاهلين" و أهم ما في السلوك أن نكون قدوة عملية تطبيقية للخلق, وخلق المسلم منبثق من شريعة الله عز وجل ومن أوامر الدين لأن الخلق عند الغربي هو خلق نفعي وخلق مؤقت أي أنه خلق يتوقف على الحالة التي يكون عليها الإنسان فهذا إن لاق بالغربي النفعي فلا يمكن أن يليق بالدعاة إلى الله بحال, فلا ينبغي أن يكون سلوك الدعاة نفعيا أو قريبا من النفعية أو متعلقا بمصلحة دنيوية زائلة.
ولا ينبغي أن ننظر إلى الأخلاق على أنها مجرد فضائل للتحلي فإن ذلك يعد نظرة ضيقة جدا لحقيقة ما يجب أن يكون عليه خلق المسلم وهناك قاعدة تبنى عليها قواعد التعامل الأخرى، وهي قاعدة حسن الخلق, ويبين الرسول _صلى الله عليه وآله وسلم_ هذه القاعدة بقوله: " اتق الله حيثما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن ". وعن أبي الدرداء _رضي الله عنه_ " أثقل ما يوضع في الميزان يوم القيامة تقوى الله وحسن الخلق ", فالخلق في الإسلام فرائض فرضها الله _سبحانه وتعالى_، وليست فضائل فحسب. كما أن الخلق يمثل أوامر ونواهي حيث نهى الله عن الغيبة، والكذب، وغش الناس، وشهادة الزور وهذه النواهي تعادل الأوامر حيث أمر الله بحسن التعامل مع الناس والأمانة، وكذلك الصدق معهم وبالتالي فإن خلق الإسلام عبارة عن أوامر ونواهي وهذا هو الجانب الذي تأخذه من إطار الإسلام العام, وأني لأتعجب من بعض الأدعياء عندما يهتمون بمظهرهم الخارجي مع اتصافهم بصفات السوء تلك فكيف يقبل الناس نصحا من داعية تاجر يغش تجارته ويحرص على الربح فيها بأي وسيلة ويكذب في بيعها؟ وكيف يقبل الناس نصحا من آخر يعمل يشهد زورا ليبرئ نفسه أو يحلف كذبا ليرفع قدره أو يسمح بأن يشتهر عنه قراءة كتب معينة أو حفظ متون معينة أو التعلم على يد شيوخ معينة وهو لم يفعل من ذلك شيئا أبدا.. إلا رجاء الشهرة البغيضة, ثم يكتشف الخلق الشينة فيهلك مرتين!!
ولخص أحد الحكماء صفات حسن الخلق فيما يلي " هو إن يكون كثير الحياء، قليل الأذى، كثير الإصلاح، صدوق اللسان، قليل الكلام، كثير العمل، قليل الزلل، براً وصولاً، وقوراً صبوراً شكوراً رضياً، عفيفاً شفيقاً، لا لعاناً ولا سباباً، ولا نماماً، ولا مغتاباً، ولا عجولاً ولا حقوداً، ولا بخيلاً ولا حسوداً، بشوش، يحب في الله، ويبغض في الله، يرضى في الله، ويغضب في الله " فمن عرض نفسه من الدعاة على ذلك فوجد نقصا فليجهد نفسه للاتصاف به وتعلمه والتدرب عليه ومن وجد خيرا فليثبت عليه وليحسنه وليلزمه مع الجميع..(115/375)
والعرف والتقاليد جزء من تكوين شخصية المسلم ولكنه ذلك العرف الذي لا يتعارض مع كتاب الله أو سنة نبيه، فالكتاب والسنة أولا ثم تأتى الأعراف والتقاليد إذا اتفقت مع أوامر الله ونواهيه، وكذلك أوامر الرسول ونواهيه. أما إذا اختلفت مع ما في دين الله سبحانه و_تعالى_ من كتاب وسنة فتلغى تماما ولا تكون و إلا كانت عصبية وجاهلية, ولقد كان النبي _صلى الله عليه وسلم_ المثل الأعلى في حسن الخلق، وغيره من كرائم الفضائل والخلال. واستطاع بأخلاقه المثالية أن يملك القلوب والعقول من القاصي والداني مع اختلاف تقاليدهم وتباين عاداتهم، قال على بن أبي طالب: (كان أجود الناس كفا، وأجرأ الناس صدرا، وأصدق الناس لهجة، وأوفاهم ذمة، وألينهم عريكة، وأكرمهم عشرة. من رآه بديهة هابة. ومن خالطه فعرفه أحبه، لم أر مثله قبله ولا بعده)
وأما الثاني فهو أخلاق أهل العلم والدعاة: وأخص بالذكر منها آداب الخلاف والعمل بمقتضى القول, فهي التي استشرى أثر التخلي عنها وكثر القيل والقال بسبب غيابها, فقد يتحول الخلاف عند البعض إلى شحناء وبغضاء، وإلى تنافر وتباعد؛ بل قد يؤدي بهم إلى كبائر الآثام, إن السلف الصالح قد تربوا على آداب الإسلام وأخلاق النبي _صلى الله عليه وسلم_ قبل أن يلجوا باب الاختلاف؛ فلما اختلفوا ساد في أوساطهم الحب والتراحم والتناصح، لكن بعضنا تعلم الاختلاف قبل أن يتربى على آداب وأخلاق الإسلام؛ فأحس أن ثمة معركة تستخدم فيها كل الأسلحة المشروعة وغير المشروعة من أجل الانتصار وإفحام المخالف, ونحن بحاجة إلى التأكيد على بعض الآداب الهامة وتقويم سلوكنا في ضوئها, حتى لا نصبح صياحين في كل واد وناد حول اختلافات العالم الفلاني أو اجتهادات العالم الآخر, ولنعلم أن المجتهد الذي استوفى شروط الاجتهاد مأجور على أي حال؛ فهو مأجور أجرا واحدا إن أخطأ، ومأجور اجرين إن أصاب، وكذلك العامي الذي يقلد مجتهدا كبيرا استوفى شروط الاجتهاد العلمية والخلقية في مسألة معتبرة الخلاف, وما دام المجتهد قد استفرغ الجهد والطاقة في الاجتهاد، والعامي استفرغ الجهد والطاقة في البحث عن المجتهد المستوفي شروط الاجتهاد؛ فلا مكان أن يعيب على أحد منهما أو يسفه رأيه أو يغمزه في دينه أو عرضه، قال الحافظ ابن عساكر _يرحمه الله_: " أن لحوم العلماء مسمومة، وعادة الله في هتك منتقصيهم معلومة، وأن من أطلق لسانه في العلماء بالثلب بلاه الله قبل موته بموت القلب "
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية _رحمه الله_: "المسلمون متفقون على جواز صلاة بعضهم خلف بعض، كما كان الصحابة والتابعون ومن بعدهم من الأئمة الأربعة، يصلي بعضهم خلف بعض، ومن أنكر ذلك فهو مبتدع ضال مخالف للكتاب والسنة وإجماع المسلمين، وقد كان في الصحابة والتابعين ومن بعدهم من يقرأ بالبسملة، ومنهم من لا يقرأ بها، ومع هذا فقد كان بعضهم يصلي خلف بعض، مثل ما كان أبو حنيفة وأصحابه والشافعي وغيرهم يصلون خلف أئمة المدينة من المالكية وإن كانوا لا يقرؤون بالبسملة لا سرًّا ولا جهرًا. وصلَّى أبو يوسف خلف الرشيد وقد احتجم، وأفتاه مالك بعدم وجوب الوضوء فصلَّى خلفه أبو يوسف ولم يُعِد... وكان أحمد يرى(115/376)
الوضوء من الحجامة والرعاف فقيل له: فإن كان إمامي قد خرج منه الدم ولم يتوضأ أصلي خلفه؟ فقال: كيف لا تصلي خلف سعيد بن المسيب ومالك؟".
فإن التفريط بالأخوة الإسلامية أو المساس بها لمجرد اختلاف في الرأي أمر لا يجوز لمسلم أن يفعله، أو أن يسقط في شراكه، لاسيما في هذه الظروف التي تداعت فيها علينا الأمم، ولذلك فإن علماء السلف كثيرًا ما يفعلون المفضول ويتركون الأفضل منه مراعاة للائتلاف وخروجًا من الخلاف والنزاع، وقد يتركون المندوب، في نظرهم، ويفعلون الجائز تحقيقًا لذلك".
كذلك فإن محاولة احتكار الصواب خطأ آخر يجب تقويمه, فقد رفض الإمام مالك عرض أبي جعفر المنصور عليه بجعل كتابه "الموطَّأ" مرجعًا وحيدًا للمسلمين، وقال للمنصور: "يا أمير المؤمنين، لا تفعل، إنَّك إن فعلتَ ذلك شققت على المسلمين", وقال عمر بن عبد العزيز: "ما يسرُّني أنَّ أصحاب محمَّدٍ _صلى الله عليه وسلم_ لم يختلفوا، لأنَّهم إذا اجتمعوا على قولٍ فخالفهم رجلٌ كان ضالاّ، وإذا اختلفوا فأخذ رجلٌ بقول هذا، ورجلٌ بقول هذا، كان في الأمر سَعة".
كذلك فإن التزام الدعاة بأقوالهم وتطبيقها عمليا هو لب دعوتهم وقلبها السلوكي النابض وأقصد بذلك أن يطابق قول الداعي عمله، وأن يتمثّل ما يقوله عملاً وسلوكًا ومنهاج حياة، وأن لا يخالف في عمله بالجوارح والمقاصد ما يقوله بلسانه, فقد قال الله _تعالى_ على لسان شعيب " وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ[", وعن أسامة رضي الله عنه قول النبي _صلى الله عليه وسلم_: [يُجَاءُ بِالرَّجُلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُلْقَى فِي النَّارِ فَتَنْدَلِقُ أَقْتَابُهُ فِي النَّارِ فَيَدُورُ كَمَا يَدُورُ الْحِمَارُ بِرَحَاهُ فَيَجْتَمِعُ أَهْلُ النَّارِ عَلَيْهِ فَيَقُولُونَ أَيْ فُلَانُ مَا شَأْنُكَ أَلَيْسَ كُنْتَ تَأْمُرُنَا بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَانَا عَنْ الْمُنْكَرِ قَالَ كُنْتُ آمُرُكُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا آتِيهِ وَأَنْهَاكُمْ عَنْ الْمُنْكَرِ وَآتِيهِ] رواه البخاري ومسلم, والداعية إلى الله يدعو بالبيان القولي والعملي لا يمكن أن ينفصلا بحال, والقدوة أبلغ من القول إقناعًا وأعمق تأثيرًا، ومن أهم ذلك استمرارية التطبيق وعدم الانقطاع عن الصالحات من الأعمال فإن المنقطع عن العمل قدور منبتة وصورة مشوهة للعمل الدعوي الفاضل َقَالَ _صلى الله عليه وسلم_: [اكْلَفُوا مِنْ الْعَمَلِ مَا تُطِيقُونَ فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَا يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا وَإِنَّ أَحَبَّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَدْوَمُهُ وَإِنْ قَلَّ] رواه البخاري ومسلم.
ثالثا: التقويم الدعوي وتقويم الإنجاز:
كذلك فإن الدعاة في حاجة ماسة إلى تقويم مستمر ومراجعة لعملهم الدعوي وبرامجهم الدعوية ويحتاجون إلى نظرة متفحصة لما أنجزوه خلال أيامهم السابقة, وهنا أحب أن أشير إلى مفهوم حديث ثابت صحيح قد اتشر الاستدلال به في غير موضعه " وهو قوله _صلى الله عليه وسلم_: يأتي الرجل ومعه الرجل ويأتي الرجل وليس معه أحد " يعني من الأنبياء يوم القيامة, فمنهم من يقل أتباعه لهذه الدرجة, وهنا بيان لصورة من صور انتصار الدعاة إلى الله وهو الانتصار بالثبات على النهج الرباني والصلابة على الدعوة إلى الله مهما رغب عنها الناس وفروا منها, وليس في ذلك أبدا دعوة للكسل والتكاسل والتصرف بغير مراعاة لإنجاز الدعوة ولا للاهتمام(115/377)
بالمدعوين وصلاحهم, فالأنبياء جميعهم نحن نؤمن يقينا أنهم أدوا الأمانة وبلغوا رسالتهم ويذلوا في سبيلها حياتهم كلها ونافحوا لأجلها وأعطوا وقدموا ما استطاعوا في سبيل ذلك واتخذوا كل سبيل وكل طريق لذلك.. فهل بعد ذلك مقارنة بين أحوالنا نحن الكسالى عن الدعوة إلى الله وهم المجتهدون الباذلون؟ بل انظر إلى ذلك النبي الكريم نوح عليه السلام - وهو ممن يأتي وما آمن معه إلا قليل - كيف يصف الله سبحانه عمله وبذله، فيقول الله _تعالى_: " قال رب إني دعوت قومي ليلا ونهارا فلم يزدهم دعائي إلا فرارا وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكبارا ثم إني دعوتهم جهارا ثم إنى أعلنت لهم وأسررت لهم إسرارا ".
فالداعية إلى الله يجب أن يراجع إنجازه على مستويين الأول رأسي وهو مدى تقدمه العلمي والثقافي وتقدم مواهبه وحصوله على المعلومات المتدفقة المختلفة التي أثرت فكره ورفعت مستواه العلمي والفقهي ولحديثي والواقعي, والثاني أفقي وهو مدى قدرته على إقناع الآخرين بدعوته ومدى الاستجابة له, ومدى قدرته على التأثير في مجتمعه, وبالعموم فعملية تقويم الداعية لموقفه الدعوى هي حكم كيفي على دوره وقيمته وأنشطته, ومدى تحقيقه للأهداف المحددة له و قياس نوعية سلوكه بما يتناسب مع الأعمال المنوطة به, و كذلك قياس النتائج التي تحققت من تنفيذ الأساليب التي انتهجها طوال الفترة السابقة وهي لازمة له بشكل دوري و منتظم.
ـــــــــــــــــــ
خروق في بناء التربية (1)
أمير سعيد
12/5/1427
ارسل تعليقك ...
تعليقات سابقة ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
في هذا الجو المشحون بالمغريات والفتن، وفي ظل حياة تتلاطم في بحارها موجات التغريب، يتطلع الدعاة المخلصون إلى خلق بيئة إسلامية محدودة العدد ممتدة النسب لإبعاد العنصر موضوع التربية عما يغير من فطرته السليمة وينزع عنها ما يتلبس بها من تأثيرات داخلية نفسية أو في واقع النشأة. التي تؤثر على تكوين شخصية هذا العنصر موضع التوجيه والتربية...
ورغبة الدعاة هذه، هي محل تقدير واحترام من كل محب للخير، والرغبات إذا كانت خيرة وطيبة يرجى أن يوفق صاحبها إلى الوصول إلى وسائل شرعية وإيجابيات سليمة تأخذ بيديه إلى الضفة الأخرى من النهر، فالرغبة والإرادة مهما بلغت من سمو، ومهما تمتع صاحبها من نبل ليست كافية لوصف هذا العمل التربوي بالنجاح والجودة، فكلاهما لا يقاس بصدق الإرادة المجردة من الاكتراث بالسبل المؤدية بالعملية التربوية إلى النجاح والسداد.(115/378)
والعملية التربوية شأنها كأي عبادة، هي لا تصلح إلا بتحقيق شرطي قبول العمل: الإخلاص والشرعية، وهذان الشرطان يتجسدان في جملة من الضوابط والمحاذير التي تضبط عجلة قيادة التربية ولا تجعلها تنصرف يمنة ويسرة، وبمفهوم الضد؛ فإننا نعرضها من خلال الخروق التي نوصدها في بناء التربية من واقع ما نلمسه في التجارب التربوية المشاهدة في الكيانات الدعوية والمحاضر التربوية:
في هذا الجو المشحون بالمغريات والفتن، وفي ظل حياة تتلاطم في بحارها موجات التغريب، يتطلع الدعاة المخلصون إلى خلق بيئة إسلامية محدودة العدد ممتدة النسب
أولاً: ما يخص منها شخصية المربي ذاته:
1- سعيه إلى تربية الآخرين، وعجزه عن تربية ذاته:
في تفسير قول الله _تبارك وتعالى_: "أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ" (البقرة:44) حكى الإمام الطبري إجماعاً لأهل التأويل على أن كل طاعة لله فهي تسمى براً قال السدي: كانوا يأمرون الناس بطاعة الله وبتقواه وهم يعصونه (الطبري جـ1 ص8) قال ابن جريج من أمر بخير فليكن أشد الناس مسارعة فيه، وهذا الذي يعنيه ابن جريج إنما مغزاه أن المربي والموجه والداعية ليس مطلوباً منه أن يماثل من يتوجه لهم بخطابه بل يكون الأشد مسارعة بالخير، الآخذ بحظ أوفر من البر، فيكون فيهم شامة، قامته أعلى دائماً من قاماتهم ليس كبراً واعتداداً بالنفس وإنما تقى وإيماناً وورعاً.
ومغبون من ظن أن تصدره في الناس وسماع أتباعه لأقواله دليل صحة طرق تربيته واستقامة منهجه وسلوكه ما لم يكن في مخبره كمظهره؛ فإن الله _سبحانه وتعالى_ طيب لا يقبل إلا طيباً، ومهما بلغ هو من جمال الوجه وحلو الكلام وجزالته، فلن يدنو من نجاح التربية ما لم يكن أصيلاً في قربه من الله حقيقة لا ظاهراً؛ فإن من كرامة التربية الإسلامية أن نزهها الله _عز وجل_ عن أن تنتج خيراً تتوافر عليه، فبيع المرء ما لا يملك فاسد، وإن امتلأ السوق بالسوقة، وطرقه بالساعين، ولكن ساق القدر من مشاهد غزيرة الدلالة لأسواق خلت بعد أن أدرك المشترون أن البضاعة مغشوشة، والتاجر مريب.
وحيث إن الداعية المربي مأمور بتسديد خطاه – أولاً – وتصويب منهجه، فهو مدعو دوماً لمراجعة نفسه، ومعالجة قلبه، وامتحانه: هل تخالط بشاشة الإيمان قلبه أم لا؟ هل يملك أمر الدين عليه حياته؟ هل تسكن به روحه؟ هل تهرول مشاعره إليه؟ هل تمضي جوارحه مذعنة لأوامر الله؟ هل يخشع قلبه لذكر الله وما نزل من الحق؟
وليس المقصود هنا بطبيعة الحال أن يبلغ المربي درجات الكمال، فهذا مالا يكون، ولذا قال سعيد بن جير: لو كان المرء لا يأمر بالمعروف، ولا ينهى عن المنكر حتى لا يكون فيه شيء ما أمر أحد بمعروف ولا نهى عن منكر (ابن كثير جـ1 ص246)، وإنما المقصود أن مقام المربي ليس كمقام المبلّغ العارض الذي يلقى موعظة أو نصحاً ويمضي، وإنما ذاك قريب ممن يربيهم، ينضح عليهم بمخبره كذلك كما مظهره، إنها هنا حالة امتزاج روحية يتأثر فيها هذا بذاك، وذاك بهذا كذلك وإن بدرجة أقل...(115/379)
وتأمل وصف أنس بن مالك _رضي الله عنه_ وأرضاه للنبي _صلى الله عليه وسلم_: "خدمت رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ عشر سنين فما قال لي أف قط، وما قال لي لشيء فعلته لم فعلته؟ ولا لشيء لم أفعله لم لا فعلته؟" إن هذا القرب الشديد في بيت النبوة كان كفيلاً بأن يصوغ شخصية أنس بن مالك _رضي الله عنه_.. أتراه بعد هذا كان يفعل ما يستوجب اللوم بعد تلك المعاملة الراقية؟! هذا نمط تربوي انسكب دون اصطناع في نفس أنس فصاغته – وهو لم يكن إذ ذاك قائداً عسكرياً أو ما نحو ذلك، بل خادماً لرسول الله _صلى الله عليه وسلم_ – فصير أنساً من بعد وأثناء ذلك (أنس بن مالك) الصحابي العظيم المعروف..
وبطبيعة الحال فلم يكن في الأمر أي تكلف فقد كانت شخصية النبي _صلى الله عليه وسلم_ الأسرة تشع نوراً ذاتياً من باطن طيب وقلب سليم لمن حولها، فأثمرت هذه التربية تلك القامات، التي كانت بدورها تفقه تأثير المخبر على دعوة اللسان وتربية الأنفس.. يقول ابن عباس _رضي الله عنه_ لرجل رجا في نفسه قدرة على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: إن لم تخش أن تفتضح بثلاث آيات من كتاب الله فافعل وتلا "أتأمرون..." "لم تقولون مالا تفعلون" "وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه" فلما بين الرجل أنه لم يحكم هذه الآيات، قال له ابن عباس فابدأ بنفسك.
والحقيقة التي يدركها المربون بتجاربهم أنهم كلما ازدادوا اجتهاداً في عملهم التربوي داهمتهم أمراض قلوب جديدة لم يكونوا يعالجونها وهم مجاهيل وأفراخ صغار، وما لم يكن من سابق الاستعانة بالله واللوذ بجنابه والانكسار والتذلل له، والزاد الإيماني المخبوء والمستور عن الناس، لوقعوا فرائس الفتن واجتالتهم الشياطين وتلاعبت بهم الأهواء.. ألم تر أنه في خضم اتساع الأحداق، وانتباه الآذان لكلامهم المنمق.. وفي فرط حماستهم ينسون أنفسهم، وانظر إلى دقة اللفظ القرآني وبديع التعبير "وتنسون"، حيث ينبتّ حينها اللفظ عن اللسان، فتجد اللسان آمراً بالمعروف، وبذات هذا اللسان تجري عليه الغيبة والكذب والبهتان في مجال آخر ومناسبة مغايرة.
ويجد المربي أو الموجه أو الواعظ نفسه وقد نساها وانشغل بغيره، فكأن ما يلفظ به من حديث هو غير معني به بالأساس، أو أنه قد تجاوز مرحلة الوعظ بمراحل! فتراه يقرع أسماع الناس بقوله "اتقوا الله" فإذا قيلت له خالها سبة وسوء أدب وتجاوز لحدود اللياقة!! وما ذاك إلا لأنه أخرج نفسه من دائرة الوعظ والتوجيه والتربية فنسي نفسه، ويساعده المناخ في أن يشعر بذلك الشعور المهلك أن يقال له مربي أو داعية أو شيخ أو عالم، فيتصور نفسه قد تجاوز مرحلة التربية والتوجيه، وإن هز رأسه أو طأطأة عند سماع موعظة فلا تحدثه نفسه إلا عن ذلك من تمام الصورة اللائقة للداعية القدوة الأواب المتواضع وهو بعيد عن ذلك بأميال، فهو حاز لقب مربي أو.. ونفسه مستنكفة أن تتواضع إلا ظاهرياً.
ويجهل هذا أن القدوة لا تُتصنع، وإن صنعت بهتت وضاعت ألوانها مع أول موجة بحر، وإن أثمرت لم تثمر إلا حنظلاً، وإن أنتجت لم تنتج إلا أشباهها من الدمى التربوية وأوراق الخريف الساقطة. وما أبدع قول بعض الحكماء عن الآية الكريمة:(115/380)
"أتطالبون الناس بحقائق المعاني وأنتم تخالفون عن ظواهر رسومها" (القرطبي جـ1 ص364) يقول ابن جريج قالت فرقة: كانوا يحضون على الصدقة ويبخلون.
2- جهله بحقيقة حاله وقدراته الذاتية:
تسوق الأقدار أحياناً أشخاصاً لا يتوافرون على أدوات التربية إلى مواقع الصدارة التربوية فيأنسون في أنفسهم رشداً وقدرة على أداء هذا الواجب، ويكون هؤلاء أحياناً عذراً ومنطقاً حين تشغر أماكن كان من المفروض أن يشغلها غيرهم، فتدفعهم الحمية للدين أحياناً أو رغبات في التصدر أو ذهولاً عن قدراتهم الحقيقية وحسن ظن بذواتهم إلى التصدي لهذا الواجب، وقد يكونون سليمي الصدور ومحبي خير لكن قدراتهم الذاتية لا تسعفهم في واقع الأمر، وقد لا يعيبهم ذلك كمسلمين، بل يقبل الدين قدراً أقل من هذا العطاء السخي في ميدان التربية، إذا لا يجدوا ما يتحملهم عليه قدراتهم فيتولوا قافلين راشدين إلى حيث صفوفهم الحقيقية بين الناس، بيد أنهم يأبون إلا ممارسة التربية من دون أدوات فتذهب جهودهم أدراج الرياح، وقد يسيئون أكثر مما ينفعون.
فهذا لا يملك شخصية تصلح كقدوة، فيحصر التربية في تلقين مدرسي ينتج نماذج مستنسخة منه، ويصبح هذا النمط التربوي عدوى، تربية جوفاء.. وظيفة أو مهنة تخلو من الروح السارية في النفوس العابرة لشواغل النفس وجواذب الأرض.. عدوى تنتقل من جسد لآخر حتى يتساند الجميع في صعيد واحد لا كصف وبنيان مرصوص وإنما خشبُ مسندة.
وهذا يخال التربية قدرة على جذب الناس وتجميعهم حوله، بأي وسيلة وأي طريق؛ فيسرف بالهزل والمزاح أو يخضعهم لذكائه ورجاحة عقله، وينصرف الناس إليه، وما يدري أن هذه وسيلة تأسر قلوب الناس فيدورون بفلكه هو، وقد لا يدورون مع الإسلام حيث دار، روى البخاري عن حذيفة _رضي الله عنه_ من حديث رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ الذي ذكر به كيف ترفع الأمانة من الناس، حين تختلط المعايير: .. ويقال للرجل ما أعقله، وما أظرفه، وما أجلده، وما في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان.. (البخاري: رفع الأمانة ج20 ص150).
وهذا ينطلق في التربية ويشكل محاضنها ويجذب الناس إليها لكنه ذاهل عن قدرته العلمية التي تحمله على صدارة هذا المكان سواء كانت الشرعية أو تلك الحاكمة لقواعد التربية وأصولها وطرق ممارستها، ولا يجهد نفسه في تعلمها..
أو هذا الذي يتناقض مع سابقه؛ فيولي هذه القواعد – وبعضها علم تجريبي خاضع للجدل والأخذ والترك – أهمية مبالغ فيها، فيستحيل ممثلاً مخادعاً لا قدوة ربانية، وإذا خاطبك بالقول "أيها الحبيب" شعرت به على الفور يطبق عليك بنداً من كتاب، فيصير مسخاً لا هو منحك حباً ولا صدقك في مشاعره – متصنعاً متأرجح بين عذوبة اللفظ وجفاف المشاعر..
وهذا يرى في نفسه شخصية متكاملة، فمادام قد أراد أن يربي أشخاصاً، فهو في نظره القاصر قمين بأن يسد لهم كل ثغرة، فتراه يوماً عالماً شرعياً، وتارة مفتياً، وتارة خبيراً اقتصادياً، وغداً محللاً سياسياً، وبعده رحالة، وهكذا... يريد أن يستغني(115/381)
من معه عن غيره في أي شيء، وإذا ما رغبوا في القراءة منحهم مصنفاته عن طيب نفس!
وهذا يظن في التربية أن غايتها أن يفتح محازبوه رؤوسهم للإلقاء مع اعتمال في نفسه من أفكار ورؤى فيها التي قد يراها من فرط اقتناعه بها وحماسته لها توقيفية لا ينبغي لمسلم أن يحيد عنها قدر أنملة، وحين يترك محازبوه عقولهم على باب درسه. ويسلموا الرأس له، ويكونوا له أصفاراً طيعة في يده مبهورة بما أفاء الله عليه من علم وفهم؛ فهذا منتهى أمله، ومحطة النهاية في مشواره التربوي.
وهذا يعظم الجانب التعبدي في منهجه التربوي، لكنه يعبر منطقة المحمود إلى المذموم في توجيهه لإخوانه، فيظن أن الله قد بعثه رقيباً على العباد، وتبرز أمام عينيه كلمة "المتابعة" وتتضخم، حتى يغدو متحمساً متجسساً على أفعال من يربيهم، وكأنه معني بمعرفة أحوالهم في الصلاة، وكم حظهم من قيام الليل، وهل صلوا في المسجد الذي يلتقيهم فيه كي يطمئن على صدق تدينهم، وما إلى ذلك.. أو ما يتجاوزه من اختبارات الصدق والتفتيش خلف الضمائر وتتبع العورات بما يحمّل المربي أوزاراً ينوء بها كاهله ثم دعوته إلى ما تلبث أن تمحق بركتها وتنهدم بنيتها. ومن قبل تنتقل عدوى هذا الفضول المذموم المدموج باسم "المتابعة" افتراه عليها إلى الأتباع، فيصبحون أدوات تسلط باسم الدعوة والتربية عوض أن يكونوا هداة ناصحين
3- ذهوله عن إدراك التباين الشخصي والمعرفي والتديني لكل شخص ممن يريد التأثير فيهم عن الآخر:
من أبرز آفات التربية توحيد الرسالة التربوية والخطاب الدعوي لفئام من الناس يختلفون جذرياً بعضهم عن بعض في مناحٍ عديدة، فتكاد ثرى المربي وقد تحول إلى شخصية آلية تطبق النظرية التي أفلحت مع هذا مع شخص آخر لا يكاد يجمعه سوى الإسلام بخطوطه العريضة مع سابقه، ويتجنب أخرى لم تفلح مع ذاك لمجرد أنها لم تناسب شخصاً معنياً، ويذهل هذا المربي عن أن النبي _صلى الله عليه وسلم_ لم يكن يتعامل مع الأعراب كما يتعامل مع الحضريين، ولم يكن يخاطب ذوي المكانة الاجتماعية بمثل ما يخاطب به الأقل حظاً منها.. كان يعلم أن أبا سفيان يحب الفخر مثلما قال عنه العباس _رضي الله عنه_؛ فيمنحه مما يحب في بادئ إسلامه، مما لا يعطيه لغيره ولا حتى لا بعد ذلك، من دخل دار أبي سفيان فهو آمن.." (سيرة ابن هشام جـ3 ص549).
ويدرك أن أصحابه من الأنصار بحاجة لعتاب رقيق إذ يجدون في أنفسهم من تفضيل كبراء قريش عليهم في العطاء، فيوضح لهم أن السبب هو اطمئنانه إلى إيمانهم ورسوخه في قلوبهم، وأن العبرة في المحبة ليست بالعطايا فيقول: "أوجدتم يا معشر الأنصار في أنفسكم في لعاعة من الدنيا تألفت بها قوماً ليسلموا ووكلتكم إلى إسلامكم، ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير وترجعوا برسول الله إلى رحلكم؟!" (الزوجة الألف جـ4 ص274)، فلكل شخصية لها ما يناسبها، وصهر الناس في بوتقة واحدة ما ضم لهذا وقاصم لذاك.
والحاصل أن كثيراً من المربين تغيب عنهم هذه الحقيقة فتراهم يحملون الناس على خطاب واحد فيستخف به ذوو العقول، ويجهله البسطاء، أو يزدريه الأغنياء ويتطلع(115/382)
إليه الفقراء، أو يزهده الراسخون في العلم ويهرول إليه الدهماء.. أو العكس في كل هذا تراه يريد أن يحمل من لا طاقة له بطلب العلم على طلبه فيفر منه، أو يبالغ في الاحتياط فيفرق منه الناس.... وما يدرك أن لكل حادثة حديث، ولكل امرئ ما يناسبه من أدوات التربية.. فهذا حر تكفيه الإشارة، وثان بحاجة إلى موعظة واضحة جلية، وثالث زاهد في الرحلات ومغامرات الشباب، ورابع مقبل عليها، وخامس كريم النسب، وسادس وضيعه، وسابع مفتاحه قيام الليل والضحى، وثامن تسبق دعوته وحماسته علمه، وتاسع يعطيك من طرف اللسان حلاوة، وعاشر مذبذب بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء... وآخرون.. ومن الخلل أن تشملهم كلهم لغة تربوية واحدة أو محضن واحد ومظلة واحدة. بل لكل امرئ ما يناسبه من الأسلوب، وقد لا يصلح هذا المربي معه ويصلح معه آخر، وهذا غاية المراد لا كثرة الأتباع وتجييش المحازبين وحشد الأصفار.
4- قلة إدراكه للمناخ والبيئة التي تنتسب في تربيتها دعوته ويربى فيها أبناءها:
تعجبه دعوة في السودان فينقل نمط تربيتها إلى بلده المغاربي، أو يتربى في بلدان الخليج فيستنسخ مفردات تربيته في مصر، أو ينشأ بالغرب فينقل تجربة المراكز الإسلامية إلى بلاد الشرق، فكأنه لم يسمع بتوجيه النبي _صلى الله عليه وسلم_ لمعاذ حين بعثه داعياً إلى اليمن: "إنك تأتي قوماً أهل كتاب، فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله.." (مسند الإمام أحمد جـ4 ص499)، وينسى أن الشافعي اختلف خطابه من رقعة إلى أخرى، وأن البيئات المختلفة تغاير من الأنماط التربوية المستخدمة لمعالجة تأثيراتها، وأن المناخ الذي قد يمتاز بالخصوصية أو بطغيان مفردات العولمة مفضي إلى تغيير في خطاب الدعاة ووسائل تربيتهم، وما يصلح تطبيقه اليوم قد لا يصلح غداً.
ألم تر أن مجلة الحائط مثلاً قد تضاءل تأثيرها عن ذي قبل، والسفر في طلب العلم قد استعاض البعض عنه بمطالعة دروس العلماء المتوافرة الآن، وأن جو الإنترنت الحر قد جذب إليه العقلاء وأشباههم، والموقورين ونظراءهم، وأن قضايا مثل الحرية المنضبطة والنظرة إلى أهل الصدارة قد طفت على السطح أكثر من أي وقت مضى، وأن عشاق المستنقعات والسراديب قد عملوا على حشر الآخرين معهم بعد أن منحهم مناخ تقني جديد فرصاً للتمدد والانتشار!
ـــــــــــــــــــ
صفات عباد الرحمن.. متى يمتثلها الدعاة؟!
إعداد: خالد روشه
24/4/1427
ارسل تعليقك ...
تعليقات سابقة ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...(115/383)
قال الله _تعالى_: "وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً... وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلاماً خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً" (الفرقان:63-76).
وهنا تتراءى أمام الدعاة إلى الله أهمية التربية الإيمانية ووسائلها ومبادئها، فتربية كل راع لرعيته مسؤولية إيمانية، واهتمام الصالحين بأسرهم وأبنائهم صفة خيرية من صفات عباد الرحمن السابقين
في هذه الآيات الكريمات من خواتيم سورة الفرقان، يصف الله _عز وجل_ أحوال عباده الذين شرفهم بنسبهم إليه.
وقبل أن نتابع أحوالهم عبر بيان كلام العلماء في تفسير الآيات نذكر بأهم الصفات التي ذكرها القرآن لأهل التقى والصلاح الذين هم عباد الرحمن المخلصين:
أهم سمات الصالحين في القرآن..
1ـ إيمانهم بالغيب:
لا شك أن هذه الصفة أخص صفاتهم، فإنها التي تدعوهم إلى العبادة والانقياد الكامل لأمر الله _عز وجل_ ونهيه، وهذه الصفة هي أول صفة وصفهم الله _عز وجل_ بها في كتابه.
قال الله _تعالى_: "ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ" (البقرة:2-4).
وقال: "إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ" (يّس: من الآية11)، وقد كان _صلى الله عليه وسلم_ منذراً لكل الناس، فذكر هؤلاء لأجل أنهم هم الذين انتفعوا بإنذاره، وهذه الآية نظير آية "قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمىً أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ" (فصلت: من الآية44).
والدعاة إلى الله ينطلقون من الإيمان بالغيب نحو تعديل وإصلاح حال الأرض، فهم يرتبطون بذلك الرباط الذي لا ينقطع، حيث أرواحهم رفرافة إلى الجنة وعقيدتهم سائرة على التوحيد يرتجون القلب السليم ليلقوا به ربهم..
2ـ العفو والصفح:
وهو خلق علمه النبي _صلى الله عليه وسلم_، أن يعفوا عمن ظلمه ويعطي من حرمه، وقد أخبر الله _عز وجل_ أن من اتصف بهذه الصفة فأجره على الله _عز وجل_ "وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ" (الشورى:40).(115/384)
كما رغبهم الله _عز وجل_ في مغفرته إذا فعلوا ذلك فقال _عز وجل_ في سورة النور: "وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ" (النور: من الآية22). وقال _تعالى_: "وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ" (آل عمران: من الآية134). كما قال _تعالى_: "وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى" (البقرة: من الآية237).
فعلى الداعية إلى الله أن يعفوا وأن يصفح وأن يكون خير الناس صفحاً وأن يمثل القدوة والمثال في ذلك قولاً وعملاً وتطبيقاً، فكم أوذي الصالحون وغفروا، فهل تنتقم لنفسك أيها الداعية لقول سوء قيل فيك؟ أفأنت خير من هؤلاء الأخيار؟!
3- الصدق:
فهم يتحرون الصدق في كل شؤون حياتهم..قال _تعالى_: "وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ" (الزمر:33), وقال _تعالى_: "أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ" (البقرة: من الآية177), قال القاسمي: "أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا" في إيمانهم؛ لأنهم حققوا الإيمان القلبي بالأقوال والأفعال، فلم تغيرهم الأحوال ولم تزلزلهم الأهوال، وفيه إشعار بأن من لم يفعل أفعالهم لم يصدق في دعواه الإيمان، وقد رغب النبي _صلى الله عليه وسلم_ في الصدق، فقال: "وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً" متفق عليه.
وصدق الداعية إلى الله لا يقتصر على قوله وبعض فعله، بل يعم حياته كلها، فيصدق مع نفسه ويسأل نفسه: لمن أقوم بالدعوة إلى الله؟ وهل أرجو الشرف لنفسي؟ وهل أرجو الفخر لنفسي؟ وماذا لو لم أذكر بشيء هل أظل حريصا عليها؟!
4ـ تعظيم شعائر الله:
قال _تعالى_: "ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ" (الحج:32).
قال القرطبي _رحمه الله_: شعائر الإسلام أعلام دينه...وأضاف التقوى إلى القلوب؛ لأن حقيقة التقوى في القلب، ولهذا قال _صلى الله عليه وسلم_ في الحديث الصحيح: "التقوى ههنا وأشار إلى صدره", فالمتقون يعظمون طاعة الله وأمره فيدفعهم ذلك إلى طاعته، ويعظمون كذلك ما نهى الله عنه فيدفعهم ذلك عن معصيته، وعكس ذلك الاستهانة بالأوامر فلا يؤديها، وبالنواهي فيقع فيها _نسأل الله السلامة_, قال أنس _رضي الله عنه_: "إنكم لتعملون أعمالاً هي أدق في أعينكم من الشعر، لنعدها على عهد رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ من الموبقات" البخاري.
وعن ابن مسعود _رضي الله عنه_ قال: "إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه، وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب مر على أنفه فقال به هكذا" البخاري.
قال العيني: السبب فيه أن قلب المؤمن منور فإذا رأى من نفسه ما يخالف ذلك عظم الأمر عليه، والحكمة في التمثيل بالجبل أن غيره من المهلكات قد يحصل منه النجاة بخلاف الجبل إذا سقط عليه فإنه لا ينجو عادة " جامع الأصول.(115/385)
والدعاة إلى الله يعلمون الناس تعظيم شعائر الله قولا وفعلا، فواجب عليهم أن إذا ذكروا تذكروا، وإذا نهو انتهوا، وإذا وعظهم واعظ استمعوا، وإذا ردهم للحق راد عادوا إلى الصواب، وهم يعظمون شعائر الله حتى لو فقدوا كل ما يملكون...
أوصاف عباد الرحمن كما في الآيات...
1- أول هذه الأوصاف أنهم يمشون على الأرض هونا "وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً" أي: بسكينه ووقار وتواضع وبغير تجبر ولا استكبار، وليس المقصود أنهم يمشون كالمرضى تضعفا ورياء، فقد كان _صلى الله عليه وسلم_ إذا مشى فكأنما ينحط من صبب، وكأنما الأرض تطوى له، وقد كره السلف المشي بتضعف وتصنع، وقال الحسن البصري _رحمه الله_: إن المؤمنين قوم ذلت منهم والله الأسماع والأبصار والجوارح، و دخلهم من الخوف ما لم يدخل غيرهم، ومنعهم من الدنيا علمهم بالآخرة.
والداعية إلى الله إنما هو نموذج للتواضع وخفض الجناح، فلا يغتر بعلم، ولا يظنن أنه قد اكتسب مكانته بين الناس بجهده، بل هو محض فضل من الله، وكرم لما يحمل من خير، وليبن ذلك في حديثه وسلوكه وفي غضبه ورضاه.
2- وثاني صفاتهم: أنهم "وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً" أي: إذا سفه عليهم الجهال بالقول السيئ لم يردوا عليهم بمثله، بل يصفحون ولا يقولون إلا خيراً كما كان رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ لا تزيده شدة الجاهل إلا حلما.
وللنبي _صلى الله عليه وسلم_ مشاهد كثيرة في حلمه على الناس وفي دفع السيئة منهم بالحلم منه _صلى الله عليه وسلم_ فيقابل السيئة بالحسنة، ففي الحديث المتفق عليه عن أبي هريرة _رضي الله عنه_ أن رجلا أتى النبي _صلى الله عليه وسلم_ يتقاضاه فأغلظ له، فهم به أصحابه، فقال رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ "دعوه فإن لصاحب الحق مقالاً".
كذلك في الحديث المتفق عليه عن أنس _رضي الله عنه_ قال: كنت أمشي مع رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ وعليه برد نجراني غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي، فجبذه بردائه جبذة شديدة، فنظرت إلى صفحة عاتق النبي _صلى الله عليه وسلم_ وقد أثرت به حاشية الرداء من شدة جبذته ثم قال: يا محمد، مر لي من مال الله الذي عندك فالتفت إليه فضحك ثم أمر له بعطاء.
فهل يمتثل الدعاة إلى الله ذلك الوصف؟ فكم رأينا من داعية غضوب، وكم رأينا من ينتقم لنفسه، وينتصر لها، بل وقد يقع بعضهم في عرض آخر، وقد يغتابه، محتجاً بأنه ينتقده علميا أو فقهيا، وقد يستبيح بعضهم سباب آخرين لمجرد مخالفته في أسلوب عمل..فتأمل!
3- وصفتهم الثالثة: أنهم "وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً" فأخبر الله _سبحانه وتعالى_ عن عبادة أن ليلهم خير ليل، فقال _سبحانه وتعالى_: "وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً" وكما قال _تعالى_: "كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ" (الذاريات:17، 18)، وقال _تعالى_: "تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً" (السجدة: من الآية16)، وأشار _سبحانه وتعالى_ في قوله: "لِرَبِّهِمْ" إلى إخلاصهم فيه ابتغاء وجهه الكريم.(115/386)
وعن عائشة _رضي الله عنها_ أن النبي _صلى الله عليه وسلم_ "كان ينام أول الليل، ويقوم آخره فيصلي" متفق عليه.
وعن ابن مسعود _رضي الله عنه_ قال: صليت مع النبي _صلى الله عليه وسلم_ فلم يزل قائما حتى هممت بأمر سوء، قالوا: ما هممت؟ قال هممت أن أجلس وأدعه. متفق عليه.
وروى مسلم عن حذيفة _رضي الله عنه_ قال: صليت مع النبي _صلى الله عليه وسلم_ ذات ليلة فافتتح البقرة، فقلت: يركع عند المائة، ثم مضى فقلت: يصلى بها في ركعة، فمضى، فقلت: يركع بها، (يعني على آل عمران) ثم افتتح النساء فقرأها، ثم افتتح آل عمران فقرأها، يقرأ مترتلاً، وإذا مر يتعوذ تعوذ، ثم ركع فجعل يقول: سبحان ربي العظيم، فكان ركوعه نحواً من قيامه ثم قال سمع الله لمن حمده، ربنا لك الحمد ثم قام طويلاً قريباً مما ركع ثم سجد، فقال: سبحان ربي الأعلى، فكان سجوده قريباً من قيامه.
وروى مسلم عن جابر _رضي الله عنه_ قال: سئل رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ أي الصلاة أفضل؟ فقال: "طول القنوت".
والدعاة إلى الله أحوج ما يكون إلى وقوف في جوف الليل وسجود طويل بين يدي الله لتصفو منهم النفوس وتطهر منهم القلوب فيصيرون أهلا لتلقى الأمانة وأداء التبعة.
4- وصفتهم الرابعة: "وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً" فهم وجلون مشفقون من عذاب الله _عز وجل_، خائفون من عقابه، "إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً" أي: ملازما دائما. ولهذا قال الحسن البصري: كل شيء يصيب ابن آدم ويزول عنه فليس بغرام، وإنما الغرام اللازم ما دامت الأرض والسماوات.
فخوف الدعاة إلى الله غير نظرتهم للأهداف، وغير طموحهم ورجائهم، فلا رجاء لهم في الدنيا غير رجاء الخائفين، ولا استقرار لهم في المتاع، ولا هم يتلذذون بلذات الدنيا..
5- وصفتهم الخامسة: "وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً" أي: ليسوا بمبذرين في إنفاقهم، فيصرفون فوق الحاجة، ولا بخلاء على أهليهم فيقصرون في حقهم وقال الحسن البصري: ليس في النفقة في سبيل الله سرف، وروى مسلم عن أبي عبد الرحمن ثوبان بن بجدد مولى رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ " أفضل دينار ينفقه الرجل دينا ينفقه على عياله، ودينار ينفقه على دابته في سبيل الله، ودينار ينفقه على أصحابه في سبيل الله.
6- وصفتهم السادسة: "وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً" (الفرقان:68).
روى البخاري في الجامع الصحيح عن عبد الله بن مسعود _رضي الله عنه_ قال: سئل رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ أي الذنب أكبر؟ قال: "أن تجعل لله أنداداً وهو خلقك" قال: ثم أي؟ قال: "أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك" قال: ثم أي؟ "أن تزاني حليلة جارك" قال عبد الله وأنزل الله تصديق ذلك "وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ" الآية.(115/387)
7- وصفتهم السابعة التوبة: "إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً" (الفرقان: من الآية70).
روى أبو بكر الصديق رضي الله عنه عن النبي _صلى الله عليه وسلم_ قال: ما من رجل يذنب ذنبا ثم يقوم فيتطهر ثم يصلى ثم يستغفر الله إلا غفر الله له ثم قرأ _صلى الله عليه وسلم_ هذه الآية "وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ" (آل عمران: من الآية135).." أخرجه أحمد في المسند وصححه أحمد شاكر
وفي الصحيحين عن عثمان أنه توضأ ثم قال: رأيت رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ توضأ نحو وضوئي هذا ثم قال: "من توضأ نحو وضوئي هذا ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه غفر له ما تقدم من ذنبه".
وفي الصحيحين عن أنس قال: "كنت عند النبي _صلى الله عليه وسلم_، فجاء رجل فقال: يا رسول الله إني أصبت حدا فأقمه عليّ قال: ولم يسأله عنه، فحضرت الصلاة فصلى مع النبي _صلى الله عليه وسلم_، لما قضى النبي _صلى الله عليه وسلم_ الصلاة قام إليه الرجل، فقال يا رسول الله إني أصبت حدا فأقم فيَ كتاب الله، قال: أليس قد صليت معنا؟ قال نعم قال: فإن الله قد غفر لك ذنبك أو قال حدك".
قال ابن عباس _رضي الله عنهما_ في قوله _تعالى_: "وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ" (الحج: من الآية78) قال: "هو سعة الإسلام وما جعل لأمة محمد من التوبة والكفارة".
والدعاة إلى الله لاشك يذنبون، ولكنهم فوراً يسارعون إلى التوبة والاستغفار واتباع السيئة الحسنة، فالصف المؤمن إذا دخله الفساق واستقروا وانتشروا فيه فَقَدَ اتزانه وتخلخل ثباته فلم يعد يصلح لتحمل الأمانة..
8- وصفتهم الثامنة: "وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً" فهم لا يشهدون الزور، وهو: الكذب والفسق والكفر واللغو والباطل، كما في الصحيحين عن أبي بكرة قال: قال رسول الله _صلى الله عليه وسلم_: "ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ثلاثا قلنا: بلى يا رسول الله، قال: "الشرك بالله وعقوق الوالدين" وكان متكئا فجلس، فقال: "ألا وقول الزور ألا وقول الزور" فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت، يقول ابن كثير _رحمه الله_ والأظهر من السياق أن المراد لا يشهدون الزور أي: لا يحضرونه، ولهذا قال _تعالى_: "وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً" أي: لا يحضرون الزور وإذا اتفق مرورهم به مروا به ولم يندسوا منه شيء، ولذلك قال: "مَرُّوا كِرَاماً".
9- وصفتهم التاسعة: "وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً" أي: هؤلاء المؤمنون وهم عباد الرحمن حالهم بخلاف من إذا سمع آيات الله فلا تؤثر فيه فيستمر على حاله كأن لم يسمعها.
فكم سمعنا عن بكاء الصالحين ودموع العابدين، فهل افتقد الدعاة تلك الدموع؟ أم هل جفت دموعهم لما غابت عن البكاء في سبيل الله، إن دموع الداعية إلى الله هي عطر حلال يعطر به نفسه ويزين به وجهه أمام الله.(115/388)
10- وصفتهم العاشرة: "وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ" يعني الذين يسألون الله أن يخرج من أصلابهم من ذرياتهم من يطيعه ويعبده وحده لا شريك له، قال ابن عباس: أي يخرج من أصلابهم من يعمل بطاعة الله فتقر به أعينهم في الدنيا والآخرة.
سئل الحسن البصري عن هذه الآية، فقال: والله لا شيء أقر لعين المسلم من أن يرى ولداً، أو ولد ولد أو أخا أو حميما مطيعا لله _عز وجل_، وقال ابن عباس أئمة يقتدى بنا في الخير، قال غيره أجعلنا هداة مهتدين دعاة إلى الخير.
وهنا تتراءى أمام الدعاة إلى الله أهمية التربية الإيمانية ووسائلها ومبادئها، فتربية كل راع لرعيته مسؤولية إيمانية، واهتمام الصالحين بأسرهم وأبنائهم صفة خيرية من صفات عباد الرحمن السابقين.
ـــــــــــــــــــ
الارتباط بالأشخاص... ثغرة في جدار الدعوة المعاصرة
بقلم: خالد روشه
10/4/1427
ارسل تعليقك ...
تعليقات سابقة ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
أزمة تربوية مؤثرة تواجه الدعاة والمربين دائما تقيدهم وتعيق عملهم، وتؤثر على حركتهم إن لم ينتبهوا لها ويحاولوا أن يتفادوها، ألا وهي تعلق المدعوين بهم وارتباط الناس بأشخاصهم.. بل والدوران في فلكهم.
فما حقيقة هذه الأزمة، وما هي دوافعها وكيف يمكن التخلص منها؟
إنها أزمة يعيشها كثير من الناس.. فمنهم من هو متأثر برجل معين ومعجب به ويقلده في أفكاره وتصوراته وتصرفاته، وهو في ذلك يتبعه في قراراته وميوله كما يتبعه في توجهاته وسلوكه.. بل قد يصل الحال به أن يتبعه في عداواته ومحباته، وولاءاته وبراءاته، مما يتسبب عنه مشكلات جمة ليس أقلها صورة التحزب المقيت لفرد مهما خالف الصواب أو صورة التصغير من شأن المخالف مهما كان خلافه معتبراً..
روى أصحاب السير أنه قد قيل لخالد بن الوليد يوماً بعد ما أسلم متأخراً - وهو الحري بعقله وفطنته أن يسارع للإسلام فور سماعه - قيل له "أين كان عقلك يا خالد فلم تر نور النبوة بين ظهرانيكم؟ قال: كان أمامنا رجال كنا نرى أحلامهم كالجبال".
أزمة تربوية مؤثرة تواجه الدعاة والمربين دائما تقيدهم وتعيق عملهم، وتؤثر على حركتهم إن لم ينتبهوا لها ويحاولوا أن يتفادوها، ألا وهي تعلق المدعوين بهم وارتباط الناس بأشخاصهم
نعم فتأثره ببعض الشخصيات وتقليده لهم ألهاه عن رؤية الحق لمدة ليست بالقصيرة قد سبقه فيها آخرون من أصحابه، وتلك آفة كل عقل أسلم قياده غيره بغير تدبر أو بصيرة ولو لمدة من الزمان..(115/389)
إنها الأزمة التي لازمت الدعاة ولابد لهم أن يفقهوها جيدا ثم يعملوا على أن يتخلصوا منها ويخلصوا أتباعهم من أسرها..
كيف نفهم الموقف؟
ولسنا نقصد من حديثنا هنا أن الارتباط بالدعاة والعلماء كله مذمة دائما وأنه مرفوض بالكلية، فإن ذلك التعلق أمر طبيعي يحدث بين قلوب المدعوين وشخصية الداعية الناجح ذي الشخصية الآسرة، فكل من عاصر نبياً وآمن به واتبعه تعلق قلبه بحبه وأعظم من تعلقت به القلوب هو رسول الله _صلى الله عليه وسلم_، قال أنس بن مالك: "لما قدم علينا رسول الله المدينة أضاء منها كل شيء، ولما مات أظلم منها كل شيء "، وقد تبارى الصحابة في إظهار هذا الحب لشخص النبي _صلى الله عليه وسلم_.
وقس على ذلك - ولا مقارنة - " قال عمر بن الخطاب _رضي الله عنه_: لما توفي رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ أنكرنا أنفسنا ".
وقد أدرك أبو بكر _رضي الله عنه_ هذه النقطة عند وفاة النبي _صلى الله عليه وسلم_ حتى أن عمرَ استل سيفه وأعلن أنه قاتل من يدعي وفاة النبي _عليه السلام_ لكن أبا بكر _رضي الله عنه_ كان قد أدرك أن الأمر لا يتعلق بشخص النبي إنما يتعلق بالإسلام فصعد المنبر وقال كلمته المشهورة: من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، ثم تلا قوله تعالى: "وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ" (آل عمران:144).
كل الدعوات بدأت بشخص يدعو لفكرته، ومن تعلق الناس بذلك الشخص يقتنعون معه بفكرته وعلى قدر تأثيره في الناس تبلغ دعوته.. وليس في هذا ضرر، إنما الضرر والخطر يكون في استمرار التعلق به إذا خالف النهج الرباني الأصيل، والضرر كذلك في التعصب له والتحزب على أفكاره، كما أن الضرر إذا تعلق به في الطاعة والمعصية فلا يطيع إلا بتقليده وإذا عصاه أو غفل قلده في عصيانه أو في غفلته..!!
والواجب على الداعية أن يخلص أتباعه من التعلق والارتباط به ونقلهم إلى مرحلة أخرى ألا وهي التعلق والارتباط بالمنهج الذي يحمله الداعية، وقمة النجاح للداعية أن يتعلق الناس بمنهجه وتستمر الدعوة بعد رحيله أو سجنه أو حتى نكوصه عن دعوته، وقمة فشل الداعية تكون في استمرار أتباعه في السير خلفه وإن خالف ما كان ينادي به أولا.
إن من أهم سمات هذه الدعوة الخالدة هو ارتباطها بالحي الذي لا يموت لا بالمخلوقين الفانين، بل إن كل مخلوق مهما بلغ مقامه هو مطالب أن يدعو ربه أن يثبت قلبه على الإيمان والتقى حيث كان سيد البشر _صلى الله عليه وسلم_ يدعو "يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك"، إنها دعوة لله، وإلى الله، فهي ليست دعوة أرضية نفعية وليست دعوة لتمكين أشخاص مهما كانوا وقدموا لها، وقد أبان القرآن في عهد مبكر من عمر الدعوة أن هذا الدين لا يرتبط وجوده وقيامه بأشخاص حتى شخص الرسول _صلى الله عليه وسلم_، وأن حظ الداعية من الدعوة إكرام الله له إن كان عمله(115/390)
خالصاً صواباً، ومن تركها فقد حرم نفسه الخير الكبير، وبهذا يقضى على حظوظ النفس، وتسلم الدعوة وتبقى ولا تتأثر بموت فلان، أو انقطاع علان..
إن الارتباط بالأشخاص والتعلق بهم دون ضابط وتقييد أدى إلى مشاكل كبيرة، وتراجعات أكثر في العمل الإسلامي ومن ذلك ظهور العصبيات الدينية والتحزبات التي تتحزب على قول عالم أو اجتهاده أو اختياره الفقهي أو الدعوى، ما دعي إلى فتح الباب للشيطان لينشئ العداوة والبغضاء بين أصحاب تلك التحزبات على الرغم من اتفاقهم على شتى الأصول وجميع المبادئ.. وللأسف فإننا قد وجدنا كثيراً من الفضلاء قد سقطوا في هذه الهوة السحيقة وصاروا طرفاً في ذلك النزاع!!.
ومن ذلك أيضا أن تعود الناس انتظار الشخص الذي يدفعهم دائماً للعمل وإذا هم فقدوه أو افتقدوه يضطرب عملهم، بل وينقطع سبيلهم وكأنهم اقتنعوا بفكرة المخلص التي كانت سبباً كبيراً في ضلال كثير من الفرق، وكذلك احتكامهم في الدين لسكوت شخص أو رضاه أو إقراره، وعدهم ذلك دليلا شرعيا على صحة الفعل أو السلوك ونسوا أن ذلك لا يمكن أن يعد دليلاً شرعياً مهما كان ذلك الشخص الساكت أو المقر، وكذلك ومن أكثر ما يؤلم أن ينسى الأتباع الأخلاق الإسلامية والقيم الرفيعة العالية التي أمر بها الإسلام وسط زحمة الخلاف وعمى التعصب، فتراهم يغضبون ويتنازعون وربما يتصارعون ويقعون في كبائر الإثم والسوء كالغيبة والنميمة والسخرية وامتهان أهل العلم وربما ما هو أكثر..!!
ما أصعب الفطام:
علاقة الأتباع بالداعية في بداية الطريق أشبه بعلاقة الأطفال بمن تربيهم تماما، وجودها الأمان من كل مكروه وفي غيابها الضياع والتيه، فلابد لكل مدعو من لحظة فطام، وصاحب قرار الفطام هو الداعية الذي يحدد وقته وكيفيته.
إنها لحظة صعبة عسيرة على النفس، ليست على نفس المدعو فقط بل على نفس الداعية أصعب، حينما يقرر الداعية أن يتخلص من الهالة التي أحاطه أتباعه بها، أن يتخلص من سيرهم خلف ركابه يلتمسون منه رأياً أو كلمة، يتخلص من التصديق التام لكل ما يقول، يتخلص من تقديس الأتباع برأيه واتهام مخالفه بالجهل أو سوء الأدب.
إنها لحظة فارقة أن يكون رأي الداعية عند أتباعه كرأي رجل منهم قابل للنقاش والنقد.. قابلا للموافقة - إن كان موافقا لمنهج اتفقوا عليه - أو قابلا للنقد والرفض لو خالف المنهج.
خطوات لازمة:
ويحتاج ذاك الموقف من الداعية إلى التجرد الشديد والإخلاص العظيم لمنهجه كما يحتاج إلى إنكار الذات، فلا وجود للذات مع المنهج، تموت الذات وكل ذات ولا يمس المنهج بسوء. لحظة يسأل فيها الداعية ويحتاج إلى إجابة واضحة تماما لا لبس فيها على أسئلة ملحة: لماذا أفنيت عمري؟ ولماذا أسهرت ليلي؟ ولماذا كابدت كل هذه المشاق؟ هل من أجل الدعوة لمنهجي أم من أجل الدعوة لشخصي؟ فإذا كانت الإجابة الأولى فيجب على كل داعية أن يخلص الناس من أسر هواه ويدخلهم في أسر لا فكاك منه للمنهج، وليبذل كل جهده في إعلاء منهجه ووضع نفسه، ليعلو عندهم(115/391)
المنهج فيكون حاكماً لكل فعل أو قول، وتخضع للمنهج كل الأقوال والأفعال حتى أقوال وأفعال الداعية المؤسس نفسه.
ويحتاج الداعية إلى التدرج الشديد مع التأكيد المستمر على أنه بشر يصيب ويخطئ وأنه ليس معصوماً، وعليه أن يكثر من ترديد الكلمات التي تربط أتباعه بمنهجهم وأنه تابع لهذا المنهج.
ولا يتشبث الداعية بقوله إن رده أحد عنه إلى منهجه، فلا يلوى أعناق النصوص ليثبت صحة ما يقول.
ولا يكون همه غلبة منافسه بل يعلم الناس أن مبتغاه هو الحق مهما كان وأنه يود أن لو غلبه منافسه بالحق ويشرح لهم تطبيقيا معنى مقولة الشافعي: "ما ناظرت أحداً إلا دعوت الله أن يجري الحق على لسانه ".
ولا يتأفف من قول: "أخطأت" في موطنها، فإن الاعتراف بالأخطاء مكرمة والإصرار على الخطأ بعدما تبين نذالة ودناءة خلق وحب للسمعة وداء خبيث في القلب منشؤه الكبر.
وكذلك لا يستنكف عن الاستماع إلى تلاميذه ويعلمهم أن الله قد يفتح على رجل بمسألة لا يفقهها من هو أعلم منه وأكبر.
وأخيراً على الداعية دوماً أن يعلم الناس ويذكرهم دائماً بأفعال الصالحين وأقوالهم ومبادئهم في هذا المجال، فيذكرهم:
بموقف أبي بكر يوم وفاة النبي _صلى الله عليه وسلم_ وقوله: "من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت"، وبقول عمر بن الخطاب حين عزل خالداً بن الوليد بغير عجز ولا خيانة: "لأنزعن خالداً حتى يُعلم أن الله ينصر دينه" أي بغير خالد فلا تتعلق القلوب به، وبموقف أنس بن النضر يوم أحد عند شائعة مقتل النبي _صلى الله عليه وسلم_ "إن كان قد مات فقد بلغ، قوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله"، وبقول ميمون بن مهران لما قال له رجل: "يا أبا أيوب ما يزال الناس بخير ما أبقاك الله لهم" فلم يفرح بذلك وينتفخ تعاظماً وكبرياءً، بل قال: "على شأنك ما يزال الناس بخير ما اتقوا ربهم"، وبقول نور الدين محمود، حينما قال له قائل: "بالله لا تخاطر بنفسك فإن أصبت في معركة لا يبقى من المسلمين أحد إلا أخذه السيف" فقال محمود: "ومن محمود حتى يقال هذا حفظ الله الإسلام قبلي، لا إله إلا هو"، بقول أبي حنيفة: إذا صح الحديث فهو مذهبي، وبقول مالك: إنما أنا بشر أخطأ وأصيب فانظروا في رأيي فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوه وكل ما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه، وقال أيضاً: "ليس أحد بعد النبي _عليه الصلاة والسلام_ إلا ويؤخذ من قوله ويترك إلا النبي _صلى الله عليه وسلم_"، وبقول الشافعي لأحمد: "لا تقلدني ولا تقلد مالكاً ولا الشافعية ولا الأوزاعية ولا الثورية، وخذ من حيث أخذوا"، وبقول أحمد: "لا تكتبوا ما قلته بل أصل ذلك فاطلبوا".
وهكذا إخواني على كل منا – دعاة ومدعوين – كلنا مطالبون بعدم الارتباط بأي شخص، وليكن ارتباطنا بمنهجنا، بديننا القويم، فمن سار على نهجه والتزم بأحكامه فله منا الحب والولاء ومن حاد عنه فلسنا معه، نكون على الحق وندور معه حيث(115/392)
دار، ونعرف الرجال بالحق ولا نعرف الحق بالرجال، ونحرص على أن نقتدي بمن مات فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة، أسأل الله أن يقينا شر الفتن ما ظهر منها وما بطن
ـــــــــــــــــــ
دور الكتاتيب في حفظ الهوية الثقافية لأبنائنا
د. ليلى بيومي
26/3/1427
ارسل تعليقك ...
لا توجد تعليقات ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
مثلت الدور المتخصصة في تحفيظ القرآن الكريم (الكتاتيب) دورا متميزا في تكوين الخلفية القرآنية الإسلامية في عقول كثير من أبناء المجتمع في الدول الإسلامية لفترة من الزمان ليست بالقصيرة , وكانت تلك الكتاتيب قد انتشرت في كثير من ربوع دولة الإسلام من جنوب شرق أسيا عبر أندونيسيا وماليزيا ومملكة فطاني – سابقا – وغيرها مرورا بباكستان وأفغانستان ودول شمال آسيا.. إلى أقصى الغرب الإسلامي في المغرب وموريتانيا.. ثم الجنوب في جنوب السودان الصومال ووسط أفريقيا.. وغيرها.. ولقد وجهت كثير من المخططات الخبيثة المنظمة للقضاء على الآثار الإيجابية لتلك الكتاتيب في العالم الإسلامي..حتى أصبحت مؤسسة (الكتّاب) - تلك المؤسسة الصغيرة العتيدة - مهددة بالانهيار التام بل والانقراض..ونحن في السطور التالية نحاول معا إلقاء نظرة عابرة على تلك الكتاتيب ودورها وكيف ينظر إليها.. من خلال (الكتاتيب المصرية نموذجا)...
فعشرات من الأناشيد والأغاني والأشعار والحكايات الأخرى قد احتلت مساحة كبيرة من عقول الأطفال الناشئة وذلك على حساب حفظ القرآن الكريم في تلك المرحلة العمرية الهامة والحيوية والتي تستوعب حفظ ملايين من الكلمات.
مثلت الدور المتخصصة في تحفيظ القرآن الكريم (الكتاتيب) دورا متميزا في تكوين الخلفية القرآنية الإسلامية في عقول كثير من أبناء المجتمع في الدول الإسلامية لفترة من الزمان ليست بالقصيرة
وقد نجد أطفالا قد أتموا حفظ أجزاء كبيرة من القرآن الكريم قبل دخول المدرسة وخصوصا في الكتاتيب , ويعرف الجميع دور الكتاب أو مكتب تحفيظ القرآن الكريم على مستوى القرى والأحياء الشعبية في حفظ القرآن ونشره في بلادنا على امتداد القرون الطويلة.
كما يعرف عن حكام مصر السابقين أمر اهتمامهم بالكتاتيب، وأبرزهم صلاح الدين الأيوبي، الذي أخذ على عاتقه إصلاح شأن الكتاتيب والاهتمام بها على مدى عشرين عاما قبيل انتصاراته التاريخية الباهرة على الصليبيين وتحرير بيت المقدس.(115/393)
ومن هنا كانت أولى خطواته تجفيف منابع التدين، حسب المخططات الحديثة لمحاربة الإسلام، مطاردة تلك الكتاتيب وإغلاقها وإضعاف دورها وإهمالها وقطع المعونات المادية عنها وصرف التلاميذ والأطفال بعيداً عنها وعدم العناية بالمحفظين. وتأتي تلك الضربات من عدة نواحي أبرزها من خلال الغزو الثقافي التغريبي الذي اجتاح البلدان العربية والإسلامية منذ منتصف القرن الماضي والذي سخر الأدب ووسائل الإعلام للنيل من صورة الشيخ محفظ القرآن الكريم وتصويره في القصص والروايات وكذلك في الأفلام والمسلسلات بشكل هزلي كأنه إنسان بشع يتلذذ بضرب الأطفال ويتناول طعامهم وخارج عن السياق الاجتماعي والأخلاقي. وجاءت قصة الأيام لطه حسين والتي كانت مقررة وما زالت على مختلف مراحل التعليم الإعدادي والثانوي في البداية لترسيخ هذه الصورة. وقد تحولت لعمل درامي أخذ أشكالاً مختلفة ووضع صورة نمطية (لسيدنا الشيخ "المحفظ" ومساعده "العريف") وتلا ذلك سيل من الأعمال الأدبية والإعلامية التي سارت على نفس هذا المنهج المنفر من محفظ القرآن ومدرس الدين..
أما بقية الخطة المنظمة لتجفيف منابع الدين وحصار دور الكتاتيب فقد جاءت على عدة محاور أهمها التضييق على المحفظين وإغلاق الأبواب في وجوههم بدلاً من مساعدتهم والاهتمام بشأنهم.
إن هؤلاء المحفظين يعتمدون في معيشتهم على بعض العطايا المتواضعة من أسر الأطفال فقط ولا يستطيعون ممارسة التجارة أو الزراعة أو العمل خارج البلاد، ومن ثم ظلت أحوالهم الاقتصادية متواضعة، حتى أن وزارة الأوقاف كانت قد أقرت لهم مكافآت رمزية لبعض الوقت لكن سرعان ما توقف هذا الدعم المتواضع وقد أدى هذا تباعا إلا أن أبنية الكتاتيب صارت في معظمها قديمة وغير مؤهلة على المستوى الإنشائي والصحي لاستيعاب أعداد كبيرة من الأطفال، وخصوصا أبناء الطبقة المتوسطة وأبناء المتعلمين الذين يطمحون في إلحاق أبنائهم بدور تحفيظ متطورة، ومن ثم لا يجدون بغيتهم في الكتاتيب فيلحقون صغارهم قبل سن المدرسة الابتدائية بدور الحضانات التي بدأت تنتشر في الريف على حساب الكتاتيب وتجد تشجيعا مشبوها من بعض المؤسسات العلمانية.
إن هذه المؤسسات العلمانية وضعت ضمن أهدافها وأولوياتها تشجيع وإقامة دور الحضانات في الريف وتزويدها بالمناهج المختلفة التي تعج بالغث من المواد، ورغم أن هناك العديد من المحاولات التي يقوم بها بعض العلماء وأهل الخير للاهتمام بالكتاتيب من خلال الجمعيات الأهلية التي تساهم في مساعدة المحفظين ببعض الأموال أو تقديم المعونات للنهوض بالأبنية القديمة إلا أنها في النهاية جهود فردية يتم حصارها في كثير من الأحيان.
وتأتي أهمية الكتاتيب دون غيرها من المؤسسات التعليمية الأخرى كونها قائمة على تحفيظ القرآن الكريم بشكل جماعي يساعد على سرعة الحفظ والاستيعاب ويؤكد علماء التربية أن حفظ القرآن في المرحلة العمرية الصغيرة يظل ثابتا في الذاكرة ويقوّم منذ البداية اللسان العربي ويقوي مخارج الحروف.. أما شغل الطفل بحكايات كثيرة وأناشيد وأغاني أو حتى لغة أجنبية أخرى كما يحدث الآن فيؤدي إلى تشتيت(115/394)
الطفل وإحداث خلل في منظومته العلمية والثقافية، ولذا كان للكتاتيب دور حيوي وهام في التواصل مع الأزهر الشريف وإمداده بالأطفال الحافظين وتخريج علماء ودعاه وفقهاء نشروا العلوم الشرعية وأسسوا الجامعات الإسلامية في مختلف البلدان العربية والإسلامية.
مدرسة القرآن ومعلمة الأجيال:
* يقول د. سيد محروس المدرس بجامعة الأزهر: الكتاتيب (جمع كتاب بضم الكاف وتشديد التاء) هي مدرسة القرآن ومعلمة الأجيال، كانت ولا تزال من أخطر وأهم المؤسسات التعليمية التي عنيت بتعليم وتحفيظ القرآن الكريم عبر أجيال متوالية، حافظت على اللغة العربية واستقامة اللسان العربي، وكانت بمثابة الدروع التي حافظت على تراث الأمة في مواجهة مدارس الإرساليات التي غزت عالمنا العربي منذ بدايات القرن التاسع عشر.
ويشير د. سيد محروس إلى أن عدد الكتاتيب في مصر تجاوز الثلاثين ألف في القرى والكفور حيث يوجد في كل قرية ما بين 6 – 8 داراً لتحفيظ القرآن الكريم ويوجد في مصر حوالي 2400 قرية بخلاف كتاتيب النجوع والكفور، هذا إلى جانب الكتاتيب الموجودة في الزوايا والمساجد الصغيرة في معظم الأحياء الشعبية بالمدن... وقد نشطت مدارس الإرساليات في بداية القرن التاسع عشر، إلا أنه ومع تنامي الصحوة الإسلامية اشتد الاهتمام العام بدور تحفيظ القرآن التي تطورت في الآونة الأخيرة من ناحية الشكل والبناء.
ومع تنامي وانتشار المدارس الأزهرية اهتم العامة والطبقات المتوسطة بإرسال أطفالهم إلى الكتاتيب للهروب أولاً من المدارس الخاصة وتكاليفها إلى جانب الحرص على التعليم الديني وخاصة للفتيات حيث تم افتتاح معاهد أزهرية خاصة بهن بجانب معاهد البنين القديمة... وفي تطور آخر تبدي وزارة الأوقاف وشئون الأزهر رعاية لمحفظي القرآن الكريم من خلال منحهم مكافآت ودورات تدريبية.
أداة للإشعاع المعرفي:
* يقول د. محمد يحيى (المفكر الإسلامي): كانت الكتاتيب وما زالت الأداة التعليمية الرئيسية التي ينتقل بها العلم الديني وبالذات القرآن الكريم من جيل إلى جيل كما كانت الأداة التي تشع منها قاعدة التنوير الديني وحفظ القرآن ونشره، وهي كذلك الأداة التي توجد قاعدة من المتعلمين الذين يستطيعون بعد ذلك بسهولة تعميق دراستهم الدينية وإتقان شتى فروع العلوم الإسلامية، كما أن الكتاتيب هي النظام التعليمي المناسب والملائم لاحتياجات المجتمع المتنوعة بحيث كانت تندمج بشكل طبيعي في نشاطات وحياة المجتمع الصغير اليومية، سواء في القرية أو في الحضر كما كانت الكتاتيب نظامًا تعليميًا مجانيًا لا يكلف المجتمع أية أعباء للدراسة فوق أنها تستمد تكاليفها المادية إما من نظام الأوقاف أو من التبرعات البسيطة والجهود التطوعية للمجتمع. هذه الكتاتيب هي النظام التعليمي الأمثل من عدة نواحي، على الأقل من ناحية التعليم الأساسي والأولى، ولا يعني هذا أن فائدة الكتاتيب قد انعدمت في الزمن الحاضر، ذلك لأنها وبالذات من ناحية تعليم وتحفيظ القرآن والأحاديث النبوية والقراءة والكتابة والقيم الاجتماعية والدينية الأساسية، فهي منظومة ضرورية(115/395)
في حياة المجتمع المعاصر ولا يمكن القول مثلاً أن نظام رياض الأطفال أو السنوات الأولى من التعليم الأساسي يمكن أن تحل محل الكتاتيب لأن هذه الأنظمة الحديثة لا تتمتع بنظام الكتاتيب في التعليم المباشر وفي إتقان الجوانب الدينية.
ويشير د. محمد يحيى إلى أن الكتاتيب موجودة في مصر منذ أكثر من خمسة قرون وتنامت وتطورت مع الأزهر الشريف ومعظم علماء الأزهر البارزين والعلماء في شتى العلوم الشرعية المختلفة وحتى الذين برزوا في الآونة الأخيرة في مجالات الطب والفلك والهندسة بدءوا حياتهم التعليمية من الكتاتيب.
نشأة قرآنية:
* ويقول الدكتور: أحمد إبراهيم مدرس أصول الدين بجامعة الأزهر وصاحب كُتّاب بمحافظة الغربية: نشأت بين أقراني الصغار والبيت كان بالطوب اللبن... معظم أطفال القرية يأتون في الصباح الباكر... يرددون آيات القرآن الكريم وأنا معهم... أشقائي الكبار يساعدون أبي في تحفيظ الصغار وأبي يعاملني بشدة إن لم أجتهد في حفظ القرآن الكريم مثل بقية الأولاد... شقيقاتي البنات أتممن حفظ القرآن وتزوجن... وشقيقي الأكبر تخرج في الأزهر ثم بعد وفاة والدي تولى هو إدارة الكُتّاب الذي تغير عن ذي قبل فصار بالطوب الأحمر والأسمنت وصارت هناك حمامات أكثر تطورًا ومياه نقيه ونظيفة من الصنبور... والحمد لله بركة القرآن تملأ علينا أرجاء البيت وفتح الله علينا جميعاً وتغيرت أحوالنا الدنيوية والدينية إلى الأفضل.
* ويقول المستشار محمود سالم: الكُتّاب هو مدرستي الأولى وسبيلي لحفظ القرآن الكريم وإتقان اللغة العربية... عندما أتممت حفظه مباشرة التحقت بالمعهد الأزهري بعدما أجرى لي امتحانًا فيما حفظته... فدخول الأزهر في الماضي القريب لم يكن مرتبطًا بعمر الطلاب وإنما بمدى حفظه أجزاء من القرآن الكريم.
التحقت بكلية الشريعة والقانون بعد ذلك ثم عملت في سلك القضاء... ولم أنس مطلقًا سيدنا (محفظ القرآن الكريم)... ورغم أنني الآن أسكن في المدينة إلا أنني حريص جداً على أن يتعلم أولادي ويحفظوا القرآن الكريم في كُتّاب القرية وقد حرصت على إحضارهم في الأجازة الصيفية، وقبل الالتحاق بالمدرسة يأتون للتعلم في الكُتّاب.
* وتقول الدكتورة منى طايل: لقد نشأت في القرية وحينما تعلمت نطق الحروف بعثني أبي فورًا مع أشقائي إلى الكُتّاب وهكذا كل صغار القرية يذهبون إلى الكتاتيب منذ الصغر وحتى بلوغ سن المدرسة 6سنوات، نكتب على لوح من الخشب.. وهذا اللوح يعطينا مهارة كبيرة في ضبط الخط، وحتى عندما دخلت المدرسة كان لزامًا عليّ في الصباح الباكر أن أمر على الكُتّاب أقرأ على سيدنا ما حفظته.. ثم بعد عودتي من المدرسة وتناولي للغداء أذهب إلى الكُتّاب، أكتب الجديد الذي حفظته على اللوح الخشبي وأقرأه على الشيخ ثم أحفظه عند عودتي للبيت وهكذا معظم زميلاتي وزملائي في المدرسة، ومن يواظب على الذهاب للكُتّاب لا بد أن يكون متفوقًا في اللغة العربية ويتمتع بخط جيد، وكنا ونحن صغار ندرك ذلك جيدًا... والذهاب للكُتّاب كان شيئاً مقدما أهم عند أبي وأمي عن أي شيء، وفي مواسم الحصاد كان الشيخ يأخذ حصته من القمح والأرز ويسعد كثيرًا بهذا العطاء... والحمد لله بفضل الكُتّاب وحرصنا عليه منذ الصغر تخرجت أنا وأشقائي من كليات القمة.(115/396)
* أحمد لاشين صاحب دار لتحفيظ القرآن بإحدى قرى محافظة الجيزة يقول: أبي كان عالمًا أزهريًا ومسئولاً عن أهم كتاتيب القرية وتخرج على يديه العديد من العلماء في شتى التخصصات العلمية والشرعية وقد كان حريصاً على الالتزام بأصول وقواعد التجويد مع التحفيظ، وقد حرصت بعد وفاته على أن نستمر في أداء هذه الرسالة وبرغم عملي كمهندس إلا أن معظم وقتي أقضيه بين هؤلاء الصغار الذين أحسن بمسئولية تجاههم.
معاهد متخصصة في تحفيظ القرآن الكريم:
* د. محمد داود عميد معهد القرآن بمنطقة العمرانية بالقاهرة يقول: بخلاف جامعة الأزهر يوجد العديد من المعاهد المهتمة بالدعوة والقرآن، ومعهد علوم القرآن بالعمرانية متفرد في رسالته الخاصة بتعليم القرآن وعلومه ويوجد به مجموعة من علماء الأزهر الذين يقومون بتحفيظ الفتيان والفتيات، ولنا الآن معهدان تابعان ومتماثلان معنا، وهما معهد القرآن بدقادوس (قرية الشيخ محمد متولي الشعراوي _رحمه الله_) ومعهد القرآن بقرية هردون بمحافظة المنوفية... والمعهد يقبل الطلاب الحاصلين على الشهادات المتوسطة وخريجي الجامعات ومدة الدراسة به أربع سنوات وهو معتمد من الأزهر الشريف، ويوجد به فصول خاصة بالنساء وأخرى بالرجال، وفي الإجازة الصيفية نقوم بتحفيظ الأطفال الصغار، ولدينا أكبر مكتبة إسلامية على مستوى الشرق الأوسط، كما أن القائمين على التحفيظ لديهم مهارة علمية ولا يقومون بهذه المسئولية إلا بعد إجازتهم للحفظ والتدريس من قبل علماء القرآن، أما المعاهد الأخرى التابعة للجمعية الشرعية أو لوزارة الأوقاف فهي لإعداد الدعاة والداعيات وتهتم بتدريس العديد من العلوم الشرعية والتاريخ والسيرة والفقه بجانب القرآن وقد زاد عددها في الآونة الأخيرة.
كلية القرآن الكريم:
* د. جودة المهدي عميد كلية القرآن الكريم يقول: كلية القرآن هي الوحيدة في جامعة الأزهر، وتشمل الدراسة بها أربع سنوات... نركز على علوم القرآن والقراءات.. خاصة بعدما شاع التحريف واللحن لدى بعض المقرئين... وهذه الكلية تستقبل خريجي المدارس أو الجامعات الأزهرية... وعنايتنا بالقراءات من خلال المناهج العلمية تختلف عن ذي قبل عندما كانت القراءات يتم تعليمها في إطار حر ومن خلال علماء وتلاميذ يتوارثون تلك القراءات مثل حفص عن عاصم وورش عن نافع، وكذلك مع انتشار المقرئين في وسائل الإعلام وبين الجمهور... وكان لا بد من تلك الكلية لكي ننهض بضبط القراءات وتعليم أصول التجويد والترتيل هذا إلى جانب علوم القرآن وبعض العلوم الشرعية الأخرى.
بركة القرآن:
* الشيخ محمود فتح الله... شيخ أحد الكتاتيب بمحافظة الغربية يقول: لدى سبع بنات علمتهن وحفظن جميعًا القرآن الكريم كاملاً... يساعدنني الآن في تحفيظ الصغار... منهن من تزوجن والباقيات معي في البيت... زوج ابنتي هو العريف (مساعد الشيخ) ورغم أنني جاوزت السبعين عامًا إلا أنني دائمًا أحس ببركة القرآن التي أصبغت على صحة وعافية فلم أذهب حتى الآن إلى الطبيب إلا نادرًا... كنت أحفّظ الأولاد في(115/397)
الماضي نظير حبوب الأرز والقمح... ومن ليس لديه مقدرة على عطاء أقوم بتحفيظه مجانًا... والحمد لله الآن تقوم وزارة الأوقاف برعايتنا من خلال دورات تدريبية يتم من خلالها مراجعة وضبط أصول القراءة تحت رعاية علماء الأزهر كما تمنحنا مكافآت رمزية.
أسهل الطرق لتحفيظ القرآن:
* د. تيسير راشد (الأستاذ بكلية رياض الأطفال) يقول: قدرة الطفل على الحفظ في مرحلة الطفولة المبكرة تكون عالية جدًا ولا بد من استغلال هذه القدرة في حفظ آيات القرآن الكريم بدلاً من حفظ أشياء وحكايات لا معنى لها... وحفظ القرآن الكريم يقوّم لسان الطفل ويقوي مخارج الألفاظ عنده وهناك أطفال يحفظون القرآن كاملاً في سن 6 سنوات وكلما كان الحفظ في سن صغيرة كلما كان أكثر ثباتًا واستمرارية في ذاكرة الطفل... والحفظ بالتكرار وفي الجو الجماعي يسهل على الطفل ويزيد من قدرته واستيعابه لآيات الذكر الحكيم.
* وفي دراسة هامة للدكتور عبد الباسط متولي (أستاذ الصحة النفسية بكلية التربية جامعة الزقازيق) حول أثر تعلم القرآن والفقه على مستوى النمو اللغوي للطفل... يقول: للبيئة الثقافية للفرد دور أساسي في خلق جو من التفاعل اللغوي والإيجابي من خلال إتاحة الفرص المناسبة لتعلم اللغة وممارستها على النحو الذي يناسب مستوى نضج الطفل ويساعده على النمو العقلي والانفعالي ويتشكل ذلك المناخ الثقافي الفعال من قدرة الأسرة على التفاعل اللغوي المثمر وتوجيه الطفل إلى هذا التفاعل كإلحاقه بجمعيات تحفيظ القرآن (الكتاتيب) التي تعد الطفل ليكون ذاكرًا لأكبر تراث لغوي، ومحافظًا على ذاته من خلال ذلك التذكر الواعي لآياته حيث يقول الحق _تبارك وتعالى_: "قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ" (يونس: من الآية57)، ويقول: "وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيّاً لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمىً أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ" (فصلت:44) ومن أفضل أنعم الله على أمة محمد- صلى الله عليه وسلم- أن جعل دستورها قرآنًا عربيًا غير ذي عوج من تعلمه وعمل به فقد فاز في الدنيا والآخرة ومن تركه خلف ظهره فقد خسر خسرانًا مبينًا.
ـــــــــــــــــــ
الهم والحزن.. نظرة إسلامية للأسباب والعلاج
إعداد: خالد روشه
12/3/1427
ارسل تعليقك ...
تعليقات سابقة ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
بين يدي الموضوع:(115/398)
الهموم والأحزان ضيفان ثقيلان على الإنسان في دنياه لا يكادان يفارقانه حتى يأذن الله _سبحانه_ له بدخول الجنة، حيث لا حزن ولا ألم، ولاهم و لا غم، ولا كرب و لا ضيق.... لذلك فإن من أول دعاء أهل الجنة: "الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ" (فاطر: من الآية34).
والأشقياء بكل معنى الشقاء هم المفلسون من ريحانات الإيمان وروحه وجنته وسراحه ومراحه، فهم أبدا في تعاسة دائمة وضنك من العيش لا يطاق: قال الله _تعالى_ يصف حالهم: "وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى" (طه:124).
وبقدر إيمان المرء تكون سعادته...فتستقر نفسه لحسن موعود ربه، ويثبت قلبه بشعوره بمعيته، ويستريح ضميره من مخالفة هواه، وتبرد أعصابه أمام الحوادث، ويسكن قلبه عند وقع القضاء...قال الله _تعالى_: "مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً... الآيات" (النحل: من الآية97).
الهموم والأحزان ضيفان ثقيلان على الإنسان في دنياه لا يكادان يفارقانه حتى يأذن الله _سبحانه_ له بدخول الجنة، حيث لا حزن ولا ألم، ولاهم و لا غم، ولا كرب و لا ضيق
النبي _صلى الله عليه وسلم_ يتعوذ من الهم والحزن:
...عن أنس _رضي الله عنه_ ورواه البخاري في كتاب الدعوات أن النبي _صلى الله عليه وسلم_ أن النبي _صلى الله عليه وسلم_ كان كثيرا ما يقول: "اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن وأعوذ بك من العجز والكسل وأعوذ بك من الجبن والبخل وأعوذ بك من ضلع الدين وغلبة الرجال" وكأن النبي _صلى الله عليه وسلم_ قد جمع معاني السعادة الدنيوية الكاملة والتي لها أكبر الأثر في المآل والآخرة في تلك الأمور التي ذكرها في ذلك الحديث والتي هي في الحقيقة منغصات حياته ومسببات حزنه وضيقه، وهى:
الهم: وهو ضيق الصدر الذي سببه ما يظنه المرء ويتوقعه مستقبلا، الحزن: وهو الضيق الذي سببه ما يفكر فيه المرء مما مضى، العجز: وهو عدم قدرة الآلة والجوارح عن القيام بما يأمله الإنسان ويطمح به، الكسل: وهو القعود عن المعالي والركون إلى الراحة وعدم السعي وبذل الجهد لتحقيق المطالب، الجبن: وهو العجز عن الشجاعة والإقدام، البخل: وهو العجز عن الجود بالمال في الصدقة والزكاة والإيثار...
تحرير القضية:
الهم والحزن إذن داءان ضاران بالإنسان المسلم لابد أن يحاول جاهدا أن يطردهما عنه ما استطاع و إلا وقع فريسة لهما فأقعداه عن المعالي وحطماه عن الإنجاز، لذلك كان من المهم أن نتناول هذه القضية المؤثرة على نفس الإنسان وسلوكه، ونرى منهج الإسلام في تناولها، ونستفيد من آراء الخبراء في تطبيقات علاجها العملية..
الهموم والأحزان أكبر أعداء لصحة المسلم النفسية:
يرى كثير من العلماء أن الصحة النفسية هي حالة نفسية يشير فيها الإنسان إلى "التوافق" مع نفسه أو مع مجتمعه الذي يعيش فيه، ويوازن بين مصالحة ومصالح(115/399)
مجتمعه، وأقصد بالتوافق: (عملية ديناميكية يحدث فيها تغيير أو تعديل في سلوك الفرد أو في أهدافه أو في حاجاته، أو فيها جميعا، ويصاحبها شعور بالارتياح والسرور إذا حقق الفرد ما يريد وحقق أهدافه وأشبع حاجاته، ويصاحبها شعور بعدم الارتياح والاستياء والضيق إذا فشل في تحقيق أهدافه، ومنع من إشباع حاجاته )..
وهذه الحالة اليائسة الضيقة من عدم الارتياح والاستياء وفقدان السرور هي الحالة التي يهجم فيها على المرء الهم ويتربص به ضيق الصدر والشعور بالفشل..
فهو إحساس يكون فيه الفرد نهباً للشعور الداخلي السلبي والفشل وخيبة الأمل، واختفاء الابتسامة والانشراح، وظهور العبوس وعدم الابتهاج والأسى الممزوج بفقدان الهمة والتقاعس عن الحركة والعزوف عن بذل أي نشاط حيوي ولربما العزوف عن الحيوية والحياة بكاملها – في بعض الحالات - ليصل إلى مراتب اليأس من فرص الحياة الطيبة في المستقبل إذ يشعر الفرد معه عندئذ بحاجة لذرف دموع الحزن والأسى ويود لو أنها تنزلق من مآقيه على الرغم من عدم وجودها.
وقد أشار المتخصصون أن ذلك الشعور إذا استسلم المرء له نهبه وأكله، وصار سمته تراجع في الفكر وضمور ينتهي في الفراغ الحاصل فيه وإنه ليتطور ليشلّ العقل عن ممارسة دوره السليم في التحليل والتمييز وإصدار التعليمات لباقي أعضاء الجسم وغدده ومن هنا نجد أن كثيرا ما يصاحب الهموم والأحزان بعض الأمراض الفسيولوجية مثل القرحة وسوء الهضم وآلام القولون ووجع المفاصل والصداع والأرق... وغيرها الكثير.
وهذه الحالة المرضية هي حالة منتشرة إلى الحد الذي نستطيع أن نصفها بأنها مرض العصر الذي يصيب الشباب المسلم...ونحاول أن نلقى الضوء على هذه الحالة المرضية المنتشرة لدى شبابنا المسلم من خلال نظرة المتخصصين والعلماء.
مفهوم السعادة.. تفسير الإسلام لسيكولوجية السعادة:
..يختلف المتخصصون في تعريفهم لمعنى السعادة ولكنهم جميعا يرون أنها: حالة من السرور والرضا ونسيان الأحزان وذهاب الهموم، يقول الأستاذ الدكتور كمال مرسي: " إن العلماء قد اختلفوا في تحديد معنى السعادة، فالبعض جعلها في خلو الإنسان من التوتر والانحراف والبعض الآخر جعلها في تحقيق التوازن بين مطالب الجسم والنفس والروح وبين مطالب الفرد والجماعة وغيرهم جعلوها في تحقيق التوافق مع النفس والمجتمع الذي يعيش فيه، وآخرون جعلوها في إشباع الحاجات وعلى قمتها الحاجة إلى تحقيق الذات....".
ويقول الأستاذ الدكتور محمد عثمان نجاتى: " السعادة هي تحقيق التوازن كما جاء في القرآن الكريم الذي أخبرنا أن الله خلق الإنسان من جسم وروح وأودع في كل منهما حاجاته التي تحفظه وتحميه وتنميه ودعا الإنسان إلى تحقيق التوازن بين حاجياته ووهبه العقل ليميز به بين طريقي الخير والشر ثم يختار ويفاضل بينهما ويفاضل بين طريق الهدى وطريق الشهوات وطريق الرهبانية وجعل طريق الهدى في عمل الصالحات التي تشبع حاجات الجسم والروح باعتدال دون تفريط، فقال _سبحانه_: "مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً" (النحل: من الآية97).(115/400)
ويقول الدكتور محمد عبد الظاهر الطيب: "يظن كثير من الناس أن تحقيق السعادة إنما يكون بتحقيق اللذات العاجلة المحسوسة، وبالرغم من ضرورة الحصول على اللذة الحسية فإنها لا تسعد إلا الأطفال والصغار والمتخلفين عقليا الذين يطلبون الملذات العاجلة المحسوسة ويعجزون عن إدراك الملذات الآجلة فيقبلون على متع سريعة الزوال لا توصل إلى السعادة الحقيقية، كما لا يقبل على تحصيل تلك الملذات من البالغين إلا أصحاب النفوس الخسيسة الذين يجعلونها غايات ويطلبونها لذاتها ويبغون سعادتهم فيها فلا يوفقون لأن كثرة الإقبال عليها يولد النهم الذي يفسد متعتها ويشقى طالبها ويضني عابدها "
هل يمكن أن تتكون لدى الشباب المسلم ما يمكننا تسميته بالمناعة النفسية ضد تقلبات الحياة وهمومها؟!
فإننا نرى كثيرا من شبابنا المسلم يستسلم للهم والشعور به فاقدين للمناعة النفسية المناسبة التي تقيهم شر ذلك فما هو المعنى الصحيح للمناعة النفسية وكيف يتم تكوينها؟
يقول الأستاذ الدكتور كمال مرسى: أن المناعة النفسية مفهوم فرضي يقصد به قدرة الشخص على مواجهة الأزمات والكروب وتحمل الصعاب والمصائب ومقاومة ما ينتج عنها من أفكار ومشاعر غضب وسخط وعداوة وانتقام وأفكار ومشاعر يأس وعجز وانهزامية وتشاؤم كما تمد المناعة النفسية الجسم بمناعة إضافية ..
ويقول الدكتور نجيب الكيلاني: للمناعة النفسية توجهات ثلاث أساسية (طبيعية ومكتسبة وصناعية ) فالطبيعية هي مناعة ضد التأزم والقلق وهى موجودة عند الإنسان المؤمن في طبيعة تكوينه النفسي, فالشخص صاحب التكوين النفسي السليم والخالد للإيمان القويم له مناعة طبيعية عالية ضد الهموم والكروب وعنده قدره عاليه على تحمل الإحباط ومواجهة الصعاب وضبط النفس، والمكتسبة هي تلك التي يكتسبها الإنسان من التعلم و الخبرات والمهارات التي تمر به حيث تعد بمثابة التطعيم لتنشيط جهاز المناعة لديه وهذا يجعل تعرضه للهموم أقل من جهة الأثر عليه، وأما الصناعية فهي الموجهة من التربويين والمتخصصين والعلماء عمدا إلى من يشكو من ذلك الداء أو غيره من الأمراض التي قد تصيب النفس، ولكننا نستطيع الجزم بأننا نستطيع تحسين أحوال المناعة النفسية عند استجابة المرء للمعالجة الإيمانية....
ويرى العلماء أن ثمة مناعة قرآنية شرعية مضادة للأحزان وأنها بين أيدينا غير أننا نذهل عنها في أحيان كثيرة فإن أهمية العلاج النفسي القرآني يتمثل في كونه البديل المناسب لمئات من أنواع الأدوية والعقاقير المهدئة التي قد يتعود عليها الجسم فتكون مرضاً أدهى وأمر من المرض الأصلي ذاته ولربما تتدهور الحالة النفسية ليصل حاله إلى أعلى درجات الحزن وفراغ الفؤاد والهلع والخوف..(ولسنا هنا نصف المنهج القرآني كعلاج دوائي لمرض ما وإنما هو منهج عملي متكامل وشفاء لأمراض الجسد والنفس وبصائر من الله _سبحانه_ يهدي به من يشاء إلى صراط مستقيم )
الأسباب وراء الهموم والأحزان لدى الشباب المسلم..(115/401)
تختلف الأسباب التي تجلب الهموم وتتسبب في الأحزان المستمرة لدى الشباب المسلم ولكنها قد تجتمع في عدة محاور تدور حولها:
1- عدم تلبية حاجات القلب العقائدية: فالقلب في فاقة دائمة لا يمكن أن يسدها سوى قوة العقيدة في الله سبحانه، ومن أهمل تقوية ذلك كان شاعرا بنقص مستمر وفراغ لا نهائي وهو لا يدري سببه..
2- عدم الإنجاز: فأصحاب الإنجازات والذين استطاعوا أن يحققوا لأنفسهم ولمجتمعهم قدرا كبيرا من التقدم الإيجابي غالبا ما يطردون الهموم حيث يكون همهم منصبا على رفعة أمتهم وتقدم ذواتهم في تحقيق التقدم المطرد، وعلى العكس فالذين لم يحققوا إنجازا يذكر طوال أعمارهم وينظرون خلفهم فلا يجدون إلا فراغا فهؤلاء يكون الهم أكثر قربا منهم.
3- الانكسار وفقدان العزة: فالعزة مصدرها قوة اليقين وصدق الانتماء وهما متحققان في المؤمن الذي أيقن بربه وبموعوده وصدق في الانتماء لدينه ولأمته معتقدا فضلها ورفعة قدرها، مهما مر بها من ظروف ضعف أو هزيمة قال الله تعالى " ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين "، أما المنهزمون الذين يقيمون قدر الأمم تقديرا خاطئاً ويضعف انتماؤهم لأمتهم فهؤلاء أكثر الذين يتعرضون للانكسار والذل والهزيمة.
4- عدم تحقق الأهداف: فكل إنسان له مرادات وآمال وأهداف وضعها لنفسه لا تغيب عن ذهنه يسعى لها ويحاول تحقيقها في كل يوم، ومن قصرت به أحواله وطاقاته وقدراته عن تحقيق أماله وأهدافه كان عرضة للهموم والأحزان المتكاثرة، ولقد علمنا النبي _صلى الله عليه وسلم_ أن آمال المرء يجب أن تسير في طريق الآخرة لا في طريق الدنيا، حتى الأهداف الدنيوية يجب أن تكتسي بالنية الصالحة التي تجعلها من العمل الصالح فقال _صلى الله عليه وسلم_ فيما رواه الترمذي والنسائي " من كانت الدنيا أكبر همه فرق الله عليه شمله وجعل فقره بين عينيه ولم يؤته منها إلا ما قسم له، ومن كانت الآخرة همه جمع الله عليه شمله وجعل غناه في قلبه".
5- البعد عن البيئة الإيمانية الصحية: فالإسلام قد أنشأ بيئة إيمانية يمتنع عنها الهم وتتباعد عنها الأحزان تلك البيئة هي بيئة الأخوة الإيمانية والعلاقات الشفافة النقية التي هي بلا مصالح شخصية ولا منافع دنيوية فشرع لهم خمس صلوات يجتمعون فيها في المساجد وشرع لهم تواصل الأرحام وعلاقات الجيرة والأخوة الصادقة المخلصة، ومن ابتعد عن تلك البيئة وأهملها صار فريسة للوحدة والانعزال وصار طعما للهموم والأحزان.
رابعا: الأطباء ورؤيتهم للقضية:
يسمي الأطباء ذاك الداء الذي نحن بصدده "بمرض الاكتئاب" ويرون أنه داء عصري قد انتشر انتشارا فاق كل تصور فقد أعلنت منظمة الصحة العالمية أنه يوجد في هذا العالم ثلاثمائة وخمسين مليون إنسان مصاب بالاكتئاب المزمن يحتاجون إلى العلاج، لكن إحصاءات منظمة الصحة العالمية حول مرض العصر الأول تبقى موضع شك، لا بسبب إهمال المنظمة أو عدم دقة أرقامها، بل لأن عدد المصابين بذاك المرض الذين لا يبحثون عن علاج هو أضعاف هذا الرقم المعلن، والمصابون(115/402)
ليسوا متجانسين سواء من الناحية الاقتصادية - الطبقية أو الثقافية فمنهم المترف الذي يعاني من فائض الرفاهية والتخمة ومنهم الفقير الذي لا يحصل على الحد الأدنى متطلبات العيش.
لهذا فنسبة الانتحار تتعاظم في دول أوروبية هي مثار حسد الفقراء، ويصبح الزائد توأم الناقص قدر تعلق هذه الثنائية بالسايكولوجيا البشرية المعقدة، والتي تستعصي على التدوين في خانات أو إحصاءات أو حتى تحليلات عيادية!
ووجدت دراسة أجرتها جامعة ايموري في أطلانطا أن المصابين بالاكتئاب هم أكثر عرضة للإصابة بعدم انتظام ضربات القلب، مما يجعلهم عرضة للأخطار والأمراض المتلاحقة...
المتخصصون النفسيون يقرون بأنه لا علاج للداء يماثل العلاج الإسلامي له:
يرى المتخصصون أن دراسة موضوع الاكتئاب وعلاجه يعتبر من المواضيع الهامة في العصر الحديث وأنه رغم كثرة العلاجات النفسية الموصوفة له فإن ذلك يعدم الجدوى الحقيقية.. إذ سرعان ما تنتهي العقاقير ويرجع الاكتئاب إلى النفس من جديد.. ولا غرو أن نجد الكثير من السلبيات المصاحبة للاكتئاب عند المعالجة أو قبلها مثل الإدراك المشوب بالسلبية والروح الانهزامية من الأحداث الخاصة الداخلية للفرد والخارجية المحيطة به، كما نلاحظ توتر العلاقات الاجتماعية نظراً لذلك وصعوبة التعامل بشكل واضح وسليم مع الآخرين.
بل إنه يمكننا الجزم والتأكيد – بناء على تقارير المتخصصين - على قصور العلاج النفسي السريري للاكتئاب في الكثير من الحالات لخلوه من التشخيص الدقيق لعله الاكتئاب أو لعدم توفر العلاج الناجع وبالنهاية لا توجد حيلة للمعالجة
يقول الدكتور رامز طه: كمتخصص أستطيع أن أؤكد بعد ممارستي لأغلب أنواع العلاج النفسي.. أن الأسلوب الذي تتبعه مدارس العلاج المعرفي الحديث: "لآرون بيك" والعلاج العقلاني "لألبرت إليس" والتي تعد الأكثر تطورا في البحث والعلاج..أنها قد وضحت بصورة تامة في العلاج القرآنى والإسلامي، إذ إنها جميعها تلجأ إلى العلاج عن طريق مخاطبة العقل الواعي وتعديل التفكير ودحض الأفكار الانهزامية الخاطئة وغير المنطقية.. وهذا الأسلوب يتوافق تماماً مع أسلوب القرآن الكريم في علاج النفس وتصحيح انحرافها، بل إن القرآن قد تفوق كثيرا في علاجاته للنفس البشرية وبأبسط الأساليب وأكثرها أثرا، وكثيراً ما شاهدنا المرضى يرفضون إكمال أساليب العلاج لأنها تضعهم في صراع مع الذات ومع المجتمع، لأنها بشكل مباشر أو غير مباشر تدفع المريض إلى إشباع رغباته وغرائزه بدون أن تحدد له الطريقة المناسبة لمفاهيم وقيم المجتمع، كما أنها تهمل مناقشة الأفكار والمشكلات الحالية للمريض، لذلك كان الطريق السوي الأوحد لذلك هو طريق الإسلام وهو الذي جمع بين إيجابيات كل ذلك... ويضيف الدكتور طه: وإذا كان البعض يدعى أن العلاج النفسي لا علاقة له بالدين، فأنني أؤكد خطأ هذا الادعاء وعدم صحته تماماً بل لقد اعتمد التكيف النفسي على مر العصور على الدين واستعان به لمساعدة الإنسان على مواجهة لحظات الهزيمة والألم واليأس، وهاهو الإسلام يعطينا السبيل الأوفر حظا لعلاج تلك الأزمة..(115/403)
ويصرح في هذا المجال كل من الدكتور أنور طاهر رضا والدكتورة أمل المخزومي أستاذاً علم النفس الاجتماعي بأن التفاوت بين درجات الاكتئاب لدى المجتمعات تتفاوت بتفاوت واختلاف درجات الإيمان بالله وقدره وقضاءه وليس من قبيل الصدفة أن نجد زيادة عدد المصحات النفسية في مجتمع كأوربا، مثلاً، عنه في المجتمعات الإسلامية كما يؤكد العلاج القرآني على أن انحسار الاكتئاب عن النفس البشرية منوط بإيمانها إذ كلما ازداد التقارب والتوجه إلى الله والإخلاص له كان الاكتئاب معدوماً أو صفراً وهذا ما يتميز به المجتمع الإسلامي الحق عموماً عن غيره من المجتمعات الأخرى وهي نعمة من نعم الله أضفاها على عباده المؤمنين.
كيف نظر الإسلام لعلاج الهموم والأحزان؟
الحقيقة التي يجدر أن نشير إليها هنا هي أن العلاج القرآني بكل درجاته ومقاييسه لم يكن سريرياً بل علاجاً تحريضياً إيحائيا للفرد يدفعه إلى التقوى والإيمان بربه وتوثيق حبل علاقته به كما يدفعه الى التوكل عليه واليقين بقدرته سبحانه والتسليم بالقضاء والقدر واليقين في أثر الدعاء والمناجاة للخالق سبحانه. كما أنه علاج تحريضي سلوكي للفرد يقوم به بصورة ذاتية وثابتة حتى يصل لدرجة التلقائية، فهو يدعوه إلى الإنجاز والنجاح وإثبات الأثر وإصلاح الحياة والمجتمع..
ولذلك استطاع علماء الإسلام ودعاته الاتفاق على عدة محاور لحرب داء الهم والحزن وطردهما.. ومن ذلك:
أولا : الرضا: وأقصد به الرضا بالله ربا وبالإسلام دينا والرضا بقضاء الله وقدره يقول النبي _صلى الله عليه وسلم_: " ذاق حلاوة الإيمان من رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد رسولا " رواه مسلم.
إن عمل الرضا في النفس البشرية عمل عجيب إذ إنه يذيب شتى أنواع الآلام والأحزان الناتجة عن التعرض للمواقف والمشكلات أو المصائب التي ربما تحدث للإنسان فتزيده اكتئاباً أو تظلم الحياة في عينيه يقول الله _تعالى_: "وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ" (البقرة:155 - 157)، وأصل الرضا هنا هو صحة العقيدة في الله فمن رضي بالله ربا وإلها وحد عبوديته له سبحانه وحده فلم يشرك به شيئا فطهر قلبه من خبائث الشركيات والتعلقات بغير الله وهو ذاك الذي يهديه الله ويشرح صدره قال الله _سبحانه_: "فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ" (الأنعام: من الآية125).
ثانيا: القناعة: وأقصد بها هنا معنى قد يخفى على كثير من الناس وهو بينه وبين الرضا علاقة عموم وخصوص فالقناعة هي قبول الحظ المقسوم للإنسان من الرزق والمال والأولاد والقوة والصحة والمتاع، يقول النبي _صلى الله عليه وسلم_ " ليس الغنى بكثرة العرض إنما الغنى غنى النفس "رواه مسلم.
وأثر القناعة كعلاج للهموم هام جدا إذ إن كل قنوع غير متشوف لما في أيد الناس وغير ساخط على حاله من الفقر أو الصحة أو غيره، يقول الشافعي: أمت مطامعي فأرحت نفسي: فإن النفس إن طمعت تهون.(115/404)
ثالثا: ذكر الله: قال الله سبحانه: "وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ" (الحجر:97-99).
ذلك أن الذكر هو العبادة التي يتزود منها السائر إلى الله سبحانه في سيره, ومثله كمثل الزاد للمسافر تمامًا, فإذا نقص زاده وقل طعامه خارت قواه وضعفت جوارحه, فوجب عليه عندئذ أن يعود إلى التزود.
* يقول ابن القيم _رحمه الله_: ولقد كان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يصلي الصبح ثم يقعد يذكر الله _سبحانه_ إلى أقرب من نصف النهار, وكان يقول: هذه غدوتي وإن لم أتغدَّ لم أتقو ليومي.
ذلك فالذكر هو مكان التزود للسير في الطريق, وهو المنزلة التي يتردد عليها دائمًا أهل الإيمان والجهاد والتقوى.
ومن أكرمه الله سبحانه بدوام الاتصال بذكره _سبحانه_ فقد أكرمه بفتح الباب إليه والسماح له بالقرب منه, ومن عزله الله سبحانه عن ذكره فقد منعه عنه وأبعده عن طريقه.
وذكر الله سبحانه سلاح المؤمن في كل المواطن والمواقف والمشكلات والأزمات, وبه يدفع المؤمن عنه الأمراض وتكشف الكربات وتهون عليه المصائب.
والمؤمن الحق هو الذي يفزع إلى ذكر الله إذا نزل به بلاء أو مصيبة ويلجأ إليه إذا دارت عليه دائرة أو حلَّت به نازلة.
وذكر الله سبحانه هو جنة المتقين التي يفرون إليها إذا ضاق بهم سجن الدنيا, فترى الذاكر بجسده في الدنيا سجينًا, لكنه بروحه وقلبه في الجنات مرفرفًا فرحًا مسرورًا, ذلك أن ذكر الله - لمن أحبه وداوم عليه - لا يدع قلب الإنسان الحزين إلا مسرورًا, ولا يدع نفس المتألم إلا راضية سعيدة.
رابعا: الإنجاز والعمل الصالح: لقد قرن الله كلاً من الاستقامة والعمل الصالح بالإيمان والتقوى لرفع حالة الضيق المذكورة وذلك عن طريق الاطمئنان النفسي الذي تخلقه كل من السلوكيتين المذكورتين فالاستقامة والعمل الصالح في عصورنا هذه بحاجة إلى جهاد نفسي وقناعة راكزة وإيمان راسخ يزيد من إفرازات الامينيا الأولية في الدماغ بصورة ذاتية معتدلة لينتفي الحزن وتحل السعادة بديلاً عنه كما أن الإنجاز هو الحل الأقوى والأكثر أثرا في ظروف المصابين بشعور الفشل والإحباط..
وأقصد بالإنجاز هنا محاولة التركيز والإنتاج في أي شيء يحسنه الفرد المسلم مهما كان قليلا وضئيلا فلئن نجح فيه فسيدفعه ذلك إلى إنجاز أكبر.
ولربما تمثل العمليات الإيمانية السابقة علاجاً نفسياً وعملياً للهم الداخلي لشبابنا المسلم ولعلنا تكون لنا عودة تفصيلية لدراسة الموضوع من جوانب أخرى _إن شاء الله_.
ـــــــــــــــــــ
الازدواجية الثقافية وتأثيرها السلبي على الشباب المسلم
السيد أبو داود
28/2/1427
ارسل تعليقك ...(115/405)
لا توجد تعليقات ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
تموج الحياة الثقافية على الساحة الإسلامية بتيارات شتى تتنازع عقل المسلم، وما بين الفكر الوسطي إلى الفكر المتشدد إلى الفكر الجامد إلى فكر التفلت والانحلال، يقف الشاب المسلم الذي لا يزال على بداية الطريق حائراً.
ومما يزيد الأمر تعقيداً أن كل تيار ثقافي له دُعاته وكُتُبه ومنهجُه حتى صار دولة وحده. فكيف يختار الشباب المسلم؟ وكيف يمكن لأجهزة الإعلام ولبرامج التعليم أن تسانده وتحضنه وتضع قدميه على الطريق الصحيح؟
في البداية يجب التفريق بين مستويين لهذه الإشكالية التي يعيشها الإنسان المسلم في مجال الثقافة، المستوى الأول هو: وصف الواقع، والمستوى الثاني هو: المستوى النظري بمعنى ما يجب أن تكون عليه ثقافة المسلم. وبالنسبة للمستوى الأول وهو المستوى الواقعي فإن ثقافة المسلم تتحدد على مراحل مختلفة، فهناك مرحلة الطفولة وما يتم تلقينه فيها من عادات وسلوكيات وقيم، ثم تأتي بعد ذلك مرحلة النظام التعليمي بما فيها من مناهج وخبرات، ثم مرحلة النظام الإعلامي بما فيها، ثم مرحلة النظام الثقافي الفني بما فيها، ثم المجال الاجتماعي بما فيه من ممارسات وعلاقات ومشاركات اجتماعية.. ويدخل في النظام الاجتماعي النشاط السياسي والاقتصادي. كل هذه الأمور تشكل مجتمعة ثقافة الإنسان من حيث تلقينه قيم وسلوكيات وأنماط في التفكير ورؤية في الحياة وتحديد للأهداف. وإذا كانت هذه هي محددات الثقافة فإنها تختلف من بلد إلى آخر داخل العالم الإسلامي.. فهناك فئات تتعرض لكل هذه المؤثرات وفئات تتعرض لبعضها.
تموج الحياة الثقافية على الساحة الإسلامية بتيارات شتى تتنازع عقل المسلم، وما بين الفكر الوسطي إلى الفكر المتشدد إلى الفكر الجامد إلى فكر التفلت والانحلال، يقف الشاب المسلم الذي لا يزال على بداية الطريق حائراً
والوضع الراهن بالنسبة لثقافة المسلم تسيطر عليه الثقافة ذات الأصول الغربية أو ذات الطابع العلماني التي تستبعد الدين، بمعنى أن المحتوى الذي يقدم من خلال وسائل الإعلام أو الأدوات الفنية أو الممارسات الاجتماعية أو الأفكار الفلسفية الكبرى والسياسية يتسم بغلبة الأصل الغربي عليه.
ثم نجد المسلم يعيش بين نارين: نار تقوده إلى استبعاد الدين من أنماط السلوك والتفكير والقيم والممارسات سواء كان ذلك يتم بطريقة مدبرة أو بطريقة عفوية، ونار تقوده إلى الانغلاق والجمود بدعوى الحفاظ على الموروث. وما بين هاتين النارين يعيش المسلم حالة من الشد والجذب. حيث افتقرت كثير من المناهج الثقافية تلك النظرة الوسيطة في التربية الثقافية التي تجمع بين الحفاظ على ثوابت الإيمان والسلوك الديني مع القدرة على التكيف التنموي العصري ودمج الخطين معا – وهو ما حاول بعض المثقفين حمله كرسالة يؤدونها ولازال بعضهم يحاولون –.(115/406)
ولقد كان الصراع الثقافي في البلاد الإسلامية على مدى القرن العشرين يعيش هذه الحالة التي وصفناها ولكن بدرجات متفاوتة. فنموذج تركيا بعد سقوط الخلافة كان قاسياً شديداً لدرجة تغيير الكتابة نفسها وكذلك طريقة اللبس وكان الضغط الأوروبي شديداً.. وكان نموذج إيران أقل منه قليلاً قبل الثورة الخمينية.. في حين أن مصر قبل ثورة 1952 انتشر فيها الجانب العلماني على حساب الجانب الإسلامي ولكن بدرجة أخف كثيراً من حالة تركيا وإيران. وهكذا كان الانتشار العلماني ساحقاً في حالة الجمهوريات الإسلامية في الاتحاد السوفيتي السابق لدرجة محو الإسلام كلية وكان الانتصار ساحقاً أيضًا في تركيا. وفي حال استطاعت بعض البلاد الإسلامية – كالسعودية – الحفاظ على كثير من ثوابتها بفضل دعوات إيجابية انتشرت فيها، فإن معظم الدول الإسلامية التي تشبه حالة مصر مثلا كان الانتصار العلماني في شكل تمكن في الساحات الاجتماعية والنخبة والممارسات السياسية. وهذا كله انعكس على شخصية المسلم فعاش نوعاً من التمزق والثنائية والازدواجية وعاش صراعاً نفسياً رهيباً. وهذه الحالة من الصراع النفسي وعدم الاستقرار والازدواجية تولد السلبية والانسحاب وعدم القدرة على الإبداع والإنجاز.
وللخروج من هذه الإشكالية الثقافية، فإننا في هذا الصدد ينبغي أن نتحدث عن المستوى الثاني وهو ما يجب أن تكون عليه الأوضاع.. وأول ذلك أن يكون للثقافة العربية الإسلامية اليد العليا والهيمنة والسيطرة داخل البلاد الإسلامية على جميع المستويات الإعلامية والأدبية والثقافية والاجتماعية والسياسية.. كما يجب ألا يركز النظام التعليمي على اللغات الأجنبية والثقافة الأجنبية ويهمل اللغة العربية والثقافة العربية الإسلامية وأن يكون للثقافة الإسلامية اليد العليا، وهذا لا يعني الانغلاق ورفض الثقافات الأخرى فهذا غير مطروح ولكن المطروح هو التعامل معها من موقع القوة والثقة بالنفس والتمكين للثقافة الإسلامية في مجتمعها.
الهيمنة الثقافية تعني هزيمة سياسية:
وللقضية بعد آخر، فهزيمة أية دولة ثقافياً إنما يعني هزيمتها سياسياً وعسكرياً واقتصادياً.. فالاستعمار الأوروبي حينما فشل في حروبه الصليبية ضد العالم العربي ثم في استعماره العسكري الحديث كان حريصاً بعد أن استفاد من الدرس أن يتلاعب بثقافة وعقول المسلمين حتى تنشأ أجيالهم تسبح بحمده وتتصرف كما يريد لها هذا المستعمر. وإلا فلماذا اهتمت إنجلترا أن يضع خبراؤها بأنفسهم نظم التعليم وبرامجه في مصر أيام الاحتلال؟.
إن تجربة الجزائر في التعريب أغاظت فرنسا كثيراً وهي التي سرقت الثقافة العربية الجزائرية وصدرت لها حتى اللغة الفرنسية. وتجربة الجزائر هذه درس للمسئولين العرب فإن كانوا يريدون إقامة دولة متحررة من أية سيطرة ولها كيانها الخاص فلابد من البداية الصحيحة وهي إصدار القرارات التي يكون من شأنها التصالح مع الفكر الإسلامي والثقافة والقيم الإسلامية.
وإذا كانت السياسة والاقتصاد وجامعة الدول العربية وغيرها قد فشلت جميعها في توحيد العالم العربي فإن من شأن الثقافة أن توجد الأرضية الملائمة لهذه الوحدة(115/407)
بشرط توافر النوايا الطيبة والقرارات الصحيحة أولاً لتوجيه التعليم والإعلام الوجهة الإسلامية العربية ثم العمل على تدفق وتوحيد هذه النظم داخل الدول العربية ككل.
وهكذا فسوف يكون الطالب العربي في كل مكان يدرس مناهج متشابهة ويقرأ أفكاراً وثقافة واحدة، وبالتالي ستصبح أمانيه وتطلعاته واحدة. ومن شأن تدفق ثقافة وتعليم واحد عبر العالم العربي أن يصون مجتمعاتنا ويحفظ تماسكها أمام غول البث الإعلامي المباشر الذي يأتينا من كل اتجاه حاملاً أفكاراً وقيماً وثقافة تخالف كل ما لدينا.. وهذا الغول يأكل كل شيء طالما سلمناه أنفسنا بلا جذور ولا هوية.
إن الإعلام والثقافة والفكر المنتشر في أنحاء العالم العربي والإسلامي إنما هو أفكار غربية ليس لها جذور إسلامية تحفظها من أن يلتهما هذا الغول الغربي القادم. والعالم العربي اليوم في أضعف مراحل تاريخه ويبحث عمن يوحده بأية طريقة ولكنه يستبعد الثقافة من هذا الدور رغم إنها المرشح الأول لتوحيده بشرط أن يكون هناك جهد مخلص على كافة المستويات التعليمية والإعلامية والأدبية والفكرية والفنية يركز على الأصول العربية الإسلامية ويضعف من شأن القيم والأفكار الأوروبية.
المناهج والنظام التعليمي أهم أسباب المأزق الثقافي:
وإذا ناقشنا هذه الإشكالية من جانب المناهج الدراسية في بعض الدول مثل مصر وليبيا وتونس والمغرب فماذا ننتظر من حالة ازدواج متأصلة عبر عشرات السنين؟ إننا نعيش حالة ازدواجية لا يمكن أن يصدقها عقل.. فهناك التعليم الديني وبجانبه التعليم المدني والأول تسيطر عليه مؤسسات مقيدة بقيد سياسات كل دولة على حدة والثاني مشوب وموجه ومخلوط بالفكر العلماني الصارخ وهذه ازدواجية خطيرة تؤدي إلى تخريج عقليتين مختلفتين في المرجعية وطرق التفكير.
وهذه الازدواجية لا يستهان بها على الإطلاق، فالمفترض أن النظام التعليمي يعمل على تكوين عقليات لديها قاسم مشترك كبير في الثقافة والتعليم.. أما الموجود عندنا حالياً فهو تخريج أناس مختلفي التفكير والمرجعية. كما أن التعليم المدني أو ما يسمى بالتعليم العام نفسه يعاني من الازدواجية فهناك مدارس الحكومة والمدارس الخاصة، ثم الكارثة الكبرى في مدارس اللغات التي تدرس بلغة أجنبية وتخرج طلاباً منهزمين أمام الثقافة والفكر الغربي ومختلفين في التفكير والمزاج عن زملائهم في التعليم العام. إننا مجتمع يدمر نفسه بنفسه وهذه الازدواجية أضعفت مجتمعنا وأنهكته وجعلتنا مجتمعين اثنين لا مجتمعاً واحداً.
ولكم تكاثرت دعوات المصلحين نحو تعديل الخطاب الديني لمواءمة العصرية مع تمسكه بالثوابت وكذلك الدعوات نحو طرح جديد للتعليم المدني بعد تنقيته من شوائب العلمانية الغربية وعرض الفكر الديني متحررا من القيد السياسي وتقديم نموذجا متقاربا لتوحيد الفكر الثقافي العام لدى المتخرجين والدارسين من كافة الاتجاهات..وحتى الآن لم تلق تلك الدعوات أي صدي تنفيذيا لها.. ولا ندري هل بعد تلك الهجمة الاستعمارية الشرسة على أمتنا وتذويب ثقافتنا هل يمكننا أن نرى أية أصداء لتلك الدعوات الإصلاحية؟
مصادر الثقافة الإسلامية غائبة:(115/408)
إننا نستطيع تحديد مصادر الثقافة الإسلامية في أمور أربعة هي القرآن الكريم والسّنَّة النبوية واجتهادات العلماء المسلمين الأعلام، مثل الأئمة الأربعة ثم اجتهادات العلماء المسلمين المعاصرين الكبار المشهود لهم بالعلم والورع والرسوخ والحكمة والعطاء والثبات.
وحينما نريد أن نقيس مدى الانحراف في ثقافة المسلم المعاصر فيصبح الأمر سهلاً حيث ننظر إلى مدى ما تسهم به هذه المصادر الأربعة في صياغة ثقافته. لكن الملاحظ على أرض الواقع أن هذه الأمور لا تشكل إلا حيزاً بسيطاً من الثقافة التي يحصل عليها المسلم. فشبابنا يعرف الممثلين والرياضيين الأجانب معرفة متعمقة في حين أنه ربما لم يسمع مطلقاً عن عمالقة الفكر والثقافة الإسلامية.
ووسائل الإعلام تلعب دوراً في تسطيح الثقافة من ناحية ثم في تشويهها وإبعادها عن مصادرها الإسلامية من ناحية أخرى.. وإصلاح هذا العوج يحتاج إلى قرار سياسي بإصلاح حال التعليم.. وإذا كنا نريد تخريج شباب له شخصية وإلمام شامل بما يجري في العالم حتى يكون مديراً أو قائداً ناجحاً في المستقبل فلابد أن تكون هناك قرارات سياسية بتوجيه التعليم والإعلام وجهة تركز على هوية الأمة وجذورها الإسلامية.
إن لدينا ثوابتنا الأصيلة عقائديا وثقافيا وأخلاقيا، قدمها لنا الإسلام في صورة نموذجية سهلة التناول عميقة الأثر، وكلما اقتربنا منها كلما اقتربنا من تحقيق تلك الذات الغائبة، وإذا حاول مجتمع ما أن يبتعد عنها أو أن يستغني عن مرجعيتها فإنه سيهوى في هوة سحيقة لا يعلم أحد منتهاها
ـــــــــــــــــــ
الشخصية الدعوية المؤثرة
خالد روشه
13/2/1427
ارسل تعليقك ...
لا توجد تعليقات ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
يحتاج المجتمع المسلم دائماً إلى شخصيات متوازنة ذات قيمة فعلية تأخذ بيده وتؤثر فيه وتقوده نحو تحقيق ذاته وإثبات أثره الإيجابي المرجو، كما تحتاج الأمة دوماً إلى تلك الشخصيات الإسلامية الدعوية المؤثرة لتقويم مسار أفرادها وتحديد الأطر التطبيقية للعمل التنفيذي الخاص بالدعوة والحركة الإسلاميتين.
ومن ثم كان الاهتمام بتخريج دفعات متتابعة من الدعاة ذوي الشخصيات المتميزة والمؤثرة واجباً هاماً على عاتق العمل الإسلامي وقائديه.
الدافعية للتأثير:
الدافعية للتأثير شرط هام في التأثير في الآخرين، فالداعية الذي يريد ترك الأثر الحسن في الناس، ويريد دعوتهم إلى الله إرادة حازمة عازمة هو الذي يعتبر قد ابتدأ أولى الخطوات في هذا السبيل، أما الذي لم تتكون عنده الدوافع للتأثير فلن يؤثر.(115/409)
والدافع هنا هو المحرك الأول للاهتمام بالآخرين، ولذلك فإن النبي _صلى الله عليه وسلم_ قد علمنا أن نربي الناس بإيقاظ الدوافع الطيبة فيهم بطرق مختلفة،فمن ذلك قوله _صلى الله عليه وسلم_ "لئن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم" أخرجه البخاري، فهو حديث واضح في إنشاء الدافعية لدى الشخصية الإسلامية نحو التأثير في الآخرين وتغييرهم إلى الهداية والصلاح، وكذلك قوله _صلى الله عليه وسلم_ "نضر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها وحدث بها" أخرجاه في الصحيحين، يدعو له بالنضرة والصلاح، فهذا أيضا واضح في بثه _صلى الله عليه وسلم_ الدوافع الإيمانية في الدعاة إلى الله أن يحدثوا بحديثه ويعلموا بعلمه، وكذلك قوله _صلى الله عليه وسلم_ "الدال على الخير كفاعله" رواه مسلم، فهو هنا يدفع الداعية إلى بيان السبيل القويم للناس ودلالتهم على العمل الصالح ويبث فيه الرغبة في العمل بأن له أجر كأجر فاعله، وكذلك قوله _صلى الله عليه وسلم_ "من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة.." أخرجه مسلم..
يحتاج المجتمع المسلم دائما إلى شخصيات متوازنة ذات قيمة فعلية تأخذ بيده وتؤثر فيه وتقوده نحو تحقيق ذاته وإثبات أثره الإيجابي المرجو
ثلاثة مداخل للتأثير في الشخصية:
هناك ثلاثة مداخل للتأثير في الناس: (الأمن والإنجاز والحب)، ثلاثة مداخل مهمة تستطيع من خلالها غزو شخصية الآخر للوصول إلى التأثير فيه وتوجيهه، فأما الأول فهو الأمن، وأقصد به أن يأمن الآخر أن السلوك الذي تدفعه إليه آمن غير ضار نافع غير مفسد، وليس المقصود هنا هو الأمن على المصالح الشخصية فحسب، بل يتعدى الأمر إلى أكبر من هذا إلى الأمن على المستقبل والمآل والمنتهى، كما يتعدى إلى أمن الحرام وأمن البعد عن اللعنة الإلهية والأمن من غضب الرب _سبحانه_، قال الله _تعالى_: "الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ" (الأنعام:82)، فالأمن هنا هو أمن المآل والرحمة والأمن من العذاب والسخط، وقد جعل _سبحانه_ بيته بيتاً آمناً "أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ" (العنكبوت: من الآية67)، بل إنه من أراد فيه بسوء عوقب ولو لم يبتدئ تنفيذ عزمه ونيته الفاسدة، قال _تعالى_: "وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ" (الحج: من الآية25).
ويشبه العلماء الأمن للإنسان كالتربة الصالحة وهو هنا تربة نفسية تفتح باب القبول للشخصية الداعية، وقد علمنا رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ ذلك كثيرا في أحاديثه فمنه قوله _صلى الله عليه وسلم_ "من قال: لا إيه إلا الله فقد عصم ماله ودمه إلا بحق الإسلام".
كذلك فالإنجاز مدخل مهم للنفوس فالداعية إلى الله سبحانه لابد وأن يشعر الآخرين بالإنجاز فإننا لو شبهنا الأمن بالتربة الصالحة فإن الإنجاز هو ذلك الماء الذي يروي هذه التربة ويبث فيها الرونق والانتعاش ويظهر فيها علامات الحياة، ولذلك كان رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ يربى الناس على إشعارهم بالإنجاز والتميز والتقدم فيقول لهم _صلى الله عليه وسلم_: "مَن قرأ حرفا من كتاب الله فله به آجر لا أقول الم حرف بل ألف حرف ولام حرف وميم حرف" فهو يعلمك أنك تنجر كثيراً(115/410)
جداً وتحصل كثيراً جداً بقراءتك أكثر مما تتصور، حتى الذين لم يحسنوا القراءة بعد، يقول لهم _صلى الله عليه وسلم_: "الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه وهو عليه شاق فله أجران" فهو يعلمك أنك منجز على كل حال ولن يمنعك تعلمك أن تحصل الثواب الكبير والعميم فأنت منجز على كل حال، ويقول _صلى الله عليه وسلم_ فيما أخرجه مسلم "عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله له خير وليس ذلك لأحد إلا المؤمن إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له وإن أصابته سراء صبر فكان خيرا له" فهو يعلمه أنه منجز على كل حال ومحصل للثواب على كل حال، وهذا الشعور يبث في المدعو الثقة ويدفعه نحو العمل ونحو التطبيق للتوجيه الذي تعلمه.
كذلك فإن الحب مدخل هام جدا من مداخل الشخصية: فأنت يا أيها الداعية إذا أردت التأثير في الناس فدعهم يحبونك أولاً، ثم بعد ذلك مرهم فيعملوا، فالحب يرقق القلوب ويقربها إلى الداعية قال الله _تعالى_: "وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ" (آل عمران: من الآية159)، فهو بيان رباني إذن للنبي _صلى الله عليه وسلم_ أن يجد الطريق إلى القلوب برقة ورحمة ومحبة وتسامح وعفو، قال الله _تعالى_: "لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ" (التوبة:128)، وانظر إلى الداعية المحبوب كيف يجد طريقه إلى التأثير في الناس وفي قلوبهم بمنتهى اليسر والبساطة وانظر إلى الآخر الذي يريد إجبار الناس على التأثر بكلماته وهو منفر غليظ عبوس متكلف معجب بنفسه وبعمله، مستقل عمل الآخرين وطاعاتهم.. لكم يخسر هذا.. لكم يخسر!!
قانونان للتأثير في الآخرين:
هناك قانونان للتأثير في الآخرين قد أثبتت التجارب والاستقصاءات صحتهما وهما: الأول (من الباطن إلى الظاهر)، والثاني هو: (من العالي إلى المنخفض)..
فأما القانون الأول: وهو يعنى أن عمليات التأثير والتأثر تخضع لوجود علاقة بين ما هو ظاهر في شعورك وما هو باطن داخلك وأن تقليد الباطن متقدم على تقليد الظاهر وبمعنى آخر، فإننا حينما نتأثر نبدأ بتقليد الأفكار والآراء والتشبع بها قبل تقليد السلوك ذاته، فالأمم التي تقلد الأمم الغربية في سلوكها مثلا وملابسها وطريقة حياتها لا تقلدها إلا بعد اتصالها بها بشيء من الأمور المعنوية والتأثر بها فكريا، ومن خلال التأثير في مبادئها واعتناق كثير من تصوراتها ، لذلك فأنك تجد أن الشباب المسلم الذي يقلد الغرب في أحواله الظاهرة هو شباب قليل العلم بعيد عن الجادة الإسلامية قد تأثر قلبه بمبادئ الغرب وقيمه، وعلى الجانب الآخر فإنك تجد أن الشباب المسلم المتميز والفخور بقيمه والبعيد عن تأثر الغرب غير لهوف في تقليده في مظاهر الحياة، ومن هنا كان على الدعاة بث معنى العزة والتميز للمسلم ولمبادئه وقيمه وثوابته فإنها إن ثبتت في القلب صار آمنا من السقوط في هوة التقليد الأعمى..
ونجد هنا أن النبي _صلى الله عليه وسلم_ قد أدرك هذه الحقيقة تمام الإدراك ووجه الدعاة إلى الله إليها بكل جلاء ووضوح، فهو يوجههم نحو طهارة الباطن قبل طهارة الظاهر ويوجههم إلى ابتغاء وجه الله تعالى من عملهم الدعوى وليس ابتغاء وجه(115/411)
الناس، حتى إذا تأثر الناس بهم تأثروا بطهارة باطنهم ونقاوة سريرتهم وشفافية شخصياتهم وسبحان الله فإن الداعية الذي اتصف بذلك لهو الداعية الذي تجتمع الناس حوله ويتأثرون بقوله وفعله، بل كان النبي _صلى الله عليه وسلم_ يحذرهم من الذين يعاملون الناس بوجه ظاهر حسن وقلوبهم خبيثة منكرة، فقال _صلى الله عليه وسلم_ فيما رواه مسلم: "إن من أهل النار من تندلق أقتاب بطنه يدور بها كما يدور الحمار برحاه فيجتمع إليه أهل النار فيقولون له: يا فلان ألم تكن تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟ فيقول: كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه وأنهاكم عن المنكر وآتيه"، فهذا لا أثر لفعله في الناس إذ إن فعله الظاهر قد خرج من باطن خبيث فكان مآله كباطنه ولم ينفعه ظاهره شيئاً.
وهنا سقطة قد يقع فيها الدعاة إلى الله فهو قد يجد قبولا عند الناس فيعبرون له عن محبتهم له بالهبات والخدمات والدعوات وقبول الداعية لمثل ذلك يحط من دعوته في أنظار الناس فيهون عليهم ويصبح الداعية مرغوبا عنه، والصادقون من الدعاة إلى الله يعطون ولا يأخذون وهم أصحاب الأيدي العالية والنفوس الكبيرة يقول الماوردي: "والمروءة هي حلية النفوس وزينة الهمم ولا تكون المروءة إلا بالعفة والنزاهة والصيانة والعفة البعد عن المحارم والمآثم والنزاهة البعد عن المطامع الذاتية والمواقف المريبة وأما الصيانة فتكون بصيانة النفس عن تحمل المنن والاسترسال في الاستعانة بالخلق" أدب الدنيا والدين.
وأما القانون الثاني: فهو أن التأثر إنما يكون من العالي إلى المنخفض وهو يشير إلى أن التأثر غالبا ما يكون من الشخص ذي القيمة والمقدار والعلم والخبرة، في الآخر الذي هو أقل، سواء كان ما يؤثر به معنويا أو ماديا، وينطبق هذا القانون على تقليد الصغير للكبير وتقليد الضعيف للقوى وتقليد الفقير للغني والتلميذ للأستاذ والتاجر الصغير للتاجر الكبير فمن هنا حرص الإسلام على عدة جوانب هامة في فن التأثير في الآخرين، فقد حرص على أن يتمتع الدعاة إلى الله بالعلم وأمر بالعلم حتى يؤثر الداعية في غيره فلابد أن يعلوه بالعلم الذي يعلمه إياه أما الداعية إن كان جاهلا فلم يستطيع التأثير في غيره، كما حرص الإسلام على تميز الداعية بالصبر والثبات إذ إن الناس يفتقدون الصبر والثبات في بداية طريقهم وصبر الداعية وثباته له أكبر الأثر في غيره ليقتدوا به، كذلك حرص الإسلام على تميز الداعية بالورع والقرب إلى الله سبحانه وجعله له ركنا ركينا يستند عليه، وقد يعلم الداعية بإيمانه ويقينه وورعه من فاقه علما وخبرة في بعض الأحيان قال الإمام أحمد رحمه الله: لقيني في طريقي إلى السجن أعرابي فأوقف الدابة، وقال: يا أحمد إن تعش، تعش حميداً، أو تمت، تمت شهيداً، قال الإمام أحمد: فقوي قلبي... والله الهادي إلى سواء السبيل
ـــــــــــــــــــ
أبناؤنا وأحلام اليقظة
د. ليلى بيومي
29/1/1427
ارسل تعليقك ...
لا توجد تعليقات ...(115/412)
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
مراهق يحلم بأن يطير فوق السحاب.. وفتاة تحلم بفارس يطير في الهواء يمتطي ظهر جواده يأخذها إلى عالم غير هذا العالم.. أحدهم يحلم بأن يكون مشهوراً يتسابق إليه الناس، وآخر يحلم بأن يكون عالم ذرة، وهذا يحلم بأن يكون رائد فضاء، وذاك يحلم بأن يكون شاعر كل الأقطار، ومن يحلم بأن يصبح ذا مال حيث يملك مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، ومن يحلم بأن يصبح حاكماً يأمر فيطاع, وهناك من يحلم بأن يكون صلاح الدين ويحرر المسجد الأقصى أو قائداً لأمة الإسلام يحرر قيدها ويخوض بجيوشها البحر.
وتكون أحلام اليقظة أكثر وضوحاً في مرحلة المراهقة، والخير في أحلام اليقظة فيتمثل في دفعها للشباب من الجنسين إلى بذل الجهد وتوجيه القدرات الإبداعية من أجل تحقيق تلك الأحلام والطموحات، كما أنها تعمل على تخفيف توترات الحياة اليومية ومشاكلها، ولكن إذا حدث استغراق في أحلام اليقظة فتتحول إلى مضيعة للوقت وتستحيل إلى عبث ووهم وتتسبب في عدم النشاط ، وأحيانا الانسحاب من عالم الواقع، وقد تنبئ عن اضطراب في الشخصية.
مراهق يحلم بأن يطير فوق السحاب.. وفتاة تحلم بفارس يطير في الهواء يمتطي ظهر جواده يأخذها إلى عالم غير هذا العالم
إن هناك خطوطاً فاصلة بين الحلم والطموح وبين الوهم والعبث.. وطريق تحقيق الحلم هو العمل والمثابرة والإيمان وليس الكسل والقعود والتواكل، ولكن لماذا يحلم المراهقون كثيراً، وما هي أعراض أحلام اليقظة، ومتى تتحول إلى مرض؟
أحلام اليقظة المثمرة
في البداية يؤكد د. عبد الغني عبود (الأستاذ بكلية التربية) أنه من الممكن لأحلام اليقظة أن تكون ذات فائدة إذا كانت واقعية أو إذا كانت استعداداً لمواقف حياتية واقعية مقبلة. فمن الممكن أن تكون خطة حول الأمل في التفوق والنجاح واكتساب الإعجاب من الناس، بشرط أن ينال هذا الحلم تخطيطاً وتفكيراً في سبيل النجاح الدراسي أو العملي، واتخاذ وسائل معينة أو ترتيب الأفكار أو الإجراءات بحيث يمكن للشخص الذي يحلم حلم اليقظة أن يتخذ هذه الخطوات أو هذه التدابير فعلاً في حياته عندما يقابله موقف الامتحان أو موقف العمل وغيره من مواقف الحياة الفعلية.
إذن حلم اليقظة ممكن أن يتضمن تفاصيل ومواقف يتخذها الشاب فعلاً في حياته بحيث تؤدي إلى نتائج ملموسة، أما حلم اليقظة الذي يفضي إلى الوهم والعبث فهو الحلم الذي يتضمن مواقف تبعد تماماً عن قدرات الشخص ومواهبه وإمكانياته، بحيث لا يمكن أبداً أن يحققها في حياته مهما بذل من جهد ومهما قام من أعمال. فحلم اليقظة المثمر هو أيضًا فوق الواقع أو هو يحلق في سماء الخيال والمثالية ولكنه ليس بعيداً إلى الدرجة التي تنقطع بها الإمكانيات والقدرات عن الواقع، وإنما يحلق في منطقة قريبة إلى حد معقول من هذه الإمكانيات بحيث يمكن أن يكون هدفًا يسعى إليه في حياته ويتخذ الوسائل لتحقيقه.(115/413)
لكن الأحلام الوهمية هي التي لا صلة لها على الإطلاق بالواقع أو بالإمكانيات والقدرات المتاحة أو التي يمكن تطويرها.
وهكذا يمكننا أن نفرق بين أحلام اليقظة والطموحات المثمرة أو الهادفة والتي ترقى بالمواهب، وتلك السيئة التي يحلق صاحبها في الخيال بعيدًا عن أي شيء يمكن للشخص أن يحققه مهما بذل من جهد أو مهما تحققت له إمكانيات كبيرة.
وتظهر أحلام اليقظة، بوضوح، عند الأطفال ذوي الإعاقة، فغالبا ما يحلم هؤلاء الأطفال بأنهم طبيعيون ومشهورون
مسؤولية الأسرة
من جانبها ترى د. ملك الطحاوي (أستاذة علم الاجتماع) أن الشاب أو الفتاة في وقت المراهقة يكون لديه فوران عاطفي وجموح، وإذا لم تكن هناك روابط أسرية ودفء وصداقة من قبل الأم أو الأب لأبنائهم في هذه المرحلة فإن الشاب يلجأ إما إلى صديق قد يكون صديق سوء وهذا أمر خطير، أو يلجأ لتفريغ الشحنة العاطفية المتأججة داخله في أحلام اليقظة. وأحسب أننا جميعًا مررنا بهذه المرحلة، ولكنها تتراوح في حجمها وطولها حسب قدرات الشخص ومقوماته النفسية والاجتماعية.
وأحلام اليقظة شيء عادي بحيث لا تتعدى حدوداً معينة؛ لأنها من الممكن أن تتحول إلى حالة مرضية وأوهام ليس لها قيود أو حدود. فقد يهديه تفكيره العاطفي مثلاً أنه عبقري ولا أحد يعرف مثله، وهو لا يكون كذلك وبالتالي لا يتقدم في طريق عمله أو دراسته.
أما أحلام اليقظة المنضبطة المرتبطة بالواقع فهي الأمل والطموح الذي تدفع الإنسان إلى النجاح، وفرق هائل بين الاثنين، وهنا تقع مسئولية الأم ودور الأسرة في تقويم وتوجيه الشاب في هذه المرحلة.
الدكتور حامد الموصلي (الأستاذ بكلية الهندسة) يقول: كلنا يحلم، والنجاح والتقدم على كافة المستويات الاجتماعية والعلمية والثقافية يبدأ بحلم وأمل، ولولا الآمال والأحلام العظيمة ما كانت هناك حضارة راسخة، والاختراعات تبنى أساسًا على تخيل لكنه محكوم بضوابط وأسس علمية، وأنا أدعو الشباب الذي يحلم ولديه القدرة على وضع أسس لخياله وحلمه أن يبدأ فورًا بتنفيذ الحلم على أرض الواقع. أما أوهام اليقظة، فهذه مسألة أخرى يجيد فيها علماء النفس والتربية ولكنها في النهاية مسؤولية الأسرة، التي تقوّم الجموح وتضع الأمور في نصابها.
أسباب الاستغراق في الحلم
يقول د. وائل فرج (أستاذ علم النفس): إن الأحلام أولى درجات النجاح، فالحلم يساعد على تكوين هدف يسعى الإنسان إلى تحقيقه، إلا أن الانغماس في الأحلام، والبعد عن تطبيق الوسائل والأهداف لتحقيقها، يعد من باب المشكلات النفسية، التي تواجه كثيراً من الأبناء، وتزداد بوضوح في مرحلة المراهقة.
فالإسلام في ذات الوقت يدعو إلى النشاط والعمل ولا يدعو إلى القغود والتخيل والتمني فإن التمني لا يفيد المؤمن شيئا
إن أحلام اليقظة هي انغماس الشخص في الأحلام، في وقت غير مناسب، على نحو يتضمن عدم القدرة على التركيز، فإذا زاد انغماس الشخص في أحلامه، إلى درجة(115/414)
إعاقته عن عمله، وواجباته، فإن هذا يشير إلى تفاقم المشكلة، فمثلاً لا يعد سلوكاً عادياً، أن يقضي طفل عمره ما بين 8 ـ 10 سنوات أكثر من 10 دقائق في الأحلام.
وهناك أسباب عدة لاستغراق الطفل في أحلام اليقظة، منها: شعور الطفل أن أحلام اليقظة تعد أكثر إشباعاً له من حياته الواقعية، خاصة عندما يشعر أن حياته شديدة الصعوبة، وغير قادرة على إشباع احتياجاته، بشكل كاف، مما يجعله يشعر أن أحلام اليقظة تعد مهرباً ممتعاً؛ لأن الأماني التي يجري تحقيقها من خلال الخيال تعطي شعوراً قوياً بالرضا، مقارنة بما يتحقق في الأنشطة اليومية المملة، فأحلام اليقظة تتيح للأطفال أن يروا أنفسهم أبطالاً ومشهورين ومحصنين، ضد النقد والمشاعر السلبية، خاصة لو أنهم يملكون القدرة على العمل بكفاءة، غير أن مواهبهم لا تحظى بثناء الآخرين وتقديرهم.
وتظهر أحلام اليقظة، بوضوح، عند الأطفال ذوي الإعاقة، فغالباً ما يحلم هؤلاء الأطفال بأنهم طبيعيون ومشهورون، خاصة إن هناك العديد من المعوقات التي لا تساعدهم على التكيف في محيطهم التعليمي العادي، وان كانت الإعاقة قد تكون سبباً في الاستغراق في أحلام اليقظة، فإن الإحباط هو أسهل الطرق لهذه المشكلة؛ لأن الرضا والشعور بالقوة التي يتعذر الحصول عليها في الواقع يجري البحث عنها في الخيال.
ولوقاية المراهقين والشباب من الاستغراق في أحلام اليقظة، يجب أن يشعروا بالكفاءة والأمان حتى يكون في مقدورهم التفاعل مع محيطهم بشكل فعال. فغرس الشعور بالكفاءة لدى الطفل أو المراهق أمر هام جداً للتغلب على هذه المشكلة، كما يجب أن يكون الآباء حريصين على إعطاء الاستقلالية المناسبة لأولادهم وتشجيعهم على إنجاز المهمات التي تحقق لهم الحصول على ثناء الآخرين والشعور الشخصي بالإنجاز.
فإسناد المهمات للأبناء بما يناسب أعمارهم، وبما يشعرهم بالتحدي، يساعد على إحساسهم بذواتهم وكفاءتهم وشعورهم بالرضا عن إنجازهم، خاصة إن الشعور بالرضا عادة ما يقترن بالقدرة على معالجة الأمور بكفاءة ويجنبهم كثيراً من الصعوبات، خاصة أحلام اليقظة.
الرغبات المكبوتة
د. سمير عبد الباقي يقول: إن بعض العلماء يعد الأحلام هبة؛ لأنها عملية تهريب للرغبات المحرمة، فالإنسان يريح بدنه المتعب بالنوم، وبه أيضاً يشبع رغباته المكبوتة أو ينفس عنها.
ويرى كذلك إلى أن الإنسان يستطيع أن يشبع رغباته المكبوتة أثناء اليقظة أحياناً عن طريق أحلام اليقظة. فقد يشتد ضغط الرغبة على أحد الناس بحيث لا يستطيع الصبر عليها. أنه يريد أن يشبعها حالاً. ولعله لا يحب أن ينتظر وقت النوم، أو هو لا يعتمد على أحلام النوم اعتماداً كبيراً، فيلجأ إلى أحلام اليقظة لينفس بها عن همومه الكامنة.
أحلام اليقظة وخرف الشيخوخة(115/415)
المفاجأة في هذا الموضوع أن دراسة علمية حديثة كشفت أن هناك رابطاً بين أحلام اليقظة ومرض الزهايمر أو خرف الشيخوخة الذي يقوم بمحو الذاكرة وقدرات النطق عند المصاب به.
وبينت الدراسة الجديدة التي نفذتها جامعة واشنطن أن الجزء من الدماغ الذي يقوم بعملية أحلام اليقظة، هو نفس الجزء الذي يتطوّر فيه مرض الزهايمر لاحقاً عند بعض الأفراد.
وتشير هذه الدراسة إلى أن نشاط الدماغ الطبيعي لحلم اليقظة يدعم الأحداث التسلسلية التي تؤدي لمرض الزهايمر.
وقال (رئيس البحث) البروفيسور راندي باكنر: الدلالات وإن كانت متضاربة، هي أن هذه الأنماط في النشاط لدى الشباب هي الموطئ الذي يتشكل فيه مرض الزهايمر، وربما تكون الوظيفة الإدراكية العادية للمخ هي التي تقود للإصابة بخرف الشيخوخة لاحقا، هذه العلاقة لم نضعها في الاعتبار أبداً، فهذا قد يؤدي إلى سلسلة منظمة من الأحداث تنتهي بمرض الزهايمر عند بعض الأشخاص.
وقام الباحثون بجامعة واشنطن وجامعة بيتسبورغ باستخدام خمس تقنيات تصوير لمسح أدمغة 764 شخصاً قسموا إلى ثلاث فئات بالنسبة للعمر، أشخاص في العشرين من العمر والأكبر الذين بدأ لديهم عارض الخرف والفئة الثالثة هي فئة المصابين فعليا بخرف الشيخوخة.
ووجد الباحثون عند مقارنة صور الأدمغة أن الأجزاء في الدماغ المتعلقة بالتأمل وأحلام اليقظة واسترجاع ذكريات جميلة لدى الشباب كانت براهين على ظهور مرض الزهايمر لاحقا.
وأوضح الباحثون أن الجزء في الدماغ المتعلق بأحلام اليقظة، هو دائم النشاط حتى لو كان الدماغ في حالة استرخاء، وقالوا إنه كالمحرك البطيء لا يتوقف إطلاقا وهذا النشاط قد يدعم سلسلة أحداث يمكن أن تؤدي للخرف.
الإسلام يهذب أحلام اليقظة ويوجهها
ويقدم الإسلام نموذجاً علاجياً متفرداً لأحلام اليقظة عند الكبار والصغار، ويعتمد هذا النموذج العلاجي التربوي على الأسس الآتية:
أولا: قصر الأمل وقطع الأمنيات الزائلة:
فالإسلام يستحب ألا يطول أمل الإنسان ووهمه وتعلقه بالدنيا كمتاع زائل ورغبة جامحة بل يرغب في قصر الأمل الذي هو الأمنية الواهمة التي تصور الزخرف الواسع والملك الكبير والحسان والأموال وما مثل ذلك يقول الله _تعالى_ على لسان الناصح " ياقوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع وإن الآخرة هي دار القرار ",. ويقول _سبحانه_: " واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيما تذروه الرياح ", ويقول _سبحانه_: " وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور ".. ويقول _صلى الله عليه وسلم_ فيما رواه البخاري عن أنس: " هذا الإنسان وهذا أمله وهذه الأعراض إذا أخطأه عرض لم يخطئه الأخر"
ثانياً: الدعوة إلى الإنجاز والعمل والبذل:(115/416)
فالإسلام في ذات الوقت يدعو إلى النشاط والعمل ولا يدعو إلى القعود والتخيل والتمني، فإن التمني لا يفيد المؤمن شيئاً, قال الله _تعالى_: " والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا " وقال _صلى الله عليه وسلم_: " إذا قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة فإن استطاع ألا تقوم قبل أن يغرسها فليغرسها "
ثالثاً: الدعوة إلى الطموح الإيجابي والتخلي عن الأماني السلبية:
فالإسلام يدعو إلى الطموح في العلم والإصلاح والتنمية والتقدم والعبادة رغبة في رفعة المآل يوم القيامة وإصلاح الأرض, يقول عمر بن عبد العزيز: " إن لي نفساً تواقة تاقت إلى العلم ثم تاقت إلى الإمامة ثم تاقت إلى الجنة " – ورغبته في الإمامة هنا هي رغبة إيجابية لتطبيق الإصلاح في الأمة, والله _سبحانه_ يعلمنا دعوة إبراهيم _عليه السلام_ " واجعلنا للمتقين إماماً ", ويقول _صلى الله عليه وسلم_:" أصدق الأسماء حارث وهمام "...
ـــــــــــــــــــ
التربية الدينية في المرحلة الجامعية
محمد سعد الشعيرة
12/1/1427
ارسل تعليقك ...
لا توجد تعليقات ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
حين يُنهي الطالب أو الطالبة تعليمه الثانوي في كثير من الدول العربية والإسلامية، يكون بذلك قد انتهت صلته الرسمية تماماً بمصدر مهم، من الناحية النظرية، لتعلم دينه، ما عدا من ينتسب إلى كليات العلوم الشرعية.
فهل الطالب والطالبة بعد المرحلة الثانوية لا يحتاج كل منهما في تعليمه الجامعي إلى تعلم دينه وقيم الإسلام وأخلاقه، ألا يحتاج إلى همزة وصل تربط بينه وبين تعلّم الإسلام، أليس هو أو هي في هذه المرحلة التي سيُقبل عليها في الجامعة أشد حاجة وأكثر افتقاراً لأنوار الهداية مما قبلها من مراحل التعليم؟!
بالنظر إلى تلك المرحلة الجامعية التي تتخلى فيها جهات التعليم الرسمية عن تعليم الشبان والشابات رسمياً دينهم، ومقارنتها بما قبلها من مراحل التعليم، والتي ترتبط في الوقت نفسه بمراحل النمو، نجد أنها أخطر مرحلة عمرية يحتاج فيها المسلم إلى الارتباط بدينه، ومعرفة عقيدته، وتعلم الأخلاق الإسلامية، إذ هي المرحلة التي تكتمل فيها إدراكاته وتتبلور تجاه العالم الخارجي، وتنضج فيها غرائزه وشهواته، وتبرز فيها مشاعره وإحساساته، والمرحلة الجامعية هي أول مرحلة يحتك فيها الشاب أو الشابة بالمجتمع بصورة حقيقية وقوية، حيث يتولى القيام وحده بجزء كبير من مصالحه الشخصية، وهي المرحلة التي تكون لعلاقاته وصداقاته فيها أثر كبير على حياته ومستقبله، وإذا كان حال الشبان والشابات في هذه المرحلة هكذا، وكان دور الأسرة في الوقت نفسه يأخذ في الانزواء وضعف التأثير، من حيث الواقع،(115/417)
لظهور مؤثرات جديدة وقوية في حياة الشاب أو الشابة؛ فكيف يتركه المجتمع دون توجيه أو تربية؟! هل يعقل أن تكون المرحلة الخطيرة التي يصل إليها الشاب أو الشابة في هذه السن هي المرحلة التي تتخلى فيها دولته ومجتمعه عنه؟
إن إهمال التعليم الديني في المدارس والجامعات له آثار سلبية خطرة، من التخلف الحضاري، وضياع الهوية، وضعف القوة، وانحلال المجتمع، ووقوعه عرضة للتيارات الفاسدة
بل نستطيع أن نقول أن الشباب في جامعاتنا يتعرض لهجمة منظمة لتعديل الفكر ليكون شبيها بالفكر الغربي في طريقة تناوله وتعامله مع الكون والحياة, ويدعوهم إلى طريقة مادية في التفكير لا يكون للدين فيها أي أثر, ففي الكليات النظرية تدرس نظريات فرويد ودوركايم وأوجست كونت وجان جاك روسو وغيرهم وكثير من الدراسات حول نظرياتهم بطريقة غير مقيدة ولا موجهة بما يناسب انتماء هؤلاء الشباب لعقيدة مميزة هي عقيدة الإسلام, وفي الكليات النظرية يغلب المنهج التجريبي على التدريس للطالب بحيث ينسى الطالب التوجيه المعنوي إلى حد كبير ويصبح تفكيره جامدا نحو النظريات المعملية وما شابهها..
هذا بالإضافة إلى كثير من القصور الذي يلازم الكثير من مؤسسات التعليم الجامعي والمعاهد في عالمنا العربي وكثير من البلاد الإسلامية، من حيث المنهج التعليمي، والنظم الإدارية، إذ تعد العديد من هذه المؤسسات في بلادنا متخلفة حسب المعايير العالمية بصورة كبيرة أو بالقياس إلى مؤسسات التعليم في الدول المتقدمة؛ فهناك انحرافات ومشكلات وأزمات تواجه طلاب وطالبات الجامعات في تلك المرحلة يرجع السبب الرئيس فيها إلى فقدان التربية الدينية. (انتشرت أزمة الزواج العرفي مثلا في الجامعات انتشارا لازال يستعصي على الدولة حله).
والمؤسف حقاً أنه حين تنبه الناس لمنهج الدين في المدارس تنبهوا له مشيرين نحوه بأصابع الاتهام، بعد رميه بتهمة التطرف، فأقبلوا تحت شعار التطوير لكي يزيدوا من جفافه، ويبتعدوا به عن أداء دوره في تنشئة الأجيال، ولم يكفهم أن المناهج القديمة لا تكفي ولا تؤثر، بل راحوا يزيدون تلك المناهج تشويهاً وبتراً، ليخرجوا لمجتمعاتهم المسلمة بمناهج عرجاء، حتى صارت صلة كثير من المسلمين بتعاليم دينه وقيمه وأخلاقه ضعيفة، فظنوا أنهم هكذا قد جففوا منابع التطرف وحموا المجتمع من شره، مع أن تجفيف مناهج التربية الدينية يؤدي إلى الجهل بالدين، والجهل بالدين من أسباب التطرف والغلو.
وليست التربية الدينية بأقل أهمية ولا هي أدنى شأناً من تعليم اللغات الغربية مثلاً، والتي تكاد تكون عاملاً مشتركاً في جميع مراحل التعليم الآن في أغلب المجتمعات الإسلامية، من مرحلة الحضانة حتى آخر مراحل التعليم الرسمية وغيرها، كما أن التربية الدينية قد لا تكون بحاجة إلى المساحة الكبيرة التي تخصص للغات الغربية في مناهج التعليم، فإذا كان واضعو المناهج التعليمية قد وجدوا المكان فيما يضعون من مناهج لتعليم اللغة على اختلاف تخصصات التعليم الجامعي، فلا أحسب أن تخصيص مكان للتربية الدينية العامة سيسبب مشكلة، بل على العكس، وضع التربية(115/418)
الدينية في التعليم الجامعي سيحل مشكلات خطيرة وكثيرة، فضلاً عن كونه واجب من واجبات الدولة نحو أبنائها في هذه المرحلة الخطيرة.
قد تتضح خطورة الإهمال الكبير في تقرير التربية الدينية في المرحلة الجامعية بصورة أكبر؛ إذا علمنا أن المراحل التعليمية السابقة، على الرغم من وجود التربية الدينية فيها بصورة أو أخرى، تكاد التربية الدينية فيها أن تكون بلا تأثير ولا أثر، فكم من الشبان والشابات بعد مرحلة التعليم الثانوي يعرف أركان الإسلام، وكم منهم من يلتزم بالصلاة ويفقه أحكامها، وكم منهم من يعرف أركان عقيدته، وكم منهم من تربى على القيم الإسلامية الأصيلة والهدي النبوي القويم!
إن الشبان والشابات الذين ما يزالون في تلك المراحل، أو الذين تخرجوا منها ليذهبوا إلى مرحلة التعليم الجامعي، يعانون أمية دينية شديدة، وجهالة بالإسلام كبيرة، والكلام هنا لا يدور عن أحكام وتعاليم لا يفهمها إلا المتخصصون، بل عن أوليات الإسلام وأساسياته، التربية الدينية في المراحل قبل الجامعية لا تسد حاجة الأطفال والمراهقين الدينية الإسلامية، ولا تفي بتنشئة المسلم والمسلمة النشأة الصحيحة السليمة.
هذا بالإضافة إلى ما يحيط بتدريس التربية الدينية في مراحل ما قبل المرحلة الجامعية من قصور وسلبيات، وما تتعرض له مناهج الدين والثقافة الإسلامية والتاريخ الإسلامي في المدارس من تشويه وبتر تحت الضغط الأجنبي الخارجي، فمن حيث المنهج، فهو منهج مخفف يقدم ثقافة إسلامية تركز على مفهومات معينة، وفي كثير من الأحيان تكون خاضعة لتوجهات سياسية خاصة، كما لا يوجد اهتمام به غالباً مثل باقي المواد، فحصة الدين غالباً ما تكون في آخر اليوم الدراسي، كما أنها تكون مرة واحدة في الأسبوع كله. ومن حيث التدريس فهذه المادة لا يقوم على تدريسها متخصصون، كما هو حال بعض البلاد العربية، بل يقوم بتدريسها مدرسو اللغة العربية، ولذلك تعتمد قيمتها ونتائج تدريسها على مدى ثقافة المدرس أو المدرسة، والتي غالباً ما تكون ضحلة لا تفي بحاجة الطالب من الاستفهامات والاستفسارات والأسئلة؛ لأن المدرس أو المدرسة قد مر بمراحل التعليم نفسها التي لا يوجد اهتمام فيها بتعليم الدين بصورة صحيحة جيدة.
فكيف يمكن أن يتعلم الأولاد دينهم من حصة واحدة أو حصتين في الأسبوع، قد يأخذها مدرس الرياضيات أو اللغة العربية ليكمل ما لديه من نقص في منهجه، أو يجلس فيها المدرس ليستريح من عناء اليوم الدراسي، ولا سيما أن حصص الدين تكون في آخر الحصص، متى يتعلم التلميذ تلاوة القرآن الكريم، وأين يتعلم أحكام الإسلام الأساسية التي تتعلق بأركان العقيدة وأركان الإسلام؟ لا يمكن أن يعوض دور المدرسة وسيلة أخرى، لأن حياة الطالب في هذا السن تكون مرتبطة أشد الارتباط بالمدارس، وبما يتم وضعه من مناهج تعليمية لها، كما أن الأطفال في هذه السن لا ترقى عقولهم إلى المستوى الذي يتيح لهم فهم كثير من الخطب والدروس في المساجد أو وسائل الإعلام، لو قلنا أنها تفي بأن يتعلموا منها دينهم.
إن إهمال التعليم الديني في المدارس والجامعات له آثار سلبية خطرة، من التخلف الحضاري، وضياع الهوية، وضعف القوة، وانحلال المجتمع، ووقوعه عرضة(115/419)
للتيارات الفاسدة، فهو يؤدي إلى خروج أجيال بعيدة الصلة عن دينها، لا انتماء لها ولا هوية، جاهزة لتشرب الأفكار الباطلة والمذاهب الضالة والأخلاق المنحرفة، وهذه بعض الأسباب التي أرى أنها تؤكد وتبين مدى ضرورة التربية الدينية وأهميتها في المرحلة الجامعية:
1- فالتربية الدينية في المرحلة الجامعية من أساسيات تكوين شخصية المسلم والمسلمة، وإعداد المواطن الصالح والمواطنة الصالحة، وهذا في حد ذاته سبب كاف لإضافة التربية الإسلامية إلى مناهج التعليم الجامعي.
2- كما أن للتربية الدينية الدور الأول والأساسي في الحد من انحرافات الشبان والشابات الشخصية في هذه المرحلة، كترك الصلاة، وتعاطي المخدرات، والاختلاط، والمعاكسات، وغيرها.
3- كما أن العلوم الطبيعية في حاجة ماسة للأساس الأخلاقي المبني على العقيدة الصحيحة، فضياع الأساس الأخلاقي المهني مثلاً يؤدي إلى انتشار الجرائم والانحرافات المهنية، مثل الغش والاستغلال، وعدد من الجرائم التي تنتشر في المجتمع، إنما تصدر من متعلمين ذوي تخصصات علمية، كالطب والهندسة والمحاماة على سبيل المثال لا التخصيص، مثل جرائم الإجهاض والغش والتزوير.
4- والتربية الدينية حماية للشبان والشابات في هذه المرحلة من الأخلاق المنحرفة، والتي تجتاح العالم الإسلامي، وتغزو المسلمين في عقر دارهم بسبب التقدم الكبير في وسائل الاتصال ووسائل الإعلام.
5- كما أن الشباب في هذه المرحلة يبدأ في إدراك قضايا الأمة الإسلامية، ويتفاعل مع القضايا العامة التي تمر بها، ولا بد في هذه المرحلة من توجيهه في التعامل مع هذه القضايا، وتعليمه الأسس التي يبني عليها مواقفه الصحيحة.
ليس المقصود بالدعوة هنا لتقرير منهج للتربية الدينية في المرحلة الجامعية؛ أن تكون تلك المناهج منبتة الصلة بالواقع، بعيدة عن مشكلات الشبان والشابات وحاجاتهم، بل من المهم أن يتصف منهج التربية الدينية بالحيوية، ويستعمل في تدريسه الوسائل الحديثة المناسبة، التي تيسر فهمه، ولا بد أن يشرف عليه متخصصون يراعون المرحلة التعليمية ومتطلباتها والحاجات العمرية للطلاب، ولا بد أن يفسح المجال لكي يكون الدين مرتبطاً بمناهج التعليم في المواد الأخرى، حتى لا نقطع الصلة بين الإسلام والحياة، فليس المطلوب بتقرير التربية الدينية في المرحلة الجامعية أن تقدم تعاليم الدين وتتم التربية الدينية في هذه المرحلة الجامعية بالأساليب المعتادة، كما هو الحال في المناهج النظرية التي تعرض الدين بصورة غير جذابة ولا تناسب المخاطبين بها من الشباب، بل من المهم أن تكون قريبة من اهتمامات الشبان والشابات، سهلة الأسلوب، في صورة عملية تتعلق بأهم القضايا التي يحتاج إليها كل شاب وشابة في تكوين شخصيتهما الإسلامية، ويجدا في هذه المادة الإرشادات والتوجيهات التي تعينهما على السير في هذه المرحلة من العمر بنجاح.
إن بناء المجتمع القوي يبدأ من تعليم الدين، والتربية الدينية الإسلامية حين ترتبط بالتعليم في جميع مراحله؛ هي أول الأسباب المهمة التي تغرس أسباب الصلاح(115/420)
والقوة في نفوس الشباب، وتعصم المجتمع من كثير من الأمراض والمشكلات، حيث يكفل المنهج الإسلامي، حين يُقدم بصورة متكاملة وافية، بأن يخرج للأمة أجيال المستقبل، الأجيال القوية التي تصنع التقدم وتبني المجد.
وإذا كان تطوير المناهج التعليمية هدفاً صادقاً، فلا بد أن يكون هو التطوير الذي يعيد إليها ما فُقد منها، وهو التربية الدينية، لكي يكون التطوير خطوة حقيقية في تشييد بناء قوي للمجتمع المسلم.
ـــــــــــــــــــ
المقومات الشخصية للداعية (1/2)
جماز الجماز
17/12/1426
ارسل تعليقك ...
لا توجد تعليقات ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فإن الداعية أمام جمهور الناس، لا بدّ له وأن يكون على هيئة حسنة في كلامه وتصرفاته، حتى يكون داعية ناجحاً، ولما كان كذلك فإنه واجب - ولا محالة – بيان ذلك للناس.
فهو وقت قد تكالبت فيه قوى الشر جميعها بشتى ألوانها وأشكالها على الحركة الإسلامية، يتنافسون فيما بينهم للقضاء عليها. إن الواجب علينا أن نبين الصفات الأصيلة للدعاة من كتاب الله وسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وسير علماء السلف -رضوان الله عليهم-.
وسوف نتناول بعض الصفات المهمة والخطوط الرئيسة فقط؛ لأن صفات الداعية هي الإسلام كله.
ذكر بعض الآيات الواردة في ذلك والتعليق عليها:
قال -تعالى-: "فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ" (آل عمران: من الآية159)، قال سيد قطب: فالناس في حاجة إلى كنف رحيم، وإلى رعاية فائقة، وإلى بشاشة سمحة، وإلى ود يسعهم، وحلم لا يضيق بجهلهم وضعفهم ونقصهم، في حاجة إلى قلب كبير يعطيهم، ولا يحتاج منهم إلى عطاء، ويحمل همومهم، ولا يعنيهم بهمّه، ويجدون عنده دائماً الاهتمام والرعاية والعطف والسماحة والمودة والرضاء. ا.هـ. [الظلال 1/494].
إن الداعية أمام جمهور الناس، لا بدّ له وأن يكون على هيئة حسنة في كلامه وتصرفاته، حتى يكون داعية ناجحاً، ولما كان كذلك فإنه واجب - ولا محالة – بيان ذلك للناس(115/421)
وقال -تعالى-: "خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ" (الأعراف:199)، قال سيد قطب: خذ العفو الميسّر الممكن من أخلاق الناس في المعاشرة والصحبة، ولا تطلب إليهم الكمال، ولا تكلّفهم الشاق من الأخلاق، واعف عن أخطائهم وضعفهم ونقصهم، وبذلك تمضي الحياة سهلة لينة.
فالإغضاء عن الضعف البشري، والعطف عليه، والسماحة معه، واجب الكبار الأقوياء تجاه الصغار والضعفاء. ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- راعٍ وهادٍ ومعلم ومربٍّ، فهو أولى الناس بالسماحة واليسر والإغضاء، وكل أصحاب الدعوة مأمورون بما أمر به رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فالتعامل مع النفوس البشرية لهدايتها يقتضي سعة صدر، وسماحة طبع، ويسراً وتيسيراً في غير تهاون ولا تفريط في دين الله، وأمر بالعرف: هو الخير المعروف الواضح السليم الذي تقبله الفطر السليمة والنفوس المستقيمة، والنفس حين تعتاد هذا المعروف، فإنها تكون بعد ذلك مطواعاً لألوان من الخير دون تكليف، فرياضة النفوس أولاً تقتضي أخذها بالميسور المعروف شيئاً فشيئاً إلى حد التمام.
وأعرض عن الجاهلين: من الجهالة ضد الرشد، والجهالة ضد العلم، وهما قريب من قريب.
والإعراض يكون بالترك والإهمال، وعدم الدخول معهم في جدال لا ينتهي إلى شيء إلا الشد والجذب، وإضاعة الوقت والجهد، بل إن الإعراض والسكوت عنهم كما هو صريح الآية قد يؤدي إلى تذليل نفوسهم وترويضها، بدلاً من الفحش في الرد، واللجاج في العناد، فإن لم يؤدِّ إلى هذا فإنه يعزلهم عن الآخرين الذين في قلوبهم خير، وما أجدر صاحب الدعوة أن يتبع هذا التوجيه الرباني العليم بدخائل النفوس.
ولكن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بشر، وقد يثور غضبه على جهالة الجهال، وسفاهة السفهاء، وحمق الحمقى ولنعلم جميعاً أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا قدر عليها، فقد يعجز عنها من وراءه من أصحاب الدعوة، وعند الغضب ينزغ الشيطان في النفس، وهي ثائرة هائجة مفقودة الزمام؛ لذا يأمره ربه أن يستعيذ بالله. ا.هـ. [الظلال 3/1419].
وقال -تعالى-: "ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ" (النحل: من الآية125)، لنعلم أن الدعوة، دعوة إلى سبيل الله، لا لشخص الداعي ولا لقومه، فليس له إلا تأدية واجب لله، لا فضل له يتحدث به، لا على الدعوة ولا على من يهتدون به، وأجره بعد ذلك على الله.
الدعوة بالحكمة: إن النظر في أحوال المخاطبين وظروفهم وفي القدر الذي بينه لهم في كل مرة حتى لا يُثقل عليهم وفي الطريقة التي يخاطبهم بها والتنويع في هذه الطريقة تكون حسب مقتضياتها، فلا تستبد به الحماسة والاندفاع والغيرة فيتجاوز الحكمة في هذا كله وفي سواه.
الموعظة الحسنة: بعدم فضح الأخطاء التي قد تقع عن جهل أو حسن نية، والإتيان بخير من الزجر والتأنيب والتوبيخ، فإن الرفق في الموعظة كثيراً ما يهدي القلوب الشاردة، ويؤلف القلوب النافرة.
الجدل بالتي هي أحسن: أن يكون بلا تحامل ولا ترذيل له ولا تقبيح، وفائدته:(115/422)
أ – اطمئنان المدعو وشعوره بأن هدف الداعي هو الوصول إلى الحق، ليس الغلبة وهزيمة الآخرين.
ب – أنه يطامن من الكبرياء الحساسة والعناد والجدل وشعوره بأن ذاته مصونة، وقيمته كريمة، ولما كانت النفس البشرية تعد تنازلها عن الرأي تنازلاً عن هيبتها واحترامها وكيانها؛ حفظ الله لها ذلك فأمر جدالها بالحسنى.
إنه خوف من اندفاع الداعية بحماسه، أرشدنا إلى الفصل في مسألة مهمة، وهي:
الداعية إذا لم يجد تجاوباً من المدعو، كيف يكون العمل؟
الله هو الأعلم بمن ضل عن سبيله وهو الأعلم بالمهتدين، فلا ضرورة للحاجة في الجدل، إنما هو البيان والبلاغ والأمر بعد ذلك كله لله. [الظلال بتصرف 4/2201-2202].
والله -جل جلاله- قد أبان ذلك في كتابه، فقال: "... وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ" (المائدة: من الآية41)، وقال: "أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ" (فاطر:8)، وقال: "اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ" (المائدة:98، 99).
ذكر بعض الأحاديث الواردة في ذلك والتعليق عليها:
أخلاق الداعية:
عن أنس قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ثلاث مهلكات وثلاث منجيات:
ثلاث مهلكات: شح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المر بنفسه.
وثلاث منجيات: خشية الله في السر والعلانية، والقصد في الفقر والغنى، والعدل في الغضب والرضا" حديث حسن، أخرجه البزار والبيهقي والطبراني وغيرهم. [الترغيب 1/286، 3/381]، [الصحيحة 4/412] (1802).
إن الأخلاق المشار إليها هي النبائل كلها، والفضائل جمعاء، هي البعد عن كل سوء، والقرب من كل خير.
ومن الأخلاق السيئة التي ينبغي تجنبها: إعجاب المرء بنفسه! ويزيد ذلك سوءاً إذا وافقه جهل من البعض، فيتّبعون هذا المُعجَب بنفسه -عياذاً بالله-، علماً أنّ مثل الاتباع وحده عند كثير من العلماء الربانيين، مكروه مُستقبَح، فلقد رأى عاصم بن ضمرة قوماً يتبعون رجلاً، فقال: "إنها فتنة للمتبوع؟ مَذلّة للتابع" [أخرجه أحمد في العلل 2/16].
فكيف بمُعجَب بنفسه، يطعن بغيره، ليكثِّر أتباعه! فمثل هذا يجمع سوءاً على سوء على سوء!!
فأخلاق الداعية الفاضلة تدفعه دفعاً حثيثاً لأن يحافظ على:
سياج الدعوة:
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا يَفْرُك مؤمن مؤمنة، إن كره منها خلقاً رضي منها آخر" [حديث صحيح، أخرجه مسلم 1469].(115/423)
إن هذا الأدب الذي أرشد إليه -صلى الله عليه وسلم- ينبغي سلوكه واستعماله مع جميع المعاشَرين والمعامَلين فإن نفعه الديني والدنيوي كثير، وصاحبه قد سعى في راحة قلبه، والكمال في الناس متعذّر، وحسب الفاضل أن تُعد معايبُه. إن من لم يسترشد بهذا الذي ذكره النبي -صلى الله عليه وسلم- بل عكس القضية، فلحظ المساوئ، وعمي عن المحاسن، فلا بد أن يقلق ويتكدّر ما بينه وبين من يتصل به من المحبة، ويتقطّع كثير من الحقوق التي على كلٍّ منهما المحافظة عليها ثم لا ننسى أن هذا الحديث أصل في معاملة الزوجة وكل من بينك وبينه عَلَقة واتصال وأنه لا بد من الإغضاء عن المساوئ وملاحظة المحاسن وبهذا تدوم الصحبة والاتصال وتتم الراحة. إن معرفة الداعية لسياج الدعوة يجعله بالمحل الأعلى من: [الوسائل المفيدة للسعدي ص25].
تقدير الأمور:
عن عائشة قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يا عائشة! لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية، لأمرتُ بالبيت فهُدِم، فأدخلتُ فيه ما أخرج منه، وألزمته بالأرض، وجعلت له بابين: باباً شرقياً، وباباً غربياً، فبلغتُ به أساس إبراهيم" [أخرجه البخاري 3/439 (1586)، ومسلم 9/91].
فبتقدير الأمور يوضع كل شيء في نصابه، وتتجلى حكمة الداعية في أعلى صورها، فلا يُضخِّم صغيراً، ولا يصغِّر عظيماً، ويتأمل السياسة الشرعية في سائر أفعاله.
فنحن لا نسكت عن الحق وتبليغ السنة، وفي الوقت نفسه، نبلِّغها بكل حكمة وبكل أسلوب حسن، فإذا رأينا أن هناك أشياء عكسية حصلت أو ستحصل، اكتفينا بالذكرى "فإن الذكرى تنفع المؤمنين".
وهذا هو أسلوب النبي -صلى الله عليه وسلم- في:
طريقة التربية.
عن عائشة قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يا عائشة! إن الله رفيق يحب الرفق، ويُعطي على الرفق ما لا يُعطي على العنف، وما لا يعطي على ما سواه" [أخرجه مسلم 16/146].
فالمنهج إذاً: الدعوة برفق ويسر ولين، والبُعد عن العنف والشدة والقسوة، فبهذا يستجيب لنا الناس والمدعوّون في الدنيا، ونحظى برضا الله وعفوه في الآخرة.
ومن الأمور الكلية التي ينبغي معرفتها:
الفرق بين النظرية والتطبيق:
عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "رأيت ليلة أُسري بي رجالاً تُقرض شفاههم بمقاريض من نار، فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ فقال: الخطباء من أمتك، يأمرون الناس بالبرّ وينسون أنفسهم وهم يتلون الكتاب أفلا يعقلون؟" [حديث حسن أخرجه ابن حبان وأبو يعلى وأحمد وغيرهم وصحّحه الألباني (الصحيحة 1/524 برقم 291)].
وهذه قضية من أهم ما يواجهها الدعاة إلى الله -سبحانه-، فترى الداعية أو الخطيب يتحدّث عن الزهد وهو عنه بمعزل، أو يتكلم عن الغيبة وهو لها صاحب ورفيق، أو يذكّر بالآخرة وهو آخر من يُفكّر فيها أو يُعدّ لها!! إنهم خطباء قوالون، ومن كان(115/424)
كذلك فالخوف عليه كبير، والبُعد عنه مغنم وفير، إلا لنصح أو تذكير! [الأربعون حديثاً في الدعوة والدعاة، لعلي حسن علي عبد الحميد، 50-61].
عوامل في تكوين شخصية الداعية:
1 – أن يتصوّر الشاب الأخطار المحدقة التي تكتنف بلاد الإسلام:
إن من الأمور التي يجب أن تدركوها أيها الشباب أن المخططات التي تُتخَذ في أوكار الصهيونية والماسونية والصليبية والشيوعية والاستعمار أكثر من أن تُحصى، وكلها تستهدف إفساد المجتمعات الإسلامية عن طريق الخمر والجنس وإطلاق عنان الغرائز والشهوات، إن المرأة عند هؤلاء هي أول الأهداف في هذا الميدان الماكر، فهي العنصر الضعيف العاطفي التي تنساق وراء الدعاية والفتنة والإغراء بلا رويّة ولا تفكر.
ومما قاله القس زويمر في مؤتمر المبشرين الذي عُقِد منذ أكثر من 60 سنة في جبل الزيتون في القدس: (إنكم أعددتم نشئاً في ديار المسلمين لا يعرف الصلة بالله، ولا يريد أن يعرفها، وأخرجتم المسلم من الإسلام ولم تدخلوه في المسيحية، وبالتالي جاء النشء الإسلامي طبقاً ما أراد له الاستعمار، لا يهتم بالعظائم، ويحب الراحة والكسل، ولا يصرف همه في دنياه إلا في الشهوات، فإذا تعلّم فللشهوات، وإذا جمع المال فللشهوات، وإن تبوأ أسمى المراكز ففي سبيل الشهوات...).
وجاء في بروتوكولات أشقياء صهيون ما يلي (يجب أن نعمل لتنهار الأخلاق في كل مكان، فتسهل سيطرتنا، إن فرويد منا، وسيظل يعرض العلاقات الجنسية في ضوء الشمس لكي لا يبقى في نظر الشباب شيء مقدّس، ويصبح همّه الأكبر هو إرواء غريزته الجنسية، وعندئذ تنهار أخلاقه).
بل وصل الأمر باليهود أيها الشباب أن رسموا لإفساد الإنسانية منهجاً أخذوا في تنفيذه عن طريق وسائل الإعلام ودور النشر وغيرها، واستطاعوا بمكرهم وخبثهم أن يفسدوا الشعوب عن طريق الثقافات العامة والفنون والملاهي ودور الدعارة وأشباهها، كما أنهم استطاعوا بدهائهم وتلاعبهم أن يستولوا على كراسي علم النفس وعلم الاجتماع في كثير من جامعات أمريكا وأوروبا وذلك بغرض إفساد عقائد الناس وأخلاقهم؛ فاستولوا على ما يقرب من 90% من هذه الكراسي، لتتم لهم القيادة الفكرية والفلسفية في العالم كله، ويجب ألا يغيب عن البال أنّ من أعظم هذه المخططات التي تسيّرها الماسونية واليهودية والاستعمار في بلاد الإسلام في العصر الحديث إقامة دولة إسرائيل في قلب البلاد العربية التي هي مهد الإسلام وقلبه النابض.
إن أحلام اليهود وآمالهم ومؤامرتهم الكبرى تمتد من الفرات إلى النيل بل الاستيلاء على المدينة المنورة والمسجد الحرام كما صرّح بذلك موشى ديان.
أيها الشباب: أقولها كلمة صريحة مدوية: لا استقرار في بلاد الإسلام، وإسرائيل موجودة قائمة... لا سلام ولا أمن في البلاد العربية، وإسرائيل تفرض وجودها، وتنفّذ يوماً بعد يوم مخططها!!
إنها السرطان الذي ينمو شيئاً فشيئاً في جسم الأمة الإسلامية.. إنها الأفعى التي تنفث سمومها في أجواء العالم الإسلامي، ولا يمكن للسرطان أن يبرأ إلا بالاستئصال، ولا(115/425)
يمكن للأفعى أن يُمنَع أذاها إلا باقتلاع شوكة السُّم المتأصلة فيها، إنه لا بد للشباب من معرفة الغزو من الداخل عن طريق العملاء، وعبيد الفكر الغربي، والأحزاب الموالية من ليبرالية، ويسارية.. وعن طريق الفِرَق المنشقة على الإسلام كالبهائية والقاديانية، والنصيرية، والإسماعيلية، والدرزية، وغيرها من الفرق الباطنية الكافرة.
إن الشباب حين يعلمون أبعاد هذه المؤامرات؛ ويدركون وسائل هذه المخططات... يكون اندفاعهم للإصلاح أقوى، ويكون تحركهم للدعوة إلى الله أعظم.
2 – أن يتفاءل الشاب بالنصر؛ ويقطع من إحساسه دابر اليأس والقنوط:
أيها الشباب: صحيح أن الدول الغربية عامة، وأمريكا خاصة هي التي صنعت إسرائيل.
وصحيح أن الاستعمار له وسائله وأساليبه في إخراج المسلم من الإسلام، وإدخاله في تيار اللادينية والإباحية.
وصحيح أن الشيوعية العالمية لها مخططها الأكبر في تلحيد الجيل المسلم وإفساد خلقه وعيدته.
وصحيح أن اليهودية العالمية لها مخططاتها وأساليبها في القضاء على الأديان غير اليهودية، والسيطرة على العالم العربي والإسلامي، وصحيح أن الدول الكبيرة في العالم سواء أكانت شرقية أو غربية تعمل جاهدة لتقوية إسرائيل، وتحرص على وجودها لغايات سياسية، وأهداف اقتصادية، ومصالح ذاتية، صحيح أن التآمر على الإسلام وأهله بلغ هذا الحد الكبير والمدى الواسع...
ولكن ينبغي على المسلمين ولا سيما الشباب ألا يتملكهم القنوط في بناء العزة، وأن لا يستحوذ عليهم اليأس في تحقيق النصر، وذلك:
أ – لأن القرآن الكريم حرّم اليأس، وندّد باليائسين، قال -تعالى-: "وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ" (يوسف: من الآية87) فجعله قريناً للكفر، وقال: "قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ" (الحجر:56) فجعله قريناً للضلال، إن اليأس قاتل للرجال، وهازم للأبطال، ومدمر للشعوب.
إن اليأس لا يجوز في دين الله، قال أحمد شوقي:
فعلم ما استطعت لعل جيلاً ... ...
سيأتي يحدث العجب العجابَ
ولا ترهق شباب الحي يأساً ... ...
فإن اليأس يخترم الشبابَ
أيها الشباب: احذروا من وجهات النظر اليائسة التي تقول "انتهى كل شيء وعجزنا"، "الزم حلس بيتك فليس في الجهاد فائدة"، "نحن اليوم في آخر الزمان".
إن هذه الطائفة اليائسة عندما تتبنى هذه الوجهة من اليأس والقنوط، إنما تُدلِّل على هلاكها لا على هلاك المسلمين. قال -صلى الله عليه وسلم-: "من قال هلك المسلمون فهو أهلكهم" [حديث صحيح، أخرجه مسلم 16/175]. والعجيب أن تجد من يتصدى للدعوة والإرشاد من ينادي بالعزلة الكاملة، والتزام أحلاس البيوت؛ اعتقاداً منهم أن لا سبيل إلى إصلاح هذه الأمة، وأن لا أمل إلى استعادة مجدها، واسترجاع عزتها(115/426)
وكيانها... وآن الأوان في نظرهم أن يخرج المسلم ببضع غنيمات يتّبع بها شعف الجبال... يفر بدينه من الفتن حتى يدركه الموت!!
صحيح أيها الشباب أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "يوشك أن يكون خير مال الرجل غنم يتتبع بها شعف الجبال، ومواقع القطر، يفر بدينه من الفتن" [حديث صحيح أخرجه البخاري 1/69] وغيره.
ولكن الحديث محمول على من يُفتَن في دينه، ويُجبَر على الردّة!!
أما ما دام أنه توجد جماعات إسلامية تدعو إلى إقامة حكم الله في الأرض، فإنه يجب على المسلمين التعاون لإقامة حكم الله في ربوع الإسلام، وأن يحرّروا الأرض المقدسة من براثن يهود، وأن يسعوا في تكوين وحدة المسلمين الكبرى تحت ظل الخلافة الراشدة.
ب – لأن التاريخ برهن على انتفاضات الأمم المنكوبة في وجه أعدائها:
من كان يظن يا شباب أن تقوم للإسلام قائمة في الأيام الأولى التي انتقل فيها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى الرفيق الأعلى، ففي هذه الأيام عظم الخطب، واشتد الحال، ونجم النفاق، وارتد من ارتد من أحياء القرب، وظهر مدّعوا النبوة، وامتنع قوم عن أداء الزكاة، ولم يبق للجمعة مقام في بلد سوى مكة والمدينة.
وأصبح المسلمون كما يقول عروة بن الزبير رضي الله عنه: "كالغنم في الليلة المطيرة الشاتية لفقد نبيهم، وقلة عددهم وكثرة عدوهم" حتى وُجد من المسلمين من قال لأبي بكر -رضي الله عنه-: "يا خليفة رسول الله: اغلق بابك، والزم بيتك، واعبد ربك حتى يأتيك اليقين"!!
ولكنّ أبا بكر -رضي الله عنه- لم يعتره اليأس، ولم يمتلكه القنوط.. وإنما واجه هذه الأحداث والفتن بإيمان راسخ يزن الجبال، وبعزيمة ثابتة متينة دونها العواصف الهوج، وبتفاؤل وأمل يعيد للإسلام إشراقه، ولوحدة المسلمين تماسكها!! هو الذي قال: "أينقص الدين وأنا حي" وهو الذي وقف في وجه عمر، وصاح حين جاءه يعاتبه في قتال مانعي الزكاة "مَه يا عمر، رجوت نصرتك، وجئتني بخذلانك!! أجبار في الجاهلية، وخوار في الإسلام، ماذا عسيتُ أن أتألفهم بسحر مفتعل أو بشعر يفترى؟ هيهات، هيهات... مضى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وانقطع الوحي، فوالله لأجاهدنهم ما استمسك السيف في يدي، فوالله لأقاتلن من فرّق بين الصلاة والزكاة، فوالله لو منعوني عقال بعير كانوا يؤدونه إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لقاتلتهم عليه"!! وهو الذي أنفذ جيش أسامة وقال: "ما كنت أحل عقداً عقده رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بيده". هكذا أيها الشباب تغلّب أبو بكر -رضي الله عنه-على الصعاب؛ وقضى على الثورات والفتن، وانتصر على المرتدين ومدّعي النبوة، ومانعي الزكاة، حتى استطاع أن يرجع للمسلمين عزتهم ووحدتهم، ولليائسين تفاؤلهم وأملهم، وللخلافة هيبتها وسلطانها...
وهكذا يصنع أقوياء الإيمان، وعظماء الرجال!!
من كان يظن أيها الشباب أن تقوم للمسلمين قائمة لما استولى الصليبيون على كثير من البلاد الإسلامية، والمسجد الأقصى ما يقارب مائة عام، حتى ظن الكثير من(115/427)
الناس أن لا أمل في انتصار المسلمين على الصليبيين، وأن لا رجاء في رد أرض فلسطين مع مسجدها الأقصى إلى حوزة المسلمين.
من كان يظن أن هذه البلاد ستتحرر في يوم ما، على يد البطل المغوار (صلاح الدين) في معركة حطين الحاسمة، ويصبح للمسلمين من الكيان والقوة والعزة والسيادة ما شرّف التاريخ!!
من كان يظن أن تقوم للمسلمين قائمة لما خرّب المغول والتتار العالم الإسلامي من أقصاه إلى أقصاه، ونهبوا الأموال، وداسوا القيم، وفتكوا في الأنفس والأعراض فتكاً ذريعاً؛ حتى قيل: إن جبالاً شامخة، وأهرامات عالية، أقامها (هولاكو) من جماجم المسلمين!!
ومما قاله المؤرخ (ابن الأثير الجزري) في فداحة هذا المصاب: "لقد بقيت عدة سنين معرضاً عن ذكر الحادثة استعظاماً لها، كارهاً لذكرها؛ فمن الذي يسهل عليه أن يكتب نعي الإسلام والمسلمين؟ ومن الذي يهون عليه ذكر ذلك؟ فيا ليت أمي لم تلدني!! ويا ليتني مت قبل هذا وكنت نسياً منسياً!!".
من كان يظن – أيها الإخوة – أن بلاد الإسلام ستتحرّر في يوم ما على يد البطل المقدام (قطز) في معركة (عين جالوت) الحاسمة، ويصبح للمسلمين من العظمة والمجد والرفعة.. ما تفخر به الأجيال!!
وهكذا يصنع أقوياء الإيمان، وعظماء الرجال!!
إن التفاؤل بالنصر – أيها الشباب – هو الذي يهيئ النصر، ويحقق المزيد من الانتصارات الحاسمة في كل زمان ومكان.. وإن الله _جل جلاله_ مع المتقين المخلصين المجاهدين، الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر والحافظين لحدود الله "وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ" (القصص:5)، فما عليكم يا شباب الإسلام إلا أن تقطعوا من نفوسكم دابر اليأس والقنوط، وتقبلوا على الدعوة إلى الله والجهاد في سبيل الله، بروح متفائلة، وأمل بسّام... عسى الله أن يحقق على أيديكم نصر الإسلام الأكبر، ودولة المسلمين العتيدة.. وما ذلك على الله بعزيز..
3 – أن يعلم الشاب فضل الدعوة والداعية:
أتعرفون يا شباب فضل الدعوة والداعية عند الله؟
أتعرفون المنزلة الكبرى التي خصّ الله بها دعاة الإسلام؟
أتعرفون ماذا أعد الله للدعاة من مثوبة وأجر وكرامة؟
يكفي الدعاة منزلةً ورفعةً أنهم خير هذه الأمة على الإطلاق "كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ..." (آل عمران: من الآية110).
يكفي الدعاة سمواً وفلاحاً أنهم المفلحون والسعداء في الدنيا والآخرة "وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ" (آل عمران:104).(115/428)
ومن معالم الأسلوب الأقوم في التأثير، دراسة البيئة التي يتم فيها تبليغ الدعوة، فعلى الداعية أن يعرف مراكز الضلال ومواطن الانحراف، وأسلوب العمل الذي يتفق مع عقلية الناس واستعداداتهم ومستوى تفكيرهم، ومبلغ استجابتهم وتقبلهم
يكفي الدعاة شرفاً وكرامة أن قولهم في مضمار الدعوة أحسن الأقوال، وأن كلامهم في التبليغ أفضل الكلام "وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ" (فصلت:33).
يكفي الدعاة منّاً وفضلاً أن الله _سبحانه_ يشملهم برحمته الغامرة، ويخصهم بنعمته الفائقة "وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ" (التوبة:71).
يكفي الدعاة أجراً ومثوبة أنّ أجرهم مستمر، ومثوبتهم دائمة، قال _صلى الله عليه وسلم_: "من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً..." [حديث صحيح، أخرجه مسلم].
يكفي الدعاة فخراً وخيرية.. أن تسبّبهم في الهداية خير مما طلعت عليه الشمس وغربت، قال _صلى الله عليه وسلم_: "... فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم" [حديث صحيح، أخرجه البخاري 7/70 برقم 3701]، وفي حديث آخر "خير لك مما طلعت عليه الشمس وغربت" [حديث ضعيف، أخرجه الطبراني في الكبير (ضعيف الجامع 4646)].
هل رأيتم يا شباب منزلة تضاهي منزلة الدعوة؟
هل سمعتم في تاريخ الإنسانية كرامة تعادل كرامة الداعية؟
فإذا كان الأمر كذلك فانطلقوا أيها الشباب في مضمار الدعوة إلى الله مخلصين صادقين.. لتحظوا بالأجر والمثوبة، والرفعة والكرامة.. في مقعد صدق عند مليك مقتدر.. في مجمع من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحَسُن أولئك رفيقاً!!
4 – أن يعرف الشاب الأسلوب الأقوم في التأثير على الآخرين:
إن من معالم الأسلوب الأقوم في التأثير أيها الشباب أن يكون فعل الداعية مطابقاً لقوله "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ" (الصف:2، 3)، وفي الآية تنديد بالذين يدعون غيرهم إلى الخير وينسون أنفسهم "أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ" (البقرة:44).
ومن معالم الأسلوب الأقوم في التأثير، دراسة البيئة التي يتم فيها تبليغ الدعوة، فعلى الداعية أن يعرف مراكز الضلال ومواطن الانحراف، وأسلوب العمل الذي يتفق مع عقلية الناس واستعداداتهم ومستوى تفكيرهم، ومبلغ استجابتهم وتقبلهم.
فبلد انتشرت فيه الشيوعية أو الوجودية أو الماسونية، وأصبحت عند أهله انحرافات فكرية وعقدية وخلقية، مثل هذا البلد تختلف الكتب التي ينبغي أن تُنشر فيه، ونوعية المحاضرات التي تُحاضَر فيه، وموضوع الأسئلة والمناقشات التي تُطرَح فيه، تختلف كلياً عن بلد فيه نصارى، وفيه أفكار رأسمالية، وفيه نزعة إلى الحرية والديمقراطية، قال _صلى الله عليه وسلم_: "ما أنت بمحدث قوماً حديثاً لا تبلغه(115/429)
عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة" [حديث ضعيف، أخرجه ابن عساكر عن ابن عباس، ضعيف الجامع 23].
ومن معالم الأسلوب الأقوم في التأثير البدء بالأهم فالمهم: البدء في الدعوة بعقيدة التوحيد قبل العبادة، وبالعبادة قبل مناهج الحياة، وبالكليات قبل الجزئيات، وبالتكوين الفردي قبل الخوض في غمار السياسة.
وهذه هي طريقة النبي _صلى الله عليه وسلم_، وطريقة أصحابه الكرام _رضوان الله عليهم_ في الدعوة كما في حديث معاذ المشهور، كل هذا حتى يستطيع أن يؤثر على الآخرين، وينتشلهم من وهدة الضلال إلى رياض الهداية.
ومن معالم الأسلوب الأقوم في التأثير، الملاطفة الخالصة في دعوة الآخرين إلى الإسلام.
وما أجمل ما عبر عنه القرآن في أسلوب الدعوة وأخلاق الداعية حين قال: "وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ" (آل عمران: من الآية159)، وقوله: "فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى" (طه:44)، ويحضرني الآن – أيها الشباب – قصة الرجل الواعظ الذي دخل على أبي جعفر المنصور، وقد أغلظ عليه في الكلام، فقال له أبو جعفر: يا هذا ارفق بي، أرسل الله _سبحانه_ من هو خير منك إلى من هو شر مني، أرسل الله موسى إلى فرعون فقال له: "فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى"، فخجل الرجل على ما بدر منه، وعرف أنه لم يكن أفضل من موسى _عليه السلام_، وأن أبا جعفر لم يكن أشد شراً من فرعون!!
وقد جاء غلام شاب إلى النبي _صلى الله عليه وسلم_ فقال له: يا نبي الله أتأذن لي في الزنى؟ فصاح الناس به، فقال النبي _صلى الله عليه وسلم_: "قربوه، اُدن، فدنا حتى جلس بين يديه، فقال _عليه السلام_: أتحبه لأمك؟ قال: لا، جعلني الله فداك، قال: كذلك الناس لا يحبونه لأمهاتهم، أتحبه لابنتك؟ قال: لا، جعلني الله فداك، قال: فكذلك الناس لا يحبونه لبناتهم، أتحبه لأختك؟ قال: لا، جعلني الله فداك، قال: فكذلك الناس لا يحبونه لأخواتهم" حتى ذكر العمة والخالة، ثم وضع رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ يده على صدره وقال: "اللهم طهّر قلبه، واغفر ذنبه، وحصِّن فرجه" فلم يكن شيء أبغض عليه من الزنا!! [حديث صحيح، أخرجه أحمد 5/256-257، الصحيحة 1/645 برقم 370].
أيها الشباب: إن مطابقة أفعالكم لأقوالكم؛ الناس يستجيبون لكم ويثقون بكم..
أيها الشباب: إن دراستكم للبيئة التي تدعون؛ تجعل جهودكم مباركة ولا تذهب أدراج الرياح..
أيها الشباب: إن بدئكم الدعوة إلى الله بالأهم فالمهم.. يحقق الله الهدى والخير على أيديكم..
أيها الشباب: إن ملاطفتكم للناس حين تبلّغون رسالات ربكم، القلوب ترنوا إليكم، والنفوس تتعلق بكم، والناس يقبلون على دعوتكم، فاحرصوا يا شباب أن تكونوا الدعاة الموفقين، والهداة الناجحين، والجنود العاملين المخلصين، فالله لا يخيّب مسعاكم، ولن يتركم أعمالكم، إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم...
5 – أن يعمق الشاب في نفسه عقيدة القضاء والقدر:(115/430)
إنه ينبغي أن يترسخ في نفس المسلم، ولا سيما الداعية إلى الله...
إن معنى ذلك أن تعتقد أن الآجال بيد الله، وأن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه، وأن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوه بشيء لم ينفعوه إلا بشيء قد كتبه الله له، وإن اجتمعت على أن يضروه بشيء لم يضره إلا بشيء قد كتبه الله عليه، وعليه أن يضع نصب عينيه قوله _تعالى_: "قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ" (التوبة:51)، وأن يردد صباح مساء قوله جل جلاله: "وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَاباً مُؤَجَّلاً..." (آل عمران: من الآية145)، وبهذا يتحرّر الداعية من الخوف والجزع، ويتحلى بالشجاعة والإقدام، ويهتف بما هتف به علي _رضي الله عنه_حين كان يجابه الأعداء، ويقارع الكفار في غمرات الحروب والوغى:
أيُّ يوميّ من الموت أفرّ ... ...
يوم لا يُقدر أم يوم قُدِر
يوم لا يُقدر لا أرهبه ... ...
ومن المقدور لا ينجو الحَذِر
إن معنى ذلك أن يؤمن الداعية من أعماق نفسه أن الأرزاق بيد الله، وأن ما بسطه الله على العبد من رزق لم يكن لأحد أن يمنعه، وأن ما أمسكه عليه لم يكن لأحد أن يعطيه... وعليه أن يضع نصب عينية قول الحق _سبحانه_: "إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً" (الإسراء:30)، وأن يردد صباح مساء قوله _جل جلاله_: "وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ" (الذاريات:22، 23).
وبهذا يتحرّر الداعية من الذل والبخل، والشح بالنفس.. ويتحلى بالعزة والإيثار والإنفاق في سبيل الله... ويهتف بما هتف به الإمام الشافعي حين كان يتغنى بعزة النفس، وطلب المعالي، والاقتناع بكفاف العيش:
أنا إن عشتُ لست أعدم قوتاً ... ...
وإذا مت لست أعدم قبرا
همتي همة الملوك ونفسي ... ...
نفسُ حرٍّ ترى المذلة كفرا
وإذا ما قنعت بالقوت عمري ... ...
فلماذا أخاف زيداً وعمروا
إن معنى ذلك أن يرضى الداعية بما كتبه الله عليه من ابتلاءات الخوف والجوع والمرض ونقص في الأموال والأنفس والثمرات، وأن كل ما يصيبه إنما يجري بقضاء الله وقدره، وبمشيئته وإرادته... وأنه لا كاشف لكرب إلا هو، ولا واهب للنعمة إلا من اتصف بالغنى والقدرة _سبحانه_.. وعليه أن يضع نصب عينيه قول الحق _سبحانه_: "وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ" (البقرة:155، 156)، وأن يردّد صباح مساء قوله _جل جلاله_: "وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" (الأنعام:17).(115/431)
وبهذا يتحرّر الداعية من نزعة الهواجس النفسية والأفكار المخيفة والتحسّب للابتلاء...
ويتحلى برباطة الجأش، والاستسلام لقضاء الله وقدره في كل ما ينوب ويروع، ويبيت وهو مطمئن النفس، مرتاح البال، هادئ الشعور... ويهتف بما هتف به الطغرائي في لاميته حين قال:
حب السلامة يُثني هم صاحبه ... ...
عن المعالي ويغري المرء بالكسل
فإن جنحت إليه فاتخذ نفقاً ... ...
في الأرض أو سلماً في الجو فاعتزل
إن الذين يعتذرون عن واجب الدعوة، وتبليغ رسالة الإسلام بكلمات مقنعة يرضون بها أنفسهم وضمائرهم، ويعتذرون بالضعف والأهل والعيال وقطع الرزق.. ويعتذرون بما يتحسّبون به من أذى في تبليغ الدعوة وإعلان كلمة الحق... نقول لهؤلاء جميعاً:
إن الإسلام بنى حقيقة التوحيد على الإيمان بالله، والرضا بقضائه وقدره، والتسليم لجنابه فيما ينوب ويروع... أمّا أن يخاف الناس على رزقهم ومعاشهم، ويحسبون ألف حساب للأذى والاضطهاد.. فهذا شأن الرعديد الجبان الذي لم يذق في قلبه طعم الإيمان، والذي لم يفهم بعدُ أن الله _سبحانه_ هو المُغني والمُفقر، والمعطي والمانع، والمُعز والمذل، والقاضي والمقدِّر، وهو على كل شيء قدير.
وإليكم يا من تحسبون لقطع الرزق حساباً، قصة هذه المرأة المؤمنة الصابرة التي تربّت في مدرسة الإيمان، ورتعت في روضة اليقين، ونشأت على حب الله والرسول والإسلام...
إليكم موقفها الرائع، وجوابها المفحم، وذلك حين خرج زوجها للجهاد، وجاءها من يستثير حزنها وأساها ويهيّج عاطفتها وإحساسها... جاءها من يقول لها: أيتها الأم المسكينة، من يقوم على عيالك، ويرعى أولادك، إذا قدّر الله على زوجك الموت، وكتب له الشهادة؟
فما كان منها إلا أن صرختْ في وجهه، وقالت له في ثقة وإيمان واطمئنان: إني أعرف زوجي أكّالاً ولم أعرفه رزّاقاً، فإذا مات الأكّال بقي الرزاق.
وإليكم يا من تتهيّبون الموت، وتخشون المعارك، وتحرصون على الحياة... إليكم ما قاله سيف الله خالد بن الوليد _رضي الله عنه_: "إني حضرت مئة حرب أو زهاءها وما في بدني موضع شبر إلا وفيه ضربة سيف، أو طعنة رمح، أو رمية سهم... أهكذا أموت على فراشي كما يموت العَيْر (الحمار)؟ فلا نامت أعين الجبناء!!..".
وتعلمون يا شباب، أن من سنن الله في الأنبياء والمصلحين، والدعاة إلى الله.. التعرض لأصناف الابتلاء في تبليغهم، والتصدي لمكائد الأعداء في دعوتهم.. وهذا أمر طبعي حين يقف الحق والباطل وجهاً لوجه، وإليكم ما يقوله الحق _جل جلاله_: "الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ" (العنكبوت:1-3)، وقوله: "فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ(115/432)
هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ..." (آل عمران: من الآية195).
وإليكم ما يقوله سيد الدعاة، وقائد المجاهدين _صلوات الله وسلامه عليه_ لما اشتد إيذاء قريش على ضعفاء المؤمنين، وقد جاؤوا إلى النبي _صلى الله عليه وسلم_ – وهو متوسد بردة في ظل الكعبة – يقولون: ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو لنا؟ فقال لهم النبي _صلى الله عليه وسلم_: "قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض، فيجعل فيها، فيؤتى بالمنشار فيوضع على رأسه، فيجعل نصفين، ويُمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه، فما يصرفه ذلك عن دينه، والله ليتمّن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون" [حديث صحيح، أخرجه البخاري 12/315 (6943)].
فما عليكم يا شباب الدعوة إلا أن توطنوا أنفسكم على الصبر، وأن توطدوها على التحمل والثبات، وأن تعمّقوا في نفوسكم عقيدة القضاء والقدر... حتى تَصِلوا في نهاية المطاف إلى نهاية النصر المؤزر، وتحظوا برضوان الله وجنته، وتلقوا الله _عز وجل_ في مجمع من الملائكة والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً... [انظر هذا وما قبله في دور الشباب في حمل رسالة الإسلام لعبد الله علوان، ط دار السلام – بيروت].
6 – أن يؤصّل الشاب بينه وبين الجماعة العاملين التحاب والتواثق والتعاون:
وذلك بالتناصح والتواصي بينهم بالحق والصبر، إنه لا غنى عن هذه العوامل لنظام أي جماعة في الأرض..
إنه لو تخلّق كل فرد بأعلى ما يكون من الصفات الجميلة والأخلاق المحمودة وليس بينه وبين غيره من العاملين تلكم الصفات المذكورة، فإنهم لا يستطيعون أبداً أن يقوموا في وجه الباطل ويقارعوا أهله مقارعة الند للند، إن الأمة الإسلامية ما زال ولا يزال منها أفراد متحلون بأعلى الصفات والأخلاق الحسنة؛ إننا لو تحدينا أمم العالم أن تأتي إحداها بمثل هذا؛ فلعلها لا تستطيع الرد على هذا التحدّي.
وإنها لقضية قاصرة إلى حدّ الصلاح الفردي... إنها تلكم التربية الإيمانية...
إن بهلواناً، مهما كان شجاعاً قوياً في حد ذاته، ويستطيع أن يحمل أكبر كمية من الوزن ويصرع عدة أفراد في المصارعة، فإنه لا يستطيع على جل حال أن يقوم في وجه فرقة عسكرية منظمة...
وهكذا فإن كان فينا أفراد قد قطعوا كل ما للصلاح الفردي من المراحل، ولكن بدون أن يكون لهم نصيب من الارتباط والتعاون الاجتماعي، فإنما هم بمثابة البهلوان الذي لا يعمل كعضو فعال لفرقة منظمة ومع ذلك يدعو لمصارعته فرقة منظمة من أعدائه...
إننا نستطيع أن نقول وذلك باعتبار الصلاح الفردي، إن من الشباب من قد خصهم الله بعلوٍ في الأخلاق، وطهارة في السيرة، وإنا لنغبطهم على ذلك، راجين من الله أن يثبتنا وإياهم على طريق الخير والهدى إنه من الظاهر أن كل فرد في هذه الدنيا إنما يعيش متعاملاً مع غيره من الأفراد، فإذا لم يكن بين الأفراد حسن التظان والمساواة والإخلاص والإيثار والتضحية من بعضهم لبعض.(115/433)
أو نقول بعبارة أوجز وأشمل "صلاح القلوب" فإن الاختلاف في طبائعهم لا بد أن يقضي على ما يبت.... من التعاون بينهم، إذا لا يسير نظام العمل إلا على مبدأ: أن تترك شيئاً لخاطر غيرك، ويترك هذا الغير شيئاً لخاطرك.. أيها الشباب: إذا كنتم لا تجدون أنفسكم مستعدين لها فلا تتفكروا أبداً في إحداث انقلاب في الحياة الاجتماعية في الأسر المسلمة... [انظر هذا في تذكرة دعاة الإسلام لأبي الأعلى المودودي 48-51، المكتب الإسلامي – دمشق].
إنه وبعد ذلك كله من المقدمة في كيفية تكوين شخصية الداعية إلى الله وتربيتها وتذكيرها بهذه المعاني السامية تكون عزيزة كريمة، بل وداعية عظيمة، فتكمل بذلك ذاتيتها وشخصيتها؛ فكان من المناسب لها أن تتصف بالصفات اللازمة لها حتى تكون نفس مؤمنة مسلمة حتى حوت الإسلام كله بتلكم الصفات الحق
ـــــــــــــــــــ
كيف تكون داعية إلى الله في موسم الحج؟!
موقع المسلم
29/11/1426
ارسل تعليقك ...
لا توجد تعليقات ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
خلال الأيام الروحانية التي يعيشها المسلمون في موسم الحج، وبعيداً عن المصالح الشخصية الصرفة والأطماع المادية، تتوحد أنفاس الملايين من المسلمين في بقعة صغيرة من العالم، اختارها الله -عز وجل- لتكون مكاناً تهوي إليه أفئدة الناس، وتطوف عند بيت الله الحرام.
وفي هذه الأيام التي حددها الله -سبحانه وتعالى- من كل عام هجري، تصطف قلوب العباد للواحد الديان، تطلب منه الغفران والرحمة والرزق والجنة والعتق من النار، وتقبل على الطاعات والعبادات تستزيد منها... فتستأنس القلوب بالسكينة، وتغشاها الطمأنينة, فتكون أقرب ما تكون إلى السمع والطاعة، والانصياع للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وفي هذه الأيام، يأمل الكثير من الناس أن يكونوا دعاة إلى الله، يهدون الضال، ويعلمون الجاهل، ويأخذون بيد المسيء، ويزيدون من علم المؤمن، ويكثرون حسنات العابد، ويلينون قلب القاسية قلوبهم.
وللدعوة إلى الله في هذه الأيام أشكال وأنواع، تختلف حسب الحاجة إليها، وتتميز بخصوصية الموسم الذي تنتشر فيه.
وفي هذه الأيام، يأمل الكثير من الناس أن يكونوا دعاة إلى الله، يهدون الضال، ويعلمون الجاهل، ويأخذون بيد المسيء، ويزيدون من علم المؤمن، ويكثرون حسنات العابد، ويلينون قلب القاسية قلوبهم
خصائص موسم الحج:(115/434)
لأيام الحج خصائص معينة تتميز فيها عن غيرها من الأيام الأخرى، ومنها ينطلق الداعية إلى الله في عمله، بحيث يغتنم ما توفره هذه الأيام من بركات، ومن هذه الخصائص أنها:
1- أيام يجتمع فيها مئات الآلاف من الناس من مختلف الدول الإسلامية والعالمية، ويكثف وجودهم في رقعة صغيرة في الأرض.
2- أن المسلمين في الحج يأتون طلباً للأجر والمثوبة من الله، وبالتالي فهم مقبلين على الطاعات، ومنفتحين على الدعوة ومتقبلين للنصح الديني.
3- في هذه الأيام تتنوع الأعمال الصالحة من ذكر وتلاوة قرآن وسعي وطواف وهدي ورجم وصلاة، وغيرها. فيكون المسلمون متفرغين للعبادة، ومنقطعين عن مصالح الدنيا.
4- يكثر البذل من قبل أهل الخير والصلاح في تقديم كل ما يحتاجه العمل الدعوي والخدمي والمعرفي للحجاج, ما يكسب العمل الخيري دفعاً ومساندة.
5- تزول في بيت الله العتيق، الفروقات الدنيوية بين الناس، فلا تميّز بين غني وفقير، ولا بين رئيس ومرؤوس. فيتوحدون في العمل والأمل، والملبس والمسكن.
وهذه من الأمور التي يجب أن يضعها الدعاة في حسبانهم خلال عملهم في هذا الموسم المبارك، فيضعون الخطط الدعوية وفقاً لهذه الخصائص، ويبنون عليها مشاريعهم الخاصة والعامة.
دعوة النبي صلى الله عليه وسلم للناس في الحج:
خلال السنوات التي مكثها النبي -عليه الصلاة والسلام- في مكة المكرمة قبل انتقاله للمدينة المنورة، كان يعكف على دعوة الناس إلى الإسلام، ويحثهم على الدخول تحت ظل الدعوة، والتمسك بحبل الله. وكان لا يفتر ولا يمل من الدعوة، خلال موسم الحج، الذي تتوافد فيه القبائل العربية إلى مكة المكرمة قبل دخولها إلى الإسلام.
ورغم الأذى الذي كان يلحقه -صلى الله عليه وسلم- من بعض كفار مكة خلال موسم الحج، إلا أنه كان يسعى حثيثاً في نشر الدعوة الإسلامية بين الناس، ويتحمل استهزاء البعض، وأذى البعض الآخر، في سبيل توصيل ولو آية من آيات الله -عز وجل-.
وكان من هديه -صلى الله عليه وسلم-، أنه كان يصلي أمام الناس في مكة، وهم يستغربون فعله، وكان يذكر الله -تعالى-، ويرفع صوته في تلاوة القرآن الكريم على مسامع الناس، من أجل تبليغ الرسالة. كما في قصة الطفيل بن عمرو الدوسي.
وبعد أن فتح الله له قلوب وبيوت الناس، ودخل الإسلام إلى شبه الجزيرة العربية، ودانت قبائل العرب بالإسلام، انتهز -عليه الصلاة والسلام-، اجتماع الناس في الحج بمكة المكرمة، في حجة الوداع المشهورة، فأبلغهم وأوصاهم، وأمرهم ونهاهم.
وكانت خطبة الوداع، من أروع ما سطره -صلى الله عليه وسلم-، من العمل بالدعوة في موسم الحج، عندما صعد على مكان مرتفع، وخطب في الناس، وقال فيما قال -صلى الله عليه وسلم-: " أيها الناس إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا، أيها الناس، إن ربكم واحد وإن أباكم واحد، كلكم لآدم وآدم من تراب، كل عمل الجاهلية موضوع تحت قدمي هاتين".(115/435)
ومن بعده، انتهج الخلفاء الراشدون والسلف الصالح مبدأ الدعوة إلى الله خلال موسم الحج، مغتنمين اجتماع الناس، وتفرغهم للعبادة، وانقطاعهم عن مصالح الدنيا، فكان عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يقضي بالحق بين الناس المتخاصمين في مواسم الحج، ويطلب من أمرائه في الأمصار أن يشاركوه الحج، فيستمع منهم، وينصحهم ويعظهم.
وكان الخليفة هارون الرشيد إذا حج، صحبه الفقهاء والمحدثون، لعقد جلسات للعامة والخاصة، وتفقيه الناس بأمور دينهم، ودعوة الناس إلى المعروف ونهيهم عن المنكر.
أنواع الدعوة إلى الله في الحج:
تختلف أنواع الدعوة إلى الله في الحج، باختلاف الأسلوب، وإن توحدت في الهدف والمقصد.
فمن أنواع الدعوة، الدعوة الفردية الشخصية، والدعوة المنظمة التابعة لجهات معينة أهلية، والدعوة العامة التي تنظمها الجهات الحكومية.
ورغم أهمية الدعوات الحكومية والمنظمة، إلا أن الدعوة الفردية يبقى لها أثر كبير وفعال بين الناس لأسباب عديدة، منها:
1- أنها تبتكر أساليب وأنماط متعددة، حسب فكر كل شخص، ولا تتأطر في حدود معينة يمليها التخطيط المسبق للدعوة.
2- أنها تأتي من أناس متفاعلون بشكل مباشر مع الحجاج، ويتعاملون معهم بشكل مباشر، دون أن تكون هناك حواجز يمليها التنظيم للبرامج الدعوية.
3- أنها تنبع من أناس ينتمون للوسط الذين يدعون إلى الله فيه، وبالتالي فهم مشتركون معهم في العمل والعبادة والحركة والمسير والركوب في الباصات، وغيرها.
4- إمكانية الدعوة إلى الله في مختلف الأوجه والأشكال، بسبب وجود الداعية مع الحجاج في أعمالهم كلها، وبالتالي يمكنهم تقديم النصح والإرشاد وتذكيرهم بالله في جميع الشعائر التي ينفذونها في الحج.
5- أن الحجاج قد يتقبلون الدعوة والنصح من أناس معهم أكثر من البرامج الأخرى، بسبب سهولة الاستماع لهم، وعدم الحاجة إلى الذهاب إلى حيث تنظم المحاضرات والندوات وغيرها.
بالإضافة إلى العديد من الأسباب التي تتناسب مع كل حالة من حالات الدعوة إلى الله.
كيف أدعو إلى الله في الحج:
يتمنى الكثير من الناس أن يكونوا دعاة إلى الله خلال موسم الحج، من أجل كسب الأجر والمثوبة، وزيادة العمل الصالح لهم، ونفع المسلمين القادمين من مشارق الأرض ومغربها فيما ينفعهم ويصلح أعمالهم، ونشر التعاليم الصحيحة للدين الإسلامي، وإبعاد الناس عن كل ما قد يشوب الحج من أعمال بدعية ناجمة عن الجهل أو التعاليم الغير صحيحة.
ولكن قد يحتار البعض في الطريقة التي تمكنه من الدعوة إلى الله في هذا الموسم، وقد تحبطه عن هذا العمل الصالح، الذي يحتاجه المسلمون خلال هذه الأيام المعدودة.(115/436)
ويمكن الاستفادة من بعض الأفكار في هذا المجال، ومنها:
1- خلال رحلتك إلى الحج، حاول أن تحمل معك عدداً من الكتيبات والمطويات التي تتضمن معلومات مفيدة عن الحج، وبعض الأدعية المأثورة، وعن الفرائض والآداب الإسلامية المتنوعة، وعن التوحيد والعقيدة. وحاول توزيعها على أكبر قدر ممكن من الناس هناك، واعمل على توزيعها في أماكن مختلفة، كي يستفيد أكبر قدر ممكن من الناس من تلك المطويات، وإن تيسّر لك الحصول على مطويات بلغات أخرى غير العربية، فاحملها معك، ووزعها على المسلمين القادمين من الدول الغير عربية، وفي هذا المجال يروي أحد الإخوة الذين سافروا إلى الحج عن قصة حصلت معه، يقول: " ذهبت إلى الحج لأول مرة في حياتي، وحاولت أن أتعلم معظم الأمور الخاصة بالحج، ولكن تفاجأت هناك ببعض الأمور التي لم أعرف التعامل معها، كالتصرف مع الحجر اليماني، هل أقبله أم ألمسه. فسألت عن ذلك، فلم يسعفني إلا شاب من دول عربية أخرى، أعطاني مطوية فيها بعض محذورات الحج، فقرأت فيها أنه يسن لمس الحجر اليماني فقط دون تقبيل، ودون تمسح.
2- يقوم بعض القادمين من عدة دول، بممارسة بعض العادات والتصرفات التي لا تتوافق مع الشريعة الإسلامية، والتي تعد مخالفة للتعاليم الإسلامية، بسبب الجهل وبعض الاعتقادات الخاطئة، وفي الحج ستكون الفرصة مناسبة جداً لتقديم معلومات للزائرين حول حرمة هذه التصرفات، وشرح التعاليم الإسلامية الحقيقية في ذلك. خاصة وأن معظم المسلمين في دول العالم، يثقون بآراء وبفتاوى العلماء من أهل العلم والصلاح، لذلك سيكون تقبلهم لهذه الأفكار أسهل في مكة لذلك، فإن على المسلمين مسؤولية وواجب هام فيما يتعلق بتبيان رأي الدين الإسلامي حول هذه التصرفات والممارسات الخاطئة. يقول أحد القادمين من مصر للحج: " حج والدي قبل عدة سنوات، وبعد عودته روى لنا حادثة حصلت معه، وقد علقت بذهني وتعلمتها منه، فقد كان يقف بجانب الحرم المكي ويدعو الله -عز وجل-، ويبتهل إليه، ويستعين بـ "السيد البدوي" في دعائه، فوقف بجانبه رجل صالح وسلّم عليه، وأخبره أنه لاحظ ملاحظة ويريد أن يفيد والدي لوجه الله -تعالى-، فتقبل والدي ذلك بصدر رحب، فأخبره الرجل عن البدعة التي يعتقدها والدي في التبرك "بالسيد البدوي" وحرمة ذلك في الإسلام، وأنه من باب الإشراك بالله -عز وجل-، وبيّن له بعض الآثار السابقة، كالرجال الصالحين من قوم نوح وكيف تحول الناس لعبادتهم بعد موتهم. فاتعظ والدي منه، وشكره. فالرجل يستحق الشكر على ما بينه لنا من خطأ كنا نقع به كلنا، كاد أن يهلكنا.
3- تذكير الناس خلال بعض الأوقات، بأهمية الذكر والتكبير وقراءة القرآن، وعدم الانشغال عن عبادة الله -عز وجل- في هذه الأيام الفضيلة والساعات المحددة، التي قد لا تتجاوز الخمسة أيام. حيث يلاحظ انشغال كثير من الناس بالأحاديث المطولة، التي قد تدخل في أعراض الناس وفي النميمة عليهم، وقد ينشغل الآخرون بالشراء والتسوق من المحلات المقامة هنا وهناك، وبالتدخين في الحج، فيأتي هنا دور المسلم الواعي الداعي، بأن ينبه الناس إلى أن هذه الأيام القليلة المباركة ستنقضي بعد وقت قصير، ولن يكون من السهل العودة إلى نفس المكان، والوقوف بنفس الموقف، فيجب(115/437)
الاستفادة من هذه الساعات بأكبر قدر ممكن من العمل الصالح. وهذه الطريقة في الدعوة منتشرة كثيراً -ولله الحمد-، فلطالما شاهد الحجاج أحد الصالحين، يقف ويقرء الحجاج السلام، ويحمد الله -تعالى-، ويصلي على النبي المصطفى -صلى الله عليه وسلم- وينصحهم بكلام قليل مختصر، فيه فائدة وتذكير. وهي طريقة فيها فائدة عظيمة، فالإنسان مجبول على الخطأ والتقصير والنسيان والانسياق وراء ما يحدث معه، لذلك فإن التذكير والخطبة الصغيرة تعيد للحجاج إحساسهم بالوقت الفضيل الذي يقضونه، فيعودون إلى صالح العمل. فيقع الأجر لهم وللداعية.
4- الكثير من الحجاج قد لا يعلمون تماماً ما هي الأركان الكاملة للحج، وما هي الأمور المستحبة هناك، وما يسن القيام به. ويستعينون بالمطوف الذي قد تفوته هذه الأمور، أو قد لا يكون على دراية كاملة بهذه المسائل. فيأتي هنا دور الداعية لشرح بعض الأركان الخاصة بالحج، وتوضيح بعض السنن المستحبة، وتوجيه الناس إلى أفضل الأعمال وأصلحها. كرفع الصوت في التكبير والتهليل، والاكتفاء بالإشارة إلى الحجر الأسود بحال تعذر الوصول إليه وتقبيله، والدعاء عند الشرب من ماء زمزم، ووجوب رمي الحجرات السبعة في المكان المخصص لها تحديداً بحيث تسقط في الحوض، وغيرها.
5- تقديم بعض الهدايا والأشرطة الصوتية والمطويات للحجاج خلال موسم الحج، من أجل الاستفادة منها بعد الرجوع من الحج إلى بلادهم. وهذه من الأمور الجليلة التي تعطي للداعية بعداً آخر يستفيد منه، بأن لا تنحصر دعوته بالأمور المتعلقة بالحج، وأن تكون شاملة للعديد من أوجه الدعوة الصالحة. كما أن أهل الحاج في معظم الدول العربية والإسلامية يترقبون عودته، ويقبلون على ما لديه من كتيبات وأشرطة ومطويات بجدية وبانشراح صدر، فهي القادمة من مكة المكرمة، فيكون تأثيرها واسع، ويقرأها عدد كبير من أهل الحاج، فيستفيدون منها، وتزرع فيهم الأمور الصالحة.
6- الاشتراك في بعض الحملات بهدف خدمة الحجاج، ونصحهم وإرشادهم، وتوعيتهم في معظم أمور حجهم. خاصة إذا كان الإنسان طالب علم.
7- دعوة الناس إلى أماكن المحاضرات والدروس التي تقام في منى، وتنبيههم إلى أهمية المحاضرات، وإرشادهم إلى أماكنها.
8- قد يصادفك من يسأل في منى عن بعض الأمور الشرعية، وقد تكون لست أهلاً للفتيا، فالواجب هنا عدم تقديم فتوى بدون دليل شرعي، ويفضل إرشاد الناس إلى كبائن الفتاوى، وتزويدهم بأرقام هواتف العلماء من أجل الحصول على إجابة شرعية.
بالإضافة إلى العديد من الأفكار التي قد يجد المسلم أنه قادر على تنفيذها في الحج، وقادر على إيصال رسالة دعوية من خلالها إلى الحجاج هناك، في أي وقت وأي مكان.
على أن الدعوة إلى الله لا تنحصر في موسم الحج فقط، ولا تنحصر في أشخاص معينين، بل هي عمل صالح يناسب الجميع، ويتوجب على كل الناس القيام به، فالدين نصيحة، كما أخبر الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم-، وهي أمر واجب شرّعه(115/438)
الله -عز وجل- في كتابه الكريم بقول: "ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ"(النحل: من الآية125).
ـــــــــــــــــــ
أبطال الكرتون.. القدوة الحسنة في حياة أبنائنا!!
معمر الخليل
5/11/1426
ارسل تعليقك ...
تعليقات سابقة ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
في معظم المجتمعات البشرية، والحضارات المختلفة، توجد أمثلة معينة لأناس على درجة عالية من الأهمية والرفعة، قدموا الكثير في سبيل شعوبهم، وساهموا إيجابياً في مجالات كثيرة، حتى استحقوا أن يطلق عليهم اسم "القدوة الحسنة".
وفي مجتمعاتنا الإسلامية، وتاريخنا العريق، حظيت أسماء كثيرة وكبيرة بهذه الصفة، التي جعلت منهم نبراساً يقتدي بهم الناس، ويسيروا على خطاهم، أملاً في أن يصلوا إلى مركزهم، أو يحظوا بشرف منزلتهم.
ومع تعقيدات الحياة اليومية، وتطور النواحي التكنولوجية في المدنية الحديثة، دخلت العديد من وسائل الإعلام المؤثرة إلى منازلنا، وبات تأثيرها أقوى - في كثير من الأحيان- من تأثيرنا على أبناءنا وأخوتنا الصغار من الجيل الجديد، الذي ربما لم يعد منبهراً بالتكنولوجيا كمثلنا، بقدر ما هو متمكن منها، ومؤمن بها.
وأمام الكم المتزايد من البرامج الموجهة للأطفال، ضمن مقتضيات المنافسة الإعلامية والجري خلف الربح المادي، بات أطفالنا أمام أعداد كبيرة من الأمثلة الكرتونية والخيالية والبشرية، ممن يتكرر ظهورهم في الإعلام المرئي والمقروء، فضلاً عن الألعاب التلفزيونية أو الدمى أو الصور التي تنتشر على حقائب الأطفال المدرسية، وكراساتهم وأقلامهم وثيابهم، وغيرها.
الظاهرة تبدو من بعيد كمنهج مخطط له، ومرسوم بدقة، لنشر هذه الصورة النمطية لأبطال خياليين، إلا أنه في طبيعة الحال لا يعدو أن يكون ظاهرة، تتشارك فيها جميع شعوب الأرض، ولا تقتصر على الشعوب العربية أو المسلمة
الظاهرة تبدو من بعيد كمنهج مخطط له، ومرسوم بدقة، لنشر هذه الصورة النمطية لأبطال خياليين، إلا أنه في طبيعة الحال لا يعدو أن يكون ظاهرة، تتشارك فيها جميع شعوب الأرض، ولا تقتصر على الشعوب العربية أو المسلمة. وبالتالي فإن هذه الظاهرة قد لا تهدد شعوبنا فقط، بل تهدد شعوب العالم، إن قدّر لها أن تحدث تأثيراً عميقاً في نفوس الأطفال، أو تؤثر على طريقة تفكير وتعامل الجيل الجديد, وهو ما يحتاج من المختصين والتربويين وقفة طويلة، ودراسات عميقة، لإثبات ذلك أو نفيه.
صورة القدوة في عيون أطفالنا:(115/439)
ينشأ الأطفال في سنواتهم الأولى وهم ينظرون ويشاهدون أكثر بكثير مما يقولون أو يفكرون، وهذا ما يساهم في طبع الصور والشخصيات في عقلهم الباطن، كقدوة يرغبون بتقليدها. وما أن يبدأ الأطفال بالقدرة على الحركة أو الكلام أو التصرف، حتى نجد تلك الصور العالقة في ذهنهم، وقد طفت على السطح، وباتت تؤثر في تصرفاتهم. لذلك فإننا نجد أن الدراسات النفسية والتربوية تحرص كثيراً على توصيه الأهل بإيجاد بيئة ملائمة لنمو الأطفال، من هدوء وسكينة، لئلا يصابوا بالعصبية. وأن يبعدونهم عن مشاهد العنف، لئلا يتأثروا بها فيقلدونها، ما قد يتسبب لهم بأذى كبير.
إن الصغار يبدؤون التقليد من السنة الثانية أو قبلها بقليل، وهم يتعلمون بالقدوة والمشاهدة أكثر مما نتصوره، فالطفل يحاكي أفعال والده، والطفلة تحاكي أفعال أمها.
تقول الباحثة ليلى الصفدي: "إن برامج الأطفال هي في أغلبها ليست إلا مصدراً للعنف، لأن ما يميزها التمحور حول الصراع والحرب والشر والتهديد وتغليب مفاهيم القوة على مفاهيم الضعف، بالنتيجة سيطرة السلوك العدائي على سلوك أطفالنا، وخاصة أطفالنا في عمر السنتين وما فوق ففي هذا الجيل يحاول الطفل التقليد ويتعلم قواعد السلوك ويميل إلى علاقات المحبة والمودة، فالجدير بنا كأهل تأكيد ودعم الصفات الخاصة بالحب".
ولو حاولنا رسم خطوط عريضة للقدوة الموجودة اليوم في عيون أطفالنا لاستطعنا تحديدها في عدة نقاط، أهمها:
1- أن القدوة الحسنة لديهم لا يبدو كبيراً في العمر، وهو أقرب إلى أعمارهم.
2- أنه شخصية كرتونية في الغالب، أو شخصية بشرية خيالية.
3- تتمتع هذه الشخصية بالقدرة على التعامل مع التكنولوجيا بتمكّن، من خلال السيطرة على مجريات الأمور، أو اختراق الحاجز الزماني، أو المكاني، أو الدخول إلى عوالم خيالية إلكترونية...
4- هذه الشخصية تتمتع بقوة خارقة، كأن تستطيع القفز مسافات طويلة، أو الاختفاء، أو الطيران، وغيرها.
5- أن تتمتع هذه الشخصية بقوة هائلة، عبر القوة العضلية، أو حملها لأسلحة فتاكة.
6- وفي حالات أخرى، تكون هذه الشخصية المرسومة في ذهن الأطفال، رقيقة ومسالمة وهادئة.
وعن صورة البطل أو القدوة الكرتونية في عيون أطفالنا، تقول الأستاذ الصفدي: " الصفة العامة لهذه البرامج أنها تقدم أشكال مشوهة غير طبيعية وخيالية أكثر من اللزوم، ومضمونها باعتقادي ضحل جدا، سطحي، وفي غالب الأحيان غير إنساني...، طبقي، عنصري، وعنيف. والاهم من هذا كله أنها تخلق نمطاً متماثلاً من الشخصيات بدون تفرد أو تمايز".
وفي دراسة تحليلية لمحتوى برامج الأطفال في تليفزيون الكويت، يشير الكاتب إلى أن برامج الأطفال في تليفزيون الكويت مليئة بالقيم السلبية التي كان من أبرزها قيم العنف والعدوانية، كما تشير إلى أن البرامج المنوعة هي الأكثر إيجابية في عرضها للقيم مقارنة مع باقي الأنواع من البرامج الخاصة بالأطفال، وفي المقابل فإن (أفلام)(115/440)
الكرتون باللغة الإنجليزية هي الأكثر في عرضه للقيم العكسية والسلبية في تلك البرامج..
وتقول صحيفة (الراشد) اليمنية، في دراسة لها حول الأفلام الكرتونية، وصورة القدوة فيها: "إن يجب على الجهات الحكومية تبني القدوة والمثل الأعلى للرموز الفكرية، والدينية، والعلمية، وهي الأجدر بأن نقتدي بها ونحاكيها في عطائها ونبوغها، بدلاً من تقليد الدمية اليابانية "بي كاتشو" أو "جراندايزر" رمز القوة والسيطرة الخيالية، والتي استغلت نفسياً في حب الطفل لهما، حيث سوقت تجارياً في شكل منتجات سلعية، دمى وألعاب، لا نعلم إلى ما ترمز إليه".
الأمثلة على هذه الشخصيات في الأفلام الكرتونية الموجهة للأطفال، كثيرة وعديدة. لدرجة أن المتابع لها يفقد أحياناً القدرة على التفريق بينها، بسبب التقاطع في أكثر من محور بين الشخصيات البطلة.
من يرسخ هذه الثقافة:
يأتي الإعلام الموجه للأطفال في الدرجة الأولى في التأثير على الجيل الجديد. فهو يرسم الخطوط العريضة للقدوة التي يحلم بها الأطفال، ويساعدهم في ذلك بعض المنتجات الغذائية التي باتت تستغل هذا الانتشار الكبير للشخصيات الكرتونية، في الإعلان والترويج لمنتجاتها، من أجل سرعة تقبل الطفل لها، لمعرفته المسبقة بالشخصية التي تروج لها.
ولم يستطع الإعلام العربي حتى الآن، أن يتمدد خارج الحيز الإعلامي الغربي، الذي تسيطر شركاته الإنتاجية على الغالبية العظمى من الأفلام الكرتونية.
وهذه الشركات استطاعت أن تحتكر سوق الأفلام الكرتونية الموجهة للطفل، في العالم بأسره، فيما تظهر الأفلام الكرتونية العربية والإسلامية هزيلة وجامدة أمام حيوية تلك الأفلام.
من أهم الشركات الغربية التي تسيطر على سوق إنتاج البرامج الموجهة للأطفال، والت ديزني (The Walt Disney)، التي أنتجت عشرات المسلسلات الكرتونية، والتي لاقت رواجاً كبيراً لدى أطفال العالم، منها (توم آند جيري، وسباديرمان، وميكي ماوس، وسوبرمان، ودينون وبومبا، المشتقان من فلم الأسد الملك، وغيرها).
بالإضافة إلى شركات الإنتاج اليابانية التي بدأت تعزو الشاشات العالمية، عبر منتجات جديدة، من نوع (البوكيمون، وأبطال الديجيتال، ويوغي، والكابتن ماجد، وغيرها).
يقول الباحث الدكتور محمد عبد الغفور ( الحاصل على دكتوراة في التربية الخاصة من المملكة المتحدة) : "إن إنتاج هذه الأفلام الكرتونية مصدرها دول غير عربية وغير إسلامية (في الغالب اليابان) الأمر الذي يجعلها مليئة بالقيم التي لا تتناسب مع قيمنا العربية الإسلامية، مما يجعل فائدتها لأطفالنا محدودة أو في كثير من الأحيان عكسية".
تقول الأستاذة إيمان الشيخ (الكاتبة والمترجمة الإسلامية): "نجد أطفالنا في جميع أنحاء دولنا العربية يتخذون قدوتهم من شخصيات الكرتون الخيالية الوهمية!! والتي دست إليهم عن طريق قنوات الكرتون المعروفة!! فأطفالنا يحدث لهم عملية "غسيل(115/441)
مخ"!! علي أيدي أباطرة أفلام الكرتون الشهيرة بوالت ديزني "walt disny" . والذي يحدث أن هذه المؤسسة وغيرها يصدرون لأطفالنا أفكارهم السامة، من تحرر وانفلات!! عن طريق تقديمهم لشخصيات كرتونية، كشخصيات "سوبر مان" و"بات مان" و"توم وجيري" ..الخ . هذه الأفلام التي تقدم هذه الشخصيات والتي تبدوا لنا للوهلة الأولي أنها بريئة!! تدس لأطفالنا "السم في العسل"!! عن طريق أفكارهم الخاطئة عن الكون والحياة عموما".
وفيما يمكن مراقبة بعض الأفلام الكرتونية التي تبث عبر محطات حكومية، جاءت المحطات الخاصة، لتنشر كل ما يقع تحت يدها من أفلام كرتونية، بدون رقابة أو تدخل، ما ساعد في انتشار الكم الأكبر من هذه الأفلام بين الجيل الجديد. كقناة (سبيس تون spacetoon، وMBC3، و ARTeens، وغيرها).
وهو ما ساعد في ترسيخ الشخصيات الكرتونية (البطلة!) التي بات يتكرر ظهورها على الشاشة أكثر من ترديد اسم أي من القدوات الحسنة في تاريخنا الإسلامي، وربما أكثر من ظهور الأب على ساحة الحياة لدى أطفالنا، ما يجعلهم ينقادون باتجاه تبني أفكار وتصرفات أبطال الكرتون، على حساب تقليد الأب أو أخذ النصح منه.
ماذا يتعلم أطفالنا من أبطال الكرتون:
الرسوم المتحركة هي من أوائل العناصر التي يتعلم الطفل من خلالها خاصة انه وفى ظل كثرة القنوات التلفزيونية وزخم بثها لبرامج الأطفال أصبحت ساعات البث تقريبا على مدار الساعة وأصبح من الصعوبة بمكان إقناع الأطفال بالجلوس لساعات محددة أمام التلفاز .
المتابع لبعض أفلام الرسوم المتحركة، يجد أن هذه الأفلام لا ترتقي إلى المستوى المطلوب من حيث اللغة والتصرفات والأخلاق التي نطالب أطفالنا بامتلاكها، أو امتلاك الحد الأدنى منها، بل نجدها أفلاماً تكرس العديد من العادات السلبية والألفاظ السوقية، والأخلاقيات المنافية لتعاليم يدننا الإسلامي وعاداتنا وتقاليدنا العربية.
على سبيل المثال، تؤكد روضة الهدهد (الأديبة المتخصصة في أدب الأطفال) على ضرورة استبدال بعض الألفاظ المسيئة الواردة في بعض الأفلام الكرتونية مثل "حقير, تافه, غبي". داعية إلى إيجاد البدائل التي تتناسب وتربيتنا وثقافتنا وديننا الحنيف.
كما أكدت دراسة أصدرها المجلس العربي للطفولة والتنمية في ديسمبر 2004م، أن برامج الرسوم المتحركة المستوردة في معظمها تؤثر سلباً على الأطفال، لكونها لا تعكس الواقع ولا القيم العربية، ولا حتى تعاليم الدين الإسلامي، على اعتبار أن هذه البرامج تأتى حاملة لقيم البلاد التي أنتجتها، وتعكس ثقافتها.
وأشارت في ذلك إلى ترديد الأطفال للألفاظ والعبارات التي يسمعونها، وكذلك تقليد الحركات والأصوات التي تصور شخصيات أو حيوانات، إضافة إلى تقليد بعض اللهجات والشخصيات في سلوكها وفى أزيائها.
الباحث مجدي عبدالعزيز، يضيف حول الأفكار التي يتعلم منها الأطفال من أفلام الكرتون، بالقول: " إن الكثير من الرسوم المتحركة لا يتفق والعقيدة الإسلامية؛ حيث فكرة القوة الخارقة والقدرات المستحيلة لدى سوبرمان، أو ميكى ماوس، أو الأخطاء(115/442)
الواضحة مثل السجود لغير الله، مثلما حدث فى الفيلم الكرتونى "الأسد الملك"، عندما قامت كل الحيوانات بالسجود لـ "سمبا" عند ولادته، وقام بعدها القرد بعرض "سمبا" على ضوء الشمس، وكأنه يستمد قوته منها، كما ظهر "الخنزير" في هذا الفيلم كحيوان طيب رقيق القلب قام بتربية سمبا واحتوائه بعد قتل أبيه".
وهذه الأفكار التي يتشربها الطفل في صغره، ستوجد لديه حالة من عدم الاتزان عندما يبدأ والداه أو معلميه بتعليمه بعض الأمور التي تختلف تماماً عما تعلّمه لسنوات طويلة من شاشات التلفاز.
فمثلاً عندما تخبر ابنك أن السجود لا ينبغي لغير الله _عز وجل_، ستحدثه ذاكرته عن سجود الحيوانات للأسد الملك في الفلم الكرتوني، وانحناء بعض الشخصيات الكرتونية لشخصيات أخرى أكبر منها أو أقوى، ما يجعل الابن يقلل من شأن هذه التوجيهات الدينية، ويعتبرها أمراً يعاكس ما تعلمه لسنوات.
وكون المشكلة لم تقتصر على الدول العربية والإسلامية، فإن دولاً أخرى تساءلت كثيراً عن الدروس التي تقدمها بعض الأفلام الكرتونية الموجهة للأطفال.
وقد تصدّى للإجابة على هذا السؤال باحثان من أمريكا اللاتينية، منذ أكثر من ربع قرن؛ هما آريل دروفمان، وأرماند ماتيلارت، بعد أن قاما بتحليل القصص المضحكة أو الهزلية لشركة ديزني؛ فاكتشفا أن العنصرية والإمبريالية والجشع والعجرفة تخللت الهزليات التي تقدمها شركات والت ديزني وتوزعها في جميع أنحاء العالم. حيث أكدت الدراسة أن أكثر من ثلاثة أرباع القصص التي يقدمها والت ديزني تصور رحلة تستهدف البحث عن الذهب، أما الربع الباقي فتتنافس فيه الشخصيات على المال والشهرة.
ووفق البحث الذي تم على أعمال ديزني وشركاته للإنتاج الفني، فإن نصف القصص تدور أحداثها خارج كوكب الأرض، بينما تقع الأحداث في النصف الآخر في أراضٍ أجنبية حيث يعيش بشر يتصفون بالبدائية، وكلهم من غير البيض!!
استخدم ديزني هذا النسيج المتشابك الساحر ... الحيوانات والأطفال والطبيعة، لتغطية مزيج متشابك من المصالح والأفكار، ترسخ أفكار الإمبريالية، وفق ما يرى الباحثان.
كيف نواجه أبطال الكرتون:
يصعب السيطرة على ما يشاهده أطفالنا في التلفاز، خاصة مع انتشار عدد معين من المسلسلات الكرتونية في معظم القنوات العربية، وصعوبة منع الأطفال نهائياً من متابعة الرسوم المتحركة، التي باتت سمة من سمات ثقافة الطفل هذه الأيام.
إذ لم يعد ظهور أبطال الكرتون مقتصراً على التلفاز، بل انتشر في الكتب والمجلات وأدوات المدرسة والقصص المصورة والملابس وغيرها.
ولكن ربما يمكننا الحد من تأثير هذه المشاهد في نفوس أطفالنا، وتقليل الصورة الخارقة لهم.
من هذه النصائح التي يمكن اللجوء إليها:(115/443)
1- تحديد ساعات مشاهدة أبناءنا للتلفاز في أوقات معينة، نختار من ضمنها برامج هادفة، بعيدة عن التشويه، كالبرامج الكرتونية العربية، أو على الأقل بعض البرامج الأجنبية التي تهدف للثقافة أكثر من الإثارة والتشويق.
2- تعليم أبنائنا مبدأ النقد الموجه لما يرونه، ما يربي فيهم عدم الانبهار أو تصديق كل ما يشاهدون، والإشارة إلى بعض التصرفات السلبية التي يقومون بها، ونقدها.
3- مناقشة أبنائنا أحياناً فيما يعرض على الشاشة، من أفلام كرتون وغيرها، وتربية مبدأ المحاكات العقلية، والتفكير بما يعرض.
4- تنمية القدوة الحسنة للشخصيات الإسلامية والتاريخية الهامة، ومقارنة النقاط الإيجابية فيهم بالنقاط السلبية الموجودة في الأبطال المعروضين على الشاشة.
5- عدم ترك الطفل يشاهد البرامج المحددة له لوحده، بل يفضل الجلوس معه خلال هذا الوقت، لمتابعة ما يشاهده باستمرار، وتوضيح بعض النقاط الجديدة فيها.
وترى الدراسة التي أصدرها المجلس العربي للطفولة والتنمية في ديسمبر 2004م، أن مواجهة التأثيرات السلبية لمضامين أفلام الرسوم المتحركة من المفترض ألا يتوقف عند استعادة الدور التربوي للأسرة ، وإنما تتمثل في إيجاد البدائل التي تعمق الثقافة الإسلامية أيضاً، وذلك بإنشاء ودعم شركات إنتاج الرسوم المتحركة التي تخدم الثقافة الإسلامية، وتراعى مقوماتها، ولا تصادم غرائز الطفل، بل توجهها وجهتها الصحيحة.
وتطالب دراسة المجلس العربي للطفولة والتنمية في هذا السياق بتفعيل دور مؤسسة الإنتاج البرامجي المشترك لدول الخليج العربية، عبر تزويدها بالدعم المالي والبرامج المقترحة، وتبادل الخبراء والفنيين بين التليفزيونات العربية في مجال الإنتاج للطفل، وطرح مسابقات في مجال الإبداع البرامجي للطفل العربي.
كما توصى المسؤولين في أجهزة الإعلام العربي بتوخي الحذر في انتقاء البرامج الأجنبية، بحيث لا تقدم للأطفال نماذج يحتذونها تتعارض مع تنشئتهم وفق الأهداف التي يرتضيها المجتمع، مع استبعاد تلك البرامج التي تعمد إلى إثارة نوازع الجنس، أو العدوان، أو تسبب الفزع، أو تبرز العنف بما يتنافى مع القيم الإنسانية.
وتدعو الدراسة إلى ضرورة إيلاء عناية خاصة لبرامج الأطفال في الأقطار العربية، خاصة في ظل إعلام متنوع يبث عبر الأقمار الصناعية في كل بقاع العالم إنتاجًا إعلاميًا من إفراز ثقافات متعددة الغلبة فيها للأقوى في الإبداع والنشر والتوزيع.
كما أصدرت ورشة الأطفال العرب توصيات موجهة للحكومات، على هامش مؤتمر "الطفل العربي في مهب التأثيرات الثقافية المختلفة" الذي عقد في 25 وحتى 27 من سبتمبر 2005م. جاء فيها بعض البنود الخاصة بما يتابعه الأطفال عبر الإعلام المرئي، منها:
- جعل البرامج التليفزيونية برامج هادفة.
- زيادة البرامج الثقافية للأطفال.
- حذف البرامج التي تؤثر على سلوك الطفل.
- وقف برامج الأطفال التي تغرس العنف في قلوب الأطفال.
- أن تتوفر المصداقية في العاملين على برامج الأطفال الإعلامية.(115/444)
- نريد آلية لتوضيح صورة الطفل العربي بالنسبة للطفل الغربي.
- عمل دراسة تغيير منهجية عرض برامج الأطفال، وذلك لإيضاحها بالنسبة للطفل الغربي.
ـــــــــــــــــــ
منهج تصحيح الأخطاء .. نظرة تقويمية
خالد السيد روشه
3/10/1426
ارسل تعليقك ...
تعليقات سابقة ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
أخطاؤنا هي علامات مؤثرة في سيرة حياتنا, لا نملك التغافل عنها كما لا نملك التنصل منها وحياتنا مليئة بالأخطاء على مستوى الفرد والجماعات والمجتمعات ولكن تلك الأخطاء لا تعني دائماً الفشل وكذلك لا تعني دائماً الانحراف عن السبيل.. فالخطأ إذا صوّب وقوّم وصار تجربة للتعلم والانطلاق ربما يصير دافعا قويا للنجاح والإنجاز...
والناس في تعاملهم مع أخطائهم أنواع وأصناف:
فالنوع الأول من الناس هم من ينكرون أخطاءهم ويجادلون عنها ويحاربون من يحاول تقويمها لهم متوهمين أنهم يستطيعون بذلك محوها, وهؤلاء يقعون في الخطأ مرتين, مرة حين أخطؤوا والثانية حين أنكروا أخطاءهم ورفضوا النصح والتقويم, فلا هم نفعوا أنفسهم باعترافهم بأخطائهم ولا هم تعلموا منها, فتراهم يعاودون ذات الخطأ مرات ومرات وهم لا يذّكرون...
والنوع الثاني من الناس هم من يعترفون بأخطائهم ولكنهم لا يتعلمون منها ولا يتوبون عنها, فهؤلاء يظلون حياتهم كلها يحملون عقدة الشعور بالذنب والخطأ, ويظلون يعانون من شبح الفشل ليل نهار.
أخطاؤنا هي علامات مؤثرة في سيرة حياتنا , لا نملك التغافل عنها كما لا نملك التنصل منها وحياتنا مليئة بالأخطاء على مستوى الفرد والجماعات والمجتمعات ولكن تلك الأخطاء لا تعني دائما الفشل، وكذلك لا تعني دائما الانحراف عن السبيل
والنوع الثالث من الناس من يعترفون بأخطائهم ويحاولون جاهدين التوبة عنها والاعتذار ثم هم دائماً يحاولون التعلم من أخطائهم التي وقعوا فيها, فيحذرون العودة إليها,. وتصبح أخطاؤهم بالنسبة إليهم علامات صحة في طريق نجاحهم, تدفعهم دائماً للأمام على شتى السبل....
فالنوع الأول هم أكثر الناس مرضاً، وهم شر الناس وحثالة المجتمعات، والنوع الثاني هم أناس بغير طموح قد أقعدهم الفشل ونأى بهم القعود عن الإنجاز, وأما النوع الثالث فهم المتطلعون إلى تعديل مناهج حياتهم والساعون إلى ابتداء صفحات بيضاء يصطلحون فيها مع أنفسهم ويبدؤون عهدا جديدا بلا أخطاء..(115/445)
كيف نخطئ؟ ومن أين تتولد أخطاؤنا؟
إن بحثا بهذا الشأن قد حير الباحثين النظريين والتجريبيين، حيث إنهم رأوا أن الإنسان يتميز عن باقي المخلوقات بأنه كائن يهدف إلى تحصيل المعرفة من أجل إشباع حاجاته المادية والروحية، وهو للوصول إلى المعرفة يستخدم عقله مفكراً عبر مراحل استدلالية متسلسلة يستنبطها فكره حتى يبلغ هدفه..
لذلك اخترع المتقدمون قواعد وضوابط عقلية أسموها بالمنطق حتى تصبح ثوابت عامة في المعرفة الإنسانية. ذلك أن الإنسان قد لا يصل غالباً إلى المعرفة الحقيقية التي تكشف عن الواقع الفعلي, أو أنه قد يضع لنفسه مناهج تطابق هواه ورغباته ومصالحه لذلك يخطئ كثيراً في تحصيل المعرفة أو استخدامها بالصورة الصحيحة...
ومن ثم كانت قوانين البشر المنطلقة من ذواتهم دائما ما تكون قاصرة عن قيادة البشرية قيادة حكيمة.. (اتفق القانونيون في العالم بأسره على ما أسموه ثغرات القانون وأنه الطريقة المثلى لنقد الأحكام).
و إذا كان الإنسان كائن مستدل عقلاني فإن نمط حياته العام يتشكل حسب نوعية الحركة المعرفية التي يتخذها وحسب طريقة تفهمه لما حوله.
و قد تتخذ أمة كاملة منهجاً استدلالياً ومعرفياً خاطئاً يقودها إلى اتجاه معاكس ولا يوصلها إلى أهدافها بل لا نبالغ إذا قلنا: إن حضارات راسخة قد حادت بمنهجها كله إلى تخبط وعشوائية منهجية فلم تنتج للبشرية غير ميراث من الحجارة ومنافع تقتصر على ذوي الهيئة فيها والجاه والسلطان.. (لم ينتفع وارثوا الحضارة الفرعونية منها بشيء سوى التماثيل الحجارية والآثار الصخرية وطريقة تحنيط الموتى الأغنياء, وصار ذلك مجلبا للسياح من شتى بقاع الأرض للمشاهدة), وانظر لقوله _تعالى_: " ألم تر كيف فعل ربك بعاد إرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد وثمود الذين جابوا الصخب بالواد وفرعون ذي الأوتاد الذين طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد..." الآيات.. فهؤلاء رغم ما بنوه وشيدوه من صروح عتيدة إلا أنهم لم ينفعوا البشرية بشيء، بل أفسدوا وطغوا.
تتخذ أمة كاملة منهجاً استدلالياً و معرفياً خاطئاً يقودها إلى اتجاه معاكس و لا يوصلها إلى أهدافها، بل لا نبالغ إذا قلنا إن حضارات راسخة قد حادت بمنهجها كله إلى تخبط وعشوائية منهجية فلم تنتج للبشرية غير ميراث من الحجارة ومنافع تقتصر على ذوي الهيئة فيها والجاه والسلطان
ومن ثم فإن الحضارات دائما تفتقر – لتصبح مفيدة للبشرية – أن تتبنى منهجا لا ينتمي لتلك المناهج النفعية الإنسانية أو تلك التي تنبني على أهواء أولئك البشر الناقصين.. ولاشك أننا نقصد هنا بذلك المنهج أنه المنهج الرباني الخالد الذي لا يأتيه النقص من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد..
منهج بلا أخطاء..
إنه المنهج الذي بناه الذي يعلم البشرية حق العلم ويعرفها حق المعرفة ويحيط بنقائصها وقدراتها وميزاتها " ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير " (سورة الملك آية 14).(115/446)
وهو كذلك المنهج التطبيقي السليم الصالح لمصلحة الناس أجمعين ضعيفهم وقويهم غنيهم وفقيرهم صغيرهم وكبيرهم ذكرهم وأنثاهم يأمر بالعدل والقسط والرحمة إذ إنه _سبحانه_ غني عن العالمين " يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا " (سورة النساء آية 135)
كيف تراكم الأخطاء؟..
إن الكثير من الأشياء في هذه الحياة تبدو لنا في ظاهرها سليمة وخالية من العيوب لذلك نعمل وفق تلك الرؤية النفعية الإنسانية البعيدة عن الله وعن منهجه والتي نشكل حياتنا وما يتبعها على ضوئها، ولكن قد تكون هذه الأفكار ليست إلا أخطاء تعودنا عليها عبر الزمن حتى يسيطر الركود والجمود والتخلف علينا، ذلك أن الاستمرار على الخطأ يؤدي إلى خلق تراكمات متتالية لمجموعات من الأخطاء المعقدة، وهذه هي إشكالية في المنهجية التي يفكر بها الفرد أو الجماعة أو المجتمع أو الأمة..إن العبرة التي نستخلصها هي إن المنهج الفكري التطبيقي هو الذي يحدد مسيرة فرد أو أمة, وحياة الأمة وحيويتها مرتبطة بنوعية التفكير الذي تسير وفقه ومصدره ومدى ملاءمته لصلاح العالم، فكم من أمة اندثرت وماتت عندما غرقت في المستنقعات الراكدة لأفكارها النفعية البشرية الجامدة, يقول الإمام ابن تيمية _رحمة الله_: " والدنيا بدون نور الرسالة سوداء مظلمة ".
محددات قياس الخطأ الشخصي..
وعلى المستوى الشخصي للخطأ فليس هناك من يدعي العصمة من الأخطاء غير المعاندين المتكبرين أو المتجبرين الطغاة الذين يرون أعمالهم كلها صوابا وخطواتهم كلها إنجازا وتدبيراتهم كلها تطورا.. غير عابئين بأثر أخطائهم على أنفسهم أو الآخرين، وذلك هو عين الظلم للنفس وللناس, وهو كذلك عين الجهل بالحق والصواب, ولا يجتمع الظلم والجهل في مخلوق إلا كان شيطانا سواء كان بشريا أو جنيا..!!
ولذلك فإن هناك ثلاثة محددات أساسية لتقييم أخطاء الإنسان, يقيس على أساسها سلوكه وخطواته وتدابيره الخاصة، وهي:
1- هدف العمل: فالصواب أن يكون لكل عمل هدف, كما ينبغي أن يكون ذلك الهدف هو جلب النفع للإنسان نفسه, أو دفع الضر عنه, ولكن لابد هنا من محدد للأهداف الشخصية ينبغي على الإنسان مراعاته ذلك هو ألا يعود السلوك ذي الهدف النفعي للمرء بضرر على غيره من أمة الإسلام, كما لا يعود دفع الضرر عن المرء بضرر أكبر منه على الفرد ذاته أو مجتمعه.. والشريعة قد حددت لذلك قواعد وضوابط ليس هذا مكان الإسهاب فيها.
2- لمن نقدم أعمالنا؟ الصواب الذي بينته الشريعة العظيمة أن تكون عباداتنا كلها لله وحده لا شريك له, فهو لا يقبل شريكا في العمل, ومن أشرك في العبادة مع الله غيره فقدمها له تركه _سبحانه_ وشركه ففي الحديث القدسي في الصحيح " أنا أغنى الشركاء عن الشرك, من عمل عملا أشرك معي فيه غيري تركته وشركه ", كما(115/447)
علمتنا الشريعة أن عاداتنا وحياتنا وسلوكنا ينبغي أيضا أن يرتجى به وجه الله _سبحانه_, فهو عندئذ _سبحانه_ برحمته يحاسبنا عليها كأعمال صالحات بثواب عميم وأجر مضاعف قال _سبحانه_: " قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين " (سورة الأنعام آية162).
3- ضرورة الانطلاق في السلوك من قاعدة الشفافية: وأعنى بذلك أن المنهج البرجماتي النفعي الذي يقوم على المصلحة المجردة للأفراد والجماعات بغض النظر عن مصلحة الآخرين ونفعهم قد أنكره الإسلام, ولكن الإسلام قد علّم أن ينطلق المرء من منطلق الشفافية السلوكية البيضاء الواضحة, فأنكر سوء الظن، وأنكر الغيبة والنميمة، وأنكر هتك الأسرار، وأنكر الحيل والخداع والمكر، كما أنكر غض الطرف عن آلام الغير وأحزانه ومعاناته.. فالسلوك الشخصي في الفكر الإسلامي قد بلغ من العظمة والرقي أن يصير إنجاز الآخر إنجازا للأول وأن تكون سعادة الجار سعادة لجاره وأن يتألم مسلم بالعراق يشعر بأنينه مسلم بالمغرب..فانظر واستخرج الفوائد التي لا تسعها الأوراق..
4- أهمية الانطلاق من مبدأ الاستشارة والاستخارة في القرارات الهامة: وأعني بذلك ضرورة إعمال رأي الخبراء وذوي التجربة في مدى صحة خطواتنا ومواقفنا ومناهجنا الحياتية, وليس العلماء الشرعيون فقط هم الخبراء الذين يستشارون، ولكن قد يضاف إليهم ذوي الرأي والعلم والخبرة في كل مجال بحسبه, كما أن الاستخارة التي كان النبي _صلى الله عليه وسلم_ يعلمها الناس كما يعلمهم السورة من القرآن لها أثر بالغ في توفيق المرء وهدايته إلى صواب الخطوات والأعمال كما فيها من معاني التوكل والاعتماد على الله _سبحانه_ والرضا بقضائه الشيء الكثير والمؤثر على النفس الإنسانية قبل وبعد إتمام العمل.
كيف نتعامل مع أخطاء الآخرين؟
كثيراً ما تتداخل المفاهيم وتختلف المشاعر وتتوالد السلبيات في أثناء تعاملنا مع أخطاء الآخرين, ولكن هناك علامات إيمانية مضيئة قدمها المنهج النبوي الكريم في تعاملنا مع أخطاء الغير تقوم السلوك الإنساني في الحكم على الآخرين وتدعو إلى العدل والإحسان مع المخطئ..نشير إلى بعضها بإيجاز:
1- أن يكون قصد الوقوف على خطأ الغير هو لله وحده لا شريك له فلا يكون بقصد التشفي والانتقام ولا بقصد السعي لنيل رضا الناس ولا لمصلحة شخصية عائدة أو ظنية.
2- أن يكون منطلق البحث في أخطاء الغير العلم بأن الناس جميعاً خطاؤون، وأن النفس البشرية تخطئ وتصيب، وقد علم هذا وتواتر كمنهج إسلامي شرعي، ففي الأثر الحسن " كل بني آدم خطاء "...وقال مالك: " كلنا يؤخذ من قوله ويرد إلا صاحب هذا المقام وأشار إلى بيت النبي _صلى الله عليه وسلم_ ".
3- التفريق بين المخطئ العامد والمخطئ الساهي أو المضطر أو الجاهل أو غيره وكذلك اعتبار ظروف الخطأ.
4- اختيار من يصحح الأخطاء، بحيث يتوافر فيهم العدل والشفافية والبعد عن المصلحة وعدم الخلفية الخلافية أو العدائية ولما ناظر داود الظاهري أحدهم، رد(115/448)
عليه ذلك الشخص، وقال له: إذا كنت تقول كذا وكذا؛ فقد كفرت والحمد لله. قال له داود: لا حول ولا قوة إلا بالله! كيف تفرح لكفر أخيك المسلم؟
5- مراعاة قيمة المخطئ وإيجابياته وقياس فضائله ووزنها بأخطائه.." ففي الحديث " لعل الله اطلع على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم " وللأسف فنحن حينما نحاول أن نزن حسنات الآخرين وسيئاتهم؛ تجدنا في الغالب نتمنى أن يميل الميزان لترجح هنا أو هناك بحسب ميلنا أو هوانا! وكان الشافعي _رحمه الله_ يقول: ما ناظرت أحدا إلا تمنيت أن يظهر الله الحق على لسانه.. فانظر وتأمل.
6- استبدال لوم المخطئ بتوجيهه وتعليمه وتقويم سلوكه وكما يقول أنس بن مالك _رضي الله عنه_: إنه خدم رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ عشر سنوات ما لامه على شيء قط، وإذا حدثه في ذلك بعض أهله قال: "دعوه فلو كان شيء مضى لكانْ"، وفي رواية للطبراني قال أنس بن مالك: "خدمت رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ عشر سنين فما وُريت شيئاً قط وافقه، ولا شيئاً خالفه" [1].
7- بيان الصواب للمخطئ؛ لأنه ربما ظن نفسه محقا وربما بعد البيان يعود المخطئ إلى الصواب.. في قصة معاوية بن الحكم حيث قال: بينما أنا أصلي مع رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ إذ عطس رجل من القوم فقلت: "يرحمك الله"، فرماني القوم بأبصارهم فقلت: "ما شأنكم تنظرون إلي" فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم، فلما رأيتهم يصمتونني سكت، فلما صلى رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ فبأبي هو وأمي ـ ما رأيت معلماً قبله ولا بعده أحسن تعليماً منه ـ فوالله ما نهرني ولا ضربني ولا شتمني قال: "إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هي التسبيح والتكبير وقراءة القرآن".
أسباب الخطأ...
إن لارتكاب الأخطاء أسباب كثيرة قد يغفل عنها كثير من المعالجين والمقومين لذلك الموضوع, ويجب على الباحثين في هذا الشأن الاهتمام ببيان أهم تلك الأسباب ليسهل اجتنابها فيعينون الناس على اجتنابها ومن ثم تصحيح سبيلهم في التعاطي مع الأخطاء سواء كانت شخصية أو جماعية
أولا: ترك الاعتصام بمنهج الله الحق, ذلك الحصن الحصين والركن الركين والصراط المستقيم الذي لو اعتصمنا به لما خرجنا عن هدايته وانظر إلى قوله _تعالى_: " ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم " (سورة آل عمران آية101) ثم انظر إلى قوله _تعالى_: " واعتصموا بالله هو مولاكم فنعم المولى ونعم النصير " (سورة الحج آية 78). قال العلماء في هذه الآية: يعنى متى اعتصمتم به تولاكم ونصركم على أنفسكم وعلى الشيطان وإن تركتم الاعتصام به خذلكم, والخذلان منه _سبحانه_ أن يكلك إلى نفسك ويخلى بينك وبينها, فترى المخطئ يتهاون في الاعتصام بأوامر ربه فيجره ذلك إلى الوقوع في المعصية والخطأ, ثم يكون خطؤه مركبا فخطأ التهاون بأمر ربه ثم خطأ الوقوع في الخطأ..!
ثانيا: الاستبداد بالرأي: وأعني به ذاك اليقين البالغ الذي يفتعله المرء عند اتخاذه لقرار عمل من الأعمال ضاربا عرض الحائط بكل رأي خالفه أو بأي اجتهاد سبقه أو بأي تجربة عرضت عليه, فهنا نريد أن نقول أن ذلك المنهج في التعصب والاستبداد(115/449)
بالرأي هو منهج لا ينتج غير الأخطاء المتكررة خصوصا إذا كان على مستوى المسئوليات العامة والمتخذة ممن استرعاهم الله رعية سواء كانت صغيرة أو كبيرة, أن اليقين الذاتي هو شعور داخلي لدى الفرد بأنه متأكد من هذا الشيء وهذا اليقين كثيراً ما يكون مضللاً، إذ أن شعورنا الداخلي قد لا يكون على أي أساس سوى ميولنا واتجاهاتنا الذاتية بعيدا عما ذكرنا من محددات اتخاذ القرارات الخاطئة، وهذا الأمر يزداد كلما ازداد الإنسان جهلاً وبعدا عن المنهج القويم أو سيطرت عليه الرغبات النفسية بشكل اكبر.
نلاحظ أن أكثر الناس يقيناً بأعمالهم هم عادة أكثر الناس جهلاً، لكن كلما ازداد المرء علماً تضاءل يقينه بالنسبة للكثير من الأمور وازداد استخدامه لألفاظ، مثل: من المحتمل، ومن المرجح، وأغلب الظن..، بل إن بعض العلماء قد لا تجد شيئاً يقينياً يجزم به في كلامه وكتاباته؛ لأنهم من خلال خبراتهم في الحياة يدركون أنهم مهما وصلوا إلى الحقيقة فإنه مجرد قطرة صغيرة من ذلك البحر المتلاطم المجهول، قال _تعالى_: "وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون". (العنكبوت 43), لذلك كان قول: لا أعلم، دليل على علم العلماء, وكان رد تمام مآل الأمور إلى الله _سبحانه_ من تمام الإيمان, والمستبدون بآرائهم دوما هم طغاة مهما اختلفت مجالات طغيانهم.
ثالثا: التفكير النفعي: أو ما يطلق عليه البعض الرغبوي: وهو ذلك النوع من التفكير الذي توجهه الرغبات لا الوقائع وهو نقيض التفكير الواقعي والمنهجي الذي يبذل جهداً في معرفة الوقائع ويبحث في آثار السلوك ونتائجه السلبية والإيجابية ويقيس بينها ويوازن ويقوم, وهذا النوع من التفكير النفعي من المشكلات الأساسية التي تعرقل حيوية الأمة وتقدمها بل أنه يقودها للتراجع والتخلف؛ لأنه يرسم أفكار كل فرد أو جماعة وحسب مصالحه وأهدافه، وبالتالي فإن سلوكه الاجتماعي العام سوف يتشكل حسب هذا المنطلق لذلك تتعمق الانشقاقات واللامبالاة وعدم تحمل المسؤولية والأنانية, ومن ثم يصعب حتى على كثير من المنادين بالوحدة والتعاون أن يطبقوا تلك الدعاوى تطبيقا واقعيا فالكل يريد نفسه القائد، والكل يريد نفسه الموجه والكل يرى أن السبيل الأوحد للوحدة هو أن يصير الجميع تبعا له!!
وقد يرسم ذلك المنهج في التفكير للإنسان واقعاً وهمياً يحلم به فيجعله يحلق من غير أجنحة حتى إن تيقظ سقط سقوطاً مريعاً، هذه الأفكار التي توجها الرغبات النفسية تحول الفرد إلى حالم بعيد عن الوقائع يعيش في أوهام تبعده عن مسؤولياته الحقيقية والتغييرية وتبرر له عزلته وانقطاعه, وكم رأينا من عالم سيطر عليه الخوف على نفسه أو سيطرت عليه الدنيا وزخارفها فنسي دوره وتخلى عن مسئوليته واختلق لنفسه الأعذار فنسيه التاريخ وسقط في حمأة الرغبة في المتاع..!
ـــــــــــــــــــ
برامج عملية رمضانية
علي بن محمد بن إبراهيم الزِّباني*
22/8/1426
ارسل تعليقك ...(115/450)
تعليقات سابقة ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
وقفه - قبل البدء -
ما أحلى أن يجد الإنسان في صحيفته حسنات لم يتعب فيها، وأن يملأ ميزانه بطاعات عملها غيره ، وأن يرتقي درجات الجنة بعد أن يواريه التراب ؛ وذلك بأن يعمل أجيراً عند الله بدل إخوانه المسلمين ليتسلم أجرته في الآخرة: سكنى الفردوس في جوار نبي أو صديق أو شهيد لِمَ لا: والدال على الخير كفاعله.
الحمد الله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين وبعد ،،،
إن من رحمة الله وفضله علينا أن جعل لنا في هذه الحياة الدنيا محطات نتزود فيها بالإيمان والتقوى ونمحوا ما علق بقلوبنا من آثار الذنوب والغفلات نلتقط فيها أنفاسنا ، ونعيد ترتيب أوراقنا ، فنخرج منها بروح جديدة ، وهمة عالية.
ومن أهم المحطات التي تمر على المسلمين مرة واحدة كل عام:شهر رمضان ، فهاهي الأيام تمضى ويهل علينا الشهر الكريم بخيره وبركته شعاره:يا باغي الخير اقبل ، الشياطين فيه مصفدة ، وأبواب النيران مغلقة ، والأجواء مهيأة لنيل المغفرة والرحمة والعتق من النار تزينت فيه الجنة, ونادت خطابها أن هلموا وأسرعوا فالسوق مفتوح والبضاعة حاضرة, والمالك جواد كريم .
إن من رحمة الله وفضله علينا أن جعل لنا في هذه الحياة الدنيا محطات نتزود فيها بالإيمان والتقوى ونمحوا ما علق بقلوبنا من آثار الذنوب والغفلات نلتقط فيها أنفاسنا ، ونعيد ترتيب أوراقنا ، فنخرج منها بروح جديدة ، وهمة عالية
والموفق جد موفق من أحسن الاستعداد لهذا الشهر واستغلَّ كل لحظة وثانية, والناس في الحياة صنفان: موفق ومخذول.
وكثيرة هي الأعمال التي توصل الإنسان إلى مرضاة ربه، ويفوز بها في جناته وقربه، ولذا كانت هذه المادة بين يديك والمسماة برامج عملية رمضانية، وهي عبارة عن فصول في مدرسة الدعوة والتنافس في الخير ، تلك المدرسة التي تعد من أنجح المدارس في تقويم النفس ودرء عيوبها وحثِّها على بذل الطاقة واستفراغ الوسع في طلب الجنة وحرث الآخرة .
فإليك أخي الكريم هذه البرامج العملية في شهر الصوم فبسماعها وتطبيقها يفتح للخير أبواب وتغلق للشر أمثالها ، وبتمثلها في الحياة ينقشع ظلام ويبزغ فجر جديد ويرتفع صوت المؤذن معلناً عهداً جديداً أهم ملامحه:-
إمساك عن الحرام ، وصيام عن الآثام ، واستغفار في الأسحار ، وانتظار للأذان بالأشواق وتهافت على تكبيرة الإحرام ووله بالصف الأول وملازمة للكتاب ، ومعانقة للسنة ، وتلمس لمجالس الصالحين وتنافس في الخيرات .
هذه الكلمات صيحة تنادي فيك الصلاة خير من النوم والتجلد خير من التبلد، والعالي يرجو المعالي ومن جد وجد ومن زرع حصد ، جنة الفردوس تبغي ثمناً ، ومهور الحور العين ما كانت يوماً رخيصة.(115/451)
هذه البرامج العملية نوع جديد قديم.
جديد في زمن تنافس فيه الناس في جمع الدينار والدرهم ، وتكالبوا على دنيا زائلة ومتع فانية فثقل على هؤلاء أن يفهموا لغتنا؛ لأن نافخ الكير تزكمه رائحة المسك .
وقديم:لأنه الأمر الذي أرق مضاجع الصالحين ، وجعل مصعباً يفارق فراشه الوثير وعطره المثير حتى ما وجد له كفن في آخر المطاف ، ويهجر الشخص من أجله الأحباب والخلان؛ لأنهم علموا أن العاقبة:(اليوم أحل عليكم رضاي فلا اسخط عليكم أبداً).
وقبل أن تعيش مع هذه البرامج دعنا نستجلب سوياً رحمات الله ونستمطر بركاته ونلهج سوياً بهذا الدعاء:
اللهم استعمل أبداننا في طاعتك ، وأقدامنا في خدمتك وألسنتنا في ذكرك، اللهم داوِ بكتابك قلوباً أعيتها كثرة الذنوب، ونفوساً أفسدها طول الركود، وانتشلنا به من آبار غفلاتنا ، ومهاوي شهواتنا ، ومصارع أهوائنا, وقوِّي به بواعث الإيمان في أعماقنا ، واجعله حجة لنا بين يديك ، يشهد بصدق العبودية لك وإخلاص التوجه إليك، وبذل الأوقات فيك.
هل في أسرتكم صائم جديد؟ كرموه وادفعوه إلى الخير، وجهزوا له هدية جميلة تشعره بأهمية العمل الذي يقوم به
وأضع أخي الكريم جملة من البرامج بين يديك سائلاً المولى الكريم أن ينفعنا جميعاً بها، وأن يبارك لنا فيها:
1. إقامة دورة مكثفة قبل دخول الشهر عن أحكام هذا الشهر وآدابه ، وما ينبغي للمسلم قضائه فيه.
2. تصميم لوحات بمقاسات كبيرة تتضمن آداب الأكل والشرب وبعض الآداب المتعلقة بالصوم ، إضافة إلى لوحة أخرى تتضمن أحاديث في فضائل هذا الشهر توضع في أماكن الإفطار العامة والمنازل وغيرها.
3. ترتيب إفطارات عائلية للجميع ، ثم ترتيب إفطارات لشرائح محددة ، كإفطار للشباب مثلاً ، وآخر للأطفال، وهكذا مع حسن استغلال هذا اللقاء قبل الإفطار وبعده بما لا يثقل على الحضور.
4. تصميم وإعداد هدايا خاصة للعوائل التي تلتقي في أيام الإفطار العائلي، ويحرص أن تكون هدايا تربوية مناسبة لجميع الشرائح.
5. حث الشباب على العمل التطوعي من خلال المشاركة في تفطير الصائمين وتوزيع وجبات الإفطار عند الإشارات وفي أماكن تجمع العمالة وغيرها.
6. برنامج ( يوم التصفية ) وهو عبارة عن جمع ما زاد عن احتياج الناس، سواء الأقارب أو أهل الحي أو غيرهم ومن ثم توزيعه على الأسرة الفقيرة أو إيصاله لمؤسسات النفع العام، ويمكن إعلان ذلك بمدة مناسبة حتى يتيسر جمع أكبر قدر ممكن منها.
7. برنامج ( الخيمة الرمضانية )، وهي خيمة دعوية تقام من أجل شغل أوقات الفراغ للشباب وملئها بالنافع ، مع إضفاء شيء من اللهو البريء والترفيه الرائع والنكتة النظيفة، ويمكن الاستفادة منها أيضاً في دعوة غير المسلمين إلى الإسلام، خاصة(115/452)
خارج بلاد المسلمين ، مع الاهتمام بتجهيزها بوسائل العرض المختلفة والهدايا المنتقاة بعناية.
8. حملة ( الإقلاع من التدخين )، وهي حملة تهدف إلى تذكير الناس بأن هذه عادة سيئة وضارة بالدين والخلق ، وأنه بالإمكان التخلص منه والصبر على تركه كما حصل في أكثر من نصف اليوم، ويمكن جمع هواتف جمعيات مكافحة التدخين وتصويرها بشكل مكبر ، مع التحدث عن هذا الموضوع بأسلوب علمي راقي وحجج عقلية قوية، ومن المناسب جلب صور مخيفة لآثر التدخين على الإنسان مع البعد عن ذوات الأرواح.
9. رمضان شهر القرآن ، فينبغي العناية بالقرآن فيه من خلال برامج كثيرة، منها:
- التنوع في الحلقات القرآنية للكبار والصغار والذكور والإناث ، والموظفين وغيرهم.
- عمل مسابقات في القرآن الكريم، إما بحفظ سورة معينة أو آيات لها فضائل أو وضع أسئلة على أجزاء القرآن.
- إلقاء كلمات منطلقة من آيات قرآنية وربط الكلمة بتلك الآيات.
- الاهتمام بإعجاز القرآن، سواء العلمي أو اللغوي أو البلاغي وتنبيه الناس على عظمة القرآن في هذا المجال.
10. عمل دورية لبضعة أيام عن كيفية إخراج الزكاة وأحكام ذلك ،خاصة في الأمور المالية المعاصرة، ويمكن استضافة العلماء والاقتصاديين للقيام بهذا الدورة مع دعوة التجار والمحسنين للاستفادة من هذا اللقاء.
11. العناية بمصلى النساء وتخصيصهن بحديث خاص بهن، واستضافة داعيات وطالبات علم لتذكير النساء بما يهمهن من أمور دينهن ، مع الاعتناء بقضايا تربية الأبناء وحقوق الزوج والمسائل الاجتماعية الأخرى.
12. إعداد مفكرة رمضانية تحتوي على مواعيد الأذان في هذا الشهر وأرقام الجمعيات الخيرية وجدول متابعة قراءة القرآن خلال الشهر ، وجدول آخر لتنظيم الوقت كل يوم ؛ وآخر لمواعيد الزيارات العائلية مع إلحاق برنامج الإذاعة في شهر رمضان.
13. إحياء مشروع استبدال الشريط الغنائي بشريط نافع ، وذلك بالإعلان عليه وتوفير البديل المتميز ، ويمكن أيضاً جمع الأشرطة النافعة المستغنى عنها وتوزيعها على من يحتاج إليها.
14. الاعتناء بأماكن إفطار الصائمين وتهيئتها بما تحتاجه كمصاحف بلغات مختلفة مع مراعاة الجالية ذي العدد الكبير ، وتوفير كتيبات منوعة وأشرطة كذلك, خاصة ما يتعلق بالعقيدة وبقية أركان الإسلام والأخلاق ، وطباعة آداب الأكل والشرب، وآداب الأخوة في بنرات كبيرة وتعليقها في مكان بارز ، وكذلك استضافة دعاة بلغات مختلفة لوعظهم وحثهم على أمور الخير.
15. طباعة ورقة متابعة قراءة القرآن الكريم ، وجبذا لو كانت باسم المسجد أو المركز وتخرج بإخراج جيد.(115/453)
16. تفعيل الطلاب المتميزين ، واقتراح برامج جادة عليهم كحفظ أحاديث الصيام من العمدة أو البلوغ مع شرح مختصر لها.
17. الترتيب المسبق ليوم العيد ، حيث يلتقي أهل الحي جميعاً في لقاء رائع تشع منه المحبة والألفة ، ولكي ينجح لابد من الحرص على الأمور التالية:-
- تجهيز المكان الخاص باللقاء - تحديد الموعد بدقة، بحيث يكون مثلاً بعد صلاة العيد بساعة مع التنبيه على أن وجبة الإفطار تجهز في المنازل بدون إسراف.
- ترتيب برنامج للعيد تكون منه الطرفة والقصة والسؤال واللقاء مع أحد أهل الحي ، مما يضفي على اللقاء رونقاً خاصاً به.
- إعداد هدايا لجميع أبناء الحي ذكوراً وإناثاً وخاصة الصغار منهم.
- طباعة بطاقة دعوة لأهل الحي لدعوتهم للقاء.
- توزيع هدية لكل منزل كإطار جميل فيه عبارة معايدة أو تقبل الله منا ومنكم مشفوعة باسم المسجد ، والعام الذي وزعت فيه.
وثمة قضايا تذكر بها الأسر المسلمة في هذا الشهر الكريم يحسن الاستفادة منها والعناية بهاء ومن ذلك:
1.حث الصغار على الصيام وتربيتهم عليه.
فقد ثبت في صحيح البخاري ومسلم عن الربيع بنت معوذ أنها قالت:كنا نصوم صبياننا الصغار ونذهب إلى المسجد ونجعل لهم اللعبة من العهن، فإذا بكى أحدهم على الطعام أعطيناه إياها حتى يكون الإفطار.
2. استغلال هذا الموسم في تعليمهم الآداب المتكررة فيه كآداب الأكل والشرب وآداب الضيافة والسلام والزيارة نظراً لكثرة الزيارات ودعوات الإفطار في شهر رمضان فيحسن تعليم الأبناء تلك الآداب ، فلم يعد مجدياً ولا نافعاً قول الوالدين للولد كن مؤدباً ما لم يجعله في قالب تعليمي تطبيقي.
3. حث الأبناء على التنافس في النوافل وتطبيق السنة كالسواك، السنن الرواتب، وقيام الليل، وتفطير الصائمين.
4. اصطحاب الأبناء لشراء أغراض رمضان ، وتعليمهم أصول الاقتصاد الشرائي من اصطحاب ورقة عند التسوق ، وعدم تناول ما كان مقابلاً للوجه من البضائع لغلائه في الغالب.
5. دع أولادك يكتبوا ملصقات رمضانية والتي تعلن مجيء الشهر، واتركهم يختارون كلماتها ويكتبونها بخطهم كـ(تسحروا فإن في السحور بركة)، (ومن صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه ) وغيرها.
6. ما أجمل أن يصطحب الوالد أولاده إلى أماكن مرتفعة _إن تيسر ذلك_ أو إلى الصحراء أو من خلال مراكز علمي للفلك لرؤية هلال رمضان.
7. تهيئة أماكن للعبادة وقراءة القرآن.
لقد أثبتت الدراسات أن تخصيص مكان محدد لفعل شيء محدد يأتي بنتائج مذهلة، وقد ثبت أيضاً عن سلفنا الصالح اتخاذ مصليات داخل بيوتهم للعبادة، فما رأيك بتحضير مكان للأسرة تلتقي فيه لقراءة القرآن تكون الجلسات فيه مريحة ومجهزة(115/454)
بعدد من حوامل المصحف بعدد أفراد الأسرة ، ويمكن أن تجمل الغرفة ببعض المزروعات لتضفي جواً أكثر روعة وجمالاً.
وقفة:أيها الوالدان الكريمان لا تجعلا اليوم الأول من الشهر يوماً عادياً فقوما بتهنئة أقاربكم، ودعوا الأولاد يشاركوكم الاتصال وأشيعوا التعاون بينكم جميعاً.
8. تكريم الصائم الجديد
هل في أسرتكم صائم جديد؟ كرموه وادفعوه إلى الخير، وجهزوا له هدية جميلة تشعره بأهمية العمل الذي يقوم به.
9. دع أبناءك يفكرون في مشروع خيري وينفذوه بأنفسهم كمساعدة أسرة فقيرة أو إعداد إفطار للصائمين أو المساهمة في إفطار المسجد وغيرها من المشاريع.
10. وضع جدول للتعاون الأسري، توزع فيه المهام على الأبناء على مدار الشهر ، بشرط أن تتغير المهام كل أسبوع فأحدهم عليه وضع سفرة الطعام والآخر إيقاظ إخوانه وهكذا، ويعلق هذا الجدول في مكن بارز ليعرف كل شخص مهامه ، وليتربى على المسؤولية.
11. هل تعلم مدى اعتناء أبنائك بقضايا المسلمين وهمومهم ؟ إذن دعهم يعدون معرضاً في إحدى غرف المنزل بعنوان ( الأقصى في قلوبنا ) ليذكروا المسجد ومعاناة إخوانهم هناك.
12 عمل مفكرة خاصة بالأولاد تضبط لهم أوقاتهم وتعينهم على ختم القرآن من خلال ورقة المتابعة مع كتابة بعض الوصايا لهم في أول المفكرة.
13. طبق الخير.
وهي فكرة منتشرة تقوم عليها الجمعيات الخيرية ، والاقتراح أن تقوم بها الأسرة متعاونة مع جيرانها في الحي فتعد كل أسرة عدداً من الأطباق، ويخصص مكان لتناول الصائمين هذا الطعام.
14 إجراء مسابقات على مستوى العائلة والأصدقاء ، تهتم بالقضايا التربوية والأسئلة المتنوعة التي تستهدف جميع شرائح الأسرة.
15. تفعيل فكرة: لوحة الإعلانات المنزلية لوضع الإعلانات المهمة للأسرة كموعد الأذان، وبرنامج زيارة الأقارب، والتذكير بمحاضرة أو لقاء عائلي أو حكمة وغيرها .
16 العمرة في رمضان لها أجر عظيم ، فلتحرص الأسرة عليها، والاستفادة من مدة السفر البري في الحوار مع الأبناء وشرح ما يهمهم كالعمرة مثلاً.
17 المكتبة الرمضانية.
كم هو جميل ورائع أن توفر جملة من الكتب والأشرطة المتعلقة برمضان ، تستفيد فيها الأسرة في أوقات فراغها, أو في اللقاء العائلي الخاص بها ، ويمكن أن يضاف للمكتبة مجموعة من المجلات الإسلامية النافعة المشِّوقة للأبناء.
18. شهر السنة.
إنها محاولة جادة من الأسرة ليكون الشخص الأول في حياتها هو رسول الله - صلى الله عليه وسلم- فتحرص على كل سنة نقلت عنه في هذا الشهر لتطبيقها من قبل الجميع كالإفطار على التمر وتعجيل الإفطار، وتأخير السحور ونحوها من السنن.(115/455)
19. رمضان فرصة للصلح بين الناس ، وغسيل قلوبهم من الأحقاد والضغائن ، فكن مبادراً للإصلاح بين متخاصمين أو لتصالح أخاً بينك وبينه خصومة ، فالدنيا أهون من أن يتحاسد فيها ويتهاجر ( ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث )، بل الهجر سبب في دخول النار ومنع مغفرة الله _تعالى_ للعبد فلا تتأخر يا مسلم يا من تخاف الله !!
20. ستمر بكم تجارب رائعة في تربيتكم لأسركم، فلنكتب هذه التجارب ولننشرها في المجلات الإسلامية ومواقع الإنترنت، وحبذا لو فتحت المواقع صفحات متعلقة بتجارب الناس في حياتهم.
أظهر عجزك بين يدي ربك, وأحضر قلبك معك ((فمن جمع الله عليه قلبه في الدعاء لم يرده))، وقدم عملاً صالحاً، فالدعاء بلا عمل كالقوس بلا وتر
أخي الكريم..أختي الفاضلة:
هذه جملة من المقترحات العملية التي تصلح لهذا الشهر أردت بذكرها التنبيه على غيرها من البرامج التي لا تخفى عليكم وليس المهم كثرة الأعمال بقدر القيام بها مع الإخلاص لله _عز وجل_ في عملها.
ولا يفوتني في آخر هذه الأسطر أن أذكر أخي المسلم في كل بقاع الأرض ممن شرفت بقراءته لهذه البرامج والمقترحات بأمور هي غير خافية عليه ، ولكن من باب التناصح والقيام بحقوق الأخوة بيننا، فإليك هذه الوصايا أهديكها من قلب محب لك يتمنى أن يراك أفضل مسلم في هذا الكون.
1. النية الصادقة والعزيمة القوية في اغتنام لحظات هذا الشهر، وعد هذا الشهر آخر شهر في حياتك لكي تنشط في العبادة ، وقد كان رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ يصلي بأصحابه، فيقول: صلوا صلاة مودع.
2. التقليل من الخلطة إلا لخير راجح وتعليم الناس والحرص على الجلوس إلى النفس كثيراً ومحاسبة النفس على ما مضى من العمر.
3. إذا بلغك شيء عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- فاعمل به ولو مرة تكن من أهله فشمر عن ساعد الجد في الاقتداء به - عليه الصلاة والسلام - بالحرص على سنته وتطبيقها وتعويد النفس عليها فصلاة الضحى والجلوس في المسجد إلى الشروق والسواك وكثرة الذكر والصدقة والإحسان أمور لا بد من أن تصطبغ حياة المسلم بها.
4. لازم إخوانك الصالحين واستفد منهم واملأ قلبك بحبهم والدعاء لهم وإصلاح ما بينك وبينهم لتشعر بلذة الطاعة وأنس القرب، وإلا كان للشيطان في قلبك نصيب فتحرم رقة القلب ودمع العين وسلامة الصدر وروح الأخوة.
5. للإحسان للناس طعم خاص في هذا الشهر فتحسس الفقراء وابحث عن الأرامل والمساكين واليتامى وسد حاجتهم وأعنهم في هذا الشهر من مالك أولاً ثم بمساعدة من أراد من إخوانك.
6. رسائل الجوال والبريد الإلكتروني لا تكلف إلا بضع هللات ، فكن أول المبادرين بتهنئة إخوانك وأقاربك يكن لك شرف السبق.(115/456)
7. وأخيراً:العناية بالدعاء وصدق اللجأ إلى الله _تعالى_، والتذلل بين يديه _سبحانه_ ((فليس شيء أكرم على الله من الدعاء)) وفي آخر آيات الصيام جاء قوله _تعالى_: "وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداعِ إذا دعان" فكان هذا درساً للصوام بأن يعتنوا بهذه العبادة العظيمة، فقد صح عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "أفضل العبادة الدعاء". وسئل علي بن أبي طالب - رضي الله عنه-: كم بين الأرض والسماء؟ فقال:دعوة مستجابة.
ولكي تكون دعواتنا مستجابة:
أظهر عجزك بين يدي ربك, وأحضر قلبك معك ((فمن جمع الله عليه قلبه في الدعاء لم يرده))، وقدم عملاً صالحاً، فالدعاء بلا عمل كالقوس بلا وتر.
فجِّرب أن تدعو عقيب دمعة من خشية الله ذرفتها, أو صدقة في ظلمة الليل بذلتها ، أو جرعة غيظ تحملتها وما أنفذتها, أو حاجة مسلم سعيت فيها فقضيتها.
وكن أخي على يقين بالإجابة، فقد صح عنه - صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة".
وتخير أوقات الطلب كوقت السحر، وبين الأذان والإقامة، ودبر الصلوات المكتوبات، وأثناء السجود، وآخر ساعة من الجمعة.
ثم الهج معي بهذا الدعاء لعل الله يقبلنا:-
اللهم ارحم ذلنا بين يديك، واجعل رغبتنا فيما لديك ، ولا تحرمنا بذنوبنا ، ولا تطردنا بعيوبنا، اللهم اجعلنا في هذا الشهر الكريم من عتقائك من النار.
اللهم آمين
ولا تنسني أخي – في كل مكان – من صالح دعائك
-------------------
جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية – كلية أصول الدين
ـــــــــــــــــــ
كيف نتخلص من الوهن ؟
فضل الله ممتاز
24/7/1426
ارسل تعليقك ...
تعليقات سابقة ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
إن المسلم الذي يدرك حقيقة الإيمان ومقتضياته يشعر بألم ومعاناة شديدة من جراء الوضع المؤسف الذي تعيش فيه الأمة الإسلامية اليوم عموماً ودعاتها خصوصاً، ولا يستطيع أن يقف موقف المتفرج من آلام الأمة وما تعاني من "ضعف" و "هوان" و "هزائم" متلاحقة من قبل أعداء الإسلام، ومع انتشار مرض الهوان كما ذكر في الحلقة الأولى، وبالتالي من واجبه الإيماني أن يبحث عن سبل الخلاص ويبذل كل ما أوتي من قوة وجهد في سبيل إخراج دعاة الأمة من هذه الحالة المتردية التي لا تتفق(115/457)
بحال من الأحوال مع ما أمرنا الله _تعالى_ ورسوله _صلى الله عليه وسلم_ من الأخذ بأسباب النصر والابتعاد عن مواطن الضعف والوهن واليأس.
وبما أن تشخيص الداء هو أول خطوة لمعالجة المرض ولن يكون الدواء نافعاً إلا بعد معرفة الطبيب لنوع المرض وأسبابه، فإن الدراسات التي تكشف عن مواطن الداء في بنية دعاة الأمة وتبين العلاج، لها فائق الأهمية وكبير الأثر في النهوض بالدعاة للخروج من القمقم لاحتلال مكانتها في الحياة وأداء دورها الرسالي الخالد في قيادة الأمة وأستاذية البشرية خاصة في العصر الذي انكشف زيف المناهج والمذاهب الوضعية التي أعلنت عن فشلها وإفلاسها في إسعاد البشرية أو وضع حد لمعاناتها المتزايدة بسبب بعدها عن منهج الله _تعالى_ .
إن المسلم الذي يدرك حقيقة الإيمان ومقتضياته، يشعر بألم ومعاناة شديدة من جراء الوضع المؤسف الذي تعيش فيه الأمة الإسلامية اليوم عموماً ودعاتها خصوصا
ولكي يتمكن الدعاة في هذه الأمة من تنظيم صفها الداخلي، ويتحرز من مواضع الضعف والهوان يضع نصب أعينها الخطوات التالية:
1. سلامة العقيدة:
فسلامة العقيدة أهم المهمات وأوجب الواجبات، العقيدة السليمة سبب للنصر والظهور والتمكين والاجتماع، العقيدة السليمة تحمي معتنقيها من التخبط والفوضى والضياع،وتمنحهم الراحة النفسية والفكرية, وتدفعهم إلى الحزم والجد في الأمور، تكفل لهم حياة العزة والكرامة.
والعقيدة في الإسلام هو الأساس الذي يقوم عليه بناء الإيمان في نفس الإنسان المسلم،ولا بد أن تظهر أثار العقيدة في سلوك الإنسان وأعماله.
فإذا كانت العقيدة راسخة في قلب الإنسان ونفسه نرى أثر هذه العقيدة في استقامة خلقه وسلامة تصرفاته وحسن معاملاته.
إذن العقيدة هي التي تصيغ الحياة إماً سلباً أو إيجاباً، وإذا أدركنا ذلك ندرك سر الاهتمام البالغ الذي أولاه الإسلام للعقيدة، فقد عالجت السور المكية قضية العقيدة في نفوس المسلمين معالجة عميقة بكافة جوانبها، ولذلك من الطبيعي جداً أن ينعكس أي ضعف أو خلل أو غبش يطرأ على عقيدة المسلمين وتصوراتهم ونظراتهم للأمور والأشياء أن ينعكس على سير الدعوة ويسفر عن ضعف ووهن وهزيمة أمام العدو في ميادين الدعوة.
وإن في غياب العقيدة السليمة تدخل الوساوس والهواجس القلوب ومن ثم يسيطر الخوف والوهن والرعب على النفوس، إذن فلا بد من الاهتمام الشديد بالجانب العقدي للدعاة وتربيتهم على العقيدة الصحيحة.
2. قوة الإيمان:
إن الإيمان بالله –سبحانه وتعالى- وما يتبعه من أمور عقدية أخرى وما ينبثق عن كل ذلك من تصور للوجود والحياة والكون هو أساس البناء الذي تقوم عليه شخصية المسلم، كما أنه الموجه الذي يوجه أفكار الإنسان المسلم وسلوكياته وتصرفاته.
والإيمان يجعل المسلم يخرج من دائرة المادة الضيقة، وهو الباعث للهمة والمقوي للإدراك، وكلما ضعفت إرادة العبد، ووهنت قوته أمده هذا الإيمان بقوة قلبية تتبعها(115/458)
الأعمال البدنية وكلما أحاطت به المخاوف كان هذا الإيمان حصناً حصيناً يلجأ إليه المؤمن، فيطمئن قلبه وتسكن نفسه، ومن هنا جاء اهتمام الإسلام بقوة الإيمان في نفوس أبنائه، فلا يرضى الإسلام أن يكون الإيمان في قلب المسلم ضوءاً خافتاً أو صوتاً مهموساً ولكنه يريده جذوة متقدة وضياء يغمر الآفاق, حتى يرشد الفكر ويوجه السلوك، ويسيطر على المشاعر ومن ثم يجعل الحياة كريمة سعيدة كما يريدها الإسلام.
وبما أن الإيمان أكبر مصدر للقوة في نفس المؤمن، فإن القلب الذي يملأ الإيمان أعماقه لجدير أن يثبت في العواصف والزلازل ويدفع صاحبه إلى مزيد من الصبر والاستقامة في مواجهة الشدائد.
3. الاستعانة بالله _تعالى_والشعور بمعيته:
ومن يستعين بالله _تعالى_ ويتوكل عليه في دعوته، ويشعر بمعيته وتأييده ليثبت مثل ثبوت الجبال الشامخات ولا يتزلزل أمام بهرجة الباطل والشوكة الزائفة لأهله، وهو من ثمار الإيمان الصادق بالله _تعالى_ يقول _تعالى_: "اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ" (البقرة:257)، وقال _تعالى_: "وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا"(الطور: من الآية48).
ومن كان بمعية الله مصحوباً، وكان بعين الله محفوظاً، فهو أهل لأن يتحمل المتاعب ويصبر على المكاره.
4. اليقين بحسن الجزاء:
فإن ما يحث المسلم على الدعوة إلى الله _تعالى_ ويثبته عليها، ويزيده رغبة فيها وحرصاً عليها أن يطمئن أنه مجزي عليها جزاءً مرضياً ومن هنا يشير القرآن الكريم أن المؤمنين ينتظرهم أحسن الجزاء من الله _تعالى_، وذلك حين يرجعون إليه ويقفون بين يديه فيعوضهم عن عملهم أكرم العوض ويمنحهم أعظم الأجر وأجزل المثوبة.
ولا نجد في القرآن شيئاً ضخم جزاؤه وعظيم أجره مثل الدعوة إلى الله والصبر عليها، فهو يتحدث عن هذا الأجر بأسلوب المدح والتضخيم، فيقول: " نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ"(العنكبوت:59).
وهو يبين أن الصابرين إنما يجزون بأحسن ما عملوا، فضلاً من الله ونعمة: "مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ" (النحل:96).
ولا شك أن يقين الإنسان المؤمن بحسن الجزاء وعظم الأجر عند الله _تعالى_ على البلية يخفف مرارتها على النفس، ويهون من شدة وقعها على القلب، وكلما قوي اليقين ضعف الإحساس بألم المصيبة(1).
الجرأة في الحق قوة نفسية رائعة يستمدها المؤمن الداعية من الإيمان بالله الواحد الأحد الذي يعتقده، ومن الحق الذي يعتنقه، ومن الخلود السرمدي الذي يوقن به، ومن القدر الذي يستسلم إليه، ومن المسؤولية التي يستشعر بها، ومن التربية الإسلامية التي نُشأ عليها(115/459)
5. اليقين بالفرج:
ومما يعين المسلم على العمل اليقين بأن نصر الله قريب وأن فرجه آت لا ريب فيه، وأن بعد الضيق سعة، وأن بعد العسر يسراً، وأن ما وعد الله به المؤمنين وما وعد به المبتلين من العوض والإخلاف لا بد أن يتحقق، فهذا اليقين جدير بأن يبدد ظلمة الوهن والقلق من النفس، ويطرد شبح اليأس من القلب، وأن يضيء الصدر بالأمل في الظفر، والثقة بالغد(2).
يقول الله _تعالى_: "فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرا ًإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً" (الشرح:6.5).
6. التحرر من عبودية غير الله:
الإنسان الذي يؤمن بأن الله هو المحيي والمميت، والنافع والضار، والمعطي والمانع، ويؤمن كذلك بأنه ليس للبشر مهما علا قدره وعظم شأنه أن يسوق إلى الإنسان ما أراد الله منعه أو يمنع عنه ما أراد الله أن يعطيه إياه مثل هذا الإنسان يتحرر من سيطرة الغير، قال _تعالى_: "وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَيَاةً وَلا نُشُوراً"(الفرقان: من الآية3).
فإيمان المسلم قوة عظمى يستعلي بها المؤمنين على كل قوى الأرض، وكل شهوات الدنيا، ويصبح حراً لا سلطان لأحدٍ عليه إلا لله، فلا يخاف إلا الله، ولا يذل إلا لله، ولا يطلب إلا من الله، ولا يأمل إلا في الله، ولا يتوكل إلا على الله، وإذا تعرضت حريته للخطر يدافع عنها ويستعد لأصعب المعارك لأجل الاحتفاظ بها.
7. الترفع عن الشهوات:
ولا شك أن الترفع عن الملذات والشهوات, والجهاد لأجل الخير والصلاح يعطي الداعية المسلم دافعاً قوياً في استمرارية دعوته لمكافحة الشر، والتطلع إلى المزيد من الخير والأجر ومن كان هذا دافعه ومحركه في الوقوف أمام الأعداء لمؤهل للنصر _بإذن الله_، حيث إن حب الخير والعمل له يجعل الإنسان لا يشبع منه يطلب المزيد ولا يتطرق الوهن إليه أبداً، ذلك أن التقلب في الترف والإغراق في النعيم يعد من أعظم الشواغل والقواطع التي تشغل صاحبها عن طلب الكمال وتقطع عليه طريق المجد والسؤدد، ثم إن الإغراق في النعيم ينبت في نفس صاحبه أخلاقاً مرذولة من نحو الجبن والخور، وقلة الأمانة، والإمساك في وجوه الخير، وذلك مما يورث الوهن وضعف الهمة، يقول الله _عز وجل_: "يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ" (لأعراف:31).
8. الاقتداء بأهل الصبر والعزائم:
ومما يعين الداعية في السير إلى الأمام: التأمل في سير العظماء الرجال من علماء ومجاهدين ومن كرماء وأبطال الصابرين، وما لاقوه من صنوف البلاء وألوان الشدائد، وبخاصة أصحاب الدعوات وحملة الرسالات من أنبياء الله ورسله المصطفين الأخيار، الذين جعل الله من حياتهم وجهادهم دروساً بليغة لمن بعدهم ليتخذوا منها أسوة، ويتعزوا بها عما يصيبهم من متاعب الحياة وأذى الناس، يقول الله _تعالى_: "فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ"(الاحقاف: من الآية35)، وأمتنا الإسلامية على مر عصورها لم تخل من نماذج عظيمة وقمم(115/460)
سامقة، سواء في ميادين العلم والعبادة أو ميادين الجهاد والدعوة أو ميادين العطاء والتضحية وسجل لهم التاريخ مواقفهم الثابتة كي يقتدى بهم.
9. مصاحبة الأخيار وأهل الهمم العالية:
فهذا الأمر من أعظم ما يبعث الهمم ويربي الأخلاق الرفيعة في النفس, فالإنسان مولع بمحاكاة من حوله شديد التأثر بمن يصاحبه.
والصداقة الشريفة تشبه سائر الفضائل من رسوخها في النفس وإيتائها ثمراً طيباً في كل حين، فهي توجد من الجبان شجاعاً، والبخيل سخاء، فالجبان قد تدفعه قوة الصداقة إلى أن يخوض في خطر ليحمي صديقه من نكبة عندما تشتد المحن وتتفاقم الفتن، وتقبل الشدائد كأمواج البحر وتأخذ بخناق المؤمنين وتزيغ الأبصار وتبلغ القلوب الحناجر ويظن الناس بالله الظنون، ويبتلى المؤمنون ويزلزلوا زلزالاً شديداً، فإذا كان الأمر كذلك فما أجدر الداعية أن يبحث عن إخوان ثقات وأبطال حتى يعينوه في هذه اللحظات الحاسمة في حياته(3).
قال ابن حزم –رحمه الله-: من طلب الفضائل لم يساير إلا أهلها، ولم يرافق في تلك الطريق إلا أكرم صديق من أهل المواساة والبر والصدق وكرم العشيرة والصبر والوفاء والأمانة والحلم وصفاء الضمائر وصحة المودة(4).
10. الجرأة في قول الحق:
الجرأة في الحق قوة نفسية رائعة يستمدها المؤمن الداعية من الإيمان بالله الواحد الأحد الذي يعتقده، ومن الحق الذي يعتنقه، ومن الخلود السرمدي الذي يوقن به، ومن القدر الذي يستسلم إليه، ومن المسؤولية التي يستشعر بها، ومن التربية الإسلامية التي نشأ عليها.
وعلى قدر النصيب المؤمن من الإيمان بالله الذي لا يغلب، وبالحق الذي لا يُخذل، وبالقدر الذي لا يتحول، وبالمسؤولية التي لا تكل، وبالتربية التكوينية التي لا تمل بقدر هذا كله يكون نصيبه من الجرأة والشجاعة وإعلان كلمة الحق التي لا تخشى في الله لومة لائم(5).
وهذا هو وصف الصفوة المختارة لحمل الرسالة والدعوة في كل عصر يفلت فيه الناس من المسؤولية ويتخلون عن التبعية، يقول الله _تعالى_: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ" (المائدة:54)
___________________
(1) الصبر في القرآن الكريم للدكتور يوسف القرضاوي ص 95-96.
(2) الصبر في القرآن الكريم ص 97-98.
(3) الهمة العالية ص 27.
(4) الأخلاق والسير لابن حزم ص 24-25.
(5) صفات الداعية النفسية لعبد الله علوان ص 23.
ـــــــــــــــــــ
من آفات الدعاة: الوهن أسبابه ومظاهره(115/461)
فضل الله ممتاز
13/7/1426
ارسل تعليقك ...
تعليقات سابقة ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
يتعرض الفرد والأمة دائماً وباستمرار إلى عوارض متعددة وظروف طارئة، ويتفاوت أثر ذلك بحسب طبيعة المؤثر
الجديد وبنيان الفرد والأمة والعوامل المساعدة، وقد ينتاب الفرد أو المجتمع مرض عارض ويزول بسرعة دون أن يترك أثراً ما وقد يصاب الفرد بمرض معين فيقتصر عليه ولا يمتد إلى المجتمع ولا تحس الأمة به، وقد يتحول من الفرد إلى المجتمع فيصبح مرضاً قاتلاً ووباءً فتاكاً، ومن هذه الأمراض الفتاكة التي يشترك فيها الفرد والمجتمع وتنذر الأمة بالويل والدمار مرض الوهن.
الوهن: هو الضعف في العمل والأمر والعظم، ورجل واهن: أي ضعيف في الأمر والعمل(1)
جاء ذكر الوهن ومشتقاته في القرآن الكريم عشر مرات وجاء المعنى المقصود به الوهن هو الضعف ودعم التمسك وقد ضرب الله مثلاً يوضح به الضعف في صورة مادية ملموسة ومرئية لبيت العنكبوت فقال: "مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ" (العنكبوت:41) فمجرد الالتجاء إلى غير الله _تعالى_ ضعف كالالتجاء العنكبوت إلى بيتها، والعنكبوت حشرة ضعيفة لا قوة لها ولا حماية وبيتها من عملها فالضعف لا يولد قوة فبيتها أضعف البيوت لأنه لا يدفع عنها حراً ولا برداً ولا أذى.
يتعرض الفرد والأمة دائماً وباستمرار إلى عوارض متعددة وظروف طائرة ويتفاوت أثر ذلك بحسب طبيعة المؤثر
الجديد وبنيان الفرد والأمة والعوامل المساعدة وقد ينتاب الفرد أو المجتمع مرض عارض ويزول بسرعة دون أن يترك أثراً ما وقد يصاب الفرد بمرض معين فيقتصر عليه ولا يمتد إلى المجتمع ولا تحس الأمة به
واستعمل القرآن الكريم أيضاً الوهن بمعنى الضعف المعنوي فبعد هزيمة المسلمين في موقعة أحد وجه الله لهم الخطاب بعدم الضعف النفسي من أثر الهزيمة وعدم التمادي في الحزن على الشهداء، قال _تعالى_: "وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ" (آل عمران:139) فمداولة الأيام وتعاقب الشدة والرخاء محك لا يخطئ وميزان لا يظلم والرخاء في هذا كالشدة وكم من نفوس تصبر للشدة وتتماسك، ولكنها تتراخى بالرخاء وتنحل والنفس المؤمنة هي التي تصبر للضراء ولا تستخفها السراء وتتجه إلى الله _تعالى_ في الحالين وتوقن أن ما أصابها من الخير والشر فبإذن الله.(115/462)
وقال رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ عن الوهن وأسبابه: "يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟ فقال: بل أنتم يومئذ كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم وليقذفن في قلوبكم الوهن قال قائل: يا رسول الله وما الوهن؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت"(2).
وتعريف الوهن في هذا الحديث (حب الدنيا وكراهية الموت) فالعقوبة عقوبتان العقوبة الأولى انتزاع المهابة والعقوبة الثانية عقوبة الوهن هاتان العقوبتان من الله _تعالى_ الذي جعل المتخاذلين من المسلمين في كل المجالات في موضع الغثائية لا قيمة لهم تتقاذفهم أمواج المجتماعات المتحلقة من حولهم، وكل ذلك نتيجة الخواء والاستفراغ والتآكل الهيكلي للجسم المسلم فبعد أن كان ذو وزن وقيمة يخافه الناس مهابة وإجلالاً وتقديراً أصبح جسداً هيكلياً هشاً نحيفاً شاحباً تتدافعه الصيحات والأيدي، فالذي أوصل لمرض الغثائية ما هو إلا الاستجابة للدنيا بكل صيحاتها الاستجابة للنفس والهوى وللنساء وللمال وللمنصب والجاه ... وعدد ما شئت من المغريات والملهيات وهذا واضح في قول الله _تعالى_: "زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ" (آل عمران:14) وهذه الآية الكريمة تجمع كل ما يحتويه تعبير (حب الدنيا).
ونشأ عن مرض الوهن الحرص على تحصيل الدنيا بكل وسيلة وعلى جمعها بكل سبب وأصبح كل إنسان لا يهمه إلا نفسه وما يتعلق ببلاده وإن ذهب دينه ولهذا المرض العضال أسباب ومظاهر يمكن التحرز والابتعاد منه بعد معرفة تلك الأسباب والمظاهر الخطيرة المؤدية إلى إصابة الإنسان بداء الوهن وأهمها(3):
1- ضعف الإيمان:
فالإيمان جذوة تتقد في قلب الداعية فتقوده إلى كل خير وتنأى به عن كل شر فإذا ما ضعف الإيمان أو فقد فإن صاحبه لن يبالي بالمكرمات ولن يسعى للمعالي.
ثم إن ضعف الإيمان أو فقده أعظم ما يقرب الداعية ليرمي به في مستنقعات الوهن ويقلل بركة عمره وعلمه وعمله، فالإيمان بالله -عز وجل_ وبقدره خيره وشره وما أعدّه للمؤمن من الأجر والمثوبة أساس كل أمر يقوم به الداعية.
2- ضعف الغيرة على الحق:
فالغيرة الصادقة تبعث صاحبها إلى الفضائل وتنهض إلى محاربة الفساد بكل صوره وتأخذ بيده إلى مكافحة المبطل أو المفسد وتقويم عوجه في تثبيت وحزم.
أما ضعف الغيرة على الحق أو فقدها فنقيصة خطيرة تنزل بالداعية إلى الوقوع في الآفات كالوهن والكسل في الدعوة والخوف وغيرها.
3- الكسل في الدعوة.
وهذا من أعظم مظاهر الوهن فكم من المسلمين من يتوانى في الدعوة إلى الله مع أنه على درجة كبيرة من العلم والبيان تؤهله لنفع الناس والتأثير فيهم ودفع الضرر عنهم.(115/463)
وكم ممن يدعو إلى الله من تضعفه نفسه ويصيبه الوهن وينكص على عقبيه عند أدنى عقبة تعترضه، إما من كلام الناس ولومهم وإما عن إعراضهم وقلة استجابتهم أو غير ذلك مما لا بد لمن يدعوا إلى الله من مواجهته والاستعداد التام لدفعه.
أين هؤلاء الدعاة من حياة الأنبياء والمرسلين ومن حياة العلماء العاملين والدعاة المخلصين؟
بل أين هم من العلمانيين ودعاة الانحلال والرذيلة والغرام والغزل ممن يضحّي واحدهم بكل ما عنده في سبيل الوصول إلى هدفه غير مبال بلوم اللائمين مع أنكم يا معشر الدعاة ترجون من الله مالا يرجون؟
4- التفريط في عمل اليوم والليلة:
التفريط هو التقصير في الأمر وتضييعه حتى يفوت وفي التنزيل: "أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّه" (الزمر: من الآية56) أي أنيبوا إلى ربكم وأسلموا له مخافة أن تصير إلى حال الندامة للتفريط في أمر الله.
وعندما يتلطخ ويتدنس الداعية_ والعياذ بالله _ فيصيبه الوهن ويكون غير محترس أو متحرز من المعصية لا سيما الصغائر تلك التي يستهين بها كثير من الناس ولا يولونها رعاية أو أهمية، وحينئذ فلا بد من العقاب ويكون العقاب بأمور كثيرة من بينها الإصابة بآفة الوهن والتفريط في عمل اليوم والليلة والتكاسل في أداء العبادات فيتكاسل في أدائه للوظائف العبادية التي ينبغي للمسلم الحفاظ والمواظبة عليها في اليوم والليلة حتى يخرج وقتها وتفوت مثل النوم عن الصلاة المكتوبة، ومثل إهمال النوافل الراتبة أو صلاة الوتر أو تضييع الورد القرآني والأذكار والدعاء أو المحاسبة لنفس والتوبة والاستغفار أو التخلف عن الذهاب إلى المسجد وعدم حضور الجماعة بغير عذر ولا مبرر أو إهمال عبادات أخرى أو إهمال الآداب الاجتماعية من عيادة المرضى وتشييع الجنائز والسؤال عما في الناس ومشاركتهم أحوالهم في السراء والضراء .. إلى غير ذلك من الطاعات والعبادات(4). فما يصيب الإنسان من وهن وما تصيبه من مصيبة فبما كسبت يداه يقول الله _تعالى_: "وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ" (الشورى:30)
5- الاستعجال:
ولا بد للمسلمين عامة ولحملة الدعوة خاصة أن يعتصموا بالصبر ويحذروا من الاستعجال فالنفس مولعة بحب العاجل والإنسان عجول بطبعه كأنه المادة التي خلق الإنسان منها قال _تعالى_: "خُلِقَ الْإنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ" (الأنبياء: من الآية37) فإذا أبطأ على الإنسان ما يريده نفد صبره وضاق صدره ناسياً أن لله في خلقه سنناً لا تتبدل وأن لكل شيء أجلاً مسمى، وأن الله لا يعجل بعجلة أحد من الناس ولكل ثمرة أوان تنضج فيه فيحسن عندئذ قطافها والاستعجال لا ينضجها قبل وقتها فهو لا يملك ذلك، وهي لا تملكه ولا الشجرة التي تحملها إنها خاضعة للقوانين الكونية التي تحكمها وتجري عليها بحساب ومقدار، ولهذا خاطب الله رسوله بقوله: "فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ" (الأحقاف: من الآية35)
6- اليأس:(115/464)
وهذا عامل آخر يجر الداعية إلى الوهن ويقع فيه كثير من الدعاة فهو من أعظم الآفات التي تعوق الدعوة فإن اليأس لا صبره له لأنه يدفع الزارع إلى معاناة مشقة الزرع وسقيه وتعهده هو أمله في الحصاد فإذا على قلب وأطفأ شعاع أمله لم يبق له صبراً على استمرار العمل في أرضه وزرعه وهكذا كل عامل في ميدان عمله وصاحب الدعوة والرسالة كذلك ولهذا حرص القرآن الكريم على أن يدفع الوهن عن أنفس المؤمنين فبذر الأمل في صدورهم: "وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ" (آل عمران:139) وقال _تعالى_: "فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ" (محمد:35).
ولما أمر موسى _عليه السلام_ قومه بالصبر إزاء طغيان فرعون وتهديده أضاء أمامهم شعلة الأمل فقال: "قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ" (لأعراف:128).
ولما شكا خباب بن الأرت _ رضي الله عنه _ إلى النبي _صلى الله عليه وسلم_ ما يلقى من أذى المشركين شكوى تحمل الضيق والتبرم ضرب له النبي _صلى الله عليه وسلم_ مثلاً بما لقيه المؤمنون في الأزمنة الماضية ثم طرد عن قلبه اليأس وزرع فيه الأمل الخصب حين أخبره أن الله سيُتم هذا الأمر حتى يسير الراكب من أقصى الجزيرة إلى أقصاها لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه!!
وما ذلك إلا لأن الأمل أكبر معين على الصبر على طول الطريق ومشقاته وأن اليأس من أقرب الطرق إلى الوهن(5).
7- قلة الصبر:
لا شك أن أهل الإيمان وأهل الدعوة أشد تعرضاً للأذى والابتلاء في أموالهم وأنفسهم وكل عزيز لديهم فقد اقتضى نظام الكون أن يكون لهم أعداء يمكرون بهم ويكيدون لهم ويتربصون بهم الدوائر كذلك جعل الله لآدم إبليس ولإبراهيم نمرود ولموسى فرعون ولمحمد أبا جهل وأمثاله "وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ" (الفرقان: من الآية31).
فمن ظن أن طريق الدعوة مفروشة بالأزهار والرياحين فقد جهل طبيعة الإيمان بالرسالات وطبيعة أعداء الرسالات.
ولعل هذا الحسبان أو الوهم داخل نفوس بعض المؤمنين في العهد المكي بعد أن أصابهم من العذاب ما أصابهم فنزل قوله _تعالى_: "أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ" (العنكبوت:2)
بل في العهد المدني نجد أن القرآن ينفي مثل هذا الحسبان الواهم في مثل قوله _تعالى_: "أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ" (البقرة:214).
الجنة إذاً لا بد لها من ثمن وهي سلعة غالية فلا مضر من الثمن وقد رفعه أصحاب الدعوات من قبل فلا بد أن يدفعه إخوانهم من بعد دون أن يتطرق الوهن في قلوبهم.
8- المبالغة في تعظيم شأن الخوف:(115/465)
فهذا السبب من أكبر الأسباب الداعية لإصابة الإنسان بالوهن فكم من الدعاة من أقصره الخوف عن الدخول في ميادين الدعوة وللقرآن الكريم أبلغ الكلم في تصوير حال الجبناء فلننظر إليه إذ يصفهم ويرينا كيف يذوقون موجات الفزع المرة بعد الأخرى فيقول "يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ" (المنافقون: من الآية4).
ويرينا كيف يظهر أثر الجبن في أبصارهم إذ يقلبونها وهم في ذهول من أدركه الموت، فيقول: "أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ"(الأحزاب: من الآية19).
كما أن القرآن الكريم نعى على الجبناء ونبّه على أنهم قد فقدوا جانباً في رجولتهم قال _تعالى_ في توبيخ قوم تأخروا عن الجهاد في سبيل الله وقعدوا مع من لم يُخلقن للطعن والضرب: "رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ" (التوبة: من الآية87).
فهذا الخوف الذي ذكر خوف سلبي مانع من الدعوة ولهذا صح أن يكون سبيلاً إلى الوهن والفتور(6).
9- المبالغة في احتقار النفس:
فكثير من الدعاة مصابون بهذا الداء فالواحد من هؤلاء يبخس حظه ويبالغ في احتقار إمكانياته ولا يثق في نفسه البتة بل يرى أنه دون مستوى القيام بالدعوة وأنه لا قيمة لدعوته ولا أمل في نجاحه ولا يمكن أن يصدر منه عمل عظيم يسد ثغرة في ميدان الدعوة فهذا شعور بالوهن والضعف وصغر الشأن ومن شأنه أن يقتل الطموح ويفقد ثقة الداعية بنفسه فإذا هو أقدم على عمل شك في مقدرته وارتاب في إمكان نجاحه(7).
ومن طبيعة الناس أنهم يحتقرون من احتقر شأنه ويدوسون بأقدامهم من استذل وفي الوقت نفسه يحترمون المقدام الواثق من نفسه العالم بقدرها فالثقة بالنفس فضيلة وشتان بينها وبين الغرور الذي يعد رذيلة فثقتك بنفسك أيها الداعية تعني معرفتك الصحيحة بها وبمقدار ما تتحمله من أعباء الدعوة الإسلامية وما تلتزمه من واجبات، وكذلك عملك بما لديها من استعداد وملكات ومواهب حتى تتمكن من القضاء على الأوهام التي تعوق طريق دعوتك(8).
10- التقصير في الأخذ بمقومات النجاح:
إن التقصير في الأخذ بمقومات النجاح وأسباب الفلاح قد يؤدي إلى تسليط الوهن وسيطرته على القلوب ومن ثم إلى الفشل والإخفاق ويتولد من أثر ذلك بعض المفاهيم والأعمال الخاطئة فيسرع الرجل إلى الإعراض والنفور من الناس وبدلاً من أن يصبر أو ينقذ نفسه ويغير أسلوبه ويعالج خطأه نراه يلقي باللائمة على الناس ويحكم عليهم بالفساد والاستعلاء عن الحق وأنهم أعداء لله ولرسوله _صلى الله عليه وسلم_ ونحو ذلك مما حذر منه النبي _صلى الله عليه وسلم_ في حديثه الصحيح الذي قال فيه: "إذا قال الرجل: هلك الناس فهو أهلكهم"(9).
فلا بد من إعداد العدة البدنية والمادية والمعنوية وسائر أنواع العدة من جميع الوجوه حتى نستغني بما أعطانا الله _سبحانه وتعالى_ من الأسباب لنجاح دعوتنا.
11- صحبة الأشرار ومرافقة المخذلين والسفهاء:(115/466)
ومن الأسباب المهمة التي تؤدي إلى تحكم الوهن في تصرفات الداعية هي صحبة أشرار الناس ومرافقة المخذلين والسفهاء فالصحبة السيئة تحسن القبيح وتقبح الحسن وتجر المرء إلى الرذيلة وتبعده عن كل خير وفضيلة ذلك أن المرء يتأثر بعادات جليسه فالصاحب ساحب.
ثم إن مجالسة الخذلين ومرافقتهم تنساق بصاحبها إلى الحضيض فكلما هم بالصعود عوقوه عن همته وثنوه عن عزمه تارة بالتخذيل وتارة بالتخويف وتارة بوضع العراقيل.
وقد صدق من قال:
وأشد ما يلقى الفتى من دهره ... ...
فقد الكرام وصحبة اللؤماء(10)
ومن الناس من إذا ابتلى بسيفه ساقط لا خلاق له. أخذ يجاريه في قيله وقاله مما يجعله عرضة لسماع مالا يرضيه من قبيح القول ورديئة فيصبح مساوياً للسفيه في سفهه إذ نزل إليه وانحط في مرتبته(11)
إذا جاريت في خلق دنيئاً ... ...
فأنت ومن تجاريه سواء(12)
وهناك أسباب أخرى كثيرة لتسلط الوهن على الداعية لا يسعنا ذكرها هنا بالتفصيل ومنها:
التهرب من المسؤولية، والتكلف والتصنع، والاشتغال بما لا يعني والانصراف عما يعني, والتحسر على ما مضى وكثرة التلاوم وقلة العمل، وكثرة الشكوى إلى الناس، والاسترسال مع الأماني الكاذبة، والتردد في أمور الدعوة وغيرها.
فالمقصود من ذكر ما تقدم هو تحقيق غاية الدعوة، والبعد عن الأسباب التي تقف أمام الداعية، فيجب الإقلاع عن تلك المظاهر والوسائل المؤدية إلى غرق سفينة الدعاة.
__________________
(1) المعجم الوسيط 2/1060
(2) رواه أبو داود في كتاب الملاحم, باب تداعي الأمم على الإسلام, والإمام أحمد في المسند برقم 21363
(3) راجع على سبيل المثال: عدة الصابرين لابن القيم الجوزية، وأدب الدنيا والدين للماوردي، ورسائل الإصلاح لمحمد الخضر حسين، والهمة العالية لمحمد بن إبراهيم الحمد.
(4) الجواب الكافي لابن القيم الجوزية ص 74
(5) راجع كتاب المحن للتميمي، والصبر في القرآن للدكتور يوسف القرضاوي ص 113
(6) الهمة العالية ص 78-79
(7) الهمة العالية ص 77-78
(8) الهمة العالية ص 77-78
(9) أخرجه مسلم في كتاب البر والصلة والآداب, باب النهي عن قول هلك الناس صحيح مسلم بشرح النووي 13/175(115/467)
(10) ديوان البارودي ص 31
(11) الهمة العالية ص 62-74
(12) ديوان أبي تمام4/296
ـــــــــــــــــــ
الإجازة ..وقفات تربوية
موقع المسلم
28/6/1426
ارسل تعليقك ...
تعليقات سابقة ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
لم يمض وقت طويل على انتهاء الامتحانات النهائية في المدارس حتى دبت في المنازل والشوارع والمطارات حركة
من نوع آخر، حركة تعلن انتهاء وقت العمل وبدء وقت الإجازة.
مكاتب حجوزات السفر بدأت تضج بالباحثين عن حجز لمغادرة البلاد، وشوارع كانت تزخر بالأمس بسيارات تثقلها الزحمة باتت اليوم شبه خالية، ومكتبات كانت عامرة قبل أيام نامت اليوم لندرة مرتاديها.
إنها الإجازة الصيفية التي ينتظرها معظمنا بفارغ الصبر، ويحلم ويخطط لها طوال الأشهر التسعة التي يلزم فيها معظم الناس منازلهم دعماً لأبنائهم الدارسين، والتزاماً بالعمل والحركة النشيطة في المدينة.
وفيما يكتب للبعض التمتع بإجازته في مدينة أخرى داخلية أو خارجية، يكتب للبعض الآخر البقاء في منازلهم، بسبب ظروف معينة، أو لعدم هوايتهم للسفر، وبين هذا وذاك، تمضي الأيام الصيفية الحارة في إجازة من الدراسة. يستغلها الآباء لأخذ إجازاتهم السنوية مسايرة لإجازات أبنائهم.
إنها الإجازة الصيفية التي ينتظرها معظمنا بفارغ الصبر، ويحلم ويخطط لها طوال الأشهر التسعة التي يلزم فيها معظم الناس منازلهم دعماً لأبنائهم الدارسين، والتزاماً بالعمل والحركة النشيطة في المدينة
الكل يبحث عن أقصى حدود المتعة والسعادة المشروعة للاستمتاع بها في الصيف، البعض يلتمسها في مكة المكرمة والمدينة المنورة، والبعض الآخر يراها في رحلة سياحية خارج البلاد، وآخرون يرونها في الالتزام بالمساجد والالتحاق بدورات تحفيظ القرآن والأحاديث، ويراها غيرهم في زيارة مدن داخلية، أو زيارة الأقارب، أو التمتع بإجازة على البحر، أو في مدن الألعاب والمطاعم... إلخ.
ولكي لا تتحول إجازاتنا السعيدة إلى أيام حزينة، تؤثر في حياتنا بشكل سلبي، يجب على كل أسرة أن تبتعد قدر المستطاع عن بعض المحاذير والأخطاء التي قد يرتكبها البعض، والتي عاشها عن طريقة تجربة سابقة، أو سمعوا بها، أو شاهدوها تحدث أمام أعينهم.(115/468)
أخطاء شرعية:
جاءت الإجازة الصيفية وجاء معها لمن بُغت بها الفراغ.
وقد تتساءل أيعقل أن يبغت بالإجازة إنسان علم بموعدها منذ بدء العام! منذ نحو سنة؟
نقول: نعم! وهل يبغت الناس إلاّ بما يعلمون وقوعه وجريانه على بني الإنسان؟ فكم سمعت بإنسان مات بغتة... بعد أن عاش طويلاً!
فمثل ذلك الذي بغت بالموت، صاحبنا المبغوت بالإجازة، والجامع المشترك هجوم الموت وكهجوم الفراغ على من لم يحسن الاستعداد لهما.
وقد قيل:
إن الشباب والفراغ والجدة ... ...
مفسدةٌ للمرء أي مفسدة
ففي فضاء الفراغ تنتشر الأخطاء والمحاذير، ولعل من أبرزها في مجامعاتنا ما يلي:
- كثرة الخوض فيما لا يعني والتفكه بمن لا ينبغي التفكه به من الأعراض والأشخاص، فكم من رجل وكم من امرأة علقت في المجالس الساهرة تلوك لحمها الألسنة، يساعد على ذلك الفراغ إذ الليل طويل وفي الوقت متسع ولا شيء وراءك غداً!
- ومنها السفر إلى بلاد الكفر في الشرق والغرب بغية الترفيه! وما درى من شد الرحل إلى تلك البقاع المشبوهة بأن نبينا _صلى الله عليه وسلم_ بريء من كل مسلم أقام بين ظهراني المشركين. على ما في السفر إليهم من بذل الأموال لهم والإسهام في انتعاش اقتصادهم، مع عدم السلامة من نظرة فاتنة، أو كلمة آثمة في أقل الأحوال.
- ومن الأخطاء السهر إلى أوقات متأخرة من الليل في غير طاعة، ثم النوم عن صلاة الفجر دون أن يأسف كثيرون على تضيعها، وما كان وسيلة إلى الحرام يفضي إليه في الغالب فهو حرام.
- ومن المحاذير التي تقارف في الإجازة الذهاب إلى أماكن يكثر فيها الاختلاط ، ولا يراعى فيها الفصل بين الرجال والنساء، أو تعم فيها المنكرات والمخالفات الشرعية بحجة الترفيه في بلد إسلامي، وقد كان لهؤلاء في الحلال الطيب غنية، ومن ترك شيئاً لله عوضه الله خير منه.
- ومن أخطائنا في الإجازة الإسراف في الترفيه ولو بالحلال الطيب، بينما أكباد المسلمين في المشارق والمغارب جائعة، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: "وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً" [الفرقان:67].
- ومن المحاذير مرور الإجازة على كثيرين بغير فائدة، والإنسان إذا لم يكن في زيادة فهو في نقصان، وقد أمر الله _تعالى_ فقال: "وإذا فرغت فانصب"، وقال _صلى الله عليه وسلم_: "لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمر فيما أفناه، وعن علمه ماذا عمل فيه، وعن ماله من أين اكتسبه، وفيما أنفقه، وعن جسمه فيما أبلاه".
الصيف والدراسة :(115/469)
قد يظن الكثير من الطلاب وآبائهم أن الإجازة هي فسحة للابتعاد عن الدراسة والثقافة والعلم، وأنها فرصة ليتخلى الطالب عن أي شيء له علاقة بالعلم.
إذ يلاحظ على الطلاب هجرانهم للقراءة والاطلاع بمجرد انتهاء الاختبارات وحلول الإجازة، وسبب هذا يعود إلى أن الطالب لم يدرك أهمية القراءة والاطلاع ودورها في بناء شخصيته وتنمية ثقافته، فالطالب من نعومة أظفاره يطلب منه أن يذاكر دروسه فقط ، فلم تقدم له قصة جميلة لقراءتها أو كتيب صغير لقراءته والاستفادة منه فيبًرمج الطالب على أن يحصر قراءته واطلاعه على دروسه فقط، وهذا خطأ كبير يجعل الطالب محدود الفكر والاطلاع.
والحل يمكن في تعويد الطالب منذ صغره على القراءة فتقدم له القصص الجميلة الهادفة ليقرأها، ثم بعد ذلك وبعد تقدم عمره تقدم له الكتيبات التي تناسبه ... وهكذا، بهذا التدرج يتمكن حب الكتاب وحب القراءة في قلبه فلا يستطيع أن يتركها فتزيد ثقافته وتتكون شخصيته فينفع أمته _بإذن الله_.
كما أن المدارس لا تعنى بتقديم كتيبات خاصة للطلاب تطلب منهم أن يقرؤوها أثناء العطلة الصيفية، أو تدعمهم في زيارات للمكتبات العامة الكثيرة في البلد، والتي تضم آلاف العناوين والكتب، تبقى حبيسة الرفوف والخزن، لذلك عليها مسؤولية أيضاً في تشجيع الطلاب المتابعة والقراءة والاطلاع.
يجب أن يعلم الطلاب وآباؤهم أن المدرسة ليست المنهل الوحيد للعلم، وليست فصولها الأوقات الوحيدة لمتابعة الدروس بالعكس، يوجد الكثير من المشاريع العلمية التي يصعب إجراؤها في أوقات الدراسة، بسبب انشغال الطلاب بالتحصيل العلمي الإلزامي.
لذلك، فعلى الطلاب أن يعلموا أن الصيف هو وقت مناسب لتناول العلوم الأخرى، مثل: الاطلاع على بعض الكتب الخاصة بهواية وميول كل شخص.
إن معظم طلاب المدارس لديهم ميول شخصية نحو علم أو أحد فروعه، إلا أن هذه الميول يتم تجنبها في المدارس التي تتبع نظاماً تعليمياً موحداً، وعليه فإن الطالب الموهوب أو صاحب الميول الخاصة لن يجد ضالته في تلك المدارس، التي أنشأت لرفع المستوى التعليمي والثقافي للطلاب بشكل عام.
لذلك يجب أن يستغل وقت الصيف من أجل إشباع ميوله الخاصة، ومتابعة ما فاته من علوم تتعلق بهوايته.
كأن يكون البعض مهتماً بالعلوم التكنولوجية، وتشكل العطلة الصيفية فرصة جيدة لا تباع دورة في الحاسب، أو استخدام الحاسب الآلي في المنزل بشكل مستمر، أو تجريب بعض البرامج الجديدة.
وبعض الطلاب يكون لديهم ميولاً نحو تعلم اللغة الإنكليزية، فيمكن اتباع دورة لتقوية اللغة الإنكليزية خلال العطلة الصيفية.
والبعض الآخر لديه ميول نحو المعلومات التاريخية والتراثية، وبإمكانه أن يقضي وقتاً مفيداً في العطلة بزيارة المتاحف والآثار المختلفة داخل وخارج مدينته، وأن يقرأ في كتب التاريخ والسير ونحوها.(115/470)
وطالما أن الطالب يبقى أسير أحلامه الخاصة في تمضية إجازة "سعيدة وهادئة"، فإنه يطفئ شعلة الاهتمام في قلبه من غير إدراك منه، لهذا يجب على الآباء أن يحرصوا كل الحرص أثناء الإجازات على متابعة ما يهواه ابنهم. خاصة وأن دور المدرسة خلال العطلة الصيفية معطل، وتنحصر المسؤولية كلها على الأهل.
العلوم الشرعية والصيف :
يحظ ديننا الإسلامي على استغلال الوقت بالطاعات والعبادات، فالوقت مسؤول عنه الإنسان، وفي الصيف يطول النهار، وتمضي ساعاته بطيئة على كل عاطل عن العمل أو مهمل، فيما تقفل المدارس وتعطّل العديد من الأنشطة في المدن، وتتغير حال المدينة بشكل عام.
إلا أنه _ولله الحمد_، فإن الكثير من الأنشطة الشرعية والتربوية والدينية تجد في العطلة الصيفية متسعاً من الوقت لنشر الدورات المختلفة، كدورات تحفيظ القرآن الكريم، وتحفيظ الأحاديث الصحيحة، ودورات تحفيظ المتون وغيرها من الأنشطة الشرعية المباركة.
وقد يقنع بعض الطلاب آبائهم بأنهم في إجازة صيفية، وأن الوقت يجب أن لا يشغل بأي شيء، استعداداً للعام الدراسي المقبل. طالبين منهم عدم إزعاجهم بالالتحاق بدورات تلزمهم تمضية وقت معين في اليوم في مكان ما.
وقد يقتنع الآباء ويرون من الصواب ترك أبنائهم على راحتهم، وهذا من الأخطاء الشائعة في الصيف.
فمن جهة، تنشط بعض الدورات الشرعية الهامة في الصيف أكثر منها في أوقات الدراسة، ما يعني تفويتها على الطالب تفويته لخير كبير.
ومن جهة أخرى، فإن القائمين على هذه الدورات يحاولون قدر المستطاع تيسير الدورات بأوقات سهلة وبسيطة، لا تؤثر كبير أثر على اليوم الاعتيادي.
ومن ناحية ثالثة، فإن الطالب سوف يجد في أيام العطلة متسعاً من الوقت لمراجعة ما تعلمه وتلقاه، أكثر من أيام المدرسة.
لذلك، فإنه يتعين على الآباء أن يلحقوا أبناءهم ولو بحلقة واحدة على الأقل خلال العطلة الصيفية، وأن يلزموا أولادهم بهذا العلم الشرعي، الذي قد لا يجدونه في صفحات كتبهم المدرسية.
دور الأهل السلبي :
إن مما يوسف له خلال أيامنا هذه، أنه بات الكثير من الآباء والأمهات بعيدون كل البعد عن أولادهم، لدرجة بات الأب لا يعلم أين أمضى ابنه ليلة أمس، أو من هم أصحابه المقربين، أو من أين يأتي بمصروفه الشخصي، أو هل ينتسب إلى دورة شرعية أم لا، وغيرها من المسائل التي تقع بالدرجة الأولى على الأهل.
الموقف السلبي الذي باتت الكثير من الأسر تتخذه من أولادها، بحجج مشاغل الحياة وصعوبات تحصيل الموارد المادية، وترك الأبناء يعتمدون على أنفسهم، أصبح سمة كبيرة منتشرة في كثير من منازلنا، فإن لم يكن موقف الأب والأم، فإنه موقف أحدهما.
يقول المصطفى _صلى الله عليه وسلم_: " كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته..."(115/471)
وكون الأب هو الراعي الأول والأهم لأبنائه، فإن غيابه عنهم يكسر أي اعتبار لأي شخص آخر، لذلك يصبح من الصعب جداً انقيادهم بسهولة لمدرسيهم أو موجهيهم أو بعض طلاب العلم في المناشط التربوية، وغيرها.
وخلال الصيف، قد يترك الأب ابنه أوقاتاً طويلة لا يسأل عنه، ما يعطي الابن إحساساً بأنه غير مسؤول وغير مراقب، فيشطح في بعض النواحي التي قد تؤدي به إلى التهلكة، أو على الأقل قد تحرفه وتضلله بآراء وأفكار وعادات سيئة.
والصيف بأيامه الطويلة الخالية، يشكل مرتعاً خصباً للأبناء لقضاء الوقت الطويل خارج المنزل، ما يعرضهم لرفاق السوء ولعادات سيئة وغير مستحبة.
لذلك على الآباء أن يحصروا خلال أشهر الصيف على متابعة أبنائهم بشكل خاص، ومتابعة كل شؤونهم وجوانب حياتهم، تجنباً للوقوع في المحرمات أو الانحرافات.
بالإضافة إلى ما ذكرنا، فإنه يوجد العديد من الأخطاء والمحاذير التي يتوجب على الأهل تجنبها وتجنيب أولادهم إياها خلال العطلات الصيفية. خاصة في ظل وقوع العديد من شباب اليوم بهذه المحاذير، واعتيادهم عليهم لدرجة باتت من الأمور السهلة اليسيرة على نفوسهم.
نسأل الله أن يحفظ أولادنا وأولاد المسلمين من كل سوء، وأن يوفقهم لكل خير..
ـــــــــــــــــــ
ابني يصغي لأصدقائه أكثر مني! ما العمل ؟
معمر الخليل
15/6/1426
ارسل تعليقك ...
لا توجد تعليقات ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
إذا أردت أن تعرف من تكون، فانظر من تصاحب.
جملة رددناها كثيراً، واستخدمها الناس كأمثلة شعبية، اختلفت صياغتها، لكنها احتفظت بالمعنى.
حفظها الكثيرون، ورددوها مراراً، واستخدموها في أقوالهم ونصائحهم، إلا أنهم أغفلوها في التطبيق، ونسوها في التجربة.
الصاحب ساحب، مثال شعبي آخر، استخدمه الناس للإشارة إلى تأثير الصديق والرفيق على أي إنسان، صغيراً كان أم كبيراً، ولكن في زحمة الحياة، يضيع التفكير في "من يكون صديقي" طالما أنه موجود بالفعل.
ولأنه موجود بالفعل في حياة الجميع، فإن تأثيره كبير، ورأيه الأقرب إلى القلب، وشخصيته المحببة تجعل الصعب سهلاً، والمحظور ممكناً، طالما غاب الرقيب.
ولأن الأبناء هم قبل أي شيء آخر، مسؤولية الأب والأم، وعلى عاتقهما تقع كل صغيرة أو كبيرة في حياتهم، فإن الصديق كان ولا يزال، من أهم المحطات التي(115/472)
تترك في فكر وشخصية الأبناء تأثيراً كبيراً، قد يمتد لسنوات طويلة، يصعب على الآباء والأمهات محو آثارها زمناً.
"إذا أردت أن تعرف من تكون، فانظر من تصاحب" جملة رددناها كثيراً، واستخدمها الناس كأمثلة شعبية، إلا أنهم أغفلوها في التطبيق، ونسوها في التجربة.
قصة مختصرة جداً:
يعاني معظم الآباء والأمهات من انصياع أبنائهم لأفكار أقرنائهم وأصدقائهم، ومن تقليدهم لهم بالتصرفات والسلوكيات والأفكار.
ويكون تأثير الأصدقاء على الأبناء -في كثير من الأحيان- أكبر وأبلغ من تأثير الأب والأم.
ويقف الآباء حيارى في تلك المشكلة، يتم التغاضي عنها مع مرور الوقت، وبذل الجهد، وتبدل الأحوال.
أما في نفسية الأبناء وسلوكياتهم وأفكارهم، فإن ثمة شيء ما قد حصل، ربما لا يراه الآخرون، ولكنه قد يجد له في يوم من الأيام، وقتاً مناسباً للظهور مجدداً.
المعاناة واحدة لدى الكثيرين، والمشكلة قائمة لم تجد لها حلاً في معظم الحالات، ولكن –عودة للأمثال الشعبية- درهم وقاية خير من قنطار علاج.
أبو محمد يروي حكاية سمعها الجميع ذات يوم من أحد ما، تحدث يومياً، يقول: " ابني تعلم شرب الدخان مؤخراً، بسبب مرافقته لبعض زملائهم من المدخنين".
وهو بهذه القصة القصيرة جداً، يختصر روايات كثيرة، حدثت ذات مرة في مكان ما، تعلم فيها أحدهم شرب المخدرات من رفقاء السوء، وسافر فيها آخر إلى بلاد سيئة السمعة مع أصدقاء سبقوه إلى التجربة والمغامرة (!)، وسرق فيها ثالث من أموال الغير أو أهله؛ علمه أصدقائه أساسيات فن السرقة والنصب (!)، وسعى فيها آخر إلى سرقة سيارة حديثة من أجل (التفحيط) فيها، أسوء بزملاء له استطاعوا فعل ذلك والتمتع به (!).
ولا تنتهي الروايات حين تروى عن مثل هذه الحالات، تماماً مثلما لا يستطيع أحد أن يوقفها بسهولة.
لماذا يتعلم الأبناء من أصدقائهم أكثر ؟!
هناك أسباب عديدة تجعل الأبناء أكثر ميولاً للتعلم من أصدقائهم، وتفضيل ما يتلقونه منهم على ما يتلقوه من آبائهم وأمهاتهم، وإن اختلفت القيم، وتعاكست الآراء، منها:
1- إن الأصدقاء هم أقرب الناس عمراً للأبناء، والمستوى الثقافي ومستوى الإدراك يتقارب لدى الكثيرين منهم، لذلك، فإن الأسلوب الذي يتبعه البعض -دون قصد منهم أو عظيم جهد- لتلقين أصدقائهم الآخرين بسلوكياتهم وتصرفاتهم وآرائهم، هو الأسلوب الأقرب إلى نفسهم.
ففي كثير من الأحيان يكون الأسلوب "الوعظي والإرشادي" على سبيل المثال، أبعد ما يكون عن عقل الابن، وعندما يقارن هذا الأسلوب المستخدم مراراً وتكراراً في كل شيء، مع أسلوب "التجربة الواقعية" مع أحد أصدقائه، سيميل دون إدراك منه إلى أسلوب الأخير.(115/473)
لعظيم الأثر الذي يتركه الصديق في حياة أبنائنا، ولأننا لا نعلم دائماً ماذا يتعلم الأولاد من أصدقائهم، يتبع المهتمين في تربية أولادهم أسلوب "درهم الوقاية"
على سبيل المثال، يحاول معظم الآباء تلقين أبنائهم عدم التجسس واختلاس السمع من الآخرين، ولكن حين يرى أحد الأبناء زميل له يسترق السمع من غرفة المدير، ويروي لهم ما دار من حديث بينه وبين أستاذ الفصل، سيتشوق الابن لتجربة ذلك، وكشف بعض الأسرار التي تحدث في أماكن أخرى.
2- العلاقة بين الأصدقاء هي علاقة وقتية وزمانية، لا يوجد فيها مسؤول عن آخر، ولا وصاية لأحد على الآخر، فيما توجد وصاية واضحة من قبل الأب أو الأم على الأبناء، لذلك، فإن درجة تقبل ما يقوم به الزملاء والأصدقاء أكبر تأثيراً على الأبناء من تأثير الأب والأم.
ففي الحالة الأولى، يحس الابن أنه أمام شخص لا يستطيع أن يفرض عليه أمراً محدداً، وهو بالتالي يمتلك "حرية القبول أو الرفض"، لذلك فإن أي قبول يأتي نحو سلوكية معينة، سيكون قبولاً "كلياً وكاملاً"؛ لأنه حدث بملء الإرادة.
أما الحالة الثانية، فإن الابن لا يمتلك حرية الرفض، وعليه أن يتقبل كل الأمور بشكل "إلزامي" لذلك يكون قبوله له قبولاً "شكلياً وجزئياً" ينتهي بانتهاء السبب في بعض الأحيان، باستثناء الحالات التي يستطيع فيها الآباء إقناع أبناءهم بشكل كامل.
3- ممارسة بعض السلوكيات أو التصرفات بين الأصدقاء تكون ممارسة تشاركية، بمعنى أن أي فعل يقومون به، يتشاركون فيه في الثواب والعقاب، أما مع الآباء، فإن معظم الأفكار والسلوك التي تطلب من الابن، تكون فردية.
على سبيل المثال، في الحالة الأولى، قد يتشارك الأصدقاء في سرقة وجبة إفطار أحد زملائهم، ويتقاسمون "الغنائم" فيما بينهم، وعندما يكشف أمرهم، سيلاقون نفس العقاب على الأغلب، رغم أن الأمر والمشورة قد صدرت من شخص واحد منهم، وكذلك الأمر مثلاً عندما يقومون بالهروب من المدرسة إلى حديقة أو سوق بإيعاز من أحدهم أو يقومون بشرب الدخان يجلبه أحد الزملاء.
أما في الحالة الثانية، فإن الأب والأم يطلبون بشكل فردي من الابن أن يقوم بتصرف ما، كأن يأمرونه بالدراسة والمذاكرة، فيما يشاهدون هم التلفاز أو يطلبون منه الجلوس هادئاً دون صوت، فيما يتناقشون هم في أمر ما.
4- القدوة: حيث يعد الصديق قدوة حقيقية لصديقه، فيما يفقد الكثير من الأهل مبدأ القدوة.
مثل هذه القصص تحدث بشكل يومي، ويتمنى كل أب أو أم أن يكون أولادهم ممن أنعم الله عليهم بمثل هؤلاء الأصدقاء
فمثلاً، لا يطلب الصديق من صديقه الإتيان بأمر ما، إلا إذا كان هو قد جربه واختبره، أو سمع به، فيطلب من صديقه مشاركته له في المرة الأولى. كأن يجربا شرب الدخان سوية، أو يروي له ما قام به مع قطة جاره من إيذاء، فيكون قدوة حقيقة له في الفعل والقول.
أما عند الأهل، فإن بعض الآباء يطلب من أبنائه عدم التدخين أبداً، فيما يتناولون هم أمامهم الدخان، أو يطلب الأهل من الابن النوم باكراً، فيما يسهرون هم أمام التلفاز،(115/474)
أو يحذرونهم من الكذب، فيما يرونهم يستخدمونه أحياناً ولو من باب المزح، وبهذا لا تود هناك مصداقية لقدوة الأهل في مثل هذه التصرفات.
5- الاختيارية، فعندما يختار الابن صديق له، يكون قد اختار شخصاً محبباً لديه، أعجبه فيه شيء ما، أو تأثر بموقف معه، أو جمعتهما بعض الأفكار والمواقف (كرياضة معينة، أو اهتمام بمادة دراسية ما ...إلخ) لذلك، فإن آراء هذا الشخص "القريب من القلب" يكون لها تأثير كبير، ورغم أن محبة الوالدين قوية لدى الغالبية العظمى من الأبناء، إلا أن تأثير هذه المحبة في التربية يكون محدوداً، إذ لا يربط الابن بين المحبة هنا والتربية.
بالإضافة إلى العديد من الأسباب العامة، والأسباب الخاصة التي تتعلق ببعض الحالات دون غيرها، كأن يكون الصديق ذو شخصية قوية ويتمتع بأسلوب قيادي، أو أن تكون البيئة التي ينتمي إليها الابن ملائمة لجنوحه وتعمله بعض العادات السلبية، أو أن يكون الوقت الذي يقضيه مع أصدقائه أكبر مما يقضيه في المنزل، أو أن يكون الأهل في الأصل لا يقدمون له الرعاية والنصح والإرشاد اللازم، وغيرها.
كيف يساهم الأهل في اختيار أصدقاء أبنائهم:
لعظيم الأثر الذي يتركه الصديق في حياة أبنائنا، ولأننا لا نعلم دائماً ماذا يتعلم الأولاد من أصدقائهم، يتبع المهتمين في تربية أولادهم أسلوب "درهم الوقاية" عبر المساهمة في اختيار الأصدقاء الذين يرافقون أبناءهم، وقاية لقنطار العلاج، الذي قد يكلفه الكثير بحال شذّ ابنهم، أو تعلم بعض العادات السلبية بالغة التأثير.
ويتبع الأهل في بعض الأحيان أساليب مباشرة في اختيار الأصدقاء، فيما يفضل آخرون استخدام أساليب غير مباشرة، تؤدي نفس الهدف بأسلوب أكثر متانة وحرص.
وهناك بعض الأساليب العامة التي يتبعها بعض الأهل، منها:
1- يركز الكثير من الأهل على المكان الذي يسكنون فيه، ويختارون مكاناً يكون في منطقة هادئة ونظيفة، وتتمتع بوجود أناس طيبي السمعة، وإذا صعب عليهم ذلك، يبتعدون عن المناطق التي تتمتع بسمعة سيئة، حيث يوجد في كل مدينة، بعض الأحياء التي تعرف بأنها كثيرة المشاكل، ويكون الناس فيها قليلي الاهتمام بتربية أبنائهم ومتابعتهم، مثلما توجد مناطق معروفة بهدوئها وقلة أو ندرة المشاكل التي تحدث فيها.
2- يهتم الأهل بانتقاء المدارس ذات السمعة الجيدة، لتسجيل أنبائهم فيها، خاصة وأن المدارس تعد من أكثر الأماكن تأثيراً في الأبناء، يقضون فيها وقتاً يومياً طويلاً، ويتعرفون فيها على أصدقاء يبقون أحياناً طوال العمر. خاصة وأن رقابة الأهل لأصدقاء المدرسة تكون أصعب من رقابة أصدقاء الحي، لذلك فهم يبحثون عن المدارس التي تعرف باهتمامها بالأخلاق قبل العلم، والتي يعرف الطلاب فيها بالجد والتميز والأدب.
3- بعد ذلك، يفضل بعض الآباء متابعة أصدقاء أبنائهم، عبر سؤال الابن أولاً عن أصدقائه، ثم يتقصى بشكل غير مباشر عن أهل هذا الصديق، ووضعه الاجتماعي، وسلوكياته، للاطمئنان على ابنه.(115/475)
4- يقوم بعض الآباء (أو الأمهات) بالطلب من أبنائهم دعوة أصدقائهم للمنزل، بحجة مشاهدة مباراة في التلفاز مثلاً، أو اللعب على بعض الألعاب الإلكترونية أو المنزلية، أو لتناول وجبة عشاء. وكذلك تفعل بعض الأمهات مع بناتهن، وذلك من أجل ملاحظة أصدقاء أبنائهم، والتعايش مع أسلوب علاقتهم، وطريقة تعامل كل منهم مع الآخر، لتشكيل أصدق صورة عمن يخالط الأبناء، ويتم ذلك بالطبع بطريقة غير مباشرة.
5- يحاول بعض الآباء والأمهات، إقامة علاقات عائلية مع ذوي الأصدقاء المقربين جداً من أبنائهم، وتقديم دعوات لهم، أو زيارتهم بين وقت وآخر، وهذه الطريقة وإن كانت تؤدي وظيفة اجتماعية وإنسانية، إلا أنها تخدم في جانب مهم معرفة أهل أصدقاء أبنائهم عن كثب.
6- يحرص بعض الأهل على تقديم نصائح وإرشادات متلاحقة ومتكررة لأبنائهم، حول أهمية الأصدقاء، وضرورة اختيار الرفيق الحس، والابتعاد عن رفقاء السوء، وشرح مخاطر التعلم من الأصدقاء، ورواية قصص وأحداث حصلت مع بعض الناس. واغتنام بعض الأحداث التي تقع خلال الحياة العادية، لتوظيفها في شرح ذلك، وهذه التعليمات تشكل حاجزاً نفسياً مهماً لدى الأبناء، وتساعدهم على اتخاذ مواقف مسبقة من بعض الأصدقاء الذين يرون فيهم صفات سلبية.
بالإضافة إلى أساليب أخرى، تختلف حسب قناعة كل أب أو أم، أو حسب البيئة التي يعيشون فيها.
هل كل ما يتعلمه الأبناء من أصدقائهم سيئ ؟:
بالطبع لا، فكما يوجد رفيق السوء الذي يسحب صديقه إلى الشر، هناك رفقاء كثر يسحبون أصدقائهم إلى الخير.
يروي أحمد س (30 عاماً)، ما كان يحدث معه خلال دراسته المتوسطة فيقول: " لدي صديق كنت قد تعرفت عليه في الصف الثاني المتوسط، ومنذ ذلك الوقت وحتى الآن، هو أفضل وأقرب الأصدقاء على قلبي، وإليه يعود الفضل بعد الله _عز وجل_ في تعليمي الصلاة والمثابرة عليها، كان يأتي إلى منزلنا بشكل دائم، وعند أوقات الصلاة كان يحرص على أدائها في المسجد، ثم بدأ يطلب مني مشاركته في الذهاب، وكان والدي في تلك المدة لاهياً عني، فلم أكن أواظب على صلاتي، وأذكر في تلك الأيام أننا تعاهدنا أنا وصديقي على عدم ترك فرض أبداً".
ويروي خالد ج (28 عاماً) عن أحد أصدقائه قائلاً: " أيام دراستي الجامعية، تعرفت على مجموعة من الأصدقاء الذين قضيت معهم وقتاً في اللهو والعب والسهر، وكان لي صديق أعرفه وأحبه قبل ذلك، منذ دخولي الجامعة، وعندما بدأ يراني أنساق خلف الأصدقاء الجدد، كان يحاول جاهداً ردعي عن ذلك، ويقدم لي النصح بأسلوبه المحبب على قلبي، والذي يتسم رغم كل شيء بالبسمة والنكتة. والحمد لله استطاع بتوفيق من الله _تعالى_ أن يبعدني عن أولئك الأصدقاء، وعدت بعدها "صديقه خالد الذي كان يعرفه"، كما يحب أن يقول لي هو ذلك".(115/476)
مثل هذه القصص تحدث بشكل يومي، ويتمنى كل أب أو أم أن يكون أولادهم ممن أنعم الله عليهم بمثل هؤلاء الأصدقاء، الذين يشكلون حاجزاً مثالياً لإبعاد أبناءهم عن الخطأ، والمحافظة عليهم من لهو الدنيا وأصدقاء السوء الذين فيها.
ولهذا يحرص الآباء على اختيار أصدقاء صالحين لأولادهم، ويقوم كثير منهم بأكثر من ذلك، حيث يحاولون هم أن يجعلوا من أبنائهم الأصدقاء المثاليين، الذين يصلحون ما قد يطرأ على أصدقائهم من عادات سلبية، ويساعدون في نشر الأخلاق الفاضلة والتربية الصالحة والمبادئ الإسلامية النقية بين أصدقائهم وأقرانهم.
-ـــــــــــــــــــ
الضوابط الشرعية للوسائل التعليمية
من سنَّةِ الله - تعالى - أنَّ المقاصدَ لا تحصلُ إلاَّ بالوسائل، وهذه الوسائلَ تُعطى أحكامَ المقاصدِ .
والأصل في الوسائل التعليمية الحِل، ولكن حكمها يختلف باختلاف الغاية والهدف من استعمالها، فهي مستحبة إذا كانت لغاية مستحبة، ومحرمة إذا استخدمت في تعليم محرم أو أودت إليه، وكذا فإن حكمها يتعلق بما يصاحبها.
وعندما استولت التكنولوجيا الحديثة بآلاتها الجديدة على حياة الناس بما فيها من إيجابيات وسلبيات، كأشرطة الكاسيت والفيديو وبرامج الكمبيوتر والفلاشات وأجهزة العرض وما إلى ذلك، أصبح من المتحتم علينا بيان مضارها ومنافعها؛ إذ كل وسيلة من هذه الوسائل تعتبر سلاحاً ذا حدين، فيمكن استخدامها في الشر كما يمكن استخدامها في الخير، وليست كالوسائل التعليمية القديمة، والتي غالباً ما تستخدم في شيء واحد بصورة يسهل فيها مراقبة المتعلم وتوجيهه التوجيه الصحيح نحو استخدام هذه الوسيلة، أما اليوم فقد يستخدم المتعلم الحاسب الآلي مثلاً للترفيه أو رؤية ما حرم الله تعالى بعذر التعلم، وتساعده التكنولوجيا الحديثة على التخفي عن رقابة معلمه ومجتمعه، ناهيك عن الاختلاف في التركيب بين الوسائل القديمة البدائية والوسائل الحديثة المتطورة والتي ربما ينشأ عن استخدامها أضرار صحية كالأضرار الناتجة عن الإشعاعات والمواد الزيتية والطباشيرية والكهرباء.
والواجب علينا تجاه هذه الوسائل هو اقتناء ما يفيد منها مع محاولة احتوائها وتوجيهها توجيهاً يحقق أهدافنا وقيمنا الإسلامية وضبطها بالضوابط الشرعية والصحية وخاصة في المواقف التعليمية التي يؤمل عليها في إخراج جيل يجمع بين الأصالة والمعاصرة، حتى لا نؤتى من حيث نؤمِّل، فإن استطعنا الاستفادة منها مع تفادي سلبياتها وإلا فاطِّراحها خير من اقتنائها وكما قيل: المحافظة على رأس المال أولى من التجارة.
والضوابط الشرعية لهذه الوسائل لها متعلقات متعددة:
أولاً: ضوابط تتعلق بالوسائل نفسها.
ثانياً: ضوابط تتعلق بما يعرض في هذه الوسائل.
ثالثاً: ضوابط تتعلق بكيفية التعامل مع هذه الوسائل في الموقف التعليمي.
وفيما يلي تنبيه على بعض هذه الضوابط والأسس:
أولاً: ضوابط تتعلق بالوسائل نفسها:(115/477)
أ ـ ألا تكون محرمة:
1- كاستخدام المجسمات ذوات الأرواح بغير ضرورة.
2- أو اتخاذ الحيوان وسيلة تعليمية فيجعله غرضاً لتعلم الرماية لا للصيد، فقد لعن الرسول صلي الله عليه وسلم من اتخذ شيئاً تسري فيه الروح غرضاً .
ب ـ ألا تكون ضارة، فبعض الوسائل التعليمية المتواجدة في السوق المحلي لا تراعي أمور السلامة كأن تحتوى على مواد ملوثة للبيئة ومسببة للحساسية كالطباشير غير الطبي مثلاً.
ج ـ أن لا يكون فيها إسراف:
1- بحيث تكون باهضة الثمن وغيرها يغني عنها، فالبعض يلهث وراء التقنية على حساب الأهداف المرجوة وكأن هذه التقنية غاية لا وسيلة، لكن غلاء سعر الوسيلة التعليمية لا يمنع دائماً من شرائها لأن بعضها تأتي من مؤسسات تربوية هادفة تصنعها على أساس طبي وعلمي وتربوي، فهذه الأبحاث وهذه الدراسات تكلفتها تصب في صناعتها فيرتفع لأجل ذلك سعرها.
2- أو أنها لا تصلح لاستخدامها أكثر من مرة وغيرها يصلح للاستخدام المتكرر.
وقد نهى الله تعالى عن الإسراف فقال: "ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين" وحذر من التبذير فقال: "إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين".
د ـ أن يكون شراؤها واختيارها مبنياً على الحاجة إليها وإمكانية توظيفها لتحقيق الهدف التعليمي، لا أن تشترى لذاتها، لأنها وسيلة لا غاية، فليست هي وحدها التي تحدث تحولاً حقيقاً لمدرسة المستقبل .
هـ ـ تحديد الأغراض والأهداف التعليمية التي تحققها الوسيلة بدقة وذلك عند اختيارها، لأن تحديد الأهداف أمر حيوي في تحديد الوسيلة.
و ـ معرفة خصائص الفئة المستهدفة ومراعاتها .. فقد راعى النبي صلى الله عليه وسلم الأعراب وجعل ما حوله من الطبيعة من سماء وأرض وجبال، وسيلة لتعليمهم توحيد الله تعالى وأنه هو المستحق للعبادة.
فالوسيلة لا بد وأن تكون مناسبة "لأعمار الطلاب ومستوى ذكائهم وخبراتهم السابقة التي تتصل بالخبرات الجديدة التي تهيؤها هذه الوسائل، وذلك من حيث اللغة المستعملة وعناصر الموضوع الذي تعرضه وطريقة العرض" فينبغي أن تلائم الوسيلة مستوى نضج التلاميذ الجسمي والعقلي.
ز ـ أن تكون مناسبة للموقف التعليمي وطبيعة الرسالة، فالقراءات مثلاً علم قائم على التلقين والمشافهة، لا يقوم مقام ذلك وسيلة أخرى.
"قال سليمان بن موسى: كان يقال لا تأخذوا القرآن من مصحفي ولا العلم من صحفي.
وقال ثور بن يزيد: لا يفتي الناس صحفي ولا يقرئهم مصحفي" .
وعلوم الشريعة الإسلامية غالباً قائمة على مجالسة أهل العلم .
ثانياً: ضوابط تتعلق بما يعرض في هذه الوسائل:(115/478)
أ ـ فلا يعرض فيها محرماً كالمعازف وصور النساء والأفلام الدرامية وغيرها؛ فالوسائل الحديثة تعددت استخداماتها، فيمكن أن تستخدم للتعليم أو للترفيه أو مشاهدة الحرام، لا سيما وأنها تتميز بالإغراء والإثارة وسهولة الاستخدام بعيداً عن الرقابة، ولهذا نادى عقلاء العالم بضرورة مراقبة النشأ في استخدامهم لهذه الوسائل وتربيتهم على الاستفادة منها بالصورة الإيجابية.
ب ـ تصفية البرامج التعليمية من الموسيقا والصور وسائر المحرمات، فإن غالب البرامج التعليمية لا تتقيد بالضوابط الشرعية، فلا بد من تصفية برامجنا من لوث الحضارة قبل عرضها على أولادنا، فالمعازف مثلاً أصبحت عامة في كثير من البرامج الوثائقية والتعليمية، وقد ثبت عن النبي صلي الله عليه وسلم أنه قال: "سيكون من أمتي أقوام يستحل الحلي والحرير والخمر والمعازف " . والمعازف هي: الدفوف وغيرها مما يُضرب .
ج ـ أن يلتزم الحقيقة في ما يعرضه، فإن الكذب تروج سوقه في مثل هذه الوسائل وخاصة الوسائل الإلكترونية والتي تغطي الصورة الصحيحة وتتفنن في تزييف الحقائق.
أيضاً فإنه يجب التأكد من موافقة المعروض للواقع "إذ من الجائز ألا يسير إنتاج هذه الوسائل بسرعة التغير والتقدم في مجالات المعرفة الكثيرة كما هو الحال في بعض الخرائط، فإذا ما تبين ذلك للمعلم قبل استخدام هذه الوسائل وجب عليه أن يبحث عن الجديد منها إذا وجد، أو يعالج هذا الخطأ أو التحريف بإضافة المعلومات الجديدة عند عرض الموضوع، أو تصحيح الخطأ الذي جاء في المعلومات التي تقدمها الوسيلة التعليمية" .
د ـ ولا ينسى أن يبدأ هذه الوسيلة بالبسملة سواء في أعلى السبورة أو في أول الفلم.
ثالثاً: ضوابط تتعلق بكيفية التعامل مع هذه الوسائل في الموقف التعليمي:
أ ـ أن لا يكون فيها انشغال عن واجب؛ بحيث ألا يكون في وقت مخصص لحقوق الله عز وجل أو حقوق الناس، كالانشغال عن الصلاة مثلاً بحجة إكمال الفيلم التعليمي، فالوسائل التعليمية الحديثة لها أريج وجاذبية قد تصل بالغافل إلى أن يترك الواجبات بسببها.
ب ـ عدم الإغراق فيها:
للوسائل التعليمية أهمية وفوائد لا تخفى على أحد فهي "تشد انتباه الطالب، وتثير حماسه، وتعينه على سهولة الفهم، وتذكر المعلومات وتقبل المادة الدراسية والإقبال عليها والمشاركة الإيجابية فيها، فتتنوع خبرة الطالب، ويتعلم التأمل والتفكير الذي يساعد على النمو، فتعدد الاتجاهات مما يثري الخبرة، ويرسخ المعلومة، وينمي القدرة على دقة الملاحظة واتباع التفكير العلمي للوصول إلى حل المشكلات" ، وقد "أجريت دراسات في الدول المتقدمة حول مستوى التحصيل عند استخدام الحاسوب في العملية التعليمية، فتوصلت مجمل النتائج إلى أن المجموعات التجريبية -التي درست باستخدام الحاسوب- قد تفوقت على المجموعات الضابطة -التي لم تستخدم الحاسوب في التعلم-، وقد توصلت دراسات عربية إلى النتائج السابقة نفسها..." لكن(115/479)
شريعة الإسلام دائماً تدعو إلى القصد في جميع الأمور وتنهى عن الإغراق والتعمق، وكل ما زاد عن حده انقلب إلى ضده، ومن الإغراق المذموم في هذه الوسائل:
1- الإكثار من الأفلام التعليمية، فإنه يضر بذكاء المتعلمين واجتهادهم ويعودهم على الكسل والخمول الفكري وعدم ممارسة المهارات التعليمية المهمة، وقد يوصله الإدمان إلى أن يطلب هذه الوسائل لذاتها لا لأجل العلم ثم ينتقل بها إلى برامج ترفيهية أو محرمة لا تمت إلى التعليم بصلة.
2- الإفراط في صرف أوقات هائلة في استخدام هذه الوسائل على حساب وقت الإنسان وحياته، قال سلمان الفارسي لأبي الدرداء رضي الله عنهما عندما رأى مغرقاً في العبادة: "إن لربك عليك حقا ولنفسك عليك حقا ولأهلك عليك حقا فأعط كل ذي حق حقه" فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "صدق سلمان" .
ج ـ أن لا يُستغنى بها عن المعلم وإنما هي أداة يستخدمها المعلم في الموقف التعليمي ويوجهها فيما يحقق الهدف، و"مهما تطورت تكنولوجيا التربية واستُعملت وسائل أخرى متقدمة؛ فلن يأتي اليوم الذي يوجد فيه شيء يعوض تماماً عن وجود المعلم" .
يقول الدكتور علاء زايد: "يخطئ من يظن أن الوسائل التعليمية توضح بذاتها، أو أنها تغني عن المدرس، بينما الواقع أنها لا تغني عن المدرس، وإنما تعينه على أداء مهمته، بل يُنتظر أن تزيد أعباءه، ولا يُنتظر أن تحل محله..." .
وكذلك فإن للمعلم عناصر تربوية يملكها في تعامله المتزامن مع المتعلم في التربية لا يمكن أن تعوضها الوسائل التعليمية؛ كالتزكية والهدي والسمت والإشارة والاقتداء، قال ابن الجوزي: "ولقيت عبد الوهاب الأنماطي فكان على قانون السلف، لم يسمع في مجلسه غيبة، ولا كان يطلب أجراًَ على سماع الحديث، وكنت إذا قرأت عليه أحاديث الرقاق بكى واتصل بكاؤه. فكان وأنا صغير السن حينئذ يعمل بكاؤه في قلبي، ويبني قواعد الأدب في نفسي، وكان على سمت المشايخ الذين سمعنا أوصافهم في النقل" فانظر كيف أثر هذا المعلم في هذا الإمام حتى أصبح أكبر واعظٍ في زمانه!
قال أبو حيان:
يظن الغمر أن الكتب تهدي *** أخا فهم لإدراك العلوم
وما يدري الجهول بأن فيها *** غوامض حيرت عقل الفهيم
إذا رمت العلوم بغير شيخ *** ضللت عن الصراط المستقيم
وتلتبس الأمور عليك حتى *** تصير أضل من توما الحكيم
د ـ أن لا يُستغنى بها عن الكتب: فالوسائل التعليمية الحديثة إما ذاتية وإما أدوات مساعدة للمعلم، وبرامج المكتبات في الأقراص المدمجة هي إحدى وسائل التعليم الذاتي، ومعلومٌ لدى أهل البحث ما لهذه البرامج من سلبيات تخل بالأمانة العلمية والدقة والتوثيق، ناهيك عن الفوائد التي تفوت من استغنى بها عن الكتب من معرفةٍ لمناهج العلماء وملكة في استخراج الفوائد ومرور على الفوائد وغير ذلك من المصالح، لذا "ينصح المربون بتوجيه الطلاب الذين يستعملون أسلوب التعليم الإلكتروني إلى استخدام المراجع المطبوعة في بحوثهم، ويمكن اشتراط ذلك في(115/480)
بعض البحوث لتدريب الطلاب على البحث الأصيل والقراءة، ووضع البحوث المكتوبة بخط اليد موضع الاهتمام؛ لما لذلك من فوائد جمة" .
هـ ـ استشعار الأمانة حال استعمالها:
1- فلا يستخدمها في غير حاجة.
2- ولا يستخدمها في غير الموقف التعليمي الذي حددت له.
3- ويحافظ عليها؛ فلا يهملها، أو يتركها للأطفال كي يعبثوا بها ويتلفوها، أو يستخدمها بطريقة سيئة تعطلها.
4- ويحذر من تركها للنشأ دون مراقبة، حتى لا تُستخدم في مجالات غير مفيدة.
و ـ أن يتجنب في استعمالها أذية الآخرين: بأن يرفع صوت المسجِّل مثلاً فيشوش على الفصول الأخرى.
ز ـ مراعاة المكان:
1- عرض الوسيلة في المكان المناسب، فقد وعظ النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه في المقبرة.
2- ولا تعرض الصور والأفلام في المسجد احتراماً للمكان وقدسيته.
ح ـ أن يكون الهدف الأساسي من استعمالها التعليم لا الترفيه، وأن يحاول المعلم غرس هذا التصور في تلاميذه، وكذا فإن عليه الابتعاد عن الشكلية في استخدام الوسائل، فالوسائل ليست خبرات تعليمية، إنما هي وسيلة للحصول على الخبرة ومكملة للتعليم.
ط ـ تهيئة الجو المناسب لاستخدام الوسيلة، ومثل هذا اغتنام الفرصة، فعندما مر النبي صلى الله عليه وسلم على جبل ومعه أبو ذر قال له لو كان لي مثل هذا ذهباً لما مر علي ثلاثة أيام إلا وأنفقته في سبيل الله تعالى" أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
ي ـ أن يتوخى في عرضه للوسيلة الإثارة ولفت الإنتباه، فعندما رأى الصحابة تلك المرأة التي ترضع أطفال الأسرى استثمر النبي صلى الله عليه وسلم الموقف وقال: "أترون هذه المرأة طارحة ولدها في النار؟" قالوا: لا والله وهي تقدر على أن تطرحه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لله أرحم بعباده من هذه بولدها" .
ك ـ أن يكتفي من الوسائل بما يحصل به المقصود، فلا يزحم الدرس بكثرة الوسائل، فقد علم النبي صلى الله عليه وسلم أصحابَه الصراط المستقيم بوسيلة واحدة وبدائية وهي الخط على التراب، كما في حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: خط النبي صلى الله عليه وسلم خطاً مربعاً، وخط خطاً في الوسط خارجاً منه، وخط خططاً صغاراً إلى هذا الذي في الوسط من جانبه الذي في الوسط، وقال: "هذا الإنسان وهذا أجله محيط به -أو قد أحاط به- وهذا الذي هو خارج أمله وهذه الخطط الصغار الأعراض فإن أخطأه هذا نهشه هذا وإن أخطأه هذا نهشه هذا" .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
المراجع:
- إبراهيم العبيد، الوسائل التعليمية- تقنيات التعليم، موقع المختار الإسلامي. (مقال)
- ابن الأثير: النهاية في غريب الأثر، المكتبة العلمية، 1399.
- أ.د. إسماعيل دياب ود. فتحي عشيبة: الأصول الاجتماعية للتربية.(115/481)
- البخاري: محمد بن إسماعيل: الصحيح المسند، دار ابن كثير، الطبعة الثالثة، 1407.
- د. بدر الصالح -الأستاذ المشارك في تقنية التعليم-: التقنية ومدرسة المستقبل خرافات وحقائق، ورقة عمل مقدمة لندوة مدرسة المستقبل في كلية التربية جامعة الملك سعود.
- التلمساني: نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب، دار صادر، 1968م.
- ابن الجوزي: صيد الخاطر، دار ابن زيدون بيروت.
- الدويش وآخرون: الأطفال واللعب -الحلقة الثانية-، ضمن برنامج التربية النبوية -الحلقة 13-، تفريغ لحوار على قناة المجد الفضائية بتاريخ 4/9/1426، موقع المربي وموقع قناة المجد. (حوار)
- د. سارة بنت عبد المحسن بن جلوي آل سعود: مجتمعنا بين الثقافة والتعليم، من موقع لها أون لاين. (مقال)
- السخاوي: فتح المغيث في شرح ألفية الحديث، طبع دار الكتب العلمية، الأولى 1403.
- عبد الرحمن محمد الفهيد: دور الوسائل التعليمية في تحسين عملية التعليم والتعلم، موقع الإدارة العامة للتخطيط، وزارة التربية والتعليم.
- عبد العزيز بن عبد الله السلطان وعبد القادر بن عبد الله الفنتوخ: الإنترنت في التعليم مشروع المدرسة الإلكترونية، موقع وزارة المعارف http://www.riyadhedu.gov.sa .
- علاء زايد: الوسائل التعليمية بين النظرية والتطبيق.
- محمد سعد: في التعليم الإلكتروني، تعليم العلوم الشرعية بين المعلم والوسائل الإلكترونية، موقع: http://www.almoslim.net. (مقال)
- محمد عباس عرابي: قواعد لاستخدام الوسيلة التعليمية، مجلة المعرفة، العدد 131، صفر 1427.
- محمد محمود يوسف: تطوير العلوم التقنية في أمتنا الإسلامية إلى أين؟، موقع: http://www.almuhayed.com . (مقال)
- مدخل إلى الوسائل، موقع: http://www. dawahwin. Com. (مقال)
- مسلم بن الحجاج: صحيح الإمام مسلم، بتحقيق محمد فؤاد عبد الباقي.
- الوسائل الحديثة نعمة أم نقمة؟، موقع: http://annabaa.org . (مقال)
ـــــــــــــــــــ
في التعليم الإلكتروني (1- 3)
الفوارق بين العلوم الشرعية والعلوم الطبيعية
محمد سعد
24/4/1426
ارسل تعليقك ...
لا توجد تعليقات ...
ارسل الصفحة ...(115/482)
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
مقدمة:
يعد التعليم ركناً من أركان بناء المجتمعات، وبمقدار رعايته والعمل على تطويره يصنع المجتمع لنفسه بناء قوياً ويضمن للأجيال مستقبلاً زاهراً.
وقد انتشرت في السنوات الأخيرة أنواع من التعليم غير التقليدي، تعتمد على وسائل تعليمية حديثة، وتتخذ من التقنيات الحديثة أساساً في عمليتي التعليم والتعلم، ومن ذلك "التعليم عن بعد"(1) من خلال الشبكة العالمية الإنترنت، وهو نوع يندرج تحت ما يسمى بالتعليم غير المتزامن، حيث يتمكن المتعلم من الحصول على الشهادات العلمية في المجال الذي يحبه عبر ما يتوفر من وسائل حديثة كالمحاضرات المرئية عبر الإنترنت، والمسجلة في الأقراص المدمجة، والمناهج التي تتم متابعة تعلمها عبر المراسلة والتواصل الإلكتروني.
ومن ذلك المدارس الذكية أو المدارس الإلكترونية، وهي المدارس التي تعتمد على الحاسب الآلي الكمبيوتر وتتخذه نظاما أساسيا في عمليتي التعليم والتعلم، بمختلف تطبيقاته، حيث تستعمل أجهزة الحاسب وسيلة ثابتة في الموقف التعليمي باستغلال جميع إمكانياته المتنوعة.
انتشرت في السنوات الأخيرة أنواع من التعليم غير التقليدي، تعتمد على وسائل تعليمية حديثة، وتتخذ من التقنيات الحديثة أساساً في عمليتي التعليم والتعلم، ومن ذلك "التعليم عن بعد"
وهذه الأنواع وما يتفرع منها ويستحدث؛ من المتوقع أن تنتشر ويتسع مجال تطبيقها في المستقبل – سواء على المستوى الرسمي أو مستوى الاستثمار الخاص - مع التطور الحثيث في تطبيقات الحاسب الآلي وشبكات الاتصال.
وفي هذا المقال محاولة لتقديم رؤية حول بعض قضايا تعليم العلوم الشرعية وتعلمها عبر الأنواع والوسائل التعليمية الإلكترونية الحديثة.
وسوف أقدم في هذا الموضوع أربعاً من القضايا المهمة – موزعة على ثلاثة مقالات - تحتاج في رأيي إلى كثير من الدراسات والبحوث؛ لسببين: أولهما قلة الدراسات التي تعالج موضوع التعلم والتعليم بمنهج إسلامي أصيل عموماً، وخصوصاً قضية الوسائل التعليمية الحديثة وأنواع التعليم الجديدة، مثل: التعلم عن بعد، والتعلم الذاتي، والتعليم الإلكتروني، حيث لا توجد دراسات إسلامية تغطي قضايا هذه الأنواع التعليمية الجديدة والوسائل التعليمية الحديثة، وتعالج مشكلاتها معالجة إسلامية؛ لأن هذه الأساليب هي أساليب وأنواع نشأت وتطورت في الغرب بمعنى أنه لم تراع في نشأتها وتطويرها طبيعة العلوم الإسلامية ومتطلباتها الخاصة في قضيتي التعليم والتعلم، واستعمالها دون مراعاة لذلك في تعليم العلوم الشرعية قد يؤدي إلى خلل كبير وظهور مشكلات كثيرة على المستويين العلمي والتربوي.
والسبب الثاني هو أن للعلوم الشرعية طبيعتها وخصائصها وأهدافها التي تنبغي مراعاتها في الوسائل الحديثة للتعليم، ولا سيما مع نمو التوجه نحو التعليم(115/483)
الإلكتروني، ومع زيادة المواقع الإلكترونية على الشبكة العالمية الإنترنت التي تقوم بتعليم العلوم الشرعية بأسلوب التعليم عن بعد، وتمنح الشهادات والدرجات العلمية.
وما سوف أقدمه من رؤية - إن شاء الله تعالى - لا يعني دعوة إلى منع استعمال الوسائل والأنواع التعليمية الحديثة في تعليم العلوم الشرعية، بل المراد والمقصود هو تطوير هذه الوسائل والأنواع التعليمية الحديثة وتطويعها بالدراسات والبحوث لكي تتوافق وخصائص تعليم العلوم الشرعية، إذ لا يصح أن يكون استعمال تلك الوسائل والأنواع التعليمية على حساب خصائص تعليم العلوم الشرعية وإهدارها.
القضية الأولى: الفوارق بين العلوم الشرعية والعلوم الطبيعية وما يترتب عليها(2):
توجد بين العلوم – عموماً الشرعية والطبيعية - فوارق كثيرة، فلكل علم سماته وخصائصه، وهذا الفوارق تنبغي مراعاتها ووضعها في الحسبان عند اختيار نوع التعليم وأساليبه وطرقه والوسائل التعليمية.
والعلوم الشرعية لها سماتها وطبيعتها وخصائصها التي تميزها عن باقي العلوم، مما يستوجب دراسات خاصة فيما يناسبها وما لا يناسبها من الوسائل والأنواع التعليمية، ومدى إمكانية تطويع ما لا يناسبها ليتوافق مع طبيعة العلوم الشرعية، ومدى دور كل وسيلة ونوع منها.
وهذه بعض الفروق بين العلوم الشرعية وغيرها من العلوم الطبيعية، وما يترتب عليها من آثار متعلقة بالأنواع والوسائل التعليمية الحديثة:
1- من حيث المصدر:
مصدر العلوم الشرعية وأصلها هو الوحي، فهي تقوم أولاً وأخيراً على الوحي المنزل وهو الكتاب والسنة، قال _تعالى_: "اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ" [الأعراف: 3]، وما أنزله الله _تعالى_ إلينا هو الكتاب والسنة، قال _تعالى_: "وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ{41} لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ" [فصلت: 42]، وقال _تعالى_: "وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى" [النجم: 3، 4]، وقال _صلى الله عليه وسلم_: "ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه"(3) قال ابن كثير: "يعني السنة"(4) ، فالبحث والنظر والتحليل ليست مصدراً للعلوم الشرعية، وإنما هي أدوات لفهم الكتاب والسنة وما يتفرع عنهما من علوم، والاستنباط منهما وتطبيقهما والعمل بهما.
ومهما تفرعت العلوم الشرعية فمقياسها وميزانها من حيث الصواب والخطأ هو الكتاب والسنة، فما كان موافقاً لهما فهو مقبول، وما كان مخالفاً لهما فهو مردود.
ومصدر العلوم الطبيعية، كالجيولوجيا والكيمياء والفلك وغيرها، هو النظر والبحث والتجربة، كما أنها تعتمد في بيان ما بها من صواب وخطأ على التجربة والتحليل.
ويترتب على هذا الفارق أمور؛ من أهمها، فيما يتعلق بالأنواع والوسائل التعليمية الإلكترونية الحديثة، أن العلوم الشرعية تحتاج إلى ضمانات كبيرة في عمليتي التعلم والتعليم، فلا بد من الدقة في اختيار المنهج، وفي أصالة المفهومات، ونقل المعلومات، وفي عرضها عبر الوسائل الحديثة، فالعلوم الشرعية لها قدسية خاصة تستلزم مراعاتها الحيطة في إدخال مضمونها في الوسائل التعليمية الحديثة، فلا بد مثلا أن تكون مراجع الدراسة المخزنة في الوسائط الإلكترونية موثقة من جهات(115/484)
علمية شرعية وتربوية إسلامية معروفة، لضمان سلامة المادة المخزنة منهجياً وعقديا ولغوياً وتربوياً.
ومن أهم آثار هذا الفارق أن تكون الأسس التعليمية المعتمدة في تعليم العلوم الشرعية في الأنواع التعليمية الحديثة – وجميع الأنواع عموماً - قائمة على علم تعلم(5) إسلامي خالص، وعلى نظم تعليمية مبنية على رؤية إسلامية خالصة، لا على النظريات الغربية، فمن الملاحظ في دراسات التعلم وبحوثه الاهتمام بمناقشة النظريات الغربية وبحثها واستعمالها بكثرة في وضع المناهج، واختيار الوسائل التعليمية على أساسها؛ في الوقت نفسه الذي نرى فيه إهمال نظريات التعلم الإسلامية ومبادئه ومذاهبه، وآراء أعلامه كالقابسي والغزالي والزرنوجي(6) وغيرهم، وإهمال الاستفادة منها في تطوير علمي التعلم والتعليم، ففي حين تجد بحثاً واحداً في هذا المجال تجد عشرات البحوث المبنية على النظريات الغربية.
وكمثال على خطورة التطبيق العشوائي للنظريات الغربية دون مراعاة للمبادئ والقواعد الإسلامية، هناك في علم النفس التعليمي مبدأ ينص على ضرورة فهم المعنى فهماً تاماً كي تتم عملية التعليم، فلو طبقنا هذا المبدأ على حفظ القرآن الكريم للأطفال فيسعني ذلك أنه لا بد أن نؤخر تحفيظ القرآن الكريم للأطفال إلى سن متأخرة حتى يفهموا مضمون الآيات والكلمات القرآنية، وهذا لا يتفق مع ضرورة ربط النشء بالقرآن منذ الصغر - مع مراعاة اختلاف القدرات – فقد أثبتت الدراسات التي أجريت على تعلم الأطفال مقدرتهم عموماً على التذكر الجيد، ومبدأ فهم المعنى مبدأ مهم لكن في مجال العلوم الطبيعية، أما في العلوم الشرعية فيحتاج تطبيقه إلى مراعاة لخصائص الدين الإسلامي ومقتضياته، وعدم مراعاة ذلك لدى بعض المغرورين بالغرب هو سبب ظهور دعاواهم ومناداتهم بتأخير تعليم القرآن الكريم لمراحل متأخرة وتقليل مقررات الحفظ(7).
2- من حيث الهدف:
العلوم الشرعية تهدف إلى تحقيق العبودية الخالصة لله _تعالى_ في الفرد والمجتمع بما يحقق السعادة في الدنيا والآخرة، فقد حددت آية سورة التوبة هدف التفقه في الدين في ذلك، قال _تعالى_: "وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ" أي: ومكث الباقون "لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ" من الغزو بتعليمهم ما تعلموه من الأحكام "لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ" عقاب الله بامتثال أمره ونهيه(8) - [التوبة: 122].
قال الغزالي – رحمه الله -: "إن لصناعة التعليم من شرف المحل أوفى حظ وأتم نصيب، فإن المعلم متصرف في قلوب البشر ونفوسهم، ولا يخفى أن أشرف مخلوق هو الإنسان، وإن أشرف شيء في الإنسان قلبه، والمعلم مستقل بتكميله وتطهيره وسياقته إلى القرب من الله _عز وجل_"(9).
أما العلوم الطبيعية فهدفها تيسير معيشة الإنسان في الأرض.
فهدف العلوم الشرعية أوسع وأشمل؛ لأنه يتضمن تحقيق السعادة في الدنيا بتوحيد الله واتباع منهج الإسلام، وهذا يدخل فيه الاجتهاد في تعلم العلوم الطبيعية وتطويرها، وكذلك يتضمن تحقيق السعادة في الآخرة بدخول المؤمنين الجنة.(115/485)
وتترتب على هذا الفارق أمور؛ من أهمها أن العلوم الإسلامية تتعلق بتكوين شخصية الفرد وعقله ونفسه ومنهجه الفكري، فهي علوم تحمل الصفتين صفة العلم وصفة التربية، بخلاف العلوم الطبيعية، والتربية في الغالب تحتاج إلى بيئة تربوية، تتعدد فيها المواقف التربوية، وتتمثل تلك البيئة في مراحل التعليم في الفصل من الزملاء المتعلمين والمعلم والمدرسة أو الجامعة أو حلقات العلم والكتاتيب، وهنا تظهر مشكلة التعليم عن بعد أو التعليم الإلكتروني إذا كان لا يوفر تلك البيئة، وعدم الاهتمام بالجانب التربوي عموماً، وفي تعليم العلوم الشرعية خصوصاً، له آثار خطيرة؛ لأن (التربية هي مدخل التعليم وأساسه، وبدون التربية لا يكون البناء التعليمي قائماً على أساس، ويكون حينئذ إلى الانحدار والسقوط أسرع منه إلى العلو والشموخ، فالفصل بين التربية والتعليم قتل لهما على التو والفور)(10) ، وخصوصاً إذا حدث هذا الفصل في العلوم الشرعية؛ لأنه سيؤدي إلى زيادة كبيرة في نسبة ظهور الشخصيات التي تحمل ألقاباً علمية كبيرة لكنها منحرفة ومضللة، (فما قيمة هذا العالم المشار إليه بالبنان إذا كان كاذباً خؤوناً يستمرئ الباطل ويحسن التمرغ في وحل الرذيلة)(11).
3- من حيث تطور مضمون العلم:
العلوم الشرعية - من حيث مضمونها - غير قابلة للتغيير أو التطوير، قال _تعالى_: "وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاء نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ" [يونس: 15]، فمن حيث العقيدة؛ فالعقيدة حقائق تقوم على الإيمان لا تتغير ولا تتبدل مهما تغير الزمان، ومن حيث الأحكام؛ فما كان حراماً سيظل حراماً وما كان حلالاً سيظل حلالاً، وما كان عبادة من صلاة وزكاة بكيفية معينة سيظل بكيفيته لا تتغير، وما كان من المعروف شرعاً سيبقى من المعروف، وما كان من المنكرات شرعاً سيبقى من المنكرات. وما يحدث في حياة الناس من تغير وتطور عبر الأزمنة في كل المجالات فله في شريعة الإسلام حكم، علمه من علمه وجهله من جهله؛ لأن الله _تعالى_ أنزل الشريعة الإسلامية صالحة لكل زمان ومكان، فهي بقواعدها وأحكامها التفصيلية والعامة تشمل أحوال الناس مهما تطورت حياتهم إلى يوم القيامة، ومهما اختلفت أجناسهم وبيئاتهم، ويستطيع العلماء بعلمهم وباجتهاداتهم استنباط الأحكام لكل حادثة صغيرة أو كبيرة، فهي حاكمة على كل تغير في حياة الناس.
أما العلوم الطبيعية فهي قابلة في مضمونها للتطوير والتغيير المستمر، وخصوصاً في عصرنا هذا؛ لأنها علوم خاضعة للبحث والنظر والتجربة، وقد يتغير مفهوم علمي اليوم عما كان عليه لدى العلماء قبل سنوات، وقد يكتشف العلماء بطلان نظرية كانت تعد من المسلمات، وذلك كلما تطور البحث وتطورت الوسائل المستعملة في دراسة تلك العلوم.
ومما يترتب على هذا الفارق؛ أن العلوم الشرعية لا يصح أن تُستهدف في مضمونها ومفهوماتها بتغيير أو تطوير، وإنما يكون مجال التطوير والتحديث فيها في الوسائل المستعملة في نشرها وحفظها وتعليمها وتعلمها، أو في جانب التدوين والتنظيم(115/486)
والترتيب، أو في تيسير الأسلوب لعامة الناس، أو في جانب التحقيق والتدقيق، وما شابه ذلك.
أما تطوير المضمون تحت مسمى تطوير التعليم أو إصلاح التعليم الديني وغير ذلك من الشعارات – إن كانت تستهدف المضمون - فهي محاولات تهدف إلى هدم الدين ومحو تراث علماء الإسلام العلمي العظيم.
وهنا ينبغي لأصحاب مشروعات التعليم الإلكتروني ألا يخلطوا بين تطوير المضمون وتطوير الوسيلة، وألا يقعوا تحت ضغط التيسير وتسهيل استعمال الوسائل الحديثة غير المحسوب؛ فيتساهلوا في وضع المناهج، ولا يراعوا أصول طلب العلم الشرعي الإسلامية.
الجزء الثاني – إن شاء الله تعالى –: رؤية حول (ضوابط مهمة لتعليم العلوم الشرعية وتعلمها في التعليم الإلكتروني).
_________________
(1) التعليم عن بعد يعتمد على اللقاء غير المباشر بين المعلم والمتعلم، سواء كان اللقاء بينهما في الزمن نفسه عبر برامج التواصل الإلكتروني المرئي المباشر، أو في زمن مختلف عن طريق الرسائل والوسائط الإلكترونية.
(2) بيان هذه الفوارق إنما هو لتحديد أنواع التعلم والتعليم والوسائل المناسبة لكل علم، ولا يعني هذا أن تفصل دراسة العلوم الطبيعية عن العلوم الشرعية، إلا في حال التخصص العلمي، (فكلا الفريقين محتاج إلى الآخر حاجة الدين للدنيا وحاجة الدنيا للدين، حاجة متداخلة متناسقة، وعلى ذلك ينبغي أن يوجد بين العلمين تناسق وتوافق، وليس في هذا حجر على المواد العلمية التقنية من الانطلاق، بل إن امتزاجها بالمواد الدينية والتربوية عون لها على الانطلاق وتحديد المسار العلمي السليم وتجنيبه الانحراف) انظر: كتاب طريق البناء التربوي الإسلامي، الدكتور عجيل جاسم النشمي، ص 50 وما بعدها.
(3) أخرجه أحمد وأبو داود، انظر: صحيح الجامع، للألباني، رقم 2643
(4) تفسير ابن كثير، المقدمة، ص 4، طبعة دار المنار.
(5) علم التعلم: علم يبحث في ظاهرة تعديل أو تغيير السلوك. وعلم التعليم: إجراء تطبيقي يستفيد من القوانين التي كشف عنها علم التعلم. وفي كلمة واحدة التعلم علم والتعليم تكنولوجيا. انظر: علم النفس التعليمي، للأستاذ الدكتور محمود عكاشة والدكتور محمود المنشاوي، ص 13.
(6) انظر كتاب التربية في الإسلام، للدكتور أحمد فؤاد الأهواني، ص 220.
(7) انظر: كتاب تعليم اللغة العربية أسسه وإجراءاته، للدكتور فتحي يونس والدكتور محمود كامل والدكتور رشدي طعيمة، الجزء الثاني ص 249، وراجع الرد على تلك الدعاوى المذكورة ص 251- 254.
(8) تفسير الجلالين، سورة التوبة، آية رقم 122.
(9) الوسائل التعليمية بين النظرية والتطبيق، الدكتور علاء زايد، ص 3.
(10) طريق البناء التربوي الإسلامي، الدكتور عجيل جاسم النشمي، ص 22.
(11) المرجع السابق، ص23.(115/487)
ـــــــــــــــــــ
في التعليم الإلكتروني (2- 3): ضوابط مهمة في تعليم العلوم الشرعية وتعلمها
محمد سعد
22/5/1426
ارسل تعليقك ...
لا توجد تعليقات ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
القضية الثانية: ضوابط مهمة – من وجهة نظري – في تعلم العلوم الشرعية وتعليمها عبر الوسائل الإلكترونية:
تطوير استعمال الوسائل الحديثة(1) في تعليم العلوم الشرعية وتعلمها، يعتمد على:
- استيعاب الباحثين – وخصوصاً المتخصصين في العلوم الشرعية والتربوية - للتطور التقني في مجال الوسائل الإلكترونية الحديثة.
- مواجهة المشكلات التي تنبع من استعمالها في مجال التعليم الشرعي(2) ، والسعي إلى وضع حلول لها، وخصوصاً أن أمتنا في بدء الطريق لتطوير التعليم في هذا المجال(3) ، لنصل إلى تكييف تلك الوسائل لتخدم العلوم الشرعية.
- تشجيع البحوث والدراسات التي تهدف إلى التوفيق بين طبيعة العلوم الشرعية وخصائص الوسائل الإلكترونية، ووضع الضوابط التي تكفل سلامة المضمون وصحة المنهج. وفي هذا فوائد كثيرة، منها تقديم التصور الصحيح للشركات المتخصصة لإنتاج البرمجيات التي تناسب المادة الدينية والعلوم الشرعية، ومنها تقديم التصور الصحيح للمعلم في اختيار الوسيلة الإلكترونية المناسبة، وكيفية استعمالها(4).
إن الباحثين والدارسين في هذا المجال عليهم معوّل كبير لدراسة هذه الوسائل الإلكترونية الحديثة، وتقديم البحوث النافعة للأمة في مجال تطبيقها في تعليم العلوم الشرعية
ومن ثم فإن الباحثين والدارسين في هذا المجال عليهم معوّل كبير لدراسة هذه الوسائل الإلكترونية الحديثة، وتقديم البحوث النافعة للأمة في مجال تطبيقها في تعليم العلوم الشرعية، سواء في المراحل المدرسية أو في المرحلة الجامعية أو في التعلم عن بعد.
وسوف أشير هنا إلى أمثلة لبعض الضوابط العامة المهمة – في رأيي - والتي ينبغي لنا مراعاتها في تعليم العلوم الشرعية وتعلمها عبر الوسائل الإلكترونية:
أولاً: ضوابط تتعلق بطالب العلم الذي يبحث عن تعلم العلوم الشرعية عبر الوسائل الإلكترونية:
ومن أهم هذه الضوابط: تحري مصادر العلم الشرعي الموثوقة:
فالعلوم الشرعية يُشترط في نقلها عدالة الناقلين، مع اختصاص رواية الحديث الشريف بشروط خاصة معروفة، فلا يؤخذ العلم الشرعي عن كافر أو مبتدع أو(115/488)
فاسق أو مجهول الحال، سواء في مجال رواية الحديث والقراءات، أو في مجال الفقه وما يشبهه من العلوم الشرعية، أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن ابن سيرين قال: "لم يكونوا يسألون عن الإسناد، فلما وقعت الفتنة قالوا: سموا لنا رجالكم، فيُنظر إلى أهل السنة فيؤخذ حديثهم، ويُنظر إلى أهل البدعة فلا يؤخذ حديثهم"(5) . وقال الطيبي: "المأخوذ عنه العدول الثقات المتقون"(6).
أما العلوم الطبيعية، كالطب والهندسة والكيمياء واللغات وغيرها من العلوم الطبيعية، فمجال التعلم فيها من غير المسلم - إذا كان ثقة في مجاله مأموناً - مجال واسع مفتوح، وقد جعل الرسول _صلى الله عليه وسلم_ فداء الأسرى من الكفار أن يعلّم الواحد منهم عشرة من أبناء المسلمين الكتابة والقراءة.
ومن ثم لا يصح - في تعلّم العلوم الشرعية - الاعتماد على وسائط إلكترونية تعليمية تضعها شركات غير مسلمة إلا إذا كان دورها قاصراً على الجانب التقني أو الفني.
ولا يصح السعي لزيادة الثقافة الفقهية والعلوم الشرعية من مواقع ذات توجهات غير صحيحة أو تعصبية أو تابعة لمذاهب مبتدعة وتيارات ضالة، وهي كثيرة كمواقع الشيعة، ومواقع الصوفية، وغيرها.
ولا يصح كذلك التوجه نحو الجامعات والمعاهد التي تنشئها جهات غير مسلمة أو مجهولة الحال لتعلم العلوم الشرعية وأخذ الدرجات العلمية منها؛ لأنها لا يتوافر فيها شرط العدالة، ومن حيث الواقع يغلب على تلك الجهات محاربة الإسلام بصورة أو بأخرى؛ كأن يكون هدفها نشر مفهومات منحرفة عن الإسلام تخدم سياساتها، أو تخريج أجيال ذات فكر مضلل، تساعد تلك الجهات أو الدول غير المسلمة في محاربة الإسلام الصحيح.
ولا يصح التلقي عبر الشبكة العالمية الإنترنت من جامعات ومعاهد إلكترونية من أشخاص لا يُعرف حالهم، أو دراسة العلوم الشرعية من مناهج غير موثقة من جهة إسلامية معتمدة معروفة لدى المسلمين.
ولا يصح أن يتجه طالب العلم المبتدئ إلى بحار الشبكة العالمية الإنترنت يجوب بين الغث والسمين قبل أن تتكون لديه ملكة التمييز الشرعي، ويكون لديه منهج واضح يؤهله للاطلاع على التيارات والأفكار والفرق الأخرى.
ولا يصح أن يجمع المبتدئ من شبكة الإنترنت كل ما يراه من كتب إلكترونية شرعية ومواد وبحوث، ويعتمد عليها إلا بعد أن يطمئن إلى مصدرها، ثم يتأكد أهي نسخ معتمدة مدققة يوثق بها، أم من جمع الهواة وغيرهم، فإذا كان مجال النشر الورقي، من كتب ورسائل، يقع فيه كثير من التجاوزات العلمية والأخطاء، وتنتشر فيه الطبعات التجارية غير المحققة ولا المدققة، وهو مجال لا يتيسر لكل أحد الخوض فيه لتكاليفه المالية وغيره، فما ظنكم بالنشر الإلكتروني الذي يستطيع من خلاله كل من تروق له فكرة أن ينشرها صحيحة كانت أم باطلة!
ومجال النشر الإلكتروني سهل إلى الدرجة التي صار الأمر فيها بلا ضابط ولا رابط، فكل من أراد نشر شيء وضعه في صورة كتاب ونشره عبر الشبكة، وطالب العلم الناشئ إذا لم يكن على منهج سليم في تلقي العلم الشرعي أو لم يكن له شيخ يوجهه، أو معلم ناصح يرشده؛ فقد يخبط خبط عشواء بين مواقع لا تلتزم بالمنهج(115/489)
العلمي الصحيح، أو تخلط الحق بالباطل، ومثال ذلك مواقع خاصة بعلامات الساعة، لا يُعرف من هم أصحاب كثير منها، ولا تتبع منهجاً صحيحاً، وتدمج الآراء الشخصية بالعبارات العلمية، والخرافات بالأحاديث، وتنزل النصوص تنزيلاً مباشراً على الأحداث دون علم ولا دليل.
وهنا تبرز أهمية أن يكون للجهات الشرعية الموثوقة، والعلماء الأعلام، والدعاة الثقات، مواقع على شبكة الإنترنت يسهل رجوع طلاب العلم والباحثين إليها.
ثانياً: ضوابط تتعلق بالجهات التي تعتمد على الوسائل الإلكترونية والتعليم الإلكتروني:
1 - ألا تكون هناك مبالغة في استعمال الوسيلة على حساب الملكات المطلوب تنميتها في طالب العلوم الشرعية:
إذ لا ينبغي لنا الاندفاع في استعمال الوسائل الإلكترونية بضغط مواكبة التقدم الغربي دون حساب لخطوات هذا الاستعمال ودراسة لمتطلبات تطبيقه، يقول الدكتور نبيل علي: (يحتاج استخدام الكمبيوتر في مجال التعليم إلى عملية تجديد شاملة تتضمن تأهيل المدرسين، وإعداد المناهج، واستحداث المنهجيات والأساليب، وتطوير الإدارة المدرسية. إن إدخال الكمبيوتر للمدارس دون توفر الحد الأدنى من البيئة التحتية اللازمة، ودون أن تسبقه عمليات التجريب والتحليل الدقيق يعد مجازفة حقيقية...)(7).
يحتاج المتخصص في العلوم الشرعية إلى عدد من الملكات والمهارات؛ حتى يكون مؤهلاً وجديراً بتخصصه، ومن هذه الملكات على سبيل المثال: ملكة الحفظ ، والتصور الذهني المجرد، والقدرة على البحث، والحوار والمناقشة، ويحتاج إلى تعود الصبر على القراءة، والصبر على الكتابة بالقلم، وتعود البحث في الكتب الورقية والمكتبات.
وكثيراً ما يؤخذ على التعليم التقليدي القديم أنه لا ينمي مثل تلك الملكات؛ لأنه يعتمد على التلقين وسلبية موقف المتعلم، وهذا المأخذ قد يقع في الوسائل الإلكترونية الحديثة، حيث سيتحول دور المتعلم عند التركيز عليها والإكثار من استعمالها في الموقف التعليمي إلى دور سلبي يعتمد على التلقي فقط، ولا تتوافر له الفرصة لتنمية الملكات المذكورة أو غيرها.
وهنا لا بد من التنبه إلى أن استعمال الحاسوب، بما له من قوة جذب وتأثير، وتطبيقاته المتنوعة والتمرس عليها؛ يُكسب مهارات متعلقة بالحاسوب نفسه، ولكنه في الوقت نفسه ليس لزاماً أن يُكسب المتعلم مهارات عقلية وفكرية، إلا إذا كانت المهارات العقلية والفكرية مدرجة في البرنامج التعليمي المعروض عبر الحاسوب، بحيث يتخطى الموقفُ التعليمي تأثير دور الحاسوب، ويركز على المهارات العقلية والفكرية فعلاً.
وكما هو معروف في علم النفس البيولوجي أن الذاكرة نوعان؛ ذاكرة للمعلومات مثل معلومات التلاوة، وذاكرة للإجراءات مثل كيفية تحريك جهاز النطق كاللسان لتطبيق أحكام التلاوة، فإذا تدرب الطالب مثلاً على التعامل مع الحاسوب، واستطاع بمهارة أن يتجاوب مع وسيلة التعليم المستعملة في الحاسوب، فهذا لا يعني أنه اكتسب مهارة(115/490)
تطبيق أحكام التجويد في تلاوته، مثله مثل التعليم النظري تماماً، إلا إذا كان التطبيق هدفاً في تعليم المادة، ووُظفت الوسيلة توظيفاً هادفاً يحدد دورها في خدمة الأهداف التعليمية.
ومن الملكات المهمة المطلوب تنميتها في المتخصص في العلوم الشرعية: قدرة التصور الذهني المجرد دون استعمال وسائل مساعدة، والتركيز على الوسائل الإلكترونية التي تعتمد على المؤثرات الصوتية والمرئية؛ قد يؤدي إلى ضمور هذه الملكة، يقول الدكتور نبيل علي: "يسيء البعض لدينا فهم ما يتردد عن ثقافة الصورة على أساس أنها تعني عدم حاجتنا إلى التعامل مع النصوص، وهو مفهوم خاطئ، فما زالت النصوص وستظل أداة فعالة للمعرفة الجادة خاصة في مجال العلوم الإنسانية التي يسودها طابع السرد. إن النصوص ما زالت هي الوسيلة الفعالة لتناول الأفكار المجردة، إلى الحد الذي جعل البعض يردد الشعار المعكوس: الكلمة خير من ألف صورة"(8).
ومن الملكات التي تنبغي تنميتها في طالب العلم الحفظ، فهو يحتاج إلى قدر غير قليل من المحفوظات الشرعية من نصوص القرآن الكريم، والأحاديث النبوية، وأقوال الصحابة والتابعين، وأقوال العلماء ومذاهبهم، وغير ذلك مما هو معروف، ولا يتصور أن يعتمد المتخصص على الحاسوب المحمول لاسترجاع مثل هذا القدر من الأساسيات المهمة في تكوين شخصيته العلمية، قال الإمام الشافعي:
علمي معي حيثما يممت ينفعني ... ...
قلبي وعاء له لا بطن صندوق
إن كنت في البيت كان العلم فيه معي ... ...
أو كنت في السوق كان العلم في السوق
ومن المهارات المهمة كذلك مهارة البحث في المراجع والموسوعات المطبوعة، فالاعتماد على البحث السريع الذي توفره تقنية الحاسوب، مع ما لها من فوائد جمة للباحثين، لها سلبياتها في طالب العلم لا سيما المبتدئ، فقد تقلل من همة الطالب في طلب العلم من مظانه الأساسية، والبحث في المكتبات، وقراءة المطبوعات، والصبر على الاطلاع المتأني فيها، وبذل الجهد في قراءتها وتصفحها، وفي ذلك فائدة تربوية مهمة، وهي تقدير قيمة العلم، ومعرفة قدر العلماء، وثبات ما توصل إليه في قلبه ورسوخه، وهذا لا يوفره الحاسوب، فهو يخرج نتائج البحث للطالب من مجموعة كبيرة من الكتب والموسوعات بسرعة مذهلة، وقد يستخرج من ذلك أقوالاً للعلماء لا تظهر في سياقها الكامل فيخطئ الطالب في فهمها، وقد يستدل بقول عالم في ذلك وهو لم يقرأ ولو مقدمة كتابه.
يقول الدكتور علاء زايد: "ومن الناس من بهرتهم النتائج الهائلة التي أمكن الوصول إليها عن طريق الوسائل التعليمية، ونادوا بأن الوسائل التعليمية تغني عن الكتاب وتحل محله، وهذا الرأي متطرف للغاية، وفيه تحمس ضار؛ إذ إنه رأي لا تؤيده الحقائق، فالقراءة ستظل ركناً أساسياً من أركان التربية السليمة، وما الوسائل التعليمية إلا مجموعة من طرق التدريس المختلفة العديدة، يستخدمها المدرس لأغراض مختلفة، من أهمها أن تعينه على توضيح ما في الكتاب..."(9).(115/491)
2 - أن يكون هناك منهج تربوي يتعلمه الطالب المبتدئ لاستعمال الوسائل الإلكترونية:
فالإمكانيات التي توفرها الوسائل الإلكترونية الحديثة، والتي تزداد يوماً بعد يوم، وخصوصاً مع الانفتاح في استعمال الشبكة، وسهولة الدخول في الإنترنت، تضع طالب العلم أمام قدر عظيم من المعلومات والثقافات، كما تفتح عليه أبواباً من تيارات الضلالة والفساد؛ مما يستوجب إعداد منهج تربوي مخصص يرشد المبتدئ إلى الطريقة الشرعية الصحيحة في استعمال تلك التقنيات، ولا سيما في مجال تخصصه في العلوم الشرعية، ويوفر له الحصانة العقدية والفكرية والثقافية.
إن نقاء الهوية الخاصة للأمة أمر ضروري لسلامة كيانها وحمايتها من العطب، على أن أية أمة... لا تقدر على منع التفاعل الحضاري، وليس الحل هنا – كما يراه بعضهم – أن نفتح الأبواب على مصاريعها، تهب علينا منها رياح الأفكار من كل حدب وصوب... ولكن الحل في منهج يحفظ لنا خصوصيتنا، ولا يقف دون مشاركتنا في حركة التفاعل... وهذا ما يقدمه لنا العلامة ابن زهر الحفيد من خلال واقعة عجيبة وطريفة... فقد كان يدرّس الطب لبعض طلابه، فجاؤوه يوماً بكتاب في المنطق يريدون أن يعلمهم إياه، فـ "رمى به ناحية ثم نهض إليهم حافياً ليضربهم، وانهزموا قدامه، وتبعهم يعدوا على حالته تلك وهو يبالغ في شتمهم، وهم يتعادون قدّامه، إلى أن رجع عنهم عن مسافة بعيدة، فبقوا منقطعين عنه أياماً لا يجسرون أن يأتوا إليه. ثم إنهم توسلوا إلى أن حضروا عنده، واعتذروا بأن ذلك - الكتاب - لم يكن لهم... وقبل معذرتهم، واستمروا في قراءتهم عليه صناعة الطب، وبعد مدة مديدة أمرهم أن يجيدوا حفظ القرآن، وأن يشتغلوا بقراءة التفسير والحديث والفقه، وأن يواظبوا على مراعاة العلوم الشرعية والاقتدار بها، فلما امتثلوا وأتقنوا معرفة ما أشار به عليهم، وصارت مراعاة الأمور الشرعية سجية وعادة قد ألفوها؛ كانوا يوماً عنده وإذا به قد أخرج لهم الكتاب الذي كان رآه معهم في المنطق، وقال لهم: الآن صلحتم لأن تقرؤوا هذا الكتاب وأمثاله عليّ"( - طبقات الأطباء 3 / 112 ، 113-)(10).
وقد يكون من الخطأ في بعض المواد والعلوم الشرعية اطلاع الطالب المبتدئ على كتب معينة في تخصصه قبل إتمامه لكتاب معين في منهجه المقرر، وهذه الوسائل الحديثة – دون وجود ضوابط تربوية تحكم التدرج المنهجي للعملية التعليمية لدى المبتدئين؛ (يمكن أن تشتت عقل الطفل العربي في مواجهة وابل المعلومات المصوب إليه، ويفقده بالتالي القدرة على استخلاص المغزى الكامن وراءه، حيث يمكن أن تضيع المعرفة في خضم المعلومات، وكما قيل نحن نشكو الجوع المعرفي، ونحن غرقى في بحور المعلومات)(11).
- يتبع -
____________________
(1) لا جدال في أن للوسائل الإلكترونية الحديثة إيجابيات كثيرة في مجال التعليم والتعلم، حيث توفر تكنولوجيا الرقمنة تطبيقات كثيرة، منها تقديم المادة التعليمية في صورة مزيج تفاعلي بين النص والصوت والأشكال الثابتة والصور المتحركة، ومنها تطبيقات النص التشعبي حيث يتمكن الطالب من التنقل عبر الروابط السريعة إلى(115/492)
مواضع أخرى داخل النص وخارجه، ومنها التشعب الوسائطي، حيث يتم التشعب بجميع أنواع الوسائط لا بالنص فقط. انظر: تحديات في عصر المعلومات، الدكتور نبيل علي، ص 187 – 192.
(2) يقول الدكتور محمد عبد القادر أحمد: (انتشار الوسائل في دروس التربية الدينية صادفته عقبات؛ هي: هناك حذر عند بعض المعلمين في تناول الوسائل التعليمية في دروس التربية الدينية.. وموقف الإسلام من ذلك...، استخدام الوسائل في الأمور الغيبية أمر يصعب تحقيقه، مجال الوسائل التعليمية بالصورة العلمية الصحيحة مجال جديد ...، وعلى هذا فإن هناك جيشاً كبيراً من المعلمين في الميدان لم يحصلوا على هذه الدراسات، وهم لذلك إما محجمون عن استخدام الوسائل التعليمية، وإما أنهم يستخدمونها استخداماً غير صحيح)، انظر: الجديد في تعليم التربية الإسلامية، د. محمد عبد القادر، ص 98، 99.
ويذكر الدكتور نبيل علي من أسباب إشكالية العلاقة بين الطفل العربي وتكنولوجيا المعلومات: (ندرة البحوث العربية في مجال دراسة العلاقة التي تربط الطفل العربي بالعلم والتكنولوجيا. أما البحوث المتعلقة بعلاقة الطفل العربي بلغته الأم وتراثه العربي والإسلامي؛ فما زالت تفتقد إلى التأصيل النظري والتجريب العلمي) تحديات عصر المعلومات، ص 179.
(3) بدأ الاهتمام في هذا المجال منذ فترة ليست بعيدة، فقد عقد على المستوى الرسمي العربي المؤتمر الدولي الأول للحاسبات والتكنولوجيا المتطورة في التعليم وتنمية الموارد البشرية في عصر المعلومات، بالقاهرة، من 18 – 20 مارس عام 1996م، نظمته وزارتا التربية والتعليم المصرية والبحث العلمي، بالتعاون مع اليونسكو وجهات أخرى، قدمت موضوعات بحثية متعددة، من أهمها - فيما يتعلق بموضوعنا -: تعليم اللغة العربية باستخدام الحاسب، التعليم عن بعد والتدريب، استخدام الوسائط المتعددة في التعليم، التعليم الذاتي للأطفال باستخدام الكمبيوتر. انظر: مجلة مرشد الكمبيوتر، ص 52، عدد 82، مايو 1996م.
كما عقد في الرياض في الفترة بين 10 – 13 من ذي القعدة / 4 – 7 فبراير 2001م، المؤتمر الوطني السادس عشر للحاسب الآلي، بعنوان (الحاسب والتعليم) قُدمت فيه 41 ورقة بحث، تضمنت البحوث المقدمة موضوعات الحاسوب والتعليم، والشبكات، وأمن المعلومات، ومشكلات الحاسوب والتعليم، والتي كان من أهمها: عدم تجاوب الكثير من المدرسين مع الأسلوب الجديد في التعليم، والنظر إليه بأنه جهد إضافي ليس له ما يقابله مادياً. عدم توفر برمجيات عربية أو مواقع عربية تخدم المناهج الدراسية، وصعوبة الاعتماد على البرامج المتوفرة تجارياً.
كما قدمت بعض نماذج للتعليم الإلكتروني في البلدان العربية والإسلامية؛ من أهمها التجربة الماليزية، وهي تجربة مخضرمة ناضجة، اعتمدت على الإبداع المحلي، حيث تم إنشاء البرامج محلياً، وتطورت بعد ذلك ليتم تأليف المناهج بما يتناسب مع تطور تقنيات الحاسوب؛ ضمن مشروع المدرسة الذكيةsmart school ، وقد بلغ عدد هذا النوع في ماليزيا 90 مدرسة. وهناك مشروع كبير في المملكة العربية السعودية لإنشاء شبكة تربط الجهات التعليمية، لربط حوالي 10000 آلاف مدرسة ترتبط(115/493)
بمليون حاسوب في شبكة محلية، وسيتفيد الطلاب من تصفح المواقع التعليمية المتضمنة للمناهج التعليمية والكتب الإلكترونية، وستقديم المناهج باستخدام الوسائط المتعددة. انظر: مجلةPC Magazine الطبعة العربية، العدد الرابع أبريل 2001م، ص 8.
(4) من قواعد اختيار الوسائل التعليمية: تحديد الهدف، مراعاة التناسب بين الوسيلة وقدرات الدارسين، سلامة المضمون من الأخطاء العلمية والفنية، القصد في الوقت حتى يتسنى للمعلم ممارسة الجوانب التربوية للموضوع. انظر: الوسائل التعليمية بين النظرية والتطبيق، الدكتور علاء زايد، ص 108 – 111.
(5) أخرجه مسلم في مقدمة صحيحه.
(6) فيض القدير، للمناوي، حديث رقم 5716.
(7) تحديات عصر المعلومات، الدكتور نبيل علي، ص 187.
(8) تحديات عصر المعلومات، مرجع سابق، ص 200.
(9) الوسائل التعليمية بين النظرية والتطبيق، الدكتور علاء زايد، ص 18، 19.
(10) ابن زهر الطبيب شخصيته وموقفه من التحصين الثقافي، بقلم نبيل فولي، مجلة الوعي الإسلامي، العدد 364، 1416هـ.
(11) تحديات عصر المعلومات، د. نبيل علي، ص 200.
ـــــــــــــــــــ
في التعليم الإلكتروني (3- 3): بين المعلم والوسائل الإلكترونية
محمد سعد
القضية الثالثة: دور المعلم في الموقف التعليمي في وجود الوسائل الإلكترونية الحديثة:
لا بد من التفريق في هذه القضية بين أمرين: مبدأ استعمال التقنية والوسائل الحديثة في العملية التعليمية، ودور كل من المعلم والوسيلة في الموقف التعليمي.
الأمر الأول لا خلاف فيه، فقد (أجريت دراسات في الدول المتقدمة حول مستوى التحصيل عند استخدام الحاسوب في العملية التعليمية، فتوصلت مجمل النتائج إلى أن المجموعات التجريبية (التي درست باستخدام الحاسوب) قد تفوقت على المجموعات الضابطة (التي لم تستخدم الحاسوب في التعلم)، وقد توصلت دراسات عربية إلى النتائج السابقة نفسها...)(1) ، ولا ينكر أحد ما للوسائل التعليمية الحديثة من أهمية وإيجابيات وفوائد، وأن استعمال الوسائل الحديثة في التعليم يجعل العملية التعليمية أكثر فاعلية وأعظم تحقيقاً لهدفها.
أما دور المعلم في الموقف التعليمي أمام الوسائل التقنية الحديثة في تعليم العلوم الشرعية؛ فلا بد قبل بيان أهميته من تذكر ما قلناه من أن العلوم الشرعية لها طبيعتها وخصائصها، وأن طلب العلم، ولاسيما في مرحلة التأسيس، يحتاج إلى دور فعال وواضح للمعلم. والعلوم الطبيعية تشترك مع العلوم الشرعية في ذلك، لكن حاجة العلوم الشرعية إلى التفاعل بين المعلم والطالب لاكتساب ملكات الفقه والنظر والتدبر أكبر وأكثر، إضافة إلى ما يقوم به المعلم من دور أخلاقي وتربوي.(115/494)
الوسائل التعليمية مهما تطورت لا يمكن أن تغني عن المعلم، ولا يصح أن يتعاظم دورها على حساب دور المعلم، وهذا ما يؤكده كثير من المتخصصين
وهنا يحتاج المعلم أمام وسائل التعليم الحديثة، ولاسيما فيما يتعلق بالعلوم الشرعية، إلى الدراسات والبحوث التي تحدد العلاقة بين دوره ودور الوسائل الحديثة، بحيث لا يكون استعمال الوسائل الحديثة على حساب دور المعلم، وحتى لا تطغى الوسائل الحديثة بسبب ما يواكبها من تطور وما لها من إمكانيات متقدمة ومؤثرة، ولكي يبقى دورها دائماً دوراً خادماً مساعداً في العملية التعليمية، وهذا أمر تفاوتت فيه الآراء(2) ، وهنا يطرح السؤال نفسه:
أتغني الوسائل التعليمية الحديثة بما لها من تقدم تقني عظيم وتطبيقات واسعة ومؤثرة عن المعلم؟
الوسائل التعليمية مهما تطورت لا يمكن أن تغني عن المعلم، ولا يصح أن يتعاظم دورها على حساب دور المعلم، وهذا ما يؤكده كثير من المتخصصين، (حيث لا يمكن تصور موقف تعليمي بدون معلم مهما حدث من تطور وتقدم علمي وتكنولوجي، فالمعلم هو المرشد والموجه، حتى لو كان المتعلمون يمارسون إحدى طرق التعلم الذاتي فتحت إشراف المعلم وتوجيهه، بل هو الذي يدفع التلاميذ إلى هذه الطريقة أو تلك لما يراه من فائدتها بالنسبة لهم بالقدر الذي يراه مناسباً)(3) ، ويقول الدكتور علاء زايد: "يخطئ من يظن أن الوسائل التعليمية توضح بذاتها، أو أنها تغني عن المدرس، بينما الواقع أنها لا تغني عن المدرس، وإنما تعينه على أداء مهمته، بل يُنتظر أن تزيد أعباءه، ولا يُنتظر أن تحل محله..."(4). يقول صاحبا كتاب (الأصول الاجتماعية للتربية): "يمكن القول إنه مهما تطورت تكنولوجيا التربية واستُعملت وسائل أخرى متقدمة؛ فلن يأتي اليوم الذي يوجد فيه شيء يعوض تماماً عن وجود المعلم"(5).
وسأعرض هنا جانبين لا يمكن تعويض دور المعلم فيهما بالوسائل الحديثة:
1- اعتماد العلوم الشرعية، ولاسيما علوم القراءات، على المشافهة المباشرة بين المعلم والطالب: في الماضي كان طالب العلم الشرعي بين أمرين، بين أن يتلقى العلم من أفواه العلماء وعلى أيديهم، مهما اختلفت طرق المعلم ووسائله في التعليم، وبين أن يتلقاه وحده من الكتب والصحف، والطريقة التي يعتد بها العلماء هي الأولى، أما الثانية فلا يعتدون بها في تأسيس العلماء؛ لما في ذلك من آفات كثيرة، أخطرها سهولة الوقوع في انحراف الفهم؛ لأن في العلم غوامض لا يمكن لمبتدئ في الطلب أن يصل لفهمها وحده، ومشتبهات لا يقدر على السلامة من الضلال فيها بمفرده.
قال الخطيب البغدادي: الذي لا يأخذ العلم من أفواه العلماء لا يُسمى عالماً، ولا يُسمى الذي يقرأ من المصحف من غير سماع من القارئ قارئًا، إنما يسمى مصحفياً. وفي فتاوى العلامة ابن حجر أنه سئل عن شخص يقرأ ويطالع في الكتب الفقهية بنفسه، ولم يكن له شيخ، ويفتي، ويعتمد على مطالعته في الكتب، فهل يجوز له ذلك أم لا؟ فأجاب بقوله: "لا يجوز له الإفتاء بوجه من الوجوه؛ لأنه عامي جاهل لا يدري ما يقول، بل الذي يأخذ العلم عن المشايخ المعتبرين لا يجوز له أن يفتي من كتاب ولا من كتابين". بل قال النووي - رحمه الله تعالى -: "ولا من عشرة... بخلاف الماهر(115/495)
الذي أخذ العلم عن أهله وصارت له فيه ملكة نفسانية؛ فإنه يميز الصحيح من غيره، ويعلم المسائل وما يتعلق بها على الوجه المعتد به..."(6).
قال بعضهم:
من لم يشافه عالماً بأصوله ... ...
فيقينه في المشكلات ظنون
وقيل: من دخل في العلم وحده خرج وحده، وقيل من أعظم البلية تشييخ الصحيفة. وقال الأوزاعي: كان هذا العلم كريماً يتلاقاه الرجال بينهم، فلما دخل في الكتب دخل فيه غير أهله. وفي رواية: كان هذا العلم شيئاً شريفاً إذا كان من أفواه الرجال يتلاقونه ويتذاكرونه، فلما صار في الكتب ذهب نوره وصار إلى غير أهله. قال أبو حيان:
يظن الغمر أن الكتب تهدي ... ...
أخا فهم لإدراك العلوم
وما يدري الجهول بأن فيها ... ...
غوامض حيرت عقل الفهيم
إذا رمت العلوم بغير شيخ ... ...
ضللت عن الصراط المستقيم
وتلتبس الأمور عليك حتى ... ...
تصير أضل من توما الحكيم
ولذلك رأى العلماء أن التلقي المباشر أساس في طلب العلم؛ لما فيه من فوائد لا تتوافر في غيره من طرق الاتصال، كالكتاب والرسائل قديماً، والوسائل الإلكترونية حديثاً. وقد كان الرسول _صلى الله عليه وسلم_ يتلقى العلم عن جبريل _عليه السلام_، قال – تعالى -: "عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى" [النجم: 5]، وكان جبريل _عليه السلام_ يعارض الرسول _صلى الله عليه وسلم_ القرآن كل عام في شهر رمضان، وتلقى الصحابة العلم مشافهة من النبي _صلى الله عليه وسلم_، وتلقى الصحابة بعضهم من بعض مشافهة. ولم يزل هذا دأب العلماء الراسخين في بدء طلبهم للعلم، يتلقون العلم مشافهة من العلماء، وحينما تقرأ ترجمة لعالم من العلماء تجد فيها فقرتين الأولى لذكر شيوخه الذين تلقى عنهم وسمع منهم، والأخرى لتلامذته الذين تلقوا عنه.
وفي التلقي المباشر فوائد مهمة في تأسيس طالب العلم؛ منها أنه يوفر الوقت والجهد باكتساب خبرات وملكات من المعلم، وأنه من أسباب الرسوخ في العلم، والعمق في الفقه، ومنها أنه يدعم عملية الحفظ، فحفظ الإنسان ما يسمعه، ولا سيما السماع المباشر، أكثر من حفظه مما يقرؤه، وهذا شيء عُرف بالتجربة، فقد (أظهرت إحدى نتائج التجارب التي أجريت أن اكتسابنا المعرفة في حياتنا يكون استخدام الحواس الخمس فيه بالنسب الآتية: 75 ? عن طريق البصر، 13 ? عن طريق السمع، 3 ? عن طريق لشم، 6 ? عن طريق اللمس، 3 ? عن طريق الذوق، كما أظهرت تجارب أخرى أننا نتذكر ونستبقي المعارف بالنسب الآتية: 10 ? مما نقرأ، 20 ? مما نسمع، 30 ? مما نرى، 50 ? مما نسمع ونرى، 70 ? مما نقول، 90 ? مما نعمل)(7).(115/496)
فالمشافهة المباشرة هي (أقوى وسيلة للاتصال ونقل المعلومة بين شخصين، ففيها تجتمع الصورة والصوت بالمشاعر والأحاسيس، "حيث تؤثر على الرسالة والموقف التعليمي كاملاً وتتأثر به، وبذلك يمكن تعديل الرسالة وبهذا يتم تعديل السلوك ويحدث النمو (تحدث عملية التعلّم)")(8).
وقد يقال إن التلقي عبر الوسائط، سواء المتزامنة أو غير المتزامنة، يغني عن التلقي المباشر من المعلم، لما فيه من مميزات توفير الوقت وتنظيمه، والاستفادة القصوى منه، ومراعاة أوقات المتعلمين، واستيعاب عدد كبير من المتعلمين، وإمكانية اختيار أمهر المعلمين وأبرزهم لإلقاء الدرس.
وأقول مهما قيل من فوائد للوسائط التي تتيح التلقي غير المباشر من المعلم، كالقنوات الفضائية، أو الشرائط المسجلة، أو الأقراص المدمجة، والوسائط المتزامنة، فهناك فرق بين السماع منها والسماع المباشر من المعلم، فالسماع المباشر أجمع للفكر، وأبعد عن الغفلة، لما فيه من إحساس بالمتابعة والمراقبة، وتوقع السؤال والمناقشة والحوار، فمع إقرارنا بإيجابيات الحاسوب وتطبيقاته الكثيرة لا نشك أن (هناك سلبيات لاستخدام الحاسوب في التعليم من أهمها افتقاده للتمثيل (الضمني) للمعرفة. فكما هو معلوم فإن وجود المتعلم أمام المعلم يجعله يتلقى عدة رسائل في اللحظة نفسها من خلال تعابير الوجه ولغة الجسم، والوصف، والإشارة، واستخدام الإيماء، وغيرها من طرق التفاهم والتخاطب (غير الصريحة)، والتي لا يستطيع الحاسوب تمثيلها بالشكل الطبيعي)(9).
إن الإقلال من أهمية اللقاء المباشر بالمعلم ودوره، وزيادة الاعتماد على الوسائل الحديثة في عملية التعليم، قد يؤدي إلى القفز مباشرة بالمتعلم إلى ما يسمى بـ (التعلم الذاتي)(10)، والتعلم الذاتي لا بد فيه من مرور الفرد بمرحلة من الإعداد يبقى فيها تحت التوجيه والإشراف حتى يتمكن من القيام به – هذا أولاً-، وثانياً التعلم الذاتي وحده لا يمكن الوثوق به والاعتماد عليه لتخريج المتخصصين والعلماء، ولكنه وسيلة مهمة وفعالة لمن أراد الارتقاء بمستواه العلمي بعد إتمام المراحل التعليمية التأسيسية في التعليم على يد المعلمين والأساتذة والعلماء؛ حيث يكون الفرد قد كون في نفسه الخصائص اللازمة لعملية التعلم الذاتي(11).
2- الجانب التربوي: لما كانت العلوم الشرعية -كما سبق - لها خصوصية في التعلم والتعليم، وأنها ليست علماً فقط إنما هي علوم تحمل الصفتين العلم والتربية (التزكية)؛ فإن الوسائل التعليمية لا يمكن أن تعوض ما يملكه المعلم من عناصر تربوية في تعامله المتزامن المباشر مع المتعلم في التربية؛ لأن هدف العلوم الشرعية وغايتها هو العمل، والعمل يتأصل في النفوس بالقدوة عبر المعلم، قال ابن الجوزي – رحمه الله - في (صيد الخاطر): "ولقيت عبدالوهاب الأنماطي فكان على قانون السلف، لم يسمع في مجلسه غيبة، ولا كان يطلب أجراًَ على سماع الحديث، وكنت إذا قرأت عليه أحاديث الرقاق بكى واتصل بكاؤه، فكان وأنا صغير السن حينئذ يعمل بكاؤه في قلبي، ويبني قواعد الأدب في نفسي، وكان على سمت المشايخ الذين سمعنا أوصافهم في النقل"(12). وقال: "وقد كان جماعة من السلف يقصدون العبد الصالح للنظر إلى سمته وهديه لا لاقتباس علمه، وذلك أن ثمرة علمه هديه وسمته..."(13).(115/497)
كما أن للتعامل المباشر مع البيئة المحيطة دوراً في التربية، وهو ما يتوافر في مجامع العلم والمدارس وحلقات العلم والمحاضرات في المساجد، حيث يوجد زملاء الدراسة، وتتعدد المواقف التربوية جراء التفاعل المتزامن في الموقف التعليمي بين المعلم وتلاميذه، وفيما بين التلاميذ، ولا يتوافر ذلك في وسائل التعليم الإلكترونية عبر الإنترنت والتعلم عبر الحاسوب، وفقدان هذه العناصر المهمة من عناصر التربية؛ يجعل طالب العلم عرضة - أكثر من الطالب الذي يتلقى على يد العلماء - لآفات طلب العلم كالكبر والغرور، وعدم الإخلاص، والاعتداد بالرأي والتعصب.
القضية الرابعة: العلوم الشرعية في التعليم غير المتزامن:
زادت أهمية التعليم غير المتزامن واشتدت الحاجة إليه مع تطور العلوم المعاصرة واتساعها، وصارت الدول المتقدمة تعتمد عليه في تطوير مهارات الباحثين والعاملين في الدولة، حيث إنه من أفضل وسائل ما يسمى بالتعليم المستمر. وقد يصلح التعليم غير المتزامن فيما بعد مرحلة التأسيس، حيث يساهم في تطوير المهارات وزيادة العلوم والثقافة، ولكنه لا يصلح في مرحلة التأسيس، حيث يفتقد التعليم غير المتزامن لعناصر تعليمية كثيرة كما ذكرنا في القضية الثانية والثالثة، كما أن هناك جوانب أخرى، وخصوصاً في مجال العلوم الشرعية، لا يصلح فيها عدم التزامن بالنسبة إلى طالب العلم المبتدئ.
ومن ذلك:
- حاجته إلى التعديل المباشر في طريقة الشرح، حيث لا تتوافر في التعليم غير المتزامن إمكانية تعديل طريقة الشرح في وقت التعليم نفسه إذا لزم الأمر، أو الاكتفاء بمثال أو زيادة الأمثلة أو تغيير الأمثلة التي كانت مقررة.
- مراعاة الخصائص الذهنية والنفسية للمتعلمين أثناء الشرح، وضبط طريقة الشرح وطريقة استعمال الوسائل التعليمية بما يتناسب ومستوى المتعلمين، وهذا لا يمكن الوصول إليه دون متابعة مباشرة آنية من المعلم.
- تنمية الدوافع لدى المتعلم، حيث يوفر التواصل المتزامن المباشر في الفصل بين المعلم والتلاميذ بيئة مهمة لتنمية دوافع التعلم، لا توفره الوسائل الحديثة وحدها.
- متابعة التوجهات والأفكار الطارئة أولاً بأول، وهو أمر مهم في مجال تعليم العلوم الشرعية وتعلمها، والقيام بالتصحيح والتقويم المناسب.
خلاصة الرؤية:
- لا ينبغي أن نقع تحت تأثير إيجابيات التقنيات التعليمية الإلكترونية ونغفل عن آثارها السلبية والعمل على معالجتها.
- ينبغي أن تراعي الدراسات الخاصة بالتعليم الإلكتروني طبيعة العلوم الشرعية وخصائصها.
- الوسائل الإلكترونية لا يصح أن تكون وحدها طريقاً للتعلم وتخريج المتخصصين في العلوم الشرعية.
- الاهتمام بتوجيه الطلاب الذين يستعملون أسلوب التعليم الإلكتروني إلى استخدام المراجع المطبوعة في بحوثهم، ويمكن اشتراط ذلك في بعض البحوث لتدريب(115/498)
الطلاب على البحث الأصيل والقراءة، ووضع البحوث المكتوبة بخط اليد موضع الاهتمام.؛ لما لذلك من فوائد جمة.
- لا بد من تأكيد دور المعلم وتعزيزه مهما تطورت الوسائل التعليمية وظهرت أنواع جديدة، وخصوصاً مع التوجه الحثيث نحو التعليم الإلكتروني، وأن تكون الوسائل الحديثة أداة في يد المعلم أو تحت إشرافه، يوجهها ويتحكم فيها بما يتناسب وطبيعة العلوم والمرحلة والمتعلمين.
- يمكن للمعاهد والجامعات التي تعتمد على أسلوب (التعليم عن بعد) أن تعوض بعض ما تفتقده من مميزات التعليم المتزامن بأن تقيم لقاءات علمية دورية بين الطلاب والأساتذة والعلماء.
__________________
(1) (الإنترنت في التعليم: مشروع المدرسة الإلكترونية)، عبد العزيز بن عبد الله السلطان، عبد القادر بن عبد الله الفنتوخ، وزارة المعارف، من نسخة Google المخبأة، وهي نسخة محفوظة من الصفحة الأصلية http://www.riyadhedu.gov.sa/alan/fntok/fntok0.htm كما سُحبت في 31 آذار (مارس) 2005 06:20:18 GMT.
(2) (لقد تباينت وتشعبت الآراء حول استخدام الحاسوب في التعليم بصفة عامة، وكتقنية مستوردة – وما تحمله من خلفية ثقافية – بصفة خاصة. ولعل علاج الأخيرة يكون بتوطين المحتوى، أي أن نستخدم الجهاز كأداة ونصمم له البرامج التي تتناسب مع ثقافتنا. وأما الأولى وما يصاحبها من سلبيات فلعل علاجها يكون بالاقتصار على استخدام الحاسوب بوصفه وسيلة مساعدة للمعلم. وهذا أحد الأشكال الثلاثة التي يستخدم فيها الحاسوب في التعليم، وهي:
1- التعلم الفردي: حيث يتولى الحاسوب كامل عملية التعليم والتدريب والتقييم أي يحل محل المعلم.
2- التعليم بمساعدة الحاسوب: وفيها يستخدم الحاسوب كوسيلة تعليمية مساعدة للمعلم.
3- بوصفه مصدراً للمعلومات: حيث تكون المعلومات مخزّنة في جهاز الحاسوب ثم يستعان بها عند الحاجة.
وقد يكون من الأفضل قصر استخدام الحاسوب في التعليم العام على الشكلين الأخيرين حيث أن المتعلم لا يزال في طور البناء الذهني والمعرفي)، المرجع السابق.
(3) أساسيات المنهج المدرسي وتنظيماته، الدكتور علي سلام والدكتور مصطفى عبد القوي، ص 271.
(4) الوسائل التعليمية بين النظرية والتطبيق، مرجع سابق، ص 18، 19.
(5) الأصول الاجتماعية للتربية، الأستاذ الدكتور إسماعيل دياب والدكتور فتحي عشيبة، ص 193.(115/499)
(6) نقلاً عن تعليق الدكتور رفعت فوزي عبد المطلب على كتاب (أدب الفتوى) لابن الصلاح، ص 84، ط الهيئة المصرية العامة للكتاب.
(7) انظر: الجديد، ص 101، 102، المرجع: المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم: الورشة التعليمية في عمليات وأساليب تدريب المعلمين في أثناء الخدمة، القاهرة من 1 – 20 فبراير 1977م، ص 167.
(8) (الإنترنت في التعليم: مشروع المدرسة الإلكترونية)، مرجع سابق.
(9) المرجع السابق.
(10) التعلم الذاتي: (هو النشاط الواعي للفرد الذي يستمد حركته ووجهته من الانبعاث الذاتي والاقتناع الداخلي والتقييم الذاتي، بهدف تغييره لشخصيته نحو مستويات أفضل من النماء والارتقاء)، تعريف طلعت منصور، انظر: علم النفس التعليمي، التعلم ونظرياته، الأستاذ الدكتور محمود عكاشة والدكتور عادل المنشاوي، ص 193.
(11) وضع "شيكرنج" 1964م خصائص التعلم الذاتي التي ينبغي توافرها في الطالب، وهي: (يستطيع حل المشكلات، يعترف بمسؤوليته في التعلم، ملم بمصدر المعرفة، لديه المبادأة والتعمق في البحث، يستطيع تنظيم خبراته، يدافع عن رأي معين يعتقد في صحته، لديه طاقة مرتفعة للعمل، واثق بنفسه، لديه حساسية لمعرفة الأشياء الضرورية لتعلمه، على وعي بجوانب القوة والضعف في نفسه...) انظر: المرجع السابق، ص 194.
(12) صيد الخاطر، ص 173، 174، ط دار ابن زيدون بيروت.
(13) المرجع السابق، ص 260.
ـــــــــــــــــــ
تجنيد المخبرين على النت
إعداد واستطلاع: ياسمينة صالح
8/5/1426
ارسل تعليقك ...
تعليقات سابقة ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
وقائع غريبة نشرتها قبل مدة جريدة " لوسوار" البلجيكية، ربما كانت ستمر مرور الكرام لولا أن مجلة " لومجازين ديسراييل" (المجلة اليهودية الصادرة في فرنسا) نشرت قبل أيام فقط ملفاً عن "عملاء الإنترنت!" والذين في الحقيقة يشكلون اليوم إحدى أهم الركائز الإعلامية للمخابرات الإسرائيلية والأمريكية على حد سواء. إنهم أشخاص لا يعرفون أنهم يفعلون شيئا خطيرا، يفتحون الإنترنت، وبالتحديد صفحات الدردشة الفورية لقضاء الساعات في الكلام عن أشياء قد تبدو من أول وهلة غير مهمة، وأحيانا تافهة أيضا، لكنها تشكل أهم المحاور التي تركّز عليها أجهزة استقطاب المعلومات في المخابرات الإسرائيلية (و الأمريكية)؛ لأنها ببساطة(115/500)
تساعدها على قراءة السلوك العربي، سلوك الفرد وبالخصوص الشباب الذين يشكلون على العموم أكثر من 70% من نبض الأمة العربية.
في سنة 1998م، حين اجتمع ضابط المخابرات الإسرائيلي "موشي أهارون" مع نظيره الأمريكي في مقر وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية، لم يكن الأمر يعدو اجتماعاً روتينياً، كان فيه الجانب الأمريكي يسعى إلى الحصول على الحقائق اللوجستيكية التي من عادة المخابرات الإسرائيلية تقديمها للأمريكيين عن الدول المتهمة قبلا ب"محور الشر"، بالخصوص التي تطلق عليها إدارة البيت الأبيض بالدول المارقة. لكن الجانب الإسرائيلي كان يبحث عن الدعم اللوجستيكي غير المعلوماتي، بل المادي لتأسيس مكتب ظل في الحقيقة بمثابة الأمل الكبير " لموشي أهارون" الذي كان من أبرز الوجوه الإسرائيلية المختصة في الشؤون الأمنية العربية.
إن كل من له قدرة على استعمال الإنترنت لسد فراغ أو حاجة نفسية يعد "عميلاً مميزاً" لأن المواقع التي تثير الشباب هي التي تمنحهم مساحة من الحوار ربما يفتقدونها في حياتهم اليومية
كان وراء عمليات اغتيال طالت شخصيات فلسطينية في تركيا ونيروبي وساحل العاج وتونس ودول أخرى أوربية مثل يوغسلافيا سابقاً، وأسبانيا وإيطاليا. فكرة المكتب كانت تتأسس على نقاط مضبوطة مسبقاً، وبالتالي تبدو واضحة وسهلة: تأسيس مكتب مخابراتي متحرك/ثابت عبر الإنترنت. كان الأمر على غرابته أول الأمر يبدو مثيراً للاهتمام بالنسبة للأمريكيين الذين اشترطوا أن يكونوا ضمن " الشبكة". مادياً، لم تكن إسرائيل قادرة على ضمان "نجاح" تجربة مخابراتية عبر الإنترنت من دون مساعدة أمريكية عبر الأقمار الصناعية وعبر المواقع البريدية الأمريكية التي تخدم بالخصوص " الشات" بكل مجالاته والتي يقع الإقبال عليها من قبل الشباب وبالخصوص من قبل شباب العالم الثالث في القارات الخمس.
بتاريخ 1 مايو 2002م تم الكشف لأول مرة في جريدة " التايمز" عن وجود شبكة مخابراتية تركز اهتماماتها على جمع أكبر عدد من " العملاء" أولاً، وبالتالي من المعلومات التي يعرف الكثير من الأخصائيين النفسانيين المنكبين على المشروع كيفية جمعها، وبالتالي كيفية استغلالها لتكون معلومة " ذات أهمية قصوى"! كانت العملية أشبه بفيلم هوليودي ذو تأثيرات سينمائية محضة، ومبالغات كتلك التي تتكاثف عليها الأفلام الحركية الأمريكية، لكن الحقيقة كانت أن مكتب " المخابرات عبر الانترنت" تأسس فعلا في سنة 2001م، تحت قيادة ضباط من المخابرات الإسرائيلية وكان يترأسه " موشي أهارون" نفسه، بمعية ضباط من وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية، والذي امتد إلى العالم من خلال جملة من المعطيات التي كانت تتركز على نفس الهدف الأول: جمع عملاء شباب لخدمة إسرائيل الكبرى!
ما نشرته مجلة " لوماجازين ديسراييل" الصادرة في فرنسا يبدو مثيرا للكثير من الدهشة، ربما لأنها نقلت عن "ملفات سرية" الكثير من التفاصيل التي استطاعت أن تجمعها عن مصادر موثوقة في إسرائيل، بحيث إنها كما تقول المجلة " أخذت السبق(115/501)
في نشرها" وهو ما أثار في النهاية سخط السفير الإسرائيلي في فرنسا ضد المجلة اليهودية التي اتهمتها الكثير من الجهات اليهودية بأنها " كشفت أسرار لا يحق لها كشفها للعدو" وهو ما تراه المجلة نفسها: الحق في المعرفة! بين هذا وذاك كانت القضية الأخطر.
بالنسبة إلينا، لأهمية وخطورة هذه الإشكالية قمنا بدعوة أستاذين مختصين في علم النفس وعلم الاجتماع للتعمق في الموضوع، وهم: جيرالد نيرو" (أستاذ في كلية علم النفس بجامعة بروفانس الفرنسية)، والدكتورة " ماري سيغال" (أخصائية اجتماعية، مختصة في السلوك البشري في جامعة "لوروا" بلجيكية)..
ماذا تعني "المخابرات الإنترنتية" Renseignements Internet:
يقول "جيرالد نيرو" (أستاذ في كلية علم النفس بجامعة بروفانس الفرنسية، وصاحب كتاب: مخاطر الإنترنت): " هذه شبكة تم الكشف عنها سنة 2001م، بالتحديد في مايو 2001م. هي شبكات يديرها مختصون نفسانيون إسرائيليون مجندون لاستقطاب شباب العالم الثالث وبالتحديد الشباب المقيم في دول المحور (محور الصراع العربي الفلسطيني) من جهة ومن جهة أخرى دول المحور الجنوب أمريكي (فنزويلا، نيكاراغوا... الخ) المسألة أخذت منذ سنوات هذا المنحنى ألمخابراتي انطلاقاً من جملة من العناصر التي صارت تتحدد عليها شخصية " العميل" من حيث كونه في العادة شخصية معادية للنظام القائم، وأحياناً شخصية عادية ليس لها اهتمامات سياسية لكنها تستطيع أن تعطي معلومات جيدة عن المكان والوضع، وهذا شيء مهم أيضاً...
يضيف " جيرالد نيرو " قائلاً: " في الحقيقة أن كل من له قدرة على استعمال الإنترنت لسد فراغ أو حاجة نفسية يعد "عميلاً مميزاً"؛ لأن المواقع التي تثير الشباب هي التي تمنحهم مساحة من الحوار ربما يفتقدونها في حياتهم اليومية، ناهيك على أن استعمال الإنترنت يضمن خصوصية معينة، بحيث أن المتكلم يحتفظ عادة بسرية شخصه، كأن يستعمل اسماً مستعاراً، وبالتالي يكون إحساسه (الرمزي) بالحرية أكثر انطلاقاً، ناهيك على أن تركيز الشباب لا يكون على الموقع نفسه، بل على من سيلتقيه للحديث معه (بالخصوص البحث عن الجنس اللطيف للحوار).
المسألة تبدو سهلة بالنسبة لضباط المخابرات الذين ينشطون بشكل مكثف داخل مواقع الدردشة، بالخصوص في المناطق الأكثر حساسية في العالم، ولعل أكبر خاصية يمكن اكتشافها في مستعملي الإنترنت في العالم الثالث هو الحاجة إلى الحوار، فعادة ما يكون مستعمل مواقع "الشات" شخصاً يعاني من البطالة اجتماعياً وفكرياً، وبالتالي يسعى إلى سد وقت الفراغ بالبحث عن " أشخاص آخرين" يشاركونه أفكاره.
ربما يعتقد بعض المستعملين للإنترنت أن الكلام عن " الجنس" مثلاً ضماناً يبعد الشبهة السياسية عن المتكلم، بينما الحقيقة أن الحوار الجنسي هو في الحقيقة وسيلة خطيرة لكشف الأغوار النفسية، وبالتالي لكشف نقاط ضعف من الصعب اكتشافها في الحوارات العادية الأخرى، لهذا يسهل "تجنيد" العملاء انطلاقاً من تلك الحوارات الخاصة جداً، والتي تشمل في العادة غرف النوم والصور الإباحية وما إلى ذلك،(115/502)
بحيث إنها السبيل الأسهل للإيقاع بالشخص ودمجه في عالم يسعى رجل المخابرات إلى جعله عالم العميل، أي أفيونه الشخصي!"
الدكتورة "ماري سيغال" التي تشارك معنا الحوار ترى شيئاً آخر، تقول: " عبارة المخابرات الإنترنتية (Renseignements Internet) مصطلح جديد على مسامع الآخرين، برغم من حقيقة وجوده. الأمريكيون اعتبروا قبل غزو العراق أنهم (يسعون إلى قراءة الشخصية العراقية) من خلال الإنترنت. أي استقطاب أكبر عدد من العراقيين بمختلف مستوياتهم لدراسة شخصيتهم وكان ذلك المشروع قيد البدء فعلاً، قبل أن تتسارع الأحداث بغزو العراق بتلك الطريقة. من وجهة النظر العلمية فإن استقطاب المعلومات لم يعد أمراً معقداً، بل صار أسهل من السابق بكثير. ربما في السنوات العشرين السابقة، كان " العميل" شخصاً يتوجب تجنيده بشكل مباشر، بينما الآن يبدو " العميل" شخصاً جاهزاً، يمكن إيجاده على الخط، وبالتالي تبادل الآراء معه ونبش أسراره الخاصة أحياناً، وأسراره العامة بشكل غير مباشر.
هنالك حادثة غريبة نشرها ضابط المخابرات الإسرائيلي/ الأمريكي " وليام سميث" الذي اشتغل إبان الحرب الباردة ضمن فرقة " المخابرات المعلوماتية"، نشر في جريدة الواشنطن بوست قبل عامين أجزاء من كتابه (أسرار غير خاصة) عن تجنيد شباب عاطلين عن العمل من أمريكا اللاتينية، كان دورهم في غاية البساطة والخطورة عبارة كتابة تقرير عن الأوضاع السائدة في بلدانهم.
في الفصل السادس من الكتاب ذكر " وليام سميث" أن أحد الشباب الناقمين على النظام في إحدى دول جنوب أمريكا ذكر في إحدى اللقاءات على الشات لضابطة مخابرات كانت على الخط معه (عبر الشات) أن ثمة إشاعات مثيرة تدور بين الناس أن سعر البنزين وبعض المواد الغذائية سوف يرتفع في الأيام القادمة. فسألته الضابطة " وماذا يعني ذلك؟ كل يوم ترتفع الأسعار في العالم"، فرد عليها الشاب: أنت تمزحين، سيثور الناس هذه المرة ويقومون بثورة ضد النظام. كانت تلك المعلومة البسيطة والمهمة لا تعني أن الأسعار سترتفع، بل إن تسارع جهات من الخارج إلى رفعها وإلى إثارة الناس بشكل حقيقي عملية الفوضى عبرها، وهو الشيء الذي تم تنظيمه في جمهورية جورجيا حين تم الكشف عن شبكة تنشط عبر الإنترنت قامت بحشد مجموعة من النشطاء الذين استطاعوا أن يقوموا بعمليات كثيرة ضمن (الثورة الملونة) مؤخراً. ما يهمنا في الحقيقة هو التأكيد أن الإنترنت لم يعد نافذة على العالم فحسب، بل صار يشكل وسيلة خطيرة للدخول إلى خصوصيات الآخرين وبالتالي تم استغلاله لأغراض مخابراتية عسكرية محضة، هذا شيء لا يختلف عنه أحد اليوم أساساً.. تضيف الدكتورة " ماري سيغال ":" نحن نتساءل عمن يستعمل الإنترنت عادة؟ من الصعب الرد على السؤال؛ لأن الذين يستعملون الإنترنت تتراوح أعمارهم من السادسة إلى الثمانين عاماً، ولهذا يصعب تحديد أسباب الاستعمال خارج ما نسميه أساساً بالرغبة في كسر حاجز المسافة أولاً، وبالتالي في الحوار.
ما يثير اهتمامنا في المعهد البلجيكي للخدمات الإنترنت هو أن نركز على نقطة مهمة، وهي: لماذا نستعمل الإنترنت؟ هل لتصفح البريد أم لتصفح العالم؟ في هذه(115/503)
النقطة يجب القول: إن العالم لم يعد واسعاً طالما الإنسان الجالس في مقعده يمكنه زيارة واشنطن ونيودلهي في برهة عين، من دون أن يغادر مقعده. هذا شيء عظيم تم إنجازه، إلا أن النتائج كانت فادحة؛ لأن استغلال هذه الشبكة الضخمة تم تعريضه لعوامل خارجية على أساسها تحول الانترنت إلى "سد فراغ" أو تسلية سرعان ما انقلبت إلى مأساة حين عجز الإنسان عن فعل شيء سوى الدخول إلى مواقع الدردشة التي لن يخرج منها إلا بإحساس أنه أضاع وقتاً عليه تداركه بالدخول إلى دردشة أخرى من دون أن يسأل نفسه عن ماذا يجب أن يتكلم أساساً!
يتدخل الدكتور " جيرالد نيرو " معلقاً:" دعونا نتكلم عن الوضع السائد دولياً، لا يمكننا بأي حال من الأحوال فصله عن الوضع الشخصي للفرد، وهو الإحساس بالإحباط والضغط أيضاً. هذه عوامل خارجية في غاية الخطورة ساهمت فيها العديد من الجهات دولياً وإقليمياً وداخلياً، لهذا يعتقد الفرد أن هروبه إلى " السرية" في الحوار عن كل شيء بمثابة التخفيف عن ضغط حقيقي يصيبه يومياً، والتخفيف يتم في غرف الدردشة التي يوجد فيها من هم هناك لأجل الاستماع! كل شخص يحتاج اليوم إلى من يصغي إليه. غرف الدردشة و" أبواب التعارف عبر الشات" عبارة عن عوالم أعطت للشخص احتياجات كثيرة منها أنه مسموع، لأول مرة في حياته يجد من يتحاور معه ويصغي إليه، ولهذا فأدق معلومة تبدو مهمة، بحيث إن جمع أكبر معلومات عن نفسية الأشخاص المستعملين لتلك الغرف.
هذا نجده بشكل كامل في كتاب" غرف الشات المزدوجة"، والتي يعرض فيها الصحفي (و ضابط المخابرات الإسرائيلي) " دان شستاسكي" أن التركيز على فئة الشباب هي المهمة؛ لأن الشباب مندفع في الكلام، وبالتالي التعرف على الجنس اللطيف هو في الأساس ما جعل مكتب " المخابرات الإنترنتية يلجأ إلى تجنيد ضباط نساء من الشبكة، بحيث إن الطلب عليهن أكبر في العالم الثالث وفي الشرق الأوسط عموماً!
رؤية الحرب عبر الانترنت:
لم يقتصر الإنترنت على مجرد مواقع الشات والتحرشات الغريبة والتي يعتقد كل طرف أنه يحقق من خلالها حريته الشخصية أو ما صار يصطلح عليه "ديمقراطية" الفرد في الجماعة، وهو المصطلح الذي يعني أن الفرد في النهاية يؤسس بداية تكوين المجموعة، وهو في الحقيقة المعنى التروتسكي القديم الذي أدى في النهاية إلى إحداث الخلل في العديد من التركيبات الطبيعية لماهية الحرية نفسها، وماهية الإنسان.
ربما في عالم الانترنت، صارت المؤشرات الرقمية هي الأهم، بحيث لم يعد ممكناً الكلام سوى عن ذلك العالم الكبير الذي حولته الشبكة المعلوماتية والرقمية إلى قرية صغيرة، بيد أن عبارة القرية الصغيرة "اخترعها" الغرب لاختزال كل السياسات غير المتساوية وغير العادلة التي ترتكبها الدول القوية على الدول الضيعة التي تشكل أكثر من نصف سكان العالم. القرية الصغيرة هي الانعكاس الثاني لعالم الإنترنت، بكل ما منحه ذلك العالم من إيجابيات حقيقية وسلبيات جمة؛ لأن الشبكة المفتوحة على " الديمقراطية الفردية" أغرقت شعوباً كثيرة في الفقر والمآزق السياسية وقادت الأفراد إلى خيانة أوطانهم أيضاً.(115/504)
بتاريخ 27 مايو 2002م نشرت جريدة اللوموند الفرنسية ملفاً عن حرب الإنترنت، وهي الحرب التي فعلاً انطلقت منذ أثر من عشرين سنة، وتوسعت منذ أحداث 11 سبتمبر2001م، بحيث تحولت من حرب معلوماتية إلى حرب تدميرية كان الهدف الأساسي منها احتكار"سوق الإنترنت" عبر مجموعة من المواقع التي رأت النور بعد ذلك التاريخ الأسود من أيلول 2001م، بحيث إن أكثر من 58% من المواقع التي ظهرت كانت في الحقيقة فروعاً مؤكدة من أجهزة الاستخبارات للعديد من الدول أهمها الولايات الأمريكية وإسرائيل، تليهما بريطانيا وألمانيا وفرنسا وإيطاليا.. لم يكن المغزى من المواقع (ذات الوجهة الشبابية) اكتشاف العالم من جديد، ولا اختصار المسافة بين الشمال والجنوب لتقريب الدول والمسافات، بل كان الهدف منها قراءة أخرى لواقع الحرب الجديدة التي تفجرت والتي يسميها أكثر من 90% بالحرب على الإرهاب.
ربما من الصيغة الأحادية المصدر فإن الإرهاب ارتبط _للأسف الشديد_ بجملة من التشويهات الإعلامية التي مورست ضد دول العالم، لإغراقها في الفقر ولإلصاق تهمة الإرهاب بها مرتين؛ مرة لأنها ضعيفة وفقيرة ومرة لأنها فعلاً تحمل رؤى مختلفة عن رؤى الاستغلال الرأسمالي الغربي، ونمط الفكر الغربي الاستهلاكي، لهذا كان الإعلام الأمريكي في السبعينات ينظر إلى دول الجنوب نظرة حربية مازالت مستمرة إلى اليوم، وإن توسعت لتشمل دول وأعراق أخرى.
ما تحقق على مستوى الشبكة المعلوماتية لم تحققه ربما أكبر الحروب المباشرة. لقد تغير العالم فعلاً يقول الكاتب الأمريكي " رونالد ماكرو" في كتابه "عشرة أعوام لكسب الرهان" والذي يتناول فيه وبشكل مباشر الدور الرهيب الذي لعبه الإنترنت في الكثير من المواقع الترفيهية التي كانت تخفي خلفها أسماء عسكرية رهيبة. مجلة " لاتريبون" الفرنسية عرضت في عدد213 أن ضابط الاستخبارات الإسرائيلي "أدون وردان" المعروف في الوسط المخابراتي داخل وخارج إسرائيل هو نفسه " دانيال دوميليو" الذي أطلق موقع " شباب حر" (jeunesse_libre) الذي استقطب أكثر من 10 مليون زائر في سنة انطلاقته عام 2003م.
وكان هذا الموقع (الذي توقف فجأة بعد أن كشفت صحيفة الصنداي شخصية مؤسسه) كان هذا الموقع من أهم مواقع التعارف والكتابة الحرة التي كان يعبر فيها ملايين الشباب عن " غضبهم" من حكوماتهم، وبالتالي كان ثمة ضباط من العديد من الدول الذين "اعتقدوا" أنهم يؤدون مهمة إنسانية بالكشف عن أسرار عسكرية في غاية الخطورة، منها ضباط من كوت ديفوار نشروا وثائق خطيرة عن الوضع الأمني الذي تم استغلاله من قبل المخابرات الإسرائيلية في السنة الماضية ل"معاقبة فرنسا" على موقفها " السلبي" من الحرب على العراق، يقول " دونالد ماكرو" بالحرف الواحد.. لقد لعب الإنترنت المهمة الأخطر على المستوى العسكري، إذ إن مجرد السؤال في حوار عادي عن الوضع السائد في البلد الفلاني لم يعد بريئاً، لكن ثمة أخصائيون يجيدون طرح الأسئلة بتفادي طرحها بشكل مباشر، ولإجبار الطرف الآخر على طرحها.. فقد كانت دولة مثل إسرائيل في الستينات والسبعينات تصرف(115/505)
الملايين من الدولارات كرواتب لعملاء تعمل على تدريبهم وبالتالي على تهيئتهم للأعمال المطلوبة منهم.
كان عالم الجواسيس دائماً محاطاً بنفس الهالة الرهيبة والمخاطر التي نجحت السينما الأمريكية في صياغتها. الجاسوس أو العميل هو نفسه الخائن في كل اللغات، هو الشخص الذي يعي أنه يختار الجهة المضادة لأسباب مادية وأحيانا ثأرية، وهؤلاء يفعلون ذلك عن مغامرة وعن سقوط إرادي، لكن الذي يجري أن " العميل" الراهن لا يعرف الدور الذي يقوم به. لا يعرف أنه يخون ويبيع أسرار بلده. لا يعرف أنه ضحية حوار غير برئ، ولا يعرف أن كل كلمة يقولها تمر على عشرات المحللين النفسانيين وأنه هو في الأخير فأر تجارب في عالم متناقض ومشبوه. لهذا من الصعب جدا تفادي "كارثة الإنترنت" يقول أكثر من رأي، من الصعب تفادي "كارثة الشات"؛ لأنه يبقى هو العالم المغري لملايين من الشباب بالخصوص الذين يبلغون أقل من عشرين سنة، ولهم ثقافة حياتية وفكرية جد محدودة، بحيث إنهم لا يهمهم سوى الكلام في أشياء "محظورة" مع شخص يعتقدونه جنساً لطيفاً! يقول " مايكل هيجل" في مجلة "بون" الألمانية.
ما يبدو حقيقياً جداً، وباعتراف ضباط سابقين في وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية مثل (جون دلتون) وضابط الاستخبارات البريطانية المتقاعد (هنري سرلوب) صاحب كتاب (واجهة شاحبة)، وضابط الاستخبارات الإسرائيلية " ميخائيل ماتان"، هؤلاء كتبوا بأنفسهم عن الدور الذي لعبوه في استقطاب عملاء بطرق لم يكونوا ليحلموا بها، أي بجرهم إلى الحوار عبر الإنترنت. الغريب في الأمر، يقول " هنري سرلوب " أن مواقع التعارف عبر النت هي التي تستقطب الملايين من الناس عبر العالم. ركن التعارف جلب أطباء وصحافيين مثلما جلب رجال أعمل وموظفين عاديين وأشخاص عسكريين أيضاً، لهذا كانت المواقع المعنية بالتعارف من أكثر المواقع زيارة في أوروبا وطبعاً مفتوحة لاستقطاب شباب من العالم العربي، ومن أمريكا اللاتينية. الطريقة في غاية السهولة نجدها ببساطة في كتاب (العميل البريء) " للكاتب الإنجليزي ": ادوارد ريتشارسون" قائلاً: العميل المثالي هو الأكثر حنقاً على نفسه، هو الكاره لذاته، الذي لا يحمل أي هدف محدد، فتلتقيه في حالة شرود، لتقوده إلى عالمك، ولتصقل شخصيته كما تشاء. بأن تصنع منه عميلاً مثالياً و"بريئاً" لمجرد أنه لا يعرف أنه يقدم لك خدمات كبيرة مقابل أن تكون صديقه!!!!
ـــــــــــــــــــ
خط الدفاع الأخير.. في المعركة الأخلاقية
محمد سعد
24/3/1426
ارسل تعليقك ...
تعليقات سابقة ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...(115/506)
طباعة ...
أهي معركة؟ نعم.
ألها استراتيجية وخطط هجوم ومواجهات؟ نعم.
ما نراه ونسمعه ونعيش في أجوائه هذه الأيام هي حرب - بمعنى الكلمة - موجهة إلى أمتنا الإسلامية، وهي حرب كان الناس يختلفون في حقيقة وجودها، وكان هناك من يشكك ويقول إنها وهم، ومنهم من يقول إنها تصريحات تعصبية لبعض قادة الغرب لا تمثل الواقع، لكن في السنوات الأخيرة تطورت الأمور وانكشف كثير مما كان مخفياً في الماضي، وصار العلن سمة واضحة وظاهرة لهذه الحرب التي لا ينكرها إلا أعمى البصيرة، حرب على ديننا وأخلاقنا وقيمنا وعاداتنا، حرب هدفها مسخ الأمة بعد هدم العامل الأول لوجودها وهو الإسلام.
وإليك بعض ما يجري في ساحة المعركة وآخر أخبارها:
- "مكتبتي العربية" مشروع أمريكي سيتم من خلاله توزيع كتب أمريكية مترجمة بين تلاميذ الصفين الثالث والرابع بالمرحلة الابتدائية، تتبنى قيماً غربية وتناقش الكتب الموضوعات الجنسية!! (آفاق عربية –جريدة مصرية- 19/ 3 / 26).
وإذا كانت الأسرة تمثل خط الدفاع الأول من حيث بدء تربية الأولاد ومنشئهم؛ فهي في الوقت نفسه تمثل خط الدفاع الأخير من حيث وصول الهجمات الانحلالية على المجتمع
- مؤتمر بالجامعة الأمريكية بمصر يروج للشذوذ عنوانه (مؤتمر الشباب العربي الرابع) تحت رعاية شركات "كنتاكي" و"أمريكانا" و"تكا"، خصص لمناقشة قضايا الشباب ثم تحول المؤتمر إلى دعاية للشواذ، حيث ظهر أحد الطلبة في أولى جلسات المؤتمر وقدم نفسه على أنه شاذ جنسياً، وأنه مستعد لتلقي جميع الأسئلة من زملائه والإجابة عنها، وفي النهاية خرج المؤتمر بالموافقة على إقرار حقوق الشواذ، وطالبوا بوضع مواد دراسية لتثقيف الشباب جنسيا!! (المصدر السابق).
- نظمت شركة "أولويز" لإنتاج الفوط الصحية محاضرات للطالبات حول التثقيف الصحي في فندق "شبرد" بالقاهرة على مدار شهر أبريل، حيث حضر يومياً طالبات المرحلة الإعدادية من مختلف الإدارات التعليمية بالقاهرة والمحافظات، موضوع المؤتمر تنظيم النسل. (المصدر السابق).
- أقيمت حفلة للموسيقى والرقص والغناء في إحدى الجامعات الكبيرة، واستمرت حتى الساعة الرابعة والنصف ليلاً، حضرها أعضاء من هيئة التدريس، وكانت الحفلة في الليلة نفسها التي يُحتفل فيها بالمولد النبوي. (المصدر السابق).
هذه بعض خطوات فيما يشبه منظومة استراتيجية، تتلاقى فيها أهداف جهات تسعى إلى تفكيك النظام الاجتماعي الأسري في مجتمعات المسلمين، وهي منظومة كبيرة متنوعة الصور والأشكال، فهناك تشريع لقوانين موجهة لخلخلة العلاقة الزوجية المتينة التي أقامها الإسلام، كقوانين الخلع الجديدة في بعض بلاد المسلمين، وسفر المرأة دون إذن الزوج، وتغيير صيغة عقد الزواج.
وهناك إجراءات اجتماعية لتهميش دور الأسرة في السيطرة على الأبناء، وإبعادهم عن الجو الأسري المترابط والبيئة التربوية التي كونها الإسلام عبر عدد من(115/507)
التشريعات، كمحاولة التدخل في شأن الأسرة الخاص وإلغاء الختان كلية وتجريمه دون تمييز بين من يلزمهن ذلك ومن لا يلزمهن، وفي هذا ما فيه مما هو معروف من علاقة بضبط الشهوة لدى المرأة، وهناك القنوات الفضائية التي تقدم للشباب الحياة الغربية في صورة جذابة تتلاعب بأحلام المراهقين وشهواتهم، فيما يمثل دعوة واضحة لهم لتقليد الحياة الغربية بكل ما فيها من عادات وتقاليد منحرفة وشاذة، تشجعه على الخروج عن سيطرة الأسرة وسياجها.
وإذا نظرت إلى نماذج الأخبار التي أوردتها قبل سطور؛ فحاول أن تبحث عن الآباء والأمهات فيما حدث، أين هم؟ أين دور الأسرة؟ أين أبو هذا الشاب الذي خرج في المؤتمر يدعو إلى الشذوذ؟ أين أمهات البنات اللاتي ذهبن إلى مؤتمر مشبوه يعلم أطفالاً في سن الثالثة الابتدائية والرابعة الابتدائية تنظيم النسل؟ أين آباء هؤلاء الشباب الذين حضروا الحفل الراقص حتى وقت الفجر؟ ثم ألم يكن الأجدى بالجامعة التي تخرج الأجيال أن تجمع هؤلاء الشباب لتوعيتهم وحمايتهم من حملات التغريب والفساد.. ثم يخرجون لصلاة الفجر؟
حال كثير من الآباء والأمهات اليوم يدعو إلى التساؤل والدهشة، حيث تجري على أولادهم عمليات التغريب، ويقعون فريسة لموجات الانحلال، ولا تجد الآن للأسرة دوراً يذكر في حماية أولادها، وإلا فما معنى وجود آلاف الاتصالات من شباب في سن المراهقة لبرنامج ستار أكاديمي، وغيره من برامج الفساد والفجور، وما تفسير وجود تفاعل قوي مع هذه الأنواع من البرامج؟
وما معنى انتشار التبرج والسفور بين كثير من الشابات وانتشار عادات فاسدة بينهن؟ وما معنى انتساب شبان في بعض مجتمعات المسلمين إلى عبدة الشيطان؟ وما معنى وجود التحلل الأخلاقي الذي نسمع عنه في أوساط الشباب في المدارس والجامعات؟ وما معنى ما يروى ويحكى عن الانحلال الأخلاقي عبر وسائل التقنيات الحديثة لوسائل الاتصال؟
لا معنى لذلك كله إلا أن دور الأسرة في حماية أولادها في طريقه إلى الزوال إن لم يكن قد زال فعلاً في بعض الأوساط الاجتماعية.
إذاً هذه نماذج لفقدان دور الأسرة وضياعه؛ إما بسبب الجهل أو الانحراف، وإما بسبب ما وقع فيه الآباء أنفسهم من ضلال تحت مسمى ترك الحرية لأولادهم لممارسة الحياة العصرية.
هذه بعض أخبار جبهة من جبهات المعركة الدائرة على مجتمعات المسلمين، من جريدة واحدة، وإلا فمن حاول رصد كل أخبار ما يدور على الساحة من تطورات لهذه المعركة فسوف يصاب بصدمة فاجعة.
خطوط الدفاع:
وبإلقاء نظرة على تلك الحرب وما وصلت إليه نجد أن أعداءنا تقدموا فيها خطوات كبيرة، بل استطاعوا أن يسيطروا على بعض خطوط الدفاع في مجتمعاتنا المسلمة، ويتركز الدور الآن على خط الدفاع الأخير وهو الأسرة.
لقد أحكم الإسلام بناء المجتمع المسلم، ووضع له عدداً من خطوط الحماية والدفاع، والتي تصون المجتمع من توارد التقاليد والعادات المنحلة والفاسدة، وكذلك تصونه(115/508)
وتحميه من الحملات الموجهة إليه. وأبرز هذه الخطوط مؤسسات الدولة الرسمية، وهناك التشريعات الإسلامية من حدود وتعزيرات وأحكام وآداب شرعت لصيانة المجتمع وحفظه وتطهيره من الشذوذ والانحراف، وهناك العلماء والدعاة الذين ينبهون المجتمع ويبينون له الحق من الباطل، ومن أبرز خطوط الحماية والدفاع: الأسرة، حيث أحكم الإسلام بناءها، وحمّلها المسؤولية أمام الله _تعالى_ كاملة عن حفظ الأولاد وحمايتهم.
خط الدفاع الأول.. والأخير:
وإذا كانت الأسرة تمثل خط الدفاع الأول من حيث بدء تربية الأولاد ومنشئهم؛ فهي في الوقت نفسه تمثل خط الدفاع الأخير من حيث وصول الهجمات الانحلالية على المجتمع، فقد تم اختراق كثير من الجهات الرسمية في بعض بلاد المسلمين، والتي يفترض أنها هي خط الدفاع الأول للمجتمع، وصارت هي نفسها عامل هدم أخلاقي، فكثير من وسائل الإعلام في بلاد المسلمين، من قنوات فضائية ومجلات ومواقع إنترنت، سخرت نفسها لبث الانحلال والفجور في الناس ولا سيما الشباب، وكذلك أنشئت مؤسسات وجمعيات داخل مجتمعات المسلمين لإتمام جهود المؤتمرات الدولية والخطط الخارجية والإشراف على تنفيذها.
وإذا كانت أصوات الناصحين تذهب سدى ولا يستمع لها أحد في بعض الجهات فلتوجه الجهود نحو الأسرة، نحو الآباء والأمهات، فالأسرة أمام تلك الحملات الانحلالية هي خط الدفاع الأخير الذي ينبغي لنا أن نعيد ترميمه وإصلاحه، بل قد تكون هي خط الدفاع الذي ينبغي لنا أن نهيئه ليكون هو الصخرة التي تندحر عندها تلك الحملة التغريبية الانحلالية الشرسة.
فلو حصل ولم يفلح خط الدفاع الأول وهو الجهات المسؤولة عن حماية المجتمع، أو حدث تقصير فيها أو اختراق لها من قبل بعض أهل الفساد، ولم تفلح كذلك خطوط الدفاع التالية، أو تعطل دورها؛ فلن يبقى في النهاية إلا خط الآباء والأمهات، فإذا كان هذا الخط غير موجود أو ضعيفاً نجحت حملة الهدم الأخلاقي في تحقيق أهدافها والوصول إلى ما تريد من تدمير الشباب الذين هم مادة نماء المجتمع وقوته، وهو ما نرى بعضه قد تحقق على مستوى كثير من مجتمعات المسلمين، حيث ينتشر الانحلال والفساد وانعدام الأخلاق.
عودة دور الأسرة.. خطوة مهمة في حماية الشباب:
إن كثرة الانحرافات وشيوعها بين الشباب قد تدفع الشباب إلى ما هو أكبر من مجرد تدهور الأخلاق، حيث ستتحول فورة الشباب تحت ضغط الإعلام الفاسد والحملات المنحرفة إلى ثورة ضاغطة تكسر باب المحرمات من الفاحشة والمخدرات وغيرها، كما كُسر فعلاً باب الشذوذ في بعض الأوساط الاجتماعية، وظهرت جماعات منظمة للشذوذ فيها، وكما كسر وظهر في بعض مجتمعات المسلمين الموحدين مجموعات تابعة لعبدة الشيطان.. فهل سيقف العقلاء حتى تُكسر سائر الأبواب؟
- فلنبدأ في إعادة دور الأسرة والآباء والأمهات وتنشيطه، وتوعية الآباء والأمهات بمدى دورهم في حماية المجتمع والشباب، وبيان مدى مسؤوليتهم أمام الله _تعالى_(115/509)
يوم الحساب، عبر العلماء والدعاة والمتخصصين الإسلاميين في العلوم النفسية والاجتماعية.
- إقامة مؤتمرات وندوات اجتماعية مضادة لتلك المؤتمرات المنحرفة، تعمل على تنمية دور الأسرة ودعمه.
- إقامة جمعيات لحماية الشباب تبحث في مشكلاتهم وتقدم لهم الحلول المناسبة القائمة على ديننا وأخلاقنا، كما يحدث على مستوى حماية البيئة مثلاً، لحماية شبابنا من التلوث والسموم الأخلاقية.
- وليتذكر كل أب ولتتذكر كل أم.. أن كل واحد سيسأله الله _تعالى_ عن أولاده أحفظهم في دينهم وأخلاقهم أم تركهم للفساد والانحراف، قال _تعالى_: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُون" التحريم: 6.
وأخرج البخاري عن نافع عن عبد الله – رضي الله عنه – أن رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ قال: "كلكم راع فمسؤول عن رعيته، فالأمير الذي على الناس راع وهو مسؤول عنهم، والرجل راع على أهل بيته وهو مسؤول عنهم، والمرأة راعية على بيت بعلها وولده، وهي مسؤولة عنهم، والعبد راع على مال سيده وهو مسؤول عنه، ألا فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته)، حديث رقم 2554، ومسلم رقم 1829، وغيرهما. قال في فيض القدير: ( "كلكم راع": أي حافظ ملتزم بصلاح ما قام عليه، وهو ما تحت نظره، من الرعاية وهي الحفظ... "وكل" راع "مسؤول عن رعيته" في الآخرة، فكل من كان تحت نظره شيء فهو مطلوب بالعدل فيه والقيام بمصالحه في دينه ودنياه ومتعلقات ذلك، فإن وفّى ما عليه من الرعاية حصل له الحظ الأوفر والجزاء الأكبر، وإلا طالبه كل أحد من رعيته بحقه في الآخرة...). انظر: فيض القدير، الجزء الخامس، شرح الحديث رقم 6370.
ـــــــــــــــــــ
حين تختلف أساليب الوالدين في تربية الأبناء
معمر الخليل
25/2/1426
ارسل تعليقك ...
لا توجد تعليقات ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
تفتقر الكثير من العائلات والأسر إلى مبادئ أساسية في التعامل مع الأطفال وتربيتهم، تستطيع من خلالها تجنب حالات سلبية عديدة في حياة أولادهم.
ورغم تعدد السلبيات التي يقع فيها الآباء والأمهات في التعامل التربوي مع أبنائهم.. وكثرة البحوث العلمية والتطبيقية حول أفضل الطرق التربوية.. يعد اختلاف ا لأب والأم في تربية الأولاد من أكثر المشاكل تكراراً في الأسر ومن أعمها ضرراً وأبلغها أثراً وأسرعها ملاحظة وظهوراً.(115/510)
وتأتي هذه الحالة عندما يقوم أحد الطرفين (الأب أو الأم) بتربية أحد أبنائهم بطريقة معينة وفق فكر معين، ويأتي الطرف الآخر لينقض تلك التربية وذلك الفكر بفكر وطريقة مختلفة، قد تصل حد التضاد، ما يوقع الابن في حيرة مركبة، ويضيع بالتالي تعب الطرفين في تحقيق أي أثر ناجح في تربيتهما.
بعض الأسر يوجد فيها اختلاف حول وجهات النظر في تربية الطفل بين الأم والأب كأن يؤمن الأب بالصرامة والشدة بينما تؤمن الأم باللين، وتدليل الطفل أو يؤمن أحدهما بالطريقة الحديثة، والآخر بالطريقة التقليدية.
رغم تعدد السلبيات التي يقع فيها الآباء والأمهات في التعامل التربوي مع أبنائهم، يعد اختلاف ا لأب والأم في تربية الأولاد من أكثر المشاكل تكراراً في الأسر ومن أعمها ضرراً وأبلغها أثراً وأسرعها ملاحظة وظهوراً
مظاهر تتكرر:
تشتكي أحد الأمهات بالقول: "إنني أدعو ابني دائماً للصلاة في المسجد مع والده، وأحثه على ذلك، وأذكر له فوائد الصلاة مع الجماعة وأجرها ومكانتها إلا أن الغريب في الأمر أن زوجي يرفض ذلك، ويقول لابني: إن صلاته في البيت أفضل.. وعندما واجهته بذلك في حضور ابننا قال بأنه يتحرك كثيراً ويصدر أصواتاً ويتأخر عن التقيد بحركة المصلين.. ما يجعل صلاته في البيت أولى كي لا يزعج المصلين".
وتتابع الأم بالقول: "زوجي مخطئ وقد أخبرته بذلك.. وخطؤه الأساسي أنه أخبر ابننا أن صلاته في المنزل أفضل، ولو كان أخبرني بهذه المشاكل.. لاتفقنا على طريقة ننهي بها مشكلة الحركة الكثيرة لابننا في المسجد، بدل أن ننهي بها صلاته في المسجد.. وأعتقد أن فكرة صلاته في البيت أفضل ستبقى في رأسه لسنوات طويلة.. وسيتخذها عذراً في كل مرة يتكاسل فيها عن الذهاب إلى المسجد..".
تتنوع وتتشعب هذه المشكلة في معظم المنازل، ولا يكاد يخلو منزل أو أسرة إلا وعاش أفرادها نماذج كثيرة من هذه المشاكل.. التي تؤثر في الأبناء تأثيراً بالغاً.
يقول أبو عبد الرحمن (أب لأربعة أولاد): "استطعت – ولله الحمد– أن أربّي أولادي الثلاثة على الكثير من العادات الإسلامية والأخلاق الحميدة.. ومنها آداب تناول الطعام وحفظ القرآن والتعامل مع الكبار وحسن الاستماع والإصغاء والتلطف مع الصغار والحيوانات واحترام وتقدير الأبوين وغيرها..
ولكن وجدت صعوبة بالغة في التعامل مع ابني الصغير محمد.. المشكلة أنني لم أغيّر شيئاً في تعاملي معه عن باقي إخوته الثلاثة ولم أفرّق بينه وبينهم، إلا أنني فشلت في تعليمه الكثير مما علمته لإخوته..
ولكن بعد مدة اكتشفت السبب، وهو أن والدته تميزه عن إخوته وتكافئه في المصروف والمعاملة والتقدير والعاطفة أكثر منهم.. والمشكلة الأكبر أنها وبعد أن أقوم بتأنيبه مثلاً على أمر ما أو أضربه لسبب ما.. تسارع إلى أخذه إلى غرفة أخرى وتطيّب خاطره وتعطيه بعض الألعاب أو الحلوى كي لا يبكي ويغضب ولا تلومه على ما ألومه عليه..
ويشير أبو عبد الرحمن إلى أنه يكاد يفقد السيطرة على ابنه، وقال: "حتى دروس تحفيظ القرآن بات يتأخر عنها بحجة أن الشمس تزعجه وأنه لا يطيق المشي تحتها،(115/511)
وكله بسبب دلال أمه وتربيتها له بطريقة تتناقض مع تربيتي.. بحجة أنه الصغير المدلل وأنه سيبقى معنا عندما يتزوج البقية في المستقبل"!
على من تقع سلبيات الاختلاف التربوي؟
المشكلة الحقيقية لا تقع على الآباء والأمهات – مع كل أسف – رغم أنهما المعنيّان الأساسيان في هذه القضية، بل تقع على الأبناء الذين يحتارون بين أفكار الأب والأم وبين طرق تعامل الأب والأم،
ويؤثر ذلك على مستقبل الأبناء أنفهم.
فالرسالة التربوية التي يحرص الأب على إيصالها ستضيع ويتلاشى أثرها إن قامت الأم بتوجيه رسالة تربوية مغايرة لها.
ورسالة الأم ذاتها تضيع في ظل وجود رسالة الأب.. وفي معظم الأحيان يختار الأبناء الرسائل التي تتماشى مع أهوائهم وميولهم ورغباتهم.
على سبيل المثال.. أحد الأطفال كان يتابع التلفاز مع والده الذي كان يحضر مباراة في كرة القدم، ولأن الأب متحمس للمباراة.. رأى أن وجود ابنه البالغ من العمر 7 سنوات مناسب لحالة انفعالاته ومتابعته، وعندما طلبت الأم من ابنها الذهاب للنوم كي يستيقظ نشيطاً في الصباح قبل الذهاب إلى مدرسته رفض الابن، وحينما أصرت الأم.. طلب الابن من أبيه أن يدعه إلى جانبه لمتابعة المباراة.. ما حدا بالأب أن يلغي طلب الأم ويسمح للابن بمتابعة المباراة..
وهذه الحالة ولدت لدى الطفل حالة رفض أو قبول لطلب أمه في النوم باكراً، فإن كان تعباً ونعساً امتثل لأمرها وإلا فإنه يطلب السهر ويرفض النوم..
يقول الدكتور عبد الرحمن العيسوي في كتاب له يحمل عنوان (مشكلات الطفولة والمراهقة):
إن من بين المشاكل التي قد تظهر على الأبناء نتيجة هذه الطريقة المتضاربة في التربية :
1- قد يكره الطفل والده ويميل إلى الأم، وقد يحدث العكس بأن يتقمص صفات الخشونة من والده.
2- قد هذا الطفل صعوبة في التميز بين الصح والخطأ، أو الحلال والحرام، كما يعانى من ضعف الولاء لأحدهما أو كلاهما.
3- وقد يؤدى ميله وارتباطه بأمه إلى تقمص صفاتها الأنثوية، فتبدو عليه علامات الرقة والميوعة.
قد يصل الحد إلى هذه الدرجة:
وتبدو المشكلة أكبر من ذلك في مراحل متقدمة عند حدوث تعمّق في الاختلاف بين الأب والأم حول تربية الأولاد..
يروي أحد المدرسين حالة غريبة حدثت مع أخيه فيقول: "أبي وأمي كثيراً ما يختلفون حول تربية أخي الصغير، بل إن 90% من مشاكلهم بسببه وهو ما وَلَّد حالة متنامية بين الطرفين اتجهت بهما نحو التطرف في التعامل معه".
ويوضح المدرس الذي طلب عدم ذكر اسمه حالة التربية الخاطئة في منزله فيقول: "عندما يطلب والدي من أخي الصغير أمراً يرفضه أخي.. تبادر أمي إلى التدخل إلى(115/512)
صف أخي الصغير.. وتطلب من والدي الكف عن تحميله ما لا يطيقه أو تركه يعيش حراً أو أن ينتظره حتى يكبر كي يكلفه ببعض الأشياء، وهذه الحالة المتكررة وَلَّدت لدى والدي حالة من الغضب الدائم على أخي الصغير.. فزاد من ضربه له وتأنيبه بشكل مستمر ومحاسبته له في كل صغيرة وكبيرة، وهذا زاد بالتالي من دلال أمي له والاعتناء والاهتمام به أكثر فأكثر"..
ويتابع المدرس بالقول: "المشكلة الأساسية أن ذلك بات يؤثر على أخي الذي يبلغ الثانية عشر من عمره.. أحسه في كثير من الأحيان غير طبيعي في أفكاره وتصرفاته وحركاته.. ربما بسبب الضغط النفسي واختلاف التربية المتناقضة في المنزل، وأكثر ما أخافني مؤخراً كلمة قالها لي: إنه عندما يكبر سيصبح والدي مسناً ولن يستطيع ضربه مجدداً.. عندها سيقوم هو بضرب والدي"!!
أسباب نشوء هذه الظاهرة:
رغم الأفكار والكتب والمحاضرات التي تتكلم بشكل مستمر عن مسألة اختلاف تربية الأب والأم لأولادهما.. والسلبيات التي تنتج عن ذلك، وأفضل الطرق لتلافي هذه المشكلة.. إلا أنها تبقى من أكثر المشاكل التي تحدث داخل العائلات.. وربما مرد ذلك لأمر هام هو أن ما يحدث في هذه الحالة أن يحكم الأب والأم عاطفتهما في محاسبة وتربية الابن.. بعيداً عن العقل والمنطق..
وإلا لكان الطرفان اتفاق على طريقة واحدة في التربية..
وفي معظم الحالات التي يحدث فيها اختلاف في التربية بين الأب والأم.. يأتي بسبب:
1- خوف الأم على ابنها من ممارسات قاسية للأب.. أو خوف الأب من أن يؤدي الدلال المفرط للأم في التأثير على سلوكيات الابن.
2- أن تكون المسألة شخصية بين الأب والأم عبر خلافات بينهما.. تنعكس على طريقة تربية الأولاد.
3- أن يكون هناك اختلاف واسع في الثقافة والمستوى التعليمي بين الأب والأم.. ما يعكس معه اختلافاً في الأفكار والرؤى حول الكثير من القضايا الخاصة بتربية الأبناء.
4- اختلاف البيئة التي ينتمي إليها الأب والأم.. كأن تكون بيئة أحدهما محافظة جداً، والأخرى أكثر انفتاحاً.. أو أن يكون أحدهما من مدينة تختلف عن الأخرى.
5- عدم إدراك الأب والأم أن المشكلة الأساسية تسيء لأبنائهم قبل كل شيء وأن آثارها ستبقى لسنوات طويلة في أذهان الأبناء.
6- عدم الاتفاق المسبق بين الأب والأم على طريقة معينة لتربية الأبناء، وافتقارهما لوجود حوار مشترك حول التربية.
7- غياب الوازع الديني الذي يجب أن يحضر أمام أعين الطرفين بأن التربية مسؤولية كبيرة يقع على عاتقها جيل كامل.. وأن كلاً منهما راعٍ ومسؤول عن رعيته، كما أخبر نبينا محمد _صلى الله عليه وسلم_ "كلكم راعٍ ومسؤول عن رعيته"، وبالتالي فإن الأب والأم سيقدمان نفس الرسالة التربوية لأبنائهما وإن اختلفت الطريقة بينهما.. بل على العكس قد تكون سبباً في ثبات هذه الرسالة التربوية ورسوخها في ذهن الابن.(115/513)
كيف يمكن تجنب ذلك:
الحوار والنقاش المسبق بين الآباء والأمهات هو أقرب الطرق وأسهلها لتلافي حدوث أية مشاكل من هذا النوع بين الطرفين.
ولعل من المناسب جداً أن يكون هناك اتفاق مبدئي بين الأب والأم على عدم قيام أي طرف منهما بتوجيه رسالة تربوية مخالفة للرسالة التي وجهها أحدهما لتوه إلى الأبناء، خاصة أمامهم، وفي حال خطأ أحد الطرفين أو فرض عقوبة معينة أو توجيه رسالة تربوية معينة يراها الطرف الآخر خاطئة، يجب عدم لفت انتباه الطفل لذلك، ومن ثم النقاش حول صحة وخطأ هذا التصرف في مكان آخر بعيداً عن أعين الأبناء، مع الحرص على عدم المشادات أو الاختلاف بين الطرفين أمام الأبناء، فذلك يولد لديهم إحساساً بأن الخطأ قابل لأن يكون صواباً، وأن الصواب قابل لأن يكون خطأ في ظل غياب أحد الأبوين.
ويجب مراقبة الله _عز وجل_ في مسألة تربية الأبناء، والاتفاق مسبقاً على الطرق التربوية الصحيحة والتوجهات الإسلامية الأساسية في التعامل مع الطفل، واعتبار الدين المرجع في تبيان صحة هذه الرسالة من خطأها.
وفي هذه الحالة، يندر وجود مشاكل بين الزوجين حول تربية أبنائهم، ويصبح من السهل معرفة ما إذا كانت هذه الرسالة التربوية صحيحة أم خاطئة.
تذكر أم عمر (إحدى المهتمات بالعمل التربوي) خلال مشاركة لها في إحدى المنتديات التربوية المتخصصة، بعض الأفكار المفيدة التي قد تساعد الآباء والأمهات على تحديد بعض السلوكيات لدى أبنائهم، قائلة: "إن اهتمام الرجال بموضوع التربية ليس بمقدار اهتمام المرأة، لذلك أرى أن هذه مسؤولية ملقاة على كاهل المرأة، وذلك بأن تدعو زوجها دائماً للنقاش في أمور تربية أبنائهما، وذلك قبل أن تنجب حتى أول طفل، تحثه على قراءة المقالات، تناقشه فيما يقرآن، تلخص معه النتائج، وعليها أن تكون واضحة في جملها، فتخبره مثلاً :
- لو حدث الموقف التالي مع أولادنا يجب أن نتصرف بالطريقة التالية.
- يجب أن نتعامل مع الأبناء بهدوء وبحزم.
- إذا طلب ولدنا من أحدنا طلباً فلينظر أحدنا بوجه الآخر ليرى في وجهه الرضا أم الرفض، وبالتالي قرارنا يجب أن يكون موحد، لا أن أقول: نعم وأنت لا، فهذا أبلغ في نفس الطفل.
- نوم أطفالنا يجب أن يكون بين 8-9 على أن نوفر لهم الأجواء المناسبة فتتوقف النشاطات قبل ذلك بنصف ساعة ليشعروا بالهدوء.
- نوقظ الطفل لصلاة الفجر دون تهاون في ذلك.
- فلنضع قاعدة بأن لكل طفل 3 ألعاب في السنة، لعبتين على عيدي الفطر والأضحى ولعبة عند تفوقه في المدرسة، وجوائز صغيرة عندما يحسن عملاً .
- يجب أن نعود الطفل على الترتيب، وأن يكون موقفنا واحداً من حيث ترتيبه لغرفته وألعابه.
- يحفظ الطفل عدداً من الآيات محددة يومياً ولا تنازل عن ذلك تحت أي سبب، إلا لظرف قاهرة جداً نتفق عليها.(115/514)
- يجب أن نعوده ونحثه كلانا على المساعدة في البيت في أمور يتم الاتفاق عليها.
- يعاقب الطفل إن تلفظ بالألفاظ البذيئة.
- نسمح للطفل باللعب مع أبناء الجيران الصالحين، ونحذره من اللعب مع السيئين مع تبيان السبب له".
ـــــــــــــــــــ
أزمة الهوية عند الشباب المسلم..
(نظرة تشخيصية)
متابعة واستقراء: القسم التربوي بموقع المسلم
3/2/1426
ارسل تعليقك ...
تعليقات سابقة ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
تنتمي أزمة الهوية الإسلامية المعاصرة للشباب المسلم لذلك النوع من الأزمات المزمنة الذي تتشعب أسبابه وتتفرع متعلقاته، فالنظرة لها يجب أن تكون نظرة شاملة متعمقة دارسة للواقع الفعلي لذلك الشباب المسلم وتيارات التأثير التي تؤثر فيه ومنابع المد التي تمده وتغذيه، فهي أزمة تجتمع فيها مسارات سياسية وعقائدية وفكرية ثقافية وتنموية اجتماعية تجتمع كلها لتشكل أزمة التكوين الثقافي والسلوكي والعقائدي والفكري لذلك الشباب المسلم الذي ينتشر في ربوع الأرض، بعضه يعيش في موطنه والبعض الآخر خارج وطنه، والغريب الداعي للبحث أن كليهما يعاني من أزمة الهوية!!
إن المسار التاريخي قد أفرز فسحة في البناء الحضاري اسمها (القابلية للاستعمار)، وهذه الفسحة تعكس تنامي عوامل التفكك في الأبعاد الفكرية و السياسية والاقتصادية والاجتماعية كما تعكس تراجعاً كبيراً في الانتماء العقائدي للشباب في تلك المساحة الاستعمارية التاريخية، فهنا إذن مساحة تسمح للبؤر الناشئة في عصر التفكك والضعف بالارتباط بمركز آخر للتلقي والتوجيه ونفس الشيء يحدث بالنسبة للوعي عندما يبدأ بالتواصل مع مرجعيات مغايرة وليس المهم أنها تابعة للمركز الاستعماري بقدر ما هي مبتعدة عن المركز الحضاري الأصلي وهو في قضيتنا هنا الحضارة الإسلامية، وبالتالي فإن الوعي سيبدأ بالتغير وستفقد المقولات الأصلية التي تكون الهوية هيمنتها عليه فيغدو القبول بمقولات الآخر شيئاً مألوفاً،وبسلوكيات الآخر وطريقة تفكيره وربما يتنامى ذلك أيضاً للاعتقاد!!
تنتمي أزمة الهوية الإسلامية المعاصرة للشباب المسلم لذلك النوع من الأزمات المزمنة الذي تتشعب أسبابه وتتفرع متعلقاته، فالنظرة لها يجب أن تكون نظرة شاملة متعمقة دارسة للواقع الفعلي لذلك الشباب المسلم
وهذا يعني إلغاء التجانس (الاقتصادي، الاجتماعي، السياسي، الثقافي، الفكري، الاعتقادي) ذلك الذي يعد أهم مظهر من مظاهر وحدة الحضارة وتحديد الهوية، ولذا(115/515)
يمكن أن نعرف ذاك التجانس بأنه (العناصر المشتركة التي تصلح كمقومات لبناء هوية مجتمع واحد للأمة)، وعليه فإن مقابلة أي تعدد سيعني زوال ذلك التجانس الذي يفرز الحضارة ويبني الهوية، فكما أن قضية الهوية الشخصية يعد أزمة موجبة للعلاج فإنه لابد للنظر إليها من خلال أزمة أخرى أكثر إيجابا للعلاج هي أزمة الهوية المجتمعية التي تسبب الضياع الفردي والذوبان في المغاير...
وتستعمل كلمة(هوية) في الأدبيات المعاصرة لأداء معنى كلمة Identity التي تعبر عن خاصية المطابقة: مطابقة الشيء لنفسه، أو مطابقة لمثيله، وفى المعاجم الحديثة فإنها لا تخرج عن هذا المضمون، فالهوية هي: حقيقة الشيء أو الشخص المطلقة، المشتملة على صفاته الجوهرية، والتي تميز عن غيره، وتسمى أيضاً وحدة الذات.
ولذلك فإذا اعتمدنا المفهوم اللغوي لكلمة هوية أو استندنا إلى المفهوم الفلسفي الحديث فإن المعنى العام للكلمة لا يتغير، وهو يشمل الامتياز عن الغير، والمطابقة للنفس، أي خصوصية الذات، وما يتميز الفرد أو المجتمع عن الأغيار من خصائص ومميزات ومن قيم ومقومات.
وخلاصة الأقوال: إن الهوية الثقافية والحضارية لأمة من الأمم، هي القدر الثابت، والجوهري والمشترك من السمات والقسمات العامة، التي تميز حضارة هذه الأمة عن غيرها من الحضارات، والتي تجعل للشخصية طابعاً تتميز به عن الشخصيات الأخرى.
وسوف نحاول من خلال استقراء وجهات نظر الخبراء والمربين والدعاة البحث في قضية الهوية الإسلامية لشبابنا هادفين للخروج بمنظور علاجي نافع يعد انطلاقة مقبولة للعودة إلى الانتماء والتطبيق للمعنى الإسلامي الأصيل..
أولاً: مظاهر ضعف الهوية الإسلامية لدى الشباب المسلم..
تتكاثر المظاهر التي قد يراها البعض انفتاحاً وتقدماً ورقياً في حين يراها الآخرون إذلالاً وتبعية وذوباناً للهوية..
يقول الدكتور محمد إسماعيل المقدم: يمكنك أن ترى أزمة الهوية الإسلامية في الشباب الذي يعلق علم أمريكا في عنقه وفي سيارته، وفي الشباب الذي يتهافت على تقليد الغربيين في مظهرهم ومخبرهم، وفي المسلمين الذين يتخلون عن جنسية بلادهم الإسلامية بغير عذر ملجئ ثم يفتخرون بالفوز بجنسية البلاد الكافرة وفي المذيع المسلم الذي يعمل بوقاً لإذاعة معادية لدينه من أجل حفنة دولارات،...... وفي أستاذ الجامعة الذي يسبح بحمد الغرب صباح مساء... وفي كل ببغاء مقلد يلغي شخصيته ويرى بعيون الآخرين ويسمع بآذانهم وباختصار: يسحق ذاته ليكون جزءاً من هؤلاء الآخرين " أيبتغون عندهم العزة "؟!
ويقول الدكتور عصام هاشم: يوم أن ضيَّع أفراد الأمة هويتهم، وذهبوا يتخبطون في دياجير ظلمة الحضارة المعاصرة بحثاً عن هوية، ظهرت نسخة مشوهة من الحضارة الغربية بين شباب بلاد الإسلام، حيث ظهر من يقلدهم في لباسهم وأكلهم وشربهم وقصات شعورهم، بل وحتى في سعيهم البهيمي في إشباع شهواتهم، وظهر من فتيات الإسلام كذلك من تعرت وتفسخت وتركت حجابها وظهرت على شاشات الفضائيات والقنوات مغنية أو راقصة أو مقدمة، والأدهى من ذلك والأمر أن هناك(115/516)
من بني جلدتنا وممن يتكلمون بألسنتنا يسعون باسم الثقافة والتقدم إلى مزيد من طمس الهوية الإسلامية؛ فيسعون لكشف المحجبة، وإفساد المؤدبة، وإخراج المكنونة المستترة..
ويقول الدكتور جمال عبد الهادي: إن الأزمة بلغت إلى حد أن الأمة صارت تستورد قيمها من غيرها لتبني حضارتها ولاشك أن هذه أعظم مخادعة للذات ؛ لأنها تبني بيتها على جرف هار، إن من يتصور أن في اتباع قيم الآخرين ومناهج حياتهم الوجاية والوقاية من بطش أمم شاء الله لها العلو في الأرض زمناً والإفساد فيها إلى حين لهو واهم؛ لأن صدام الحضارات والأديان والثقافات أصبح حقيقة واقعة ومعلوم من التاريخ والواقع بالضرورة..
ويقول الدكتور عبد العزيز التويجري: إن الخطر الأكبر الذي يتهدد الأمم والشعوب في هذا العصر، هو ذلك الخطر الذي يمسّ الهوية الثقافية والذاتية الحضارية والشخصية التاريخية للمجتمعات الإنسانية في الصميم، والذي قد يؤدي إذا استفحل، إلى ذوبان الخصوصيات الثقافية التي تجمع بين هذه الأمم والشعوب، والتي تجعل من كل واحدة منها، شعباً متميزاً بمقومات يقوم عليه كيانه، وأمة متفردة ً بالقيم التي تؤمن بها وبالمبادئ التي تقيم عليها حياتها.
ومهما تكن الألفاظ الجامعة التي يوصف بها هذا الخطر الذي بات اليوم ظاهرةً تكتسح مناطق شتى من العالم، بما فيها المناطق الأكثر نموّاً والأوفر تقدّماً في المجالات كافة، وأياً كانت طبيعة هذه الظاهرة وحجمها والأدوات التي تستخدم في تحريكها، فإن مما لاشك فيه أن لهوية والثقافة بخصوصياتهما ومكوّناتهما ومقوماتهما، هما المستهدف في المقام الأول، وأن الغاية التي يسعى إليها الماسكون بأزّمة السياسة الدولية في هذه المرحلة، هي محو الهويات ومحاربة التنوع الثقافي، والعمل على انسلاخ الأمم والشعوب عن مقوماتها، لتندمج جميعاً في إطار النموذج الأمريكي الأقوى إبهاراً، والأشدّ افتتاناّ في العصر.
ونحن نستطيع استقراء أهم المظاهر التي تدل على أزمة الهوية لدى الشباب المسلم في عدة نقاط هامة وأساسية:
1- الانبهار الشديد بالتقدم الغربي على مستوى التكنولوجيا والحضارة المادية.
2- التطلع لمشابهة الغربيين والأمريكيين وغيرهم من الشعوب المتقدمة مع الشعور بالدونية والانكسار تجاه تلك الشعوب.
3- التحرر من القيم المقيدة للسلوك الإباحي تشبها بالتحرر الغربي الجنسي والسلوكي.
4- ضعف الولاء والانتماء للتشكيل الإسلامي القيمي والمبادئي والمعيشي.
ثانياً: ما هي طبيعة النزاع والتحدي بين الهوية الإسلامية والثقافات الأخرى؟ وما سبب الانكسار لدى الشباب المسلم أمام الثقافات الغربية؟!
يقول الأستاذ الدكتور أحمد زايد: إن ثقافة العولمة التي تتحدى وتتصارع مع الهوية الإسلامية هي ذات خصائص معينة تجعلها تتميز بالقوة والدعم الذين تفتقدهما الثقافة الإسلامية في هذا العصر، فهي ثقافة يصاحبها في الغالب خطاب تقني وعملي، فهي تنقل عبر الوسائل الاتصالية الحديثة، وهي بذلك مصنوعة بحساب.(115/517)
وهي نخبوية تُفرض من أعلى من دون أن تكون لها قاعدة شعبية، أو تعبر عن حاجات محلية، أو تلتزم بأشكال ومضمون التراث الثقافي التي تنتقي منه.
وإذا كانت ثقافة العولمة ثقافة نخبوية، فإنها تساعد على تركّز القوة. والقوة هنا ليست قوة سياسية فحسب، بل قوة التكنولوجيا المرتبطة بالمشروعات الصناعية ذات الصبغة الكونية كشبكات الحاسوب والإنترنت، وهي ما يطلق عليها تقنيات العولمة ، وهي مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بثقافة الاستهلاك، فالعمليات المرتبطة بنشر الحداثة تساعد على نشر القيم والرموز وأساليب السلوك المرتبطة بالاستهلاك.
وهي ثقافة تعمل على خلق نماذج وصيغة موحدة عبر العالم، كما تدعم نظاماً للصور الذهنية حول موضوعات خاصة لها علاقة مباشرة أو غير مباشرة بالسوق الرأسمالي.
وتنطوي ثقافة العولمة التي تنبثق من الحداثة المادية بخصائصها تلك، على مخاطر عديدة تتهدّد الهوية والثقافة في آن واحد، مما يؤكد قوة الترابط والتلازم بين الهوية والثقافة أياً كانتا وهو الأمر الذي يستدعى تقوية العلاقة بين العنصرين الرئيسيْن من عناصر الكيان الأممي: الهوية والثقافة؛ لأن في الحفاظ على الهوية والثقافة وقايةً من السقوط الحضاري، وصيانة ً للذات، وتعزيزاً للقدرات التي يمكن التصدّيّ بها لضغوط التحدّيات مهما تكن.
ويقول الأستاذ الدكتور شفيق عياش (عميد كلية الدعوة وأصول الدين بجامعة القدس): يمثل المحور الثقافي الامتداد الأوسع لحركة العولمة الثقافية، ولعلي هنا أبرز بعض التحديات التي تأتي بها العولمة، وتطال في هذا المحور كافة العناصر المكونة للوجود الديني أو الانتمائي للدول المستهدفة عبر وسائل متبعة لنشر ثقافة التغريب والعولمة، ومن ذلك:
1- تحريف المفاهيم الدينية، كي تتفق مع الأفكار الفكرية التي تروجها العولمة المعاصرة، وذلك باستبعاد الإيمان بالغيبيات واعتباره مضادا للعقلانية العلمانية.
2- إيجاد فئات وشرائح ومؤسسات في المجتمعين العربي والإسلامي تعمل كوكيل للثقافة الغربية، وذلك بتقديم المساعدات المالية لمشاريع أبحاثها وعقد الندوات واللقاءات التي تدعم توجهاتها الثقافية للهيمنة على الثقافتين العربية والإسلامية.
3- إنشاء مجموعة من المراكز والمؤسسات التي تؤثر مباشرة على الثقافة العربية، مثل: الجامعات التبشيرية ومراكز اللغات والترجمة ومؤسسات خيرية ومدارس أجنبية يتمثل دورها جميعاً في التأثير الفكري والتربوي واللغوي على طلبة العلم والمعرفة، وفرض مناهجها وأفكارها مع التقليل من مواد اللغة العربية والتربية الإسلامية، ثم القيام بالتبشير والتنصير ( والخطورة كل الخطورة تكمن في تخريج هذه الأجيال على النهج المريب من التغريب) وهي أجيال لن تعود لها صلة بماضيها وتراثها وثقافتها ولن يكون لها ولاء ولا انتماء لآبائها وأقرانها ممن يتخرجون من المدارس العربية، وكأننا بذلك نعمل على إيجاد حالة من الانفصام في شخصية المجتمع وبنيته الأساسية تبدو آثاره في ظاهرة استعلاء لغوي ومباهاة بلغة الغرب وثقافاتهم وإعلامهم.(115/518)
4- يعد الإعلام مرتعاً خصباً وميزاناً فسيحاً يتم من خلاله الغزو الثقافي لإشاعة الفواحش والمنكرات من أجل تحطيم القيم والثوابت الأخلاقية، ولقد تحولت وسائل الإعلام إلى قنوات لبن مسموم ونشر للرذيلة والانحطاط بالغريزة البشرية وانهيار السلوك الإنساني والتباس الحق بالباطل والهدى بالضلال والخير بالشر
5 - إن قنوات التلفزة تشكل تهديداً خطيراً ومعول هدم للهوية الإسلامية الحضارية والثقافية من خلال بث البرامج والأفلام والمسلسلات الخليعة والمسرحيات الهابطة، ولقد كشفت دراسة قام بها تسعة من أطباء علم النفس على مدى خمس سنوات في جريدة الرأي الكويتية عام 1992م، أظهرت أن البرامج المتلفزة تؤثر على الأطفال المراهقين وتدفعهم إلى الصراعات وتجعلهم أكثر تقبلاً للعنف الجنسي، وكشفت هذه الدراسة أيضاً أن أفلام الرسوم المتحركة التي تعرض صباح العطلة الأسبوعية تتضمن مشاهد عنف تزيد بمعدل أربع أو خمس مرات عما يشاهد في الأفلام التي تعرض بعد ذهاب الأطفال للفراش، فعلى الرغم من كل هذه المظاهر التي وضحتها كل هذه الدراسات نرى تكالب أجهزة الإعلام على هذه المنتجات الإعلامية.
ويقول الباحث الدكتور إبراهيم متولي: إن التحدي الملح تجاه العودة بالهوية الإسلامية هو التحدي التربوي، وباستقراء الدراسات التربوية السابقة والخاصة بهذا الاتجاه يتضح لي ما يلي: من استعراض الدراسات السابقة يتضح أن ثمة أمور لا بد من التأكيد عليها لعل من أهما ما يلي:-
1- أن العالم الإسلامي يتعرض لمجموعة من التحديات والمخاطر لا بد للأنظمة التعليمية والتربوية من مواجهتها بصورة حاسمة.
2- حاجة المجتمعات العربية والإسلامية إلى صياغة حديثة لنظرية تربوية إسلامية تكون في مواجهة التحديات والمخاطر التي تحدق بالأمة العربية الإسلامية.
3- أن التعليم في القرن الجديد - الحادي والعشرين - يرتكز على مجموعة من المبادئ، هي: بيئة تعليمية جديدة - التعليم الشخصي - تعليم مبتكر للمعرفة - التعليم مدى الحياة، وكلها أساسيات مبادئية للتعليم الحديث يجب ألا تهملها النظرية الإسلامية الحديثة في مواجهة التغريب والعلمنة.
4- أن المجتمعات العربية الإسلامية تتعرض الآن - وفي المستقبل - لمجموعة من الأخطار والتحديات بعضها داخلي كالتغير في التركيب السكاني، والتغيرات الثقافية والقيمية، والتغيرات المجتمعية المختلفة، وبعضها خارجي: كالثورة العملية والتكنولوجية، والتوتر بين العولمة والمحلية، والتغيرات الاقتصادية والسياسية التي يشهدها العالم ، والطريقة الوحيدة لمواجهة ذلك هي التنشئة العلمية التربوية القوية والمنهجية لأبناء تلك المجتمعات والشعوب.
5- المدرسة الإسلامية المستقبلية هي إحدى الأطروحات التربوية التي ينشدها التربويون العرب والمسلمون لمجابهة تلك الأخطار والتحديات، حيث إن المطلوب منها شيئان؛ الأول: يتعلق بالكيفية التي يتم من خلالها التعامل مع تلك الأخطار والتحديات والأمر الآخر مراعاة الخصوصية والذاتية العربية الإسلامية
التي تتميز بها الهوية الإسلامية .(115/519)
ونحن نستطيع أن نحدد سبب الانكسار لدى الشباب المسلم أمام تلك الثقافات بعدة أمور هامة:
1- الفراغ النفسي والمعنوي والطموحي لدى هذا الشباب المسلم، وعدم وجود الشخصية النموذجية التي يأمل دائماً أن يتشبه بها في ظل رؤياه لشخصيات دنيوية مادية قد أثبتت نجاحات متتالية على المستوى المادي والتكنولوجي ( والشباب المسلم هنا بحاجة ماسة لبناء الطموح عنده عن طريق توجيهه للاقتداء بكبار وعظماء الأمة الإسلامية في تاريخها الزاهر وبأبطالها أصحاب الإنجازات المشاهدة في عصرها الحديث.
2- الهجمة الإعلامية التي تصور المسلمين بصورة دونية مستذلة مع ضعف العزة النابتة في داخلية أولئك الشباب تجاه الإسلام والاعتزاز به أدى إلى هروب ذلك الشباب من التشبه بتلك الصورة المنكرة إعلاميا إلى الصورة المحبوبة إعلامياً..
3- الارتباط بالهوية الإسلامية والثقافة الإسلامية الضعيف، والذي يحتاج إلى جزء كبير من اليقين والإيمان باليوم الآخر وبقدرة الرب _سبحانه_ وبالقضاء والقدر، والشباب مع ضعف إيمانهم بتلك الأسس، وعدم تربيتهم عليها يخرجون مستنكرين للهوية الإسلامية التي يرونها مقيدة لحريتهم اللا محدودة والتي تقدمها لهم الثقافات الغربية التي تقدم الحاجات المادية والشهوات كمادة أساسية مباحة دائما بغرض التفرغ للعمل!!
ثالثاً: التوصيف الخاص للمشكلة والتشخيص الدقيق للمرض لإمكانية الانطلاق للعلاج:
يقول الدكتور مصطفى حلمي: القضية ليست في الهوية بل القضية في الأمة الإسلامية فالإسلام هو المستهدف لأن الغرب عامة يعلم أن الإسلام هو البديل الحضاري الأوحد لثقافتهم وحضارتهم وهو البديل القوي الذي يمكنه أن يملأ الفراغ الذي تعانية الحضارة الغربية اليوم بخلاف الأطروحات الصينية أو اليابانية التي لا تقدم جديداً يغني، والغرب يخشى مما يسميه الحركات الأصولية التي تمثل بعثاً جديداً للهوية الإسلامية إذ إنها في حالة صعود مقلق بالنسبة لهم، فالجماهير التي تؤيد الحركات الإسلامية اليوم هي نفسها التي كانت تؤيد الناصرية والبعثية منذ عشرين عاماً.
ويقول الدكتور جمال عبد الهادي: الواقع أن الذي أصبح يواجه الحل الإسلامي ليس هم وحدهم وإنما أناس من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا!! سواء في تركيا أو في الجزائر أو في غيرها من دول الإسلام
ويقول الدكتور شفيق عياش: إن المخاطر المحدقة بالثقافة الإسلامية من جانب العولمة المعاصرة، وبخاصة مع ظهور وسائل الإعلام الحديثة كالإنترنت والقنوات الفضائية وغيرها التي تعمل على نشر ثقافة العولمة، وتهدف إلى تعريض المقومات الحضارية للأمة كالدين واللغة والثقافة يتطلب من جميع فعاليات الأمة السياسية والتعليمية والثقافية والاقتصادية وغيرها التعاون من أجل وضع خطة استراتيجية محكمة كفيلة بالتغلب على مخاطر العولمة الثقافية من أجل إنقاذ شباب الأمة وحمايتهم من الانحراف الأخلاقي والسلوكي.(115/520)
وهذه بعض النقاط نبين من خلالها أهم الحلول الكفيلة بالحد من خطر الثقافة الغربية الغازية لبلاد العرب والمسلمين على النحو الآتي:
1- بناء الإنسان البناء المتكامل ليكون في حجم التحدي وتربيته على أخلاقيات عقائدية تمنحه المناعة الحضارية المطلوبة، ولعل أهم مرحلة في هذه التربية العمل على إشاعة وترسيخ القيم العقائدية والإيمانية؛ لأن بها وقف الجيل الأول من الأمة في وجه كل اختراق بل واستطاعوا من خلال ترسيخ المبادئ العامة الإبداع الحضاري الذي يكرم الإنسان كيفما كان نوعه ولونه وجنسه فبدون هذه الخطوة الأساسية ومع تفشي آفة القطيعة بين العقيدة والسلوك في حياة المسلم المعاصر لن يكون بإمكاننا الوقوف طويلاً في وجه الزيف الحضاري القادم، إنها التربية التي تمنحنا كذلك إمكانية الرؤية المستقبلية الحقة كما تمدنا بكل الشواهد لفهم طبيعة وحقيقة الصراع الغربي خاصة مع الصهيونية التي استفادت من الوطن العربي والنظام العالمي الجديد لتفرض نفسها على الأمة.
2- تصحيح بعض المفاهيم الخاطئة التي أصابت ثقافتنا، مما أدى إلى انحراف الفرد والمجتمع، فالتوكل أصبح تواكلاً، والإيمان بالقدر أصبح عجزاً وقعوداً عن العمل، والزهد أصبح خمولاً وقعوداً عن العمل، والعبادة رهبنة وانقطاع عن الحياة، وذكر الله _سبحانه وتعالى_ أصبح تمتمات وهمهمات وأقوال بلا أفعال، كما يجب أن نوضح ونبرز المقاييس الثقافية الإسلامية الصحيحة وتفعيلها في الإنتاج الثقافي الذي يحمل مفاهيمها الحقيقية.
3- يجب على الأمة الإسلامية أن تسارع في الاستفادة من مكتسبات التكنولوجيا في وسائلها الإعلامية، خاصة الأقمار الصناعية والقنوات التلفزيونية واستعمالها في توعية وتثقيف الأطفال والشباب وحمايتهم من الوقوع في فلك الانحراف والضلال وحماية وجود الأمة الإسلامية وغيرها من خطر الغزو العلمي والتكنولوجي الجديد، وبخاصة أن الثقافة الإسلامية ثقافة عالمية، ورسالة الإسلام جاءت للبشرية جمعاء، كما أخبرنا بذلك القرآن الكريم قال تعالى: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ" (الحجرات:13).
4- تجديد الخطاب الثقافي الإسلامي وتطويره، بحيث يلائم روح العصر مع ضرورة الحفاظ على أصالة الثقافة الإسلامية ومضمونها من أجل خدمة الهوية الإسلامية، ودعوة الناس إلى التعرف على حقيقة الدين الإسلامي من خلال القنوات الفضائية وشبكات الاتصال العالمية "الإنترنت"، وتيسير العمل الصحفي وسهولة الترجمة، حيث إن العالم اليوم يتغير بسرعة فائقة، وعلينا أن نطور أدواتنا ووسائلنا، وطريق تصدير ثقافتنا، إن التبليغ اليوم عبر تقنية الشبكات الإلكترونية والفضائيات يمثل أفضل وأسرع الطرق للتأثير قي عقول أجيالنا، وكذلك في عقول الآخرين، لا أن نكون مجرد مستهلكين لثقافة الغير ومعلوماته؛ لأن الاستهلاك الثقافي بدون أن نكون منتجين ثقافياً يجعلنا نذوب في ثقافة الآخر ونفقد بالتالي الثقة في ثقافتنا ومبادئنا، وهذا ما يهدف إليه الآخر الغربي بكل تأكيد.(115/521)
5- ضرورة وضع ضوابط وقيود وإشراف من قبل مختصين عند استخدام شبكة الإنترنت، وبخاصة فيما يتعلق بالبرامج الإباحية والمنافية لقيم وثقافة المجتمعات الإسلامية.
6- ينبغي إنشاء مراكز ثقافية إسلامية موحدة تهتم بدراسة قضايا العصر، سواء كانت ثقافية أم اجتماعية أم حضارية فور ظهورها ومن ثم متابعة تطورها ووضع التصور السليم للموقف الإسلامي إزاءها، وهذا يتطلب عقد الندوات العلمية والمؤتمرات الثقافية وإيجاد مراكز ثقافية موحدة، لا يعني إطلاقاً إلغاء التنوع والتعدد الثقافي، وإنما يعني السعي نحو تأسيس رؤية ثقافية كونية ناتجة عن التفاعل الإيجابي والحر بين مختلف مراكز الفكر والثقافة، فالتوحد ضمن حقيقة التعدد والاتفاق ضمن حقيقة التنوع .
7- الانفتاح على الثقافة الغربية والاستفادة من تطورها العلمي والتكنولوجي ينبغي أن يكون من خلال استراتيجية تضمن إيجابية هذا الانفتاح؛ لأن الانفتاح المذموم هو الذي أدى إلى ذوبان الشخصية الثقافية بسبب الانهيار والاغتراب عبر منافذ الاختراق والتغريب، والإسلام لا يمنع الانفتاح المحكم الرامي نحو الاستفادة من علوم الآخرين النافعة، قال _سبحانه وتعالى_:" قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا".
8- المشروع الحضاري الإسلامي لا يمكن أن يحقق تميزه الإسلامي، ومن ثم أداء دوره العالمي وفق منهج الله إلا إذا ركن إلى العلم الشرعي بمعناه الواسع وتم تأهيل العالم المسلم بحيث تكون دراسته لعلم الشريعة دراسة تأصيلية مرتبطة بالوقائع الحية التي تعيشها الأمة والعالم في هذا العصر
ـــــــــــــــــــ
أبناؤنا والتلفاز.. ما بين السلب والإيجاب
مشرف النافذة
14/1/1426
ارسل تعليقك ...
تعليقات سابقة ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
يوماً وراء يوم، تترسخ في منازلنا ومدننا، ثقافات جديدة علينا وعلى أبنائنا، بغض النظر عن الجهة التي أنتجتها أو سوقتها.
وتحتل هذه الثقافات الجديدة، حيزاً واسعاً من حياتنا اليومية، ومن حياة أولادنا، تدعونا أن نتساءل كثيراً حول آثارها القريبة والبعيدة، حول محتواها ومنهجها، وملائمتها لثقافتنا الإسلامية.
وتكثر الأسئلة يوماً بعد يوم، ونفقد الإجابة عليها، طالما أننا لا نملك مقومات الدراسات المنهجية الهادفة، المتبوعة بالتطبيق الصارم والموحد.
ومن المفترض (كبلد إسلامي له خصوصيته الثقافية والاجتماعية والدينية المحافظة) أنه عندما يتم استيراد ثقافة جديدة. فإنها تخضع لأعين الرقيب، وتنظم حولها(115/522)
الدراسات والبحوث، وصولاً إلى فهم صحيح لها، يتم من خلالها التعامل معها سلباً أم إيجاباً أو على الأقل تنظم وفق أطر معينة.
وعندما جاءت وسائل الإعلام بمختلف أنواعها السابقة، انتشرت في مجتمعاتنا بكل يسر وسهولة، وباتت منازلنا موطناً لها، بكل ما فيها من سلبيات وإيجابيات.
يوماً وراء يوم، تترسخ في منازلنا ومدننا، ثقافات جديدة علينا وعلى أبنائنا، بغض النظر عن الجهة التي أنتجتها أو سوقتها.
ورويداً رويداً، فقدنا القدرة على السيطرة على رقابتنا وموقفنا من تلك الوسائل.
ولكن يبقى في الأفق أمل في إعادة توجيه الدفة، وإعادة التفكير في أنظمة الرقابة، انطلاقاً من قول رسول الله _صلى الله عليه وسلم)_: "كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته".
بين السلبيات والإيجابيات:
تتفاوت البحوث والتقارير حول وجود وسائل الإعلام في المنازل (وخاصة التلفاز)، وأثرها على الأطفال والنشء بين السلب والإيجاب.
ويستند كل طرف إلى جملة من الحقائق والأمثلة، صحيحة، ما يؤكد وجود حدين لتأثير وسائل الإعلام على أطفالنا.
يقول الدكتور نبيل الشريف: " لعل أهم دور سلبي تقوم به وسائل الإعلام في هذا الصدد هو جعل الناس يتعاملون مع العنف على أنه حدث عادي ونزع الرهبة من استعمال العنف ضد الآخرين".
ويضيف "فمشاهد التلفاز مثلاً الذي يرى في البرامج أو فقرات الأفلام المختلفة جرعات زائدة ومتكررة من العنف يصبح عديم الإحساس بخطر هذه الظاهرة، فالرجل يضرب المرأة، والمرأة تضرب الرجل، والرجل يضرب الطفل هذا داخل البيت، أما خارج البيت فإن الدماء تتطاير، وقطع اللحم تتناثر في الشوارع ، وأصوات المسدسات والرشاشات تكاد لا تنقطع طوال مدة عرض المادة الإعلامية، كما أن جثث الضحايا تتكوم بالعشرات في كل مشهد من مشاهد الفيلم، بل قد لا ينطوي الفيلم كله إلا على مشاهد التعذيب البشع المقزز أو حتى فقرات حية من طرق الموت ".
رغم ذلك، إلا أن معظم الناس تثق بما يمكن أن تقدمه وسائل الإعلام من تثقيف وتعليم وتوجيه، يمكن أن يساهم في حلقة العلوم الواجب توفيرها للنشء الجديد، كي يواكبوا ثقافة عصرهم، ويحافظوا بنفس الوقت على تعاليمهم وشريعتهم الإسلامية.
يقول الأستاذ نضال حمادي (سكرتير تحرير مجلة إسلامية): " الوسائل الإعلامية باتت اليوم في أيدي العديد من المؤسسات والشركات الإسلامية، التي استطاعت أن توجد نمطاً مقولباً من الإعلام التثقيفي الإسلامي الهادف".
ويشير الأستاذ نضال إلى مثال واقعي فيقول: " اليوم تعد قناة المجد من أفضل القنوات الفضائية الإعلامية الهادفة، وكتجربة رائدة لها، نشاهد قناة المجد الخاصة بالأطفال، وهي قناة لا مثيل لها في العالم من حيث الهدف والأسلوب والثقافة التي تقدمها للنشء الجديد".(115/523)
ويشير إلى حجم إقبال الناس على هذه القناة؛ لأنها باتت وسيلة إعلامية ترضي ميول الأطفال لمشاهدة برامج متنوعة ممزوجة بين أفلام الركرتون والمقدمين الصغار، وبين تجنب أي مشهد أو فكر قد يؤذي الأطفال، وبنفس الوقت يقدم لهم الثقافة والتعاليم الإسلامية، والعلوم الأخرى بقالب سهل ويسر، يتلائم مع مدارك الأطفال ووعيهم.
ويبدو أنه من الضروري اللجوء إلى إشباع رغبات الأطفال في الاطلاع على بعض الوسائل الإعلامية، عبر فلترة ما يقدم لهم.
يقول أحد الآباء الذين فضلوا اقتناء جهاز (ستلايت) في المنزل: " كان أطفالي وزوجتي يسمعون الكثير من أقاربهم وأصدقائهم عن التلفزيون، وعن بعض البرامج والمنوعات، وكانوا يتوقون إلى مشاهدة التلفزيون، ومرة عرفت أن ابني يزور أحد أصدقائه بشكل دائم، كي يجلس معه عند التلفاز، بعيداً عن عيني وأعين أهل صديقه".
ويضيف أبو عبدالرحمن "عقدت العزم أخيراً أن أجلب لهم ستلايت خاص، يضم قنوات معينة إسلامية، والآن هم يتابعون كل ما يبث، وقد قل شغفهم بالتلفاز بعد أن أصبح متوافراً بين يديهم".
أما أم مريم فتقول: " بناتي يدخلون إلى منزل جيراننا لمتابعة التلفزيون عندهم، وأصبحوا يفضلون الجلوس عندهم على اللعب بألعابهم الثمينة، لذلك أشرت على زوجي أن يشتري جهاز تلفاز وفيديو، وأصبحت أشتري الأشرطة الخاصة بالأطفال ذات التوجه الإسلامي، وأفلام الكرتون التي لا تحتوي أي مشاهد عنف أو إثارة أو غيرها، أملاً بأن أشبع هذه الرغبة عند بناتي".
تشير هذه القصص إلى أن الأطفال باتوا على قدر كبير من الوعي والثقافة بمعطيات العصر منذ صغرهم، وأصبحوا يطالبون بالكثير مما لم يكن السلف يفكر فيه أو يخطر له على بال.
ويبدو أنه من الضروري اللجوء إلى إشباع رغبات الأطفال في الاطلاع على بعض الوسائل الإعلامية، عبر فلترة ما يقدم لهم.
مصدر برامج الأطفال وما يبث فيها:
" لقد أصبح الأطفال في كل مكان أسرى لنفس البرامج التلفزيونية، وغداً أبطال هذه البرامج (الذين يعبر معظمهم عن منظومة القيم الغربية) أبطالاً محليين لأطفال العالم الثالث، وهذا ليس بغريب لأن ست شركات عالمية تسيطر على سوق البرامج الموجهة للأطفال في العالم، وهي: تايم وارنر (أمريكية)، ووالت ديزني (أمريكية)، وفياكوم (أمريكية)، ونيوز كوروب (أمريكية)، وبيرتلزمان (ألمانية)، وسوني (يابانية) فأين نصيب العالم الثالث من هذا؟ وهل من المبالغة القول: إن تشكيل عقول أطفالنا قد سلب منا وأصبح من مسؤولية الآخرين؟ "
حيث يصبح أبطال الكرتون الخياليون والبعيدون كل البعد عن نماذج التراث الإسلامي، هم القدوة الأولى للأطفال والنشء، ما يبعدهم عن أي نموذج حسن من نماذج سير الأمة(115/524)
بهذه الجمل المختصرة، يعرض الدكتور الشريف أفكاره حول المصدر الذي يتم توريد برامج الأطفال منها إلى عالمنا العربي والإسلامي.
ويقول الدكتور وهبة الزحيلي: "أما برامج الصغار وبعض برامج الكبار فإنها تبث روح التربية الغربية، وتروج التقاليد الغربية، وترغب بالحفلات والأندية الغربية".
إن بعض البرامج، مثل: (البوكيمون) و(أبطال الديجيتال) وغيرها، تعد من أكثر البرامج رواجاً بين الأطفال، بسبب ما تحيطه الشركات المصنعة له من ألوان وحركات ورسومات وشخصيات تثير الأطفال وتسلب لبهم.
ولكن.. ما هي الأفكار التي يتم طرحها في هذه البرامج.
يشير كتاب نشر عن (دار القاسم) في السعودية، حول (البوكيمون ومحاذيره الشرعية) إلى العديد من المحاذير الشرعية التي تنطلق من هذا البرنامج الكرتوني الذي ملأ الآفاق العربية الإسلامية خلال المدة الماضية، وشهد إقبالاً كبيراً، بعد أن قامت الشركة المنتجة بتطوير فكرة لدى أحد اليابانيين من تخيّل وجود حشرات قادمة من الفضاء، تستطيع الارتقاء بنفسها والتطور، وتصنف إلى عدة أقسام.
كما قامت بتوزيع أشرطة وألعاب ومواد ترفيهية وألبسة وغيرها، كلها تحمل هذا الاسم، ما جعلها تنتشر بكثرة.
وأشار الكتاب إلى جملة من الأخطاء الشرعية التي تبثها هذه الشركة بين المسلمين، منها التروجي لفكرة (القمار والميسر) عبر لعبة (البوكيمون) ذات البطاقات الكرتونية.
وكذلك اشتمالها على رموز وشعارات لديانات ومنظمات منحرفة،
إلا أن الأسوأ ما يشير إليه الكتاب بالقول: "تبنيها لنظرية التطور والارتقاء: لعل أهم ما يجعل المرء يستنكر هذه اللعبة هو أنها تتبنى نظرية النشوء والارتقاء التي نادى بها العالم اليهودي (داروين)، والتي تقوم على تطور المخلوقات والتي تُرجع أصل الإنسان إلى سلسلة من الكائنات الحية المتطورة التي كان من آخرها القرد. والعجب أن كلمة تطور أصبحت كثيرة التردد على ألسنة الأطفال، حيث إنك تسمع من الطلاب أن هذا الحيوان الموجود في الكرت قد تطور وأصبح بشكل مختلف، ويتابعون تطوره بشغف شديد".
ويقول الشيخ نزار عثمان: " نذكر مثال الرسوم المتحركة الشهيرة التي تحمل اسم "آل سيمسونز The Simpsons لصاحبها مات قرونينق Matt Groening، الذي صرّح أنه يريد أن ينقل أفكاره عبر أعماله بطريقة تجعل الناس يتقبلونها، وشرع في بث مفاهيم خطيرة كثيرة في هذه الرسوم المتحركة، منها: رفض الخضوع لسلطة (الوالدين أو الحكومة)، الأخلاق السيئة والعصيان هما الطريق للحصول على مركز مرموق، أما الجهل فجميل والمعرفة ليست كذلك، بيد أن أخطر ما قدمه هو تلك الحلقة التي ظهر فيها الأب في العائلة Homer Simpson وقد أخذته مجموعة تسمي نفسها (قاطعي الأحجار)!! عندما انضم لهم الأب، وجد أحد الأعضاء علامة في الأب رافقته منذ ميلاده، هذه العلامة جعلت المجموعة تقدسه و تعلن أنه الفرد المختار، ولأجل ما امتلكه من قوة ومجد، بدأ Homer Simpson يظن نفسه أنه الرب حتى قال: "من يتساءل أن هناك رباً، الآن أنا أدرك أن هناك رباً، وأنه أنا"، ربما يقول البعض: إن(115/525)
هذه مجرد رسوم متحركة للأطفال.. تسلية غير مؤذية، لكن تأثيرها على المستمعين كبير مما يجعلها حملة إعلامية ناجحة تلقن السامعين أموراً دون شعورهم، وهذا ما أقره صانع هذه الرسوم المتحركة".
ويضيف " كذلك تعمد بعض الرسوم المتحركة إلى السخرية من العرب والمسلمين، ومثال ذلك بعض حلقات برنامج الرسوم المتحركة المعروف باسم سكوبي دو "Scobby Doo " والمملوك لـ William Hanna و Joseph Barbera الذَين طبّقت شهرتهما الآفاق بعد نجاح رسومهما المتحركة "توم أند جيري""
سلبيات متابعة الأطفال للتلفاز:
من بين الأمور السلبية العديدة التي ينطوي عليها متابعة الأطفال لبرامج التلفزيون، وخاصة الرسوم المتحركة:
التلقي لا المشاركة: ذلك أن التلفاز يجعل الطفل "يفضل مشاهدة الأحداث والأعمال على المشاركة فيها.
إعاقة النمو المعرفي الطبيعي: ذلك أن المعرفة الطبيعية هي أن يتحرك طالب المعرفة مستخدماً حواسه كلها أو جلها، ويختار ويبحث ويجرب ويتعلم "قل سيروا في الأرض فانظروا... "، لكن التلفاز ـ في غالبه ـ يقدم المعرفة دون اختيار ولا حركة.
الإضرار بالصحة: فمن المعلوم أن الجلوس لأوقات طويلة واستدامة النظر لشاشة التلفاز لها أضرارها على جهاز الدوران والعينين.
تقليص درجة التفاعل بين أفراد الأسرة: حيث إن أفراد الأسرة كثيراً ما ينغمسون في برامج التلفزيون المخصصة للتسلية لدرجة أنهم يتوقفون حتى عن التخاطب معاً.
تقديم مفاهيم عقدية وفكرية مخالفة للإسلام: إن كون الرسوم المتحركة موجهة للأطفال لم يمنع دعاة الباطل أن يستخدموها في بث أفكارهم.
العنف والجريمة: إن من أكثر الموضوعات تناولاً في الرسوم المتحركة الموضوعات المتعلقة بالعنف والجريمة، ذلك أنها توفر عنصري الإثارة والتشويق الذَيْن يضمنا نجاح الرسوم المتحركة في سوق التوزيع.
إشباع الشعور الباطن للطفل بمفاهيم الثقافة الغربية: إن الطفل عندما يشاهد الرسوم المتحركة التي هي ـ في غالبها ـ من إنتاج الحضارة الغربية، لا يشاهد عرضاً مسلياً يضحكه ويفرحه فحسب، بل يشاهد عرضاً ينقل له نسقاً ثقافياً متكاملاً، حيث إن الرسوم المتحركة المنتجة في الغرب مهما بدت بريئة ولا تخالف الإسلام، إلا أنها لا تخلو من تحيز للثقافة الغربية.
الانطواء على الذات: حيث تصبح متابعة البرامج التلفزيونية وأفلام الكرتون، شكلاً اجتماعياً مقدماً على التعامل مع المحيط الخارجي من أصدقاء وإخوة، ما ينمي الانطواء، خاصة مع ما يرافق غضب الأطفال من أهلهم أو إخوانهم بحال حاولوا تغييّر المحطة التي يتابعونها؟
الوقت الطويل الذي يستهلكه البعض في مشاهدة التلفاز، ما يعني تآكل الوقت المخصص للدراسة أو النوم، وما قد يرافق الشغف من تأخير للصلاة ونحوها.(115/526)
التمثل والقدوة: حيث يصبح أبطال الكرتون الخياليون والبعيدون كل البعد عن نماذج التراث الإسلامي، هم القدوة الأولى للأطفال والنشء، ما يبعدهم عن أي نموذج حسن من نماذج سير الأمة.
كيف نقدم وسائل إعلام آمنة لأطفالنا:
حول أفضل السبل لتلافي سلبيات مشاهدة الرسوم المتحركة (أفلام الكرتون) من قبل الأطفال، يقول الشيخ نزار محمد عثمان: " إنه يجب الاهتمام بالآتي:
تعميق التربية الإسلامية في نفوس الأطفال: فالحق أبلج والباطل لجلج، ومتى وجد الطفل الفكرة الصحيحة وقعت في نفسه موقعاً طيباً، ذلك أنه وُلد على الفطرة، والإسلام هو دين الفطرة والأفكار المنحرفة لا تسود إلا في غياب الفكرة الصحيحة، فإذا جرى تقديم منظور إسلامي عن طريق تثقيف الأطفال وتعليمهم عن القيم الإسلامية ودستور الحياة الإسلامي، فإنهم سيكتسبون موقفاً مبنياً على تقييمٍ ناقد لوسائل الإعلام من وجهة نظر إسلامية، ويمكن تقديم هذا النوع من التربية ذات التوجه الإسلامي في الأسرة والمدرسة وكذلك في المرافق الموجودة في المجتمع"
تقليل مدة مشاهدة الأطفال للرسوم المتحركة: إن مشاهدة الأطفال للرسوم المتحركة ـ وللتلفاز عموماً ـ ينبغي ألا يتجاوز متوسطها 3 ساعات أسبوعياً، هذه المدة المتوسطة تعلم الطفل كيف يختار بين البدائل الموجودة، وتعلمه الاتزان والتخطيط وكيفية الاستفادة من الأوقات. كما أنها ـ إذا أُحسن الاختيار ـ تدفع عنه سلبيات التلفاز والرسوم المتحركة المذكورة آنفاً.
إيجاد البدائل التي تعمق الثقافة الإسلامية: وذلك بدعم شركات إنتاج الرسوم المتحركة التي تخدم الثقافة الإسلامية وتراعي مقومات تربيتها، ولا تصادم غزائز الطفل بل توجهها وجهتها الصحيحة.
وتقول الأستاذة منى يونس، حول أفضل الطرق لمعالجة إدمان الأطفال للتلفاز:
"هناك عدة أمور لابد من مراعاتها مع طفلك، وقد استفدتها من خبرتي في التعامل مع هذا الوضع.
فأولاً- لابد من الهدوء في التعامل مع هذه المشكلة.
ثانيًا- إدراك القاعدة القديمة القائلة: "كل ممنوع مرغوب".. فما قمت به أنا كان كالتالي:
- تحديد وتقليل ساعات الفرجة على المسلسل.
-محاولة إيجاد بدائل كشرائط فيديو أو الوعد بالتنزه في الأوقات التي يعرض فيها المسلسل، في نفس الوقت أخذت أكلمهم عن أضرار الإدمان (الإدمان كفكرة)".
ويضيف الأستاذ أحمد حسن محمد أفكاراً أخرى، منها:
"توفير الحصانة للمجتمع ضد الإعلام الوافد والموجّه لإفساد عقائد الأمة وسلوكها وذلك عن طريق ما يلي:
أ- تقوية المرجعية الإيمانية وربط الناس بعقائدهم وقياداتهم العلمية والفكرية وتجميع الناس على الأعمال الصالحة.
ب- تنمية الوعي الإعلامي خاصة والثقافي عامة، وتبصير المجتمع بأهداف الرسائل الإعلامية المغرضة، مع استحداث بدائل أفضل منها إعداداً وإنتاجاً وأداءً.(115/527)
ج- السعي لتنمية وتقوية أجهزة الإعلام البشرية والتقنية الفنية، بما يساعد على مواجهة الخطر الذي يهدد الأمة من خلال الوسائل والأجهزة المعادية لها.
وتشير مصادر إلى أفكار أخرى يمكن الاستفادة منها، كتوجيه الأطفال إلى أنشطة أخرى مفيدة، أو تقديم البدائل العربية، تشجيع محاولات الرسوم المتحركة العربية بالفكر والمال، تشجيع الأبناء على الإبداع وغيره
ـــــــــــــــــــ
سنة أولى تدريس.. تجربة جديدة بين المدرس والطالب
معمر الخليل
3/1/1426
ارسل تعليقك ...
لا توجد تعليقات ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
تحتفظ ذكرياتنا بمشاهد وصور المرة الأولى التي تسلمنا فيها عملنا الجديد، خاصة تلك الأعمال التي تتسم بالاستمرار والانتظام، والتي تعود من عام إلى آخر، حيث تصبح التجربة؛ خطوة نحو تشكيل معالم شخصيتنا العملية.
فلكل شيء بداية، أو كما يقول الناس: "كل شيء له مرة أولى"، وتصبح هذه المرة الأولى، أهم مراحل العمل؛ لأنها تختزل تحول الإنسان من مرحلة التمرين والتجارب النظرية ومقاعد الدراسة، إلى مرحلة الممارسة الفعلية، حيث تتكشف الصورة بشكل أعمق وأوسع، ويصبح التمرين الواقعي هو المعيار الحقيقي لطريقة التعامل مع العمل الجديد.
والتدريس، مهنة سامية أخلاقياً، ومنتشرة شعبياً، لا تكاد تخلو عائلة إلا وفيها مدرس واحد على الأقل.
وتعد تجارب المدرسين في مدارسهم من أغنى التجارب في ميادين العمل، ذلك أنها تتسم بعدة أمور، منها:
1- أنها عملية متجددة باستمرار، فكل عام ينتهي، يبدأ بعده المدرس في ذات التجربة من جديد.
2- أنها عملية تراكمية، تحدث الخبرة فيها عاماً بعد عام، عبر مراحل محددة في كل سنة دراسية.
تحتفظ ذكرياتنا بمشاهد وصور المرة الأولى التي تسلمنا فيها عملنا الجديد، خاصة تلك الأعمال التي تتسم بالاستمرار والانتظام،
3- أنها عملية غنية، حيث يتعامل في المدرس مع فئات ونماذج كثيرة ومتنوعة من الطلاب من مختلف البيئات.
4- هي عملية تطويرية، تعتمد على تبني سياسات تعليمية جديدة بشكل مستمر، عبر آليات أو طرق جديدة.(115/528)
5- تتعامل مع أجيال مختلفة، وتتابع الطلاب جيلاً بعد جيل، فقد تصل تجربة البعض لتدريس الطلاب على مدى أربعين عاماً أو أكثر.
وغيرها من الأمور والسمات التي تعطي التدريس سماته الخاصة.
ميزات التدريس في العام الأول:
عندما يدخل المدرس عامه الأول في التدريس، يواجه جملة من الخصائص المتعقلة بهذا المجتمع الكبير والغني والمثمر، ما يجعل من الصعب عليه أن يفرض رأيه حول أي شيء، أو يعطي نصائحه وملاحظاته التي اختزلها أيام الدراسة للمدرسين، فقد عاش وهو في السابق كتلميذ في مدرسة، ولابد أن لديه ملاحظات.
ولكن هنا يختلف الأمر، إذ إن هذه المؤسسة التعليمية الضخمة، تجعل من الصعب جداً على أي من المدرسين الجدد، أن يقول رأيه، قبل أن يمارس العمل التدريسي بنفسه، ويدخل في المعترك ذاته الذي عايشه الآلاف من قبله.
لذلك، تفرض المدارس (بصورة أو بأخرى) طريقة تعاملها مع الطلاب، بناءً على تجارب استمرت سنوات طويلة.
هكذا يوجز الأستاذ فهد الأحمدي (المدرس في إحدى المدارس الثانوية في الرياض) فكرته عن طريقة تعامل الأستاذ الجديد في المدارس الأهلية أو الخاصة.
فيما يرى الأستاذ عبد الله على الفقيه (المدرس في مدارس الرشد الأهلية) أن أهم ما يميز التدريس في عامه الأول، أن الأستاذ يدخل إلى عالم جديد كلياً عليه، حيث يشعر بأن المدرسة وأفرادها يمثلون عائلة واحدة، يتعاونون في سبيل أن تسير هذه الأسرة إلى الأمام.
فيما يقول الأستاذ أحمد حواس الجاسم (المدرس في مدارس الرشد الأهلية): " إن ما يميز التدريس خلال السنة الأولى في المدارس بشكل عام ترجع إلى شخصية المدرس ورغبته في التدريس ومدى تمكنه من مادته العلمية التي يقدمها، أما بشكل خاص فميزة التدريس تدور على الخبرة أي بمعنى أن الخبرة التعليمية ليست بالمستوى المطلوب مقارنة مع التدريس بعد – مثلاً – ثلاث سنوات أو أكثر، كما أنه يطبع بطابع الجدية غالباً بحكم كون المدرس الجديد مندفعاً اندفاعاً فوق معياره".
في كل مرة واجهنا فيها أستاذاً جديداً في الفصل، نقوم ببعض الأمور المختلفة من باب "التجربة"
ويضيف "ولكن يبقى فيه ميزة حب البحث عن الإبداع والابتكار في التدريس وحب اكتشاف الطرق المناسبة والبديلة وحب التجربة في عرض الدرس".
اختلاف تجربة السنة الأولى في التدرس عن السنوات اللاحقة:
تلعب التجربة المتلاحقة والمستمرة دوراً أساسياً في صقل شخصية المدرس عاماً بعد عام، ويصبح التعامل أكثر سهولة بلا شك.
ولكن يبقى للعام الأول في التدريس سمة مميزة وطابع فريد، قد لا يجده الأستاذ مرة أخرى خلال أعوامه اللاحقة في الدراسة.
يقول الأستاذ أحمد الحواس: " يختلف التدريس بين العام الأول والأعوام الأخرى من حيث الخبرة التدريسية وكيفية التعامل ومعالجة المشاكل التي قد يواجهها أثناء عمله، سواء السلوكية أو التعليمية، وعرض الدرس، وهذا من الناحية الأدائية، أما من(115/529)
الناحية الشخصية، فالمدرس لا شك شخصيته تكبر وتطمع للتميز والنجاح في العمل، وإثبات الوجود أكثر من السابق، ويميل إلى المنافسة مع زملائه في العمل".
أما الأستاذ عبد الله الشلهوب (المدرس في أحد المدارس الثانوية الخاصة في المملكة) فيشير إلى أن السنة الأولى يكون المعلم قليل الخبرة في كيفية التعامل مع التلاميذ أو الطلاب وإن كان ملماً بالمادة العلمية.
ويضيف "وفي السنوات اللاحقة يكتسب المعلم المهارة والدراية ويكون التعليم بالنسبة له مهنة إن أجادها يصعب عليه إجادة مهنة غيرها". مؤكداً على أن التعليم يصبح سمة من سمات شخصيته، ويصبح من الصعب عليه ممارسة مهنة أخرى غير التدريس.
أما الأستاذ فهد، فيشير إلى تجربة التدريس في العام الأول، كمرحلة منفصلة عن السنوات اللاحقة، ويقول: " تجربة السنة الأولى في التدريس تجربة فريدة، لا تتكرر أبداً، وكثيراً ما ترافقها حالات ومواقف طريفة يظل الأستاذ يتذكرها مدى الحياة، وتعد مرجعية لها في تقييم الأخطاء التي ارتكبها، وفي تطوير الإيجابيات التي مارسها".
ويضيف " هي في الحقيقة سنة يستطيع من خلالها الأستاذ تقييم كل ما أخذه ودرسه خلال السنوات السابقة، فإما أن يؤمن بأن طريقة التدريس العملية تختلف عن التدريس النظري، ويبحث بالتالي عن شخصيته التدريسية من خلال تجارب الآخرين، أو أسلوبه الخاص. أو أن يؤمن بأن القسم النظري الذي درسه في المدارس والمعاهد والجامعات أجدى، وأساس للعملية التربوية العملية، فيرجع مرة أخرى إلى الكتب والبحوث، ويحاول البحث عن أفضل الطريق التي درسها، ويتابع آخر طرق التدريس الحديثة التي تنشرها الكتب أو الدوريات المتخصصة".
السلبيات -ربما- تثير الشهية للكلام أكثر من الإيجابيات، ذلك أن الإيجابيات تجربة شخصية يعيشها كل شخص حسب تجربته
صورة الأستاذ الجديد في عيون طلابه:
يقول الطالب أسامة مصطفى: " في كل مرة واجهنا فيها أستاذاً جديداً في الفصل، نقوم ببعض الأمور المختلفة من باب "التجربة" لكي نعرف من أي صنف من الأساتذة هذا المدرس الجديد".
ويتابع " يوجد بعض المدرسين الذين لا يأبهون بكل ما نقوم به في الفصل، لذلك نستطيع أن نلهو في الدرس، وبعضهم لديه طبع حاد، نجبر على متابعته والصمت خلال تدريسه، ولكن من غير أن نكون مجبرين على متابعة ما يقول، ومنهم من يتعامل معنا كأنه أحد زملائنا، وبالتالي نكون متعاونين معه قدر المستطاع، وبعضهم يهمل الجانب النظري، ولكن في الامتحانات يصعّب علينا الأسئلة و...."
ويتفق معه الأستاذ عبدالله الفقيه، حيث يقول: " في أول وهلة يرى فيها الطلاب المدرس يبدؤون بتشخيص المعلم فيحاولون أن يجسوا نبضه من خلال القيام ببعض التصرفات والحركات، لكي يروا ردة فعل المعلم، فأول موقف يعرض له المعلم هو الذي يحدد صورته أمام الطلاب".(115/530)
أما الأستاذ أحمد الحواس، فيرى أن نظرة الطلاب إلى مدرسهم الجديد تختلف وتعود إلى حب شخصية المدرس ومدى تمكنه من مادته العلمية وحسن تقديمها وجديته ومعاملته معهم، ومدى اهتمامه بمظهره الخارجي وكلامه معهم، فإن كان المدرس في نظرهم كذاك فهم يحترمونه ويطيعونه ويحبونه وإن كان غير ذلك فالأمر عندهم مختلف.
في الواقع، تختلف نظرة الطلاب إلى أستاذهم الجديد، بين طالب وآخر، حسب طبيعة الطالب، وحبه للمادة التعليمية التي يتناولها المدرس، ودرجة تأقلمه مع شخصية المدرس، وغيرها من الأمور الأخرى.
إلا أن السمت العام الذي يميز النظر إلى المدرس الجديد، هي أنه مدرس "مجهول" إذ يدور الحديث في الغالب بين الطلاب عن بعض الأساتذة المعروفين، والذين أصبح لهم طريقة واضحة وأسلوب محدد في التدريس وفي التعامل مع الطلاب بشكل عام، وحتى في طريقة وضع الأسئلة، وخلافه.
أما المدرس الجديد، فإنه كثيراً ما تدور حوله "الشائعات" إلى أن تثبت طريقته وأسلوب تعامله مع الطلاب.
لذلك فالنظرة العامة تكون "التوجس" الذي يصاحبه "الرغبة في معرفة شخصيته".
ويرى الأستاذ عبد الله الشلهوب أن الطلاب منهم الذكي ومنهم دون ذلك، ويقول: " فالطالب الذكي يعرف من أول وهلة أن هذا المعلم جديد من خلال نظرة المعلم وكلامه، وقد يلاحظ ارتباك المعلم الخفي أو تعثره في كلمة ونحو ذلك، والمهم أن المعلم إذا استطاع كسب التلاميذ وشد انتباههم احترمه الطلاب وإلا وقع معهم خلاف وافتقد هيبته".
الفارق السني بين الطلاب والمدرسين الجدد:
مع بداية العمل الوظيفي في سلك التعليم، يكون الأستاذ صغير العمر نسبياً، مقارنة مع غيره من الأساتذة والمدرسين الآخرين، كما يكون الأقرب إلى سن الطلاب الذين يدرّسهم، خاصة إذا كان يدرس طلاب مدرسة متوسطة أو ثانوية.
ومع التقارب (العمري) بين الاثنين، تظهر خصائص أخرى مميزة للمدرسين خلال عامهم الأول في التدريس. إذ كلما تقدم بهم العمر، ازدادت المسافة الزمنية (العمرية) بين الاثنين.
وتظهر خلال السنة الأولى للتدريس، بعض المشاكل، فيما يؤكد آخرون على عدم وجود سلبيات في ذلك.
يقول الأستاذ أحمد الحواس: " في نظري لا توجد مشكلة بسبب الفارق العمري إذا كان المدرس متمكناً من مادته العلمية وتقديمها ومهتماً بمظهره وجدياً ومرناً في آن واحد، بل في ذلك نتائج إيجابية، حيث يشعر الطالب أنه على علاقة أخوية مع مدرسه فتذوب الحواجز بينهما ويسود بينهما الاحترام المتبادل والتقبل وأكثر ما يظهر في المرحلة الثانوية والمتوسطة.
أما إذا كان المدرس عكس السابق فإنه لا شك سيكون في مشكلة – بل مشاكل – ولها نتائج سلبية عليه وعلى الطلاب وعلى سير العملية التعليمية".(115/531)
ويرى الأستاذ عبدالله الفقيه، أن تلك سمة إيجابية وليست سلبية، فيقول: " لا أعتقد أنها تسمى مشكلة بل هي ميزة في مصلحة المعلم ليكون أقرب إلى الطالب من خلال معرفته باهتمامات الطلاب وتوجهاتهم".
أما الأستاذ فهد الأحمدي، فيرى الموضوع من منظور آخر، حيث يشرح مسألة (التربية والتعليم) حسب رؤيته الشخصية، ويقول: " في العملية التعليمية، تقدم التربية على التعليم كما هو معروف، ولأن الطلاب يحتاجون دائماً إلى "قدوة" فإن الفارق العمري الكبير نسبياً بين الطلاب والمدرس، يعتبر الأقرب ليكون هذا الأستاذ قدوة".
ويتابع "انظر إلى الأب والأم، والفارق بينهم وبين الأبناء، ثم انظر إلى الفارق بين الأخوة، الفارق العمري يزيد من إحساس الطالب بأن الذي أمامه مهم وجاد ولديه اطلاع ومعرفة واسعة، فيما لو قام أحد المدرسين القريبين من عمر الطلاب بتدريسهم، لأحسوا بنوع من "المشاركة" في العمر، وبالتالي المشاركة في "المعرفة" و"قلة الخبرة"، رغم وجود إيجابيات أخرى كثيرة لا يمكن إنكارها".
سلبيات تواجه الأستاذ خلال عامه الأول:
السلبيات -ربما- تثير الشهية للكلام أكثر من الإيجابيات، ذلك أن الإيجابيات تجربة شخصية يعيشها كل شخص حسب تجربته، أما السلبيات، فتعد مرجعاً ومعلومة هامة مسبقة، من أجل التسلح بأفضل الطرق لتجنبها، أو للتأقلم معها حال وجودها، تلافياً لأية مشاكل نفسية أو آثار سلبية، قد تؤثر على سير العمل والانشغال به.
وبطبيعة الحال، تواجه المدرسين خلال عامهم الأول، الكثير من السلبيات التي تقترن ببداية تجربة عمل جديدة، والتعامل مع عدد كبير من الطلاب، وتحمل مسؤولية تدريس جيل كامل، يحاسب عليها المدرس في الدنيا والآخرة.
من بين أهم تلك السلبيات، ما يشير إليها الأستاذ أحمد الحواس، والتي يعددها وفق ما يلي:
- ضعف القدرة على التعامل المناسب والفعال مع طلابه.
- نظرة المدرس الجديد إلى مشرفه بأنه ناقد فقط.
- قد يغلب على تدريسه الأسلوب السلطوي.
- قد يكتفي على الغالب في تدريسه بتقديم الجوانب المعرفية فقط مجردة عن الجوانب الوجدانية والتربوية.
- يقل في تدريسه الربط بواقع الحياة.
- يكثر فيه الجانب التلقيني ولا يميل إلى حب المنافسة مع زملائه في العمل.
- قد يتعرض المدرس إلى قدح من قبل زملائه القدامى في العمل.
- إذا اعتقد أو ظن المدرس الجديد أنه ليس بحاجة إلى تطوير نفسه وتدريسه وتوجيهه في عمليته التعليمية.
- قد يغلب على المدرس في شخصيته الأسلوب السلطوي.
- عدم الاستجابة لتوجيهات مديره ومشرفه المتابع له.
ويضيف عليها الأستاذ الفقيه بعض البنود الأخرى، منها:
- الانتقال من بيئة تعليمية إلى بيئة تعليمية أخرى ولكنها مختلفة عن الأولى.(115/532)
- قد يجد المعلم صعوبة في التعامل مع الفئات التي يتعامل معها.
- صعوبة احتواء الطلاب وضبط الفصل.
- الدقة في المواعيد، عدم القدرة في البداية على التأقلم مع التوقيت الصارم في الحضور إلى العمل.
وعلى كل حال، فإن معظم هذه السلبيات التي يشير إليها المدرسون، تذهب أدراج الرياح، حال التعود على العمل، والدخول إلى المعترك العلمي، وزيادة التجربة عاماً بعد عام.
سلاح المدرس في عامه الأول:
خبرات المدرسين القدامى والجدد، تشكل تاريخاً ونماذج لأفضل الطرق التي يمكن من خلالها التعامل مع السنة الأولى في التدريس، ما قد تساهم في تقليل أي سلبيات تواجه المدرس خلال عامه الأول. منها على سبيل المثال:
- يتسلح بالله _عز وجل_ وحسن الظن به وصدق التوكل عليه.
- يتسلح بالصبر وهذا مهم في البداية.
- بالإخلاص لله _عز وجل_ في عمله.
- زرع الثقة والاحترام بينه وبين طلابه.
- سماع توجيهات مديره والمشرفين.
- حسن التواصل مع أولياء أمور طلابه والاهتمام بهم.
- المشاركة في نشاطات وبرامج المدرسة داخلياً وخارجياً.
- إتقان عمله والرفع من مستوى أدائه وتطويره وتقديم ما هو جديد.
- ضبط المادة العلمية التي ينقلها للطالب.
- ومعرفة الأساليب والطرق الفعالة للتعامل مع الطالب بصورة مثالية.
مواقف وطرائف:
لا تخلو العملية التعليمية من مواقف وطرائف يمر بها المدرسون على اختلاف مراحلهم، ولكن يبقى العام الأول من أوسع الأعوام رحابة في المواقف والطرائف، طالما أن كل شيء جديد، وكل شيء يحدث للمرة الأولى، دون أن يكون للمدرسة خبرة سابقة بالطلاب، ودون خبرة سابقة للطلاب بالمدرس.
يروي الأستاذ أحمد الحواس حادثة حصلت معه، فيقول: " كلفت طالباً في الصف الثاني بقراءة الحديث من السبورة والطلاب يرددون وراءه ما يقول، فأثار ترديد الطلاب وراءه حماسه، فقال نتيجة ذلك – رافعاً يده –: الله أكبر، فردّد الطلاب وراءه الله أكبر، كررها مرتين ثم أكمل قراءة الحديث حتى نهايته".
ويروي حادثة أخرى فيقول: " اتفق طلاب الصف السادس لقسم تحفيظ القرآن على عدم التسميع غيباً للقرآن حتى يختبروني غيباً في القرآن كاملاً وقالوا لي: إذا أجبت عن أسئلتنا فسوف نسمّع، وإذا لم تجب غيباً فلن نحفظ ولن نسمّع عليك فقلت لهم: اجلسوا جيداً وابدؤوا واحداً واحداً، فسأل الأول فأجبته، وسأل الثاني فأجبته، والثالث فأجبته، والرابع فأجبته بفضله _تعالى_، فأصيبوا بخيبة ثم قاموا جميعاً يتشاورون بالبحث عن سؤال صعب فسألوني فأجبتهم، ثم سألوني فأجبتهم، ثم قلت لهم: هل تستمرون؟ فقالوا: لا. فقلت لهم عندئذ: هيا لكي أسمّع لكم الآن".(115/533)
ويروي الأستاذ فهد حادثة حصلت معه خلال عامه الدراسي الأول، فقال: " داومت في الفصل الذي أدرس فيه عدة أيام، وكان أن تغيب أحد الطلاب منذ بداية الفصل بسبب عدم عودته من السفر مع أهله، وحين عاد، جاء مع ولي أمره إلى الإدارة، وريثما وصل إلى أفصل كنت أنا قد بدأت أدرس الطلاب، وجلست في مقعد بجانب أحد الطلاب، وعندما دخل الطالب الجديد، لك يكن يعرفني، فسلم على أصدقائه، وجلس يتحاور معهم ويسألهم عن الأستاذ أين هو، وهو لا يحسبني أني الأستاذ، بسبب فارق العمر البسيط بيننا".
ـــــــــــــــــــ
صناعة الإنسان في التصور الإسلامي
خالد رُوشه
20/12/1425
ارسل تعليقك ...
تعليقات سابقة ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
يرى علماء النفس والتربية أن عملية التغير في الشخصية الإنسانية هي عملية غاية في التعقيد، وأنها تحتاج إلى عدة عوامل هامة وأساسية لإنجاحها على الوجه المطلوب أو حتى قريباً منه.. تلك العوامل والمؤثرات التي لا يمكن إعدادها في معمل أو صناعتها في بيئة أو تكوينها في مكان.. بل تظل دائماً الشخصية الإنسانية سابحة بين تلك العوامل والمؤثرات اللانهائية من الكون والحياة تتشرب وتستقي حتى تتبلور معالمها وتتضح مكوناتها فتخرج للعالم بألوانها الخاصة وسماتها المتميزة...فسبحان الله الخالق الذي قال: " ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها "..
* عملية تغيير الشخصية الإنسانية ودور المؤثرات المختلفة:
وشتى العمليات التربوية التي يحاول المربون القيام بها هي جزء من عملية التغيير، ونتائجها هي جزء من ذلك التغير والتحول الذي تمر به الشخصية الإنسانية بأطوارها المختلفة..
يرى علماء النفس والتربية أن عملية التغير في الشخصية الإنسانية هي عملية غاية في التعقيد.. وأنها تحتاج إلى عدة عوامل هامة وأساسية لإنجاحها على الوجه المطلوب أو حتى قريبا منه
حتى على مستوى التغيرات المنحرفة والسلبية فهناك عدة عمليات متحورة تؤثر في الشخصية فتجعلها دنيئة وتحول سلوكها إلى سلوك سلبي، ويؤثر في ذلك عدة مؤثرات بيئية وذاتية دل عليها الحديث النبوي الشريف من مثال قوله _صلى الله عليه وسلم_: " يولد المولود على الفطرة فأبواه يهودانه أو يمجسانه أو ينصرانه " رواه مسلم، وكذلك قوله _صلى الله عليه وسلم_ فيما يرويه عن رب العزة _سبحانه_: " إني خلقت عبادي كلهم حنفاء فاجتالتهم الشياطين " روياه في الصحيحين..(115/534)
فالشخصية ذات السلوك السلبي المنحرف هي نتاج تلك المؤثرات وغيرها، سواء كانت تلك المؤثرات بيئية أو ذاتية كما ذكرنا أو كانت داخلية أو خارجية أو مادية أو معنوية... وغيرها.
فالإنسان الذي تربى في الغابة مثلاً ولم يختلط بالناس سوف يخرج ذا قلب نقى متقبل لعبادة ربه وللاستجابة للسلوك السوي، غير أنه يتعرض لاجتيال الشياطين وأثر البيئة من حوله فينحرف في سلوكه، ولذلك أرسل الله الرسل وأنزل الكتب، ولذلك جعل الله _سبحانه_ أن التذكرة إنما ينتفع بها ذوو القلوب النقية والصفات الطاهرة قال _سبحانه_: " فذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين "
فالنظرة الميكيافيلية مثلاً هي نظرة شخصية تأثرت بالنفعية إلى أقصى الحدود وحاولت الحصول من الآخرين على خير ما عندهم رغبة في الوصول إلى مرادات شخصية تتمثل في الفوز عليهم وقيادتهم وتحقيق الإمارة عليهم مهما كانت السبل إلى ذلك غير أخلاقية.
وهي في الإسلام مختلفة حيث التكاملية والتكافلية مع الآخر هو المنهج المعتمد وهو النهج السديد، وحيث إن الغاية لا تبرر الوسيلة ولكن تشترط صحة الوسائل وكونها أخلاقية شرعية كما تشترط صحة الغايات..
* عمل المنهج الإسلامي التربوي في تغير الشخصية وتحولها..
يرى المنهج الإسلامي التربوي ضرورة إخضاع الشخصية الإنسانية إلى عملية تحول داخلي وخارجي كامل، سواء من حيث الصفات السلبية والسلوكية غير الموجهة، فالإسلام يعمل على تغيير النفس الإنسانية من نفس غير مزكاة إلى نفس مزكاة، ومن قلب مريض مشوش إلى قلب سليم عابد، ومن سلوكيات ظالمة إلى سلوكيات نورانية موفقة، فقد كان رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ يسأل ربه عند خروجه لصلاة الصبح بقوله: " اللهم اجعل في قلبي نوراً واجعل في عقلي نوراً وعن يميني نوراً وعن شمالي نوراً ومن فوقي نوراً واجعلي نوراً " روياه في الصحيحين وفي رواية لمسلم " واجعلني نوراً "، قال _سبحانه_: " أومن كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها "
ولعل نظرة إلى شخصية عمر بن الخطاب كنموذج حي مشهور كيف أثر الإسلام بمنهجه وقيمته فيها فأخضعها لتلك العمليات العجيبة من التغيير فصار نموذجاً يحتذى ومثلاً يضرب وفاروقاً بين الحق والباطل والحق أنه ليس ثمة مؤثر قد استطاع أن يؤثر على تلك الشخصية الفذة العبقرية – شخصية عمر- ليغيرها نحو الإيجابية سوى الإسلام ومنهجه وقدرته على إحداث ذلك التحول الخارق للعادة البشرية...
-التغيير في عالم المعنويات..
يقول الدكتور إسماعيل حسانين أحمد : إنه في عالم المحسوسات عندما نريد غرس شيء قي قطعة من الأرض فلابد من اتخاذ الإجراءات الضرورية لذلك مثل إصلاح الأرض وتمهيدها وتخطيطها والتأكد من توفير المياه اللازمة فإذا توافر ذلك تمت عملية الغراس ثم إننا نتعهد بعد ذلك الغرس بالرعاية التي يحتاجها حتى ينضج ويكبر ونستطيع الحصاد، أما في عالم المعنويات فإن الأمر جد خطير ويحتاج إلى أيد متعددة ومؤسسات مختلفة في إعداد وتأهيل وتهيئة البيئة المحيطة بالشخصية، وكذلك(115/535)
تضافر الجهود القريبة لتوجيه الشخصية وفوق كل ذلك يجب أن يتم ذلك وفق خطة إيمانية إسلامية منهجية وإلا تعرضت كل تلك الجهود للفشل الذريع...
- بين تغيير الشخصية وتغيير القيم..
أما الدكتور أحمد المهدي فيرى أن القيمة المراد توجيه الشخصية إليها هي معنى تجريدي له وجود ذهني ليس الزمان ولا المكان جزء في ماهيته ويشير مفهوم قيمة إلى حالة عقلوجدانية ذهنية متفق عليها في المجتمعات، وأن القيمة العليا هي القيمة التي يستطيع المجتمع عامداً أن يبثها في الشخصية مناط البحث وأن القيم الإسلامية هي القيم الوحيدة التي لها امتداد واقعي ونفسي ووجداني مشترك، فلذلك هي المرشحة الكبرى لتوجيه الشخصية الإنسانية نحو السلوك الإيجابي المطلوب للسمو والرقي المتكامل الأوجه.
ومن جانبه يرى الدكتور جابر قميحة: أن الشخصية لا تتوارث السلوك ولا القيم ولا المبادئ ولكنه يرى أن القيم هي مجموعة الأخلاق التي تصنع الشخصية ومن ثم فالقيم الإسلامية تستطيع إقامة التفاعل الحي مع المجتمع وعلى التوافق مع أعضائه وعلى التوافق مع أعضائه وعلى العمل من أجل أمل النفس والأمة والعقيدة، ومن ثم فالمبادئ التي تتربى في ظلها الشخصية تنقسم في رأيه إلى قسمين: سلبية وإيجابية أو ما أسماه قيم التخلي وقيم الاستمساك فالأولى تتمثل في ترك ما نهى الله عنه والثانية تتمثل في فعل ما أمر الله به.
أما الدكتور سيد نوح فهو يرى أن تقويم الاعوجاج في الشخصية الإنسانية إنما هو إصلاح وتهذيب وتقويم ما في الشخصية من قصور أو ضعف أو عوج كما يرى أن الجماعة المسلمة هي المعنية بذلك فهي عليها أن تساعد الفرد على اكتشاف عيوبه ثم تعلمه كيفية التخلص منها وتقدم له النموذج الصحيح ليقتدي به ويتأسى وهكذا، فالجماعة عنده هي التي تمارس مختلف الأساليب والوسائل وتسلك سائر الطرق لتعود بشخصية المسلم إلى ما ينبغي أن يكون عليه، ولعل هذا الدور للجماعة هو ما عناه النبي _صلى الله عليه وسلم_ بقوله: " المؤمن مرآة أخيه " أخرجه أبو داود..
- الناس معادن..
فالإسلام في تعامله مع الشخصية لا يأمرها أن تنتقض النافع الحسن من صفاتها الأولى أو من أخلاقها الفاضلة التي تربت عليها ولو كانت قد اكتسبتها قبل معرفة الإسلام ذاته أو جاءت بها من جاهلية، بل إن الإسلام- مع رفضه للجاهلية بجميع أشكالها وقيمها –ليثبت الحسن الفاضل في تلك الشخصية وينميه وينتفع به، يقول _صلى الله عليه وسلم_: " الناس معادن كمعادن الذهب والفضة فخيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا " رواه البخاري
وتنقسم أهم المؤثرات التي تؤثر في تحول الشخصية الإنسانية قسمين:
- خارجية: ويقصد بها ما يحيط الإنسان من عوامل بيئية خارجة عنه كنوعية مجتمعه الذي يعيش فيه وصفات ذلك المجتمع وسماته، والطبيعة الجغرافية لمكان النشأة والتربية، وكذا مجموعة القيم الجماعية التي تنظم السلوك الجمعي في المجتمع الذي يعيش فيه .(115/536)
- ذاتية: ويقصد بها التكوين النفسي السابق والأثر التاريخي الباطن ومجموعة الصفات الخلقية التي يتميز بها وأثر الوالدين والمعلمين المقربين والتكوين الأسرى ومشاكله وصفاته وغيرها.
* المحاور التربوية الأساسية في المنهج الإسلامي التي تساعد على التحول الشخصي الإيجابي:
أولاً: غرس تعظيم المنهج الإسلامي في النفس:
والفخر به والعزة به والقناعة به واليقين التام بالتمسك به، فقد غرس النبي _صلى الله عليه وسلم_ ذلك في نفوس أصحابه وحذرهم كثيراً من التفريط بذلك المنهج العظيم وحذرهم من التقليد الأعمى لأهل الدنيا مهما كانت مناهجهم ومهما بلغ علو شأنهم في نظر الناظرين " قال _صلى الله عليه وسلم_: " تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبداً: كتاب الله وسنتي " رواه أحمد .
بل إن النبي _صلى الله عليه وسلم_ كان يوجه أصحابه دوماً إلى عدم تكدر النبع الصافي وإلى التوجه إلى الأصل الإيماني وترك ما سواه، فعن جابر _رضي الله عنه_ أن عمر بن الخطاب أتى النبي _صلى الله عليه وسلم_ بكتاب أصابه من بعض أهل الكتاب قال: فغضب، وقال: " أمتهوكون فيها يا ابن الخطاب؟ والذي نفسي بيده لقد جئتكم ببيضاء نقية...والذي نفسي بيده لو أن موسى حياً ما وسعه غير أن يتبعني " رواه أحمد فلذلك فقد وعى عمر الدرس و" ضرب بدرته بعد ذلك رجلاً من وفد عبد القيس ثلاث ضربات على رأسه؛ لأنه كتب كتاب دانيال، وأمره أن يذهب فيمحوه بالحميم والصوف الأبيض ".
ثانياً: توحيد منهج التلقي:
فقد حرص المنهج الإسلامي على توحيد منهج التلقي للمتربين حتى تستقيم الشخصية الإسلامية على جادة مستقيمة واضحة وحتى لا تزوغ بها الأهواء وتختلف بها السبل فتفرقها عن السبيل القويم، فعن العرباض بن سارية _رضي الله عنه_ قال: وعظنا رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ موعظة وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون فقلنا: يا رسول الله كأنها موعظة مودع فأوصنا: فقال: أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن تأمر عليكم عبد، فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً فعليكم بسنتي وسني الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور.." رواه أحمد
والشخصية ذات المنهج الواحد واضح المعالم تتميز بالسوية والعدالة وتتسم بالوضوح والشفافية وتحيى على سلوك موجه ذي هدف متضح ، فوحدة المنهج الإسلامي هي الإطار المبلور لسمات الشخصية المطلوب فهو الذي يوحد الهدف ويوضحه ومن ثم تزول إشكاليات التشتت في الولاءات وتزول إشكاليات الهوية والانتماءات..
ثالثا: تأسيس المنهج العلمي في التربية الشخصية والتحفيز على العلم:
فقد كان _صلى الله عليه وسلم_ يجذب انتباه السامعين إليه تحفيزاً على طلب العلم فربما قال لهم : " أتدرون أين تذهب الشمس؟ " رواه مسلم، " ألا أخبركم بالمؤمن؟ " رواه أحمد، " ألا أعلمكما خيراً مما سألتكما؟ " رواه البخاري.. وهو أسلوب تربوي(115/537)
نافع للغاية ومحفز على التركيز، كما كان _صلى الله عليه وسلم_ يدفع أصحابه دفعاً لنشر ذلك العلم الذي تعلموه وأن يحيوا به وأن يؤصلوا حياتهم على تلك المنهجية العلمية في كل صغير وكبير، فعن أبي هريرة _رضي الله عنه_ قال النبي _صلى الله عليه وسلم_: "بلغوا عنى ولو آية " رواه البخاري، وقال:" من سئل عن علم فكتمه ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار " رواه أبو داوود
وهو في ذات الوقت يضع للمربين المنهج التعليمي العظيم في تربية الشخصيات مع الحرص على تعليم المسيء وإرشاده بدلاً من تحقيره والابتعاد عنه، ففي الحديث الذي رواه أنس بن مالك _رضي الله عنه_ قال:" بينما نحن في المسجد إذ جاءه أعرابي فقام يبول في المسجد فقال أصحاب رسول الله: مه، مه، فقال رسول الله _صلى الله عليه وسلم_: " لا تزرموه " فتركوه حتى بال، ثم إن رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ دعاه فقال له: " إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول ولا القذر، إنما هي لذكر الله والصلاة وقراءة القرآن " رواه مسلم.
والرسول _صلى الله عليه وسلم_ في ذلك يجمع بين التوجيه الفردي والجماعي فيقول: "صلوا كما رأيتموني أصلي " رواه البخاري ويقول: " لتأخذوا عني مناسككم " رواه مسلم .
كما كان يشير إلى استخدام الوسائل التعليمية المختلفة وربما استخدمها كثيراً، كأن يقول: " أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة.. ويقرب بين أصبعيه السبابة والوسطى " رواه الترمذي. ويقول: " الفتنة هاهنا من حيث يطلع قرن الشيطان " ويشير بيده إلى المشرق " رواه البخاري، ويروي أنس بن مالك وجابر بن عبد الله الأنصاري قالا: " خرجنا مع النبي _صلى الله عليه وسلم_ فإما أمر بعذق فقطع وإما كان مقطوعاً قد هاج ورقه، وبيد النبي قضيب فضربه، فجعل ورقه يتناثر، فقال: هل تدرون ما مثل هذا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. فقال: " إن مثل هذا مثل إذا قام أحدكم صلاته، جعلت خطاياه فوق رأسه وإذا خر ساجداً تناثرت عنه كما يتناثر ورق هذا العذق " (شرح السنة للبغوي 3\150).
كما كان _صلى الله عليه وسلم_ تارة يضرب المثل التوضيحي وتارة يستعمل الرسم التوضيحي وتارة ينقلهم من المجرد إلى المحسوس وغيره...
رابعاً: تكوين البيئة الصالحة للتغيير:
فالمنهج الإسلامي يحرص دائماً على تكوين تلك البيئة الصالحة للشخصية لتتقبل عملية التغيير.
فعلى مستوى البيئة الداخلية المستمرة يأمر الإسلام ببناء أسرة إيمانية أخلاقية صلبة يربطها الحب في الله وتلفها المودة والرحمة، ويأمر فيها الزوج بحسن اختيار زوجته ويأمره بأن يظفر بذات الدين ويأمر الزوجة باختيار الزوج على أساس الإيمان والتقوى لا على أساس الدنيويات والمظاهر، بل يأمر المنهج الإسلامي تلك الأسرة أن تكون بيئة مهيأة لنمو الشخصية المستقيمة إلى أقصى الحدود، وانظر إلى هذا الحث النبوي اللافت في قوله _صلى الله عليه وسلم_: " رحم الله رجلاً قام من الليل فصلى وأيقظ أهله فإن أبت نضح في وجهها الماء، ورحم الله امرأة قامت من الليل فصلت وأيقظت زوجها فإن هو أبى نضح في وجهها الماء " رواه مسلم، فأي نبت(115/538)
صالح يمكن أن يخرج من أسرة هذا شأنها وأي تغيير كريم تقوم به تلك الأسرة الربانية في شخصيات أفراده...
وكذلك فعلى مستوى البيئة المؤقتة يأمر المنهج الإسلامي بتكوين البيئات اليومية الصالحة لتغيير إيجابي للشخصية الإنسانية، فيأمر باختيار الصديق ويدقق في ذلك بشدة فيقول: " لا تصاحب إلا مؤمناً ولا يأكل طعامك إلا تقي " رواه أحمد وأصحاب السنن، ويأمر بذهاب خمس مرات إلى المساجد بروية وسكينة ويأمر بانتظار الصلاة بعد الصلاة، ويوجه بأن " المرء في صلاة ما كان ينتظر الصلاة " رواه البخاري، ثم هو يدعو إلى مجالس الذكر والعلم ويجعل لها مقاماً خيراً من غيرها من العبادات.
كذلك فالمنهج الإسلامي يوجه ناحية الخلوة النفسية بالله والعبودية والتوبة المستمرة كدعوته لقيام الليل والمناجاة والتبتل والخشوع قال _تعالى_: "يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً" (المزمل:1-4).
ولا يقطع المنهج الإسلامي المتكامل بين الحياة الفردية والحياة المجتمعية ولا بين الحياة الروحية وحياة الإنجاز الدنيوي الأرضي، بل يأمر الأفراد بالإصلاح والإنجاز والتقدم والرقي والبحث عن السبل للوصول إلى أعلى درجات الإيجابية والتأثير في الحياة..
ـــــــــــــــــــ
تربويات من مدرسة الحج
موقع (المسلم)
28/11/1425
ارسل تعليقك ...
لا توجد تعليقات ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
فيما تغمر العالم الإسلامي فرحة أيام الحج ومناسكه التي شرعها الله _سبحانه وتعالى_ تطهيراً ورحمة لعباده، تنطق الأقلام، وتسطر الحناجر، وقفات إيمانية وروحية وعلمية وتربوية وجهادية، تنهل من مدرسة الحج نماذج وأفكار وعبر كثيرة.
فلا يوجد في الدين الإسلامي ركن أو نهج أو عمل، إلا وكانت حكمة عظيمة وراءه، دبرها العزيز المنان، وكشف بعضاً منها لأولي العلم من الناس، يتدبروا فيها عظمة الخالق وجبروت مالك الملك، ورحمة الرحمن الرحيم.
دروس لا تنتهي:
ومن هذه الوقفات التربوية التي كتبت الكثير من الأقلام عنها دون أن تستطيع الإحاطة بأقل قليلها، أو تحديد معانيها ومرامها، ما يحدد الأستاذ فهد الجهني بالقول: لعلنا نقف مع بعض الدروس والعبر التي نتعلمها في مدرسة الحج، وإن شئت فقل "جامعة الحج"، ولسنا نقصد الحصر ولا العد إنما هي إشارات وإضاءات تبين روح الإسلام وعظمته.(115/539)
1) الوحدة والاجتماع واتحاد الصف:
فيما تغمر العالم الإسلامي فرحة أيام الحج ومناسكه التي شرعها الله _سبحانه وتعالى_ تطهيراً ورحمة لعباده، تنطق الأقلام، وتسطر الحناجر، وقفات إيمانية وروحية وعلمية وتربوية وجهادية
ما أعظم هذه المعاني وضرورتها ودورها في نهضة الأمة وهي واضحة جلية في شعيرة الحج، فالمسلمون يقدمون من كل مكان على الأرض مختلفون في بلدانهم وألوانهم ولغاتهم وأسمائهم، لكنهم اجتمعوا واتحدوا وتوافقوا زماناً ومكاناً ظاهراً وباطناً في الحج، وهم مع ذلك اتحدوا باطناً بحيث لو سألت أي حاج لِمَ قدمت إلى الحج؟ لَما تردد وأجابك بأنه قدم طاعة لله _عز وجل_ وطمعاً في عفوه ورحمته، والله _تعالى_ يقول: "ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ" (البقرة: من الآية199) لتكون أفعال الحج واحدة ومظاهر الوحدة والاجتماع بين الحجاج في المناسك ظاهرة لا حاجة لتفصيلها، إذن لو لم يكن في الحج إلا هذه الفائدة هذا الدرس نتعلمه ونرجع به إلى أوطاننا لكفى – والله – و لكان له الأثر الواضح والنقلة النوعية نحو سمو الأمة الإسلامية وعزها.
2) تنظيم الوقت والالتزام بالموعد:
وهذا درس آخر من دروس الحج، فارتباط مناسك الحج بالوقت ارتباط وثيق يدل على أهمية الوقت والحرص على الزمان، ويظهر ذلك من خلال تأمل تحديد الشارع زمان كل منسك من مناسك الحج كالوقوف بعرفة والمبيت بمزدلفة، والنفرة منها إلى منى، ورمي جمرة العقبة، وتحديد زمان بداية رمي الجمار أيام التشريق بعد الزوال، وكذا كون الحج في وقت محدد من العام لا يقبل قبل ذلك ولا بعده إلى غير ذلك مما يرشدنا وينبهنا للاهتمام بالوقت، فالوقت هو الحياة وهو رأس المال الذي يلزم المسلم الحفاظ عليه من أن يقضى فيما لا نفع ولا ثمرة فيه ولا مصلحة دينية أو دنيوية فضلاً عن أن يبذل هذا الوقت فيما حرمه الله _عز وجل_.
3) تيسيراً لا تعسيراً:
اليسر والسهولة ورفع المشقة سمة من سمات دين الإسلام، وتظهر صور ذلك بينة في الحج، ففي الحديث المتفق عليه عن عبد الله بن عمرو بن العاص _رضي الله عنه_ عندما وقف النبي _صلى الله عليه وسلم_ في حجة الوداع بمنى للناس يسألونه. قال: فما سئل النبي _صلى الله عليه وسلم_ عن شيء قدّم ولا أخّر إلا قال: افعل ولا حرج، وكذلك الرخصة لذوي الأعذار كما أذن النبي _صلى الله عليه وسلم_ للعباس بن عبد المطلب _رضي الله عنه_ أن يبيت بمكة ليالي منى من أجل سقايته، والإذن للضعفة من النساء والصبيان بالإفاضة من مزدلفة ليلاً ورمي جمرة العقبة قبل وقتها، وغير ذلك من شواهد التيسير والبعد عن التعسير على الحجاج، بل إن التخيير عند الأمر فيه من التيسير والتسهيل الشيء الكبير، فأنت مخير في حجك بين التمتع والقران والإفراد، ومخير بين الحلق والتقصير، ثم أنت مخير في التعجل أو التأخر نهاية الحج، ولا شك أن هذا درس عظيم لكل داعية ومربٍ ومعلم وكل مسلم في اتباع التيسير والتخفيف لا التعسير والعنت والمشقة على الآخرين عملاً بقوله _صلى الله عليه وسلم_: "يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا".(115/540)
4) ذاتية التربية والمراقبة ولزوم التقوى:
إن من أوضح ما يراه من يتأمل في الحج ذلك التنظيم الدقيق وإلزام الحاج بالانضباط والجدية، فمن بداية رحلة الحج المباركة إلى نهايتها نجد حدوداً واضحة مكانية وزمانية، فالحدود المكانية هي مواقيت الحج المحددة التي لا يجوز تجاوزها لمن أراد الحج من غير أهل مكة، وكذلك أماكن الطواف والسعي وغيرها، أما الحدود الزمانية مما حدد من المناسك بوقت معين كالوقوف بعرفة والخروج منها والمبيت بمزدلفة ورمي الجمار وغير ذلك، ومن التنظيم الملاحظ في الحج إلزام الجميع لباساً واحداً له صفة معينة، وكذا بيان المحظورات التي تخل بالإحرام.
كل هذه حدود من الشارع _عز وجل_ "تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ" (البقرة: من الآية229)، وقال _تعالى_: "وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ" (الطلاق: من الآية1)، وبوب البخاري في كتاب الحج "باب أمر النبي _صلى الله عليه وسلم_ بالسكينة عند الإفاضة وإشارته إليهم بالسوط" وفيه أنه لما دفع النبي _صلى الله عليه وسلم_ يوم عرفة سمع من ورائه زجراً شديداً وضرباً وصوتاً للإبل فأشار بسوطه إليهم، وقال: أيها الناس عليكم بالسكينة فإن البر ليس بالإيضاع – أي الإسراع – فانظر أخي الكريم إلى هذه المعاني العظيمة التي يُربى عليها المسلم في الحج من حب النظام والانضباط وتقوية روح الجدية فيرجع المسلمون إلى أهليهم بهذه المعاني التربوية القيمة.
5) التنظيم والانضباط والجدية:
هذه المعاني نجدها متمثلة في مشاعر الحج، بل إن الله _تعالى_ أمر بالتقوى في سياق آيات الحج، فقال _تعالى_: "وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ" (البقرة: من الآية197)، مما يحمل المسلم الحاج على مراقبة الله العظيم مراقبة ذاتية داخلية من قبل النفس فكل عمل يعمله يعلمه الله وقد نهاه الله _عز وجل_ عن الرفث والفسوق والجدال تربية وتهذيباً لسلوكه "الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ" (البقرة: من الآية197)، فمن بداية الحج إلى تمامه والمسلم يراقب الله _تعالى_ ويلزم التقوى فيكون قصده لله وحجه وحبه ورجاؤه وخوفه وذله ودعاؤه وتضرعه كله لله _تعالى_ فإذا لبس إحرامه جعل من ذاته رقيباً ينبهه ويذكره علم الله واطلاعه فلا يقترب من محظورات الإحرام، وإن وقع منه خطأ فإنه يكفر عن هذا المحظور بما ورد والله أعلم به، وإن كان في الطواف ووقع شيء من الزحام مع هذه الألوف من الرجال والنساء فيراقب بصره عن رؤية ما لا يحل له وينأَ بنفسه عن الحرام ويحفظ قلبه وسمعه وبصره ولسانه في الحج حفاظاً على نسكه وطمعاً في قبول عبادته، وهكذا في كل مناسك الحج، وفي ذلك كما لا يخفى تربية للنفس وارتقاء بها وتزكية وتطهير لها، وإنه – والله – لدرس ما أجَلّه وأعظمه لو تأمله واستفاد منه الحاج وعممه وطبقه على باقي حياته.
6) التآلف والتعارف بين المسلمين والعطف المتبادل:
ما أجمل الحج عندما تتعرف على أحد إخوانك المسلمين من بقاع الأرض الأخرى فتعرف أحواله وتحبه ويحبك، ثم أنت وإياه تساعدان وتعينان إخوانكم ويعطف بعضنا(115/541)
على بعض لا رابط يجمعنا لا نسب ولا وطن ولا تراب ولا مال ولا شيء إلا الإسلام، نعم هنا في أيام الحج تظهر أجمل وأردع معاني الأخوّة، ونكون كما أخبر المصطفى _صلى الله عليه وسلم_ "المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضاً".
وانظر معي – أخي الحبيب – إلى هذا الحديث في صحيح مسلم فعن ابن عباس _رضي الله عنه_ أن النبي _صلى الله عليه وسلم_ لقي ركباً بالروحاء، فقال: "من القوم"؟ قالوا: المسلمون، فقالوا: من أنت؟ قال: "رسول الله" فرفعت إليه امرأة صبياً، فقالت: ألهذا حج؟ قال: "نعم ولك أجر" فالحج تربية للتآلف والتعارف والتواد والتقارب بين المسلمين لا فضل بيننا إلا بالتقوى، والله _تعالى_ يقول في سورة الحج: "لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ" (الحج:28)، وقال _سبحانه_: "فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ" (الحج: من الآية36)، نعم يعلّم الله عباده ويربي حجاج بيته أن يتساعدوا ويتعاونوا ويعطف بعضهم على بعض ويطعم الغني الفقير ويساعد القوي الضعيف لترسخ بعد ذلك معاني مهمة في التكاتف والتعاون.
7) تكريم المرأة وصيانتها:
المرأة، وما أدراك ما المرأة؟ اتخذها مَن في قلبه مرض طريقاً لمقاصدهم الضالة وسلماً لأمنياتهم المشبوهة في إفساد المجتمع وتغريب الأمة فزعموا – جاهلين أو متجاهلين – ظلم المرأة وإهانتها وبخسها حقوقها وحريتها في المجتمع المسلم، وإنا نقول بأعلى الأصوات: لا يوجد دين أو ملة أو قانون أعطى المرأة حقوقها وكرمها ورفعها وصانها إلا الإسلام ولا فخر، حتى تمنى بعض نساء الغرب أن يعشن حياة المرأة المسلمة في مكانتها وعفتها وسعادتها بتربية أبنائها وعزها بحجابها لما قاست المرأة الغربية الكافرة من ظلم وإهانة واحتقار، وفي الحج صور متعددة من تكريم المرأة ورعايتها وصيانتها، فعندما قام ذلك الرجل، وقال: يا رسول الله اكتتبت في غزوة كذا وكذا وخرجت امرأتي حاجة؟ فقال رسول الله _صلى الله عليه وسلم_: "اذهب فحج مع امرأتك".
ولما لم يلزم الإسلام المرأة بالجهاد حفاظاً عليها وتقديراً لضعفها أبدلها الله مكانه الحج والعمرة، فعن عائشة _رضي الله عنها_ أنها قالت: قلت: يا رسول الله، على النساء جهاد؟ قال: "نعم عليهم جهاد لا قتال فيه الحج والعمرة" رواه أحمد وابن ماجة، وتأمل معي – أخي الكريم – ما ورد في الحديث المتفق عليه أن عائشة _رضي الله عنها_ قالت:" دخل عليَّ رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ وأنا أبكي، فقال: ما يبكيك يا هنتاه؟ قلت: سمعت قولك لأصحابك فمنعت العمرة. قال: وما شأنك؟ قلت: لا أصلي. قال: فلا يضيرك! إنما أنت امرأة من بنات آدم كتب الله عليك ما كتب عليهن فكوني في حجتك فعسى الله أن يرزقكيها".
أليس في هذا تكريم للمرأة وسؤال عن حالها وتطييب لخاطرها واهتمام بشؤونها ويا ليت قومي يعلمون هذا! ليتهم يدركون ما في الالتزام بمنهج الإسلام في التعامل مع المرأة ورعايتها في كنفه من حفاظ على أخلاقيات المجتمع وصيانة للأمة من كل(115/542)
أنواع الفساد الاجتماعي والتربوي والأخلاقي، الذي يعيشه العالم المادي اليوم ونراه عياناً هنا وهناك.
8) التسامح والعفو وسلامة الصدر:
عن أبي هريرة _رضي الله عنه_ قال: قال رسول الله _صلى الله عليه وسلم_: "من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع كما ولدته أمه" رواه البخاري ومسلم، وما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبداً من النار من يوم عرفة، وفي هذا بيان عظم عفو الله ورحمته وكمال جوده وكرمه مع قاصدي حرمه وحجاج بيته وفي هذه الأيام المباركات تنزل الرحمات وتعظم البركات ويعفى عن السيئات من لدن الغفور الرحيم العفو الكريم البر الحليم، فهل نستفيد من الحج بأن نرجع متسامحين عافين عن الناس صدورنا سليمة قلوبنا طاهرة من كل غل على المسلمين، فأسامح جميع إخواني وأعفو عمن أساء إليّ، وأحمل خطأ الآخرين المحمل الحسن، وأطهر قلبي من أي حقد أو حسد أو ضغينة أو كراهية كل ذلك رجاءً وطمعاً في أن يغفر الله لي ويعفو عني وهو أرحم الراحمين و"إنما يرحم الله من عباده الرحماء".
التوحيد واتباع سنة المصطفى والوحدة:
كما يشير الأستاذ شائع بن محمد الغبيشي ( من مركز الإشراف التربوي بحلي)، إلى وقفات تربوية أخرى، ومنها:
أولاً: توحيد الله _عز وجل_:
تتجلى العناية بالتوحيد و بيان أهميته أن الحكمة من بناء البيت إنما هي توحيد الله _جلّ وعلا_ وجُعل قصدُ الناس إليه من أرجاءِ المعمورة لإذكاءِ شعيرةِ توحيد العبادةِ وخلوصها لله _سبحانه_ لا شريكَ له، "وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ" [الحج:26]
والمتأمل للأعمال و الأذكار التي يقوم بها الحاج خلال رحلة الحج يجد أنه يلهج بتوحيد الله _عز وجل_ من أول منسكه إلى نهايته لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك لبيك ، إن الحمد و النعمة لك و الملك لا شريك لك لبيك، كما في حديث جابر _رضي الله عنه_ في وصف حجة النبي _صلى الله عليه و سلم_ قال :" فأهل بالتوحيد : لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك لبيك ، إن الحمد و النعمة لك و الملك لا شريك لك لبيك" رواه مسلم .
ثانياً : الاقتداء و التأسي بالنبي _صلى الله عليه وسلم_:
مدرسة الحج تربي الفرد والمجتمع المسلم على الاقتداء بالنبي _صلى الله عليه وسلم_ فالحاج يربي نفسه على متابعة هدي النبي _صلى الله عليه وسلم_ في جميع شؤون الحياة فإن متابعة الحاج لهدي النبي _صلى الله عليه وسلم_ في مناسك الحج استجابة لقوله _صلى الله عليه وسلم_ :" خذوا عني مناسككم" تربية للحاج أن يلتزم هدي النبي _صلى الله عليه وسلم_ في جميع ما يأتي و ما يذر، و ذلك هو بداية الانطلاقة للتأسي بالنبي _صلى الله عليه وسلم_ و قد قال الله _تعالى_ :" لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجوا الله و اليوم الآخر ..." فمدرسة الحج تربي المسلم على أن الخير له و الفلاح في العودة إلى هدي النبوة هدي محمد _صلى الله عليه و سلم_ .(115/543)
وأمة الإسلام اليوم في أمس الحاجة إلى أن تعود إلى إرث محمد _صلى الله عليه و سلم_ لتستعيد عزها و مجدها المفقود
ثالثاً : الأخوة الإسلامية:
مدرسة الحج تربي على الأخوة الإسلامية، فالحاج يستشعر معنى الأخوة الإسلامية من خلال لقائه بإخوانه المسلمين من شتى بقاع الأرض و من كل قطر و مصر يراهم و قد تصافحت أيديهم وتآلفت قلوبهم يظهر بعضهم لبعض المحبة والعطف والتعاون والتسامح.. شعارهم : وشيجة الدين هي أقوى الوشائج و الصلات.
رابعاً : الوحدة الإسلامية:
مدرسة الحج تربي الفرد و المجتمع و الأمة و العالم الإسلامي على مبدأ من أعظم مبادئ هذا الدين ألا و هو مبدأ الوحدة الإسلامية فالحاج يدرك أن الحج شعار الوحدة.. " فإن الحج جعل الناس سواسية في لباسهم وأعمالهم وشعائرهم وقبلتهم وأماكنهم، فلا فضل لأحد على أحد: الملك والمملوك، الغني والفقير، الوجيه والحقير، الكل في ميزان واحد... إلخ.
فالناس سواسية في الحقوق والواجبات، وهم سواسية في هذا البيت لا فضل للساكن فيه على الباد والمسافر، فهم كلهم متساوون في البيت الحرام، لا فرق بين الألوان والجنسيات، وليس لأحد أن يفرق بينهم.
وحدة في المشاعر ووحدة في الشعائر، وحدة في الهدف، وحدة في العمل، وحدة في القول "الناس من آدم، وآدم من تراب لا فضل لعربي على أعجمي ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى"
أكثر من مليوني مسلم يقفون كلهم في موقف واحد، وبلباس واحد، لهدف واحد، وتحت شعار واحد، يدعون رباً واحداً، ويتبعون نبياً واحداً.. وأي وحدة أعظم من هذه" من مقال للدكتور يحيي اليحيي بعنوان ( مقاصد الحج ) .
خامساً : الجسد الواحد:
تُربينا مدرسة الحج على أن نتألم لآلام المسلمين في كل صقع من أصقاع الأرض مهما شطت بنا الديار و اختلقت الأوطان فنحن جسد واحد.. عن النعمان بن بشير _رضي الله عنه_ قال : قال _صلى الله عليه وسلم_ :" مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى" رواه البخاري و مسلم.
تأتي مدرسة الحج لتزيل العزلة الشعورية التي يعيشها المسلمون حيال قضاياهم و مشاكلهم و آمالهم و آلامهم و تبدد الحصار و التعتيم الإعلامي المفروض على المسلمين .
سادساً : ذكر الله:
مدرسة الحج تربي الحاج على ذكر، فالذكر هو أول المقاصد التي أرادها الله من عبادة الحج، قال _تعالى_: " وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالاً وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات" [الحج:27-28]. ورحلة الحج من بدايتها إلى نهايتا ذكر لله _عز وجل_ فالحاج يذكر الله بالتلبية، و خلال الطواف، وخلال السعي، و يصعد الحاج إلى عرفات ليدعو الله(115/544)
ويذكره، فعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي _صلى الله عليه وسلم_ قال :" خير الدعاء دعاء يوم عرفة، وخير ما قلت أنا و النبيون من قبلي: لا اله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير" رواه الترمذي . ويغادر الحاج عرفات إلى مزدلفة، إلى المشعر الحرام ليذكر الله قال _تعالى_: " فاذكروا الله عند المشعر الحرام واذكروه كما هداكم وإن كنتم من قبله لمن الضالين، ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله إن الله غفور رحيم" [البقرة:198-199] !
سابعاً : مخالفة المشركين و البراءة منهم:
قال _تعالى_ : "وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ" فالحج فرصة لتأصيل عقيدة الولاء و البراء في نفوس المؤمنين خاصة أنها قد ضعفت وهزلت في نفوس كثير من الناس فتأتي مدرسة الحج لتحيي قضية البراء من المشركين، فقد حرص النبي _صلى الله عليه وسلم_ على مخالفة المشركين خلال رحلة حجه، فقال للناس عن المشركين : "هدينا مخالف هديهم" رواه البيهقي و الحاكم، و قال: على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي.
قال د .عبد العزيز آل عبد اللطيف : لقد لبى النبي _صلى الله عليه وسلم_ بالتوحيد ، خلافاً للمشركين في تلبيتهم الشركية ، وأفاض من عرفات مخالفاً لقريش، حيث كانوا يفيضون من طرف الحرم ، كما أفاض من عرفات بعد غروب الشمس مخالفاً أهل الشرك الذين يدفعون قبل غروبها.
ولما كان أهل الشرك يدفعون من المشعر الحرام (مزدلفة) بعد طلوع الشمس ، فخالفهم الرسول _صلى الله عليه وسلم_ ، فدفع قبل أن تطلع الشمس، وأبطل النبي _صلى الله عليه وسلم_ عوائد الجاهلية ورسومها كما في خطبته في حجة الوداع، حيث قال:" كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع".
ثامناً: تربية النفس و ترويضها على الصبر و تحمل المشاق :
من أظهر الدروس التي تتضح بجلاء في مدرسة الحج التربية على الصبر وتحمل المشاق في سبيل مرضاة الله قال _تعالى_ :" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ" (البقرة:153) .
و الصبر من خير ما يوفق له المؤمن، فعن أبي سعيد الخدري قال : قال _صلى الله عليه و سلم_ :" ما أُعطي أحد عطاءً خيراً وأوسع من الصَّبر" رواه الخمسة، و قال عمر بن الخطاب _رضي الله عنه_: وجدنا خير عيشنا بالصبر، و قال علي بن أبي طالب _رضي الله عنه_ : "الصبر مطية لا تكبو و القناعة سيف لا ينبو" و قال ابن قيم الجوزية _رحمه الله_ : "إن الله _سبحانه_ جعل الصبر جواداً لا يكبو و صارماً لا ينبو و جنداً لا يهزم و حصن حصيناً لا يهدم و لا يثلم".
تاسعاً: الثقة بنصر الله للإسلام والمسلمين :
فمدرسة الحج تزرع في النفس الثقة بنصرة الدين و التمكين له و أنه مهما طال ليل الكفر و الباطل فإن فلق الصبح أوشك على الانبلاج، وما تجمع العدد الغفير من المسلمين في أيام الحج من كل فج عميق إلا بشارة بفجر جديد قريب لعز الإسلام والمسلمين، فعندما يرى الحاج وفد الحجيج حتى من البلاد التي تشن الحرب على(115/545)
الإسلام و المسلمين، وعندما يجالس وفود الحجيج فينقلون له تهافت الناس على الإسلام وتشوقهم إلى التعرف عليه، و يسردون أخبار التائبين و التائبات حتى في صفوف الفنانين و الفنانات تزداد ثقته ويقوى يقينه بنصر الله للإسلام و المسلمين، و أن المستقبل لهذا الدين، قال _عز وجل_:"هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ(33)" [سورة التوبة] قَالَ رَسُولُ اللَّهِ _صلى الله عليه وسلم_ :" لَيَبْلُغَنَّ هَذَا الْأَمْرُ مَا بَلَغَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَلَا يَتْرُكُ اللَّهُ بَيْتَ مَدَرٍ وَلَا وَبَرٍ إِلَّا أَدْخَلَهُ اللَّهُ هَذَا الدِّينَ بِعِزِّ عَزِيزٍ أَوْ بِذُلِّ ذَلِيلٍ عِزًّا يُعِزُّ اللَّهُ بِهِ الإسْلامَ وَذُلًّا يُذِلُّ اللَّهُ بِهِ الْكُفْرَ" رواه أحمد، وعَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ عَنْ النَّبِيِّ _صلى الله عليه وسلم_ قَالَ:"بَشِّرْ هَذِهِ الْأُمَّةَ بِالسَّنَاءِ وَالنَّصْرِ وَالتَّمْكِينِ فَمَنْ عَمِلَ مِنْهُمْ عَمَلَ الْآخِرَةِ لِلدُّنْيَا لَمْ يَكُنْ لَهُ فِي الْآخِرَةِ نَصِيبٌ" رواه أحمد وابنه عبد الله في زوائده والحاكم، وقال: صحيح، ووافقه الذهبي وصححه الألباني.
عاشراً : التربية على الأخلاق الفاضلة:
الحج مدرسة للتربية على الأخلاق الفاضلة من الحلم و العفو و الصفح و التسامح و الإيثار و الرحمة و التعاون و الإحسان و البذل و الكرم و الجود....
فهي رحلة تسفر عن أخلاق الرجال و تسهم إسهاماً عظيماً في تعديل السلوك السيئ إلى الحسن، فكم من حاج عاد من رحلة حجه بوجه غير الذي ذهب به قال _تعالى_ :" الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ" (البقرة:197) .
عشرون وقفة تربوية:
كما يؤكد الأستاذ عقيل بن سالم الشمري على مبادئ الوقفات التربوية الكثيرة والمتعددة في الحج، وإلى عدم التمكن من الإحاطة بها أو إحصائها، ذاكراً 50 وقفة تربوية من مدرسة الحج، منها:
1ـ تربية على التوحيد قولاً وعملاً.
2ـ تربية على كثرة حمد الله، ويظهر هذا من خلال لفظ الحمد في التلبية، ويتكرر بتكرارها، فيأتي العبد المصاب بمصيبة والفقير والمريض والغريب والمبتلى، وكلهم يحمدون الله وكأنهم أغنياء وأصحاء وأقوياء.
3ـ تربية على أن يكون اللسان رطباً من ذكر الله.
4ـ تربية على تذكر الموت، وذلك بلبس الكفن، فيتذكر المؤمن تلك النهاية، ويشعر بها فتؤثر على قلبه وأعماله.
5ـ تربية للناس على الزهد في الدنيا وملذاتها، فمهما كان الشخص غنياً أو أميراً أو وزيراً إلا أنه لا يلبس غير ذلك اللباس الأبيض، ولو أراد أن يتفنن بلبس غيره مما يملكه فإنه يمنع.
6ـ تربية للناس على القناعة وأنها هي الغنى، فيكفي من اللباس ما يستر العورة، ومن النوم ما يطرد الكسل والعجز، ومن الأكل ما يقيم الصلب.
7ـ تربية للناس على أن أمور الدنيا ليس لها عند الله اعتبار بحد ذاتها، فالناس متساوون في اللباس والأعمال.(115/546)
8ـ تربية على مبدأ الوحدة الإسلامي في أفعالهم وأعمالهم وأماكن وجودهم وأوقات عباداتهم، وسيأتي للوحدة مزيد بيان.
9ـ تربية للناس على الصبر عن المعصية .
10ـ تربية للناس على الإخلاص والصدق، اللذين هما رأس الأعمال القلبية، وبهما يقبل العمل عند الله ، ويقع الموقع الحسن.
11ـ تربية للناس على التوكل على الله، وتفويض الأمر إليه في أداء العبادة وتسهيلها.
12ـ تربية للناس على التوكل الحقيقي، والذي لا يتعارض مع بذل الأسباب المأمور بها.
13ـ تربية للناس على قهر النفس عما تشتهي ما دام الشرع يحرمه، فالطيب وتغطية الرأس وجميع المحظورات يتركها المسلم مع شهوته لها لا لشيء إلا لأجل تحريم الشرع إياها.
14ـ تربية للناس على التقيد بما قيده الشرع وحدده، ويظهر هذا من خلال المواقيت وتحديدها بالمذكورة ووقت الرمي ووقت الانصراف من عرفة وغير ذلك.
15ـ تربية للناس على الركن الثاني لقبول الأعمال: وهو المتابعة للنبي _صلى الله عليه وسلم_، ولذلك قال _صلى الله عليه وسلم_ "خذوا عني مناسككم " متفق عليه.
16ـ تربية للناس عملية على فقه الخلاف، ويظهر هذا من خلال ما يلي:
أ ـ اختلاف الناس في أنواع النسك.
ب ـ اختلاف الناس في أعمال يوم النحر.
ج ـ اختلاف الناس في الذكر حال الانصراف من منى إلى عرفة، "منا الملبي ومنا المكبر".
د ـ اختلاف الناس حال الانصراف من مزدلفة إلى منى من حيث العجز وعدمه.
هـ ـ اختلاف الناس حال التعجل من مكة أو التأجيل.
و ـ اختلاف الناس حال التقصير أو الحلق، فكل هذه مواقف تربوية للناس على فقه التعامل مع الخلاف والمخالف، ولم ينقل لنا أن الصحابة دار بينهم نقاش واتهام في سبب اختيار نسك على آخر، ولو كان المختار نوعاً مفضولاً وليس فاضلاً.
17ـ تربية للناس على الترتيب والنظام، وأن هذا من ذات الإسلام وليس من خصائص ديار الكفر.
18ـ تربية للناس على أداء العبادة على أكمل وجه وأحسن صورة، ولذلك قال _تعالى_: " فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ ".
19ـ تربية للناس على التكيف في حال تغير العادة، والوضع الذي تعود عليه الإنسان.
20ـ تربية للناس على الدعاء، ففي المناسك أغلب المواطن السنة فيها أن يدعو المسلم ربه _سبحانه_.
ـــــــــــــــــــ
التعامل مع الموهوبين في أوساط الدعاة
موقع (المسلم)
28/10/1425
ارسل تعليقك ...(115/547)
تعليقات سابقة ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
فيما يشهد العصر الحديث تطوراً مطرداً في مجمل نواحي الحياة الاجتماعية وغيرها، وفيما تزدهر بعض أنواع الأعمال والنشاطات مستفيدة مما يقدمه التطور التكنولوجي والخدمي والثقافي، وصولاً لتحقيق أهداف معينة.. يعاني العمل الدعوي بين المسلمين من ركود لا يكاد يخرج عن قالبه القديم المحافظ إلا في ما ندر.
ولا يقتصر الجمود والركود على أساليب وآليات العمل الدعوي ، بل يتعداه إلى مفاهيم وأفكار هذا العمل، ما يجعل من الصعب الاستفادة من الإمكانيات البشرية والتقنية المتاحة أحياناً.
ومن بين الإمكانيات البشرية التي تنمو وتذبل دون أن يستفاد منها هي الموهبة التي يزرعها الله _تبارك وتعالى_ في بعض أفراد المجتمع ممن قد يمتهنون العمل الدعوي ، وممن يجدون القوالب الجاهزة أمامهم، التي يصعب تحريكها أو تغييرها، فتنتهي الموهبة عندهم دون أن يستفاد منها في الدعوة إلى الله، أو في تطوير مفاهيم أو أفكار هذا العمل المبارك.
فيما يشهد العصر الحديث تطوراً مطرداً في مجمل نواحي الحياة الاجتماعية وغيرها، وفيما تزدهر بعض أنواع الأعمال والنشاطات، وصولاً لتحقيق أهداف معينة.. يعاني العمل الدعوي بين المسلمين من ركود لا يكاد يخرج عن قالبه القديم المحافظ إلا فيما ندر
حاجة الدعوة إلى التطوير والموهبة:
من أكثر الأعمال إلحاحاً لتطويرها وتغييرها وفقاً لمعطيات العصر الحديث هو العمل الدعوي، والذي يعاني في غالبيته من جمود وركود استمر على مدى سنوات طويلة، لم يستطع أن يخرج من قوالبه الجامدة إلا في بعض الحالات النادرة..
ويحتاج العمل الدعوي تحديداً للتطوير أكثر من غيره من الأعمال والنشاطات لعدة أسباب.. منها:
1- أنه عمل خلاق يحاكي العقل والعاطفة، ما يتطلب منه أفكاراً وقوة دائمة للإقناع..
2- التطور الذي يشهده العصر الحديث من علوم وتكنولوجيا واتصالات وغيرها، ما يجعل لزاماً على العمل الدعوي مواكبة هذا التطور كي لا يبتعد عن المجتمع الذي هو البيئة الأولى له.
3- تستفيد جهات سلبية أخرى من التطور الحاصل في عدة مجالات من بينها جهات ا لتنصير والجهات التي تبث الأفكار الهدامة للجهات المسلمة كالأغاني الهابطة والمواقع والقنوات الماجنة، ما يحتم على العمل الدعوي منافسة هذه الجماعات والتسلح بهذه الآليات لمواجهة مثل هذه الأفكار.
4- زيادة الوعي في المجتمعات المسلمة، ما يجعل من الضروري مخاطبة هذا المجتمع بلغات وأساليب جديدة ومبتكرة.(115/548)
5- الجمود الطويل الذي لحق بالعمل الدعوي ، وضرورة وجود أساليب وطرق جديدة كي لا يثبت في تصور البعض أن العمل الدعوي "متخلف" وبعيد عن طبيعة الحياة الجديدة..
ويؤكد الشيخ محمد الغزالي _رحمه الله_ أن تكوين الدعاة يعني تكوين الأمة، "فالأمم العظيمة ليست إلا صناعةً حسنة لنفر من الرجال الموهوبين، وأثر الرجل العبقري فيمن حوله كأثر المطر في الأرض الموات، وأثر الشعاع في المكان المظلم، وكم من شعوب رسفت دهراً في قيود الهوان، حتى قيض الله لها القائد الذي نفخ فيها من روحه روح الحرية، فتحولت بعد ركود إلى إعصار يجتاح الطغاة ويدك معاقلهم".
ويقول الأستاذ نضال جمعان باوافي: " الدعوة إلى الله؛ ليست مجرد وعظٍ للناس وتذكير بفضائل الإسلام وآدابه فحسب ، بل هي حركة علمية وعملية تتميز في مبادئها وأهدافها ومصادرها ، وترتكز على أسس وقواعد علمية مدروسة ، وتنضبط بضوابط شرعية محددة".
ويضيف "الدعوة بحاجة إلى من يفعّلها ويجعلها واقعاً ملموساً في حياة الناس ومعيشتهم ، وهي بحاجة إلى دعاة يحسنون عرض أفكار الإسلام ومبادئه بأسلوب شيق جذاب .. يؤثرون ولا ينفِّرون ، ويوضِّحون ولا يعقّّدون ، ويحسنون ولا يسيؤون ، وسيل الدعوة العرمرم ما ترك من ضلالة إلا وحوّلها رحمة وهداية للعالمين".
الموهوبون بين أوساط الدعاة:
تعريف الموهوب:
من الصعب تحديد تعريف واحد وشامل للموهوب.. سواء أكان في الوسط الدعوي أو غيره، حيث تعددت التعريفات الخاصة به، منها أنه "الشخص الذي يظهر لديه تميز لا يستوعبه التعليم العام، مما يستلزم توفير برامج خاصة لرعاية وتنمية هذا التميز، وتوظيفه بصورة مناسبة".
وفي تعريف آخر فإنه "الشخص الذي يستطيع أن يقدم أفضل الأعمال بأقل الإمكانيات الممكنة".
وفي المجال الدعوي يمكن تعريف الموهوب بأنه "الشخص الذي يستطيع الاستفادة من أي إمكانيات متاحة في تحقيق أفضل النتائج في عمله".
أو أنه "الداعية الذي يستطيع توظيف أسلوبه الشخصي وسلوكه العملي في الدعوة إلى الله".
أو أنه "الداعية الذي يظهر تفوقاً خلال عمله في معظم الظروف، ووفقاً لأي إمكانيات متاحة، والذي يظهر قدرات إبداعية عالية ومتجددة".
وإذا نظرنا إلى التعريف القاموسي للموهوب يتضح لنا أن الموهوب هو من وقع عليه الفعل وهو اسم مفعول من الفعل وهب ، وأن الموهوب هو شخص لديه قدرة واستعداد طبيعي للبراعة في علم ما أو عمل أو وظيفة".
معايير الداعية الموهوب:(115/549)
رغم اختلاف التعاريف حول الشخص الموهوب، وصعوبة حصرها في نطاق محدد، إلا أن هناك مجموعة من الخصائص والمعايير التي تدل على الموهوبين، وتبرزهم من بين الجموع.
يقول الأستاذ مصطفى عاشور حول أهم خصائص الموهبة، والتي هي موهبة من الله _تبارك وتعالى_: " المواهب هي منح إلهية ينطبق عليها قوله _تعالى_: "يزيد في الخلق ما يشاء" يتميز بها بعض الخلق عن بقيتهم، والموهبة باعتبارها زيادة في الخَلق لا يتمتع بها إلا القليل من الناس، ولها وجهان: أحدهما أنها عطية من الله _تعالى_، اختص بها بعض خلقه، أما الوجه الآخر فإن وجود العطية الإلهية لا يعني الاستغلال، وإنما تحتاج إلى صقل وجهد حتى تصفو..."
فيما يورد الأستاذ سلطان الجميري بعضاً من الصفات التي تتعلق بالأشخاص الموهوبين بشكل عام، وهي:
1- الأذكياء يسألون أكثر من غيرهم ، يريدون أن يعرفوا لماذا؟ وكيف ؟؟
2- يحبون أن يتكلموا كثيراً.
3- يحبون الحركة كثيراً.
4- يشعرون بطريقة مختلفة ويتصرفون بطريقة مختلفة.
5- بعضهم يشعر بالوحدة.
6- متمردون بسبب حالتهم الخاصة، ولأن لديهم مشاكل خاصة.
7- ينامون أقل من غيرهم بسبب الطاقة العالية التي لديهم.
8- الأذكياء حساسون جداً ، يغضبون بسرعة، ويشعرون بالسعادة بسرعة .
9- يتأثرون بنقد الآخرين، ويسعون لتطبيق ما هو صحيح إذا اقتنعوا به .
10- يحبون الالتصاق بالعمل الشاق والصعب ويتمتعون به .
11- لديهم قوة عالية في التفكير الناقد ، ينقدون الأفكار الغبية .
12- يشعرون بالخوف من فقدان الأشياء التي يملكونها .
13- يستطيعون الحصول على علامات مرتفعة في مدارسهم.
14- يشعرون بالخوف من الفشل.
15- يكرهون الروتين ويشعرون بالملل .
16- البعض منهم يتمتع بصفة العناد .
17- يستطيعون إنتاج حاجات مختلفة .
18- لديهم قدرة خيالية أكثر من غيرهم .
19- يستطيعون الاتصال والتعامل مع من هم أكبر منهم سناً .
20- يستطيعون تعلم كل شيء وهم سريعوا الفهم .
خصائص الموهوب:
للموهوبين مجموعة من الخصائص التي تتراوح بين السلبية والإيجابية، والناتجة عن الموهبة التي خصّوا بها من بين الناس.
يشير الأستاذ حامد الحامد (المعلم في مدرسة الوليد بن عبد الملك الابتدائية) إلى بعض السمات والخصائص الشخصية السلوكية والمعرفية المتعلقة بالموهوبين، و منها:(115/550)
1- الدافع الذاتي الموجود لدى الطالب.
2- سرعة البديهة.
3- الطموح العالي.
4- حب المنافسة مع زملائه.
5- نسبة الذكاء العالية.
6- المتابعة من ولي الأمر المستمرة.
فيما يفصل الأستاذ عادل بن سليمان الزهير (المرشد الطلابي في مدرسة الوليد بن عبد الملك الابتدائية)
هذه السمات والخصائص إلى:
(أ) سمات في المظهر:
يظهر العناية بالمظهر، وهو انعكاس للاهتمام الأسري بالطالب والاستقرار النفسي والاجتماعي الذي هو من شروط ظهور وبروز الموهبة لدى الطالب.
(ب) سمات سلوكية:
- يظهر التوازن السلوكي والعاطفي لدى الموهوب.
- كثرة حركة العين والتدقيق في صغائر الأمور.
- كثرة الأسئلة (وعادة) ما تكون أسئلة وجيهة تنم عن تفكير عميق.
فيما تظهر سمات وخصائص سلبية تتمثل بعضها بما يلي:
- المشاغبة، بسبب الإحساس العالي بالنشاط والطاقة الكامنة.
- احتقار الآخرين، عبر الإحساس بالتفوق وقلة خبرة ومعرفة الآخرين.
- الاستقلالية أو الانعزال، بسبب الإحساس بالفجوة الفكرية بينه وبين أقرنائه في العمر.
- الحقد على المجتمع أو المسؤولين بحال لم يساعده أحد في تنمية أو تشجيع مهاراته.
كيفية توجيه الموهوبين واحتوائهم:
كما الذهب المستخرج من الأرض، يحتاج الموهوب إلى اكتشافه وتمييزه من بين الدعاة المنتشرين هنا وهناك، والذين يعلمون كلهم لله، يطلبون الأجر والمثوبة على ذلك من الله _تبارك وتعالى_.
ولكن يبقى للموهوبين أهمية عن غيرهم، فهم الذين قد يحتلون مراكز قيادية، يستطيعون من خلالها تغيير وتطوير العمل الدعوي، المحتاج إلى هذه العمليات الجديدة.
وكما أن الذهب لا يستخرج جاهزاً نقياً من الأرض، يحتاج الموهوبون من الدعاة إلى تشذيبهم وصقلهم واستخراج أفضل ما لديهم، وإبعاد ما شاب صفاتهم وطباعهم من شوائب سلبية.
وتصبح هذه العملية هي أهم مراحل حياة الموهوب، إذ إن مستقبله الدعوي الطموح، وقفاً على كيفية التعامل معهم واحتوائهم في البداية.
يقول الأستاذ نضال جمعان باوافي في مقال له حول الدعاة الموهوبين: " اكتشاف المواهب القيادة - أو قل إن شئت الدعوية والتربوية – وهم أولئك الذين يتصفون بصفاتٍ خُلُقية متميزة ، فإذا ما قُدِّر لهم أن يتولوا مسؤوليات ما ، نمت مواهبهم أكثر(115/551)
فأكثر ، وحين يحترم الدعاة هذا الإبداع من أولئك الموهوبين ويحفزوا عليه ؛ فإنهم يوجدوا الأطر التي تخدم الدعوة وترعاها .. يظهر المبدعون ، وتسري في الأمة حيوية جديدة".
وعن كيفية احتوائهم والاهتمام بهم؛ يقول الأستاذ عامر بن عبدالرحمن الحوطي (المعلم في مدرسة الوليد بن عبد الملك الابتدائية): " يمكن احتواؤهم من خلال إقامة المراكز المتخصصة والنوادي العلمية التي تتبنى موهبتهم وتنميها، وأيضاً مساعدتهم مادياً ومعنوياً للارتقاء بموهبتهم والاستفادة منها في كل ما هو فيه خير وصلاح للفرد والأمة".
ويضيف الأستاذ حامد الحامد بعض الأفكار، مشيراً إلى:
- متابعة الوالدين وولي الأمر للموهوب وتوجيهه من صغره.
- حث الموهوب على الجد بالعمل وعدم التكاسل.
- محاولة التقرب إلهيهم بأحسن الأساليب من تحقيق المطالب لهم التي لا تتعارض مع التربية الصحيحة الإسلامية.
- تهيئة الجو المناسب للطالب الموهوب الذي يرغبه والتحبب إليه بأساليب عدة.
ويفضل الأستاذ مصطفى عاشور (عبر مقال له عن الدعاة الموهوبين)، وجود استراتيجية كاملة لتبني واحتواء الموهوبين، بالإشارة إلى النقاط التالية ":
1- ضرورة وجود خطة إستراتيجية لرعاية المواهب، وجذبها إلى صفوف الإسلام، وهذا يتطلب عدم استنزاف الموهبة في مجالات خارج نطاق الموهبة؛ لأن هذا التوظيف الخاطئ يخلق مشكلة ذات وجهين، هما: ضمور الموهبة، وضعف الإنتاج في المجال الدعوي، فيصبح الداعية كَلاً على دعوته.
2- ضرورة وجود خطة لاكتشاف المواهب والتنقيب عنها بين الصفوف، من خلال ما يسمى بـ"التربية من خلال الورطة"، أو "الاكتشاف من خلال الأزمة"؛ أي وضع بعض الأفراد على محكات مختلفة لاكتشاف المواهب الدفينة، وهذه المحكات المختلفة والمواقف المتعددة تكسر حواجز الحياء غير الحق في نفس الشاب المسلم، وتتيح له الفرص للتعبير عن مكنونات نفسه.
3- ضرورة التعامل في الإطار الدعوي مع بعض أصحاب المواهب من خلال الهدف، وليس من خلال أجندة عمل واجبة التنفيذ؛ لأن أصحاب المواهب قلما يحبون التقيد، ولديهم بعض الشطحات التي تحتاج إلى حكمة في التعامل معها وقبول وجودها، والقارئ لتاريخ العباقرة في الإنسانية يجد ذلك جلياً؛ لأن الطاقة الموهوبة تفوق في بعض الأحيان القدرة على كبح جماحها؛ فتصدر بعض الأفعال والتصرفات غير المألوفة التي قد ينظر لها البعض نظرة غير منصفة".
ممارسات خاطئة في التعامل مع الموهوبين دعوياً:
تقول أحد الأمثال العالمية: " أنت تخطئ إذن أنت تعمل"، مشيرة إلى أن الخطأ ينتج عن العمل، وعندما لا يعمل الإنسان في أمر ما، فإنه لا يخطئ في هذا الأمر.
وهي إشارة إلى الطبيعة الإنسانية التي تقبل الخطأ والصواب، كما يقول رسول الله _صلى الله عليه وسلم_: " كل بني آدم خطّاء ..." الحديث.(115/552)
وكون التعامل مع العاملين في المجال الدعوي هو عمل إنساني، فإن الخطأ وارد فيه، ولكن يمكن تجنب أكبر قدر ممكن من الأخطاء عبر معرفتها، وإبرازها للناس، وإدراك أبعادها السلبية، ما يقرب العمل من الصحة والإيجابية قدر المستطاع.
كما أن الموهوبين من الدعاة ليسوا بعيدين عن الخطأ البشري، لذلك فهم بالتالي يحتاجون إلى مد يد العون.
يقول الأستاذ سيف الدين، عن التعامل مع الموهوبين من الدعاة: " ليس كل الموهوبين قادر على إبراز نفسه للجماعة بشكل يلح بتوظيفه في مكان يناسبه إما لعوامل شخصية تتمثل في الخجل أو عدم استطاعته التوفيق بين موهبته ولجنته التنظيمية بشكل يعطى قوة لموهبته تقنع مسؤوليه بوجوب توظيفه في مكان مناسب ..
أو لعوامل خارجية، مثل: عدم انتباه مسؤوليه لموهبته .. أو عدم اقتناع مسؤوليه بأنه موهوب للدرجة الكافية التي تستوجب إخراجه من موقعه الحالي .. أو انشغالهم بالحاجة القريبة للدعوة في الإقليم أو الشعبة .. وغيرها من صور مشكلة قصر النظر لدى البعض ..
وعلى هذا .. لا يكون إنهاء الوضع إلا بأن تتبنى الجماعة مواهب أفرادها وتحاسبهم على تنميتها وتهيئ لهم المناخ والأجواء المناسبة التي تدعمهم ..".
ومن بين الأخطاء التي قد يقع فيها المتعاملون مع الموهوبين من الدعاة، ما يوردها الأستاذ حامد الحامد، ومنها:
1- عدم الانتباه لتميزهم وموهبتهم ومتابعتهم.
2- التخذيل لهم وإحباط عزائمهم.
3- وضع الموهوب مع طلاب آخرين أقل منه موهبة فتنعدم المنافسة مما يحط من عزيمته وحماسه.
4- عدم تهيئة الجو والمكان المناسب لهم لتحقيق مبتغاهم ونبوغ أفكارهم ومواهبهم.
5- انعدام التشجيع من ولي الأمر والمعلم للطالب الموهوب.
ويشير الأستاذ عبد الإله السليمي (المعلم في مدرسة الوليد بن عبد الملك الابتدائية) إلى نقطة هامة في التعامل مع الموهوبين، وهي النظرة التي قد يلاقيها الموهوب ممن هم في عمره في المدرسة أو غيرها، وكذلك طريقة تعامل المسؤولين معه، حيث يقول: " للموهوب مع زملائه علاقة أقوى مما يتصور، فإذا وجد في المجموعة المحيطة به من ينظر إليه نظرة غريبة ومعلميه لا يشجعونه، يبدأ بكتم هذه الموهبة حتى تندفن وتتلاشى".
وهي من الطرق السلبية في التعامل مع الداعية الموهوب.
بالإضافة إلى ذلك، فإن من بين الممارسات الخاطئة التي قد تؤثر سلباً بالموهوبين من الدعاة، هي الغفلة عن الطبيعة العمرية للموهوب، وتحميله أكثر مما يمكنه تحمله، عبر الاعتقاد بأنه الأقرب إلى النجاح دائماً.
النتائج السلبية للتعامل الخاطئ مع الموهوبين:
إن أخطر ما قد يواجهه الموهوب من الدعاة، هو الفشل الذريع في إحدى المهمات أو الوظائف، وهو ما قد يصيبه بخيبة أمل وانتكاسة قد تؤثر سلباً على بقية حياته.(115/553)
فعلى سبيل المثال، تحمل الداعية حملاً لا يستطيع عليه بحجة "موهبته الفذة" قد ترهقه، وتصعّب عليه القيام بمهامه الجديدة والاعتيادية في الدعوة، وحين حدوث الفشل، فإنه يصاب بخيبة أمل قوية، تجعله غير متحمس لأي مهمة أخرى، وغير مؤمن بقدرته أو موهبته، بعد أن رآها تتحطم أمام أعين الناس.
وعن هذه الأخطار؛ يقول سيف الدين: " إن عدم وجود العمل أو البيئة التي يكتشف أو يطور من خلالها الموهوب موهبته؛ يؤدي إلى ضمورها واختفائها.. وإهمال هذا الجانب بالفعل أنتج أشخاصاً في هيئة (ماكينات) لا يفعل إلا ما يطلب منه، وينسى تماماً أنه كان من الممكن أن يبدع في مجال ما ، ويدور به الزمن وقد ضمرت كل مواهبه إلا ما يتعلق فقط بالحاجة القريبة للدعوة في هذا المكان .. في حين أنه لو تم توجيهه بشكل جيد ومتابعته في مجال تميزه، وضحينا لمدة بمجهود فرد واحد في الحاجة القريبة للدعوة، والتي تستنفذ طاقته ووقته، فسيفيد هذا الجماعة على مدى زمني أكبر ..".
الأسوة الحسنة في رسول الله _صلى الله عليه وسلم:
لطالما كان –وما يزال- نبينا محمد _صلى الله عليه وسلم_ مثالاً يحتذى به في جميع أمور الحياة الدعوية وغيرها، فهو المعلم الأول، والقدوة الحسنة في كل شيء.
ولا يكاد يمر حديث في التربية أو غيرها، إلا ووجدنا في سيرة رسول الله _صلى الله عليه وسلم_، خير معين وسند، وخير ناصح ومرشد إلى أفضل السبل وخير الطرق.
فخلال حياته _صلى الله عليه وسلم_ اكتشف رسول الله المواهب من بين الصحابة، فشذبها ودربها، ثم أرسلها في أعمال الدعوة إلى الله ، لتؤتي ثمرها يانعاً كل حين.
منها ما رآه _عليه الصلاة والسلام_ من حنكة خالد بن الوليد العسكرية والحربية، وقدرته على رسم الخطط وإنجاحها بأقل الخسائر الممكنة، فسلحه بالإيمان بالله عز وجل، وبطلب العون من الله، وأرسله على رأس الجيوش المسلمة الفاتحة، ففتح الله على يديه بلاداً كثيرة، ولم يرسله مثلاً ليعلم الناس قراءة القرآن، أو يخطب في الناس في المساجد.
ولما رأى _عليه الصلاة والسلام_ في معاذ بن جبل الأنصاري علماً بالحلال والحرام، (وكان من أفقه الصحابة) أرسله إلى اليمن قاضياً ومفقّهاً وأميراً مصدقاً، ورغم معرفته بعلم وفقه وموهبة معاذ، إلا أن الرسول الكريم أصر على شحنها وإمدادها بالقوة الروحية والحسية، إذ لما خرج معاذ قاصداً اليمن خرج معه رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ يودعه ويوصيه، ومعاذ راكب، ورسول الله _صلى الله عليه وسلم_ يمشي تحت راحلته، فأوصاه بوصايا كثيرة ورسم له منهجاً دعوياً عظيماً، حيث قال له: "إنك ستأتي قوماً أهل كتاب، فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله ، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله فرض عليهم خمس صلوات كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوا بذلك فأخبرهم أن الله فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم، فإن هم أطاعوا لك بذلك فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب"
ومن المواهب التي تعامل معها النبي _صلى الله عليه وسلم_ موهبة الأدب والشعر، وكان الشعر في الجاهلية هو الأداة الأقوى في التأثير على الرأي العام، واستعمل(115/554)
النبي _صلى الله عليه وسلم_ هذه الموهبة التي تميز بها بعض أصحابه استعمالا ذكياً.
ومن هؤلاء حسان بن ثابت _رضي الله عنه_ الذي عُرف بشاعر الرسول _صلى الله عليه وسلم_، والذي كان يمتلك موهبة نادرة وقريحة حاضرة، تستطيع أن تخرج من أحرج المواقف بأقوى الكلمات.
هذه الموهبة الفذة تعامل معها النبي _صلى الله عليه وسلم_ بما يليق بها، ووظفها في مكانها الصحيح؛ فكانت الموهبة إبداعاً؛ ففي صحيح مسلم أن النبي _صلى الله عليه وسلم_ قال له: "اهجُ قريشا؛ فإنه أشد عليها من رشق النبل"، فقال حسان: "قد آن لكم أن ترسلوا إلى هذا الأسد الضارب بذنبه" (يقصد: لسانه)، ثم قال: "والذي بعثك بالحق لأفرينهم بلساني فري الأديم"، فقال _صلى الله عليه وسلم_: "إن روح القدس لا يزال يؤيدك ما نافحتَ عن الله ورسوله"، وفي رواية أخرى للبخاري: "اهجهم -أو هاجهم - وجبريل معك".
ـــــــــــــــــــ
الاستفادة من الأطفال في الدعوة إلى الله _تعالى_
موقع (المسلم)
18/9/1425
ارسل تعليقك ...
لا توجد تعليقات ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
قدمت الطفلة ذات الأربع سنوات إلى منزل جدها في إحدى الدول العربية، في إجازة مع والديها بعد سنة عمل في المملكة العربية السعودية.
كان الجميع مهتماً بها، الكل يلاعبها ويحرص على سعادتها وتقديم كل ما ترغب به، وعلى الاستمتاع بوجودها بينهم، خاصة وأن الإجازة قصيرة، وهي ستعود مجدداً مع والديها إلى السعودية.
في البداية، وجدت الطفلة الصغيرة صعوبة في التأقلم السريع مع أهل والدها ووالدتها، ولكن ما هي إلا أيام معدودة، حتى عادت إلى طبيعتها من مرح وحركة وترديد ما تعلمته خلال المدة الماضية.
وعندما بدأ بعض أقاربها بتحيتها الصباحية "صباح الخير" أو المسائية "مساء الخير" كانت تصمت ولا ترد عليهم بالتحية، بل كانت تقول لهم: "السلام عليكم ورحمة الله".
وعندما تدخل إلى المنزل بعد زيارة خارجه، أو بعد أن تكون قد ذهبت إلى إحدى المحلات بصحبة أحد أقاربها لشراء سكاكر وحلويات، بدأت تردد في كل مرة دعاء الدخول إلى المنزل "بسم الله ولجنا، وبسم الله خرجنا، وعلى الله توكلنا".
قدمت الطفلة ذات الأربع سنوات إلى منزل جدها في إحدى الدول العربية، في إجازة مع والديها بعد سنة عمل في المملكة العربية السعودية.(115/555)
لاحظ الجميع ما تردده هذه الطفلة الصغيرة (التي ألحقها والداها بدار تحفيظ قرآن في السعودية) من أذكار وأدعية في كل مناسبة تمر بها خلال يومها العادي، وقارن أقاربها بين ما تعودوا أن يرددوه من جمل دخيلة على الدين الإسلامي وبين ما تردده هذه الصغيرة من أذكار أوصى بها نبي الأمة محمد _صلى الله عليه وسلم_، فما كان منهم إلا أن بدؤوا يتعلموا منها ترديد هذه الأذكار في كل مناسبة.
هذه القصة حقيقية، وقد وقعت بالفعل، وهي تعبير واقعي وصادق عن إمكانية تحويل الطفل إلى داعية لله _عز وجل_ حتى وإن كان هو لا يعلم بهذا الشيء.
ويروي أحد الأخوة قصة حقيقية أخرى، فيقول: " إن طفلاً ذهب مع أقاربه لإلقاء كلمات في قرية مجاورة، وذهب كل منهم إلى شارع ليطرق باب الناس وليعلمهم عن محاضرة، وعندما طرق الطفل باب أحدهم، خرج صاحب البيت مغضباً، فقال له الطفل: "نحن ضيوف أتينا من مدينة مجاورة، وبعد المغرب سنلقي محاضرة، ونتمنى أن تحضر"، فغضب الرجل وبصق في وجه الطفل، فما كان من الطفل إلا أن مسح البصاق من وجهه، وقال: "الحمد لله الذي ابتليت في سبيله".
اهتز الرجل وتأثر تأثراً كبيراً بموقف الطفل، واعتذر منه كثيراً، وذهب معه للمسجد واستضاف الطفل ومن معه في بيته.
أهمية الاستفادة من الطفل في الدعوة:
لا تنحصر أهمية أن يكون الطفل داعياً إلى الله في استفادة المجتمع منه، بل يحصل الطفل قبل غيره على الاستفادة من هذه التربية.
لذلك، فإن أهمية الاستفادة من الطفل في الدعوة إلى الله، تنقسم قسمين:
1- تربية الطفل تربية إسلامية صحيحة.
فعندما نربي أطفالنا على قيم الدين الإسلامي الحنيف، نكون قد شكلنا اللبنة الأساسية الصالحة –بإذن الله- التي ستؤثر على حياته القادمة كاملة.
فعن رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ أنه قال: "علموا أولادكم الصلاة وهم أبناء سبع" الحديث.
وما ذلك إلا لأن تعلميهم الصلاة وهم أطفال، سيسهل عليهم المواظبة عليها عند الكبر.
وقيل: "العلم في الصغر كالنقش في الحجر"، وهو أساس ما يمكن أن يربى عليه الأطفال، فإن تعلم الطفل في صغره أمور دينه من صلاة وصدقة وصدق وحب الخير وبغض الحرام وقراءة القرآن والذكر، نما وكبر على ذلك، وسهل عليه فيما بعد المواظبة على معظم تعاليم الدين الإسلامي، ولكن إن تعلم في صغره الغش والكذب وترديد الأغاني والألحان ومشاهدة الحرام في المنزل أو في التلفاز، نما وكبر على ذلك، وبات من الصعب جداً تغيير أصل ما حدث في نفس، وما رسخ في ذاكرته ووجدانه.
2- إبلاغ الدعوة إلى الآخرين.
الفائدة الثانية التي يحققها الاستفادة من الطفل في الدعوة، هو إيصال الرسائل الدعوية إلى الأطفال من جيله، وإلى المجتمع الذي يكبره، بسهولة ويسر، يصبح تأثيرها -في بعض الأحيان- أكبر من تأثير الكتب والأشرطة والوسائل الدعوية الأخرى.(115/556)
إذ يمتلك الطفل العديد من الخصائص والمميزات التي تساعده على أن يكون داعياً فاعلاً في المجتمع المحيط فيه، وهو ما يحقق للمجتمع فائدة عظيمة.
ميزات الطفل في الدعوة إلى الله:
يرتكز أساس مشروع الاستفادة من الطفل في الدعوة إلى الله على المميزات التي يمتلكها الطفل دون غيره، والتي تمكنه من إيصال الرسالة الدعوية بكل سهولة ويسر إلى المجتمع.
من هذه المميزات ما يذكره الأستاذ بدر بن عبد الله الصبي (مدرس مادة التربية الإسلامية والمدرس في دور تحفيظ القرآن الكريم)، وهي:
- الطلاقة في الحديث وحسن التعبير.
- قوة الشخصية وحب القيادة.
- القدوة الحسنة.
- جمال المظهر ونظافة الملبس، ودماثة الخلق.
- شيء من الثقافة والاطلاع.
فيما تذكر السيدة أم عبد الرحمن (الدارسة في دار أم سلمة لتحفيظ القرآن) بعض الميزات الأخرى ، وهي:
أ – في الأطفال حماسة لفعل ما يُشعرهم أنهم مثل الكبار.
ب – جرأتهم في إنكار ما عُلّموا أنه منكر دون محاباة أو حرج.
جـ - ميلهم لتقليد الآباء والمربين، فإن صادفوا أسوة حسنة اصطبغوا بصبغتها منذ صغرهم.
د – ميلهم للتنافس مع من هم في مثل سنهم، ويمكن أن يدفعهم ذلك لحفظ القرآن والحرص على السمت الإسلامي وتوجيه الآخرين وما إلى ذلك.
هـ - قدرتهم العالية على اختزان المشاهد وشدة تأثرهم لأوقات طويلة بما يرون، يمكن الاستفادة من ذلك في تعريفهم بما يجري لإخواننا المسلمين وتبغيض الكفار لهم وتعريفهم بحقيقة عدوهم وشغلهم بقضايا الأمة وتعويدهم الدعاء للمسلمين ونحو ذلك.
و – سعة خيالهم وميلهم لاكتساب المهارات، ويمكن توظيف ذلك بحسب كل طفل.
ز – عمق إحساسهم بالامتنان لمن يحسن إليهم: يمكن أن نغرس في نفوسهم حب الله ورسوله وصحابته وأهل العلم.
وتضيف السيدة أم عبد الرحمن قصة تشير إلى ما ذكرته من صفات خاصة بالأطفال في الدعوة، فتقول: " أعرف طفلاً في المرحلة التمهيدية، وكان شديد التعلق بمعلمته – لمعرفتها بطبيعة الأطفال وحسن التعامل معهم – لذلك، فقد كان يرفض الخروج مع أمه المتبرجة ما لم تستتر مثلما تفعل معلمته".
كما يضيف الأستاذ عبد الله الصغير بعض هذه المميزات بالقول: " الطفل يتميز بتلقائيته وطاقته العالية وسلامة فطرته وعاطفته وحبه للتقليد والمحاكاة ففي كل مزية من هذه إذا أُحسن استثمارها وهُيّئ الجو المناسب تجعل الطفل قادراً على الدعوة إلى الله، وأبسط مثال لذلك أن الطفل إذا سمع أو تعلم في منزله أن الدخان حرام مثلاً نجده بتلقائية يقول: إن الدخان حرام في مجتمعات أخرى محيطة به حتى بدون أن يطلب منه ذلك، كذلك إذا أحب الطفل أحداً من مجتمعه المحيط به بدأ يقلده فيدفع الصدقة(115/557)
للفقير إذا رأى والده يكرر ذلك دائماً ويوزع الشريط إذا رأى أن هذا ديدن والده أو معلمه".
نماذج واقعية:
من الأمثلة الواقعية التي نعيشها في وقتنا الحالي، الطفل الداعية عبد الله بن محمد جبر، والذي كتبت الكثير من وسائل الإعلام العربية عنه، وكرمه العديد من المشائخ، وأثنى عليها أئمة العلم الشرعي، منهم الشيخ عبد العزيز ابن باز _رحمه الله_، والشيخ عبد الله التركي، وشيخ الأزهر جاد الله، والشيخ محمد بن صالح العثيمين _رحمه الله_، وغيرهم، كل ذلك، وهو لم يكن قد تجاوز عمره التسع سنوات.
وقد لد الشيخ الطفل عبد الله جبر بمدينة الوادي الجديد في مصر في التاسع عشر من شهر شوال عام 1405 هـ الموافق 7/7/1985 م .
• حفظ القرآن الكريم في 10 / 9 / 1992 م، حيث كان عمره سبع سنين وشهرين و 3أيام.
• ثم انتقل لحفظ الحديث الشريف فبدأ بحفظ الأربعين النووية.
• ثم أتم حفظ كتاب (اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان)، وكان ذلك في 6 / 7 / 1994م.
• وبعد ذلك حفظ (مختصر صحيح البخاري) للزبيدي.
• و(مختصر صحيح مسلم) للمنذري.
• و(متن البيقونية في علم الحديث).
• و(منظومة سلم الوصول إلى علم الأصول).
• وهو يحفظ الآن متن الشاطبية في القراءات السبع، حيث وصل فيه إلى ثلثيه.
تعلم عبد الله ارتقاء المنابر للخطابة منذ كان عمره ثمانية أعوام على يد شيخه محمود غريب.
وكان يحضر دروس الشيخ محمد العثيمين _رحمه الله_ التي تعقد في الحرم في رمضان.
كما التقى بسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز، وعرض عليه علمه فدعا له الشيخ وأوصى به والده.
ومن النماذج التي نعيشها في واقعنا أيضاً، الأطفال الذين تشاركهم دور الإنشاد وبعض الوسائل الإعلامية في الدعوة إلى الله.
ففي قناة المجد الفضائية -على سبيل المثال- يوجد العديد من الأطفال (أولاد وفتيات) ممن يمتهنون الدعوة إلى الله في حياتهم اليومية، ويوظفون طاقاتهم وقدراتهم الإبداعية في تقديم صورة صحيحة وجميلة عن الإسلام.
وتزخر القناة بوجود برامج تستهدف بالدرجة الأولى الأطفال، وأبطالها كلهم من الأطفال، من حفظة القرآن، أو من مقدمي البرامج، أو من المنشدين والمنشدات الذين يقدمون أناشيد تلامس أحاسيس الطفل، مليئة بالمعاني الإسلامية، وبالقيم النبيلة، وبالأخلاق الحميدة.
كيف يمكننا الاستفادة من الطفل في الدعوة إلى الله؟(115/558)
رغم بساطة الطفل، وإمكانية تعلمه بسرعة ويسر، وإمكانية تطويعه للخير، إلا أن التعامل مع الطفل يجب أن ينحصر ضمن نطاق معين من الأساليب والتوجهات الناجحة، فلكل بيت باب يطرقه، ولكل مسألة مدخل لها.
والاستفادة من الطفل في الدعوة إلى الله يجب أن تبنى على قواعد وأسس متينة منذ البداية، وتبقى بعيدة -قدر المستطاع- عن السلبيات التي يمكن أن تواجه هذا السبيل.
يحدد الأستاذ عادل العبد المنعم (المدرّس في ابتدائية الوليد بن عبد الملك في الحرس الوطني) بعض الطرق التي تمكننا من الاستفادة من الطفل في الدعوة، فيقول: " في البداية لا بد من تأسيس الطفل وتربيته تربية إسلامية راسخة كي نستفيد منه مستقبلاً في الدعوة إلى الله، وهناك مجالات يستطيع الطفل أن يمارسها في الدعوة إلى الله، مثل: دعوة زملائه وأصدقائه إلى فعل الفضائل وترك الرذائل، فإذا رأى هذا الطفل زميلاً له قد كذب مثلاً، فإنه ينصحه ويقول له: إن الكذب حرام، وهكذا...".
فيما يقول الأستاذ عبد الله الصغير: " يمكننا ذلك بغرس الإيمان في نفسه، وذلك بتهيئة الجو الإيماني في محيطه، كذلك بزرع الثقة به وتنمية ثقته بنفسه بحيث يشعر بقدرته على القيام بالمهام والتكاليف الدعوية، ثم بتأهيله لبعض الصفات والخصائص المطلوب توافرها في الداعية كالقدرة على الحديث أمام الناس وحسن الخلق واللطف (التلطف) مع الآخرين وغيرها، أخيراً وجود القدوة الصالحة المحببة إلى نفسه".
ويعدد الأستاذ بدر عبد الله الصبي بعض النقاط الهامة في هذا المجال بما يلي:
- تربية الطفل على الأخلاق الحسنة، وحب تقديم الخير للآخرين.
- تدريب الطفل على حسن التعبير عن أفكاره.
- تنمية مهارة الإلقاء ومواجهة الجمهور.
- تعويد الطفل على المبادرة واتخاذ القرار، وتقوية شخصيته.
أما الأستاذ خالد بن محمد بن خليفة آل عمر (المدرس في حلقات تحفيظ القرآن الكريم بالرياض) فيرى في كتاب الله -عز وجل- خير معين للطفل على اكتساب معظم المهارات في الدعوة إلى الله، حيث يقول: " إن الحرص على تحفيظ الطفل كتاب الله، يعد من أجَلّ الأعمال التي يمكن عملها بتوفيق الله _عز وجل_ للاستفادة حالياً ومستقبلاً في مجال الدعوة، فكتاب الله فيه كل الوسائل الممكنة في الدعوة إلى الله، فيتعلم الطفل أحكام الصلاة وتنفيذها على الوجه الصحيح، وذهابه وإيابه للمسجد جماعة مع المسلمين يجعله قدوة حسنة ويجعله متمكناً من الدعوة إلى الله بحثِّ زملائه على الصلاة في المسجد".
سلبيات يجب ألا نقع فيها:
لكل عمل -مهما صغر أو كبر- إيجابيات وسلبيات، ويقول البعض: " إن الخطأ يأتي مع العمل"، فإن لم تكن تعمل، فلا أخطاء لديك.
لذلك، فإننا نعي أن رسم خطة ناجحة للاستفادة من الأطفال في مجال الدعوة، وتطبيق هذه الخطة، ستتأثر بسلبيات عديدة، وقد تواجه مشاكل طارئة، يجب أن نكون متنبهين ويقضين لها، كي لا تفاجئنا وتحبط أعمالنا، وكي لا تؤدي بالعمل الدؤوب إلى طريق سلبي، بعيد عما نتمناه.(115/559)
من تلك السلبيات التي يجب ألا نقع فيها في مجال الاستفادة من الطفل في الدعوة، ما يعددها الأستاذ بدر الصبي، وهي:
- تعريض الطفل لاستجداء الناس وإراقة ماء الوجه، وذلك من خلال جمع التبرعات، أو ترك الأموال وإهمالها معه مما يغريه بالاختلاس.
- القذف بالطفل في المواقف الدعوية الصعبة، مثل: إنكار بعض أنواع المعاصي لدى من هو أكبر منه، مما قد يعرضه للتراجع عن الدعوة في الكبر.
وهذا الحرص على تلافي السلبيات يؤكد على أهمية كرامة الطفل ومشاعره، وعدم تعريضه لمواقف قد تؤدي به إلى إركاسات سلبية في شخصيته، قد ترافقه مدة طويلة من حياته.
كذلك يحدد الأستاذ عادل العبد المنعم بعض الصفات التي تركز على أهمية خلق فرص إبداعية للطفل، فيقول: " يجب علينا ألا نستهين بقدرات أطفالنا، فهذا الطفل لديه قدرات ومواهب يجب أن نستغلها في الدعوة إلى الله، فمثلاً لا نفرض على الطفل شيئاً معيناً، بل نترك له الحرية في الإبداع، وابتكار بعض الأساليب التي تفيد في الدعوة إلى الله، ويبقى واجبنا نحن في الإشراف والمتابعة والتصحيح".
وفي ذلك إتاحة الفرصة أمام الأطفال للتعبير عن أنفسهم بطريقتهم الخاصة، وإبداع أفكار جديدة، قد تصبح أساساً جديداً في مجال الدعوة.
فيما يذكر الأستاذ عبد الله الصغير بعضاً من هذه السلبيات، فيقول: " من أهم السلبيات ألا نحرج الطفل بعمل لا يندفع إليه ولا يرغب به؛ لأنه يولد عنده نفوراً ولو بعد حين كذلك لا يكلف بعمل يفوق مستوى تفكيره أو يعرض لمواقف صعبة لا يستطيع التصرف فيها، ومن السلبيات تعويده على الماديات بحيث لا يقوم بعمل إلا ويكافأ عليه مادياً بل لا بد من مكافآت معنوية أحياناً".
وتعدد السيدة أم عبد الرحمن بعضاً من السلبيات التي تلاحظها من خلال تجربتها الشخصية، وهي:
أ – التعامل معهم على أنهم صغار قليلو القدرات، ليسوا أهلاً لتحمل المسؤوليات.
ب – استعمال الألفاظ الشرعية مع صغار السن مما يدفعهم لاستعمالها في غير مواضعها، وبخاصة المنطوية على فتاوى تصدر عن علم كلفظ الحلال والحرام.
جـ - السلوك الذي يبدو متناقضاً يربك الطفل وربما صدّه عن التأسي بمربيه – حسب سنه-.
ومعرفة هذه السلبيات تشكل ضمانة مساندة لتأسيس صحيح لطفل دعوي قادر على تحمل مسؤولية من نوع جديد، لم يكن بالحسبان -أحياناً- الاستفادة منها.
حتى لا نقف عند حد معين:
العمل الدعوي عمل كله بركة، والدعوة إلى الله هي عمل الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- يحدث فيها الأجر العظيم من العمل القليل، وكلما استطاع الداعي إلى الخير أن يؤثر أكثر في نفوس الناس، حصل على أعظم الأجور، ذلك أنه وكما قال رسول الله _صلى الله عليه وسلم_: "من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً" أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة.(115/560)
لذلك، فمن المفيد أن نحاول تطوير العمل الدعوي لدى الأطفال، كي لا نقف عند حد معين، قد يموت عنده التطوير والاستمرار، وقد يحدث فيه الملل والفتور.
وكلما استطعنا أن نطور عمل الأطفال في الدعوة إلى الله، أصبح الأجر أعظم والعمل أدوم.
يرى الأستاذ عادل العبد المنعم أن اكتشاف المواهب في الطفل، هي أساس تطوير عمله، فيقول: " نستطيع أن نطور الاستفادة من الطفل في مجال الدعوة عن طريق اكتشاف المواهب والقدرات التي يتميز بها كل طفل، ونقوم بتنمية هذه المواهب وتطويرها عن طريق بعض البرامج والدورات المصغرة للأطفال، فهذه تساعد الطفل في تنمية موهبته وتطويرها، وبالتالي نستفيد من هذه الموهبة في مجال الدعوة إلى الله".
فيما يركز الأستاذ عبد الله الصغير على مسألة تنمية ومتابعة الأطفال؛ لرفع مستوى عملهم، وتطوير أساليبهم ، فيقول: " كلما ارتقينا بالطفل إيمانياً واجتماعياً وثقافياً استطعنا أن نطور الاستفادة منه، ولذلك لا بد من حب غرس القراءة في قلبه وتعويده حب الخير ومساعدة الآخرين، وعدم إبداء التناقضات أمامه بحيث أوامر اليوم تكون نواهي بالغد، وأخيراً عدم التقليل من شأنه بل إعطاؤه المجال دائماً للتعبير عن نفسه وإبداء ما فيها مع التوجيه وتقويم الخطأ _إن وجد_ أيضاً التأليف القصصي الموجه للطفل".
أما الأستاذ بدر الصبي، فيركز على دور المجتمع والجهات المختصة في ذلك، ويذكر بعض الأساليب التي تساعد في تطوير عمل الطفل الداعية، وهي:
- تكوين مؤسسات أو لجان لتربية الأطفال تربيةً إسلامية متكاملة.
- نشر مجموعة من الأفكار الدعوية التي يمكن للأطفال المساهمة فيها.
- بث هذه الفكرة لدى المعنيين بتربية الطفل.
ويذكر الأستاذ خالد آل عمر بعض الأساليب الأخرى، منها:
- استشارة الطفل وأخذ رأيه في بعض الأمور المتعلقة بالدين والدعوة ومعرفة كيفية رده وتصرفه وموقفه حيال ذلك.
- تعويدهم على القيام بعدد من المسؤوليات.
- تعويده على المشاركة الاجتماعية كالتعاون مع جمعيات البر ومساعدة الفقراء والمحتاجين وإغاثة اللهفان، وكذلك تعويده على إلقاء الكلمات بعد الصلاة في المدرسة.
- تعويده على اتخاذ قراره دينياً واجتماعياً ونفسياً وفي كل مواقف حياته قدر المستطاع .
كما توجد بعض الأساليب الأخرى، وهي:
- وجود محاضن تربوية لتنمية قدرات الطفل الداعية.
- الاهتمام بالبيئة والبيت والمدرسة في حياة الطفل، وتحمل كل منهم مسؤوليته.
- التشجيع والمكافأة للأطفال، ما ينمي لديهم روح التطوير والعمل الدؤوب.
- لا بد له من أن يأخذ حقه من الطفولة كاللعب والمرح والنوم والأكل، وإن لم يأخذها في صغره فيخشى أن يأخذها إذا كبر بطريقة خاطئة.(115/561)
القصص التي يرويها الناس حول تأثير أحد الأطفال على أقرانه أو أقربائه أو مجتمعه، كثيرة ومتعددة، والأسباب التي أدت إلى ذلك متنوعة ومشاهدة بشكل شبه يومي.
بقي علينا فقط أن نخلص النية لله _عز وجل_ ونعمل ما بوسعنا لكسب تلك القدرة الصادقة والبريئة والمفعمة بالحيوية والنشاط، لإدخالها إلى العمل الإسلامي الدعوي، أملاً بالأجر والمثوبة من الله _تعالى_، وعملاً بسنة نبيه محمد _صلى الله عليه وسلم_، ونشراً للعمل الصالح بين الناس، علّ الله أن يجعل من الجيل الجديد، جيلاً صالحاً يستطيع أن يحقق للأمة الإسلامية ما عجزت عنه أجيال كثيرة حتى الآن.
ـــــــــــــــــــ
مدرسة رمضان التربوية
موقع (المسلم)
29/8/1425
ارسل تعليقك ...
تعليقات سابقة ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
منذ أن شرع الله _تعالى_ صيامه وخصه بفضائله، شكّل شهر رمضان المبارك، مدرسة متواصلة ومستمرة لتربية الأجيال وتهذيبهم ، تصقل في كل سنة نفوس الناس، وتزودهم بشحنات إيمانية، تلهمهم معاني الدين الحنيف، وتثبت في نفسهم صفات المسلم الحق .
وطالما بقي هذا الشهر مدرسة للمسلمين في كل مكان وزمان ، وجب على الآباء والأمهات اغتنام الفرصة؛ للعب دور أساسي وهام في توظيف هذا الشهر ، طلباً للوصول إلى أسمى درجات الأخلاق للعائلة، وأملاً في الحصول على الأجر المضاعف من المولى _عز وجل_.
الأسرة السعيدة:
لن نجد أسرة أسعد من تلك التي اجتمعت قلوب أفرادها وكلمتهم على التقرب من الله ، والتعاضد في سبيل نيل الأجر والمثوبة منه _سبحانه_.
وكلما كانت الأسرة أكثر قرباً لله _عز وجل_ في أفعالها، كانت أكثر تماسكاً وتألفاً ورحمة فيما بينها.
فحبل الله الذي أمرنا أن نعتصم به، هو أمتن الحبال وأقواها، وأكثرها ديمومة وبركة.
منذ أن شرع الله _تعالى_ صيامه وخصه بفضائله، شكّل شهر رمضان المبارك، مدرسة متواصلة ومستمرة لتربية الأجيال وتهذيبهم
وستجد الأسرة المسلمة في رمضان مدرسة في التعاضد والتقارب، لما لها من اجتماع على مائدة واحدة، وأداء مناسك واحدة، ورحمة في القلب، وسكينة في النفس.
فرمضان بحقٍ، فرصة لمزيد من الاهتمام بتربية الأهل والأولاد على البر والإحسان، وعلى كريم الخصال والأفعال، وعلى تقواه _سبحانه_ فحثهم على(115/562)
الصلاة، وترغيبهم في الصدقات، وتدريبهم على الصيام وتشجيعهم على كثرة الذكر، وعلى تلاوة القرآن، وسائر الطاعات، كل ذلك يسير في التربية الواجبة في كل حال؛ لأن النفوس لديها الاستعداد في هذا الشهر أكثر من غيره من مواسم البر، ومواطن الدعاء وقيام الليل، والاستغفار بالأسحار، ما قد لا يتوافر مثله في سائر الأزمان.
كيف نستثمر رمضان في تربية الأولاد ؟
يتمتع رمضان بخصوصية الصيام، وفضل القيام وقراءة القرآن وغيرها من العبادات الأخرى، ما يجعله أفضل الشهور إمكانية لاستثماره بين أفراد الأسرة.
فهو فرصة لتربية الأبناء على العديد من العادات الحميدة والصفات الإسلامية النبيلة، عبر إقامة بعض البرامج التربوية في المنزل، ومن ذلك :
الصلاة والمكث في المساجد:
من أفضل العبادات التي يمكن للإنسان أن يتمتع بها خلال شهر رمضان المبارك، هو لزوم الجماعة في أداء الصلوات الخمس المفروضة في المساجد والمكث فيه شيئاً من الوقت، ورمضان فرصة لبدء رحلة الأبناء إلى المسجد، والتعود على صلاة الجماعة، وربط القلوب بهذه البقعة المباركة .
ويجب مراعاة الأمور التالية في ذلك:
1- عدم الإتيان بالأطفال ممن لا يفقهون الصلاة أو يلتزموا بها، لكي لا يثير الطفل المتاعب في المسجد، ويزعج المصلين أثناء صلاتهم، ويشغل الأب عن صلاته.
2- مراعاة إحضار جميع الأبناء إلى المسجد، وعدم ترك أحد في المنزل بأي حجة، كي لا يكون سبباً في تقليل همة البقية، أو إحداث خلل في التربية.
3- حضور الصلوات جميعها في المسجد، وعدم ترك شيء، فالأبناء يتربون على ما يفعله الآباء، فإن ترك الأب إحدى الصلوات في المسجد، تعود الأبناء على تركها.
4- مراعاة الذهاب إلى المسجد حال سماع الأذان، أو قبله بوقت قصير، كي يتمكن الأب والأبناء من تلاوة القرآن وذكر الله في الأوقات المباركة، ونيل أجر انتظار الصلاة.
5- الغاية من الذهاب إلى المسجد مع الأولاد، تربية الأبناء على الصلوات في المساجد، ولزوم الجماعة، وطلب الأجر، لذلك على الأب أن يقوم بإخبار أبنائه عن هذه الفضائل، وشرحها لهم.
قراءة القرآن:
قبل البدء بهذا البرنامج يحسن مراعاة الأمور التالية:
1 – الجميع يعلم فضل تلاوة القرآن الكريم وخاصة في رمضان، وسبق الإشارة إلى ذلك.
2 – المسلمون في رمضان تختلف هممهم في تلاوة كتاب الله _عز وجل_ فمنهم صاحب الهمة العالية، ومنهم صاحب الهمة المتوسطة، ومنهم الأقل من ذلك، وقد أعددنا جدولاً مناسباً لكل واحد منهم.
3 – تلاوة جزء واحد من كتاب الله لصاحب القراءة الطبيعية "الحدر" لا تأخذ أكثر من 20 دقيقة فقط ، أي: ثلث ساعة وهو في الغالب وقت انتظار الصلاة بين الأذان والإقامة، وهذه هي الطريقة المنتشرة بين الناس.(115/563)
4 – رمضان حالة خاصة يتطلب من المسلم أن يكون شهره كله ليله ونهاره متلذذاً بكلام ربه ومناجاته، ولقد روي عن بعض السلف أنه كان يختم في كل ليلة من ليالي رمضان.
5 – افترضنا أن وقت انتظار الصلاة عشر دقائق، ومرادنا بذلك وقت التلاوة بعد أداء السنن الرواتب.
وتم توزيع البرنامج وفقاً للجدول التالي:
برنامج تلاوة القرآن في أوقات الدوام، وهي على النحو التالي:
ذكر الله _تعالى_:
من الأمور التي يجب أن يغتنمها الآباء في رمضان، غرس حب ذكر الله _عز وجل_، في قلوب أبنائهم.
فعندما يرى الأبناء آباءهم وهم يحرصون قبل غيرهم، على ذكر الله _عز وجل_، والتمسك ببعض الأذكار والدعية المستحبة، فإنهم سيحبون أن يقلدونهم، فكيف لو شرح الآباء لأبنائهم معزى ذكر الله _تعالى_، والأجر الذي يناله العبد على ذلك.
وطالما أن العائلة خلال رمضان تجلس إلى بعضها أكثر من غيرها من شهور السنة، لذلك وجب استغلال هذه الأوقات، لتلقين الأبناء بطرق غير مباشرة، الكثير من العبادات.
ومن أسهل هذه الأمور التي قد يتعلمها الأبناء من آبائهم، هي الأذكار، ذلك أنها:
1- لا تتطلب الكثير من الوقت أو الجهد.
2- يمكن أن يرددها الأب وهو جالس أو مشتغل ، أو في أي مكان.
3- كثرة المناسبات التي قد يردد فيها الأب الأذكار.
4- تنوع الأذكار، وتنوع الأجر الذي يحصل عليه الإنسان بذلك.
وغيرها.
وفيما يلي، بعضاً من الأذكار التي يستحسن أن نغتنم رمضان في ترديدها وتعليمها لأبنائنا، وهي في كل واحدة منها، لا تتعدى الدقيقة الواحدة، منها:
1- في دقيقة واحدة تستطيع أن تقرأ سورة الفاتحة (5) مرات على الأقل، وفيها أكثر من 7 آلاف حسنة (عدد أحرف سورة الفاتحة 140 × 10 حسنات للحرف × 5 مرات قراءة).
2- في دقيقة واحدة تستطيع أن تقرأ سورة الإخلاص (12) مرة سرداً وسراً ،وقد أخبر _صلى الله عليه وسلم_ أن قراءتها تعدل ثلث القرآن، فإذا قرأتها (12) مرة فإنها تعدل قراءة القرآن (4) مرات.
3- في دقيقة واحدة تستطيع أن تقرأ وجهاً من كتاب الله _عز وجل_ .
4- في دقيقة تستطيع أن تقول : لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير ( 15 ) مرة، وأجرها كعتق (6) رقاب في سبيل الله من ولد إسماعيل .
5- في دقيقة تستطيع أن تقول : سبحان الله وبحمده (100) مرة، ومن قال ذلك في يوم غفرت ذنوبه وإن كانت مثل زبد البحر ، كما أخبر _عليه الصلاة والسلام_.(115/564)
6- تستطيع أن تقول : سبحان الله وبحمده ، سبحان الله العظيم ( 50) مرة ، وهما كلمتان خفيفتان على اللسان ، ثقيلتان في الميزان ، حبيبتان إلى الرحمن_كما روى البخاري ومسلم _
7- قال _صلى الله عليه وسلم_ : " لأن أقول : سبحان الله ، والحمد لله ولا إله إلا الله ، والله أكبر ، أحب إليّ مما طلعت عليه الشمس ." رواه مسلم، في دقيقة واحدة تستطيع أن تقول هذه الكلمات جميعاً أكثر من (10) مرة ..
8- في دقيقة واحدة : تستطيع أن تقول: " لا حول ولا قوة إلا بالله" أكثر من (40) مرة ،وهي كنز من كنوز الجنة _ كما في البخاري ومسلم _كما أنها سبب عظيم لتحمل المشاق .
9- في دقيقة واحدة : تستطيع أن تقول: " سبحان الله وبحمده ، عدد خلقه ، ورضا نفسه، وزنة عرشه ، ومداد كلماته ،أكثر من (20) مرة، وهي كلمات تعدل أضعافاً مضاعفة من أجور التسبيح والذكر .
10- في دقيقة : تستطيع أن تستغفر الله أكثر من (100) مرة .
الصدقة:
قال الله _تعالى_: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ" [البقرة:267].
وفي رمضان، فرصة كبيرة لمضاعفة الأجر، وتعليم الأولاد على تقديم الصدقة للفقراء والمساكين، وإطعام الناس ودعم المشاريع الخيرية.
ومن أفضل البرامج التي يمكن للآباء تعليمها للأبناء هي أن يضعوا "حصالة" في المنزل، على مدار العام، يضع فيها الجميع ما زاد معهم من مال بسيط من قطع نقدية صغيرة، غير ما ينفقوه في سبيل الله من صدقات ودعم للمشاريع الخيرية وزكاة وغيرها.
فإذا جاء رمضان، أفرغت الحصالة مما فيها، وأعيدت إلى مكانها، ويقوم الآباء والأبناء بحمل هذه النقود معهم خلال شهر رمضان، وإعطاء كل سائل أو محتاج، وتقديمه لبعض الجمعيات الخيرية أو المساجد، أو المساهمة في مشروع فطار الصائم في الحي، وغيرها.
كما يتم وضع المال من جديد في الحصالة، خلال شهر رمضان المبارك، على أن يزيد الأهل من دعمهم لهذا الصندوق الخيري في المنزل، وفي الأيام الأخيرة من رمضان، يتم فتحه من جديد، وتوزع الأموال التي فيه في وجوه الخير.
إن استمرار وجود حصالة في المنزل، يدعم الإحساس لدى الأبناء بضرورة تقديم المال على الدوام للمحتاجين، وينمي لديهم الدافع للتبرع والصدقة، على مدار العام.
أما فتح الصندوق، وتقديم ما فيه للمحتاجين، فإنه ينمي لدى الأولاد الإحساس بأهمية الصدقة في رمضان، وعظم الأجر والثواب في ذلك.
أطفالنا في رمضان:(115/565)
لا يستثني الخير في رمضان أحد، وكذلك على الأسرة أيضاً ألا تستثني الأجر لأحد، حتى ولو كان طفلاً، فرمضان فرصة عظيمة لذلك، وفيها يحصل الآباء على الأجر مضاعف عدة مرات.
ولعل أن هذا الشهر يكون منطلقاً لأطفالنا لكل خير، فكم ابن تخرج من مدرسة رمضان فكان ابناً مباركاً نافعاً لوالديه ولأمته، فصدق فيه الحديث الصحيح "أو ولد صالح يدعو له" رواه مسلم، ولا بد أن يكون لهم نصيب وافر من الاهتمام والتقدير، والاستفادة من هذه الأجواء الإيمانية في غرس العديد من الفضائل، ونزع العديد من السلوكيات الخاطئة _إن وجدت_.
وننقل هنا ما نشره ( المكتب التعاوني للدعوة والإرشاد وتوعية الجاليات في محافظة المجمعة ) مما يساعد على تحقيق هذا الأمر ، ومن ذلك :
1- التهيئة النفسية للطفل قبل قدوم رمضان، وذلك بتشويقهم لأيامه ولياليه، وذكر الأجور والفضائل العظيمة لمن أحسن استغلاله، فإذا تمّت هذه التهيئة فإنها ستُحدث – بإذن الله – شعوراً إيمانياً لدى الطفل ينبغي للوالدين استغلاله نحو الأفضل.
2- تدريبهم على الصيام، ولعل من أحسن الطرق لتدريبهم على صيامه ما يلي:
• إفهام الطفل أن الصوم فريضة كتبه الله على الأمم قبلنا، وأنا كذلك ركن من أركان الإسلام الخمسة، وأن عليه أن يشرع في التدريب على أداء الصيام متى أطاق ذلك.
• إقناع الطفل بأنه أصبح كبيراً، ويقتضي ذلك أن يصوم مثل الكبار؛ لأنه أصبح مثلهم، وأداؤه الصيام علامة من علامات كبر سنه.
• إذا اختار يوماً لذلك ، أيقظته العائلة للسحور، وشجعته طيلة اليوم على إتمام الصيام.
• إذا أحسّ بالجوع أو العطش فيحسن إشغاله بأعمال تلهيه عن التفكير في الأكل والشرب إلى أن يحين معود الإفطار.
• مكافأته عن كل يوم يصومه، وقد تكون هذه المكافأة هدية معنوية، مثل: الدعاء له، والتنويه به على ملأ من أقرانه، أو في حضرة الكبار من أسرته، أو إعطائه شيئاً يحبه ويرغبه.
• عدم ضربه أو إهانته إذا امتنع عن الصوم.
• تذكيره بفعل أقرانه من أقاربه أو زملائه في المدرسة لهذه الشعيرة تحفيزاً له لمحاكاتهم.
3- الاهتمام بأداء الصلاة في المسجد، وذلك بتشجيع الأب له واصطحابه إلى المسجد والتبكير إليها خاصة صلاة التراويح، على ألا يسبب إحضاره للمسجد إزعاجاً للمصلين، أو إلهاءً لوالده، ويا حبذا لو ترصد عدد من الهدايا والجوائز لأحسن المحافظين على هذه الشعيرة على مستوى جماعة المسجد توزع في نهاية الشهر من قبل إمام المسجد.
4- من أعظم الأعمال التي يربى عليها الصغير كتاب الله _عز وجل_ فمن ذلك تشجيعه على الاعتناء به بالطرق التالية:
• وضع جائزة لمن ينهي قراءة القرآن كاملاً.
• أن يحدد له ورداً قدراً يومياً يقرؤه في المسجد بعد صلاة العصر مثلاً.(115/566)
• حثه على المشاركة في الحلقات القرآنية في البلد، ومتابعته على ذلك.
• تعيين مقدار من الحفظ في هذا الشهر مع وضع المحفزات لذلك.
• الإكثار من سماع الأشرطة السمعية لبعض السور، خاصة إذا كان القارئ صغير السن، أو مما يرغب سماعه من القرّاء.
الصدقة: وهي من العبادات العظيمة في هذا الشهر لما تحدثه من حب الصغير للفقراء والمساكين والعطف عليهم، بالإضافة إلى انتزاع خصلة البخل والأثرة من قلبه، ولعل من الطرق التي يربى عليها في هذه العبادة ما يلي:
• إعطاؤه مبلغاً من النقود لأجل صرفه في مجالات الخير المتعددة مع المتابعة.
• إعطاؤه مبلغاً محدداً ليسلمه إلى المحتاج عند باب المسجد أو في الشارع.
• إشراكه في توزيع الطعام على الفقراء المجاورين وغيرهم، وتذكيره دوماً بفضل هذه الأعمال ولا ريب أن لها أثراً كبيراً على الصغير.
• مشاركته في توزيع وجبات إفطار الصائمين، سواء كان في مشاريع إفطار الصائم، أم على بيوت المحتاجين.
5- مشاركة الصغير في المراكز الرمضانية التي تحفظ – بإذن الله – وقته وتكسبه العديد من المهارات والفوائد المتنوعة.
6- ترغيبه وتشجيعه على المشاركة في المسابقات المتنوعة الخالية من المحاذير الشرعية، التي تعود عليه بالفائدة، سواء كانت على مستوى المنزل أو غيره.
7- وضع جوائز مناسبة ومحببة للطفل لكل يوم يمر لم يشاهد فيه التلفاز، وهذا قد يكون – بإذن الله – بداية النهاية لتركه هذا الجهاز.
8- وضع برامج ممتعة، أثناء النهار، حتى يشغل وقتهم بما يفيد، وحتى يضمن انصرافهم عن والديهم الذين يريدون استغلال هذه الأيام بشكل أمثل.
9- لا بد أن يستيقظوا قبل الساعة الثانية عشرة ظهراً لأجل أن يناموا مبكرين، حتى يستغل الوالدان والإخوة الكبار وقت السحر وآخر الليل.
10- في أثناء الإفطار يحسن وضع سفرة خاصة لهم، ويا حبذا أن تكون مكوناتها مثل الكبار، ليتسنى لغيرهم استغلال الوقت بالدعاء والذكر، والاستغفار.
11- وضع جوائز لمن لا يتكلم بكلام مسيء وبذيء، ومثله للطفل الأقل خطأ، وكذلك عدم إيذاء الجيران والإزعاج أو نحوه.
ـــــــــــــــــــ
الفجوة بين جيل الآباء والأبناء.. من يردمها ؟
معمر الخليل
6/8/1425
ارسل تعليقك ...
لا توجد تعليقات ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...(115/567)
فيما تمر الأيام، وتتسابق السنوات في تغيير ملامح وأفكار الناس باستمرار، ينسى الآباء في كثير من الأحيان، أنهم كانوا في يوم من الأيام أطفالاً وأبناء، يتذمرون من طلبات وأوامر الآباء، ويجدون - من وجهة نظرهم- إجحافاً من الآباء بحقهم، وتقليلاً من شأنهم.
فيما يغيب عن أذهان معظم الأبناء، أنهم سيقفون يوماً أمام أولادهم، يفرضون عليهم ما يرونه -أنسب- لهم في كل شيء، ويحددون لهم الخطأ والصواب، ويقسون عليهم أحياناً.
وبين نسيان الآباء محدودية فكر الأبناء، تتجدد مشكلة مستمرة، طالما بقيت الحياة تضج بالصخب والتجدد، وهي الفجوة بين الآباء والأبناء بكل أبعادها؛ العمرية والفكرية والثقافية وما يتعلق بالعادات والتقاليد وما يرتبط بدخول تكنولوجيات جديدة وتطور على مختلف الأصعدة... وغيرها.
ورغم أن لكل عصر خصائصه، وكلٌ يرى أن عصره أكثر حساسية من غيره، فإننا نرى أن عصرنا كذلك، يتمتع بخصوصية فريدة، ساعدت في تباعد الفجوة بين الجيلين، بسبب ما دخل في عصرنا الحديث من تطور متسارع لم تشهد له الحقبات الماضية مثيلاً، وما شهده من تقارب في الزمان والمكان، وإلغاء لحواجز كثيرة ارتبط أساساً بالتكنولوجية التي حولت العالم إلى قرية.
فيما تمر الأيام، وتتسابق السنوات في تغيير ملامح وأفكار الناس باستمرار، ينسى الآباء في كثير من الأحيان، أنهم كانوا في يوم من الأيام؛ أطفالاً وأبناء
الفجوة العمرية:
تعد الفجوة العمرية؛ أكثر الفجوات تأسيساً للاختلافات اللاحقة، فبقدر ما يبتعد جيل الآباء -زمنياً- عن جيل الأبناء، تتسع الفجوات الأخرى، وتضيق مساحة الالتقاء الفكري والثقافي وحتى اللغوي.
في الماضي، كان الشبان يتزوجون في سن مبكرة، تصاعدت مع مرور الزمن، إذ كانت الأجيال السابقة تحرص على تزويج أبناءها عند سن البلوغ، ثم في أجيال لاحقة بات الزواج في سن أكبر، بسبب اتساع المدن وتنوع المصالح وتباعد المنازل.
كانت العائلة الواحدة قد تزوج جميع أبناءها في منزل الأب، ولم يكن على الابن أن يحمل الكثير من المسؤوليات كي يكون أباً.
ومع تعقد الحياة، أصبح لزاماً على الشاب أن يؤمن منزلاً وعملاً، ما ساعد في تقدم سن الزواج.
وفي جيلنا الحالي، بات على الشاب أن يكون متحصناً بالكثير من المسؤوليات والقدرات كي يقدم على الزواج، وإن تزوّج أخّر الإنجاب لوقت لاحق ريثما تتحسن الأمور المادي !!
هذا التقدم التدريجي في سن الزواج والإنجاب، أثمر عن فجوة كبيرة لم تكن في السابق موجودة بين أعمار الآباء والأبناء.
فبدل أن يكون بين الأب وابنه 15-20 عاماً كحد أقصى، بات الكثير من الآباء يبتعدون عن أبناءهم مسافة 30 سنة أو أزيد.(115/568)
هذا الاختلاف الكبير في الأعمار، ولّد مسافات متباعدة من الثقافة والعادات والتقاليد والأفكار ومدخلات العصر الحديث بين الجيلين، ما ساعد في بروز أكبر للمشكلة.
الفجوات الأخرى:
تتبع العديد من المشاكل؛ الفجوة العمرية بين جيل الآباء والأبناء، حيث تظهر فجوات أخرى، كمثل:
- الفجوة الفكرية: لكل عصر طريقة تفكيره وقناعاته وأسلوب دراسة ومعلومات متوافرة، ما يساعد في خلق حالة فكرية معينة لدى أبناء الجيل الواحد، تختلف مع نظيراتها في الأجيال الأخرى.
- العادات والتقاليد: مع تغير الحياة بشكل دائم، وتبدلها، ودخول معطيات جديدة وخروج أخرى، تتغير العادات والتقاليد بشكل مستمر وهادئ ربما لا يلحظها الشخص خلال حياته، إلا أن هذا الاختلاف يظهر بشكل واضح في اختلاف العادات والتقاليد بين جيل الآباء والأبناء.
- أنماط الحياة: كذلك تتغير أنماط الحياة وأسلوب العيش، الاستيقاظ في الصباح، السهر، أهمية السيارة، لقاء الأصدقاء، مشاهدة التلفاز، ألعاب التسلية، السياحة... إلخ.
وغيرها من الاختلافات الكثيرة والعديدة، والتي قد تتوالد مع مرور الأيام.
توصيف المشكلة:
المشكلة الأساسية التي يخلقها وجود فجوات متعددة بين جيل الآباء والأبناء، تتمحور في موضوع التربية على الأغلب.
ذلك أن أكبر المهام التي توجد على عاتق الآباء، هي مهمة التربية في كل شيء، الدينية والخلقية والسلوكية والثقافية والاجتماعية.. وغيرها.
لذلك، فإن أي خلل في هذه العلاقة، يؤدي بالتالي إلى خلل في المسألة التربوية.
لذلك وفي ظل هذه الفجوة، باتت العملية التربوية، تفتقر إلى العديد من معطيات النجاح.
الدكتور محسن آل تميم (عضو مجلس الشورى) يقول: "في ظل المستجدات المعاصرة أصبح جيل الشباب يواجه بحراً متلاطماً من الأفكار والرغبات والتحديات، وما يسببه ذلك من ضغط نفسي كبير، ومع أن هذا يستلزم تكثيف الجهود التربوية والتوعية والمزيد من التفهم لمعاناتهم.
كما أن ازدياد مستوى القلق والتوتر لدى الآباء والمربيين أدى إلى افتقار الحوار الهادئ والمجادلة بالتي هي أحسن، مما زاد في اتساع الفجوة بين الآباء والمربيين من جهة وبين الشباب من جهة أخرى".
إن الفجوات الموجودة بين جيل الآباء والأبناء تؤدي إلى جملة كبيرة من المشاكل، يذكر الشيخ فهد العماري، (القاضي في محكمة جدة) بعضاً منها:
- جمود العواطف بين الآباء والأبناء.
- الانشغال عن الآخر (كل مشغول بنفسه، ويفكر بحياته ونجاحه).
- عدم المبالاة والاهتمام، وعدم وجود الثقة.
- التحطيم بالنقد، وعدم وجود المديح المنضبط.
- عدم وجود المزاح المنضبط.(115/569)
- الشعور لدى الأبناء أن الأبوين فاقدين لحسن التربية والفهم، وفاقد الشيء لا يعطيه.
- التفكك الأسري.
- عدم المشاركة في المناسبات.
- غياب الاحترام والتقدير.
- اليأس من حالة الأبناء وتربيتهم.
- انعدام وجود القدوة من الأبناء تجاه الآباء.
وغيرها من المشاكل الكثيرة.
ردم الفجوة.. مسؤولية من ؟
من الضروري البحث عن طرق لإيصال الرسالة التربوية من الآباء لأبنائهم على أكمل وجه.
يرى الأستاذ عبد الله الآنسي من الطائف، أن على الآباء التعامل بشكل مناسب مع الأبناء، وبطريقة يُحترم فيها حق الأبناء في الاختلاف وإبداء الرأي . ويضيف: " وهذا يتطلب:
ـ تفعيل دور الأسرة للقيام بدورها خاصة تنمية الوعي الديني.
- توفير البيئة المدرسية المناسبة لتطوير الشخصية وإشباع الحاجات لتطوير الفكر والإبداع.
ـ وضع رؤية واضحة ووسيلة جديدة لتأصيل مفهوم الانتماء والوطنية تتناسب وظروف العصر.
ـ التحضير لكل مرحلة من مراحل النمو بتعهد الجوانب المختلفة لهذه التغيرات بوضع برامج متابعة لتعديل السلوك ولنشر الثقافة التربوية والصحية والاجتماعية.
ـ إقامة لجان لحماية الأبناء الذين يتعرضون للعنف الجسدي والنفسي والجنسي داخل الأسرة أو خارجها".
فيما تقول إحدى الأخوات:
"الحل في الصحوة، إن يصحو كل فرد مسؤول عاقل راشد بالغ من غفلته ويدرك مهمته وينجزها بإخلاص وأمانة، وليطرد التبعية والتخلف والانقياد الأعمى نحو الهاوية.
فيدرك الأب مسؤوليته ويلملم جراح الغفلة ويُصلح ما قد فسد ويشارك بكل جدية في تربية أبنائه وإنقاذهم من كبوتهم قبل أن يقعوا في جحر الضب المُناقدين إليه بلا وعي ولا تفكير، وليكن نِعم قدوة لنعم خلف.
ولتدرك ألام عظم الأمانة التي في عنقها ولتقبل على احتضان أبنائها وبناتها ولترعاهم ولتعلم أنهم كسبها وربحها في الدنيا والآخرة، فبعزهم عزها وبفوزهم فوزها، ولتخلع ربقة الجاهلية الحديثة ولتكن نِعم الأم لأفضل بنت ونعم الزوجة لزوجها ونعم القلب الذي يسع أبناءها ، ولتكن الحصن المنيع والسور الواقي الذي يقف بالمرصاد وبلا هوادة ضد كل دخيل ومتسلل إلى بيتها الآمن .
وليدرك الابن ولتدرك البنت مدى خطورة الانحراف عن المسار والجادة، ولندع اللوم جانباً ولنكن غرساً طيباً باراً نْعين آباءنا وأمهاتنا على برنا وحسن تربيتنا، ولنكن خير خلف لخير سلف وما نزرعه اليوم نحصده غداً ولنعلم أن عزنا في(115/570)
ماضينا وفي العلم والعمل والاستقامة ولننظر بعين ثاقبة إلى ما وصل إليه الغرب من انهيار أخلاقي وتفكك أسري وأمراض ليس لها عد ولا حصر ، فهل نسير نحو الهاوية أم نقود العالم كله نحو العلياء والسمو".
أما أحد المختصين في علم الاجتماع، فيقول:
هناك ضرورة للتحلي بحسن الاستماع من أجل الحفاظ على التواصل، وأحذر من الضغط والإكراه الذي يقطع العلاقة، بل يجب وجود ثقافة حوار داخل الأسرة، وهو ما قد يوجد هي الحل".
ويتابع بالقول: " إلا أن كيفية إدارة الحوار هي التي تحدد نجاح هذا الحوار أو فشله، فغياب التحدث ''بطريقة لائقة'' مع الآباء هو سبب الأزمة الرئيس، كما أن طريقة رد الابن على سؤال أبيه حول تأخره-مثلا- هي التي ستدير الحوار فيما بعد".
" وأدعو إلى اعتماد نظرية الثواب والعقاب، وتقديم النموذج السلبي والإيجابي لأخذ العبرة، كما أعتقد أن أساس وجود الفجوة هو الابتعاد عن الدين، لذلك فالرجوع إلى تعاليم الدين الإسلامي ستساعد كثيراً الجيلين في ردم الفجوة بينهما، والاتصال السليم بما يخدم الأسرة".
ـــــــــــــــــــ
الرحلات العائلية الصيفية.. كيف نستثمرها في تربية الأبناء؟
مشرف النافذة
12/5/1425
ارسل تعليقك ...
لا توجد تعليقات ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
وقفت منيرة ترقب أمها وهي تعد آخر الأغراض الضرورية، فيما كان أبوها وإخوتها الثلاثة يتساعدون في حمل الأغراض إلى السيارة التي بدأت تنوء بأحمالها.
- تعالي ساعديني.. ألا ترين حاجتي للمساعدة.
- حسناً يا أمي ..أنا قادمة.
هرولت منيرة إلى أمها، ورزمت معها الوسائد والأغطية، قبل أن تحمل بيدها عدة (القهوة) وتأخذ مكانها في السيارة وتنتظر أن ينتهي الجميع من أعمالهم ويتخذون أماكنهم، لتنطلق بهم السيارة في إجازة عائلية ستستمر شهراً كاملاً.
في الطريق استمعت العائلة إلى بعض الأشرطة الدينية، ثم فتح الأب (الراديو) على محطة إذاعية، ومن قبيل الصدفة، كان الموضوع يتمحور حول العطلات الصيفية وأفضل السبل للاستمتاع بها والابتعاد عن السلبيات.
- هذه البرامج لا تنتهي.. كلما فتحت المذياع أو التلفاز أو الإنترنت؛ طالعتني هذه النصائح والإحصائيات، كأننا نفعل جرماً.(115/571)
- كلا يا بني (أجاب الأب على تذمر ابنه) الإجازة موسم، وفي المواسم تركز معظم وسائل الإعلام على الحدث الأهم، والعبرة ليست في كثرة المواضيع والنصائح وكثرة الاستماع إليها، وإنما في تطبيق ذلك والاستفادة بالقدر المطلوب.
إن الاستفادة من الرحلات العائلية تكمن في مصداقية طلب الأسرة لذلك
كانت منيرة لا تعي كثيراً مما يقوله الجميع حول السفر والعطلات، ولكن شيئاً كان قد حدث في نفسها حين وصلوا إلى مكان قضاء الإجازة بعد سفر طويل وممل.
كانت مدة الإجازة كافية لأن تلاحظ وتتعلم الشيء الكثير من هذه المدينة الغريبة والجديدة عليها، فقد كانت سنوات عمرها الثمانية كفيلة بأن تعلمها وتساعدها في حفظ الأشياء والاهتمام بها.
سلاح ذو حدين:
مثلها مثل الكثير من الأمور الأخرى، ذات الحدين الإيجابي والسلبي، تعد الرحلات العائلية في العطلات الصيفية ظاهرة ذات بعدين، حيث يمكن أن تتحول الرحلة إلى نقطة سوداء في حياة معظم أفراد العائلة، وتترك لديهم آثاراً وانطباعات سلبية، وتولد لديهم رغبات وتصرفات غير أخلاقية، كما يمكن أن تتحول درساً من دروس الأدب والأخلاق والالتزام والحشمة واللباقة وغيرها.
المسألة هي أولاً وآخراً بيد قائدي سفينة العائلة، والراعين لها، والمستأمنين عليها.
وفيما تكثر التحذيرات من الأخطاء التي قد تقع فيها العائلة خلال السفر والإجازات والعطلات، تقل المواضيع التي تخبرنا بالطريقة المثلى للاستفادة من الإجازة.
ورب حال البعض يقول: " لقد استمعنا للكثير من السلبيات في الإجازة، واستمعنا إلى جملة (لا تفعل كذا فهذا خطأ) إذن ماذا يمكننا أن نفعل في الإجازة".
علي محمد، متزوج وله طفل واحد عمره (3 سنوات)، ممن تعود على زيارة بعض الدول العربية القريبة كل سنة يقول: " كنت أسافر إلى بعض الدول العربية خلال الإجازات الصيفية قبل أن أتزوج، وكنت أحرص على الكثير من الأمور الصالحة، فأنا ممن أعيش الالتزام في كل مكان، ولكن بعد أن تزوجت، أصبحت حريصاً أكثر على وجهة سفري وتصرفاتي، أنا متزوج منذ نحو أربع سنوات، ولم أسافر إلى الخارج سوى مرة واحدة"
وعن سبب عدوله عن السفر إلى الخارج، يقول: " بكل صراحة فأنا أخاف على زوجتي من الفتنة، زوجتي صالحة وتخاف الله، وعندما سافرنا إلى الخارج كانت حريصة على لبس الحجاب، وسأعترف أنني عرضت عليها أن تخلع حجاب الوجه هناك، (من باب الامتحان) إلا أنها -والحمد لله- أكد نظرتي لها، برفضها هذا الأمر، وقالت لي: " إننا جئنا للاستمتاع بالعطلة، وليس لإغضاب الله -عز وجل-"، وكانت هذه الجملة هي التي جعلتني أعيد التفكير في مسألة السفر، وقررت منذ ذلك اليوم أن أقضي الإجازة في مكان داخل السعودية".
وأضاف: "إن ابني يكبر بسرعة، ويتعلم كل ما حوله، وأنا لا أريد أن أجعله يواجه بعض الأخطاء في بعض الدول التي أزورها، لذلك قررت التمتع بالإجازة الصيفية في بيئة تلائم ابني وزوجتي، وتساعدنا في تقوى الله لا في إغضابه".
في الرحلة العائلية عرفت والدي:(115/572)
تروي إحدى الأخوات (م.ك) والطالبة في الصف الأول الثانوي، قصة حدثت معها في مدينة جدة خلال العطلة الصيفية قبل الأخيرة، فتقول: " طوال الأعوام الفائتة، كنت لا أعرف أبي عن قرب بشكل كبير، كان بالنسبة لنا رب الأسرة، يدخل في أوقات معينة، ويقوم بأعمال روتينية واعتيادية كل يوم تقريباً، إلا أنني عرفته لأول مرة أكثر خلال رحلة عائلية لنا زرنا فيها إحدى المدن الداخلية السنة قبل الماضية".
وتتابع الأخت بالقول: " والدي إنسان فاضل، كبير القلب، ويخشى الله في كل أموره، ويتقيه مخافة العقاب، وأملاً بالثواب، فخلال الأسبوعين الذين قضيناهما في الرحلة، تعرفت عليه بشكل أكثر قرباً، حيث كنا نقضي معظم أوقات اليوم في جو عائلي يجمعنا كلنا، فعرفت فيه خصالاً كثيرة لم أكن لأشاهدها في بقية الأيام".
ومثال على ما رأته من والدها بسبب قربها منه، تقول الأخت م: " على سبيل المثال، كنت أعد والدي صارماً في عدة أمور، منها: عمل المنزل، إلا أنني تفاجأت بدخول والدي إلى المطبخ أكثر من خمس مرات، لتجهيز وجبة الغذاء للعائلة، كما أنه كان يكثر من الاستماع في المنزل وفي طريق السفر الطويل لآيات قرآنية معينة، كررها طوال مدة سفرنا في السيارة، لدرجة أنني حفظت قسماً كبيراً من السورة، وعندما عدنا تفاجأت به يقول لي: " راجعي سورة الأحزاب، وستحفظينها -إن شاء الله- خلال وقت قياسي"، فعرفت أنه تقصّد تكرار سماع السورة من أجل أن نحفظها بسهولة".
القصة التي ترويها الأخت (م.ك) تنبه إلى نقطة مهمة وضرورية في سير تعلم الأبناء من آبائهم أثناء العطلات والرحلات العائلية.
حيث تصبح الرحلة العائلية فرصة نادرة لدى البعض (وسط الانشغال الدائم للأب) كي يتم الاحتكاك بشكل مباشر وكبير بين أفراد العائلة مع بعضها البعض، فربما تمر الأيام والأشهر والسنوات على بعض العائلات، دون أن يتمكنوا من فرصة قضاء 48 ساعة مع بعضهم البعض في مكان واحد.
وتأتي الرحلات العائلية هنا لتقدم هذه الفرصة للبعض، ما يتيح للأولاد الاحتكاك المباشر والطويل مع والديهم (وخاصة الأب) فيعرفون طباعه جيداً، ويتعلمون منه أشياء لم يكونوا يروها من قبل
وطالما أنه يعتبر (المثل الأعلى) لهم، فإن حسن تصرف الأب، والتزامه بتعاليم الدين الحنيف، والمواظبة على أداء الفرائض بالمساجد، وذكر الله في كل الأحوال، وعدم الاختلاط، وغيرها من الأمور الأخرى، سيكرس هذه المفاهيم لدى أبناءه، وهو ما ينطبق أيضاً على الأم.
آيات الله في الأرض:
تقول الدكتورة أسماء الحسين، (أستاذة الصحة النفسية المساعد بكلية التربية بالرياض): " يتفق المربون مع ما يقره الواقع أن أفضل وسائل التربية هي التي تنبع من خلال الواقع أو الاستفادة من الأحداث والمشاهد الحياتية التي يدركها ويتعايش معها الأطفال، بالإضافة إلى وجود القدوة الطيبة المصاحبة.
وعندما يصحب الأبوان أبناءهما في رحلات الصيف وبعد عناء عام دراسي طويل، وبعد أداء امتحان نهاية العام الدراسي فإن ذلك يكون فرصة لهم لتنمية مداركهم(115/573)
واتساع فرص التربية والتعلم أو الخبرات المفيدة، ولكن للأسف كثير من الناس ينشد السفر لغرض الترفيه الوقتي.. أو بدافع محاكاة الآخرين.. وقليل منهم من يجعل من السفر رحلة تربية وتعليم، وفائدة أو فرصة للتغيير الإيجابي واكتساب عدد من الفوائد، وهي عديدة لمن يبحث عنها أو يوليها اهتماماً..".
وتورد الدكتورة أسماء أمثلة عملية قد يغفل عنها الكثيرون أثناء الإجازات والرحلات، فتقول: " فعلى سبيل المثال يمكن للأبوين لفت انتباه أبنائهما إلى كثير من نعم الله -تعالى- علينا، والإشارة إلى عظمة صنع الله -تعالى- وإتقانه لكل شيء.
كذلك في زيارة الحدائق العامة أو المنتزهات الطبيعية يمكنهما لفت انتباه الأبناء إلى ضرورة النظافة، والنظام..
وتأمل سلوكيات الآخرين الجميلة أو السلبية والتعليق عليها، وجعل الأبناء يستشعرون ما يرونه ويتخيلونه صورة تنطبق عليهم أنفسهم، يمكن اصطحاب الأبناء إلى الأماكن المقدسة وجعلهم يساهمون في أعمال الخير أو توزيع بعض الكتيبات والنشرات المفيدة، نعلمهم معنى مساعدة الآخرين، والإحسان إلى المحتاجين.."
وتتابع الأمثلة الخيّرة على حسن الاستفادة والتربية للأبناء أثناء الرحلات الصيفية: " ونعلمهم مناسك العمرة أو الزيارة للمسجد النبوي، وقراءة القرآن والصلاة مع الجماعة، ندربهم على أداء المناسك، ونقص عليهم قصة إبراهيم وولده إسماعيل -عليه السلام- وقصة بناء الكعبة، نوجه الأطفال أثناء الرحلات للتعود على أنفسهم من خلال توزيع الأدوار والمهام أو الواجبات في كل رحلة أو يوم.
نعلمهم شكر النعم وعدم الإسراف، يمكن اصطحابهم كذلك إلى بعض المناطق أو الحارات الفقيرة والمساكن المتواضعة، ونجعلهم يقارنون بين حالهم وأحوال أقرانهم من الأطفال الآخرين الفقراء ليدركوا الفرق ويحمدوا الله على نعمه، أو يتعلمون منهم القناعة والرضا، كذلك من خلال زيارة الأماكن الأثرية لأخذ العبرة والفائدة.
نشجعهم على سماع الأشرطة الدينية المفيدة في الطريق أثناء ركوب السيارة أو الحافلة، ويمكن أن نعمل لهم بعض المسابقات المشوقة وذات الأهداف الطيبة".
برامج عملية لرحلة صيفية هادفة:
أما الأستاذة إيمان السعدون، (المدرسة بكلية التربية الاجتماعية)، فتقول: "إن الاستفادة من الرحلات العائلية تكمن في مصداقية طلب الأسرة لذلك؛ لأن من كانت عنده نية صادقة وهمة عالية في الانتفاع بالأوقات وعمارتها على كل حال بما يرضي الله -عز وجل- من الأقوال والأفعال لنحقق له ذلك -بإذن الله تعالى-؛ لأنه من المعلوم أنه ما تعامل أحد مع الله إلا وكسب منه ".
وبحسب الأستاذ إيمان، فإن الرحلات الصيفية العائلية تنقسم قسمين رئيسين، تفرق بينهما، لتضع لكل منهما مكانتها والطريقة المثلى في التعامل معها، فتقول: الرحلات العائلية على نوعين:
1 – القصيرة: وهي ما كانت يوماً واحداً أو ساعات قليلة من الممكن الانتفاع بها بالمسابقات السريعة الهادئة التربوية.
مع إيقاظ حسن التفكير والتدبر في الأحوال الخلوية والبرية والترويحية الخارجة عن نمط الحياة اليومية المنزلية المعتادة.(115/574)
2 – الطويلة: وهذه تمتد من أسبوع إلى أكثر، ولا بد لها من دراسة جيدة وتخطيط سليم ممكن أن يقوم به أحد قيادات الأسرة الأب أو الأم على حسب القدرة والمسؤولية مع المشاركة مع الأبناء حتى تكون البرامج نابعة من رغباتهم فلا يصابون بالملل والسأم والتمرد على ذلك".
ولتقديم استفادة أكبر وأشمل، وفقاً للتطبيق العملي، تورد الأستاذة إيمان بعض الخطوات الفعالة العملية، التي يمكن أن تعد نموذجاً للأسرة، فتقول: " تحتاج الخطة الأسرية للاستفادة من الرحلات العائلية الصيفية إلى عدة خطوات، منها:
- جمع أفراد الأسرة وتذكيرهم بحق الله عليهم في كل حال من الأحوال، ومنها ما هم بصدده من التنعم بفضله بهذه الرحلات وأنه يجب أن نشكره ولا نكفره وأن نذكره ولا ننساه، وأن هذه القلوب لا يجمل بها أن تنقطع في حال من الأحوال عن التعبد له باستشعار فضله والإحساس بقربه.
- ثم يحدد من خلال هذه المقدمة الأهداف التي يحتاج أن تنفذ، مثل:
- مراجعة للقرآن الكريم.
- محافظة على السنن والآداب.
- قراءة من كتاب.
- سماع للأشرطة النافعة بالتنقل بالسيارة.
- مناقشة مواضيع هامة وفق ضوابط الحوار النافع.
- الترفيه البريء".
وتختم الأستاذة أيمان حديثها بالقول: " أخيراً وفي كلا الحالتين، فإن الأمر يحتاج إلى أبوين محتسبي الأجر في تربية الأبناء وفق ما يرضي الله -عز وجل- متزينين بآداب المربين الفاضلين ومتزودين بالعلم الشرعي والدعاء الصادق الجازم المُلح على الله والحري بأن يستجاب له مع القدوة الصالحة على كل حال".
مؤكدة على أن بعض هذه التجارب قد تؤتي ثمارها بنسبة 100%، ومنهم من يحقق 50%، ومنهم 30%، ومنهم 10%، وتقول: " ولكن هذا كله أفضل من الضياع الكلي للأعمار والأوقات، ثم لعله في المرات القادمة تكون النتائج أفضل".
آفاق تربوية في الرحلات العائلية:
الأستاذة حورية قاضي، (المشرفة التربوية بمكتب الإشراف التربوي بجنوب الرياض)، تؤكد على أهمية الرحلات العائلية الصيفية في تربية الأبناء، وتحويلها إلى درس عملي يقدمه الأهل لأبنائهم بصورة جديدة ومختلفة.
وتذكر الأستاذة حورية بعض المجالات الواسعة التي تتمتع بها الرحلات العائلية الصيفية، باعتبارها نموذجاً عملياً لهذه الدروس التربوية، فتقول: " الرحلات العائلية الصيفية مجال واسع لتربية الأبناء من وجوه عديدة منها:
1– ترسيخ مفهوم إمتاع النفس المباح بصوره المختلفة من حيث:
اختيار الأماكن التي يجوز السفر إليها من غيرها ومناقشة أسباب تحريم المحرم منها.
البرامج التي سيقوم بها أفراد الأسرة للتسلية فمنها الممتع المسلي الذي يزيل ألم النفس ويقوي البدن كالرياضة والسباحة وغرس احتساب الأجر عند الله أن يكون كل ذلك لتجديد النشاط للعبادة.(115/575)
2- مشاركة الأبناء في اختيار المكان ومناقشة ذلك معهم، وحصول الاتفاق بين أفراد الأسرة يعطي الأبناء ثقة في النفس، كما ينشر جواً من الألفة على الأسرة.
وممكن إتاحة الفرصة لكل فرد في الأسرة في اختيار مكان الرحلة لمرة واحدة، والمرة القادمة لغيره... وهكذا.
فذلك يعودهم على الشجاعة في إبداء الرأي وقبول رأي الآخر.
3- مشاركة الأبناء في الإعداد للرحلة، ووضع برنامج لها ينمي روح التعاون بين أفرادها ويعودهم على التخطيط والترتيب في جميع الأمور.
4- مناقشة الإيجابيات والسلبيات بعد إتمام الرحلة يُعلم الأبناء مفهوم تصحيح الأخطاء مستقبلاً.
5- الحرص على الصلاة خلال الرحلات وأداؤها في جماعة يعلم الأبناء عدم التهاون بها وأن النزهة وتحقيق المتعة لا يعني إهمال أمور الآخرة
ـــــــــــــــــــ
المراكز الصيفية – من أجل أن نقطف الثمرة
مشرف النافذة
14/4/1425
ارسل تعليقك ...
تعليقات سابقة ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
كما تعلمون ما للمراكز الصيفية من دور ملموس في توجيه وحفظ الأوقات لدى فئة كبيرة من الشباب خلال مدة الإجازة الصيفية، وكما تعلمون أن الهدف الأساسي للمراكز الصيفية هو التربية الإيجابية.
فيسر موقع المسلم أن يشارككم في بناء هذا الهدف من خلال هذه الندوة المباركة، والتي استضفنا فيها مجموعة من الفضلاء الذين كان لهم تجربة سابقة في إدارة المراكز الصيفية، وهم كل من:
الأستاذ عبد السلام الناجي (المدرس في متوسطة عبدالرحمن الدوسري _رحمه الله_ في الرياض)
والأستاذ حمد الرزيزاء (المدرس في ثانوية الشيخ ابن باز _رحمه الله_ في الرياض)
والأستاذ خالد الزوبع (المدرس في ثانوية الأمير سلمان في الرياض)
فنرحب بالإخوة جميعاً ونشكر لهم تجاوبهم معنا.
ما الأولويات التي ينبغي أن يعتني بها المربون والقائمون على المراكز الصيفية لقطف ثمرتها؟
من حسنات المراكز ما تقدمه للمجتمع وهي تجربة ناجحة، بل من المفترض أن يكون دور المراكز أكبر من ذلك، ولابد لأهل الخير من الدخول في المجتمع وألا يصبحوا منغلقين ويحرموا أنفسهم من تقديم الخير للناس
يذكر الأخ عبدالسلام الناجي أن من الأولويات التي أرى ضرورة الاهتمام بها:(115/576)
1- تحديد أهداف المركز ورسالته تحديداً دقيقاً موضوعياً يمكن قياسه.
2- التخطيط والإعداد المبكر للمركز، وذلك بعد تحديد احتياجات الطلاب وبيئاتهم.
3- تعريف قطاعات ومؤسسات المجتمع المختلفة برسالة المركز وإشراكها في التخطيط والتنفيذ لهذه الرسالة.
ويذكر الأستاذ حمد الرزيزاء أن من الأولويات المهمة هي مسألة إيجاد بيئة مناسبة لكل مشارك في المركز، بحيث تكون البرامج متنوعة تلبي رغبات جميع المشاركين، فمتى ما نظرنا إلى مسألة أننا حين نضع البرامج لا بد أن نعرف ما نريد وما يريده المشاركون بجميع طبقاتهم وميولهم، فبالتالي نستطيع أن نملك هذا الطالب الذي جاء ليشارك في المركز.
الأمر الآخر،هو: أننا لابد أن نوجد خطة استراتيجية على مدى خمس سنوات بأهداف واضحة نسعى للوصول إليها، أما أن يكون المركز يدار كل سنة قبل أشخاص مختلفين، ويوضع أهداف مختلفة أو متكررة فهذا الأمر يحتاج إلى إعادة نظر!!
الأستاذ خالد الزوبع يرى أن من الأولويات: التخطيط ورصد التفاعل في الأعوام السابقة لما يعرض من برامج ثم محاولة تطويرها وطرحها بقالب أوسع وأكثر تلقياً.
ألا ترون أن هناك ثغرات تربوية موجودة في المراكز الصيفية يجب تلافيها ما تلك الثغرات؟ وما الأسباب التي أدت لوجودها؟ وكيف يمكن تلافيها؟
يرى الأستاذ حمد أن من الثغرات ضعف متابعة الطلاب الجدد الذين أتوا إلى المشاركة، فتجد الطالب يأتي متحمساً ثم لا يجد من يلقي له بالاً ولا يدعوه للمشاركة، وقد يستمر هذا الطالب إلى نهاية المركز وتنقطع العلاقة به بمجرد انتهاء المركز، إذن الهدف الذي من أجله فتح المركز أو من أهدافه لم يتحقق.
الأستاذ خالد يقول: إن ضعف الطاقم الإداري والإشرافي، بل انعدام المفاهيم التربوية وظن البعض أن ما يمارسه كما يمارسه الأستاذ مع الطلاب في قاعة الدراسة أو محيط المدرسة، والأولى أن تراعى اختلاف البيئات في الجو الدراسي ووقت الإجازة.
بينما الأخ عبد السلام يذكر أن من الثغرات الموجودة:
1- غياب الهدف أو تلاشيه بصورة فعلية أثناء التخطيط والتنفيذ للبرامج.
2- ضيق مساحة الاحتواء للطاقات العاملة وللنوعيات المختلفة من المشاركين.
3- الروتين في البرامج والأفكار.
4- تولية بعض المهام الإشرافية ذات الصلة بالطالب مباشرة ممن هم ليسو قدوات ولا أكفاء.
5- نزع الثقة من الطلاب المؤهلين الجامعيين أو الإفراط في منحها.
6- الاهتمام بالأعمال العامة والدعائية طلباً لسمعة المركز على حساب الطالب ومصالحه وحاجاته.
ماالوسائل التي ترون أنها تفعل العملية التربوية في المراكز الصيفية؟
يذكر الأستاذ عبدالسلام أن من وسائل تفعيل العملية التربوية:
1- توعية العاملين بدورهم التربوي المطلوب منهم داخل المركز والتأكيد والتذكير به دوماً.(115/577)
2- عقد لقاء للعاملين في الميدان لمدارسة هذا الموضوع والخروج بتوصيات عملية.
3- حصر المفاهيم والاتجاهات والقيم التي ينبغي أن يتعلمها الطالب في المركز ولو على مراحل وإعداد قائمة بها.
4- تضمين أهم هذه الاتجاهات والأسس والقيم التربوية المطلوبة ضمن إطار برنامج المركز وعدم ترك ذلك للاجتهادات الشخصية.
ويذكر الأخ حمد أن من الوسائل التخطيط المبكر والمتابعة الدقيقة للبرامج والمشاركين وأيضاً الطرح المتنوع والابتعاد عن البرامج التقليدية.
ويقول الأستاذ خالد: إن التوازن في طرح البرامج التربوية مع الترفيهية، وكذلك القوة البارزة في الطاقم لا الشكل فحسب بل ما يغذي الطرف المستفيد من الهمة والتعامل الأريحي والإفادة والحرص على الطلب.
يرى بعض الناس أن تغليب جانب التسلية والترفيه على جانب التربية - في بعض المراكز – أصبح العامل الكبير والمؤثر على نجاح المركز، فما مدى صحة هذا الرأي؟ وإذا كان موجوداً في بعض المراكز، فما السبب في رأيكم وكيف يمكن علاجها؟
يذكر الأستاذ خالد أنه عندما تصاغ البرامج، ويراعى فيها الابتكار، حتى ولو كان برنامجاً ليس له علاقة بالترفيه، بل هو من عداد البرامج الثقافية الثقيلة، فإن التقبل لها سيكون على قدر كبير، وما يلحظ من تغليب الترفيه على أنشطة المراكز اليوم مرجعه إما التكوين الذي تربى عليه الطاقم المشرف أو غياب الأسس التربوية التي لابد من مراعاتها عند تأسيس المراكز، ومن المؤسف أن بعض المراكز تخطط لتغليب الجانب الترفيهي حتى يزيد عندها العدد لهدف واحد ألا وهو ارتفاع دخل المركز وكأنها عملية ربح وشراء.
ورأي الأستاذ حمد أنه لابد من التوسط في هذا الجانب ولابد من تلبية رغبات الجميع، وإذا كان الهدف من المراكز واضح لدى المشرفين فلن يطغى برنامج على آخر، فالتوازن في الطرح مطلوب وقد تخسر أناس ولكن سنخرج بعينات أخرى تكون بناءة في المجتمع _بإذن الله_.
ومن أسباب تغليب جانب الترفيه هو ضعف قدرة العاملين أو عدم تأهيلهم أو ضعف الجانب التربوي لديهم "ففاقد الشيء لا يعطيه"، وقد يكون السبب هو الاستجابة للطرح الموجود من بعض أفراد المجتمع أو المسؤولين البعيدين عن العمل التربوي.
بينما يذكر الأستاذ عبدالسلام رأيه أن وجود جانب الترفيه والتسلية مهم جداً، وبخاصة في مثل هذه الأيام.. ولكن هذا لا يعني:
1- إهمال البرامج الأخرى، فالناس ذوو فروق ومشارب.
2- تجاوز الحدود والأطر الشرعية والأخلاقية في هذه البرامج.
3- أرى أنه لا بأس – من وجهة نظري على الأقل – أن يكون هناك مركز نسبة البرامج الترفيهية فيه مثلاً 60-70 %، ومركز آخر مجاور نسبة البرامج الأكثر نوعية وجودة فيه 60- 70 %، ولكلٍ رواده وأهدافه.
كيف يمكن مد النتائج التربوية للمراكز الصيفية إلى ما بعد المركز؟(115/578)
رأي الأستاذ حمد أن وجود الخطط الطويلة المدى مع بقاء نفس العاملين والمشرفين سيحقق نتائج قوية للمراكز _بإذن الله_.
ويقول الأستاذ خالد: إن التواصل على كافة أشكاله خصوصاً من وجد لديه التغير والأرض القابلة للاستنبات، وإقامة جسور التواصل مع تلازمها لبرنامج معد سلفاً.
دور المراكز في خدمة المجتمع ظاهرة جديدة، فهل ترون أنها إيجابية؟ وما مدى تأثيرها على الرسالة التربوية للمراكز الصيفية؟
يقول الأستاذ عبدالسلام: إن من فوائد تحديد الأهداف: أن الإنسان يعرف حدود الدائرة التي يعمل بداخلها فلا يتجاوز هذه الحدود إلى ما وراءها وهو لم يتقن عمله الأصلي.
وبعض البرامج والأنشطة على جودتها في ذاتها إلا أني أتوقع أنها ليست من صميم رسالة المركز وأثرت على واجباته الأصلية، فمثلاً: لا أظن أن العناية بالجاليات والخدم من صميم عمل المركز، بل هو من صميم مكاتب الجاليات المتخصصة، ويمكن أن يتعاون معهم في حدود الممكن والمتاح , والنداءات والتهم التي توجه إلى المراكز وروادها , لا نفر منها إلى حل ظاهري يفتقد التفكير الجاد في البحث عن الحلول المناسبة.
بينما يرى الأستاذ حمد أن من حسنات المراكز ما تقدمه للمجتمع، وهي تجربة ناجحة، بل من المفترض أن يكون دور المراكز أكبر من ذلك، ولابد لأهل الخير من الدخول في المجتمع، وألا يصبحوا منغلقين ويحرموا أنفسهم من تقديم الخير للناس.
ويقول الأستاذ خالد: إن المراكز كانت في السابق تخدم فئة محددة ولما توسعت مدارك الإخوة الفضلاء القائمين عليها كانت الحاجة لإفادة من في خارج أسوار المركز، وقد حققت مكاسب عدة منها تصحيح بعض المفاهيم المتراكمة عن المراكز ومن يعمل فيها وإعطاء جرعة تحفيزية للقائمين من خلال كسبهم لثقة الناس.
من الملاحظ أنه في أغلب المراكز تكون الفئة المستهدفة هي من طلاب الحلقات، فما دورنا في بقية الفئات التي هي حاجتها أكبر لهذه المراكز؟
يرى الأستاذ خالد أنه من الواجب أن تعد الخطط والبرامج للمراكز على أساس التنوع والاستعداد المسبق من المشاركين، ويراعى فيها التنوع الذي يخدم كافة الشرائح ليس على حساب فئة دون فئة مع جعل خطة مرحلية لنقل بسيط التجربة لمرحلة أكثر فائدة وطرح جاد.
ويذكر الأستاذ حمد أن هذا الأمر صحيح والسبب ما ذكرته في السابق من عدم الاهتمام بالجدد، وأقترح أن توجد لجنة خاصة في المركز دورها المناط بها متابعة المستجدين متابعة دقيقة من خلال عمل استمارة تحتوي على معايير لنجاح متابعة المستجد مثلاً الحضور اليومي وعدد مشاركاته في البرامج العامة والمسابقات وغيرها.
ومن جهة أخرى يقول الأستاذ عبدالسلام: إن هذا التساؤل يحمل قدراً من الصحة لكني سأتناوله من زاوية أخرى وبأسئلة أخرى:
1- هل ضعف الإمكانات والموارد الموجودة في المراكز يرضى بها عامة الطلاب كما يصبر عليها طلاب الحلقات؟(115/579)
2- هل ضعف جوانب التشويق والجذب الموجودة في المراكز - لسبب أو لآخر - تحفز عامة الطلاب للمشاركة كما يحفز طلاب الحلقات الاحتساب والأجر؟
3- هل قناعة أولياء أمور عامة الطلاب بالمركز مثل قناعة آباء طلاب الحلقات؟
4- هل يجد عامة الطلاب البيئات التي تدربهم وتعدهم للمشاركة في مثل هذه المراكز والأنشطة كما يجدها طلاب الحلقات؟!!
فصل مرحلتي الثانوي عن المتوسطة تجربة قامت بها بعض المراكز والفكرة ما زالت بين القبول والرد، فما مرئياتكم حيال هذه القضية؟
يقول الأستاذ عبدالسلام أرى أن فصل المتوسط تماماً في المركز له وعليه، والذي أراه _والله أعلم_ بالصواب هو وجود المتوسط والثانوي في مركز واحد مع استقلال في الأسر وفي الأنشطة الخاصة بالأسرة كالرحلات وغيرها , والالتقاء مع مرحلة الثانوي في البرامج العامة للمركز تحقيقاً للنشاط العام للمركز وتوفيراً لفرص الاقتداء والتنافس.
بينما يؤيد الأستاذ حمد الفصل للمرحلتين، وأنه يعطي المراكز فرصة نجاح أكبر وقوة في الطرح وعدم تشتت للجهود.
ويذكر الأستاذ خالد أنها تجربة قد يعتريها بعض المغامرة، وخصوصاً إذا كانت العناصر المشرفة من العناصر ذات الطرح التربوي السطحي،أو أن من يقوم عليها ويرشح من الإخوة الذين لا زالوا في بداية الترقي التربوي، وقد يكون لديهم ضعف في التأثير والقدوة، وإذا اختفت تلك السمات فأرى أنها تجربة رائدة.
المراكز الصيفية لها أثر كبير في المجتمع، لكننا لا نجد الدراسات والبحوث الأكاديمية التي اهتمت بها من ناحية شرعية وتربوية واجتماعية ونفسية ترى ما أسباب ذلك؟
يرى الأستاذ عبدالسلام أن ندرة البحوث أرجعه إلى عدة أسباب منها:
1- الجهات المختصة في الدراسات العليا لا أظنها توافق بسهولة على إجراء مثل هذه الدراسات والبحوث.
2- الجهل بواقع المراكز وأثرها يضعف حافزية الدارسين.
3- خشية مزعومة من إفصاح نتائج الدراسات عما لا يرتضي خروجه المعنيين بالمراكز( على أرفع وأدنى مستوى. )
ويرجع الأستاذ حمد سبب ذلك إلى أن المراكز وقتها محدود في الصيف فقط، وعدم وجود لجان متبعة لهذا الأمر وخطط استراتيجية كان سببا لغياب الدراسات.
بينما يرى الأستاذ خالد أن الأسباب هي عدم معرفة الدور الكبير الذي تقوم به المراكز أو جهل أو تجاهل المسؤولين عن أجواء المراكز الصيفية أيضاً عدم تبني القائمين عليها للبحوث والدراسات الأكاديمية وعدم حرصهم على إظهار الوجه الآخر للمراكز أمام الرأي العام مع تهميش الإعلام لتلك الحصون التربوية.
ما الوسائل الممكنة لتفعيل تبادل الخبرات بين المراكز على جميع المستويات الإدارية ابتداء من مدير المركز إلى مشرف الأسرة؟
يذكر الأستاذ عبدالسلام أن من الوسائل:(115/580)
1- عقد لقاءات بين كل فئة مشتركة في التخصص والعمل ولو حسب البيئات المتقاربة مكانياً .
2- إنشاء مواقع ومنتديات لتبادل الخبرات.
3- إنشاء مركز معلومات أو بنك أفكار وبرامج للمراكز.
4- إنشاء لجان استشارية جوالة على المراكز لتقديم ونقل الخبرات.
ويقترح الأستاذ خالد وجود ورش عمل مع لقاءات خارج أسوار المراكز، ووجود دورات متخصصة مع تبادل التجارب والخبرات السابقة.
كيف يمكن الاستفادة من مراكز ومعاهد التدريب والتطوير لتفعيل برامج تطوير وتدريب العاملين في المراكز من الجانب الإداري والتربوي؟
يذكر الأستاذ عبدالسلام أنه يمكن الاستفادة من معاهد ومراكز التدريب بـ:
1- عقد دورات متخصصة توافق احتياجات العاملين والإداريين.
2- وضع جوائز ومنح دورات للمتميزين من الطلاب والمشرفين.
3- طلب استشارات ودراسات.
4- إعداد حقائب تدريبية تناسب ميدان المراكز ( كيف تكون فريق عمل؟ كيف تنظم حفل؟ .... )
ـــــــــــــــــــ
تفعيل دور الفرد
مشرف النافذة
15/3/1425
ارسل تعليقك ...
تعليقات سابقة ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
تتجرع أمتنا في هذا الوقت العصيب أنواعاً من الذل والمهانة، في صور شتى، مادية ومعنوية في أكثر من منطقة من مناطق العالم الإسلامي، ولا نظن أنه مرت على الأمة أوقاتاً عصيبة كهذه ولم تر أسوأ مما تراه اليوم في أي حقبة من حقب التاريخ الإسلامي حين اجتمعت قوى الشر من اليهود والنصارى و الوثنيين والملحدين من الخارج ، وناصرهم المنافقون والعلمانيون وأصحاب البدع والأهواء وغيرهم من الداخل، حتى رميت الأمة بسهام عديدة عن قوس واحدة.
ومظاهر العجز والنكوص والانهزام والاستسلام لرغبات العدو والإذعان بتنفيذ أوامره بادية لا تحتاج إلى تدليل، وزاد على ذلك انتشار الفساد بأنواعه في قطاعات واسعة حتى أصبحت الأمة تابعة لا متبوعة، لا تملك من أمرها شيئاً.
في ظل هذه الأوضاع تحتاج الأمة إلى أبنائها ليبنوا مجدها ويعيدوا عزها ويصدوا هجمة أعدائها.(115/581)
ومن هنا تأتي أهمية طرح مثل هذه الموضوعات التي تسعى إلى تفعيل دور الفرد المسلم ليكون لبنة صلبة في هذا البناء العظيم كما فعّلها رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ وخلفاؤه الراشدون المهديون من بعده.
إن الأماني الوردية حول قيادة أمتنا للعالم تداعب أخيلة الكثيرين منا، وتدغدغ مشاعرهم، لكن لا أحد يسأل عن آليات تحقيق ذلك
* قبل الخطوة الأولى:
كثيراً ما يطرح الناس أسئلة تدور حول قدرتهم على العمل لهذا الدين:
فمنهم من يقول:أنا فرد مسلم واحد، ما الذي يمكن أن أعمله في مواجهة كل هذه القوى؟
ومنهم من يقول: هل يمكن للفرد المسلم أن يمارس دوراً مؤثراً، وفاعلاً في ظل هذا الواقع الأليم؟
يجيب على ذلك الشيخ ناصر محمد الأحمد فيقول: "إن إحداث التغيير من الأسوأ إلى الأحسن يرتبط بمدى فهم الفرد المسلم لأهمية دوره في هذا الإطار، وإن الدور السلبي الذي يمارسه كل فرد من أفراد المسلمين،إنما يعود في أساسه إلى الجهل المطلق، لما يوجبه الإسلام على الفرد المسلم من مسؤولية تجاه مجتمعه.
لقد وردت أحاديث كثيرة تحدد دور الفرد المسلم، في وسط المجتمع المسلم، وترتبط معرفة هذا الدور بفهم هذه الأحاديث،وربطها بالواقع، والتفاعل مع مدلولها العام الشامل، ثم إنزالها على حال الأمة في هذا الزمان".
ويقول الشيخ عبدالرحمن المحمود: "الجواب على ذلك من ثلاثة أوجه:
أولا: أن الله لا يكلف نفساً إلا وسعها، فأنت بحسب ما أتاك الله _سبحانه وتعالى_ لا يكلفك الله غير ذلك، وهذه قاعدة شرعية ربنا _سبحانه وتعالى_ هو الذي شرعها لك ولغيرك، فهل أنت قمت بما أوجب الله _سبحانه وتعالى_ عليك مما تستطيعه، اسأل نفسك وانظر في حالك.
ثانياً: ينبغي للمسلمين عموماً أن يعلموا أن من وسائل الشيطان التي تدخل إليهم وهم قد لا يشعرون بها وسيلة التيئيس والقنوط، ويتخذ الشيطان لذلك عدداً من الأسباب والأوهام، ومنها ما ورد في السؤال: أنا لا أستطيع، أنا واحد فرد، ثم ينتهي الأمر بالشاب إلى القعود وترك العمل، فنقول: هذا من الشيطان، هذا التيئيس والتوهم أنك لا تستطيع أن تنصر هذا الدين أنما هو من وساوس الشيطان، فعليك ألا تقنط من رحمة الله ومن نصر الله _سبحانه وتعالى_ لهذا الدين، وأن توقن يقيناً أن الله _تبارك وتعالى_ ناصر هذا الدين، فيجب أن يكون لديك أمل عظيم في أن كل ابتلاء يصيب هذه الأمة بشكل جزئي أو بشكل كبير فإن لله _سبحانه وتعالى_ من وراء ذلك حِكماً عظيمة، وأن مستقبل هذا الدين الإسلامي أخبر عنه رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ بأن الله ناصر هذا الدين،، وكل المبشرات تؤكد قرب انتصار هذا الدين فكن أنت من أنصار هذا الدين.
ثالثاً: نقول لهؤلاء الذي يسألون عن كيفية نصر الدين: انظروا إلى من حولكم ممن وفقهم الله _سبحانه وتعالى_ للعمل لدينه. لا شك أن المتأمل يجد أنواعاً وألواناً من(115/582)
الشباب ذكورا وإناثاً _وفقهم الله سبحانه وتعالى وسددهم_ قد نذروا أنفسهم لخدمة هذا الدين ونفع الله _سبحانه وتعالى_ بهم نفعاً عظيماً.
وهؤلاء الشباب أنواع منهم إمام المسجد نفع الله به الحي، ومنهم خطيب الجامع نفع الله به الحي، ومنهم المعلم نفع الله به طلابه، ومنهم الموظف نفع الله به زملاءه، ومنهم التاجر نفع الله _سبحانه وتعالى_ به أمة الإسلام بما يبذل، ومنهم، ومنهم، ومنهم، حتى الشابات من أخواتنا المسلمات كم منهن من نفع الله _سبحانه وتعالى_ بها في دعوة و تربية.
فأنت تشاهد أن هؤلاء ينصرون هذا الدين.. فكن معهم انصر هذا الدين، وخذ بنصيبك من هذا الفضل ولو القليل.. المهم أن تخطو إلى الأمام وألا يصيبك اليأس، وأن تنصر هذا الدين على قدر طاقتك ،
ولا شك أن من تأمل فسيجد أن مجالات نصر هذا الدين كثيرة جداً، ورسول الله _صلى الله عليه وسلم_ أخبرنا عن شعب الإيمان "الإيمان بضع وسبعون شعبة" فهذه الشعب التي تزيد على السبعين كلها مجالات بعضها لازم وبعضها متعدٍ، بعضها عبادة محضة وبعضها عبادة وطاعة يتعدى نفعها إلى الآخرين، وكل ذلك _والحمد لله_ مجالات واسعة لمن يريد أن يعمل لهذا الدين، وأمة الإسلام _والحمد لله_ أمة ثرية برجالها وشبابها وعلمائها ودعاتها إلى الله _سبحانه وتعالى_ ويكفي في أمة الإسلام أنها إنما تعمل لدينه، وأنها إنما تعبد ربها وتتوكل عليه، وأنها إنما تجاهد في سبيله فيكفيها هذا عزاً ونصراً حتى لو لم يتحقق لها في هذه الدنيا شيء، فإن ما عند الله خير وأبقى.
هل العمل لهذا الدين من خصوصية العلماء؟
قد يتبادر إلى ذهن البعض أن الدعوة إلى الله مقتصرة على العلماء فقط، ولكن الشيخ حمد حسن رقيط يفند هذه الشبهة مستدلاً على ذلك بما جاء عن الله _جل وعلا_ ورسوله _صلى الله عليه وسلم_ فيقول: "إذا كانت الدعوة إلى الله واجبة على كل فرد سواءً كان ذكراً أو أنثى، كما قال _تعالى_: "قل هذه سبيلي أدعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين"، فمعنى هذا أنها لا تختصّ بالعلماء فقط وإن كان العلماء هم المختصون بتفاصيل الدعوة وأحكام الشريعة وهم قدوة الداعين إلى الله... إلا أنه يتوجّب على كل فرد المسلمين أن يدعو إلى الله بما يعلم من أمر الله؛ لقوله _صلى الله عليه وسلم_: " بلّغوا عني ولو آية " رواه البخاري.
ويوضح أيضاً أن العلم يتجزأ وكل إنسان يعلم شيئاً ويجهل أشياء، فمن يعلم بمسألة ويجهل الأخرى يجب عليه أن يبلغ ما يعلم، فيقول: "إن البصيرة والعلم إذا كانت من شروط الدعوة إلى الله ، فإن هذا الشرط ليس على إطلاقه؛ لأن العلم ليس شيئاً واحداً لا يتجزأ وإنما هو بطبيعته يتجزأ، فمن علم مسألة وجهل أخرى فهو عالم بالأولى وجاهل بالثانية، وعليه واجب التبليغ فيما يعلم".
ويوضح الشيخ خالد الدرويش أن المسلم إذا استشعر أهمية التكاليف المناطة به فسوف يبادر ذاتياً للعمل، فيقول: "إن أول دوافع المبادرة للعمل لهذا الدين التي يجب أن يتذكرها الداعية المسلم هو أن يعلم:(115/583)
أولاً: أن مناط التكليف فردي.
ثانياً: أن كل فرد سيحاسب يوم القيامة فرداً.
ثالثاً: وأنه "لا تزر وازرة وزر أخرى".
رابعاً: وأن الحساب بالثواب والعقاب لا يكون إلا فردياً".
* معرفة خصائص الفرد بداية الطريق:
لاشك أن لكل فرد خصائصه التي يتميز بها عن غيره، وهذا يدعونا إلى معرفتها قبل تفعيل دوره مما يسهل لنا كيفية التعامل مع قدراته، يقول الشيخ سلمان العودة : "إن الرجال الذين تحتاجهم الدعوة لابد أن يكونوا متميزين بخصائص فطرية جُبلوا عليها، تناسب المهمة التي خلقوا من أجلها وأخرى مكتسبة حصّلوها بتكميل أنفسهم، وأخذوها بالجد والحزم إلى دعوة الإسلام ".
ويشير الشيخ إلى أن الإسلام لا يهدف إلى إلغاء الخصائص الفطرية الموجودة عند الناس، بل يعمل على توجيهها توجيهاًَ صحيحاً، والاستفادة منها، فهذا عمر بن الخطاب _رضي الله عنه_ الذي كان قوياً شديداً في الجاهلية، وكان كثير من القرشيين يهابه ويخشاه من يوم أن أسلم تحولت هذه القوة والشدة الموجودة فيه إلى شجاعة في سبيل الله عز وجل، وإلى جرأة في مواجهة الكفار والمشركين، وهذا ما يذكره لنا المصنِّفون في سيرته _رضي الله عنه_.
فلابد من استغلال الخصائص النفسية والإفادة منها وتنميتها وتوجيهها التوجيه الصحيح.
ويركز الشيخ سلمان على الجوانب الإيجابية في النفس البشرية، فيقول: "وكما نعلم جميعاً أنه لا يكاد يوجد إنسان – مهما يكن شريراً – إلا و فيه قدر من الخير، وقد يكون هذا القدر من الخير مغطى بطبقة من الانحراف أو الفساد، بحيث إن الإنسان الذي يقابله لأول وهلة يتصور أنه مجموعة من الرذائل تمشي على الأرض، وأنه لا خير فيه أبداً، لكن لو وُفق هذا الإنسان إلى يد حانية تعمل على إزالة الغبار والانحراف الموجود على الفطرة لتكشّفت الفطرة عن خصائص جيدة محمودة عنده ".
ويقول أيضاً: "ولا شك أننا نجد أن كثيراً من الناس – وخاصة الشباب – يتمتعون بطاقات كبيرة جداً: طاقات جسمية وعقلية.... وغيرها، فحين لا يوجد من يستثمر هذه الطاقات فإنها سوف تذبل أو تذهب إلى مجالات ليست محمودة ؛ فتضيع في الركض وراء الشهوات وإشباع الغرائز، أو قضاء الأوقات مع الأصدقاء المنحرفين أو تضيع بأي صورة من الصور. لكن التربية الإسلامية الصحيحة أوجدت المجالات التي يمكن استثمار هذه الطاقات من خلالها".
وبين الشيخ خالد الدرويش بعض الصفات التي يحسن بالداعية والمربي أن يتخلق بها، فيقول: "يحسن بالفرد أن يكون متصفاً ببعض الصفات المثالية، فمن صفاته أنه:
• مخلص العمل لله _تعالى_.
• صحيح العقيدة.
• مثقف الفكر.
• قوي الجسم.(115/584)
• منظم في شؤونه.
• حريص على وقته ونافعاً لغيره.
• نشيط في دعوته.
• يحمل هموم أمته بين جوانحه.
• لا يهدأ من التفكير في مشاريع الخير والدعوة.
• غدوه ورواحه وحديثه وكلامه لا يتعدى الميدان الذي أعد نفسه له.
• يشغل الناس بهموم دعوته.
• له جزء يومي من القرآن.
• يذكر الله في كل أحيانه.
• بيته وأهله مسخرون لخدمة الإسلام وأهله.
• له في كل سهم غنيمة.
• محب للقراءة والاطلاع.
• له مشاركة فعالة مع مؤسسات الإسلام.
• مخصص جزءًً من ماله لأعمال البر والدعوة.
• مهتم بأهله إيماناً ودعوياً وثقافياً.
• يعيش عيشاً جماعياً مع إخوانه المؤمنين.
* وسائل تفعيل الفرد المسلم:
يرى الدكتور / عبدالكريم بكار أن رسم الأهداف هو من أهم الوسائل المعينة لتفعيل دور الفرد، بل وسبيل للتأثير على الآخرين، فيقول:
" إن الأماني الوردية حول قيادة أمتنا للعالم تداعب أخيلة الكثيرين منا، وتدغدغ مشاعرهم، لكن لا أحد يسأل عن آليات تحقيق ذلك، ولا عن الإمكانات المطلوبة للسير في طريقه!
إني أعتقد أن هناك حقيقة أساسية غائبة عن أذهان الكثيرين منا، هي أننا لا نستطيع أن نوجد مجتمعًا أقوى من مجموع أفراده؛ ولذا فإن النهوض بالأمة يقتضي على نحوٍ ما أن ينهض كل واحد منا على صعيده الشخصي، وما لم نفعل ذلك، فإن الغد لن يكون أفضل من اليوم".
ويضيف قائلاً: "إن رسم الأهداف نوع من مدِّ النظر في جوف المستقبل، وإن الله ــ جل وعلا ــ يحثنا على أن نتفكر في الآتي، ونعمل له:" يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون".
إن المسلم الحق لا يكون إلا مستقبليًا، ولكننا بحاجة إلى أن نعمم روح الالتزام نحو الآخرة على مسلكنا العام تجاه كل ما يعنينا من شؤون وأحوال".
ثم يبين أهمية وجود الأهداف في حياة الفرد، فيقول: "من الأدوات الأساسية في تحسين وضعية الفرد أن يكون له هدف يسعى إلى تحقيقه، ونرى أن حيوية وجود هدف واضح في حياتنا تنبع من اعتبارات عديدة، أهمها:
1 - إن كل ما حولنا في تغير دائم، والمعطيات التي تشكل المحيط الحيوي لوجودنا لا تكاد تستقر على حال، وهذا يجعل كل نجاح نحققه معرضاً للزوال؛ ووجود هدف أو أهداف في حياتنا، هو الذي يجعلنا نعرف على وجه التقريب ما العمل الذي سنعمله(115/585)
غدًا، كما أنه يساعد على أن نتحسس باستمرار الظروف والأوضاع المحيطة؛ مما يجعلنا في حالة دائمة من اليقظة، وفي حالة من الاقتدار على التكيف المطلوب.
وقد جرت عادة الكثيرين منا أن يسترخوا حين ينجزون عملاً متميزًا؛ مما يضعهم على بداية الطريق إلى أزمة تنتظرهم. ولذا فإن الرجل الناجح، هو الذي يسأل نفسه في فورة نجاحه عن الأعمال التي ينبغي أن يخطط لها، ويقوم بإنجازها؛ فالتخطيط هو الذي يجعل أهمية المرء تأتي قبل الحَدَث، أما معظم الناس فإنهم لا يفكرون إلا عند وجود أزمة، ولا يتحركون إلا حين تحيط بهم المشكلات من كل جانب، أي يستيقظون بعد وقوع الحدث، وبعد فوات الأوان!
2 - إن وعي كثيرين منا بـ (الزمن) ضعيف، ولذا فإن استخدامنا له في حل مشكلاتنا محدود.
وحين يجتمع الناس برجل متفوق فإنهم يضعون بين يديه كل مشكلاتهم، ويطلبون لها حلولاً عاجلة متجاهلين عنصر (الزمن) في تكوينها وتراكمها، وطريقة الخلاص منها، ووجود هدف في حياة الواحد منا يجعل وعيه بالزمن أعظم، ويجعله يستخدمه في تغيير أوضاعه.
إذا سأل كل واحد منا نفسه: ماذا بإمكانه أن يفعل تجاه جهله بعلم من العلوم - مثلاً - أو قضية من القضايا؟ فإنه يجد أنه في الوقت الحاضر لا يستطيع أن يفعل أي شيء يذكر تجاه ذلك، أما إذا سأل نفسه: ماذا يمكن أن يفعل تجاهه خلال خمس سنين؟ فإنه سيجد أنه يستطيع أن يفعل الكثير، وذلك بسبب وجود خطة، واستهداف للمعالجة، وهما دائماً يقومان على عنصر الزمن.
إني أعتقد أن كثيراً من الخلل المنهجي في تصور أحوالنا، وحل أزماتنا، يعود إلى ضيق مساحة الرؤية، ومساحة الفعل معًا، وذلك كله بسبب فقد النظر البعيد المدى.
3 - إن كثيرًا من الناس يظهرون ارتباكًا عظيمًا في التعامل مع (اللحظة الحاضرة)؛ وذلك بسبب أنهم لم يفكروا فيها قبل حضورها، فتتحول فرص الإنجاز والعطاء إلى فراغ قاتل ومفسد، وهذا يجعلنا نقول: إننا لا نستطيع أن نسيطر على الحاضر ونضبط إيقاعه، ونستغل إمكاناته، إلا من خلال مجموعة من الآمال والأهداف والطموحات، وبهذا تكون وظيفة الهدف في حياتنا هي استثمار اللحظة الماثلة على أفضل وجه ممكن.
إني أتجرأ وأقول: إن ملامح خلاص جيلنا، والجيل القادم ــ على الأقل ــ من وهن التخلف والانكسار قد تبلورت في أمرين: المزيد من الالتزام بالمنهج الرباني، والمزيد من التفوق، ولا نستطيع أن نجعل هذين الأمرين حقيقة واقعة في حياتنا من غير تحديد أهداف واضحة.
ويرى الشيخ خالد الدرويش أن من أهم وسائل تفعيل دور الفرد المسلم في مجتمعه أو أمته أن يوجد لديه ما يسمى بالذاتية الدعوية، وهي كما يعرفها:
"انطلاقة المؤمن ومسارعته للعمل الدعوي بحافز ذاتي من نفسه للعمل لهذا الدين دونما طلب من أحد أو متابعة، بل هو السعي لطلب الأجر والمثوبة من الله".
ويبين الدرويش هذه الوسائل، فيقول:
أولاً: التميز الإيماني والتفوق الروحاني:(115/586)
لابد أن ندرك أن أول أساسيات المبادرة والعطاء حسن الصلة بالله _تعالى_، وعظيم الإيمان به، وجميل التوكل عليه، والخوف منه، وهكذا كان السلف الصالح عندما أخلصوا لله كان سمتهم ورؤيتهم موعظة مؤثرة، وأن الواحد منهم ليقول الكلمة يهدي بها الفئام من الناس فقوة الصلة بالله تجلب التوفيق والتأثير في الآخرين كما كان الرجل الصالح محمد بن واسع إذا رؤي ذُكر الله.
ثانياً: الزاد العلمي والرصيد الثقافي:
إن التميز الإيماني لابد أن يعضده الجانب العلمي لذا علينا أن نفهم الإسلام بشموله ونقف على حقائقه وأحكامه ونعنى بقواعده وأصوله، وأن نتدارسه من مصدريه الكتاب والسنة "فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك..."
فالإسلام له خصائص تميزه عن غيره فينبغي للمؤمن الداعية أن يتعرف عليها ويستشعرها في نفسه شعوراً بعظمة دينه وزيف ما سواه ليتحرك من أجله ويكون الدين كله لله.
فإذا توافر للداعية رصيد علمي مناسب وزاد ثقافي جيد كان ذلك عوناً له في دعوته، ورافداً من روافد نجاحه ومبادرته الذاتية.
ثالثاً: معرفة فقه الدعوة والعمل للإسلام:
لابد ابتداء معرفة الدافع للحركة: لمن يتحرك الداعية؟؟ فمتى اتضح الهدف من التحرك، وهو: رضى الله ونصرة دينه ثم الجنة زادت الذاتية الدعوية والعطاء فوضوح الهدف من شأنه أن يجعل الداعية لا يهدأ حتى يحقق الهدف.
رابعاً: استشعار الأجر:
وهذه مسألة ضرورية وعامل رئيس في الاندفاع نحو العمل والدعوة الذاتية، ولعل هذا هو السر في تبيان أجر بعض العبادات حتى يكون دافعاً للعمل والعطاء، فإذا عرف صاحب الذاتية أن كل حركة وسكنة يتحركها المهتدي، وكل تسبيحة أو ركعة أو سجدة يفعلها، وكل إحسان يجريه الله على يديه فإنما يكون في ميزان أعماله، وأن له مثل أجره مصداقاً لقول رسول الله _صلى الله عليه وسلم_: "الدال على الخير كفاعله" فإنه لا شك سيتحرك الحركة الذاتية التي تجلب له هذا الخير الذي يتنامى يوماً بعد يوم.
خامساً: النظر في سيرة الرسول _صلى الله عليه وسلم_ وأحوال السلف والدعاة مع العمل للإسلام:
إن المتتبع لسيرة سيد الدعاة _عليه الصلاة والسلام_ وأحوال السلف الصالح والدعاة مع العمل للإسلام له دور كبير في إشعال الهمة واكتساب الخبرة وإيقاظ الحماسة في قلب المرء المسلم لاستغلال وقته وجهده للعمل لنصرة هذا الدين.
سادساً: استشعار أن الجنة محفوفة بالمكاره:
لذا يتطلب منه طاقة وهمة عالية تتناسب مع ذلك المطلب العالي، وهو الجنة فإذا عرف المسلم هذا سوف يجعله يتحرك التحرك الذاتي للوصول إلى الهدف قال الله _تعالى_: "فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون"
سابعاً: حمل هم الدعوة للعمل للإسلام:(115/587)
إن انتمائي للإسلام يجب أن يجعل مني صاحب رسالة وهم في الحياة، ويفرض عليّ كذلك أن أعمل ليكون المجتمع الذي أعيش فيه مسلماً ملتزماً بقوانين الله _تعالى_ إنه لا يكفى أن أكون مسلماً وحدي دونما اهتمام بمن حولي.
ثامناً: المعايشة الجماعية:
من أهم عوامل اكتساب الذاتية الفاعلة: المعايشة الدعوية، فالجماعية دافع للحركة وتوظيف الداعية لملكاته وجهوده وطاقاته في خدمة دعوته ونشر دينه بعكس الفردية والانعزالية، فإن المرء يشعر غالباً معها بالفتور والكسل.
تاسعاً: الدعاء:
إن العمل لهذا الدين هو هبة ومنحة من الله يمن بها على من شاء من عباده، ومادام الأمر كذلك فالجأ أخي المسلم إلى ربك ومولاك، واسأله بقلب خاضع ولسان صادق وجوارح خاشعة فهو المسؤول أن يقوي إرادتنا ويعلي همتنا وحركتنا لهذا الدين، قال الفاروق _رضي الله عنه_ في دعائه: "اللهم إني ضعيف عن العمل بطاعتك فارزقني النشاط فيها"
* قواعد قبل الانطلاقة:
ويبين الشيخ حمد حسن رقيط أن هناك جملة من القواعد تعين الداعية على انطلاقته في دعوة الناس وتعطيه التصور الصحيح للخطوات التي ينبغي أن يسلكه، فقبل أن يشرع في دعوته للمجتمع ينبغي له أن يبدأ بنفسه فيصلحها حتى يكون القدوة الحسنة، ثم يمضي إلى تكوين بيته وإصلاح أسرته، ثم بعد ذلك يتوجه إلى المجتمع وينشر الخير فيه ويقاوم الشر والرذائل بالحكمة ويشجع مكارم الأخلاق.
* خطوات على الطريق:
ويذكر أيضاً أنه في حال مباشرة الدعوة لا بد للداعية من اتخاذ الخطوات التالية:
1. تشخيص الداء ومعرفة الدواء؛ لأن الداعية المسلم طبيب الأرواح والقلوب، وعليه أن يعطي كل حالة ما يناسبها من علاج، فدواء الكفر الإيمان بالله ، ودواء المعاصي التوبه والإكثار من الطاعات، ودواء الجهل العلم والتعلم.
2. دراسة نفسية الرأي العام لاختلاف ميول الناس ومستوياتهم الثقافية والعلمية ليخاطبهم على قدر عقولهم.
3. ترغيب الناس في الخير وترهيبهم من ترك الاستجابة لهذا الخير.
4. إزالة الشبهات والشكوك التي تمنع من قبول الحق.
5. معرفة القواعد والضوابط التي يجب مراعاتها في الدعوة حتى يكون الداعية مُسدداً في دعوته".
ويُحرص الشيخ إبراهيم الفارس على موضوع دراسة نفسية الناس، فيقول:
"اعلم أن الناس متباينون في طبائعهم، مختلفون في مداركهم، في العلم والفهم، في الأمزجة والمشاعر، مختلفون في الميول والاتجاهات، مما يدعو رجل العلم والدعوة إلى تخير المدخل، بل المداخل المناسبة لتلك النفوس المختلفة والعقول المتباينة.
نعم إن فيهم الغضوب والهادئ ، وفيهم المثقف والأمي، وفيهم الوجيه ومن هو دونه، فعلى الداعية الحصيف أن يراعي هذه الفروقات فينزل الناس منازلهم، ويخاطب الناس بما يعقلون، بل إن ثمة كلمة رائعة لعلي بن أبي طالب _رضي الله تعالىعنه_،(115/588)
يصف فيها القلوب، كل القلوب بأنها وحشية تحتاج إلى تأليف وترويض، فيقول: القلوب وحشية فمن تألفها أقبلت عليه، وصاحب الترويض الناجح هو الذي يحرص على تلمس الجانب الطيب في نفوس الناس، ويقصد في شيء من العطف على أخطائهم وغفلاتهم، مقروناً ذلك ببعض العناية بهمومهم واهتماماتهم، وسوف يصل إلى مصدر النبع الخير في نفوسهم، وحينئذ يمنحونه حبهم وثقتهم، فـ" لئن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من أن يكون لك حمر النعم" (رواه البخاري)".
* صور من البرامج الدعوية الفردية:
يذكر الأستاذ خالد الدرويش بعضاً من الوسائل الدعوية التي يمكن أن يؤديها الفرد بشكل فردي، فمن ذلك:
• التفكير فيما ينفع الدعوة والتخطيط لها:
إن أول خطوة للعمل الجاد هي التفكير لذا يلزم على الداعية أن تكون له جلسة تفكر لإيجاد الجديد من الوسائل الدعوية أو تطوير للموجود.
• ومن أهم الوسائل الدعوية المعنوية التي يمكن أن يباشرها الداعية إلى الله: الدعاء للمدعو بأن يهديه الله _تعالى_ ويشرح صدره ويفتح عليه وهذا أسلوب قرآني، قال _تعالى_: "ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين"، وأسلوب نبوي قال _صلى الله عليه وسلم_ في دعائه شفقة على أمته: "اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون"
• تشجيع كافة أعمال البر والخير: ولا سيما في مجال الدعوة ونشر العلم وتقديم الخدمات.
• إظهار المحبة والمودة:
في المقابلة والمهاتفة والدعاء للشخص المقابل بأدعية تؤثر في نفسه، مثل: بلغك الله أعلى منازل الجنة، فهي وسيلة للتآلف وزيادة المودة.
• طرح مشاريع خيرية دعوية :
في المجالس العامة أو الخاصة، مثل: كفالة داعية وتفطير صائم وكفالة يتيم وبطانية الشتاء ووقف خيري، وفي هذا الطرح فوائد:1- دعمها بالدعاء. 2- دعمها مادياً. 3- معرفة الناس لها وتفاعلهم معها، ونشر الحس الدعوي لدى المدعوين.4- إشادة بالعاملين وتثبيت لهم.
• الهدية الهادفة:
1- مثل: إهداء كتاب أو شريط ، أو اشتراك في مجلة أو مصحف مكتوب عليه اسم المُهدَى إليه. 2-سد النقص لدى المهدى إليه فإن كان في حاجة إلى مدفأة مثلاً أهديت إليه فهذا أولى؛ لأن في ذلك تلمس لحاجة الأخ.
• تخصيص وقت دعوي ساعة في الأسبوع:
مثلاً لزيارة الأرحام والجيران، وأن تكون الزيارة هادفة بمعنى أن يضع الداعية هدفاً تربوياً يحققه من خلال الزيارة.
• الدلالة على كل خير للمسلمين (الكلمة الطيبة):
هي التي تؤدي إلى العمل الصالح، قال _تعالى_: "إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه" فالكلمة تثمر لقائلها عملاً صالحاً في كل وقت. *فالدلالة والكلمة(115/589)
الطيبة من الداعية قد تنشئ دعوة، وقد تبني مؤسسة خيرية، وقد ينقذ الله بها أقواماً أو يعمر بها نفوساً، بل قد يحيي بها أقواماً من السبات، وما على الداعية إلا التبليغ ولا يترك الفرصة تفوت من يديه لعل الله _تعالى_ يكتب له أجر الكلمة التي أعطاها ولا يلقي لها بالاً وترفعه الدرجات.
صور للدلالة على الخير : فلا يفوت على الداعية فرص الكلمة المؤثرة البليغة، مثل: 1- رفيق السفر في القطار أو الطائرة. 2- اللقاء العابر على وليمة أو مناسبة. 3- في السوق وعند الشراء. 4- في المسجد بعد الصلوات. 5- عند التعارف مع الغير في السفرات والخلوات. 6- دعوة الغير لسماع محاضرة أو ندوة. ((إن قول الكلمة الطيبة بهذه النيات ظاهرة من ظواهر العطاء الذاتي والإيجابي في حياة الداعية)).
• استثمار الفرص:
وأقصد بذلك توظيف هذه الفرصة في خدمة الدعوة، مثل: 1- المناسبات الإسلامية: رمضان – الحج – الأعياد.... إلخ. 2- الأفراح – والأتراح – المجالس العائلية العامة والخاصة. 3- السفر كالمرور بقرية على الطريق العام لتوزيع الكتيبات والأشرطة ... إلخ، فالداعية الناجح هو من يمتلك صفة استغلال الفرصة وتوظيفها في خدمة الدعوة، بل ويصنع الفرصة ويوظفها توظيفاً سليماً في خدمة الدين.
• دعوة فرد بعينه لرفع درجة التزامه (الدعوة الفردية).
• المشاركة في المجلات الإسلامية، وذلك بدعمها معنوياً بالمراسلة والتشجيع أو مادياً بالاشتراك فيها.
• تقوية العلاقة بالمؤسسات الدعوية والإغاثية والمشاركة معها بقدر الإمكان، وخاصة في المواسم كرمضان... إلخ.
• التسخير:
وأقصد بذلك: توظيف الداعية لطاقته وإمكاناته وما آتاه الله من النعم في خدمة دعوته، مثل: 1- النفس 2- المال 3- الوقت 4- التفكير...إلخ.
• الحوار الهادف:
وهو الذي يكون بين اثنين أو أكثر حول قضية من القضايا بهدف إحقاق الحق والدفاع عنه بالحجة والبرهان.
• التزام الإمامة في أحد المساجد
لتفعيل رسالة المسجد ودعوة أهل الحي للهداية، قال _تعالى_: "واجعلنا للمتقين إماماً"
• التعاون الدعوي مع الآخرين
لنشر الدعوة الإسلامية بأقصر وقت ممكن "وتعاونوا على البر والتقوى".
• المساهمة في دعم نشاطات الدعوة مادياً ومعنوياً.
• التخطيط بجدية لبرامج الدعوة:
وضع خطة سنوية / شهرية / أسبوعية / يومية / مناسبات.
• على الأخ الداعية الفعال أن يسعى لتصميم منزله دعوياً،
وذلك بعمل جملة من الأمور:
- أن يكون قريباً من المسجد.(115/590)
- أن تكون واحدة من غرف البيت إن أمكن مصلى لا تستخدم إلا لذلك.
- أن يجعل واحدة من غرف المنزل مكتبة عامة.
- التزام الشخصية الإسلامية في المنزل.
- نشر الآداب والأعراف الإسلامية قي البيت.
- وضع طاقات منزله لخدمة الدعوة.
- تأثير البيت المسلم على ما حوله، وذلك بنشر الدعوة بينهم.
• استثمار همة الناس في الدعوة، مثل:
من كان ذا غنى ومال وفير يستثمر للمشاركة في أعمال الخير العامة، مثل: بناء المساجد، وإقامة المنشآت النافعة، ونحو ذلك.
• المبادرة الذاتية لفتح أنشطة دعوية:
مثل: دورية الحي، نشاط مدرسي، تفعيل دور المسجد، نشاط عائلي هادف".
* قبل الوداع:
هذه إضاءات في طريقك...
لطرق باب الدعوة إلى الله...
ولتكسر حاجز الخوف من وضع قدمك على الأرض لتعلن الخطوة الأولى في الدعوة إلى الله...
* أخيراً..
يا أخي ... اقلب قلمك وامح هذه الكلمة للأبد (كيف أعمل لِوَحدي...؟)
وصلى الله وسلم على نبينا محمد....
ـــــــــــــــــــ
المراهقة: التعامل مع المرحلة وفق النظرية الإسلامية
مشرف نافذة قضايا وحوارات
24/2/1425
ارسل تعليقك ...
تعليقات سابقة ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
تطرقنا معكم في الحلقة السابقة من هذه القضية لعدة جوانب، وهي:
مفهوم المراهقة
مراحل المراهقة
علامات بداية مرحلة المراهقة، وأبرز خصائصها وصورها الجسدية والنفسية
مشاكل المراهقة
أبرز المشكلات والتحديات السلوكية في حياة المراهق
طرق علاج المشاكل التي يمر بها المراهق
ونستكمل معكم عرض باقي الجوانب في تلك القضية، وهي كالتالي:
* كيف عالج الإسلام مرحلة المراهقة؟(115/591)
يقول الدكتور أحمد المجدوب (المستشار بالمركز القومي للبحوث الاجتماعية بالقاهرة)، أن الرسول _صلى الله عليه وسلم_ قد سبق الجميع بقوله: "علموا أولادكم الصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر، وفرقوا بينهم في المضاجع".
ويدلل المجدوب بالدراسة التي أجراها عالم أمريكي يدعى " ألفريد كنسي" بعنوان " السلوك الجنسي لدى الأمريكيين"، والتي طبقها على 12 ألف مواطن أمريكي من مختلف شرائح المجتمع، والتي أثبتت أن 22 % ممن سألهم عن أول تجربة لممارسة الجنس قالوا: إن أول تجربة جنسية لهم كانت في سن العاشرة، وأنها كانت في فراش النوم، وأنها كانت مع الأخ أو الأخت أو الأم !!
ويستطرد المجدوب قائلاً: " وانتهت الدراسة التي أجريت في مطلع الأربعينيات، إلى القول بأن الإرهاصات الجنسية تبدأ عند الولد والبنت في سن العاشرة"، ويعلق المجدوب على نتائج الدراسة قائلا: " هذا ما أثبته نبينا محمد _صلى الله عليه وسلم_ قبل ألفريد كنسي بـ 14 قرناً من الزمان ! ولكننا لا نعي تعاليم ديننا ".
ويقول المجدوب: " لقد اتضح لي من خلال دراسة ميدانية شاملة قمت بها على عينة من 200 حالة حول (زنا المحارم) الذي أصبح منتشراً للأسف، أن معظم حالات زنا المحارم كانت بسبب النوم المشترك في نفس الفراش مع الأخت أو الأم أو...، وهو ما حذرنا منه الرسول _صلى الله عليه وسلم_ بقوله: " وفرقوا بينهم في المضاجع".
اهتم الإسلام بالصحة النفسية والروحية والذهنية، واعتبر أن من أهم مقوماتها التعاون والتراحم والتكافل وغيرها من الأمور التي تجعل المجتمع الإسلامي مجتمعاً قوياً في مجموعه وأفراده
واستطرد المجدوب يقول: " البيانات الصادرة عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء تقول: إن هناك 20 % من الأسر المصرية تقيم في غرفة واحدة، وأن كل 7 أفراد منهم ينامون متجاورين! ".
ويشير المجدوب إلى أن دراسته عن زنا المحارم انتهت إلى نتيجة مؤداها أن أحد أهم الأسباب لدى مرتكبي جرائم زنا المحارم هو الانخفاض الشديد في مستوى التدين، والذي لم يزد على أفضل الأحوال عن 10 %، هذا طبعاً عدا الأسباب الأخرى، مثل: انتشار الخمر بين الطبقات الدنيا والوسطى، و اهتزاز قيمة الأسرة، و الجهل، والفقر، و....
ويرجع المجدوب هذه الظاهرة إلى "الزخم الجنسي وعوامل التحريض والإثارة في الصحف والمجلات والبرامج والمسلسلات والأفلام التي يبثها التلفاز والسينما والدش فضلاً عن أشرطة الفيديو"، منبهاً إلى خطورة افتقاد القدوة وإلى أهمية " التربية الدينية في تكوين ضمير الإنسان".
ويضيف المجدوب أنه " وفقاً لآخر بيان صادر عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء بمصر يؤكد أن هناك 9 مليون شاب وفتاة من سن 20 سنة إلى 35 سنة لا يستطيعون الزواج، كما أن هناك 9 مليون آخرين ممن تعدو سن 35 سنة قد فاتهم قطار الزواج وأصبحوا عوانس !!!
* النظرية الإسلامية في التربية:(115/592)
وتقوم النظرية الإسلامية في التربية على أسس أربعة،هي: ( تربية الجسم، وتربية الروح، وتربية النفس، وتربية العقل)، وهذه الأسس الأربعة تنطلق من قيم الإسلام، وتصدر عن القرآن والسنة ونهج الصحابة والسلف في المحافظة على الفطرة التي فطر الله الناس عليها بلا تبديل ولا تحريف، فمع التربية الجسمية تبدأ التربية الروحية الإيمانية منذ نعومة الأظفار.
وقد اهتم الإسلام بالصحة النفسية والروحية والذهنية، واعتبر أن من أهم مقوماتها التعاون والتراحم والتكافل وغيرها من الأمور التي تجعل المجتمع الإسلامي مجتمعاً قوياً في مجموعه وأفراده، وفي قصص القرآن الكريم ما يوجه إلى مراهقة منضبطة تمام الانضباط مع وحي الله _عز وجل_، وقد سبق الرسول _صلى الله عليه وسلم_ الجميع بقوله:"لاعبوهم سبعًا وأدبوهم سبعًا وصادقوهم سبعًا، ثم اتركوا لهم الحبل على الغارب".
و قد قدم الإسلام عدداً من المعالم التي تهدي إلى الانضباط في مرحلة المراهقة، مثل:" الطاعة: بمعنى طاعة الله وطاعة رسوله _صلى الله عليه وسلم_ وطاعة الوالدين ومن في حكمهما، وقد أكد القرآن الكريم هذه المعاني في وصية لقمان الحكيم لابنه وهو يعظه قال: "يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ" (لقمان: من الآية13).
أيضاً هناك:" الاقتداء بالصالحين، وعلى رأس من يقتدي بهم رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ فالإقتداء به واتباع سنته من أصول ديننا الحنيف، قال الله _عز وجل_: " لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً " [الأحزاب:21].
كما اعتبر الإسلام أن أحد أهم المعالم التي تهدى إلى الانضباط في مرحلة المراهقة:" التعاون والتراحم والتكافل؛ لأنه يجعل الفرد في خدمة المجتمع، ويجعل المجتمع في خدمة الفرد، و الدليل على ذلك ما رواه أحمد في مسنده عن النعمان بن بشير _رضي الله عنه_ عن رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ أنه قال:" مثل المؤمن كمثل الجسد إذا اشتكى الرجل رأسه تداعى له سائر جسده".
ولم ينس الإسلام دور الأب في حياة ابنه، وكذلك تأثير البيئة التي ينشأ فيها الفتى في تربيته ونشأته، فقد روي في الصحيحين عن رسول الله _صلى الله عليه وسلم_، أنه قال: " كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهوّدانه أو ينصرانه أو يمجّسانه".
ويشير الدكتور محمد سمير عبد الفتاح (أستاذ علم النفس، مدير مركز البحوث النفسية بجامعة المنيا)، إلى أن: " المراهق يحتاج إلى من يتفهم حالته النفسية ويراعي احتياجاته الجسدية، ولذا فهو بحاجة إلى صديق ناضج يجيب عن تساؤلاته بتفهم وعطف وصراحة، صديق يستمع إليه حتى النهاية دون مقاطعة أو سخرية أو شك، كما يحتاج إلى الأم الصديقة والأب المتفهم".
وفي حديثه لموقع المسلم ، يدعو (الخبير النفسي) الدكتور سمير عبد الفتاح أولياء الأمور إلى " التوقف الفوري عن محاولات برمجة حياة المراهق، ويقدم بدلاً منها الحوار، و التحلي بالصبر، واحترم استقلاليته وتفكيره، والتعامل معه كشخص كبير، وغمره بالحنان وشمله بمزيد من الاهتمام".(115/593)
وينصح الدكتور عبد الفتاح الأمهات بضرورة " إشراك الأب في تحمل عبء تربية أولاده في هذه المرحلة الخطيرة من حياتهم"، ويقول للأم: " شجعي ابنك وبثي التفاؤل في نفسه، وجملي أسلوبك معه، واحرصي على انتقاء الكلمات كما تنتقي أطايب الثمر".
ويوجه عبد الفتاح النصح للأب قائلاً: " أعطه قدراً من الحرية بإشرافك ورضاك، لكن من المهم أن تتفق معه على احترام الوقت وتحديده، وكافئه إن أحسن كما تعاقبه إن أساء، حاول تفهم مشاكله والبحث معه عن حل، اهتم بتوجيهه إلى الصحبة الصالحة، كن له قدوة حسنة ومثلاً أعلى، احترم أسراره وخصوصياته، ولا تسخر منه أبدًا".
ويضيف عبد الفتاح موجها كلامه للأب:" صاحبه وتعامل معه كأنه شاب، اصطحبه إلى المسجد لأداء الصلاة وخاصة الجمعة والعيدين، أَجِب عن كل أسئلته مهما كانت بكل صراحة ووضوح ودون حرج، وخصص له وقتاً منتظماً للجلوس معه، وأشركه في النشاطات الاجتماعية العائلية كزيارة المرضى وصلة الأرحام، نمِّ لديه الوازع الديني وأشعره بأهمية حسن الخلق ".
كما ينصح الدكتور عبد الفتاح الأمهات بمراعاة عدد من الملاحظات المهمة في التعامل مع بناتهن في مرحلة المراهقة فيؤكد بداية أن على الأمهات أن يتعلمن فن معاملة المراهقات، ويقول للأم:" أعلميها أنها تنتقل من مرحلة الطفولة إلى مرحلة جديدة تسمَّى مرحلة التكليف، وأنها كبرت وأصبحت مسؤولة عن تصرفاتها، قولي لها: إنها مثلما زادت مسؤولياتها فقد زادت حقوقها، وإنها أصبحت عضوًا كاملاً في الأسرة تشارك في القرارات، ويؤخذ رأيها فيما يخصها، وتوكل له مهام تؤديها للثقة فيها وفي قدراتها، علميها الأمور الشرعية كالاغتسال، وكيفية التطهر، سواء من الدورة الشهرية أو من الإفرازات".
ويضيف عبد الفتاح: " ابتعدي عن مواجهتها بأخطائها، أقيمي علاقات وطيدة وحميمة معها، دعمي كل تصرف إيجابي وسلوك حسن صادر عنها، أسري لها بملاحظات ولا تنصحيها على الملأ فإن (لكل فعل ردة فعل مساوٍ له في القوة ومضاد له في الاتجاه)، اقصري استخدام سلطتك في المنع على الأخطاء التي لا يمكن التجاوز عنها، واستعيني بالله وادعي لها كثيراً، ولا تدعي عليها مطلقاً، و تذكري أن الزمن جزء من العلاج".
ويضيف الدكتور سمير عبد الفتاح (مدير مركز البحوث النفسية) قائلاً:" افتحي قناة للاتصال معها، اجلسي وتحاوري معها لتفهمي كيف تفكر، وما ذا تحب من الأمور وماذا تكره؟ واحذري أن تعامليها كأنها ند لك ولا تقرني نفسك بها، وعندما تجادلك أنصتي لملاحظاتها وردي عليها بمنطق وبرهان، إذا انتقدت فانتقدي تصرفاتها ولا تنتقديها هي كشخص، وختاماً استعيني بالله ليحفظها لك ويهديها".
* فهم المرحلة.. تجاوز ناجح لها:
إن المشاكل السابقة الذكر، سببها الرئيس هو عدم فهم طبيعة واحتياجات هذه المرحلة من جهة الوالدين، وأيضاً عدم تهيئة الطفل أو الطفلة لهذه المرحلة قبل وصولها.(115/594)
ولمساعدة الوالدين على فهم مرحلة المراهقة، فقد حدد بعض العلماء واجبات النمو التي ينبغي أن تحدث في هذه المرحلة للانتقال إلى المرحلة التالية، ومن هذه الواجبات ما يلي:
1- إقامة نوع جديد من العلاقات الناضجة مع زملاء العمر.
2- اكتساب الدور المذكر أو المؤنث المقبول دينياً واجتماعياً لكل جنس من الجنسين.
3- قبول الفرد لجسمه أو جسده، واستخدام الجسم استخداماً صالحاً.
4- اكتساب الاستقلال الانفعالي عن الوالدين وغيرهم من الكبار.
5- اختيار مهنة والإعداد اللازم لها.
6- الاستعداد للزواج وحياة الأسرة.
7- تنمية المهارات العقلية والمفاهيم الضرورية للكفاءة في الحياة الاجتماعية.
8- اكتساب مجموعة من القيم الدينية والأخلاقية التي تهديه في سلوكه.
ويرى المراهق أنه بحاجة إلى خمسة عناصر في هذه المرحلة، وهي: الحاجة إلى الحب والأمان، والحاجة إلى الاحترام، والحاجة لإثبات الذات، والحاجة للمكانة الاجتماعية، والحاجة للتوجيه الإيجابي.
* تهيئة المراهق:
ولتحقيق واجبات النمو التي حددها العلماء، وحاجات المراهق في هذه المرحلة، على الأهل تهيئة ابنهم المراهق لدخول هذه المرحلة، وتجاوزها دون مشاكل، ويمكن أن يتم ذلك بخطوات كثيرة، منها:
1- إعلام المراهق أنه ينتقل من مرحلة إلى أخرى، فهو يخرج من مرحلة الطفولة إلى مرحلة جديدة، تعني أنه كبر وأصبح مسؤولاً عن تصرفاته، وأنها تسمى مرحلة التكليف؛ لأن الإنسان يصبح محاسباً من قبل الله _تعالى_؛ لأنه وصل إلى النضج العقلي والنفسي الذي يجعله قادراً على تحمل نتيجة أفعاله واختياراته.
وأنه مثلما زادت مسؤولياته فقد زادت حقوقه، وأصبح عضواً كاملاً في الأسرة يشارك في القرارات، ويؤخذ رأيه، وتوكل له مهام يؤديها للثقة فيه وفي قدراته.
2- أن هناك تغيرات جسدية، وعاطفية، وعقلية، واجتماعية تحدث في نفسيته وفي بنائه، وأن ذلك نتيجة لثورة تحدث داخله استعداداً أو إعدادا لهذا التغير في مهمته الحياتية، فهو لم يعد طفلاً يلعب ويلهو، بل أصبح له دور في الحياة، لذا فإن إحساسه العاطفي نحو الجنس الآخر أو شعوره بالرغبة يجب أن يوظف لأداء هذا الدور، فالمشاعر العاطفية والجنسية ليست شيئاً وضيعاً أو مستقذراً؛ لأن له دوراً هاماً في إعمار الأرض وتحقيق مراد الله في خلافة الإنسان. ولذا فهي مشاعر سامية إذا أحسن توظيفها في هذا الاتجاه، لذا يجب أن يعظم الإنسان منها ويوجهها الاتجاه الصحيح لسمو الغاية التي وضعها الله في الإنسان من أجلها، لذا فنحن عندما نقول: إن هذه العواطف والمشاعر لها طريقها الشرعي من خلال الزواج، فنحن نحدد الجهة الصحيحة لتفريغها وتوجيهها.
3- أن يعلم المراهق الأحكام الشرعية الخاصة بالصيام والصلاة والطهارة والاغتسال، ويكون ذلك مدخلاً لإعطائه الفرصة للتساؤل حول أي شيء يدور حول(115/595)
هذه المسألة، حتى لا يضطر لأن يستقي معلوماته من جهات خارجية يمكن أن تضره أو ترشده إلى خطأ أو حرام.
4- التفهم الكامل لما يعاني منه المراهق من قلق وعصبية وتمرد، وامتصاص غضبه؛ لأن هذه المرحلة هي مرحلة الإحساس المرهف، مما يجعل المراهق شخصاً سهل الاستثارة والغضب، ولذلك على الأهل بث الأمان والاطمئنان في نفس ابنهم، وقد يكون من المفيد القول مثلاً: "أنا أعرف أن إخوتك يسببون بعض المضايقات، وأنا نفسي أحس بالإزعاج، لكن على ما يبدو أن هناك أمراً آخر يكدرك ويغضبك، فهل ترغب بالحديث عنه؟" لأن ذلك يشجع المراهق على الحديث عما يدور في نفسه.
5- إشاعة روح الشورى في الأسرة؛ لأن تطبيقها يجعل المراهق يدرك أن هناك رأياً ورأياً آخر معتبراً لا بد أن يحترم، ويعلمه ذلك أيضاً كيفية عرض رأيه بصورة عقلانية منطقية، ويجعله يدرك أن هناك أموراً إستراتيجية لا يمكن المساس بها، منها على سبيل المثال: الدين، والتماسك الأسري، والأخلاق والقيم.
* التعامل مع المراهق علم وفن:
ومن جهتها تقدم (الخبيرة الاجتماعية) الدكتورة مُنى يونس، الحاصلة على جائزة الدكتور شوقي الفنجري للدعوة والفقه الإسلامي عام 1995م، وصفة علاجية وتوجيهات عملية لأولياء الأمور في فنون التعامل مع أبنائهم وبناتهم المراهقين، فتقول: " إياكم أن تنتقدوهم أمام الآخرين، وأنصتوا لهم باهتمام شديد عندما يحدثوكم، ولا تقاطعوهم، ولا تسفهوا آراءهم".
وفي حديثها لموقع المسلم ، تدعو الخبيرة الاجتماعية الدكتورة منى يونس أولياء الأمور لتجنب مخاطبة أبنائهم وبناتهم المراهقين بعدد من العبارات المحبطة بل والمحطمة، مثل: ( أنا أعرف ما ينفعك، لا داعي لأن تكملي حديثك.. أستطيع توقع ما حدث، فلتنصتي إليّ الآن دون أن تقاطعيني، اسمعي كلامي ولا تناقشيني، يا للغباء.. أخطأت مرة أخرى!، يا كسولة، يا أنانية، إنك طفلة لا تعرفين مصلحتك).
وتقول الخبيرة الاجتماعية: " لقد أثبتت الدراسات أن عبارات المديح لها أثر إيجابي في تحسين مستوى التحصيل الدراسي لدى أطفال كانوا يعانون من صعوبات التعلم ونقص التركيز".
و تضرب الدكتورة منى مثالاً ببعض عبارات المديح المحببة إلى قلوب الأبناء والبنات من المراهقين، مثل: ( بارك الله فيك، ما شاء الله، رائع، يا لك من فتاة، أحسنت، لقد تحسنت كثيراً، ما فعلته هو الصواب، هذه هي الطريقة المثلى، أفكارك رائعة، إنجاز رائع، يعجبني اختيارك لملابسك، استمر، إلى الأمام، أنا فخور بك، يا سلام، عمل ممتاز، لقد أحسست برغبتك الصادقة في تحمل المسؤولية، أنت محل ثقتي، أنت ماهر في هذا العمل،... ).
احرصوا على استعمال أساليب التشجيع والثناء الجسدية، مثل ( الابتسامة، الاحتضان، مسك الأيدي، اربت على كتفه، المسح على الرأس،.... ).(115/596)
وتختتم الخبيرة الاجتماعية الدكتورة مُنى يونس، حديثها بتوصية أولياء الأمور بمراعاة عدد من القواعد والتوجيهات العامة في التعامل مع الأولاد في مرحلة المراهقة، فتقول لولي الأمر:-
• اهتم بإعداده لمرحلة البلوغ، وضح له أنها من أجمل أوقات حياته.
• اشرح له بعض الأحكام الشرعية الخاصة بالصيام والصلاة والطهارة بشكل بسيط.
• أظهر الاهتمام والتقدير لما يقوله عند تحدثه إليك.
• اهتم بمظهره، واترك له حرية الاختيار.
• استضف أصدقاءه وتعرف عليهم عن قرب، وأبد احتراماً شديداً لهم.
• امدح أصدقاءه ذوي الصفات الحسنة مع مراعاة عدم ذم الآخرين.
• شجِّعه على تكوين أصدقاء جيدين، ولا تشعره بمراقبتك أو تفرض عليه أحدًا لا يريده.
• احرص على لم شمل الأسرة باصطحابهم إلى الحدائق أو الملاهي أو الأماكن الممتعة.
• احرص على تناول وجبات الطعام معهم.
• أظهر فخرك به أمام أعمامه وأخواله وأصدقائه؛ فهذا سيشعرهم بالخجل من أخطائهم.
• اصطحبه في تجمعات الرجال وجلساتهم الخاصة بحل مشاكل الناس، ليعيش أجواء الرجولة ومسؤولياتها؛ فتسمو نفسه، وتطمح إلى تحمل المسؤوليات التي تجعله جديرًا بالانتماء إلى ذلك العالم.
• شجِّعه على ممارسة رياضة يحبها، ولا تفرض عليه نوعًا معينًا من الرياضة.
• اقترح عليه عدَّة هوايات، وشجِّعه على القراءة لتساعده في تحسين سلوكه.
• كافئه على أعماله الحسنة.
• تجاهل تصرفاته التي لا تعجبك.
• تحاور معه كأب حنون وحادثه كصديق مقرب.
• احرص على أن تكون النموذج الناجح للتعامل مع أمه.
• قم بزيارته بنفسك في المدرسة، وقابل معلميه وأبرِز ما يقوله المعلمون عن إيجابياته.
• اختيار الوقت المناسب لبدء الحوار مع الشاب.
• محاولة الوصول إلى قلب المراهق قبل عقله.
• الابتعاد عن الأسئلة التي إجاباتها نعم أولا، أو الأسئلة غير الواضحة وغير المباشرة.
• العيش قليلاً داخل عالمهم لنفهمهم ونستوعب مشاكلهم ومعاناتهم ورغباتهم.
ختاماً...
يجب على الأهل استثمار هذه المرحلة إيجابياً، وذلك بتوظيف وتوجيه طاقات المراهق لصالحه شخصياً، ولصالح أهله، وبلده، والمجتمع ككل. وهذا لن يتأتى دون منح المراهق الدعم العاطفي، والحرية ضمن ضوابط الدين والمجتمع، والثقة، وتنمية تفكيره الإبداعي، وتشجيعه على القراءة والإطلاع، وممارسة الرياضة والهوايات(115/597)
المفيدة، وتدريبه على مواجهة التحديات وتحمل المسؤوليات، واستثمار وقت فراغه بما يعود عليه بالنفع.
ولعل قدوتنا في ذلك هم الصحابة _رضوان الله عليهم_، فمن يطلع على سيرهم يشعر بعظمة أخلاقهم، وهيبة مواقفهم، وحسن صنيعهم، حتى في هذه المرحلة التي تعد من أصعب المراحل التي يمر بها الإنسان أخلاقياً وعضوياً وتربوياً أيضاً.
فبحكم صحبتهم لرسول الله _صلى الله عليه وسلم_ خير قائد وخير قدوة وخير مرب، واحتكامهم إلى المنهج الإسلامي القويم الذي يوجه الإنسان للصواب دوماً، ويعني بجميع الأمور التي تخصه وتوجه غرائزه توجيهاً سليماً.. تخرج منهم خير الخلق بعد الرسل _صلوات الله وسلامه عليهم_، فكان منهم من حفظ القرآن الكريم عن ظهر قلب في أولى سنوات العمر، وكان منهم الذين نبغوا في علوم القرآن والسنة والفقه والكثير من العلوم الإنسانية الأخرى، وكان منهم الدعاة الذين فتحوا القلوب وأسروا العقول كسيدنا مصعب بن عمير الذي انتدبه رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ داعية إلى المدينة ولم يبلغ الثامنة عشرة من عمره، وكان منهم الفتيان الذين قادوا الجيوش وخاضوا المعارك وهم بين يدي سن الحلم، كسيدنا أسامة بن زيد _رضي الله عنهم جميعاً_ وما ذاك إلا لترعرعهم تحت ظل الإسلام وتخرجهم من المدرسة المحمدية الجليلة.
والحمد لله رب العالمين...
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
ـــــــــــــــــــ
المراهقة: خصائص المرحلة ومشكلاتها
مشرف نافذة قضايا وحوارات
15/2/1425
ارسل تعليقك ...
تعليقات سابقة ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
تعد المراهقة من أخطر المراحل التي يمر بها الإنسان ضمن أطواره المختلفة التي تتسم بالتجدد المستمر، والترقي في معارج الصعود نحو الكمال الإنساني الرشيد، ومكمن الخطر في هذه المرحلة التي تنتقل بالإنسان من الطفولة إلى الرشد، هي التغيرات في مظاهر النمو المختلفة (الجسمية والفسيولوجية والعقلية والاجتماعية والانفعالية والدينية والخلقية)، ولما يتعرض الإنسان فيها إلى صراعات متعددة، داخلية وخارجية.
* مفهوم المراهقة:
ترجع كلمة "المراهقة" إلى الفعل العربي "راهق" الذي يعني الاقتراب من الشيء، فراهق الغلام فهو مراهق، أي: قارب الاحتلام، ورهقت الشيء رهقاً، أي: قربت منه. والمعنى هنا يشير إلى الاقتراب من النضج والرشد.(115/598)
أما المراهقة في علم النفس فتعني: "الاقتراب من النضج الجسمي والعقلي والنفسي والاجتماعي"، ولكنه ليس النضج نفسه؛ لأن الفرد في هذه المرحلة يبدأ بالنضج العقلي والجسمي والنفسي والاجتماعي، ولكنه لا يصل إلى اكتمال النضج إلا بعد سنوات عديدة قد تصل إلى 10 سنوات.
ومكمن الخطر في هذه المرحلة التي تنتقل بالإنسان من الطفولة إلى الرشد، هي التغيرات في مظاهر النمو المختلفة، ولما يتعرض الإنسان فيها إلى صراعات متعددة، داخلية وخارجية
وهناك فرق بين المراهقة والبلوغ، فالبلوغ يعني "بلوغ المراهق القدرة على الإنسال، أي: اكتمال الوظائف الجنسية عنده، وذلك بنمو الغدد الجنسية، وقدرتها على أداء وظيفتها"، أما المراهقة فتشير إلى "التدرج نحو النضج الجسمي والعقلي والنفسي والاجتماعي". وعلى ذلك فالبلوغ ما هو إلا جانب واحد من جوانب المراهقة، كما أنه من الناحية الزمنية يسبقها، فهو أول دلائل دخول الطفل مرحلة المراهقة.
ويشير ذلك إلى حقيقة مهمة، وهي أن النمو لا ينتقل من مرحلة إلى أخرى فجأة، ولكنه تدريجي ومستمر ومتصل، فالمراهق لا يترك عالم الطفولة ويصبح مراهقاً بين عشية وضحاها، ولكنه ينتقل انتقالاً تدريجياً، ويتخذ هذا الانتقال شكل نمو وتغير في جسمه وعقله ووجدانه.
وجدير بالذكر أن وصول الفرد إلى النضج الجنسي لا يعني بالضرورة أنه قد وصل إلى النضج العقلي، وإنما عليه أن يتعلم الكثير والكثير ليصبح راشداً ناضجاً.
و للمراهقة والمراهق نموه المتفجر في عقله وفكره وجسمه وإدراكه وانفعالاته، مما يمكن أن نلخصه بأنه نوع من النمو البركاني، حيث ينمو الجسم من الداخل فسيولوجياً وهرمونياً وكيماوياً وذهنياً وانفعالياً، ومن الخارج والداخل معاً عضوياً.
* مراحل المراهقة:
والمدة الزمنية التي تسمى "مراهقة" تختلف من مجتمع إلى آخر، ففي بعض المجتمعات تكون قصيرة، وفي بعضها الآخر تكون طويلة، ولذلك فقد قسمها العلماء إلى ثلاث مراحل، هي:
1- مرحلة المراهقة الأولى (11-14 عاما)، وتتميز بتغيرات بيولوجية سريعة.
2- مرحلة المراهقة الوسطي (14-18 عاما)، وهي مرحلة اكتمال التغيرات البيولوجية.
3- مرحلة المراهقة المتأخرة (18-21)، حيث يصبح الشاب أو الفتاة إنساناً راشداً بالمظهر والتصرفات.
ويتضح من هذا التقسيم أن مرحلة المراهقة تمتد لتشمل أكثر من عشرة أعوام من عمر الفرد
* علامات بداية مرحلة المراهقة وأبرز خصائصها وصورها الجسدية والنفسية:
بوجه عام تطرأ ثلاث علامات أو تحولات بيولوجية على المراهق، إشارة لبداية هذه المرحلة عنده، وهي:
1 - النمو الجسدي: حيث تظهر قفزة سريعة في النمو، طولاً ووزناً، تختلف بين الذكور والإناث، فتبدو الفتاة أطول وأثقل من الشاب خلال مرحلة المراهقة الأولى،(115/599)
وعند الذكور يتسع الكتفان بالنسبة إلى الوركين، وعند الإناث يتسع الوركان بالنسبة للكتفين والخصر، وعند الذكور تكون الساقان طويلتين بالنسبة لبقية الجسد، وتنمو العضلات.
والصراع لدى المراهق ينشأ من التغيرات البيولوجية، الجسدية والنفسية، التي تطرأ عليه في هذه المرحلة، فجسديا، يشعر بنمو سريع في أعضاء جسمه قد يسبب له قلقا وإرباكا وينتج عنه إحساسه بالخمول والكسل والتراخي،
2- النضوج الجنسي: يتحدد النضوج الجنسي عند الإناث بظهور الدورة الشهرية، ولكنه لا يعني بالضرورة ظهور الخصائص الجنسية الثانوية (مثل: نمو الثديين وظهور الشعر تحت الإبطين وعلى الأعضاء التناسلية)، أما عند الذكور، فالعلامة الأولى للنضوج الجنسي هي زيادة حجم الخصيتين، وظهور الشعر حول الأعضاء التناسلية لاحقاً، مع زيادة في حجم العضو التناسلي، وفي حين تظهر الدورة الشهرية عند الإناث في حدود العام الثالث عشر، يحصل القذف المنوي الأول عند الذكور في العام الخامس عشر تقريباً.
3- التغير النفسي: إن للتحولات الهرمونية والتغيرات الجسدية في مرحلة المراهقة تأثيراً قوياً على الصورة الذاتية والمزاج والعلاقات الاجتماعية، فظهور الدورة الشهرية عند الإناث، يمكن أن يكون لها ردة فعل معقدة، تكون عبارة عن مزيج من الشعور بالمفاجأة والخوف والانزعاج، بل والابتهاج أحياناً، وذات الأمر قد يحدث عند الذكور عند حدوث القذف المنوي الأول، أي: مزيج من المشاعر السلبية والإيجايبة. ولكن المهم هنا، أن أكثرية الذكور يكون لديهم علم بالأمر قبل حدوثه، في حين أن معظم الإناث يتكلن على أمهاتهن للحصول على المعلومات أو يبحثن عنها في المصادر والمراجع المتوافرة.
* مشاكل المراهقة:
يقول الدكتور عبد الرحمن العيسوي: "إن المراهقة تختلف من فرد إلى آخر، ومن بيئة جغرافية إلى أخرى، ومن سلالة إلى أخرى، كذلك تختلف باختلاف الأنماط الحضارية التي يتربى في وسطها المراهق، فهي في المجتمع البدائي تختلف عنها في المجتمع المتحضر، وكذلك تختلف في مجتمع المدينة عنها في المجتمع الريفي، كما تختلف من المجتمع المتزمت الذي يفرض كثيراً من القيود والأغلال على نشاط المراهق، عنها في المجتمع الحر الذي يتيح للمراهق فرص العمل والنشاط، وفرص إشباع الحاجات والدوافع المختلفة.
كذلك فإن مرحلة المراهقة ليست مستقلة بذاتها استقلالاً تاماً، وإنما هي تتأثر بما مر به الطفل من خبرات في المرحلة السابقة، والنمو عملية مستمرة ومتصلة".
ولأن النمو الجنسي الذي يحدث في المراهقة ليس من شأنه أن يؤدي بالضرورة إلى حدوث أزمات للمراهقين، فقد دلت التجارب على أن النظم الاجتماعية الحديثة التي يعيش فيها المراهق هي المسؤولة عن حدوث أزمة المراهقة، فمشاكل المراهقة في المجتمعات الغربية أكثر بكثير من نظيرتها في المجتمعات العربية والإسلامية، وهناك أشكال مختلفة للمراهقة، منها:
1- مراهقة سوية خالية من المشكلات والصعوبات.(115/600)
2- مراهقة انسحابية، حيث ينسحب المراهق من مجتمع الأسرة، ومن مجتمع الأقران، ويفضل الانعزال والانفراد بنفسه، حيث يتأمل ذاته ومشكلاته.
3- مراهقة عدوانية، حيث يتسم سلوك المراهق فيها بالعدوان على نفسه وعلى غيره من الناس والأشياء.
والصراع لدى المراهق ينشأ من التغيرات البيولوجية، الجسدية والنفسية التي تطرأ عليه في هذه المرحلة، فجسدياً يشعر بنمو سريع في أعضاء جسمه قد يسبب له قلقاً وإرباكاً، وينتج عنه إحساسه بالخمول والكسل والتراخي، كذلك تؤدي سرعة النمو إلى جعل المهارات الحركية عند المراهق غير دقيقة، وقد يعتري المراهق حالات من اليأس والحزن والألم التي لا يعرف لها سبباً، ونفسيا يبدأ بالتحرر من سلطة الوالدين ليشعر بالاستقلالية والاعتماد على النفس، وبناء المسؤولية الاجتماعية، وهو في الوقت نفسه لا يستطيع أن يبتعد عن الوالدين؛ لأنهم مصدر الأمن والطمأنينة ومنبع الجانب المادي لديه، وهذا التعارض بين الحاجة إلى الاستقلال والتحرر والحاجة إلى الاعتماد على الوالدين، وعدم فهم الأهل لطبيعة المرحلة وكيفية التعامل مع سلوكيات المراهق، وهذه التغيرات تجعل المراهق طريد مجتمع الكبار والصغار، إذا تصرف كطفل سخر منه الكبار، وإذا تصرف كرجل انتقده الرجال، مما يؤدي إلى خلخلة التوازن النفسي للمراهق، ويزيد من حدة المرحلة ومشاكلها.
وفي بحث ميداني ولقاءات متعددة مع بعض المراهقين وآبائهم، أجرته الباحثة عزة تهامي مهدي (الحاصلة على الماجستير في مجال الإرشاد النفسي) تبين أن أهم ما يعاني الآباء منه خلال هذه المرحلة مع أبنائهم:
أهم ما يعاني الآباء منه خلال هذه المرحلة مع أبنائهم:
* الخوف الزائد على الأبناء من أصدقاء السوء.
* عدم قدرتهم على التميز بين الخطأ والصواب باعتبارهم قليلو الخبرة في الحياة ومتهورون.
* أنهم متمردون ويرفضون أي نوع من الوصايا أو حتى النصح.
* أنهم يطالبون بمزيد من الحرية والاستقلال.
* أنهم يعيشون في عالمهم الخاص ويحاولون الانفصال عن الآباء بشتى الطرق.
* الخوف الزائد على الأبناء من أصدقاء السوء.
* عدم قدرتهم على التميز بين الخطأ والصواب باعتبارهم قليلو الخبرة في الحياة ومتهورون.
* أنهم متمردون ويرفضون أي نوع من الوصايا أو حتى النصح.
* أنهم يطالبون بمزيد من الحرية والاستقلال.
* أنهم يعيشون في عالمهم الخاص، ويحاولون الانفصال عن الآباء بشتى الطرق.
*أبرز المشكلات والتحديات السلوكية في حياة المراهق:
1- الصراع الداخلي: حيث يعاني المراهق من جود عدة صراعات داخلية، ومنها: صراع بين الاستقلال عن الأسرة والاعتماد عليها، وصراع بين مخلفات الطفولة ومتطلبات الرجولة والأنوثة، وصراع بين طموحات المراهق الزائدة وبين تقصيره الواضح في التزاماته، وصراع بين غرائزه الداخلية وبين التقاليد الاجتماعية،(115/601)
والصراع الديني بين ما تعلمه من شعائر ومبادئ ومسلمات وهو صغير وبين تفكيره الناقد الجديد وفلسفته الخاصة للحياة، وصراعه الثقافي بين جيله الذي يعيش فيه بما له من آراء وأفكار والجيل السابق.
2- الاغتراب والتمرد: فالمراهق يشكو من أن والديه لا يفهمانه، ولذلك يحاول الانسلاخ عن مواقف وثوابت ورغبات الوالدين كوسيلة لتأكيد وإثبات تفرده وتمايزه، وهذا يستلزم معارضة سلطة الأهل؛ لأنه يعد أي سلطة فوقية أو أي توجيه إنما هو استخفاف لا يطاق بقدراته العقلية التي أصبحت موازية جوهرياً لقدرات الراشد، واستهانة بالروح النقدية المتيقظة لديه، والتي تدفعه إلى تمحيص الأمور كافة، وفقا لمقاييس المنطق، وبالتالي تظهر لديه سلوكيات التمرد والمكابرة والعناد والتعصب والعدوانية.
3- الخجل والانطواء: فالتدليل الزائد والقسوة الزائدة يؤديان إلى شعور المراهق بالاعتماد على الآخرين في حل مشكلاته، لكن طبيعة المرحلة تتطلب منه أن يستقل عن الأسرة ويعتمد على نفسه، فتزداد حدة الصراع لديه، ويلجأ إلى الانسحاب من العالم الاجتماعي والانطواء والخجل.
4- السلوك المزعج: والذي يسببه رغبة المراهق في تحقيق مقاصده الخاصة دون اعتبار للمصلحة العامة، وبالتالي قد يصرخ، يشتم، يسرق، يركل الصغار ويتصارع مع الكبار، يتلف الممتلكات، يجادل في أمور تافهة، يتورط في المشاكل، يخرق حق الاستئذان، ولا يهتم بمشاعر غيره.
5- العصبية وحدة الطباع: فالمراهق يتصرف من خلال عصبيته وعناده، يريد أن يحقق مطالبه بالقوة والعنف الزائد، ويكون متوتراً بشكل يسبب إزعاجاً كبيراً للمحيطين به.
وتجدر الإشارة إلى أن كثيراًَ من الدراسات العلمية تشير إلى وجود علاقة قوية بين وظيفة الهرمونات الجنسية والتفاعل العاطفي عند المراهقين، بمعنى أن المستويات الهرمونية المرتفعة خلال هذه المرحلة تؤدي إلى تفاعلات مزاجية كبيرة على شكل غضب وإثارة وحدة طبع عند الذكور، وغضب واكتئاب عند الإناث.
ويوضح الدكتور أحمد المجدوب الخبير بالمركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية مظاهر وخصائص مرحلة المراهقة، فيقول هي:" الغرق في الخيالات، وقراءة القصص الجنسية والروايات البوليسية وقصص العنف والإجرام، كما يميل إلى أحلام اليقظة، والحب من أول نظرة، كذلك يمتاز المراهق بحب المغامرات، وارتكاب الأخطار، والميل إلى التقليد، كما يكون عرضة للإصابة بأمراض النمو، مثل: فقر الدم، وتقوس الظهر، وقصر النظر".
وفي حديثه مع موقع المسلم، يذكر الدكتور المجدوب من مظاهر وسلوكيات الفتاة المراهقة: " الاندفاع، ومحاولة إثبات الذات، والخجل من التغيرات التي حدثت في شكلها، و جنوحها لتقليد أمها في سلوكياتها، وتذبذب وتردد عواطفها، فهي تغضب بسرعة وتصفو بسرعة، وتميل لتكوين صداقات مع الجنس الآخر، وشعورها بالقلق والرهبة عند حدوث أول دورة من دورات الطمث، فهي لا تستطيع أن تناقش ما تحس به من مشكلات مع أفراد الأسرة، كما أنها لا تفهم طبيعة هذه العملية".(115/602)
ويشير الخبير الاجتماعي الدكتور المجدوب إلى أن هناك بعض المشاكل التي تظهر في مرحلة المراهقة، مثل: " الانحرافات الجنسية، والميل الجنسي لأفراد من نفس الجنس، والجنوح، وعدم التوافق مع البيئة، وكذا انحرافات الأحداث من اعتداء، وسرقة، وهروب"، موضحاً "أن هذه الانحرافات تحدث نتيجة حرمان المراهق في المنزل والمدرسة من العطف والحنان والرعاية والإشراف، وعدم إشباع رغباته، وأيضاً لضعف التوجيه الديني".
ويوضح المجدوب أن مرحلة المراهقة بخصائصها ومعطياتها هي أخطر منعطف يمر به الشباب، وأكبر منزلق يمكن أن تزل فيه قدمه؛ إذا عدم التوجيه والعناية، مشيراً إلى أن أبرز المخاطر التي يعيشها المراهقون في تلك المرحلة:" فقدان الهوية والانتماء، وافتقاد الهدف الذي يسعون إليه، وتناقض القيم التي يعيشونها، فضلاً عن مشكلة الفراغ ".
كما يوضح أن الدراسات التي أجريت في أمريكا على الشواذ جنسياً أظهرت أن دور الأب كان معدوماً في الأسرة، وأن الأم كانت تقوم بالدورين معاً، وأنهم عند بلوغهم كانوا يميلون إلى مخالطة النساء ( أمهاتهم – أخواتهم -..... ) أكثر من الرجال، و هو ما كان له أبلغ الأثر في شذوذه جنسياً ".
* طرق علاج المشاكل التي يمر بها المراهق:
قد اتفق خبراء الاجتماع وعلماء النفس والتربية على أهمية إشراك المراهق في المناقشات العلمية المنظمة التي تتناول علاج مشكلاته، وتعويده على طرح مشكلاته، ومناقشتها مع الكبار في ثقة وصراحة، وكذا إحاطته علماً بالأمور الجنسية عن طريق التدريس العلمي الموضوعي، حتى لا يقع فريسة للجهل والضياع أو الإغراء".
كما أوصوا بأهمية " تشجيع النشاط الترويحي الموجه والقيام بالرحلات والاشتراك في مناشط الساحات الشعبية والأندية، كما يجب توجيههم نحو العمل بمعسكرات الكشافة، والمشاركة في مشروعات الخدمة العامة والعمل الصيفي... إلخ".
كما أكدت الدراسات العلمية أن أكثر من 80% من مشكلات المراهقين في عالمنا العربي نتيجة مباشرة لمحاولة أولياء الأمور تسيير أولادهم بموجب آرائهم وعاداتهم وتقاليد مجتمعاتهم، ومن ثم يحجم الأبناء، عن الحوار مع أهلهم؛ لأنهم يعتقدون أن الآباء إما أنهم لا يهمهم أن يعرفوا مشكلاتهم، أو أنهم لا يستطيعون فهمها أو حلها.
وقد أجمعت الاتجاهات الحديثة في دراسة طب النفس أن الأذن المصغية في تلك السن هي الحل لمشكلاتها، كما أن إيجاد التوازن بين الاعتماد على النفس والخروج من زي النصح والتوجيه بالأمر، إلى زي الصداقة والتواصي وتبادل الخواطر، و بناء جسر من الصداقة لنقل الخبرات بلغة الصديق والأخ لا بلغة ولي الأمر، هو السبيل الأمثال لتكوين علاقة حميمة بين الآباء وأبنائهم في سن المراهقة".
وقد أثبتت دراسة قامت بها الـ (Gssw) المدرسة المتخصصة للدراسات الاجتماعية بالولايات المتحدة على حوالي 400 طفل، بداية من سن رياض الأطفال وحتى سن 24 على لقاءات مختلفة في سن 5، 9، 15، 18، 21، أن المراهقين في الأسرة المتماسكة ذات الروابط القوية التي يحظى أفرادها بالترابط واتخاذ القرارات(115/603)
المصيرية في مجالس عائلية محببة يشارك فيها الجميع، ويهتم جميع أفرادها بشؤون بعضهم البعض، هم الأقل ضغوطًا، والأكثر إيجابية في النظرة للحياة وشؤونها ومشاكلها، في حين كان الآخرون أكثر عرضة للاكتئاب والضغوط النفسية.
* حلول عملية:
ولمساعدة الأهل على حسن التعامل مع المراهق ومشاكله، نقدم فيما يلي نماذج لمشكلات يمكن أن تحدث مع حل عملي، سهل التطبيق، لكل منها.
المشكلة الأولى: وجود حالة من "الصدية" أو السباحة ضد تيار الأهل بين المراهق وأسرته، وشعور الأهل والمراهق بأن كل واحد منهما لا يفهم الآخر.
- الحل المقترح: تقول الأستاذة منى يونس (أخصائية علم النفس): إن السبب في حدوث هذه المشكلة يكمن في اختلاف مفاهيم الآباء عن مفاهيم الأبناء، واختلاف البيئة التي نشأ فيها الأهل وتكونت شخصيتهم خلالها وبيئة الأبناء، وهذا طبيعي لاختلاف الأجيال والأزمان، فالوالدان يحاولان تسيير أبنائهم بموجب آرائهم وعاداتهم وتقاليد مجتمعاتهم، وبالتالي يحجم الأبناء عن الحوار مع أهلهم؛ لأنهم يعتقدون أن الآباء إما أنهم لا يهمهم أن يعرفوا مشكلاتهم، أو أنهم لا يستطيعون فهمها، أو أنهم - حتى إن فهموها - ليسوا على استعداد لتعديل مواقفهم.
ومعالجة هذه المشكلة لا تكون إلا بإحلال الحوار الحقيقي بدل التنافر والصراع والاغتراب المتبادل، ولا بد من تفهم وجهة نظر الأبناء فعلاً لا شكلاً بحيث يشعر المراهق أنه مأخوذ على محمل الجد ومعترف به وبتفرده - حتى لو لم يكن الأهل موافقين على كل آرائه ومواقفه - وأن له حقاً مشروعاً في أن يصرح بهذه الآراء. الأهم من ذلك أن يجد المراهق لدى الأهل آذاناً صاغية وقلوباً متفتحة من الأعماق، لا مجرد مجاملة، كما ينبغي أن نفسح له المجال ليشق طريقه بنفسه حتى لو أخطأ، فالأخطاء طريق للتعلم،
وليختر الأهل الوقت المناسب لبدء الحوار مع المراهق، بحيث يكونا غير مشغولين، وأن يتحدثا جالسين،
جلسة صديقين متآلفين، يبتعدا فيها عن التكلف والتجمل، وليحذرا نبرة التوبيخ، والنهر، والتسفيه..
حاولا الابتعاد عن الأسئلة التي تكون إجاباتها "بنعم" أو "لا"، أو الأسئلة غير الواضحة وغير المباشرة، وافسحا له مجالاً للتعبير عن نفسه، ولا تستخدما ألفاظاً قد تكون جارحة دون قصد، مثل: "كان هذا خطأ" أو "ألم أنبهك لهذا الأمر من قبل؟".
المشكلة الثانية: شعور المراهق بالخجل والانطواء، الأمر الذي يعيقه عن تحقيق تفاعله الاجتماعي، وتظهر عليه هاتين الصفتين من خلال احمرار الوجه عند التحدث، والتلعثم في الكلام وعدم الطلاقة، وجفاف الحلق.
- الحل المقترح: إن أسباب الخجل والانطواء عند المراهق متعددة، وأهمها: عجزه عن مواجهة مشكلات المرحلة، وأسلوب التنشئة الاجتماعية الذي ينشأ عليه، فالتدليل الزائد والقسوة الزائدة يؤديان إلى شعوره بالاعتماد على الآخرين في حل مشكلاته، لكن طبيعة المرحلة تتطلب منه أن يستقل عن الأسرة ويعتمد على نفسه، فيحدث(115/604)
صراع لديه، ويلجأ إلى الانسحاب من العالم الاجتماعي، والانطواء والخجل عند التحدث مع الآخرين.
ولعلاج هذه المشكلة ينصح بـ: توجيه المراهق بصورة دائمة وغير مباشرة، وإعطاء مساحة كبيرة للنقاش والحوار معه، والتسامح معه في بعض المواقف الاجتماعية، وتشجيعه على التحدث والحوار بطلاقة مع الآخرين، وتعزيز ثقته بنفسه.
المشكلة الثالثة: عصبية المراهق واندفاعه، وحدة طباعه، وعناده، ورغبته في تحقيق مطالبه بالقوة والعنف الزائد، وتوتره الدائم بشكل يسبب إزعاجاً كبيراً للمحيطين به.
- الحل المقترح: يرى الدكتور عبد العزيز محمد الحر، أن لعصبية المراهق أسباباً كثيرة، منها: أسباب مرتبطة بالتكوين الموروث في الشخصية، وفي هذه الحالة يكون أحد الوالدين عصبياً فعلاً، ومنها: أسباب بيئية، مثل: نشأة المراهق في جو تربوي مشحون بالعصبية والسلوك المشاكس الغضوب.
كما أن الحديث مع المراهقين بفظاظة وعدوانية، والتصرف معهم بعنف، يؤدي بهم إلى أن يتصرفوا ويتكلموا بالطريقة نفسها، بل قد يتمادوا للأشد منها تأثيراً، فالمراهقون يتعلمون العصبية في معظم الحالات من الوالدين أو المحيطين بهم، كما أن تشدد الأهل معهم بشكل مفرط، ومطالبتهم بما يفوق طاقاتهم وقدراتهم من التصرفات والسلوكيات، يجعلهم عاجزين عن الاستجابة لتلك الطلبات، والنتيجة إحساس هؤلاء المراهقين بأن عدواناً يمارس عليهم، يؤدي إلى توترهم وعصبيتهم، ويدفعهم ذلك إلى عدوانية السلوك الذي يعبرون عنه في صورته الأولية بالعصبية، فالتشدد المفرط هذا يحولهم إلى عصبيين، ومتمردين.
وهناك أسباب أخرى لعصبية المراهقين كضيق المنزل، وعدم توافر أماكن للهو، وممارسة أنشطة ذهنية أو جسدية، وإهمال حاجتهم الحقيقية للاسترخاء والراحة لبعض الوقت.
ويرى الدكتور الحر أن علاج عصبية المراهق يكون من خلال الأمان، والحب، والعدل، والاستقلالية، والحزم، فلا بد للمراهق من الشعور بالأمان في المنزل.. الأمان من مخاوف التفكك الأسري، والأمان من الفشل في الدراسة، والأمر الآخر هو الحب فكلما زاد الحب للأبناء زادت فرصة التفاهم معهم، فيجب ألا نركز في حديثنا معهم على التهديد والعقاب، والعدل في التعامل مع الأبناء ضروري؛ لأن السلوك التفاضلي نحوهم يوجد أرضاً خصبة للعصبية، فالعصبية ردة فعل لأمر آخر وليست المشكلة نفسها، والاستقلالية مهمة، فلا بد من تخفيف السلطة الأبوية عن الأبناء وإعطائهم الثقة بأنفسهم بدرجة أكبر مع المراقبة والمتابعة عن بعد، فالاستقلالية شعور محبب لدى الأبناء خصوصاً في هذه السن، ولابد من الحزم مع المراهق، فيجب ألا يترك لفعل ما يريد بالطريقة التي يريدها وفي الوقت الذي يريده ومع من يريد، وإنما يجب أن يعي أن مثل ما له من حقوق، فإن عليه واجبات يجب أن يؤديها، وأن مثل ما له من حرية فللآخرين حريات يجب أن يحترمها.
المشكلة الرابعة: ممارسة المراهق للسلوك المزعج، كعدم مراعاة الآداب العامة، والاعتداء على الناس، وتخريب الممتلكات والبيئة والطبيعة، وقد يكون الإزعاج لفظياً أو عملياً.(115/605)
- الحل المقترح: من أهم أسباب السلوك المزعج عند المراهق: رغبته في تحقيق مقاصده الخاصة دون اعتبار للمصلحة العامة، والأفكار الخاطئة التي تصل لذهنه من أن المراهق هو الشخص القوي الشجاع، وهو الذي يصرع الآخرين ويأخذ حقوقه بيده لا بالحسنى، وأيضاً الإحباط والحرمان والقهر الذي يعيشه داخل الأسرة، وتقليد الآخرين والاقتداء بسلوكهم الفوضوي، والتعثر الدراسي، ومصاحبة أقران السوء.
أما مظاهر السلوك المزعج، فهي: نشاط حركي زائد يغلب عليه الاضطراب والسلوكيات المرتجلة، واشتداد نزعة الاستقلال والتطلع إلى القيادة، وتعبير المراهق عن نفسه وأحاسيسه ورغباته بطرق غير لائقة (الصراخ، الشتم، السرقة، القسوة، الجدل العقيم، التورط في المشاكل، والضجر السريع، والتأفف من الاحتكاك بالناس، وتبرير التصرفات بأسباب واهية، والنفور من النصح، والتمادي في العناد).
أما مدخل العلاج فهو تبصير المراهق بعظمة المسؤوليات التي تقع على كاهله وكيفية الوفاء بالأمانات، وإشغاله بالخير والأعمال المثمرة البناءة، وتصويب المفاهيم الخاطئة في ذهنه، ونفي العلاقة المزعومة بين الاستقلالية والتعدي على الغير، وتشجيعه على مصاحبة الجيدين من الأصدقاء ممن لا يحبون أن يمدوا يد الإساءة للآخرين، وإرشاده لبعض الطرق لحل الأزمات ومواجهة عدوان الآخرين بحكمة، وتعزيز المبادرات الإيجابية إذا بادر إلى القيام بسلوك إيجابي يدل على احترامه للآخرين من خلال المدح والثناء، والابتعاد عن الألفاظ الاستفزازية والبرمجة السلبية وتجنب التوبيخ قدر المستطاع.
المشكلة الخامسة: تعرض المراهق إلى سلسلة من الصراعات النفسية والاجتماعية المتعلقة بصعوبة تحديد الهوية ومعرفة النفس يقوده نحو التمرد السلبي على الأسرة وقيم المجتمع، ويظهر ذلك في شعوره بضعف الانتماء الأسري، وعدم التقيد بتوجيهات الوالدين، والمعارضة والتصلب في المواقف، والتكبر، والغرور، وحب الظهور، وإلقاء اللوم على الآخرين، التلفظ بألفاظ نابية.
- الحل المقترح: إن غياب التوجيه السليم، والمتابعة اليقظة المتزنة، والقدوة الصحيحة يقود المراهق نحو التمرد، ومن أسباب التمرد أيضاً: عيش المراهق في حالة صراع بين الحنين إلى مرحلة الطفولة المليئة باللعب وبين التطلع إلى مرحلة الشباب التي تكثر فيها المسؤوليات، وكثرة القيود الاجتماعية التي تحد من حركته، وضعف الاهتمام الأسري بمواهبه وعدم توجيهها الوجهة الصحيحة، وتأنيب الوالدين له أمام إخوته أو أقربائه أو أصدقائه، ومتابعته للأفلام والبرامج التي تدعو إلى التمرد على القيم الدينية والاجتماعية والعنف.
ويرى كل من الدكتور بدر محمد ملك، والدكتورة لطيفة حسين الكندري أن علاج تمرد المراهق يكون بالوسائل التالية: السماح للمراهق بالتعبير عن أفكاره الشخصية، وتوجيهه نحو البرامج الفعالة لتكريس وممارسة مفهوم التسامح والتعايش في محيط الأندية الرياضية والثقافية، وتقوية الوازع الديني من خلال أداء الفرائض الدينية والتزام الصحبة الصالحة ومد جسور التواصل والتعاون مع أهل الخبرة والصلاح في المحيط الأسري وخارجه، ولا بد من تكثيف جرعات الثقافة الإسلامية، حيث إن الشريعة الإسلامية تنظم حياة المراهق لا كما يزعم أعداء الإسلام بأنه يكبت الرغبات(115/606)
ويحرم الشهوات، والاشتراك مع المراهق في عمل أنشطة يفضلها، وذلك لتقليص مساحات الاختلاف وتوسيع حقول التوافق وبناء جسور التفاهم، وتشجيع وضع أهداف عائلية مشتركة واتخاذ القرارات بصورة جماعية مقنعة، والسماح للمراهق باستضافة أصدقائه في البيت مع الحرص على التعرف إليهم والجلوس معهم لبعض الوقت، والحذر من البرمجة السلبية، وتجنب عبارات: أنت فاشل، عنيد، متمرد، اسكت يا سليط اللسان، أنت دائماً تجادل وتنتقد، أنت لا تفهم أبداً...إلخ؛ لأن هذه الكلمات والعبارات تستفز المراهق وتجلب المزيد من المشاكل والمتاعب ولا تحقق المراد من العلاج
ـــــــــــــــــــ
الدعوة في حياة الشباب بين الإقدام والتراجع
مشرف النافذة
27/1/1425
ارسل تعليقك ...
تعليقات سابقة ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
الشباب طاقة متوقدة وعماد تقوم عليه أركان الدعوة بعد العلماء الربانيين, إلا أن الكثير من التساؤلات تدور حول الهموم الدعوية لدى الشباب.!، منها ما نجده من أن الشاب يكون في قمة نشاطه الدعوي، ثم نفاجئ بعد وقت قصير بتصدع هذه الهمة، فيتلبس الشاب الفتور وتتغير همته؟
وهذا ما يجعلنا نتساءل باهتمام عن أسباب ذلك، وعن العوامل التي يمكن أن تعينه على الثبات؟ ونتساءل أيضاً عن دور العلماء والمؤسسات الدعوية في الحد من هذا التراجع؟, وكيف يمكن أن يطور الشاب نفسه؟
بالإضافة إلى العديد من الأسئلة التي تدور حول هذه القضية.
الهم الدعوي في عيون الشباب:
في البداية كان لنا شرف مشاركة بعض الشباب – والذين اخترناهم كعينة عشوائية – لطرح هذه التساؤلات عليهم.
حيث رأى البعض منهم أن الهم الدعوي موجود لدى الشباب بشكل عام،
يقول الأخ ع.ع: " الهم الدعوي موجود وبقوة لدى الشباب".
فيما يرى الخ ن.د (والذي فصل الحالة أكثر) أن ذلك الهم: " يختلف باختلاف الحال والمكان والزمان ".
الشباب طاقة متوقدة وعماد تقوم عليه أركان الدعوة بعد العلماء الربانيين إلا أن الكثير من التساؤلات تدور حول الهموم الدعوية لدى الشباب!
وحول حجم الوقت المخصص لهذه الدعوة قال الأخ م.س: " يتفاوت حجم الوقت من شخص لآخر لكنه بشكل عام، ليس بالحجم الملائم لما يختلج في الصدر من همه".(115/607)
في حين قال الأخ ن.د: " الدعوة لا تفارق المسلم في أي وقت من الأوقات، لأنه إذا رأى المنكر فلابد له من تغييره، وهذا من باب الدعوة المجملة. أما الدعوة على وجه الخصوص فإنه – الوقت – يختلف باختلاف العمل، وعلى كل حال فإن ساعة واحدة على الأقل قد تكفي في اليوم الواحد".
تراجع غير مسبوق:
واستكمالاً للموضوع، فقد طرحنا هذه التساؤلات على بعض المختصين في مجال الدعوة.
وكان من أولهم الشيخ جماز الجماز الذي رأى أن بروز ظاهرة تراجع الهم الدعوي لدى فئات الشباب، ظاهرة لم يسبق لها مثيل، وتابع بالقول: " لم تبرز ظاهرة التراجع عن الدعوة على نحو من بروزها في العصر الحديث بمثل ما نرى أو نسمع، والذي حدث لبعض الشباب، هو انشغال في دروب الدنيا ومتاهاتها، حتى وصل بهم الأمر إلى نسيان الدعوة والتربية والتعليم".
ويتابع الشيخ بالقول: " وليت الأمر وقف عند هذا، بل أدى تكاسلهم إلى ترك بعض الفرائض، وارتكاب بعض المحرمات، فضلاً عن التخلي عن النوافل، مع أن الغريب في الأمر أن يبقى المظهر العام كما كان من قبل، بل قد يكون مسؤولاً عن عمل خيري في مؤسسة دعوية، أو إماماً أو خطيباً".
وحول وجود هذا الهم في حياة الشباب خلال هذه الفترة الحالية التي تشهد خلالها الأمة أزمة خانقة، قال الأستاذ عبدالله العجلان: " إن ما نراه اليوم من تجمعات ومشاريع اجتماعية وتربوية وصحوة علمية في صفوف الشباب ما هو إلا واقعا يدل على إفاقة عقبت زمنا من الركود".
وأضاف قائلا: " معلوم ما يصحب الشباب من حماس وتضحية وبذل وهذا له أثره الطيب حين يجد التوجيه السليم والرؤية الراشدة".
العوامل المساعدة لثبات الشباب:
بين الشيخ الجمّاز العوامل المعينة والمساعدة في ثبات الشباب خلال دعوتهم إلى الله تعالى بالنقاط التالية:
- معرفة أسباب التراجع عن الدعوة، ثم إزالتها والحرص على تخطيها.
- الصبر على مرارة العلاج، مع المواصلة دون الانقطاع.
- استشعار أن بينك وبين عامة المسلمين، فرق، فأنت قدوة لغيرك، شئت أم أبيت، بل واجب الدعوة متعيّن عليك.
- العزم الصادق في التغيير من حال نفسك.
- تربية نفسك تربية ذاتية، وتزكيتها بالطاعات، وتنقيتها من الذنوب، وترقيتها بطاعة الله، وتعليتها بالعلم النافع والعمل الصالح.
- ابتعادك عن المجالس واللقاءات التي كانت سببا في تراجعك.
- اهتمامك بجوانب النقص في شخصيتك العلمية أو التربوية أو الدعوية والتي كانت سببا في ضعف همتك وتفريطك، والسعي لعلاجها.
- أخذ نفسك بالجدية، وترك الترخص والتساهل والتمييع.(115/608)
- مراجعة نفسك لبعض القضايا التي فتحت عليك باب التراجع مثل ( السفر للخارج للسياحة أو ارتياد الأماكن العائلية المختلطة أو عدم انكار المنكر في سلطانك أو أماكن تنزهاتك أو التوسع في المباحات أو التهرب من جميع أنواع المسؤولية أو البخل بالنفقة في أمور الخير أواهمال تربية وتعليم الزوجة والأولاد فيكونوا أعداء لك أو تبريرك لأخطائك أو إلقاء التبعات على الآخرين وما يشابهها كثير ).
- أن يكون عملك واضحا وهدفك محددا، وأولوياتك مرتبة، واعلم أن فقدت في سنين، لا يستعاد في أيام.
- أن لا تلتفت إلى تراجع غيرك من الشباب والدعاة والمربين، وتسوّل لنفسك التراجع، واستشعر مسؤوليتك أمام الله قال تعالى: ( وكلهم آتيه يوم القيامة فردا ) الآية.
- ابحث عن العمل المناسب، والمكان المناسب، والزمان المناسب، فهناك علم وهناك دعوة وهناك تربية وهناك إدارة وهناك جهاد وهناك مؤسسات دعوية وأخرى احتسابية وأخرى خيرية وأخرى إغاثية، مجالات لا تعد ولا تحصى، فضع نفسك في المكان المناسب، وما يدريك أن سبب تراجعك هو عملك السابق.
- ابتعد عن الذنوب، صغيرها وكبيرها، واستحضر آثارها القبيحة، فهي حبّالة الشيطان ليقعدك عن العمل وأنت لا تدري، فأحذر تسلم.
- اعرف الحق بالرجال، فالحق يؤخذ من كل أحد، فاجعله قائدك ودليلك، والرجل لا تؤمن عليه الفتنة، فإذا فقدته الدعوة لأي سبب كان، استمر أنت على عملك. فبعضهم يموت وبعضهم يرحل وبعضهم ينقطع خبره. وليس الحق دوماً عند رجل لا تعداه.
عوامل أخرى مساعدة:
فيما بين الأستاذ العجلان أن المشاركة في البرامج الدعوية بمعناها العام هي في حد ذاتها معين على الثبات وكذلك القرب من أهل العلم ودعاء الله بالثبات مع اقترانها بالنية الصادقة وعدم إغفال فهم طبيعة الدعوة وشموليتها لجوانب الحياة مما يؤدي لربط صحيح بين مسائل الدنيا والآخرة فيقول أن من بين العوامل:
- الانخراط في برامج تربوية وتوجيهية.
- اتخاذ صحبة صالحة شعارها التعاون على البر والتقوى واستثمار الأعمار.
- القرب من أهل العلم والفضل والرأي والتجربة.
- المشاركة في مشاريع فاعلة ومؤثرة في توجيه المجتمع.
- التضرع إلى الله بالثبات وصلاح النية والعمل.
- تأمل سير السابقين والمجددين عبر العصور من علماء ومصلحين.
- الفهم الشمولي للدعوة والعمل الخيري وكلما كنا أكثر أفقاً فإننا نخرج من الشتات الفكري وتضارب الرأي.
- الربط الصحيح في مسألة الدنيا والآخرة، فحين بتحقق التوافق بكون الدنيا بكافة ألوانها ما هي إلا طريق لباب الجنة فإننا نسلم من حالات التساقط الدعوي الذي نشاهدة ويصل أحياناًَ إلى نكسه عكسية سببها سوء الفهم.
- التوازن في قضية الدعوة كرسالة وبين الواجبات والحاجات الأخرى، فمثلاًَ كل ما كان الداعية والمربي مستقراً عائلياً فالمتوقع أن يستمر عطائه الدعوي، بينما حين(115/609)
يفرط في واجبه الأسري كأب أو زوج.... الخ، فإنه سيجد الضعف واليأس والشك يدب إليه فوقته مشغول وأسرته ضائعة وعلاقاته مهدده لاشك أن السبب انعدام التوازن والأخطر حين نورث جيلاً غالبيته بين إفراط وتفريط.
أسباب الفتور في العمل الدعوي:
آراء الشباب:
وحول الأسباب المؤدية لهذا الفتور في الدعوة والتراجع عن الهم الدعوي لدى الشاب المسلم يقول الشاب ن.د:" أرى أن عدم ارتباطنا بعمل مؤسسي وقصر الدعوة على العمل الفردي من أهم الأسباب المؤدية للفتور وخاصة أننا نستعجل ثمرة أعمالنا لما يعترينا من قلة الخبرة في هذا المجال".
ويؤيد الشاب م.س هذا الرأي فيقول: " من الأسباب المودية لهذا التراجع الاتكالية عند كثير من الشباب، وعدم العزم على البدء و إن بدأ لا يستمر، وذلك لعدم وضوح الهدف وكذلك لانتهاء الطاقة الموجودة لديه سواء كانت علمية أو غيرها، فيمل ويكل وكذلك الوقتية ونحو ذلك، ومنها تجاهل حاجة الأمة لهذه الدعوة، وتبني مشروعات ليست مناسبة فلا يحسنون توظيف الطاقات الارتجالية في العمل حتى يرى العجز ويرى سهام العشوائية فيتشتت ويترك".
في حين حمل الأخ ع.ع الشباب المسؤولية فقال: " أرى أن عدم حمل هم المسئولية وضعف الشباب هو السبب لهذا التراجع ".
العوامل المسببة للفتور:
يفصل الشيخ جمّاز الجمّاز العوامل المسبب لتراجع الشباب في الدعوة مقسماً إياها إلى قسمين:
القسم الأول: فيما يتعلق بالقيادة، والقسم الثاني فيما يتعلق بالشاب نفسه، فيقول: "هناك أسباب تتعلق بالقيادة (الحركة، التعليم، المجموعة، المؤسسة، المسؤول)، ومنها:
- ضعف الجانب التربوي عنها عندها لأفرادها إن لم يكن معدوماً.
- عدم وضع الفرد في المكان المناسب، وهذا يؤدي إلى فشل العمل وخسارة العاملين.
- عدم توظيف كافة الأفراد في العمل، فيُركم العمل على شخص أو فئة، ويبقى آخرون بلا عمل، ومع الأيام يشعر الشاب بعدم إنتاجه، بل بتهميشه، فيتراجع إن لم ينقلب.
- عدم متابعة الأفراد، لأن الشباب كغيرهم تمر بهم مصائب شتى ومشكلات، فإذا أُهملوا أصيبوا بخيبة أمل فأحبطوا.
- عدم حسم الأمور بسرعة، فالمشكلة تبدأ صغيرة، ويُهمل علاجها، مما يسبّب تراكم المشكلات والقضايا فيتعطل العمل، بل تتوالد المشكلة أحياناً، وخاصة إذا كانت تتعلق بشاب مسؤول عن عمل. وحينها قد تنجح الجهود فيثبت الشاب، وقد لا تنجح فيتراجع إن لم يضل.
- الصراعات الداخلية بين العاملين، فهي تسمّم الأجواء وتكهربها، وتفسد علائق الشباب العاملين وتورث الجدل والمراء والنقد الهادم للبناء، فيتفرق الشباب.(115/610)
- عدم أهلية القيادة، فهي ضعيفة في قيادتها، وعدم قدرتها على الإمساك بالصف، وأحياناً ضعيفة في إمكاناتها وطاقاتها البشرية والمالية والعلمية والثقافية والفكرية أو بعض منها، فتشبع جانباً وتهمل جانباًَ، فيتراجع الشباب لإشباع المفقود, والطامة أن القيادة تحسن السيطرة على الشاب إذا كان في سن معينة، وثقافة معينة وظرف معين, فإذا تقدم به السن ونمت الثقافة وتغير الظرف, أفلت منها, وصار مبدعاً وليس عندها قدرة على احتوائه ولا الاستفادة منه).
القسم الثاني:
ثم ننتقل إلى القسم الثاني وهي الأسباب المتعلقة بالشاب نفسه فيقول: (وهناك أسباب تتعلق بالفرد- الشاب -، ومنها:
- التغيير لما كان عليه الشاب، كتبديل السلوك وتغيير النوايا وقلب الأوضاع، قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) (الرعد: من الآية11), وقال تعالى: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) (الأنفال: من الآية53).
- إهمال تزكية الشاب نفسه، وانقطاعه عن مجالس الذكر.
- تقليد الشاب لمن يكبره في جوانب فيها التساهل، ويرى أن ذلك مبرراً لتساهله.
- عدم التوازن في العمل والتربية.
- ضعف التأسيس لهذا الشاب، فلما ظهر أمره وبرز،حطّمهُ الناس، وحصيلته تكاد تكون مفقودة، مما أظهرت خللاً كثيراً ونقصاً كبيراً، جعلته يرجع إلى الوراء.
- الوقوع في فتنة الزوجة والولد والمال، وعدم التفطن لخطورة مثل هذه المحبوبات، فغالباً حبه للزوجة والولد والمال قد يجعله يرتكب الحرام من أجلهم، وحينئذٍ لا تسأل عن دعوته.
- إعجاب بالنفس والغرور وحب الظهور، فلا تراه إلا مزكياً لنفسه، مادحاً إياها بما فيها وما ليس فيها مطالباًَ غيره بالتوقير والاحترام والطاعة، مستعصياً على النصيحة، وفي كل حادثة أو أمر ما يفتك ذلك بالشاب حتى يهلكه ويسقط في الاختبار، ويعظم ذلك الداء حينما يكون الشاب مفتياً أو قاضياً أو علماً بارزاً، فيرى نفسه في مكان أفضل من غيره، ويتصدر في كل شيء، وما درى أن ذلك قاتله.
- صحبة ذوي الإرادات الضعيفة والهِمَم الدنيئة، بحجة الترويح عن النفس أو دعوتهم، وخلال فترة وجيزة يسري ذلك المرض إليه بالعدوى.
- الوقوع في المعاصي والسيئات، وخاصة الصغائر، كإطلاق النظر إلى الحرام ونحوه، وكل مرة يقول: الحمد لله هي صغيرة تكفرها الصلاة، الصدقة،..,.. وفجأة إذا هو يغصّ بالكبيرة وما درى ذلك الشاب أن الصغيرة مفتاح الكبيرة، إنها سهام مسمومة أثخنت قلبه بالجراح ومزقته تمزيقاً.
- التنصّل من المسؤولية وإلقاء اللائمة والتبعية على غيره، حتى يتفرغ للعمل، وحقيقة الأمر أنه ملّ العمل وأُحبط أكثر من مرة، فكان التنصّل حيلة هشمته في رأسه.
- طبيعة الشاب غير انضباطية، فهو لا يجيد إلا التفلت والتخلص من العمل، وعندما يشعر بالكبت في نظره، يولي دبره خلف ستار كثيف من المبررات.(115/611)
- الخوف على نفسه من المساءلة أو السجن أو حرمان الوظيفة، أو الخوف على نفسه من الفقر، فتراه ممسكاً ماله لا ينفق منه شيء ولو كان يسيراً لصالح الدعوة مما أحبط نفوس كثير من الشباب، وزرع الوهن فيها.
- الترف والغلو، فبعضهم يُحمّلون أنفسهم ما لا تطيق، ولا يقبلون التوسط في شيء، وما علم الشاب أن نفسه ضعيفة، فتكون ردة الفعل وخيمة.
- التساهل والترخص، فبعضهم يتساهل في امتثال أمر الكتاب والسنة، فمن تساهل صغير إلى تساهل كبير، ومن تساهل في قضية إلى تساهل في كل قضية، إلى أن يستحوذ الشيطان عليه وعلى أعماله، فيركله ركلة تنسيه دعوته ونشاطه.
- الغيرة من الآخرين، فيرى الشاب أقرانه متفاوتون في القدرات والمؤهلات الشخصية والنفسية والعصبية والفكرية والعلمية والتربوية والدعوية، بعضهم مبدع، وآخر مرموق, وآخر ذكي،... وهكذا، وهو لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، فيعمد الشاب إلى التسلق, ويدخل البيوت من غير أبوابها، فإما أن ينتقم، وإما أن يقدح في غيره، وإما أن يتفلّت من كل شيء، يظن أن هذا هو الحل.
- ضغط مجتمعه، فلا يسمع الشاب إلا كلمات تروّي عزمه، وتوجيهات تثني همه عن العمل، فضلاً عن الأذية من أبويه أو زوجته.
- تركه للأجواء الإيمانية، كالذي ينتقل من مدينة إلى أخرى فيفقد أخوته ونشاطه أو يُبتعث للدراسة فيقع في الرذيلة.
- ضغط الحركات والتيارات والتوجهات في الساحة الدعوية، فالشاب يعمل ويجدّ، ويفاجأ بمن يشكّك في منهجه، وينقد عمله، أو يُبدّع في دعوته، فيترك الشاب العمل وينكفأ ".
انفتاح أبواب المنكرات:
ويلامس الأستاذ عبدالله السبيعي بعض الأسباب الدقيقة المسببة لهذا التراجع فيقول:
"- الفتور الدعوي الشبابي قد تكون له ظروف متعددة.. وقد يستنتج الواحد منا عشرات الأسباب –وفيها الصحيح والضعيف!-.. ويكفينا منها الاطلاع على الصورة العامة، وتحديد الجوانب المؤثرة، مع البعد عن الإغراق في التنظير والتكاثر بذكر الأسباب.
- والشباب جزء من المجتمع؛ فالفتور الديني أو الدعوي العام من أسباب الفتور الدعوي عند الشباب."
ثم يبين أبرز الأسباب التي قد تؤدي إلى هذا الفتور فيقول:
من أبرز الأسباب باختصار:
1- الفتور العام..
2- الخوف الأمني من قبل الشباب، ووجود تجاوزات من بعض القطاعات الأمنية ضد بعض الأعمال الدعوية.
3- الخوف الأمني من قبل بعض الدعاة، ومبالغته بنقد أعمال العنف تبرئة لساحته البريئة أصلاُ..
4- انفتاح أبواب المنكرات مع عدم ترتيب الصف الدعوي للبدء بالأولويات.(115/612)
5- خفوت القيادات الدعوية التي كانت تواجه المنكرات العامة، وانشغالها بأشياء أخرى).
السخرية والتشويه المتعمد:
ويرى الأستاذ عبدالله العجلان المسببات المؤدية لهذا التراجع داخلية وخارجية فهناك ضعف المنهجية الدعوية وعدم فهم الواقع الذي تعيشه الأمة وهناك تشويه صورة الأعمال والمشاريع الدعوية وعدم قدرة المشاريع القائمة على استثمار هذه الطاقات بتوجهاتها المختلفة فيقول: (الأسباب المؤثرة والمسببة لتراجع الشباب في دعوتهم متنوعة ومنها:
- ضعف المنهجية الدعوية التي ينتهجها الشاب الداعية.
- وجود بعض التشويه المتعمد والساخر لبعض مشاريع الدعوة.
- ضعف الرؤية الواعية بالواقع والمدركة لما يحسن فعله.
- عدم استيعاب بعض المشاريع لتوجهات الشباب وميولهم الدعوية).
مقاومة التيار العلماني الإفسادي:
كما يوضح الأستاذ السبيعي أن من الأساليب المعينة لتهيئة المجال للدعوة عند الشباب: (زيادة الجرعات الإيمانية والعلمية، وهذا مشروع لوحده.
- حماية العناصر الدعوية ذات الأسلوب السلمي من الإيذاء، بالاتصال مع الجهات المعنية، والتفاف العلماء والدعاة والمسئولين الصالحين للاستنكار السريع الساخن مع الحدث، وحماية أي عنصر دعوي يتعرض للإيقاف أو الحبس.
- التفاف الشباب حول العلماء الدعاة، والضغط عليهم لإجبارهم على التفاعل، فإن العالم يتأثر أحياناً بمن حوله من الطلاب أعظم من تأثره بالدعاة الآخرين.
- تشاور أهل العلم والدعوة في ترتيب الأولويات، لأن التركيز على مشاريع متقاربة يبعث له قوة، والنجاح في مشروع يبعث التفاؤل للبدء في آخر.
-إشراف العلماء على الحركة الدعوية، وإسناد القيادة التنفيذية إلى الطاقات الدعوية النشطة.
- إبراز قيادات دعوية أمارة بالمعروف ونهاءة عن المنكر، وإظهارها في الساحة.
- تكوين المجموعات الدعوية الشبابية، ذات شقين: الدعوة العامة، وإنكار المنكرات، يتم التواصل بينهم للدعوة الإصلاحية المنظمة.
- الإنكار الجماهيري الجماعي المنظم المتزن على منكرات محددة، والدعوة لذلك بوسائل الاتصال المتاحة، فالاجتماع قوة في تغير المنكر المعين، كما هو وسيلة مشجعة للدعوة عموماً.
- حث العلماء والدعاة والشباب على ترك ما لا ينفع من الخصومات الجانية، وتوجيه الجهد لمقاومة التيار العلماني الإفسادي..، ومن طرق ذلك:
- إبراز الخصم الحقيقي للدعوة، وإحياء روح التحدي والمقاومة في نفوس الشباب.
- نشر قصص الدعوة؛ خصوصاً نجاحات الدعوة الحديثة، أو صبر رجالاتها، عبر الأشرطة والأنترنت والرسائل المكتوبة، أو اللقاءات الشخصية.
- حث الشباب على الالتحاق بهيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
- تكوين مجموعات شبابية دعوية منظمة لمساندة أعمال الهيئات [الصف الثاني](115/613)
- الدعم المالي لرجالات الهيئات؛ نظراً لتدني الرواتب نسبياً أو لما يصرفونه أحياناً ضمن أعمالهم.)
التطوير الذاتي.. ودوره في ثبات العمل الدعوي:
التقييم الذاتي المستمر
يرى الأستاذ العجلان أن تطوير الشاب لذاته هو من العوامل المهمة في ثباته في دعوته فيقول: ( لا شك أننا جميعا مسؤولين عن تذكير بعضنا البعض بواجب الدعوة والصبر، والمسؤولية الفردية لكل واحد منا تجاه نفسه هي أكبر من سابقتها، وكما هو معلوم الناجحون ينظرون إلى ما يجب عليهم وليس ما يجب على غيرهم وأولى البشر بهذه النظرة الإيجابية هم حملة الدعوة.
فيجب علينا جميعا:
أولا: مجاهدة النفس على مواصلة الطريق والتواصي بالحق والصبر.
ثانيا: التقييم الذاتي المستمر، مع التطوير للتجربة الدعوية وإشراك من يستفيد منهم في العملية التقييمية.
ثالثا: تدارك النفس حين الشعور بالضعف والفتور بمجالسة أهل الثبات والصدق، مع التفاؤل والثقة بالنفس حتى لانؤتى من قبل أنفسنا، فحين نثق بقدراتنا فإننا ولا شك سنقدم نموذجاً يقتدى به في المشروع الدعوي والثبات عليه.
رابعا: الاستفادة من الآخرين فالحكمة ضالة المؤمن خصوصاً في جانب تطوير الذات وصقل الموهبة واكتساب القدرات والمهارات. ).
سفر سعيد إلى الجنة:
كما يحث الشيخ الجماز الداعية الشاب إلى الرجوع لكل ماينمي قدراته الدعوية وعلى المنهجية الدعوية فيرسل بعض الوصايا ويقول: ( يجب أن يسعى الشاب إلى (الإيجابية في حياة الدعاة)، و(يحرص على فاعلية المسلم المعاصر)، ويطلب (الهمة العالية)، ويحذر من الكسل (حتى لا يكون كلاً)، ويحذر من خلق (الفوضوية في حياتنا) والتي نعيشها ونمارسها، ووصيتي لك بـ (الماس الذي نريده)، وجدد العهد بـ (الرقائق)، وأكثر من السؤال (كيف تطيل عمرك)، واحذر أن تكون ممن عناهم صاحب رسالة (عجز الثقاب), واطّلع على (العوائق) لعلك تتجاوزها، وابحث عن تشخيص بعض مرضك في (ظاهرة ضعف الإيمان) و(الفتور مظاهره وأسبابه وعلاجه)، وأكثر من مطالعة (آفات على الطريق) في التشخيص الدقيق والعلاج المفيد وجدد العهد بـ (الآخرة) واجتهد في (الثبات)، قم انطلق بـ (29 وسيلة دعوية) و(46 طريقة لنشر الخير في المدارس) و(فتح آفاق للعمل الجاد) و(دليل الفرص والوسائل الدعوية) تجد فيها ما يناسبك وقدراتك, واحرص على (الدعوة العائلية) فهي أوجب الواجبات ولا تغفل عن (الدعوة إلى الله في السجون)، وينبغي أن تهتم بالمسجد (من أجل مسجد فاعل)، واعلم أنك (مسافر في طريق الدعوة) عله أن يكون سفراً سعيداً يحط بك الرحال في الجنة بفضل الله وكرمه.
يؤيد بعض الشباب هذه النقاط فيقول الأخ ن.د: " تطوير الشاب نفسه لا شك أنه سبب في ثباته على الدعوة لأنه كلما طور ذاته وأعمل أفكاره سوف تنفتح له مجالات عديدة فيكون هذا سبب في ثباته وازدياده في العمل الدعوي ".(115/614)
ويقول الأخ م. س: " له دور كبير جداً وذلك لوضوح الهدف والبصيرة بالوسيلة والاستعانة بما معه من زاد التربية فيستمر ويجدد ولا يكل ". في حين أن الأخ ع.ع يرى أن لها دور ولكنه دور ضعيف جداً فيقول: " لها دور ولكن ضعيف جداً ".
كيفية تطوير الذات.. للمساعدة في الثبات:
نصائح شبابية:
وحول كيفية تطوير الشاب لقدراته الدعوية يرى الأخ ن.د أن الارتباط بالمؤسسات الدعوية هو من أقوى هذه الجوانب فيقول: " الارتباط بالعمل المؤسسي من أكثر الأمور تطويرا لقدرات الشاب ". ويرى الأخ م.س أن اللقاء بالتربويين والتعمق في مجال التربية هو من أقوى جوانب تطوير القدرات الدعوية فيقول: " أطور نفسي بالالتقاء مع بعض التربويين، وقراءة بعض المراجع في هذا المجال، وممارسة العمل التربوي من خلال الإشراف التربوي على بعض الحلقات ونحوها ".
ويرى الأخ ع.ع أن التطوير يكون بأمور فيقول: " منها: أولا: الصبر والاحتساب. ثانيا: الاستفادة من الخبرات.ثالثا: الاستفادة من الأخطاء".
العلماء ورودهم في التطوير:
ولا شك أن للعلماء والمؤسسات الدعوية دور في فتح آفاق الدعوة للشباب كما ذكر بعضهم وحول هذا المحور المهم يقول الشيخ جماز الجماز: " دور العلماء في فتح آفاق الدعوة للشباب:
ضرورة اهتمام العلماء بالشباب في كتاباتهم ودروسهم وإيلائهم اهتماماً بالغاً، من حيث إبداء الملاحظات والتوجيهات النافعة لهم.
العمل الجاد في إعداد نشأ متميّز في تربيته وتعليمه ودعوته ليكونوا دعاة ناضجين.
فتح الباب لهم، ورحابة الصدر معهم، واتخاذ بعضهم صديقاً، ليكون حلقة وصل صادقة.
الحوار معهم ومناقشتهم فيما أشكل عليهم، وعدم إهمالهم، واستشارتهم فهم أهل لذلك.
العمل على استخراج النصوص من الكتاب والسنة، وتوظيف الطاقات لذلك، الخاصة بالدعوة، والاهتمام بدراستها وشرحها، وتدريسها للشباب الدعاة.
رسم الأهداف وبيان الخطط وإبراز الاستراتيجيات الدعوية، وتقديمها للشباب وغيرهم من المؤسسات الدعوية وتأصيلها تأصيلاًَ شرعياً صحيحاً.
ضرورة دخول العلماء في المؤسسات الدعوية والتربوية والتعليمية، لتوثيقها وتصحيح مسارها وصبغها صبغة شرعية تؤهلها.
فيما يرى الأستاذ العجلان أن هذا الدور مهم جدا فيقول: " ضرورة فتح العلماء قلوبهم للشباب كدعاة مبتدئين والصبر على أسئلتهم ومشاكلهم.
مساهمة العلماء بوضع برامج تهتم بصنع الدعاة والمصلحين في شكل خطط بعيدة المدى يرجى منها المحافظة على الشباب الدعاة واستقطاب المزيد من الطاقات لمجالات الدعوة.
تشجيع العلماء للبرامج الدعوية الموجودة ليتوجه الشباب إليها، ولا يخفى حاجة الساحة اليوم إلى طاقات ناضجة على مستوى من الثقة بالنفس والقناعة بالمشروع والرسالة التي تقدمها للأمة.(115/615)
أما المؤسسات الدعوية فهي تحمل ثقلا كبيرا في هذا المجال فيجب عليها:
أن تدعم الشباب الدعاة بما يحتاجون من مال أو معرفة، وأن تفتح أبوابها للطاقات مع إتاحة الفرصة للتجربة مع التدريب المهاري اللازم.
أن تطرح المؤسسات ذات السبق تجاربها الدعوية كنموذج وفكرة يمكن للدعاة من الشباب أن يطبقوها عملياً، مع وجود التوجيه من أرباب التجربة. "
وللمؤسسات الدعوية دور:
أما دور المؤسسات الدعوية في فتح آفاق الدعوة للشباب، فيحددها الشيخ الجمّاز بما يلي:
تخصّص بعض المؤسسات الخيرية في الجانب الدعوية وإشباعه.
إثراء البرامج الدعوية المطروحة برموز لها جذور راسخة في الدعوة.
إقامة الدورات الطويلة والقصيرة التأهيلية للشباب في فن الدعوة بجميع أشكالها.
الاهتمام بإجراء الدراسات والبحوث حول المشاكل الدعوية والعوائق الدعوية والأساليب الناجمة دعوياً وغيرها.
استقبال استشارات الشباب الدعاة، وإيجاد الحلول المناسبة لها.
إصدار الرسائل والكتب الخاصة بالفرص والوسائل الدعوية وتجارب العمل الدعوي ".
التغلب على الرهبة من خوض التجربة الدعوية:
حلول عملية:
وحول الحلول في وجود الخوف والرهبة من خوض غمار مجال الدعوة يقول الأخ م.س: "يمكن التغلب على هذا الجانب بأمور:
النظر في أخبار من نجد من الغابرين ورؤية ماذا فعلوا في الدنيا.
استشعار أن هذا تكليف من الله تعالى وهو نهج المرسلين.
استشعار أن الله هو المعين في هذا إذا توفرت شروط القبول.
الاستعانة بمن يعين في هذا واستشارة من سبق لإختيار المكان والوقت والهيئة المناسبة.
العلم أنك مهم في هذا الواقع فلو تركت ترك غيرك حتى... فلا تتوانى.
دعاء الله تعالى بأن ييسر الأمر في هذا.
عدم النظر في ما يتعرض له الدعاة أو تتعرض له الدعوة من عقبات والعلم بأنها عين النجاح في هذا العمل وأن هذا هو طريق كل دعوة فليس خير من دعوة محمد صلى الله عليه وسلم في واقعه ومع ذلك حصل ماحصل. "
كما يقول الأخ ن.د: " يمكن ذلك بالارتباط مع أحدى المؤسسات الدعوية لأنه بهذه الطريقة سوف يشعر أن أعباء الدعوة ليست مقصورة عليه بل موزعة بعمل منهجي مؤسسي تكاملي".
السيرة النبوية.. نبع لا ينضب:
ولا شك أن السيرة النبوية مليئة بالدروس الدعوية، حول كيفية الاستفادة منها يقول الأستاذ العجلان: " 1- السيرة النبوية هي منهج للداعية ليس في قضية الفاعلية فحسب بل يتعدى الأمر إلى منهج الداعية وأسلوبه وغير ذلك.(115/616)
2- السيرة عبارة عن تجربة معصومة نقلت لنا عن خير البشر وأحسنهم طريقة، وفيها المواقف المتنوعة، فتارة مفاوضات مع العدو وأخرى حال الحرب وأخرى إرشاد وهكذا فمدرسة النبوة معين لا ينتهي فأولى من يستفيد منها هو الداعية لينتهجها واقعاًَ ويدعو الناس إلى معانيها وتعاليمها ".
ويقول الشيخ الجماز:" إنّ أحسن طريقة لتمثل السيرة النبوية في الدعوة إلى الله تعالى, أن تُدرّس السيرة لهؤلاء الشباب الدعاة، ومن المحزن أن تكون سيرة النبي صلى الله عليه وسلم مفقودة في دروس العلماء إلا قليل منهم.
ولو أنك سألت الشباب الذين تبوءوا الدعوة واضطلعوا بها، ما نصيبهم من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، وكيف درسوها، وماذا درسوا فيها، لأمسكت برأسك من هول ما سمعت منه ( لم أدرسها ومنهم من يقول أحياناً أكلّف بدرس موضوعي في السيرة ومنهم من يقول كان الاهتمام منصب على الدعوة والتربية والعمل الحركي ومنهم من يقول كنا إذا سألنا عن كتاب في السيرة لم يُلق له اهتماماً ومنهم من يقول دائماً يقال لنا اهتموا بدروس العقيدة والفقة ".
ونحن نقول: " إنّ دراسة سيرة النبي صلى الله عليه وسلم كلها تفسير وتوحيد وفقه ودعوة وتربية، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
والعَجَب أن الأوائل كانوا يحفظون مبادئ السيرة النبوية وسيرة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم العشرة وغيرهم كما يحفظون القرآن.
والمقصود أن تكون السيرة أساساً في دروس العلماء والشباب، ويُوجّه الدعاة إلى استنباط الدروس والعبر، وإبرازها والاستفادة منها.
ومن الكتب التي عُنيت بهذا الجانب وأحث الشباب عليها " السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية " لمهدي رزق الله أحمد، و " وقفات تربوية مع السيرة النبوية " لأحمد فريد ".
دعوة أخيرة:
ثم يختم الأستاذ السبيعي هذه القضية فيقول: " وأخيراً أقول.. هذه صورة تنظيرية، ولا بد أن يتفرغ لها مجموعة من الدعاة وأهل العلم.. ويتخففوا من كثير من ارتباطاتهم الأخرى، لأن أي مشروع لا بد له في البداية من قوة عاملة متفرغة مضحية..!
هذا كلمات صغيرة تحتاج إلى جهود كبيرة.. ولو كانت العبرة بالجهد البشري لما استطعنا.. ولكن نعلم أن المطلوب منا بذل السبب، والصبر قليلاً.. وتأتي النتائج فوق التوقعات: "ومن تقرب إلي شبراً تقربت إليه ذراعا.".
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
المشاركون في القضية:
الشيخ جماز الجماز مشرف تربوي
الأستاذ عبدالله السبيعي كاتب وباحث تربوي
الأستاذ عبدالله العجلان موظف بمكتب المنتدى الإسلامي بالرياض.
ـــــــــــــــــــ
الدور التربوي لحملات الحج(115/617)
مشرف النافذة
2/12/1424
ارسل تعليقك ...
لا توجد تعليقات ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
أياما معدودات يتنقل الحاج فيها بين عبادات ومشاهد عظيمة ذات تأثير تربوي كبير على النفس كانت في السابق رحلات فردية أو مجموعات صغيرة تعتمد على الاجتهاد بصورة كبيرة، والآن وبعد تنظيم مسؤولية نقل الحجيج أصبحت حملات الحج تحمل عبئاً كبيراً ودوراً واضحاً في تجلية آثار الحج التربوية على الحاج بالإضافة إلى الأمور الفقهية.
ومن هنا يسر موقعكم ( المسلم ) أن يتطرق لهذه القضية ( الدور التربوي لحملات الحج )، والتي ناقشنا خلالها بعض المسؤولين عن حملات الحج والدعاة، وبعض من قام بأداء هذه الشعيرة عبر حملات الحج، فنسأل الله أن يوفق الجميع لما فيه صلاح الأمة أجمعين، في بداية تحقيقنا طرحنا هذا المحور المهم للجميع، وهو :
هل يحمل المسؤولون عن حملات الحج هماً تربوياً يمكن أن يتخطوا به حاجز الربح والخسارة ؟
بدأنا بالأستاذ يوسف الغليقة، والذي عرف لنا ابتداءً المقصود بالتربوي، والذي يرى أن على أصحاب الحملات السير نحو تحقيقه فيقول :" إن المقصود بمصطلح " التربوي " هو: مجموعة التصرفات العملية والقولية المأخوذة من نصوص الشريعة، والتي يمارسها إنسان بإرادته مع إنسان آخر بهدف مساعدته في اكتمال جوانب نموه وتفتيح استعداداته ، وتوجيه قدراته ، وتنظيم طاقاته ليتمكن من ممارسة النشاطات وتحقيق الغايات التي يحددها الإسلام" ثم يضيف مبيناً رأيه حول وجود هذا الهم لدى أصحاب حملات الحج، فيقول : "يتباين المسؤولون عن حملات الحج في حمل الهم التربوي، وخاصة من هم على رأس هرم المسؤولية نظراً لكثرة عدد مؤسسات خدمات الحج، واختلاف الأوساط التي عاشوا فيها ، أما عن اللجان الثقافية والتوعوية لمناسك الحج، فهذه غالباً تحمل هذا الهم التربوي في معظم الحملات ، ولا شك أنه في ظل التنظيم الجديد لمؤسسات خدمات حجاج الداخل نجد أن الحملات تعي أن لها دوراً تربوياً تؤديه أثناء الحج، وخاصة أثناء المشاهد في المشاعر المقدسة".
الآن وبعد تنظيم مسؤولية نقل الحجيج أصبحت حملات الحج تحمل عبئاً كبيراً ودوراً واضحاً في تجلية آثار الحج التربوية على الحاج بالإضافة إلى الأمور الفقهية
ويرى الأستاذ محمد المنصور أن المسؤولين عن حملات الحج يعون هذا الأمر، بل يعون أن هذا الأمر واجب عليهم تأديته، فيقول: "المسئولون في حملات الحج يحملون هماً تربوياً كبيراً ويعون بأن لحملات الحج الدور التربوي واجباً عليهم تأديته أثناء الحج، وإن أمكن بعده التواصل مع المعنين في ذلك"، ثم يضيف قائلاً :" وقد عايشت هذا كثيراً مع مسؤولي الحملات _ولله الحمد والمنة_" .(115/618)
في حين أن الأستاذ فهد السيف يرى أن اختلاف الأهداف موجود باختلاف الأشخاص، فيقول : "الذي يظهر أن المسؤولين في الحملات يختلفون باختلاف الأشخاص في همهم التربوي ، فمنهم من لا يحمل أي هم تربوي، أما حَمَلَة الهم التربوي فإن من يمارس خدمة الحجاج بنفسه فهو يمارس في الوقت نفسه دوراً تربوياً ، وكذلك من يقدم البرامج الثقافية يقدم برامج تربوية في الوقت نفسه "، ويؤكد الأستاذ خالد بن عبدالعزيز العمر هذا الرأي، فيقول :" في اعتقادي أن هذا الأمر راجع لصاحب الحملة والمشرف عليها"، ثم يستعرض تاريخ بداية نشاط الحملات في الحج معرجاً على بعض الصور الموجودة في بعض الحملات، فيقول :" فكما نعلم أن الحملات لها تاريخ بدأ بفكرة قبل بضع سنوات تهدف إلى إعطاء الحاج الراحة التامة مع جعله متفرغاً لعبادته في الحج ، ثم تطورت المسألة عند مجموعة من هذه الحملات ، لتصبح هدفاً تربوياً يستغل ، ثم بدأت في السنوات الأخيرة بالتركيز على جانب الرفاهية الزائدة للحاج مغفلة جوانب تربوية، وفرصة قد لا تتكرر لغيرهم في مثل هذا الوقت ، مع أني لا أحكم بالغالبية العظمى، ولكن هذا الذي ظهر في الآونة الأخيرة ، مما جعل بعضها – وخصوصاً الحملات الجديدة – لا تعي المعنى التربوي لهذه الفريضة العظيمة ، وما يترتب عليها من آثار إيجابية قد لا تنسى" .
وحول هذا الجانب استطلعنا رأي بعض من أدى هذه الشعيرة العظيمة بواسطة حملات الحج، فيقول الأستاذ فهد الدايل :"الغالب - والله أعلم بالنيات - أن أكبر همه هو الربح والخسارة - فيما يظهر لنا من خلال حجنا عن طريق بعض حملات الحج – بعضهم كانت البداية له التسهيل على الناس والحرص على إصلاحهم وبمرور السنين تحول الهم إلى مقدار الربح من هذا العمل ، وترى ذلك واضح وجلي عندما تلاحظ الفرق الشاسع بين ما تم الوعد به من خدمات قبل موسم الحج وما تم تنفيذه أثناء موسم الحج ، ثم ترى خدمات هذه الحملة قبل سنوات والآن تغيرت خدماتها إلى الأقل ومن الخدمات الدور العلمي والتربوي المنوط بها والتي نحن بحاجة لها أكثر من الغذاء" . في حين أن الأستاذ محمد اليوسف يرى أن هذا الهم موجود في الحملات، ولكنه يأتي بعد الهدف الربحي، والغالب أنه يوجد عند أهل العلم والعلماء، فيقول :" في الحقيقة أن غالب أصحاب الحملات همهم الأول هو الربح، ويأتي من بعده الهم التربوي، وقد تجد ذلك الهم يحمله المشرفون في الحملة خصوصاً من العلماء وطلاب العلم، وعندما قلت في كلامي: غالب، فأنا أعني ليس كل أصحاب الحملات" .
وعند عرض هذا المحور على أهل العلم قال الشيخ فهد العيبان – حفظه الله - :" الملاحظ على كثير من مسؤولي حملات الحج أنهم يحملون هماً تربوياً، ولكن قد يختفي هذا الهم في خضم زحمة العمل والمصاعب التي قد تواجههم"
ويرى الشيخ جماز الجماز أن نسبة المسؤولين عن حملات الحج الذين يحملون الهم التربوي هي الثلث، فيقول :" نسبة المسؤولين عن حملات الحج الذين يحملون هماً تربوياً هي الثلث 30% من المسؤولين" .(115/619)
ونجمع الأقوال بكلام لفضيلة الشيخ ناصر العمر – حفظه الله – حيث يقول حول وجود هذا الهم لدى المسئولين عن حملات الحج، وهل من معارضة مع الرغبة في الأرباح التجارية، فقال:" أقول : يختلفون في ذلك ليس كل القائمين على حملات الحج على درجة واحدة منهم من همه الدنيا، وهذا لاحرج فيه بالنسبة لمن يريد التجارة فحسب لكنه خالف الأولى ؛لأن الأولى أن يجمع بين التجارة وغيرها، وهذا هو هم الأكثر حسب ما أعرف فإن أكثر القائمين على حملات الحج من أهل الخير ويعنون بكثير من البرامج، ولكن أيضا يتفاوتون في هذه البرامج والجانب التربوي هي من أقل البرامج عناية في حملات الحج؛ لأنهم يركزون على جوانب قد تكون موضوعية فيما يتعلق بأحكام الحج والمشاعر وغيرها وجوانب عبادية وهي من التربية على كل حال ويصعب الحكم على الكثير بحكمٍ واحد، وبالجملة فالأمر يحتاج لمزيد من العناية والدراسة".
ثم يعلق – حفظه الله – ناقلا القضية إلى جزء آخر منها، فيقول : "ولذلك يأتي السؤال التالي ، وهو: كيف يمكن لهم تأسيس هذه الأبعاد السامية في الحملات ؟
فأقول : فاقد الشيء لا يعطيه إذا كان صاحب الحملة لا يحمل أصلاً هما تربوياً ودعوياً فإنه يصعب عليه أن يعنى بهذا إلا إذا جاء بأناس معه، وهكذا نستطيع أن نتعامل مع حملات الحج بأن يكون مع صاحب الحملة عدد من المعنيين بأمور الحج والتربية وغيرها؛ لأن الإنسان إما أن يحمل الهم بنفسه، وإما أن يكون معه من يحمل الهم، وكم أتمنى أن تقام دورات تدريبية لأصحاب حملات الحج يبين فيها ماالأمور التي يجب أن يعنوا بها، ويكون منها أيضاً الجانب التربوي والتركيز عليه وتأثيره مع بيان أن الجانب التربوي أشمل مما يفهمه كثير من الناس؛ لأن موضوع العبادة والذكر وكثير من أعمال الحج هي تربوية ، فأن تقام الدورات لأصحاب حملات الحج، وهذا مما يسددهم ويجعل لحملاتهم قيمة أكبر، ويجعل الإقبال عليهم أكثر، فهي تزيدهم ولا تنقصهم ديناً ودنيا، وكم أتمنى من مكاتب الدعوة أن تعنى بإقامة مثل هذه الدورات للإخوة القائمين على حملات الحج ، وأن يشارك من كل حملة بعض الذين سيحجون مع تلك الحملة وأخصهم المعنيين بالأمور التربوية، والله أعلم ) .
ويقول الشيخ الجماز :" يستطيعون تأسيس هذه الأبعاد عبر اللجنة الثقافية في الحملة ، وفق الآتي :
1- تخصيص ثلث البرامج المقدمة بالجانب التربوي .
2- ترشيح أحد التربويين ضمن اللجنة الثقافية .
3- أن يكون أحد الضيوف المستضافين في الحملة ممن يحمل هماً تربوياً ينطبع على كلماته وتوجيهه" .
ويؤيد الشيخ العيبان هذه الآراء مطالباً بتخصيص لجان لتحقيق هذا الدور، والذي سيرفع من سمعة الحملة في الوقت نفسه، فيقول : " من الضروري لهذه الحملات حتى تنجح في الجانب التربوي :
أ- أن تجتهد في أن تجعل لهذا الهم التربوي لجاناً فاعلة تمتلك الجهد والوقت والمال .(115/620)
ب- كذلك من المفترض أن يعلم القائمون على الحملة أن النجاح في الجانب التربوي يؤدي – كما هو ملاحظ – إلى النجاح المادي، حيث إن أكثر الناس اليوم يحرصون على الحملات التي تمتلك حساً دعوياً وتربوياً .
ج- جعل الجانب التربوي ركناً مهماً من أركان تأسيس الحملة، كما أن الطعام والخيمة والمكان والأدوات أساسيات في تأسيس الحملات" .
وحول البرامج التربوية المنفذة في حملات الحج، وهل أشبعت – بواقعها الحالي - حاجات المجتمع يقول الأستاذ فهد الدايل :" عدد قليل من الحملات نسبة إلى عدد الحملات الموجودة قامت بجزء من واجبها تجاه الحرص على بعض البرامج التربوية ، والغالب منها في الأصل لا تأخذ بعين الاعتبار القضايا التربوية، فكيف بالحرص على إشباع حاجات الناس ، ونجد منهم الحرص على القضايا الاجتماعية والمادية أكثر من البرامج التربوية، مما أدى إلى ضعف وصول الحملات للمستوى المرجو منها، وأرى حقيقة من أهم الأسباب :
1- عدم وجود الهم التربوي عند أصحاب الحملات والحجاج أيضاً .
2- لا يعد من العناصر التي يقيم بها الحجاج جودة الحملة عند الرغبة في اختيارها .
3- البداية المتأخرة لإعداد البرامج التربوية .
4- عدم وجود جمعيات أو هيئات تتبنى هذا الأمر، مما يسهل على أصحاب الحملات إدراج هذه البرامج في حملاتهم، بل ويزيدهم حرصاً على ذلك " ، ويؤيد الأستاذ محمد اليوسف هذا الرأي، فيقول :" لا لم تشبع حاجات المجتمع؛ والسبب لأنها – أي: الحملات – لا تخرج عن إطار إرضاء الحاج في مركبه ومشربه ومأكله والبرامج الترفيهية، وإن لم يكن لها عائد تربوي على الحاج نفسه، نعم نحن لا نقول بأن تصبح الحملة مركزاً مكثفاً للدروس والبرامج، ولكن أيضاً لا نريد أن تتحول الحملات إلى مراكز ترفيهية ، وهذا ما تتجه إليه الحملات - نتيجة للمنافسة الموجودة - إن لم يتدارك المسئولون الأمر" .
ويرد الأستاذ محمد المنصور مدافعاً، فيقول :" الكمال عزيز والعمل البشري يعتريه، ولا شك الخطأ والتقصير ولكن هناك كما سبق جهود كثيرة وكبيرة يقدمها مسؤولو الحملات ممثلة في برامجها الثقافية، وإذا كان العمل مستمراً ومتواصلاً والنية صحيحة والصدق موجود إضافة إلى الركيزة الأساسية ألا وهو العلم فإن الأمر إلى الأحسن، وتلبية الاحتياج أكثر وأكبر متمنين الوصول قريباً إلى درجة الكمال البشري، أما عن وجود القصور والأسباب في ذلك فهذا موجود إلى حد نسبي، ويستعرض أهم الأسباب المسببة للوضع القائم مطالباً بتأسيس جهة مسؤولة تقوم بربط حملات الحج في هذا الجانب بعيداً عن الارتجالية المعهودة، فيقول : " وفي نظري أن من أهم الأسباب في ذلك عدم وجود جهة مؤهلة تجمع الجهود الفردية لمسؤولي الحملات، وتقوم بدورها بالتنسيق مع الحملات، ووضع خطة شاملة وراسخة يكون فيها توفير للجهود الحسية والمعنوية، ويكون العمل بها أكثر تفعيلاً وإتقاناً، ومن ثم تكون آثارها أكثر نفعاً، وبها يسد الطريق على الأعمال الارتجالية ، وربما المخالفة للمنهج الصحيح الموافق للكتاب والسنة، فتكون هذه الجهة بمثابة النقابة، وتكون مسؤولة المسؤولية الكاملة عن البرامج الدعوية في موسم الحج " .(115/621)
ويرى الأستاذ فهد السيف أن البرامج التربوية لا تكفي خلال عام كامل، فكيف ستكفي خلال مدة قصيرة.. لا أعتقد أن البرامج التربوية المقدمة في حملات الحج تفي بحاجات المجتمع ، بل لا أعتقد أن ذلك ممكن ، بل أذهب إلى أبعد من ذلك حيث أعتقد أن البرامج التربوية المقدمة للمجتمع خلال العام كاملاً لا خلال مدة الحج لا تكفي ولا تفي بحاجة المجتمع، ثم استعرض بعض الأسباب، والتي للحملات دور فيها وللحاج أيضاً دور آخر، فيقول : "أما الأسباب فكثيرة يأتي في مقدمتها :
1- ضعف التأهيل التربوي في قطاع العاملين بالحملات .
2- ضعف البرامج التربوية في الأمة بشكل عام ، فكيف نطالب الحملات بأمر قد وقع في الخلل بصورة فجة في الأمة ، حتى في المحاضن التربوية ذاتها .
3- ضعف الترتيب والتنظيم للقضية التربوية خلال مدة الحج ، والاهتمام بأمور أخرى وعدم الالتفات لهذا الجانب المهم ، فلا تعطى إلا فضول الأوقات ، وقد تكون الجهود شخصية فردية غير مرتبة ولا منظمة .
4- الحج جهاد وجهد وتعب ونصب ، وقد لا يستطيع الحاج أداء واجباته هو إلا بمشقة، فلا يجد جهداً ووقتاً لأداء الدور التربوي خصوصاً إذا تعرض خلال مدة الحج لمرض أو نحوه .
5- مدة الحج قصيرة قريبة من أسبوع قد لاتفي بالغرض".
ويرى الأستاذ خالد العمر أنه ينبغي التمييز بين الحملات منبهاً على الضعف التربوي موجود في المجتمع في غير أيام الحج، فيقول:" في رأيي هي مختلفة من حملة لأخرى ، وهي بالمجمل العام لم تشبع الحاجة، وذلك لضعف الدور التربوي في غير وقت الحج ، فمن الحملات من حرص أصحابها على إشباع حاجات المجتمع بغض النظر عن تقبل الناس لهذه البرامج من عدمه ، وذلك بوضع برامج متنوعة وهادفة وحرص على استغلال كل دقيقة وجليلة في الحج ، ومنهم من أغفل هذا الجانب وبحث عن الترفيه في غير وقته ) . ويربط الأستاذ يوسف الغليقة الأسباب بأسباب خارجة عن إرادة الحملات في الغالب مع قلة خبرة العاملين في الحملات فيقول : ( من هذه الأسباب :
1- المدة الزمنية في هذا العصر التي يقفها الحاج خلال موسم الحج حيث لا تتجاوز سبعة أيام .
2- الزحام الشديد وكثرة الحجيج مما يجعل هم المسؤولين عن الحملة والحجاج الأول والأخير إنهاء النسك .
3- ضعف تفهم بعض مسؤولي الحملات أن أداء المشاعر والنسك يمكن أن تؤدي جوانب تربوية جيدة ومفيدة .
4- قلة الكوادر المؤهلة تربوياً في حملات الحج
5- مبالغة كثير من أصحاب الحملات بالجوانب الترفيهية والخدمات التغذوية مما اشغلت كثير من مسؤولي الحملات عن الأدوار الأخرى ) .
ويقول الشيخ ناصر العمر : ( هذا صعب ولا نطالب بالمستحيل ، لأن المدة قصيرة والظرف صعب والزمن يلاحق بعضه بعضا ، فكوننا نريد أن نشبع حاجات المجتمع في رحلة لا تتعدى خمسة أيام مع ما فيها من عمل ودأب فيه صعوبة ، ولكن أقول(115/622)
المهم أن تكون الرحلة فيها برامج تربوية عملية واقعية لا إفراط ولا تفريط ، لا نريد أن تتحول أيضا حملة الحج من أولها إلى آخرها إلى دروس ومحاضرات نظرية ،بل ينبغي التركيز على الجانب العملي والانضباط ، وهذا مجاله كثير جدا .
على كل حال أقول لا تزال حملات الحج مع أنها منذ أكثر من عشر أو خمسة عشر عاماً تقدمها في الجانب التربوي يعتبر نسبياً وهو أقل ما يتوقع منها وما يمكن ولكن على الاخوة أن ينظروا بواقعية وأن يعتذروا لإخوانهم حسب الظروف والإمكانات حتى لا نبالغ في الأمور . )
وحول الأسباب المعيقة لتنفيذ البرامج التربوية على الوجه الأكمل يرى الشيخ ناصر العمر أن هناك أسباباً متعلقة بالحملة نفسها وأسباب خارجة عن إرادتهم فيقول حفظه الله : ( حقيقة من أعظم الأسباب الحرص على الجانب المادي الذي يغلب على الحرص على الجانب الدعوي والتربوي والإيماني وغيرها ومن هنا نلاحظ الفرق بين حملات الحج تبعا لما ذكرت من اهتمامات القائمين عليها . كما أن أيضا ظروف الحج نرى أنها سبب من الأسباب التي تعيق صاحب الحملة من أن يقدم كل مالديه أي أن صاحب الحملة قد يذهب من هنا وهو يحمل أفكارا وهموما كثيره ولكنه عندما يريد أن يطبقها على أرض الواقع تواجهه مشكلات كثيرة جدا ولا غرابة في هذا إذا كان أصحاب الجامعات والمدارس وهي مدارس مستقرة من سنوات ولديها من الإمكانات لاتستطيع أن تطبق برامجها فلا شك أن حملات الحج قد يكون لديها من الأسباب ما لا تصل إلى المستوى المطلوب خاصة مع اختلاف المشاركين وتجدّدهم وكلُ غالباً سنة يكون من يشارك في الحملة ممن يشارك لأول مرة مع هؤلاء . مع ظروف الحج الطبيعية فيضعف البرنامج ويكون عائقاً أحيانا عن الوصول للمستوى المطلوب لكنه ليس بالمستحيل وإذا وجدت النية الصادقة والعزيمة القوية بإذن الله واتخذت الأسباب قبل ذلك والتهيئة قبل الحج بفترة طويلة فبذلك ممكن أن نصل إلى مستوى أعلى من المستوى
الموجود الآن أيضاً الأسباب الداخلية سواء صاحب الحملة أو من معه من أفراد قد تعيق البرامج الذي نريدها سواء الدعوية أو التربوية أيضاً هناك أسباب خارجية تتعلق بالحج نفسه وبالأنظمة المعمول بها وبظروف يوجهها الحاج معه وأرى العدل والواقعية في طرح الموضوع والتعامل مع الاخوة فينبغي أن يكون لدينا طموح وهمة عالية لكن لا نكثر من التثريب على إخواننا في حملات الحج إذا علمنا أن صدق النية موجود لديهم والعزيمة ولكن هناك عوائق حالة دون تحقيق برامجهم على الوجه الأكمل ) .
ويرى الشيخ فهد العيبان أن التكرار في البرامج وعدم اشراك الحجاج وضعف المتابعة وعدم القدرة على توزيع الطرح بالشكل الإيجابي من أبرز المظاهر الموجودة فيقول : ( البرامج الدعوية المنفذة اليوم لا تفي بالحاجات وينقصها الكثير من ذلك :
1- التجديد في الطرح وعدم التكرار لأن الغالب هو ( محاضرة ، توزيع شريط وكتيب ) .
2- محاولة اشراك الحجاج في البرنامج التربوي .(115/623)
3- متابعة المشاركين والتواصل مع من يحتاج إلى تواصل ولو لبعض الوقت .
4- عدم التركيز على الجانب الوعظي فقط أو الجانب العلمي لمناسك الحج فقط بل لابد من توزيع الطرح وتنويعه وتلمس حاجات المشاركين . )
ويوافق ما رآه الشيخ ناصر العمر في أن من الأسباب الموجودة أسباباً داخلية وأسباباً خارجية فيقول : ( من الأسباب :
1- الضغوطات من قبل وزارة الحج ( إدارياً ، ومادياً ونظامياً ... )
2- مسؤولي الحملات غير الأكفاء .
3- عدم اختيار الأكفاء من المشرفين .
4- عدم تعاون بعض الحجاج مع الحملة .
5- الخلاف والنزاع الذي قد يحصل بين مسؤولي الحملة والمشاركين . )
ويتفق الشيخ جماز الجماز مع ما ذكر مضيفاً نقاطاً مهمة فيقول : ( الأسباب التي أدت إلى ضعف حملات الحج منها :
1- عدم وجود لجنة ثقافية أو علمية أو تربوية تعنى بهذا الجانب .
2- الاكتفاء في بعض الحملات على الجانب العلمي وحصره في الإفتاء فقط .
3- عدم وجود الهم الدعوي لدى المسؤول أو المالك للحملة .
4- انصراف كثير من النشيطين عن تنفيذ البرامج الثقافية والتربوية بسبب عدم تقديرهم وتكريمهم ومكافأتهم من قبل إدارة الحملة .
5- غياب دور الاحتساب أثناء العمل فهو وإن عمل فيعمل حسب العقد والاتفاق وقدر المكافأة ، وحينها تنعدم البركة .
6- سوء التنظيم الإداري في وضع الجدول الثقافي ، وعدم الاكتراث بحاجات الناس في حرصهم على المتعلم والمتربي ، والاهتمام بتلبية حاجاتهم بدنياً من الطعام والشراب والمركب . )
وحول البرامج الثقافية المقامة في الحملات هل يراعا فيها الجوانب التربوية بجانب الجانب الشرعي قال الأستاذ خالد العمر : ( أظن أن البعد التربوي مطلب أساسي ، يحرص عليه من يهتم بوضع البرامج المنظمة مع الحرص على الجانب الشرعي وربطه بالجانب التربوي وذلك حتى تكون قابلية الناس له أكبر واستيعابهم لهذا الجانب أوسع ) .
في حين أن الأستاذ محمد المنصور يرى ضعف الاهتمام بهذا الجانب فيقول : ( اعداد البرامج في الحملات غالباً يراعى فيه الجانب الشرعي فقط وان كان في بعض الأوقات والأماكن له بعد تربوي ولكن في نظري أنه قليل ولعل أيضا – كما ذكرت في نقطة سابقة – من أكبر فوائد توحيد الجهود تفعيل الدور التربوي في برامج الحملات الثقافية . )
ويرى فهد السيف أن هذا من الأشياء المهمة التي يجب ألا تغفل عنها حملات الحج فيقول : ( من المهم جداً الجمع بين الجانبين الشرعي والتربوي للقيام بهذه المهمة العظيمة ، بل ينبغي استغلال الجوانب الأخرى غير هذه كالجوانب الاجتماعية ونحوها ) .(115/624)
وينبه الأستاذ يوسف الغليقة بأن المطلوب من الحملات أولاً الاهتمام بالجانب الشرعي وأن وزارة الحج دائما تحث أصحاب الحملات على هذا التوجه أما الاهتمام بالجوانب التربوية فعائد لحرص أصحاب الحملات عليه فيقول : ( عند إعداد البرامج في حملة الحج يكون التركيز أساساً على الجانب الشرعي ورسم آلية واضحة لكيفية الحج وهذا همٌ لكثير من مسؤولي الحملات بل مطلوب منهم شرعاًَ وعقلاً وتؤكد وزارة الحج على هذا الجانب التوعوي لبيان مناسك الحج للحجاج ، ثم تختلف الحملات حسب تفهمها لأهمية الجانب التربوي في معالجة القضايا على أساس من الفهم الصحيح والفكر الناضج والرغبة الصادقة في خدمة الآخرين وتقديم الخير لهم ) .
وحول البرامج التربوية التي يمكن لحملات الحج القيام بها خلال فترة الحج والتي لها آثار تربوية على الحاج قال الشيخ ناصر العمر : (أرى التركيز فقط على ما يتعلق بالحج ، أن تكون برامج الحج مركزة بالشكل الأساس على ما يتعلق بالحج ، مثلا العبادة جانب تربوي وهو من أمور الحج التربية التي جاءت في الآيات والأحاديث يقول الله جل وعلا (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ ) الآية (البقرة:197)
يقول النبي صلى الله عليه وسلم ( من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه ) التركيز على ما ورد في النصوص من الكتاب والسنة هذه جوانب تربوية ، التعاون بين الحجاج هذا جانب تربوي ، الإيثار لا الأثرة ، لأنه يوجد في جانب الحج أحياناً أثرة كل واحد يريد أن يستأثر هو بنفسه بأكبر شيء دون إخوانه ، لا أن يكون هناك إيثار ... مساعدة الضعيف ... التعاون فيما بينهم نظراً لأن الحج قصيرة مدته وسرعة أدائه وظروفه الصعبة يحتاج إلى تعاون قوي جداً يعاون القوي الضعيف والكبير الصغير والذكر الأنثى نكون كأمة واحدة ( وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان ) .
أيضا ما يتعلق بالجوانب العقدية وهي جوانب تربوية مهمة جداً ، فيما يتعلق بالمشاعر ، فالتركيز على الجانب العقدي فيما يتعلق بالطواف بالبيت ورمي الجمرات وغيرها . والبعد عن البدع والشركيات هذا جانب مهم للغاية وهو جانب تربوي .
من الجوانب المهمة أنك تستطيع أن تنجز الأشياء الضخمة الكبيرة في وقت قياسي وصغير جدا وقليل جدا كما يحدث في الحج ، حتى يستطيع الإنسان أن ينجز في أيامه الأخرى في حياته ، هذا جانب تربوي كبير جدا . الشاهد أن هناك برامج كثيرة يمكن أن يخطط لها وأن تعد من خلال هذا الجانب ، والله أعلم . )
ويقول الاستاذ محمد المنصور :( من البرامج التربوية التي يمكن لحملات الحج القيام بها:
1- تربية النفس على التوحيد وتحقيقه .
2- غرس مبدأ الأخوة وعقد أواصر المحبة بين المسلمين وتحقيق التسوية بينهم وهذا بلا شك من أكبر أسباب الاجتماع وعدم الفرقة .
3- تربية النفوس على الجد والاجتهاد والحزم وعدم الانسياق وراء الملاذ الدنيوية .(115/625)
4- ايضاح منهج سلفنا الصالح في كل شؤون الدين والدنيا وأن يكون المسلم على بصيرة من أمره غيره مكترث ولا يتأثر بما يحيط به من الفتن والدعاوى الباطلة بشتى طرقها ومصادرها .
ويقول الاستاذ فهد الدايل : ( من البرامج :
1- ربط الأمة بعضها ببعض وذلك من خلال مناقشة القضايا التربوية التي تهم الأمة والشباب وذلك عن طريق لقاءت مفتوحة .
2- تربية الناس على حقيقة العبادة بأن يكون الهدف من العبادة التعبد لله وليس مجرد عادة إعتاد الناس على القيام بها في مثل هذه المواسم .
3- الحرص على القيام ببرامج تربوية لغير أهل هذه البلاد وخاصة القادمين من خارج هذه البلاد وتصحيح معتقداتهم
4- البدء بحفظ كتاب الله وأحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم وأن تكون الانطلاقة من هذه الأيام المباركة وهو دور تربوي كبير ) .
ويرى الشيخ فهد العيبان أن من البرامج المهمة تفعيل دور الحوارات النافعة والندوات الهادفة والتعليم الفردي فيقول : ( من البرامج التربوية :
1- وضع البرامج الحوارية .
2- وضع ندوات لحل المشاكل الأسرية وطرق تربية الأبناء .
3- تفعيل التعليم الفردي كقراءة القرآن وتعليم الصلاة ونحو ذلك ) .
وينظر الشيخ جماز الجماز لبعض البرامج بأن لها أدواراً تربوية يحسن بالحملات القيام بها فيقول : ( البرامج التربوية التي ينبغي أن تنفذ في الحملة ولها آثار حميدة منها :
1- برنامج تزكية النفس ويمكن القيام بها عن طريق (كلمة بعد الصلاة ومحاضرة).
2- برنامج الدروس والعبر المستفادة من فريضة الحج ( مسابقة وكلمة )
3- برنامج الكلمات بعد الصلوات يربى الإنسان على المشاركة فيها عن طريق موضوعات مفتوحة .
4- برنامج مشاكل وحلول يستضاف خلالها شخصية متميزة وشيخ الحملة .
5- برنامج الصدقة يوضع خلالها صندوق لجمع التبرعات لتربيتهم على البذل في الشهر الكريم وترغيبهم في سقي الحاج وبذل الصدقة للمحتاج .
6- برنامج حفظ الكتاب والسنة ويختار سور من القرآن وبعض الأحاديث من خمسة إلى عشرة ويتم الإعلان عن مسابقة في الحفظ ، وبذلك يتم تربيتم على جانب مهم وهو حفظ القرآن والسنة .
7- برنامج المسلمون في العالم ، سواء عن طريق حوار أو كلمة عن الأقليات المسلمة وبيان حالهم ، وما يعانون من أذى واضطهاد وواجبنا نحوهم ) .
وبالإضافة إلى ما سبق يضيف الأستاذ فهد السيف بعض البرامج التي تضفي جوا من المحبة والشعور بالأخوة الإسلامية فيقول : ( من ضمن البرامج التربوية المقترحة والتي لها أثرها سواء على من ينفذها أو من يستقبلها :
1- القيام بخدمة الحجاج خدمة شخصية خصوصاً مع الإرهاق الذي يلحق بالحجاج مما يشيع في قلوبهم محبة عظيمة لمن يخدمهم ، ومن واقع التجربة فإن هذا الأسلوب(115/626)
ذو أثر فعال ، لا سيما إذا تضافرت جهود المصلحين للقيام بهذا العمل كما قال الشاعر :
أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم فطالما اسعبد الإنسان إحسان
2- الجلسات الودية والأحاديث المتبادلة والدخول الاجتماعي مع صفوف الحجاج ودعوتهم من خلال ذلك .
3- إقامة علاقة خاصة خارج الحج .
4- دعوة الحجاج بعد الحج بقليل إلى وليمة جماعية . )
ويقول الأستاذ خالد العمر : ( على سبيل المثال لا الحصر :القيام بالبرامج المختصة بهذه الأيام كبرامج التربية بربط الحج بواقع تنوع الناس في معيشتهم ، التربية على الصبر ، تنظيم الحج لفتة تربوية طيبة في تنظيم أعمال المسلم ، تذكير الناس بموقف الناس في الحشر ... وهذا فيه ربط بين الجانب الشرعي والتربوي ، التربية على مبدأ الأخوة الإسلامية وهذا مكسب تربوي مهم في الحج ، الدعوة إلى التفكر .. في الطائرة .. بين المشاعر .. الطواف .. السعي .. وهكذا ، ربط الناس في عباداتهم مثل رمي الجمرات فيه معان تربوية عديدة .. الطاعة .. الولاء والبراء .. وهكذا ) .
في حين يذكر الأستاذ يوسف الغليقة برامج أخرى يرى أن لها أبعاداً تربوية فيقول : (
هناك عدة برامج تربوية يمكن لحملات الحج أن تقوم بها ومنها :
1- ما تتسم به رحلة الحج من جوانب تربوية في تحقيق التكيف النفسي السليم لما يلاقيه الحجاج من عنت ومشقة فلا بد للحملات من رسم برنامج لشغل أوقات الفراغ باشعار الإنسان بقدرته على التعبير عن نفسه وقدرته على الانجاز والنجاح وعن طريق ما تتيحه له من احتكاك اجتماعي مع الآخرين.
2- تنمية الجوانب الاجتماعية في الفرد بما يدار من حوارات ونقاشات خلال رحلة الحج .
3- الاستفادة من توجيهات الوزارة حول نظافة المخيم وترتيب أوقات رمي الجمار وأن هذا سلوك اسلامي تربوي يجب أن نتعلمه .
4- عمل برنامج للّوحات الإرشادية والتي توجه الحجاج إلى التعامل مع الآخرين بالتي هي أحسن وكف الأذى ورد السلام والتسامح مع الآخرين وتنمية العلاقات الانسانية الحميدة )
وعن أبرز المعوقات التي قد تعوق هذه البرامج وكيفية تجاوزها قال الاستاذ خالد العمر : ( من أبرز المعوقات : الانشغال بالعبادة ، الارتجالية ، المركزية في الأعمال ، عدم التنظيم المسبق ، قصر فترة الحج ، عدم الاجتماع مع الحجاج وإن وجد فضعيف ، وفي رأيي أن تجاوزها يكون بالاستفادة من أكبر قدر ممكن من الوقت المتاح فيه الاجتماع مع الحجاج سواء في المخيم أو في الباص أو حتى في الطائرة أو غير ذلك والابتعاد عن النقاط السلبية التي ذكرتها )
ويقول الاستاذ فهد السيف : ( من المعوقات التي أستحضرها الآن وبعضها ذكرتها في الأسباب التي أضعفت دور حملات الحج منها :(115/627)
1- صعوبة الاعداد لهذه البرامج ، لا سيما وأن القائمين على العمل التربوي ينقطعون أثناء فترة الحج عن الكتب وآلات التصوير وغيرها مما أصبح ضرورة لنجاح البرامج .
2- بعض الحجاج يقفون حجر عثرة في وجه البرامج الثقافية حيث يبدي استياءه وعدم رغبته في المشاركة للإنزعاج الذي يلحق به ، وقد يكون بعضهم من الصالحين الذين يرغبون التفرغ للقراءة والبعد عن الأنشطة الجماعية .
3- صعوبة التنسيق مع الدعاة والمشايخ لاستضافتهم في الحملات خصوصاً ذات الأعداد القليلة ، وذلك أن المشايخ لا يقبلون التنسيق قبل الحج لعدم معرفة ظروف الحج وأثناء الحج يكون برنامجهم مضغوطاً .
4- ظروف الحج المتفرقة ، والمفاجآت غير المتوقعة من أكبر الأسباب .
5- الجهد الذي يلحق بالقائمين بالبرامج أيضا من الأسباب المهمة .
6- أيضا البرامج التربوية والثقافية تأخذ من الوقت الكثير مما يعني أن هذا البرامج ستكون سبباً في ضعف برنامج العبادة لدى القائم بالبرنامج مما يكون عائقاً عن القيام بمثل هذه البرامج ) .
ويضيف الأستاذ يوسف الغليقة فيقول : ( من المعوقات التي نرى أنها سبب في عدم تنفيذ هذه البرامج :
1- كون برنامج الحاج مليء بالأعمال التي تستلزم من الحاج القيام بها .
2- كثرة الزحام واستهلاك جزء كبير من الوقت في المواصلات .
3- الظروف التي قد تطرأ على إدارة الحملة دون تخطيط مسبق لها ، مما تهز مصداقية الحاج مع مسؤولي الحملة . )
وعن القدرة على تجاوزها يقول : ( يمكن لحملات الحج تجاوزها بالتخطيط المسبق ورسم آليات واضحة وعدم تحميل إدارة الحملة مالا تطيقه بل يكون هناك تقديم خدمة متناسقة مع العدد وطاقة المخيم . )
في حين أن الاستاذ محمد المنصور يقول : ( لا أرى أن هناك معوقات تحول بين هذه البرامج وتنفيذها ما دام أن العلم موجود وكذا العمل به وكذا التمسك بالوحيين العظيمين الكتاب والسنة وفهمهما الفهم الصحيح كما فهمه سلفنا الصالح وبالسير على نهجهم واقتفاء أثرهم رضي الله عنهم وأرضاهم قال تعالى : ( اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم ) الآية .
ويطرح الاستاذ محمد اليوسف مجموعة استفهامات فيقول : ( دعني أخي الكريم أطرح بعض الاستفهامات والتي في الاجابة على بعضها دور في ايضاح بعض الحلول :
- أين التنظيم المسبق لأصحاب حملات الحج بالنسبة للبرامج حيث يكون استعدادهم قبل فترة الحج بفترة قصيرة بالنسبة لحجم العمل الذي سيقومون به ؟
- هل كل العاملين في جانب الاشرافي على قدر واحد من اخلاص النية أم هناك تفاوت في الدرجات ؟ وهذا بلا شك سوف يلقي بظلاله على العمل وجودته .
- الاستفادة من الأوقات المهدرة مثل التنقل بين المشاعر أظن لو استثمرت لجانب التربية سيكون لها أثر كبير . أين دور المشرفين أو أصحاب الحملات عنها ؟(115/628)
- لماذا بعض أصحاب الحملات لايدعمون البرامج الثقافية بالقدر الكافي حيث نسمع من بعض المشرفين أن المادة لديهم لا تساعد في زيادة البرامج ؟
- لماذا غالباً تتجدد الوجوه في اللجان الإشرافية في الحملات في كل سنة ، مما يجعل الخبرات السابقة تهدر بكل سهولة ؟
- ثم المشرفين على البرامج في ظني أنهم لم يكونوا يستطيعون الحضور كل عام للحج لولا أنهم مشرفون ، وما أتوا عبر هذه الحملات إلا من أجل الإشراف ،ومع ذلك يتذرع كثير بأنهم يريدون القيام بأعمال الطاعات مع أن هذا العمل الذي يعملونه – أي الإشراف على البرامج التربوية والدعوية - إذا احتسبوه عند الله بلا شك أنه من الأعمال التي يتقرب بها إلى الله وهداية الإنسان خير من حمر النعم !! ) .
وحول وجود مقاييس لقياس الآثار التربوية لدى الحاج عند أصحاب الحملات تدرجت أراء المشاركين فيقول الأستاذ يوسف الغليقة : ( لا أعتقد أن هناك مقاييس لمتابعة آثار حملات الحج على المشاركين فيها فيما بعد ، وإنما لا شك أن الكلمة الطيبة والعلاقات الاجتماعية قد تحدث أثراً ولو بعد حين ) . ويقر الأستاذ فهد السيف بوجودها ولكنها ضعيفة بلا آثر فيقول : ( أن مقاييس آثار الحملات ضعيفة للأسف ولا يطفو على السطح منها سوى الاستبيانات التي تقوم بها الحملات لقياس نجاح الحملة ، وكذلك ما يظهر من آثار جلية على الحجاج في سلوك طريق الاستقامة أو بعض الكلمات التي يتفوهون بها وتُبين مدى التأثر منهم ، راجين أن نستفيد من موقعكم في هذه النقطة ) .
في حين أن الاستاذ محمد المنصور يرى أن هذه المقاييس موجودة ويطالب بوجود جهة إشرافية ترتب طرق قياس هذه الآثار فيقول : ( نعم هناك مقاييس لمتابعة آثار حملات الحج على المشاركين ولعل هذا يحصل إذا تم تعيين الجهة المختصة الجامعة للجهود الدعوية لحملات الحج وأن هذا من أبرز جهودها ) .
ويحث الأستاذ خالد العمر على متابعة الحجاج بعد الحج لمعرفة آثار الحج والبرامج التربوية عليهم فيقول : ( الاستمرار مع الحجاج بعد الحج بلقاء دوري ولو كان خاصاً ، له أثر فاعل جداً في متابعة هذه الآثار ، وهذا حاصل بالتجربة ) .
وكما هي الطبيعة البشرية فتختلف نفسيات الناس وميولهم وطبائعهم فهل لدى حملات الحج اعتبار لهذه النقطة ؟ يبين الاستاذ فهد السيف على أن الاختلافات الفردية موجودة وتفرض نفسها ولكن المهم هنا من الشخص الذي يستطيع أن يتقن هذا الفن ؟ فيقول : ( الاختلافات الفردية تفرض نفسها على العاملين في التربية حيث يعامل المسنّ بمعاملة تختلف عن الشاب ، ولكل شخص أسلوب يناسبه في التعامل ، لكن يبقى بعد ذلك من يتقن فن التعامل مع الأطياف المختلفة ) .
ويقول الاستاذ يوسف الغليقة : ( بالنسبة للاعتبارات الفردية غالباً تؤدي الحملة دورها عندما يكون هناك تناغم وتجانس بين المشاركين في الحملة وبالتالي يسهل رسم آلية للبرامج ، وإن لم يكن ذلك فالحملة التي تحمل هماً تربوياً تستطيع أن تراعي الفروق الفردية بين الحجاج ) .
وحول حرص حملات الحج على تفعيل مشاركات الحجاج ، وكيف يمكن تفعيل دور الحاج ليصبح فاعلاً بدل أن يتربى على أن يكون دائماً متلقي اتفق المشاركون على(115/629)
أهمية هذا الدور ووجوب تفعيله سواء من قبل أصحاب الحملات أوالمشرفين عليها لما لها من أثر على الفرد وعلى الحملات نفسها فيقول الشيخ ناصر العمر : ( هذا يرجع أولا إلى الحملة والمشرفين عليها ، فجميل أن يكون هناك بعض المتخصصين في الجانب التربوي كما أنه يوجد في الحملة مفتي ويوجد فيها بعض الدعاة أرى أن يوجد فيها بعض المتخصصين في الجانب التربوي الذي يتعلق بالتربية الأسرية العامة الكبار والصغار والرجال والنساء وليس خاص ببرامج الشباب بالإضافة إلى استمرار العلاقة مع الحاج بعد انتهاء الحج كم نتمنى من حملات الحج أن توجد صلة دائمة مع من حجوا معها على الأقل إلى السنة القادمة حتى نكون واقعيين والسنة القادمة مع الذين حجوا معها وذلك من خلال التواصل معهم وإرسال الرسائل والكتب والأشرطة بالإضافة إلى البرامج الجميلة الجيدة العملية في برنامج الحج وأن تكون هناك تطبيقات عملية ولا يركز على جانب التنظير ، وأن يكون هناك تشجيع للذي يبدي تعاون أكثر وأيضا يكون هناك جوائز ومسابقات في حدود برنامج الحج المكثف وهذا له فوائد عظيمة جدا على صاحب الحملة ديناً ودنيا ، ولذلك نلحظ أنه في آيات الحج في البقرة أن الله جل وعلا قال : ( وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) (البقرة:201) هذه جاءت في آيات الحج ولذلك قبلها آيات الحج وبعدها آيات الحج أيضا ، فيدل على أن هذا الجانب مطلب للحملات ولغيرها ولذلك آمل أن يراعا هذا الجانب ويقوى ويكثف وهو بلا شك يحتاج لمزيد من الدورات والدراسات أسأل الله أن ينفع ويبارك في الجهود .)
ويضيف الاستاذ يوسف الغليقة أن التفعيل هذا الجانب سوف يلقي بضلاله على سمعة الحملة أيضا فيقول : ( اعتقد أن تفعيل مشاركات الحجاج في الحملات أو في برامجها العلمية لأغراض تربوية هدف لكثير من أصحاب الحملات لأن هذا التفاعل يعطي الحملة قبول جماهيري ورضا شعبي للحملة ) .
ويقول الشيخ جماز الجماز : ( يمكن تفعيل دور الفرد في حملة الحج :
1- سواء بتكليفه بعمل أو مشاركة سواء قبل الحج أو أثناءه عن طريق كلمة أو إدارة حوار أو إقامة مسابقة .
2- اشراك قدر أكبر ممكن من الأفراد في المسابقات سواء عن طريق المجموعات أو الابداعات الموجودة لدى الأفراد.
3- اقامة برنامج كالمنتدى الثقافي المفتوح يشارك فيه عن طريق مقابلة أو طرح سؤال أو نصيحة أو موقف أعجبك أو موقف أساءك وهكذا . )
في حين أن الشيخ فهد العيبان يركز على وجوب معرفة أصحاب التخصصات والمهارات في الحملات من الحجاج وتفعيل دورهم فيقول : ( يمكن تفعيل دور الفرد وذلك بفرز المشاركين ومحاولة معرفة أصحاب التخصصات والمهارات وإشراكهم في العملية التربوية والدعوية وتوكيلهم ببعض البرامج ) .
ثم يضيف نقطة هامة وهي تفعيل الحس الدعوي لدى بعض الحجاج فيقول : ( كذلك اشراك من ليس من أصحاب التخصصات باقحامهم في الندوات الحوارية وتفعيل الحس الدعوي لديه لتكون نقطة انطلاقة – بإذن الله تعالى – له في مجال الدعوة ) .(115/630)
ويقول الأستاذ محمد المنصور : ( من لديه أهلية من الحجاج للمشاركة في برامج الحملات العلمية والتربوية فلا مانع من ذلك بل ينبغي الحرص على ذلك والخير والعلم ليست محصورة على أناس دون آخرين ولكن بشرط توفر الأهلية وخاصة العلم النافع والعمل على نهج سلفنا الصالح ) .
ويقول الاستاذ خالد العمر : ( هذا الدور ضعيف نوعاً ما في غالب الحملات ، وأرى لإنجاح هذا الدور إشراك أكبر قدر ممكن منهم في الحوارات المباشرة أو عن طريق إتاحة الفرصة لهم بالكتابة وعرضها على الحجاج مع توزيع المتميزين على اللقاءات المختصرة والحلقات الصغيرة وقت الحج ، وتنبيه الحجاج للمشاركة في مثل هذه البرامج ) .
ويقول الاستاذ محمد اليوسف : ( أعتقد أن هذه النقطة إن كانت موجودة فهي ضعيفة في أغلب الحملات ولن تجدها واضحة إلا في الحملات المتميزة ، حيث أن أغلب البرامج موجهة للعامة ، ولكن ألم يكن من الأجدر القيام بعمل دراسات داخل الحملة حول البرامج المقامة – هذا بالإضافة إلى الاستبانات المقامة – وحول دقتها وهل وصلت إلى الشريحة المستهدفة ، ومن لا يريد أن يحضر البرامج كيف يمكن الوصول إليه ، أعتقد أن هذه من أهم الأمور التي ينبغي لأصحاب الحملات أن يوجهوا اللجان الإشرافية الثقافية إليها وبالطبع سوف يكون لها صدى عند الحجاج إذا كان صاحب الحملة يحرص على السمعة الطيبة لحملته ) .
ونختم بحديث للاستاذ محمد السيف والذي ركزه حول هذه النقطة فيقول : ( لا شك أن غالب حملات الحج يختلف الأفراد الملتحقون بها اختلافاً ًبيناً فمنهم العامي ومنهم المتعلم ومنهم الصغير ومنهم الكبير،ومن هنا كان إشراك بعض أفراد الحملة هام جداً .
فهو أولاً : يفيد الفرد المعد للبرنامج ثقافياً وعلمياً أثناء إعداده وثانياً : يعطيه دفعة معنوية واعتزازاً بذاته في كونه معداً أو مقدماً لبرنامج ما ، مما يكون عنده إحساساً إيجابياً وتنمية لقدراته . ودائماً اليد العليا خير من اليد السفلى .
ولكون أصحاب الحملات يجهلون غالب المشتركين معهم في قدراتهم وإمكاناتهم وقد يكون منهم المثقف وصاحب الشهادة العليا وذو الخبرة والبارع في تخصصه... فلا يستفاد منه في مجاله .
ومن هنا أقترح على كل صاحب حملة أن يعطي كل مشارك معه استبانه لمعرفة قدرات وإمكانات من معه فيستفيد منهم ( مرفق أنموذج مقترح ) .
وقد يكون ذلك من أسباب نجاح حملته ، وقد اشتركت في بعض الحملات وكان من ضمن أفراد حملتهم مختصين في علم الوراثة وهندسة الجينات استفادوا منهم أيما إفادة خاصة في علم حديث مثل ذلك يجهله الكثير .
وحيث قد أشرت قبل قليل إلى التنوع الثقافي والعمري لأفراد الحملات فإشراك مثل هؤلاء في برنامج موحد ظلم لبعضهم ولو جعل وقت المغرب مثلاً برنامجاً عاماً للجميع وبعد العشاء منوع حسب الأعمار مثلاً : الصغار ، الشباب ، الكبار لكان فيه فائدة كبيرة ويصعب تفعيل مثل هذا البرنامج دون مشاركة أفراد الحملة لئلا يكون العبء كله على الاشراف الثقافي في الحملة .(115/631)
ثم يقترح لو تم توزيع نموذج لتعبئته من قبل الحجاج الملتحقين بالحملة سواء قبل الحج أو أثناءه.
الأنموذج المقترح
أخي الكريم :
حياك الله في حملة .... ونشكرك على اختيارك داعين الله أن نكون عند حسن ظنك وأن يتقبل الله منك حجك وعمرتك وأن يعيننا على خدمتك .
وحيث يلتحق بحملتنا بعض الإخوة كل عام يرغبون المشاركة في التوعية الدينية أو البرامج الثقافية أو العلمية سواءً للصغار أو الشباب أو الكبار إلا أن التنسيق المتأخر يحول دون الافادة منهم .
نأمل منك أخي الكريم الافادة من تخصصك أو خبرتك العلمية أو العملية ( ولا تحقرن من المعروف شيئا ) وذلك بالإجابة عن الأسئلة التالية :
الاسم : الهاتف :
العمر : العنوان :
العمل الوظيفي أو سنة الدراسة :
التخصص ـ إن وجد ـ :
هل ترغب المشاركة في برنامج تربوي أو ثقافي أو سواهما ؟
نعم ( ) لا ( )
في حالة الإجابة بنعم : ما هي المجال الذي تراه مناسباً لك :
درس تربوي ( ) كلمة بعد الصلاة ( )
صحف حائطية ( ) لقاء ( )
مسابقة ثقافية ( )
وغير ذلك مما تحتاجه الحملة ويسهم في دعم النشاط التربوي لها ).
ويرسل الاستاذ يوسف الغليقة رسالة إلى أصحاب الحملات فيقول : ( وفي الختام المرجو من أصحاب الحملات أن يعوا دورهم ومشاركتهم في خدمة المجتمع وأبناء هذا البلد وان عليهم مسؤولية كبيرة أمام الله سبحانه وتعالى وأن يؤدوا هذه الأمانة بصدق وإخلاص وانتماء وفق الله الجميع لما فيه الخير والصلاح ) .
________________
شارك في هذه القضية كل من :
- فضيلة الشيخ د. ناصر بن سليمان العمر المشرف العام على موقع المسلم
- فضيلة الشيخ : فهد بن عبدالرحمن العيبان المدرس بمعهد القرآن الكريم بالحرس الوطني وإمام وخطيب جامع الإحسان بالرياض
- فضيلة الشيخ : جماز بن عبدالرحمن الجماز المشرف التربوي بإدارة التربية والتعليم بشقراء
- الاستاذ : محمد بن ابرهيم السيف المشرف التربوي بإدارة التربية والتعليم بشقراء
-الأستاذ : محمد بن صالح المنصور المشرف على شركة السلام المتحدة لخدمات حجاج الداخل .
- الاستاذ : يوسف بن محمد الغليقة مستشار شركة أهالي القصيم للحج والعمرة .(115/632)
- الأستاذ : خالد بن عبدالعزيز العمر المشرف الثقافي بحملة المشاعر .
- الأستاذ : فهد بن ابرهيم السيف المشرف الثقافي بحملة طريق العزة
- الأستاذ : فهد بن عبدالله الدايل .
- الأستاذ : محمد بن سعد اليوسف
ـــــــــــــــــــ
المراة بين الواجب الأسري والواجب الدعوي
مشرف النافذة
7/11/1424
ارسل تعليقك ...
تعليقات سابقة ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
تعيش المرأة الداعية هموماً كبيرة في القدرة على تحقيق الواجبات المتعلقة بها؛ هم مجتمعها الصغير – الأسرة – والمجتمع الكبير، كيف توفق بين هذين الواجبين ؟
هل حقيقة أن الزواج مقبرة الداعيات ؟ ولماذا يقل عطاء بعض الداعيات بعد الزواج ؟ بل ترى بعضهن صعوبة الاستمرار في الدعوة ؟ ولماذا تصاب الداعية بالملل والسأم من بعض طرق الدعوة ؟ هل الواجب على الداعية أن تدور في فلك واحد من مجالات الدعوة ؟
أسئلة كثيرة تهم المرأة نحاول أن نسلط الضوء عليها لنبحث معاً عن الإجابة .
إن للمرأة طاقات وإبداعات قد تفوق بها الرجال في مجالها ، وخلال سنوات مضت كان هناك هدر لهذه الطاقات وعدم استغلال لها، والآن بدت بوادر جميلة في القدرة على توظيف هذه، تقول د. منيره البدراني : " في نظري يمكن توظيف هذه الطاقات بحسب إمكاناتها الجسمية والعقلية والفكرية والنفسية، فمثلا : من النساء من عندها قدرة على تحضير مادة علمية جيدة، والنظر في واقع الناس وأخطائهم ثم إلقائها في تجمع نسائي، ومنهن من عندها قدرة على التحضير وليس عندها جرأة على الإلقاء والإقناع ، ومخاطبة الجماهير، فيمكن لهذه أن تحضر المادة وتدفعها إلى من يستفيد منها ويلقيها ، ويمكنها أيضاً أن تكتب في مجلة أو دورية أو غيرهما مما يطلع عليه الكثير من الناس" .
تعيش المرأة الداعية هموما كبيرة في القدرة على تحقيق الواجبات المتعلقة بها . هم مجتمعها الصغير – الأسرة – والمجتمع الكبير . كيف توفق بين هذين الواجبين ؟
وقالت أيضاً : "ومنهن من منّ الله عليها بالقدرة على الأمرين؛ تحضير المادة العلمية، والإلقاء والإقناع، وهذا فضل من الله يؤتيه من يشاء، ومن النساء من عندها قدرة على الإدارة في المؤسسات الخيرية ، ونفع الدين وأهله خلف الأضواء وفي كل خير" .(115/633)
في حين تنقل الأخت عفاف فيصل عن الأستاذة البندري العمر بأن مجالات استغلال هذه الطاقات كثيرة، منها : الأسرة، والمدرسة، والأقارب، والمستشفيات، ودور تحفيظ القرآن الكريم، ودور رعاية الأيتام، والملاحظة الاجتماعية .
وترى المشاركة سواء كانت معلمة أو طالبة في الدعوة عن طريق الوسائل المتعددة الحديثة، فتقول: سواء كانت طالبة أو معلمة تستطيع أن تؤثر على الزميلات والطالبات ، وحتى الطالبة تستطيع أن تؤثر على معلمتها عن طريق المطويات والمجلات الحائطية والإذاعة المدرسية ، وعن طريق كلمة صادقة تلقيها أثناء درسها أو محاضرتها أو حديثها مع من حولها .
ويرى الشيخ د. سفر الحوالي – حفظه الله – أن لكل إنسان طاقة وجهد، ولابد أن يصيبه الفتور، وهو من الأمور التي يشتكي منها الصالحون، فيقول :"إن مسألة الضعف والفتور مما شكا منه الصالحون والزهاد، فالنفوس البشرية تعاني الضعف والفتور، وإن الحالة التي يرغب فيها المؤمن لنفسه حالة الخشوع واليقين، الدمعة التي تذرف لذكر الله لا تدوم، بل تعقبها حالات من مشاكل الدنيا تسلب القلب البشري، ولم يسمَّ قلباً إلا لتقلبه، وما يعزي المؤمن والمؤمنة أنه مبتلى في كل الأحوال، وأنه يؤجر على كل ما يصيبه من هم وغم، ويؤجر على أعماله، فتؤجر المرأة مثلاً على حسن ابتعالها لزوجها وتربية أولادها.
جاءت الشريعة فرفعت مقدار العابد في هذه الأمة حتى جعلته يحتسب نومته كما يحتسب قومته؛ لذا تستطيع أن تجعل هذه المسألة ليست قضية فتور عن الطاعة، إنما تقلب لحالة معينة تمر بها النفس البشرية، وتجعل لكل حالة حقاً وواجباً لا بد أن تؤديه، فالرجل حين يؤدي حق زوجته وأبنائه أو والديه فهو يؤدي عبادة شرعية، فإذا كان الفتور إنما بانشغال الإنسان عن قراءة القرآن والعبادة ومثل هذه الواجبات، فإنما هو نقلة من عبادة إلى عبادة.
لكن علينا أن نجاهد ونقاوم ونتوكل على الله، فإن هذا أعظم التوكل".
وحول القدرة على التوفيق بين الواجب الدعوي والواجب الأسري يقول الشيخ د. سفر الحوالي :" أما التوفيق بين الواجبات، فينبغي أن نعلم أن تكاثر الأعباء مشكلة نشتكي منها جميعاً، وإن لم يكن لنا مقدرة على ترتيب الأولويات، وإعطاء كل ذي حق حقه نكون مقصرين، فالمتزوجة إن قصرت في حق زوجها وأبنائها تأثم، وإن كانت داعية ناجحة لا بد أن يكون هناك منهج لتوفيق بين هذه الواجبات.
د. منيره البدراني : في نظري يمكن توظيف هذه الطاقات بحسب إمكاناتها الجسمية والعقلية والفكرية والنفسية
لا بد لها من الاستشارة، استشارة الزوج، الأخوات الداعيات في الأصلح لها؛ إذ إن الحالات البشرية مختلفة، وكل إنسان له ظروفه.."
وترى د. منيره البدراني أن المشكلة ليس في صعوبة التوفيق بقدر ماهي مشكلة داخلية لدى النساء، وأن بيدهن القدرة على التوفيق بين هذين الواجبين بعد توفيق الله _جل وعلا_ فتقول : " المرأة التي تحمل هم الدعوة إلى الله وإصلاح حال المسلمين لا تستطيع التوفيق بين هذين الواجبين إلا بتوفيق من الله وبالاستعانة بالله، والدعاء في الأوقات والأحوال التي يرجى فيها إجابة الدعاء، ثم بتنظيم الوقت والبعد عن كل(115/634)
ما من شأنه تضييع الأوقات من الملهيات المحرمة والمكروهة والمباحة، وتربأ بنفسها عن كثير مما تنشغل به كثير من النساء من اللهو" .
وترى أن على المرأة أن تعرف مقاصد الشريعة، وتفهم واقع الحال والقدرة على ترتيب الأولويات في حياتها، فتقول : "أيضاً فهم الشرع فهماً صحيحاً من حيث تقديم بعض الواجبات على بعض ، والعناية بالأسرة وعدم إهمالها بدعوى الدعوة إلى الله، في نفس الوقت الشعور بالواجب تجاه المجتمع وعدم التقوقع في البيت" .
في حين أن إحدى الأخوات الداعيات - والتي طلبت عدم ذكر اسمها - ذكرت حالاً للداعيات مما تعيشه في واقعها، وتشعر بسببه بكثير من الحسرة والشعور بتأنيب الضمير، فتقول في كلامها – المؤثر - : " سأجيب على تساؤلكم بجواب إنما هو حكاية واقع ، لمحاولة معرفة الصواب ؛ لأن هذا الموضوع يشغل كثيرات غيري ، ولم نجد حتى الآن ما تطمئن له النفس ، أو يرتاح له البال، فالمرأة إما أن تكون عاملة – موظفه – أو تكون ربة بيت ، والحكم يختلف ، وسأتكلم عن النموذج الأول بصفتي واحدة منهن .
فالمرأة الموظفة التي تحمل الهم تخرج يومياً تقريباً من المنزل للمدرسة أو للجامعة أو للدار، ثم تعود مع عودة أولادها وزوجها، وهي منهكة تحتاج إلى الراحة ، فإذا عادت وجدت الجميع بحاجة إلى وجودها الصغير والكبير ، وشؤون البيت بحاجة إلى إشرافها، فتشعر بتأنيب الضمير؛لأنها تعد هذا تقصيراً، خاصة وهي تسمع كلمات العتاب إما من الزوج أو من الأولاد ، مثلاً : ( نتمنى أن نرجع ونجدك في البيت ) أو قريباً من هذا القول ، أضف إلى ذلك أن هذا هو الوضع الطبعي الموافق للفطرة".
الشيخ د. سفر الحوالي : أما التوفيق بين الواجبات، فينبغي أن نعلم أن تكاثر الأعباء مشكلة نشتكي منها جميعاً وإن لم يكن لنا مقدرة على ترتيب الأولويات وإعطاء كل ذي حق حقه نكون مقصرين
ثم تضيف أن هذه الحال موجودة في مكان عملها أيضاً مما يسبب كثيراً من المعاناة النفسية، فتقول :" ثم تفكر جدياً بترك العمل ، فتسمع كلمات العتاب ممن حولها، مثل : بقاؤك سد ثغرة ، لمن تتركين المكان ؟ بنات المسلمين بحاجة لك ولأمثالك... وهكذا، ولا تنتهي المعاناة عند هذا الحد؛ لأنه لو اقتصر الارتباط على عمل الصباح لقلنا: تبقى المرأة وتعوض أولادها، وتجلس معهم أطول وقت ممكن ، ولكن هذا في الحقيقة لا يمكن أن يكون؛ لأن الارتباط الواحد يتبعه ارتباطات متعددة والساحة بحاجة ، والنساء قليل فترتبط مع دار في الأسبوع لدرس أسبوعي ، والجيران لهم حق فترتبط معهم بدرس أسبوعي ، والعمل يحتاج إلى تنظيم فتذهب للاجتماعات ، وكذلك المسؤوليات الأخرى فتجد نفسها في دوامة لا تنتهي ، وإذا اعتذرت شعرت بالسلبية والتقصير ، وإذا أجابت شعرت بالتفريط في حق من تعول، وهذه مشكلة المشاكل.
وتضيف أن الداعيات بحاجة ماسة إلى الحلول العملية لهذه المشكلة التي تقع فيها كثيرات منهن بعيداً عن التنظير المجرد، وأن واقع الدعاة يختلف عن الداعيات، فتقول :" دائماً نستشير أهل العلم، فيقولون: سددوا وقاربوا ، وهذا كلام نظري لا يمكن تطبيقه ، نحن نحتاج فعلاً إلى حلول عملية من واقع مجرب، فالرجل ليس(115/635)
كالمرأة ، نسمع عن رجال دعاة، ولكن هل يصلح أن تكون المرأة داعية بالمعنى المتعارف عليه؟
ثم تختم رسالتها قائلة :" الآن وبعد تجربة دامت قرابة خمسة عشر عاماً أعترف بالتقصير، وأرى أن الموضوع يحتاج إلى دراسة متأنية" .
هذه الرسالة المعبرة عن واقع كثير من الداعيات - والتي يرين من خلالها أن الوقت المتاح لا يخدم المرأة في القدرة على التوفيق بين خدمة أسرتها والقدرة على معالجة كثير من أوضاع المجتمع النسوي في سواء في المدرسة أوالوظيفة أوالمجتمع بشكل عام - تجعلنا نطرح هذا السؤال : ما الطرق المثلى لاستغلال الوقت وتنظيمه ؟
ترى د.منيره البدراني أن الطرق لتنظيم الوقت متعلقة بالمرأة نفسها لاشك أن للقدرة على استغلال الوقت وتنظيمه أهمية عظيمة في حياة المرأة الداعية، سواء كانت عاملة أو موظفة أو من ربات البيوت ، حيث تبتلى كثير من النساء بكثرة النوم، وأنا أنصح بتقليل النوم، والاستعانة بالله، وتقليل الخروج من البيت، وعدم البحث عمن يضيع معها الوقت، سواء في الهاتف أوخارج المنزل أوداخله.
وتقول إحدى الأخوات الداعيات محذرة: إن عدم تنظيم الوقت قد يكون سبباً في تقاعس كثير من الداعيات عن العمل الدعوي، فتقول :" احذري تلبيس إبليس عليك بأمور كثيرة منها: أن يقلل مما تعملينه في نظرك، فيجعلك تظنين أن عملك في هذا المجال ليس بذي قيمة، أو يخوفك من أن يؤثر عملك التطوعي على تربيتك لأبنائك أو اهتمامك بزوجك، ولكن .. تذكري أنك _والحمد لله_ مسلمة، وأن لهذا الدين حقوق عليك عظيمة، وكثيرات من نسائنا يقضون وقت الضحى دون استفادة؛ فمنهن من تصرفه في النوم ، أو الأسواق أو للمحادثة في الهاتف، ومع ذلك لم يلبس عليها إبليس" .
ثم تضيف : "استعيني بالله وأقدمي، فبالتوكل على الله والإكثار من الدعاء بأن يقويك ويسدد خطاك، وأن يبارك لك في الوقت تستطيعين _بإذن الله_ التوفيق بين أعبائك المنزلية وعملك التطوعي، بحيث لا يطغى جانب على جانب، وهذا يحتاج إلى تضحية وجهد" .
وترى أيضاً أن الكسل والفتور من أسباب ضياع الأوقات وعدم الاستفادة منها، فتقول :" احذري الكسل والفتور فإنه يقعد بك عن العمل، ويضيع الأوقات والفرص والمناسبات ، فالبعض قد يفتح له باب من أبواب الخير فيلج فيه، ولكن ما أن تمر أيام أو تعصف أدنى مشكلة أو تقف أمامه عقبة إلا وترك هذا الطريق ، وتمضي سنوات بدون فائدة ، وما ذاك إلا أنه فتح باباً فأعرضوا عنه، وقد لا يفتح هذا الباب مرة أخرى فتمسكي أختي بما أنت فيه، ولا تدعي الفرصة تفوتك فإن عمرك قصير والأيام تطوى والمراحل تنقضي" .
وتقول إحدى الداعيات : " ومشكلة الوقت هذه تحتاج إلى تنظيم وعمل وتطبيق؛ لأن عدم تنظيم الوقت وتقسيمه قد يحدث فوضى عارمة لا في المنزل فقط بل في كل مجالات الحياة، فالإنسان العامل سواء في مجال الدعوة أو أي مجال غيره بحاجة ماسة لتنظيم وقته وعدم خلط هذا بذاك، فكل عمل يجب إعطائه حقه فلا يطغى شيء على شيء آخر ...(115/636)
وهذا بالنسبة للداعيات أيضاً فمن تخرج من منزلها للدعوة إلى الله _تعالى_ يجب أن تضع جدولاً مقسماً وواضحاً تمشي عليه حتى لا تحدث الفوضى في حياتها الأسرية، وحتى توفق بين عملها كداعية إلى الله وبين واجبها كزوجة وأم ....
إذن هل هناك مقترحات حول الوقت وتقسيمه؟
نقول: نعم، وإليك أختي الداعية بعض هذه المقترحات :
أولاً : عدم الخروج بتاتاً من المنزل قبل خروج الأبناء للمدارس _إن كانوا طلاب مدارس_.
ثانياً : الحرص على الرجوع للمنزل قبل الساعة السابعة مساءً _إذا كان العمل في المدة المسائية_.
ثالثاًً : عدم الاتكال على الخادمة في العناية بالأطفال الصغار عند الغياب، ويمكن استبدال الخادمة بأم الزوجة أو أم الزوج أو الأخوات _إن أمكن ذلك_.
رابعاً : لا تكن الأعمال الدعوية يومية، بحيث تضطر الأخت الداعية للخروج من منزلها صباحاً أو مساءً بشكل يومي، بل تختار أوقاتاً متفرقة تعطيها فرصة متابعة الأبناء بالشكل الصحيح وقضاء متطلبات الزوج.
خامساً : ألا يستهلك العمل الدعوي كل وقتها وتفكيرها.
وتضيف د.منيرة البدراني :" يجب الاستفادة من الصباح؛ لأن فيه بركة لمن استطاعت ذلك، كما أكرر أنه يفرق بين الداعية الموظفة والمعلمة وربة البيت في استغلال الوقت"
وترى أنه من استغلال الوقت الاستفادة الكبرى من أماكن التجمعات في الدعوة إلى الله، فتقول : " يجب علينا عدم الاستهانة بأماكن التجمعات ( العائلية، المستشفيات، المصاعد، الأسواق ... وهكذا ).
وحول سؤالنا عن دور المرأة الداعية تجاه مجتمعها وأسرتها ترى الداعية رقية المحارب أن دور الداعية هو أخذ الناس باللين والحكمة لجذب الناس من طريق الباطل إلى طريق الحق المبين، وليس لمحاربة فلان أو فلان، فتقول :" ليس الهدف من الدعوة هو تحطيم أشخاص معينين أو إسقاطهم، فلم يكن هم موسى _عليه السلام_ القضاء على فرعون، بل كان يرجو أن يخرج الناس من عبودية العباد إلى إخلاص العبادة لرب العباد.
فلا بد من البعد عن السب والشتم، فهو ليس من طرق الدعوة ولا من وسائلها، فهي جاءت لإسقاط الباطل وبسقوطه يسقط من حمله" .
وتقول أيضاً :" إن مهمة الداعية ليست تبكيت الناس ولا تقريعهم، ولا تبدأ بعيبهم وذمهم؛ لأن هذا قد يثير حمية الانتصار لأنفسهم أو لعدالتهم أو لمذاهبهم أولأقوالهم، ويعين الشيطان عليهم، كما ينبغي أن تكون دائمة القلق لحال الناس من غير يأس ولا قنوط، فتحمل هم الإسلام ولا تتجاهله كمن عنده صداع في رأسه لا يمكن أن يتناساه أو يغفل عنه"
وتقول د. منيرة البدراني :" دور الداعية تجاه المجتمع :
1- الشعور بحاجة المجتمع إليها .(115/637)
2- الاستعانة بالله وتقديم ما يمكن من كتابة في الدوريات والمجلات، وإلقاء الدورس والمحاضرات، وإدارة دور التحفيظ والمؤسسات الخيرية ، فكل على ثغرة من ثغور المسلمين" طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله ، أشعث رأسه مغبرة قدماه ، إن كان في الساقة كان في الساقة، وإن كان في الحراسة كان في الحراسة" .
أما الأسرة فهي الواجب الأول للمرأة " والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها " .
إن كانت زوجة فعليها القيام بحق زوجها ، وإن كان لديها أطفال فعليها القيام بشؤونهم من مأكل وملبس وعلاج ومتابعة ...، وعدم الاتكال على الخدم .
ويجب عليها تربيتهم وتعليمهم المبادئ الإسلامية ، وغرس العقيدة الصحيحة في نفوسهم والأخلاق الفاضلة ، والتحذير مما قد يضرهم في دينهم من مخاطر ومخالفات .
وإن لم تكن زوجة فتحسن معاشرة والديها وأهل بيتها ، وتخدمهم بما تستطيع، وتدعو إلى الله وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر ... )
وتختم كلامها بقولها :" ولا شك أن للمرأة قدرة فائقة على التأثير على بنات جنسها ، بل إن لها من القدرة ما ليس عند الرجل" .
أخواتي الداعيات هذه بعض المناقشات لقضية لا يخالطنا جميعاً الشك في أنها تهم كثيراً من النساء المهتمات بجانب الدعوة، واللاتي يرين أن لهن مهمة عظيمة لابد أن يبادرن بها لخدمة هذا الدين العظيم .
ـــــــــــــــــــ
مع العيد
مشرف النافذة
27/9/1424
ارسل تعليقك ...
تعليقات سابقة ...
ارسل الصفحة ...
الى مشرف النافذة ...
طباعة ...
يوم العيد يوم الإخاء والسلام والمحبة ، يوم التصافي والتواد والاجتماع والتراحم ، يوم تظهر فيه خصائص المجتمع المسلم الواحد بشتى صورها وتداخلاتها .
هذا العيد الذي يمر علينا مرتين في السنة ، هل نحن فعلاً قدرنا هذه المناسبة العظيمة، واستشعرنا كل ماتحمله من وقفات وإشارات لا تكرر إلا مرتين في السنة .
فماذا بعد رمضان ؟ ولماذا لا نفرح ونتفاءل بالعيد ؟ وماهي معاني العيد ؟ وماهو أثر العيد التربوي ؟
هذا ما سيجيب عنه نخبة من العلماء الأفاضل في هذه القضية .
ماذا بعد رمضان ؟
يجيب الشيخ محمد بن عبد الله الهبدان (إمام وخطيب جامع العز بن عبد السلام سابقاً ) عن هذا السؤال، فيقول : لقد كان شهر رمضان ميداناً يتنافس فيه المتنافسون ،(115/638)
ويتسابق فيه المتسابقون ، ويحسن فيه المحسنون ، تروضت فيه النفوس على الفضيلة ، وتربت فيه على الكرامة ، وترفعت عن الرذيلة ، وتعالت عن الخطيئة ، واكتسبت فيه كل هدى ورشاد، ومسكين ذاك الذي أدرك هذا الشهر ولم يظفر من مغانمه بشيء ، ما حجبه إلا الإهمال والكسل ، والتسويف وطول الأمل .
يوم العيد يوم الإخاء والسلام والمحبة ، يوم التصافي والتواد والاجتماع والتراحم ، يوم تظهر فيه خصائص المجتمع المسلم الواحد بشتى صورها وتداخلاتها .
هذا العيد الذي يمر علينا مرتين في السنة ، هل نحن فعلاً قدرنا هذه المناسبة العظيمة واستشعرنا كل ماتحمله من وقفات وإشارات لا تكرر إلا مرتين في السنة .
فماذا بعد رمضان ؟ ولماذا لا نفرح ونتفاؤل بالعيد ؟ وماهي معاني العيد ؟ وماهو أثر العيد التربوي ؟
هذا ما سيجيب عنه نخبة من العلماء الأفاضل في هذه القضية .
فإن انقضى رمضان فبين أيديكم مواسم تتكرر، فالصلوات الخمس من أجل الأعمال ، وأول ما يحاسب عليها العبد ، يقف فيها العبد بين يدي ربه مخبتاً متضرعاً . .
ولئن انتهى صيام رمضان فهناك صيام النوافل كالست من شوال ، والاثنين والخميس ، والأيام البيض، وعاشوراء، وعرفة، وغيرها .
ولئن انتهى قيام رمضان، فقيام الليل مشروع في كل ليلة : "كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون"
ولئن انتهت صدقة أو زكاة الفطر فهناك الزكاة المفروضة ، وهناك أبواب للصدقة والتطوع والجهاد كثيرة.
ولتعلم يا أخي المسلم أن من صفات عباد الله المداومة على الأعمال الصالحة "الذين هم على صلاتهم دائمون "
و "والذين هم على صلواتهم يحافظون"
ويضيف الشيخ: وكأني بك قد تاقت نفسك لتعرف سبيل النجاة في كيفية المداومة على العمل الصالح، فأقول لك بلسان المشفق الناصح الأمين:
لابد أولاً : من العزيمة الصادقة على لزوم العمل والمداومة عليه أياً كانت الظروف والأحوال، وهذا يتطلب منك ترك العجز والكسل، ولذا كان نبينا _صلى الله عليه وسلم_ يتعوذ بالله من العجز والكسل لعظيم الضرر المترتب عليهما، فاستعن بالله _تعالى_ ولا تعجز .
ثانياً : القصد القصد في الأعمال ، ولا تحمل نفسك مالا تطيق، ولذا يقول النبي _صلى الله عليه وسلم_ : "خذوا من الأعمال ما تطيقون فإن الله لا يمل حتى تملوا" رواه البخاري ومسلم .
ولتعلم يا أخي أن البركة في المداومة، فمن حافظ على قراءة جزء من القران كل يوم ختمه في شهر ، ومن صام ثلاثة أيام في كل شهر فكأنه صام الدهر كله ، ومن حافظ على ثنتي عشرة ركعة في كل يوم وليلة بنى الله له بيتاً في الجنة... وهكذا بقية الأعمال .(115/639)
ثالثاً : عليك أن تتذكر أنه لا يحسن بمن داوم على عمل صالح أن يتركه، فعن عبد الله بن عمرو بن العاص _رضي الله عنه_ قال: قال رسول الله _صلى الله عليه وسلم_: "يا عبد الله لا تكن مثل فلان كان يقوم الليل فترك قيام الليل " رواه البخاري ومسلم .
رابعاً : استحضر يا رعاك الله ما كان عليه أسلافنا الأوائل : فهذا حبيبك محمد _صلى الله عليه وسلم_ تخبرنا أم المؤمنين عائشة- رضي الله عنها -أنه كان إذا نام من الليل أو مرض صلى في النهار اثنتي عشرة ركعة . رواه مسلم ، وترك _صلى الله عليه وسلم_ اعتكافاً ذات مرة فقضاه _صلى الله عليه وسلم_ في شوال ، وروى البخاري ومسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه – قال: قال رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ لبلال عند صلاة الفجر:"يا بلال حدثني بأرجى عمل عملته في الإسلام فإني سمعت دف نعليك بين يدي في الجنة"، قال :"ما عملت عملاً أرجى عندي أني لم أتطهر طهوراً في ساعة من ليل ولا نهار إلا صليت بذلك الطهور ما كتب لي أن أصلي"، وأعجب من ذلك ما فعله علي بن أبي طالب -رضي الله عنه - بوصية رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ له حينما دخل عليه ذات يوم فوجده نائم مع فاطمة ، يقول علي : "فوضع رجله بيني وبين فاطمة-رضي الله عنها - فعلمنا ما نقول إذا أخذنا مضاجعنا ، فقال : يا فاطمة إذا كنتما بمنزلتكما فسبحا الله ثلاثاً وثلاثين ، واحمدا ثلاثاً وثلاثين ، وكبرا أربعاً وثلاثين. قال علي : والله ما تركتها بعد! ! ، فقال له رجل : كان في نفسه عليه شيء ، ولا ليلة صفين ؟ قال علي : ولا ليلة صفين " أخرجه الحاكم وصححه . إنك إذا تصورت مثل هذا الخبر فإنه سيتمالكك العجب من الحرص على المداومة على العمل حتى في حال القتال وتطاير الرؤوس ، وذاهب المهج، وسفك الدماء ... كل ذلك لا ينسيه عن وصية نبيه محمد _صلى الله عليه وسلم_ وأن يقول ما أمر أن يقوله عند النوم ، ويختم الشيخ محمد حديثه بقوله : إن معرفة مثل هذه الأخبار تدفعك إلى المداومة على العمل الصالح، ومحاولة الاقتداء بنهج السلف الصالح، والسير على منوالهم .
لنفرح بالعيد
ويتحدث فضيلة الشيخ سلمان بن فهد العودة (المشرف العام على مؤسسة الإسلام اليوم) داعياً إلى الفرحة بالعيد، فيقول :أبادلكم التهنئة بالعيد المبارك ، جعلها الله لنا ولكم ولكل المسلمين أفراحاً موصولة . هكذا العيد أيها الأحبة ، أفراح ومباهج وصفاء ونقاء ، "قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون" .
فلتتصافح القلوب ، ولتتصاف النفوس ، ولنجدد ميثاق الإخاء الإسلامي بين أولياء الله وحزبه من أهل "لا إله إلا الله" تعاوناً على البر والتقوى ، وتواصياً بالحق والصبر ، ونصرة للظالم والمظلوم ، فلن يذوق طعم الفرح بالعيد قلب تأكله الأحقاد ، أو ضمير يسكنه الغش ، أو نفس يتلبسها الهوى .
ولنحلم بغدٍ مشرق تلوح تباشيره في الأفق البعيد ... فما أضيق العيش لولا فسحة الأمل! لم لا نفرح بالأحلام اللذيذة ؟!
إن لبلوغ الأمل المنشود على الصعيد الفردي والأممي فرحةً أخرى تختلف في مباهجها وطعمها عن فرحة العيد الراتبة المألوفة.(115/640)
وقد علم الله الحكيم أن الأمة ستركب طبقاً بعد طبق ، وستأخذ مأخذ الأمم قبلها في التفريط ، والاتكاء على الماضي العريق ، والتخاذل عن الواجب ، وستضر بها أزمات ومحن ومصائب، وشرع لهم _سبحانه_ أن يفرحوا بعيدهم ، شكراً على تمام العبادة ، والهداية إلى الشريعة "ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون" .
ونأى الرسول الهادي _صلى الله عليه وسلم_ بالمسلمين عن موافقة أهل الشرك أو أهل الكتاب في أعيادهم ورسومهم ، لا ليدع المسلمين دون عيد وفرحة ، ولكن ليخصهم بهذين العيدين الكبيرين المرتبطين بالتعبد صوماً ، أو حجاً ، وهما عيد الفطر وعيد الأضحى .
وما من شك أن المسلمين كانوا يقيمون هذه الأعياد ، ويجتمعون ويوسعون على الفقير والمسكين ، ويترخصون من الأعمال بما لا يرتضونه في غيرها ( دعها، فإنه يوم عيد ) .
يفعلون ذلك حتى حين يكونون في معاناة أو ترقب أو محنة ...
إن النفس البشرية قد تمل من فرط الإلحاح على معنى واحد ، ولو كان صواباً في ذاته ، فالجد الصارم يملّ ، ولا بأس أن نوقف معزوفة الحزن والندب لنُشِمَّ قلوبَنا شيئاً من عبير الفرحة بالشرع والهداية والتوفيق.
وأضاف الشيخ : وثمة معنى لطيف يتصل بهذا السياق ، وهو التذكير بأنه لا شيء من أمر الحياة الدنيا يدوم، والله _تعالى_ بيده الأمر ، يخفض القسط ويرفعه ، كل يوم هو في شأن ، وليست الذلة والمرارة التي تعيشها الأمة الإسلامية حتماً صارماً لا يزول ، والتاريخ لا يعرف الكلمة الأخيرة ، بل هو في دورات متعاقبة يتحقق فيها التقديم والتأخير ، والعلو والهبوط ، والتمكين والاستضعاف ، ولا شيء يدمر إمكانيات الأمة ، ويجرها إلى اليأس والقنوط والانتحار مثل الإحساس بالعجز والتوقف عند حالٍ خاص.
لقد أدركنا العيد هذا العام ونحن هدف مغرٍ للمغامرات الأمريكية، وتفتحت شهية الأحلاف للضرب ذات اليمين وذات الشمال ، ومحاكمة الثقافة الإسلامية والتاريخ الإسلامي وإدانة المجتمعات المسلمة ، والتدخل المباشر لتغيير مناهج المسلمين وأفكارهم وإعلامهم واقتصادهم .
ولقد رأيت المرارة وقرأت الحزن الدفين في وجوه من لقيتهم ، وفي كلماتهم وعباراتهم وأحاديثهم .
وهذه حالة فاضلة من حيث صدق الولاء لهذا الدين ، وعمق التفاعل مع جراح الأمة وآلامها ونكباتها .
لكن تعديل المزاج بجرعة من الفرحة الغامرة ، والضحكة الصادقة ، واستعادة البراءة الطفولية قد تعيد تشكيل النفس، وتجدد عزيمتها وترفع همتها ، ومن الحكمة البالغة القدرية أن الله _تعالى_ غشَّى المسلمين النعاسَ حين احمرت الحدق، واشتد الخوف وأصابهم القرح في أحد ، فكشف به عنهم غائلة الشر ، وأعاد به إليهم السكينة والرضا والاطمئنان .(115/641)
إن العيد جزء من نظام الأمة الرباني ، يصل ماضيها بحاضرها ، وقريبها ببعيدها ، ويربي ناشئتها على الانتماء الحق لها ، ويربط أفراحها بشرائع دينها ، التي هي معراجها إلى الكمال والقوة والانتصار .
وليس يحسن أن تجوز عليه المتغيرات فينسى الناس كونه عيداً ليتحول عندهم إلى مناحة.
لنرغم أنف الشعراء، ولنفرح بالعيد ، كما هي سنة الأنبياء ، وهانحن نلتقط خيط الأمل من نقطة ضوء تلوح في آخر النفق ... يقدحها طفل فلسطيني برمية حجر، ، أوعامل دؤوب في حقل من حقول الإصلاح والبناء والتعمير والإحياء .
وختم الشيخ سلمان حديثه بقوله : عيدكم مبارك ، وتقبل الله منا ومنكم ، وغفر الله لنا ولكم.
ويتساءل الشيخ ناصر بن سليمان العمر (المشرف العام على موقع المسلم) :
وكيف يحتفل الناس باللهو والعبث، وجراحات المسلمين تنزف، والعدو قد استباح الدماء والأعراض ، ألا نخشى أن يحلّ بنا ما حذّر الله منه في كتابه " وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحقّ عليها القول فدمرناها تدميراً " .
ألا نتذكر قوله _تعالى_:"وضرب الله مثلاً قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغداً من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون " .
بينما دلّنا _سبحانه_ كيف يكون شكره في ختام هذا الشهر الكريم " يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ولتكملوا العدة ولتكبّروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون " .
إن شكر الله وحمده، والثناء عليه يكون بالمحافظة على دينه، والأخذ على أيدي السفهاء، وقصرهم على الحق قصراً ، وأطرهم عليه أطراً ، ودعم الجهاد ومساعدة المجاهدين الذين يجاهدون لإعلاء كلمة الله والدفاع عن شرعه ، وردّ كيد المعتدين في نحورهم من اليهود والنصارى والمشركين، والعلمانيين، ومن حالفهم من المنافقين والمهزومين .
تذكرت ونحن نستقبل هذا العيد المبارك ما شدا به محمود غنيم –رحمه الله- في قصيدته الرائعة، فأشجاني، وأثار كوامن في النفس مدفونة :
ما لي وللنجم يرعاني وأرعاه ... ... أمسى كلانا يعاف الغمض جفناه
لي فيك يا ليل آهات أرددها ... ... أواه لو أجدت المحزون أواه
كم صرّفتنا يد كنا نصرّفها ... ... وبات يملكنا شعب ملكناه
أنى اتجهت إلى الإسلام في بلد ... ... تجده كالطير مقصوصاً جناحاه
ويؤكد الشيخ ناصر أن العيد مدرسة للتفاؤل، فيقول : ومع تلك المآسي والجراحات ، فإن هناك الأمل المشرق ، والمستقبل الباهر -بإذن الله- الذي يبشر بفتح عظيم وانتصار قادم ، بدت بوادره تظهر في زحمة الآلام والأحزان .
إن هذه الفواجع تحمل في رحمها نوراً ساطعاً، وبشرى لا تخفى على ذي عينين ، ستنير ما بين المشرق والمغرب _بإذن الله_ .(115/642)
ولقد أرشدنا _صلى الله عليه وسلم_ وعلمنا كيف يكون التفاؤل في أقسى الظروف والأحوال، فهاهو _صلى الله عليه وسلم_ وهو يحدث عائشة - رضي الله عنها- ويجيبها عن سؤالها : هل مرّ عليه يوم أشد من يوم أحد، فقال:" لقد لقيت من قومك - وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة- إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي ، فلم أستفق إلا بـ( قرن الثعالب ) فرفعت رأسي ، فإذا أنا بسحابة قد أظلّتني ، فنظرت فإذا فيها جبريل ، فناداني ، فقال: " إن الله _عز وجل_ قد سمع قول قومك لك وما ردّوا عليك ، وقد بعث إليك ملك الجبال ، لتأمره بما شئت فيهم ، قال : فناداني ملك الجبال، وسلّم علي ، ثم قال : يا محمد، إن الله قد سمع قول قومك لك ، وأنا ملك الجبال ، وقد بعثني ربك إليك لتأمرني بأمرك فيما شئت ؟ إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين ؟ فقال له الرسول _صلى الله عليه وسلم_:" بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئاً" رواه مسلم .
أي تفاؤل أعظم من هذا التفاؤل ؟ يخرج هائماً على وجهه من شدة ما يلاقي من قومه، ومع ذلك يقول لملك الجبال تلك المقولة . إنها تدل على قوة إيمان، وثقة بالنصر، وبعد عن اليأس ، وأمل مشرق ، وتفاؤل لا يحدّه حدّ ، فلم تكن تلك الظروف المحيطة به - مع ما فيها من آلام وأحزان- لتحول بينه وبين هذا الأمل، واستشراف المستقبل، وحسن الظن بالله.
إنه قد خرج عن الدائرة الضيقة التي يعيش فيها إلى الأفق الرحب ، والأمل الواسع، والتطلع إلى المستقبل بثقة لا تعرف اليأس والقنوط .
إننا بحاجة إلى أن نربى الأمة على التفاؤل الإيجابي، الذي يساهم في تجاوز المرحلة التي تمرّ بها اليوم ، مما يشدّ من عضدها ، ويثبّت أقدامها في مواجهة أشرس الأعداء، وأقوى الخصوم؛ ليتحقق لها النصر _بإذن الله_
والتفاؤل الإيجابي ، هو التفاؤل الفعّال، المقرون بالعمل المتعدي حدود الأماني والأحلام .
والتفاؤل الإيجابي، هو المتمشّي مع السنن الكونية ، أما الخوارق والكرامات فليست لنا ولا يطالب المسلم بالاعتماد عليها ، أو الركون إليها ، وإنما نحن مطالبون بالأخذ بالأسباب وفق المنهج الرباني .
والتفاؤل الإيجابي هو التفاؤل الواقعي الذي يتّخذ من الحاضر دليلاً على المستقبل دون إفراط أو تفريط ، أو غلوّ أو جفاء .
والتفاؤل الإيجابي،هو المبنيّ على الثقة بالله ، والإيمان بتحقق موعوده ، متى ما توافرت الأسباب، وزالت الموانع " ولو شاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض " .
والمتأمل للواقع اليوم يرى من المبشّرات مالا يستطيع جاحد أن ينكره ، ويكفي من ذلك أن هذه الأمة أصبحت الشغل الشاغل للعالم يحسب لها العدو ألف حساب ، وما تحالف العالم اليوم بقيادة أمريكا ضد المسلمين باسم (مكافحة الإرهاب) إلا دليل على قوة شأن الأمة ، وأنها بدأت تسير نحو طريق العزة والكرامة، والمجد والخلود ، وصدق رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ : " ولكنكم تستعجلون" .(115/643)
وتأمّل معي هذه البشرى " لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم" .
وعضّ على هذا النبراس العظيم " فاصبر إن وعد الله حق ولا يستخفنك الذين لا يوقنون "
من معاني العيد
وحول هذا الموضوع يقول الشيخ محمد بن إبراهيم الحمد :
العيد مظهر من مظاهر الدين ، وشعيرة من شعائره المعظمة التي تنطوي على حكم عظيمه ، ومعان جليلة، وأسرار بديعة لا تعرفها الأمم في شتى أعيادها .
* فالعيد في معناه الديني شكر لله على تمام العبادة، لا يقولها المؤمن بلسانه فحسب ، ولكنها تعتلج في سرائره رضاً واطمئناناً ، وتنبلج قي علانيته فرحاً وابتهاجاً، وتسفر بين نفوس المؤمنين بالبشر والأنس والطلاقة، وتمسح ما بين الفقراء والأغنياء من جفوة
* والعيد في معناه الإنساني يوم تلتقي فيه قوة الغني ، وضعف الفقير على محبه ورحمة وعدالة من وحي السماء ، عنوانها الزكاة، والإحسان ، والتوسعة .
* يتجلى العيد على الغني المترف ، فينسى تعلقه بالمال ، وينزل من عليائه متواضعاً للحق وللخلق ، ويذكر أن كل من حوله إخوانه وأعوانه ، فيمحو إساءة عام بإحسان يوم .
* يتجلى العيد على الفقير المترب، فيطرح هموهه ، ويسمو من أفق كانت تصوره له أحلامه ، وينسى مكاره العام ومتاعبه ، وتمحو بشاشة العيد آثار الحقد والتبرم من نفسه ، وتنهزم لديه دواعي اليأس على حين تنتصر بواعث الرجاء.
* والعيد في معناه النفسي حد فاصل بين تقييد تخضع له النفس ، وتسكن إليه الجوارح، وبين انطلاق تنفتح له اللهوات، وتتنبه له الشهوات.
* والعيد في معناه الزمني قطعة من الزمن خصصت لنسيان الهموم ، واطراح الكلف ، واستجمام القوى الجاهدة في الحياة .
* والعيد في معناه الاجتماعي يوم الأطفال يفيض عليهم بالفرح والمرح ، ويوم الققراء يلقاهم باليسر والسعة ، ويوم الأرحام يجمعها على البر والصلة ، ويوم المسلمين يجمعهم على التسامح والتزاور ، ويوم الأصدقاء يجدد فيهم أواصر الحب ودواعي القرب ، ويوم النفوس الكريمة تتناسى أضغانها ، فتجتمع بعد افتراق ، وتتصافى بعد كدر ، وتتصافح بعد انقباض .
وفي هذا كله تجديد للرابطة الاجتماعية على أقوى ما تكون من الحب والوفاء والإخاء.
وفيه أروع ما يضفي على القلوب من الأنس ، وعلى النفوس من البهجة ، وعلى الأجسام من الراحة .
وفيه من المغزى الاجتماعي - أيضاً- تذكير لأبناء المجتمع بحق الضعفاء والعاجزين ؛ حتى تشمل الفرحة بالعيد كل بيت ، وتعم النعمة كل أسرة .
* وإلى هذا المعنى الاجتماعي يرمز تشريع صدقة الفطر في عيد الفطر، ونحر الأضاحي في عيد الأضحى ؛ فإن في تقديم ذلك قبل العيد أو في أيامه إطلاقاً للأيدي(115/644)
الخيرة في مجال الخير، فلا تشرق شمس العيد إلا والبسمة تعلو كل شفاه ، والبهجة تغمر كل قلب.
* في العيد يستروح الأشقياء ريح السعادة، ويتنفس المختنقون في جو من السعة، وفيه يذوق المعدمون طيبات الرزق، ويتنعم الواجدون بأطايبه .
* في العيد تسلس النفوس الجامحة قيادها إلى الخير، وتهش النفوس الكزة إلى الإحسان .
* في العيد أحكام تقمع الهوى ، من ورائها حكم تغذي العقل ، ومن تحتها أسرار تصفي النفس ، ومن بين يديها ذكريات تثمر التأسي في الحق والخير ، وفي طيها عبر تجلي الحقائق، وموازين تقيم العدل بين الأصناف المتفاوتة بين البشر ، ومقاصد سديدة في حفظ الوحدة ، وإصلاح الشأن ، ودروس تطبيقية عالية في التضحية والإيثار والمحبة .
* في العيد تظهر فضيلة الإخلاص مستعلنة للجميع ، ويهدي الناس بعضهم إلى بعض هدايا القلوب المخلصة المحبة، وكأنما العيد روح الأسرة الواحدة في الأمة كلها .
* في العيد تتسع روح الجوار وتمتد، حتى يرجع البلد العظيم وكأنه لأهله دار واحدة يتحقق فيها الإخاء بمعناه العملي .
* في العيد تنطلق السجايا على فطرتها ، وتبرز العواطف والميول على حقيقتها .
* العيد في الإسلام سكينة ووقار، وتعظيم للواحد القهار ، وبعد عن أسباب الهلكة ودخول النار .
*والعيد مع ذلك كله ميدان استباق إلى الخيرات ، ومجال منافسة في المكرمات .
* ومما يدل على عظم شأن العيد أن الإسلام قرن كل واحد من عيديه العظيمين بشعيرة من شعائره العامة التي لها جلالها الخطير في الروحانيات ، ولها خطرها الجليل في الاجتماعيات ، ولها ريحها المهابة بالخير وا لإحسان والبر والرحمة ، ولها أثرها العميق في التربية الفردية والجماعية التي لا تكون الأمة صالحة للوجود، نافعة في الوجود إلا بها .
هاتان الشعيرتان،هما: شهر رمضان الذي جاء عيد الفطر مسك ختامه ، وكلمة الشكر على تمامه ، والحج الذي كان عيد الأضحى بعض أيامه ، والظرف الموعي لمعظم أحكامه.
* فهذا الربط الإلهي بين العيدين ، وبين هاتين الشعيرتين كاف في الحكم عليهما ، وكاشف عن وجه الحقيقة فيهما ، وأنهما عيدان دينيان بكل ما شرع فيهما من سنن ، بل حتى ما ندب إليه الدين فيهما من أمور ظاهرها أنها دنيوية كالتجمل ، والتحلي ، والتطيب ، والتوسعة على العيال ، وإلطاف الضيوف ، والمرح واختيار المناعم والأطايب ، واللهو مما لا يخرج إلى حد السرف والتغالي والتفاخر المذموم ؛ فهذه الأمور المباحة داخلة في الطاعات إذا حسنت النية، فمن محاسن الإسلام أن المباحات إذا حسنت فيها النية ، وأريد بها تحقق حكمة الله ، أو شكر نعمته -انقلبت قربات كما قال النبي _صلى الله عليه وسلم_ : "حتى اللقمة تضعها في في امرأتك".(115/645)
* كلا طرفي العيد في معناه الإسلامي جمال ، وجلال ، وتمام وكمال ، وربط واتصال ، وبشاشة تخالط القلوب ، واطمئنان يلازم الجنوب ، وبسط وانشراح ، وهجر للهموم وإطراح ، وكأنه شباب وخطته النضرة ، أو غصن عاوده الربيع ؟ فوخزته الخضرة .
* وليس السر في العيد يومه الذي يبتدئ بطلوع الشمس وينتهي بغروبها ، وإنما السر فيما يعمر ذلك اليوم من أعمال، وما يغمره من إحسان وأفضال ، وما يغشى النفوس المستعدة للخير فيه من سمو وكمال؛ فالعيد إنما هو المعنى الذي يكون في العيد لا اليوم نفسه.
* هذه بعض معاني العيد كما نفهمها من الإسلام ، وكما يحققها المسلمون الصادقون ؟ فأين نحن اليوم من هذه الأعياد؟ وأين هذه الأعياد منا؟ وما نصيبنا من هذه المعاني ؟ وأين آثار العبادة من آثارالعادة في أعيادنا.
* إن مما يؤسف عليه أن بعض المسلمين جردوا هذه الأعياد من حليتها الدينية، وعطلوها عن معانيها الروحية الفوارة التي كانت تفيض على النفوس بالبهجة ، مع تجهم الأحداث ، وبالبشر مع شدة الأحوال، فأصبح بعض المسلمين - وإن شئت، فقل : كثير منهم - يلقون أعيادهم بهمم فاترة، وحس بليد، وشعور بارد، وأسرة عابسة ، حتى لكأن العيد عملية تجارية تتبع الخصب والجد ، وتتأثر بالعسر واليسر ، والنفاق والكساد ، لا صبغة روحيه تؤثر ولا تتأثر .
* ولئن كان من حق العيد أن نبهج به ونفرح، وكان من حقنا أن نتبادل به التهاني ، ونطرح الهموم ، ونتهادى البشائر، فإن حقوق إخواننا المشردين المعذبين شرقاً وغرباً تتقاضى أن نحزن لمحنتهم ونغتم ، ونعنى بقضاياهم ونهتم، فالمجتمع السعيد الواعي هو ذلك الذي تسمو أخلاقه في العيد إلى أرفع ذروة ، ويمتد شعوره الإنساني إلى أبعد مدى ، وذلك حين يبدو في العيد متماسكاً متعاوناً متراحماً ، حتى ليخفق فيه كل قلب بالحب والبر والرحمة ، ويذكر فيه أبناؤه مصائب إخوانهم في ا لأقطار حين تنزل بهم الكوارث والنكبات .
ولا يراد من ذلك تذارف الدموع ، ولبس ثياب الحداد في العيد، ولا يراد منه - أيضاً - أن يعتكف الإنسان كما يعتكف المرزوء بفقد حبيب أو قريب ، ولا أن يمتنع عن الطعام كما يفعل الصائم .
وإنما يراد من ذلك أن تظهر أعيادنا بمظهر الأمة الواعية ، التي تلزم الاعتدال في سرائها وضرائها ؟ فلا يحول احتفاؤها بالعيد دون الشعور بمصائبها التي يرزح تحتها فريق من أبنائها .
ويراد من ذلك أن نقتصد في مرحنا وإنفاقنا؛ لنوفر من ذلك ما تحتاج إليه أمتنا في صراعها المرير الدامي .
ويراد من ذلك- أيضاً - أن نشعر بالإخاء قوياً في أيام العيد ؟ فيبدو علينا في أحاديثنا عن نكبات إخواننا وجهادهم ما يقوي العزائم ، ويشحذ الهمم ، ويبسط الأيدي بالبذل ، ويطلق الألسنة بالدعاء، فهذا هو الحزن المجدي الذي يترجم إلى عمل واقعي .
* أيها المسلم المستبشر بالعيد : لا شك أن تستعد أو قد استعددت للعيد أباً كنت ، أو أماً ، أو شاباً ، أو فتاة، ولا ريب أنك قد أخذت أهبتك لكل ما يستلزمه العيد من لباس(115/646)
وطعام ونحوه ، فأضف إلى ذلك استعداداً تنال به شكوراً ، وتزداد به صحيفتك نوراً ، استعداداً هو أكرم عند الله ، وأجدر في نظر الأخوة والمروءة .
ألا وهو استعدادك للتفريج عن كربة من حولك من البؤساء، والمعدمين ، من جيران ، أو أقربين أو نحوهم ، فتش عن هؤلاء ، وسل عن حاجاتهم ، وبادر في إدخال السرور إلى قلوبهم ، وإن لم يسعدك المال فلا أقل من أن يسعدك المقال بالكلمة الطيبة ، والابتسامة الحانية ، والخفقة الطاهرة .
* وتذكر في صبيحة العيد ، وأنت تقبل على والديك ، وتأنس بزوجك ، وإخوانك وأولادك وأحبابك وأقربائك ، فيجتمع الشمل على الطعام اللذيذ ، والشراب الطيب ، تذكر يتامى لا يجدون في تلك الصبيحة حنان الأب ، وأيامى قد فقدن ابتسامة الزوج ، وآباء وأمهات حرموا أولادهم ، وجموعاً كاثرة من إخوانك شردهم الطغيان ، ومزقهم كل ممزق ، فإذا هم بالعيد يشرقون بالدمع ، ويكتوون بالنار ، ويفقدون طعم الراحة والاستقرا ر .
* وتذكر في العيد وأنت تأوي إلى ظلك الظليل ، ومنزلك الواسع ، وفراشك الوثير، تذكر إخواناً لك يفترشون الغبراء، ويلتحفون الخضراء ، ويتضورون في العراء .
* واستحضر أنك حين تأسو جراحهم ، وتسعى لسد حاجتهم أنك إنما تسد حاجتك ، وتأسو جراحك" والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض " ، " وما تنفقوا من خير فلأنفسكم " ، و" من عمل صالحاً فلنفسه" و" من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه " ، و" من لم يهتم بأمور المسلمين فليس منهم "، و"مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر".
العيد وأثره التربوي
الدكتور عبد الحليم بن إبراهيم العبداللطيف تحدث عن هذا الموضوع، فقال :
العيد اسم لكل ما يعتاد، وعاد إليه رجع وبابه، قال وعودة أيضاً، وعيّدتُ تعييداً شهدت العيد، وعاد إلى كذا وعاد له أيضاً، يعود عودة وعوداً صار إليه، وفي التنزيل "ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه" ، وفي المثل السائر "العود أحمد"، والمعاد بالفتح المرجع والمصير، والآخرة معاد الخلق، وعدت المريض أعوده عيادة والعائدة العطف والمنفعة، يقال: هذا الشيء أعود عليك من كذا، أي: أنفع وفلان ذو صفح وعائدة، أي: ذو عفو وتعطف وتلطف، والعيد واحد الأعياد، وشيء عادي، أي: قديم كأنه منسوب إلى عاد، والأعياد مواسم وشعارات توجد لدى كل الأمم، ذلك أن إقامة، الأعياد ترتبط بفطرة وغريزة طبع الناس عليهما، فكل الناس تقريباً يحبون أن تكون لهم مناسبات سعيدة يتذكرون بها الماضي، ولليهود أعيادهم، وللنصارى أعيادهم التي يتميزون بها، وللمجوس أعياد كذلك, أما المسلمون فليس لهم إلا عيدان، الفطر والأضحى، ولذا قال شاعرهم رداً على الشاعر الآخر الذي أضاف عيداً ثالثاً زاعماً مشروعيته، وهو عيد مولد محمد _صلى الله عليه وسلم_:
عيدان عند أولي النهى لا ثالث
لهما لمن يبغي السلامة في غد(115/647)
الفطر والاضحى وكل زيادة
فيها خروج عن سبيل محمد
وهذان العيدان اللذان شرعهما الله لعباده لحكم كثيرة ومقاصد عديدة وفريدة هما من شعائر الإسلام الظاهرة والباهرة التي ينبغي الاهتمام بها وفق تعاليم الشرع المطهر، كما ينبغي إدراك مقاصدها واستشعار معانيها.
والعيد عند المسلمين له طعم خاص ونكهة مميزة تتجلى فيه الأفراح الإيمانية المنضبطة بضوابط الشرع الحنيف، المصونة بسياج الأدب الرفيع والخلق الكامل المنيع، ففي العيد الفرح الوقور والبهجة والسرور في حدود الأدب الإسلامي المميز، وفيه الدعابة الخفيفة واللطيفة والظريفة، والنكتة الجميلة البريئة، وفيه حبور وسرور موزون، وفيه البسمة الحانية الدانية، والنزهة والفرجة المباحة والمتاحة، إذن ليس العيد مظاهر ومباهج فارغة، ولا مظاهر وفوضى، بل العيد الإسلامي شكر للمنعم، واعتراف بفضله وإظهار واستبشار بنعمته، العيد الصحيح أن نعود بفضلنا وخيرنا على غيرنا، يعود بعضنا بعضاً بالزيارة والسلام والوئام، والصفاء وعدم الجفاء، بالحب الصادق والمودة الخالصة، العيد تواصل وتواد وتراحم ليتحقق المعنى واللفظ في حياة الأمة, في العيد يتبادل الناس التهنئة الشرعية المعروفة لدى الصحابة والسلف الصالح أياً كان لفظها، من عبارات التهنئة المباحة، وقد ورد ما يدل عليها من كلام السلف كالإمام أحمد وغيره ممن يُعتد بقولهم ويُتأسى بفعلهم، من مشروعية التهنئة بالمناسبات، وتهنئة الصحابة بعضهم لبعض عند حصول ما يسر واندفاع ما يضر، ولاشك أن مثل هذه التهاني بين المسلمين في حدود الشرع المطهر من مكارم الأخلاق ومعالي الأمور ومحاسن الشيم ونبل الطباع، وقد قال العلماء في ذلك: أن تهنئ من هنأك بالعيد، وتسكت إن لم يفعل ذلك، وهذا أقل القليل، وهذا مروي عن الإمام أحمد، حيث قال: "إن هنأني أحد أجبته وإلا لم أبتدئه"، بهذا وأمثاله من تشريعات الإسلام العظيمة يقارب الإسلام بين الناس في تراحم ودود دون حقد، ويرسم طريقاً وسطاً مسلحاً بالعقيدة الصحيحة التي تحكم وتقارب بين الجميع، وبالوازع الديني المنظم، وهذا هو سمة الحياة الاجتماعية وأساسها في الإسلام، وهو نظام تربوي متميز يوقظ ضمير الفرد وحساسيته، ويثبت ويقوي شخصيته وإرادته ذلك أن تربية الفرد على هذا الأساس إنما هو إعداد له في ميدان الحياة الاجتماعية، ولهذا التهذيب والتأديب نتائجه في السلوك الاجتماعي والإنساني المطلوب عقلاً وشرعاً، وهي دروس رائعة وكفيلة بأن تهيئ للمجتمع المراد لبناته من طراز ممتاز، ولقد قال علماء التربية من المسلمين: إننا نعيش لأنفسنا حياة مضاعفة حينما نعيش للآخرين، ويقولون أيضاً: وبقدر ما نضاعف إحساسنا بالآخرين نضاعف إحساسنا بحياتنا، ونضاعف هذه الحياة ذاتها في نهاية المطاف، ويقولون أيضاً: إن الشر ليس عميقاً في النفس الإنسانية، وإن كان البعض يقول أو يتصور ذلك خاطئاً، إن الناس إذا أمنوا منك إذا ألفوك، إذا أحسوا بالمودة الصادقة من جانبك تكشفت تلك القشرة، عن صفات كريمة وطباع سليمة وأخلاق فاضلة، وهي حاصلة لصنف واحد فقط تربى على الإسلام وعلى مائدة القرآن، يُشعر الناس بالود الصادق، بالأمن الحقيقي، بالثقة في مودته والقرب منه، بالصفح واللطف عندما تصدر منهم أخطاء أو مخالفات(115/648)