حديث للمرأة المسلمة
...
...
4461
...
الأسرة والمجتمع
...
...
المرأة
...
أحمد حسن المعلم
...
...
المكلا
...
...
...
خالد بن الوليد
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- أهمية العناية بالمرأة المسلمة. 2- دعاة الحرية. 3- تكريم الإسلام للمرأة. 4- حال المرأة في الغرب. 5- نماذج مشرقة وصفحات مضيئة في تاريخ المرأة المسلمة. 6- نصائح وتوجيهات للمرأة المسلمة.
الخطبة الأولى
أما بعد: فأوصي نفسي المقصرة وإياكم بتقوى الله سبحانه وتعالى.
عباد الله، فحديثنا اليوم عن المرأة المسلمة، وهذا الحديث ليس خاصًا بالنساء فحسب، بل هو للرجال والنساء، فالرجال قوامون على النساء، وعليهم تقع مسؤولية إنشاء الأسرة المسلمة، ((وكلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته)).
دعها سماوية تجري على قدر لا تفسدنها برأي منك منكوس
إخوة الإسلام وأحباب الحبيب المصطفى محمد ، نتحدث اليوم عن المرأة المسلمة وإني لأتخيل تلك الصحابية التي جاءت إلى النبي وقالت: يا رسول الله، إن الرجال يحضرون معك الجمعة والجماعة فاجعل لنا من نفسك يومًا يا رسول الله، فجعل لهم يوم الاثنين.
والذي يدعونا للحديث عن المرأة المسلمة أمور، منها كثرة الفتن والتي مدخلها النساء، وقد حذر الرسول منهن فقال عليه الصلاة والسلام: ((اتقوا الدنيا واتقوا النساء؛ فإن أكثر فتنة بني إسرائيل في النساء))، وقال : ((عرضت علي النار فإذا أكثر أهلها النساء))، قيل: يا رسول الله، ما بال النساء؟ أو قالت امرأة: يا رسول الله، ما بال النساء؟ فقال : ((يكثرن العشير ويكثرن اللعن))، والعشير هو الزوج، ثم قال : ((لو أحسنت إلى إحداهن الدهر ثم رأت منك شيئًا قالت: ما رأيت منك معروفًا قط)) أو كما قال عليه الصلاة والسلام. وقال أيضًا عليه الصلاة والسلام: ((أخوف ما أخاف على أمتي النساء))، ويقول أيضًا عليه الصلاة والسلام: ((ما تركت فتنة هي أضر على الرجال من النساء)) أخرجاه في الصحيحين من حديث أسامة بن زيد.
ومن الأمور أيضًا التي تدعونا للحديث عن المرأة المسلمة تقصيرُنا دعاةً وعلماءَ وطلبة علم وأولياء في جانب المرأة وفي الجانب الآخر، فهناك مؤامرات ودعوات مغرضة وزائفة تحيط بالمرأة، يبثها أعداء الله من المنافقين والمرجفين في الأرض، والذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون، يدعون إلى ما يسمى بحرية المرأة، ويدندنون على هذا الوتر، ويطنطنون ويقولون: إن المرأة المسلمة مظلمة، وإنها شق معطل ورئة مهملة. كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبًا، قاتلهم الله. هؤلاء هم أعداء المرأة وقتلة المرأة، لا يريدون إلا أن تكون المرأة جسدا مشاعًا يفترسه ذئاب الأرض، يريدون من المرأة أن تخلع جلبابها وحياءها وشرفها وعفتها وكرامتها، يريدون للمرأة العار والدمار والشنار في الدنيا والآخرة، وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيمًا [النساء:27].
إن الإسلام هو الذي حفظ المرأة، وهو الذي صان المرأة، وهو الذي شرف المرأة وكرم المرأة، ولا يوجد تشريع أعطى حقوقًا للمرأة مثل تشريع الإسلام.
كانت المرأة قبل الإسلام سقط متاع، يُعيَّر بها الرجل، توأَد وتقتَل وهي حيّة، ليس لها كيان ولا وزن ولا قيمة ولا حتى إنسانية، فجاء الإسلام فجعلها إنسانة لها شأنها في المجتمع، فهي تمثل نصف الأمة، ثم هي تلد النصف الآخر، فهي أمة كاملة.
لقد حفظ الإسلام المرأة أمًّا كانت أو زوجة أو بنتًا أو أختًا أو عمة أو خالة أو جدة أو امرأة من نساء المسلمين، وإن الناظر في كتاب الله وفي سنة رسول الله ليرى صور التكريم التي أحاطها الإسلام بالمرأة، استمع معي ـ يا عبد الله ـ واستمعي ـ يا أمة الله ـ إلى بعض هذه الصّور، يأتي رجل إلى رسول الله ـ كما في الصحيحين ـ فيقول: يا رسول الله، من أحق الناس بحسن صحبتي؟ فيقول له الرسول: ((أمك))، ثم قال: ثم من؟ قال: ((أمك))، قال: ثم من؟ قال: ((أمك))، قال: ثم من؟ قال: ((أبوك)).
ويأتي رجل إلى رسول الله ـ كما في السنن وصحيح مسلم ـ فيقول: يا رسول الله، جئت أبايعك على الجهاد والهجرة وتركت أبويّ يبكيان، فقال له الرسول: ((ارجع إليهما ففيهما فجاهد))، وفي رواية: ((ارجع إليهما فأضحكهما كما أبكيتهما)).
وها هو الرسول يوصي بالنساء فيقول عليه الصلاة والسلام: ((استوصوا بالنساء خيرًا))، ويقول أيضًا عليه الصلاة والسلام: ((أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا، وخياركم خياركم لنسائهم))، وفي رواية: ((وأنا خيركم لأهلي))، وعند مسلم من حديث أنس عن النبي : ((من عال جاريتين حتى تبلغا جاء يوم القيامة أنا وهو كهاتين)) وضم أصابعه. والجاريتان أي: البنتان.
هكذا ـ إخوة الإسلام ـ كرّم الإسلام المرأة وجعل منها جوهرة مصونة، يسعى الرجل لخدمتها وصيانتها، أما المرأة في الغرب فهي إن كانت عجوزًا فهي في الملاجئ وفي دور العجزة والمسنين، وإن كانت شابة فهي في المعامل والمصانع، تبيع أنوثتها وعفتها وطهارتها وحياءها وشرفها، فأيّ حرية هذه؟! وأي حياة تلك؟! إنه ـ والله ـ إذلال للمرأة وفسخ لفطرتها التي فطرها الله تعالى عليها.
وقد اعترف بهذه الحقيقة الغرب أنفسهم، تقول إحدى الكاتبات الغربيات تقول بالنص: "لأَنْ يشتغل بناتنا في البيوت خوادم خير وأخف بلاء من اشتغالهن بالمعامل، حيث تصبح المرأة ملوّثة بأدران تذهب برونق حياتها إلى الأبد"، ثم تقول: "ألا ليت بلادنا كبلاد المسلمين فيها الحشمة والعفاف والطهارة".
إذا علم هذا ـ إخوة الإسلام ـ فإن على المرأة المسلمة أن تعتز بإسلامها وبإيمانها وبحجابها وببيتها، ففي ذلك عزتها وكرامتها، وعلى المرأة المسلمة أن تتشرف بعبوديتها لله سبحانه وتعالى.
وممَّا زادنِي شرفًا وفخرًا وكدت بأخمصي أطأ الثريا
دخولي تحت قولك يا عبادي وأن صيّرت أحْمد لِي نبيًا
على المرأة المسلمة أن تجعل من النساء المؤمنات القانتات العابدات الحافظات قدوة لها، عليها أن تقتدي بأمهات المؤمنين؛ بخديجة وفاطمة وعائشة وأسماء وأم سليم وأمثالهن من المؤمنات القانتات الحافظات.
سارة بنت هاران زوجة إبراهيم عليه السلام امرأة عابدة مؤمنة مخلصة حافظة لله عز وجل، حفظت الله عز وجل فحفظها الله، ذهب إبراهيم عليه السلام مع زوجته سارة إلى مصر، وكان على مصر ملك طاغية من الطغاة، فاجر من الفجرة، كان يغتصب النساء غصبًا، فاغتصب سارة من إبراهيم، فلما دخل بها اعتصمت بالله وأسلمت قلبها لله، وسألت الله أن يعصمها من هذا الفاجر، فلما اقترب منها الملك استعاذت بالله منه ودعت عليه، واستجاب الله دعاءها فخسفت رجليه في الأرض وما استطاع أن يقرب منها فرفع عنها، ثم اقترب منها ثانية فأعادت الدعاء الأول فخسفت رجله ثانية، وما استطاع أن يمسها ثم رفع عنها، وحاول الثالثة فحدث له نفس الأمر، ثم ابتعد عنها وقال: إنما قربتم لي شيطانًا خذوها، فذهبت وأعطاها الملك جارية، فذهبت إلى زوجها إبراهيم وقالت له: كفانا الله الفاجر، وأخدمنا جارية، فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [يوسف:64].
وهذا درس للنساء، فمن اعتصمت بالله وحفظت الله عز وجل، فإن الله يحفظها ويحمي عرضها وشرفها ويدافع عنها.
وها هي أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها لما حفظت الله عز وجل حفظها الله، ودافع عن عرضها، وبرأ ساحتها، وأنزل براءتها من فوق سبع سموات، في آيات تتلى إلى أن يرث الله سبحانه وتعالى الأرض ومن عليها.
هاجر امرأة إبراهيم عليه السلام أيضًا أم إسماعيل عليه السلام امرأة مؤمنة موحدة، تتعلم منها المرأة المسلمة الثقة بالله والتوكل عليه سبحانه وتعالى والصبر في سبيله ومرضاته، خرجت هاجر مع زوجها إبراهيم إلى مكة، ومكة كانت صحراء قاحلة لا ماء ولا شجر ولا كلأ ولا أناس ولا حياة، تركها إبراهيم في الصحراء هي وابنها إسماعيل، فقالت له: يا إبراهيم، إلى من تكِلنا؟ قال إبراهيم: إلى الله، قالت: أمرَك الله؟ قال: نعم، قالت: إذًا لا يضيعنا الله.
خديجة بنت خويلد رضي الله عنها زوجة الحبيب محمد وأم المؤمنين وسيدة من سيدات نساء الجنة، أول من آمن بالرسول ، نصرت الرسول بنفسها ومالها وبكل ما تملك، فكانت مثالاً للمرأة المؤمنة الصادقة الوفية التي تقف مع الزوج وقت الأزمات والشدائد، فماذا كان جزاؤها؟ بشرها الله ورسوله بجنة عرضها السموات والأرض وهي ما زالت تمشي على وجه هذه الأرض، كما جاء في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة أن جبريل أتى الرسول عليه الصلاة والسلام فقال: ((هذه خديجة قد أتتك بطعام فأخبرها بأن الله يسلم على خديجة))، فلا إله إلا الله، ما أعظم هذه المكانة، وما أعظم هذا الشرف، الله سبحانه وتعالى رب السموات والأرض يسلم على خديجة، ثم قال عليه السلام: ((وبشرها ببيت في الجنة من قصب، لا نصب فيه ولا وصب)) أو كما قال عليه الصلاة والسلام.
أم سليم رضي الله عنها امرأة داعية إلى الله عز وجل، جاء إليها أبو طلحة الأنصاري بعد أن مات زوجها مالك، جاء إليها طالبًا خطبتها وكان مشركًا، فقالت له: أنت مشرك، وإذا أردت الزواج مني أسلم وسوف يكون إسلامك مهرًا لي، فما كان من أبي طلحة الأنصاري إلا أن شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله ، وكان إسلامه مهرًا لأم سليم، فكان أكرم مهر وأعز مهر في الإسلام، وكان إيمان أم سليم ودعوتها إلى الله الواحد الديان ثمنًا لروحها في الجنة، يقول عليه الصلاة والسلام كما في صحيح مسلم: ((بينا أنا في الجنة وإذا أنا بالرميصاء امرأة أبي طلحة في الجنة)).
وأما التضحية والبذل والعطاء فحدث ولا حرج، هند بنت عمرو بن حرام، والتي عرفنا خبرها في الجمعة الماضية، ولكن لا بأس من الإعادة فكما قيل:
كرر العلم يا كريم الْمحيا فتدبره فالمكرر أحلى
هند بنت عمرو بن حرام جاءها نبأ استشهاد زوجها في غزوة أحد، زوجها عمرو بن الجموع، فماذا قالت؟ قالت: أين رسول الله؟ ثم جاءها نبأ وفاة ابنها خلاد بن عمرو بن الجموح فقالت: أين رسول الله؟ ثم جاءها نبأ وفاة أخيها عبد الله بن عمرو بن حرام فقالت: أين رسول الله؟ فلما رأت الحبيب المصطفى تساقطت منها دموع المحبة الصادقة لله ولرسوله ودموع الفرحة وقالت: كل مصيبة تهون بعدك يا رسول الله.
الخنساء وخبرها غريب وعجيب، هذه المرأة مات أخوها صخر قبل أن تسلم، فحزنت عليه وبكت عليه سنين طويلة، لبست الصوف والخشن من الثياب، ورثته برثاء يعد من عيون الشعر الجاهلي، فلما أسلمت قدمت أبناءها الأربعة إلى معركة القادسية، فاستشهدوا جميعًا في سبيل الله، فلما جاءها خبر استشهادهم جميعًا في سبيل الله ماذا فعلت؟ ومعلوم أن الابن أغلى من الأخ، قالت: الحمد لله الذي شرفني باستشهادهم في سبيل الله، وأرجو الله أن يجمعني بهم في مستقر رحمته. الله أكبر.
إخوة الإسلام، هذه نماذج مشرقة وصفحات مضيئة في تاريخ المرأة المسلمة، ينبغي أن تكون أسوة وقدوة لكل امرأة مسلمة ترجو الله والدار الآخرة.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت:46].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
عباد الله، اتقوا الله حق تقاته، واسعوا في مرضاته، وتدبروا القرآن الكريم، وتمسكوا بسنة خاتم النبيين، وتفقهوا في الدين، واسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون.
أما بعد: فيقول الرسول الكريم محمد مخاطبًا ابنته فاطمة الزهراء سيدة من سيدات نساء الجنة، يقول لها الرسول: ((يا فاطمة، أنقذي نفسك من النار، فإني لا أملك لك من الله شيئًا))، ونحن نقول لكل امرأة مسلمة: أنقذي نفسك من النار، فإنا ـ والله ـ لا نملك لك من الله شيئًا.
على المرأة المسلمة أن تتقي الله سبحانه وتعالى في نفسها، فتحفظ نفسها وحياءها وشرفها وجلبابها وبيتها، عليها أن تراقب الله في السر والعلن، وتعلم أن الله مطلع عليها، فتحفظ الله حتى يحفظها الله يوم تضيع الأفهام وتضل العقول.
على المرأة المسلمة أن تغض بصرها عن كل ما حرم الله، فلا تطلق بصرها إلى الحرام، قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ [النور:30]. وإذا ذكر المؤمنون في القرآن فهذا اللفظ يشمل الرجال والنساء، ولكن لمزيد من التأكيد يخاطب الله المؤمنات أيضًا فيقول سبحانه: وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ [النور:31]. سئلت السيدة فاطمة بنت رسول الله رضي الله عنها: ما أحسن وصية للنساء؟ قالت: أن لا ترى المرأة الرجل ولا يراها الرجال.
على المرأة المسلمة أن تحفظ لسانها من الكذب والسب والشتم واللعن والغيبة والنميمة، وما أكثرها في مجالس النساء. على المرأة المسلمة أن تحفظ سمعها عن اللهو والفحش وعن كل ما حرم الله سبحانه وتعالى.
على المرأة المسلمة أن تحفظ حق زوجها، وأن تطيعه في طاعة الله عز وجل، فالزوج أوسط أبواب الجنة، إن حفظت المرأة حق زوجها دخلت من هذا الباب إلى الجنة، وإن ضيعت المرأة حقوق زوجها ضيعت طريق الجنة. فلا إله إلا الله كم للزوج من حقوق، ولا إله إلا الله كم للزوج من واجبات، يقول كما في حديث أم سلمة عند الترمذي: ((أيما امرأة ماتت وزوجها عنها راض دخلت الجنة))، ويقول أيضًا عليه الصلاة والسلام كما عند الترمذي أيضًا من حديث أبي هريرة: ((لو كنت آمرًا أحدًا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها))، قال الترمذي: "حديث حسن صحيح".
على المرأة المسلمة أن تهتم بتربية أطفالها وتنشئتهم تنشئة صالحة، فهذه وظيفتها الأولى ودورها في الحياة، فالمرأة هي التي تخرج الرجال، وهي التي تربي الرجال، وما وجد رجل عظيم إلا وخلفه امرأة.
فالأم مدرسة إذا أعددتها أعددت شعبًا طيب الأعراق
على المرأة المؤمنة أن تعظم الله، وأن تعظم الرسول في قلوب أبنائها، فينشؤوا على محبة الله ومحبة رسوله.
على المرأة المسلمة أن تعظم أيضًا في قلوبهم صحابة رسول الله وآل بيته، وتقرأ عليهم سير الصحابة والصحابيات؛ حتى يكون هؤلاء الأخيار هم النجوم عند أبنائنا لا نجوم الفن والرقص والغناء؛ لأن كثيرا من أطفال المسلمين تربوا على أن العظماء هم المغنون والمغنيات والراقصون والراقصات والممثلون والممثلات الأحياء منهم والأموات، والمشتكى إلى الله سبحانه وتعالى.
أيتها المرأة المسلمة، إن السعادة ليست في الذهب والفضة وفي الزوج وفي السيارة والفلة، إن السعادة ـ والله ـ في الإيمان بالله سبحانه وتعالى والعمل الصالح، يقول سبحانه: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [النحل:97].
وأما من ملكت هذه المقومات الموهومة للسعادة من ذهب وفضة وزوج وسيارة وفلة ولكنها بلا إيمان وبلا طاعة للرحمن فوالله لن تذوق طعم السعادة ولن تذوق طعم الراحة، بل تعيش في ضنك وفي هم وغم وحزن لا يعلمه إلا الله، وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى [طه:124-126].
المرأة بإمكانها أن تعيش بلا ذهب وفضة وبلا زوج وسيارة وفلة، المهم أن تكون مؤمنة بالله طائعة لأوامر الله سائرة إلى مرضاة الله. فعودة ـ أيتها المرأة المسلمة ـ إلى الله، عودة إلى القرآن، عودة إلى سنة خير الأنام.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يهدي نساء المسلمين، وأن يأخذ بنواصيهن إلى البر والتقوى، وأن يزينهن بزينة الإيمان والعمل الصالح.
يا ابن آدم، أحبب ما شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك ملاقيه، وكن كما شئت فكما تدين تدان.
ـــــــــــــــــــ(68/146)
حقوق البنات
...
...
4516
...
الأسرة والمجتمع
...
...
الأبناء, المرأة, قضايا الأسرة
...
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
...
...
الرياض
...
12/8/1426
...
...
جامع الإمام تركي بن عبد الله
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- قسمة الذرية بين العباد. 2- ظلم المرأة في الجاهلية. 3- تكريم الإسلام للمرأة. 4- فضل رعاية البنات. 5- هدي النبي مع البنات. 6- الوصية بحسن تربية البنات. 7- حقوق البنت على الأب. 8- التحذير من دعوة تحرير المرأة.
الخطبة الأولى
أمّا بعد: فيا أيّها النّاس، اتَّقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، حِكمةُ الرّبِّ جَلّ وعلا اقتضَت أن يَكونَ جِنس بَني آدمَ رجالاً ونِساء، يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً [النساء:1]. هذه حكمةُ الرّبِّ جلّ وعلا، خلَق آدمَ مِن تُرابٍ، خَلَق حوّاء من ضِلعِ آدَم، هو الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا. كوَّن جنسَ البشَر مِن والنساء والرجالِ؛ ليبقَى النوعُ الإنسانيّ وتَعمر الدّنيا وينفذ قضاءُ الله وقدَره.
وأخبرنا جلَّ جلالُه أنّه قسّم العبادَ نحوَ هذا أقسامًا، فمِن عباده من جعل ذرّيَّته إناثًا، ومن عباده من جعل ذريّتَه ذكورًا، ومِن عباده من منحَه الجنسَين الذكورَ والإناث، ومِن عباده من جعَله عَقيمًا لا يولَد له، وكلّ ذلك بحِكمتِه وعدله ورحمتِه وكمالِ عِلمه، قال تعالى: لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ [الشورى:49، 50]، فهو عليمٌ بهذه الأصناف كلِّها، وهو القادِر على إيجادِها، تعالى وتقدَّس لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ [الأنبياء:23].
أيّها المسلِم، لقد كانت الجاهليّة قبل الإسلام جاهليّةُ العرَب قبلَ الإسلام ـ وذاك معروفٌ عندهم ـ فقد كانوا قبل الإسلام في جَهالةٍ جهلاء وضلالةٍ عمياء، لا يعرفون معروفًا ولا ينكِرون منكرًا، كانوا في جاهليَّتِهم يكرَهون البنات، ويصِفون مَن ليس عنده إلاّ بنات بأنه أبتَر الذِّكر، ولِذا وصَفوا نبيَّنا بذلك لما رأَوا مَوتَ أطفالِه وبقاءَ بناتِه فقالوا: إنّه الأبتَر، فردَّ الله عليهم بقوله: إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ [الكوثر:3]، فذكرُه باقٍ .
كانوا في جاهليَّتِهم يكرهون البناتِ كراهيّةً شديدة، وإذا بشِّروا بالبنات ضَجروا وتأثَّروا وظهَر ذلك باسوِداد وجوهِهِم وتغيُّر ألوانهم كراهيةً للبنات واستِثقالاً لهنّ: وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ يَتَوَارَى مِنْ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ [النحل:58، 59]، يختفِي عن الناسِ حياءً مِنهم، ويفَكِّر: أيدسُّه في التراب؟! يَتَوَارَى مِنْ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ.
فإن أمسَك البنتَ أمسكها وهو محتقِرٌ لها، متسخِّط من وجودها، آيِس من نَفعها؛ لا يريد إلاّ ولَدًا ينفَعه ذهابًا ومجيئًا، أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ، فكان من أخلاقهم وأدَ البنات، ولِذا قال الله: وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ [التكوير:8، 9]. يأخُذُها ويحفِر لها الحفرة ويهيل التّراب عليها قسوةً في قلبِه وكراهيّة لها، تتعلَّق به ولكن قسوة القلبِ وسوء التربية جعلَه يقسو عليها ويدفنها ويئِدها ويكرَهها ويستثقلها. هكَذا في جاهليّتهم.
فجاء الإسلام بالخَير، وجاء الإسلام بالرّحمة، وجاء الإسلام بالعَدل، وجاء الإسلام بمكارمِ الأخلاق وفضائلِ الأعمال، وجاء الإسلام بما يَملأ القلبَ رحمةً وحنانًا وشفَقة. جاء الإسلام بكلِّ خير، وانتشَلَهم من ذلك الظلم والطغيان إلى ساحلِ الأمان والاستقرار، فجاءَ الإسلام بكتابه وسنّة رسولِه ليوضح ما للبناتِ مِن فضل ومكانةٍ في المجتمع المسلِم.
فأوّلاً وقبل كلِّ شيء رغَّب النبي في كفالةِ البناتِ والإحسانِ إليهنّ وتربيتهنّ والقيام بحقهنّ وأنَّ وجودَهنَّ خَير للعبدِ في دينه ودنياه، سعادة له في دنياه، وسعادة له يوم لقاءِ ربِّه. تذكر عائشة رضي الله عنهما أنَّها أتتها امرأةٌ تسألها معها ابنتان لها، تقول عائشة: فلم تجِد عندي سوَى تمرتين فقط، تقول عائشة أمّ المؤمنين: لم يكن عندي في بيتِ رسول الله شيءٌ أطعِهما به سِوى تمرتين فقط، فأعطَت الأمَّ التمرتين، فأعطت كلَّ واحدةٍ تمرةً ولم تطعَم منها شيئًا، أتَى النبيّ بيتَه فأخبرته عائشة بما رأت قال : ((من أعالَ جارِيَتين حتى يبلُغا كانتا له حِجابًا من النار))، وفي بعض الألفاظِ أنها أعطَتها ثلاثَ تمرات، فدَفعت لكلِّ بنتٍ تمرة، فأكَلَت البنتان التمرتين، وأرادتِ الأمّ أن تأكلَ الثالثة فاستطعمتها البنتان فأعطتهما ولم تأكل شيئًا، فصنيعُها أعجَب عائشةَ، فأخبرت بها النبيّ فقال: ((إنَّ الله أوجَب لها بهنَّ الجنة وأعتقها بهنّ منَ النار))، فكونُها آثَرت البنتَين على نفسِها وأطعمَتهما وبقِيت جائعةً جعَلَها الله سَببًا للعِتق من النّار والفوزِ بدخول الجنّة، وفي الحديث: ((الرّاحمون يرحمهم الرحمن، ارحَموا من في الأرضِ يَرحمكم من في السماء)).
أيّها المسلم، لا تضجَر من وجود البنات، ولا تستثقِلِ البنات، واقصِد بذلك وجهَ الله والدارَ الآخرة، ربِّهِنّ فأحسِن التربية، وعُد عليهن بالخير، ألِنِ الجانبَ لهن، أنفِق عليهنّ، وابذُل جهدَك فيما يسعِدهنّ؛ فحسناتٌ مدَّخرة لك يومَ القيامة، قال بعض السّلف: "البنون نِعمة، والبَنات حسَنات، والله يحاسِب على النّعمة ويُجازِي على الحسَنات"، قال بعضُ السّلَف في قولِه: لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا [الشورى:49] بدَأ بهنّ ليبيِّنَ للعرب ما كانوا عليه من فسادِ الأخلاق في وَأد البناتِ، فجاء بِذكرهنّ حتى يُعلَم أهميَّتُهن في ذلك.
والله جلّ وعلا أعطى أبانا إبراهيمَ ذكورًا ولم يعطِه إناثًا، وأعطى لوطًا عليه السلام البناتِ ولم يعطه ولدًا، وأعطى محمّدًا ذكورًا وإناثًا، لكن ماتَ إبراهيم آخِرُ أبنائِه في حياتِه، وماتَت بعضُ بناتِه بعدَ موته صلوات الله وسلامه عليه إلى يَوم الدّين.
أيّها المسلم، فالبناتُ يرحمهنّ ذو القلبِ الرحيم ويشفِق عليهنّ ذو الخُلُق الطّيِّب ويحسِن إليهنّ صاحِب المروءَةِ والإحسان، لا ينظر إلى ما يَرجوه منهنّ، وإنما يرجو من الله الفضلَ والإحسانَ، في الحديث: ((من كفَل ثلاثَ بنات أو ثلاثَ أخوات كنَّ سِترًا له من النار))، والنبي يرغِّب فيقول أيضًا: ((من أعالَ جاريتَين حتى يبلغا جاء يومَ القيامة أنا وهو كهاتين)) وجمع بين أصابعه.
أيّها المسلم، إذا علمتَ هذا الأمرَ واستقرَّ في فكرك أنَّ تربيةَ البنات نعمةٌ وأنَّ وجودهنّ نعمة لك من اللهِ ورحمة من الله لك ليظهرَ كمال رضاك بقضاءِ الله وقدره، قال قتادةُ رحمه الله: "إنَّ الله بيَّن للعرب سوءَ أخلاقهم وسوءَ أفعالهم في كراهيّتهم البنات، فلَرُبَّ جاريةٍ خير من غِلمان، وربَّ غلام صار سببًا لهلاك أهلِه ومصائبهم"، وقال رحمه الله: "كان العربُ في الجاهليّة يغذِّي الرجل كلبَه ويقتل ابنتَه"؛ لأنهم يكرهون البنات في مجتمَعهم، فجاء الإسلام بعكس قلوبهم القاسيَة، جاء بالرحمة والشفقة والإحسان.
هذا محمّد كان رقِيقًا مع البناتِ، محسنًا إليهنّ، رفيقًا بهنّ، كان يحمِل بنتَ بنتِه أمامة في صلاته، إذا قام رفعها، وإذا سجد وضعها، وكان يكرِم بناته ويرفق بهنَّ صلوات الله وسلامه عليه أبدًا دائمًا إلى يومِ الدين. أسرَّ إلى فاطمةَ في آخر حياته فبَكت، ثم أسرَّ إليها فضحِكت، تقول عائشة: أحِبّ أن أسأَلَها فاستحيَيتُ حتى مات رسول الله فقلت: يا فاطمة، أسرَّ لك الرسول فبكيتِ وأسرّ لك فضحكتِ، قالت: أمّا الآن فنَعَم، أسرَّ لي فبكيتُ بأن أخبَرني بقربِ رحيله من الدّنيا فبكيتُ عليه، وأسرَّني بأنِّي سيّدةُ نساء العالمين في الجنّة فضحِكتُ، فرضي الله عنها وأرضاها.
أيّها المسلم، أيّتها المسلمة، إنَّ إكرامَ البناتِ نِعمة، وإنّه حسناتٌ يسوقها الله لمن شاءَ من عباده.
أيّتها الأمّ الكريمة، اعتني بالبناتِ العنايةَ الصحيحة واهتمّي بشأنها فهي الأمّ مستقبَلاً، هي الأمّ ومربّيَة الجيل، فإذا ربِّيَت تربيةً صالحة وأنشِئَت نشأة خيريّة ظهر أثَر تربيَّتها على بَيتها على أبنائِها وبناتها، فأعدِّيها للمستقبَل الإعدادَ الصحيح، أعدِّيها لأن تتحمَّل مسؤوليّتها وأن تكونَ راعية في بيت زوجها، تحسِن الرّعاية والقيادة، ولا تجعَليها كلَّةً عليك فغدًا تفقِد هذه الأمور، ربّيها تربية صالحةً، نشِّئيها على الخير، على العفّة والصيانة والحِشمة، على البُعد عن الرذيلة، على القيام بشأن المنزل، على التدبِير النافع، حتى إذا انتقَلَت إلى زوجها فهي الفتاةُ المربّاة المعدَّة، التي يسعَد بها زوجها بتوفيقٍ من الله، فتربِّي البنين والبناتِ التربية الصالحةَ النافعة.
أيّها الأب الكريم، إنَّ حقوقَ البنات عليك كثيرةٌ، فأوّل حقٍّ عليك أن تشكرَ الله إذ وهب لك البناتِ، وتعلم أنّ قضاءَ الله لك وقسمَه لك خير من رأيِك لنفسك، فالله أحكم الحاكمين وأرحم الراحمين.
أيّها الأب الكريم، إنَّ مِن حقوق بناتك عليك أوّلاً أن تزوِّجَهنّ إذا تقدَّم لهنّ الكفء الذي ترضَى دينَه وأمانته، يقول نبيّك : ((إذا أتاكم من ترضَونَ دينَه وأمانتَه فزوِّجوه، إلاّ تفعلوا تكن فتنةٌ في الأرض وفساد كبير))، أجَل فتنة وفساد كبير، وكم من رجالٍ منعوا بناتهن الزواجَ، لماذا؟! البنتُ موظَّفَة ولها مرتَّب يريد أن يمتصَّ ذلك المرتَّب ويستولِي عليه وما يهمُّه البنت أصبحَت عانسة أم غير عانسة، كلّ ذلك لا يؤثِّر في نفسيّة هذا الأبِ اللئيم. ومنهم من يقول: أريد أن أقتَصَّ منها قدرَ ما أنفقتُ عليها قبلَ أن تتوظَّف، إذًا فهو لم يعمَل عملاً خالصًا لله ولم يكن صادقًا في تعامُله.
أيّها الأب الكريم، صداقُ الفتاةِ إذا دفِع إليها هو حقٌّ لها وملك لها، وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا [النساء:4]. إذًا فصداقُها حقّ لها، وإن أخذتَ شيئًا فاتَّق الله في الأخذ، لا تأخُذ ما يضرّها ويضعف من مكانَتِها.
في عهدِ النبي توفِّيَ رجل وترك ابنتَيه وزوجتَه فاستولى عمُّ البنتَين على المالِ ولم يعطِهما شيئًا، جاءَت الأمّ تقول لرسول الله: توفِّي سعد بن الربيع خلَّف بنتَين استولى العمّ على المال لا يمكِن أن تزوَّجا وليس لهما مال، فأنزل الله آيةَ المواريث، فأمرَه النبيّ أن يُعطيَ الزوجة الثمنَ والبنتَين الثلثَين ويأخذ ما بقِي، هكذا شرعُ الله.
أيّها الأب الكريم، واختَر لها الصالح ممّا يغلب على ظنِّك أهليتُه لها ومناسبَته لها؛ لأن هذه أمانة في عنقِك، فلا تتساهل بالمسؤوليّة، والبعضُ قد يتقصَّى حقًّا للبِنت التي أمّها معه ويتساهَل في بنتٍ أمّها ليست مع الزّوج، فلا تنظر لهذا ولكن حقِّق الأمرَ بما يعود على الفتاةِ في خيرِها حاضرًا ومستقبلاً على قدرِ استطاعتك، والله يقضي ما يشاء.
أيّها الأب الكريم، كم من أبٍ جعل زواجَ ابنته مصدَرًا لثرائِه، فهو لا يزوِّجها حتى يشرَط له قسمٌ خاصّ به، فيتحمَّله الزوج ولا مصلحةَ له من ذلك، يقول: الفتاة مهرُها أربَعون وأنا أريد نِصفَ المهر أو أريد أربعينَ مثلَ تلك الأربعين، لماذا؟! يقول: لا يمكن أن تذهبَ الفتاة منّي بلا شيء لا بدَّ أن أقتطِع من صداقِها أو يعطيني زوجُها مثلَ ما أعطاها، هذا كلُّه خطأ يفعله أحمقُ جاهل لأنّه يريد الاستغلالَ ولا يريد الخيرَ والصلاح.
أيّها الأب الكريم، إذا طلِّقَت الفتاة ثم أرادتِ العودةَ إلى زوجها والطلاقُ أقلّ من الثلاث فلا تحل بينها وبين ذلك والله يقول: وَإِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ [البقرة:232].
أيّها الأب الكريم، إنَّ المرأة تستأذَن في زوجٍ خطبها، وتخبَر بحالِ مَن تقدَّم لخطبتها، ويُشرَح الأمرُ لها ويوضَح الأمر أمامها؛ حتى تكونَ الصّورة واضحةً لها؛ ولذا كانوا في جاهليَّتهم يزوِّجون الفتياتِ على الأهواء لا على مرادِ الفتاة، فإنّ الحياة الزوجيّةَ تشقَى بها البنت والزوج دون الأمّ والأب، إذًا فسنّة محمّد تقول: ((لا تنكَح الأيّم حتى تستأمَر ولا البِكر حتى تستأذَن))، قالوا: وما إذنها يا رسول الله؟ قال: ((أن تسكتَ)).
أيّها الأب الكريم، إنَّ البعضَ من الناسِ ربما منَعوا البناتِ الميراثَ، ويقولون: البنت تقتطِع من مالنا ما تذهَب به إلى أولادِ الآخرين، فلا يورثونها فجاء الإسلام بهذه الآيات: يُوصِيكُمْ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ [النساء:11]، لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ [النساء:32].
أيّها الأب الكريم، في الجاهلية الباطلة الضالّةِ كانت المرأة إذا توفِّي عنها زوجُها يلقِي عليها أحدُ أقاربِه ثوبَها فيحجِزها عن كلّ أحَد، فجاء الإسلام ليمنعَ ذلك، وليجعل الأمرَ باختِيَارها. في جاهليّتهم أيضًا كانوا يتَّخِذون البنات وزواجَ البنات لمصلحة زواج الآباءِ أو الأولياء، فإذا خُطِب من أحدِهم ابنته لا يزوِّجها حتى يزوِّجوه هو، وقد يكون غيرَ مناسبٍ لتلك الفتاة الأخرى؛ ولذا جاء الإسلام فنهى عن نكاح الشِّغار، فيقول عبد الله بن عمر: إن النبيَّ نهى عن نكاح الشغار وقال: ((لا شِغارَ في الإسلام)). والشغارُ أن لا يزوِّج الفتاةَ الأبُ حتى يزوِّج الخاطِب منه بنته أو أخته، فإذا لم يفعل لم يفعَل، وهذا من الخطأ لأنَّ الأمرَ لا يرجَع فيه لمصالح الأب والأم، وإنما ينظَر فيه لمصالح الفتاة، فكم فتاة خاطِبُها خير وقد تكون أنتَ لست خيرًا لتلك الفتاة ولا ترغَب فيك، فلا تخضِع زواجَها لمصلحتك الخاصّة، وإنما انظر لمصلحتها فوق كل اعتبار.
أيّها الأب الكريم، إنَّ العنايةَ بتربيّة البنات والقيامَ على ذلك خيرَ قيام مسؤوليّة الأب ومسؤوليّةُ الأم جميعًا، فيا أيّتها الأم رغِّبي البنت في الخير، وحثِّيها على التستُّر، وامنعيها من السّفور و[ترك] الحجاب، وقولي لها: إنّ هذا خلُق جاهليّ والحِجاب خلقٌ إسلاميّ، والله يقول: وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى [الأحزاب:33]. مريها بالستر، وربِّيها على الحجاب، وحُثّيها على ذلك ورغّبيها، وكوني قدوةً صالحة لها في طاعة الزّوج وفي التستّر والعفّة والبعد عن رذائل الأمور، فتنشَأ الفتاة ترى أبًا صالحًا وأمًّا طيّبَة وبيتًا سعيدًا، فتنشأ النّشأةَ الطيّبَة، أمّا إذا كان الأب مستهتِرًا أو الأمّ مستهترة وربما كانا متساهِلين في الأخلاق لا يبالون فربما نشأ النشء على هذا الخلق السيّئ، فيكون الأب خائنًا لأمانتِه والأمّ خائنة لأمانتها.
أيّتها الأمّ الكريمة، احرصي على التوفيقِ بين الزّوج والفتاة، ولا تكوني سببًا للتفريقِ بينهما، وكلما شعرتِ من الفتاة ضَجرًا من زوجها أو عدَم رغبة فلا توافقِيها في أوّل الأمر، حاولي التسديدَ قدرَ الاستطاعة، وحاولي حملَ البنت على الصبرِ والتحمل، وعالجي قضايَا الاختِلاف بين بنتِك وزوجِها بما أمكَنَ من العِلاج، ولا تفتَحي لها بابَ التمرّد على الزوج، ولا تغلقي عنها النصيحةَ والتوجيه، وكوني عونًا لها على الخيرِ مع الأب، فإنَّ السعيَ في الإصلاح والتوفيق خيرٌ من الفرقة والاختلاف.
فلنتَّق الله في بناتنا وأبنائنا، ولنَقم بالواجب علينا، أسأل الله أن يوفِّق الجميع لما يرضيه.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمدُ لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مُباركًا فيهِ كَمَا يحِبّ ربّنا ويَرضَى، وأَشهَد أن لاَ إلهَ إلاَّ الله وحدَه لا شريكَ له، وأشهَد أنّ محمّدًا عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وصَحبه، وسلّم تسليمًا كثيرًا.
أمّا بعد: فيا أيّها النّاس، اتّقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، مِن بَعضِ القضايا أنّ بعضَ الأمّهات أو بعضَ الآباء عندما تأتِيهم فتاتُهم مطلَّقة أو نحو ذلك يستثقِلونها ويسأَمون منها وربَّما خاطَبوها بالخطاب السيّئ وقالوا: أنتِ وأنتِ وفعلتِ وفرضت الزوج وإلى آخره.. فجاء الإسلام ليعالِجَ هذه القضيّة، فقال النبيّ لأحَد أصحابه: ((ألا أخبِرك بأفضل الصدقة؟)) قال: نعم يا رسول الله، قال: ((نفقتُك على البنتِ المردودةِ عليك لا عائلَ لها غيرك))، يعني أنّ نفقتَك عليها إذا ردَّت إليك من أمرٍ بينها وبين زوجها وأنت العائِلُ لها بعدَ الله فتلك أفضلُ الصدقة خلافًا لمن يَنفر منها ويقرّعها بالكلام السيّئ والتوبيخ، فإنَّ القلوبَ بيد الله، الله الذي يجمعها والله الذي يفرّقها، والله حكيم عليم.
أيّها المسلم، نسمَع دائمًا أو نقرَأ في بعض صحفِنا وفي قراءةِ بعض كتَّابنا هجومًا على المرأةِ المسلمة، هجومًا على أخلاقها، وهجومًا على قِيَمها، هجومًا على فضائلها، هجومًا على تمسّكها بدينها. فِئةٌ من أبنائنا ـ هداهم الله سواءَ السبيل ورزَقهم البصيرةَ في دينهم ـ أخَذوا على عاقِتهم الدعوةَ للفتاةِ المسلِمة أن تكونَ امرأةً سافرة متحلِّلَة من أخلاقها مقلِّدَة ومتشبِّهةً بغيرِها من نساءِ الكفَرَة الماردين ويرونَ هذا عِزًّا وشرفًا، بل المصيبةُ أن يقول بعضُهم: نظهِر صورَتَنا أمام الغرب بأن ندعوَ الفتياتِ إلى السفور والاختلاطِ بالرجال وعدم التفريق بينه وأنَّ المرأة مع الرّجل الأجنبيّ يكونان سواء يمارسون العملَ الواحد، هذه صورة الأمّة التي يريدون أن يخرِجوها صورةً حسنة، يأبى الله أن تكونَ صورة حسنة، فالصورة الحسنةُ للمجتَمَع المسلم أن يظهَر المجتمع متمسِّكًا بدينه، متمسِّكًا بقِيَمه وفضائله، مربِّيًا الأبناء والبنات على الخير، واضعًا كلَّ شيء في موضعه. وعندما ندعو أن تكون الفتاة المسلِمة فتاةً غربية تقلِّد غيرَها من نِساء الكافرات في ملبَسِها وفي عاداتها وأخلاقها إذًا نحن نسعى في نقلِها من فطرتها السليمة إلى أن نجعلَها توافِق الفطَرَ المنحلَّةَ المنحطّة.
إنَّ مَن يكتب ويدعو إلى جنسِ هذه الأفكار لو راجَع نفسَه قليلاً لو عاد إلى تاريخِ إسلامه وأمّته ذاك التاريخ المجيد، إلى ذلك المجتمع الإسلاميّ الذي طال ما حكَم العالمَ قرونًا عديدة، إنما حكَمَهم بالقِيَم والفضائل، بهذا الدّين وأخلاقه القيِّمة التي تمكَّنت مِن نفوس أتباعه حتى صاروا صورةً حيّة، يمثِّلون الإسلامَ قولاً وعملاً في كلِّ المجالات.
فليتَّق الله أيّ كاتب يكتب ويدعو إلى أن تخالطَ المرأة الرجالَ وأن تسافرَ وحدها وأن تكونَ ممثِّلةً لأمّتِنا أو تكون أو تكون، كلُّ ذلك مخالِف لشرعِ الله مخالفٌ لكتاب الله مخالف لسنّة محمد .
فليتقِّ المسلمون ربَّهم في دينهم، ليتّقوا ربَّهم في أبنائهم وبناتهم، ليَعلموا أنَّ شرعَ الله هو الخلُق القيِّم وهو الخلق المثاليّ، وأنّ من يريد ببناتنا أمرًا خلافَ شرع الله فإنما هو داعٍ للباطل والضلال، داعٍ للفجور والفِسق والعصيان، نسأل الله أن يهدِيَ ضالَّ المسلمين، وأن يثبِّت مطيعَهم، وأن يحفظ على بناتِنا عوراتهنّ، وأن يجعلَهنّ فتياتٍ مسلمات متمسِّكات بدينهنّ ثابِتات على أخلاقهنّ، وأن يعمَّ الجميع بالتمسّك بهذا الدين علمًا وعملاً ظاهرًا وباطنًا، إنّه وليّ ذلك والقادر عليه.
واعلَموا ـ رحمكم الله ـ أنّ أحسَنَ الحديث كتابُ الله، وخيرَ الهديِ هَدي محمّدٍ ، وشرَّ الأمورِ محدَثاتها، وكلّ بِدعةٍ ضَلالة، وعليكم بجماعةِ المسلِمين، فإنّ يدَ الله علَى الجمَاعةِ، ومَن شذَّ شذَّ في النّارِ.
وصلّوا ـ رحمكم الله ـ علَى نبيِّكم محَمّد كما أمَرَكم بذلِك ربّكم، قال تعَالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىّ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللَّهمَّ صلِّ وسلِّم وبارِك علَى سيدنا محمّد سيد الأولين والآخرين، وارضَ اللَّهمّ عن خلفائِه الرّاشدين...
ـــــــــــــــــــ(68/147)
في بيت النبوة (2)
...
...
4546
...
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب, سيرة وتاريخ
...
...
الشمائل, قضايا الأسرة, مكارم الأخلاق
...
عبد الله بن عبد العزيز التميمي
...
...
الرياض
...
10/6/1424
...
...
الأمير حسن بن عبد الله آل سعود
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- ملاطفة النبي لزوجاته. 2- مراعاة النبي لمشاعر زوجاته. 3- رفق النبي بزوجاته. 4- حفظ النبي الودّ لخديجة حتى بعد موتها.
الخطبة الأولى
لقد جاءت نصوص الوحيين مُستفيضة بذكر حقوق الزوجين وواجباتهما، خاصّة على أن يقوم كلٌ منهما بما عليه من حق شريكه، وإن البيت الذي لا تقوم أركانه ولا تُبنى أساساته على نور من الكتاب والسنة لحري أن لا يدوم بنيانه إن بُني.
عباد الله، هذه دعوة وعودة سريعة لتلك الرحلة الماتعة التي عشنا جزءًا منها في الجمعة الماضية بين جَنَبات ذلك البيت الرائع الجميل الذي عاش بين جدرانه أفضل وأكمل وأعظم زوج وطئت قدمه الأرض عليه الصلاة والسلام، عاش فيه مع تسع نسوة هن زوجاته أمهات المؤمنين رضي الله عنهن وأرضاهن. ورغم كل المهام العظام التي كان يتحملها من قيادة الأمة ودعوة العالمين لدين الله، ورغم ضيق العيش وقلة ذات اليد إلا أن هديه عليه الصلاة والسلام كزوج كان أكمل هدي وأتمه، وصدق الله: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4].
فلنقارن ـ يا عباد الله ـ بين تلك الصور الفذّة الفريدة في لطفه وبرّه ـ بأبي هو وأمي ـ صلوات الله وسلامه عليه وبين كثير من النماذج التي تحدث من الرجال في بيوتهم.
لقد كان ينادي عائشة بترَخِيم اسمها تلطّفًا وتودّدًا، فيقول: ((يا عائش، هذا جبريل يقرئك السلام)) رواه البخاري ومسلم.
ويوضح في غير ما موضع المكانة الرفيعة للمرأة عنده، يسأله عمرو بن العاص فيقول: أي الناس أحب إليك؟ فيقول: ((عائشة)).
وتروي رضي الله عنها عن حسن معاشرته فتقول: كنت أغتسل أنا ورسول الله من إناء بيني وبينه تختلف أيدينا عليه، فيبادرني إليه حتى أقول: دع لي، دع لي. وتدافعا عند الخروج من الباب مرّة.
ويضرب أروع الصور في لِين الجانب ومعرفة الرغبات العاطفية والنفسية للزوجة. تروي عائشة رضي الله عنها تقول: كنت أشرب وأنا حائض، فأناوله النبي فيضع فاه على موضع فيّ، وأتَعَرَّق العِرْق ـ أي: آخذ ما على العظم من اللحم ـ فيتناوله ويضع فاه في موضع فيّ. بأبي هو وأمي صلوات الله وسلامه عليه.
وعنها رضي الله عنها قالت: ما عاب رسول الله طعامًا قط، إن اشتهاه أكله وإلا تركه. رواه البخاري.
ولا تنس ـ يا رعاك الله ـ ذَيْنك الموقفين اللذين تقدما معنا، البسيطين في فعلهما، العظيمين في تأثيرهما: أولهما حين كانت عائشة تنظر من فوق عاتقه للحبشة وهم يلعبون بحرابهم في المسجد وهو يسترها، فما ينصرف حتى تكون هي التي تنصرف. وأما الآخر فحينما كانت رضي الله عنها معه في سفر، فأمر الناس فتقدّموا، ثم قال لها: ((تعالي أسابقك))، فسابقته فسبقته، ثم خرجت معه في سفر وقد سمنت وبدنت، فأمر الناس فتقدّموا، ودعاها ليسابقها فسبقها، ثم قال لها ملاطفًا ممازحًا وهو يضحك: ((هذه بتلك)).
وأخرج الشيخان عنها رضي الله عنها أنها قالت: كنت ألعب بالبنات ـ أي: بتماثيل البنات ـ عند رسول الله ، وكانت تأتيني صواحبي فيَنْقَمِعْنَ من رسول الله إذا رأينه ـ أي: يستترن منه ـ فيُسرِّبُهنّ إليّ. أي: يردّهن ويرسلهنّ إليّ فيلعبن معي.
وقدم من غزوة فدخل على عائشة، فهبّت ريح فكشفت ناحيةً عن بنات لُعبٍ لها، فقال: ((ما هذا؟)) قالت: بناتي. ورأى بين ظهرانيهن فرسًا له جناحان، قال: ((فرس له جناحان؟!)) فقالت: أَوَما سمعت بأن لسليمان خيلاً لها أجنحة؟! فضحك حتى بدت نواجِذُه.
وفي الحديث المشهور المسمّى بحديث أمّ زَرْع، وملخّصه أنّ إحدى عشرة امرأة جلسن فتعاهدن وتعاقدن أن لا يكتمن من أخبار أزواجهن شيئًا، حتى جاء الدور على الأخيرة ـ أم زَرْع ـ، فجعلت تمدحه وتثني عليه لجميل صنيعه معها مع أنه طلقها، وفي آخر الحديث يخاطب النبي عائشة مداعبًا: ((كنت لك كأبي زَرْع لأم زَرْع، غير أني لم أطلقك)).
بل تأمّل وتأمّل وتأمّل ـ يا رعاك الله ـ وصف جابر بن عبد الله رضي الله عنهما لحجة النبي ، كما رواها الإمام مسلم في صحيحه. فإن النبي أمر عائشة حين حاضت وقد أحرمت أن تُدخِل العمرة في الحج، فلما انقضى الحج قالت: يا رسول الله، يصدر الناس بعمرة وحجة وأرجع أنا بحجة؟! قال جابر: وكان رسول الله رجلاً سهلاً إذا هويت شيئًا تابعها عليه، فأرسلها مع عبد الرحمن بن أبي بكر، فأهَلَّت بعمرة من التنعيم. قال النووي: "معناه إذا هويت شيئًا لا نقص فيه في الدين أجابها إليه، وفيه حسن معاشرة الأزواج، لا سيما فيما كان من باب الطاعة" اهـ.
فانظر كيف كانت رعاية المصطفى لزوجته وحبيبته أم المؤمنين عائشة، وقد كان دخل بها وهي حديثة السن صغيرة، انظر كيف كان يرعى مشاعرها وينتبه إلى متطلّباتها وما تهفو إليه نفسها من المباحات، فيوفّر ذلك لها على قدر طاقته: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا [الأحزاب:21].
الخطبة الثانية
إن العلاقة بين الزوجين لا تنقطع بالموت، بل يبقى حبل الود بإكرام أهل ود الزوج أو الزوجة حتى بعد موته، ولنا في نبينا الأسوة الحسنة في مثل هذا.
لقد كانت خديجة رضي الله عنها بمواقفها مع رسول الله خير معين له على دعوته ونشر رسالة الخير بين العالمين، فقد واسته بنفسها ومالها في أحلك الظروف وأشدها، فقد كانت كلماتها الرقيقة له حين عودته من حراء إبّان نزول الوحي بَلْسَمًا شافيًا، شدَّت من أزره، وعاضدته على أمره، بل وكانت أول من آمن به. ولم يكن رسول الله بالذي ينسى فضلها، وحاشاه عليه السلام، لم يتزوج عليها حتى ماتت، ولم يرزق ولدًا إلا منها ما عدا إبراهيم.
جاء جبريل عليه السلام إلى النبي وقال: هذه خديجة قد أتتك ومعها إناء فيه إدام أو طعام، فاقرأ عليها السلام من ربها ومني، وبشّرها ببيت في الجنة من قَصَب، لا صَخَب فيه ولا نَصَب. وقال : ((سيدات نساء أهل الجنة))، وفي رواية: ((خير نساء العالمين أربع: مريم وفاطمة وخديجة وآسية)).
تقول عائشة رضي الله عنها كما عند مسلم: ما غِرْتُ للنبي على امرأة من نسائه ما غِرْتُ على خديجة؛ لكثرة ذكره إياها، وما رأيتها قط.
وكان رسول اللّه إذا ذبح الشّاة يقول: ((أرسلوا بها إلى أصدقاء خديجة))، قالت: فأغضبته يومًا فقلت: خديجة؟! فقال رسول اللّه : ((إنّي قد رُزِقت حُبّها)).
واستأذنت هالة بنت خويلدٍ أخت خديجة على رسول اللّه ، فعرف استئذان خديجة فارتاح لذلك فقال: ((اللّهمّ هالة بنت خويلدٍ))، فغِرْت فقلت: وما تذكر من عجوزٍ من عجائز قريشٍ، حمراء الشّدقين، هلكت في الدّهر، فأبدلك اللّه خيرًا منها؟! زاد الإمام أحمد أن النبي قال: ((أبدلني الله خيرًا منها؟! قد آمنت بي إذ كفر بي الناس، وصدقتني إذ كذبني الناس، وواستني بمالها إذ حرمني الناس، ورزقني الله أولادها وحرمني أولاد النساء)).
وبعد: أيها المسلمون، فهذا غَيْض من فَيْض، وتلك صور قليلة مما حفلت به كتب السنة موضحةً كيف كان النبي يتعاهد أزواجه.
هذا هو هدي المصطفى، إنه نموذج رفيع فيما ينبغي أن تكون عليه العلاقة بين الزوجين، وما ينبغي أن يعامل به الرجل زوجته بالرفق واللين ورعاية مشاعرها ومتطلّباتها المباحة التي لا تغضب الله ورسوله.
ـــــــــــــــــــ(68/148)
...
مشاكل الشباب والواجب نحوها (2)
...
...
4504
...
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
...
...
الأبناء, التربية والتزكية, قضايا المجتمع, مساوئ الأخلاق
...
عبد المجيد بن عبد العزيز الدهيشي
...
...
المجمعة
...
...
...
الجامع القديم
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- ضرورة مراعاة خصائص مرحلة المراهقة والشباب. 2- دور الوالدين والمعلمين والمسؤولين في توجيه الشباب. 3- واجبات رجال الأمن والحسبة تجاه الشباب. 4- همسات في أذن الشباب.
الخطبة الأولى
أما بعد: فاتقوا الله ربكم أيها المؤمنون، وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون.
عباد الله، حديثنا اليوم عن قضية مهمة تتعلّق بالشباب الذين هم زاد الأمة وذخرها، وبهم تنهض الأمة أو تكبو بإذن الله تعالى، وقد مضت سنة الله في خلقه أن تُبتلى هذه الفئة من الناس بتغيّرات نفسية وعضوية بحكم انتقال الشاب من مرحلة الطفولة واللهو إلى مرحلة الرجولة وسنّ التكليف الشرعي، ولذا فإن واجب المجتمع أن يتفهّم هذه التغيّرات، ويتعامل معها تعامل الحاذِق الحكيم الذي يُقدّر لهذه المرحلة العمرية خطورتها وأهميتها في تركيب مستقبل الفتى بإذن الله تعالى؛ إذ إن الخطأ في التعامل والتربية ربما ولَّدَ آثارًا لا تُمحَد مع مرور الزمن، وتدع بصماتها على الشاب.
ولئن كان للوالدَين والبيت دور كبير وأَثَر فاعل في تربية الشاب وعلاج قضاياه ومشاكله فإن للمعلّمين والمربّين دورًا آخر لا يقلّ عنه أهمية، فالشاب يتلقّى من مُعلّمه القِيَم السامِيَة، ويتأثّر بسلوك معلّمه، ومتى أحسن المعلّم تعامله مع الشاب وعرف كيف يخاطبه واستطاع كَسْب الطالب واحتواءه أثمر سلوكًا حسنًا وأثرًا لا يُنكَر.
فيا معشر المعلّمين والمربّين، ويا مسؤولي المدارس، ويا أيها القائمون عليها، إن لكم دورًا لا يُنكر، وأثرًا لا يخفى في استصلاح أبنائنا من الشباب والمراهقين، فلا بدّ من معرفة واقعهم وما يعانونه من تغيّرات عضوية ونفسية واجتماعية.
يا معشر المعلّمين، ضعوا نصب أعينكم حاجة الشاب إلى اليد الحانية والقلب المشفق الذي يأخذ بيده إلى برّ الأمان، ويلقّنه ما يفيده من القِيَم والمُثُل التي تحيي قلبه، وتُشعره بانتمائه لدينه، وتجعله يعتزّ بكونه مسلمًا، ولا بدّ أن يحسن المعلّم الدخول إلى عالم الشاب، وأن يبحث عن الأساليب المناسبة في علاج مشاكله، وأن يستغلّ الفرص في ذلك بما يهمّ الشاب ويثير عوامل الخير فيه.
والداعية والمربّي الحَصِيف هو ذلك الذي يتحسّس ما يعانيه الشباب والمراهقون، ثم يبذل جهده في طرح الحلول والعلاجات المناسبة، بعيدًا عن التهويل والتصريح المزعج، كما لا يكون تلميحًا لا يفهم ما وراءه. وما أجمل استعمال أسلوب النصح المباشر في وقته المناسب وبالطريقة المناسبة البنّاءة، ويحسن أن يتولّى هذا النوع من مشاكل الطلاب الأساتذة القديرون الثقات الذين يُؤتمنون على أسرار الناس، ويجيدون حلّ المشاكل.
وغَنِيٌّ عن القول أن تنتبه إدارة المدرسة ومعلّموها لما قد يحدث من الطلاب أو بينهم من القضايا غير الأخلاقية قيامًا بالواجب. والتخلّي عنه أو التساهل في العلاج يعود بالضرر على الطلاب وعلى عملية التربية بكاملها. كما لا يخفى الأثر البالغ الذي تتركه زيارات الدعاة والناصحين إلى المدارس ولقيا الطلاب والحديث معهم فيما يهمّهم، وفي ذلك خطوات جيدة تشهدها بعض مدارسنا، والحاجة قائمة للمزيد منها.
أما رجال الأمن على اختلاف جهاتهم فلهم دور آخر نحو مشاكل الشباب والمراهقين يتمثل في الآتي:
1- أن يتولّى التحقيق في قضايا الأعراض والأخلاق المحقّقون الأُمناء الثقات الذين يحملون هَمَّ استصلاح المجتمع، ويجيدون التعامل مع هذه القضايا.
2- المحافظة على أسرار ما قد يحدث من القضايا أو يضبط من المحظورات.
3- التنبّه للتجمّعات المريبة، والتواصل الجادّ مع المختصين من رجال الحسبة في متابعتها ورصد أنشطتها التي قد يكون ضحاياها أبناء المسلمين.
4- ضرورة الحدّ من العبث بالسيارات واستعراض المراهقين بها، والحزم في هذه المخالفات وتطبيق العقوبات على الجميع دون محاباة أو تغاض عن البعض من المخالفين.
5- استشعار رجل الأمن أنه مسؤول عما يراه أو يبلغ عنه، وأنّ تخليه عن واجبه يعتبر خيانة للأمانة وظلمًا للنفس والمجتمع، وقد يكون ضحية هذا التهاون أقرب الناس إليه.
6- أن يعلم رجل الأمن أن خطورة القضايا غير الأخلاقية لا تقلّ أهمية عن الحوادث الجنائية إن لم تكن أهمّ منها، وأحيانًا تكون القضايا غير الأخلاقية سبب الحوادث الجنائية أو امتدادًا لها.
ولرجال الحسبة دور فاعل أيضًا في منع ما يُخِلّ بالدين والخُلُق، فهم رجال الأمن الخُلُقي، ولهم دور هام في حفظ عورات المسلمين وكبح جِمَاح ذوي الشهوات.
وللبلدية مساهمتها في علاج مشكلتنا هذه بالمسارعة بإزالة المباني المهجورة القديمة التي ربما كانت أوكارًا لبعض ضعفاء النفوس.
عباد الله، إن قضيتنا هذه مسؤولية الجميع، فعلى الأب أن يربي أولاده وينشئهم على معالي الأمور، وعلى المدرسة ومعلّميها وإدارتها أن تستكمل العملية التربوية بالمحافظة على ما تعلّمه الشاب من الخير وتزويده بما ينفعه، وعلى الدعاة والناصحين الحرص على تقويم الاعوجاج بالحكمة والموعظة الحسنة والصبر على الأذى وتحمّل ما قد يظهر من سوء تعامل، وعلى المسؤول المكلّف القيام بمهامّه وأداء وظيفته في تعديل الخطأ ومنع وقوع الجريمة بحكم ما لديه من ولاية وسلطة فُوّضت إليه من ولاة الأمور، وقد قال عثمان : (إن الله لَيَزَعُ بالسلطان ما لا يَزَعُ بالقرآن)، أي: إنّ لذوي السلطة من الأثر في منع التعدي على الحرمات والردع لمن يتجاوزها ما قد يفوق أثر القرآن الكريم، فالناس مختلفو الأهواء والمشارب، ولكلٍّ حاجات وشهوات، منهم من يصدّه الخوف من الله عن الوقوع في المحظور، وتمنعه قوارع الكتاب والسنة عن مقارفة الحرام، ومنهم من لا يصده إلا سطوة حاكم وقوة مسؤول، ولو تُرِك الناس لشهواتهم دون حسيب أو رقيب لرتع الكثيرون، ولذا جاء الشرع بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ووضح القرآن أثر ذلك في صلاح الأمم والمجتمعات، وأنه لا غنى لأي مجتمع عن القيام بهذه الشعيرة العظيمة: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ [آل عمران:104]، وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ [المائدة:2]، وبيّن الله سبحانه أن خيرية هذه الأمة منوطة بالقيام بهذه الشعيرة فقال: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران:110]. ومتى ما قام الجميع بواجبهم وتمكّن التعاون على البرّ والتقوى في نفوس الجميع واستشعر كل واحد دوره المنوط به بإتقان فإن العاقبة حميدة بإذن الله تعالى.
اللهم احفظ لنا ديننا وأمننا، اللهم احفظ شبابنا، وارزقهم الصلاح والثبات، واجعلهم قرّة عين لوالديهم ومجتمعهم.
الخطبة الثانية
أما بعد: فلئن خاطبنا الجميع وطلبنا القيام بالواجب فإن هناك همسة أهمس بها في أذن كل شاب؛ عَلّها أن توافق أذنًا صاغية وقلبًا مقبلاً.
أخي الشاب، تذكّر أن الله تعالى قد خلقنا لعبادته، ولم يخلقنا لنرتع في الشهوات والمعاصي، أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ [المؤمنون:115]. تذكّر أن الاستقامة على الطاعة وترك المعاصي يوصلك إلى الجنة التي فيها من النعيم والأنس ما لم يخطر على قلب بشر، نعيم لا انقطاع له، وسعادة لا مُنغّص لها، يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُون [الزخرف:71]. تذكّر ـ أيها الشاب ـ أنك أمل والديك، وبك يفخران ويعتزّان، ولك يبذلان من الوقت والجهد والمال الكثير؛ لتشبّ صالحًا نافعًا لمن حولك، فلا تخيّب ظنهما. تذكّر أنك أمل الدعاة والمربّين الذين يحتسبون الأجر في إرشادك وتعليمك وتوجيهك. تذكّر أن لك إخوانًا قد ضربوا مُثُلاً عليا في الاستقامة والصلاح، قد حفظوا من كتاب الله تعالى الكثير، وقرّت أعينهم ببرّ والديهم، ارتفعت هممهم عن سَفَاسِف الأمور، وطمحت إلى معاليها، برزوا في دراستهم، وفاقوا أقرانهم، عُرِفوا بالخلق الجميل فأحبّهم الناس وألفوهم، إن حضروا محفلاً أشير إليهم، وإن غابوا فُقِدوا، وهم بحمد الله كثير، فلا تقعد بك همّتك عن اللحاق بركبهم، فاستعن بالله وتوكّل عليه، واعلم أن للشاب الذي نشأ في طاعة الله جزاءً عظيمًا، ففي الصحيحين: ((سبعة يظلّهم الله في ظلّه يوم لا ظلّ إلا ظلّه: إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله عز وجلّ...)).
نسأل الله تعالى أن يجعلك ـ أيها الشاب ـ عبدًا لله صالحًا ولأمتك نافعًا...
ـــــــــــــــــــ(68/149)
من ليتامى المسلمين؟!
...
...
4513
...
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
...
...
المسلمون في العالم, فضائل الأعمال, قضايا المجتمع
...
عبد الرحمن بن علوش مدخلي
...
...
أبو عريش
...
12/4/1426
...
...
جامع التقوى
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- ديننا دين الرحمة والتكافل والتعاضد والتناصر. 2- تقاعص كثير من المسلمين لمصائب وكوارث حلت بإخوانهم. 3- الدور الفعال للمنظمات التنصيرية تجاه ما حلَّ بإخواننا المسلمين وأثر ذلك على المسلمين. 4- فضل رعاية الأيتام في الإسلام. 5- نداء للموسرين من المسلمين.
الخطبة الأولى
أما بعد: أيها المؤمنون، أوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى في السر والعلن، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70، 71].
عباد الله، هذا الدين العظيم الذي مَنَّ الله به على المؤمنين، دين الرحمة والتكافل والتعاضد والتناصر. هذا الدين العظيم الذي سعدت به البشرية وما زالت تسعد إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، غرس في قلوب المؤمنين مبدأ التراحم والتناصر والإحساس ببنية الجسد الواحد، ((مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاضدهم كمثل الجسد الواحد؛ إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)) رواه مسلم وأحمد.
أيها المؤمنون، إن مصائب الحياة كثيرة، وإن تقلبات الزمان متعددة، وإن الناس قد يبتلى بعضهم بالأمراض والمصائب والنكبات، ابتلاءً وامتحانًا واختبارًا، بيد أن هذه الابتلاءات والامتحانات في مجتمعات المسلمين لا تكون مؤثرة؛ لأن المسلمين تتكافأ دماؤهم ويقوم بمذمتهم أدناهم، فيقف المسلم مع أخيه المسلم في مصابه، ويقف معه في حاجته، ويقف معه في همه وغمه، فيرفع عنه البلاء، ويواسي اليتيم والمسكين، ولهذا عاش المسلمون ردحا من الزمن ـ يوم أن كانوا ملتزمين بمنهج الإسلام ـ لا يحسون بالآلام ولا بالمصائب، بل وصل الأمر بهم في بعض الأعصار أن ينادى على المساكين والفقراء لتدفع لهم الزكاة فلا يجدون يتيمًا أو مسكينًا، ولا يجدون محتاجًا؛ لأن الجميع قد تكافلوا وتناصروا، وقام كل منهم بواجبه الذي يسأله الله تعالى عنه يوم القيامة.
إن المعاناة والمصائب التي يتجرعها إخوانكم المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها أشهر من أن تذكر، وأكثر من أن تحصى، فما من بلد من بلاد المسلمين ـ إلا ما ندر ـ إلا وفيه مأساة، إلا وفيه يتيم، إلا وفيه فقير، إلا وفيه مشرد، إلا وفيه محتاج لإخوانه المسلمين لكي يقفوا معه في مصابه، لكي يقفوا معه في مصيبته، لكي يقفوا معه في شدته.
إنه لمن المحزن ـ يا عباد الله ـ أن نرى هنا وهناك في بلاد المسلمين التي ابتليت بالمصائب والنكبات، نجد تقاعس المسلمين عن الوقوف مع مصائب إخوانهم، في الوقت الذي نجد فيه حملات النصارى والمنصرين والمبشرين وأصحاب الأفكار الهدامة يأتون لينقلوا لإخواننا المسلمين الردة، ولينقلوا لهم الكفر البواح، ولينقلوا لهم النصرانية والتنصير والمبادئ الهدامة مع المساعدات.
نصحوا على أصوات ألف مبشّر عزفوا لنا ألْحانَهم فأجادوا
جاؤوا وسيف الجوع يخلع غمده فشدوا بألحان الغذاء وشادوا
أما دعاة المسلمين فهمّهم أن تكثر الأموال والأولاد
أيها المؤمنون، إن ما يحدث في بعض بلاد المسلمين هنا وهناك من جراء النكبات والمصائب، ومن جراء الحروب والويلات، ومن جراء الغرق والهدم، ومن جراء الزلازل والمصائب، كل هذه المصائب خلفت مآسي عظيمة لا يعرفها إلا من وقف عليها.
وإن من أعظم المصائب ـ يا عباد الله ـ التي تكون جراء هذه المصائب أن تخلف أعدادًا كبيرة من أيتام المسلمين الذين فقدوا المعين والناصر، الذين فقدوا الأب الذي يكفلهم والأم التي تحضنهم، فتنقلوا هنا وهناك فلم يجدوا إلا منظمة نصرانية أو مبشرًا يرفع لواء التنصير مع الغذاء والكساء والبيت، لينتقل بعد ذلك هذا الطفل المسلم الذي نشأ بين أبوين مسلمين كتب الله عليهما الوفاة بسبب هذه المصيبة من تدمير أو حرق أو جائحة، لينشأ عبد الله وإبراهيم ويسمى في هذه المنظمة بعد سنوات عدة بولس وميخائيل، فينشر التنصير في مجتمعات المسلمين، إنها مصيبة يا عباد الله، إنها مصيبة أيها المسلمون.
لقد حث الإسلام على رعاية الأيتام وعلى الوقوف معهم وعلى مناصرتهم وعلى مد يد العون لهم، ورتب على ذلك أجرًا عظيمًا جِدّ عظيم، يوم أن يقف المسلم مع يتيم فقد الناصر والمعين، يقوم هذا الرجل المسلم من مشرق الأرض أو مغربها فيكون أبًا لهذا اليتيم، يكون ناصرًا لهذا اليتيم، يكون معينًا لهذا المسكين، فيقف معه في مصيبته وينسيه هذه الجائحة الذي بلي بها بتقدير الله سبحانه وتعالى، وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ [البقرة:220]، وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا [الإنسان:8، 9].
ويكفي في فضل كفالة اليتيم ـ يا عباد الله ـ أن المعصوم خير من وطئت الأرضَ قدماه محمد أفضل الخلق يقول: ((أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين)) وأشار بالسبابة والوسطى وفرج بينهما. رواه البخاري. محمد خير خلق الله قاطبة أعظم الناس منزلة يوم القيامة يكون كافل اليتيم معه في الجنة، أي أجر أعظم من هذا الأجر؟! وأي منزلة ودرجة يصلها كافل اليتيم أعظم من هذه المنزلة؟! وهذه الدرجة أن يكون رفيقًا لمحمد في الجنة.
وروي في سنن الترمذي وفيه ضعف: ((من قبض يتيمًا من بين مسلمين إلى طعامه وشرابه حتى يغنيه الله أوجب الله له الجنة البتة، إلا أن يعمل عملاً لا يغفر له))، وهو الشرك بالله تعالى. وفي معجم الطبراني الكبير بإسناد صححه الألباني أن النبي قال: ((أتحب أن يلين قلبك وأن تدرك حاجتك؟ ارحم اليتيم، وامسح المسكين، وامسح رأسه، وأطعمه من طعامك، يلن قبلك وتدرك حاجتك)). وفي سنن أبي داود أن النبي قال: ((أيما مسلم كسا مسلمًا ثوبًا على عري كساه الله من خضر الجنة، وأيما مسلم أطعم مسلمًا على جوع أطعمه الله من ثمار الجنة، وأي مسلم سقى مسلمًا على ظمأ سقاه الله من الرحيق المختوم)).
أيها المسلمون، هذه فضائل عظيمة يبينها النبي ليزرع بين المسلمين مبدأ التراحم والتكافل والتعاضد والإحساس بمآسي المسلمين وجراحهم، وأن يستشعر المسلم ما يعانيه إخوانه المسلمون هنا وهناك بسبب أقدار الله تعالى.
إن الأنانية وحب الذات آفة قاتلة، إذا ابتلي بها المسلم ذهب عنه الخير وزاد شره، وأصبح إنسانًا لا يفكر إلا بنفسه ولا يفكر بإخوانه المسلمين، بل ينظر إلى الضعفاء والمساكين كأنهم قذى في عينه، لا يحس بمصابهم ولا يحس بآلامهم ولا يحس بجراحهم، ونسي هذا الضعيف، نسي هذا المسكين، نسي هذا المتجبر أن تقلبات الزمان ربما تكون في يوم من الأيام عليه؛ فإن السنن لا تتبدل، وإن دوام الحال من المحال، فكم من غني أصبح فقيرًا، وكم من رجل كان في سعة من العيش أصبح محتاجًا، والتاريخ خير شاهد لنا، في التاريخ أمثلة وأمثلة ولا أظن أحدًا منكم يجهل مثلاً هنا أوهناك لرجل كان ذا مال وكان ذا سعة وكان ذا منزلة عظيمة، ثم تقلب به الزمان فأصبح فقيرًا محتاجًا.
أيها المسلمون، إن أبناءً لكم قد فقدوا حنان الأم وعطف الأب، ينادونكم من داخل كنائس النصارى وبِيَعِ اليهود، ينادونكم ليقدم كل منكم ما يستطيع عبر هيئات الإغاثة وعبر المؤسسات الرسمية، ليقدم خيرًا ولو يسيرًا لإخوانه المسلمون هنا وهناك، وبحمد الله تعالى أننا في هذا البلد المبارك نجد مؤسسات خيرية تقدم لك المعونة وتساعدك وتقف معك، لتدفع مساعدة لإخوانك المسلمين هنا أو هناك، هيئات الإغاثة، الندوة العالمية للشباب الإسلامي، الجمعيات الخيرية، جمعيات البر وما أكثرها لمن أراد أن يواسي إخوانه المسلمين هنا أوهناك.
إن إخوانكم يرسلون لكم صيحات وآهات، صيحات استغاثة في هذا الزمان المدلهم، في هذا الزمان الصعب الذي تآمر فيه أعداء المسلمين على المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، أطفال وأيتام يرسلون الصيحات فيقول أحدهم لإخوانه المسلمين:
أنا الطفل المعذب أنقذونِي خذونِي أسعفونِي أطعمونِي
ألاقي الموت حينًا بعد حين وآهاتي تزيد مع الأنين
أنا طفل يتيم فِي العراء فبيتي خيمتي ثوبِي غطائي
تنام العيْن فِي وقت المساء وحتى الفجر ما تغفو عيوني
عذائي خبز عيش في قمامة رجاء العيش في أرض الكرامة
إلام الضعف يا قومي إلام سئمنا العيش في ذل وهون
أبِي قد ذاق ألوان العذاب وأختي سبية عند الكلاب
وأمي مزقوها بالحراب وباقي الأهل في تلك السجون
أخي في كل مملكة غنية بدمع العيْن أهديك التحية
فلا تجعلني في القلب نسيّة فأهل الْمال من قومي نسونِي
أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ [البقرة:215].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر المولى العظيم الجليل لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
ثبت في الحديث الصحيح أن النبي قال: ((المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يسلمه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن نفس عن مسلم كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة)) رواه أبو داود وصححه الألباني.
هل تعلمون ـ يا رعاكم الله ـ أن عدد يتامى المسلمين قبل عشر سنوات من إحصائية رسمية يزيد عن خمسة ملايين يتيم، وأن الذين تكفلهم الهيئات الإسلامية فقط من هذا العدد الكبير لا يصل إلى عشرة في المائة فقط، وتسعون في المائة من أيتام المسلمين تكفلهم المنظمات التنصيرية؟! المنظمات اليهودية تذهب بهم إلى الدول النصرانية ليعودوا منصَّرين يا عباد الله.
في إحصائية رسمية كان عدد النصارى في قارة أفريقيا عام 1900م مليون مسيحي، وبلغ عددهم الآن ما يقارب مائة مليون نصراني، زاد العدد تسعة وتسعين مليون بسبب التنصير، بسبب ما تعمله المنظمات التنصيرية، بسبب ما يعانيه المسلمون هناك من جراء تغافل المسلمين. لو أن كل مسلم كفل يتيمًا واحدًا فقط أكثر من مليار مسلم كل واحد يكفل يتيمًا واحدًا من طعامه وشرابه عن طريق هذه الهيئات الإسلامية، ترسل له الطعام والشراب بمبلغ لا يزيد عن مائة ريال في الشهر في كفالة يتيم واحد، فتبقيه مسلمًا يعبد الله سبحانه وتعالى بدل أن يضطر فيبدل دينه، ويكون داعية إلى النصرانية والعياذ بالله تعالى.
أخي الحبيب، لن أذهب بك بعيدًا؛ هل علمت أن عدد اليتامى في هذه المحافظة فقط بإحصائية الجمعية الخيرية أكثر من خمسمائة يتيم؟! في هذه المحافظة لا يجدون معينًا ولا ناصرًا، فمن يكفلهم؟! من يقف معهم؟! أتريدون أن يضطر هؤلاء اليتامى لبيع القات، لبيع المخدرات، للتسول وهم من أبناء جلدتنا ولا يقف أحدنا مع هؤلاء اليتامى؟! إن الوقوف مع هؤلاء اليتامى تحقيق لمبدأ التناصر، لمبدأ التعاضد، لمبدأ التكافل، لمبدأ الإحساس ببنية الجسد الواحد، ((المسلم للمسلم كالبنيان يشد بعضه بعضًا)). لو أن كل أسرة من الأسر كفلت يتيمًا واحدًا لما رأينا أيتامًا يا عباد الله. إنها مأساة الأمة، ينبغي أن نتكاتف وأن نتناصر وأن نتعاضد وأن نحس بأن المسلمين تتكافأ دماؤهم ويقوم بذمتهم أدناهم، وأن المسلمين بنيان واحد، ونحقق مبدأ التعاون الذي فرضه الله علينا في قوله: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ [المائدة:2].
ألا وصلوا وسلموا على خير الخلق محمد بن عبد الله عليه من ربه أفضل الصلاة وأتم التسليم، إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد...
ـــــــــــــــــــ(68/150)
...
قصتي جريج العابد وأويس القرني
...
...
4601
...
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب, سيرة وتاريخ
...
...
القصص, الوالدان, فضائل الأعمال
...
غازي بن سالم بن صالح
...
...
دبي
...
...
...
سالم بن بخيت البخيت
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- عظم دعوة الوالد على ولده. 2- بر الوالدين مقرون في القرآن بعبادة الله. 3- قصة جريج العابد وما فيها من عبر. 4- قصة عمر بن الخطاب مع أويس القرني.
الخطبة الأولى
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها المؤمنون، روى الإمام أحمد والترمذي وأبو داود عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((ثلاث دعوات مُسْتَجابات لا شك فيهن: دعوة الوالد على ولده، ودعوة المظلوم، ودعوة المسافر)).
أيها الناس، حديثنا اليوم عن إحدى هذه الدعوات المُسْتَجابات، عن دعوة الوالد على ولده.
والوالد كلمة جامعة تعني مَن وَلَدك، فتشمل الآباء والأمهات، وهذا الحديث فيه ترغيب وترهيب، ترغيب في بر الوالدين حتى يتقي العبد دعوة والديه عليه، فدعاؤهما أو أحدهما عليه يُوبِقُ دنياه وأخراه، وترهيب من دعوة الأب أو الأم على الأبناء أو البنات، وقد قُرِنت في هذا الحديث بدعوة المظلوم التي استقر عند الناس الوَجَلُ منها والخوف، فكيف إذا كان المظلوم هو الأب أو الأم والظالم لهما هو ابنهما لكونه قصَّرَ في حقهما، ولم يستجب لأمر الله تعالى في التلطّف معهما ومراعاة حقوقهما؟!
قال الله تعالى في كتابه الكريم: وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا [الإسراء:23، 24].
لقد قرن الله تعالى حق الوالدين بحقه سبحانه وتعالى، وهذا تأكيد منه على التزام أمرهما والإحسان إليهما، وقد أكد الله تعالى هذا المعنى في آية أخرى فقال جل وعلا: وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [لقمان:15].
جاء في الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي قال: ((كان جُرَيج رجلاً عابدًا، فاتخذ صَوْمَعة فكان فيها، فأتته أمه وهو يصلى فقالت: يا جُرَيج))، فوصف أبو هريرة لصفة رسول الله أمه حين دعته كيف جعلت كفها فوق حاجبها، ثم رفعت رأسها إليه تدعوه، ((فقالت: يا جُرَيج، أنا أمك كلّمني، فقال: يا رب، أمي وصلاتي! فأقبل على صلاته فانصرفت، فلما كان من الغد أتته وهو يصلي فقالت: يا جُرَيج، فقال: يا رب، أمي وصلاتي! فأقبل على صلاته فانصرفت، فلما كان من الغد أتته وهو يصلى فقالت: يا جُرَيج، فقال: أي رب، أمي وصلاتي! فأقبل على صلاته فقالت: اللهم إن هذا جُرَيج وهو ابني، وإني كلمته فأبى أن يكلّمني، اللهم لا تمته حتى ينظر إلى وجوه المُومِسَات))، قال: ((ولو دعت عليه أن يُفتَن لفُتِن)).
تأمّلوا رحمكم الله، جُرَيج رجل عابد تقي دعته أمه ولم يكن في لهو، بل كان في صلاة وعبادة فلم يجبها حتى غضبت عليه، ودعت عليه بهذه الدعوة: أن يرى وجوه المُومِسَات، أي: الزَّوَانِي، فجاءه البلاء حينئذ:
حسده بنو إسرائيل وكادوا به ليصرفوه عما هو عليه، ولولا أن ثبته الله لضل، يقول النبي : ((فتذاكر بنو إسرائيل جُرَيجًا وعبادته، وكانت امرأة بغى يُتَمَثَّل بحسنها فقالت: إن شئتم لأفتننّه لكم))، قال: ((فتعرضت له فلم يلتفت إليها))، وهذا من البلاء العظيم أيها الناس، امرأة ذات جمال تتعرض لشاب في خلوة ثم لا يبالي بها، ماذا صنعت هذه المرأة بنفسها؟ يقول : ((فأتت راعيًا كان يأوي إلى صَوْمَعته فأَمْكَنَته من نفسها، فوقع عليها فحملت، فلما ولدت قالت: هو من جُرَيج، فأتوه فاستنزلوه وهدموا صومعته، وجعلوا يضربونه))، استجاب الله دعوة أمه، ونزلت عليه العقوبة وهو من أولياء الله الصالحين العابدين، هُدِمَت صومَعَتُه، وأُخرِج منها، وسبّوه، قالوا له: أنت مُراءٍ، أنت كذّاب مخادع، تدّعي التعبّد وأنت زانٍ كذّاب، كل ذلك وهو لا يدري ما الذي يقولون، هُدِم بيتُه، واتُّهِم في عِرْضه بدعوة واحدة.
ولكن الله تعالى رحيم بعباده، فقد جعل لهذا العبد الصالح مخرجًا من هذا البلاء، يقول النبي : ((فقال: ما شأنكم؟! قالوا: زنيت بهذه البغي فولدت منك، فقال: أين الصبي؟ فجاؤوا به، فقال: دعوني حتى أصلي، فصلى، فلما انصرف أتى الصبيَّ فطعن في بطنه، وقال: يا غلام، من أبوك؟ قال: فلان الراعي، قال: فأقبلوا على جُرَيج يُقبّلونه ويتمسّحون به، وقالوا: نبني لك صَوْمَعتك من ذهب، قال: لا، أعيدوها من طين كما كانت، ففعلوا)).
فاتقوا الله تعالى ـ أيها المؤمنون ـ في آبائكم وأمهاتكم، واتقوا دعواتهم عليكم ببرهم والإحسان إليهم.
وأنتم أيها الآباء والأمهات، ارفقوا بأولادكم، واصبروا عليهم، ولا تدعوا عليهم، فقد قال النبي : ((لا تدعوا على أنفسكم، ولا تدعوا على أولادكم، ولا تدعوا على أموالكم، لا توافقوا من الله ساعة يُسأل فيها عطاء فيستجيب لكم)).
أقول قولي هذا، وأستغفر الله...
الخطبة الثانية
روى مسلم في صحيحه عن أسير بن جابر قال: كان عمر بن الخطاب إذا أتى عليه أمداد أهل اليمن سألهم: أفيكم أُوَيس بن عامر؟ حتى أتى على أُوَيس فقال: أنت أُوَيس بن عامر؟ قال: نعم، قال: من مُرَاد ثم من قَرَن؟ قال: نعم، قال: فكان بك بَرَصٌ فبرأت منه إلا موضع درهم؟ قال: نعم، قال: لك والدة؟ قال: نعم، فقال عمر : سمعت رسول الله يقول: ((يأتي عليكم أُوَيس بن عامر مع أمداد أهل اليمن من مُرَاد، ثم من قَرَن، كان به بَرَصٌ فبرأ منه إلا موضع درهم، له والدة هو بها بَرّ، لو أقسم على الله لأبرّه، فإن استطعتَ أن يستغفر لك فافعل))، فاستغفر لي. فاستغفر له.
أيها المسلم، لقد نال أُوَيس القَرَني هذه المنزلة العظيمة ببرّه لأمه، أُوحِي إلى النبي بخبره، وأخبر النبي بنعته ووصفه وخبره، وحثَّ الفاروقَ المبشَّرَ بالجنة أن يطلب منه أن يستغفر له إن هو أدركه. عمر أفضل من أُوَيس القَرَني بلا خلاف، ويطلب من أُوَيس القَرَني أن يستغفر له! فرضي الله عن عمر، ورضي الله عن أُوَيس. وما أعظم برّ الوالدين!
فلنتق الله في آبائنا وأمهاتنا؛ فإن الجنة عند أقدامهما، ولنطع الله فيهما كما أمرنا الله ورسوله .
ـــــــــــــــــــ(68/151)
...
الغيرة
...
...
4628
...
الأسرة والمجتمع, الإيمان, العلم والدعوة والجهاد
...
...
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, خصال الإيمان, قضايا المجتمع
...
فيصل بن عبد الرحمن الشدي
...
...
الخرج
...
5/3/1423
...
...
جامع العز بن عبد السلام
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- غربة المؤمن الآمر بالمعروف الناهي عن المنكر. 2- الغيرة صفة لله عز وجل. 3- منزلة الغَيرة في الإسلام. 4- مظاهر ذهاب الغيرة في المجتمع الإسلامي. 5- مفاهيم مغلوطة حول الغيرة. 6- كيف ننمي الغيرة في نفوسنا؟
الخطبة الأولى
أما بعد: ثلاث شُرطت للفوز: طاعة الله ورسوله وخشيته سبحانه وتقواه، وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقِيهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَائِزُونَ [النور:52].
أيها المسلمون، عجبًا له عيناه حملقت، وأوداجه انتفخت، وأنياط قلبه تقطعت، وأفلاذ كبده تمزقت، وزفر من فؤاده زفرة أنينها دليل صدقها، ولكأن كلَّ عضو فيه يزفر، تكاد عيناه لما ترى تدمع، وتكاد رُوحه لما يؤرقها تجزع، والناس حوله كثير منهم لا يقدره بل ولا يأبه له، ويا ليته عند هذا وكفى، بل كلمات السوء تتقاذفه من كل جانب: لِمَ تحترق؟! هذا شأن غيرك، أنت طفيلي، دع الناس وشأنهم... وهلم جرا.
أصبح في بقاع كثيرة من بقاع الإسلام غريبًا، لما كثرت الآفات وتظاهرت القبائح والمنكرات. أصبح وجوده في هذا الوقت أعز من الكبريت الأحمر، نظرت إليه شُزر العيون، وأتاه الأذى من كل مفتون، لكن عزاؤه أنه لم ينتقم لنفسه، كلا وربي، بل انتقم لعلاّم خائنة العيون.
نِعْمَ الأرض التي أظلته، ويا بشرى السماء التي أقلته، إنه ـ يا رعاكم الله ـ المؤمن الغيور، إنها الغيرة، إنها الأنفة والحمية الجاهلية؟! لا وألف لا لأرض، لا وألف لا لمنصب، لا وألف لا لدنيا زائلة، لا وألف لا، إنها الأنفة والحمية لله لدين الله ولحرمات الله.
والمؤمن الصادق يستمد غيرته من الله سبحانه، فالغيرة صفة لله عز وجل، قال تعالى: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [الأعراف:33]. استدل العلماء بهذه الآية على إثبات الغيرة لله جل وعلا.
فرب العالمين يغار إذا ما انتهكت المجتمعات الفواحش واستعلنت بها. ورب العالمين يغار إذا بغى البغاة وعصي سبحانه في أرضه. ورب العالمين يغار إذا ما أشرك به وسوى العبيد بين مالك الرقاب ومخلوق من تراب. ورب العالمين يغار إذا افتري على شرعه وتُقوِّل على حكمه. ورب العالمين يغار ويغضب، ومن هي السموات ومن هي الأرض ومن هي العوالم كلها التي تقف أمام غضبه أو تواجه غيرته؟! كلها تُذعن لسلطانه وتشفق من عصيانه عدا هذا العبد الجهول الممعن في طغيانه، ينسى غيرة ربه وغضبه وعظيم شأنه، ألا يا بؤسه تصدعت أركانه وقوِّض بنيانه.
إنها الغيرة يا عباد الله، أصلُ الدين ولبُّه وفصله وأهله، ها هو طبيب القلوب ابن القيم رحمه الله هاك خطابه إذ يقول: "إن أصل الدين الغيرة، ومن لا غيرة له لا دين له"، ويقول رحمه الله: "إذا رحلت الغيرة من القلب ترحَّلت المحبة، بل ترحل الدين كُلُّه".
من أجل الغيرة على حرمات الله سُجن الأئمة، وجُلدت ظهور علماء الأمة على مر التاريخ. من أجل الغيرة على دين الله قام القائمون بأمر الله واضعين عظمة الله وسلطانه وهيبته بين أعينهم.
قال أبو معمر القطيعي: لما أحضرنا إلى دار السلطان أيام المحنة، محنة خلق القرآن، وكان أحمد بن حنبل رحمه الله قد أُحضر، وكان رجلاً هينًا لينًا، فلما رأى الناس يُسألون ويجيبون بخلق القرآن انتفخت أوداجة واحمرت عيناه، ذهب ذلك اللين فقلت: إنه قد غضب لله، فقلت: أبشر؛ حدثنا ابن فضيل عن الوليد بن عبد الله بن جميع عن أبي سلمة قال: كان من أصحاب رسول الله من إذا أريد على شيء من أمر دينه رأيت حماليق عينيه في رأسه تدور كأنه مجنون. وكتب التاريخ بأحرف من ذهب غيرة الإمام أحمد وثباته يوم أن سكت الجميع، فنصر الله بها الإسلام والأُمة.
وهكذا كلما رفعت بدعة رايتها أو فاحشة سوءتها أو خبيثة من الخبائث عقيرتها امتطى لها الغيورون خيول الفضيلة، وأشرعوا سيوف الحق في وجه كل سوءة ورذيلة.
ومن أعظم الغير التي رفع الإسلام لواءها وأيَّدها وقواها في القلوب وأصلها الغيرة على الأعراض، حتى إن صاحب الغيرة ليخاطر بحياته ويبذل مُهجته، لم؟! لئلا يُدنس له عرض أو يمس له شرف، ورسول الله قد أعلى ذلك وأسماه عندما قال: ((من قتل دون ماله فهو شهيد)).
ولقد كان أصحاب رسول الله من أشد الناس غيرة على أعراضهم، ففي الحديث المتفق عليه أن رسول الله قال يومًا لأصحابه: ((إن دخل أحدُكمُ على أهله ووجد ما يَريبُه أشهد أربعًا))، فقام سعد بن معاذ متأثرًا فقال: يا رسول الله، أأدخل على أهلي فأجد ما يريُبني أنتظرُ حتى أُشهد أربعًا؟! لا والذي بعثك بالحق، إن رأيت في أهلي لأُصحينّ بالرأس عن الجسد، ولأضربن بالسيف غيرَ مُصْفَح، وليفعل الله بعد ذلك ما يشاء، فقال عليه الصلاة والسلام: ((أتعجبون من غيرة سعد؟! والله لأنا أغيرُ منه، والله أغيرُ مني، ومن أجل غيرة الله حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن)).
حقًا والله، من حُرِم الغيرة حُرِم طُهرَ الحياة، ومن حُرِم طُهرَ الحياة فهو أحطُّ من بهيمة الأنعام. وربِّ الكعبة، إنك عندما تسير في طرقات المسلمين اليوم وتنزل أسواقهم وتشاهد مجتمعاتهم لتكاد تودُّ أن العين عميت قبل أن ترى ما ترى، إن القلب ليتقطع ألمًا، وإن الكبد لتتفتت كمدًا مما يحدث اليوم. نعم، عندما ترى ذهاب الغيرة من رجال ونساء وذهاب أصل الحياء.
ألا وإن مظاهر ذهاب الغيرة في المجتمع لمنذرة بخطر كبير وشرّ مستطير، هذه الشياطين السوداء التي توجها بعض المسلمين فوق هام بيوتهم، لتجمع زبالات العالم وقاذوراته لتصبه في بيت عفاف لم يدنس بعد، أبواه مؤمنان، بنيه وبُنياته في ريعان الشباب تفتح عيونهم وتنام على مناظر مخزية ومشاهد داعرة وحركات فاجرة في قنوات داعرة. البعيد قبل القريب يُقرّ ويعترف أن فيها رقصا للنساء بملابس إلى العري أقرب، وأفلاما تنادي من يراها ألف مرة: هيت لك، ومشاهد تغتال العفاف في وضح النهار.
أين المسلمون الصائمون؟! أين الكرماء المتعففون؟! أين أهل الغيرة والحياء؟! أين من يخاف جبار الأرض والسماء؟! أين رعاة البيوت وأمناؤها؟! أين خوفك على أبنائك وبناتك؟! إني أخاطب إيمانك حياءك خوفك غيرتك. احذر ـ أُخي ـ فالله ينظر إليك، وهو يغار على دينه وحُرمه جل سبحانه وتقدس.
ومن مظاهر ذهاب الغيرة التساهل في ذهاب المرأة مع السائق الأجنبي، حتى ولكأنه فردٌ من أفراد العائلة، تركب معه المرأة وتنفرد به، تحادثه وتناوله الحاجات بيدها في يده، يذهب بها إلى وظيفتها، والبنات إلى مدارسهن، وفي المساء إلى السوق، أين الأب؟! حق له مشغول، مشغول بماذا؟! بعقارات وتجارات، أم بسهرات في استراحات، هل لهذا وأمثاله أن يعطي هذا السائق عشرة آلاف ليذهب بها إلى فلان من الناس؟! كلا يخاف عليها، لا يأمن السائق، يخشى منه، أما العرض والشرف فلا؛ الثقة موجودة، والحمد لله من سنين ولم يحدث شيء، ومثله يأخذ النساء في أماكن بعيدة تشد لها الرحال، إن الشيطان لم يمت وإنما يوسوس لابن آدم، ثم أين نخوة المؤمن وشرفه؟! أين الغيرة يا عباد الله؟! هل غاض ماؤها؟! وهل انطفأ بهاؤها؟!
واللجنة الدائمة للإفتاء ذكرت في بيان لها أنه لا يجوز للمرأة أن تذهب مع السائق الأجنبي وليس معها محرم؛ لعموم قوله : ((ما خلا رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما))، ووجودها مع السائق في السيارة بدون محرم خلوة.
ومن مظاهر ذهاب الغيرة التساهل في خروج النساء من البيت، مع العلم أن الأصل قرارها في بيتها، فأصبحت اليوم تخرج مع الرجل للسوق بلا حاجة، بل وتذهب معه إلى البقالة والسوق المركزي تزاحم الرجال لتشتري ما تريد، وبنقاب واسع أو كشف ليديها ومحرمها مجرد خادم أو محاسب مالي، وانظر للنساء اليوم إذا جلست في بيتها ثلاث أيام أو نحوه قالت: اخرج بنا، ألا ترى الناس في الشوارع.
يا لله، أينَ هنَّ من عائشة رضي الله عنها؛ تقرأ قوله تعالى: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى [الأحزاب:33]، وتضع خمارها على وجهها وتبكي وتقول: (خان النساء العهد، خان النساء العهد).
ومن مظاهر ذهاب الغيرة هذه العباءات المنمقة والمزركشة، فأي حجاب هذا؟! إنه حجاب الفتنة، إنه حجاب السوء، سبحان ربي! أهي تتستر به أم تتجمل وتلفت النظر إليها؟! وكذلك الألبسة الفاضحة التي امتلأت بها أسواق المسلمين، نحور بادية وصدور ظاهرة وملابس مشقوقة من أسفلها، وتلك البناطيل التي طفحت بها الأسواق، والحجة الشيطانية قد ركبت وأعدت: نحن أمام نساء لا يرانا رجال، ألا يا ويحهن، وألا يا ويح آبائهن. أين أنت أيها الأب؟! ألا ترى لباس ابنتك وزوجتك وعباءتها؟! أليس المال مالك والبيت بيتك؟! أين القوامة؟! أين الرجولة؟! أين النزاهة؟!
ومن مظاهر ذهاب الغيرة عدم الستر الكامل للمرأة، تراها في السوق أو غيره مبدية ليديها أو قدميها أو نقاب واسع، ويا للأسف وليها بجانبها ولكأن ما في الأمر شيء. فاتقوا الله يا عباد الله، والمرأة كلها عورة.
ومن مظاهر ضعف الغيرة إنزال المرأة في السوق بدون محرمها أو وليها، والحجة أنني واثق في ابنتي أو زوجتي، إن كان هذا صحيحا فهل أنت واثق في عيون ذئاب ينهشونها بنظراتهم؟! تخلو بصاحب المحل في محله تحادثه، ولربما ألان لها الكلام والمرأة ضعيفة، أينك أنت؟! نعم أنت مشغول لا تصبر على السوق، بئس والله ما فعلت.
وما عجب أن النساء ترجّلت ولكنَّ تأنيث الرجال عُجابُ
أقول قولي هذا...
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وإخوانه.
أما بعد: جاء في الأثر من علامات الساعة: "إذا كان آخر الزمان رفع الله من الأرض الحياء من النساء، والغيرة من رؤوس الرجال".
ألا يا رعاكم الله، إن من أعظم مظاهر ذهاب الغيرة عدم التألم والإنكار إذا انتقصت شريعة الله، أو استعلن صاحب منكر بمنكره، أو أراد المفسدون إشاعة الفساد والانحلال، والاختلاط بين الرجال والنساء، أو عُطلت الصلاة من بعض بيوت المسلمين، أو أي منكر كان، هنا لا بد من غيرة المؤمن وإنكاره بالطرق الشرعية الممكنة، أما السكوت وعدم الغيرة فهذه ـ والله ـ خيانة للأمة، ورب العالمين يغار.
ألا وإنه لا بد للغيورين أن يكونوا ذوي نفس طويل وصبر وحلم؛ لأن أهل النفاق والباطل يعملون خلف الستور ولا يفترون، ويجتهدون ولا يكلون.
وإنه مما ينبغي التنبيه عليه أن هناك مفاهيم مغلوطة عن الغيرة، فمن الناس من يظن أن الغيرة هي حبس المرأة في بيتها وعدم السماح لها بالخروج بتاتًا ولو لحاجتها، أو يظن أن الغيرة هي الشك في أهله. وآخرون يظنون أن الغيرة هي الغضب والغلظة في إنكار المنكر في موضع قد لا يستوجب ذلك، وهذا خطأ فادح ونقص فهم واضح.
وكلمة تشكر تذكر ولا تنكر لأُناس رجال ونساء هم غرة المجتمع وشامة الأمة، ترى حقًا الغيرة متمثلة في سلوكياتهم وذهابهم وإيابهم، مما يدلُّ أن الأمة الخير فيها باق إلى قيام الساعة. لكن السائل يسأل: كيف ننمي الغيرة في نفوسنا؟ والجواب أن الغيرة تنمَّى بأمور عدة، أهمها الحرص على تربية البيت صغيره وكبيره على الحياء والحشمة والعفاف والغيرة لدين الله، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإشاعته، القوامة الحقيقية من الرجل على نسائه وأعراضه، وحفظهم وصيانتهم وردعهم عما يخدش الحياء، غض البصر، منع الاختلاط والخلوة، والتفطن لخطط الأعداء الخبيثة الماكرة في ذلك في قريب الزمان وبعيده.
ـــــــــــــــــــ(68/152)
مكائد المنافقين للمرأة
...
...
4682
...
الأسرة والمجتمع
...
...
المرأة
...
محمد بن سعيد بافيل
...
...
جدة
...
30/10/1426
...
...
خالد بن الوليد
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- ماذا يريدون من المرأة؟! 2- تلبيس دعاة تحرير المرأة. 3- إبطال شبهات دعاة تحرير المرأة. 4- الضوابط الشرعية لعمل المرأة.
الخطبة الأولى
أما بعد: فاتقوا الله أيها المسلمون، فتقوى الجليل سمة المفلحين وهدي المرسلين والسبب الأوحد للنجاة يوم الدين، تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا [مريم:63].
أيها المسلمون، ماذا تريدون من المرأة المسلمة في بلادنا؟! سؤالٌ نتوجّه به إلى الأقلام الصحفيّة المشبوهة أو المخدوعة التي تفرز سطورها مقتًا وعداوةً للأصيل من أصولنا والمجيد من تراثنا، اتباع الهوى أرجح عندهم من اتباع العقل، وبريق التقدّم الكاذب أقوى من سلطان الدين والشرع. وللأسف الشديد؛ كم لهؤلاء المأفونين من تمكّنٍ إعلاميّ وقدرةٍ شيطانيةٍ في إلباس أهوائهم وشهواتهم ثوبَ الحقّ والعمومية وتحقيقِ مآربهم باسم الوطنية والتقدّم والمصلحة الاجتماعية.
حديثهم لا يكلّ عن المرأة في بلادنا وشؤونها وحقوقها المسلوبة بزعمهم والمصارعةِ من أجلها كما يقولون أو كما يصوّرون. يزعمون أنهم دعاة تحرير المرأة والمدافعون عن حقوقها، وهم في الحقيقة دعاة حرية الوصول إلى المرأة، والباحثون عن طرق استغلالها واستعبادها وإذلالها والتمكّن منها.
دعونا اليوم ـ أيها الأحباب ـ نلقي الضوء على بعض إفرازات وزبالات تلك المقالات والشعارات التي يرفعونها بين الحين والآخر؛ لنسبر غوارها ونكشف زيفها بحول الله وقوته.
يقولون: "لن تتقدّم أمةٌ نصفُها مصابٌ بالشلل، والمجتمع يمشي على عكّاز ويتنفّس برئةٍ واحدة"، ومرادهم أن منع المرأة مما تشاء من الأعمال تعطيلٌ لقوة نصف المجتمع وإهدارٌ لقدراتٍ وإمكاناتٍ هائلة في البلاد. وقد أسقطت هذه المقولة من حسابها المرأةَ الكبيرة التي لا تستطيع العمل ولو أُغريت به، والصغيرات اللاتي لا يستطعن ذلك، والمشغولاتِ بأمور بيوتهن وأطفالهن، والفتياتِ اللائي لم يتأهّلن بعدُ لذلك، فكيف يُقال: إن المجتمع يتنفّس برئة واحدة؟! ثم إن هذه المقولة الخطيرة تقلّل من النصوص الشرعية وتهوّن من شأنها ومكانتها؛ إذ إنها لا تعتبر عمل المرأة في منزلها عملاً مفيدًا مثمرًا للمجتمع، وقد رغّب الله المرأة وأمرَها بالقرار في بيتها، وجعل صيانتها لدارها ورعايتها لزوجها وأبنائها من أعظم العبادات وأشرفها، يقول : ((إذا صلّتِ المرأة خمسها وحصنت فرجها وأطاعت بعلها دخلت من أي أبواب الجنة شاءت)) رواه ابن حبان.
إنهم يقولون: "إن عمل المرأة في بيتها عملٌ ليس له مردودٌ ولا أجر، وهي خدمةٌ مجانيةٌ وعملٌ غير منتج"، وأحَصَوا وزوّروا التكاليفَ الباهظةَ لأجور السائقين ليمرّروا على السّذج والبسطاء التوفير الاقتصادي بقيادة المرأة للسيارة، وتعاموا عن ملايين الريالات التي تنفَق في أجور الخادمات في البيوت من جرّاء خروج الموظّفات والعاملات، حتى لا يطالِب المجتمع بقرار المرأة في بيتها.
إنهم يعدّون تربيةَ النشء وصناعة الأجيال والحفاظَ على الكرامة والاستقرارِ النفسيّ والاجتماعي للأسرة ليس بعملٍ مهم، ولا جدوى له ولا مردود من ورائه. هكذا ينظرون ويقدّرون ويَزِنُون، ولا عجب؛ فقد انتكست فطرهم، وفقدوا الرحم والتراحم.
إن للمرأة دورًا حيويًا في الحياة لا يقدر عليه الرجل؛ ألا وهو إنجاب القادة وصناعة الأبطال، وأنّى للرجل هذا الشرف والمكانة؟! ويا حسرتاه، فقد صرّح بالحق الفيلسوف الفرنسي أجوست كونت وتعامى عنه بعض بني جلدتنا، يقول: "ينبغي أن تكون حياة المرأة بيتيةً، وأن لا تكلّف بأعمال الرجال؛ لأن ذلك يقطعها عن وظيفتها، ويفسدُ مواهبها الفطرية. وعلى الرجال أن ينفقوا على النساء دون أن ينتظروا منهن عملاً ماديًا؛ ليتفرغن لأداء وظيفتهن من حملٍ ووضعٍ وتربية".
وفي الأسبوع الماضي عرضت إحدى القنوات العربية تقريرًا عن مجموعة من النساء الغربيّات العاملات اللائي اخترن التنازلَ عن العمل والعودةَ إلى المهنة الأشرف على وجه الأرض: الأمومة. لقد كنّ عددًا من الأمهات الناجحات في المحاماة والهندسة والمحاسبة والإدارة في قمّة المجد العمليّ والإنجاز الذاتي، ضحّين بالرواتب والمناصب والحوافز المادية لعيون طفل أو طفلة يريدون أمًّا حانية عوَضًا عن مربية غريبة.
وقبل عدة أشهر اعتزلت إحدى الممثّلات البارزات العمل السينمائي الذي يدرّ الملايين والشهرةَ والرفاهيةَ قائلةً كلمةً خالدةً غطّت أغلفة مجلات الفنّ: "لا أريد أن تفوتني ساعة واحدة من طفولة ابنتي".
معاشر الإخوة، نجاح المرأة في العمل قد يحقِّق لها بعض الزيادات الماليّة والطموحات الماديّة علاوة على الشعور بالإنجاز وإثبات الذات، ولكن أليس الإنجاز في الدار خيرًا من مكاسب الكرسي الدوّار؟! التصحّر العاطفي والتفكّك الأسري وعقوق الأبناء والشخصيات الضعيفة والأجيال الممزّقة قد تكون بعضًا من الآثار الجانبية لعمل المرأة، فهل يستحق الأمر أن يكون عملها أولوية بأي شكل من الأشكال، حتى على مستوى الاقتصاد الكلي هناك احتمالية ضخمة أن نكسب أُمًّا عاملة واحدة مقابل جيلٍ كسولٍ وهشٍ جاء نتاجَ تربيةِ الشغالات ولهاثِ الأمّ خلف حفنة من الريالات!!
كثيرٌ من الظواهر التي نلاحظها الآن في شبابنا الصغير كمثل اللامبالاة والدافعيةِ تحت الصفر وعدمِ تقدير المسؤولية والبساطةِ في انتهاك الآخرين والعدوانيةِ واضطراب الشخصيات وغير ذلك، ألا يفترض أن تثير هذه الظواهر والآفات القلق أكثر من محاولة إثبات أن لدينا نساء ناجحات حتى لو في مجالات مبتكرة؟!
يقولون: "لا بدّ للمرأة أن تساهم في التنمية الوطنية، وأن تشارك في سائر جوانب النهضة ومجالاتها". ونحن نقول: كانت المسلمة ولا زالت بحمد الله مشارِكةً مشارَكةً فعّالة في التنمية، وتلعب دورًا لا يستطيعه غيرها. ويدرك العقلاء والنّجباء أن التنمية لا تقتصر على النماء المالي والإنتاج المادي، وإنما يدخل فيها دخولاً أوليًا الثروةُ البشرية وتعليمُها وتدريبُها وحسنُ رعايتها، وأول خليةٍ للثروة البشرية لبنةُ الأسرة التي هي نواة المجتمع ونهره المتدفق، والمخططون لاقتصاديات المجتمعات يوصون دومًا بالمورد البشري تربيةً وتعليمًا ورعايةً جسديةً ونفسيةً وعقلية، ثم يلي ذلك التدريب والتطوير وإكساب المهارات، فمَنِ الأجدرُ والقادرُ بهذه الرعاية والعناية والتنمية؟! تقول الكاتبة الإنجليزية الشهيرة أنارودو: "لأَن تشتغل بناتنا اليوم في البيوت خوادم خيرٌ وأخفّ بلاءً من اشتغالهن في المعامل، حيث تصبح البنت ملوثةً بأدرانٍ تُذهب رونق حياتها للأبد، ألا ليت بلادنا كبلاد المسلمين فيها الحشمة والعفاف رداء، إنه عارٌ على بلاد الإنجليز أن تجعل بناتها مثلاً للرذائل بكثرة مخالطة الرجال، فما بالنا لا نسعى وراء ما يجعل البنتَ تعمل بما يوافق فطرتها الطبيعية من القيام في البيت وتركِ أعمال الرجل للرجال سلامةً لشرفها وحفاظًا على أنوثتها؟!".
ويغالطون ويقولون: "للمرأة نفس الدور الاجتماعي والاقتصادي الذي يضطلع به الرجل". ولتفنيد هذه المغالطة نقول:
أولاً: إن للمرأة دورًا لا يقوم به الرجل، وللرجل دورٌ لا تستطيع المرأة القيامَ به، وإهمالُ كلٍ منهما لدوره واشتغالُه بعمل الآخر تضييعٌ للجهود وإهدار للطاقات وجالبٌ للمفاسد والأضرار. ثمّ إن طبيعة المرأة ومسؤوليتها وما تتعرض له من تغيّراتٍ جسميةٍ ونفسيةٍ وصحيةٍ تحول بينها وبين انتظامها في عملها ومداومتها على ذلك، فتحتاج إلى إجازةِ الحمل والوضع والعدّة والنفاس، وإجازةِ مرافقة الطفل والزوج، وكلُّ ذلك يعدّ من مظاهر الإنتاجية المنخفضة للمرأة عند أرباب العمل.
ثانيًا: دلّت دراسات وظائف الأعضاء لجسم المرأة والرجل على اختلافات جذرية بين النوعين في تكوين الخلايا في خصائصها وتركيبها، عدا الاختلاف في الأنسجة والأعضاء والعظام من حيث قوتها وتركيبها. والمرأة معرّضة لتغيرات عضوية كثيرة في فترات الحيض المصحوبة بالآلام والأوجاع، وتعب الحمل والولادة والحضانة وغيرها.
ثالثًا: انشغال المرأة بأعمال الرجال سببٌ لانتشار البطالة وازديادها في صفوف الشباب، وهم بالأعمال العامة والوظائف أولى من النساء؛ لما يجب عليهم وما يتحملونه من تكاليف الحياة الاجتماعية المختلفة وبناء الأسر والنهوض بالأمة. وعجبنا من الجهود الحثيثة والفرص الواسعة لتوظيف النساء وتعليمهن مع إهمال شريحة كبيرةٍ من أبناء المجتمع لا يجدون مقاعد للدراسة ولا فرصًا شريفةً للعمل، والسعيد منهم من يعمل بأجرةٍ لا تفي بنفقة طعامه ومركوبه ولباسه.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
الخطبة الثانية
عباد الله، ألا نعتبر من حال دول الغرب ومثيلاتها من الدول العربية التي أطلقت للمرأة العنانَ؛ تعمل ما تشاء وحيثما تشاء؟! لقد خرجت المرأة في تلك البلاد في مسيرات حاشدة تطالب بالعودة إلى بيتها ومملكتها.
وأثبتت الدراسات العلمية الحديثة أن 70 في المائة من العاملات في أمريكا يتعرّضن للمضايقات والاعتداءات الجنسية، وأن 40 في المائة من الموظفات الكنديات يتعرضن للضرب أو الاغتصاب، وأن 325 ألف أمريكي تقل أعمارهم عن 17 عامًا يتعرضون سنويًا للاستغلال الجنسي. فمتى نعتبر؟! ومتى يرتدع المفسدون بأحوال ومآلات أولئك القوم؟!
إن الشرع الإسلامي الحنيف والمنهج الرباني الحكيم حين أباح للمسلمة التعلّم وحضّها عليه ودعاها إليه وحين أذن لها بالخروج من بيتها للعمل والكسب وضع لذلك كله ضوابط محكمةً وشروطًا صارمةً وقيودًا ساميةً، فعليها أن تتحلى بتقوى الله تعالى، وأن تراقبه في كل أحوالها، وأن تلتزم بشرعه في كل شؤونها، وأن تلتزم بحجابها الشرعي الساتر، فلا يظهر منها شيء من مفاتنها وزينتها، كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ [الأحزاب:59]، ويجب عليها أن تجتنب مخالطةَ الرجال والجلوسَ معهم والحديثَ إليهم بغير حاجة ولا خضوعٍ بالقول ولا تكسّر، فضلاً عن المزاح والضحك الذي نراه ونسمع به في كثيرٍ من المرافق والمؤسسات المختلطة ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ويحرم على المرأة أن تخرج لعملٍ بغير إذن وليها، لقوله تعالى: الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ [النساء:34]، أو أن تعمل عملاً يؤثّر سلبًا على واجباتها ومسؤولياتها، ولا بدّ أن يكون ذلك العمل مباحًا مشروعًا في أصله، متناسبًا مع تكوينها وطبيعتها، فلا خادمةً في الطائرة تخالط الرجال وتتكشف لهم وتسافر بغير محرم، ولا سكرتيرةً في مكاتبهم، ولا مندوبةً لتسويق البضائع في أسواق ومؤسسات الرجال، ولا موظفةً لاستقبال وتطبيب الرجال، بل المشروع للمرأة أن تعمل في وسط بنات جنسها، وأن تمارس ما تشاء مما لا يتعارض مع طبيعتها وأنوثتها من خلال منزلها، والعمل في البيوت عن بعد، والتي أصبحت أمرًا مشاعًا متاحًا في كثيرٍ من البلاد المنتجة المتقدمة، ولها أن تعمل في المحلات والمرافق المخصصة للنساء ولخدمة مثيلاتها، بالشروط والضوابط السابقة.
ولنعلم ـ أيها الأحبة ـ أن الخير كل الخير وأن السعادة والاستقرار والهناء وأن تنمية المجتمع ونهضة الأمة في اتباع شرع الله الحنيف والتمسكِ بدينه القويم، وأن أعظم محاور تلك النهضة والرقي والتقدم قيامُ المرأة برسالتها العظمى في منزلها ودارها، وصدق الله العظيم: فَمَنْ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى [طه:123].
ـــــــــــــــــــ(68/153)
المسلمون بين التميّز والتميّع
...
...
4730
...
الأسرة والمجتمع, قضايا في الاعتقاد
...
...
الاتباع, البدع والمحدثات, قضايا المجتمع
...
سعود بن إبراهيم الشريم
...
...
مكة المكرمة
...
18/1/1427
...
...
المسجد الحرام
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- قوة المسلم. 2- أهمية اتباع النبي . 3- خطورة البدع والمحدثات. 4- ضرورة مراجعة الأوضاع. 5- تأثير الإعلام الغربي على المسلمين. 6- حرمة مشاركة الكافرين في أعيادهم.
الخطبة الأولى
أما بعد: فإنّ الوصيّة المبذولة لنا ولكم ـ عباد الله ـ هي تقوى الله سبحانه وخشيته في الغيب والشهادة، ولزومُ هدي نبيّه ، وإيّاكم ومحدثات الأمور؛ فإنّ كلَّ محدثة بدعة، وكلّ بدعة ضلالة.
أيّها الناس، إنَّ قوَّةَ المسلم ورفعتَه وعلوَّ شأنه لتكمُنُ بوضوحٍ في مدى اعتزازِه بدينه وتمسُّكِه بعقيدَتِه وأخلاقِه ومبادئه، وبُعدِه عن لوثةِ التقليد الأعمى والتبعيةِ المقيتة وراء المجهول. وإنَّ على رأس الاعتزاز والرّفعةِ التي هي مطلَب منشود لكلّ مجتمع ـ بله المجتمعات المسلمة ـ هو الاتباعَ والاقتداء لهديِ المصطفى والبُعدَ عن الإحداث والابتداع، اتِّباعًا مِلؤه التأسِّي المخلِص والمحبّة الدّاعَّةُ إليه، اتباعًا يُشعِر كلَّ مسلم ومسلمةٍ أن الخضوعَ في الدين والخلق الأدب إنما هو لله الواحِدِ الأحد؛ إذ كيف يحلو دين لا خضوعَ فيه ولا اتباع؟! ومن هذا المنطلق جاءَت الوصيّة الكبرى من الخالقِ جلّ شأنه لعبادِه المؤمنين بقوله: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام:153]، فكلُّ سبيلٍ غير صِراط الله عليه شيطانٌ يدعو إِليه، فيحبِّب سالكيه إلى البدَع، ويبعِدهم عن السنّة، وهي مرحلة من مراحلِ المراغمةِ بين الشيطان وبني آدم، وغوايةُ الشيطان وحبائلُه كالكلاليبِ التي تتخطَّف السالكين إلى مستنقعاتِ الدون والعَطَب؛ ليقع فيها المرتابُ المتردّد الذي خَلِي وِفاضه عن أسس الاتّباع والتمسّك بالسنة النبوية، فإمّا أن يكونَ ضحيّةَ النكوص والاستهتار لأوّل وهلةٍ، أو أن يصبح كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ [الأنعام:71].
أيّها المسلمون، لقد كان مِن أسُسِ محبَّة الله جل وعلا من قِبَل عباده أن يجعَلوا من وسائل هذه المحبّة الاتباعَ الصادقَ لنبيّه ؛ ليحسنَ القصد ويصدُق الزّعم، كما قال تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ [آل عمران:31، 32].
ولِذا ـ عبادَ الله ـ كانت البِدَع والمحدثاتُ التي تقَع في المجتمعاتِ كالطوفان المغرِق، بيدَ أن السنّةَ الصّحيحة والاتِّباع الصادِق هما سفينةُ نوح التي من رَكِبها فقد نجا ومَن تركها غَرق، ولا عاصم من أمر الله إلا من رحم.
في الصحيحَين من حديث عائشةَ رضي الله عنها أنَّ رسول الله قال: ((مَن أحدث في أمرِنا هذا ما ليسَ منه فهوَ ردّ))، وفي روايةٍ لمسلم: ((كل عملٍ ليس عليه أمرُنا فهو ردّ)).
فهَذا الحديث ـ عبادَ الله ـ أصل عظيم جامع من أصولِ الإسلام، وهو كالميزان للأعمال في ظاهِرِها، فكلُّ عملٍ لا يكون عليه أمرُ الله ولا أمرُ رسوله فليس مِنَ الدين في شيءٍ. قال النوويّ رحمه الله: "هذا الحديث مما ينبغِي حفظه واستعمالُه في إبطال المنكرات وإشاعةُ الاستدلالِ به كذلك".
إنَّ الناظرَ في أحوالِ المسلمين ومبادِئِهم ليَحكُم حكمًا لا ريبَ فيه ولا فُتون بأنَّ أهل الإسلام لا بد أن يراجِعوا أوضاعَهم ليصحّحوها، وأنّ عليهم أن يكونوا أمّةً متبوعة لا تابعة، أمّةً لها ثقلُها الثقافيّ والأخلاقي، أمّة لها مصدرها ووِردها الخاصّ الذي لا يساويه وِرد ولا مصدَر في الوجود، أمّةً تسبِق جميعَ الثقافات والحضارات بما لديها من مقوِّمات الاعتزاز والرفعة والغلبة، لا سيّما على المستوَى العقديّ والأخلاقيّ.
ولقد جرَت عادة الأمم والمجتمعات أن تأنفَ من الخضوع لمن يُبايِنها في الأخلاق والعادات والمشارب وإن لم يكلِّفها من يمارسُ هذا الإخضاعَ بزيادةٍ عمّا تدين به، بل إنها تستَنكِره حتى تنأى عنه وتَبتَعِد، وكلّما ابتَعَدت عَنه كلّما اقتربت آدابُ ذويها وأخلاقُهم مِن بعض، فلم يعد للعوائدِ الأجنبيّة عنهم وِردٌ ولا صَدر، ولا تلتَفِت إليها هِمم النّاس.
غير أنّ الهيجَانَ الإعلامي العارم المتسلِّلَ لِواذًا بين المسلمين قد سارَق خواطرَ كثيرين منهم وأخذ بألبابهم وحَدّق بأبصارهم؛ حتى صارَ له من الوقع والتأثير في طرقِه ما لا يمكِن أن يكونَ من خلال مطارِقِ البأس والقوّة، بل إنَّ مِن المؤسف جدًّا أن تتمكّن هذه الثورةُ الإعلاميّة والتصارع الحضاريّ والثقافي المكشوفُ من إحداث تمازجٍ تسبّب في أخذ الرّعاع واللَّهازم من المسلمين بأيديهم عاصبين أعينَهم إلى ما لم يكن من أصولِ دينهم وعوائدِهم، ولا هو من مُرتَكزَاته، فمحَوا بذلك الفوارقَ بين المسلمين وغير المسلمين، وأنّ لِلمسلمين من التشريعِ والاعتقاد والاتّباع ما ليس لغيرهم، فاختلَط الحابل بالنابل، وعظُم التأثّر بالثقافة الإعلامية المستورَدَة، وصارَ البَعضُ مِن المسلِمين منهومين في تلقّي كلّ جديدٍ وغَريب دون فرزٍ ولا إدراك للكُنه وما يحمل في طيّاته من مسخٍ وإضعافٍ للانتماء.
فيا لله العجب! أيُّ صدمةٍ هذه التي تحلّ بكلّ غَيور على بني ملَّته، يرى في أضعافها التراجُعَ في الاعتزاز والامتياز أمامَ الغارة الأجنبيّة الكالحة، ويرَى المسارقة الحثيثة المثمِرةَ حِجابًا كثيفًا يفقِد بعضَ المسلمين هويّتهم وتميّزَهم الخلقي والعقدي، كلّ ذلك إبّان انحسارٍ في التوعيةِ أورثَ إرسال الحبالِ على الغوارب؛ ليحلّ ببعضِ المجتمَعات ما ذكره المصطفى بقوله: ((لتركَبنّ سننَ من كان قبلكم حذوَ القذّة بالقذّة، حتى لَو دخلوا جحرَ ضبٍّ لدخلتُموه))، قالوا: يا رسولَ الله، اليهود والنصارى؟ قال: ((فمن؟!)) رواه البخاريّ ومسلم، وليصدُقَ فيهم ما ذكَره ابن مسعودٍ رضي الله تعالى عنه حينَ قال: (أنتم أَشبَه الأمَمِ ببني إسرائيل سمتًا وهَديًا، تتَّبعون عمَلَهم حذوَ القذّة بالقذّة، غير أني لا أدري أتعبدون العجل أم لا).
ومَع ذلك كلِّه ـ عباد الله ـ فإنَّ لدى الناس من الفطرةِ والنشأة المتينة والتأصيلِ ما يمكن من خِلاله يقظةُ الوسنانين وإِذكاء مبدأ تدافع العوائِد والعقائد، والغلبةُ بلا شكّ للحقيقةِ التي لا تنقَطع بالمرّة، وإن خفَتَ توهّجُها حينًا بعد آخر إلا أنّنا نرى وميضَ برقها يلوح في أفئدةِ الغيورين من بني الإسلام وسطَ تلك الغيايات العارضة كلّما لاح في الأفقِ الوجه الناصِح والنذير العريان؛ حتى يتَّضح لكل رامقٍ أنّ صراع الثقافات وإن كان قويَّ الفتك لأوّل وهلةٍ إلا أنّه سريع العطَب أمام المعتزِّ بدينه وهويّته؛ إذِ الهوية المسلمة قد يعترِيها المرض أحيانًا غير أنها لا تموت قَطعًا، ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنْ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنكَ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ [الجاثية:18-20].
بارك لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم. قد قلت ما قلت، إت صوابًا فمن الله، وإن خطأً فمن نفسي والشيطان، وأستغفر الله إنه كان غفّارًا.
الخطبة الثانية
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبيّ بعده.
وبعد: فاتقوا الله معاشر المسلمين.
واعلموا أنَّ من الأمور المحزنةِ والقضايا المفزِعة انسياقَ بعض المسلمين وراءَ طبائع وعاداتِ ومعتقدات غير المسلمين، من خلالِ الانخراط معهم في أعيادِهم وعوائدهم التي حرَّمها دينُنا الحنيف، وحذّرنا أشدَّ التحذير من الوقوعِ في أتُّونها.
ومما يزيد الأمرَ عِلّةً والطينَ بلّة أن نرَى فئامًا من البُسَطاء ينساقون وراء ذلكم، فيحاكون مواقعِيها زاعمين أنَّ في ذلك نوعًا من المجاراة الإيجابيّة والتلاقح في العاداتِ والثقافات، فصال كثيرون وجالوا في ذلِك، حتى أصبح المرء يعرِف منهم وينكر.
وعلى رأسِ ما ينكره المرءُ العاقل هو التأثّر والتأثير في أعيادِ غيرِ المسلمين واستسهال مثل ذلك الأمرِ بحجّة أنَّ الانفتاح العالميَّ لم يضع بين الناس فوارقَ وخصائص، وأنَّ الاشتراك في الأعياد والمناسباتِ العقديّة لا ينبغي أن تقفَ دونَه المِلَل، وهذا أمرٌ جِدّ خطير.
وإِن شِئتم فانظُروا ـ يا رَعاكم الله ـ ما وقَع من التأثير فيما يُسمّى: "عيد الحبّ" أو "عيد الأمّ" أو ما شاكَل ذلك بين صفوف المسلمين دون أن يعلَموا حقائقها وما تتضمّنُه في طيّاتها من مخاطرَ على عقيدة المسلم وخلُقه، وما يقع فيه معاقِروها من مخالفةٍ لهديِ النبي وارتكابٍ لما نهى عنه من مخالفةِ غير المسلمين.
والمشاهدُ لأصداءِ ما يُسمّى: "عيد الحبّ" ليوقن حقًّا درجةَ الغفلة والسّذاجة التي تنتَاب شبابَ المسلمين وفتياتهم في السباقِ المحموم وراء العوائدِ الأجنبية عن دينهم، دون أن يكلّفوا أنفسَهم معرفةَ أصولِ تلكم العوائد.
ويَزداد الأسف حين يغيب الوعيُ عن كثير من ضحايا ذلكم التغريب بأنَّ أصلَ عيدِ الحبّ عادة احتفاليّة يرجع تاريخها في بعضِ الروايات إلى القرنِ الثالث الميلاديّ؛ إحياءً لذكرى رجلٍ رومانيّ كان يبرِم عقودَ الزواج سِرًّا لجنود الحرب الذين مُنِعوا من ذلك لئلاّ ينشغلوا بالزواج عن الحروب، حتى افتضحَ أمر ذلك الرجل، وحُكم عليه بالإعدام، فجعلوا يومَ إعدامه عيدًا وذِكرى يتهادَون فيها الورودَ ورسائلَ الغرام، بل تجاوز الأمرُ أبعدَ من ذلك، حتى صارَ يومًا للإباحيّة عند بعض غيرِ المسلمين، وهو في الوقت الحاضِر يُعَدّ يوم عيد للعشّاق والمحبّين، يعبِّرون من خلاله باللّون الأحمر في لباسِهم وورودِهم ورسائلهم وغير ذلكم.
ودينُنا الحنيف دينٌ سماويّ ورسالة عالميّة، لها أثرها الإيجابيّ في المجتمعات، فلم يكن الإسلامُ يومًا ما محلاًّ لحصرِ المحبّة في يومٍ واحد، أو محلاًّ للبرّ بالأم في ليلةٍ واحدة، بل إنّه دين المحبّة والبرّ والمودّة في كلّ آنٍ وحين، فلقد صَحّ عن النبيّ أنه قال: ((والذي نفسي بيدِه، لا تدخلوا الجنة حتى تؤمِنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابّوا)).
ثم إنَّ للإسلام من الخصوصيّة والامتياز ما لا يجوزُ في مقابلِه الوقوع في خصائص غيرِه، فإنَّ النبيَّ قدِم المدينة ولهم يومان يلعبون فيهما، فقال: ((ما هَذان اليومَان؟))، قالوا: كنّا نلعب فيهما في الجاهليّة، فقال رسول الله : ((إنَّ الله قد أبدَلَكما خيرًا منهما: يومَ الأضحى ويوم الفطر)) رواه أحمد وأبو داودَ والنسائيّ، وفي الصحيحَين أن النبي قال: ((إنّ لكل قوم عيدًا، وهذا عيدنا))، وقد صحَّ عن النبي أنّه قال: ((من تشبَّه بقومٍ فهو منهم)) رواه أحمد وأبو داودَ.
ومِن هنا نعلم ـ عبادَ الله ـ أنَّ المشاركين في مثلِ هذه الأعياد من المسلمين قد وقَعوا فيما نُهِي عنه، ويَكونونَ بذلك قد ارتَكبوا مفسدتين: أولاهما: مفسدَة موافقة غيرِ المسلمين، والثانية: مفسدَة ترك مصلحةِ مخالفتهم، والله جلّ وعلا يقول: وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنْ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنْ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنْ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا وَاقٍ [الرعد:37].
هذا، وصلّوا ـ رحمكم الله ـ على خير البريّة وأزكى البشرية محمّد بن عبد الله، فقد أمركم الله بأمر بدأ فيه بنفسه، وثنّى بملائكتِه المسبِّحةِ بقدسه، وأيّه بكم أيّها المؤمنون، فقال جل وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللّهمّ صلّ على محمّد وعلى آل محمّد، وارض اللّهمّ عن خلفائه الأربعة...
ـــــــــــــــــــ(68/154)
حرية الرأي وأثرها على بر الوالدين
...
...
4746
...
الأسرة والمجتمع
...
...
الوالدان
...
سليمان بن محمد آدم الهوساوي
...
...
مكة المكرمة
...
22/10/1426
...
...
مسجد الجود
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- الإسلام دين الحرية. 2- التضليل في مفهوم الحرية. 3- أثر الإعلام في نشر العقوق. 4- ذم العقوق. 5- تعجيل عقوبة العاق. 6- الأمر بالإحسان إلى الوالدين. 7- قصص من الواقع. 8- وصية للآباء.
الخطبة الأولى
اعلموا ـ معاشر المؤمنين ـ أن الدين الإسلامي هو الدين الصالح لكل زمان ومكان، كما أنه دين الحرية التامة للإنسان، الحرية الشاملة الكاملة في إطار ما أباح الله، من غير تعدّ للحدود، ولكن إعلام هذا العصر أفرز علينا حريّات أخرى مزعومة، تفضي بالإنسان إلى الخروج عما شرعه الله وحده، فقالوا بحرية الرأي وحرية الاختيار وحرية اتخاذ القرار، فبزعمهم أن الإنسان له حرية تامة في اختيار ما يريد من الأديان، وله الحرية التامة في التصرف في نفسه وماله، وله الحرية التامة بزعمهم في قول ما يشاء وفعل ما يشاء حينما يشاء، حتى بثّوا ونشروا بين الشباب والشابات حريةَ الذات والحرية الشخصية، وأمسى الآباء والأمّهات يقاسون الويلات من هذه الحريات، والتي بثّت لقتل منهَج البر بالوالدين، ولذا فقد انتشر ـ والعياذ بالله ـ عقوقُ الوالدين، حتى سمعنا عن ابن يسبّ أباه بل يضربه ويقتله، بزعم أنه حال بينه وبين حريته ولم يحترم شخصيتَه.
إخوتي في الله، لقد أدت القنوات والمسلسلات دورها في هذا العصر ففكّكت الأسر، وغرزت العقوق في نفوس الأولاد والبنات، وفي ظلّ غياب التربية الصالحة أنتجت المجتمعات أبناء عاقين وبنات عاقات، ينظرون إلى بر الوالدين نظرة تعدٍّ على الحرية الشخصية وعدم احترام الذات، فهذا شاب يعترض على أبيه، وتلك فتاة تصرخ في وجه أمها المسكينة، متناسيَين قوله تعالى: فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا [الإسراء:23].
إن العقوق ـ إخوة الدين ـ أمر عظيم، وكبيرة عظيمة من كبائر الذنوب، وذنب جليل لا يغفره الله عز وجل بل يعجّل لصاحبه العقوبةَ في الدنيا، كما جاء في الحديث عن أبي بكرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((كلّ الذنوب يغفر الله منها ما شاء إلاّ عقوق الوالدين؛ فإنه يعجل لصاحبه في الحياة قبل الممات))، وروى الترمذي بإسناد صحيح عن أبي بكرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله : ((ما من ذنب أجدرُ أن يعجلَ الله لصاحبه العقوبةَ في الدنيا مع ما يَدّخرُ له في الآخرة من البغي وقطيعةِ الرحم)) حديث حسن صحيح، وفي الحديث أيضا قال : ((ألا أنبّئكم بأكبر الكبائر؟)) وكرّرها ثلاثًا، قلنا: بلى يا رسول الله، قال: ((الإشراك بالله وعقوق الوالدين))، وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله قال: ((ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة: العاق لوالديه، ومدمن خمر، والمنان بعطائه، وثلاثة لا يدخلون الجنّة: العاق لوالديه، والديوث، والرجلة)).
إنّ العقوق ـ معاشر البنات والبنين ـ نكران للجميل وجحد للنعم ونكوص عن الفطرة السليمة، إذ كيف يجحَد الإنسان من أسدل له معروفا وأفداه بدنا وروحا؟! وما من أحد أكرم وأفضل في هذا المجال من الوالدين، فهما من بذل الغالي والنفيس من أجل هذا العاقّ الخسيس، ثم تنكّر لذلك بعدما كان نطفة في بطن تلك المسكينة التي حملته وهنًا وكرها، ومن بعد نطفة علَقة ثم مضعة ثم عظاما ثم كسِي لحما، تغذّيه من دمها، وتهديه من لحمها وشحمِها، ثم ولدته طفلا صغيرا ضعيفا لا يملك إلا أن يصرخ، ولدته بعد معاناة شديدة وكربات عصيبة، وكم رأت الموت مرات عديدة، ثم رعته طفلا رضيعا، ثديها ودمها له غذاء، وصدرها له وقاء، وحضنها له فراش وكساء وغطاء، تسهر إن نام، وتحزن إن مرض، وتبكي إن أصيب، حتى نشأ في كنفها وغدا شابا يافعا، فلما طرّ شاربه وقوي عوده كانت الأم المسكينة أولَ من هضم حقّها، وعومِلت بخلاف عمَلها، وأصبح من أفدته روحها يزعم أنّ له حريةً تفوق على أوامرها، وأن له رأيًا سديدا أفضل من رأيها، فهجِرَت الأم لذلك وعوديت، بزعم الحيلولة بين الأبناء وحرياتهم الشخصية.
وكذا الوالد المسكين، كم تعب من أجل فلذة كبده، وكم شقي من أجل كبره وفتوته، وكم عانى وعانى من أجل قرة عينه، فلما بلغ ما يريد أنكَره الجَحود، وعانده ابنه، ورأى رأيا غير رأيه، وادعى أن زمانه يختلف عن زمان الكهول والعجائز، ولم يعد الحال هو الحال السابق.
ألا فليعلم العاقون أنهم على خطر عظيم وهم لا يشعرون، فالعاق إنما يخرب دنياه وأخراه بتمسكه بالحرية الشخصية المزعومة، والتي مفادها الاعتراض على الوالدين وعدم الائتمار بأوامرهما والانتهاء عن نهيهما، وفي القصص أن الله سبحانه وتعالى امتحن جُريج العبد الصالح لما قدّم صلاته النافلة على أن يجيب على أمه، فكيف بمن يعترض ويسب ويشتم، بل ويضرب ويقتل والعياذ بالله؟!
جاء في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه عن النبي قال: ((كان جُرَيج رجلاً عابدًا، فاتخذ صَوْمَعة فكان فيها، فأتته أمه وهو يصلى فقالت: يا جُرَيج، يا جُرَيج، أنا أمّك كلّمني، فقال: يا ربّ، أمي وصلاتي! فأقبَل على صلاته فانصرفت، فلمّا كان من الغد أتته وهو يصلي فقالت: يا جُرَيج، فقال: يا رب، أمي وصلاتي! فأقبل على صلاته فانصرفت، فلما كان من الغدِ أتته وهو يصلى فقالت: يا جُرَيج، فقال: أي رب، أمي وصلاتي! فأقبل على صلاته فقالت: اللهم إن هذا جُرَيج وهو ابني، وإني كلمته فأبى أن يكلّمني، اللهم لا تمِته حتى ينظر إلى وجوه المُومِسَات))، قال: ((ولو دعت عليه أن يُفتَن لفُتِن))، قال: ((فتذاكر بنو إسرائيل جُرَيجًا وعبادته، وكانت امرأة بغي يُتَمَثَّل بحسنها فقالت: إن شئتم لأفتننّه لكم))، قال: ((فتعرّضت له فلم يلتفت إليها، فأتت راعيًا كان يأوي إلى صَوْمَعته فأَمْكَنَته من نفسها، فوقع عليها فحملت، فلمّا ولدت قالت: هو من جُرَيج، فأتوه فاستنزلوه وهدموا صومعته، وجعلوا يضربونه، فقال: ما شأنكم؟! قالوا: زنيتَ بهذه البغي فولدت منك، فقال: أين الصبيّ؟ فجاؤوا به، فقال: دعوني حتى أصلّي، فصلّى، فلما انصرف أتى الصبيَّ فطعن في بطنه، وقال: يا غلام، من أبوك؟ قال: فلان الراعي، قال: فأقبلوا على جُرَيج يُقبّلونه ويتمسّحون به، وقالوا: نبني لك صَوْمَعتك من ذهب، قال: لا، أعيدوها من طين كما كانت، ففعلوا)).
فتأمّلوا ـ رحمكم الله ـ كيف أن جُرَيجا وهو الرجل العابد التقيّ لما دعته أمه ولم يكن في لهو ولعب وعبث، بل كان في صلاة وعبادة، فلما لم يجبها وغضبت عليه ابتلاه الله وامتحنه، ولولا أنه كان من الصادقين لنكل به أشد تنكيل، ولكن رحمه رب العالمين، فكيف بشباب عصر الحضارة ممن يزعمون الحرية في الرأي والتصرف في الشخصية حتى على الوالدين؟!
إن الأبناء ليس لهم أي حق في رد ما أمِرَا به من ولديهما إلا أن تكون معصية ولو كانا مشركين، قال الله: وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [لقمان:15]. كما أنه ليس للأبناء أن يتأففوا من الوالدين في أي حال من الأحوال: فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنْ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا [الإسراء:23، 24].
يقول العلامة السعدي رحمه الله في تفسير قوله تعالى: وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [الإسراء:23]، قال: "ثم ذكر بعد حقّه القيام بحقّ الوالدين فقال: وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا أي: أحسنوا إليهما بجميع وجوه الإحسان، القول والفعل، لأنهما سبب وجود العبد. إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا أي: إذا وصلا إلى هذا السنّ الذي تضعف فيه قواهما ويحتاجان من اللطف والإحسان ما هو معروف فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ، قال: وهذا أدنى مراتب الأذى نبّه على ما سواه، والمعنى: لا تؤذِهما أدنى أذية، وَلا تَنْهَرْهُمَا أي: لا تزجرهما وتتكلم معهما كلاما خَشِنا أو فاحشا، وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا أي: بلفظ يحبّانه، وتأدّب وتلطّف معهما بكلام ليّن حسن يلذّ على قلوبهما وتطمئنّ به نفوسهما. ثم قال تعالى: وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنْ الرَّحْمَةِ أي: تواضع لهما ذلاّ لهما، ورحمة واحتسابا للأجر فيهما، وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا أي: ادع لهما بالرحمة أحياء وأمواتا، جزاء على تربيتهما إياك صغيرا".
ألا فانظر وتأمل في تفسير هذه الآية الكريم لتدرك أن الحقّ عليك في والديك عظيم عظيم، وبرهما واجب كبير، والنكران لهما جحود وكفر لنِعَم الجليل.
وإنه لحق على الله أن يجازي العاق بعقوقه إن لم يتب ويسترضي والديه، حق على الله أن يقيض للعاق من يعقوه من أبنائه في قابل عمره، وحق على الله أن يلعن من لعن والديه أو اعتدى عليهما في حقهما، إلا من تاب وآب فإن الله يتوب عليه وهو التواب الرحيم.
وإن ما ذكر من القصص في ذلك لبيّن لا يخفى، وحسبي وحسبكم قصة شاب كان كثيرًا ما يلهو ويلعب ويشتغل بالمنكرات والمعاصي، وكان له أب طالما وعظه ونصحه وذكّره بالله، فلما ألح عليه ذات يوم ما كان من ذلك العاق إلا أن رفع يده ولطم أباه؛ لأنه حال بينه وبين حريته الشخصية، فأقسم بالله ليخرجن إلى البيت الحرام ويدعوَ عليه، فأتى البيت الحرام فطاف به ثم أنشأ يقول:
يا من إليه أتى الْحجاج قد قطعوا عرض المهامه من قرب ومن بعد
إنِّي أتيتك يا من لا يَخيب من يدعوه مبتهلاً بالواحد الصمد
هذا مُنازل لا يرتد من عققي فخذ بِحقي يا رحمن من ولدي
وشلّ منه بِحول منك جانبه يا من تقدّس لَم يولد ولَم يلد
قيل: ما أتمّ كلامه حتى يبس شقّ ولده الأيمن جزاء ما فعل بأبيه.
ألا فاحذروا من العقوق كثيرَه وقليله وجدّه وهزله، وابتغوا بالوالدين الجنة، وادعوا المولى القدير أن يوفّقكم لما يحبّ، إنه قريب مجيب.
بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة، وهدانا سبحانه ووفقنا لبلوغ الجنة، أقول قولي، وأستغفر الله فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو التواب الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله وكفى، والصلاة والسلام على نبيه الذي اصطفى، وعلى آله وصحبه ومن اقتفى أثرهم واتبع الهدى.
وبعد: معاشر الآباء، فإنه كما يوصَى الأبناء بالبر وعدم العقوق كذلك يوصى الآباء بالجدّيّة في التربية.
إن على الأب الكريم أن يربّيَ ابنه تربية صالحة، وينشئه تنشئة جادة سوية، يرعاه بأوامره ونواهيه حال طفولته، ويشاوره ويحاوره في حال فتوّته وكبره، إذ إن التسلّط والتجبر على الأبناء حال كِبَرهم سبب في عصيانهم وعقوقهم، حتى ولو كان الابن مأمورا بالطاعة في جميع الأحوال، ولكن ليكن الأب بتصرفاته وأخلاقه مساعدًا لابنه على برّه والإحسان إليه وتقبّل رأيه وعدمِ الاعتراض عليه.
وإلى جانب ذلك كله ما على الإنسان إلا أن يبذل ما في وسعه لتربية أبنائه متوكلا على الله سبحانه، رافعا يديه إليه آناء الليل وأطراف النهار وفي كل صلاة وعبادة أن يرزقه برّ أبنائه وحسن رعايته حالَ كبره، فالله سبحانه سميع قريب مجيب.
اللهم إنا نعوذ بك أن نَعُقّ أو نُعَقّ أو نظلم أو نظلم أو نجهل أو يجهل علينا، اللهم ارزقنا بر والدينا واغفر لهما وارحمهما كما ربيانا صغارا.
اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك اللهم على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد...
ـــــــــــــــــــ(68/155)
مشكلاتنا الاجتماعية
...
...
4754
...
الأسرة والمجتمع
...
...
قضايا المجتمع
...
عبد العزيز بن محمد القنام
...
...
وادي الدواسر
...
12/4/1426
...
...
جامع النويعمة القديم
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- سلوكيات جديدة في المجتمعات الإسلامية. 2- كثرة المشكلات الاجتماعية. 3- صور من المشكلات الاجتماعية. 4- ضرورة الحديث عن هذا الموضوع. 5- أسباب هذه المشكلات.
الخطبة الأولى
أما بعد: فأوصيكم ـ عباد الله ـ ونفسي بتقوى الله الملك العلام؛ فإن تقواه سبحانه عروة ليس لها انفصام وجذوة تنير القلوب والأفهام، وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ [النساء:1].
معاشر المسلمين، إن المستقرئ للأوضاع الاجتماعية في كثير من المجتمعات الإسلامية ليدرك أنه في خضم المتغيرات الاجتماعية وفي ظل تداعيات النقلة الحضارية وفي دوامة الحياة المادية ومعترك المشاغل الدنيوية حدثت أنواعٌ من السلوكيات والأنماط الخطيرة التي يُخشى أن تؤثر في اختلال نظام الأمة الاجتماعي، ويأتي الانفتاح العالمي والأخطبوط العولمي ليذكي غوار هذه السلوكيات ويشعل هذه السلبيات؛ مما يؤكد أهمية تمسك الأمة بعقيدتها وقيمها الحضارية وأخلاقها الاجتماعية الأصيلة.
فلقد كثرت مشكلاتنا الاجتماعية في حياتنا وبلادنا الإسلامية، وجدّت، وقويت، وتعاظمت في كثيرٍ من مجتمعات المسلمين صورٌ وأنماطٌ وأخلاقٌ، ليست من الإسلام في شيء، وأصبحت تلقي بظلالها على تلك المجتمعات، وتفرض قيمها فيها، وتحكم أوضاعها، وتقوم مسيرتها في كثيرٍ من أحوالها، ولم يكن لكثيرٍ من هذه المجتمعات عهدٌ بمثل هذه المخالفات، ولم يكن لها قبولٌ بينها، بل كانت تعافها القلوب، وتشمئز منها النفوس، وترفضها العقول، وينكرها الصالحون والمصلحون، ولكنها تسللت شيئًا فشيئًا، وبدأت قليلاً ثم صارت كثيرا، وأول الغيث قطرةٌ ثم ينهمر، ومعظم النار من مستصغر الشرر، ولعلنا اليوم لا نحتاج إلى كثير جهدٍ ولا إلى عميق تفكيرٍ لنعدد مثل هذه المشكلات، أو لنضرب الأمثلة عليها، أو لنرى آثارها الوخيمة وأضرارها العظيمة التي تفجرت في مجتمعاتٍ إسلاميةٍ كثيرة.
إهمال الآباء وغياب الأمهات شكوى ظاهرة وصورةٌ واضحة، كم من الأبناء تاه، وكم من الفتيات ضِعن لعدم وجود أبٍ مربٍّ، أو أمٍ راعية. تفلّتت الأسرة عندما غاب عنها قائدها وربانها، فهو المسؤول، وهو القائد، وكم رأينا أيضًا من صورٍ أخرى مقابلة؛ عقوق الأبناء وضياع البنات ناتجٌ من أثر ذلك، وكم رأينا صورًا كثيرةً في خارج دائرة الأسرة، إلى دائرة المجتمع، إلى صورٍ كثيرة، ظلم الرجل، وقهر المرأة، تسلّط المرأة، وغياب الرجولة، غيرةٌ جائرة، أو دياثةٌ فاجِرة، طلاقٌ سريع، أو تصدعٌ مريع، أسرٌ مفكّكة، وأجيالٌ مضيّعة، فراقٌ قاتل، وبطالةٌ آثمة، شهواتٌ ثائرة، وفواحش ظاهرة، أمانةٌ زائلة، وأخلاقٌ زائفة، صورٌ كثيرةٌ مريرةٌ دامية، نراها في واقع كثيرٍ من مجتمعاتنا، لم تعد تلك المجتمعات التي تنعم بالصفاء والسلام، لم تعد تلك الأسر التي تظلّلها المحبة والوئام، لم تعد تلك العلاقة التي تمتد من الأبناء إلى الأباء بالاحترام، ومن الآباء إلى الأبناء بالرعاية والإكرام، لم نعد نرى صور الشباب الذي كان يخوض ميادين العلم ليكون مبرزًا متفوقا، والذي كان يخوض ميادين الجهاد ليكون فارسًا مؤثرا، والذي كان يخوض ميادين الحياة الإنسانية ليكون متقدمًا سابقا، لقد صرنا اليوم نشكو من طفولةٍ ليس لها همٌ إلا اللهو واللعب، ومن شبابٍ ضائعٍ ليس له هدفٌ ولا غاية، وليس له منهج ولا رسالة، وكل ذلك يتفرّع منه كثيرٌ وكثيرٌ من الصور، ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الروم:41]، سنة الله عز وجل، إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ [الرعد:11]، أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ [آل عمران:165].
عندما غابت هذه السنن لم نفقهها، ولم نحرص على رعايتها، مضت فينا سنة الله، وجرت علينا أقدار الله، فتغيرت القلوب، وتحولت النفوس، وانحرفت السلوكيات، وتغيرت وتبدلت الأخلاقيات، وصرنا نشكو من صورٍ كثيرةٍ ومن أضرارٍ عظيمة، وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ [الشورى:30]. ولو أن الله جل وعلا حاسب أمة الإسلام على كل تفريطٍ منها وتقصير وعلى كل جحودٍ ونكود ما ترك على ظهرها من دابّة، ولكنه سبحانه وتعالى يربي الأمة ببعض البلاء، ويربيها بما يقع عليها من أثر مخالفة أمره ومخالفة نهجه سبحانه وتعالى.
إنّ المتأمل يجد هذه الصور، وهي تفرز حقائق واضحة، والذي يدعونا أن نتحدث بمثل هذا الحديث، ونخوض في مثل هذا الموضوع زيادة الظاهرة واتساع الخرق على الواقع، حتى قال أحد الأدباء المربين الذين لهم خبرةٌ عظيمةٌ في مجال التربية والتعليم وفي مجال الأدب والتهذيب معلنًا عن ضخامة هذا الأثر وعن عظم اتساع الخرق، وهو يبين أن مثل قوله وحده وأن مثل كتابته أو خطبته وحده مع نفرٍ قليلٍ لا يجدي نفعا ولا يغير واقعًا، فيقول: "اخطبوا ـ أيها المدرسون ـ ما وسعكم الجهد، واهرؤوا من فسح لكم سبيل الهراء، وقولوا للشباب: كن صيّنًا عفيفًا، إنها لن تجدي عليكم خطبكم، ولا يستقر في نفسه هراؤكم، إنه يخرج فيسمع إبليس يخطب خطبةً بلغة الطبيعة الثائرة، في السوق على لسان المرأة المتبرجة، وفي الساحل على لسان الأجساد العارية، وفي السينما على لسان المناظر المتهتكة المثيرة، وفي المكتبة على لسان الجريدة المصورة، والرواية الخليعة الماجنة، وفي المدرسة على لسان أصحابه الفساق المستهترين، ثم يقول مسلّطًا الضوء على حقيقة الواقع في حياة أكثر المجتمعات الإسلامية إلا ما رحم الله: بناء الأخلاق فيها وسوق الزواج يبور، ونسل الأمة ينقطع، والمخازي والرذائل تعم وتنتشر، وليس هذا مبالغة، وليس هذا خيالا لرجلٍ مريضٍ أو متشائم، وإنما هو رسمٌ لبعض ملامح الواقع الذي تفشّى في مجتمعاتٍ إسلاميةٍ كثيرة".
ولعلنا نذكر أيضًا بعض الحوادث التي دعت إلى مثل هذا الحديث عندما كثر حديث الناس، وكثرت شكواهم، وظهرت بعض الصور التي تهزّنا هزًا، وتدعونا ونحن بحمد الله عز وجل في خيرٍ كثير، ونسلم من شرٍ كثير، لكن الفتنة بدأت تطرق أبوابنا، والمشكلات بدأت تطل علينا برؤوسها، ولعلنا إن لم نخش الله سبحانه وتعالى ونتخذ من أسباب الحيطة والحذر ومن أسباب الوقاية والعلاج ما يلزم فلعلنا نصيح يومًا ونقول: "أُكلت يوم أُكل الثور الأبيض"، ولعلنا نعضّ أصابع الندم كما يعضّها غيرنا في بلادٍ إسلاميةٍ وغير إسلامية، عندما انفرط الحبل على غاربة، وعندما ضاعت معالم الأخلاق الفاضلة والمبادئ والقيم السامية، فلننظر إلى بعض الآثار الواضحة التي يعاني منها كثيرٌ من الناس وبدأنا نشعر بآثارها، وبدأ يصلنا لفحها ولهيبها، ألسنا نرى همًا في القلوب وحيرةً في النفوس انعدمت معها طمأنينة القلوب وسكينة النفوس؟! أليس ذلك مصداقًا لحديث النبي الذي روي عن حذيفة مرفوعًا: ((تعرض الفتن على القلوب كالحصير عودًا عودا، فأيما قلبٍ أُشربها نُكت فيه نكتةٌ سوداء، فإن تاب واستغفر صقل منها، وإلا أصبح قلبه أسود مربادًا، كالكوز مجخيًا، لا يعرف معروفًا، ولا ينكر منكرًا، إلا ما أُشرب من هواه))؟! أليس قد أظلمت القلوب واسودت النفوس وتجهمت الوجوه وغاض ماء الحياة فيها؟! ألسنا نرى تلك الفضاضة والغلظة؟! ألسنا نرى ذلك التكدر والتعصب وذلك السوء في الخلق الذي انعكس من أثر ما على القلوب من الهموم وما ران على النفوس من الغموم؟!
إننا نلمح ذلك، ونتلمس أنفسنا، ونحاول أن نقارن بين القمة السامقة التي ينادي بها القرآن الكريم ويدعونا إليها وبين واقع الحال الذي نعيشه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ [الأنفال:29]، أي: يجعل لكم من قلوبكم النقية وفطركم السوية ما تميزون به بين الحق والباطل، فتنقبض النفوس وتجزع القلوب من أيّ منكرٍ عارضٍ لو لم يقم عندها عليه دليلٌ من الشرع أو معرفةٌ بحكمٍ من آيةٍ أو حديث، فكيف بنا ونحن نعرف الآيات والحديث؟! لكن القلوب لم تعد منكرة، والنفوس لم تعد متغيرة، بل وإن السلوك أصبح يجاري ويوافق إن لم يمارس ويفعل إن لم يدعُ ويجاهد، نسأل الله عز وجل السلامة.
ألسنا نرى دوامًا في الاضطراب وتزايدًا في القلق؟! ألسنا نرى حال كثير من الناس اليوم لم يعد فيه استقرار؟! وبالتالي فإن كلمةً واحدة كفيلة بأن تفجّر غضبًا، كأنما هو بركانٌ محبوس. إن في النفوس من العلل والأدواء ومن أثر أمراض الشهوات والخروج عن دين الله عز وجل أثرا عظيما أخبرنا الله عز وجل به في شطر آية: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى [طه:124].
إننا عندما نتأمل نجد أيضًا فحشًا في الأقوال وعنفًا في الأفعال، ألسنا نرى اليوم رجالاً يضربون نساءهم كما يضرب الرجل دابته وبهيمته؟! ألسنا نرى آباء يريدون أن ينهجوا نهجًا من التربية يظنونه قويمًا لكنهم قد اختلطت عليهم الأمور والتوت عليهم المسالك، فإذا بهم يجلدون أبناءهم كأنما هم يريدون قتلهم؟! ألسنا نرى تلك الكلمات من قاموس الفحش والسب واللعن والغمز واللمز والغيبة والنميمة حتى صارت هي الشائعة، فلا تكاد الأذن تسمع غيرها، ولا يكاد القلب يتلقى سواها، حتى أصبحت كما قال عروة بن الزبير رحمه الله: "رأيت ألسنتهم لاغية، وآذانهم صاغية، وقلوبهم لاهية، وأديانهم واهية، فخشيت أن تلحقني منهم داهية"، وحسبكم داهيةً بمثل هذه الدواهي؟! ألسنا نرى أيضًا انحلالاً في الخلق واختلالاً في الأمن بدأ يسري إلى مجتمعات المسلمين ويستحكم فيها، فلم تعد ثمة فضيلةٍ يُحرص عليها، ولا أمنٌ يستتب ويشيع، فإذا نحن نرى للفواحش ظهورًا، بل لها في بعض بلاد المسلمين وللأسف قوانين تحميها ودساتير تنظمها، زعموا ذلك حضارة أو تقدمًا، أو زعموه حريةً شخصيةً، أو غير ذلك؟! ألسنا نرى جريمةً تعدّت اليوم الفواحش من زنا ولواط إلى شذوذٍ، بل إلى اغتصابٍ، بل إلى قتلٍ وسرقةٍ ونهبٍ؟! ألسنا نرى المخدرات تفتك بشباب الأمة وشاباتها؟! ألسنا نرى ونرى ونرى آثارا من آثار تلك المشكلات؟! وكذلك غيابٌ في القيم وفسادٌ في الأعراف، ولعلنا لا نريد أن نكثر الشكوى، ولا نريد أن نعدد صور المأساة، ولكننا أيضًا لا نريد أن نكون كالنعامة تدس رأسها في التراب إذا داهمها الخطر، فالخطر يحدق بها وهي لا تراه، وتظن بأنها بذلك تحسن صنعًا.
إنه ليس لنا بحالٍ من الأحوال إلا أن نصارح أنفسنا بما جدّ في واقعنا، وبما ظهر من انحرافٍ في بيئتنا، وأن نتكاتف ونتعاون جميعًا؛ لأنه كما قال ذلك القائل: "فليخطب الخطباء"؛ فإن خطبهم وحدها لا تكفي، لكنها جزءٌ من تربية الآباء مع رعاية الأمهات، ومع دور المدرسين والمدرسات، ومع تكاتف جهود الصحف والجرائد والمجلات، إلى غير ذلك من تكاملٍ، ما لم نأخذ بأسبابه فإننا نخشى أن تصيبنا تلك الداهية، وأن تعمنا تلك البلايا والرزايا التي عمّت كثيرا من المجتمعات، وبدأت تشكو منها.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، أحمده على إحسانه، وأشكره على جزيل توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا وحده لا شريك تعظيمًا لشأنه، واحد في أسمائه وصفاته، واحد في وحدانيته وربوبيته، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، اللهم صل عليه وعلى آله وأصحابه والأنبياء إخوانه، وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم يلقونه.
أما بعد: فاتقوا الله يا عباد الله.
ثم اعلموا أنني ـ أيها الإخوة الكرام الأحبة ـ وأنا أطرح مثل هذا الموضوع على أسماعكم لا أريد أن نتّجه به اتجاه الصراخ والدعاء بالويل والثبور وعظائم الأمور ورفع الصوت عما جرى من تهتكٍ في الأخلاق أو تسيبٍ في المعاملات أو غير ذلك، فإن ذلك لا يجدي نفعًا، ولكننا نريد أن نناقش مثل هذه الموضوعات بموضوعيةٍ، نبحث فيها عن الأسباب، ونتلمس فيها العلاج، ونلقي بالمسؤولية على الجميع، كلٌ بحسبه، وندعو أنفسنا جميعًا إلى التعاون والتكاتف وتبادل الآراء والأخذ بالأسباب العملية؛ فإن الأمر يهمنا جميعًا، وإن خيره يغمرنا بإذن الله عز وجل جميعًا، وإن ضرره لا يسلم منه أحدٌ منا وإن لم يقم به ولم يقترفه، فإن الشر يعمّ أثره ويعمّ ضرره وإن كان الإنسان يتوقى منه؛ ولذلك ليس حديثنا هو إشارةٌ للموضوع، وإنما هو بدءٌ بذكر بعض الصور وذكر بعض الآثار والتعريج على بعض الأسباب، حتى نخلص بعد ذلك إلى كل مشكلةٍ على حدة، ونتعاون جميعًا فيما يتعلّق بعرضها ومعرفة أسبابها وعلاجها، ولا يتم ذلك إلا بمثل هذا التعاون والتواصي بالحق والتواصي بالصبر، وذلك هو سمة الأمة الإسلامية في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتعاون على البر والتقوى الذي دعانا الله عز وجل إليه، ولست في مقام الإفاضة في الأسباب، ولكنني أذكر أهم الأسباب التي ترجع إليها أكثر المشكلات، وسنعود عند كل مشكلةٍ إلى ذكر أسبابها، وأعظم الأسباب وأهمها:
أولا: ضعف التدين، وهو بداية كل مشكلة وأساس كل انحراف، وذلك يظهر في صورٍ كثيرة، منها: الجهل بالدين، فكثيرٌ لا يعرفون حلالاً وحراما، ولا يعرفون مسؤوليةً وواجبا، وكثيرٌ يجهلون بعض الأحكام والآداب والتوجيهات التي دُعُوا إليها، حتى من كان على مستوى عالٍ من الشهادات العلمية التخصصية؛ فإنه وللأسف تجد كثيرًا منهم لا يعرفون أبسط الأمور من التوجيهات والآداب والسنن النبوية التي رسمها النبي في بناء الأسر وفي تربية الأبناء وفي العلاقات مع المجتمع، حتى أن طبيبًا متخصصًا تدرس ابنته في إحدى المدارس فيعلمونها الأذكار والأدعية الواردة عن خير الخلق عليه الصلاة والسلام عند النوم وعند الاستيقاظ وعند دخول الخلاء وعند الخروج منه وعند ركوب السيارة وعند النزول منها إلى غير ذلك مما ورد عنه عليه الصلاة والسلام، وكانت ابنته الصغيرة تريد أن تدخل إلى بيت الخلاء مرةً ثم خرجت مسرعةً، فارتاب من شأنها فسألها، فقالت له: إني نسيت هذا الدعاء قبل أن أدخل إلى بيت الخلاء، وهو يحكي هذا لزميلٍ له طبيب ويقول له: إنهم يحفّظونهم في المدرسة أذكارًا وأدعية كثيرة، هل هذه كلها قد قالها رسول الله عليه الصلاة والسلام؟ لم يسمع بها من قبل، ولم يتصوّر أن النبي عليه الصلاة والسلام قد ذكر لنا في كل حالٍ ووضعٍ ذكرًا نتّصل فيه بالله، ونذكر الله سبحانه وتعالى فيه. وليس هذا فقط من ضعف التدين والجهل بالدين، وإنما أيضًا العمل والالتزام، فكم هي الأمور التي نعلمها ويعلمها كثيرٌ من الناس ثم يخالفونها بأفعالهم، ويرتكبون ما يضادّها ويعارضها، وهم يعلمون علم اليقين بحرمتها أو بكراهتها، وليس ذلك فحسب، بل التأثير، فإن بعض الناس قد يعلم وقد يعمل، ولكن يغيب عنه التأثير الإيماني الذي ينبغي أن يكون من أثر العلم والعمل؛ خوف من الله عز وجل، تعلّق بالآخرة، إيثار لها، زهد في الدنيا، مراقبة لله جل وعلا، عندما لا تترسخ هذه المعاني من أثر العلم والعمل يمكن بعد ذلك أن تنحرف.
ثانيا: المرجعية الإسلامية، كثيرٌ من الناس يتصرّفون قبل أن يرد على ذهنه أن يسأل: هل هذا التصرف يوافق الإسلام أم لا يوافقه؟ فهو لم يعد يتصور أن هذه الأمور وأن كثيرًا من تصرفات الحياة يحتاج فيها إلى معرفة حكم الإسلام، قد صار الناس منفلتين يعملون ما يشاؤون، لا يشعرون أنهم في حاجةٍ إلى مرجعيةٍ دينية، وبعد ضعف التدين فساد الفطرة الذي ظهر كما قلنا من ظلمة القلب ومن أهواء النفوس، فنحن اليوم في زمنٍ أكثر أحوال الناس فيه أهواء النفوس التي تتحكم والشهوات هي التي تحكم وتفصل، لم يعد ثمة ضابط، لم يعد ثمة عقلٍ كابح، لم يعد ثمة فطرةٍ تأنف وتعاف، حتى قد كان أهل الجاهلية فيهم من أثر الفطرة بعض خيرٍ ربما غاب وفُقد عند بعض المسلمين، فهذه هند بنت عتبة وقد كانت من هي في كفرها، وهي التي سعت وفرحت بقتل حمزة بن عبد المطلب عم النبي ، عندما جاءت تبايع النبي فبايع النساء على أن لا يزنين، فجفَلت هند بنت عتبة وهي بين الجاهلية وانتقالها إلى الإسلام وقالت صارخةً مستنكرة: أوَتزني الحرّة؟! أمرٌ غير مقبولٍ قبل أن يكون بالدين بالفطرة السوية، بالنفس البشرية الإنسانية التي لا تقبل مثل هذا الوحل، ولا مثل تلك القذارة والنجاسة والدناءة بفطرتها وطبيعتها.
ثالثا: انحلال الخلق، وأعظمه انعدام الحياء، وحسبنا تلك الكلمات الوضيئة العجيبة المعجزة التي قالها الرسول : ((إذا لم تستح فاصنع ما شئت))، وكما قال عليه الصلاة والسلام في الصحيح: ((إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت))، وقال عليه الصلاة والسلام: ((الحياء والإيمان قرناء جميعا، فإذا نزع أحدهما نزع الآخر))، وخص الحياء بالذكر من بين شعب الإيمان كلها عندما قال: ((أعلاها لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى من الطريق، والحياء شعبة من الإيمان)). ما هي السمة التي تجمع بين الرجل الديّوث والمرأة المتبرجة والابن العاق وغير هؤلاء؟ إنه انعدام الحياء الذي لا يجعل تحفظًا في عورة، ولا توقفًا في كلامٍ فاحش، ولا إحجامًا عن فعلٍ رذيل، إنه الحياء الذي إذا انهار انهارت معه سدودٌ وسدودٌ وسدود، يعمّ بعدها سيل الفساد الكاسح الذي يغير ويدمّر كل شيء إلا ما أذن الله عز وجل ببقائه بعصمة إيمان والتزام إسلام وفضيلة خلق.
وأمرٌ ثانٍ في شأن انحلال الخلق هو تغير الموازين، أليس اليوم قد صار العري حضارة وتقدمًا وفنًا، وصار الكذب شطارةً وفهلوةً وحذقا، وصارت الخيانة تدبيرًا وإحكامًا وفنًا، وصار الصدق غباءً وبلادةً، وصار العفاف جبنًا وخوفًا، إلى غير ذلك مما انقلبت به الأحوال؟! فأدى ذلك إلى أن صاحب الخلق القويم يجد نفسه محاطًا بمثل هذه المسميات ومثل تلك الموازين المنعكسة المنقلبه.
ولعلنا نجد من الأسباب ما هو أكثر من ذلك، ولكن هذه أسسها وأعظمها؛ فإن ضعف التدين وفسدت الفطرة وانحل الخلق فكل ما وراء ذلك يأتي تبعًا له.
فنسأل الله عز وجل أن يقوي إيماننا، وأن ينقي فطرنا، وأن يقوي أخلاقنا، ونسأله سبحانه وتعالى أن يسلمنا من الفواحش والفتن ما ظهر منها وما بطن، ونسأله عز وجل أن يحفظ أزواجنا وأبناءنا وبناتنا، وأن يحفظنا بالإسلام قاعدين، وأن يحفظنا بالإسلام في كل أحوالنا، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
ألا وصلوا وسلموا ـ رحمكم الله ـ على النبي المصطفى والرسول المجتبى، كما أمركم بذلك المولى جل وعلا، فقال تعالى قولاً كريمًا: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم على سيد الأولين والآخرين وأفضل الأنبياء والمرسلين نبينا وحبيبنا وقدوتنا محمد بن عبد الله، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين...
ـــــــــــــــــــ(68/156)
تحذير العباد من ضروب الفساد
...
...
4765
...
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
...
...
الإعلام, الكبائر والمعاصي, قضايا المجتمع
...
عبد الرحمن السديس إمام الحرم
...
...
مكة المكرمة
...
17/2/1427
...
...
المسجد الحرام
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- دعوة الشريعة الإسلامية للبناء والتعمير. 2- حقيقة الإفساد. 3- الشرك بالله أعظم الفساد في الأرض. 4- الغزو الفكري والثقافي والأخلاقي. 5- الإعلام الهدام. 6- أسلحة الدمار والخراب. 7- المعاملات الربوية. 8- إفساد الفئة الضالة. 9- الحروب واحتلال الشعوب. 10- انتهاك حرمة الكتب والرسل. 11- دعاوى حقوق المرأة.
الخطبة الأولى
أما بعد: فإنّ خير ما يُوصى به ويدَّكر ويوعَظ به يزدجر تقوى الإله الذي عزّ واقتدر، ألا فاتقوا الله عباد الله، واحذروا سوء العقبى والردى، واجتنبوا الغفَلات فإنها للطاعات مُدى، واسعوا لأُخراكم كأنّكم تنقلبون غدًا.
أيّها المؤمِنون، أوانَ هَدأةِ الفكر وانبِلاج المسالِكِ وشَفافيّة الروح وسَبحِ المدارك وسَاعةَ استلهامِ النفس المسلِمة مَعاقِدَ الشّريعَة ومراميَها وجُلَّ مقاصدِها ومعانِيها تدركُ في غيرِ ما لغوب ولا نُضوب أنها جاءَت بالتّعمير والإسعادِ حاثَّةً على مهايِع النهضةِ والرّيادة حاضَّةً على كلّ رُقيٍّ وإِفادَة، في تَناسقٍ بَديع بَينَ استشرافاتِ العقلِ وأشواقِ الرّوح، فالإعمارُ غَرِيزةٌ أودَعَها الله البَشرَ لِتكون رَائدةَ العمَل وبَاعثةَ الأمَل في نَشرِ العُمران وتثبيتِ دعائم التّحَضُّرِ والأمان، وكلُّ تقدُّم تِقانيٍّ وتَفوُّقٍ علميّ في العالَم أَكتَع يجِب أن يُسخَّر لقَمعِ الفساد والاستبدادِ، وأن يَكونَ مِرقاة لراحةِ الإنسانِ وهِدايته وطمأنينتِه وأمنِه واستقرارِه، ولن يتمَّ ذلك إلاّ في ضَوءِ عالميّة الإسلام الساطِع الذي يُوجِّه الحياةَ بعُمومها وشمولها وِجهةَ الخيرِ والسّؤدَدِ والحقّ والسلام، خُصوصًا بعدَ أن افتَضح إفلاسُ الحضارةِ الغربيّة في جوهَرِها ومخبرِها.
مَعاشرَ المسلمين، وما الحضارةُ القعساءُ التي وَطّدَتها شَريعتُنا الغرّاء وسعِدَت بها الدُّنَا عَبرَ التأريخِ إلاّ صُوّةً وقّادةً فوق التّحليل والإبراء، كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمران:110]. وهَذه المحجَّة المباركَة أجَّجَت حَربًا ضَروسا حِيالَ الطغيانِ والإفساد، وكانت وَجهًا عَبوسا تِئضالَ التّخريبِ والتقويضِ والاستباد، فشريعتُنا إعمارٌ لا دَمار، بِناء ونماءٌ لا هَدم وفناء، إِشادَة لا إِبادة، وهل إلا الفَسادُ والإِفساد بِشرورِه وجوائِحِه وحَوازبِه وفَجائعه مَن يحيلُ الدّنيا البَهِجةَ النضِرة إلى أَرضٍ مُصوِّحة قَفِرة؟! وهل إلا الفسادُ يهوي بالذِّمَم والقِيَم والأمجادِ إلى ساهِرةِ الحسَكِ والقَتاد ويُقيم على الأمَم المآتمَ والحِداد؟! يقول الكَفَويّ رَحمه الله: "الإفسادُ جَعلُ الشّيءِ فاسِدًا خارجًا عن حالتِه المحمودةِ لا لِغرضٍ صَحيح".
فالسّعيُ ـ يا عبادَ الله ـ بالفَسادِ بين مطاوِي البلادِ والعباد هوَ مستَنقَع الداءِ والبلاء وأُسُّ الفناءِ والأرزَاء ومُبيد النِّعَم والآلاء، مُؤذِنٌ بالخراب، معلِن بالتَّباب، وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ [القصص:77].
إخوةَ العقيدة، وفي هذَا العَصرِ المحتَدِمِ بالكشوفاتِ والمخترَعات والملتَهِبِ بالصّراعات والتوسُّعات كثُرَت ضروبُ الفسادِ وأمَّت، واندَاحَت كُرَب العُتوِّ وعمَّت، وإنَّ أعظمَ فسادٍ في الأرض بعدَ أن أَصلَحَها الله بإنزال الكتب وإرسالِ الرسُل هو الإشراكُ بالله عزّ وجل، يقولُ الحافظ ابن كثيرٍ رحمه الله في قوله سبحانه: وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا [الأعراف:56]: "قال أبو العالية: بالإشراكِ بالله"، وفي الحديثِ عند مسلمٍ وغيره: ((وإني خَلقتُ عبادي حُنفاءَ كلَّهم، وإِنهم أتَتهم الشياطينُ فاجتَالتهم عن دينِهم، وحرّمَت عليهم ما أحلَلتُ لهم، وأمرَتهم أن يشرِكوا بي ما لم أنزِّل به سلطانا)). يقول الإمامُ العلاّمة ابنُ القيّم رحمه الله: "فإنّ عِبادةَ غير الله والدّعوةَ إلى غيره والشّركَ به أعظمُ فساد في الأرض، بل فسادُ الأرض في الحقيقة إنما هو بالشركِ به ومخالفةِ أمره، ومَن تدبَّر أحوالَ العالم وجَد كلَّ صلاحٍ في الأرض فسببُه توحيد الله وعبادتُه وطاعةُ رسوله " انتهى كلامه رحمه الله.
فمَن ألحدَ في أسماء الله وصفاتِه وحَرَّف آياتِه وكلماتِه فقد عتَا وأفسَد، ويلتَحِق بذلك مَن أحدَثَ في شرعِ الله وابتَدَع وزَادَ وما ارتدَع، فإنّه لَلفسادُ وأيُّ فساد الَّذي يجعل الدّينَ القويمَ نُهبةَ العقولِ والآراء ومِزَق الأفكارِ والأهواء؟!
إخوةَ الإسلام، ومِن لوثاتِ الفَساد الذي يُنذِر بعظيمِ الخطَر ويتَستَّر به الألدّاء في كَيدٍ وبَطَر ذَلكم الغزوُ الفكريّ الغَامّ والثّقافيّ والأخلاقيُّ السّامّ، الذي أجلبَ بتيّاراتِ الانحراف، وهملَج بمذاهِب الإتلافِ والإرجافِ، فأفسدَ كثيرًا من الناس لا سيّما من الشّبابِ والفتيات، ولوَّث أفكارَهم، وشابَ عقائدَهم، وسلَخَهم عن قِيَمهم الاجتماعيّة، وورَّاهم عن أصولهم الدّينيّة والأخلاقيَّة، وأسلَمَهم إلى عَواصِفِ الحيرةِ والتَّميُّع والذوَبَان والانهزاميّةِ، وخَلَص بهم إِلى لُجَج الانحِدارِ والبَوار. وهذا الإفسادُ والضّيَاع دهَم من أسفٍ مُضِن كثيرًا من الأسقَاع، نحتسِي غصَصَه في فَجيعةٍ والتِياع، ويتّخذُ العَدوّ الماكِر لِذلك أرقَى التّقانَاتِ وأحدَث المختَرَعات، الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ العَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ [النحل:88]، وقد دَعَوا في نهجِهم إلى الفسادِ في الكَونِ والشّرّ والإلحادِ والشّرّ فَساد. ولله أيُّ ثَمَدٍ مِن قوّة تُبقِي عليها الأمّة إن نِيلَ مِن نَوط رجائِها ومَعقِد آمَالها؟!
أيّها الأحبّة في الله، وأمّا المِعوَل الهدّام الذي وضَع وخَبّ بين هذه الشّريحةِ خُصوصًا وعجّ من إفسادِه وتدميرهِ الفَضاءُ وارتجّ ذيّاكم الإعلامُ الذِي يضخّ عُبابًا من الفسادِ وأَصنافًا مِن الانحراف في بعض قنواتِه الماجِنَة وشبكاتهِ الآسنة وفَضائيّاته القاتمة، التي رنّقَت نميرَ الفضيلَة، وهصَرت في بطشٍ باطش أركانَ المجتمعات والأسَر بما تبثُّه من حرائقِ الرذيلة ومنكَرات الأخلاقِ والبُهتان، في قِحَةٍ وصفَاقةٍ كأنهما الصُّوَّان. أوّاه أوّاهُ من ذلك الفسادِ، ورحماك ربَّنا مما إليه كثيرٌ من المجتمعات تَنقاد، واللهمّ سلِّم سلِّم.
ومما يلهِب الأسَى بين الأضلُعِ وتهمي له سِجام الأدمُع ذلكم الإفسادُ السافِر والكَيد الماكِر عبرَ صَفَحات الإعلامِ بأقلامِ فِئَة ضلَّ عَن السَّدادِ فهمُها وطاشَ عن القَرطَسة سهمُها، لا تفتَأ تبهَضُ الشريعةَ الغرّاء وتغمِز الخِيَرَة والصّلَحاءَ ورجال الحِسبةِ الأكفياء والجمعيّاتِ الخيريّة القَعساء والمؤسساتِ الدعويّة ذات السّنا والسناء، وما درَى هؤلاءِ أنهم بفعلِهم ذلك يَشرَخون المناهجَ والصَّفَّ ويتطاوَلون على الجَمعِ الملتَفّ.
في كلِّ يومٍ مَنزلٌ مستوبِلُ يَشتفّ ماءَ مهجتي أو مُجتَوَى
أيّها المؤمِنونَ، ومِن ضُروبِ الفسادِ الذي تنامَى وزادَ ولم يَغفل عن رتقِه الألِبّاء من العِبادِ ما لوَّث صفاءَ البِيئةِ وجمالَ الطبيعةِ المتدفِّقَة بالبَهجَةِ والرُّواء، وذلك بنشرِ الموادّ الكيماويّة المدمِّرة والتّجارب النوويّة الفتّاكَة والنّفايات الغازِيّة السامّة، وما يعمَد إليه العالم من سِباقِ التسلُّح وأَسلِحَة الدّمار الشامِل التي تنجُم عنها الإبَادَةُ والأمراض والأوبِئَة، وتُفسِد البيئةَ وتلوِّثها، وتخرِجها عن سنَنِها الخلاّب، ولعَمرو الحقِّ إنَّ النفسَ التي حُرِمت تذوُّق الجمالِ ورَشفَ شهدِه العذب بزينةِ الأرض وحُسنِها وسلامتِها وأمنِها وقصَدَت إلى إفسادِ الطبيعةِ وتلويثِ البيئة لهي نفسٌ باغيَة ومُهجة طاغِيَة.
إخوةَ الإيمان، ومِن صوَرِ الفسادِ الخطيرةِ المستَشريَة في كثيرٍ منَ المجتمعات ما يَنال اقتصادَ الأمّة مِن المعاملاتِ الرّبوية المحرَّمَة ماحِقةِ البركةِ جالِبةِ سَخطِ الله ومَقتهِ المؤذِنةِ بحربٍ من الله ورسولِه، ومَا السّعارُ المادّيّ الذي يتابِعُه المراقِبون لكثيرٍ مِن صالاتِ تداوُلِ الأسهمِ العالميّة وأسواقِ البورصَةِ الدوليّة وما آلَ إليه أمرُ كثيرٍ منها من أزَماتٍ خانِقَة إلا نذرٌ وعِبر لمَن يعتَبِر، ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الروم:41]. ولَولاَ لُطفُ الله ثمّ مَأثرَةُ وَليّ الأمرِ وفّقه الله لحصَل ما لا تحمَد عقباه، غيرَ أن الغَيورِين يتطلَّعون إلى أَسلمَة هذه الأسواق الماليّة والتِزامِها في تعاملاتها الضوابِطَ الشرعيّة.
إخوةَ الإيمان، ومما ينتَظِم في سِلسِلة الفَسادِ الذي فرَى الأكبادَ ما تَعمد إليهِ الفِئةُ الضالّة المارِقة من إيقاظِ الفتنِ النائمةِ في أفكارٍ حَالمة ومناهجَ هائِمة، تَعمد إلى سَفكِ الدمِ الحرام والعُتوِّ في الأرض والإجرام، مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا [المائدة:32]. وَبِأَخَرةٍ محَاولةُ تفجيرِ مكتَسبات هذه الديارِ وتَدمير منشَآتها ومقدَّراتها التي هي رَمزُ قوَّتها [وعَصب] سَطوتها المتين ورَهبتها بين العالمين. فلَيتَ شِعري هل هذه الدِّيار الآمنةُ للإسلام إلا مدَارِس، ولصدّ نكبات المسلمين وأرزائهم إلا مَتارس؟! أيُّ تنكُّرٍ شَنيع لفضلِ أمّتهم؟! وأيُّ جَهلٍ فظيع بمآلاتِ رقيِّ مجتمَعِهم وقوّة اقتصادِه ومصدَر مكتسباته وثرواته؟! ولكن استدراكٌ يمزِّق النياطَ حينما جفَّت القلوب من الرحمةِ والإيمانِ، وصدَأَت بالجحود والنكران، وانتَضَت أسِنَّة الطيشِ والعدوان، وسلَكَت مسالكَ الإجرام والطّغيان، عادَت كلَّ نهضَة، وشنَأت كلَّ رقيٍّ وعمران. فيا لله، أيّ ناسٍ هؤلاء الذين نبَذوا الرّحمةَ والإحساسَ وهاموا بمآسي كلِّ الناس؟! إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ [يونس:81].
أمّةَ الإسلامِ، وينسَلِك في طُغيانِ التدمير والتّتبِير اللّذَين حرَّمهما الله أشدَّ تحرِيم وتوعَّد آتيَهما بالعذابِ الأليم شنُّ المعارِكِ والحروب وإضرامُ النيرانِ والخطوب وتقتيلُ الأبرياءِ والعُزَّل واحتلالُ الشّعوب، بغيةَ إذلالها وطمسِ حضَارتها وثَلمِ نخوَتها واستِنزافِ خيرَاتها وثَرَواتها، في عَصرٍ تتعالى فيه دَعاوَى الإصلاحِ والسّلام وصرَخاتُ التعايُش والوِئام ومحارَبَة الإرهاب والإرعاب. نعم، تِلك هي الهالات البرّاقة والشّعاراتُ الرّقرَاقة التي تفضَحها وقائِعُ العنجهيّة كلَّ آن، ومَا وقائِعُها المخزِيةُ إلا نارُ الحِقد الدفين من محوَرِ الشرّ الكمين، تُذكي ضِرامَها الصّهيونيَّة العالميّةُ رَائِدةُ الإرهابِ الدوليّ بلا مُنازِع، لا سيّما في أرضِ فلسطين والأقصَى، وقَد قال الله فيهم وفي أسلافهم: وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ [المائدة:64].
وكذا الإِفسادُ الذي يَقتاتُه دونَ تموِيه ولا مَينٍ إخوانُنا في بلادِ الرافدَين، مِن صنوفِ المآسي والتنكيلِ والحِصار والتشريدِ والتقتيل.
وَحروبٌ طاحِناتٌ كلَّما أطفِئَت شبَّ لظاها واستَعر
ضجّت الأفلاكُ من أهوالها واسعَاذ الشمسُ منها والقمر
ومِن نَكباتِ هذه الحروبِ وإفسادَاتها عقابِيلها وويلاتها التي خرَقَت الأعرافَ الدوليّة والمواثيقَ العالميّة والقِيَمِيّة التَّطاولُ على بيوتِ الله والإضرارُ بالمساجدِ ودُور العبادةِ وانتهاكُ حُرماتها وتَرويعُ الساجدين الآمنين، وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا [البقرة:114]. ويحهم، أيّ حَضَارةٍ إِنسانيّة وإِعمارٍ زعَموا؟! قاتَل الله الإفسادَ الجالبَ للخزيِ والبوار، ولَحَا النّكثَ للمواثيق وكلِّ عرفٍ وقرار، يقول المنتقم الجبار جلّ جلاله: وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ [البقرة:204، 205]. الله أكبر، ها هوَ القرآنُ غَضًّا نديًّا يُنَبِّئُنا من أخبارِهم، فأين المتذكِّرون؟!
أيّها المسلمون، ومِن أفانينِ الفساد الذي تَستَّر بمروطِ الحريّة العرجاء فجاءَ شيئًا إدًّا تكاد تخِرّ له الجبالُ هدًّا انتهاكُ حُرمةِ الكُتُب المنزَّلة والأنبياءِ المرسَلَة، وأعظمُهم أفضَلهم إمامُ الأنبياء ورَسولُ ربِّ الأرض والسّماء صلوات ربي وسلامُه عَليه، مما أجّجَ مَشاعر الحقدِ والغضَبِ والكراهية، ودَقّ بين المجتمعات عِطرَ مَنشَم. ولا تسَل ـ يا رعاك الله ـ عن حرّيّة الغرائزِ والشّذوذ والارتخاص التي أنشَبت الإنسانيّةَ في مهاوِي البهيميّة.
لذلك كلِّه مِن أصولِ الفساد وغيرها كان جزاءُ أهل الفسادِ والزيغ والعنادِ حكمةً وعدلا أشدَّ التقتيل وأوبَلَ التنكيل، إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنْ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ [المائدة:33].
وبعدُ: عبادَ الله، فلَن تقومَ حضارة إنسانيّة ونهضَةٌ عمرانيّة وسَعادة بشريّة وأمنٌ ورَفهَنِيّة والفسادُ يسقِي حُمِّيّاه كثيرًا من الأرجاءِ والعالَمُ يَلتوي ويُداجِي بالشعارات المفلِسَة في الضّحى والدّياجي، وهنا نفثةُ مَصدور ونأمَة غَيور تفيض من نبعِ الشّجَى والشّجَن وتهطِل من سُحُبِ اللوعة والحزن أن يا أيّها القادةُ والعلماء، يا أيها الدعاة والصلحاءُ، يا أهلَ الإعلام ويا حملةَ الأقلام، توارَدوا على ميثاقِ شرَفٍ واحدٍ وسنَنٍ لاحِد، وأصلِحوا ما اختلَّ من المجتمعات وفسَد، وقوِّموا ما انثلَمَ مِن عزَّتِكم وهيبَتِكم وكسَد، وارتُقوا ما انآدَ مِن الأفكار واعوجّ، وجدِّدوا ما رَمّ من وَحدَتكم ونهج، هبُّوا لميادين الصلاحِ والإصلاح بفعلٍ أسدّ ومُنَّة أسَد؛ تفلِحوا وتغنَموا وتسعَدوا وتأمنوا، إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ [الرعد:11].
بارك لله لي ولكم في الوَحيَين، ونفعنا جميعًا بهدي سيد الثقلين، أقول ما سمعتم، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه كان توابًا.
الخطبة الثانية
الحمدُ لله مِلءَ الأرضِ والسّماء، جلّ ربًّا وعَزّ إلهًا تفرَّدَ بجليل الصفاتِ والأسماء، وأشهَد أن لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريكَ له، حرّم الفسادَ وأمر بالتعمير والنّماء، وأشهد أنَّ نبيّنا محمّدًا عبد الله ورسوله إمامُ الأتقياء وسيّد الأصفِياء، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبِه البررةِ الرحماء، أعلام السؤدَد والهناء، ومن تبعهم بإحسان ما دامت الأرض والسماء.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، واحذروا اقترافَ الشرور الأكدار، واجتَوُوا الآثامَ والأوزار، واسعَوا لكلّ صلاح وإعمارٍ؛ تدرِكوا بإذن الله أسمى المنازل والأقدار.
أيها المسلمون والمسلمات، ومِن الخداع الباتِك الذي مدّ طِوَل الفسادِ الهاتِك التباكِي المستأذِب علَى حقوقِ المرأة وقَضاياها وإنسَانيّتِها، وهو زَيفٌ مَكشوف ومَكر مألوف يَرمِي به الأعداء الألدّاء إلى تأليبِ المرأة المسلمةِ علَى إسلامِها وقِيَمها ومُثُلها وتمرُّدِها على حجابها وعَفافِها وحيائها، في قَرصنةٍ فكريّة وثقافيّة وسمسرةٍ عولميّة وأخلاقيّة، تخرِق سفينة المجتمعاتِ الإسلاميّة، وكَأَن قدٍ، لتصبِح أداةً طيِّعة في براثِن العلمنةِ والتغريبِ، ودُميةً سائِغة لمطامع الذّاتِ والعَبِّ من الملذّات، وبريدًا مأمونا لأفكارِه ومبادئِه المنحلَّة، يشايعهم في ذلك جهّالٌ أصلال من بَني وبناتِ جِلدتنا ومَن يتكلّمون بلغتِنا ممّن أغرَوا العدوَّ بنا، وقد غَشِي أبصارَهم تبعيّةُ الغَرب المهينَة، ولكن في وكِيدِ الثقةِ بحمدِ الله أنَّ المرأة المسلِمة ـ لا سيّما فتاة هذِه الجزيرةِ الشماء ـ على حصافة ونباهةٍ مِن تلك الدّسائس القمِيئة والآراب الدّنيئة. وإنَّ العجبَ ليطوِّح بك حينَما يتصارَخون ويتَباكَون بمصطلحاتِ الحقوقِ والقّضايا والتحرير والحريّات، ويحشدُون لذلك المؤتمراتِ والمنظّماتِ وأعمدةَ الصّحف والمقالات والمجلاّتِ والفضائيّات والمنتدَيات وشبكاتِ المعلومات، أمّا فضايا الشعوبِ التي تُطحَن وتُباد والأراضي المقدّسة التي تُنتَهك ولاَ تُعاد فتِلك صرخةٌ في وادٍ ونفخَة في رماد، فالله المستعان.
وهُنا إلماحةٌ حانِية بالحبّ الشّفوقِ هاميَة تستَشرف الماضي بإشراقاتِه واعتزازاته والحَاضرَ بجراحاته وملِمَّاتِه والمستقبَلَ بآمالِه الفِساح وتطلّعاتِه أن لاَ استعلاءَ لأمّتنا في معامِع المتغيرات وميادينِ التقدّم وإِعلاء صُروح الحضارات إلاّ باعتِصامِنا بالوحيَين النيِّرين ولِياذِنا إلى وَحدَتنا ورَابِطتِنا التي تنجِينا بإذن الله من الفِتنةِ والفساد الذي حذَّر منه المولى وأنذر في قولِه سبحانه: وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ [الأنفال:73]، أي: أَيتّحِد أهلُ الكفرِ المناكيدُ ويتفرَّقُ المسلِمون أبادِيد؟! إنّه لفسادٌ في دينِكم ودنياكم كبيرٌ، ولن ينتهِيَ المفسِدون عن نحتِ أثلةِ العزّة والسيادة والحقّ والسعادة والرِّيادة على مدِّ البسيطةِ إلا بالعلماءِ الجهابِذ والدّعاةِ الصياقِل الذين نوَّه بهم المولى عزّ وجلّ في قولِه: فَلَوْلا كَانَ مِنْ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُوْلُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنْ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ [هود:116].
ألا فاتَّقوا اللهَ عِبادَ الله، وتوارَدوا على الإصلاحِ والإعمار، وتنَاءَوا عن دُروبِ الفَساد والدّمار؛ تحقِّقوا مِن السؤدَدِ آمالَه الكِبار، وتأمَنوا بمنِّ الله البروارَ والتّبار.
ثم صلّوا وسلموا ـ رحمكم الله ـ على نبي الهدى والصلاحِ الذي دحر ضروبَ الفساد وأزاح، وحمى حوزةَ الدين أن تُفسَد وتستباح، فقد أمركم بذلك ربّكم فالق الإصباح، فقال تعالى قولا كريمًا في قرآنٍ يُتلَى آناءَ الليل والصّباح: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللّهمّ صلِّ وسلِّم وبارك على النبيِّ المصطفى والحبيبِ المرتضى والهادي المجتبَى نبيِّنا محمد بن عبد الله، وارضَ اللّهمّ عن خلفائه الراشدين...
ـــــــــــــــــــ(68/157)
المنافقون والإصلاح (1)
...
...
4784
...
الأسرة والمجتمع, الإيمان
...
...
المرأة, نواقض الإيمان
...
مرسال بن عبد الله المحمادي
...
...
جدة
...
17/11/1424
...
...
جامع ابن تيمية
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- حديث القرآن عن المنافقين. 2- المنافقون أخطر عدو. 3- دعاوى المنافقين. 4- المنافقون وقضية المرأة. 5- المنافقون والمناهج الشرعية. 6- قدم الغلو. 7- تهجم المنافقين على المؤسسات الشرعية. 8- المنافقون جسر الأعداء.
الخطبة الأولى
إخوة الإيمان، لقد تحدّث القرآن الكريم عن طوائف من الأعداء ليحذر المسلمون صنيعهم، وليتّقوا شرورهم، ولتستبين سبيل المجرمين، لكنه خصّ بالعداوة قومًا، وحذّر وأنذر واستوعب الحديث فئةً اندسّت قديمًا، ولا تزال تندسّ بين صفوف المؤمنين حديثًا؛ خِداعًا وكَذبًا وتزويرًا، قال الله فيهم: هُمْ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمْ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ [المنافقون:4]. وحذر النبي منهم، واشتدّ خوفه على أمته منهم، فقال: ((أخوف ما أخاف على أمتي كل منافق عليم اللسان)).
وفي الحديث ـ أيها المسلمون ـ عن النفاق والمنافقين حديث يبدأ ولا ينتهي، كيف لا وقد جاء الحديث عنهم في أكثر من نصف سوَر القرآن المدنيّة؟! حتى قال ابن القيم رحمه الله: "كاد القرآن أن يكون كلّه في شأنهم".
عباد الله، أعداء الأمة الإسلامية كثر، ولكنه حصر العداوة بالمنافقين في قوله تعالى: هُمْ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ، يراد به إثبات الأولويّة والأحقّية للمنافقين في هذا الوصف، ولا يراد منه أنه لا عدوّ لكم سواهم، بل على معنى أنهم أحقّ بأن يكونوا لكم عدوًا من الكفار المجاهرين بكفرهم، فإنّ الحرب مع أولئك ساعة أو أيام ثم تنقضي، ويعقبها النصر والظفر، وهؤلاء ـ أي: المنافقون ـ معكم في الديار والمنازل، صباحًا ومساءً، يدلّون العدو على العورات، ويتربّصون بالمؤمنين الدوائر، ولا يمكن بل يصعب مناجَزتهم.
فيا ويح المنافقين! يظنون أنهم يخادعون الله والذين آمنوا، وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون، وخابوا وخسروا وإن زعموا الإصلاح، فهم مفسدون بشهادة العليم الخبير: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلا إِنَّهُمْ هُمْ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ [البقرة:11، 12]. ومهما تطاولوا على أهل الإيمان ورموهم بالسفاهة أو غيرها من رديء الألفاظ فهم أهل السفاهة بشهادة القرآن: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمْ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ [البقرة:13].
أيها المسلمون، لا يغترّ المؤمنون بنصح المنافقين لهم وإن زعَموا النصح، وإن حلفوا وأقسموا بالله أنهم ناصحون وأنهم ينصحون لأجل أن يخلوا مسؤوليتهم وأمانتهم أمام الله، فإنهم كذَبَة كما قال تعالى: وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [المنافقون:1، 2]، فهم يستتِرون بالحلف الكاذب ليثقَ بهم الناس، ولكن الله قد حذّرنا منهم فقال عنهم: هُمْ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ.
أيها المسلمون، أكبر قضية يدندن حولها المنافقون قضية المرأة وإصلاح المرأة، والعجيب أن الله بعد أن أمر بالحجاب للمرأة في سورة الأحزاب بقوله: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ [الأحزاب:59]، بعد هذه الآية مباشرة حذر الله من المنافقين فقال: لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلاَّ قَلِيلاً مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا [الأحزاب:60، 61] فهم يرون أن صلاح المرأة في خروجها من بيتها والله جل وعلا يقول: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى [الأحزاب:33]، ويرون أن صلاح المرأة يكون بتبرجها وقيادتها للسيارة وخروجها بدون إذن وليها، ويزعمون أن المرأة لن تصلح إلا إذا أخذت حريتها بالكامل، وذلك من خلال فصلها عن قوامة الرجل عليها، ومن خلال اختلاطها بالرجال وجلوسها معهم على طاولة العمل ونحو ذلك. وفي الحقيقة أن هؤلاء المنافقين يريدون الإفساد وليس الإصلاح، أَلا إِنَّهُمْ هُمْ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ. وقضية المرأة هي قضية المنافقين الكبرى، فبفساد المرأة يفسد المجتمع، والرسول حذر من فتنة النساء فقال: ((فاتقوا الدنيا، واتقوا النساء، فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء)).
أيها المسلمون، إن الأمر المزعج هو ما يفعله المنافقون اليوم بالذات مع الأحداث الأخيرة، فالمتابع للصحف يجد كتابات كثيرة ضدّ العلماء وضدّ الجهاد، بل ضدّ السنة كذلك، فلم يسلَم هيئة كبار العلماء ولا العلماء ولا الدعاة ولا طلبة العلم من لمز المنافقين وهمزهم. وإن هذه الكتابات الصريحة ضدّ الصحوة الإسلامية لهي تزيد الأمر سوءًا وبلاءً، بل والعجيب أنهم يحمِّلون ما حدث المناهجَ، وأي مناهج يقصدون؟! طبعًا المناهج الشرعية، حتى إن أحدهم يقول: "إن المناهج التي يدرسها أبناؤنا هي السبب في ظهور الغلو والتكفير". وهذا شأن الذين في قلوبهم مرض، المناهج الآن عليها هجوم شرِس، وبالذات فيما يتعلق بالولاء والبراء، فأحدهم يقول: "إن المشكلة من داخلنا"، كيف؟! قال: "بسبب كتب أئمة الدعوة"، وأوصل الأمر بطريقة إلى منهج الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، يعني أن الذي ينشئ الغلوّ والتكفير هي كتب الدعوة وكتب أئمة الدعوة.
وكلنا يعلم أن أعظم نعمة امتن الله بها على هذه البلاد هي نعمة الدين الصحيح، نعمة التوحيد، عقيدة أهل السنة والجماعة، وكلنا ولله الحمد تعلّم ودرس هذه المناهج، وأبناؤنا الآن يدرسون وليس عندهم غلو وتكفير، بل نجد عندهم العكس تمامًا من تفريط ومعاصي وتقليد للغرب وسخريّة بالدين وترك للصلاة وتساهل بالعبادات والتشبّه بالغرب مع دراستهم أن التشبّه لا يجوز، فهذا أكبر دليل أنه يوجد تفريط في الجانب العملي وليس الغلوّ كما يزعم المنافقون، بل أقول: إن كتاب التوحيد الذي ألّفه إمام الدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب فيه تحذير من الغلوّ، وقد قال : ((إياكم والغلو)). وقد حدث الغلوّ في عهد الرسول عندما حرّم أحدهم على نفسه اللحمَ، والثاني حرم على نفسه الأزواج، والثالث حرم على نفسه النوم، والرابع حرم على نفسه الإفطار، فبيّن النبي أن هذا مخالف لسنته وأنه غلوّ، فإذا وجد الغلوّ في عهد الرسول وفي عهد الخلفاء الراشدين فمن الطبيعي أن يوجد الآن، فالغلو موجود، ولكن بشكل شاذّ ولله الحمد، فالغلو ولله الحمد ليس سمةً ظاهرةً في طلاّبنا ولا معلّمينا ولا مجتمعنا حتى تحارب هذه المناهج، فهؤلاء الذين يطرحون هذه القضايا هم أكذب الناس في بحثهم عن حلّ المشكلات وإن أقسموا الأيمان أنهم يريدون الإصلاح.
ما جاء المنافقون بحلّ مشكلة أبدًا، فهم الذين أثاروا الفتن في عهد النبي ، وهم الذين يثيرون الآن الفتن في مجتمعنا، وهم الذين يسبِّبون الغلو في الحقيقة. لماذا تتَّهَم المناهج؟! لماذا تتَّهَم كتب أئمة الدعوة؟! لماذا يُتَّهم العلماء؟! لماذا يتَّهَم طلاب العلم؟! لماذا يتَّهَم الخطباء؟! لماذا يلمَز بالسنة وبالمتمسكين بالسنة؟! أين نحن أيها الإخوة؟! فيجب أن نكون على مستوى الوعي، وأن نحذر من هؤلاء المنافقين الذين لا ترتفع رؤوسهم إلا عند الفتن والعياذ بالله؛ ليخرجوا ما في صدورهم من غلّ وحقد على كتُب السنة وعلى هذا البلد وعلى أهله ومجتمعه وإن زعموا الإصلاح، فإنه لا يوجد أحد أبدًا يدّعي الإفساد، حتى فرعون يقول لقومه: مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ [غافر:29]، بل ويخاف على قومه من موسى فيقول لقومه عن موسى: إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ [غافر:26]. ففرعون يرى أنه هو المصلح، وأن موسى هو المفسد، وكذلك المنافقون يقول تعالى عنهم: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ، فهم يدعون الإصلاح وهم المفسدون حقيقة كما قال الله عنهم: أَلا إِنَّهُمْ هُمْ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
الخطبة الثانية
أيها الأحبة، تعلمون تلك الحملة الغربيّة الأمريكية الشرِسة على هذه البلاد المباركة وعلى مناهجها الشرعية ومحاكمها القضائيّة، وهؤلاء الغرب يتمنّون أن يجدوا من يطبّل لهم، وهؤلاء الذين يلمزون السنة ويتهمون المناهج ويتّهمون كتب أئمة الدعوة ويطعنون في دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب ويتّهمون هذه الدولة بالوهابية، فهؤلاء يتفقون مع أسيادهم في أمريكا وغيرها، فالطعن في علمائنا ومناهجنا وبلادنا معناه أن الغربَ الكافر على حق وأننا على باطل، وبهذا فإننا نتحمّل ما ليس لنا، ونحن أبدًا أبدًا أبدًا لن نرضى بهذا، فالطعن في ديننا وبلادنا لمصلحة من؟! لا شك أنه في مصلحة أمريكا واليهود قبل ذلك.
أيها المسلمون، يبقى سؤال مهم وهو: ما واجبنا تجاه هذه الحملات الشرسة وتجاه هذه الفتن؟ كنت سأجيب عن هذا السؤال في هذه الجمعة، ولكن الوقت يطول بنا، وأبناؤنا الطلاّب بحاجة إلى كسب مزيد من الوقت ليجدوا فرصة أكبر للمذاكرة، فلذلك فإني سأجعل الحديث في الجمعة القادمة بإذن الله عن دورنا وواجبنا تجاه هذه الحملات.
وأسأل الله الإعانة والتوفيق، ونسأله سبحانه أن يوفق أبناءنا في اختباراتهم، وأن ييسر لهم أمورهم، والله يرزقهم التوفيق والنجاح، وأن يوفّقهم للهداية والصلاح.
عباد الله، صلّوا وسلموا على رحمة الله للعالمين...
ـــــــــــــــــــ(68/158)
رسول الضعفاء
...
...
4799
...
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
...
...
فضائل الأعمال, قضايا المجتمع
...
توفيق عقون
...
...
ميلانو
...
...
...
مسجد سيستو
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- شمول رحمة النبي لجميع الناس. 2- أمر الله تعالى نبيه بمجالسة الضعفاء. 3- فضل الإحسان إلى الضعفاء. 4- معاملة الرسول للضعفاء ووصيته بهم. 5- حالنا مع الضعفاء والمساكين.
الخطبة الأولى
إن رسول الله لم يكن رسولاً لفئة من الناس، بل كان رسولاً للناس كافة، للأسياد والعبيد، للفقراء والأغنياء، للرجال والنساء، للكبار والصغار، للعرب والعجم، ورحمته انتظمت الوجود كله، إلا أن تعامله مع الضعفاء والمساكين كان له شأن خاص، يعيش معاناتهم، ويواسي فقيرهم، ويرحم ضعيفهم؛ فهم أتباع الأنبياء، فقد سأل هرقل ملك الروم أبا سفيان وكان لا يزال على الكفر: هل أشراف الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم؟ فقال: بل ضعفاؤهم، فقال: وهم أتباع الرسل. رواه البخاري (7) ومسلم (137).
لقد أمر الله نبيه أن يجالس الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّه مِنْ عِبَاد اللَّه ولو كَانُوا فُقَرَاء ضُعَفَاء: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا.
يُقَال: إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَشْرَاف قُرَيْش حِين طَلَبُوا مِنْ النَّبِيّ أَنْ يَجْلِس مَعَهُمْ وَحْده وَلا يُجَالِسهُمْ بِضُعَفَاء أَصْحَابه كَبِلالٍ وَعَمَّار وَصُهَيْب وَخَبَّاب وَابْن مَسْعُود، وَلْيُفْرِد أُولَئِكَ بِمَجْلِسٍ عَلَى حِدَة، فَنَهَاهُ اللَّه عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبّهمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ الآيَة [الأنعام:52]، وَأَمَرَهُ أَنْ يَصْبِر نَفْسه فِي الْجُلُوس مَعَ هَؤُلاءِ فَقَالَ: وَاصْبِرْ نَفْسك مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبّهمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيّ الآيَة.
روى مُسْلِم فِي صَحِيحه عنْ سَعْد بْن أَبِي وَقَّاص قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيّ سِتَّة نَفَر، فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ لِلنَّبِيِّ : اُطْرُدْ هَؤُلاءِ لا يَجْتَرِئُونَ عَلَيْنَا، قَالَ: وَكُنْت أَنَا وَابْن مَسْعُود وَرَجُل مِنْ هُذَيْل وَبِلال وَرَجُلانِ نَسِيت اِسْمَيْهِمَا، فَوَقَعَ فِي نَفْس رَسُول اللَّه مَا شَاءَ اللَّه أَنْ يَقَع، فَحَدَّثَ نَفْسه فَأَنْزَلَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ: وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبّهمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ.
فالله لما عدّد أبواب البرّ ذكر منها إيتاء المال على حبّه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب، فجعل الرحمة بالضعفاء الصفة الأولى من صفات المتقين، قال تعالى: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ [البقرة:177].
ويقول عليه الصلاة والسلام وهو يبيّن أهمّيّة الضعيف في حدوث النصر وحصول الرزق: ((ابغوني في الضعفاء؛ فإنما تنصرون وترزقون بضعفائكم)) أخرجه أبو داود (1594) والنسائي (3179) والترمذي (1702) وقال الترمذي: "حسن صحيح" وصححه الألباني كما في صحيح الجامع (41). ابغوني أي: أعينوني على طلب الضعفاء.
ويروى عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: ((اللهم أحيني مسكينًا، وتوفّني مسكينًا، واحشرني في زمرة المساكين)) أخرجه عبد بن حميد والبيهقي عن أبي سعيد، والطبراني والضياء عن عبادة بن الصامت، وصححه الألباني كما في صحيح الجامع (1261).
وليس معنى هذا أن نترك الدنيا ونهمل المال، وإنما المعنى أن تنكسر القلوب بين يدي علام الغيوب. والذي انكسر قلبه لله هو من يعيش عبدًا لله، لا لشهواته، ولا لمنصبه، ولا لدنياه، لهذا المعنى أُكرم الضعفاء بإجابة الدعاء ونيل أحسن الجزاء.
عن حارثة بن وهب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال: سمعت رَسُول اللَّهِ يقول: ((ألا أخبركم بأهل الجنة؟ كل ضعيف متضعّف لو أقسم على اللَّه لأبره. ألا أخبركم بأهل النار؟ كل عُتُلّ جوّاظ مستكبر)) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. والعتلّ: الغليظ الجافي، الجوّاظ بفتح الجيم وتشديد الواو وبالظاء المعجمة: هو الجموع المنوع. وقيل: الضّخم المختال في مشيته، وقيل: القصير البطين.
وعن أسامة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عن النبي قال: ((قمت على باب الجنة فإذا عامّة من دخلها المساكين وأصحاب الجَدّ محبوسون، غير أن أصحاب النار قد أمر بهم إلى النار، وقمت على باب النار فإذا عامة من دخلها النساء)) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. والجد بفتح الجيم: الحظّ والغنى، محبوسون أي: لم يؤذن لهم بعد في دخول الجنة.
وعنه رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال: قال رَسُول اللَّهِ : ((ربّ أشعث مدفوع بالأبواب لو أقسم على اللَّه لأبرّه)) رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وعن سهل بن سعد الساعدي أنه قال: مر رجل على رسول الله فقال لرجل عنده جالس: ((ما رأيك في هذا؟)) فقال: رجل من أشراف الناس، هذا والله حريّ إن خطب أن يُنكح، وإن شفع أن يُشفَّع، قال: فسكت رسول الله ، ثم مرّ رجل فقال له رسول الله : ((ما رأيك في هذا؟)) فقال: يا رسول الله، هذا رجل من فقراء المسلمين، هذا حري إن خطب أن لا ينكح، وإن شفع أن لا يشفَّع، وإن قال أن لا يسمَع لقوله، فقال رسول الله : ((هذا خير من ملء الأرض مثلِ هذا)) رواه البخاري (6082).
فالعبرة ليست في الصور والأشكال وفيما تملكه من قصور وأموال، وإنما في صلاح الأعمال وتذلّل القلب وانكساره لله الواحد القهار.
كيف كان رسول الله يعامل الضعفاء؟
إن أحوج الناس للرحمة والإحسان والعطف والحنان الضعفاء الذين لا حول لهم ولا طول، مثل اليتيم الذي فقد الأب، والأرملة التي فقدت الزوج، والمسكين الذي فقد المال، وابن السبيل الذي لا سند له ولا معين، والمرضى والعجزة وكبار السن والعبيد والخدم والأُجَراء.
وانظر إلى اهتمام النبي وانشغاله بالفقراء في عيد الأضحى، وكيف أنه ضحى بكبشين أحدهما عمن لم يضح من أمته؛ حتى لا يحرموا من أجر الأضحية بسبب فقرهم وفاقتهم.
وقد استفاضت الأحاديث في الحث على الإحسان إلى الفئات الضعيفة التي لا سنَد لها ولا معيل، فقال : ((أنا وكافل اليتيم في الجنة)) وأشار بالسبابة والوسطى وفرّج بينهما. رواه البخاري. وقال: ((من ضم يتيمًا بين مسلمين في طعامه وشرابه حتى يستغني عنه وجبت له الجنة ألبتة)) رواه أبو يعلى وأحمد باختصار والطبراني بإسناد حسن، وقال: ((الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله))، قال أنس: وأحسبه قال: ((وكالقائم لا يفتُر، وكالصائم لا يُفطر)) متفق عليه عن أنس.
وقال عن الخدم: ((هم إخوانكم جعلهم الله تحت أيديكم، فمَن جعل الله أخاه تحت يده فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا يكلّفه من العمل ما يغلبه، فإن كلفه ما يغلبه فليعنه عليه)) متفق عليه واللفظ للبخاري، وجاء رجل إلى النبي فقال: يا رسول الله، كم نعفو عن الخادم؟ فصمَتَ، ثم أعاد عليه الكلام فصمت، فلما كان في الثالثة قال: ((اعفوا عنه في كل يوم سبعين مرة)) رواه أبو داود عن ابن عمر (5164) والترمذي (1950) وقال: "حسن غريب".
ويوم كان الخدم رقيقًا زجر النبي عن إيذائهم وضربهم، وجعل كفارة الضرب العتق، فكيف إذا كانوا أحرارًا؟! وقد أدرك النبي أبا مسعود البدري وهو يضرب غلامًا له فقال: ((اعلم أبا مسعود أنّ الله أقدر عليك منك على هذا الغلام))، فقلت: يا رسول الله، هو حرّ لوجه الله، فقال: ((أما لو لم تفعل للفحتك النار أو لمسّتك النار)) رواه مسلم (6659)، وقال: ((من لطم مملوكًا أو ضربه فكفارته أن يعتقه)) رواه أبو داود (5168)، ومسلم بنحوه (1657)، وعن أنس رضي الله عنه قال: كانت عامّة وصية النبي حين حضره الموت: ((الصلاة وما ملكت أيمانكم)) حتى جعل يغرغر بها في صدره، وما يفيض بها لسانه.
الخطبة الثانية
أين نحن ـ أيها المسلمون ـ من رحمتنا بالضعفاء والمساكين؟! أين نحن من إعطاء حقوق العمال والأجراء؟! لقد وصلتنا شكاوى يندى لها الجبين ويتقطع لها القلب من ظلم المسؤول للعمال والأجراء ومنعهم حقوقهم، فهذا يحرم العامل من أجرته، وآخر يؤخر ويماطل في دفعها، وثالث يستغل حاجات العمال وضعفهم فيستأجرهم بثمن بخس لا يتفق مع الجهد الذي يبذلونه.
ألا تخاف ـ يا من ظلمتَ الأجير ـ أن يكون الله خصمك يوم القيامة، ومن كان الله خصمه فقد خسر وهلك، قال : ((قال الله تعالى: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة: رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حرًا ثم أكل ثمنه، ورجل استأجر أجيرًا فاستوفى منه ولم يعطه أجره)) البخاري (2109).
تذكر ـ يا صاحب العمل ـ أن هذا الأجير له أهل وأولاد ينتظرون مصاريف طعامهم ولباسهم، مصاريف دوائهم وعلاجهم، مصاريف تعليمهم ودراستهم، فإذا تأخَّرت في دفع أجرتهم أو حرمتهم منها كنت سببًا في ضياع تعليمهم وخروجهم من المدرسة، أو كنت سببًا في معاناة المريض أو ربما موته، أو كنت سببًا في بكاء الصِّبية بالليل وهم يعانون من عضّة الجوع، وأنت تنام منعمًا قرير العين.
تنام عيناك والمظلوم منتبه يدعو عليك وعين الله لم تنم
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
ـــــــــــــــــــ(68/159)
همّ الخاتمة – عمل المرأة
...
...
4808
...
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
...
...
المرأة, الموت والحشر
...
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
...
...
الرياض
...
30/3/1427
...
...
جامع الإمام تركي بن عبد الله
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- أمر الله تعالى بالعمل. 2- العمل الصالح المقبول. 3- خوف الصالحين من حبوط العمل. 4- سؤال الله تعالى الثبات. 5- من علامات التوفيق. 6- الخوف من سوء الخاتمة. 6- أسباب حسن الخاتمة. 7- علامات الخاتمة الحسنة. 8- الاستعداد للقاء الله. 9- تحذير المرأة المسلمة من المنادين بخروجها للعمل.
الخطبة الأولى
أمَّا بعد: فيا أيّها النّاس، اتَّقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، يقول الله جلّ جلاله وهو أصدق القائلين: وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [التوبة:105].
أخِي المسلم، لنتدبَّر هذه الآية؛ أمرنا الله بالعمَل، فإنّا ما خُلِقنا عبثًا، خلِقنا لنعبدَ الله، خلِقنا لننفِّذَ أوامرَ الله، خلِقنا لنقومَ بما أوجب الله علينا. تُعُبِّدنا بهذه الشّريعة؛ لنقومَ بحقيقَتِها عِلمًا وعمَلا، ظاهرًا وباطنًا؛ لنكونَ مؤمنين حقًّا: وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ، والله عالمٌ ما العِباد عامِلون، ولكنّه جلّ وعلا لا يعاقِب العبد حتى تظهَر مخالفتُه وعصيانُه وتقومَ الحجة عليه، فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ.
إنَّ مردَّكم إلى الله عالم الغيبِ والشهادة، استوَى في علمه ما خفيَ وما أُعلِن، قُلْ إِن تُخْفُواْ مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير [آل عمران:29].
أيّها المسلم، عَملُك لا يكون عملاً حقّ، حتى يكون عملاً تواطَأَ عليه القلب واللسانُ والجوارح، عَمَل ظاهرٌ مع خلوِّ القلب منَ الاعتقادِ واليقين لا ينفع، اعتقادٌ لا يترجمُه عملٌ ظاهر لا ينفَع، فلا بد في العمَل من أن يكونَ الظاهر والباطن سواءً، ففي الباطنِ إخلاصٌ لله وقيامٌ بما أوجب الله وتعبُّدُ القلب لله ذِلّة واستكانة، وفي الظاهر القيامُ بالواجبات مع تركِ المحرّمات، هكذا العمل النافع، وهكذا العمَل المفيد، وهكذا ينبَغِي أن يكونَ المؤمِن عليه في حياته، فيقضِي عُمره وهو في خَير تعبُّدًا لله بكلّ جوارحه، ظاهرًا وباطنا.
أيّها المسلم، إنما الخوفُ على العبدِ أن يظهِرَ الخيرَ وهو مبطِن لضدِّه، وأن يظهِرَ التمسّك والصلاح وهو في قلبه على خلافِ ذلك، أعمالٌ صالحة مشوبَة بالرّياءِ والسّمعة، لغيرِ الله صلَّى، ولغيرِ الله أطاع، ولغيرِ الله تنسّك، ولغيرِ الله تعبَّد، فتلك الأمورُ لا بدَّ أن تخونَ صاحبَها أحوجَ ما يكون [إليها]؛ لِذاَ اشتدَّ خوفُ صالحي هذه الأمّة على أنفسهم، وخافوا على أعمالهم، فجَمَعوا بين الخوفِ من اللهِ وحسنِ العمل، إِنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ [المؤمنون:57-60].
هؤلاءِ الصُّلَحاء خافوا على أعمالهم أن يعرضَ لها رياءٌ يبطِلها، أو يعرض لها ـ والعياذ بالله ـ شكوكٌ وارتيابٌ فتحبط الأعمال، خافوا على أعمالهم، ولم يثقوا بأنفسِهم، بل عظُم التجاؤُهم إلى الله، وقوِيَت الرغبةُ في الاضطرار بين يدَي ربهم، فهم دائمًا يقولون: رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ [آل عمران:8]، ويتذكرون قول الله لنبيه : وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً إِذًا لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا [الإسراء:74، 75].
إن المؤمنَ يعمل، ولكن نصبَ عينيه خاتمةُ الأعمال، لا يدري ما يختَم له بِه، يخاف من تحوُّل منَ الإيمان إلى الكفر، ومن استقامةٍ إلى انحراف، ومن لزومِ الطريق إلى البُعد عنه، يرَى أناسًا اختلفت أهواؤهم، وتغيَّرت أفكارهم، وتنوَّعت آراؤهم، فهم يومًا دعاةٌ إلى الخير والصلاح، ويومًا ينقضونَ ما بنَوا ويبدِّلون ما قالوا بسوءٍ وأعمالٍ سيّئة. إذًا فهو يخاف على نفسِه أن يخدعَه الشيطانُ فيستولي عليه، فينسِيه ذكرَ الله، ويُصدّه عن سبيل الله المستقيم، فيختَم له بسوء، فيلقى الله على غيرِ هدًى، أعاذنا الله وإياكم من ذلك؛ ولذا قال الله لعباده: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران:102]، الزَموا الإسلام، واثبتوا عليه، واستقيموا عليه، حتى يوافيَكم الموتُ وأنتم على الإسلامِ ملازِمين، غيرَ مبدِّلين ولا مغيِّرين.
واسمع ما قال الله عن نبيِّه يعقوبَ: وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [البقرة:132]، الزَموا الإسلام علمًا وعملا، واعمروا في الباطنَ والظاهر، وسَلوا الله الثباتَ على الحق؛ فإنّ الله بيده قلوبُ العباد يقلِّبها كيف يَشاء، وسيِّدُ ولد آدم سيّد الأولين والآخرين وإمامُ الأنبياء و المرسلين يقول دائما: ((اللّهمّ مقلبَ القلوب، ثبِّت قلبي على دينك))، تسأله عائشة: هل تخاف يا رسول الله؟! فيجيبها قائلا: ((إنَّ قلوبَ العباد بين أصبعين من أصابِع الرحمن، يقلِّبها كيف يشاء، إذا أراد أن يقلِبَ قلبَ عبدٍ قلَبَه)).
أيّها المسلم، فمِن علامةِ توفيقِ الله لك ومِن علامة خاتمةِ الخير لك أن توَفَّقَ في بقيّةِ عمرِك لأعمالٍ صالحة، تستقيم عليهَا، تثبُت عليها، تمضي بقيّةَ عمرك عليها، يقول أنس رضي الله عنه: قال رسول الله : ((إذا أراد الله بعبدٍ خيرًا استعمَله))، قالوا: كيف يستعمِلُه يا رسولَ الله؟! قال: ((يوفِّقُه لعملٍ صالحٍ قبل الموت))، فيتداركه الله بتوبةٍ نصوح، فيبدّل سيئاته حسنات، ويتحلَّل من مظالم العباد، ويتوب إلى اللهِ مِن سيئاتِ الأقوال والأعمالِ، حتى إذا حضره الموتُ ودنا انتقالُ الروح من الجسد فإذا هو ثابتٌ على الحق، ثابتٌ على الهدَى، تُزَفّ له البشارة وهو على فراشه: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ نُزُلاً مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ [فصلت:30-32]. هكذا أولياء الله الصادقون الذين أخلصوا لله أعمالهم، وصدقوا مع الله في تعامُلِهم، فلم يكن رياء ولا سمعة، ولا محبة للشهرة، ولا إرادة العلوّ في الأرض، تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [القصص:83].
أيها المسلم، إنَّ المسلمَ ينبغي دائما له أن يسألَ الله حسنَ الخاتمة، يسأل اللهَ أن يختمَ عمرَه بخير، وأن يجعلَ بقيّةَ عمرِه خيرا من ماضِيه، فهو دائما يقول: اللّهمّ اجعل خير أعمارِنا أواخرَها، وخير أعمالِنا خواتيمَها، وخيرَ أيامنا يومًا نلقاك فيه.
أيّها المسلم، حُسن الخاتمة أقضَّ مضاجعَ الصالحين، وكدّر عليهم صفوَ حياتهم، لا والله، [ليس] سوء ظنٍّ بربّ العالمين، فحاشا ذلك، لكن اشتدّ خوفهم من أنفسهم أن يؤتَوا من قبَل أنفسهم من أعمال سيئةٍ استبطنوها ومعاصٍ واصلوها، يخافون أن لا يمَكَّنُوا مِن توبة، وأن تَستمِرّ بهم الشهواتُ والملذّات، فتنقضي الأعمارُ بلا فائدةٍ، فهم يخافون على أنفسهم، ويعلمون قولَ الله: وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ [الشورى:30]، وقولَه: إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [يونس:44].
فاسألِ الله خاتمةَ خير، واسألِ الله أن تلقاه وأنت على الإسلام لم تبدِّل ولم تغيِّر، بل أنتَ مستقيمٌ على هذا الهدَى.
أيّها المسلم، أسبابُ الخاتمة الحميدةِ أمورٌ كثيرة، فأعظمها تقوَى الله في السرِّ والعلانِية، ((اتَّق الله حيثما كنت))، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحشر:18]، تقوى حقيقيّة، أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ [يونس:62، 63]، وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا [الطلاق:2].
الإخلاصُ لله في القولِ والعمل، فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا [الكهف:110].
الاستقامة على الهدى ولزوم الطريقِ المستقيم، اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ [الفاتحة:6]، فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ [هود:112]، قال لرجل سأله، قال: قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحدًا غيرك، قال: ((قل: آمنتُ بالله، ثم استقم)).
يا أخي، تذكّر الموت وما بعدَه، فعَسى أن يكونَ في التذكُّر عبرة وعِظة. تذكَّروا الجنة ونعيمَها والنار وآلامها أغلالها.
وأمرٌ آخر: استشعارُ قلبِك بكمال علمِ الله بك وكمالِ اطلاعِه على سرك وعلانيتك، وأنَّ الله لا يخفَى عليه شيء من أمرك، وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا [يونس:61].
الإكثارُ من ذكرِ الله والالتجاءُ إليه دائمًا وأبدا؛ فإنَّ الله من فضله أنّه لا يخيِّب رجاءَ من رجاه، فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى [الليل:5-7]، ولكن الخوف من معاصٍ أصرَرتَ عليها، أخفيتَها عن الناسِ والله مطَّلِع عليها، يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ [النساء:108].
أيّها المسلم، ومن أسبابِ [حسن] الخاتمة الإكثارُ من تلاوة القرآن والمحافظة على فرائض الإسلام بإخلاص ويقين، وربُّك لا يضيع أجرَ من أحسنَ عملا.
ولِلخاتمةِ الحسنةِ علامات، فمنها أن يوفَّق العبدُ لأن تكون كلمةُ الإخلاصِ آخرَ ما يقول، فإنَّ من ختِم له بهذه الكلمة نال الفضلَ العظيم، وفي الحديث: ((من كان آخر كلامه من الدنيا: لا إله إلا الله دخلَ الجنة))، وفي حديث عِتبان: ((فإنَّ الله حرَّم على النار من قال: لا إله إلا الله خالصًا من قلبه)). وعند الاحتضار يوفِّق الله أهلَ الإيمان، فعندما يأتي ملكُ الموت لقبض تلك الروح التي طالما عمر بها الجسَد يكون آخر كلام العبد: "أشهد أن لا إله إلا الله وأنّ محمدا عبده ورسوله"، فيا لها من كلمةٍ إذا وفِّق لها في تلك الحالة العصيبة، إنها كلمةٌ تنجيه من النارِ، وتؤمِّنه من الخلودِ في النار، فيختَم له بخَير. إنَّ العبدَ عند الاحتضار تضعف قواه، وتقِلّ حيلته، ويجلب الشيطان عليه برَجله وجندِه؛ عسى أن يظفرَ منه بخاتمةِ سوء، يحسِّن له الباطل، ويدعوه إلى مِلَل الكفر، والعبدُ في شدَّة ضعفٍ وأعظَمِ بلاء، يعالجُ مِن خروجِ الروح من جسده ما الله به عليم، ولكنَّا لا نعلَم ذلك والله يقول: وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَكِن لاَ تُبْصِرُونَ [الواقعة:85].
فالمؤمن يثبته الله على الحق، عمرٌ طالما عمِر في طاعةِ الله، قلبٌ طالما أخلَص لله العملَ، فيوفَّق عند الاحتضار، فينطِق بكلمة التَّوحيد، فيختَم له بها عملُه، فتلك النّعمةُ الكبرى والفضل العظيم، يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاء [إبراهيم:27].
أيّها المسلم، ومِن علامات حسنِ الخاتمة ما جاء عنه : ((إنَّ المؤمِن يموت في عرقِ جبينه))، فيعرَق جبينُه عند احتضارِه، وهذه من علاماتِ الخير.
ومنها ما أخبر النبيّ بأنّ تلك الميتَة شهادة، فأخبر أنّ الميتَ بالطّاعون شهيد، والميت بالغَرَق والهدمِ شهيد، والميّت بداءِ البطن شهيد، كلّ تلك علاماتُ خير للمسلم بتوفيق الله له.
فاسأل الله خاتمةَ الخير، واحذَر أن تخونَك أعمالك في تلكَ اللّحظات، فيظهر على فَلَتات لسانك ما كنتَ تضمِره من سوءِ الاعتقاد، أو ما كنتَ تضمِره من محبّة المعاصي، أو ما كنتَ تضمِره من الظلمِ والعدوان، أو ما كنتَ تضمره من قلّةِ الإخلاص والرّياء، فيظهر ذلك على لسانِك عندَ الموت، فتلقى الله على غير هدى، أعاذنا الله وإياكم من ذلك. فاحذروا ـ أيها المسلمون ـ عواقب الذنوب، واستقِيموا على طاعةِ علاّم الغيوب.
أسأل الله أن يثبِّتني وإياكم على صراطه المستقيم، وأن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، وأن يحيِيَنا مسلمين ويميتَنا مسلمين ويلحِقَنا بالصالحين، غيرَ خزايا ولا مفتونين، إنّه أرحمُ الراحمين وأكرم الأكرمين.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليلَ لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفِروه وتوبوا إليه، إنّه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيِّبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربّنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له، وأشهد أن محمَّدًا عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلَّم تسليمًا كثيرا إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيّها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى، وتخلَّقوا بصالحِ العمل، واعلَموا أنَّ من شبّ على شيءٍ شابَ عليه، ومن شابَ على شيءٍ ماتَ عليه، ومن مات على شيءٍ بُعِث عليه.
يا أيّها المسلم، ليس للموتِ مَرضٌ معلوم، وليس للمَرض سِنّ معلوم، وليس للموتِ وقتٌ معلوم، ولكنها آجالٌ بيَدِ الله، إذا حضَر الأجل فلا رادّ له، وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاء أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [المنافقون:11]. فلنستعدَّ للقاء الله، ولنستعدَّ للأعمالِ الصالحة، ولنخلِص لله أقوالَنا وأعمالَنا، ولنسألِ الله الثباتَ على الحق والاستقامةَ عليه إلى أن نلقاه، ولنكثِر: "يا مقلِّب القلوب ثبِّت قلبي على دينك، يا مقلّب القلوب ثبت قلبي على دينك"، فإنَّ الله إذا أرادَ أن يقلِب قلبَ عبدٍ قلبه، فلا حول ولا قوّة إلا بالله العلي العظيم.
أيّها المسلم، أيّتُها المرأةُ المسلمة، أيّتها المرأة العفيفة، أيّتها المرأةُ ذات الدّين والخلُق والقِيَم، أيّتها المرأة المسلمة، تربَّيتِ بين أبوَين مسلمين، ونشأتِ على فطرة الإسلام، وتعلَّمتِ على هديِ الإسلام، ونشأتِ على هذا الخلُق الكريم؛ العفّة والصيانة والحشمة والبُعد عن كلّ ما يخالف شرع الله، هكذا أراد الإسلام لك أيتها المسلمة: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [الأحزاب:33].
هكذا المأمولُ من فتياتِ الإسلام اللواتي تربَّينَ على الهدَى والأخلاق الكريمة والبعدِ عن مواطنِ الريبةِ والشرّ والفساد، هذا الخلُق القيِّم والحشمة والعفّة أغاظَت أعداءَ الإسلام، وأغاظت أعداءَ الشريعة، أغاظت من يريدون بهذه الأمةِ كيدًا ومصيبة، ومَن يريدون بهذا الدّين الأذَى والبلاء، من يكيدونَ للإسلامِ وأهلِه، مَن لا يريدون للأمّة أن تبقى على خيرها وسماتها وكرامَتِها، فدَعَوها إلى العملِ بجانب الرجال، وهيّئُوا لها الفُرَص، وادّعوا بذلك أنهم ساهمُوا في سَعَودةِ الأمّة، وأنهم وأنهم... إلى آخر ما يقولون وما يعتَذِرون.
وإنها لخطواتٌ سيّئة غير موفَّقة، وإنَّ الواجبَ على المرأة المسلمة أن لا يكونَ خلُقُها ثمنًا لدنيا تأخذه، بل يكون خلُقُها وسترها وعَفافها فوق هذا كلِّه، فهي خلِقَت لعبادةِ ربها، وخلِقَت لتبنيَ الأجيالَ المسلمة، وخلِقَت لتكونَ مساهمة في إصلاحِ مجتمعها وأفرادِ أسرتها؛ لتقدِّم للأمّة فتياتٍ وأبناء صالحين مستقيمين، خلِقَت لتكونَ راعيةً على أهل بيتها، لم تخلَق لتمَازِجَ الرّجالَ، ولم تخلَق لتجعَلَ الدنيا عِوَضا لعرضِها وكرامتها.
إنّك ـ أيتها المرأة المسلمة ـ لا تظُنّي تلك الدعاياتِ من مصلحتك أبدًا، ولا أنَّ قصدهم بهذا إكرامك ورفع منزلتِك، ولا أن الهدفَ من هذا إبراز شخصيّتك، ولا أنَّ الغايةَ من هذا إكرامك، ولكن الغاية ـ يعلم الله ـ ما وراءَ أولئك من مكيدةٍ للإسلام وأهلِه، وحَرب على القيَم والفضائل التي تميَّز بها المجتمع المسلم، فلا يرضي أعداءَ الشريعة إلا أن يجرِّدوا هذه المرأةَ المسلمة من قِيَمها وأخلاقها، فلا تخدعنَّك هذه الدعايةُ، ولا يغرَّنَّك هذه المكاسب المادّيّة، ففيك من الأخلاق والقِيَم ما هو فوق كل هذه المادّة كلِّها، فاستقيمي على الخير، والزَمِي البيتَ والوظائفَ اللائقةَ بك المهيَّأَة لك، دون الاختلاط مع الرجال، بأيّ ذريعةٍ كانت، فإنها طريق مشوبٌ بالشرّ، وطريق مفضٍ إلى الفساد، وطريقٌ سائِر بالفتاة المسلِمة لأن تحاكيَ المرأةَ الغربيّة في قِيَمها وأخلاقها، فتفقد الأمّة كرامَتَها، وتفقد الأمّة سمعتَها، وتَفقد الأمّة ما تميَّزت به من أخلاقٍ وقِيَم وفضائل.
فيا أيّها المنادون لهذه البرامِج السيئة، خافوا اللهَ في مجتمعِ المسلمين، واعلموا أنَّ سعيَكم ضلال، وأنَّ خطواتكم خطواتٌ إلى الفجورِ والنار، وأنَّ هذا المجتمعَ المسلم أمانة في أعناقِ المسلمين، محافَظة على أخلاقه، ومحافَظة على كرامته، ومحافظةٌ على مبادئِه وقِيَمه.
إنَّ المرأة المسلمة هيِئَت لتربِّيَ الأجيال، وتعمرَ البيت، وتساهِم في الخير، لا أن يُزجَّ بها كلّ النهار وأوَّل الليل فيما يسمَّى بعَمَلها، وفيما يسمَّى بأنَّها تبيعُ للنّساء، وفيما يقول ويقول أولئِك، والله يشهَد إنهم لكاذِبون، والله يعلم أنَّ مقاصدَهم سيِّئَة.
فلنَتُب إلى الله، ولا يَغرَّنَّكِ ـ أختي المسلمة ـ ما يقول هؤلاء وما ينمِّقون، وما يكتُبه الكاتبون وبعضُ المنحرفين في كتابَتِهم، الذين يكتبون بما تمليه قلوبُهم من الحِقدِ على الدين وأهله، ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ [محمد:26].
أقلامٌ جائِرة، وألسنةٌ كاذبة، ومقالاتٌ خاطئة، سَطَّرت بأقلامها كلَّ ما يحارب العقيدةَ والقيَم والأخلاق، فاتَّقي الله أيتها المسلمة، ولا تنقادي لتلك الدِّعاية، ففيها هدمٌ لكرامتك وأخلاقِك، ونسخٌ لفضيلتك، وزجّ بك في التّرّهات التي لا نهايةَ لها سِوى الانحلال من القِيَم.
أسأل الله أن يحفظَ مجتمعَ المسلمين عامّةً من كل سوء، وأن يصلِحَ الأقوال والأعمال، وأن يعيذَنا من زوالِ نعمتِه ومن تحوُّل عافيته ومن فُجاءَةِ نقمتِه ومن سائر سخطه، وأنه من أراد الإسلامَ وأهله بسوء أن يكبتَه الله في نفسِه، وأن لا يمكِّنَه مِن مراده، إنّه وليُّ ذلك والقادر عليه.
واعلَموا ـ رحمكم الله ـ أن أحسَن الحديثِ كتابُ الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشرّ الأمور محدَثاتها، وكلّ بدعة ضلالة، وعلَيكم بجماعةِ المسلمين، فإن يدَ الله على الجماعةِ، ومن شذَّ شذَّ في النار.
وصلّوا ـ رحمكم الله ـ على عبد الله ورسولِه محمّد كما أمركم بذلك ربُّكم، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللّهمّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدِك ورسولِك محمّد، وارضَ اللهم عن خلفائه الراشدين الأئمّة المهديين: أبي بكر وعمرَ وعثمان وعليّ وعن سائر أصحاب نبيّك أجمعين، وعن التابعين وتابعِيهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوِك وكرمِك وجودك وإحسانِك يا أرحمَ الراحمين.
اللّهمّ أعزَّ الإسلام والمسلمين، وأذلَّ الشرك والمشركين، ودمِّر أعداء الدين، وانصُر عبادَك الموحّدين...
ـــــــــــــــــــ(68/160)
قضية الامتحانات
...
...
4816
...
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
...
...
الأبناء, التوبة, قضايا المجتمع
...
حمزة بن فايع الفتحي
...
...
محايل
...
22/8/1419
...
...
جامع الملك فهد
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- حال الطلاب وقت الامتحانات. 2- رسالة إلى الآباء والأمهات لتعظيم امتحانات الآخرة في قلوب الأبناء. 3- رسالة إلى الطلاب في مواصلة الجد والاجتهاد بعد الامتحانات. 4- العناية والاهتمام بالفوز الحقيقي في الآخرة.
الخطبة الأولى
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدى هدى محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحشر:18].
أيها الناس، في هذه الأيام ينتبه العقل ويحسُنُ الوعي، ويحيا الجد ويقل اللعب، ويرقى مستوى الفكر، وتسلك النفس الطريق الأقوم والنهج الأسلم؛ لأن الناس يواجهون ما يسمى بـ(كابوس الامتحانات)، إذ يرتفع مستوى الضغط والقلق والعناء لدى كثير منهم، فتعلو الهمم وتلتهب العزائم وتعظم الجهود، وتُستفرغ الطاقات إلى حال يسرّ الناظر ويبهج الطالع ويغري العاطل والجاهل. لقد استنفر الجميع للامتحانات الكبار والصغار والرجال والنساء.
وايم الله، إنها لصورة مذهلة، همم أولئك الطلاب الذين يكرّسون جهودهم للمقررات فيفلُّونها فلاًّ، ويسهرون لها ليلاً، ويتركون لأجلها لهوًا ولعبًا. كم سمعنا ورأينا طالبًا قرأ في ليلة مائة صفحة، وآخر لم ينم إلى الفجر، وآخر مكث بضع عشرة ساعة يذاكر، وآخر قد تغير وجهه من طول المذاكرة والقراءة. همم كبيرة ونفوس عظيمة، هي ذريعة التفوق والبروز والنجاح، بها نفخر ونتشرف ونعتز ونشيد.
ذي المعالي فلَيعلوَنَّ من تعالَى هكذا هكذا وإلاّ فلا لا
شرَفٌ ينطِحُ النجوم برُقيِّه وعِزٌ يقَلقِل الأجبالا
من أطاق التماسَ شيء غِلابًا واغتصابًا لم يلتمسه سؤالا
كلُّ غادٍ لحاجة يتمنى أنْ يكونَ الغضنفرَ الرئبالا
أيها الآباء الكرام، حَسنٌ فيكم اهتمامكم بأبنائكم، وبصيرتكم بمستقبلهم، وحرصكم على حياتهم، إذ الامتحانات فيها ثمرة العلم ويقظة الوعي وتربية الجد والمثابرة والصبر، وعند ذكرها يلوح للبصراء قضايا مهمة هي أجلّ وأعظم، ومسائل مهمة هي أهمّ وأحكم، ربما خفيت على كثير منا، فلقد وددنا ـ كما سعى هؤلاء الآباء والأولياء في تعظيم وطأة الامتحانات وتذكير الأبناء بها ـ أن يسعوا في تعظيم طاعة الله في قلوبهم، ويحضوهم على صالحات الأعمال والمبادرة إليها، فإنها هي التجارة الرابحة والكنوز المضاعفة والنجاح التام، كالصلاة وأعمال الخير والبر، فهؤلاء الآباء يوقظون أبناءهم للامتحان، ويحذرونهم مغبة التأخر والإهمال والإخفاق، ويلهبون في نفوسهم مسألة التفوق والظهور والنجاح، وبعض هؤلاء الآباء لا يوصي ابنه بالصلاة والمواظبة عليها إلا في الامتحانات، ويعلّق عليها التوفيق والفتح من الله تعالى، وإذا انقضى الامتحان نسي النصح والتذكير، وسار الابن ضائعا بلا واعظ أو نذير.
أيها الأب الواعي، إنا لنعجب بعظم إيمانك بالامتحانات وإعدادك الأبناء لها، وبضعف إيمانك بالجنة والنار، فأنت تبني أبناء للدنيا؛ لمنصب أو وظيفة، وتنسى بناءهم للآخرة؛ يضيعون الصلاة فلا تحاسبهم، ويتيهون في براثن اللهو والضياع ولا تسألهم، يقصرون في سلوك طرق الخير ولا تبالي، ويسارعون في طرق الشر ولا تعظهم أو تحذرهم.
إنا لنعجب كيف قلَّ فقهك عندما أصلحت وضع ابنك الاجتماعي ولم تصلح أوضاعه الدينية؛ يهمل الفرائض، ويقارف المحرمات، ويصاحب الأراذل، وتفسد الأخلاق، وأنت تغذيه وتسمنه، ظانًا أنك اتقيت الله فيه ورعيته أحسن الرعاية وصنته أجمل الصيانة، قال : ((كلكم راعٍ، وكلكم مسؤول عن رعيته)).
أيها الأب المؤمن، إن وثيقة الدراسة ليست وثيقة هداية ورشد وصلاح، وهي لا تعني النجاح في الآخرة، ولا تعني السلامة من النار. هل غاب عنك أن زهرات الدنيا متع زائفة قليلة، ليست هي الغاية المطلوبة ولا النجاة المرغوبة؟!
واترك الدنيا فمن عاداتها تَخفض العالي وتعلي من سفََلْ
واتق الله فتقوى الله ما جاورت قلب امرئ إلا وصلْ
ليس من يقطع طرقًا بطلاً إنما من يتقي الله البطلْ
هل تأملتم ـ أيها الآباء ـ في أناس حصلوا الشهادات ثم رحلوا إلى الله؟! هل فكرتم في أقوام كدحوا في نيل المناصب وحيازة الأموال حتى إذا وصلوا أفناهم هادم اللذات، فلا شهادة نفعت، ولا منصب شفع، ولا مال آزر وأغنى؟!
فالمهم هنا أن نصلح أبناءنا لما هو أهم وأعظم، وأن تكون نظرتنا للامتحانات نظرة متّزنة معتدلة، فوالله لصلاح ابنك وهدايته خير من لذائذ الدنيا وزهراتها لو تأملت وفكرت قوله تعالى: فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الغُرُورِ [آل عمران:185].
إخواني الطلاب، إنَّ الوعي والجدّ اللَّذَين تَمَّا لكم في الامتحانات تاج فوق رؤوسكم، ومفخرة عظمى لآبائكم ومجتمعكم، لكننا نطمع في ديمومة تلك الهمم العالية وذلك الاجتهاد المنقطع بعد الامتحان، وليس بعسير عليكم أن تبذلوا تلك الهمم في تلاوة القرآن وحفظه وقراءة كتب السنة والتفسير أو مطالعة السيرة النبوية؛ لكي تصح عقولكم وتنشرح صدوركم وتسمو هممكم.
إخوتي الطلاب، قبيح ـ والله ـ أن تبقي تلك الهمم مختزنة، وإذا أُخرجت أُخرجت في أمور مهينة وأمور عاقبتها وخيمة. يقول الشيخ العلامة علي الطنطاوي رحمه الله: "لو أن همم أبنائنا في القراءة كهمهم في الامتحانات لأخرجنا علماء كثيرين، ولا نريد في كل أسبوع عالما، بل في كل شهر فحسب".
اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها. ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين...
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على سيد الخلق أجمعين.
أما بعد: فإنه لحري لمن يؤمن بالله واليوم الآخر أن يعد للامتحان الأكبر، ويجمع للامتحان الخطير، فإنه بحق هو الامتحان والاختبار، وفيه الربح والخسارة، وفيه النجاح والفشل.
واعلموا أن الفوز هناك فوز دائم، والإخفاق إخفاق دائم، فأعدوا لذلك الامتحان عُدته، وخذوا له أُهبته، وإنه لمن الغفلة بمكان أن يُرى الإنسان عاملا للدنيا غافلا عن الآخرة، ومصيبة عظمى أن يسعى الآباء والأولياء في تعظيم امتحانات الدنيا في قلوب أبنائهم ويغفلون عن امتحان الآخرة، اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ [الأنبياء:1]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ [التحريم:6].
إن وقاية الأبناء ليست بشهادات الدنيا، وليس بالتفوق فيها، إن الوقاية الحقة أن تفتح لهم دروب الحق والهدى والنور، أن تُقرب لهم الهداية وأن يجنبوا الغواية. فما الفائدة أن يحوز الأبناء الشهادة والتقادير العالية وهم عاقون لآبائهم وأمهاتهم ومضيعون حقوق ربهم، بل ـ والعياذ بالله ـ هم نواب إبليس في الشر والضلالة؟!
فاتقوا الله أيها الآباء، وتفكروا في الامتحان الخطير، وزوّدوا أنفسكم وأبناءكم بزاد كريم، لكي يحصل الفوز ويحق النجاح، فاعتبروا يا أولي الأبصار
ـــــــــــــــــــ(68/161)
تأملات في الامتحانات
...
...
4817
...
الأسرة والمجتمع, العلم والدعوة والجهاد
...
...
العلم الشرعي, قضايا المجتمع
...
حمزة بن فايع الفتحي
...
...
محايل
...
2/3/1422
...
...
جامع الملك فهد
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- حال الناس وقت الامتحانات. 2- من فوائد الامتحانات. 3- الفوز الحقيقي يكون في الآخرة. 4- العناية بربط الطلاب بالتوكل والاعتماد واللجوء إلى الله. 4- رسالة إلى العقلاء من العلماء والمفكرين والباحثين.
الخطبة الأولى
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70، 71].
أيها الناس، في هذه الأيام تشتعل العزائم وتتوقد الهمم وتتضافر الجهود؛ استعدادًا لما يسمى بالامتحانات. تتهيأ المدارس والمؤسسات العلمية بجميع مرافقها وأعضائها، ويهتم الآباء بتوجيه أبنائهم وتشجيعهم، وينشط الطلاب للمذاكرة سهرًا وجدًا واجتهادًا.
العقول الخاوية تصبح بالامتحانات واعية، والنفوس الباردة تصير بالامتحانات جادة، والهمم الفاترة تتحول لتكون عالية صامدة. إن الامتحانات تحدث نقلة في حياة الناس عجيبة؛ فتجد أكثر الناس مهتمين بها، معظمين لها، حريصين عليها.
لماذا كل هذا الاهتمام بالامتحانات؟! لقد آمن الجميع أنه اجتياز طريقٍ للمستقبل، أو ضمان الوظيفة، أو نافذة للرزق، أو كسب السمعة وحسن الصيت، لذلك فإن تحطيم أستار الكسل والضعف والبرود في الامتحانات لم يعد غريبا في حياة الناس، بل قل: حتى في حياة الكسالى والباردين.
أيها الإخوة الكرام، لقد باتت النظرة التربوية للامتحانات مفرطة عندما بالغت في الاهتمام بها وحشد الطلاب لها، حتى صار الشغل الشاغل هو الامتحانات، وغدا المتفوق والمهمل والجاد والكسول يدركون شدة وطأة الامتحانات وعظيم الخيبة عند إهمالها أو عدم الاستعداد لها.
فأصبحت الامتحانات حينئذ قضية كبرى وغاية منشودة، أربت على الرسالة التربوية الجادة من إصلاح الجيل وبناء العقول وتوثيق عُرى الدين ومكارم الأخلاق.
فيجب علينا كمسلمين ـ متعنا الله بالعقول والبصائر ـ أن نعتدل في نظرتنا للامتحانات، ونوصي أبناءنا والتلاميذ بالجد والاجتهاد فيها، دون إغفال جوانب الإصلاح والتربية، التي هي مقصود المدارس والمؤسسات التعليمية.
نحن لا نريد أن ترتفع المعدلات والدرجات مع انخفاض التديّن والأخلاق في حياة هؤلاء الناجحين. ولربَّ حائزٍٍ على تقدير عالٍ ويوضع في لوحة الشرف وهو لا يمتّ للخير والخلق بصلة.
في الامتحانات يدخل طلابٌ المساجد، لم يكونوا يعرفونها من قبل، مظهرين النسك والخير والضراعة لله، ابتغاء النجاح والتفوق، وهذه فرصة مهمة للمعلمين والمربين وأئمة المساجد، أن يزيدوا في إيمان هؤلاء ويحرصوا على تعليقهم بالله، وربط مستقبلهم بتوفيق الله ورعايته وتأييده، وأنهم فقراء إليه، محتاجين لفضله وإنعامه.
إذا لم يكن عون من الله للفتى فأوّل ما يقضي عليه اجتهادهُ
وفي ظلّ انفِتاح هذا العصر تتناءى طوائف غير قليلة عن المساجد، ولا تبالي بأهمية التوكّل على الله وسؤاله التوفيق والنجاح.
وهؤلاء هم في أمسّ الحاجة إلى النصح والتذكير، وحين نذكر قبيل الامتحان بأهمية الامتحان وضرورة التهيؤ له نذكر بأهمية الصلاة واللجوء إلى الله، فمنه يُستمد النجاح والتفوق والتميز، فهو أهل الفضل والمن تبارك وتعالى: وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ [النحل:53].
أيها الإخوة، إن المتأمّل لمسألة الامتحانات يدرك لها فوائد كثيرة غير النجاح والشهادة، والتحرر من الدراسة ورهق المذاكرة، فمن فوائدها: إقبال التلاميذ على المساجد، ودعاؤهم الله كثيرا بالنجاح والتوفيق، وفي ذلك تربية إيمانية لا تخفى، جدير بنا أن نستثمرها وننميها.
ومن فوائدها: استيقاظ الهمم والعقول، وتحولها إلى منابع تفيض بالجد والاهتمام والاستبصار.
ومنها: تفجر الطاقات عن مظاهر من العمل والنبوغ والصمود؛ من أجل نيل رمز النجاح ووسام التفوق.
ومن فوائدها: العزوف عن اللعب واللهو، فتقلّ العناية بالكرة على سبيل المثال عند كثيرين أيام الامتحان.
ومن فوائدها: استطعام الحياة الجادة، وترك حياة الكسل والنوم والبطالة، وفي ذلك تربية للإنسان على الدأبَ والصبر ومقاومة شدائد الحياة.
ومنها: إيقان الجميع بأن لكل ثمرة ولذة نصَبًا وجهدًا، وأن الأمنيات لا تنال بالأحلام والتخيلات، وإنما بالهمم العالية والنفوس الدائبة.
وما نيلُ المطالب بالتمني ولكن تؤخذ الدنيا غِلابا
فمن استطاب الراحة واستلذَّ بالنوم وارتاح للفراغ فهذا لا يصعد عَلما ولا يحقّق أملا. يقول أحد الأدباء الفضلاء: "لو أن همم أبنائنا للعلم كهمهم في الامتحانات لأخرجت الأمة علماء كثيرين، ولا نريد في كل أسبوع عالما، بل في كل شهر فحسب".
أيها المسلمون، إن قضية الامتحانات لا تعدو أن تكون قضية دنيوية، فما ينبغي إعطاؤها أكثر من حجمها، أو التهويل من شأنها على حساب قضايا جليلة في حياة الناس، ولا يليق بمؤمن بالله واليوم الآخر أن تنسيه الدنيا الدارَ الآخرة وفيها الفوز والفشل والنجاح والخسارة، وقد كان من دعاء النبي المأثور: ((اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا)). وكم من ممتحن لم يدخل الامتحان حتى وافاه الأجل، وكم من ناجح متفوّق حُرِم لذة التفوّق ولم يرَ الشهادة. فينبغي علينا كمسلمين أن نعطي الأمور حجمها، وأن لا تنسينا دنيانا أخرانا، فإن النجاح الحقيقي هو النجاح في امتحان يوم القيامة، حينما تسودّ وجوه وتبيض وجوه، وتعلو أنفس وتسقط أنفس، فهنالك الحياة الحقيقية والفرح الدائم.
نسأل الله تعالى أن يجعلنا من الفائزين بجنات عدن، الناجين من النار، إنه على كل شيء قدير.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم...
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أيها الإخوة الفضلاء، ومن فوائد الامتحانات: أن أهلها يعظمون الوقت فيها، ويحرصون على حفظه وعدم إضاعته، فيسابقونه ويتقلّلون من الطعام والزيارة والخروج من أجله، فليت هؤلاء الشباب يحفظون الأوقات دائما كحفظهم لها في الامتحانات. فالوقت هو عمر الإنسان، وفيه شقاوته وسعادته، وسوف يسأل عنه يوم القيامة، وقد ذمّ الله تعالى أقواما بتضييعهم الوقت وعدم الانتفاع به، فقال تعالى: أَوَ لَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ [فاطر:37].
أيها الإخوة، لا يزال الترهيب من الامتحانات يورث صورًا من الخوف والقلق وتغيرا في النفس وشحوبا في الوجه وتدهورا في الصحة، فيجب علينا تعميق النفوس بالإيمان، وزرع الثقة في الطمأنينة فيها، والاستعداد للامتحان دون مبالغة وتهويل وتخويف، وتربية الأبناء على التوكل على الله وسؤاله الفتح والتوفيق والنجاح، فإنه المنعم المتفضل سبحانه وتعالى، بيده مفاتيح الفرج ومنابع اليسر والرزق والتوفيق. فما يذكَر تعالى في عسر إلا يسَّره، ولا كربة إلا فرَّجها، ولا مخافة إلا أمنها، ولا صعب إلا هونه تبارك وتعالى، مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ [فاطر:2]
وكان كثير من الأئمة إذا تعسّرت عليه الأمور أو أشكلت عليه المسائل يكثر الدعاء والذكر والاستغفار إلى من هو على كل شيء قدير، الذي لا تعجزه الحاجات، ولا تشق عليه الملمات، فما هو إلا وقت يسير فينحل الإشكال وتزول الملمة وينقشع الهم. وبقدر صدق العبد وإخلاصه وكثرة توجهه تنزل عليه البركات وتغشاه الرحمات، ويلازمه التوفيق والنجاح في كل شؤونه وأموره.
إخواني الكرام، لا تزال كلمة العقلاء من العلماء والمفكرين والباحثين تتفق أن النجاح في الحياة وتحقيق الأماني مرهون بالهمة العالية والكفاح الدائب، ومن شروطه ترك الكسل ومجانبة البطالين وهجر الراحة والرفاهية، قال الإمام يحيى بن أبي كثير رحمه الله: "لا يُستطاع العلم براحة الجسد".
خرج أحد العلماء وهو القفَّال الشافعي يطلب العلم وعمره أربعون سنة، بينما هو في الطريق جاءته نفسه فقالت له: كيف تطلب العلم وأنت في هذا السن؟! متى تحفظ؟! ومتى تعلّم الناس؟! فرجع، فمرّ بصاحب ساقية يسقي على البقر، وكان الرّشاء ـ أي: الحبل ـ يقطع الصخر من كثرة ما مرّ، فقال: أطلبه وأتضجّر من طلبه!
اطلبْ ولا تضجر من مطلبٍ فآفة الطالب أن يضجرا
أما ترى الحبل بطول الْمدى على صليب الصخر قد أثَّرا
وكان هذا الموقف عظةً له، واصل من خلاله طلب العلم، وجدَّ واجتهد، حتى بلغ المنزل، وصار من أئمة الشافعية ومن العلماء الكبار رحمه الله.
فهنيئا لمن أخذ بأسباب علو الهمة وكبر النفس، فرُزق نفسًا تواقة، تطلب العلا وتأنف من الأقذاء، وتتجرأ على الصعاب والمضايق، إنها لقمّة الفرح والسعادة وقد قيل: "بقدر ما تتعنّى تنال ما تتمنَّى".
اللهم صل على محمد النبي الأمي وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد...
ـــــــــــــــــــ(68/162)
حال المرأة المسلمة
...
...
4818
...
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
...
...
الفتن, المرأة
...
يوسف بن عبد الوهاب أبو سنينه
...
...
القدس
...
21/4/1427
...
...
المسجد الأقصى
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- أهمية المرأة في بناء الأجيال. 2- مخاطر انحراف المرأة. 3- حال النساء اليوم. 4- نماذج من الصالحات. 5- القضية الفلسطينية.
الخطبة الأولى
عباد الله، لنلقي وإياكم نظرة على حال المرأة في مجتمعنا اليوم، وكلنا يعلم أن للمرأة دورا كبيرا في تربية الأجيال، والمرأة إذا استقامت على منهج الله ربّت وأنجبت رجالا لقيادة الأمم، وإذا اختل توازنها اختل كيان المجتمع، وإذا دخلت المرأة أبواب الفساد وابتعدت عن جادّة الصواب انتشر البلاء وعمّ وملأ البلاد طولا وعرضا. ومن هنا أمرنا الإسلام بالمحافظة على المرأة، وقد أوصانا بها رسولنا الأكرم فقال: ((استوصوا بالنساء خيرا)).
عباد الله، إن سبب انحطاط الأخلاق في البلاد تبرّج النساء وإظهار الزينة وزخرفة الثياب والمساحيق المستعملة اليوم من تبييض الوجه وتحمير الشفتين وتوريد الخدّين وترقيق الحاجبين وتسويد الأهداب وتقصير الثياب وتعرّي بعض الجسم من الظهر وتحت العنق ولبس الضيق وغير ذلك، كل هذه الأنواع وغيرها هي شباك الفتنة وحبال الشيطان، وتجرّ إلى مهاوي الانحطاط والانحلال الخلقي الذي حرمه الإسلام، وهو يهوي إلى هدم كيان الأسرة والمجتمع.
عباد الله، بعض النساء والفتيات يخرجن في الطرقات والأسواق وهنّ على مظهر غير مقبول، فالمرأة المسلمة امرأة محتشِمة وملتزمة، تلتزم أدب الإسلام في زيّها ولباسها، في مشيها وحركاتها، في كلامها إذا تكلمت، في نظرتها إذا نظرت، في حركاتها إذا تحركت. هذه المرأة لا يمكن أن يطمع فيها أحد من الناس، ومن هنا يقول المولى عز وجل: فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفًا وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [الأحزاب:32، 33]. فالخضوع بالقول هو التكسّر والتمييع وتعمّد الإغراء للرجل بطريقة الكلام، والخضوع بالفعل أن تمشي مشية متكسّرة، ومثله الإغراء باللباس والزيّ أو الملابس الرقيقة الشفافة أو الملابس المحدِّدة لمفاتن الجسم، وأن تتعمد إظهار شيء مما يجِب ستره من جسمها. كل هذا إغراء لأولئك المفسدين، وقد قال الله عز وجل: وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ [النور:31]. إنها حركة بالأرجل للَفت الأنظار وجذب الانتباه، وهذا لا يجوز من امرأة مسلمة تخشى الله تعالى.
تعلّمن ـ أيتها النساء ـ من ابنة الرجل الصالح الذي ذكره الله تعالى في سورة القصص حيث وصف الله تعالى مشيتها بقوله: فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ [القصص:25]، مشيتها على استحياء، وكلامها على استحياء، فقد كلّفها أبوها المشي إلى رجل أجنبي، فكلُّها حياء في حياء، كيف وقد تربت في بيت الصلاح والعفاف والطهارة؟! ومن هنا أمر الله تعالى المؤمنات أن يكون قولهن جزلا وكلامهن فصلا، ولا يكون على وجه يحدِث في القلب علاقة بما يظهر عليه من اللين المطمِع للسامع، وأن يكون قولهن معروفا.
عباد الله، ومن المفاسِد التي نراها في هذه الأيام ذهاب النساء إلى مصفّف الشعر وعمل التسريحة، وقد يكون المصفّف من الرجال، وهذا كله من الأمور المحرّمة شرعا، فإذا كان النظر قد نهانا الله تعالى عنه فما بالكم ـ يا عباد الله ـ بلمس شعرها وظهور مفاتنها؟! ما بالكم بلمس وجهها؟! أين الحياء؟! أين العفة والشرف؟!
يا نساء المسلمين، جمال الخلاَّق أجمل وأعظم من جمال الحلاق.
يا نساء المسلمين، إن وضع الأصباغ على الأظافر يمنع من وصول الماء إلى الجسم، ومتى كان ذلك كذلك فالوضوء باطل، اسمعن قول رسول الله : ((لعن الله الواصلة والمستوصلة والواشمة والمستوشمة))، والواصلة التي تصل شعرها بشعر غيرها تريد بذلك أن يظنّ بها طول الشعر، أو يكون شعرها أصهب فتصِله بشعر أسود، فهذا من باب الزور والكذب. والواشمة من الوشم في اليد، وكانت المرأة تغرز مِعصم يدها بإبرة حتى تدميه ثم تحشوه بالكحل ليخضرّ. والمستوشمة هي التي تسأله وتطلب أن يفعَل ذلك بها. وفي رواية أخرى يقول رسول الله : ((والمتنمّصات والمتفلّجات للحسن المغيِّرات خلق الله))، وفي رواية: ((النامصة والمتنمصة))، والنامصة التي تنتف الشعر من الوجه، والمتنمّصة هي التي تَفعل ذلك بنفسها، وبنفس الوقت تقوم المرأة بترفيع الحاجبين أو إزالتهما ثم تضَع بدلهما خطّين بالقلم. وفي رواية: ((لعن الله الواشرة والمؤتشرة))، والوشر أن تحدّد المرأة أسنانها وترققها، والمؤتشرة التي تأمر من يفعل بها ذلك.
عباد الله، نريد المرأة الصالحة التي تبني المجتمع، نريد المرأة العابدة القارئة لكتاب الله تعالى، نريد المرأة الفاعلة في تربية الأجيال.
انظروا ـ أيها المؤمنون ـ واستمعوا بآذان صاغية لهذا المشهد الذي أصبح عرضيا في هذه الأيام، يقول ابن العربي المالكي رحمه الله في كتابه أحكام القرآن عند هذه الآية: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ ما نصه: "ولقد دخلت ضيفا على ألف قرية، فما رأيت نساء أصون عيالا ولا أعفّ نساء من نساء نابلس، فإني أقمت فيها شهرا، فما رأيت امرأة في طريق نهارا إلا يوم الجمعة؛ فإنهن يخرجن إليها حتى يمتلئ المسجد منهنّ، فإذا قضِيت الصلاة وانقلبن إلى منازلهن لم تقع عيني على واحدة منهن إلى الجمعة الأخرى، وسائر القرى ترَى نساءها متبرجات بزينة وغفلة، متفرقات في كل فتنة، وقد رأيت في المسجد الأقصى عفائف ما خرجنَ مِن معتكفهنّ حتى استشهدن فيه". فكيف حالنا اليوم يا عباد الله؟! كيف لو زارنا هذا الإمام في هذه الأيام، ماذا سيكتب عن نساء بيت المقدس؟! ماذا سيكتب عن نساء فلسطين؟! أين ذهب الحياء؟! أين المروءة؟! وصدق الشاعر بقوله:
مررت على المروءة وهي تبكي فقلت: علام تنتحب الفتاة؟
فقالت: كيف لا أبكي وأهلي جميعا دون خلق الله ماتوا
عباد الله، نريد المرأة القانتة العابدة الصالحة التي يستجيب الله دعاءها.
انظروا إلى هذا المشهد الحي، مشهد صادق يملؤه الإيمان والمحبة لله تعالى ولرسوله ، تعلموا ـ يا عباد الله ـ من هذه المرأة المسلمة، إنها أم الإمام البخاري العالم الذي نشر علم الحديث الشريف في بقاع الأرض، ما من عالم إلا ويقول: روى الإمام البخاري في صحيحه كذا وكذا.
اسمعوا أيها المؤمنون: ولد الإمام البخاري ضريرا فاقدَ البصر، وقد حزنت أمه أشدّ الحزن، ونامت أمه وهي حزينة، نامت داعيةً الله تعالى متوجّهةً بالقلب المنكسر الخاشع إلى رافع السماء بلا عمد، وإذا بها ترى رسول الله في منامها ويقول لها: أبشري يا أم محمد، أبشري فإن الله سيرد له بصره. وقامت من المنام يتطاير قلبها من السرور، ورفعت اللثام عن وجه ابنها فرأته قد ردّ الله عليه بصره. إنه الإيمان، إنه الصدق، إنها الصلة القويّة بالله تعالى. لم تذهب إلى المشعوذين والدجالين، لم تذهب إلى من يدّعون علم الغيب، لم تذهب إلى الفتّاحين والسحرة ومن يجعلون أيديهم مصانع الشّفاء، وإنما توجهت إلى الله، رفعت يديها إلى السماء وقالت: يا رب، رد بصرَه عليه، وصعدت دعوتها إلى عنان السماء، دعوة الأم لولدها مستجابة إذا خرجت من قلب صادق سليم. فهلاّ تعلمن نساء اليوم من هذه المرأة الصالحة، من هذه المرأة القانتة العابدة؟! نريد المرأة القوية التي تقول كلمة الحق ولا تخشى في الحق لومة لائم.
عباد الله، جاءت الصحابية الجليلة خولة بنت ثعلبة رضي الله عنها إلى أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه، وتكلمت معه وقد أطالت الوقوف وأغلظت في القول وقالت: هيه يا عمر، عهِدتك وأنت تسمَّى عُمَيرا حتى صِرت عمر، ثم لم تذهب الأيام إلا وسميتَ أمير المؤمنين، فاتق الله في الرعية، واعلم أن من خالف الوعيد قرب عليه البعيد، ومن خاف الموت خشي الفَوت، فقيل لها: قد أكثرت ـ أيتها المرأة ـ على أمير المؤمنين، فقال: دعوها، أفلا يسمعها ابن الخطاب وقد سمع الله مجادلتها للرسول من فوق سبع سماوات؟!
عباد الله، إن المسؤولية خطيرة، وإن الأمر خطير، وإن أجهزة الإعلام لا تنام عن بثّ الفساد، أولادنا وبناتنا في الامتحانات وفي الشهر القادم امتحان الثانوية العامة، فكيف يكون حالهم؟! إعلام يخرب، وإغراءات تدمر، وكتاب الله مهجور، وفساد في البيوت، انحلال في الأخلاق والتربية، فاعملوا ـ يا عباد الله ـ على تربية الشباب التربية الإسلامية الصحيحة، اتقوا الله في نسائنا، اتقوا الله في أطفالنا، علّموهم في المساجد، فهي تربي رجالا أطهارا، لا يسرقون، ولا يختلسون، فأياديهم متوضّئة نظيفة، لا تعرف التخريب والتدمير والإلحاد، وإنما يعرفون الله وحده.
الخطبة الثانية
عباد الله، إذا أحب الله عبدا ابتلاه، فإذا صبر اصطفاه، فإذا رضي اجتباه. تذكّروا دائما أن ما عند الله ما يطلَب بمعصية الله، إن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه، وقد تحولت حياتنا اليوم إلى مآس ومصاعب، أصبحنا نعيش كما تعيش الغنم الشريدة في الليلة الشاتية، فنحن مجرّدون من كل شيء، ليس لنا حول ولا قوة، والناس من حولنا يقولون: قلوبنا معكم شدّوا حيلكم، يرحم الله أيام الخلافة الإسلامية، أيّام المعتصم حين حرّك جيشه وحرّر الفتاة المسلمة.
عباد الله، وتبقى قضيّتنا الفلسطينية هي أكثر القضايا التي تستحوذ اهتمام العالم أجمع، سيما وقد مضى على اغتصاب فلسطين ثمانية وخمسون عاما، ذاق خلالها شعبنا شتى أصناف العذاب والاضطهاد والمعاناة والتشرّد والتهجير، ولا يزال حتى اليوم يقدّم قوافل الشهداء دون كلل أو ملل، ويدفع ضريبة الرباط بدماء أبنائه، ولا يزال عشرات الآلاف من خيرة أبنائنا يقبعون خلف قضبان الاحتلال الظالم. ورغم كل ذلك لا تزال الآمال معقودة وأنّ الحق سوف يعود لأصحابه مهما طال الزمن، فالحق يعلو ولا يعلى عليه، ولن يضيع حق وراءه مطالب.
عباد الله، إذا كان الصّراع على الحق قد اختَلّت موازينه وتبدّلت معاييره فيمكن للأمة المسلمة وللشعب المرابط أن يتجاوز هذه الموازين والمعايير بالإيمان الراسخ والثبات على العقيدة والصبر والمصابرة والعمل المتواصل والجدّ والاجتهاد والبعد عن مواطن الضعف والفساد والعمل بما أنزل الله تعالى وتقوية الروابط الإيمانية بين أبناء شعبنا، وأن نكون قوة متوحّدة تنبذ كل أشكال الفرقة والشجار والخصام، ونتعاون على البر والتقوى، ولا نتعاون على الإثم والعدوان، عند ذلك سوف يتحقّق الهدف المنشود، وستزول الغمة وتذهب الآلام وتعود البسمة على وجوه الجميع.
صحيح أننا في هذه الأيام نعيش سنوات عجافا، نعيش أياما صعبة، ولكن في المقابل لا يجوز لنا الاستسلام، فالأيام بين الناس دول؛ يوم لنا ويوم علينا، وإذا كنا مع الله فلن يخذلنا، لن يتخلى عنا، وتذكروا قول الله تعالى: إِنْ يَنْصُرْكُمْ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ [آل عمران:160].
فتوكلوا على الله يا عباد الله، واعملوا جاهدين لنيل رضاه، واحذروا كل الحذر من أن تكونوا عونا للشيطان على أنفسكم، وإياكم ثم إياكم من اليأس والقنوط من رحمة الله، فإنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون، وإياكم والاقتتال؛ فالخاسر نحن، والرابح هو العدو، فالوحدة الوحدة، والاعتصام الاعتصام، والحذر كلّ الحذر من الفتنة، فهي لا تبقي ولا تذر.
أيها المسلمون، اتحاد الجمعيات الخيرية في بيت المقدس الشريف يقوم بجمع التبرعات للمرضى والفقراء الذين ضاقت عليهم السبُل، والذين لا يجدون المال من أجل الدواء، فمدوا لهم يدَ العون والمساعدة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه، ساعدوهم رحمكم الله.
ـــــــــــــــــــ(68/163)
الأم
...
...
4821
...
الأسرة والمجتمع
...
...
الوالدان
...
محمد بن حمد الخميس
...
...
الدمام
...
23/1/1426
...
...
جامع الهدى
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- فضل منزلة الأم. 2- رسالة من أم تشكو هجر ولدها لها. 3- نماذج رائعة لسلف الأمة في برهم لأمهاتهم. 4- كيف يبرُ الرجل أمه؟
الخطبة الأولى
فعلى البسيطة من هذا الكون مخلوقةٌ ضعيفةٌ في خِلقتها، قويةٌ في تحمّلها، رقيقة في مشاعرها، مرهفة في حسّها، تتملك الرحمةُ والعطفُ كلَّ تصرفاتها، هي جنديّة حيث لا جندَ ولا قتال، حارسةٌ ساهرةٌ حيث لا ثغورَ، خادمة حيث لا خدم، ساهرة تراقب بلا أجر، مخلِصة في عملها ولا يخلص في البشر مثلُها أحد.
حديثنا اليوم عن هذه البطلَة الصامدة المخلصة المجاهدة، حديثنا اليوم عن نبع الحنان والشفقة ووعاء الرحمة والرأفة، حديثنا اليوم عن أصدق محب وأوفى صديق وأنصح رفيق، حديثنا عن التي اهتم الشرع الحنيف بها وحثّنا على حسن معاملتها والإخلاص في برها، حديثنا عن الأم.
روى الإمام البخاري أن رجلاً جاء إلى النبي فقال: يا رسول الله، من أحق الناس بحسن صحابتي؟ أي: مَن مِن الناس يتأكّد علي حقه في التقدير والتوقير والاحترام؟ مَن مِن الناس يتأكد علي حقه في مراعاة مشاعره وأحاسيسه، مَن مِن الناس يتأكد علي حقه في رعايته وخدمته والاستجابة لطلباته وتنفيذ رغباته؟ مَن مِن الناس يتأكد علي حقه في الشفقة عليه والإحسان له؟ من أحق الناس بحسن صحابتي يا رسول الله؟ قال: ((أمك))، قال: ثم من؟ قال: ((أمك))، قال: ثم من؟ قال: ((أمك))، قال: ثم من؟ قال: ((ثم أبوك)).
حُسن الصحبة بالأم لا يقل مع مرور الزمن بل يزداد، الأخلاق مع الأم لا تتغير مع تغير الأحوال، المعاملة مع الأم لا تتبدل مهما طال بها العمر، البر بالأم لا يذبل بعد عجزها وضعفها، بل يزداد نضارة.
روى الإمام البخاري في الأدب المفرد بإسناد صحيح أن رجلاً جاء إلى النبي فقال: يا رسول الله، من أَبرُّ؟ قال: ((أمك))، قال: من أبرُّ؟ قال: ((أمك))، قال: من أبر؟ قال: ((أمك))، قال: من أبر؟ قال: ((أباك ثم الأقرب فالأقرب)).
هذه هي وصية الحبيب في الأم، فهي أحق الناس بالصحبة، وأولى الناس بالبر، وأجدر الناس بالشفقة والإحسان.
روى الإمام البخاري في الأدب المفرد بإسناد صحيح أن رجلاً جاء إلى ابن عباس وقال: قتلت نفسًا فهل لي من توبة؟ فقال له ابن عباس: أمّك حية؟ قال: لا، قال: تب إلى الله وتقرّب إليه ما استطعت، قال عطاء: فسألت ابن عباس: لماذا سألته عن حياة أمه؟ قال ابن عباس: إني لا أعلم عملاً أقرب إلى الله من برّ الوالدة.
هكذا علمنا ديننا، وهذه هي وصية ربنا لنا: وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنْ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ [لقمان:14].
فهل يجوز للأبناء إذا استوى عودهم واشتدّ ساعدهم أن يقابلوا الإحسان بالإساءة والرحمة بالقسوة والعناية بالإهمال؟! هل يجوز للأبناء أن ينسوا معروف الأم ولا يذكروا جميل صنعها ولا يكافئوا عظيم إحسانها؟! هل يجوز للأبناء أن يقلبوا ظهر المجن على أمهاتهم بتأثير من زوجاتهم أو جريًا خلف دنياهم أو سعيًا على شهواتهم وأهوائهم؟!
وصلتني رسالة من إحدى الأمهات تشكو عقوق ولدها، تقول مع التصرف بعباراتها: "حملته وهنًا على وهن، لم أنم فيها ولم يغمض لي جفن، نالني من الألم ما لا يصفه قلم ولا يتحدث عنه لسان، رأيت بأمّ عيني الموت مرات عديدة حتى خرج إلى الدنيا، فامتزجت دموع صُراخه بدموع فرحي، مرّت سنوات من عمره، وأنا أحمله في قلبي، أسهرت ليلي لينام، وتعبت نهاري ليسعد، وبعد أن اشتدّ عوده واستقام شبابه ودخل حياته الزوجية الجديدة تقطع قلبي حزنًا على فراقه، فقد تغيّر ابني وما عاد الذي أعرفه، اختفت ابتسامته، وغاب صوته، وعبس محياه، لقد أنكرني وتناسى حقي، ولم يعد يأنس حتى بزيارتي، تمر الأيام أراقب طلعته وأنتظر بلهف سماع صوته، ولكن الهجر طال، وها هي الليالي قد أظلمت والأيام تطاولت، فلا أراه ولا أسمع صوته، علما أني لا أطلب منه إلا القليل، أريد منه أن يجعلني في منزلة أطرف أصدقائه عنده، أريد منه أن يجعلني إحدى محطات حياته الأسبوعية أو الشهرية لأراه فيها ولو لدقائق". إلى آخر الرسالة التي قالت فيها: "يا شيخ، اقرأ رسالتي لعله يسمعها، فتهفو نفسه إلي، ويحن قلبه علي. فو الله، إني أخاف عليه من عقوبة العقوق في الدنيا قبل الآخرة". التوقيع: أم مكلومة بولدها.
هذه الأم المسكينة يصدق عليها قول أمية بن أبي الصلت حينما تنكّر له ولده بعد هرَمه وشيخوخته، فقال له:
غَذَوتُك مولودًا وعلتُك يافعا تُعلّ بِما أجني عليك وتَنهلُ
إذا ليلةٌ ضاقتك بالسقم لم أبِت لسُقمك إلا ساهرًا أتَململ
كأنِّي أنا المطروقُ دونك بالذي طُرقتَ به دونِي فعيناي تَهملُ
تخاف الردى نفسي عليك وإنها لتعلم أن الموت حتمٌ مؤجل
فلما بلغت السن والغاية التي إليها مدى ما كنتُ فيك أؤمّل
جعلت جزائي غلظةً وفظاظة كأنك أنت الْمنعم المتفضل
أمٌّ أخرى اكتوت بنار عقوق ولدها، اتّصلت عليّ بالهاتف، لم أفهم منها شيئًا، فبكاؤها يسبق كلماتها، ودموعها تحكي معاناتها مع فلذة كبدها وريحانة فؤادها، حرارة نحيبها تنبئك بفداحة سوء معاملة ولدها لها، وبعد عناء وإذا بي أسمع منها ما يهتزّ له الوجدان وتقشعر له الأبدان، تقول: إن ابني لا يعقّني فقط، ولا يسبّني فقط، ولا يهينني فقط، تقول بالحرف الواحد: أنه يضرِبني بالنعال.
قيل: هذا إذا أصر على فعلته النكراء يحسن بجيرانه وأصحابه هجر المكان بل البلاد التي هو فيها خوفًا من نزول البلاء.
روِي في سنن الترمذي أن النبي قال: ((إذا فعلت أمتي خمس عشرة خصلة حلّ بها البلاء))، وذكر منها: ((وأطاع الرجل زوجته وعق أمه)).
أين هذا وأمثاله من حديث جريج العابد الذي عاقبه الله تعالى لانشغاله عن أمه بعبادة ربه؟! روى الإمام البخاري في صحيحه عن أبي هريرة قال: قال : ((كان في بني إسرائيل رجل يقال: له جريج، كان يصلي ـ أي: في صومعته ـ وكانت تأتيه أمه فتناديه، فيشرف عليها فيكلمها، فأتته يومًا وهو في صلاته فنادته فقالت: أي جريج أشرف عليّ أكلمك، أنا أمّك، فقال: يا رب أمي وصلاتي، فاختار صلاته، فرجعت ثم أتته فصادفته يصلي فنادته، ثم أتته في الثالثة فنادته، فقالت: اللهم لا تمِته حتى تريَه وجوه المومسات))، فأجيبت دعوتها وتحقّقت. الله عز وجل عاقب جريجًا لانشغاله عن أمه بطاعة ربه وبالوقوف بين يديه، فما بالكم بمن ينشغل عن أمه بزوجته أو تجارته ودنياه؟! فما بالكم بمن ينشغل عن أمه بمعصيته وهواه؟!
قال الإمام ابن حجر في شرحه لهذا الحديث في فتح الباري: "لو كان جريج فقيها لعلم أن إجابة أمّه أولى من عبادة ربه"، وقال الإمام النووي: "صلاة النفل والاستمرار فيها تطوع لا واجب، وإجابة الأم وبرّها واجب، وعقوقها حرام".
لهذا وضّح العلماء ما يفعله المسلم إذا تعارض برّ الوالدين مع عبادة الله تعالى، فإن كانت هذه العبادة فريضة خفّفها وأسرع في طاعة والديه، وإن كانت نافلة قطعها وأجاب أمّه أو أباه. لهذا فقه السلف الصالح الموازنة بين برّ الوالدين ـ ولا سيما الأم ـ إذا تعارضت مع طاعةٍ لله.
فهذا حيوة بن شريح، وهو أحد أئمة المسلمين وفقهائهم، كان رحمه الله يجلس في حلقته ويأتيه الطلاب من كلّ مكان ليسمعوا عنه، فتقول له أمه وهو بين طلابه: قم ـ يا حيوة ـ أعلف الدجاج، فيقوم ويترك التعليم.
وهذا أويس بن عامر القرني الذي أخبر الرسول عن علوّ منزلته عند الله، وأمر صحابته الأخيار بالتماس دعوته وابتغاء القربى إلى الله بها، وما كانت آيته إلا بره بأمه. روى الإمام مسلم في صحيحه أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب إذا أتى أمداد أهل اليمن سألهم: أفيكم أويس بن عامر؟ حتى أتى أويس، فقال: أنت أويس بن عامر؟ قال: نعم، قال: كان بك برص فبرأت منه إلا موضع درهم؟ قال: نعم، قال: لك والدة؟ قال: نعم، قال عمر: سمعت رسول الله يقول: ((يأتي عليكم أويس بن عامر مع أمداد اليمن من قرن، كان به أثر برص فبرأ منه إلا موضع درهم، له والدة هو بار بها، لو أقسم على الله لأبره، فإن استطعتَ أن يستغفر لك فافعل))، قال عمر: استغفر لي، فاستغفر له.
وعن أصبغ بن زيد قال: إنما منع أويسًا أن يقدم على النبي برّه بأمه. فأويس القرني تابعي وليس صحابيًا، مع أنه عاش في زمن النبي ؛ لأنه لم يرَه، وما منعه من مجيئه للرسول إلا بره بأمه، فقدم برّه بأمه على طلبه الصحبةَ مع عظيم فضلها وأجرها، وما ذاك إلا لأن البر بالوالدة أكثر منها أجرًا، فجزاه الله عز وجل بما سمعتم من الحديث.
وقد جاء في الحديث الصحيح أن رجلاً قال للنبي : أردت أن أغزو وقد جئت أستشيرك، فقال: ((هل لك أم؟)) قال: نعم، قال: ((فالزمها؛ فإن الجنة تحت رجليها)). وقوله : ((فإن الجنة تحت رجليها)) يوحي لنا بضرورة التذلّل والتضرع والتمسكن بين يدي الأم مهما بلغ الواحد منا من منزلة أو منصب أو جاه أو مال في هذه الدنيا، فهذا محمد بن سيرين التابعي الجليل والفقيه والمحدث كان إذا كلّم أمه كان يتضرع, قال ابن عوف: دخل رجل على محمد بن سيرين وهو عند أمّه، فقال: ما شأن محمد؟! أيشتكي شيئًا؟ قالوا: لا، ولكن هكذا يكون إذا كان عند أمه. وهذا زين العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم كان من سادات التابعين، وكان كثير البر بأمه، حتى قيل له: إنك من أبر الناس بأمك، ولسنا نراك تأكل معها في صحفة واحدة! فقال: أخاف أن تسبق يدي إلى ما سبقت إليه عينها فأكون قد عققتها. هذا البر وأكثر منه لا يساوي فضل الأم ولا يجازي صنيعها، فلا يعجبن أحد ببره بأمه أو يتعاظم ما يسديه لها.
روى البخاري في الأدب المفرد أن ابن عمر شهد رجلاً يمانيًا يطوف بالبيت حمل أمه وراء ظهره، ويقول:
إني لها بعيرُها المذلّلُ إن أذعرت ركابُها لم أذعرِ
الله أكبر، ذو الجلال الأكبرِ، حملتها أكثر مما حملتني، فهل ترى جازيتها يا ابن عمر؟ قال: لا، ولا بزفرة من زفراتها.
هذه هي الأم، وهذا فضلها، وهذا هو البر ومكانته.
أيها الأخ الحبيب، أيها الأخ المؤمن، لا شك أنك ما جئت إلى هذا المكان إلا استجابة لأمر مولاك وطلبًا لرضاه، فاعلم أن رضا الله في رضا الوالدة، وسخط الله في سخطها. فإذا كانت والدتك صحيحة نشيطة فعليك باحترامها وتقديرها وطاعتها والاستجابة لأمرها وتنفيذ كلامها قبل أن يرتدّ إليها طرفها، ولا تتهاون أو تتكاسل فتكون عاقًا فتمسك النار.
وإذا كانت والدتك كبيرة مريضة عاجزة ليس أمامك إلا الصبر عليها وخدمتها، والإحسان إليها والتذلّل لها والتضرع بين يديها، ولا تتأفّف أو تضجر من وجودها، واحرص على أن تفارق الدنيا وهي راضية عنك، فإنها أوسع الأبواب المؤدّية إلى الجنة، ((رغم أنفه ثم رغم أنفه ثم رغم أنفه من أدرك أبويه عند الكبر أحدهما أو كلاهما ثم لم يدخل الجنة)) رواه مسلم.
وإذا كانت أمك ميتة فعليك ببرها؛ وذلك بإنفاذ عهدها والدعاء لها، كما أخبر بذلك الصادق المصدوق .
ـــــــــــــــــــ(68/164)
الامتحانات
...
...
4837
...
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
...
...
الأبناء, الموت والحشر, قضايا المجتمع
...
ماجد بن بلال شربة
...
...
الحوية
...
...
...
جامع الأبرار
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- وصف حال الآباء وقت الامتحانات. 2- وصايا للطلاب. 3- وصايا للآباء والأمهات. 4- التذكير بالامتحان الأخروي. 5- أهمية الدعاء للأبناء.
الخطبة الأولى
أما بعد: فيا عباد الله، أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل.
أيها الإخوة، في هذه الأيام يستعدّ الطلاب والطالبات ويتهيّؤون لدخول الاختبارات، بعد أن أمضوا شهورًا من العمل والجدّ والاجتهاد، فتجد الكلّ ينشطون بأنواع النشاط والاستعداد، فالاختبار فيه شيء من الرهبة، وهو يحدّد مصير صاحبه ومستقبله الدنيوي، فتغمره الفرحة بالنجاح فيسرّ ويبتهج، أو يسودّ وجهه ويعلوه الاكتئاب بالفشل لا قدر الله؛ ولذا فقد أصبحت قلوب الآباء والأولاد وجلة، وأذهانهم قلقة، وقد أُعلنت في كثير من البيوت حالة الطوارئ، فالأب ينتظر بفارغ الصبر نتيجة ولده، وتراه يعِده ويمنِّيه ويتوعّده ويحذّره، وقد بذل من ماله وراحته وجهده من أجل ولده ونجاحه وشهادته.
أيها الطلاب، الوصية بتقوى الله عز وجل، فمن اتقى الله جعل له من كلّ هم فرجًا، ومن كل ضيق مخرجًا، ومن اتقى الله جعل له من أمره يسرًا، وجعل العسير يسيرًا، وآتاه خيرًا كثيرًا. خذوا بأسباب النجاح وأسباب الصلاح والتوفيق والفلاح، استذكروا واجتهدوا، فإن تعبتم اليوم فغدًا راحة كبيرة عندما يحزن الكسلاء لكسلهم، ويفرح حينها الفائزون بفوزهم، عندها وكأنه لم يكن هناك تعب ولا نصب.
ألا واعلموا أن أفضل أسباب النجاح وأجمعها وأصلحها أن تعلموا علم اليقين أنه لا حول ولا قوة للعبد إلا بالله رب العالمين، ثم التوكّل على الله وتفويض الأمور كلها له سبحانه، فلا تعتمدوا على الذكاء والحفظ ولا على النبوغ والفهم فقط، بل فوّضوا مع ذلك أموركم لله، والتجئوا إليه. واعلموا أن الذكيّ لا غنى له عن ربّه، وأن الذكاء وحده ليس سببًا للنجاح، بل إرادة الله وتوفيقه أولاً. ولكن توكّلوا على الحيّ الذي لا يموت وسبحوا بحمده، ولقد أوصى النبي ابنتَه فاطمة أن تقول: ((يَا حَيّ يَا قَيُّوم، بِرَحْمَتِك أَسْتَغِيث، أَصْلِحْ لِي شَأْنِي كُلّه، وَلا تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي طَرْفَة عَيْن)). إذا أراد الله بعبده التوفيق جعله مفوِّضًا الأمور إليه، وفقه وسدّده لكي يعتمد على حول الله وقوته، لا على حوله وقوته. وإذا وَكَلَ اللهُ العبدَ إلى نفسه وكلَه إلى الضعف والخور.
يا معاشر الطلاب والطالبات، هذا أَوَانُ الجد والاجتهاد، فاجتهدوا ولكن ارفقوا بأنفسكم، وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [البقرة:195]. لا تحملوا النفوس ما لا تطيق من السهر والتعب؛ فإنه لا يكلّف الله نفسا إلا وسعها، وقال سلمانُ لأبي الدرداء رضي الله عنهما: إن لنفسك عليك حقًا، فقال النبي : ((صدق سلمان)).
يا معاشر الطلاب والطالبات، إياكم والغشّ والتزوير؛ فإنه خيانة وبِئس البطانة، من كانت حياته على الغشّ سَلَبه الله الخير في دنياه وأخراه، عند مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله قال: ((مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا))، وقال حبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: (من خادع الله يخدعه الله). فمن نجح بالزور والغش والدّلس فإن الله يمكر به ويعاقبه في دنياه قبل أخراه، إلا من تاب فإن الله يتوب عليه.
يا معاشر الطلاب والطالبات، ها هي أيامُ الاختبارات قد أقبلت عليكم، فاستعينوا بالله، وتراحموا وتعاضدوا، وإياكم والشحناء والبغضاء والحسد، ليكن كلّ إنسان كما أمره الله أن يكون، يحب لأخيه ما يحب لنفسه. فتعاونوا وتراحموا وتعاطفوا، فإن احتاج إليك أخوك في حاجة أو في مسألة فأعنه أعانك الله على أمورك، فمن نفس عن مؤمن كربة نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن أعان أخاه أعانه الله في دنياه وأخراه.
يا معاشر الطلاب والطالبات، إياكم والجلوس على كتب العلم التي فيها كلام الله وكلام رسوله ، وبعض الطلاب ـ هداهم الله ـ تراه بعد الامتحان يقذف بالكتاب عاليا ويرميه ويمزقه، وهذا منكر عظيم، وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ [النحل:112]. فمن امتهن شيئًا من كتاب الله فإن الله يهينه، ولربما ينتقم منه في دينه أو دنياه أو آخرته. فاتقوا الله عباد الله، واتقوا يومًا ترجعون فيه إلى الله.
يا معاشر الطلاب والطالبات، الرضا بقضاء الله والتسليم لأمر الله نعمة من الله، فإن دخلتم ووجدتم بعد الاختبار خيرًا فاحمدوا الله على فضله واشكروه على نعمه، واسألوا المزيد من جوده وكرمه، ولا تقولوا: نجحنا بحولنا ولا بقوتنا ولا ذكائنا، فالله له الفضل كله وله الحمد كله. وإن وجدتَها غير ذلك فقل: الحمد لله على كل حال، فلعل درجة من الدنيا تفوت عنك فيعوضك الله بها درجات الآخرة، وإياك والسب والشتم والغيبة، وإياك وأذية المدرسين؛ فلهم عليك فضل كبير، فهم معلموك ومربوك، فاذكرهم بالجميل، ورد إلى نفسك التقصير، وسل الله أن يجبر لك الكسر.
أيها الطالب النجيب، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، يقول ابن مسعود : (إن العبد إذا كان يدعو الله في الرخاء ثم نزلت به شدة فدعا الله قالت الملائكة: يا رب، هذا صوت معروف، فيشفعون فيه. فإذا كان لا يدعو من قبل ودعا زمن الشدة قالت الملائكة: يا رب، هذا صوت غير معروف، فلا يشفعون فيه)، ولا تكن كمن قال الله عنهم: حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمْ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوْا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنْ الشَّاكِرِينَ فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ [يونس:22، 23]. فاحذر ـ أخي ـ أن تكون ممن يدعو الله عند شدته وينساه عند رخائه، وكن كما قال الله: وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا [الأنبياء:90].
ثم إياك ـ أيها الطالب ـ من صاحب السوء، إياك من صاحب السوء، إياك من صاحب السوء.
أيها الطالب، لا يأتي عليك يوم تقول فيه والعياذ بالله: يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً يَا وَيْلَتِي لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلاً لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنْ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولاً [الفرقان:27-29]. صاحب السوء ـ أيها الطالب النبيه ـ في هذه الأيام يجد سوقا مناسبا لترويج المخدرات والعياذ بالله، من حبوب مسهرة وغيرها، يعرضها عليك أيها المجتهد، يقول لك: إذا أردت التفوّق فخذ حبة من هذه، وهي بداية الانجراف إلى الهاوية، ولو كان صادقا لكان هو أول المنتفعين بها. صاحب السوء ـ أيها الطالب النبيه ـ في هذه الأيام يقترح عليك شيئا اسمه المذاكرة الجماعية. احذر ـ أيها الطالب وأيها الأب ـ من شيء يزعمه ابنك يقول: إني أذاكر مع فلان، أو بنتك تقول: إني أذاكر مع فلانة، فلا تعلم ماذا يفعلون، وكم يضيع المهمل على المجتهد فيها من وقت، فيكون مهملا مثله.
وأخيرا أيها الطالب، أوصيك بوصية الحبيب المصطفى ، كما عند الترمذي عن أنس بن مالك قال: قال رسول اللَّه : ((مَنْ كَانَتْ الآخِرَةُ هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ، وَجَمَعَ لَهُ شَمْلَهُ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ. وَمَنْ كَانَتْ الدُّنْيَا هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَفَرَّقَ عَلَيْهِ شَمْلَهُ، وَلَمْ يَأْتِهِ مِنْ الدُّنْيَا إِلا مَا قُدِّرَ لَهُ)).
أيها الإخوة المؤمنون، وينقسم الآباء في هذه الأيام إلى فريقين: إما أب غير مبال وغير آبه، فلا يدري عن الامتحانات، ولا يهمّه أنجح أبناؤه أم رسبوا، فهؤلاء نقول لهم: الله الله في هذه الذريّة الضعيفة، عيشوا مشاعِرهم، وأدخلوا السرور عليهم؛ فإنها ذرية ضعيفة تحتاج منكم إلى العطف والإحسان، فلا تكسروا قلوبهم.
يا معاشر الآباء، ويا من تستمع إلينا من بيتها من الأمهات، رفقًا بالأبناء والبنات، ها هي أيامهم قد أقبلت وهمومهم قد عظمت، فخذوهم بالعطف والحنان، واشملوهم بالمودة والإحسان، وأعينوهم على هموم الاختبار والامتحان، يكن لكم في ذلك الأجر عند الكريم المنان. أحسنوا إلى الأبناء والبنات، وخففوا عنهم في التبعات، ويسروا عليهم يسّر الله عليكم الأمور. أعينوهم على ما هم فيه، وقوموا بما يجب عليكم نحوهم. علّموهم وأرشدوهم واشحذوا هممهم، وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [البقرة:195].
أيها الأب الحريص، هل تعلم أين يكون ابنك بعد الامتحان؟! هل تعلم ـ وليس الأمر سرا ـ أن أفضل وقت للتفحيط والاستعراض هي ما بعد الامتحان؟! يا كم مات من شابّ بسبب التفحيط، وكم من شاب لم يتعلم التدخين إلا أيام الامتحانات، وأمورا أكرم المسجد والحاضرين من ذكرها يعلمها الجميع. كلنا كان طالبا، وكلنا يعرف أن ذلك إنما يحصل في هذه الأيام؛ لذا إذا أردتَ السلامة من هذا كلّه فاحرص أن يكون أبناؤك في بيتهم بعد الامتحان مباشرة، فهو أحفظ لهم وأسلم.
وثمة قسم آخر يبالغ في التشديد على الأبناء، وليس هذا بمستغرب؛ لأنه هو المتوقَّع والمطلوب في مثل هذه الأيام. ولكن أيها الأبُ المشفقُ على ولده الخائفُ من إخفاقه وفشله، وأنت قد اهتممت بولدك هذا الاهتمام بشأن الاختبار، تعالَ معِي ننظر إلى جانب آخر مما يحتاجه هذا الولد؛ هل كان اهتمامك به بالقدر الذي أوليتَه لدراستِه واختباره؟! ولك أن تقارن وتستخرج النتيجة. تخيّل أن ولدك تأخّر في نومه عن وقت الاختبار ما هي حالك؟! ما هو شعورك؟! كيف ستصنع؟! ألستَ ستسابق الزّمن ليدرك الاختبار؟! ولكن أرأيتَ إن نام يومًا أو أيامًا عن صلاته، كيف سيكون موقفك يا تُرى؟! وأنت ـ أيها الأب المشفق ـ في كل يوم تسأله عما قدّمه في اختباره، وهل وُفّق للجواب الصواب؟ ولكن هل تسأله كلّ يوم عن أمر صلاته؟! وهل أداها في وقتها وحافظ عليها حيث ينادى بها؟!
أيها الأب المشفق، هب أن ولدك قصّر في أداء ذلك الاختبار ولم يسدَّد للجواب الصحيح، ألا يضيق صدرك ويشتدّ همّك وغمّك ويأخذ بك الغضب كل مأخذ؟! وقد تنزِل به أشدّ أنواع العقوبة، ولكن أين ذلك كله حين تعلم بل وترى ولدك يرتكب معصية أو يضيّع واجبًا شرعيًا؟! وها أنت ـ أيها الأب ـ تمنعه أيام الاختبارات مما بين يديه من ملذّات ومُتَع، كالتّلفاز والإنترنت والسهر مع الأصحاب والأصدقاء لئلا يُشغل عن اختباره بأي شاغل، وهذا أمر حسن ولا شك، ولكن أين أنت عنه طوال العام حين يغلق عليه بابه ويشاهد ما يعرض عبر الشاشة مما هو معروف؟! وأين أنت عنه حين يخلو بنفسه أو يرتاد تلك المقاهي ويتنقّل بين مواقع الإنترنت السيّئة؟! وكم ليلة أمضاها ونهارٍ قطعه خارج البيت مع أصحابه وأصدقائه وأنت تعلم جيدًا ما يفعل كثير من الشباب حين يجتمعون؟! فماذا كان موقفك؟!
أيها الأب الحنون، ماذا فعلت لإعداد ولدك لاختبار مهمّ جدًا؛ اختبارٍ من فصلين لا ثالث لهما: فصلٍ في القبر وآخرَ يوم القيامة، وليس هناك دورٌ ثانٍ ولا إعادة ولا حمل للمواد، ما هو إلا نجاحٌ لا رسوبَ بعده أو رسوبٌ قد لا يكون بعده نجاح، ما هي إلاّ جنةٌ أو نار، فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ [آل عمران:185]. اختبارُ القبر سيسأل عنه كلّ إنسان: من ربك؟ ما دينك؟ ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ وهو اختبار مكشوف ليس فيه شيء من السّرِّية، وقد يبدو سهلاً يسيرًا، ولكن من الناس من إذا سئِل فيه أجاب، ومنهم من إذا سئل قال: هاه هاه لا أدري، سمعت الناس يقولون ذاك، فيقال له: لا دريت ولا تليت، يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ [إبراهيم:27]. وأما الاختبار الآخر فيوم القيامة حين لا تزولُ قدما عبدٍ حتى يسأَل عن خمس: عن عمره فيم أفناه؟ وعن شبابه فيم أبلاه؟ وعن ماله من أين اكتسبه؟ وفيم أنفقه؟ وماذا عمل فيما علم؟
أيها الأب الفاضل، ماذا تغني عنه شهادته أو تفوّقه؟! ماذا يغني عنه مركزه ومكانته إذا أوتي كتابه بشماله وقال: يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ يَا لَيْتَهَا كَانَتْ الْقَاضِيَةَ مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ [الحاقة:25-29]؟!
عبد الله، تذكر أنك مسؤول عن هؤلاء الأبناء، ليس فقط من أجل نجاحهم في امتحان الدنيا، بل أنت مسؤول حتى عن نجاحهم في الآخرة، في الحديث المتفق عليه عن عبد اللَّه ابن عمر رضي اللَّهُ عنهما أنَّ رسول اللَّه قال: ((كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، الإِمَامُ رَاعٍ وَمَسْؤول عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي أَهْلِهِ وَهُوَ مَسْؤول عَنْ رَعِيَّتِه،ِ وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا وَمَسْؤول عَنْ رَعِيَّتِهَا، وَالْخَادِمُ رَاعٍ فِي مَالِ سَيِّدِهِ وَمَسْؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ))، قَالَ: وَحَسِبْتُ أَنْ قَدْ قَالَ: ((وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي مَالِ أَبِيهِ ومَسْؤول عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ)).
اللهم إنا نسألك أن تصلح أولادنا وإخواننا، وأن تحفظهم من مضلات الفتن ما ظهر منها وما بطن. اللهم إنا نسألك التيسير، اللهم يسر أمورنا، واشرح صدورنا، ووفق أبناءنا وبناتنا. اللهم اجعلهم مشاعل نور وهداية، وخذ بهم إلى سبيل الرضا والولاية، يا أرحم الراحمين.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله عَظُمَ شأنه ودام سلطانه، أحمده سبحانه وأشكره عمّ امتنانه وجَزَلَ إحسانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله، به علا منار الإسلام وارتفع بنيانه، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى أصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل.
عباد الله، اتقوا الله حقيقة التقوى، واستمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى، واعلموا أن أجسادنا على النار لا تقوى، وأكثروا من ذكر الموت والبِلَى وقرب المصير إلى الله جل وعلا.
أيها المسلمون، ما أشبه اليوم بغدٍ! أتدرون أي غدٍ أعني؟! إنه يوم الامتحان الأكبر، يوم السؤال عن الصغيرة والكبيرة، السائل رب العزة والجلال، والمسؤول هو أنت، ومحل السؤال كل ما عملته في حياتك، من صغيرة أو كبيرة، يا له من امتحان! ويا له من سؤال! ويا له من يوم يجعل الولدان شيبًا!
عند مسلم عن عَدِيِّ بن حاتم قال: قال رسول اللَّه: ((مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلا سَيُكَلِّمُهُ اللَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تُرْجُمَانٌ، فَيَنْظُرُ أَيْمَنَ مِنْهُ فَلا يَرَى إِلا مَا قَدَّم،َ وَيَنْظُرُ أَشْأَمَ مِنْهُ فَلا يَرَى إِلا مَا قَدَّمَ، وَيَنْظُرُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَلا يَرَى إِلا النَّارَ تِلْقَاءَ وَجْهِه، فَاتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ)). نعم، إنه امتحان مهول يدخله كل الخلق في يوم مهول.
وعند مسلم من حديث طويل عن عبد اللَّه بن عمرو قال: قال رسول الله: ((يُنْزِلُ اللَّهُ مَطَرًا كَأَنَّهُ الطَّل ـ أي: يوم القيامة ـ فَتَنْبُتُ مِنْهُ أَجْسَادُ النَّاسِ، ثُمَّ يُنْفَخُ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ، ثُمَّ يُقَالُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، هَلُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ، وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَّسْئُولُونَ [الصافات:24]. قَالَ: ثُمَّ يُقَالُ: أَخْرِجُوا بَعْثَ النَّارِ، فَيُقَالُ: مِنْ كَم؟ فَيُقَال: مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تِسْعَ مِائَةٍ وَتِسْعَةً وَتِسْعِينَ، قَالَ: فَذَاكَ يَوْمَ يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيبًا، وَذَلِكَ يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ)).
عباد الله، تذكروا وأبناؤكم في قاعات الامتحانات الفسيحة، تذكروا عرصات يوم القيامة والناس قيام شاخصة أبصارهم، ألجمهم العرق من هول يوم السؤال ورعب يوم الحساب، يقول : ((إِنَّ الْعَرَقَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَيَذْهَبُ فِي الأَرْضِ سَبْعِينَ بَاعًا، وَإِنَّهُ لَيَبْلُغُ إِلَى أَفْوَاهِ النَّاسِ أَوْ إِلَى آنَافِهِمْ)). تذكروا عند إلقاء السؤال في الامتحان سؤال الملكين في تلك الحفرة المظلمة. تذكروا إذا وضع الواحد منا في قبره وتولى وذهب أصحابه حتى إنه ليسمع قرع نعالهم وجاء الممتحنون، وما أدراك ما الممتحنون، هما ((مَلَكَانِ يَقْعَدَاهُ فَيَقُولانِ لَهُ: مَا كُنْتَ تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ مُحَمَّدٍ؟ فَيَقُولُ: أَشْهَدُ أَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، فَيُقَالُ: انْظُرْ إِلَى مَقْعَدِكَ مِنْ النَّارِ أَبْدَلَكَ اللَّهُ بِهِ مَقْعَدًا مِنْ الْجَنَّة)). هذه حال الفائز الناجح، أما الراسب الذي لم يستعدّ للامتحان: ((فَيَقُول: هاه هاه لا أَدْرِي، كُنْتُ أَقُولُ مَا يَقُولُ النَّاسُ، فَيُقَال: لا دَرَيْتَ وَلا تَلَيْتَ، ثُمَّ يُضْرَبُ بِمِطْرَقَةٍ مِنْ حَدِيدٍ ضَرْبَةً بَيْنَ أُذُنَيْهِ، فَيَصِيحُ صَيْحَةً يَسْمَعُهَا مَنْ يَلِيهِ إِلا الثَّقَلَيْن)).
تذكر ـ يا عبد الله ـ عند إلقاء السؤال في قاعة الامتحان سؤالَ الله يوم القيامة، يوم يدنيك رب العزة فيقررك بذنوبك يقول سبحانه: تَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا؟
تذكر ـ يا عبد الله ـ يوم توزيع الشهادات على الطلاب ذلك اليومَ العظيم الذي توزّع فيه الصحف، فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمْ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ يَا لَيْتَهَا كَانَتْ الْقَاضِيَةَ مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ [الحاقة:19-32].
أيها الإخوة المؤمنون، ولا تنسوا أبناكم من الدعاء لهم، فهذا إبراهيم عليه السلام يقول: رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ [إبراهيم:40]، وزكريا عليه السلام دعا ربه فقال: رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ [آل عمران:38]، وحين وهب الله له يحيى قال: وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا [مريم:6]، ومن دعاء المؤمنين: رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا [الفرقان:74]. فما أحرانا أن نخصَّهم بدعوة خالصة في ساعة من ليل أو نهار، لعل الله أن يفتح لنا باب القبول عنده.
اللهم وفقنا ووفق أبناءنا لما فيه الخير والصلاح، اللهم خذ بأيديهم إلى البر والتقوى، واقسم لهم من المعيشة ما ترضى، اللهم احفظهم من الفتن ما ظهر منها وما بطن، واكلأنا برعايتك يا أرحم الراحمين.
عباد الله، إن الله قد أمركم بأمر بدأ فيه بنفسه...
ـــــــــــــــــــ(68/165)
أيسرهن مهرًا
...
...
4850
...
الأسرة والمجتمع, فقه
...
...
النكاح, قضايا المجتمع
...
عبد الرحمن بن علوش مدخلي
...
...
أبو عريش
...
17/5/1426
...
...
جامع التقوى
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- قصة زواج ابنة سعيد بن المسيب. 2- ترغيب الإسلام في النكاح. 3- حسن اختيار الزوج والزوجة. 4- الحث على تيسير المهور. 5- المهر حق للزوجة. 6- عادات دخيلة في الأفراح.
الخطبة الأولى
أما بعد: أيها المؤمنون، أوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى في السر والعلن، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70، 71].
عباد الله، أيها المؤمنون، تأملوا معي هذا الموقف العظيم وهذه القصّة المؤثّرة التي حدَثت في القرون المفضّلة لتكون نبراسًا لنا في حياتنا:
في يوم من الأيام ـ كما ذكر ذلك الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء (4/233) ـ كان سعيد بن المسيّب رحمه الله تعالى ورضي عنه أحد كبار التابعين ممن روى العلم عن أكابر الصحابة رضي الله عنهم الذي لم تفُته تكبيرة الإحرام أربعين سنة في مسجد النبي ، كان يتردّد عليه طلبة العلم، ومن ضمن الذين كانوا يتردّدون عليه ويحافظون على حضور دروسه تلميذ نبيه يسمَّى عبد الله بن أبي وداعة، فافتقده سعيد بن المسيّب أيامًا، فدخل عليه بعدها فقال: أين كنت يا عبد الله؟ قال: لقد توفِّيَت زوجتي فانشغلت بها، قال: ألا آذنتَنا حتى نحضرَها؟! ثم قال له: يا عبد الله، هل أحدثت زوجًا غيرها؟ هل تزوجت غيرها؟ قال: يرحمك الله يا إمام، ومن يزوّجني ولا أملك إلا درهمين أو ثلاثة؟! قال: أنا أزوِّجك، قال: وتفعل؟! قال: نعم، ثم حمد الله وأثنى عليه وصلّى على نبيه وزوّج تلميذه بدرهمين. قال عبد الله: فخرجت وأنا مهموم؛ من أين أستدِين؟! ومن أين أوفّر الصداق؟! ومن أين آتي بالمال؟! فبينما كنت في منزلي بعد صلاة المغرب وكنت صائمًا وقد قرّبت فطوري وكان خبزًا وزيتًا قال: فإذا بالباب يطرق، فقلت: من؟ قال: سعيد، قال: فحضرني كلّ من اسمه سعيد إلا سعيد بن المسيّب؛ لأنه لم يغادر بيته إلى مسجده منذ أربعين عامًا، قال: ففتحت الباب فإذا سعيد بن المسيب! إمام أهل المدينة العالم الكبير، قال: قلت: يرحمك الله لو أرسلتَ إلي لأتيتك، قال: لا، أنت أحقّ أن تؤتى، إني تذكّرت أنك رجل كنت ذا زوجة وأنك تبيت عزبًا هذه الليلة، فخشيت أن تبيت وحدَك وهذه زوجتك، قال: فدفعها إليّ وأغلق الباب، قال: فوجدتها من أحفَظ النساء لكتاب الله ولسنّة رسول الله ، ومن أجمل ما رأت عيناي.
وكانت ابنة سعيد بن المسيب هذه قد خطبها عبد الملك بن مروان خليفة المسلمين لابنه وليّ عهد المسلمين الوليد بن عبد الملك، فأبى أن يزوّجه أياها.
هذه قصة ـ أيها الإخوة الكرام ـ بين أيدينا ننقلها في هذه الأزمان والأعصار لتكون نبراسًا لنا في حياتنا، كيف نختار الزوج، وكيف نيسّر المهر، وكيف نعين الشباب على الزواج، وكيف يكون النكاح الشرعي الذي ينبغي أن يكون عليه المسلمون الذين يقتَدون بخيار الأمة من الصحابة والتابعين لهم بإحسان.
أيها المؤمنون، لقد رغّب الإسلام في الزواج وحثّ عليه، وبين النبي أنه سنّة من سننه، ومن رغب عنه فليس منه، لما دخل ثلاثة نفر من أصحاب النبي يسألون عن عبادته، فكأنهم تقالّوها، فقال أحدهم: أنا أقوم فلا أنام، أي: أقوم الليل، وقال الآخر: أصوم فلا أفطر، وقال الثالث: أنا لا أتزوّج النساء، فبلغ ذلك النبي فخرج غاضبًا وصعد المنبر وقال: ((ما بال أقوام يقولون كذا وكذا؟! أما إني أخشاكم لله وأتقاكم له، ولكني أقوم وأنام، وأصوم وأفطر، وأتزوّج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني)) متفق عليه.
وحثّ النبي على الزواج فقال: ((يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم؛ فإنه له وجاء)).
وقال عليه الصلاة والسلام: ((تزوّجوا الودود الولود؛ فإني مكاثر بكم الأنبياء يوم القيامة)) رواه أبو داود والنسائي وصححه الألباني.
والله سبحانه وتعالى يبين أن من النعم الكبرى أنه تعالى أوجد لبني آدم أزواجًا من أنفسهم: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً [الروم:21].
وحث الإسلام على النكاح فقال: فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ [النساء:3].
وإن من أعظم النعم ـ يا عباد الله ـ في الزواج أن يخلّف المسلم الذرية الصالحة التي تدعو له بعد وفاته، ((إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له)) رواه مسلم والأربعة.
فوجود الأولاد ووجود الذريّة من أعظم النعم التي من أسبابها الزواج ومن أسبابها تيسيره، بل إن النبي يبين أن العبدَ المسلم إذا أراد بالزواج العفاف والطهر وأن يعفَّ نفسه عن الحرام فإنّ الله يعينه وييسر أمره، ثبت في الحديث الصحيح أن النبي قال: ((ثلاثة حق على الله عونهم: المجاهد في سبيل الله، والمكاتب يريد الأداء، والناكح يريد العفاف)) رواه الترمذي والنسائي وأحمد وحسنه الألباني. من يريد أن يعف نفسه عن الحرام وعن الشهوات وعن الوقوع في المعصية فإن الله يعينه، وإن الله ييسّر له أمره، وهكذا كان أصحاب النبي .
أيها المؤمنون، إن من الأمور التي ينبغي أن ننبّه عليها وأن تكون في ذكر عند المؤمنين الصالحين الصادقين عندما يريد الزواج أن يحسن اختيار الزوجة، بل ويحسن اختيار الزوج في الوقت نفسه، يقول النبي : ((إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض)) رواه الترمذي وابن ماجه وحسنه الألباني.
إنها قضية تحتاج منا أن نتأملها كثيرًا؛ حسن اختيار الزوج، وحسن اختيار الزوجة، يقول النبيّ كما في الصحيحين: ((تنكح المرأة لأربع: لدينها، ولمالها، ولجمالها، ولحسبها، فاظفر بذات الدين تربت يداك)). اختار لنا النبيّ ذات الدين؛ لأن الدّين يشمل الأمور كلها.
أيها الإخوة، إنها قضية مهمة ينبغي أن نتأمّلها كثيرًا في هذا الزمان الذي طغت فيه العادات والتقاليد على القيم والمبادئ إلا ما رحم ربك، يزوج الإنسان صاحبَ المال وصاحب الحسب وصاحبَ القرابة ولا يسأل عن دينه، ولا يسأل عن أخلاقه، ولا يسأل عن قيمه ومبادئه، يسلّم ابنته المسكينة الضعيفة التي هي أمانة في عنقه يسلّمها لمن لن يقومَ بشؤونها، يسلّمها لمن لن يرعاها، لمن لن يحافظ عليها، هذه جوهرة مكنونة أنت مسؤول عنها أمام الله يوم القيامة، امرأة ضعيفة تسلِّمها لعبد لا يخشى الله تعالى؟! كيف يكون موقفك أمام الله تعالى؟! ((إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض))، لا ينبغي أن يكون غرضنا هو المال؛ فإن المال ينتهي يا عباد الله، ولا الحسب ولا الجمال، وإن كان البحث عنه له أهمية، لكن لا ينبغي أن يكون هو المهمّ، ولا ينبغي أن يكون هو الهدَف الأول، وإنما أن يكون الهدف الأوّل هو الدين والقيم والأخلاق التي يكون عليها الإنسان، يكون عليها الزوج، تكون عليها الزوجة.
كما ينبغي علينا ـ يا عباد الله ـ إذا أردنا لبناتنا وأبنائنا الحياة السعيدة المستمرة أن نيسر المهر، وأن لا نغالي فيه؛ فإن المغالاة في المهور سبب للشقاء يا عباد الله، كما بين ذلك النبي الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى، يقول النبي : ((إن من يمن المرأة ـ أي: من بركتها، من فعلها الحسن، من سعادتها المستقبلية ـ إن من يمن المرأة تيسير خطبتها وتيسير صداقها وتيسير رحمها)) رواه أحمد والحاكم والبيهقي وحسنه الألباني، ويقول عليه الصلاة والسلام: ((أيسرهن مهرًا أكثرهن بركة)) رواه أحمد والحاكم والبيهقي وضعفه الألباني، ويقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (ألا لا تغالوا في صدق النساء؛ فإنه لو كانت مكرمة في الدنيا أو تقوى لكان أولى بذلك رسول الله ، فإنه لم يصدق أحدًا من نسائه ولم يصدق أحدا من بناته أكثر من اثنتي عشرة أوقية) رواه أبو داود وابن ماجه وقال الألباني: حسن صحيح، وهي ما يقارب خمسمائة ريال، لم يصدق امرأة من نسائه ولا امرأة من بناته أكثر من اثنتي عشرة أوقية، فلا ينبغي للإنسان أن يغالي في المهر، فلا خير في المغالاة يا عباد الله، فعندما جاءت امرأة إلى النبي تعرض عليه النكاح فقام أحد الصحابة يريد نكاحًا فقال له: ((التمس ولو خاتما من حديد))، فلم يجد ذلك الخاتم، فقال: ((هل تحفظ شيئًا من القرآن؟)) قال: نعم، قال: ((زوَّجتكها بما معك من القرآن)) متفق عليه.
أيها الإخوة الكرام، ليس في المغالاة في المهور بركة، بل فيه الشقاء، وفيه الفقر، وفيه عدم البركة للزوجين في مستقبل حياتهم؛ لذا ـ يا عباد الله ـ ينبغي على المؤمنين الصادقين أن يسعَوا إلى البركة، وأن يبحثوا عن البركة، وأن تكون القدوة لهم في رسول الله وفي أصحابه والتابعين لهم بإحسان، لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ [الأحزاب:21].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر المولى العظيم الجليل لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وسلم تسليمًا كثيرًا، ورضي عن أصحابه وأتباعه وإخوانه إلى يوم الدين.
أما بعد: أيها المؤمنون، لماذا لا يغالي العبد في صداق المرأة؟ لأن الصداق للمرأة فقط وليس لغيرها، والله تعالى يقول: وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا [النساء:4].
أجمع الفقهاء قاطبة على أنه لا يحل للأب أن يأكل أو أن يأخذ درهمًا واحدًا من صداق البنت إلا إذا أذنت له بذلك إذا رضيت له بذلك؛ لأن الصداق للمرأة، وليس للأب وليس للأم وليس للصديقة والقريبة والخالة والعمة، الصداق للمرأة، وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً أي: عطية هبة، فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا، فلا يحل للعبد المؤمن رضِي بالله ربًا وبالإسلام دينًا وبمحمد نبيًا ورسولاً وسار على ذلك النهج القويم الواضح أن يشتَرط لنفسه شيئًا. مقابل ماذا؟! مقابل ماذا يشترط؟! إن ما يعطى للمرأة من المهر هو مقابل ما استحل به من فرجها، فبمقابل ماذا يعطى الأب شيئا من المهر؟! مقابل ماذا تعطى الأم شيئًا من المهر؟! ربما يقول البعض: مقابل أنه قام على شؤونها وعلى رعايتها وعلى تربيتها، لو كان الأمر كذلك فلا تكفيه ملايين الريالات؛ لأنه رباها طيلة عشرين عامًا أو أقل أو أكثر، فلا يكفيه خمسون ألفًا أو مائة ألف أو مائتا ألف، بل يبتغي الأجر من الله سبحانه وتعالى، ((من عال جاريتين حتى يدركا دخلت أنا وهو الجنة كهاتين)) أو كما قال النبي . رواه مسلم والترمذي.
إن جزاءك ـ يا عبد الله ـ في تربيتك لابنتك أو موليتك ثم زواجها هي الجنة، وليست الدنيا الفانية، ترجو جنة عرضها السماوات والأرض، الدنيا ليست بشيء، ومهما أعطيت في الدنيا فلن تجازى مقابل ما قمت به من رعايتها، فاختر لها الزوج الصالح، يسر أمر مهرها حتى تعيش في سعادة وفي طمأنينة وفي أريحية، وحتى نساعد الشباب ـ يا عباد الله ـ على الزواج، على الستر وعلى العفاف وعلى الطهر.
إننا من حيث نشعر أو لا نشعر عندما نغالي في المهور نفتح أبوابًا وأبوابًا للحرام من حيث لا نشعر؛ لأن الشاب عندما يجد أبواب الحلال مغلقة سيبحث هنا وهناك لإطفاء شهوته وغريزته، فلن يجد لذلك إلا الحرام، لن يجد لذلك إلا الحرام، ونحن الذين فتحنا له أبواب الحرام من حيث نشعر أو لا نشعرز
فلنتق الله يا عباد الله، ولنيسّر المهور حتى يتزوّج الشباب، حتى نقفل الطرق على الحرام الذي انتشر وعمّ وطم في وقت أصبَح الحرام فيه سهلاً لكثرة الدعايات المغرضة من أعداء الله تعالى، كما أنه ينبغي ـ يا عباد الله ـ أن نقفل العادات الدخيلة التي غزت مجتمعاتنا المحافظة التي أصبحت عوائق في طريق الزواج، ربما يقول البعض: أنا لم أطلب من المهر إلا شيئًا يسيرًا، لكنه فتح المجال للعادات الدخيلة التي لم يأذن الله بها، والتي لم ينزل الله بها سلطانًا، والتي لم نعرفها من قبل، سواء كانت في الملابس أو القصور والمغالاة فيها أو المطربات اللاتي يستقدمن من هنا وهناك، والمصيبة أن تلك المغنية تأتي مع فريقها من بلد بعيد بدون محرم، فينتشر الحرام، ونكون نحن السبب في ذلك؛ لأننا أذنا لهذه المتهتكة أن تأتي من تلك البلاد البعيدة لتحيي لنا ليلة تسخط رب الأرض والسماوات بمبلغ مبالغ فيه، المطربات المغنيات الراقصات الملابس العارية القصور المبالَغ فيها هذه العادات الدخيلة التي أصبحت حملاً ثقيلاً على الزوج المسكين الذي يريد العفاف، والذي يريد أن يبني بيتًا لزوجته، والذي يريد أن يؤثث بيتًا، ولكن لا يملك درهمًا ولا دينارًا.
من ذلك ـ يا عباد الله ـ ينبغي علينا أن لا نقع في العادات التي نراها هنا وهناك، ونحن مجتمع محافظ، فنسخط الله تعالى، والأصل أن الزواج عبادة، الزواج عبادة يا عباد الله، لا ينبغي أن ندخل في العبادات المحرمات، بعض الناس يشترط دخول الزوج ليزف زوجته أمام النساء الأجنبيات، من أين رأى ذلك؟! عبر المسلسلات، عبر القنوات، رآها عبر أناس لا خلاق لهم ولا دين، فأراد أن ينقل تلك العادة إلى مجتمعاتنا المحافظة، ما كنا نعرف ذلك من قبل يا عباد الله، فلننتبه قبل أن نسخط رب الأرض والسماوات، ((إياكم والدخول على النساء)) رواه أحمد والترمذي وصححه الألباني. هكذا يقول النبي ، لا يجوز للزوج أن يدخل على النساء الأجنبيات بحجة أنه يزفّ زوجته لأنه رأى ذلك هنا أو هناك، ينبغي أن ننتبه للعادات الدخيلة في الزواج في النكاح في الخطبة في المهر في هذه الأمور، ولنسأل أهل العلم كما قال سبحانه وتعالى: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل:43].
ألا وصلوا وسلموا على خير الخلق محمد بن عبد الله عليه من ربه أفضل الصلاة وأتم التسليم..
ـــــــــــــــــــ(68/166)
رسالة خاصة لشبابنا
...
...
4859
...
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
...
...
الأبناء, الآداب والحقوق العامة
...
محمد بن سليمان المهوس
...
...
الدمام
...
23/2/1427
...
...
جامع الحمادي
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- أهمية مرحلة الشباب. 2- وصايا عامة للشباب. 3- نماذج مختصرة من شباب الرعيل الأول. 4- حق الشباب علينا.
الخطبة الأولى
أيّها الناس، اتقوا اللهَ تعالى، فإن تقوى الله خيرُ لباسٍ وزادٍ, وأفضلُ وسيلةٍ إلى رضا ربِّ العباد، وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يأُوْلِي الألْبَابِ [البقرة:197].
عباد الله، في هذه الخطبة ـ إن شاء الله ـ نوجه رسالةً خاصة لهؤلاء الشباب، رسالةً من الأعماق، ممزوجةً بأسمى معاني الحب والتقدير والإشفاق لثروةِ الأمّةِ الغاليةِ وذُخرِها الثمين.
معاشرَ الشباب، تذكّروا أن الله تعالى قد خلقنا لعبادته، ولم يخلقنا لِنَرْتعَ في الشهوات والمعاصي، أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ [المؤمنون:115]. تذكّروا أن الاستقامةَ على الطاعة وتركَ المعاصي تُوصِلكُم إلى الجنة، التي فيها من النعيم ما لم يخطر على قلب بشر، نعيم لا انقطاعَ له، وسعادة لا مُنغّصَ لها، يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُون [الزخرف:71].
تذكّروا أنَّكُم أمل والدَيْكُم، وبكم يَفْخَرانِ ويَعْتَزّانِ، ولكُم يبذُلانِ من الوقت والجهد والمال الكثير؛ لِتَشبُّوا صالحِينَ نافِعينَ مَنْ حَوْلِكُم، فلا تخيّبوا ظَنَّهُما. تذكّروا أنكم أمل الدعاةِ والمْرُبّينَ الذين يحتسبون الأجر في إرشادِكُم وتعليمكم وتوجِيهِكُم. تذكّروا أن لكم إخوانًا قد ضربوا المثلَ الأعلى في الاستقامة والصلاح، فقرّت أعينُهُم ببرّ والديهم، ارتفعت هِمَمُهُم عن سَفَاسِف الأمور، وَطَمَحَتْ إلى معاليها، عُرِفوا بالخُلُقِ الجميل فأحبّهم الناسُ وأَلِفُوهُم؛ إن حَضَرُوا محفلاً أُشِيرَ إليهم، وإن غابوا فُقِدوا، وهم بحمد الله كثير، فلا تَقْعُدْ بِكُم هِمَمُكُم عن اللِّحَاِق بِرَكْبِهِم، فاستعينوا بالله وتوكّلوا عليه، لتكونوا مِنَ السَّبْعَةِ الذين يُظِلّهُمُ اللهُ في ظلّه يوم لا ظِلّ إلا ظِلُّهُ.
معاشرَ الشباب، كم من شابٍ باع دينَه من أجل شهوة عابرة، وكم من شاب دنَّسَ عِرْضَ عائِلَتِه وسمعتها من أجل لذَّةِ ساعة، وكم من شاب أخْفى سترة نفسهُ عنِ الناسِ فحارب الله َبالمعاصي، وكأن الله لا ينظرُ إليه، فَلَئِنْ غابت عنه عيونُ الناسِ فلن تغيبَ عنهُ عينُ الله.
مَعَاشِرَ الشباب، اسْمَعُوا وعُوا هذا الحديثَ العظيمَ الذي أخبرنا به نبينا بقولِهِ: ((يا معْشر َمن آمن بلسانه ولم يدخلِ الإيمانُ قلْبَهُ، لا تُؤْذُوا المسلمينَ، ولا تُعَيِّرُوهُم، ولا تَتَّبِعُوا عوْرَاتِهِم؛ فإنه من تَتَبَّعَ عورة َأخيهِ المسلمِ تَتَبَّعَ الله ُعَوْرَتَهُ، وَمَنْ تَتَبَّعَ الله ُعورتَهُ فَضَحَهُ ولَوْ فِي جَوْفِ بَيْتِهِ)) رواه الترمذي وأحمد وأبو داود. فكما تُدِينُ تُدَان. فإذا كنتَ ممن يتصيدُ طالبات المدارس أو نساءَ الجيران هل ترضى أنْ يَفْعَلَ ذلك أحدٌ مع أُخْتِكَ أو زَوْجَتِكَ أو إحدى قَرِيباتِكَ؟! فكيف بالله تَرْضى ذلك على نساء المؤمنينَ؟!
أخي الشاب، رسُولُكَ يقولُ لَكَ: ((اغتنم خمسًا قَبْلَ خَمْسٍ: حَيَاتَكَ قبْل موتِكَ، وصِحَّتكَ قبل سَقَمِكَ، وفَرَاغَكَ قبل شُغْلِكَ، وَشَبابَكَ قبل هَرَمِكَ، وغِنَاكَ قبل فَقْرِكَ)) أخرجه الحاكم من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. فليس من اغتنام الفراغِ التَّجَولُ في الشوارع والأسواق والجلوسُ في المقاهي والشوارع والطرقات، فهذا خروجٌ على الأخلاق الإسلامية الساميةِ, ومخالفةٌ صريحةٌ لِوصيَّةِ رسولِ الله . فحياة ُالمسلم لا يوجد فيها وَقْتُ فراغٍ، ذلك أن الوقتَ والعُمُرَ في حياة المسلم ملكٌ لله، وساعات الحياة ولحظاتها أمانةٌ في عُنُقِهِ، يُشْغِلُها بِمَا يُقَرِّبه إلى الله والدارِ الآخِرَةِ.
أخي الشاب، من الخِصالِ الحميدةِ التي دعا إليها دينُنا الحنيف خَصلةُ الحياء, والحياء كلُّه خير، ولا يأت إلا بخير، فحقيقةُ الاستحياء من الله أن تحفظَ لسانَك وسمعك وبصرك وبطنكَ وفَرْجَكَ عما حرم الله سبحانه وتعالى عليك، وإن الاستحياء من الله يشملُ كذلك أن لا تعصيه في خلوتك, وكما قال الأول:
وإذا خلوتَ بِريبةٍ فِي ظُلْمَةٍ والنَّفْسُ داعيةٌ إلَى الطُغْيانِ
فاستحي من نظرِ الإلهِ وقُلْ لها إنَّ الذي خلقَ الظلامَ يَرَاني
وإن من الحياء أن تَسْتحِيَ من الناس، فحياؤكَ من الناسِ يمنعُك من أن تقعَ أعينُهُم على ما يَعِيبُونَهُ عليك، وحياؤك من الناس يقودُكَ إلى رفعِ الأذى عنهم.
إذا لم تخش عاقبةَ الليالي ولم تستح فاصنع ما تشاءُ
فلا والله ما في العيشِ خيرٌ ولا الدنيا إذا ذهب الحياءُ
يعيش المرءُ ما استحيى بخيرٍ ويبقى العودُ ما بقي اللِّحاءُ
فحياؤكُم ـ مَعَاشِرَ الشباب ـ يمنعكم من التجمع بالطرقات ومضايقة النساء وإيذاء المارة. حياؤكم يمنعكم من التفحيط, و مِنَ الجلوس أمامَ بيوتِ جيرانِكُم لِتتَابِعُوا بنظراتكِم الداخلَ والخارج. حياؤكم يمنعكم من الاستماع لرقية الشيطان وبريد الزنا الغناء، ورسولكُم يقولُ: ((في هذه الأمةِ خَسْفٌ وَمَسْخٌ وَقَذْفٌ))، فقال رجلٌ من المسلمين: يا رسول الله، ومتى ذاك؟ قال: ((إذا ظهرت القيناتُ والمعازفُ وشُرِبَتِ الخْمُوُر)) رواه الترمذي وصححه الألباني من حديث عمران بن حصين .
أتدري ـ أخي الشاب ـ بماذا يركز اليهود في مخططاتهم الإجرامية لإفساد العالم الإسلامي، إنهم يركزونَ على نشر الغناء والموسيقى وتشجيعِ محترفيها والدعاية لهم، وقد ذكروا في بروتوكولاتهم أنهم سينشرون الفن ويخدرون به الشعوب الإسلامية، حتى يخلوا لهم الجو، فيحكموا العالم ويتحكموا به، حتى ـ مع الأسف ـ دخلت الموسيقى المساجدَ عن طريق نغمات الجوال. فهل أنت ـ أخي الشاب ـ ممن نفذ مخططات اليهود من حيث تعلم أو لا تعلم؟!
حياؤكم ـ معاشر الشباب ـ يمنعكُم من إيذاء الرجل الكبير بنفسه أو بمُِمْتَلكاتِهِ أو بأُسرتِهِ وأولادِهِ, فقد كان بالأمسِ يخرجُ إلى الأحبابِ والأصحاب يعُودُ مرضاهم ويُشيع ُموتاهم ويتفقدُ أحوالَهُم بِكُلِّ أمْنٍ وأمان, واليوم يخرُجُ من بيته والله أعلمُ كيف يعود إلى بيته, يعود بالقلب الخائفِ المجروحِ المنكسر, وبالدمع الغزير المنهمر؛ حتى أصبح الكبيرُ اليوم غريبًا بين أحبابِهِ وخِلانِهِ، والسببُ أنْتم معاشر الشباب؛ لم ترحموا ضعفه, ولم تُقَدِّرُوا منْزِلَتَهُ, ألم تعلموا أنَّ إجلالَ الكبيرِ وتوقيرَه وقَضَاءَ حوائِجَهُ سُنّةٌ من سنن الأنبياء وشِيمَةٌ من شِيَمِ الصالحين الأوفياء؟! قال : ((إِنَّ مِنْ إِجْلالِ اللهِ إكْرَامَ ذي الشيبة المسلم)). فأعلنوها صريحةً, وارفعوا بها أصْواتَكُم وقولوا لكبار السنِّ: يا معاشر الكبار، أنتم كبار في قلوبنا, وَكِبَارٌ في نفوسنا, وكبار في عيوننا, كبار بعظيم حسناتكم وفضلكم بعد الله علينا، أنتم الذين علمتمونا وربيتمونا, وقدمتم وضحيتم، لَئِنْ نَسِينا فَضْلَكُم فإننا نعاهِدُكُم اليومَ أننا لن ننساكم ولن نجحد فضلكم, وسامحونا عن الأذى الذي لحقكم منا، فمعروفكم لا يَبْلى ولن يُنْسى, وتضْحِياتكُم لنا تدومُ وتبقى, وأجرُكم من المولى الذي عنده الجزاء الأوفى.
اللهم أحينا حياة السعداء، وأمتنا ممات الشهداء.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
أما بعد: اتقوا الله تعالى حق التقوى، فالفلاحُ والفوز والنجاة بتقوى الله.
أخي الشاب، إليك نماذج مختصرة من شباب الرعيل الأول ليكونوا لك قدوةً وأسوة ومثلاً يحتذى به:
عُكَّاشَةُ بن مِحْصَن قاتل يوم بدر بسيفه حتى انقطع في يده، فأتى رسول الله فأعطاه جِذْلاً من حطب، فقال: ((قاتِل بهذه يا عُكَّاشة))، فلما أخذه من رسول الله هزَّهُ فعاد سيفًا في يده طويل القامة، فقاتل به حتى فتح الله على المسلمين، واستحقّ أن يكون عكاشة من الذين يدخلون الجنة بلا حساب ولا عذاب، رضي الله عنه وأرضاه.
حارثةُ بن سُراقة رُمي بسهم وهو يشرب من الحوض، فأصاب نحرَه فمات، فأخبر أمه بمصيرِه فقال: ((يا أمَّ حارثة، إنها جِنَانٌ في الجنة، وإنَّ ابْنَكِ أصابَ الفِرْدَوْسَ الأعلى)) رواه الترمذي.
عُمَيْرُ بنُ الحَمَام يقوم إلى جنة عرضها السماواتُ والأرض، ويبشره رسول الله أنه من أهلها، فيُخْرِجُ تمراتٍ من قَرْنِهِ ليأكلَ مِنْهُنّ، ثم يقول: إن أنا حييت حتى آكلَ تمراتي هذه إنها لحياة طويلة، وما بيني وبين أن أدخل الجنة إلى أن يقتلني هؤلاء، فيقذف بالتمرات ويأخذ سيفه فيقاتل فيُقتل وهو يقول:
ركضًا إلَى الله بغير زادِ إلا التُّقى وعَمَل الْمَعَاِد
والصبرُ في الله على الجهاد وكلُّ زادٍ عُرضَةُ النفادِ
غيرُ التُّقى والبرِّ والرشاد
والحديث أخرجه مسلم في صحيحه.
وعُمَيْرُ بنُ أبي وقاص يتوارى عن رسول الله يوم بدرٍ مخافةَ أن يراه ُرسولُ الله فيسْتَصْغِرَه فيرده، وهو يحب الخروجَ لعل الله أن يرزقه الشهادة. فعُِرض على رسول الله فاستصغره فرده، فبكى فأجازه، فقتل وهو ابن ست عشرة سنة، رضي الله عنه وأرضاه.
معاذ ومُعَوِّذ يقتلانِ أبا جهل أكبر صناديدِ وطغاة قريش.
إنها ـ أخي الشاب ـ صورُ التربية الجادة لشباب الإسلام في الرعيل الأول، وتلك هي حياة الأبرار الصادقين، علم نافع يتبعه عمل صالح راشد، يورث الله تعالى به عبده جنة فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. وهكذا يجب أن تكون أنت وأمثالك من شباب المسلمين اليوم؛ حماس للدين وغَيرةٌ على الحرمات واهتمامٌ بمعالي الأمور وارتباط بالعلم والعلماء.
عباد الله، شبابنا ـ ولله الحمد ـ يملكون قلوبًا حية، وعواطفهم تجاه الإسلام وقضاياه قوية، فقلوبهم تنبض بالخير، وعواطفهم تفيض بمحبة الإسلام وأهله، فهم بِذرة في أرض طيبة تحتاج من يتعاهدها، ويشفق عليها ويرحمها، لتشق طريقها على أحسن حال في هذا الزمن المليءِ بالفتن؛ حتى ولو كانوا مُقصرين في بعض الأمور، فهم كغيرِهم من الناس ُيخْطِئون ويُصِيبون، ورسولُنا يقولُ: ((كُلّ ابنُ آدم خطّاء، وخيرُ الخطائين التوّابون)) أخرجه الترمذي. إلاّ أنّ هذه الأمّةَ التي كتب الله لها الخيريّةَ بين الأمَم لا ترضى لشبابها إلاّ أن يكونوا على الأرض سادةً وفي الأخلاق قادَة.
فلشبابنا ـ عباد الله ـ حق علينا أن نعينهم على أنفسهم بنصيحة مهداة أو بموعظة مسداة أو بدعوة صادقة في ثلث اللَّيلِ الأخير؛ لِيَرْتَقُوا إلى أعلى مراتب الإيمانِ واليقين بإذن الله تعالى.
وحقّ علينا ـ عباد الله ـ أن من وضع رِجْلَهُ في الطريق الصحيح أن نقَُابِلَهُ بالودّ والترحاب، وأن نحسن الظنَّ به, ونكونَ له عونًا ـ بإذن الله تعالى ـ على طاعة مولاه.
اللهم اهد شبابنا وشبابَ المسلمين، اللهم أعنهم ونحن معهم على ذكرك وشكرك وحُسنِ عبادتك.
ألا فصلوا وسلموا على من أمر الله بالصلاة والسلام عليه فقال: إِنَّ الله َوَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلى النَّبِيِّ يأيهُا الذينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهم صلّ على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين...
ـــــــــــــــــــ(68/167)
عناية الإسلام بشأن الأسرة
...
...
91
...
الأسرة والمجتمع
...
...
قضايا الأسرة
...
صالح بن فوزان الفوزان
...
...
الرياض
...
...
...
البساتين
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- تزويج صاحب الدين. 2- اختيار الزوجة الصالحة. 3- حسن تربية الأولاد. 4- عاقبة البعد عن تشريعات الإسلام.
الخطبة الأولى
أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله تعالى بفعل ما أمركم به، وترك ما نهاكم عنه، وشكر ما أنعم به عليكم، فقد وعد بالعاقبة للمتقين والمزيد للشاكرين.
عباد الله، من المعلوم لديكم أن المجتمع يتكون من الأسرة، والأسرة تتكون من الأفراد، كالبناء الذي يتكون من الأساس واللبنات، وبقدر قوة الأساس وقوة اللبنات وانتظامها يكون البناء صرحا شامخا وحصنا راسخا، كذلك المجتمع الإنساني إنما يكون صالحا بصلاح الفرد والأسر التي يتكوّن منها، ولهذا شبه النبي المجتمع المسلم بالبنيان الذي يشدّ بعضه بعضا، وبالجسد الواحد الذي يتألم كله بتألم عضو من أعضائه، ولهذا عني الإسلام عناية تامة بتكوين الأسرة المسلمة واستصلاحها، ولما كان تكوين الأسرة يبدأ من اتصال الذكر بالأنثى عن طريق الزواج أمر باختيار الزوج الصالح والزوجة الصالحة، قال رسول الله : ((إذا أتاكم من ترضون دينه وخُلُقه فأنكحوه، إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير)) رواه الترمذي وحسنه.
وقد أمر النبي في هذا الحديث بتزويج من كان مَرْضِيّ الدين والخُلُقُ، وهذا يدلّ على أن من كان فاسد الدين سيّئ الخلق لا يجوز تزويجه، ففيه حث على اختيار الأزواج واعتبار المؤهلات الشرعية، وكثير من الأولياء لا يُعِير هذا الجانب اهتماما عند تزويج موليته، فلا يختار لها الرجل الذي أرشد إليه الرسول ، وإنما يختار لها الرجل الذي يهواه هو ولو كان فاسدا في دينه سيئا في خلقه لا مصلحة للمرأة من الزواج به، فكم سمعنا مشاكل النساء اللاتي وقعن في سوء الاختيار، هذه تقول: إنها بليت بزوج لا يصلي، وهذه تقول: إن زوجها يشرب المسكرات ويتعاطى المخدرات، وهذه تقول: إن زوجها أمرها بالسفور وإلقاء الحجاب، وهذه تقول: إن زوجها يستمتع بها في غير ما أحل الله، يجامعها في نهار رمضان، أو يجامعها وهي حائض، أو في غير المحل الذي أباح الله، وهذه تقول: إن زوجها لا يبيت عندها لأنه يسهر مع الفسقة، والمسؤول عن ذلك هو وليها الذي أساء الاختيار لها، وخان أمانته عليها، وهو المسؤول أيضا عن فسادها وفساد ذريتها بسبب هذا الزوج الذي غشها به.
وكما حث الإسلام على اختيار الأزواج الصالحين حث كذلك على اختيار الزوجات الصالحات، فعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رسول الله قال: ((الدنيا متاع، وخير متاعها المرأة الصالحة)) رواه مسلم، وعن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله : ((تنكح المرأة على إحدى خصال: لجمالها ومالها وخلقها ودينها، فعليك بذات الدين والخلق، تربت يمينك)) رواه أحمد بإسناد صحيح وابن حبان في صحيحه، وعن أبي هريرة أن رسول الله قال: ((تنكح المرأة لأربع: لمالها ولحسبها ولجمالها ولدينها؛ فاظفر بذات الدين تربت يداك)) رواه البخاري ومسلم. ومعناه: الحث على اختيار الزوجة الصالحة دون نظر إلى الاعتبارات الأخرى من الحسب والمال والجمال مع الخلو من الدين. وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((لا تَزَوّجوا النساء لحسنهن، فعسى حسنهن أن يرديهن، ولا تزوجوهن لأموالهن، فعسى أموالهن أن تطغيهن، لكن تزوجوهن على الدين، ولأمة خرماء سوداء ذات دين أفضل)) رواه ابن ماجة. والخرماء هي التي قطع شيء من أطرافها. والحديث يدل على أن الدين في المرأة يغطي ما فيها من العيوب، بخلاف المال والجمال إذا كانا بدون دين، فإنهما يجرّان إلى مفاسد. وأما إذا اجتمع في المرأة الدين والجمال وغيره من صفات الكمال فذلك من تمام النعمة، ولكن كل نقص يمكن التغاضي عنه إلا نقص الدين.
ثم يأمر الإسلام بعد تمام الزواج بحسن العشرة بين الزوجين، ومن هنا ندرك اهتمام الإسلام باختيار الزوجين لأنهما ركيزة الأسرة، وبصلاحهما تصلح الأسرة بإذن الله، واهتمامه ببقاء الزوجة الصالحة.
ثم بعد هذه المرحلة في تكوين الأسرة وهي مرحلة اختيار الزوجين يهتم الإسلام بتربية الذرية الحاصلة بين هذين الزوجين، فيأمر الوالدين بتنشئة أولادهما على الصلاح والابتعاد عن الفساد، يقول : ((مروا أولادكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر، وفرقوا بينهم في المضاجع))، ويأمر بالعدل بين الأولاد في العطية، ويمنع الوالد أن يعطي بعض أولاده ويحرم البعض الآخر؛ لأن هذا يُفضي إلى العداوة بين الأولاد، ويجرّ إلى القطيعة التي تفكك الأسرة وتهدم بناءها، عن النعمان بن بشير قال: تصدّق عليّ أبي ببعض ماله، فقالت أمي عمرة بنت رواحة: لا أرضى حتى تشهد رسول الله ، فانطلق أبي إليه يشهده على صدقتي، فقال رسول الله : ((أفعلت هذا بولدك كلهم؟)) قال: لا، فقال: ((اتقوا الله واعدلوا في أولادكم))، فرجع أبي في تلك الصدقة. رواه مسلم.
وحث النبي على حسن تأديب الأولاد، فقال : ((ما نحل والد ولدا من نحل أفضل من أدب حسن)) رواه الترمذي، وروى ابن ماجة عن ابن عباس عن النبي : ((أكرموا أولادكم وأحسنوا أدبهم)).
وكما أمر الله الوالدين بتربية الأولاد والإحسان إليهم وحسن تأديبهم فقد أمر الأولاد برد هذا الجميل والإحسان إلى الوالدين وبرهما لا سيما عند كبرهما، قال تعالى: وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنْ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا [الإسراء:23-24].
وهكذا يأمر الله الوالدين بالإحسان إلى الأولاد في حالة صغرهم وعجزهم، ويأمر الأولاد بالإحسان إلى الوالدين عند كبرهم وعجزهم، وفي هذا تكافل وتعاون بين أفراد الأسرة المسلمة من الناحية المادية، وهناك تكافل وتعاون بين أفراد الأسرة على ما هو أهم من ذلك وأنفع في العاجل والآجل، وهو التعاون على البر والتقوى، وذلك بالتآمر بالمعروف والتناهي عن المنكر بين أفراد الأسرة الواحدة، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ [التحريم:6].
فأمر المؤمنين أن يقوا أنفسهم، ويقوا من لهم عليهم ولاية من أهليهم من النار التي لا ينجي منها إلا فعل الطاعات وترك المحرمات والتعاون على البر والتقوى. وكما يجب على الإنسان أن يحرص على نجاة نفسه يجب عليه أن يحرص على نجاة غيره من أقاربه وإخوانه، وقال تعالى: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاَةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا [طه:132]، وهذا فيه أن قيّم الأسرة يحمل مسؤولية أسرته بالأمر بأداء الصلاة وغيرها من الواجبات وترك المعاصي والمحرمات، وهذا يتضمن اتخاذ وسائل الخير في البيوت من التعليم والتأديب والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإبعاد وسائل الشر عن البيوت من الملاهي وكل المظاهر السيئة؛ لأن البيوت هي محل اجتماع الأسرة وتلاقي أفرادها، فلا بد أن تكون بيوتا إسلامية مؤسّسة على البر والتقوى، وخالية مما يتنافى مع الإسلام وآدابه.
فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن صلاح الأسرة سبب لجمع الشمل وقرة الأعين في الدنيا والآخرة، وفساد الأسرة يسبب القطيعة في الدنيا والآخرة، قال الله تعالى: أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنقُضُونَ الْمِيثَاقَ وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ [الرعد:19-25].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
الخطبة الثانية
أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله يعِنكم على فعل الخيرات، ويحفظكم من جميع المحذورات، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ [النحل:128].
واعلموا أن إهمال تعاليم الإسلام في شأن الأسرة يسبب تشتّتها وضياعها في الدنيا والآخرة؛ فإنها ما فسدت الذّراري إلا بسبب إهمال الوالدين وسوء تربيتهم لأولادهم، وما حصل العقوق من الأولاد لآبائهم إلا بسبب أن الآباء قد سبق أن عقّوا آباءهم من قبل، فإن الجزاء من جنس العمل، وقد يكون بسبب حيف الأب مع بعض الأولاد بتخصيصه دون إخوانه بشيء من المال والعطف، وما حصلت قطيعة الأرحام بين الأقارب إلا بسبب التشاحن والتنافس على أمور الدنيا، وبالجملة فإنه ما حصل الخلل في بناء الأسرة اليوم إلا بسبب الخلل في الدين.
انظروا إلى المجتمعات الكافرة كيف يعيشون عيشة البهائم؛ لا روابط تجمعهم، كما قال الله تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ [محمد:12]. ولا يعطف قويهم على ضعيفهم، ولا يوقر صغيرهم كبيرهم ولو كان أباه أو أمه، إذا هرم الشخص منهم وعجز عن المشي وُضِع في دور العجزة إلى أن يموت ميتة الحيوان الحسير. وقد يكون له أولاد يملؤون الفِجَاج، ولكن لمّا ضيعوا دين الله أضاعهم الله، نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ.
فاتقوا الله ـ عباد الله ـ في أنفسكم وفي أُسَرِكم، واعتبروا بغيركم.
واعلموا أن خير الحديث كتاب الله...
ـــــــــــــــــــ(68/168)
الشباب
...
...
4894
...
الأسرة والمجتمع, العلم والدعوة والجهاد
...
...
الأبناء, التربية والتزكية, المسلمون في العالم
...
سعيد بن عبد الباري بن عوض
...
...
جدة
...
...
...
سعد بن أبي وقاص
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- أهمية دور الشباب في بناء الأمة ونهضتها. 2- مقارنة بين اهتمامات شباب الماضي وشباب الحاضر. 3- ماذا قدم أسلافنا الأوائل من شباب الأمة الإسلامية لدينهم؟ وماذا قدم شبابنا اليوم لدينهم؟ 4- صور من مآسي المسلمين.
الخطبة الأولى
وبعد: من المعلوم لدى الخاص والعام والقريب والبعيد أن الشباب هم عماد الأمم بعد الله عز وجل، وهم الذين تقوم على أكتافهم نهضة البلاد، وتعلق عليهم الآمال بعد الله في القيام بالأمة من كبوتها ونهضة الأمة وصحوتها.
الشباب ـ أيها المؤمنون ـ هم الذين قاموا بدعوة الإسلام، وأيد الله بهم هذا الدين، فقَيّض لرسوله مجموعة من الشباب قاموا به وعَزّروه ونصروه. لقد كان من السابقين الأولين في الإسلام علي بن أبي طالب، وسعد بن أبي وقاص، والزبير بن العوام، وطلحة بن عبيد الله، وعبد الله بن مسعود، وخَبّاب بن الأرت، وسعيد بن زيد، وعبد الله بن مظعون رضي الله عنهم، وغيرهم كثير من الشباب الذين نصر الله دينه بهم.
أيها المسلمون، الشباب قوة بين ضعفين: ضعف الطفولة وضعف الشيخوخة، مرحلة الشباب هي تلك المرحلة التي تكون ما بين سن الخامسة عشرة والأربعين، تلك الفترة من العمر التي يبدأ فيها النضج الفكري والجسدي حتى يكتمل عند سن الأربعين سنة، ذلك السن الذي هو سن اكتمال الرجولة، قال تعالى: حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً [الأحقاف:15]، ولذلك بعث الله رسوله على رأس أربعين سنة.
والآن ـ عباد الله ـ تعالوا بنا ننظر في حال شبابنا اليوم وحال شباب المسلمين في السابق، ما هي يا ترى اهتمامات شبابنا اليوم؟وما هي اهتمامات شباب المسلمين في عصور العِزَّة؟ما هي طريقة تفكير شبابنا اليوم؟ وما هي طريقة تفكير شباب المسلمين في عصور العِزَّة؟ كيف يقضي شبابنا اليوم أوقاتهم؟ وكيف كان شباب المسلمين يقضون أوقاتهم في عصور العِزَّة؟ ماذا قدم شباب المسلمين اليوم لدينهم؟ وماذا قدم شباب المسلمين لدينهم في عصور العِزَّة؟ والأسئلة كثيرة، ويكفي ما ذُكِر لعل الله أن ينفع به ويصلح أحوالنا.
أيها المسلمون، عند الحديث عن اهتمامات شبابنا اليوم أجدني حائرًا بماذا أبدأ؟ وماذا أذكر؟ وماذا أدع؟فاهتمامات الشباب اليوم كثيرة، وطموحاتهم لا حدود لها، وهممهم في أعلى عليين، ولعلكم تظنون أني أسخر بهذا الكلام، لا والله، بل هي الحقيقة، لكن تلك الاهتمامات وذلك الطموح وتلك الهمم كلها أرضية دنيوية سفلية. يقول تعالى في مثل هذا العلو الذي هو علو أرضي لا يسمو ولا يرتفع بصاحبه، بل على العكس يسفل بصاحبه وينحط به، يقول جل شأنه: وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ [يونس:83]. فهو عال لكن في الأرض، وهكذا كثير من الشباب والشابات اليوم، كثيرة اهتماماتهم، عالية هممهم، عظيمة طموحاتهم، لكن أين؟ في الأرض، وفي الأرض فقط.
معاشر المسلمين، عندما تسفل الاهتمامات وتنحط الهمم يغدو غاية ما يتمناه الشاب أن يكون لاعبًا مشهورًا لكرة القدم، أو مغنيًا ذا حنجرة رنانة تعشقه الجماهير، أو ممثلاً بارعًا تظهر صوره على شاشات التلفاز، ويغدو غاية ما تتمناه الفتاة مثل ذلك أو قريبًا منه. وعندما ترتقي الهمم قليلاً عند البعض يتمنى أن يكون طبيبًا أو مهندسًا. وهذه وإن كانت أمورًا مباحة إلا أن الخطأ ليس في مجرد تمنيها، وإنما الخطأ عندما تنحصر الهمم في ذلك فقط، أو أن تجعل هذه الأمور المباحة أولويات تقدم على الدين ومتطلباته. ومن الخطأ أن تتمنى الدنيا لأجل الدنيا، والعاقل من تمنى الدنيا لأجل الآخرة.
واستمع الآن ـ أخي الكريم ـ إلى أمنيات بعض أصحاب رسول الله ، روى الحاكم في المستدرك عن عمر بن الخطاب أنه قال لأصحابه: تمنوا، فقال بعضهم: أتمنى لو أن هذه الدار مملوءة ذهبًا أنفقه في سبيل الله وأتصدق، وقال رجل: أتمنى لو أنها مملوءة زبرجدًا وجوهرًا فأنفقه في سبيل الله وأتصدق، ثم قال عمر: تمنوا، فقالوا: ما ندري يا أمير المؤمنين، فقال عمر: أتمنى لو أنها مملوءة رجالاً مثل أبي عبيدة بن الجراح.
فتأمل ـ رعاك الله ـ في أمانيهم، ولماذا تمنوها؟ تمنى بعضهم مالاً وهو من الدنيا لكن تمناه ليصل به إلى الآخرة، لا كما يتمنى بعض الشباب اليوم أن يكون من التجار أصحاب الملايين، لكن لماذا؟لأجل الاستمتاع بالمال، وليشتري ما يشاء من أثاث ومتاع، وليحصل على ما يشاء من شهواته.
ثم استمع بعد ذلك إلى ما رواه مسلم في صحيحه لشاب كان يخدم النبي ، ثم أراد النبي أن يكافئه، فأمره أن يطلب ويتمنى ما يشاء، فيا ترى ماذا كانت أمنيته؟ وماذا كان طلبه؟عن أبي سلمة قال: حدثني ربيعة بن كعب الأسلمي قال: كنت أبيت مع رسول الله لآتيه بوضوئه وحاجته فقال لي: ((سل))، فقلت: أسألك مرافقتك في الجنة، فقال: ((أوَغير ذلك؟)) قلت: هو ذاك، قال: ((فأعني على نفسك بكثرة السجود)).
فلا إله إلا الله، ماذا تمنى؟! وتصور لو أن أحد الشباب عرض عليه عرض مشابه ماذا سيتمنى؟ بل إن الخيِّر فينا سيتمنى الجنة فقط، وهذا ما يخطر على البال عندما تسمع الحديث، لكن ربيعة كان طموحًا ذا همة عالية، فشتان بين همة ربيعة وهمة كثير من شبابنا اليوم، شتان بين الثرى والثريا.
سارت مُشَرِّقَة وسرت مُغَرِّبًا شتان بين مُشَرِّق ومُغَرِّبِ
هذا ـ إخوة الإيمان ـ عن الأماني، فماذا عن الاهتمامات عند شبابنا اليوم هداهم الله؟ إنها اهتمامات دنيوية تعلقت بتوافه الأمور، فما بين مهتم بالكرة قد تعلق فكره وقلبه بها، ينام على التشجيع ويصحو على التشجيع، إن ربح الفريق الذي يشجعه فرح وغنى ورقص، بل ويخرج الأفواج من الشباب إلى الشوارع ليحدثوا الفوضى ويعطلوا السير، ويقوم بعضهم بالرقص كالنساء في الطرقات، ثم يذهبون إلى الشواطئ لإكمال ما تبقى لديهم من رقص وغناء. وإن هزم فريقهم الذي يشجعونه حزنوا ووجموا وربما بكى بعضهم، بل ربما أغمي على البعض وحُمِل إلى المستشفى. هذا بخلاف ضياع الأوقات في مشاهدة المباريات، وتضييع الصلوات عند الكثير منهم، وضياع المال في تذاكر دخول الملاعب، وفي شراء الأعلام وقطع القماش وتوزيع الهدايا عند الفوز، وغير ذلك من المفاسد والبلايا التي تحل بسبب هذه الكرة. وأمر الكرة يطول الكلام فيه وتطول الشكوى منه. والله المستعان.
واهتمامات أخرى للشباب هداهم الله، الاهتمام بالمظهر كاللباس والشعر، وتلك قضية ـ والله ـ إن جاز شيء منها للنساء فلا يليق أن تكون محور اهتمام عند الشاب. فقد رأينا من يفعل بنفسه الأفاعيل في شعره ولباسه ومشيته، متابعًا في ذلك أحدث الموضات كما يقولون، ورحم الله أيامًا كانت متابعة الموضة فيها قاصرة على النساء، أما اليوم فقد أصبح كثير من الشباب يتابعون الموضات.
معاشر المؤمنين، عار ـ والله ـ على رجل أن يكون جُلّ اهتمامه بشعره وملابسه وسيارته. عار ـ والله ـ على رجل أمته تبتلى باحتلال أراضيها ومقدساتها وقتل رجالها ونسائها وأطفالها، ثم هو بعد ذلك لا يلوي على شيء، ولا يرى من الدنيا إلا الاهتمام بمظهره، اهتماما خارجًا عن حدود الشريعة.
عباد الله، هذا التنعم الزائد عن حده كان من الأسباب في خروج جيل لا يصلح لتحمل أدنى مسؤولية، وكان بعد ذلك سببًا في خروج جيل ليس من الرجال ولا من النساء، فهو مذبذب بين ذلك، لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء.
معاشر الشباب، جاء في الآثار: (اخشوشنوا فإن النعم لا تدوم)، وروى البيهقي في سننه عن أبي عثمان النهدي قال: أتانا كتاب عمر بن الخطاب ونحن مع عتبة بن فرقد بأذربيجان: (أما بعد: فاتزروا وانتعلوا وارتدوا وألقوا الخفاف والسراويلات، وعليكم بلباس أبيكم إسماعيل، وإياكم والتنعم وزي العجم، وعليكم بالشمس فإنها حمام العرب، وتمعددوا واخشوشنوا واخلولقوا وانزوا على الخيل نزوًا).
إخوة الإيمان، إن التنعم والترف مفسد للمرء ومضعف له، وقد يضطر إلى عيش خشن يومًا ما فلا يطيقه، بخلاف من ربّى نفسه على عدم الإكثار من الترفه والنعومة. بل وإنه ينبغي على الإنسان أحيانًا أن يدرب نفسه على العيش الخشن. روى أبو داود في سننه والنسائي من حديث عبد الله بن بريدة أن رجلاً من أصحاب النبي رحل إلى فضالة بن عبيد وهو بمصر، فقال: أما إني لم آتك زائرًا، ولكني سمعت أنا وأنت حديثًا من رسول الله رجوت أن يكون عندك منه علم، قال: ما هو؟ قال: كذا وكذا، قال: فما لي أراك شعثًا وأنت أمير الأرض؟! قال: إن رسول الله كان ينهانا عن كثير من الإرفاه، قال: فما لي لا أرى عليك حذاءً، قال: كان رسول الله يأمرنا أن نحتفي أحيانًا.
فانظروا ـ يا شباب الإسلام ـ كيف يربي رسول الله أتباعه على الخشونة. فلئن كنت اليوم تمشي بنعال أو حذاء فخم طري فلعلك لا تجده غدًا فماذا أنت فاعل؟! وإن كنت اليوم لا تنام إلا على السرر الكبيرة والفرش الوثيرة فلعلك لا تجد ذلك غدًا، وإن كنت لا تنام في الحر إلا بمكيف الهواء، ولا تنام في البرد إلا بالمدفأة، فلعلك لا تجد ذلك غدًا، فماذا أنت فاعل؟! وكيف ستنام بعد ذلك؟!
معاشر الشباب، إن ما يحصل اليوم من إرفاه وترفيه للنفس زائد عن الحد جعلنا ننحرف عن المنهج القويم، فاتباع الموضة مثلاً جعل شبابنا في عيدنا الفائت يخرجون علينا بلبس قمصان حمراء أو بنطال أحمر أو قبعة حمراء، وحينما سألنا: ما هذا؟! قالوا: الموضة، وهم لا يدرون ما سر هذه الموضة في هذه السنة، لكنهم يقلدون فقط.
وليعلم هؤلاء أن سر ذلك هو أن عيد النصارى المسمى بعيد الميلاد وعيد رأس السنة قد وافق هذه السنة قربه من عيدنا، وعند النصارى أن في عيد الميلاد المسمى (بالكرسمس) يأتي ما يسمونه بالبابا نويل وهو يلبس ثوبًا أحمر، ولذلك فهم ـ أعني النصارى ـ يلبسون قبعات حمراء في احتفالاتهم. وهكذا قلدهم شبابنا في مسألة دينية واحتفال من احتفالاتهم الدينية، وهو تشبه محرم كما تعلمون، بل ولو لم يكن ذلك اللباس الأحمر تشبهًا بالنصارى لكان محرمًا؛ لأنه قد ورد النهي عن لبس الأحمر الخالص كما في صحيح البخاري من حديث البراء بن عازب قال: نهانا النبي عن المَيَاثِر الحمر والقَسِّي. والمَيَاثِر والقَسِّي أنواع من الثياب، ومن هنا قال بعض أهل العلم بحرمة لبس الأحمر الخالص.
عباد الله، هذه هي اهتمامات كثير من الشباب اليوم وطريقة تفكيرهم، فنسأل الله جل وعلا أن يردهم إلى الحق ردًا جميلاً، وأن يصلحهم ويجعلهم درعًا للإسلام والمسلمين.
الخطبة الثانية
معاشر الشباب، تعالوا بنا ننظر ماذا قدم أسلافنا الأوائل من شباب الأمة الإسلامية لدينهم، وماذا قدم شبابنا اليوم لدينهم.
إخوة الإيمان، عندما تعلو الهمم وتسمو الاهتمامات يقود شاب في الثامنة عشرة من عمره جيشًا يقاتل به الروم، فيه أبو بكر وعمر وكبار الصحابة رضي الله عنهم أجمعين. ولم تكن تلك أول مرة يقود فيها الشاب أسامة بن زيد جيشًا، بل سبق له قبل ذلك أن كان أميرًا في سرية من السرايا، سميت سرية الحرقات من جهينة. ولم يكن أسامة بن زيد الشاب الوحيد الذي قاد جيشًا، فلقد أمَّر رسول الله كذلك علي بن أبي طالب وهو شاب على جيش، كما روى ذلك أصحاب الحديث كالبخاري والترمذي.
لقد كان الشباب يتسابقون إلى الالتحاق بجيش رسول الله للقتال ضد الكافرين أعداء الإسلام، حتى الصغار الذين دون الخامسة عشرة، وكان في كل غزوة يستعرض الجيش فيرد الصغار، لذا نجد في السيرة كثيرًا قولهم: "استُصغِر فلان في غزوة كذا". فحفظت لنا كتب السير أنه في غزوة بدر استُصغِر البراء بن عازب ورافع بن خديج رضي الله عنهما، وقيل: عرابة بن أوس وأسيد بن ظهير بن رافع وسعد بن جبير. وفي غزوة أحد استُصغِر أبو سعيد الخدري وزيد بن ثابت وزيد بن الأرقم. وكان عمير بن أبي وقاص في بدر يتوارى لئلا يراه النبي ، فلما رآه رده فبكى وأجازه.
وإن الأمر ـ إخوة الإيمان ـ لم يقف عند مجرد المشاركة في القتال، وإن كان ذلك أمرًا له دلالته التي ينبغي أن تبقى في الذهن، فلقد تعدى الأمر إلى مواقف بطولية للشباب أثناء القتال في المعارك وغيرها، حفظها لنا التاريخ يطول المقام بذكرها. واقرؤوا إن شئتم في سيرة سلمة بن الأكوع، وفي سيرة معاذ ومعوذ ابني عفراء اللذَين قتلا فرعون هذه الأمة أبا جهل، واقرؤوا سيرة البراء بن عازب وغيرهم كثير.
ولقد كان كذلك شباب المسلمين دعاة إلى الله يهدون الناس، ويدلونهم على الخير. لقد كان الشاب منهم يدخل الإسلام فيتوجه مباشرة إلى بني قومه يدعوهم إلى الإسلام. إن الكثير من الشباب اليوم بحاجة إلى دعوة هو بنفسه، غافل عن ربه لاه عن أمر دينه. والمؤسف أن المجتمع الذي حولهم لا يساعد على النهوض بهم، فكم من إنسان إذا حدثته في شأن ابنه قال لك: لا زال صغيرًا، فيعامله كأنه طفل، وقد كان مَن في مثل سنه يقاتل أعداء الإسلام في الجيوش الإسلامية. ويتجاوز بعضهم قضية الصغر ليتعذر لك بأنه مراهق، وتلك حجة يستبيح بها الشباب فعل كثير من المنكرات اليوم، وخاصة فيما يتعلق بالشهوات، والسبب أنه يقال لهم: إن هذه طبيعة فترة المراهقة، وأنه لا بد من المرور بهذه المرحلة من العمر وحدوث مثل ذلك فيها.
عباد الله، إننا نضخم هذه المسألة ونعطيها أكبر من حجمها؛ ألم يكن أصحاب محمد من الشباب في سن الرابعة عشرة وما بعد ذلك كانوا رجالاً يعتمد عليهم في القتال وقيادة الجيوش والدعوة إلى الله والإمارة والإمامة في الصلاة؟! ألم يكونوا يمرون بتلك المرحلة من العمر؟!
معاشر الشباب، إنه ـ والله ـ لا يليق بنا أن نكون على هذا الحال ونحن نُقتل ونُباد ونُشرد ونُطرد في كل بقاع الأرض، لا يليق بشبابنا أن يكون جُلّ اهتماماتهم شعورهم وتسريحاتهم وقصاتهم وفريق الكرة الذي يشجعونه والمغني الفلاني والمغنية الفلانية والممثل الفلاني والممثلة الفلانية، في حين يقتل إخواننا ويشردون، وتنتهك أعراض وتهدم ديار، ونحن نلهو ونلعب وكأن الأمر لا يعنينا. لقد سقطت الأندلس وضاعت من أيدي المسلمين عندما آل بهم الحال إلى مثل هذا. فهلا اتعظنا بغيرنا أم أننا لا نتعظ إلا بأنفسنا؟! نسأل الله العافية لنا ولكم ولجميع المسلمين.
معاشر المسلمين، ماذا يحدث لإخواننا؟! فلنسمع ولنتعظ: دخل أحد الجنود النصارى على الأم المسلمة في مطبخها وكانت تعد الغداء، ففتح إناء الطعام وقال: أليس لديكم لحم؟ قالت: لا، فبادر الجندي النصراني بوضع قطع من اللحم في ذلك الوعاء وهو على النار، كان هذا اللحم هو أشلاء ابن هذه المرأة الذي قطعت أوصاله أمام عينيها.
وصور أخرى عرضت في أحد المواقع الإسلامية الأندونيسية على الشبكة العنكبوتية، عن المجازر البشعة التي ارتكبت في حق مسلمي جزر الملوك، رأيتها ورآها كثير من الناس في هذا الموقع وفي أماكن أخرى، جرائم تقشعر لها الأبدان، رؤوس مفصولة عن الأجساد، أطراف ممزقة، بطون مبقورة ومحشوة بالحجارة، عُلّق الأطفال على الأشجار وهم أحياء، واستخدموهم أهدافًا للتدريب عليها بالخناجر والبنادق. وكان يرفع بعضهم إلى الهواء ويتلقاهم النصارى على أسنة رماحهم التي تخترق أجسادهم الغضة، هذا واقع حقيقي أيها الشباب. ونشر في عدد من المطبوعات العربية، ونشرت بعض المجلات تحذيرًا لأصحاب القلوب الضعيفة من أن في الداخل صورًا مروعة.
فهذا ـ يا أمة الإسلام ـ غيض من فيض وقليل من كثير مما يحدث لإخواننا، فكيف يليق بنا بعد ذلك أن نعيش بهذا الشكل الذي نحيا به؟! لعب ولهو وغفلة. نسأل الله أن يردنا إلى الحق ردًّا جميلاً
ـــــــــــــــــــ(68/169)
القسوة في التربية
...
...
4896
...
الأسرة والمجتمع, العلم والدعوة والجهاد
...
...
الأبناء, التربية والتزكية
...
سعيد بن عبد الباري بن عوض
...
...
جدة
...
...
...
سعد بن أبي وقاص
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- الأنباء مسؤولية وتكليف. 2- القسوة المحمودة والضرب غير المبرح منهجان تربويان مفيدان. 3- متى يستخدم الضرب والقسوة؟ 4- من الأخطاء في التربية. 5- من وسائل القسوة المحمودة في التربية. 6- الضرب أنواع ومراتب. 7- نتائج القسوة المفرطة.
الخطبة الأولى
عباد الله، إن مما امتن الله به على عباده من النعم العظيمه والآلاء الجسيمه نعمة الذرية، قال تعالى: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ [النحل:72]، وقال تعالى: الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [الكهف: 46]. فهذه الذرية التي رزقنا الله إياها نعمة من الله تبارك وتعالى يجب علينا شكرها، كما أنها أمانة يجب علينا المحافظة عليها، ومسؤولية سنسأل عنها بين يدي الله يوم يقوم الناس لرب العالمين، قال : ((كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، فالأمير الذي على الناس راع وهو مسؤول عن رعيته، والرجل راع على أهل بيته وهو مسؤول عنهم، والمرأة راعية على بيت بعلها وولده وهي مسؤولة عنهم، والعبد راع على مال سيده ومسؤول عنه، ألا فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته)) رواه مسلم.
معاشر الآباء والأمهات، وكما أن لكم حقوقا على أبنائكم فإن عليكم واجبات تجاههم، وإن أسهل الطرق للوصول إلى الحقوق هو أداء الواجبات، فكما أن من حقوقكم على أبنائكم السمع والطاعة والصبر على طلباتكم وحاجتكم، فإن من حقوق أبنائكم عليكم أن تحسنوا تربيتهم على المنهج الشرعي القويم. فإذا لم تؤدِ الذي عليك فلا تتوقع أن تحصل على ما هو لك. إنها معادلة سهلة الشكل معقدة المضمون، وأعني بالمضمون الأداء.
وإذا لم نحسن تربية أبنائنا فإننا أول من سيدفع ثمن هذه الإساءة، وقديما قالت العرب: "إنك لا تجني من الشوك العنب".
معاشر الآباء والأمهات، معاشر المربين، الحديث عن التربية بحر لا ساحل له، له أول وليس له آخر، لكن حديثي اليوم عن جزئية من جزئيات التربية ومفردة من مفرداتها التي حصل فيها خلل كبير وخلط كثير، وكما هي العاده فإن هذه الجزئية في التربية بين إفراط وتفريط وغالٍ وجاف، والشيطان في إضلاله للخلق يحرص أن يدفعهم دائما إلى أحد الطرفين: إما الغلو المفرط أو الاستهتار المضيع، ولا يبالي ـ والله ـ بأيهما ظفر.
إخوة الإيمان، وحديثنا اليوم عن القسوة في التربية، تلك المفردة من مفردات التربية التي طالما حصل الجدال حول جزئياتها، ومن جزئياتها استخدام الضرب، تلك الوسيلة التي لا زال الجدال حاميا حولها إلى اليوم. فما هي القسوة؟ ومتى تستخدم؟ وما هي وسائلها؟ وما هي حدودها؟ وفي ظني ـ أيها الإخوة الكرام ـ أن الإجابة على هذه الأسئلة ستغطي جزءًا كبيرًا من الموضوع.
أولاً: ما هي القسوة؟ قال ابن منظور في لسان العرب: القسوة الصلابة في كل شيء، وتأويل القسوة في القلب ذهاب اللين والرحمة والخشوع منه.
إذا فالقسوة هنا مرادفة للشدة والغلظة، ومن المعلوم لدى المؤمنين أن الله قد أقر الشدة في مواطن معينة تستحق الشدة والغلظة، فقد أقر ضرب الزوجه الناشز مثلاً في حالات معينة وبضوابط معينة، فقال تعالى في تأديب الزوجات: فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ [النساء:34]. ولست بحاجة إلى التذكير إلى أن الضرب يكون ضربا غير مبرح، كما ورد في أحاديث كثيره في السنن وغيرها.
وقد أقر استخدام الضرب بل وأمر به رسول الله : ((مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر، وفرقوا بينهم في المضاجع)) رواه أبو داود والترمذي.
والضرب ـ عباد الله ـ من استخدام القسوة، وعليه فلا ينبغي أن يكون هناك خلاف في استخدام الضرب كوسيلة من وسائل التربية، وعلى القائلين بخلاف ذلك الخضوع للقرآن والسنة خوفا من أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم.
وإذا تقرر ذلك ـ معاشر المؤمنين ـ فلننتقل للسؤال الثاني وهو: متى تستخدم القسوة؟
عباد الله، يجب أن يُعْلَم عند الحديث عن هذه القضية وغيرها من قضايا المعاملات أن الأصل الأصيل في هذا الباب هو الرفق واللين، وأن الشدة والقسوة كالدواء يحتاج إليها في حالات معينة قد سبقها محاولات أخرى باللين متعددة الطرق والوسائل، عندها يحتاج المربي إلى القسوة وهو آخر العلاج والدواء, وكما قيل:
فقسا ليزدجروا ومن يك حازما فليقسُ أحيانا على من يرحم
فيا أيها الآباء والأمهات، ويا أيها المربون، الرفق أولاً، ففي صحيح مسلم من حديث جرير قال: سمعت رسول الله يقول: ((من يحرم الرفق يحرم الخير))، وفيه كذلك عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله قال: ((يا عائشة، إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف، وما لا يعطي على سواه))، وفيه أيضا من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها عن النبي أنه قال: ((إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه)).
فإذا استخدم الأب وسائل الترغيب من الثناء والهدايا والمنح والجوائز وغرس روح التنافس بين الأبناء وغيرها من الطرق الكثيرة، ثم استخدم التهديد والحرمان وغيرها من وسائل الترهيب، ثم إذا لم تفلح هذه الوسائل كلها يُلجأ إلى القسوة والضرب والشدة. لكن المشكلة أننا كثيرًا ما تكون هذه الوسيلة هي أول الوسائل استخداما دون أن يراعى هذا الترتيب المهم، وذلك من أخطائنا التربوية التي تفسد علينا عملية التربية وتجعلها عملية شاقة مليئة بالمتاعب.
ومن أهم ما ينبغي الحديث عنه عند الحديث عن استخدام القسوة هو الحديث عن أسباب استخدامها، ومن الملاحظ لكل من يتأمل أحوالنا اليوم أننا نستخدم القسوة عند المخالفات التي تتعلق بحقوقنا نحن، أو بأمر من أمور الدنيا، ولا نكاد نستخدم ربع تلك القسوة عندما تكون مخالفات الأبناء مخالفات شرعية. فكم من ابن جُلِدَ جلد الحيوانات وطُرِدَ من البيت لأنه شتم أباه أو أمه أو رفع صوته عليهما، وكم من الأبناء من قد أهين وضرب لأنه لم يحسن استقبال الضيوف، وكم من الأبناء من قد حرم من أشياء كثيره لأنه لم ينفذ لوالديه أمرا أو يقضي لهما حاجة. بينما لم نر ولو عشر تلك القسوة مع الأبناء الذين يسبون الله أو يسبون الدين أو الرسول ، ولم نر تلك القسوة مع تاركي الصلاة من الأبناء، ولا مع الذين قد تشبهوا بالكفرة والملحدين في أشكالهم وقصات شعورهم ولباسهم، وإن كنا لسنا ندعو إلى مثل تلك الأساليب الخاطئة من الطرد والإهانة أمام الناس. لكن الكثير من الآباء والأمهات يرون في مثل هذه القضايا التي تتعلق بالدين أن الهداية من الله، وأما ما يخصهم هم من تبجيل واحترام وقضاء حاجات فهذا ما لا يطلبونه من الله بل يريدون الحصول عليه بالقوة.
معاشر المربين، إن أولى ما يعاقب عليه الأبناء بعد استخدام اللين معهم وعدم جدواه حقوق الله عز وجل والواجبات الدينية، ذلك الذي يجب علينا التنبه له. فلئن كان لك حق على أبنائك فحق الله أسبق وأوثق، ولئن لم يؤد الابن أو البنت حقوق الله فلن يؤديا ـ والله ـ حقوق البشر. وتأمل حديث المصطفى : ((إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له)) رواه الترمذي والنسائي. قال العلماء: "إنما قال: ((ولد صالح يدعو له)) مع أن الولد الفاسد قد يدعو لوالديه بعد موتهما، وهو داخل ضمن الحديث أيضا، لكن لما كان من المعتاد أن الذي يدعو لوالديه هو الولد الصالح ذكره الرسول في الحديث". وقال العلماء: "إن قوله عليه السلام: ((ولد صالح)) صفة كاشفة وليست قيدا أو شرطا للولد الذي يدعو لوالديه"؛ لذلك نقول: إن الأبناء الذين يتربون على طاعة الله والخوف منه هم الذين ينشؤون عادة بارين بوالديهم، وأما من أضاع حق الله فهو لما سواه أضيع.
ثالثًا: وأما وسائل القسوة التي تستخدم في التربية فهي محصورة في الضرب عند الغالبية العظمى من الآباء والأمهات والمربين، بل إن الكثير لا يفهم من كلمة القسوة إلا الضرب.
عباد الله، إن من وسائل القسوة في التربية الهجر، وأعني هجر الأبناء وعدم الكلام معهم، وعدم التبسم في وجوههم عندما يحصل منهم مخالفات شرعية أو مخالفات في الآداب العامة، وذلك طبعًا بعد النصح والتوجيه لهم، فإن لم يستجيبوا استخدمت معهم هذه الطريقة.
وكذلك من وسائل القسوة الحرمان مما يحبونه من بعض الأشياء، كبعض المصروف أحيانا أو شراء بعض الألعاب، أو حرمانهم من الخروج للنزهة أو زيارة بعض الأقارب والأصدقاء.
وكذلك من وسائل الشدة والقسوة التوبيخ بالكلمات التي لا تخرج عن حدود الشرع. وهنا يقع بعض الآباء والأمهات في مخالفات شرعية باستخدام ألفاظ بذيئة وشتائم لا تليق. وإن من الآثار السلبية لذلك أن الأبناء يتلقفون تلك الألفاظ ويستخدمونها فيما بينهم ومع الناس، بل وقد يستخدمونها مع والديهم، وعندها يثور الوالدان وهما قد كانا السبب في تعلم الابن لتلك الألفاظ البذيئة.
أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يوفقنا وإياكم لما يحبه ويرضاه، وأن يصلح لنا ولكم نياتنا وذرياتنا، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
الخطبة الثانية
إخوة الإيمان، ومن وسائل القسوة الضرب، وهو وسيلة تأديبية شرعية قد وردت في القرآن والسنة كما أشرنا في الخطبة الأولى.
وهنا عباد الله، يجب على المربي أن يعلم أن الضرب وسيلة للتأديب وليست وسيلة للتعذيب. إن المربي حين يضرب ابنه أو زوجته أو تلميذه يرمي من وراء ذلك إلى تأديبه وزجره عن الخطأ الذي وقع فيه، وليس يقصد من وراء ذلك التشفي وإرواء الغليل والانتقام. ومن هذا الذي تنتقم منه؟! إنه ابنك. وإن مما يجعل الضرب وسيلة للإفساد وليس للإصلاح كونه يحدث من البعض انتقاما لا تقويما. وهنا نقول للآباء والأمهات والمربين: إن من الضرب ما هو مباح، ومنه ما هو ممنوع أو محرم شرعا.
فالضرب المباح له قيود منها:
أولا: أن لا يكون مبرحًا؛ فيكسر عظمًا أو يترك عاهة مستديمة، أو يحدث تشوها في المضروب. وكم سمعنا عمن تسبب في حدوث عاهات لأبنائه بسبب هذا النوع من الضرب، وعندها يندم ولات ساعة مندم.
ثانيًا: أن لا يكون في الوجه، وذلك لأن ديننا يحرم الضرب على الوجه، وقد ورد في الصحيحين من حديث أبي هريرة أن رسول الله قال: ((إذا قاتل أحدكم فليجتنب الوجه))، وعند مسلم: ((إذا قاتل أحدكم أخاه فلا يلطمن الوجه))، وعند أبي داود: ((إذا ضرب أحدكم فليتق الوجه)).
أيها المربي، إن ضرب الوجه قتل معنوي وتدمير نفسي للابن صغيرًا كان أو كبيرًا، ولرُبَّ عشر ضربات بالعصا تكون أخف وأهون من لطمة واحدة يتلقاها الابن على وجهه، فتهين كرامته وتحطم مشاعره.
ثالثًا: ومن قيود الضرب كذلك أن لا يكون أمام الناس عامة، فإن ضرب الطفل أو الشاب أمام الناس يلغي شخصيته وقد يسبب له أزمات نفسية.
رابعًا: ومن القيود كذلك أن لا يستخدم الضرب مع الطفل الذي لا يعي ولا يفهم، بل إن بعض أهل العلم قال: إن ضرب الابن ممن هو دون العاشرة لا يجوز، واستدل بحديث: ((مروا أبناءكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر)) رواه أبو داود، فقال: "إذا كان الطفل لا يضرب على الصلاة التي هي أعظم أركان الإسلام بعد الشهادتين إلا عند بلوغ العاشرة، فكيف يضرب على ما سواها قبل العاشرة؟!".
معاشر الآباء، إن القسوة المفرطة ليست حلا ولا هي الطريق لإصلاح الأبناء. لقد بلغت القسوة عند بعض الناس حدا حتى أصبحت الحيوانات أرحم منه، فلقد أودع الله تعالى حب الأبناء والرفق بهم ورحمتهم فطرة في قلوب الحيوانات حتى إن الوحوش لتحنو على صغارها، ولا نرى إلا أن هذه الفطرة قد طمست عند البعض من البشر هداهم الله.
يحدثني أحد الإخوة عن رجل كان يضرب أبناءه ويطردهم من بيته، حتى إنه ليعري ابنه في الشارع أمام الناس. وحدثني آخر فقال: فقدنا أحد أبناء الجيران فلم نعد نره لمدة شهرين، فكنا نسأل أباه عنه، فيقول: هو موجود، ثم شككنا في الأمر واتفقت أنا وبعض أهل الحي أن نذهب لوالده في البيت ونتحرى أمر هذا الولد، فإذا بنا نكتشف أن الأب قد ربطه بسلسلة في البيت تسمح له بالوصول إلى الحمام فقط ولمدة شهرين، وأخذ الابن يستجير بنا عندما رآنا، فشفعنا له.
عباد الله، أيها الآباء والأمهات، إن الضرب الشديد المؤذي بالأسلاك والسلاسل والتعليق في المراوح وإهانة الابن أمام الناس وطرده من البيت ليبيت في الشوارع، كل ذلك ليس سبيلا للإصلاح ولا طريقًا للتقويم، بل إن من نتائج هذه القسوة المفرطة نفور الأبناء وعنادهم وزيادة فسادهم، حتى يصبح الأبناء يتمنون موت والدهم، بل ويدعون الله بذلك. وليعلم هذا الأب القاسي أنه اليوم قوي وابنه ضعيف، وغدًا يشيخ الأب وتضعف قوته ويشب الابن ويقوى، فيصبح الأب لا يستطيع ضربه، ويصبح الابن قادرا على الرد على أبيه فيرد الصاع صاعين كما يقال.
وهذا ـ أيها الإخوة الكرام ـ ما أصبح اليوم يحدث وبكثرة، ولقد كنت ممن رأى ذلك مرة، حيث رأيت شابا يتعارك مع شيخ كبير، فلما أخذت في فض النزاع بينهما وقمت أوبخ الشاب، حيث تجرأ ليمد يده على شيخ كبير، فإذا بي أعرف من الناس أن هذا الشيخ هو والده.
ولا شك ـ عباد الله ـ أن هذا إنما حدث بسبب خلل في التربية، وأغلب الظن أن القسوة المفرطة سبب ذلك، وها قد أصبحنا نسمع اليوم عن حوادث قتل يكون القتيل فيها أبا للقاتل. نسأل الله العافية.
تلك هي القضية أيها الآباء، تلك هي القضية أيها المربون، وهذه بعض سلبياتها، فالحذر الحذر من الوقوع في مثل هذه الأخطاء. إن من مصلحة الأب أن ينشئ ابنه صالحا مصلحا، وتخيل لو أن لك ابنا ربيته فأحسنت تربيته حتى صار عالما من العلماء أو داعية إلى الله يهدي الله على يديه الناس، ويكون ثواب ذلك لك أنت أيها الأب، تجده في ميزان حسناتك، وتخيل لو كان لك من مثل هذا الابن خمسة من الأبناء فكيف ستكون غبطتك يوم القيامة؟!
نسأل الله أن يوفقنا وإياكم لتربية أبنائنا وأن يهديهم، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
ـــــــــــــــــــ(68/170)
رسالة إلى العابثين بالأعراض
...
...
4901
...
الأسرة والمجتمع
...
...
الأبناء, المرأة, قضايا المجتمع
...
سعيد بن عبد الباري بن عوض
...
...
جدة
...
...
...
سعد بن أبي وقاص
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- حرمة الأعراض بين المسلمين. 2- الغيرة على الأعراض. 3- رسالة إلى العابثين بالأعراض. 4- رسالة إلى أولياء الأمور من آباء وأمهات.
الخطبة الأولى
أما بعد: فقد كان للعرض مكانة عظيمة عند العرب قبل إسلامهم، وكانوا يفتخرون بشرفهم وطهارتهم، وكانوا يحافظون على عرضهم ويفدونه بالغالي والنفيس.
أصون عرضي بمالي لا أدنسه لا بارك الله بعد العرض بالمال
ولذلك وجدت تلك العادة القبيحة عندهم وهي وأد البنات، فإنما كانوا يئدون بناتهم خشية لحوق العار بهم بسبب بناتهم، وإن كان ذلك ليس بمبرر صحيح لقتل الأبناء، ولذا جاء الإسلام بتحريم هذه الفعلة الشنيعة. وجاء الإسلام وأقر العرب على الحرص على العرض، بل وجعل الموت دفاعًا عن العرض شهادة، فقال : ((من قتل دون أهله فهو شهيد)) أخرجه أبو داود الترمذي.
وجعل حرمة الأعراض بين المسلمين كحرمة يوم النحر في شهر ذي الحجة في مكة المكرمة، فقد روى أبو بكر أن رسول الله قال في حجة الوداع: ((ألا أي شهر تعلمونه أعظم حرمة؟)) قالوا: ألا شهرنا هذا، قال: ((ألا أي بلد تعلمونه أعظم حرمة؟)) قالوا: ألا بلدنا هذا، قال: ((ألا أي يوم تعلمونه أعظم حرمة؟)) قالوا: ألا يومنا هذا، قال: ((فإن الله تبارك وتعالى قد حرم عليكم دماءكم وأموالكم وأعراضكم إلا بحقها، كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا، ألا هل بلغت؟)) ثلاثا، كل ذلك يجيبونه: ألا نعم. رواه البخاري ومسلم.
أيها المؤمنون الغيورون، كل امرئ عاقل بل كل شهم فاضل لا يرضى إلا أن يكون عرضه محل الثناء والتمجيد، ويسعى ثم يسعى ليبقى عرضه حرمًا مصونًا لا يرتع فيه اللامزون ولا يجوس حماه العابثون. إن كريم العرض يخاطر بحياته ويبذل مهجته ويعرض نفسه لسهام المنايا عندما يرجم بشتيمة تلوث كرامته، وتسود الدنيا وتظلم الحياة، ويصبح بطن الأرض خير من ظهرها للمرء إذا أصيب في عرضه. نسأل الله لنا ولكم الستر والعافية.
ومن هنا ـ عباد الله ـ نوجه رسالة إلى طائفة من الناس ـ نسأل الله لهم الهداية ـ قد آذوا المسلمين في أعراضهم. رسالة إلى العابثين بالأعراض. رسالة إلى هاتكي الحرمات. رسالة إلى كاشفي العورات، إلى تلك الفئة من الناس التي تعبث بأعراض المسلمين، فتؤذيهم في زوجاتهم أو بناتهم أو أخواتهم. فئة تتميز بقلة الدين وذهاب الورع وفساد المروءة. الغدر والكذب شعارهم، والخيانة وقلة الحياء دثارهم، وعدم المراقبة لله مسلكهم، وضعف الأنفة ديدنهم، وذهاب الغيرة من القلوب بليتهم. هذا بخلاف ما يترتب على ذلك من غضب الله ومقته وهتك الأعراض والفضائح والقبائح، لذة ساعة وخسارة إلى قيام الساعة إذا حجب عن التوبة، ولعذاب الآخرة أشد وأبقى.
فيا أيها العابث بأعراض المسلمين، إننا نخاطب فيك دينك، فإن لم يكن عندك دين يردعك فإننا نخاطب فيك الغيرة، فإن لم يبق لك منها شيء فإننا نخاطب فيك الرجولة، فإن لم تكن تحمل شيئا من الرجولة فليس إلا أن نخاطب إنسانيتك، فاتق الله الذي يراك ويسمعك وأنت تعبث بأعراض المسلمين وتهتك أستارهم وتقتحم حرماتهم. يراك ويسمعك وأنت تتحدث في هاتف أو تُرْكِبُ في سيارة أو تنفرد في خلوة بعرض من أعراض المسلمين. أما علمت أن الله مطلع عليك ناظر إليك؟! فلو شاء لفضحك وهتك سترك، ولو شاء لأمرضك وسلبك عافيتك، ولو شاء لأخذ روحك في تلك الحالة ولكنه يمهل ولا يهمل، وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى [طه:127].
أيها العابث بأعراض المسلمين، إن لم يردعك دينك وقلّ خوفك من الله وعقوبته في الآخرة أفلا تخشى العقوبة الدنيوية؟! أما علمت أن الجزاء من جنس العمل، وأنه كما تدين تدان؟! أما تخشى أن يسلط الله عليك من يؤذيك في عرضك كما تؤذي المسلمين في أعراضهم؟! أما قرأت قول الله تعالى: وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [الأنعام:129]؟! أليس لك أخت أو بنت أو خالة أو عمة؟! أفترضاه لعرضك؟! فكيف ترضاه للناس؟!
يا هاتكًا حرم الرجال وقاطعًا سبل الْمودة عشت غيْر مكرم
لو كنت حرًا من سلالة ماجد ما كنت هتاكًا لِحرمة مسلم
إن الزنا دين إذا أقرضته كان الوفا من أهل بيتك فاعلم
من يزن يُزن به ولو بجداره إن كنت يا هذا لبيبًا فافهم
روى الإمام أحمد في مسنده من حديث أبي أمامة قال: إن فتى شابًا أتى النبي فقال: يا رسول الله، ائذن لي بالزنا، فأقبل القوم عليه فزجروه، وقالوا: مه مه! فقال : ((أدنه))، فدنا منه قريبًا، قال: فجلس، قال: ((أتحبه لأمك؟)) قال: لا والله جعلني الله فداءك، قال: ((ولا الناس يحبونه لأمهاتهم))، قال: ((أفتحبه لابنتك؟)) قال: لا والله يا رسول الله جعلني الله فداءك، قال: ((ولا الناس يحبونه لبناتهم))، قال: ((أفتحبه لأختك؟)) قال: لا والله جعلني الله فداءك، قال: ((ولا الناس يحبونه لأخواتهم))، قال: ((أفتحبه لعمتك؟)) قال: لا والله جعلني الله فداءك، قال: ((ولا الناس يحبونه لعماتهم))، قال: ((أفتحبه لخالتك؟)) قال: لا والله جعلني الله فداءك، قال: ((ولا الناس يحبونه لخالاتهم))، قال: فوضع يده عليه وقال: ((اللهم اغفر ذنبه وطهر قلبه وحصن فرجه))، فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء.
أيها العابث بأعراض المسلمين، إننا نحذرك من انتهاك حمى الحرمات، فإن عاقبته وخيمة ونهايته أليمة وعقوبته عند الله عظيمة.
أيها العابث بأعراض المسلمين، كم من دعوة قد رفعت إلى الله تسأله الانتقام منك وترجوه أن يجعلك عبرة لمن يعتبر، وتسأل من كل أنواع البلايا والرزايا أن يصيبك الله بها ويبتليك. كل أولئك مظلومون قد ظلمتهم أنت، فاتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب.
أيها العابث بأعراض المسلمين، ماذا تنتظر؟! أتستبطئ العذاب؟! أغرك من الله حلمه أو اغتررت بإمهاله؟! فما هو إلا أن يأذن الله لفضيحة فتحصل، أو مرض فينزل، أو مصيبة فتحل.
أيها العابث بأعراض المسلمين، ها هم ضحاياك يرفعون أكف الضراعة إلى الله أن يريهم فيك عجائب قدرته، فأن تتوب خير لك، وأن تنيب خير لك، قبل أن لا ينفع الندم ولات ساعة مندم. إننا ندعوك إلى العودة إلى الله فإن باب التوبة مفتوح ما دامت الشمس لم تطلع من مغربها، وما دامت الروح لم تبلغ الحلقوم. فإن عدت إلى ربك فهو خير لك، وإن أعرضت فإن الله غني عنك وعن العالمين، يقول عز وجل: مَنْ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا [يونس:108].
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدا لا ينفد، أفضل ما ينبغي أن يحمد، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء محمد، وعلى آله وصحبه ومن تعبد.
أما بعد: فيا أولياء الأمور من آباء وأمهات، إن مسؤوليتكم اليوم قد غدت أكبر من ذي قبل وأشق؛ وذلك أن وسائل الفساد قد كثرت وقويت، ووسائل الإصلاح قد قلت وضعفت، وانتشرت الفتن وكثرت الذئاب البشرية من العابثين بالأعراض الهاتكين للحرمات؛ لذلك كله أصبحت مسؤوليتكم أعظم، فاتقوا الله في هذه الرعية التي استرعاكم الله إياها من بنين وبنات، فإنهم ضعاف أغرار.
واعلموا ـ وفقكم الله ـ أن النساء ضعيفات عقول، فهن كما وصفهن رسول الله : ((ناقصات عقل ودين)) رواه البخاري ومسلم. يخدعن بسهولة بمعسول الكلام الذي يسمعنه من الذئاب البشرية، فيقعن في شباكهم. ولا يخفى عليكم أن تلك الذئاب البشرية من العابثين بالأعراض يستخدمون طرقًا شيطانية للإيقاع بالنساء فيما لا تحمد عقباه، فيستخدمون التسجيل للمكالمات أو التصوير أو الرسائل أو غيرها كوسائل تهديد للوصول إلى أغراضهم الخبيثة ومقاصدهم الدنيئة. فكم من غافلة وقعت بإحدى هذه الوسائل في حبائلهم وصارت فريسة لهم.
أيها الأب، أيتها الأم، إن الشباب مغرمون بالتقليد مليؤون بالطاقة، فإذا وجدوا بعد ذلك وقتًا فارغًا ومالاً متوفرًا حصل ما لا تحمد عقباه. إن وجود غرفة خاصة وهاتف خاص للابن أو البنت مع غياب الرقابة المنضبطة بضوابط الشرع سبب لحصول تلك المصائب التي نجل المقام عن ذكرها، ومن شاء معرفة التفاصيل فليسأل موظفي هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليسمع قصصًا تشيب لها الرؤوس وتتفطر لها الأكباد.
أيها الوالدان، إن معرفتكما لأصدقاء أبنائكم ومن يزورون وبمن يتصلون ليس شكًا فيهم، بل هي رقابة من أجل حمايتهم من شياطين الإنس والجن. وهذا هو واجب الرعاية الذي ائتمنكم الله عليه.
أيها العقلاء، إن خروج النساء في كل وقت وبغير حساب ومع كل من هب ودب من السائقين أو سيارات الأجرة التي لا يدرى عن حال سائقها أصالح أم طالح، بر أم فاجر، واستخدام أجهزة الهاتف لساعات طويلة وفي الليل والنهار، كل هذه أسباب لوقوع النساء في شباك الذئاب البشرية. والله المستعان.
أيها الأب، إن إدخال أجهزة الفساد إلى البيت بحجة التسلية أو متابعة الأخبار العالمية سبب عظيم من أسباب فساد الذرية، لما يرونه من مناظر مثيرة ومشاهد مغرية. إنك ـ أيها الوالد ـ تتسبب في فتنة أبنائك من حيث لا تشعر.
إخوة الإيمان، كلمة أخيرة موجهة إلى النساء، فلتتق الله كل امرأة في نفسها وفي أهلها، ولتحذر من بداية الطريق، فإن بداية طريق الهلاك والضياع نظرة فاتنة أو كلمة لينة. فإذا خرجت المرأة فلتخرج لضرورة ملحة ليس لها منها بد، ولتلتزم بالحجاب الشرعي الكامل غير متعطرة، ولتحرص على وجود المحرم معها، فإن في ذلك حماية لها من طمع الكلاب البشرية اللاهثة وراء النساء. وإذا احتاجت إلى مخاطبة الرجال من بائع أو غيره فلا تلن له الكلام، فإن القلوب المريضة كثيرة في أيامنا هذه، يقول تعالى: فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ [الأحزاب:32]. ولتحذر من الخلوة برجل لا يحل لها؛ فإن رسول الله يقول: ((لا يخلون رجل بامرأة إلا كان ثالثهما الشيطان)) رواه الترمذي. ولتحذر من المكالمات الهاتفية المريبة، فإنها سبب كثير من المصائب اليوم.
اللهم أصلح القلوب والأعمال، وأصلح ما ظهر منا وما بطن، واجعلنا من عبادك المخلصين. اللهم إنا نعوذ بك من الغواية والضلالة، اللهم ثبتنا على دينك، اللهم آمنا في أوطاننا...
ـــــــــــــــــــ(68/171)
معركة العفة
...
...
4906
...
الأسرة والمجتمع
...
...
المرأة
...
سعيد بن عبد الباري بن عوض
...
...
جدة
...
...
...
سعد بن أبي وقاص
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- استمرار المعركة بين الطهر والعفاف وبين الفجور والفساد. 2- نداءات تحذير وصيحات نذير حول قضية الحجاب وما يدور حولها من معارك ضارية. 3- وسائل القوم في حرب الحجاب. 4- وقفات مع مسائلة الحجاب. 5- نداء إلى أولياء أمور. 6- نداء إلى التجار الذين يستوردون هذه العباءات ويبيعونها لنساء المسلمين. 7- نداء إلى المرأة المسلمة.
الخطبة الأولى
في الوقت الذي يشتد فيه الصراع بين الحق والباطل وتصل المواجهة بينهما إلى حد الصدام الصريح بل والقتال المسلح تبقى هناك معارك خفية لا تظهر لبعض الغافلين، تدار من وراء الكواليس. تنتقل هذه المعركة الدائرة بين الحق والباطل من ميدان إلى ميدان، حتى تصل إلى كل بيت، ويتأثر بالصراع أفراد في دواخل بيوتهم. تدار هذه الحرب بين الحق والباطل وكالة وأصالة؛ وكالة بيد العلمانيين والمستغربين في بلاد المسلمين الذين يلبسون ثوب الإسلام ويتكلمون بلغة القرآن، وأصالة بيد أعداء الإسلام الظاهرين من يهود ونصارى وملحدين.
وهذه المعارك الخلفية المستترة لا تقل خطورة عن حرب السلاح التي يشنها الباطل على الإسلام وأهله، بل إن بالإمكان القول أنها أخطر من تلك الحرب الظاهرة المعلنة؛ لأن المحارب في الحرب الظاهرة المعلنة لا يكون إلا كافرا صريحا أو مرتدا، تعلم الأمة أنه قد تخلى عن دينه لمصلحة دنيوية يؤملها.
ومن تلك المعارك معركة تدور بين أهل التقى والعفاف والطهارة والفضيلة القائمين على الثغور وبين أهل الفجور والفساد والرذيلة والانحلال القائمين بدور الشيطان. معركة قائمة بين الذين يذودون عن دين المرأة وكرامتها وعفتها، وبين الذين يريدون إفسادها ويسعون لجرها لشرك الشيطان، وجعلها سببا رئيسا لسقوط هذه الأمة ودمارها.
أيها المؤمنون، معركة الحق والباطل حول المرأة معركة عريضة، واسعة الأرجاء متشعبة الأودية، فهناك مثلا ما يدور منها حول إفساد التعليم، والتأليف حول المرأة والاختلاط والابتعاث واتباع الموضات، وإنشاء التنظيمات النسائية، وتمجيد الفاجرات والترويج للفن، وغير ذلك من ميادين هذه المعركة العظيمة التي قلت لكم: إنها واسعة الأرجاء متشعبة الأودية.
ومن هذه الميادين لهذه المعركة الحامية الوطيس ميدان هو باب عظيم لأعداء الله لو فتح، وميدان فسيح لهم لو دخلوه وتمكنوا فيه لانتصروا في ميادين كثيرة دون عناء، ولجرهم هذا النصر إلى انتصارات أخرى جليلة الخطر عظيمة الأثر، لا وفقهم الله.
وهذا الميدان ـ أيها الموحدون ـ هو الهجوم على الحجاب. إنه ـ أيها الشرفاء ـ ميدان احتوى ميادين، وباب من ورائه أبواب، ستفتح بيسر وسهولة إن فتح هذا الباب. فلو سقط الحجاب لذهب حياء المرأة، ولانتشرت الفواحش وكثر أولاد الزنا، واختلطت الأنساب وفسدت الذرية، وهكذا ينهار المجتمع كله وتسقط الأمة في مهاوي الردى. أرأيتم مدى خطورة هذه المعركة؟!
وهذه ـ عباد الله ـ نداءات تحذير وصيحات نذير حول قضية الحجاب وما يدور حولها من معارك ضارية، لا زال أوارها يشتد وخطرها يمتد.
معاشر المؤمنين، وها نحن نضع بين أيديكم ونلقي على أسماعكم بعض تفاصيل هذه المعركة، علكم تشاركوننا همها لأنكم طرف في هذه المعركة، ولأن الحرب على نسائنا وبناتنا وأخواتنا.
إنها ـ إخوة الإيمان ـ معركة دائرة يعمل فيها الأعداء بكل ما يملكونه من وسائل، لا يكلون ولا يملون، يأتون بالبرامج التلفزيونية، ويكتبون في الصحف، ويؤلفون الكتب والرسائل، ويحاضرون في نواديهم الأدبية، وغير ذلك حتى يصلوا إلى مرادهم، وأنى لهم ذلك والله يقول في كتابه العزيز: فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ [يونس:81].
واستمع ـ أخي الكريم ـ إلى ما كتبه أحدهم في صحيفة في إحدى الدول الإسلامية، حيث كتب مقالا يقطر سما وخبثا بعنوان: "نحن بين السفور والحجاب" يقول: "اختلفت الأقاويل في الحجاب والسفور، فمنهم من يؤيده ومنهم من يعارضه، فملؤوا صفحات الجرائد بآراء متضاربة، فيها مندفع اندفاعا كليا نحو التحرر من الكابوس الثقيل وهو الحجاب، والفئة الأخرى هي التي تمثل الرجعية البغيضة تعارض بقوة شديدة السفور، وتعتقد بل تجزم أنه سوف يفضي إلى نتائج مريعة تصيب المجتمع بأمراض جسيمة". ثم يقول برأيه بعد ذلك: "وكل هذا وذاك لن يقف في الطريق، ولن يحد من قوة التيار، فالسفور آت لا محالة على فترات متتابعة شاءت التقاليد أم أبت" انتهى كلامه عامله الله بما يستحق.
ومن وسائل القوم في حرب الحجاب وسيلة معروفة وهي الكتابة في الصحف بأسماء نساء وهمية، وإنما الذي يكتب في بعض الأحيان رجال يتخفون تحت أسماء أنثوية، يهاجمون في كتاباتهم الحجاب ويزعمون أنه يقيد حرية المرأة، وأنه تشويه لجمالها، وغير ذلك من الإفك المفترى؛ ليوهموا الناس أن النساء لا يردن هذا الحجاب، وليخدعوا كذلك نساء أخريات يصدقن هذه الكتابات المكذوبة.
إخوة الإيمان، وعند الحديث عن هذه القضية فإنني أوجه خطابي هذا لكم أنتم أيها الرجال، يا من ولاكم الله على هذه المرأة الضعيفة، وجعل لكم سلطانا القوامة، ثم أوجه كذلك هذه الكلمات إلى كل أخت مسلمة تسعى للحصول على غنيمة الدارين والسعادة فيهما. وكلماتي في هذه القضية عبارة عن وقفات، أسأل الله أن ينفع بها.
الوقفة الأولى: الحجاب عبادة وليس عادة.
عباد الله، سؤال مهم للمرأة المسلمة: أختاه، من الذي أمرك بالحجاب؟ أهو الشيخ ابن باز أو الشيخ ابن عثيمين، أم هو الإمام أبو حنيفة أو مالك أو الشافعي أو أحمد رحمهم الله جميعا؟! كلا بالطبع، فالذي أمر بالحجاب هو الله جل في علاه، هو الذي قال سبحانه: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا [الأحزاب:59].
إنه الله الذي له الخلق والأمر، فماذا تريدين بعد ذلك؟! أتستمعين إلى صوت الناعقين القائلين بأن المتعصبين والرجعيين والظلاميين يريدون للمرأة أن لا تظهر ولا يراها أحد؟! كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا. أهو عار علينا وعيب نعاب به أننا نريد للمرأة أن تكون عفيفة مصونة، لا يراها إلا من أحل الله له ذلك من زوج أو ابن أو غيره من المحارم؟! ولا يزال أحدهم يكتب ما بين حين وآخر، وشغله الشاغل المرأة وخروجها من البيت، وقيادتها للسيارة واختلاطها بالرجال، وكأنه ليس هناك قضية للبلاد والعباد إلا هذه!
عباد الله، وعود إلى القضية الأساس، فإذا كان هذا الحجاب هو أمر الله في كتابه فهل هو من التقاليد البالية كما يسميه المنافقون؟!
أيتها الأخت المسلمة، يجب أن تفهمي أن الحجاب عبادة وليس عادة، وما حصل الاستهتار والتبرج والسفور إلا عندما أصبح البعض يراه من العادات والتقاليد، ولا خلعت المرأة حجابها عند خروجها من بيئتها التي نشأت فيها كما تفعله البعض هداهن الله؛ فتراها في بيئتها محجبة لا ترى منها شيئا، فإذا خرجت من بيئتها خلعت حجابها. واسألوا إن شئتم كثيرا ممن سافروا بالطائرات إلى خارج البلاد: ما الذي تفعله بعض النساء هداهن الله؟ وما ذلك ـ والله ـ إلا لأنها ترى أنه من العادات والتقاليد، ولو كانت تلبسه تعبدا لله وطاعة ما خلعته في أي مكان؛ لأن الذي أمرها بالحجاب يراها في كل مكان.
معاشر المؤمنين، ولما أصبح الحجاب عادة وليس عبادة ظهر التلاعب في طريقة لبسه؛ فتارة يوضع على الرأس، وتارة يوضع على الكتف، وتارة يغطي الوجه كله، وتارة تظهر العينان، وتارة تتلثم به المرأة تلثما ليظهر نصف وجهها من وراء اللثام، وتارة ترفع العباءة حتى تظهر ساق المرأة، وتارة تنزل، وهكذا في سلسلة من التلاعب بطريقة لبسه تظهر على شكل موجات متتابعة من الموضة.
ولما أصبح الحجاب عادة كذلك ظهر أيضا التلاعب في طريقة تفصيله وشكله ولونه، فظهرت عباءات مزخرفة مزركشة، منها ما هو مزخرف من أوله لآخره، ومنها ما هو مزخرف في الأكمام والصدر والأطراف. وظهرت العباءات الضيقة التي تسمى بالعباءة المخصرة، والتي تبدو وكأنها فستان تلبسه المرأة، وظهرت العباءات الملونة، وعباءات تتكون من قطعتين قطعة علوية وقطعة سفلية، وغير ذلك كثير مما يضيق المقام بذكره. فهل هذه المظاهر ـ عباد الله ـ تدل على أن الحجاب عبادة لله وطاعة؟! كلا والله، وقد ذكر العلماء أن من شروط الحجاب أن يكون واسعا فضفاضا ثخينا لا يرى ما تحته.
إخوتي الكرام، ولما كان الحجاب عادة عند البعض أصبحت ترى المرأة لا تحتجب من السائق ولا الخادم، ولا الخياط ولا صاحب المحل الذي تشتري منه بضاعة ما. فتكون المرأة محجبة عند الأغراب كاشفة الوجه واليدين، وربما أكثر من ذلك عند هؤلاء الأغراب. أوليس هؤلاء الرجال من الذين أمر الله بالاحتجاب منهم؟!
وها هنا أقف لأنبه إخوتي الكرام، فليس التبرج هو كشف المرأة الوجه والشعر وغير ذلك فحسب، ولكن التبرج أيضا أن تغطي المرأة وجهها ولكنها تمشي في الشارع وكأنها في صالة لعرض الأزياء، مما تلبسه من عباءة مزركشة تلفت الأنظار. إن التبرج أن تلبس الثوب الضيق والعباءة الجذابة لونا وقصرا وتجسيدا لجسمها، وكأنها تلبس فستانا للسهرة، ذلك الحجاب الذي يخضع أصحاب القلوب المريضة، ويلفت أنظارهم لينطلقوا كالكلاب المسعورة ينهشون بأعينهم جسد هذه المرأة المتبرجة بحجابها. والمصيبة ـ أيها المسلمون ـ أن هذا الحجاب المتبرج أصبح غير مستنكر اليوم عند الكثير من الناس. نسأل الله العافية.
الخطبة الثانية
معاشر الإخوة، والوقفة الثانية مع معركة الحجاب هي مسألة السفور التي انتشرت عند البعض اليوم. والسفور عند الفقهاء هو كشف المرأة وجهها، وليس بخاف علينا وجود الخلاف بين العلماء في هذه المسألة قديما وحديثا.
وفي هذا العصر الذي ظهرت فيه بعض النسوة المتفيهقات وبعض الكتاب المتشدقين يحاجوننا بأن هناك من قال بجواز كشف الوجه، وأن في المسألة خلافا. ألا فليعلم أولئك عدة أمور:
أولها: أن الخلاف موجود في كثير من المسائل الشرعية، وأن المسائل المجمع عليها والمتفق عليها بين العلماء قليلة جدا، وذلك لاختلاف الأفهام وهو أمر طبعي لا غرابة فيه، ولكن ينبغي أن يعلم هؤلاء أن وجود الخلاف في مسألة ما لا يسوغ للمرء أن يختار القول الذي يناسب هواه وميوله ورغباته، كلا بل الواجب على المسلم أن يختار ما يظهر من الأدلة رجحانه وقوته، أو أن يقلد عالما يثق في علمه ودينه ثم لا يجاوزه. واليوم نرى أن أولئك يبحثون عن العالم الذي يوافق رأيه هواهم، فكلما وجدوا عالما يقول بما يهوون تابعوه ونسبوا القول له. ولا شك أن ذلك ليس دينا بل تتبع للهوى.
ثانيا: ليعلم هؤلاء المتفيهقون والمتشدقون أنه حتى الذين يقولون بجواز كشف المرأة وجهها يقولون بأنه يجب تغطيته في حال حصول الفتنة به من قبل الرجال. وأسألكم بالله: هل تعلمون عصرا من العصور الفتنة فيه أشد من هذا العصر؟! اللهم لا.
فهذا عصر الفتن كما يسميه الكثير من الناس اليوم. إذا فالنتيجة أن هؤلاء العلماء يقولون كذلك بتغطية الوجه وجوبا في هذا العصر. فهل يقر بهذا فقهاء الصحافة المتشبعون بما لم يعطوا؟!
الوقفة الثالثة: نداءات أوجهها إلى ثلاثة من فئات المجتمع:
الأول: نداء إلى فئة أولياء أمور النساء، اتقوا الله في نسائكم وراقبوا حجابهن وعباءاتهن، إننا حين نتحدث في المجالس والمساجد عن هذه العباءات المتبرجة نسمع الجميع يستنكر ذلك وينتقده بشدة. والسؤال هو: نساء من هؤلاء اللاتي في الشوارع والأسواق ويلبسن هذه العباءات؟! نساء من هؤلاء اللاتي ترى الواحدة منهن تكشف وجهها للسائق والخياط والبائع في المحل؟! نساء من هؤلاء اللاتي تراهن في سوق الذهب تطلب من البائع أن يلبسها الذهب من أسورة أو خاتم أو غيره؟ إنها تساؤلات للجميع وعلينا البحث عن الجواب.
النداء الثاني: إلى التجار الذين يستوردون هذه العباءات ويبيعونها لنساء المسلمين ليساهموا في حرب الحجاب لأجل مكسب دنيوي دراهم معدودة. ألا فليتق الله كل تاجر، فإن بيع هذه العباءات والكابات وما شابهها حرام، وثمنها حرام وسحت، وقد ثبت عن رسول الله أنه قال: ((أيما لحم نبت من سحت فالنار أولى به)) رواه الحاكم. فليختر لنفسه إن شاء أن يربي أبناءه بهذه الأموال المحرمة.
والثالث: نداء نوجهه إلى المرأة المسلمة، أيتها الأخت المسلمة، الله الله في الحجاب. اعلمي ـ وفقك الله ـ أن أعداءك يسعون لهلاكك وهلاك الأمة من بعدك، فكوني كما هو الظن بك الحصن المنيع الذي تندك عنده معاول هدمهم، وكوني المعقل الذي يستعصي عليهم ويأبى السقوط. احفظي دينك وشرفك وعفتك وكرامتك بالتمسك بالحجاب حتى تلقَي ربك سبحانه وتعالى فيجزيك خير الجزاء.
اللهم وفق نساء المسلمين لما تحب وترضى...
ـــــــــــــــــــ(68/172)
زنا المحارم
...
...
4956
...
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
...
...
الكبائر والمعاصي, قضايا الأسرة
...
محمد بن أحمد شامي
...
...
جدة
...
...
...
مسجد أبي بكر الصديق
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- حفظ شريعتنا للأعراض وحمايتها. 2- التعريف بزنا المحارم. 3- نفرة النفوس السليمة من الزنا. 4- تعظيم الإسلام لجريمة زنا المحارم. 5- قصص مؤثرة عن زنا المحارم. 6- الوقاية من الوقوع في زنا المحارم.
الخطبة الأولى
أما بعد: من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصه الله ورسوله فلا يضرنّ إلا نفسه، ولا يضرّ الله شيئا.
أيها المسلمون، قد جاء ديننا الإسلامي بحفظ الأعراض وحمايتها، وبسدّ كل باب يمكن أن تنفذ منه الشهوة بين المحارم، وأوجب ستر العورات بينهم، ولم يتوسع في القدر المعفوّ عن ستره بينهم حتى لا تقع العين على ما يهيج الجسد ويحرك الشهوة، فيضعف مع هيجانها رقابة الضمير، أو يتلاشى الحاجز النفسي تحت ضغط الشهوة، أو يضعف تحت وطأتها الملحة.
أيها الإخوة، إننا في هذا اللقاء لن نتكلم عن الزنا بعمومه، ولكن سيقتصر كلامنا عن زنا المحارم عافنا الله وإياكم. ونقصد بزنا المحارم زنا الأخ بأخته أو العمّ ببنت أخيه أو الخال بابنة أخته، وأعظم منه زنا الرجل بابنته التي من صلبه والله المستعان.
وإن كان الزنا في حد ذاته مستقبحا في النفوس والفطر، فإن الفطر السليمة تكاد تنكر وقوعه لو سمعوا به، وهذا دليل على أن الله فطر في النفوس قبحه والنفرة منه والابتعاد عنه، فقد جبلت النفوس على عدم الميل الجنسي بين المحارم، بل استعظام هذا واستقباحه، ومن شأن الرجل أن يحمي حريمه ويذود عنهم، فيكون ذلك أدعى أن لا يفكر في الاستمتاع بهنّ، وهو الذي يحميهن من أن يتعدَى عليهن، فلا يتصوّر أن يعتدي هو عليهم، بل لا يفعل ذلك إلا من خرج عن فطرته؛ ولذلك عظمت الشريعة عقوبة الزاني بمحارمه، فأشهرت في وجهه أعتى سلاح يمكن أن يصيب الإنسان، إنه القتل، فقال ابن حجر الهيتمي من فقهاء الشافعية في كتابه "الزواجر": "وأعظم الزنا على الإطلاق الزنا بالمحارم"، وعن البراء بن عازب قال: لقيت خالي ومعه الراية فقلت: أين تريد؟ قال: بعثني رسول الله إلى رجل تزوج امرأة أبيه من بعده أن أضرب عنقه وآخذ ماله. رواه الخمسة.
وقد اتفق العلماء في أن المحصن إذا زنى فإن حكمه في الشرع هو الرجم، بل ذهب بعض العلماء إلى أن من زنى بمحرم من محارمه فيقتل، سواء أكان محصنا أم لا، تغليظا له في العقوبة، وإن كان جمهور الفقهاء على أن عقوبة زِنا المحارم هي عقوبة الزاني، فيجلد إن كان غير محصن، ويرجم إن كان محصنا؛ ولهذا قال الإمام ابن القيم رحمه الله في كتابه "الجواب الكافي": "قد اتفق المسلمون على أن من زنى بذات محرم فعليه الحد، وإنما اختلفوا في صفة الحد هل هو القتل بكل حال أو حده حد الزاني؟ على قولين، فذهب الشافعي ومالك وأحمد في إحدى روايتيه إلى أن حده حد الزاني، وذهب أحمد وإسحق وجماعة من أهل الحديث إلى أن حده القتل بكل حال" اهـ.
ونحن في هذا المقام لسنا في مقام تقرير الحدّ الشرعي فيمن زنى بامرأة من محارمه، وإنما في مقام الوقاية من ذلك الداء العضال. وإذا نظرنا إلى أصل المشكلة نجده يكمن في التساهل في النظر إلى العورات ونظر الشهوة المحرم، ((لا تتبع النظرة النظرة؛ فإن لك الأولى وعليك الثانية))، والخلوة المحرمة التي حظر منها النبي : ((لا يخلون رجل بامرأة إلا وكان الشيطان ثالثهما))، وسئل النبي عن الحمو الذي هو أخو الزوج فقال: ((الحمو الموت))، وما يحصل من سكنى أخي الزوج مع أخيه في نفس البيت وتساهل الناس في الحجاب الشرعي ودخوله وخروجه حتى عند عدم وجود الزوج وأيضا عدم السعي إلى إعفاف الابن أو البنت عن طريق الزواج الشرعي والصعوبات التي تقابل كلا الجنسين الرجل أو المرأة والتي أولها المهر وتاليها التقليد لما عليه الناس من الإسراف والإفراط، وقد شكا لي البعض من تحرش أحد أقاربه اللصيقين جدا بأخته، وشكت امرأة من محاولة تحرش أخيها بابنتها نسأل الله العافية.
وإليكم في بادئ الأمر بعضا من القصص الواقعية التي وقعت وليست من نسج الخيال، قصص مؤثرة عن زنا المحارم:
القصة الأولى: وقفت تلك الفتاة ذات السابعة عشر من عمرها وبجوارها أمّها، وقد نزل عليها خبر حمل الفتاة كالصاعقة، لم تتوقّع الأم أبدا أن ابنتها العذراء والتي لا تخرج من البيت إلا قليلا ولا تختلط بأحد أن تحمل سفاحا. أمام انهيار الأم المسكينة حاولت معرفة من اقترف هذا الفعل الأثيم مع هذه الفتاة؛ حتى تستطيع الأسرة إدراك الخطأ وعلاجه، خاصة أن الحمل قد تجاوز الأشهر الستة، ولكن الفتاة أصرت على الإنكار وادعاء أنها لا تعرف كيف حدث هذا في بلاهة مستفزة. انصرفت الأم وابنتها التي ما لبثت إلا أن عادت لتهمس في أذني بخبر سقط عليّ أنا هذه المرة كالصاعقة، أخبرتني بأن صاحب هذه الفعلة هو خالها الذي يكبرها بخمسة أعوام، إنه الخال الذي كانت تخرج الأم وتغيب عن البيت وهي مطمئنّة أنّ الابنة في أمان معه، وقالت الفتاة: إن خالها قد اعتاد على ملامستها منذ عام، ولكن لماذا لم تقاوم الفتاة؟ ولماذا لم تخبر أحدا؟
القصة الثانية: قالت: كنت في سن المراهقة، اعتدت على ممارسة الجنس مع أخي الذي يكبرني مباشرة، واستمررنا في ذلك حتى سنّ الجامعة، ثم انتبه كلّ منا إلى خطورة ما يحدث فتوقّفنا، وتزوّج أخي وتزوجت، ولكن كانت دائما تلك المشاهد تعود أمام عيني بمجرد أن يبدأ زوجي معاشرتي، فتصيبني بالقرف والنفور، أي: النفور من زوجها.
القصة الثالثة وهي لعلها تكون أفظع من سابقاتها: دخلت الفتاة ذات الخمسة عشر عاما إلى عيادة إحدى الطبيبات بصحبة خالتها التي طلبت من الطبيبة مباشرة توقيع الكشف الطبي عليها للاطمئنان على عذريتها، وعندما سألتها الطبيبة عن السبب وضعت يدها على وجهها، ونظرت إلى الأرض، وقالت: "إن والد الفتاة ووالدتها في شجار مستمر، تركت الوالدة على إثره منزل الزوجية، وأخذت معها الطفلين الصغيرين، وظلت هذه الفتاة وحدها مع الأب، كانت هذه المسكينة تتّصل بالأم دائما، وتطلب منها سرعة العودة، والأم ترفض بحجة أن الأمر لا يعدو كونه محاولة من الزوج لإجبارها على العودة، وذات يوم أخذت الفتاة تبكي بشدة، وتستعطف الأم بسرعة العودة قائلة: أنت لا تعرفين ما يحدث لي، والأم في لامبالاة حتى تدخلت أنا، وأخذت التليفون من الأم، وسألت الفتاة: ماذا يحدث؟ ولماذا كل هذا البكاء؟ فهذه ليست أول مرة تترك الأم المنزل بالشهور! ولكن الفتاة أغلقت التليفون بسرعة، وأضافت الخالة: "بعد يأسي من لامبالاة أختي تجاه دموع ابنتها ذهبت إلى الفتاة التي ارتمت في حضني، واشتكت لي مما يفعله أبوها معها عندما يعود مساء، وأنها أصبحت لا تستطيع المقاومة أكثر من ذلك". قامت الطبيبة بالكشف على الفتاة، وبفضل الله وجدت أنها ما زالت عذراء، فنصحت خالتها بجعل أمها تحتضنها، ولا تتركها لهذا الأب المتوحش.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وآله وصحبه أجمعين.
وبعد: عباد الله، فأخوة الإسلام التي عبر عنها القرآن بقوله إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ، والولاية بين المسلمين فيما بينهم رجالا ونساء وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ تجعل حرص المسلم على أخته المسلمة من الأعمال الصالحة التي يتقرب بها إلى الله، بل تدفع المسلم إن رأى مسلما ومسلمة تعدّيا حدود الله أن يقوم بواجب النصح لهما، امتثالا لقول النبي : ((الدين النصيحة))، قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: ((لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم))، كما يعد الوازع الديني ورقابة الضمير وتحقيق مقام المراقبة أنجح قانون وأنجع وسيلة لعدم التعدي على الحرمات، بل نعدها من إعجاز القرآن التشريعي أن ينضبط سلوك الناس دون القانون الذي يضع العقاب، فالخوف من الله تعالى وشؤم المعصية ومخافة الحساب والوقوف على الصراط ورد المظالم وغيرها من القيم الإيجابية في الدين تجعل المرء يخاف أن يتعدى حدود الله، بل أولئك هم الظالمون.
أما فيما يخص الوقاية من زنا المحارم فقد وضع الإسلام التدابير الوقائية التي تحمي المجتمع من الاقتراب منه، وتحول بينهم وبين الوقوع فيه. إننا عند طرحنا لهذا الموضوع المؤلم والذي يزعج الكثيرين ليس مقصودنا منه التسلية، ولكن مقصودنا أن نقف على الجرح، حتى نتمكن من الوقاية منه وعلاجه إن وقع. فمن الإجراءات الوقائية:
1- مراقبة الأبناء وعدم الغفلة عنهم عند التجمعات الأسرية بين الأقارب. نعم أيها الإخوة، إن كثيرا من العادات السيئة يكتسبها الأبناء من احتكاكهم بأقاربهم، وربما يكون بينهم فاسد فيفسد باقي الأبناء، أو يستغل جهل بعضهم أو خوفه منه أو سذاجته، فيفعل بهم الأفاعيل والأهل عنه غافلون أو متساهلون. سلوا ـ أيها الإخوة ـ بعض الأبناء: كيف تعلمت ذلك؟ لربما أجابك من قريبه الفلاني.
2- الاستئذان قبل الدخول ومراعاة الخصوصيات في الغرف المغلقة، ولقد بلغت الحيطة مداها، فاحتاط الإسلام من وقوع النظر على العورات ولو خطأ، ففي موطأ مالك عن عطاء أن رجلا سأل رسول الله فقال: أستأذن على أمي؟ فقال: ((نعم))، فقال الرجل: إني معها في البيت، فقال رسول الله : ((استأذن عليها))، فقال الرجل: إني خادمها، فقال رسول الله : ((استأذن عليها، أتحب أن تراها عريانة؟!)) قال: لا، قال: ((فاستأذن عليها)). فانظر إلى تعليل وجوب الاستئذان، وهو الخوف من احتمال رؤية أمه عريانة.
3- التفريق بين الأولاد والبنات في المضاجع لِما جاء من الأمر بالتفريق بين الأبناء في المضاجع: ((وفرقوا بينهم في المضاجع)) رواه أحمد وأبو داود وصححه الشيخ الألباني. قال العلامة الحنفي ابن عابدين: "إذا بلغ الصبي عشرا لا ينام مع أمه وأخته وامرأةٍ... ـ إلى أن قال: ـ فالمراد التفريق بينهما عند النوم خوفا من الوقوع في المحذور، فإن الولد إذا بلغ عشرا عقل الجماع، ولا ديانة له ترده، فربما وقع على أخته أو أمه، فإن النوم وقت راحة مهيج للشهوة، وترتفع فيه الثياب عن العورة من الفريقين، فيؤدّي إلى المحظور وإلى المضاجعة المحرمة، خصوصا في أبناء هذا الزمان، فإنهم يعرفون الفسق أكثر من الكبار" انتهى.
يقول أحد الشباب بعد أن سمع أحد المشايخ يتكلم عن ضرورة التفريق بين الأبناء في المضاجع، قال: "عندما كنت صغيرا وكنا ننام أنا وإخوتي معا كان شيء يشغل بالي وهو: ما الفرق بيني وبين أختي؟ ولماذا هي بنت وأنا ولد؟ وعندما سمعت كلام الشيخ عرفت أهمية التفريق بين الأبناء في المضاجع". أيها الإخوة، هذا مع ما تعجّ به القنوات من إفساد تلك الفطر السليمة.
4- عدم ظهور الأم أو البنات بملابس كاشفة أو خليعة تظهر مفاتن الجسد أمام المحارم الذكور، والعكس بعدم تبسط الذكور أمام محارمهم من الإناث. قال العلامة الدردير من فقهاء المالكية فيما يجوز كشفه بين المحارم حيث عرض لقول قبله: "فَيَحْرُمُ عَلَيْهَا ـ أي: على المحرم ـ كَشْفُ صَدْرِهَا": "وأَجَازَ الشَّافِعِيَّةُ رُؤْيَةَ مَا عَدَا مَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ، وَذَلِكَ فُسْحَةٌ"، أي: أن الحاجة ربما اقتضت أن ترضع الأم أو الأخت وليدها أمام محرمها لضيق المكان أو نحو ذلك.
5- التزام قدر معقول من التعامل المحترم بعيدا عن الابتذال والتساهل بين أفراد الأسرة، يجب تجنب المداعبات الجسدية بين الذكور والإناث في الأسرة، والتي تأخذ شكلا من أشكال المزاح.
6- عدم نوم الأبناء أو البنات في أحضان أمهاتهم أو آبائهن خاصة بعد البلوغ: أوجب الإسلام على الأطفال المميزين أن يستأذنوا في الدخول على آبائهم وأمهاتهم في الأوقات التي يتصوّر أن يتمّ فيها الاتصال الجنسي عادة بين الزوجين، والتي يحبّ أن يجلس فيها الإنسان متخفّفا من ثيابه، كاشفا بعض ما لا يظهر منه أمام أبنائه، قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [النور:58]؛ وذلك حتى لا يقع بصر الطفل على صورة ترتسم في ذهنه، بحيث يستدعيها من ذاكرته حينما يمكنه التفكير فيما لم يكن يفكر فيه وهو صغير، إذ إن رؤية الصور الجنسية تطبع صورة ذهنية، بل هياجا حين يتكرر النظر، ويدفع للإثم إن حانت له فرصة في حال ضعف. ولا غرو أن ذهب بعض الفقهاء إلى منع الأبوين من ترك الطفل بينهما أثناء الاتّصال الجنسي، حتى لا تعلق تلك الصور الجنسية في ذهنه منذ الصغر، فتؤثر في سلوكه في الكبر، بل بلغ التحوّط منتهاه عند ابن عابدين حينما قال: "ويفرق بين الصبيان في المضاجع إذا بلغوا عشر سنين، ويحول بين ذكور الصبيان والنسوان وبين الصبيان والرجال، فإن ذلك داعية إلى الفتنة ولو بعد حين". فأين هذا من أسرة مستهترة تتحلق جميعا لمشاهدة ممارسات جنسية فاضحة باسم مشاهدة الفن؟!
ـــــــــــــــــــ(68/173)
العام الدراسي الجديد
...
...
4973
...
الأسرة والمجتمع, العلم والدعوة والجهاد
...
...
الأبناء, التربية والتزكية
...
ناصر بن عمر العمر
...
...
المدينة المنورة
...
5/8/1426
...
...
جامع جابر الأحمدي
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- أصناف الناس في الإجازة. 2- دعوة للمحاسبة. 3- الشهود يوم القيامة. 4- مسؤولية الآباء وأولياء الأمور. 5- تربية الأبناء على احترام المدرس والمدرسة. 6- مراقبة صحبة الأبناء. 7- فضل تربية الأولاد على الصلاح. 8- رسالة لحاملي رسالة التربية والتعليم. 9- كلمات للطلاب والطالبات. 10- مسؤولية المجتمع.
الخطبة الأولى
أما بعد: فها نحن نعيش الساعات الأخيرة من الإجازة الصيفية، والشوق واللهفة لغد مشرق بإذن الله تعالى، حينما يتوجه في الغد إخواننا وأبناؤنا وآباؤنا للمدارس وقلاع العلم والمعرفة.
وبهذه المناسبة نتوقف ونستريح من موضوع اللباس والزينة في هذا الأسبوع لنقف وقفات حول موضوع الساعات والعودة إلى المدارس.
أيها المسلمون، أيها الأبناء، مضت أيام الإجازة وانقضت، والأيام إذا انصرفت لا تعود، تمتع في هذه الإجازة من تمتع، وجدّد الناس نشاطهم استعدادًا لعام حافل بالجد بإذن الله.
انقضت الإجازة، استفاد منكم من استفاد، وخسر منكم من خسر، كم من شابّ رأيناه في الإجازة نهل من علوم العلم المختلفة، فذلك يتلو كتاب الله ويحفظه، وآخر قدم على أحاديث السنة يحفظها ويسمع شرحها، وثالث ثنى ركبتيه عند العلماء ينهل من علومهم وفيض أنوارهم، وآخرون التحقوا بدورات تدريبية في العلوم المختلفة، فهنيئًا لمن استفاد من الإجازة راحة وعملا. وهناك من كان في إجازته مبارزًا للواحد الديان بالمعاصي والآثام، فسهرٌ وفسوق وزنا وانحلال ووقت في ما يغضب الواحد الديان.
فاليوم أدعوكم لمحاسبة النفس حتى يخف عليكم الحساب غدًا حين ينادى المؤمن يوم القيامة فيضع الله عليه كنفه وستره عن أعين الخلق فيقرره بذنوبه: أتعرف ذنب كذا في يوم كذا؟ فيقول: نعم، فيقول الله عز وجل: أنا سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم، وأما الكافر المنافق فينادى عليه على رؤوس الخلائق والأشهاد: هَؤُلاء الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى رَبِّهِمْ أَلاَ لَعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ.
نقف اليوم ـ أيها المسلمون، ويا أيها الشباب ـ لا لنحاسب أنفسنا لأن غدًا الشهود كثير، فإن كنت في الدنيا قد تهرب من عقاب المسؤول بالحيلة والرشوة وشهود الزور والواسطة والنفوذ فغدًا من سيدافع عنك إذا تجمع عليك الشهود؟! وأعظم شهادة شهادة رب العالمين: مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا، يوم تشهد الملائكة: إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ. وأين أنت من شهادة الجوارح؟! الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ. وكيف بك بشهادة جلدك الذي يكسوك؟! وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ. وأين أنت من شهادة الأرض التي تحدث أخبارها؟! قالوا: يا رسول الله، ما أخبارها؟ قال: ((أن تشهد على كل عبد أو أمة بما عمل على ظهرها، تقول: عملت كذا وكذا يوم كذا وكذا)).
هذه الإجازة قد ولت، وها هي الدراسة قد أقبلت، فافتحوا صفحة جديدة بيضاء، واستغفروا ربكم على ما فات.
الوقفة الثانية: الدراسة هي معكم يا أولياء الأمور، يا أيها الآباء والأمهات، أنتم شركاء للمدرسة في مسؤوليتها، فليست مسؤولية الآباء توفير الدفاتر والأقلام، ولكن دورهم أعظم وأكبر.
الله الله ـ أيها الآباء ـ في أدب أبنائكم، احرصوا على إرضاعهم الأدب قبل العلم، فلا قيمة للعلم بدون أدب، فهذه أم الإمام مالك رحمه الله ورحمها لما كان صغيرًا ألبسته أحسن الثياب ثم قالت له: يا بني، اذهب إلى مجالس ربيعة واجلس في مجلسه، وخذ من أدبه قبل أن تأخذ من علمه. فنشأ على الأدب الرفيع أجيال يخلف بعضها بعضًا، تعرف للعلماء والمؤدبين قدرهم، حتى يقول الإمام الشافعي رحمه الله وهو تلميذ للإمام مالك: يقول: "كنت أصفح ـ يعني أقلب ـ الورقة بين يدي مالك رحمه الله صفحًا دقيقًا هيبة له لئلا يسمع وقعها"، وهذا الربيع بن سليمان رحمه الله وهو من تلاميذ الشافعي يقول: "والله، ما تجرأت أن أشرب الماء والشافعي ينظر إلى هيبة له"، وكان الإمام الحافظ شعبة بن الحجاج رحمه الله يقول: "كنت إذا سمعت من الرجل الحديث كنت له عبدًا ما دام حيًا"، وكان الإمام أحمد رحمه الله وهو تلميذ للشافعي يقول لابن الشافعي: "أبوك من الخمسة الذين أدعو لهم كل سحر".
معاشر الآباء، الله الله في حقوق المعلمين والمعلمات، واغرسوا في نفوس أبنائكم حبّ معلميهم واحترامهم وتقديرهم. إن من الآباء من يتكلم بكلام فيه إنقاص من قدر المعلم أو المعلمة أمام مسامع الأبناء، فوالله إن فعل أحدكم هذا ماذا يبقى للقدوة؟! وماذا يبقى للتعليم؟! وماذا يبقى لهيبة العلم والمعلم والتعليم؟! لما أساء بعض الآباء في قلة تقديرهم للمعلمين نتج لنا جيل يلعن المعلم ويضرب المعلم ويتلف ممتلكات المعلم. أترجون أن نعلو على الأمم وهذه أخلاقنا مع من يعلمون أبناءنا؟! حتى وإن أخطأ المعلم، أو كان هناك معلم سيئ ونموذج سيئ، فلا ينبغي هتك ستار الهيبة والاحترام الذي له؛ لأن في إهانة المعلم إهانة للعلم والتعليم. إذا كان الطالب يأتي للمدرسة وهو ينظر للمعلم أنه ليس بشيء لما استقرّ في ذهنه تجاه هذا المعلم، وإذا كان المعلم يرى من سوء أدب طالبه وسوء أدب والده فأي خير نرجوه من التعليم؟!
إن على الأولياء وعلى من يكتب في الصحف أن يدركوا هذه الحقيقة، وأن الأب الناصح الشفيق إذا رأى ما يزعجه أو ما يلاحظه من خلل فليس له إلا التوجه للمعلم ومصارحته بما في نفسه من ملاحظات ومكاشفات، أما أن يجلس الأب يلعن المعلم والأم تلعن المعلمة أمام الأبناء فإني أقولها لكم صريحة: لا ترجوا من التعليم ومن أبنائكم شيئًا.
يا أيها الآباء، أعينوا أبناءكم على مشاقّ العلم ومتاعبه، فهذا سفيان الثوري العالم المشهور لما كان صغيرًا وقد توفي والده وله إخوة رأى أن يترك العلم والدراسة ليطلب العيش والرزق، قالت له أمه جزاها الله خيرًا: أي بني، اطلب العلم أكفك بمغزلي، فانطلقت الأم تغزل وتكافح، وانطلق سفيان يتعلم العلم حتى أصبح سفيان من أعلام المسلمين الكبار، وكل ذلك في ميزان تلك المرأة الصالحة.
ألا وإن بعض الآباء قد يشغل ابنه عن علمه وتحصيله لما فسدت النية في العلم حتى ينصرف الابن عن العلم بالكلية.
معاشر الآباء، أيها الآباء، لا تتركوا الحبل على الغارب لأبنائكم؛ يمكثون في الشارع ما شاؤوا ومع من شاؤوا وفي أي مكان شاؤوا، يتعلمون من الشارع ما يفسد عليكم وعلى المدرسة في التربية. فاحفظوا أوقات أبنائكم واضبطوها، وكونوا أعينًا تربيهم عن قرب وعن بعد.
إن بعضًا منكم كان آخر عهده بالمدرسة يوم سجّل ابنه فيها، وبعضهم لا يأتي إلاّ حين الاستدعاء. فيا أيها الوالد، يا ولي الأمر، مدارسنا يدرس فيها مئات الطلاب، فلا تنتظر أن تقوم المدرسة بكل شيء، فإذا لم تضع يدك بيد مدير المدرسة ومعلمها فالخاسر أنت وابنك.
إن على أولياء الأمور زيارة المدارس مرات ومرات للسؤال والمتابعة والمناقشة، السؤال عن الأدب، فكثير من الأبناء تختلف أخلاقهم في البيت عن المدرسة، وإن الخلل إذا عرف في أول الوقت سهل القضاء عليه. عليك أن تعرف جلساء ابنك وذهابه وإيابه، عليك صحبة ابنك للمسجد ومجامع الخير، علّمه مكارم الأخلاق مرة بعد مرة ويومًا بعد يوم، صوّب خطأه واشكر صوابه واعلم أن تربيتَهم جهاد أيّ جهاد؟! ولكن أعظِم به من جهاد.
يا أيها الآباء، أقولها لكم فاحفظوها: أنتم محتاجون أبناءكم إذا دخلتم قبوركم، فإحسانك لتربية ابنك هو عمل صالح مستمر لك بعد موتك، إن الصلاة والصيام والذكر والقرآن وكل خير زرعته في أبنائك لهو أُجور لك بعد موتك، والعكس بالعكس، فكل شر كنت سببًا في تعليمه لأبنائك من خلالك أو من خلال مجلة ساقطة سمحت بها أو فضائيات سمحت بها أو أحضرتها لهي سيئات تصبّ في ميزانك بعد موتك، فاختاروا ـ أيها الآباء ـ ما شئتم، يقول عليه الصلاة والسلام: ((ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لها إلا حرم الله عليه الجنة)).
وأما الوقفة الثالثة فهي إلى من حملوا وظيفة الأنبياء في تعليم الناس، قال : ((إن الله وملائكته ليصلون على معلم الناس الخير)). إن المعلم والمعلمة إذا أخلصوا للأمّة ولم يغشوها فهم يمشون في رحمة الله ورضا من الله بما يصنعون.
أيها المعلمون، أبناؤنا غدًا يأتون بين أيديكم، فالله الله في أبناء المسلمين، إنهم أمانة كبيرة وحمل عظيم أعانكم الله عليها. ألا وإن أحسن ما يعينكم هو الإخلاص لله في أعمالكم، فعمل بلا إخلاص لا بركة فيه، والإخلاص ما كان في قليل إلا كثره، ولا في يسير إلا باركه.
يا مشاعل النور والرحمة، قدوتكم في التربية والتعلم هو المعلم الأول والنبي الآخر، قال معاوية رضي الله عنه: فبأبي وأمي ما رأيت معلمًا كرسول الله ، ما كهرني ولا ضربني ولا شتمني، وقال أنس : ما لمست حريرًا ولا ديباجًا ألين من كف رسول الله ، ولقد صحبته عشر سنين وأنا غلام ما قال لي يومًا: أف، وما قال لي: لم فعلت هذا؟ أو ألا فعلت كذا؟ وقال جرير : ما لقيت النبي إلا تبسم في وجهي.
إن المعلم الذي يشتكي من سوء أدب طلابه هو في الواقع فشل في استمالة قلوب طلابه إليه برفيع أخلاقه. على المعلم اليوم أن لا يشتكي من أن جيل اليوم تغيّر والملهيات كثرت، فقولوا لي بربكم أيها المعلمون: فماذا ينفع تضرجكم وتبركم وشكواكم من سوء الأوضاع؟! إن اليأس هي صفة وسمة الكفار، إنما هذا السوء في الأمة يدعوكم لبذل المزيد من الجهد والعمل وابتكار الوسائل المفيدة النافعة، عليكم أن تزاحموا الشر الذي يحيط بأبنائنا، واعلموا أن من أخلص نيته لله وعلم الله منه الإخلاص والرغبة الصادقة في الخير فإن الله يؤيده ويسدده.
أيها المعلم، إذا دخلت فصلك وأغلقت بابك وغابت عين المدير والمسؤول وأولياء الأمور عنك، ولم يعد إلا أنت وهم بين يديك، فتذكر ملائكة الرحمن بين يديك وأن الله في عليائه مطلع عليك. لا يكن هم أحدكم متى تنتهي الحصة، فالحصص ليست فقط دروسا لما هو مسطر في الكتب، بل إن الجانب التربوي هو شغلك الشاغل. لا تستخفن بنفسك، فكلمة تقولها بإخلاص يبارك الله فيها وينفع فيها عشرات السنين.
على المعلمين أن يكونوا قدوة لطلابهم، فليس من المقبول أن تعلّم طلابك ما أنت تنسفه بأفعالك. إنها ضربة موجعة للتربية، كيف بالمعلم أن يضيع صلاة الجماعة ويتهرب منها في المدرسة وغيرها؟! كيف تعلم أبناءنا التمسك بسنة المصطفى في لحيته وثوبه وأخلاقه وظاهره وباطنه ثم يأتي المعلم وينسف كل هذا بحلق لحيته وإسبال ثوبه وسوء أخلاقه وغيبته ونميمته للمدير والمعلمين وأولياء الأمور والطلاب؟! على المعلم أن يتمثل الإسلام في هيئته وتصرفاته، فحوله عشرات الطلاب الذين يرقبون فعله وتصرفاته، ويتخذونه قدوة لهم.
أيها المعلم، من دعا إلى هدى كان له أجر من عمل به إلى يوم القيامة، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئًا، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه وزر من عمل به إلى يوم القيامة. فاحرصوا ـ معاشر المعلمين ـ على تعليم أبنائنا كل خير وهدى وفضيلة وأخلاق كريمة، فهي أبواب عظيمة من الأجور مفتوحة لكم، لم تفتح لغيركم فاغتنموها.
أيها المعلم، وأيتها المعلمة، مصادر الشر تعزو اليوم أبناءنا من كل مكان، ما بين قنوات مدمرة للأخلاق، إلى إنترنت لنشر الإباحية، إلى تقليد وذوبان الشخصية في شخصية غربي كافر نجس، إلى أفكار تتسلل إليهم من هنا وهناك يحتاجون من يجليها بصدق ووضوح.
على المعلمين والمعلمات اليوم أن يسابقوا الزمن في رفع مستوياتهم العلمية والثقافية، عليكم أن تكونوا قارئين مثقفين واسعي الاطلاع، فنحن اليوم في زمن الشبكة العنكبوتية، سيكون ربما طلابك أفضل منك، فلتسبقهم إلى المعرفة، ولتستلم قيادة الدفة بدل أن تجد نفسك منقادًا مكسورًا مهزومًا.
معاشر المعلمين، الرفق الرفق بالأبناء، ستجدون في أبنائنا تصرفات تنكرونها وسلوكيات ترفضونها وأفكارا تتبرؤون منها، فعليكم بمنهج النبي في التعليم، البسمة تأسر بها طالبك، والحنان تملك به قلبه، والمناقشة الهادئة البعيدة عن التشنج والتعصب ترفع الغبش عن العقول، أطلقوا ألسنة أبنائكم للكلام، فإن أحسنوا فكافئوهم، وإن أخطؤوا فقوّموهم بالتي هي أحسن.
وفق الله الجميع للخير والفلاح، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم وللمسلمين، إنه غفور رحيم.
الخطبة الثانية
أما بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله، فإنها خير الزاد، وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى.
أما الوقفة الرابعة ـ عباد الله ـ فهي مع أحبائنا وقرة عيوننا ومهج أفئدتنا وأكبادنا التي تمشي على الأرض: الأبناء والبنات الطلاب والطالبات.
يا أبنائي، إني لأتلم من أحدكم أجده حزين القلب كسير النفس، لماذا؟ لأن الدراسة غدًا.
يا بني، ألم تر إلى دول الكفر قد سبقتنا في علوم الدنيا التي بها قوام الناس؟! انظر إلى مسجدنا؛ فهذا مصنوع في اليابان، وهذا في أمريكا، وذاك في أوروبا، وغيره في الصين، ولم أجد شيئا مصنوعا يرفع له الرأس، مصنوع من أوله لآخره في بلادنا، من أسباب ذلك أنك تذهب غدًا إلى المدرسة حزينًا.
هل علمت أنه في كل ثانية ـ وليس كل دقيقة ـ اكتشاف وإنجاز علمي، هؤلاء ما وصلوا لهذا عبثًا، ولكنها سنة الحياة؛ من جد وجد، ومن زرع حصد. دهشت حينما علمت عن تجربة اليابان في التعليم، بلدة بدأت من الصفر بعد أن دكّت بالقنابل الذرية في يوم من الأيام، وها هي اليوم تتفوق على العالم، وإذا أردت أن تطمئن إلى صناعة جيدة قبل لك إنها يابانية، يدهشك ذلك إذا علمت أن الحكومة هناك لا تدفع ريالاً واحدًا على التعليم، فنفقات التعليم يدفعها أولياء الأمور، وما يدهشك حقًا وتتعجّب له أنه لا يجبر أيّ مواطن على دفع شيء، إنما كله عن حبٍ ورضا نفس.
هناك ـ يا بني ـ في الغرب انتشر عندهم كتاب الجيب، وهو كتاب صغير تجد الكل يحمله في جيبه ليقرأ به في وقت الانتظار والفراغ خارج البيت والعمل، أتظن أن الغرب هو تلك الموسيقى والأزياء والرقص واللهو؟! لو كانت هذه حياتهم كلهم ما رأيت كل هذا، بل هذا ما صدّروه لك لكي تبقى نائمًا غارقًا في شهواتك.
يا بني، إن أول ما نزل القرآن: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، وثناها: اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ. أرأيت ديننا كيف يدعوك للقراءة والبحث والعلم؟! بل يا بني، إن رسول الله يقول لك: ((من سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا سهل الله له طريقًا إلى الجنة)).
فأخلص نيتك ـ يا بني ـ في العلم، واطلب العلم لترفع عن نفسك الجهل، واطلب العلم لتنفع غيرك وأمتك، واطلب العلم لأجل العلم لأن العلم زينة. إنك ما ترى عالمًا في أي مجال إلا والناس يكنّون له الاحترام والتبجيل، لا تطلبوا العلم لأجل الوظيفة، فالوظيفة رزق والرزق بيد الله وحده، واعملوا وجدّوا فكلٌ ميسر لما خلق له.
يا بني، إنك تتوجه غدًا لقلعة من قلاع العلم، فابدأ فيها باسم الله وعلى بركة الله، ولتكن بدايتك جادة، ولا تؤجل عمل اليوم إلى الغد، فهذا طبع الكسول، ومن كانت له بداية محرقة كانت له نهاية مشرقة، ومن كانت بدايته رمادا فالرماد لا يخلف إلا الرماد في الوجوه.
يا بني، كن صبورًا على العلم، ولا ترض بما يقدّم لك في المقررات، بل زد عليها من عندك قراءة وثقافة، فلا خير في من لا يقرأ.
معاشر الطلاب، عليكم بتقوى الله والصلاة، فلا خير فيكم إذا ضيعتم الصلاة. تجملوا بالدين والأخلاق واحترام المعلمين، وحققوا لآبائكم ما يرجونه منكم، فإنه من البرّ والعقوق أن تجعل قلب والديك يتحسران وقلقين كل يوم.
عباد الله، إنّ على المجتمع عمومًا أن يكون متعاونًا في سبيل التربية والتعليم، كل فيما يخصه، فليمتنع الحلاق عن قصات غريبة علينا، وليمتنع صاحب البقالة عن بيع الدخان لأبنائنا ولكبارنا أيضًا، وليمتنع عن بيع المجلات الهابطة وليستبدلها بمجلات نافعة، فليقدم المسؤولون عن المقاصف ما يفيد أبناءنا ولا يضرهم، وأن لا يكون الهدف الربح فقط من غير أخلاق، على المجتمع أن يتحسس الفقراء والمساكين والأيتام ليقدموا لهم المساعدة، على الميسورين أن يدعموا المدارس بكل ما يستطيعون، فهي أوقاف تجري عليهم حسناتهم.
ثم صلوا وسلموا على البشير النذير والسراج المنير سيد الخلق أجمعين...
ـــــــــــــــــــ(68/174)
...
رسالة إلى مصاب
...
...
4991
...
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
...
...
الفتن, قضايا المجتمع
...
محمد بن محمد الراجحي
...
...
أبها
...
21/7/1426
...
...
جامع الموسى
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- تعدد البلاء وتنوعه. 2- مراحل البلاء. 3- حكم البلاء. 4- سؤال الله تعالى العافية. 5- روافع البلاء.
الخطبة الأولى
عباد الله، في هذا اليوم أرسل رسالة إلى كلّ مصاب ومصابة، رسالة باعثها الصدق والنصح، وغايتها الذكرى والمواساة، قلمها المحبة، ومدادها الكتاب والسنة، وورقها آذان صاغية وقلوب واعية.
والبلاء متعدّد ومتنوع، فليس محصورًا في شيء واحد، فترى كثيرًا من الناس مصابًا ببلاء يختلف عما أصيب به غيره، وقد تتوالى بعض أنواعه على شخص واحد، وربك عليم حكيم، يقول تعالى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنْ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرْ الصَّابِرِينَ [البقرة:155].
عباد الله، جرت سنة الله تعالى وحكمته بحدوث البلاء للعباد في هذه الدنيا، وللبلاء مع صاحبه مراحل وأحوال، فقد يصاب العبد ببلاء ثم ينفك عنه، وقد يعود إليه، وقد لا يعود، ومن البلاء ما يكون ملازمًا للعبد ما دام على قيد الحياة، وربك عليم حكيم. ومما يشار إليه أن التعزية مشروعة لكل مصاب أيا كان مصابه، لا كما يفعل البعض فيحصر التعزية في الوفاة فحسب.
عباد الله، ليعلم كل مصاب ومصابة وغيرهم من المعافين أن لله في إصابة عبده وأمته حكمًا ونعمًا، علمها مَنْ علم وجهلها من جهل، وبمعرفة ذلك يوفق العبد إلى التسليم والصبر والرضا.
فأولها: علم العبد بسبق القضاء والقدر، وأن ما أصابه مقدر ومكتوب عليه قبل وجوده، فهو واقع لا محالة، فلا مجال للاعتراض والتضجر والحسرة والندب، يقول تعالى: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [الحديد:22]، وفي الحديث: ((واعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك)).
وثانيها: أن يعلم العبد أن الذي قضى عليه وقدر ذلك المصاب هو العليم الحكيم، فما نزل به من بلاء فالله يعلمه، وله فيه حكمة، تعالى وتنزه في قضائه وقدره عن الجهل والعبث. واسمع إلى يعقوب عليه السلام، لما قصَّ عليه يوسف عليه السلام الرؤيا، قال في آخر تعبيرها: إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [يوسف:6]. ويُخَصُّ المؤمن بأن ربه به رحمن رحيم، فالله أرحم بعبده المؤمن من نفسه، فلا يؤمل إلا خيرًا، ولا يظن إلا حسنًا.
ثالثها: استحضار المؤمن كثرة نعم الله عليه، فإن كان قد أخذ منه قليلاً فقد أعطاه كثيرًا، ولينظر إلى من أسفل منه، فذلك أجدر أن لا يزدري نعمة الله عليه. قال عمر بن الخطاب : (ما ابتليت ببلاء إلا كان لله تعالى علي فيه أربع نعم: إذ لم يكن في ديني، وإذ لم يكن أعظم، وإذ لم أحرم الرضا به، وإذ أرجو الثواب عليه).
رابعها: علم العبد بأن البلاء علامة محبة الرب؛ لما فيه من رفع الدرجات ومحو السيئات وتعجيل العقوبة في الدنيا قبل الآخرة، فيستيقن العبد أن المحنة تحتها منحة وأن ربه عليم حكيم رحيم. عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه وولده وماله حتى يلقى الله تعالى وما عليه خطيئة)) رواه الترمذي وقال: "حديث حسن صحيح". وعن أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما عن النبي قال: ((ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه)) متفق عليه. وعن أنس قال: قال رسول الله : ((إذا أراد الله بعبده خيرًا عجل له العقوبة في الدنيا، وإذا أراد الله بعبده الشر أمسك عنه بذنبه حتى يوافى به يوم القيامة))، وقال: ((إن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله تعالى إذا أحب قومًا ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط)) رواه الترمذي وقال: "حديث حسن". وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((من يرد الله به خيرًا يصب منه)) رواه البخاري، قال سفيان الثوري: "ليس بفقيه من لم يعدَّ البلاء نعمة والرخاء مصيبة". وعن أبي هريرة : قال رسول الله : ((إن الرجل ليكون له عند الله المنزلة، فما يبلغها بعمل، فما يزال يبتليه بما يكره حتى يُبَلّغَهُ إياها)) رواه أبو يعلى وابن حبان في صحيحه من طريقه وغيرهما.
خامسها: علم المصاب والمصابة بأن البلاء والصبر عليه سبيل إلى الجنة ونيل ما فيها من النعيم المقيم، ففيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، فتهون المصيبة ويسلى المصاب. عن أنس قال: سمعت رسول الله يقول: ((إن الله عز وجل قال: إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه فصبر عوضته منهما الجنة)) رواه البخاري. وعن أبي هريرة أن رسول الله قال: ((يقول الله تعالى: ما لعبدي المؤمن عندي جزاءٌ إذا قبضت صفيَّه من أهل الدنيا ثم احتسبه إلا الجنة)) رواه البخاري. وعن عطاء بن أبي رباح قال: قال لي ابن عباس: ألا أريك امرأة من أهل الجنة؟ فقلت: بلى، قال: هذه المرأة السوداء؛ أتت النبي فقالت: إني أُصرع وإني أتكشّف، فادع الله تعالى لي، قال: ((إن شئتِ صبرتِ ولك الجنة، وإن شئت دعوت الله تعالى أن يعافيَك))، فقالت: أصبر، فقالت: إني أتكشّف فادع الله أن لا أتكشّف، فدعا لها. متفق عليه.
سادسها: بروز حقيقة الدنيا للمصابين، وأنها دار أحوالها متقلبة، خلط حلوها بمرها ويسرها بعسرها، فلا تعلق بها، ولا ركون إليها، وأن اللذة الكاملة والنعيم المقيم لا يكون إلا في دار كرامة أرحم الراحمين، فلذلك فليعمل العاملون ويصبر الصابرون.
وقد وصف الله الصابرين بعدما بشرهم بأنهم يقولون معتقدين عند مصابهم: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ [البقرة:156]، وهذا القول منهم يتضمن قاعدتين عظيمتين، وإن شئت فقل: عقيدتين:
أولاهما: أنهم لله، خلق من خلقه، وملك من ملكه، في حكمه وتدبيره، يفعل فيهم ما يشاء، ويحكم ما يريد، وهل يعترض على المالك ويشكى إلى غيره إذا فعل في ملكه ما يشاء؟!
وثانيهما: أنهم إليه راجعون لا محالة، مفارقون لما أُعطُوا، خارجون من الدنيا، ملاقون لربهم وثوابهم إن صبروا، وإنما الأجل المعدود قد يبعد بهم ويقرب.
لما أرسلت بنت النبيّ إليه: إنّ ابني قد احتضر فاشهَدنا، فأرسل يقرئها السلام ويقول: ((إن لله ما أخذ، وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمى، فلتصبر ولتحتسب)) متفق عليه. وما دام ذلك كذلك فعلام الغمّ والحز ن؟!
واصبر على القدر المحتوم وارض به وإن أتاك بما لا تشتهي القدر
فما صفا لامرئ عيش يسر به إلا سيتبع يوما صفوه كدر
قال عيسى عليه السلام للحواريين: أشدّكم جزعًا على المصيبة أشدّكم حبًا للدنيا.
سابعها: أنّ البلاء امتحان للعبد في دينه أيصبر أم يجزع، يقول تعالى: الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ [العنكبوت:1-3]، وشدّة البلاء دلالة على عظم الدين، و((أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى المراد على قدر دينه))، وهذه بشارة ومواساة.
على قدر فضل المرء تأتي خطوبه ويُعرف عند الصبر فيما يصيبه
ومن قل فيما يتقيه اصطباره فقد قل فيما يرتجيه نصيبه
ثامنها: أن البلاء دعوة إلى المحاسبة، فلعل العبد كان مفرطًا في طاعة ربه معرضًا عن سبيله، فيرده الله إليه بذلك البلاء، فيتوب وينيب، فيكشف ما نزل به، وربما صحت الأجساد بالعلل، يقول تعالى: أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، ويقول: وَلَقَدْ أَرْسَلنَا إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَالْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
تاسعها: علم المُصاب بقدر النعمة لمَّا يفقدها، وكذلك علم المعافَين بقدرها إذا رأوا فاقدها، فتحصل العبرة والموعظة، وهما طريق الشكر والطاعة.
عاشرها وآخرها: أنه يظهر للناس عامة بالبلاء وأنواعه قدرة الله على خلقه، يصيب من يشاء بما يشاء، ويصرفه عما يشاء، فيورث ذلك عندهم تواضعًا وسكينة وإنابة وخوفًا ورجاء، فيطيعون أمره ويجتنبون نهيه.
عباد الله، ولعل البعض بعد هذا قد يتمنى البلاء لعظم الفضل فيه والصبر عليه والحكم المتعلقة به، وهذا لا ينبغي لمخالفة النصوص الواردة بالنهي عن ذلك بسؤال الله العافية والمعافاة؛ لأن العبد لا يدري ما حاله عند نزول البلاء به أيصبر أم يجزع. عن وسط بن إسماعيل الجبلي قال: خطبنا أبو بكر، فقال: قام رسول الله مقامي هذا عام الأول، وبكى أبو بكر، فقال أبو بكر: (سلوا الله المعافاة ـ أو قال: العافية ـ، فلم يؤت أحد قط بعد اليقين أفضل من العافية أو المعافاة) رواه الإمام أحمد في المسند وإسناده صحيح.
الخطبة الثانية
عباد الله، مما يُدفع ويُرفع به البلاء الدعاء والصدقة والتصبر.
فأما الدعاء فيدفع به البلاء ويرفع، في الحديث الصحيح: ((لا يرد القدر إلا الدعاء))، فكم من مبتلى دعا الله وألحَّ عليه وتضرع بين يديه فكشف الله ما به وقربه منه.
وأما الصدقة ففي الحديث: ((داووا مرضاكم بالصدقة)).
وأما التصبر والصبر فهو البحر الذي لا ساحل له، فلقد أمرنا الله بالاستعانة به، ووعدنا معيته لنا إن صبرنا، فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [البقرة:153]، عن أبي يحيى صهيب بن سنان قال: قال رسول الله : ((عجبًا لأمر المؤمن، إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن؛ إن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له)) رواه مسلم. ومن حديث أبي سعيد الخدري جاء فيه قول الرسول : ((ومن يتصبر يصبره الله، وما أعطي أحدٌ عطاءً خيرًا وأوسع من الصبر)) متفق عليه. وقال في ثوابهم: إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [الزمر:10]، وقال: أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُهْتَدُونَ [البقرة:157].
فالله أسأل لكل مُصاب ومُصابة أن يفرج الهم وينفس الكرب ويرفع الضر ويمحو بالبلاء السيئات ويزيد الحسنات ويرفع الدرجات، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
ـــــــــــــــــــ(68/175)
تربية الأولاد
...
...
1544
...
الأسرة والمجتمع, العلم والدعوة والجهاد
...
...
الأبناء, التربية والتزكية
...
محمد بن عبد العزيز الشمالي
...
...
الرياض
...
...
...
غير محدد
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- ضرورة العناية بتربية الأولاد. 2- ظاهرة إهمال تربية الأولاد. 3- وصايا وتوجيهات معينة على تربية الأولاد. 4- شكوى من ولد لأبيه.
الخطبة الأولى
أما بعد: عباد الله، اتقوا الله حق التقوى كما أمركم الله بذلك فقال: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1]، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران:102]، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحشر:18].
أيها المؤمنون، في زمنٍ تكالب فيه أعداء الإسلام على أهله، وفي زمنٍ كشر الشر عن أنيابه، وفي زمنٍ انتشرت فيه وسائل الفساد وعمت وطمّت كان لزامًا علينا نحن الآباء والمربون وأولياء الأمور أن نهتمّ بشأن تربية الأولاد، وأن نبحث عن كل ما مِن شأنه أن يعيننا على القيام بهذه المسؤولية.
وإن مما يحزن له القلب ويتفتّت له الفؤاد أن ترى كثيرًا من الناس قد أهملوا تربية أولادهم، واستهانوا بها، وأضاعوها، فلا حفظوا أولادهم، ولا ربوهم على البر والتقوى، بل وللأسف الشديد إن كثيرًا من الآباء أصلح الله أحوالهم يكونون سببًا لشقاء أولادهم وفسادهم، قال ابن القيم رحمه الله: "وكم ممن أشقى ولده وفلذة كبده في الدنيا والآخرة بإهماله وترك تأديبه وإعانته على شهواته، وهو بذلك يزعم أنه يكرمه وقد أهانه، ويرحمه وقد ظلمه، ففاته انتفاعه بولده، وفوّت على ولده حظّه في الدنيا والآخرة"، ثم قال رحمه الله: "وإذا اعتبرت الفساد في الأولاد رأيت عامته من قبل الآباء" انتهى كلامه رحمه الله.
أيها الآباء، إليكم هذه الوصايا وهذه المعالم التي تعينكم على القيام الحق بتوجيه أولادكم وتربيتهم التربية التي تسعدون بها في الدارين:
1- سؤال الله الذرية الصالحة: فهذا العمل دأب الأنبياء والمرسلين وعباد الله الصالحين كما قال تعالى عن زكريا عليه السلام: رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ [آل عمران:38]، وكما حكى عن الصالحين أن من صفاتهم أنهم يقولون: رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا [الفرقان:74].
2- غرس الإيمان والعقيدة الصحيحة في نفوس الأولاد: فمما يجب ـ بل هو أوجب شيء على الوالدين ـ أن يحرصوا كل الحرص على غرس العقيدة الصحيحة، وأن يتعاهدوها بالسقي والرعاية، كأن يعلّم الوالد أولاده منذ الصغر أن ينطقوا بالشهادتين، وأن يستظهروها، وينمي في قلوبهم محبة الله عز وجل، وأنّ ما بنا من نعمة فمنه وحده، ويعلمهم أيضا أن الله في السماء، وأنه سميع بصير، ليس كمثله شيء، وأن ينمي في قلبه محبة نبيه محمد ، إلى غير ذلك من أمور العقيدة.
3- غرس القيم الحميدة والخلال الكريمة في نفوسهم؛ مِن صدق ووفاء واحترام وبذل وحسن خلق وطيب معشر وحُسن حديث وحبّ للعلم والعلماء وصبر وحِلم وغيرها من الصفات الحميدة، فالطفل منذ نعومة أظفاره جوهرة لامعة، فمتى حرصت على هذه الجوهرة بقيت غالية وثمينة، ومتى أهملتها فقدت قيمتها ولمعانها، وأصبح من الصعب إعادتها إلى ما كانت عليه.
4- تنشئتهم على الآداب الإسلامية وتدريبهم عليها؛ من آداب الأكل والشرب وآداب النوم وآداب الضيافة وآداب المجلس وآداب السلام وآداب قضاء الحاجة وآداب الجار وتشميت العاطس وغير ذلك، فمتى اعتادها في الصغر نشأ عليها في الكبر، وسهل عليه القيام بها، وسرّ الأب بها وثناء الآخرين على حسن تربيته.
5- الحرص على استعمال العبارات المقبولة الطيبة مع الأولاد، والبعد عن العبارات المرذولة السيئة: فمما ينبغي للوالدين مراعاته أن يحرصا على انتقاء العبارات الحسنة المقبولة الطيبة، البعيدة عن الإسفاف في مخاطبة الأولاد، وأن يربؤوا بأنفسهم عن السب والشتم واللجاج وغير ذلك من العبارات البذيئة والسيئة.
فإذا أعجَب الوالدين شيءٌ من عمل الأولاد على سبيل المثال قالا: ما شاء الله، وإذا رأيا ما يثير الاهتمام قالا: سبحان الله، الله أكبر، وإذا أحسن الأولاد قالا لهم: بارك الله فيكم، أحسنتم، جزاكم الله خيرًا, وإذا أخطؤوا قالا: لا يا بني، ما هكذا، إلى غير ذلك من العبارات المقبولة الحسنة؛ حتى يألف الأولاد ذلك، فتعفّ ألسنتهم عن السباب والتفحّش.
6- الحرص على تحفيظهم كتاب الله عز وجل: فهذا العمل من أجلّ الأعمال التي يمكن أن يقوم بها الوالدان؛ فالاشتغال بحفظه والعمل به اشتغال بأعلى المطالب وأشرف المواهب، ثم إن فيه حفظًا لأوقاتهم وحماية لهم من الضياع والانحراف، فإذا حفظوا القرآن أثر ذلك في سلوكهم وأخلاقهم، وفجر ينابيع الحكمة في قلوبهم.
7- أن تكون قدوة صالحة لأولادك: يقول الله تعالى: وَكَانَ أُبُوهُمَا صَالِحًا [الكهف:82]، فينبغي للوالدين أن يكونا قدوة صالحة لأولادهم في الصدق والاستقامة وجميع شؤونهم، وأن يتمثلا ما يقولانه. ومن الأمور المستحسنة في ذلك أن يقوم الوالدان بالصلاة أمام الأولاد؛ حتى يتعلم الأولاد الصلاة عمليًا من الوالدين، وهذا من الحكم التي شرعت لأجلها صلاة النافلة في البيت.
8- إبعاد المنكرات وأجهزة الفساد عن الأولاد: فمما يجب على الوالد تجاه أولاده أن يحميهم من المنكرات، وأن يطهر بيته منها، حتى يحافظ على سلامة فطر الأولاد وعقائدهم وأخلاقهم، ويجدر به أن يوجد البدائل المناسبة المباحة، سواء من الألعاب أو الأجهزة التي تجمع بين المتعة والفائدة، حتى يجد الأولاد ما يشغلون به وقت فراغهم.
9- أن تقدر مراحل العمر للأولاد: فالولد يكبر وينمو تفكيره، فلا بد أن تكون معاملته ملائمة لسنه وتفكيره واستعداده، وأن لا يعامل على أنه صغير دائما، ولا يعامل أيضا وهو صغير على أنه كبير؛ فيطالب بما يطالب به الكبار، ويعاتب كما يعاتبون، ويعاقب كما يعاقبون.
10- الجلوس مع الأولاد في المنزل: فمما ينبغي للأب مهما كان له من شغل أن يخصص وقتا يجلس فيه مع الأولاد؛ يؤنسهم فيه، ويسليهم، ويعلمهم ما يحتاجون إليه؛ لأن اقتراب الولد من أبويه ضروري جدا، وله آثاره الواضحة، فهذا أمر مجرب، فالآباء الذين يقتربون من أولادهم ويجلسون معهم ويمازحونهم يجدون ثمار ذلك على أولادهم، حيث تستقرّ أحوال الأولاد، وتهدأ نفوسهم، وتستقيم طباعهم.
11- العدل بين الأولاد: روى النعمان بن بشير رضي الله عنهما أن أباه أتى به إلى رسول الله فقال: إني نحلت ابني هذا غلاما ـ أي: وهبته عبدا كان عندي ـ، فقال رسول الله : ((أكلَّ ولدك نحلته مثله؟)) فقال: لا، فقال رسول الله : ((فأرجعه)) رواه البخاري، وفي رواية: فقال رسول الله : ((فاتقوا الله واعدلوا بين أولادكم))، قال فرجع فرد عطيته، وفي رواية: ((فلا تشهدني إذًا، فإني لا أشهد على جور)) رواه مسلم.
فما قامت السماوات والأرض إلا بالعدل، ولا يمكن أن تستقيم أحوال الناس إلا بالعدل؛ فمما يجب على الوالدين تجاه أولادهم أن يعدلوا بينهم، وأن يتجنّبوا تفضيل بعضهم على بعض، سواء في الأمور المادية كالعطايا والهدايا والهبات، أو الأمور المعنوية كالعطف والحنان والفرح والحزن.
12- عدم استعجال النتائج في التربية: فعلى الوالد إذا بذل مستطاعه لولده وبيّن له وحذّره ونصح له واستنفد كل طاقته أن لا يستعجل النتائج، بل عليه أن يصبر ويصابر ويستمر في دعائه لولده وحرصه عليه؛ فلربما استجاب الولد بعد حين وادَّكر بعد أمة.
13- استشارة من لديه خبرة بالتربية من العلماء والدعاة والمعلمين والمربين، ممن لديهم خبرة في التربية وسبر لأحوال الشباب وتفهم لأوضاعهم وما يحيط بهم وما يدور في أذهانهم، فحبذا استشارتهم والاستنارة برأيهم في هذا الصدد، فهذا الأمر يعين على تربية الأولاد.
14- الحرص على مرافقتهم لرفقة صالحة، فالجليس الصالح هو خير معين لك على تربية ابنك؛ لأنه لا يأمره إلا بما فيه خير، ولا ينهاه إلا عن شر، يقول الرسول : ((المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخلل)).
أيها الآباء، أبشروا بمرضاة الرب عز وجل وبقرار أعينكم بصلاح أبنائكم ونفعهم لكم في الدنيا وبرّهم بكم، وأعظم من ذلك بعد وفاتكم كما قال عليه السلام: ((إِذَا مَاتَ الإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلا مِنْ ثَلاثَةٍ: إِلا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ)) رواه مسلم (1631)، وليس ذلك فحسب، بل إنهم نفع لكم في الآخرة لقوله عليه السلام: ((إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَيَرْفَعُ الدَّرَجَةَ لِلْعَبْدِ الصَّالِحِ فِي الْجَنَّةِ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ أَنَّى لِي هَذِهِ؟! فَيَقُولُ: بِاسْتِغْفَارِ وَلَدِكَ لَكَ)) رواه ابن ماجه (3660) وأحمد (10232) واللفظ له، قال تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ.
ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين، واجعلنا للمتقين إماما.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرا.
أما بعد: فهذه كلمات يبثّها صدرٌ مفعَم بالحب والمودّة لك أنت أيها الأب المبارك على لسان ابنك، فافتح قلبك لها، وارع لها سمعك.
يا أبتي، استمع إلى شكواي أبثّها إليك، ومشكلتي أضعها بين يديك، فمشكلتي ـ يا أبتي ـ أنك مشكلتي، فأين أنت يا أبتاه؟! بيتك الذي بنيته يناديك، عشك الذي رعيته يناجيك، ابنك الذي نسيته يبحث عنك ليدنو منك، أعمالك, شركاؤك, عقاراتك, رفاقك, إنهم جميعًا أعدائي؛ لأنهم أخذوك مني وأبعدوك عني بالرغم من علمي أنك لا تعمل بها إلا من أجلي ولإخوتي.
يا أبتي، دعني أُقدم لك الشكر كله على ما بذلته من أجلي وفي سبيل راحتي وسعادتي، فقد بذلت لي أسباب الراحة والرفاهية من مأكل ومشرب ومسكن على قدر جهدك وطاقتك، ولكنك ـ يا أبتي ـ قد قصرت في أهمّ الجوانب وأعظم المطالب، إنها مطالب الروح والقلب والإيمان، فمتى أهديتني كتابًا دينيًا يأخذ بيدي وينير لي دربي في هذا الزمان الذي كثرت ظلماته؟! ومتى حفظتني القرآن؟! ومتى علمتني السنة؟! ومتى فقهتني في الدين؟! لقد هيأت لي ـ يا أبتي ـ جوّ المعصية، وأحطتني بسياج الخطيئة، فتنفست رائحة الشهوة، والتقطت كل ما يفتن، ألقيتني في بحر الشهوات ولم تلبسني طوق النجاة، ثم تريدني بعد ذلك أن أكون ملكًا معصومًا! يا أبتي، إني أمانة في عنقك، فأشغلني بطاعة الله حتى لا أشغل نفسي بمعصية، استعملني في مرضاة الله حتى لا أقع فيما يغضبه، سخرني في قربات الله كي لا أجترح ما يسخطه.
أبتاه، اسمح لي أن أقسو في العبارة قليلاً، إنك ربيتني لأكون عبدًا للدنيا، فعليها أعيش، ومن أجلها ألهث، ولم تربني لأكون عبدًا لله كما يحب الله. فهل تذكر ـ أيها الحبيب ـ عندما تأخرت عن المدرسة يومًا من دون عذر ولم أُصلّ لله ركعة واحدة في ذلك اليوم وأنت على عِلم بهذا واطلاع عليه، أُسائلك بالله: علام وقع لومك وعتابك؟! وعلام كان عقابك؟! إنك ـ يا أبتي ـ عاقبتني على تأخّري عن المدرسة ولكنك لم تعاقبني ولم تلمني مجرّد لوم على عدم صلاتي ووقوفي موقف العزّ بين يدي خالقي ومولاي. فهل تريدني أن أهتم بالدنيا أكثر من الدين؟! وهل ترغب أن أخاف منك أكثر من خوفي من الله؟!
أيها الأب الكريم، ها هو ابنك يبثّ إليك ما دار في خلده وما احتبس في أعماقه وما احتوته جوانحه.
أيها الآباء، اتقوا الله في أبنائكم، وربوهم على حب الله وخوفه ورجاء ما عنده، ربوهم على منهج الله، وعودوهم على الطاعة، وعلموهم العبادة. ربوهم على أن يعيشوا في الدنيا بمنظار الآخرة، فيتزودوا من ممرهم لمقرهم؛ حتى تكونوا وإياهم في الجنة في شغل فاكهون وعلى الأرائك تنظرون.
ـــــــــــــــــــ(68/176)
موءودة العصر: حادثة اختطاف الطفلة ابتهال
...
...
5039
...
الأسرة والمجتمع, فقه, موضوعات عامة
...
...
الأبناء, الحدود, جرائم وحوادث
...
ياسر بن صالح العصباني
...
...
تبوك
...
...
...
غير محدد
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- تواصل البحث عن الطفلة المفقودة. 2- قصة يوسف عليه السلام. 3- قسوة قلوب المجرمين. 4- ظاهرة اختطاف الأطفال. 5- توجيهات بين يدي الحدث.
الخطبة الأولى
أما بعد: تواصل شرطة منطقة الرياض عملياتها البحثية عن طفلة مفقودة في محافظة المجمعة, تفاعلت الصحف ووسائل الإعلام مع هذه الطفلة البريئة فنشرت قصة اختفائها في الصحف والتلفاز، تفاعلت مواقع الشبكة العنكبوتية مع هذه المأساة فخصّصت صفحات تفاعليه لمتابعه تطورات المأساة، تفاعل المجتمع مع هذه القضية وأصبحت الحادثة حديث المجالس لما تمثّله هذه الحادثة من بشاعة وقسوة من قلوب لا تعرف الرحمة ولا تؤمن بالإنسانية والشفقة.
الله أكبر الله أكبر الله أكبر على أولئك الظالمين، الله أكبر الله أكبر الله أكبر على أولئك الذئاب. حادثة بشعة بكل المقاييس، حادثة هزت المجتمع من هول بشاعتها. الله أكبر الله أكبر على من خطف تلك البريئة. اللهم يا رب السماء والأرض ردّ البريئة إلى أمها ردًا جميلاً، اللهم يا رب يوسف يا من رددت يوسف إلى أبيه رد الطفلة إلى أبيها، اللهم يا ربنا يا حي يا قيوم إنك تعلم مكانها وتعلم سبب اختفائها اللهم اكشف مكانها واكشف من خطفها، اللهم إنك تعلم ما أصاب أهلها من بؤس وفجيعة، اللهم ارفق بهم وارزقهم الصبر والسلوان وأفرحهم بعودتها إليهم سالمة.
لقد خُطف يوسف عليه السلام ولكن هل قتل؟ هل دفن؟ هل مثُل به؟ هل فعل به الأفاعيل؟ لا، إنما جعل في بئر ليأخذه بعض السيارة، لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوْ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنتُمْ فَاعِلِينَ [يوسف:7-10]. إن ضميرًا واحدًا في إخوة يوسف يرتعش لهول ما هم مقدمون عليه، فيقترح حلاً يريحهم من يوسف، ويخلي لهم وجه أبيهم ولكنه لا يقتل يوسف ولا يلقيه في أرض مهجورة يغلب فيها الهلاك، إنما يلقيه في الجب وهو البئر على ممر القوافل، حيث لا بد للقافلة أن تمر بالبئر فيعثروا على يوسف فينقذوه ويأخذوه معهم بعيدًا.
لقد خُطفت ولا نعلم حتى هذه الساعة عن حالها شيئًا، خطفت تلك الطفلة البريئة ويا ليتهم وضعوها في سوق أو مسجد أو أي مكان لكان وجدَها أصحاب القلوب الرحيمة. ماذا يريدون بطفلة لا تتجاوز الأربع أو الخمس سنين؟! إن لم نجد تلك البريئة فهي موءودة العصر. هكذا ينزغ الشيطان, وهكذا يسوّل لبعض النفوس المريضة عندما تمرض قلوبهم وتعمى بصائرهم وتمتلئ أفئدتهم بالحقد على الأطفال الأبرياء الجهال الذين لا يعرفون أن الحياة من حولهم غابة مليئة بالذئاب.
إن قسوة قلوبهم وذلك الران حجب عن ضمائرهم هول الجريمة وبشاعتها، وإن أنانية تلك النفوس زينت لهم الجريمة على نكارتها وضخامتها. الطفلة فقدت ظهر يوم الأربعاء 7/3/1427هـ، شهران من الاختفاء لا بدّ يقينًا أنها فعل فاعل، ولا أحسن من جواب يعقوب عليه السلام: بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ [يوسف:18].
ربِّ إني متفائل بلطفك, ربِّ إني متفائل بأننا سنرى الآية قد تحققت، وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلامٌ [يوسف:19]، يا بشرى لقد وجدنا الطفلة، يا بشرى قد قبضنا على الجناة، يا بشرى، إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنْ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ [المائدة:33]، نعم هذا جزاء رادع لمن روَّع عباد الله, يا بشرى ما أعظم شريعتنا وما أرحمها بالخلق وما أحزمها وما أشدها على أهل الفساد والزيغ والعناد.
لقد كثرت جرائم الاختطاف للأطفال، ولقد حدثني عدد ليس قليلاً ممن أثق به أنه قد شاهد وعاين حادثة اختطاف، ولقد عاينت في المحكمة ثلاثا من قضايا الاختطاف، ولا يخفاكم ما انتشر في الجوالات من مشاهد مؤلمة لأطفال خطِفوا وقتلوا قتلة شنيعة، ولا أنسى تلك الطفلة البريئة التي لا تتجاوز السبع سنين وقد خطفت وقيّدت يداها ورجلاها وخنقت بحبل حتى لفظت أنفاسها. ما ذنب هذه المسكينة حتى يفعل بها هكذا؟!
والله أيها الإخوة، إن هذه الجرائم لتشيب منها الرؤوس، أيعقل أنه بين أظهرنا من هو أشد من اليهود في جرائمهم وأشد من الذئاب في افتراسها؟! إن من يحمل هذا القلب الأسود على أبناء وأخوات المؤمنين ليس له الحقّ في أن يعيش بيننا، بله لا حقّ له في الحياة.
بين يدي الخطبة عدة توجيهات:
الأول: قال عمر بن عبد العزيز: "تحدث للناس أقضية بقدر ما يحدثون من فجور". ومن خلال مراجعة القرآن الكريم والأحاديث النبوية باعتبارهما المصدر الأساسي للتشريع نجد أن الإسلام أجاز استخدام العقاب الرادع لحفظ المال والعرض والدين في الجماعة الاجتماعية؛ فتبدأ من الجلد والإيذاء الجسمي إلى قطع الأيدي والأرجل والرجم حتى الموت، وهذا وارد في العديد من النصوص القرآنية والأحاديث النبوية، لا تنكيلاً بالإنسان الذي كرمه الله، بل ردعًا للجريمة وترهيبًا من مغبتها؛ فقسوة العقوبة هدفها منع الجريمة لا تعذيب البشر.
ولقد ذهب جماهير الفقهاء إلى جواز التعزير بالقتل في كل من لم يندفع فساده إلا بالقتل، وفي كل من تكرر منه الفساد ولم تردعه الحدود ولم تمنعه الزواجر، وقد جاء في السياسة الشرعية لابن تيمية رحمه الله في التعزير ما ملخصه: أنه حكي عن مالك وغيره أن من الجرائم ما يبلغ به القتل، وحكي ذلك عن أبي حنيفة. قال ابن جرير الطبري رحمه الله تعالى بعد بيان الأقوال في تفسير قوله تعالى: إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ الآية، قال: "وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب قول من قال: المحارب لله ورسوله من حارب في حماية المسلمين وذمتهم والمغير عليهم في أمصارهم وقراهم حرابة، أما قوله: وَيَسعَوْنَ فِي الأَرضِ فَسَادًا فإنه يعني: ويعملون في أرض الله بالمعاصي من إخافة سبل عباده المؤمنين أو سبل ذمتهم وقطع طرقهم وأخذ أموالهم ظلمًا وعدوانًا والتوثب على حرماتهم فجورًا وفسوقًا" انتهى كلامه رحمه الله.
إن من مقاصد الشريعة الإسلامية الحفاظ على الضرورات الخمس من حفظ الدين والنفس والعرض والمال والعقل، ومن سبل حفظ هذه الضرورات سن العقوبات الرادعة.
إن الشريعة الربانية حريصة كل الحرص على استتباب الأمن والقضاء على الفوضى والاضطراب في البلاد وترويع الآمنين، فإن المجرمين الذين اعتادوا الإجرام ولا يرجى منهم توبة ولا إقلاع عن السكر والخطف وترويع الآمنين وإدمان المخدرات يجوز أن تشرع لهم عقوبة القتل تعزيرًا وسياسة للخلق بشرع رب الخلق.
العقاب في حد ذاته نظام يستحيل الاستغناء عنه، فهو موجود في أي نظام جنائي، وهنا يجب استعمال هذا الإجراء في حذر وبما يؤدي وظيفته الاجتماعية، وأن يخلق الضمانات التي من شأنها أن تمنع من أجرم مرة ودخل السجن من أن يصبح مجرمًا تسري الجريمة في دمه بعد إطلاق سراحه.
ثانيًا: لا بد من تعاون الجميع صغارًا وكبارًا شيبًا وشبابًا مع الجهات الحكومية من مؤسسات أمنية وهيئات للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في سبيل القضاء على الفساد والمفسدين وإراحة البلاد والعباد من شرورهم. هذا المجتمع المبارك يكثر فيه ويزينه وجود أغيار كثر وأخيار تحلوا بالمبادرة والفاعلية والإيجابية حيال هذه الحوادث، فتجدهم عند رؤيتهم لمثل هذه الحوادث يسارعون في الأخذ على يد السفيه وتسكين الناس عند المشاحنات وتهدئة ثائرة الفوضى والتعاون مع الجهات الأمنية وإخطارها بملابساتها وحقائقها. فجزى الله كل من احتسب الأجر في نصر إخوانه مظلومين وظالمين، نصر المظلوم في رفع الظلم عنه, ونصر الظالم في كفه عن سدوره في الظلم والتمادي فيه.
وفي الجانب الآخر نجد قلة سلبيين لا في العير ولا في النفير، ولا تدبير لهم ولا فعالية، يرون حالات المعاكسات وإيذاء الناس فكأن لم يكن، ويرون محاولات الخطف والاعتداء ولا يحركون ساكنًا. إن هؤلاء غير أوفياء لدينهم، وغير أوفياء لمجتمعهم، حجزهم الجبن وصرفتهم الأنانية عن وضع الحق في نصابه. فهؤلاء غثاء لا لون لهم ولا طعم ولا رائحة لهم، وفي الحكمة: إن لم تزد شيئًا على الدنيا كنت زائدًا عليها.
ثالثًا: لقد حرصت هذه الدولة المباركة على تطبيق الشريعة واستتباب الأمن، ولا أدل على ذلك من حزمها في التعامل مع أسباب الفوضى والترويع. إننا نعلم أن هناك عيونًا ساهرة تسهر على راحة هذه الأمة واطمئنانها، مما يوجب التعاون مع المسؤولين في سبيل إنجاح كل ما من شأنه تعزيز الأمن في البلاد، بارك الله في ولي أمرنا ورزقه الله البطانة الصالحة التي تدله على الخير وتعينه عليه.
عباد الله، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على إمام المتقين وقدوة الناس أجمعين، وعلى آله وصحبه والتابعين.
أما بعد: رابع التوجيهات: يجب توعية الأطفال بالأساليب التي يلجأ لها المجرمون لخداع الأطفال في تحقيق مآربهم وجرائمهم، ولا بد من وقفة حازمة في خروج الأطفال من المنزل، لا أدعو إلى أن يكون البيت سجنًا لهم يتشوّفون إلى الخروج منه وإلى الانفلات من المكث فيه، بل أدعو إلى جعل المنزل جنّة الطفل المليئة بالملهيات والمرغبات المباحة، والتي تجعل الطفل لا يتوق للخروج منه. لا بد من تعليم الطفل رقم البيت والعنوان وما سيفعله عند تعرّضه لمكروه بصورة تضمن له التصرّف السليم عن تعرضه لذلك. لا بد من الحرص على تنشئة الأبناء التنشئة الصالحة واصطفاء الصحبة الصالحة لهم والمبادرة في تسجيله في الحلقات القرآنية التي تجعل محيطهم صالحًا وبيئةً فاضلةً. لا بد من تنقية البيت من القنوات الفضائية المبتذلة التي تزين للنشء الجريمة وتجرئهم عليها. لا بد أن لا يغيب عن أذهاننا أن أغلب أسباب وقوع الأفراد في حوادث الاختطاف هي صحبة السوء التي تزيّن للحدث هذه الخطيئة.
خامسًا: نشرت بعض الصحف اختطاف الطفلة، وتفاعلت وسائل الإعلام معها، وتفاعل المجتمع مع هذه الحملة، والجميل أن يجد المصاب من يقف معه في مصابه ومن يسليه في محنته ومن يقف معه قلبًا وقالبًا حتى يجاوز ما ألم به، فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أن رجلا جاء إلى النبي فقال: يا رسول الله، أي الناس أحب إلى الله؟ وأي الأعمال أحب إلى الله؟ فقال رسول الله: ((أحب الناس إلى الله تعالى أنفعهم للناس، وأحب الأعمال إلى الله عز وجل سرور تدخله على مسلم، أو تكشف عنه كربة، أو تقضي عنه دينا، أو تطرد عنه جوعا، ولأن أمشي مع أخي في حاجة أحب إلي من أن اعتكف في هذا المسجد ـ يعني مسجد المدينة ـ شهرا، ومن كف غضبه ستر الله عورته، ومن كظم غيظه ولو شاء أن يمضيه أمضاه ملأ الله قلبه رجاء يوم القيامة، ومن مشى مع أخيه في حاجة حتى يثبتها له أثبت الله قدمه يوم تزول الأقدام، وإن سوء الخلق يفسد العمل كما يفسد الخل العسل)) رواه الطبراني في الكبير والحديث في صحيح الجامع.
والمتأمل في هذا الحديث العظيم يرى أن هذه الأعمال مما يتعدّى نفعها إلى الآخرين، فأحب الناس إلى الله أنفعهم للناس، وأما أحب الأعمال إلى الله فسرور تدخله على قلب مسلم، أو تكشف عنه كربة، أو تقضي عنه دَينًا، أو تطرد عنه جوعا، وقيامك مع أخيك في حاجته أفضل من الاعتكاف في مسجده عليه الصلاة والسلام شهرًا، ومن مشى مع أخيه في حاجة حتى يثبتها له ثبّت الله قدمه يوم تزول الأقدام، والساعي على المحاويج من الضعفاء والمساكين كالمجاهد في سبيل الله. قال عليه الصلاة والسلام: الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله أو القائم الليل الصائم النهار. ومعنى الساعي: الذي يذهب ويجيء في تحصيل ما ينفع الأرملة والمسكين، قاله ابن حجر رحمه الله. وما ذلك إلا لتعدي نفعه إلى غيره، خاصة من أصحاب الحاجات من الأرامل والمساكين.
هل رأيتم أفضل من هذا؟! وإنما بلغت هذه الأعمال هذه الرتبة لتعدي نفعها. وهكذا يحرص الإسلام على روح التآخي والتكاتف، وعلى نبذ الأنانية وحب الذات، فالموفّق من وُفِّق للمبادرة لمثل هذه الأعمال.
سادسًا وأخيرا: من خلال تفاعل المجتمع مع هذه الحادثة تبرع أهل الخير بجائزة مالية ضخمة، وهذه الجائزة لا بد أن نقف معها وقفة يسيرة، جزى الله تلك القلوب العطوفة التي وضعت هذه الجائزة التي إن دلت على شيء إنما تدل على أن خلفها نيات مخلصة وقلوب مشفقة أرادت تحفيز المجتمع في التسابق والمسارعة في الدلالة على أي خيط يكشف غياب تلك الطفلة البريئة.
إن خطف الطفلة أمرٌ مروّع ومؤلم لأي إنسان يملك مثقال ذرة من إيمان, وأعتقد أن أيّ إنسان يملك أبسط درجات الإيمان والحبّ والعطف والإنسانية لن يبخل بأي مساعدة وإن لم يكن هناك مقابل مادي. أخشى أن يفتح ذلك علينا بابًا جديدًا لنوع جديد من الجرائم وأسلوب جديد من أساليب الخداع، أن يتم خطف طفلة فهذه جريمة، وأن يتم مكافأة من يدل على الخاطف لتخليص الضحية أمر جميل، ولكن إعلان المكافآت بهذه الصورة المبالغة قد يجعلنا في المستقبل نتفاجأ بأن الخطف قد شمل الأطفال والرجال والنساء والمسؤولين، وقد يكون جزءًا من لعبة منظّمة بغرض جني المال واحتيال بين الخاطف والمخطوف.
اللهم احمِ هذه البلاد في دينها واستتباب أمنها وصلاح أمرها، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين وردّ ضال المؤمنين، واشف مريضهم، وردَّ غائبهم برحمتك يا أرحم الراحمين...
ـــــــــــــــــــ(68/177)
الشباب والزواج (1)
...
...
5049
...
الأسرة والمجتمع, فقه
...
...
النكاح, قضايا الأسرة
...
سامي بن عبد العزيز الماجد
...
...
الرياض
...
...
...
جامع الرائد
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- النكاح فطرة. 2- مراعاة الإسلام للفطرة. 3- الإسلام ينهى عن الكبت الجنسي. 4- الوصية بتيسير أمور الزواج. 5- كيف يعظّم شبابُنا رباطَ الزواجِ المقدّسَ؟
الخطبة الأولى
أيها الأحبة في الله، الذكر والأنثى طرفا الزوجية، وقاعدة في الخلق عريضة، تتجاوز بني الإنسان لتشمل الحيوانات والنبات وما سوى ذلك، ولا يخلق أحدهما إلا وله شطر، وله بقية تقتضي وجوده ضرورة لامتداد الحياة وعمارة الأرض، وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [الذاريات:49]، سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ [يس:36].
لقد ركب في الذكر ميله الفطري للأنثى، كما ركب في الأنثى ميلها الغريزي للذكر، ولله في ذلك الحكمة البالغة، فهو ميلٌ فطري طبيعي، له وظيفته في الحياة، وظيفةُ بقاء النوع وحفظِ النسل.
ولا بد لهذه الوظيفة أن تُؤدَّى؛ ضمانًا لبقاء النوع، ومن أجل ذلك ركب في فطرة الإنسان دوافعُ غريزية جعلته يؤدي هذه الوظيفةَ وهو في أغلب الأحوال غيرُ شاعرٍ بها ولا قاصدٍ لها، إنما قصده إفراغُ شهوته وقضاءُ نَهمته، مدفوعًا إليها بدافع الفطرة.
والإسلام يمتاز بواقعيته ومراعاته للفطرة، فجاءت تشريعاتُه وتكاليفُه لتهذِّب الفطرة وترفعَها، لا لتكبتَها وتقمعَها؛ فراعتْ ذاك الميلَ الفطري الذي يحسه كل طرف تجاه الآخر، وأقرّته إقرارًا يضمن السلامة ويأمن العاقبة، وليس هو بالإذن المطلق الذي يُفضي إلى الفوضى، وأخذت تشريعاته ترتقي بهذه الفطرة صُعدًا إلى حيث تكون كرامة الإنسان في علياء بعيدًا عن النزوات البهيمية، قال تعالى: وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ [المعارج:29].
والإسلام حين شرع حد الزنا لم يكن غافلاً عن الدافع الفطري أو محاربًا لها، فقد علم الله جل جلاله أن لا حيلة للبشر في دفع هذه الميول الغريزية، ولا خير لهم في كبتها واستئصالها، إنما أراد سبحانه أن يهذب هذه الفطرة ويوجهها الوجهة التي لا يكون معها فسادٌ ولا فوضى، والنفس حين تجمح بها الفطرة عن سواء الصراط لا بد من قسرها وزجرها، ولا بد أن يقام لها زاجر يردّها إلى الصراط كلما ندّت.
والغريزة لا ترتقي إلا بالتهذيب والضبط وبتضمينها غاياتٍ أسمى من مجرد إتيان الشهوة وإشباع الرغبة، ولا يكون ذلك إلا حين تحاط الغريزة نفسُها برباط مقدسٍ يقيِّدها ويقرنها بتبعاتٍ ومسؤولياتٍ، تجعل الإنسان مؤديًا لوظيفة لا مجرد ستمتعٍ بشهوة.
لقد شرع الإسلام الزواج طريقًا أوحدَ لإشباع هذه الغريزة، فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون، وهذا في نظر العقلاء ضبطٌ للغريزة لا كبتٌ لها.
إن الكبت يعني حبس النفس عن إشباع غريزتها، وما هو إلا الترهبُ الذي حرّمه الإسلام، وأنحى على فاعليه الراغبين عن الزواج تعبدًا لله وتقربًا إليه، فقال : ((فمن رغب عن سنتي فليس مني)).
والذين يحذِّرون من الكبت وما ينشأُ عنه من إضرارٍ وعقدٍ نفسيةٍ سيجدون الإسلامَ قد سبقهم إلى محاربة الكبتِ والتحذيرِ منه، وذلك بالنهي عن التبتل، وحثِّ الشباب على الزواج، ودعوةِ المجتمع إلى تيسيره. فقد صح عنه أنه كان يأمر بالباءة وينهى عن التبتل نهيًا شديدًا، ويقول: ((تزوجوا الودود الولود؛ إني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة))، وصح عنه أنه قال: ((يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه لو وِجاء))، وقال الله: وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [النور:32].
لقد سمّى اللهُ الزواجَ إحصانًا أي: وقايةً وصيانة، ويستقر في أخلاد المؤمنين أن البقاءَ بدون إحصانٍ ولو فترة قصيرة أمر لا يحبذه الشرع؛ فهذا الإمام علي يقول وقد سارع بالزواج بعد وفاة زوجِه فاطمة: (لقد خشيت أن ألقى الله وأنا عزب).
إن أقوى ما تكون هذه الشهوة في سن الشباب، فإن لم يتيسّر له وضعُها في الحلال فيوشك أن يضعها في الحرام؛ لشدة منازعتها وتأججها إلا من عصم اللهُ، فلما كان في النكاح استعفافٌ عن الحرام كان مبتغيه مأجورًا عليه لهذا المعنى.
وكما يكون مأزورًا إن وضعها في الحرام فهو مأجورٌ إن وضعها في الحلال، وجاء في الحديث: ((وفي بضع أحدكم صدقة))، قالوا: يا رسول الله، أيأتي أحدُنا شهوتَه ويكون له فيها أجرٌ؟! قال: ((أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه فيها وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر)).
أيها الآباء الكرام، ما منا أحدٌ إلا وهو يكره أن يرى شابًا من شباب المسلمين قد زلّت به قدمه إلى فاحشةٍ؛ فأصبح غرضًا مستهدفًا لشبكات البغاء والدعارة، وما منا من أحد إلا ويغار على حرمات المسلمين أن تنتهكَ وتَلغَ فيها الذئاب، وما منا من أحد إلا وهو كارهٌ أن تشيعَ الفاحشةُ في مجتمعات المسلمين. فلماذا إذن كل هذا الإشقاق والإعناتِ في الزواج؟! لماذا إذا جاءنا أحدُهم يطلب الأمر من حِلّهِ ويطرقُ الحلال من بابه أوصدناه دونه وأقمنا له من الأحمال ما يثقل كاهله ويعوزُه للديون ويكرِّهُه في طِلبته؟! أهكذا تكون إعانتُنا له على ابتغاء الحلال وتيسيرُه له؟!
سيقول بعض الآباء: معاذَ الله أن نكون قد قصدنا كل هذا الإشقاقِ والإعنات للخاطب ونحن الذين قد رضيناه لبنتِنا زوجًا، وفرِحْنا لرغبته في الحلال عن الحرام.
ونحن نقول: وما الفائدة أن نكون قاصدين له العنت أو غيرَ قاصدين فرحِين لابتغائه الإحصان أو غير فرحين إذا كان الواقع هو هذا؛ مغالاةً في المهور، وبذخًا في الأعراس، وإعناتًا في الشروط؟!! وما أثرُ سلامةِ النية وبراءتِها عن هذا القصد إذا كانت النتيجةُ واحدة؟!
كم هو عجيب أمرنا! نتذاكر سماحة الإسلام ويُسرَه إذا توجّهت إلينا تكاليفُه، فإذا جاءنا خاطبٌ يبتغي العفاف في النكاح نسينا سماحةَ الإسلام ويُسرَه، وتذكّرنا شيئًا واحدًا، وهو أن بناتِنا لسْن بأقل حظًا ولا قدرًا من غيرهن، وكأننا في سباق مضاهاةٍ وسمعة.
فلندرك أن سماحة الإسلام في تكاليفه ويُسرَه في تشريعاته فيه تربية لنا على السماحةِ وتعويدٌ لنا على التيسير؛ فلْنتَحَلَّ بحُلّة الإسلام، ولنجعل من سماته سَمتًا لنا في سلوكنا وأخلاقنا.
لنتذكّر ـ ونحن مصرّون على تعسير الزواج ـ أنَّ الفاحشةَ قد ذلِّلتْ أسبابُها للشبابِ تذليلاً، وكثرت أمامَهم مُغرياتُها، وبرزت للعِيان إغراءاتُها، وصارت غرضًا قريبًا، والسفر إليها قاصدًا غيرَ بعيد الشقة؛ فلنجعل من سُبُلِ مجاهدة الفاحشة تيسير عقبات الزواج؛ تطهيرًا للمجتمع من نتنِها وفتنتها.
ولنتذكر أن تواطؤَنا على هذا الإعنات قد يدفع كثيرًا من شبابِنا إلى ابتغاء الحرام؛ فالحلال قد تعسَّر لهم، ولا بد لهم من إشباع الغريزة، وهم مع ذلك ملومُون غيرُ معذورين، فلا نكن عونًا للشيطان عليهم.
وأين نحن من فعل لوط عليه السلام يوم دعا قومَه للزواج ببناتِه ليصرفهم عن الفاحشة؟! وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِي فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ [هود:78، 79].
إن الأمر الذي يعالجه نبينا لوطٌ عليه السلام هو ولا شك مغايرٌ للأمر الذي نحن بصدد الحديث عنه بعضَ المغايرةِ، من حيث دعوته قومه إلى الزواج ببناتِه الطاهرات العفيفات، وهو الذي لم يَخْفَ عليه فجورُهم، وما اضطره إلى ذلك إلا درءُ مفسدةٍ أكبر، وهي عزمهم الصارم على فعل الفاحشة بضيفه، إلا أنه مع ذلك تَبقى له دلالتُه الظاهرةُ على أن من سبل محاربة الفاحشة تيسيرَ أمر الزواج.
إن الدعوةَ إلى تيسير الزواج لا تعني الرضا بأي خاطب، بحيث تُزفُّ العفيفةُ للفاجر، وتُزوَّجُ ذاتُ الخلق بسيئ الخلق، إنما هي دعوة تتمثّل وصيةَ رسول الله : ((إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، إلا تفعلوه تكن فتنةٌ في الأرض وفساد عريض)).
نعم، نريد من شبابِنا أن يُعظِّموا رباطَ الزواجِ المقدَّس، وأن يقدُروه حقَّ قدره، ويستشعروا مسؤوليتَه، ولكن ليس من تعظيم رِباطه المقدّسِ أن نُشقّ على طالبيه بفرض الرغبات ونجعلَ من أموالهم مادةً للمباهاة. وليس من تعظيم مسؤوليتِه في أعينهم أن نُعْنِتَهم بفرضِ الشروط والمغالاة والبذخِ، بل ما أكثر ما يكون ذلك سببًا في الشقاق وتأجيجِ النزاعِ لأتفه الأسباب.
لو كانت المغالاةُ في المهور والبذخُ في الأعراس يزيدُ من تعظيم الشباب لرباط الزواج المقدس إذن لشرعه الإسلام سبيلاً يهدف إلى هذا المقصد الشرعي، ولَمَا قال : ((خير النساء أيسرهن صداقًا))، ولما نهى عمر عن المغالاة في المهور تأسّيًا برسول الله : (ألا لا تغالوا في صُدُق النساء ـ أي: مهورهن ـ، فإنها لو كانت مكرمةً في الدنيا أو تقوى عند الله لكان أولاكم بها رسولُ الله ، ما أصدق امرأة من نسائه، ولا أُصدقت امرأةٌ من بناته أكثرَ من ثنتي عشرةَ أوقية).
بارك الله لي ولكم...
الخطبة الثانية
أما بعد: فإن تعظيم الرباطِ المقدس لا يكون بالإشقاق والمغالاة، كما أن تذليلَ الطريقِ إليه لا يكون سببًا للاستخفافِ به.
إن من تعظيم رباط الزواج المقدس أن لا يرضى الولي لفتاته إلا من رضي منه دينَه وخلقَه، وإن من الاستخفاف بالرباط المقدس أن يزوجَها من يعلم أنه ليس لها بأهل في دينٍ ولا خُلُقٍ.
وإن من الاستخفاف برباطِ الزواجِ المقدس أن يزوج الولي فتاته لأول خاطبٍ قبل أن يتحرَّى بالسؤال عن دينه وخلقه، فهذا استخفاف به ولا شك ولو غالى في مهرها أو بذخ في زفافها.
ولا بد هنا من لفتة إلى مسألة مهمة وهي أن التحري عن الخاطب يجب أن يكون في الخلق كما يكون في الدين، فلا يدفع الولي إعجابُه بِشَارَتِه وسَمْتِه وصلاحِ ظاهرِه إلى أن يتساهلَ في التحري عن خُلُقِه، فالدين معاملةٌ، كما هو عبادة، وإنما قال الرسول : ((من ترضون دينه وخلقه))، فنصَّ على الخُلق، لأن الزواج علاقة وطيدة بين روحين وجسدين، ولا صلاح لهذه العلاقة إلا بحسنِ الخلق والمعاملة، ولذا قال بعض السلف: "إذا زوَّجت ابنتك فزوجها ذا دين، إن أحبها أكرمها، وإن كرهها لم يظلمها".
إذا أردنا أن يعظّم شبابُنا رباطَ الزواجِ المقدّسَ فلنُهيِّئهم لذلك بعُدَّتِه الصالحة، وبالتربية الفاضلة التي تجعلهم يُعظّمون حقَّ كلِّ ذي حق، ويأخذون الإسلام بشموليته، فلا يقدّمون مفضولاً على فاضل ولا مهم على أهم.
ولن يعظم شبابنا رباطَ الزواجِ المقدس ما لم يفهموا طبيعة العلاقة بين الزوجين، وأن يدركوا مقاصد الزواج، ويعرفوا حقَّ كلِّ طرف على الآخر.
ينبغي قبل أن يُقدمَ الشاب على الزواج أن يتذكّرَ أن الله سمى النكاح ميثاقًا غليظًا، وجعله سكنًا يتبادل فيه الزوجان المودةَ والرحمةَ، وأن يتذكّر بأن الزواج علاقةٌ بين روحين ونفسين قبل أن يكون علاقة بين جسدين، وأن يتفهّم مع ذلك طبيعةَ المرأة وأن يستحضرَه كلَّ حين؛ حتى يعرفَ كيف يعالجُ الأمور ويسددُ النقص والخلل.
اللهم أصلح شباب المسلمين، اللهم حبب إليهم الإيمان وزيّنه في قلوبهم وكرّه إليهم الكفر والفسوق والعصيان واجعلهم من الراشدين...
ـــــــــــــــــــ(68/178)
الشباب والزواج (2)
...
...
5050
...
الأسرة والمجتمع, فقه
...
...
النكاح, قضايا الأسرة
...
سامي بن عبد العزيز الماجد
...
...
الرياض
...
...
...
جامع الرائد
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- التريث والتأني في طلب الزوجة. 2- وصايا للأزواج. 3- حكم النظر للمخطوبة.
الخطبة الأولى
أيها الأحبة في الله، من صفات الناجحين في الإدارة والتجارة التخطيطُ للعمل قبل التنفيذ، والدراسة قبل الممارسة، والتأني قبل الإقدام، واستشراف المستقبل بمُعْطَيات الحاضر، حتى إذا أقدموا أقدموا بخطى راسخةٍ ورؤيةٍ واضحة، وينفرد مؤمنهم بتوكّلٍ على الله متينٍ يمده بالثقة والطُمأنينة واليقين.
فإذا كان كل هذا التخطيط والاحتياط والاهتمامِ في مشروعاتٍ قد لا تمتدُّ مُدّةَ بقيةِ العمر، فكيف إذا كان المشروعُ هو مشروعَ العُمُرِ، المشروعَ الذي يُبنى فلا تُراد له نهايةٌ إلا نهاية العمر نفسِه؟! ذاك المشروع الذي يتجاوز غنمه وغرمه المال والمادة إلى ما هو أعظم وأعمق، إلى النفس وما ينشأ عنها ويتولد منها. أليس أحقَها بكل هذا الاجتهاد والاحتياطِ هذا المشروعُ الذي يتغيّر به مسارُ الحياةِ ويختلف به نمطُها، فيُدلف بصاحبه إلى حياةٍ جديدةٍ لم يَعِشْها إلا في عالم الخيال، إلى حياة لها مذاقها الخاصُ وطبيعتُها الخاصة؟!
إنه مشروع الزواج، سنةُ الأنبياء والمرسلين، قال تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً [الرعد:38]. إنه المشروع الذي ينسلخ به الشاب من حياةٍ ليلبس حياةً جديدة تستغرق حياته الباقية، فيبني فيها الشاب علاقتَه الخاصةَ ولكن على طريقٍ مباحة، والتي هي أعمق وأخص من كل علاقة، علاقةٌ تقتحم الخصوصيات، وترتفع فيها الكلفة، ويزول فيها الحرج؛ وهذا يتقاضاه أن تكون بدايتها صحيحة، لا يخطو فيها خُطوةً إلا وقد فكّر وقدّرَ، واتَّأدَ وتأنّى، وعرف أين تتوجّه به خُطاه.
ولا يتطلب هذا الاهتمام والتأني أن يستغرق الشاب في تحريه لصاحبته سنواتٍ تذهب فيها زهرةُ شبابه دون أن يقع على طِلبته، ولا يستدعي هذا الاهتمام أن يشترط شروطًا تعِزُّ عند الطلب وقد لا توجد إلا في خياله. كما لا ينحصر الاهتمام المطلوب في الاجتهاد في البحث عن طلب أفضل النساء فحسب، فمن الاهتمام المطلوب أن يستعدَّ للزواج بالقراءة في ثقافتِه وآدابِه وأحكامِه الشرعية الخاصة، وأن يتعرف على طبيعة العلاقة فيه، وعلى ما لكل زوج على صاحبه من حق، وأن يكون مدركًا لأهدافه الرفيعة، والتي يضمن إدراكُها والطموحُ إلى تحقيقها أن يتسامى الشاب في معاملةِ زوجه عن كل ما لا يليق من خُلُقٍ وسلوك.
فهذه القضايا هي أولى ما يجب أن يهتم له الشاب، وأحرى أن تتوجّه إليه نصائحُ الوالِدَين أكثرَ من أيِّ قضيةٍ أخرى.
إن لهذه القضايا المهمة أوثقَ العلاقة بصلاح الحياة الزوجية أو فسادها، ولا نحسب الجهل بهذه القضايا إلا عاملاً مهمًا في فشلها، يجب أن يُذكرَ إذا ذُكِرتْ أسبابُ فشلِ الحياةِ الزوجية.
وإذا إقيمتْ دوراتٌ تدريبية في فن التعامل مع الناس فلتُقَمْ من باب أولى دوراتٌ في فن التعامل مع الزوجة ومع الزوج. وإذا دُعي الشباب إلى دورات تأهيلية في بعض العلوم والفنون فما أحراهم أن يُدعوا إلى ما يؤهلهم إلى حياة زوجية كريمة، يعيش في كنفها زوجان متوادّان متراحمان.
وهذه جملة وصايا نوصي بها كل مدلفٍ إلى حياته الأخرى إلى الحياة الزوجية، عسى أن تنفعه فتكونَ له كالنبراس الذي يهتدي به السُّراة.
اعلم ـ أيها الشاب ـ وأنت على أشرافِ هذه الحياة أنك مقبلٌ على عمل لك فيه أجرٌ عظيم لو أحسنت النية، فأحسن النية تُوفّق إلى حُسن العمل والمعاملة، ويُيسَّر لك مبتغاك، وتذلَّل لك صِعابُه.
صحيح، إنه لمن المستبعد أن يكون لأحد في ذلك نية خبيثةٌ، ولكن من الوارد جدًا أن يذهل الشاب عن احتساب النية الصالحة في زواجه، فلا تذهلنّ عنها، فقصد الاستعفافِ بالحلال عن الحرام نيةٌ صالحةٌ، وابتغاءُ الولد من المنبت الحسن نية صالحة، وإحصانُ المرأة وإعفافُها نية صالحة، وكل قصد صالح فهو نية صالحة تؤجر عليها ولو وجدت فيها لذّتَك ومُتعتك، فذلك من واسع فضل الله ورحمته.
أيها الشاب، إن في كل أمة عظماء تفتخر بهم، وتتبنَّى منهجهم ودعوتهم، وتصدرُ عن آرائهم وحِكَمِهم، وتتخذ منها معيارًا تحتكم إليه وميزانًا تزِن به. وفي أمتنا عظماءُ، أعظمُهم وأشرفُهم هو أشرفُ البشر كلهم وأزكاهم وأتقاهم، فأين نحن من وصاياه ؟! وأين نحن من فيض حكمته وهو الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحيٌ يوحى؟!
هذه وصاياه مبثوثةٌ في كتب الصحاح والسنن، محفوظةٌ معصومةٌ لم تخرج إلا من مشكاة النبوة، فهل استقرّت في أذهانِنا واستودعناها في صدورنا فجعلناها منطلقًا لنا في ابتغائنا لأم أولادنا وسكنِ نفوسنا؟!
فتذكّر ـ أيها الشابُّ ـ وأنت تلتمسُ من بين النساء رفيقةً لدربك أنك تبحث عن أمٍّ لأولادك ورفيقًا لدربك وراعيةٍ لبيتك؛ فلتكن حاضرةً في ذهنك وصيةُ رسول الله : ((تُنكح المرأة لأربع: لجمالها ولمالها ولنسبها ولدينها، فاظفر بذات الدين تَرِبتْ يداك)). ورسول الله لم يُلغِ المطلوبات الأخرى حين رغّبك في ذات الدين، وإنما جعلها مطالب لا يجوز أن تتقدمَ هذا المطلب المهم، ولا أن يُتغاضى عنه لأجلها.
إن لك ـ أيها الشاب ـ أن تبتغي الجميلة، ولكن اطلبها بشرطها، وشرطها أن تكون ذات دينٍ وخُلق، فهذا هو المطلب الوحيد الذي لا مجال فيه للإغضاء أو التنازل.
وكثيرًا ما تطيش بالخُطَّابِ الرغباتُ وتستبدُ بهم الشهوات؛ فتجرفُهم في ويلاتها بسبب جمالٍ فاتن أو مالٍ وافر أو جاهٍ بازٍّ لا يكون وراء ذلك حصانة من دين أو خلق، فتكون الحياة الزوجية شرًا ونارًا تنفذ جمراتُه في جوانح الزوجين، ثم ينتقل أثره إلى الذرية، فتتصدع أواصر الزوجية، وتتقطع روابط الأسرة، ويتسع الشقاق والنزاع، ثم يحصل أبغض الحلال؛ لأن الأساس الذي قام عليه الزواج كان طمعًا دُنيويًا لم يُراعَ فيه وازعُ الدين.
إذًا فالاختيار الصحيح سياجُه الدين والخلق الكريم الذي هو أعظم العواصم من قواصم المشاكل الزوجية؛ لأن ركيزةَ الدين هي القاعدة السليمة لحل أيّ خلاف بعد نشوئه، ولاجتنابه قبل وقوعه، ولا أمان لمن لا إيمان له.
أيها الشاب، من حقك أن تعرف حقوقك التي منحك إياها نبيك ، وأن تأخذها كاملةً غيرَ منقوصة، ولا غضاضة عليك أن تطالب بها.
فمن حقك أن ترى مخطوبتك، فالحاجة إلى النظر إليها داعيةٌ، والتوكيلُ في مثل هذا لا يجدي جدواه المرجوة؛ فالأذواق تختلف، والوصفُ لا يبلغ مبلغَ الرؤية، وما يعجب غيرَك قد لا يعجبك، وقد يستحسن ما لا تستحسنه، والجمال أمر نسبي، وللنظر وقعه في النفس، فقد تنقبضُ النفس من شخص بمجرد رؤيته، كما تنشرح لآخر برؤية مجردة، فالأرواح جنود مجندة.
أيها الشاب، إن النظر إلى المخطوبة رخصةٌ مستحبةٌ، وليست مباحةً فحسب؛ فقد حث عليها رسول الله غير مرة، فهذا رجل يخبره أنه قد خطب امرأة من الأنصار، فيقول له: ((هل نظرت إليها؟))، فقال: لا، فقال: ((اذهب فانظر إليها؛ فإن في أعين الأنصار شيئًا))، ويقول لآخر: ((اذهب فانظر إليها، فإنه أحرى أن يؤدم بينكما)).
والرخصة أن ينظر إلى ما يظهر منها غالبًا عند محارمها؛ كالوجه والشعر والجِيدِ والساق والذراع، وله أن يكرر النظر، وأن تجلس معه يسيرًا فيحادثها من غير خضوع بالقول ولا مسّ، بشرط حضور وليها، ولا تجوز الخلوة ولا المصافحة ولا المضاحكة؛ لأنها لا تزال أجنبيةًً عنه.
أيها الآباء والأولياء، اقبلوا من نبيكم رخصته، ولا خير لنا في التشديد في أمر وسّع فيه، كما لا خير لنا في التساهل في شيء شدد فيه. ولنعلم أن التشديد في هذه الرخصة أو منعَها قد يحمل الخاطب على سلوكِ طرقٍ غير مشروعة ليرى خطيبته ويتعرف عليها.
والغيرة على الأعراض ممدوحة محمودة ما لم تأبَ رخصة رسول الله وترفضْ ما رضيه لنساء أمته. والذي يفخر بغيرته هذه فيرفض رؤية الخطاب لبناته إنما يتمدح بأمر ذمه الشرع ورخص بخلافه. ولا يجوز للولي أن يتخذ موقفَه هذا من حجب نسائه عن الخطاب دينًا يدين الله به ويحتسبه قربة عنده.
على أن محل هذه الرخصة هو بعد الخِطبةِ التي تتضمن القبول المبدئي؛ حتى لا تصبح نساء المسلمين فرجةً للمتشهِّين والمتلاعبين.
إن ذمنا للتوسع في الرخصة يجب أن يقابله ذمٌ وإنكارٌ لكل تشديد في أمر جاءت الرخصة فيه ووسع فيه الشرع.
ينبغي أن ندركَ أن من الخير لنا ولنسائنا أن ينظر إليهن الخُطّابُ؛ فلأَن ينظر الخاطب إليها ثم يصرف النظر عن نكاحها ويترك خطبتها أهونُ من أن يُحرمَ النظرَ إليها فلا تعجبه إذا دخل بها فيطلِّقها ويردها حسيرةً حزينة.
الخطبة الثانية
أما بعد: فإن ضرورةَ الاستعداد للنكاح تقتضي من الشاب استعدادًا نفسيًا وثقافيًا وأخلاقيًا. أما الاستعداد الجسدي فشيءٌ دون هذه المطالب، فالشاب لا يخوض معركة تتطلب بسطةً في الجسم، ولا يطلب مجرد شهوة.
إن الشاب يبني بالنكاح أسرةً ويقيمُ به بيتًا، وهو في ذلك يعامل إنسانًا له روحه وعقلُه اللذان كُرِّم بهما عن الحيوان؛ فالاستعداد لبناء العلاقة بهذا الإنسان بقوة الجسد وكثرة المال لا يكفي ولا يغني. فيكفيك ـ أيها الشاب ـ من هذين أن تكون معافىً في بدنك، عندك قوتُ يومك، لا تستدعيك الحاجة أن تسأل الناس.
إن الأمر في المال أهون، وحاجةُ الشاب إليه أقل من حاجته إلى نضج العقل وسداد الأخلاق، فقد قال الله: وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [النور:32].
أيها الشاب، إن لكل جديد لذة، ولكل داخلٍ رهبة؛ وحتى تكتمل اللذة وتذهبَ الرهبةُ لا بد من الحكمة وضبط النفس والسيطرة عليها وإعدادِها الإعدادَ المناسبَ لما هي مُقدِمةٌ عليه.
ولتعلمْ أن الحلم هو سيدُ الأخلاق، فمن لم يكن حليمًا بطبعه فليتحلّم بترويض نفسه عليه، وإذا كان العلم بالتعلم فإن الحلم بالتحلم. إن التحلم يعني ضبط النفس أن تُستفَزَّ لأدنى شيء، وهو يفضي إلى الصبر، وحينها يملك المرءُ في ساعة المغاضبة لسانَه ويدَه، فلا يقول سوءًا ولا يبطش بظلم.
ولتعلمْ ـ أيها الشابُ ـ أن سرعة الغضب هو مادة الحمق، وهو وئيدُ الصبر والحكمة، فامْلكْ نفسك عند الغضب تكن شديدًا مسددًا، فليس الشديد بالصُرَعَةِ إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب.
ولو تأملت ـ أيها الشاب ـ نزاعاتِ الأزواج لوجدت مردَها إلى العناد وسرعة الغضب في غياب من الحكمة والحلم والصبر، فتسلّح بسلاح الصبر والحلم يَسْلمْ لك بيتك بإذن ربك.
واعلمْ أنك واجدٌ في حليلتك مناقصَ وعيوبًا، وليس من تسديد النقص ولا من إصلاح العيب أن تلمِزَها بنقصها وتعيِّرَها بعيبها، وتذكر قبل أن ينطلق في ذلك لسانُك أنك ذو عيوبٍ ومناقصَ، ومن كان بيتُه من زجاج فلا يرمِ غيرَه بالحجر.
فاهدفْ ـ يا رعاك الله ـ إلى أن تكمل نقصَك بما لديها من كمال في جانبه، وأن تكمل نقصها بما لديك من كمال في بابه، فالرجل غالبًا ما يكون نقصُه في الجانبِ العاطفي، وسيجد كمال هذا النقص في عاطفتها الفياضة، والمرأة غالبًا ما تكون ناقصةً في عقلها، وستجد كمال هذا في رجحان عقل الرجل، فلتكن العلاقة بينكما علاقةَ تكاملٍ لا علاقة تضادٍ وتماثلٍ.
ثم اعلم أنك لو فتّشتَ في البيوت لوجدت المشكلات قد دخلت كلَّ بيت، وإنما اختلافها في القلة والكثرة؛ حتى بيوتَ النبي ، ولكن كانت أسبابُها في زوجاته بما ركب فيهن من نقص فطري، وعلاجها في كماله.
إن المشكلات لا تحل إلا بسلاح الحكمة والصبر والحلم، والتعاملِ معها بواقعية تراعي طبيعة المرأة وضعفها، فهذا رسول الله يأتيه غلامٌ بطعام من إحدى نسائه وهو عند عائشة، وكانت صغيرةً لا تحسن الطهي، وربما عجنت عجينها فنامت عنه حتى أكلته الداجن، فلما رأته عائشة غارت وأسرعَ إليها الغضبُ، فقامت ورمت بالإناء فانكسر وتناثر الطعام. فانظر كيف تعامل النبي مع هذا الموقف، كان موقفُه موقفَ الحكمة والأناة والحلم، لقد تعامل مع الموقف بواقعية تستحضر طبيعةَ المرأة وما ركب فيها من غَيرةٍ، فحَلم وما زاد عن أن قال: ((لقد غارت أمكم، إناء بإناء وطعام بطعام)).
هذا نزر يسير من معين سيرة النبي ، إنما هي إشارات وإيماءات من دلالة القليل على الكثير، فإن شئت المزيد فقلب ناظريك في سيرة حبيبك ونبيك محمد .
اللهم أصلح أحوالنا...
ـــــــــــــــــــ(68/179)
إسعاف ذوي الحاجات
...
...
5076
...
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
...
...
الآداب والحقوق العامة, فضائل الأعمال, قضايا المجتمع
...
عبد الرحمن السديس إمام الحرم
...
...
مكة المكرمة
...
12/10/1427
...
...
المسجد الحرام
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- الأواصر الاجتماعية في الإسلام. 2- مشكلة الفقر. 3- المال مال الله. 4- فضل رعاية الفقراء. 5- الوصية باليتامى. 6- الحث على العناية بالأرامل والأيامى. 7- عناية الرسول بالفقراء والمساكين والمحتاجين. 8- الحث على رعاية المعاقين وذوي الاحتياجات الخاصة. 9- سبق بلاد الحرمين في هذا المضمار.
الخطبة الأولى
أما بعد: فخير ما يوصَى به ـ أيها المؤمنون ـ ويساق ويُلحَن من الوصايا الأعلاق تقوى البارئ الخلاق، فتقوى الله هي النور الهادي ليس به خفا، والبصيرة لمن اقتفى فاكتفى، والشِفا لمن كان من الفاقة على شَفا، والغنى لمن أعوَز واعتفى، ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام: 153].
أيها المسلمون، من إشراقات عظمة الإسلام وجلاله وخصائصه الباهرة التي أضاءت في شموله وكماله وجلَّت بمُنّةٍ عن رحماتِه في جماله تلكمُ الأواصر الاجتماعية السامية والوشائجُ الروحية والخُلُقية النامية والعلائق الهطِلَة بالإنسانية الحانية، لا سيما في أوان الماديات الذي حُجِبَت فيه كثير من القلوب بغلائل الذاتية الجَموع والفرديّة اللحيدة المنوع التي أصدرتها في غيابات الجشَع الجموح.
نعم، في أوانٍ أجدبت فيه المشاعر حتى غدت هشيما تذروه الرياح، وطوّحت الجسومُ من جواهرها الرأفة، فآضت لصفاقتها كالأشباح بعد أن برَأها الباري جلّ في علاها موئلاً لزكيِّ الطِّباع ومَنهَلاً للبِرِّ المشاع والإخاءِ المتقارض النّفَّاع.
إخوةَ الإيمان، ومن القضايا التي ترزح تحت مُرهقِها كثير من الأمم والأقطار والمجتمعات والأمصار وكان أن طبَّ لَها الإسلامُ بأحكامِه ونورِه قضيةُ الفقر وشأن الفقراء، يقول عزّ اسمه: وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ [الذاريات: 19].
ولِمَا يجلبه الفقر من كلٍّ ولِما فيه من فلٍّ ونأيٍ وكَلكَل استعاذ منه الحبيب المصطفى بقوله: ((اللهم إني أعوذ بك من الفقر والقِلَّة والذِلَّة)) أخرجه أبو داود والنسائي. ألم تروا إلى الفقير بين الناس مريضَ الجناب منكسِر الجناح حليفَ همومٍ وأتراح دونَ اقتراف إثم أو جُناح؟! يحمِل بين أضلاعه من لواعب العيلة ما أقبر أُنسَه وأنشر بؤسَه وقضَّ مضجعه وفضَّ من الحُرقة مدمَعَه، يقتاتُ من تباريحِ العَوَز ما أطال سُهادَه ورضَّ من الأسى أمانيَه ومراده. يعيش الفقير وحُشاشتُه بجمار العدم والخصاصة تُنهَب، وزفراتُه الكاوِيَة في [الأصفاء] تلهَب.
قد عضه البؤس الشديد بنابِه في نفسه والجوعُ في الأحشاء
في قلبِه نارُ الخليل وإنَّما في وجنَتَيه أدمع الخنساء
ولكن يا أمة العقيدة لكن، لا يغيبَنَّ عن شريفِ علمكم أن المال مال الله، وأن الله مستخلفكم فيه، وأن الذي أغنى هو الذي أقنى، وأن التفاوتَ في الأرزاق حكمةٌ من المولى الرزاق؛ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا [الزخرف: 32]. يمحِّص بها الأغنياء، ويبتلي الفقراءَ، وتلك الحكمة المطوية في قضائه وقدره، لا يتنوَّرُها إلا من غمره شعاع الإيمان وسطع في قلبه نور الحكمة والإيقان؛ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ [الحشر: 7].
أما الذين استرقَّتهم شهواتهم وذواتهم وبارح اليقين أنحاءهم فهم الذين يجوبون في سجوف الحيرة والضلال. ونأيًا بالمسلمين عن هذا المَهْيَع المهين توافقت الآيات والبراهين على ترسيخ حق المحاويج والضعفاء والمساكين والفقراء واحترام شخصهم والتنويه بحالهم؛ تحسينًا لمستوياتهم وحلاًّ لمشكلاتهم.
ومن لطائف الترابط في قوله تعالى: إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ [الحاقة: 33، 34] يقول العلامة الشوكاني رحمه الله: "وفي جعل هذا قرينًا لترك الإيمان بالله من الترغيب في التصدق على المساكين وسد فاقتهم وحثِّ النفس والناس على ذلك ما يدل أبلغ دلالة ويفيد أكمل فائدة على أن منعهم من أعظم الجرائم وأشدِّ المآثم" انتهى كلامه رحمه الله.
وفي هذا الاستنباط دليل على عظيم فضل رعاية الفقراء، ودِعامةٌ أساس في عظمة الإسلام وخصائص مجتمعه المنشودة وألويةِ تكافله وتآزره المعقودة، وعلى هذا الغِرار يُذكَّر ذوو اليسار أن الذي خلقهم وخلق الفقراء قد جعل بينهم ميثاق الرحمة والتعاطف وعقد التكافل والتكاتف، وذلك بأن يمنح القادر العاجزَ رَوحًا من قواه، ويَنفحَ الواجد الفاقدَ قليلاً من جَدواه، وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ [النحل: 71].
إِبَّان ذلك فيشيع في الأمّة الرخاء ويرتفع بقلوبها بَهِيُّ الإخاء، وستنعَم النفوس في الدارين في منهج مُسدَّد وفعل موفَّق مُرشَّد بين عاجلٍ ممجَّد وآجِل مخلَّد.
فإلى أمة الإسلام، وإلى المجتمعات المستغيثة من غوائل الفقر وشروره التي يجرها لخراب العالم ومعموره، إن كنتم تشفقون على نَعيم عَيشكم من البؤس والبؤساء وتدرؤون عن جمال حياتكم دمامة الفقر والفقراء فاقتحموا على الفقر مكامِنَه في الأكواخ والأعشاش، ولكن بعينٍ واكفة وفؤاد بالرحمة جَيَّاش، ثم قيِّدوه بالاكتنان في إيتاء الزكاة وسائر القربات كالصدقات الجاريات والأوقاف الساريات والهبات الباقيات والكفالات الواقيات.
إنِّي أرى فقراءَكم فِي حاجةٍ لو تعلمون لقائل فعَّالِ
وجزاء رب المحسنين يجل عن عدٍّ وعن وزن وعن مكيال
واغرسوا حب ذلك في قلوب الناشئة تكن منكم بإذن الله أمّة متراصّةُ البناء على قلب الأودّاء، تقطع مراحل الحياة رافهة مطمئنة، لا يمسها عناء ولا نصب، ولا يرهقها عَوَز ولا تعب، حينئذ لن تروا بإذن الله عينًا تحسد ولا قلبًا يحقد ولا يدا تجترح وتفسِد، ولا تكادون ترون في البيوت عائلا ولا في السجون قاتلاً ولا في الطرقات متسولاً ولا سائلاً، جاعلين قاعدة التكاتف والتكافل طيلسانَ بُرُدكم، أين ما يكن العيش الكريم يكن الأمن والسلام والحب والودُّ والوئام.
إخوة الإيمان، ومن فئات المجتمع الذين كلأتهم الشريعة بعين أحكامها وضَمَّخَتهم برُداعِ لُطفها وحنانها ولهم في قلوبنا والمسلمين مكانة أثيلة فئةٌ فقدت حنان الأبوة المشفقة الحادِبَة، ولَوَّعهم فقدُ الأمومة الحانية ووجدانِها الدافق بمشاعر الحب الحالم الجذلان، فباتوا في مسيس الحاجة إلى مرفإِ حبِّكم ولطفكم وحنانكم وعطفكم ومَهدكم المفعَم بالرحمة والرفق والسلوان، تواسون جفونهم القريحة، وتؤاسون قلوبهم الجريحة، تلكم هي فئة أحبتنا الأيتام، رحم الله يتمهم وعوضهم بمن فقدوه خيرا. فذو المرتَبَة يحنو على ذي المترَبَة، فتتبلَّجُ في حياتهم الرحمة في أسمى معانيها والسعادةُ في أجلى مراميها، قال سبحانه ممتنًا بكلاءة نبيه عليه الصلاة والسلام: أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى [الضحى: 6]، ويقول فيما أخرجه البخاري عن سهل بن سعد : ((أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين))، وأشار بالسبابة والوسطى وفرَّج بينهما.
رَباه ربَّاه، ما أعظم هذا الشرف وما أرباه لمن احتضن يتيمًا فأحسن مَربَاه، فرحم الله من رحم الأطفال والأيامى، وهنيئًا لمن زرع بسمة حانية على وجوه اليتامى، ومسح على رؤوسهم مسحة حادِبة، ورَبَّتَ على أكتافهم عِصاميَّةَ المستقبل وآفاق الأمل المشرق الوضاء.
وفي تعظيم حرمة اليتيم يقول سبحانه: فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ [الضحى: 9]. وللمؤتمنين على أموال القُصَّر واليتامى يُلفَت النظر إلى خطورة التعرُّض لحقوقهم وأموالهم، يقول سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا [النساء: 10].
وهكذا يا أمّة الإحسان، صان الإسلام منزلة الفقراء والأيتام، واحتفظ لهم بالوجود المعتبر في مسيرة الأمم، وكفل لهم الشخصيةَ الموفورة التي من حقِّها أن تشارك في العلياء وتؤُمّ.
لله درُّ الساهرين على الأُلى سهِروا من الأوجاع والأوجال
أهلِ اليتيم وكهفه وحُماته وربيعِ أهل البؤس والإمْحال
الذين أضاؤوا دياجيرَ المدقِعين والمعسرين بنور الود الهادي والحنان الرائح الغادي.
كاد اليتيم يموت لولا معشرٌ حاكَوا جدودَهم الكرامَ خِلالا
وقَفوا الجهودَ لنشلِه من بؤسه وغدَوا أبًا يَحنو عليه وخالاً
أروَيتمُ ظمَأَ النفوس بصيِّبٍ مِن برِّكم فعَبَقتمُ إفضالاً
معاشر الأحبة، وينتظم في سِلك الأحِقَّاء بالمرحمة والمواساة والتعاطف في هذه الحياة فئة ثالثة جديرة بالذكر والعناية والاهتمام والرعاية، فئة صَهَر جوانحها فَقدُ أحبابها، فعاشت ضيقَ الإعسار ووَكتةَ الإقتار وهَمَّ تنشِئة الأبناء الأخيار، تلكم هي فئة الأرامل والأيامى، يقول في وكيد رعاية حقِّها: ((الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله، أو كالصائم لا يفطر، وكالقائم لا يفتُر)) أخرجه البخاري ومسلم.
ومن بدائع الفاروق الملهَم رضي الله عنه وأرضاه في شفقته على الأرامل وكفالة معايشهن خشيةَ أن [تُبَرِّثَهن] الفاقة بنابها العضود ما رواه البخاري رحمه الله أن امرأة قالت: يا أمير المؤمنين، هلك زوجي وترك صِبية صغارًا، وليس لهم زرع ولا ضرع، فوقف معها عمر ولم يمضِ ثم انصرف إلى بعير ظهير، فحمل عليه غِرارتين ملأهما طعامًا وحمَل بينهما نفقة وثيابًا، ثم ناولها بخطامه وقال: اقتاديه، فلن يفنى حتى يأتيَكم الله بخير. الله أكبر، إنها المسؤوليّة البرَّة الناطقة والعاطفة الرّاحمة الوادِقة حِيال الأمومة اللهيفَة السّاغِبة. وهكذا من ازدَانَ به عصر سُلالته العادلة عمر بن عبد العزيز رحمه الله؛ حيث لم يوجَد في عصره فقير يعطَى من الزكاة، فللَّه درّه لله.
أيها المؤمنون، وستظلّ كثير من المجتمعاتِ أمثولةَ أثرةٍ مقيتة وفرديّة شحيحة غداةَ ذَوَت فيهم أزاهيرُ الإحسانِ والمعروف ما لم يعمد عُقَلاؤها وسُراتها إلى ربطها بجوهر نصوص الشريعة الحاضّة على التواصي بالتراحم والتلاحم استيعابًا وفهمًا وتطبيقًا؛ إذ هي الأَلَقُ والنور، وهي الشفاء لما في الصدور؛ لِما تضطرِب فيه الأمم من عوائق اجتماعية وضوائق مادّية وإنسانية. ويومئذ تستروح البشرية الكالّة واحةَ الإسلام الفيحاء، وترتوي بالعذبِ الزُّلال من نميره. ألا فلتهد [العنابل] الرحمة والإخاء بين بني الإنسان، ولتَهدِ الفيوض المواساة [والمرور] على روابي أفئدة المسلمين الندية الخضراء حيال أحبتنا الأيتام والأرامل والفقراء والمحاويج والمساكين والضعفاء.
وبعد: أيها الإخوة، فللطامحين لنيل أعلى الدرجات ومرضاة رب البريات، إنها لفرصة قارّةٌ ونَفحة عُلوِيّة بالحسنات دارَّة وأعمال بارّة يحسن اهتبالُها مداومةً على الأعمال الصالحة التي قصدها النهج الرباني، وسكبها في أرواحنا الفيضُ الرمضانيّ والعيد الإيمانيّ، والموفَّق من وفَّقه الله، والمحروم من حرمَ نفسَه فضلَ الله.
اللهم إنا نسألك فعلَ الخيرات وترك المنكرات وحبَّ المساكين، اللهم خذ بأيدي أغنيائنا لعون فقرائِنا، وكن للفقراء واليتامَى والأرامل والأيامَى؛ إنك جواد كريم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولكافّة بني الإسلامِ مِن جميع الخطايا والآثام، فاستغفروه وتوبوا إليه على الدّوام، فيا لَفَوز المستغفرين، ويا بشرى للتائِبين، جعلنا الله وإيّاكم منهم بفضلِه وكرمه، اللّهمّ آمين.
الخطبة الثانية
الحمد لله، وفّق من شاء للإحسان وهدى، وتأذن بالمزيد لمن راح في المواساةِ أو غدَا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له شهادةً نرجو بها نعيمًا مؤبَّدا، وأشهد أن نبينا محمدًا عبد الله ورسوله أندى العالمين يدًا وأكرمهم محتِدا، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبِه أهل التراحم والاهتدا وبذل الكف والندى، ومن تبعهم بإحسان ما ليلٌ سجَى وصبح بدَا، وسلّم تسليمًا سرمدا أبدًا.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، ومدُّوا لإخوانكم المفؤودين رِفدًا ويدًا، تفلِحوا في دنياكم وغدا.
إخوة الإسلام، وهؤلاء الفئام في مجتمع الإسلام قد احتفى بهم سيد الأنام عليه الصلاة والسلام، فكان يزورهم ويعود مرضاهم ويسدّ خلتهم وفاقتهم، وما من فئة منهم إلا ولها آمالُها التي ترنو إليها، وهي أعزُّ ما تطمح إلى تحقيقه؛ كي تتفيّأ مرابِع الطمأنينة والهناء وتشاركَ في الإعمار والبناء والنماء، فعلى ذوي القرار والمسؤولية والتوجيه أن تكون لهم بصيرة نافذة، وذلك هو المؤمل بحمد الله في تعاملٍ أمثَل وسعيٍ أنبَل يحقِّق الحرص على إيثارهم ونفعهم وإيصال الخير والعون إليهم مهما كانت الظروف والحتوف، والارتفاع بمنافعهم فوق كل الروابط والضوابط، في رعايةٍ مسددة شاملة نفسيًا وتربويًا واجتماعيًا وعلميًا، ويخصُّ المحبُّ بمزيدِ القول والتأكيد دعمَ رعاية أعزتنا المعاقين وذوي الاحتياجات الخاصة الذين لم يزدهم قضاء الله وقدره إلا عزمًا على المعالي وإباءً وتفاؤلاً بالآمال ومضاءً، ودمجِهم في مسيرة المجتمع الوثاب وميادين بنائه ورقيه بما يتواءم وقدراتهم الجسدية، وتلمُّحٍ لملكاتهم المتميِّزة ومواهبهم المبدعة في تكافل وتمازج يسمُوان إلى علوِّ المشاركة الأخوية الوجدانية التي تتَّحد في الحاضر المجيد والعيش الرغيد والأفق المديد السعيد، وأنهم من المجتمع وإليه، ولهم الحق كلُّ الحق في العناية والاهتمام والرعاية والزمام، وتلك مسؤولية مشتركة بين كافة أطياف المجتمع وشرائحه ومؤسساته، عندها ستدرك الأمة أن الإعاقة رسالة بالعطاء دفّاقة، وأن من يُنسَبون إليها قد يفوقون بعضَ الأسوياء إذِ المعاق المسبوك معاقُ الرّوح والفِكر والسلوك.
إخوةَ الإيمان، وفي هذا المضمار دَبَّجت ـ بفضل الله وعظيم منِّه ـ بلادُ الحرمين السَّنِيّة ومملكة الإنسانية دروبَ التكافل والإحسان والمواساة أيّانَ مرساها، ووشَّت دروبَ التراحم والتراؤف كيف مجراها، في تعاضد سَبّاق وبذلٍ غَيداق، وفق سنن الإحسان الشرعية وقواعد اللُحمة الوطنية والإسلامية، عبر المؤسسات الخيرية والهيئات الإغاثية ودور الرعاية الاجتماعية، وما هي ـ وايمُ الحق ـ ببِدعٍ في ذلك؛ ففي ربوعها أزهر الإيثار وسار، وفي هذه البطاح والديار انبجسَت ينابيع الرحمة المحمدية المهداة والنعمة المسداة، ومن هذه البقاع امتارتِ الدنيا أزوادَ الأرواح واستبضعت الإنسانية المرزَّأة بلاسِمَ الكلومِ والجراح.
وإن ترِد ـ يا رعاكَ الله ـ البرهان الساطع والدليل القاطع فسَيرنو ذلك جليًّا في أطفال ومحتاجي فلسطين ويتامى لبنان ومتضرِّري العراق ومنكوبي الحوادث وضحايا الفيضانات والكوارث، مع ما يُؤمَّل من بذلِ المزيد، ولِرجال الأعمالِ ولذوِي اليسار والمالِ في ذلك الأنموذَجُ الأكيد والرِّفد الرفيد، أبقاها الله للأمن والإيمان أبهى واحة، وللتراحم والإحسانِ رَوضة فوّاحة؛ إنه خير مسؤول وأكرم مأمول.
هذا وصلّوا وسلِّموا ـ رحمكم الله ـ على المرسل بالرحمة التامة والرأفة العامّة والإحسان الغامِر والبر الهامر، نبيِّكم محمد بن عبد الله، كما أمركم بذلك مولاكم ومولاه، فقال تعالى قولاً كريما: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56].
اللهم صل وسلم وبارك على نبيِّنا الحبيب المصطفى...
ـــــــــــــــــــ(68/180)
آداب الطريق
...
...
5089
...
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب, موضوعات عامة
...
...
الآداب والحقوق العامة, جرائم وحوادث, قضايا المجتمع
...
عبد الرحمن بن علي العسكر
...
...
الرياض
...
...
...
عبد الله بن عمر
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- مطلب الأمن. 2- تحقيق الأمن بتكاتف الجهود. 3- حوادث السير. 4- آداب السير في الإسلام. 5- التحذير من السرعة. 6- حقوق الطريق. 7- ضرورة الالتزام بقواعد المرور. 8- التذكير بالأمن الحقيقي.
الخطبة الأولى
أمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ ـ عِبادَ اللهِ ـ حَقَّ التَّقْوَى.
أَيُّهَا النَّاسُ، لِلنَّاسِ فِي هَذِهِ الحَيَاةِ مَآرِبُ شَتَّى وَأَحْوَالٌ مُتَعدِدَةٌ، تَخْتَلِفُ أَدْيَانُهمْ وَتَوَجُّهَاتُهمْ، وَتَخْتَلِفُ رَغَبَاتُهمْ، إلاَّ أنَّ هُنَاكَ أُمُورًا هُمْ جَمِيِعًا مُجْمِعُونَ عَلَى طَلَبِهَا وَالبَحْثِ عَنهَا، بَلْ هِيَ غَايَةُ كَثِيرٍ مِنْهُمْ، وَيَظْهرُ هَذَا الأَمْرُ جَلِيًّا وَوَاضِحًا فِي المَطْلَبِ الَّذِي يُكَابِدُ مِنْ أَجْلِهِ شُعُوبٌ وَيَسْعَى لِتَحْقِيقِهِ فِئَامٌ كَثِيرُونَ، إِنَّهُ الأَمْنُ عَلى النَّفْسِ وَالمَالِ وَالوَلَدِ.
الأمْنُ مَطْلَبٌ أَكِيدٌ لاَ تَسْتَقِيمُ الحَيَاةُ بِدُونِهِ، يَقُولُ : ((مَنْ أصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ مُعَافًى فِي بَدَنِهِ عِنْدَهُ قُوتُ يَومِهِ فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا)) رَوَاهُ التِّرْمِذَيُّ فِي جَامِعِهِ.
إِلاَّ أَنَّهُ ـ يَا عِبَادَ اللهِ ـ لاَ يَقُومُ الأمْنُ وَلاَ يَسْتَقِيمُ عِمَادُهُ إِلاَّ بِتَكَاتُفِ الجْهُودِ مِنَ النَّاسِ جَمِيعًا، فَرَجُلُ الأَمْنِ وَحْدَهُ لاَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يُعَدِّلَ أَوْضَاعَ النَّاسِ مَا لم يُعَدِّلِ النَّاسُ أَنْفَسَهمْ وَيَنْشرُوا الوَعْيَ بَينَهُمْ.
إِنَّهُ وَإنْ كَانَ النَّاسُ فِيمَا مَضَى لَيسَتْ عِندَهُمْ مِنَ العُلُومِ المُتَقَدِّمَةِ مَا عِنْدَكُمْ؛ يَمْرَضُ المَرِيضُ فَلاَ يَسْتَطِيعَونَ عِلاَجَهُ فينْتظِرونَ مَوتَهُ، وَتَأتِيهم مِنَ الأوْجَاعِ مَا تَفْتِكُ بِبُلْدَانٍ كَامِلَةٍ وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ حِرَاكًا، وَإنْ كَانَ النَّاسُ فِي هَذَا الزَّمَنِ قَدْ تَوصَّلُوا فِي الطِّبِّ إِلى عُلُومٍ مُتَقَدِّمَةٍ، يَحَاوِلُونَ مُحَارَبَةَ المَرَضِ قَبلَ وُقُوعِهِ، ثُمَّ إِذَا وَقَعَ هَبَّوا لِعِلاَجِهِ، غَيرَ أَنَّ هُنَاكَ مَرضًا آخَرَ يَفْتِكُ ببَنِي البَشَر وَهُم فِي أَوجِ حَيَاتِهمْ وَأحَسَنِ صِحَّتِهمْ، مَرَضٌ لاَ يَعْرِفُ كَبيرًا وَلاَ صَغِيرًا وَلاَ رَجُلاً وَلاَ امْرَأَةً، بَلْ مَتى تَوَفَّرَتْ أسْبَابُهَ وَدَوَاعِيِه فَتَكَ بِمَنْ شَارَكَ فِيهِ، إِنَّهُ حَوادِثُ السَّيرِ والطُّرُقِ، حِينَ غَفَلَ النَّاسُ عَنْ أَخْذِ الأَسْبَابِ وَالاحْتِيَاطَاتِ وَخَالَفُوا الأَنْظِمَةَ وَقَعَ مَا وَقَعَ.
أيُّهَا النَّاسُ، لَقَدْ شَرَعَ لَنَا الإِسْلاَمُ كَثِيرًا مِنْ أُمورِ الدُّنْيَا عَلَى وَجهِ التَّفْصِيلِ، بَلْ إِنَّهُ مَا مِنْ أَمْرٍ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا فَضْلاً عَنْ أُمُورِ الدِّيِن إلا ولاَ بُدَّ أَنْ يَكُونَ لَهُ حُكْمٌ في الإِسْلاَمِ، سَوَاء كَانَ ذَلِكَ العِلْمُ صَرِيحًا خَاصًّا بِذَلِكَ الأَمْرِ بِعَينِهِ أَوْ دَاخِلاً تَحْتَ قَاعِدَةٍ عَامَّةٍ مِنْ قَوَاعِدِ التَّشْرِيعِ، يَقُولُ اللهُ سُبْحَانَهُ: مَا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ.
وَإنَّ مِمَّا أَوضَحَهُ لَنَا دِينُنَا آدَابَ السَّيرِ وَمَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عَلَيهِ سَالِكُ الطَّرِيقِ.
وَإِنَّ أَوَّلَ أَمْرٍ يَعْرِضُ هُنَا هُوَ ذَلِكَ الدُّعَاءُ الَّذِي كَانَ يَقْولْهُ إِذَا رَكِبَ دَابَّتَهُ مُسَافِرًا: سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمنْقَلِبُونَ. فَأَوَّلَ شَيءٍ يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِم أَنْ يَشْكُرَ رَبَّهُ عَلَى هَذِهِ النِّعَمِ الَّتِي يَسَّرَهَا لَهُ؛ يَصِلُ بِهَا إِلى البَعِيدِ، وَتَحْمِلُه دُونَ عَنَاءٍ وَمَشَقَّةٍ، فَهَذِهِ المَرَاكِبُ وَأَشْكَالُهَا دَاخِلَةٌ فِي نِعْمَةِ اللهِ الَّتِي أَنْعَمَهَا، وَلِهَذَا لمَّا رَكِبَ نُوحٌ السُّفِينَةَ قَالَ: بِسْمِ اللهِ مُجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا.
أَخْذُ العُدَّةِ اللازِمَةِ عِنْدَ أَدَاءِ أَيِّ عَمَلٍ أَمْرٌ مَطْلُوبٌ مِنَ الْمُسْلِم، يَقُولُ : ((إِنَّ اللهَ يُحِبُّ إِذَا عَمِلَ أَحَدُكُمْ عَمَلاً أَنْ يُتْقِنَهُ)) رَوَاهْ البيهَقِي بِسندٍ حَسَنٍ. وَانْظُرُوا مِثَالاً تَطْبِيقيًّا لِهَذَا المَعْنَى وَهُوَ أَخْذُ العُدَّةِ، قَولُهُ : ((إِنَّ اللهَ كَتَبَ الإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ، فَإذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا القِتْلَةَ، وَإِذَا ذَبَحْتُم فَأَحْسِنُوا الذِّبْحَةَ، وَلَيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ، وَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ)) رَوَاهْ مُسْلِمٌ. فَإِذَا كَانَ المُسلِمُ قَد أُمِرَ بأَنْ يَستَعِدَّ إذَا أَرَادَ ذَبَحَ البَهِمَةِ فَسَائِق السَّيَّارَةِ مَأْمُورٌ شَرْعًا بِتَفَقُّدِ كُلِّ مَا مِنْ شَأنِهِ سَلاَمَتهُ وَسَلاَمَةُ مَنْ مَعَهُ.
عِبَادَ اللهِ، لَقَدْ وَصَفَ اللهُ عِبَادَ الرَّحْمَنِ بِصِفَاتٍ تُؤَهِّلُهُمْ لِنَيلِ الجَنَّاتِ، فَكَانَ مِنْ أَوْصَافِهمْ: وَعِبَادُ الرَّحمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ فِي الأَرْضِ هَوْنًا، فَالْمؤْمِنُونَ الصَّادِقُونَ إِذَا مَشوا فَإِنَّهُمْ يَمْشُونَ فِي اقْتِصَادٍ، حُلَماءُ مُتَوَاضِعونَ، وَالقَصْدُ وَالتُّؤَدَةُ وَحُسْنُ السَّمْتِ مِنْ أَخْلاَقِ النُّبُوَّةِ، وَيَقُولُ لَمَّا رَأَى سُرْعَةَ النَّاسِ فِي حَجَّةِ الوَدَاعِ وَهُمْ عَلَى دَوَابِّهمْ قَالَ: ((عَلَيكُمْ بِالسَّكِينةِ، فَإِنَّ البِرَّ لَيْسَ بِالإِيضاعِ)) رواه البخاري، وَرُوِيَ فِي صِفَتِهِ أَنَّه كَانَ إِذَا زَالَ زَالَ تَقَلُّعًا وَيَخْطُو تَكَفُّؤًا وَيَمْشِي هَوْنًا، وَقَالَ الزُّهْرِيُّ رَحِمَهُ اللهُ: سُرْعَةُ المَشْيِ تُذْهِبُ بَهَاءَ الوَجْهِ، وَقَالَ ابنُ عَطِيَّةَ: الإِسْرَاعُ يُخِلُّ بِالوَقَارِ وَالخَيْرُ فِي التَّوَسُّطِ.
وَيَقُولُ اللهُ فِي وَصِيَّةِ لُقْمَانَ: وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ [لقمان: 18، 19]، وقال تعالى: وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً [الإسراء: 37]، وَنَهَى أَنْجَشَةَ عَنْ حَدْوِ الإِبْلِ حَتَّى لاَ تُسْرِعَ وَفَوقَهَا النِّسَاءُ: ((يا أَنْجَشَةُ، رُوَيدًا سَوقَكَ بِالقَوَارِيرِ)) مُتَّفَقٌ عليه.
عِبادَ اللهِ، إِنَّهُ إِذَا كَانَ النَّهْيُ عَنْ سُرْعَةِ المَشْيِ عَلَى الأَقْدَامِ لمَا يَدُلُّ عَلَيهِ مِنَ الطَّيشِ والزَّلَلِ وَمَا يُؤَدِي إِليهِ مِنَ تَعَثُّرٍ وَتَهوُّرٍ، فَإِنَّ النَّهْيَ يَكْونَُ مِنْ بَابِ أَوْلَى إِذَا كَانَ السَّيرُ بِآلَةٍ تَنْهَبُ الأَرْضَ بِعَجَلاَتِهَا، تُسَابِقُ الرِّيحَ أَوْ تُطَاوِلُ الجِبالَ، تُؤَدِّي إِلى المَهَالِكِ مَا بَينَ قائدهَا وَبَينَ المَوتِ إِلاَّ خَلْخَلةُ مِسْمَارٍ أَوْ عَطَبُ مُحَرِّكٍ.
عبادَ اللهِ، حَدِيثٌ عَظِيمٌ جَمَعَ خِصَالاً وَآدَابًا مِنْ آدَابِ السَّيرِ فِي الطَّريقِ، رَوَى البُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وغَيرُهُمَا عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللهِ خَرَجَ عَلَى أَصْحَابِهِ فَقَالَ: ((إِيَّاكُمْ وَالجُلُوسَ فِي الطُّرُقَاتِ))، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ ، مَا لَنَا مِنْ مَجَالِسِنَا بُدٌّ نَتَحَدَّثُ فِيهَا، فَقَالَ: ((فَإِذَا أَبَيْتُم إِلاَّ المَجْلِسَ فَأعْطُوا الطَّرِيقَ حَقَّهُ))، قَالُوا: وَمَا حَقُّ الطَّرِيقِ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: ((غَضُّ البَصَرِِ وَكَفُّ الأَذَى وَرَدُّ السَّلاَمِ وَالأَمرُ بِالمعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ المُنْكَرِ))، وَفِي رِوَايةٍ : ((حُسْنُ الكَلاَمِ))، وَفِي رِوَايةٍ أُخْرَى: ((وَإِرْشَادُ ابنِ السَّبِيلِ وَتَشْمِيتُ العَاطِسِ إِذَا حَمِدَ))، وَزَادَ أَبُو دَاودَ: ((وَتُغِيثُوا المَلْهُوفَ وَتَهدُوا الضَّالَّ))، وَزَادَ أَحْمَد والتِّرْمِذيُّ: ((اهْدُوا السَّبِيلَ وَأعِينُوا المَظْلُومَ وَأفْشُوا السَّلاَم))، وَزَادَ البَزَّارُ: ((وَأَعِينُوا عَلَى الحُمُولَةِ))، وَزَادَ الطَّبَريُّ: ((ذِكْرُ اللهِ كَثِيرًا)). فَهَذِهِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ أَدَبًا مِنْ آدَابِ الطَّرِيقِ لَوْ طَبَّقَهَا النَّاسُ لَمَا وَجَدُوا تَصَرُّفَاتٍ هَوْجَاءَ وَلاَ أَفْعَالاً مُسْتَنْكَرَةً.
وَإِنَّ مِمَّا نُهِيَ المُسْلِمُ عَنْهُ ـ وَهِيَ مِنْ أَهم مَا يَنْبَغِي أَنْ يَسْتَشعِرَهَا الرَّاكِبُ وَالمَاشِي ـ أَنْ يُرَوِّعَ أَخَاهَ المُسْلِمَ وَأنْ يَرْفَعَ حَدِيدَة عَلَيهِ، ((لاَ يُؤمِنُ أَحدُكمْ حَتَّى يُحِبَّ لأَخِيه مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ)).
وَالمُجَامَلَةُ وَالتَّسَامُحُ بَينَ السَّائِقِينَ فِي اسْتِعْمَالِ الطَّرِيقِ مِمَّا دَعَا إِليهِ الدِّينُ، فَحُسْنُ الخُلُقِ مِنَ الإِيمَانِ، وَخَيرُ النَّاسِ أَحْسَنُهُم خُلُقًا، وَإِمَاطَةُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ شُعْبَةٌ مِنْ شُعَبِ الإِيمَانِ، وَقَالَ : ((رَأيتُ رَجُلاً يَتَقَلَّبُ فِي الجَنَّةِ فِي غُصْنِ شَوكٍ أَزَالَهُ عَنِ الطَّرِيقِ كَانَ يُؤذِي المَارَةَ)) رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ.
أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُم وَلِسَائِرِ المُسْلِمينَ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ، فَاسْتَغْفِرُوه إِنَّه هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخطبة الثانية
الحَمْدُ لله حَمدًا كَمَا أَمَرَ، وَأشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَه إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَريكَ لَهُ، وَأشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ عَليهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
أَمَّا بَعدْ: فَاتَقُوا اللهَ أَيُّهَا النَّاسُ جَميعًا، وَاعْلَمُوا أَنَّ هَذَا الدِّينْ جَاءَ لِتَحَصيلِ المَصَالِحِ وَدَرْءِ المَفَاسِدِ، وإِنَّ قَاعِدَةَ المَصْلَحَةِ وَالمَفْسَدَةِ بِهَا يَسْتَقيمُ دِينُ المَرْءِ وَتَسْتَقِيمُ حَيَاتُهُ، وَإِنَّ جَلْبَ كُلِّ مَصْلَحَةٍ تَعُودُ عَلَى النَّاسِ بِالخَيرِ هِيَ مَطْلَبُ الشَّرْعِ المُطَهَّرِ، كَمَا أَنَّ دَرْءَ المَفَاسِدِ وَتَعْطِيلَهَا مِنْ أَسَاسِيَّاتِ هَذَا الدِّينِ، فَكُلُّ مَا يَجْلِبُ للنَّاسِ الخَيرَ مِنْ مُسْتَجِدَّاتِ العَصْرِ فَقَدْ جَاءَ الأَمْرُ بِهِ تَحتَ هَذِهِ القَاعِدَةِ، وَكُلُّ مَا يَجْلِبُ للنَّاسِ الشَّرَّ مِنْ مُسْتَجِدَّاتِهمْ فَدَاخِلٌ فِي المَفَاسِدِ الَّتِي سَعَى الشَّرْعُ إِلَى إبعَادِهَا.
وَمِنْ هُنَا فَكُلُّ مَا كَانَ مُعِينًا عَلَى تَنْظيمِ سَيرِ النَّاسِ وَالحِفَاظِ عَلَى أَرْوَاحِهمْ فَإنَّ الدِّينَ يَسْعَى لَهُ وَيَأْمُرُ بِهِ، فَإشَارَاتُ المُرورِ وَعَلاَمَاتُ الطُّرُقِ وَتَحْدِيدُ السُّرْعَاتِ وَتَحْدِيدُ المَسَارَاتِ كُلُّهَا وُضِعَتْ لأَجْلِ المُحَافَظَةِ عَلَى النَّاسِ، فَمُخَالفَتُهَا مُخَالَفَةٌ لِهَذِهِ القَاعِدَةِ الَّتِي جَاءَ الشَّرْعُ بِتَحْصِيلِهَا وَالدَّعْوَةِ إِلَيهَا، فَأَقِيمُوا لِهَذَا الأَمْرِ قَدْرَهُ.
أَيُّهَّا النَّاسُ، إِنَّنَا وَإِنْ تَكَلَّمَنَا عَنْ الأَمْنِ فِي الدُّنْيَا فَإنَّ الأَمْنَ الحَقِيقيَّ الَّذِي يَجبُ السَّعْيُ إِلَيهِ وَلَنْ يَنْجُوَ إِلاَّ مَنْ حَصَّلَه هُوَ الأَمْنُ يَوْمَ القِيَامَةُ، الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمْ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام:82]، مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ [النمل: 89]، إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ [الحجر: 45، 46].
عِبَادَ اللهِ، إنَّ الإِنْسَانَ وَإِنْ مَنَحَهُ اللهُ نِعْمَةَ الأَمْنِ وَالطَّمَأْنِينَة فَلاَ يَنْبَغِي أَنْ يَتَوَهَّمَ أَنَّهُ قَدْ أَصْبَحَ فِي مَأْمَنٍ تَامٍّ مِنْ أَنْ يَحِيقَ بِهِ سَخَطُ اللهِ وَعَذَابُه عَاجِلاً أَو آجِلاً، فَإنَّ الأَمْنَ إِنَّمَا هُوَ لِلمُؤمِنينَ، أَمَّا الكُفَّارُ فَلاَ أَمْنَ لَهُمْ وَلاَ أمَانَ، الأَمْنَ لِعبَادِ اللهِ الصَّالحِينَ الَّذٍِينَ يَتَّبِعُونَ أَوَامِرَهُ وَيَجْتَنِبُون نَوَاهِيه، أَمَّا الَّذِينَ يَسِيحُونَ فِي الأَوْهَامِ وَيَسْدرُونَ فِي الغِوَايَة وَيَعْمَلُونَ السَّيئَاتِ وَتُمَنِّيهِمْ نُفُوسَهُمْ وتُطْمِعُهُمْ بِالأَمْنِ مِنَ اللهِ وَالإِفْلاَتِ مِنْ عُقوبَتِهِ فَقَدْ خَسِرَتْ أَعْمَالهُمْ وَسَاءَ ظَنُّهُمْ وَفَاتَهُمْ التَّحَفُّظُ وَأَخْذُ الحَيطَةِ. أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ [الأعراف: 97-99]، أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمْ الأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمْ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ [النحل: 45-47].
وَيَقُولُ اللهُ سُبْحَانَهُ فِي آيَةٍ عَظِيمَةٍ تُصَوِّرُ مَثَلاً للنَّاسِ إِلَى يَومِ القِيَامَةِ: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ [النحل:112].
عِبَادَ اللهِ، إنَّ اللهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ...
ـــــــــــــــــــ(68/181)
بين أويس القرني وجريج
...
...
5124
...
الأسرة والمجتمع, سيرة وتاريخ
...
...
القصص, الوالدان
...
سالم بن سلامة الجلعود
...
...
القطيف
...
...
...
جامع الإمام فيصل بن تركي
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- قصة عمر بن الخطاب مع أويس القرني. 2- فضل بر الوالدين. 3- قصة جريج العابد. 4- عظم منزلة الوالدين.
الخطبة الأولى
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أوصيكم ونفسي بتقوى الله، فهي خير زاد في الدنيا والآخرة، وبها النجاة يوم القيامة، يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ.
عباد الله، جاء في صحيح مسلم عن أسير بن جابر قال: كان عمر بن الخطاب إذا أتاه أمداد أهل اليمن سألهم : أفيكم أويس بن عامر ؟ وكان لا يجد على ذلك السؤال جوابا لأن المسؤول عنه غير معروف في أهل اليمن، فلم يكن بذي جاه ولا مال ولا رياسة، فقد طلبه في حياة رسول الله فلم يقدر عليه، وطلبه في عهد أبي بكر فلم يقدر عليه، واستمر حتى مضى شطر من إمارته ، وقد مكث يسأل الناس عن أويس القرني عشر سنين لم يكلّ ولم يمل فيها.
وفي الحج سنة ثلاث وعشرين وكان عمر بن الخطاب في الحجيج في أواخر خلافته وقبيل استشهاده بأيام، ولا يزال شغله الشاغل البحث عن ذلك الرجل من رعيته يريد مقابلته. فلما أعيته الحيل ولم يجد المطلوب صعد عمر جبل أبا قبيس في جمع من الحجيج وأطل على الحجيج، ونادى بأعلى صوته: يا أهل اليمن، أفيكم أويس من مراد؟ فقام شيخ من قرن فقال: يا أمير المؤمنين، إنك قد أكثرت السؤال عن أويس هذا، وما فينا أحد اسمه أويس إلا ابن أخ لي يقال له: أويس، فأنا عمّه، إنك تسأل عن رجل وضيع الشأن، ليس مثلك يسأل عنه يا أمير المؤمنين وهو حقير بين أظهرنا، خامل الذكر، وأقل مالا، وأوهن أمرا من أن يرفع إليك ذكره. قال: يا شيخ، وأين ابن أخيك هذا الذي تزعم؟ أهو معنا بالحرم؟ قال الشيخ: نعم يا أمير المؤمنين، هو معنا في الحرم غير أنه في أراك عرفة يرعى إبلا لنا.
فركب عمر بن الخطاب على حمار له، وخرج من مكة، وأسرعا إلى أراك عرفة، ثم جعل يتخلل الشجر ويطلبه، فإذا برجل في طمرين من صوف أبيض قد صفّ قدميه يصلي إلى الشجرة وقد رمى ببصره إلى موضع سجوده، وألقى يديه على صدره والإبل حوله ترعى. فلما سمع أويس حسه أوجز في صلاته ثم تشهد وسلم وتقدما إليه فسلما عليه وردّ عليهما التحية بأحسن منها، فقال عمر : من أنت؟ قال: راعي إبل وأجير للقوم، فقال عمر: ليس عن الرعاية أسألك ولا عن الإجارة، إنما أسألك عن اسمك، فمن أنت يرحمك الله؟ فقال: أنا عبد الله وابن أمته، فقالا: قد علمنا أن كل من في السموات والأرض عبيد الله، وإني أقسم عليك إلا أخبرتني باسمك الذي سمتك به أمك، قال: يا هذا، ما تريد مني؟ أنا أويس بن عبد الله، فقال عمر : الله أكبر، يجب أن توضح عن شقّك الأيسر، قال: وما حاجتك إلى ذلك؟ فقال له: إن رسول الله وصفك وقد وجدت الصفة كما خبرني، غير أنه أعلمنا أن بشقك الأيسر لمعة بيضاء كمقدار الدينار أو الدرهم، وأنا أحب أن أنظر إلى ذلك، فأوضح له ذلك عن شقه الأيسر.
فلما نظر عمر إلى اللمعة البيضاء ابتدر إليه وقال: يا أويس، إن رسول الله أمرنا أن نقرئك منه السلام، وأمرنا أن نسألك أن تستغفر لي، فاستغفر لي فقد خبرنا بأنك سيد التابعين، وأنك تشفع يوم القيامة في عدد ربيعة ومضر. فبكى أويس بكاء شديدا، ثم قال: عسى أن يكون ذلك غيري، فقال: إنا قد تيقنّا أنك هو، فادع الله لي ـ رحمك الله ـ بدعوة وأنت محسن. فقال أويس: ما أخصّ باستغفار نفسي، ولا أحد من ولد آدم، ولكن من أنت يرحمك الله؟ فإني قد خبرتك وشهرت لك أمري، ولم أحبّ أن يعلم بمكاني أحد من الناس، فقال: عمر بن الخطاب، فوثب أويس فرحا مستبشرا فعانقه وسلم عليه ورحب به، قال أويس: ومثلي يستغفر لمثلك؟! فقال: نعم، فاستغفر له.
فقال عمر : مكانك حتى أدخل مكة فآتيك بنفقة من عطائي وفضل كسوة من ثيابي، فإني أراك رث الحال، هذا المكان الميعاد بيني وبينك غدا. فقال: يا أمير المؤمنين، لا ميعاد بيني وبينك، ما أصنع بالنفقة؟ وما أصنع بالكسوة؟ أما ترى عليَّ إزارا من صوف ورداء من صوف؟! متى أراني أخلِفهما؟! أما ترى نعليَّ مخصوفتين؟! متى تُراني أبليهما؟! ومعي أربعة دراهم أخذت من رعايتي متى تُراني آكلها؟! يا أمير المؤمنين، إن بين يدي عقبة لا يقطعها إلا كل مخفّ مهزول، فأخف ـ يرحمك الله ـ يا أبا حفص، إن الدنيا غرارة غدارة، زائلة فانية، فمن أمسى وهمته فيها اليوم مدّ عنقه إلى غد، ومن مدّ عنقه إلى غد أعلق قلبه بالجمعة، ومن أعلق قلبه بالجمعة لم ييأس من الشهر، ويوشك أن يطلب السنة، وأجله أقرب إليه من أمله، ومن رفض هذه الدنيا أدرك ما يريد غدا من مجاورة الجبار.
فلما سمع عمر كلامه ضرب بدرته الأرض، ثم نادى بأعلى صوته: ألا ليت عمر لم تلده أمه، ليتها عاقر لم تعالج حملها، ألا من يأخذها بما فيها ولها. فقال له عمر : أين تريد؟ قال: الكوفة، قال: ألا أكتب لك إلى عاملها؟ قال: أكون في غبراء الناس أحب إلي.
قال: فلما كان من العام المقبل حج رجل من أشرافهم، فوافق عمر ، فسأله عن أويس، قال: تركته رث البيت قليل المتاع، قال: سمعت رسول الله يقول: ((يأتي عليكم أويس بن عامر مع أمداد أهل اليمن من مراد ثم من قرن، كان به برص فبرأ منه إلا موضع درهم، له والدة هو بها بر، لو أقسم على الله لأبره، فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل))، فأتى أويسا فقال: استغفر لي، قال: أنت أحدث عهدا بسفر صالح فاستغفر لي، قال: استغفر لي، قال: أنت أحدث عهدا بسفر صالح فاستغفر لي، قال: لقيت عمر؟ قال: نعم، فاستغفر له، ففطن له الناس فانطلق على وجهه.
عبد الله، لقد نال أُوَيس القَرَني هذه المنزلة العظيمة بسبب برّه لأمه، أخبر النبي بنعته ووصفه وخبره، وحثَّ الفاروقَ المبشَّرَ بالجنة أن يطلب منه أن يستغفر له إن هو أدركه. عمر أفضل من أُوَيس القَرَني بلا خلاف، ويطلب من أُوَيس القَرَني أن يستغفر له! فرضي الله عن عمر، ورضي الله عن أُوَيس، وما أعظم برّ الوالدين!
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
جاء في الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي قال: ((كان جُرَيج رجلاً عابدًا، فاتخذ صَوْمَعة، فكان فيها، فأتته أمه وهو يصلى فقالت: يا جُرَيج))، فوصف أبو هريرة لصفة رسول الله أمه حين دعته كيف جعلت كفها فوق حاجبها، ثم رفعت رأسها إليه تدعوه، ((فقالت: يا جُرَيج، أنا أمك كلّمني، فقال: يا رب، أمي وصلاتي! فأقبل على صلاته فانصرفت، فلما كان من الغد أتته وهو يصلي فقالت: يا جُرَيج، فقال: يا رب، أمي وصلاتي! فأقبل على صلاته فانصرفت، فلما كان من الغد أتته وهو يصلى فقالت: يا جُرَيج، فقال: أي رب، أمي وصلاتي! فأقبل على صلاته فقالت: اللهم إن هذا جُرَيج وهو ابني، وإني كلمته فأبى أن يكلّمني، اللهم لا تمته حتى ينظر إلى وجوه المُومِسَات))، قال: ((ولو دعت عليه أن يُفتَن لفُتِن)).
تأمّلوا رحمكم الله؛ جُرَيج رجل عابد تقي، دعته أمه ولم يكن في لهو بل كان في صلاة وعبادة، فلم يجبها حتى غضبت عليه ودعت عليه بهذه الدعوة: أن يرى وجوه المُومِسَات أي: الزَّوَانِي، فجاءه البلاء حينئذ.
حسده بنو إسرائيل وكادوا به ليصرفوه عما هو عليه، ولولا أن ثبته الله لضل، يقول النبي : ((فتذاكر بنو إسرائيل جُرَيجًا وعبادته، وكانت امرأة بغي يُتَمَثَّل بحسنها فقالت: إن شئتم لأفتننّه لكم))، قال: ((فتعرضت له فلم يلتفت إليها))، وهذا من البلاء العظيم أيها الناس، امرأة ذات جمال تتعرض لشاب في خلوة ثم لا يبالي بها، ماذا صنعت هذه المرأة بنفسها؟ يقول : ((فأتت راعيًا كان يأوي إلى صَوْمَعته فأَمْكَنَته من نفسها، فوقع عليها فحملت، فلما ولدت قالت: هو من جُرَيج، فأتوه فاستنزلوه وهدموا صومعته، وجعلوا يضربونه)). استجاب الله دعوة أمه، ونزلت عليه العقوبة وهو من أولياء الله الصالحين العابدين، هُدِمَت صومَعَتُه، وأُخرِج منها، وسبّوه، قالوا له: أنت مُراءٍ، أنت كذّاب مخادع، تدّعي التعبّد وأنت زانٍ كذّاب، كل ذلك وهو لا يدري ما الذي يقولون، هُدِم بيتُه، واتُّهِم في عِرْضه بدعوة واحدة.
ولكن الله تعالى رحيم بعباده، فقد جعل لهذا العبد الصالح مخرجًا من هذا البلاء، يقول النبي : ((فقال: ما شأنكم؟! قالوا: زنيت بهذه البغي فولدت منك، فقال: أين الصبي؟ فجاؤوا به، فقال: دعوني حتى أصلي، فصلى، فلما انصرف أتى الصبيَّ فطعن في بطنه، وقال: يا غلام، من أبوك؟ قال: فلان الراعي، قال: فأقبلوا على جُرَيج يُقبّلونه ويتمسّحون به، وقالوا: نبني لك صَوْمَعتك من ذهب، قال: لا، أعيدوها من طين كما كانت، ففعلوا)).
والوالد كلمة جامعة تعني مَن وَلَدك، فتشمل الآباء والأمهات، وهذا الحديث فيه ترغيب وترهيب، ترغيب في بر الوالدين حتى يتقي العبد دعوة والديه عليه، فدعاؤهما أو أحدهما عليه يُوبِقُ دنياه وأخراه، وترهيب من دعوة الأب أو الأم على الأبناء أو البنات، وقد قُرِنت في هذا الحديث بدعوة المظلوم التي استقر عند الناس الوَجَلُ منها والخوف، فكيف إذا كان المظلوم هو الأب أو الأم والظالم لهما هو ابنهما لكونه قصَّرَ في حقهما ولم يستجب لأمر الله تعالى في التلطّف معهما ومراعاة حقوقهما؟!
قال الله تعالى: وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا. لقد قرن الله تعالى حق الوالدين بحقه سبحانه وتعالى، وهذا تأكيد منه على التزام أمرهما والإحسان إليهما، وقد أكده الله تعالى في آية أخرى: وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ.
فاتقوا الله تعالى ـ أيها المؤمنون ـ في آبائكم وأمهاتكم، واتقوا دعواتهم عليكم ببرهم والإحسان إليهم.
وأنتم أيها الآباء والأمهات، ارفقوا بأولادكم، واصبروا عليهم، ولا تدعوا عليهم، فقد قال النبي : ((لا تدعوا على أنفسكم، ولا تدعوا على أولادكم، ولا تدعوا على أموالكم، لا توافقوا من الله ساعة يُسأل فيها عطاء فيستجيب لكم))، وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((ثلاث دعوات مُسْتَجابات لا شك فيهن: دعوة الوالد على ولده، ودعوة المظلوم، ودعوة المسافر)).
عباد الله، فلنتق الله في آبائنا وأمهاتنا، ولنطع الله فيهما كما أمرنا الله ورسوله .
ألا وصلوا ـ عباد الله ـ على رسول الهدى فقد أمركم الله بذلك في كتابه فقال: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىّ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا، وقال : ((من صلى عليَّ مرة صلى الله عليه بها عشرًا)).
اللهم صل وسلم وبارك وأنعم على خير خلقك وأفضل رسلك سيدنا ونبينا محمد، اللهم ارض عن الخلفاء الراشدين الأئمة المهديين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن بقية أصحاب نبيك أجمعين، وزوجاته أمهات المؤمنين, اللهم ارض عنا معهم بمنك وكرمك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداءك أعداء الدين، اللهم انصر المسلمين في كل مكان يذكر فيه اسمك...
ـــــــــــــــــــ(68/182)
اللباس والزينة (1)
...
...
5136
...
الأسرة والمجتمع, فقه
...
...
اللباس والزينة, قضايا المجتمع
...
ناصر بن عمر العمر
...
...
المدينة المنورة
...
7/7/1426
...
...
جامع جابر الأحمدي
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- منة الله تعالى على عباده باللباس. 2- قصة انكشاف العورات. 3- فتنة إبليس في هذا الباب.
الخطبة الأولى
أما بعد: فيقول الحق تبارك وتعالى: يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ.
هذا الخطاب الرباني في الآيتين قد صدّره الله لبني آدم، فهو لعموم البشر ممتنّا عليهم بإنزال اللباس لهم ليواري سوءاتهم، ولقد ذكر الله هذه المنة العظيمة على البشرية بأن هداهم للباس الذي يواري سوءاتهم ويقيهم الحر والبرد، بل وامتن عليهم بإنزال الريش وهو الزينة من اللباس، ثم ذكّرهم سبحانه بأن لباس التقوى خيرٌ من لباس البدن، فكما يحب الإنسان السوي أن يستر عورته عن الناس بل ويحب أن يتزين بالزينة فإن لباس الأخلاق والدين وهو اللباس المعنوي خير وأزكى، والاهتمام بلباس التقوى هو الذي يمنع الإنسان من التكشّفِ والعري وإظهار ما يجب ستره عن أعين الناس.
يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ.
وهنا لنقف على القصة من أولها، فما حكاية الشيطان مع بني آدم واللباس؟ وحديثنا عن اللباس حديث ذو شجون، فلنستمع للقصة من أولها:
لقد خلق الله أبانا آدم وخلق منه زوجه حواء، فلما خلق الله آدم وكان قد سُبِق في الخلق الملائكة وإبليس لعنه الله، فكان أن أمر الله الملائكة وإبليس بالسجود لآدم تكريما وتشريفا لهذا المخلوق الجديد، فسجد الملائكة مذعنين لأمر ربهم من غير تردد ولا تلكُّؤ، وبقي إبليس اللعين لم يسجد وعصى أمر من خلقه وسوّاه فعدله، فخاطبه ربه سبحانه سائلاً له وهو أعلم: مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ، فاستمع إلى تلك الإجابة: قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [الأعراف: 12].
هنا الزلل، وهنا الخطر، وهنا الانجراف للهاوية، حين يُعمَل العقل في غير موضعه، وحين ينازع عقل المخلوق أمر خالقه، فلا إله إلا الله العزيز الحكيم. هنا خطورة أن يعمل الإنسان عقله في غير الموضع الذي أمر بإعماله فيه، حينما يعرض أوامر الله وتشريع الله على عقله، فإن وافقت عقله أجازها وقال: هي خير، وإن لم يفهمها ولم توافق عقله أو هواه رفضها وأتي بما يوافق عقله أو هواه، وحينها يصل هذا الإنسان ويأتي بالكوارث لنفسه وللمجتمع وللبشرية كلها.
لقد جعل إبليس لنفسه رأيًا مع النصّ الإلهي، واعلم ـ أيها المسلم ـ أنه لا اجتهاد مع النص، وحين يوجد النص القاطع يبطل النظر ويبطل الاجتهاد، بل تتعين الطاعة ويتحتم التنفيذ، فالله سبحانه قد جعل إبليس عبرة لمن خالف أمره وتكبر عن طاعته وأصر على معصيته، كما جعل ذنب أبي البشر عبرة لمن ارتكب نهيه وعصى أمره ثم تاب وندم ورجع إلى ربه، إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا، وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُّبِينًا.
ولما طرد إبليس من الجنة ووعده الله بإنظاره ليوم يبعثون حكمة وتدبيرا من الله العزيز الحكيم جاء إبليس لآدم وحواء يوسوس لهما بما أعطاه الله من القدرة على هذا الإيحاء وتلك الوسوسة، فقال لهما: ما نهاكما الله عن الأكل من هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا خالدين، وقد كان الله قد أباح لهما من ثمار الجنة حيث شاءا، وحذرهما من شجرةٍ بعينها بعدم الاقتراب منها. وهنا دهاء هذا اللّعين، ليأتي لبني آدم من نقاط ضعفهم، فيتمكن منهم إلا من اعتصم بعصمة الدّين والإيمان الصحيح.
إن آدم وحواء خلقٌ جديد على الجنة، والمخلوق الجديد في مثل هذا المكان يريد ويرغب في التمسك به، فأتاهما الشيطان من هذا المدخل، فقال لهما: ما نهاكما الله عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين، والملائكة هم من سكان الجنة، أو تكونا من الخالدين في هذه الجنة، فكلاَ منها فإن أكلَتم كنتم خالدين في الجنة لا تخرجون منها. وزيادةً في الخداع والإيهام ولبس دور الناصح أقسم لهما بالله إنه لهما من الناصحين، وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ، كما قال تعالى: فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ، وانتبه إلى هذا اللفظ: فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ، فالتدلية هي إرسال الشيء من أعلى إلى أسفل، فكان المعنى أن الشيطان استطاع أن ينزل آدم وزوجه من المكانة العلية إلى مكانة أدنى بسبب المعصية، وهكذا هي الذنوب تذلّ بني آدم وتنقص قدرهم وعلوهم عند الله عز وجل.
فلما ذاقا وطعما مجرد الطعم من هذه الشجرة تساقط ما كان يستر عوراتهم وبدت سوءاتهما، وسميت بالسوءة لأن الإنسان يسوؤه إظهارها وإبرازها لغيره من البشر.
وبدت السوءات وقد كانت مستورة، ولكنه الفعل الشيطاني الذي يريد من بني آدم كشف عوراتهم وسوءاتهم، فيحتال عليهم بشتى الحيل ويدخل عليهم بشتى المداخل؛ لكي ينزع عنهم هذا اللباس الذي يواري سوءاتهم، وكل يوم له حيلة، ومع كل قوم له مدخل وأسباب يقنعها بهم.
كان العرب قبل الإسلام لا يطوفون بالبيت بثيابهم التي يلبسونها، فقد أوحى لهم الشيطان وزين لهم أن لا تطوفوا بالبيت الحرام بثياب قد عصيتم الله فيها، فكان بعضهم يطوف بالبيت عريانا، وربما طافت النساء عرايا وتنشد إحداهن فتقول:
اليوم يبدو كله أو بعضه وما بدا منه فلا أحله
بدعة ابتدعوها ما كتبها الله عليهم، ولكنه إبليس عدو مبين أخذ العهد على أن يغوي بني آدم، ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعه كثير من البشرية في سَلك مسالك العري والسفور وكشف ما لا ينبغي كشفه إلا فريقا من المؤمنين.
لقد جاء في عصرنا وأمرهم بإنشاء دور الرقص، وسمى لهم الرقص فنًا، وأمرهم بإنشاء دور الأزياء، وأمرهم بالعري على الشواطئ، وسماها لهم حرية، وأمرهم بالسفور والتبرج، وسماها لهم فقال للمرأة: هذا إظهار للأنوثة.
قال تعالى: وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ. هذه هي الفطرة الإنسانية السوية، وهذه هي فطرة الله التي فطر الناس عليها؛ أنهم لا يرضون بأن تظهر سوءاتهم وعوراتهم أمام الناس، فأخذ آدم وحواء يسارعان إلى ورق الجنة يلصقانه على ما بدا من عورتيهما، هذه هي الفطرة النقية، واليوم كل من خالف هذا المفهوم ورضي بشيء من انكشاف العورات ما قلّ منه أو كثر كان هذا انتكاسا للفطرة السليمة، وانقلابا إلى شيء من البهيمية الحيوانية، حتى يغدو البعض والأنعام خير منهم وأرقى.
وعاتبهما الله سبحانه على العصيان بقوله: أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ. جاء في بعض الآثار التي ساقها ابن كثير في تفسيره أن آدم قال: ((بلى، ولكن وعزّتك ما حسبت أحدا يحلف بك كاذبا))، قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ، فتاب الله عليهما، ولكن شؤم المعصية وأثرها أخرجهما من جنة الخلد وملك لا يبلى إلى الأرض وصراع سرمدي مع عدو لا يستكين، أُنزِلا إلى الأرض بما فيها من نصب ووصب وهمّ وغمّ وضحك وبكاء وحياة وموت، ولله في ذلك الحكمةُ البالغة، الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً.
الخطبة الثانية
كانت هذه الكلمات في الخطبة الأولى مقدمة وتوطئة للحديث عن موضوع مهم في حياتنا اليومية، ويتعلق بأدبنا ويتعلق بعوراتنا ويتعلق بمظهرنا، ذلك هو موضوع اللباس والزينة، وإنما كانت هذه الكلمات لبيان أهمية الموضوع ومكانته من الدين والأدب والفطرة والنعمة التي امتنها الله على عباده، ما هدي رسولكم في اللباس؟ ماذا لبس؟ وماذا نهى عنه؟ ما حدود الزينة وبعض سنن الفطرة؟ ما اللباس الذي يرتضيه الله لنا معاشر الرجال وأيضا النساء؟ ما عورة الرجل؟ وما عورة المرأة أمام النساء؟ وما علاقة الكفار بلباسنا؟ ما الهدي النبوي في الشعر الذي أنبته الله في الإنسان؟ ما أقوال فقهاء المسلمين في وجه المرأة؟ كل هذه المواضيع المهمة هي محور الخطب القادمة بعون الله وتوفيقه.
ثم صلوا وسلموا على خير البرية...
ـــــــــــــــــــ(68/183)
اللباس والزينة (2)
...
...
5137
...
الأسرة والمجتمع, الإيمان, فقه
...
...
اللباس والزينة, الولاء والبراء, قضايا المجتمع
...
ناصر بن عمر العمر
...
...
المدينة المنورة
...
14/7/1426
...
...
جامع جابر الأحمدي
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- منزلة اللباس في الإسلام. 2- هدي النبي في اللباس. 3- فضل البياض في اللباس. 4- استحباب التيامن في اللباس. 5- آداب وأدعية نبوية متعلقة باللباس. 6- النهي عن اللباس الأحمر الخالص. 7- التحذير من التشبه بالكفار.
الخطبة الأولى
أما بعد: فلقد ابتدأنا الحديث في الجمعة الماضية حول موضوع اللباس والزينة، وكان الحديث مقدمةً لهذه الخطبة وما بعدها حول نعمة اللباس، ومراد الشيطان من آدم وذريته التعري والسفور وكشف العورات بعدما أغوى الشيطان آدم بالأكل من الشجرة، فبدت السوءات وانكشفت العورات.
عباد الله، اللباس في الإسلام له مكانة وشأن، وهو نعمة أنعمها الله على البشرية، فعلمهم صناعة وحياكة وغزل اللباس، تلك آية من آيات الله لعلنا نتفكر ونتدبر فنشكر نعمة الله.
إذا المرء لم يلبس ثيابا من التقى تقلب عريانا وإن كان كاسيا
وخير لباس الْمرء طاعة ربه ولا خير فيمن كان لله عاصيا
كان من هدي الرسول عدم التكلّف في اللباس، فيلبس ما تيسر له، فلبس العمامة والقميص وكان أحب الثياب إليه، ولبس الإزار والرداء والجبة وغيرها، ولبس الأسود والأخضر والأحمر غير الخالص، وكان يحب البياض، وحث أمته على لبس البياض، وقال: ((إنها أطهر وأطيب))، وقال: ((كفنوا فيها موتاكم)).
والأبيض فيه طهارة ونظافة؛ لأن الأوساخ تظهر سريعا عليه، فيسارع المسلم إلى غسله، أما غيره من الألوان الداكنة فتتراكم عليها الأوساخ من غير أن يظهر فحشها، فكانت غير مناسبة، ومن جهة أخرى فإن البياض ترتاح له النفوس ويبعث على البهجة.
وكان يحب التيامن في اللباس كما روت عائشة رضي الله عنها عنه أنه كان يحب التيامن في شأنه كله. قال النووي رحمه الله: "وهذه قاعدة مستمرّة في الشرع، وهي أن ما كان من باب التكريم والتشريف كلبس الثوب والسراويل والخفّ ودخول المسجد والسّواك والاكتحال وتقليم الأظافر وقص الشارب وترجيل الشعر ونتف الإبط وحلق الرأس والسلام من الصلاة وغسل أعضاء الطهارة والخروج من الخلاء والأكل والشرب والمصافحة واستلام الحجر الأسود وغير ذلك مما يستحب التيامن فيه، وأما ضده كدخول الخلاء والخروج من المسجد والامتخاط والاستنجاء وخلع الثوب والسراويل والنعال وما أشبه وذلك فيستحب التياسر فيه؛ وذلك كله بكرامة اليمين وشرفها.
والسنة في النعال أن يبدأ لبسها باليمين، وأن يكون خلعها ابتداء بالشمال، كما وردت السنة أيضا بأن لا يمشي المسلم في نعل واحدة، أي: لا يلبس نعلا في رجل والأخرى حافية، فقال عليه الصلاة والسلام: ((لينعلها جميعا، أو ليخلعها جميعا))، وقال أيضا: ((إذا انقطع شِسع أحدكم فلا يمشي في الأخرى حتى يصلحها))، وجاء أيضا عن النبي : ((إن الشيطان يمشي في النعل الواحدة)).
كما جاءت السنة أيضا بالاحتفاء أحيانا، وهو المشي حافيا، كما أورده أبو داود في سننه من حديث بريده
عن رجل من أصحاب النبي قال: كان النبي يأمرنا أن نحتفي أحيانا.
وكان النبي إذا لبس ثوبا ذكر الله وحمده وأثنى عليه فقال: ((اللهم إني أسالك من خيرة وخير ما هو له، وأعوذ بك من شره وشر ما هو له))، وكان يقول إذا استجدّ له ثوب أو ملابس جديدة: ((اللهم لك الحمد أنت كسوتَنيه، أسألك من خيره وخير ما صنع له، وأعوذ بك من شره وشر ما صنع له)).
فحافظ ـ يا رعاك الله ـ على هذا الأدب النبوي وتلك السنة المحمدية الرفيعة في لباسك كل يوم، ففيها البركة التي تحل والخير العظيم وغفران الذنوب، قال : ((ومن لبس ثوبا فقال: الحمد لله الذي كساني هذا الثوب ورزقنيه من غير حول مني ولا قوة غفر له ما تقدم من ذنبه)). فهي كلمات عظيمه، فيها الاعتراف بهذه النعمة المسداة والتبرؤ من الحول والقوة إلا به سبحانه.
ويستحب أن يقول لمن لبس جديدا: ((البس جديدا، وعش حميدا، ومت شهيدا))، قالها النبي لما رأى على عمر رضي الله عنه ثوبا جديدا.
وفي البخاري روت أم خالد بنت خالد بن سعيد عن موقف لها وهي صغيرة في السنّ مع النبي ، قالت: أتي النبي بثياب فيها خميصة سوداء صغيرة فقال: ((من ترون أن نكسو هذه؟)) فسكت القوم، فقال: ((ائتوني بأم خالد))، وهي يومئذ طفلة صغيرة، فأتي بها تُحمل، فأخذ الخميصة بيده وقال: ((أبلي وأخلقي))، وكان فيها علم أخضر أو أصفر فقال: ((يا أم خالد، هذا سناه)). وسناه كلمة حبشية معناها: حسن. ففي حديث أم خالد دعاء لمن لبس جديدا بطول الحياة. وفي الحديث من الفوائد عنايته بالأطفال وحسن ملاطفتهم ونداءٌ لهم بالكنية مما يشعرهم بأهميتهم.
أيها المسلمون، لقد نهى نبيكم عن أنواع من اللباس بعينها، فاعرفوها لتجتنبوها، فالخير كل الخير في اجتناب ما نهاكم عنه نبيكم .
لقد نهى النبي أن يلبس الرجال الأحمر الخالص من الألوان، فعن عبد الله بن عمر بن العاص رضي الله عنهما قال: رأى رسول الله عليَّ ثوبين معصفرين فقال: ((إن هذه ثياب للكفار فلا تلبسها))، وغيره من الأحاديث التي نهت عن لبس الأحمر، ولكن يجب أن يعلم أن النهي إنما ورد عن لبس الأحمر الخالص الذي لا يخالطه لون آخر؛ لأنه ثبت عن النبي أنه لبس حلة حمراء من برود اليمن، قال ابن القيم في زاد المعاد: "وغلط من ظن أنها كانت حمراء بحتا لا يخالطها غيره، وإنما الحلة الحمراء: بردان يمانيان منسوجان بخطوط حمر مع الأسود، وإلا فالأحمر البحت منهيٌ عنه أشد النهي" انتهى كلامه.
والأولى للمسلم ترك هذا اللون من اللباس إن كان خالصا، ومن ذلك ما يفعله بعض الشباب هداهم الله من لبس بعض الملابس الحمراء في يوم أو أيام معيّنة من السنة، ويرمزون بذلك إلى عيد أو يوم يسمونه بالحب، قد أخذوا ذلك من الكفار الذين نهينا أشدَّ النهي عن مشابهتهم، إلى ما في لبس اللون الأحمر الخالص من محذور في الشريعة.
وهذا الحديث يقودنا للكلام عن النهي عن كل لباس من لباس الكفار؛ لأن على المسلم أن تكون له شخصية تميِّزه يعرف بها المسلم من غيره، شخصية في مظهرة ولباسه وكلامه وباطنه، تلك الشخصية التي تعكس ما رباه عليه الإسلام من القيم والتعاليم. أما الانزلاق وراء الكفار والتشبه بهم فهو باب خطير؛ ذلك أن فيه مخالفة صريحة للهدي النبوي في الحرص على مخالفة الكفار والتشبه بهم، بل كان الحرص النبوي على تكوين شخصية جديدة للمسلم يتميز بها ويعرف بها، يعرف بها من كلامه إذا تكلم، ومن إقدامه على أمرٍ أو إحجامه عن آمر، يعرف بشخصيته هذه من ملابسه وهيئته التي يظهر عليها، فعلى المسلمين عموما وعلى الشباب خصوصا الحذر من مسألة التشبه لأنها خطيرة على الدين كما قال : ((من تشبه بقوم فهو منهم))، وكما قال شيخ الإسلام رحمه الله: "إن التشبه بالكفار بالظاهر يورث مشابهتهم بالباطن".
ونحن في تربيتنا ننهى الأولاد من إتيان شيء من أمور النساء حفاظا على تربيتهم على الرجولة، ومشابهة الكفار في خصائصهم يورث بدون شعور الميل إليهم وحب ما عندهم من الشر والرغبة عما عند المسلمين من خير، ولهذا أورد لنا هذا التشبّه أمورًا عظيمه دخلت على المسلمين نتيجة التساهل العظيم في أمر التشبه، والحجة في ذلك: لا نقصد التشبه! وليست العبرة بالنية وإنما العبرة بالعمل! فإذا نظرت إلى حال كثير من المسلمين اليوم فلا تعرف من هيئته أنه مسلم إلا إذا تحدث العربية، فحلق اللحى ما كان معروفا عند المسلمين ولا عند العرب كما سوف يأتي عن الحديث عن اللحية وحكمها، ولبس البناطيل التي تصف العورات وتحدّها لم يعرفها المسلمين إلا بعد أن ضرب الاستعمار أطنابه في بلاد المسلمين وأورث لهم بعض العادات القبيحة، واليوم وقد أصبح العالم كأنهم في قرية واحدة نتيجة التقدم في الاتصالات، فتجد الشاب الذي له شخصيه مهزوزة سرعان ما يتأثر من قصة رآها أو لبس رآه على شاشات التلفاز أو من بعض أصدقائه.
كم كان ينادي المصلحون ويعلِّم العلماء الناس أن السنة جاءت بحفّ الشارب وأن السنّة جاءت بتقصير الثياب وعدم إسبالها، فكنت لا تجد من يستجيب لهذه السنة إلا من وفّقهم الله لطاعته، ولكن الكثيرين وخاصة الشباب اليوم نرى بعضهم وقد خفف شاربه، فإن قلت له: مرحبا بك في عالم السنة قال بلسان حاله: لا إنما هي الموضة أما السنة فأنا عنها زاهد، وترى من يلبس بعض السراويل أو البناطيل القصيرة أو ما يسمّى "البرمودا" ويمشي بها في الشارع والمحلات والحدائق، وعنده الجرأة في تحدي لباس مجتمعه الذي درجوا عليه، ولكن تلك الجرأة تختفي من قاموسه إذا قيل له: قصِّر ثوبك ولو إلى حد الكعب على الأقل أن تنجو بنفسك من عذاب الله، قال: كلا وحاشا حتى لا يكون من المحسوبين على المتديّنين. فهؤلاء الناس وقد أغواهم شيطانهم وزين لهم رغبوا عن السنة النبوية وتتبعوا سنن اليهود والنصارى، كرهوا ما جاءت به السنة، وأحبوا ما جاءت به الموضة وآخر صيحات دور الأزياء، ووالله إن خرجت علينا الموضة غدًا بإرخاء اللحى لوجدت من هؤلاء من يسارع إلى إطالة لحيته، قال : ((لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرًا بشبر وذراعًا بذراع))، وهذا يفيد بأن على المسلم الحذر لئلا يقع في التشبه، وليكن المسلم من الطائفة المنصورة التي أخبر بها النبي بأنهم على الحق لا يضرهم من خالفهم حتى تقوم الساعة.
فأهل السنة هم على السنة المحمدية، لا يبغون عنها حولا، فلا يتشبهون بأحد، لا في كلامهم، ولا في أشكالهم، ولا هيأتهم، ولا في لباسهم، ولا في عقائدهم، قد رضوا بسنه محمد وأحبوها من قلوبهم، وكرهوا الكفار وأهله وما جاء من قبلهم، قال تعالى: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا، وقال تعالى: قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ، وقال تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِن رَّبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُم، وقال تعالى: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ، وقال تعالى: ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ. ولقد أخبرنا نبي الأمة في حديث حذيفة المشهور عن الخير والشر، وفية قال حذيفة : وهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: ((نعم وفيه دخن))، قال: قلت: وما دخنه؟ قال: ((قوم يستنون بغير سنتي، ويهدون بغير هديي، تعرف منهم وتنكر)).
فاحرص ـ أيها المسلم ـ على تتبع سنة نبيك؛ فإن فيها الخير العظيم، وإن في الإعراض عنها شرًّا وبلاء، وأحق الناس بالنبي الذين اتبعوا سنته فأحبوا ما أحب وكرهوا ما كره، ولا تلتفتوا ـ عباد الله ـ لوسوسة الشيطان في نفوسكم بتبغيض السنة في نفوسكم وتقبيحها، واستقيموا على السنة، واعتزوا بالسنة، وارفعوا رؤوسكم أنكم على السنة، وموتوا على السنة؛ تكونوا جيرانا في الجنة لصاحب هذه السنة.
عباد الله، أقول قولي هذا...
ـــــــــــــــــــ(68/184)
اللباس والزينة (3)
...
...
5138
...
الأسرة والمجتمع, الإيمان, فقه
...
...
اللباس والزينة, الولاء والبراء, قضايا المجتمع
...
ناصر بن عمر العمر
...
...
المدينة المنورة
...
21/7/1426
...
...
جامع جابر الأحمدي
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- ذم التشبه بالكفار بقصد أو بغير قصد. 2- حرص النبي على تميز المجتمع الإسلامي. 3- من مفاسد التشبه بالكافرين. 4- نصوص نبوية في مخالفة الكفار وأهل الكتاب. 5- آثار الصحابة في مخالفة المشركين. 6- ظاهرة انتشار بعض الألبسة الغريبة بين الفتيان والفتيات. 7- النهي من تشبه الرجال بالنساء والنساء بالرجال.
الخطبة الأولى
أما بعد: فما زال الحديث حول اللباس والزينة، وكان الكلام في الجمعة الماضية حول التشبه بالكافرين في اللباس، وإتمامًا للكلام عن هذا الموضوع المهم لأننا نرى في الشباب من الجنسين اليوم ولعًا بالتشبه بالكفار والفاسقين في لباسهم وهيئاتهم مع أننا قد نهينا أشد النهي عن ذلك، حتى ولو قال قائل: إنني لم أقصد التشبه بهم، فيقال: إن التشبه مذموم بكل حال، فإن قصد التشبه بهم فهو على خطر عظيم في دينه، وإن لم يقصد فقد وقع في النهي عن التشبه بهم الذي امتلأ به القرآن والسنة وأقوال الصحابة الكرام. يقول عليه الصلاة والسلام فيما رواه عنه أبو هريرة رضي الله عنه: ((لتأخذن كما أخذت الأمم من قبلكم ذراعًا بذراع وشبرًا بشبر وباعًا بباع، حتى لو أن أحدا من أولئك دخل جحر ضب لدخلتموه))، قال أبو هريرة: اقرؤوا إن شئتم: كَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ كَانُواْ أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً، قالوا: يا رسول الله، كما ضعت فارس والروم وأهل الكتاب؟! قال: ((فهل الناس إلا هم؟!)).
ألا ترى حرص النبي على مخالفة غير المسلمين من اليهود والنصارى وعامة المشركين حاثًا أمته على ذلك، وهذه المخالفة التي أُمرنا بها قد تكون لمجرد المخالفة، وقد تكون للمخالفة مع ما فيها من عاقبه غير حميدة، ومقصود الشارع في ذلك أن يجعل من الأمة المسلمة أمةً لها كيانها وشخصيتها، ولئن جرت نواميس الكون على أن الضعيف دائمًا ما يتأثر بالقوى فإن ذلك لا ينطبق على المسلمين الذين ينطلقون من تشريع سماوي رباني، وأما غيرهم فلا يحكمهم إلا المصالح والأهواء والتعلق بتراب الدنيا.
إننا لا نقول: لا نأخذ من المشركين كل شيء، بل نستفيد من علومهم وما يفيد، أما أن نقلدهم في معتقداتهم وعاداتهم فالتشبه بهم في عقائدهم وعباداتهم هو إظهار لأديانهم الباطلة الفاسدة ونشر لها، فتقاليدهم في لبس الدبلة مثلاً ولو كان جميلاً هو نشر لمذهبهم الباطل الذي ينصّ على أن الرجل يلبس المرأة الدبلة في يدها اليسرى على رأس الإبهام ويقول: باسم الأب، ثم ينقله من الإبهام إلى السبابة ويقول: باسم الابن، ثم يضعه على رأس الوسطى ويقول: باسم الروح القدس، وعندما يقول: آمين يضعه أخيرًا في البنصر حيث يستقرّ، ويعتقد النصارى أن هناك عرقا في البنصر يرتبط بالقلب مباشرة.
وكما أن التشبه بالكفار والفاسقين في اللباس والهيئات والمظهر والخلق والعادات هو إهانة للأمة المسلمة وشعورٌ بالضعف من المتشبِّه والتبعية والدونية. عن أبي أمامه رضي الله عنه قال: خرج رسول الله على مشيخة من الأنصار بيض لحاهم فقال: ((يا معشر الأنصار، حمّروا وصفّروا وخالفوا أهل الكتاب))، قال: فقلنا: يا رسول الله، إن أهل الكتاب يتسرولون ولا يأتزرون، فقال رسول الله : ((تسروَلوا وائتزروا وخالفوا أهل الكتاب))، قال: فقلنا: يا رسول الله، إن أهل الكتاب يتخفَّفون ولا ينتعلون، فقال النبي : ((فتخففوا وانتعلوا وخالفوا أهل الكتاب))، فقلنا: يا رسول، إن أهل الكتاب يقصّون عثانينهم ويوفرون سبالهم، قال: فقال: ((قصروا سبالكم ووفروا عثانينكم وخالفوا أهل الكتاب)). ففي هذا الحديث الأمر بخضاب الشعر الأبيض مخالفه لأهل الكتاب، ولبس الإزار مخالفة لأهل الكتاب، وقص الشوارب وتوفير اللحى مخالفة لأهل الكتاب.
وجاءت السنة في مخالفة اليهود في الصلاة في النعال والخفاف؛ فإنهم لا يصلون فيها. وجاء الأمر بأكلة السحور مخالفة لأهل الكتاب في أنهم لا يتسحرون. وكذلك الحال في تعجيل الفطور في رمضان فإن اليهود والنصارى يؤخرون الفطور. وجاء الأمر بمخاطلة النساء ومعاشرتهم في حال حيضهن دون الجماع مخالفة لليهود الذين لا يؤاكلون المرأة ولا يجامعونها في حال حيضها. وفي الصيام لما علم النبي بأن اليهود تصوم يوم عاشوراء أمر بصوم يوم قبله أو بعده إمعانًا في مخالفتهم. ونهى عن الوصال في الصوم وأخبر أنه فعل النصارى. وفي باب الصلاة نهى النبي عن التخصّر في الصلاة، وهو أن يجعل المصلي يده في خاصرته؛ لأن اليهود تفعله. وأمر المأمونين أن يصلوا قعودا إذا صلى إمامهم قاعدًا لمرض ونحوه وقال في هذا: ((لا تفعلوا فعل فارس والروم)). وفي باب دفن الموتى أمر النبي باللحد في عمل القبور وقال: ((اللحد لنا، والشق لغيرنا))، وفي رواية: ((والشق لأهل الكتاب)). وجاء في الترمذي وأبي داود وصححه الألباني حديث عن عبادة بن الصامت قال: كان رسول الله إذا اتبع جنازة لم يقعد حتى توضع في اللحد، فتعرض له حبر فقال: هكذا نصنع يا محمد، قال: فجلس رسول الله وقال: ((خالفوهم)). وقال عليه الصلاة والسلام: ((ليس منا من تشبه بغيرنا، لا تتشبهوا باليهود ولا بالنصارى؛ فإن تسليم اليهود الإشارة بالأصابع، وتسليم النصارى الإشارة بالكف)).
ويروى عن النبي قوله: ((فرق ما بننا وبين المشركين العمائم على القلانس))، قال شيخ الإسلام ابن تيمية في التعليق على هذا الحديث: "وهذا بين في أن مفارقة المسلم والمشرك في اللباس أمر مطلوب للشارع". وأمر النساء بعدم وصل الشعر وما يسمى بالباروكة، ففي الصحيح أن معاوية صعد المنبر وتناول قصّة من شعر كانت في يد حرسي فقال: يا أهل المدينة، أين علماؤكم؟! سمعت رسول الله ينهى عن مثل هذه ويقول: ((إنما هلكت بنو إسرائيل حين اتخذها نساؤهم))، وفي رواية عن معاوية: ((إنكم أحدثتم زيّ سوء)).
وفي باب الحج كان المشركون ينفرون من مزدلفة بعد شروق الشمس، فخالفهم النبي . ولما قدم المدينة وجد للناس يومان يلعبون فيهما فقال: ((ما هذان اليومان؟)) قالوا: كنا نلعب فيهما في الجاهلية، فقال رسول الله : ((إن الله قد أبدلكما بهما خيرًا منهما: يوم الأضحى ويوم الفطر)).
وفي باب الأذان كان النبي مهتمًا كيف ينادي للصلاة وينبه الناس لدخول الوقت، فذُكر له البوق فقال: ((هو من أمر اليهود))، وذكر له الناقوس فقال: ((هو من أمر النصارى)).
وفي باب العادات فإن النبي مر بأحد أصحابه وهو جالس قد وضع يده اليسرى خلف ظهره متكِئا على إلية يده، فقال عليه الصلاة والسلام منكرًا عليه: ((أتقعد قعدة المغضوب عليهم؟!)). فالنبي نهى عن مجرد جلسة، وظاهر في أن الصحابي لم يكن يعلم ولم يكن يقصد أن يتشبّه باليهود، فكيف بمن يكون مقصده ونيته هو التشبه بكافر من الكفار في لباسه وشعره وهيئته؟!
ومما جاء من الآثار عن صحابة رسول الله ـ وهم أعرف الناس بما دلّ عليه القرآن والسنة ـ أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أمر قوّاده في المدن التي يفتحها ويسيطر عليها المسلمون أن لا يُلبَس الكفار لباس المسلمين، فلا يلبسون العمامة ولا القلانس ولا النعال، ولا يفرقون شعورهم كالمسلمين، ولا يتكلمون بكلام المسلمين، ولا يتكنون بكناهم. كل ذلك حتى يتميز أهل الإسلام عن أهل الكفر، وكتب عمر إلى قائد جنده في أذربيجان قائلاً: (إياكم والتنعُّمَ وزِيَّ أهل الشرك ولَبوس الحرير). وعندما فتح الله على المسلمين بيت المقدس ودخلها خليفة المسلمين عمر بن الخطاب وأحب أن يصلي استشار كعبًا في المكان الذي يصلي فيه، فأشار عليه أن يصلي خلف الصخرة حتى تكون القدس كلها بين يديه، فقال عمر لكعب: (لقد ضاهيت اليهود، لا ولكن أصلي حيث صلى الرسول ).
وورد عن عمرو بن العاص رضي الله عنه أنه قال: (من بنى ببلاد الأعاجم وصنع نيروزهم ومهرجانهم وتشبه بهم حتى يموت وهو كذلك حشر معهم يوم القيامة).
ولقد أجمع علماء الإسلام على وجوب مخالفة المشركين سواء كان ذلك من باب العقائد أو العبادات أو العادات.
تلكم كانت بعض الأدلة الشرعية مما جاء في كتاب الله وسنة رسوله وفعل أصحابه، وما تركناه أكثر مما أوردناه، حتى قال اليهود: ما يريد هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيئا إلا خالفنا فيه! ولكن يكفي هذا للدلالة على عظيم الأمر وخطورة باب التشبه؛ لأن من شابه قومًا كان هناك نوع ارتباط ومودة بينهم، فالذي يلبس لباس العلماء يكون هناك نوع ارتباط وحب بينهم، والذي يلبس لباس الجنود يكون هناك نوع ارتباط وحب بينهم، والذي يلبس لباس الكفار يكون هناك نوع ارتباط وحب بينهم.
والمسلم يقرأ كل يوم في صلاته: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة: 6، 7]. فالطريق المستقيم هو طريق واحد لا يوجد غيره، وهو طريق الأنبياء والشهداء والصديقين والصالحين، وحسن أولئك رفيقًا. وأما طرق المغضوب عليهم وهم اليهود والضالين وهم النصارى فهي طرق كثيرة متشعبة، وكلها لا توصل إلا إلى نار جهنم، فمن أراد سبيل النجاة فليستمسك بكتاب الله وسنة رسوله ومصطفاه وسلف هذه الأمة.
لقد انتشرت في صفوف الشباب والفتيات أصناف من اللباس لم يعهدها المسلمون من قبل، ألبسة ليس لها قانون أو مفهوم حتى في الجمال، يجمعها الغرابة، فتجد بنطلونات الجينز الضيقة جدًا أو الواسعة جدًا، تجد فيها ما يلبس بالمقلوب، وتجد منها البنطلونات المشرشرة، وكأن لها سنين طوالا، تجد منها ما تراه ممسوحًا وكأنه قد غسل مئات المرات، تلبس لأنها هكذا لبسها الغرب، تجد الألوان الغريبة الفاقعة والفسفورية، تجد ألبسة تبرز الصدر والعضلات، فتجد الواحد يذهب لأندية اللياقة ويلعب الحديد حتى تبرز له عضلات، ليس للصحة أو للجهاد وإنما والعياذ بالله للفت الأنظار وفتنة الفتيات. تجد الملابس التي عليها صور ورسومات ذوات الأرواح، ولا يعنيهم أن الملائكة لا تمشي معهم ولا تدخل مكانا فيه صور، وفرق كبير في حمل صورة في بطاقة شخصية تكون في محفظة مستترة في ستار خلف ستار، وبين صورة توضع على الصدور أو الظهور وتكون بارزة.
جاء عن النسائي وغيرة بسند جيد أن النبي كان على موعد مع جبرائيل عليه السلام، فلما أتى جبرائيل امتنع من دخول البيت، فسأله النبي فقال: إن في البيت تمثالاً وسترًا فيه تصاوير وكلبًا، فمُر برأس التمثال أن يقطع، وبالستر أن يأخذ منه وسادتان منتبذتان توطآن، ومُر بالكلب أن يخرج، ففعل ذلك النبي ، فدخل جبرائيل عليه السلام.
وجرت الفتوى لعلماء هذا البلد من أمثال الشيخ ابن عثيمين وابن جبرين وغيرهم على تحريم بعض الألبسة مثل البنطلون، وخاصة للنساء؛ لما يشتمل عليه من التشبه ويحجّم من العورات، وكذلك الألبسة التي لا تستر العورات. والحديث عن الألبسة التي لا تستر العورات يستلزم معرفة حدود عورة الرجل وعورة المرأة، سواء في الصلاة أو في النظر، وما يباح كشفه وما ينهى عن كشفه.
أقول قولي هذا...
الخطبة الثانية
ومن التشبه المذموم في الشريعة الإسلامية أن يتشبه الرجل بالمرأة وأن تتشبه المرأة بالرجل. في الصحيح من حديث ابن عباس رضي الله عنه أن رسول الله لعن المتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال.
أتعلمون ما اللعن ومن اللاعن؟! اللعن هو الدعاء بالطرد والإبعاد عن رحمة الله، واللاعن هو الرسول ، فالتشبه كبيرة من كبائر الذنوب والعياذ بالله التي تستوجب إن لم يتب المسلم منها العقوبة من الله، وأي عقوبة أكبر من أن يدعو الرسول على أحد بأن يطرده الله من رحمته؟!
وللأسف الشديد فإن الملابس الحديثة أو الموضة كما تسمّى تجدها في الأسواق لا تستطيع بسهوله أن تفرّق لباس الرجل من لباس المرأة، تجد ذلك في الفانيلات والقمصان والبناطيل والأحذية.
والنبي لعن المخنثين من الرجال والمترجلات من النساء؛ ولهذا تعجب من شاب قد ذاب رقّةً ونعومهةً، قد تكسّر في مشيه وحلق لحيته وتزين بأزياء غريبة وقصّ شعره على الموضة، فبدا وكأنه ورقة منديل تطير في الهواء، وتجد من الفتيات من ترجّلت فلبست ألبسة مشابهة للرجل، فقلدته في مشيته وقصّت شعرها حتى ربما يخطي الرائي للوهلة الأولى هل هذا رجل أم امرأة.
تجد بعض النساء ـ هداهن الله ـ وكأنها رجل تحب أن تخرج لأسواق الرجال، وترفع صوتها بالبيع والشراء ومجادلة الرجال، خشنةً في التعامل والأخلاق، بل ربما وقفت مع الرجال في صفّ الانتظار من غير حياء ولا خجل. ووجد من الرجال والنساء من يلبس ثياب الآخر لبسًا صريحًا ويتكلم بكلام الآخر كلامًا صريحًا من باب المزاح والتمثيل.
وإنني أعظكم ـ عباد الله ـ من فعل هذا الأمر ومشاهدته والرضا به؛ فإنه فعل من سخط الله ولعنه الله ورسوله، وكيف يطيب للمسلم الذي يرجو الله والدار الآخرة أن تطيب نفسه بالضحك على أمر فيه لعنة الله؟! بل إن الإيمان في القلوب يدعو المسلم المؤمن أن يحزن لما يجري، وأن يغضب لمحارم الله أن تنتهك ويستهزأ بها، وأن يتمعّر وجهه غيضا وغضبًا لله ومحارمه، أما الضحك والرضا بهذه الأمور ولو كانت من قبيل المزاح والتسلية والتمثيل فإن لعنة الله وغضبه لا يمزَح بها ولا يتسلَّى بها، وبعض الممثلين ـ هداهم الله ـ قد اعتادوا على تمثيل دورِ المرأة، فرجل أكرمه الله بالرجولة والفحولة كيف يرضى أن يحلق شاربه ولحيته ويضع الأصباغ على وجهه ويلبس لبس النساء؟! مثل هذا وغيره ما كان ليستمرّ في أداء دوره لو أن الناس أنكروا عليه وأغلقوا التلفاز وراسلوا ونصحوا لله ورسوله، مثل هذا الفعل فيه اللعنة والغضب من الله، فلا ينبغي للمسلم أن يتهاون بالدين وبقول سيد المرسلين.
ثم صلوا وسلموا على خير البرية...
ـــــــــــــــــــ(68/185)
اللباس والزينة (4)
...
...
5139
...
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
...
...
الكبائر والمعاصي, اللباس والزينة, قضايا المجتمع
...
ناصر بن عمر العمر
...
...
المدينة المنورة
...
12/8/1426
...
...
جامع جابر الأحمدي
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- الأصل في اللباس. 2- النهي عن الإسبال في اللباس. 3- تربية النبي لأصحابه الكرام على اجتناب الإسبال. 4- آثار عن السلف الصالح في النهي عن الإسبال. 5- أنواع الإسبال.
الخطبة الأولى
أيها المسلمون، نواصل حديثنا عن اللباس والزينة، ونحن نتحدث عن جملة ما حرمه الشارع الحكيم في اللباس، وإلا فإن الأصل في اللباس هو التمتع به، قال تعالى: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ. هذا هو الأصل في اللباس، ولكن يستثنى من هذا الأصل ما أتى الشارع الحكيم بتحريمه أو كراهته أو هو خلاف الأولى والأفضل، وقد مر معنا باب عظيم في التحريم، وهو باب التشبه في اللباس بلباس غير المسلمين، وسقنا في ذلك الآيات والأحاديث والآثار الدالة على تحريم التشبه، وجماع ذلك كله هو المحافظة على الشخصية الإسلامية في كل شيء؛ في العقائد والعبادات والمعاملات وفي الأخلاق والسلوك والعادات، ومن ضمن ذلك باب اللباس والزينة الذي هو باب واسع وظاهر للأمم في المحافظة على هويتها وأن لا تنسلخ الأمة من جلدها للبس جلد غيرها.
أيها المسلمون، ومما حرمه الإسلام في باب اللباس الإسبال، بل جاءت النصوص بالوعيد الشديد لمن خالف أمر الله ورسوله في هذا الباب، والإسبال هو إرخاء الرجل لباسه ثوبًا كان أو إزارا أو عباءة أو سراويل بحيث يتجاوز الحد الذي حده الشارع الحكيم وهو الكعبان.
يقول : ((من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة))، ويقول عليه الصلاة والسلام: ((ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم))، يقولها ثلاثًا، قال أبو ذر راوي الحديث: خابوا وخسروا، من هم يا رسول الله؟ قال: ((المسبل، والمنان، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب)). وأخبرنا نبينا عن رجل كان يمشي وهو يجر إزاره من الخيلاء، فخسف الله به، فهو يتجلجل بهذا الثوب في الأرض إلى يوم القيامة. نعوذ بالله من سوء العذاب، نستجير بالله من عذابه وسخطه.
فهذه الأحاديث تدل على عظيم وشناعة الإسبال إذا كان هذا الإسبال عن خيلاء وكبر، ذلك لأن الكبر لا يكون للعبد ولا ينبغي له، يقول الله في الحديث القدسي: ((والعظمة إزاري، والكبرياء ردائي، فمن نازعني واحدا منهما ألقيته في النار)). ولهذا كانت شناعة العقوبة يوم القيامة بأن الله لا يكلمه ولا ينظر إليه ولا يزكيه وله بعدها عذاب أليم. إن هذا الوعيد مما تقشعرّ له الأبدان ويقف له شعر الرأس خوفا وفرقًا من هول هذا العذاب.
أيها المسلمون، وإسبال الإزار هو مظنة المخيلة والكبر وسبب فيه، ورفع الثوب من السمع والطاعة للخالق ومن العبد لسيده ومولاه، والإسبال هو صفة المتكبرين ورسول الله يقول: ((لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر))، ويقول : ((ارفع إزارك إلى نصف الساق، فإن أبيت فإلى الكعبين، وإياك وإسبال الإزار، فإنها من المخيلة، وإن الله لا يحب المخيلة)). فهذا القول من النبي يفهم منه أن الإسبال سبب للخيلاء والكبر، وهو لا ينطق عن الهوى.
ولقد أدب النبي أصحابه على هذا ورباهم عليه، فلا تجد أحدًا منهم مسبلاً، يدل على ذلك حرصه عليه الصلاة والسلام في كل مناسبة على إيضاح الأمر للصحابة وتنبيه الجاهل منهم. من ذلك أنه لقي رجلاً مسبلاً اسمه عمرو بن زرارة رضي الله عنه وقد أسبل إزاره لعيب في ساقيه يظنه هو، فقال له النبي : ((يا عمرو بن زرارة، إن الله تعالى أحسن كل شيء خلقه))؛ تعليمًا له حين استحى من ساقيه، ثم قال: ((يا عمرو، إن الله لا يحب المسبل)).
فاتق الله أيها المسلم، أتعلم أن الله لا يحب المسبل ثم تصر بعد هذا على الإسبال؟! فلا تظلم نفسك، واستحي من الله حق الحياء، وارفع إزارك؛ فإن هذا هو ما يحبه الله ورسوله.
ويكرر الرسول هذه العبارة مع صحابي أخر فيقول: ((يا سفيان بن سهل، لا تسبل إزارك؛ فإن الله لا يحب المسبلين)). والحديث التالي يدل على شديد حرص النبي على مسألة الإسبال، فقد أبصر رسول الله رجلاً يجز إزاره فأسرع إليه أو هرول فقال: ((ارفع إزارك، واتق الله)). فعلى أي شيء يدل هذا؟! قال له الرجل: إني أحنف تصطك ركبتاي، فقال: ((ارفع إزارك؛ فإن كل خلق الله عز وجل حسن))، فما رئي بعد ذلك الرجل إلا إزاره أنصاف ساقيه. هؤلاء هم الذين إذا ذُكِّروا تذكّروا، وإذا سمعوا القول اتبعوا أحسنه، وإذا جاءهم الأمر من الله ورسوله قالوا: سمعنا وأطعنا.
يقول عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما: دخلت على النبي وعلي إزار يتقعقع، فقال الرسول الله : ((من هذا؟)) قلت: عبد الله بن عمر، قال: ((إن كنت عبد الله فارفع إزارك))، فرفعت إزاري إلى نصف الساقين، فلم يزل لباس ابن عمر حتى مات. ونحن نعظ المبتلَين بالإسبال اليوم بما وعظ به رسول الله هذا الصحابي الجليل: إذا كنتم عبيدًا لله حقًا وصدقًا فارفعوا ثيابكم.
وذكر عند رسول الله خريم الأسدي فقال عنه: ((نِعم الرجل خريم الأسدي، لولا طول جمّته وإسبال إزاره))، فلما بلغ ذلك خريم قص شعره ورفع إزاره إلى أنصاف ساقيه. ونحن نقول لبعض المسبلين: نِعمَ الرجال أنتم؛ ففيكم الكثير من الصفات الحسنة الطيبة لولا هذه الصفة السيئة.
عباد الله، لما سمعت أم سلمة حديث النبي في الإسبال شق ذلك عليها وعلى معاشر النساء، وأشكل عليها فهم كلامه، فالنساء مأمورات بالستر والمرأة كلها عورة، فقالت: يا رسول الله، كيف يصنع النساء بذيولهن؟ فقال : ((يرخين شبرًا))، فقالت: إذن تنكشف أقدامهن! قال: ((فيرخينه ذراعًا، لا يزدن عليه)).
رحم الله نساء الصحابة ورجال الصحابة، ما أحرصهم على الخير، وما أحرصهم على الفهم، وما أحرصهم على التطبيق العملي لكلام الله ورسوله. فالإسبال من صفات النساء، والرجل من صفته رفع الثوب والإزار فوق كعبيه.
مر فتى من عند عمر بن الخطاب رضي الله عنه قد أسبل إزاره، فدعاه فقال له كلمة قوية، وبعض الناس يحتاج أحيانًا لكلمة قوية تهزه وتنبهه، قال له: أحائض أنت؟ قال: يا أمير المؤمنين، وهل يحيض الرجل؟! قال: فما بالك قد أسبلت إزارك إلى قدميك؟!
لقد أصبحنا نعيش في زمن التناقضات، فهذا الرجل يسبل ثيابه، وهذه المرأة تكشف عن عورتها، فنسأل الله أن يبصر المسلمين بدينهم ويرزقهم تقواه ومخافته.
أيها المسلمون، ويخشى على الذي يسبل ثوبه من عدم قبول صلاته، كيف وقد روي أن النبي رأى رجلاً مسبلاً إزاره فقال له: ((اذهب فتوضأ))، ثم جاء فقال: ((اذهب فتوضأ))، فقال له رجل آخر: يا رسول الله، ما لك أمرته أن يتوضأ؟! قال: ((إنه كان يصلي وهو مسبل إزاره، وإن الله لا يقبل صلاة رجل مسبل)).
فاحذروا ـ أيها المسلمون ـ من الإسبال؛ فإنه وبال على المسلم، فالمسبل يمشي أوقاتًا طويلة وهو مسبل، يظل كل هذه الأوقات وهو في غضب من الله وسخط. يقول ابن مسعود : (المسبل إزاره في الصلاة ليس من الله في حل ولا حرام)، وعن ابن عباس قوله: (لا ينظر الله إلى مسبل)، وعن مجاهد قوله: "من مس إزاره كعبه لم يقبل الله له صلاة"، وعن ذر بن عبد الله رحمه الله قوله: "من جر ثيابه لم تقبل له صلاة".
عباد الله، في مرض موت عمر بن الخطاب لما طعن وجرحه يثعب دمًا جاء الناس يعودونه ويبشرونه بحسن العاقبة ويذكرونه، فكان من جملة من دخل عليه من الناس شاب مسبل دخل وسلم على عمر وبشره بصحبته لرسول الله وجهاده وأن عاقبته خير، فلما قام من عنده فإذا بعمر يرى هذا الشاب وقد أسبل ثوبه فقال له ناصحًا: (يا ابن أخي، ارفع ثوبك؛ فإنه أنقى لثوبك وأتقى لربك). الله أكبر يا عمر، ما أعظمك من رجل، لم يمنعه ما هو فيه من نزول الموت أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر كما علمه نبيه .
أيها المسلمون، أزرة المسلم من أنصاف ساقيه إلى الكعبين، وفي روايات إلى عضلة ساقه، ولكن ينبغي أن يعلم أن الإزار ـ وهو مثل ما يلبس في الإحرام ـ فإنه إذا رفع إلى عضلة الساق وهي فوق نصف الساق بقليل أو إذا رفع الإزار إلى أنصاف الساقين يكون شكله مقبولاً، أما الثياب فإن الأفضل للمسلم أن يرخيها فيجعلها فوق الكعبين ودون أنصاف الساقين، فهذا من حسن الهيئة وأستر للعورة من أن تنكشف، ولما في المبالغة في الرفع من الشهرة بين الناس وهو أمر مذموم؛ ولذا على المسلم أن يلبس لبس قومه ما لم يكن فيه أمر محرّم أو مذموم، ولهذا نجد أن من رفع ثوبه كثيرًا وبالغ في ذلك قد عكس أمرًا في قلوب الناس، وهو أمر لا يطيقونه على الثوب، ولهذا لما شق ذلك على بعض الصحابة أن يرفع الثوب إلى أنصاف الساقين رخص النبي إلى ما تحت النصف وحتى الكعبين، ومن تجاوز الكعبين فقد دخل في الحرام.
أقول قولي هذا...
الخطبة الثانية
فاتقوا الله ـ أيها المسلمون ـ حق تقاته، واعلموا أن الإسبال من كبائر الذنوب، ولعل منكم من يقول: أنا لم أقصد بإسبالي الثوب الكبر والخيلاء، فنحب أن نوضح لكم ـ أيها المسلمون ـ أن الإسبال بالعموم هو من الكبائر المتوعّد عليها بالعذاب، وكل ذنب جاء فيه اللعن أو الوعيد عليه بالعذاب فقد عدّه العلماء من الكبائر، والإسبال قد ورد الوعيد عليه، ولكنه على نوعين: إسبال يكون معه خيلاء وكبر، وهذا الخيلاء والكبر هو من أعمال القلوب، والله عليم بذات الصدور، فهذا النوع جاء فيه الوعيد العظيم الشديد، وهو أشد من النوع الثاني وإن كان بعض العلماء يقول: إن الإسبال لا يكون إلا عن مخيلة وكبر، وإن قال القائل: أنا لم أقصد المخيلة. وعقوبة هذا الإسبال أن الله توعده بأنه لا ينظر إليه يوم القيامة ولا يكلمه ولا يزكيه وله عذاب أليم، فماذا بعد هذا العذاب من عذاب؟! وماذا بعد أن يفقد الإنسان في عرصات القيامة رحمة الله له؟! فالمسبل الذي في قلبه نوع من الكبر والمخيلة ولو قلَّت هو مستحق لهذه العقوبة الشديدة نسأل الله العافية والسلامة.
أما النوع الثاني من الإسبال فهو الإسبال الذي يكون عن مجاراة الناس في عاداتهم القبيحة ومسايرتهم، وهذا أيضًا من كبائر الذنوب، ولكنه أخف من الأول في الوعيد، فإن هذا قال عنه : ((ما أسفل من الكعبين من الإزار ففي النار)). فهنا العذاب يقع جزئيًا على جزء من الجسم، وهو المقدار الذي أسبل به المسلم إصبعًا أو أقل أو أكثر، فهو متوعد بتعذيب هذا الجزء بالنار يوم القيامة. وأي رجل يعلم أن قدمه ستعذب بنار جهنم ثم يصر معاندًا على الإسبال؟!
أيها المسبل، ها أنا قد ذكرت لك جملة من الآثار عن النبي والصحابة والتابعين، وشرحت وبينت لك الأمر، فماذا بعد؟ هل ستخرج من المسجد كما دخلت إليه؟ إن من صفات المؤمنين أنهم إذا سمعوا القول يتبعون أحسنه، أولئك هم أولو الألباب، وأنا أربأ بك أن تكون من الذين إذا نزل عليهم أمر الله قالوا: سمعنا وعصينا، بل إنك إن شاء الله سوف تبادر بعد الصلاة مباشرة على تبديل ثيابك بثياب على السنة المحمدية، وبعض الناس يكون عنده تردد وأنا أقول: إن الأمر سهل ميسور، وارفع ثوبك ولو بواحد سنتيمتر عن الكعب تنجُ بنفسك من عذاب الله.
إنك إن خرجت وعزمت على ذلك ويرى الله صنيعك بثيابك وسوف يخيط كثير منكم في هذه الأيام ثياب العيد فليجعلها على السنة، السنة المحمدية، سوف يحمد الله لك هذا الصنيع، وسوف ينظر الله إليك بعين الرضا، كيف لا وأنت عبد قد تبت من معصية كنت عليها؟! وبعض الناس يرفض أن يرفع ثوبه حتى يكون ملتزمًا التزامًا كاملاً، وهذا من ضحك الشيطان على الناس، فلأن يخفّ الشر قليلاً قليلاً خير من الاستمرار فيه كله، ولا يدري الإنسان هل يمكّن مستقبلاً من تغيير عمله ومن التوبة.
صلوا وسلموا على خير البرية...
ـــــــــــــــــــ(68/186)
اللباس والزينة (5)
...
...
5140
...
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
...
...
الكبائر والمعاصي, اللباس والزينة, قضايا المجتمع
...
ناصر بن عمر العمر
...
...
المدينة المنورة
...
19/8/1426
...
...
جامع جابر الأحمدي
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- عموم البلوى بقضية التصوير. 2- معنى التصوير. 3- أقسام التصوير. 4- أحاديث في النهي عن التصوير. 5- الفرق بين صنع الصور وبين اقتنائها. 6- حكم الصور. 7- حكم لعب الأطفال المصورة. 8- التصوير الفوتغرافي. 9- توجيهات ونصائح بهذا الخصوص. 10- أثر الصور في الانحراف العقدي. 11- مفاسد انتشار الصور بسبب التقنيات الحديثة.
الخطبة الأولى
نواصل حديثنا المهم حول اللباس والزينة، ونحن نُعَرِّف ونُذَكِّر بما حرمه الله حتى يتجنبه المسلم، وليكون على حذر منه، وحتى لا يقول الجاهل: لا أدري، وحتى يتذكر الناسي ويتنبه الغافل، وحتى تصحَّح بعض المفاهيم وتكون منضبطة بضوابط الشرع المطهر.
ومما يحرم في باب اللباس لبس ما عليه تصوير لذوات الأرواح، وبهذه المناسبة نتكلم في هذه الخطبة عن التصوير عموما؛ وذلك لأن موضوع التصوير مما عمت به البلوى وكثر وشاع حتى لا يخلو منه مكان، وحتى أنه يستغرب البعض من طرح مثل هذه المواضيع؛ ولذا رأيت أن أفصّل قليلا في موضوع التصوير على أن نجمل الموضوع وأجمع شتاته ما استطعت.
التصوير في اللغة العربية معناه التخطيط والتشكيل وصناعة الصور واختراعها سواء كانت مجسمة أو مسطحة.
وذكرُنا للتعريف اللغوي هنا لنلمح بعد قليل لمسألة التصوير الفوتوغرافي، والتصوير إما أن يكون لذوات الأرواح أو يكون لما لا نفس له، ويكاد الإجماع ينعقد بين العلماء على جواز تصوير ما لا نفس له.
والتصوير ينقسم حسب صنعته إلى ثلاثة أقسام: أحدها التصوير المجسَّم الذي له أبعاد وجرم محسوس، والآخر المسطح وهو اليدوي في الغالب وهو الرسم المعروف، والثالث هو التصوير الضوئي أو الفوتوغرافي.
وبادئ ذي بدء نسوق عددا من أحاديث السنة المطهرة الصحيحة في شأن التصوير، ففي الصحيحين يقول : ((إن الذين يصنعون هذه الصور يعذبون يوم القيامة، يقال لهم: أحيوا ما خلقتم))، ويقول : ((أشد الناس عذابا عند الله يوم القيامة الذين يضاهون بخلق الله))، ويقول : ((إن البيت الذي فيه الصور لا تدخله الملائكة))، ويقول : ((كل مصور في النار، يجعل له بكل صورة صورها نفسا، فيعذبه في جهنم)). فنسأل الله السلامة والعافية. وفي الحديث القدسي يقول الله تبارك وتعالى: ((ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي، فليخلقوا ذرة، وليخلقوا حبة، وليخلقوا شعيرة)). وقد امتنع جبريل عليه السلام من الدخول على النبي في بيته، وعلل ذلك بأن الملائكة لا تدخل بيتا فيه صور وتماثيل.
هذه بعض الأدلة الشرعية سقتها مختصرة لأبين عظيم وخطر أمر التصوير وأنه من كبائر الذنوب؛ لأن فيه مضاهاة لخلق الله، ولما فيه من الحرمان من بركة دخول الملائكة الأطهار.
ويجب أن نفرّق بين صنعة الصورة بتشكيلها أو رسمها أو تصويرها وبين استعمال هذه الصور، فممّا لا شك فيه أن المصور أشد إثما وأكبر جرما من مستعملها، وإن كان مستعملها لم يستعملها إلا رضًا بما صنعه المصور وإعجابا به، لكن يظل أخف وطأة ممن شكل أو رسم أو صور.
وذهب جماهير أهل العلم من السلف والخلف إلى تحريم صناعة الصور المجسمة وصناعة الصور المسطحة، والأدلة على ذلك ما يلي:
في البخاري أن رجلا جاء إلى ابن عباس رضي الله عنهما يستفتيه فقال له: إني رجل أصوّر هذه الصور فأفتني فيها، فقال له: أنبئك بما سمعت من رسول الله ، سمعته يقول: ((كل مصور في النار، يجعل له بكل صورة صورها نفس فتعذبه في جهنم))، فاشتد الأمر على الرجل واصفر وجهه فقال له: فإن كنت لا بد فاعلا فاصنع الشجر وما لا نفس له.
ومما استدل به العلماء في ذلك قصة جبريل عليه السلام حيث قال للنبي : ((إني أتيتك الليلة، فلم يمنعني أن أدخل عليك البيت الذي أنت فيه إلا أنه كان في البيت تمثال رجل))، وكان في البيت قرام ستر فيه تماثيل، أي: صور مسطحة مرسومة، ((فمر برأس التمثال يقطع فيصير كهيئة الشجرة، ومر بالستر يقطع فيجعل منه وسادتان توطآن)).
وأمر النبي بهدم التماثيل التي كانت في مكة وجزيرة العرب، وأوصى عليا بقوله: ((لا تدع تمثالا إلا طمسته)).
واتفق جماهير العلماء على جواز صنعة الصور والتماثيل لذوات الأرواح إذا كانت مقطوعة الرأس قطعا تاما بحيث يزال الرأس تماما بعيدا عن الجسد، ولم يعتبروا وجود خيط أو خط مانعا للتحريم كما يفعله بعض الجهلة.
ويبقى في هذا الجانب تساؤل مهم حول صناعة لعب الأطفال كالعرائس للبنات وغيرها، فلعب الأطفال هذه على نوعين: نوع مما كان موجودا من القدم، ونوع جديد استجدّ في الوقت الحاضر. أما النوع القديم وهو ما كان مصنوعا من القطن والخرق والقماش وهذه في الغالب لا تتميز فيها صورة ذوات الروح تمييزا تاما كاملا دقيقا فهذه قد أجازها كثير من العلماء السابقين والمعاصرين، واستدلوا على ذلك بأن أم المؤمنين عائشة وقد تزوّجها النبي وهي صغيرة كانت تلعب بمثل هذه العرائس وتسميها بناتها، وكان النبي يدخل عليها وهي تلعب بها وهو يضحك منها ولا ينكر عليها. قال العلماء: إن الأطفال يتسامح في حقِّهم ما لا يتسامح به مع الكبار المكلفين، ولأن الصغار تنفعهم مثل هذه الأمور في تربيتهم الحالية والمستقبلية، فجاء الشرع بالرخصة للأطفال في هذا الباب.
وأما النوع الثاني من لعب الأطفال فهي بعض العرائس الحديثة التي تصنع من البلاستيك، وهي لم تكن موجودة في السابق، فلم يتكلم عنها علماء السلف الصالح، واختلف العلماء المعاصرون فيها، وبعضهم توقف في الفتوى فيها كسماحة الشيخ ابن عثيمين رحمه الله. قال بعضهم عن هذه العرائس: ليست من جنس العرائس التي كانت تلعب بها السيدة عائشة ، فتلك كانت من العيدان والخرق، أما هذه اليوم فهي مصنوعة بحرفية كاملة وهي تشبه المخلوق تماما، وبعضها يمشي وبعضها يتكلّم؛ ولهذا حرمها بعض العلماء لأن فيها مشابهة ومضاهاة لصنع الخالق تبارك وتعالى وهو أحسن الخالقين، وهو الذي صور عباده فأحسن صورهم، في أي صورة ما شاء ركبهم.
وذهب بعض العلماء إلى أن الأصل في هذه الألعاب المسامحة طالما كانت للأطفال، ونظروا إلى الهدف منها وهو المساعدة على تربية هذه الأطفال، والأولى بأولياء الأمور أن يشتروا ـ إن كان لا بد ـ تلك العرائس من القطن والتي لا يكون فيها تشابه شديد مع الحقيقة، وتترك هذه الألعاب البلاستيكية.
والنبي دخل على عائشة يوما فقام على الباب ولم يدخل حجرتها، فعرفت عائشة الكراهة والغضب في وجه رسول الله فسارعت فقالت: أتوب إلى الله ورسوله، ماذا أذنبت؟! قال: ((ما بال هذه النمرقة؟)) والنمرقة هي الوسادة، قالت: اشتريتها لتقعد عليها وتوسدها، فقال : ((إن أصحاب هذه الصور يعذبون يوم القيامة ويقال لهم: أحيوا ما خلقتم))، وقال: ((البيت الذي فيه الصور لا تدخله الملائكة)).
والنوع الثالث من أنواع التصوير هو التصوير الحديث المعروف بالفوتوغرافي، وهذا لم يتكلم عليه العلماء السابقون، إنما هو من الأمور المستحدثة. وانقسم فيه العلماء المعاصرون، فقسم يرى فيه التحريم والمنع إلا للضرورة والضرورة تقدر بقدرها، كالتصوير من أجل الهوية ولأجل التعليم الذي لا بد منه، وكالنواحي الأمنية والحربية وغيرها من المصالح الضرورية. وقسم من العلماء أجازه مطلقا على أن لا يصوّر شيء محرّم كالعورات. وبعضهم توسط فيه، فلم يجعله كالتصوير الذي يشمله الوعيد والنهي، ولم يجز في نفس الوقت فتح باب التصوير لكل شيء، وهذا ما ذهب إليه سماحة الشيخ العثيمين رحمه الله حيث توسّط وقال: "التصوير الفوتوغرافي ليس هو التصوير المتوعَّد عليه بالعقوبة، ولكن ينظر ما هو المراد من هذا التصوير، فإن كان المراد من التصوير مباحا أبحناه، وإن كان المراد به شيئا محرما حرمناه، وقال: ومن الأمور المحرمة في التصوير الفوتوغرافي هو التصوير للذكرى، فهي من المحرمات، وكذلك التصوير لتعليقها في البيوت، فهي من المحرمات".
والسبب في اختلاف العلماء يعود في نظرتهم إلى ماهية التصوير الفوتوغرافي، فمن نظر إليه كنظره لعمل المجسات والرسوم المسطحة مِثلا بمثل حرّمه وعدّه من الكبائر، ومن نظر إليه إلى أنه في الحقيقة ليس هو التصوير المعروف وإنما أخذ اسمه فهو حبس للصورة الأصلية التي خلقها الله كما هو حال المرآة، ويقول ابن عثيمين رحمه الله: "لو أن شخصا وقّع توقيعا على ورقة، وقام رجل آخر بتصوير هذه الورقة في آلة التصوير المعروفة، لم يقل أحد: إن هذا الرجل الذي صوّر الورقة قد قام بتقليد وعمل هذا التوقيع، على عكس ما لو جاء رجل وقام بتقليد أو تزوير هذا التوقيع وحاول أن يعمل مثله".
والتصوير الفوتوغرافي هذا ليس فيه تقليد أو مضاهاة لخلق الله، بل كل ما في الأمر هو حبس هذه الصورة الموجودة في الواقع على ورق دون أي تعديل.
وهذا التصوير في الحقيقة مما عمت به البلوى في هذا الزمان ولم يسلم منه أحد، فوجد في الهويات والنقود والكتب والقراطيس والملابس وكل شيء تقريبا، ولذلك فإن مما يوجه به الناس وينصحون به:
أولا: ما نصحنا به رسول الله في مثل هذه الحالات التي يقع فيها اللبس والتردد بين الحلال والحرام، وسماها رسول الله المتشابهات، فماذا قال نبينا مرشدا لنا ومعلما لنا وهو يعلم أن هذا سيقع علينا؟ قال: ((إن الحلال بين، وإن الحرام بين، وبينهما أمور متشابهات، لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام)). فهذا الحديث هو منهج نبوي حكيم في التعامل مع المتشابهات التي تقع حين اختلاف العلماء، وخاصة إذا كان هذا الاختلاف في شيء من كبائر الذنوب.
ثانيا: أن على المسلم أن يتقي الله ما استطاع في الابتعاد عن هذه الصور، ولا يكلف الله نفسا إلى وسعها، فإن استطاع أن لا يشتري شيئا فيه صور فليفعل وليأخذ سلعة غيرها ليطهر بيته منها.
وصناعة الصور ليس كاستعمالها، وخاصة إذا وردت إلينا هذه الصنعة من غير المسلمين، فالمستعمل لهذه الصور لا يخلو من حالين: إما أن تكون الصور مباحة كلعب الأطفال، وخاصة القديم منها، وكذلك متى كانت هذه الصور مهانة تستخدم للجلوس عليها والوطء عليها، وإن كان الأولى أن لا تشتري خروجا من خلاف العلماء واستبراء للدين. أو يكون استعمالها محرما، وهي ليست كحرمة صنعتها، وإنما أخف، وهذه لا يجوز استعمالها للزينة في البيوت والسيارات، سواء كانت صغيرة أو كبيرة، وهذه نص العلماء على تحريمها قطعا، وهي مانعة لدخول الملائكة للبيوت، وفيها مشابهة الكفار في صناعتهم الصور وافتتانهم بها. وابتعاد الملائكة هو في الحقيقة عقوبة لحامل هذه الصور، والملائكة عباد مطهرون أنقياء، وعدم دخولهم للبيوت وأماكن العمل مصيبة عظيمة، فيُحرم أصحاب الصور من استغفار الملائكة لهم والدعاء لهم وحفظهم لهم من شياطين الجن والإنس، ولذلك كان من أدب اللباس الذي هو موضوعنا في الأصل أن لا تكون الثياب مشتملة على صور لذوات الأرواح، فاللابس لها لا تقربه الملائكة، ولبسها محرم، وشراؤها وبيعها محرم كما بينا من الأدلة.
الخطبة الثانية
لقد ارتبط التصوير منذ فجر التاريخ بالضلال والهلاك للأمم، وكان الشيطان حريصا على فتنة الأمم بالتصوير، فزين للناس أعمالهم حتى سار بهم خطوة بخطوة إلى الشرك والعياذ بالله، فما كانت الأصنام عبر التاريخ إلا من تزيين الشيطان لبني آدم بعد فتنهم بالتصوير، واليوم يزيد الشيطان بني آدم على فتنة التصوير فتنة أخرى واستدراجا آخر لهم عبر التصوير الفوتوغرافي والمتحرك، حينما زينه لهم فتعلقت به قلوب العباد حتى ترى الواحد قد وضع في سيارته وفي غرفته وفي محفظته شيئا لمن فتن بهم والعياذ بالله من صور المغنين والمغنيات والممثلين والممثلات واللاعبين، بل وحتى من الخليلات نسأل الله السلامة، انتشر التصوير فانتشرت معه المصائب للبنات في بيوتهن، وهتكت الأعراض بسبب هذا التصوير، وصورت حفلات أفراح والنساء في كامل زينتهن، ويقال: إن الشريط لا يطلع عليه أحد، ثم يقدر الله خيانة أو سرقة المنزل بما فيه من هذه الأشرطة، فتنتشر صور هذه العورات، صاح أحدهم وهاج في مركز الشرطة حينما سرق بيته يقول: ليأخذوا من البيت كل شيء لا يهمّ، ولكن شريط الفيديو في الدولاب هو المصيبة هو المصيبة، لقد كان يصوّر نفسه هو وزوجته في مخدع الزوجية، فانظر إلى عقوبة الله حينما ينحرِف الناس عن الجادّة.
وازدادت فتنة التصوير حتى ظهر علينا الهاتف الجوّال بكاميراته التي أزعجت الناس وجعلت الحليم حيرانا، ففتن الناس بالتصوير، فيحمل على هذا الجهاز الصغير مئات الصور، يقول أحدهم: لقد رنّ جوال الذي بجانبي في الصلاة، وإذا به يخرجه من جيبه ليغلقه، فإذا على شاشته صورة إحدى المغنيات، فحمل هذا العفن حتى إلى بيوت الله.
لقد انتشرت الكاميرات وأصبحت الكاميرا التي ترصد وتسرق عورات الناس في كل مكان وبكل سهولة، وهذه المصائب تحتاج اليوم إلى وقفة جادّة من المجتمع في محاربتها، وعلى النساء اليوم المحافظة على سترهن، وعدم وضع ثيابهن إلا في بيوت أزواجهن، ولا يهتكن ستر الله عليهن فيندمن.
إن العالم أجمع أصبح يعاني من هذه التقنية الخطيرة، فالآن تدور مشكلة حتى في الغرب من هذه الجوالات التي أصبحت تتلصص وتسرق وتنظر إلى ما لا يحل لها عرفا وأدبا وقانونا.
نخلص من خطبتنا هذه بأن التصوير محرم في شريعة الإسلام، وما أجيز منه أجيز فقط للضرورة والحاجة، والضرورة تقدر بقدرها لا تزيد عليها، فأنا أدعوكم اليوم إلى التوبة إلى الله العلي العظيم من ذنوب التصوير على كافة أشكاله، والبعض قد يقول في نفسه: إن الخطيب يغرّد بعيدا في عالم آخر، نعم ولكني أخاطب القلوب المؤمنة أن تتوب إلى الله وأن تترك هذه التصاوير والتماثيل التي في البيوت، سواء كانت صغيرة أو كبيرة، فتوبوا إلى ربكم توبة نصوحا، وأتلفوا ما عندكم من الصور، فهي قربة تتقربون بها إلى ربكم.
ـــــــــــــــــــ(68/187)
نصائح في الاختبارات
...
...
5147
...
الأسرة والمجتمع
...
...
الأبناء, قضايا المجتمع
...
خالد بن محمد العمري
...
...
المخواة
...
...
...
جامع الفرقان
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- التأهب للاختبارات. 2- وقفات مع الطلاب والطالبات. 3- كلمات للمعلمين والمعلمات. 4- التذكير بالحساب والعقاب.
الخطبة الأولى
أما بعد: عباد الله، أوصيكم ونفسي بوصية الله للأولين والآخرين في كتابه المبين: وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنْ اتَّقُوا اللَّهَ [النساء: 131]، وبوصية رسولنا الأمين حيث قال: ((اتق الله حيثما كنت)).
أيها الإخوة في الله، تعيش بيوتنا هذه الأيام حالة تأهب واستنفار كاملين استعدادًا للاختبارات النهائية، التي سيؤديها أبناؤنا وبناتنا بعد ساعات معدودة، وينهون بها عامًا دراسيًا كاملاً حافلاً بالعلم والعطاء والجد والمثابرة والاجتهاد.
ولنا مع الاختبارات هذه الوقفات للطلاب والطالبات:
أولها: الوصية بتقوى الله جل وعلا بفعل أوامره واجتناب نواهيه، ففيها المخرج من كل كرب وضيق، وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا [الطلاق: 2]، وفيها تسهيل الأمور وتيسيرها، قال تعالى: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا [الطلاق: 4].
ثانيها: المحافظة على الصلوات وأداؤها في أوقاتها والاستكثار من النوافل، فهي مما يعين بحول الله وقوته على حصول ما يُؤمَّل من التفوق والنجاح، قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [البقرة: 153]. قال ابن كثير رحمه الله تعالى عند هذه الآية: "أمر الله تعالى عبيده بالاستعانة بالصبر والصلاة فيما يؤملون من خير الدنيا والآخرة". وعن حذيفة قال: كان رسول الله إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة.
ثالثها: التوكل على الله جل وعلا والاعتماد عليه وتفويض الأمر إليه وحده، قال تعالى: وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطلاق: 3]، أي: كافيه الأمر الذي توكّل عليه فيه، وإذا كان الأمر في كفالة الغني العزيز الرحيم فهو أقرب إلى العبد من كل شيء.
وحذار ـ أيها الطلاب والطالبات ـ من الاعتماد على الذكاء والحفظ أو النبوغ والفهم وترك الاعتماد على الله، فها هو النبي كان يقول: ((يا حي يا قيوم، برحمتك أستغيث، أصلح لي شأني كله، ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين)).
رابعها: الإلحاح في دعاء الله جل وعلا بالتوفيق والنجاح، وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر: 60]، وقال : ((إن ربكم حيي كريم، يستحي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردهما صفرًا خائبتين)). وما تقدم من التوكل على الله تعالى ودعائه يكون مقرونًا بالأخذ بأسباب النجاح من الجد والاجتهاد.
خامسها: الحذر من الغش في الاختبارات إما باطلاعه على إجابة غيره، أو الاطلاع على الأسئلة المسربة ونحو ذلك، قال : ((من غش فليس مني)). فمن كانت حياته على الغش سلبه الله الخير في الدنيا والآخرة، قال ابن عباس رضي الله عنهما: (من خادع الله يخدعه الله).
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى: "على مراقب الطلبة حين الامتحان أن لا تأخذه في الله لومة لائم؛ أن يمنع أيّ طالب من الغش أو محاولة الغش؛ لأن تمكين الطالب من الغش خيانة وظلم لزملائه الحريصين على العلم المجدين في طلبه الذين يرون من العيب شرعًا وعرفًا ومروءةً أن ينالوا درجة النجاح بالطرق الملتوية. إن المراقب إذا مكّن أحدًا من هؤلاء المهمِلين الفاشلين في دراستهم من الغش فأخذ درجة تقدّم بها على الحريصين المجدين كان ذلك ظلمًا لهم، وظلمًا للطالب الغاشّ، وهو في الحقيقة مغشوش حيث انخدع بدرجة نجاح وهميّة لم يحصل بها على ثقافة ولا علم، ليس له من ثقافته ولا علمه سوى بطاقة يحمل بها شهادة زَيف لا حقيقة. إن تمكين الطالب من الغش أو تلقينه الجواب بتصريح أو تلميح ظلم للمجتمع وهضم لحقه؛ حيث تكون ثقافة المجتمع ثقافة مهلهلة يظهر فشلها عند دخول ميادين السباق، ويكون مجتمعنا دائمًا في تأخّر وفي حاجة إلى الغير؛ وذلك لأن كل من نجح عن طريق الغش لا يمكن إذا رجع الأمر إلى اختياره أن يدخل في مجال التعليم والتثقيف لعلمه أنه فاشل فيه، بل إن الطالب بممارسته الغش يكون مستسيغًا له هينًا في نفسه، فيتربى عليه ويربي عليه أجيال المستقبل، ومن سن في الإسلام سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة. إن على المراقب أن لا يراعي شريفًا ولا قريبًا لقرابته ولا غنيًا لماله ولا فقيرًا لمسكنته، إن عليه أن يراقب الله عز وجل الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، عليه أن يؤدّي الأمانة كما تحمّلها لأنه مسؤول عنها يوم القيامة " انتهى كلامه رحمه الله تعالى.
سادسها: تذكر قوله : ((إن لنفسك عليك حقًا))، فذاكر وجد واجتهد، ولكن لا تعذب بدنك وتتعب جسمك بالسهر المتواصل وتكلّفه فوق طاقته.
سابعها: قال عمر الفاروق : (لا تصغرن همّتك، فإني لم أر أقعد بالرجل من سقوط همته). فلا يكن همك الحصول على درجة النجاح، بل اجعل همك التفوق، وارسم لنفسك هدفًا نبيلاً ساميًا تصل إليه وتخدم دينك وأمتك من خلاله.
ثامنها: حذار من تلك الأفعال الدنيئة التي نراها في نهاية كل عام من إهانة لكتب العلم ورميها في الطرقات وتمزيقها والعبث بها، مع أنها تحتوي آيات كريمة وأحاديث نبوية شريفة، فاحذر أن تكون سببًا في إهانة كلام الله أو كلام رسوله .
تاسعها: ما أجمل أن تكون الاختبارات فرصة لتمتين علاقات الأخوّة وزيادة صفائها ونقائها من خلال مساعدة زملائك بما يحتاجون إليه من توضيح إشكال أو حل مسألة، فمن نفس عن مسلم كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن أعان أخاه أعانه الله. وما أجمل أن تدعو لأخيك بالنجاح، وتفرح دون أن يكون في قلبك حسد له إذا حقق السبق والتفوق، فقد قال : ((لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)).
عاشرها: الرضا بقضاء الله والتسليم لأمر الله نعمة من الله على عباده، فإن انتهيت من الاختبارات وكانت النتيجة طيبة فاحمد الله جل وعلا، واعلم أن ذلك بتوفيقه سبحانه، ولتقل بلسان الحال والمقال:
أعطيتنِي الجليلا منحتنِي الْجزيلا
سوّغتني الجميلا تفضّلاً وطولاً
بأي لفظ أشكرك بأيّ حمد أذكرك
الْحمد للرحمن والشكر للديان
والمدح للمنان على العطا الهتّان
وإن كانت الأخرى فلم توفق للنجاح فاحمد الله جل وعلا وأحسن الظن بربك؛ فلعل درجة من الدنيا تفوت فسيعوضك الله بها درجات في الآخرة، وكن على الحال التي أخبر عنها النبي : ((عجبًا لأمر المؤمن، إن أمره كله خير؛ إن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له)).
أيها الإخوة في الله، وصية للمعلمين والمعلمات بأن يتقوا الله جل وعلا، ويلتزموا الأمانة في وضع الأسئلة وفي تصحيحها، ويعطوا كل ذي حق حقه وكل ذي قدر قدره، كما أمر بذلك الله جل وعلا في كتابه فقال: وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ [الإسراء: 35].
فحذار ـ أيها المعلمون والمعلمات ـ أن تقصدوا بالاختبار التعجيز والأذية والإضرار، فهذه ذرية ضعيفة بين أيديكم، وإياكم أن تشقّوا عليهم فتكلفوهم ما لا يستطيعون، أو تحمّلوهم ما لا يطيقون، فقد قال : ((اللهم من ولي من أمر أمتي شيئًا فشق عليهم فاشقق عليه)). فالله الله أن يشقّ عليكم، فاتقوا الله في هؤلاء وأحسنوا إليهم إن الله يحبّ المحسنين، ((ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء))، قدّروا ضعفهم واشملوهم بالعطف والحنان.
إن الطلاب والطالبات يدخلون إلى الامتحان والاختبار بنفوس مهمومة وقلوب مغمومة، فيها من الأكدار وفيها من الأشجان والأحزان ما الله به عليم، فامسحوا على رؤوسهم عطفًا وحنانًا، وأكرموهم لطفًا وإحسانًا، فإنّ الله لا يضيع أجر من أحسن عملاً.
أيها الإخوة في الله، وصيّة للآباء والأمهات أن يوفّروا لأبنائهم وبناتهم الجوَّ المناسب للمذاكرة، وأن يسهروا معهم، ويشعروهم بقربهم منهم، ويدعوا لهم بالتوفيق والنجاح، ويسمعوهم تلك الدعوات كل صباح، ويسألوهم عن اختباراتهم، فإن أجابوا أثنوا عليهم، وإن لم يوفقوا فلا يعنفوهم، وإنما يفتحون لهم أبواب الرجاء في المرات القادمة.
ومما يوصَى به الآباء خصوصًا مراقبة الأولاد في هذه الأيام، فأكثر انحرافات الشباب وأكثر العادات السيئة التي يكتسبها الطلاب تكون في مثل هذه الأيام، حيث يكون الطالب حرًا طليقًا بمجرّد انتهائه من أداء الاختبار، فيتعرف على رفقاء السوء الذين يزيّنون له المنكر، ويدفعونه إلى السوء والفحشاء. فالله الله في أبنائكم وفلذات أكبادهم، كونوا معهم في الغدو والرّواح، أو اعرفوا مواعيد الاختبارات وحاسبوهم على التأخّر. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم: 6].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني الله وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على امتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وإخوانه، وسلّم تسليمًا.
أما بعد: فخير الكلام كلام الله، وخير الهدى هدى محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
عباد الله، إنَّ المؤمن العاقل البصير هو الذي يتذكّر بما يمرّ به من أحداث في هذه الدنيا ما أمامه من أهوال وشدائد يوم القيامة، فيأخذ للأمر أهبته واستعداده.
وأيام الاختبارات مما يعين على الذكرى والاعتبار، فها هو في الطالب يشعر بالخوف والقلق قبل استلام ورقة الأسئلة وقراءتها، ولا تهدأ نفسه حتى يطمئنّ أنه قادر على إجابتها رغم أنها معروفة سلفًا ومتوقعة.
فليت شعري ماذا سيكون حاله في ذلك اليوم الرهيب العصيب، حين يأتي وحيدا فريدا عريانا فيحاسب عن كل صغيرة وكبيرة، كما قال تعالى: وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [الكهف: 49]. فهنيئًا لمن اعتبر فبادر بالعمل.
ومن أشدِّ المواقف تأثيرًا على نفوس الطلاب لحظة استلام النتيجة، فإمّا نجاح وتفوّق، يعقبه فرحة غامرة وسرور كبير، وإما إخفاق ورسوب، يعقبه حزن وألم وضيق وكربة وندم على التفريط في المذاكرة والاجتهاد.
وسيكون الموقف غدًا قريبًا من هذا حين تتطاير صحف الأعمال، فتؤخذ باليمين أو تؤخذ بالشمال، والفارق أن السعادة هناك لا شقاء معها، والشقاوة ـ والعياذ بالله ـ لا مجال للتخلص من عنائها، فاختر لنفسك ـ يا عبد الله ـ أحسن الحالين، وجدّ لبلوغ أفضل المنازل، يقول الله جل وعلا: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمْ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ يَا لَيْتَهَا كَانَتْ الْقَاضِيَةَ مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ وَلا طَعَامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ لا يَأْكُلُهُ إِلاَّ الْخَاطِئُونَ [الحاقة: 19-37].
عباد الله، يقول الله جل وعلا: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56]، ويقول : ((من صلى علي صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشرًا)).
فاللهم صل على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين أجمعين، اللهم انصر المجاهدين في سبيلك في كل مكان يا رب العالمين...
ـــــــــــــــــــ(68/188)
تربية الأولاد (1)
...
...
5212
...
الأسرة والمجتمع, العلم والدعوة والجهاد
...
...
الأبناء, التربية والتزكية
...
عبد الله بن راضي المعيدي
...
...
حائل
...
8/2/1426
...
...
جامع عمر بن الخطاب
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- أهمية وقاية الإنسان لنفسه وأهله من النار. 2- عناية الإسلام بتربية الأبناء. 3- وصية الله للآباء بالأبناء. 4- واجبات الوالد تجاه ولده. 5- الدعاء للأبناء بالهداية من أعظم أسباب صلاحهم. 6- منافع وفوائد تعويد الأبناء على ارتياد المساجد.
الخطبة الأولى
أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله تعالى، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ [التحريم: 6].
روى ابن جريرٍ عن ابن عباس قال في معنى الآية: (اعملوا بطاعة الله، واتّقوا معاصي الله، ومروا أولادكم بامتثال الأوامر واجتناب النواهي، فذلكم وِقايتهم من النار)، وعن علي قال في معناها: (علّموا أنفسكم وأهليكم الخير وأدِّبوهم). فالآية تدل على أنه مطلوب من الإنسان أن يعمل بما يُبعده ويُبعد أهله من النار.
عباد الله، إنّ مهمة تربية الأولاد مهمّة عظيمة، يجب على الآباء أن يحسبوا لها حسابها ويُعِدوا العُدة لمواجهتها، خصوصا في هذا الزمان الذي تلاطمت فيه أمواج الفتن، واشتدت غربة الدين، وكثُرت فيه دواعي الفساد، حتى صار الأب مع أولاده بمثابة راعي الغنم في أرض السِباع الضارية، إن غفل عنها أكلتها الذئاب.
إن عناية الإسلام بتربية الأولاد واستصلاحهم تبدو واضحةً في حثِّ الشرع للرجل أن يختار الزوجة الصالحة ذات الدين والأخلاق الفاضلة؛ لأنها بمنزلة التُربة التي تُلقى فيها البذور، ولأنها إذا كانت صالحة صارت عونًا للأب على تربية الأولاد، كما أنه يشرع للزوج عند اتصاله بزوجته أن يدعو فيقول: ((بسم الله، اللهم جنّبنا الشيطان، وجنب الشيطان ما رزقتنا))، فإذا رُزق مولودًا استُحبّ له أن يؤذِّن في أُذُنِه اليمنى ويُقيم في أُذُنِه اليسرى، كما وردت بذلك الأحاديث عن النبي . والحكمة في ذلك والله أعلم ليكون أول ما يسمع المولود كلمات الأذان، ولتكون دعوة المولود إلى دين الإسلام سابقة على دعوة الشيطان. ويختار الأب لولده الاسم الحسن، فقد أمر بتحسين الأسماء.
ثم يَختنه بإزالة القُلفة؛ لما في إزالتها من التحسين والتنظف. والختان من أظهر الشعائر التي يفرق بها بين المسلم والنصراني، وهو من خصال الفطرة. ويعقّ عنه بأن يذبح عن الذكر شاتين وعن الجارية شاة، والحكمة في ذلك أنها قربانٌ يتقرب به إلى الله عن المولود في أول خروجه إلى الدنيا، وهي أيضا فدية يفدي بها المولود، كما فدى الله إسماعيل بالكبش، كل ذلك مما يدل على الاعتناء بالمولود.
عباد الله، كما أن للأب حقًا على ولده فللولد حقٌ على أبيه؛ قال بعض العلماء: إن الله سبحانه يسأل الوالد عن ولده يوم القيامة قبل أن يسأل الولد عن والده، وقد الله تعالى: يُوصِيكُمْ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ [النساء: 11]، وقال تعالى: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ [الإسراء: 31]، وقال النبي : ((اعدلوا بين أولادكم)). فوصية الله للآباء بالأولاد سابقة على وصية الأولاد بآبائهم؛ فمن أهمل تعليم ولده ما ينفعه وتركه سدى فقد أساء إليه غاية الإساءة، وأكثر الأولاد إنما جاءهم الفساد بسبب إهمال الآباء لهم وترك تعليمهم فرائض الدين وسنَنِه، فأضاعوهم صغارًا، فلم ينفعوا أنفسهم ولم ينفعوا آباءهم كبارًا، ولذا لما عاتب بعضهم ولده على العقوق فقال: يا أبتِ، إنك عققتني صغيرًا فعققتك كبيرًا، وأضعتني وليدًا فأضعتك شيخًا.
فالطفل ينشأ على ما عوّده المربي، فيجب على وليه أن يُجنِّبه مجالس اللهو والباطل والغناء وسماع الفحش والبدع ومنطق السوء، ويُجنّبه الخيانة والكذب والكسل والبطالة والدعة والراحة؛ فإن الكسل والبطالة لهما عواقب سيئة ومغبة وندم، وللتعب والجدّ عواقب حميدة. وعلى الوالد أيضا أن يُجنِّب ولده الشهوات الضارة، فإنّ تمكينه منها يفسده فسادًا يصعب إصلاحه، فبعض الآباء يُغدق على ولده العطاء، ويمدّه بالمال الذي يتمكن به من شهواته، ويزعم أنه يكرمه بذلك وهو قد أهانه، ويزعم أنه قد رحمه وهو قد ظلمه. وكذلك يجب على الوالد أن يمنع ولده من قرناء السوء ومخالطة أهل الفساد. وبعض الناس لا يربي ولده إلا التربية الحيوانية فيأتي له بالطعام والشراب والكسوة، ويترك تربيته على الدين والأخلاق الفاضلة، فلا يعلمه ما ينفعه ولا يهتم بأمر دينه، فلا ينفذ أمر الرسول فيه حيث يقول: ((مُرُوا أولادكم بالصلاة لسبع سنين، واضربوهم عليها لعشر، وفرقوا بينهم في المضاجع)).
أيها الآباء، إن الرسول حمّلكم بهذا الحديث مسؤولية أولادكم، وأمركم بتربيتهم على الصلوات، علموهم كيف يتطهرون وكيف يصلون، واسلكوا معهم مسلك التدرج بهم حسب أعمارهم وتحملهم، أولاً بالأمر في سنّ السابعة، ثم بالضرب في سنّ العاشرة، كما أمركم أن تباعدوهم عن أسباب الفساد الخُلُقي، فتفرقوا بينهم في مراقدهم، فلا ينام بعضهم إلى جانب بعض خشية الوقوع في المحذور؛ فصرتم مسؤولين عنهم حتى في مراقدهم، كما أنكم مسؤولون عنهم في حال يقظتهم.
أيها الآباء، أنتم مسؤولون عن توجيه أولادكم الوجهة الصالحة.
الخطبة الثانية
أيها الآباء، ادعوا الله أن يصلح أولادكم، كما دعا إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام حيث قال: وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ [إبراهيم: 53]، وقال: رَبِّ هَبْ لِي مِنْ الصَّالِحِينَ [الصافات: 100]، وقال: رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي [إبراهيم: 40]، وقال هو وإسماعيل: رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ [البقرة: 128]، وكما دعا زكريا عليه السلام حيث قال: رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ [آل عمران: 38]. هذه دعوات الأنبياء لأولادهم فاقتدوا بهم في ذلك.
أيها الآباء، إن الولد الصالح ينفع والده حيًا وميتًا، قال : ((إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد يدعو له)).
إن الأولاد إما أن يكونوا نعمة على والديهم أو نقمة عليهم، ولذلك أسبابٌ أهمها التربية، كما أن الوالد قد يكون سببًا لسعادة الولد أو شقاوته، قال تعالى: وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ [الكهف: 82]، وقال: :((كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يُهوِّدانه أو يُنصِّرانه أو يُمجِّسانه))، فليكن ذلك منكم على بال.
أيها الآباء، إنكم تحرصون أشدّ الحرص على ذهاب أولادكم للمدارس بدافع الطمع الدنيوي، ولا ترضون بتخلفهم عنها يومًا واحدًا؛ فما بالكم لا تهتمون بحضورهم في المساجد وهو خير وأبقى؟! إن حضورهم إلى المساجد يفيدهم آدابًا حسنة وأخلاقًا فاضلة ومحبة للخير وبُعدًا عن الشر، حضورهم إلى المساجد ينشّئهم على الطاعة ومخالطة الصالحين، وفيه مصالح كثيرة، فلِمَ لا تهتمون به؟! لماذا تتركون أولادكم في أوقات الصلوات يجوبون الشوارع والطرقات أو يختفون في البيوت ولا يقيمون للصلاة وزنًا؟! هل كانت المدرسة أهمّ عندكم من المسجد؟! وهل كانت الدراسة أعظم من الصلاة؟! هل الدنيا أحب إليكم من الآخرة؟! أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنْ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ [التوبة: 38]. فاتقوا الله ـ أيها المؤمنون ـ لعلكم تفلحون.
إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا، وقد قال : ((من صلى عليّ مرة صلّى الله عليه بها عشرا)).
اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين، اللهم ارضَ عن الخلفاء الراشدين، وعن بقيه أصحابه أجمعين، وعنا معهم بعفوك وفضلك يا أرحم الراحمين...
ـــــــــــــــــــ(68/189)
تربية الأولاد (2)
...
...
5213
...
الأسرة والمجتمع, العلم والدعوة والجهاد
...
...
الأبناء, التربية والتزكية
...
عبد الله بن راضي المعيدي
...
...
حائل
...
15/2/1426
...
...
جامع عمر بن الخطاب
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- مظاهر القصور في تربية الأولاد. 2- مشكلة تأخير تزويج البنات. 3- نصيحة لولي الأمر خاصة. 4- نماذج لبعض الأمهات اللائي ربين أبنائهن على التقوى والعلم. 5- أمور معينة على تربية الأولاد. 6- كتب يُنصح بقراءتها في موضوع تربية الأولاد.
الخطبة الأولى
أما بعد: أيها الناس اتقوا الله تعالى، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ [التحريم: 6].
أيها الأحبة، كان الحديث في الخطبة الماضية عن مظاهر القصور في تربية الأولاد، واليوم إن شاء الله نكمل ما تبقّى منها، سائلا الله تعالى لي ولكم صلاح النية والذرية.
فمن مظاهر القصور في تربية الأولاد العهد للخادمات والمربيات بتربية الأولاد، فهذا الأمر جدُّ خطير، خصوصًا إذا كانت الخادمة أو المربية كافرة؛ فذلك مدعاةٌ لانحراف الأولاد وفساد عقائدهم وأخلاقهم.
ومنها ترك البنات يذهبن للسوق بلا محرَم، ولا شك أنّ هذا تفريط عظيم وإخلال بالأمانة، فمن الناس من يذهب ببناته إلى السوق الذي يبيع فيه الرجال، فيمكثن فيه الساعات الطوال، يتجوّلن بين الباعة بدون محرم؛ مما يعرضهن للفتنة، ويجعلهن يَفْتِنَّ غيرهن. ولو قيل لبعض هؤلاء: لِمَ لا تنزل معهم إلى السوق؟ لقال: أستحيي أن يراني أحد معهن، سبحان الله! أتستحيي من الناس ولا تستحيي من الله؟! أما تخاف العقوبة؟! أما تخشى الفتنة؟! لو كان عندك غنم ما تركتها بلا راعٍ يرعاها، أَعِرْضُك أرخص عندك من غنمك؟! أما تخشى عليه من الذئاب الضارية؟!
ومن رعى غنمًا في أرض مسبعةٍ ونام عنها تولّى رَعْيَها الأسدُ
ومن مظاهر القصور إهمال الهاتف وترك مراقبته في المنزل، فبعض الآباء ـ هداهم الله ـ لا يُلقي للهاتف بالاً، ولا يراقبه ألبتة، بل ربما أعطى كلّ واحدٍ من أبنائه وبناته هاتفًا خاصًا في غرفته، أو يعطيهم هاتفًا جوالاً ولو كانوا لا يدركون مخاطِره ولا يستفيدون منه على الوجه الصحيح، وما علم أن الهاتف إذا أُسِيء استخدامه أصبح معولَ هدم وخراب؛ فكم جرّ من بلايا ورزايا، وكم قاد إلى الشرور والمحن، وكم انتُهِك بسببه من عِرض، وكم خَرِب لأجله من بيت.
ومنها أيضًا احتقار الأولاد وقلّة تشجيعهم، ومن مظاهر هذا الاحتقار إسكاتهم إذا تكلّموا، والسخرية بهم وبحديثهم؛ مما يجعل الولد عديم الثقة بنفسه، قليل الجرأة في الكلام والتعبير عن رأيه، وكذلك التشنيع عليهم إذا أخطؤوا ولمزهم إذا أخفقوا في موقف أو تعثّروا في مناسبة، مما يولّد لديهم الخجل والهزيمة، ويشعر الوالد بالعجب والكبرياء، فيتكون بذلك الحاجز النفسي بين الطرفين؛ فلا يمكن بعده للوالد أن يؤثر في أولاده. وأيضًا ازدراؤهم إذا استقاموا، وهذا من أشدّ الاحتقار وأعظم صوَره، فتجد من الآباء من يحتقر أولاده إذا رأى منهم تقى وصلاحًا واستقامةً وهدايةً، مما يجعلهم يَضلّون وعلى أعقابهم ينكُصون، فيصبحون بعد ذلك عالة على أبيهم وسببًا لجرّ البلايا إليه، وكم عرفتُ وتعرفون من الشباب من ضلّ بعد استقامة بسبب استهزاء والده وأهله به.
ومن مظاهر القصور في تربية الأبناء عدمُ إعطائهم فرصةً للتصحيح والتغيير للأفضل؛ فبمجرد أدنى خطأٍ أو زلّة تجد بعض الآباء يزري بولده، ولا يكاد ينسى هذا الخطأ له، فإذا سرق الولد ناداه باسم السارق، وإذا كذب ناداه باسم الكذَّاب، وكأن هذه الأخطاء ضربة لازب لا تزول أو وصمة عار لا تنمحي، ومن هنا ينشأ الولد وفي نفسه أنه سارق أو كذّاب، فلا يحاول التخلّص من عيبه، ولا يجد من يعينه على ذلك.
ومن المظاهر الشماتة بالمبتلَين، فبعض الآباء إذا رأى مبتلى بدأ يشمت به، ويتّهم أهله بالتقصير في تربيته بدلاً مِنْ أن يسأل الله السلامة لنفسه والعافية لهذا المبتلى؛ فكم من الناس من انحرف أبناؤه وضلوا بسبب شماتته وذَرابة لسانه وجُرأته على الناس.
ومن مظاهر القصور قلة التعاون مع مدارس الأولاد أو انعدامه بالكلية؛ فكثير من الآباء لا يتعاون مع المدارس التي يدرس فيها أولاده، بل ربما لا يعلم أين يدرسون. ومن ذلك الدفاع عن الولد بحضرته خصوصًا في المدرسة، فقد يحدث أن يقوم أحد المدرّسين أو المسؤولين في المدرسة بتأنيب طالب من الطلاب أو عقابه، ثم يأتي والده وقد غضب غضبةً مُضَريةً، وبدلاً من الحوار الهادئ مع صاحب الشأن وبدلاً من أن يكون ذلك بعيدًا عن ناظِرَي الولد تجد ذلك الوالد يطلق العباراتِ النابيةَ على الأستاذ أو المسؤول، ويصبُّ جام غضبه عليه، وينزله في الحضيض بحضور ولده، ومن هنا تقِلّ قيمة المدرسة والمدرّس في نفس الولد، ويشعر بالزهو والتيه والإعجاب بالنفس، فلا يكاد بعد ذلك يصيخ السمع للمعلّمين والمربّين.
ومن مظاهر القصور تركُ المبادرة في تزويج الأبناء مع الحاجة والمقدرة، فمن الآباء من لا يحفل بهذا الأمر، فتراه لا يبادر إلى تزويج أبنائه مع حاجاتهم إلى الزواج ومع غِنى الأب واستطاعته أن يزوّجهم. وهذا خطأ فادح؛ حيث يترتب عليه مفاسد عظيمة تعود على الفرد والأمة؛ فبسببه يتأخر الشباب عن الزواج إلى سنٍ متأخرة، وبسببه تضيع أعراض وأخلاق، والذي يُؤخَّر زواجه يُحْرم من سكون النفس وطمأنينة القلب ويتعرض للفتن.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أن الزواج مشروع في دين الإسلام، وأقلُّ درجات المشروعية الإباحة، بل إن المتأمّل في أدلة الشرع يجدها لا تدلُّ على الإباحة فحسب، بل تدلّ على الاستحباب أو الوجوب، وقد ذهب جمع من أهل العلم إلى أنّ النكاح فرض عين يأثم تاركه مع القدرة عليه، قال بذلك أهل الظاهر.
ألا فليتَّق الله الأولياء، وعلى الآباء أن يَعُوا هذا الأمر، وأن يَسعَوا في تزويج أبنائهم عند حاجة الأبناء ويسار الآباء.
ومن مظاهر القصور في باب الزواج تأخير زواج البنات بغير مسوّغٍ شرعي؛ فمن الآباء من يُؤخّر زواج ابنته بلا مسوّغ شرعي؛ فتراه يردُّ الخاطب الكفء، ويؤخّر زواج ابنته إما لكونها وحيدتَه فلا يرغب في فراقها، أو لرغبته في أن تخدمه، أو لأنها موظفة ويرغب في مالها، أو لأنه ينتظر خاطبًا غنيًّا يتقدّم لموليته، أو لغير ذلك من الأسباب، وهذا حرمان للفتاة من حقّها في الزواج، فكيف تكون حالها وهي ترى أترابها من بنات عمها أو بنات خالها أو صديقاتها وهن يحملن الأطفال ويسعدن بالأزواج؟! إنها تحترق كمدًا وغمًّا وحسرة، فتبِعة ذلك التأخير يتحملها الأب؛ لأن الأصل أن يبادر إلى تزويجها متى تقدّم لها الخاطب الصالح، فإذا ارتضت المرأة رجلاً وكان كفئًا فليس لوليِّها منعُها من التزوج به.
فيا أيها الأب الناصح لابنته، خَفِ اللهَ، وارحم مُوليتك، وتذكر بأنك لست مخلّدًا في هذه الدنيا، وتذكر بأن الأنثى لا بدَّ لها من رجل يحوطها برعايته أبًا كان أو أخًا أو عمًّا أو خالاً؛ فإذا انْتَقَلْتَ عن هذه الدنيا ولم تَدْخُلِ ابنتُك عشَّ الزوجية وأنت السبب فمعنى ذلك أنها ستكون عالةً على إخوانها أو أحدِ أقاربها، وقد تُبتلى بمن لا يخاف الله فيها، سواء كان ذلك زوجَ أمِّها إذا تزوجت أمها بعد فراقك أو زوجة أحد إخوانها أو غير أولئك، فتتحوّل حياتها إلى جحيم لا يطاق.
وفي المقابل من الخطأ أيضًا تزويج البنات بغير الأكفاء، فمن الآباء من لا يقصِّر في المبادرة إلى تزويج ابنته، ولكنّه يُقصِّر في اختيار الزوج المناسب، فتراه لا يتحرَّى الكفء الذي يُرضى دينُه وخلقُه، إما لرغبته في التخلّص من تبعتها وبقائها بلا زوج وإما لعجلته وإما لطمعه في المال إذا تقدم إليه غنيّ أو لرغبته في الوجاهة والمنصب والسمعة إذا تقدّم له من هو كذلك، أو يزوجها للقريب الذي يستحيي من ردّ طلبه، أما الدين القويم والخُلُق الكريم فلا يخطر بباله ولا يدور في خياله، ولهذا قد تُبتلى بتارك للصلاة أو مدمن للمخدرات أو شرس الأخلاق جافي الطبع، ولا حرج أن يسأل الإنسان عن المنصب والحسب والنسب ونحو ذلك من الاعتبارات، لكن الحرج أن تكون هي المحكَّمةَ في المفاضلة والترجيح دون اعتبار للدين والخلق، وهذا من الخلل والتفريط.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
الخطبة الثانية
أيها الآباء الكرماء، هذه بعض مظاهر التقصير في تربية الأولاد، فماذا نؤمِّل بعد هذا الإهمال؟! وماذا سنحصد من جراء ذلك التقصير؟! أَوَبعد هذا نطمع في استقامة الأولاد؟! نحيطهم بكل ما يؤدِّي إلى الانحراف ثم نرجو بعد ذلك صلاحهم وفلاحهم!
ومن هنا نعلم أية جناية نجنيها على الأولاد حين نقذف بهم إلى معترك الحياة في جوِّ هذه التربية الخاطئة، ثم ما أسرعنا إلى الشكوى منهم حين نراهم منحرفين أو عاقِّين أو متمرّدين؛ ونحن قد غرسنا بأيدينا بذور هذا الانحراف أو العقوق أو التمرد.
أين تربيتنا في هذه الأعصار المتأخّرة من تربية سلفنا الصالح الذين أخرجوا لنا أكرم جيل وأفضل رعيل؟! لا يُدانيهم أحدٌ مِن بعدهم، ولا يبلغ شَأْوَهمْ مَنْ لحق بهم، فمن كان وراء هؤلاء الأبطال؟! ومن الذي صنع أولئك الرجال؟! إننا لو سبرنا أحوالهم وتتبّعنا سِيَرَهم لوجدنا أن وراء كل واحد منهم ـ بعد توفيق الله ـ أبًا عظيمًا أو أمًّا عظيمة يُربُّون أولادهم على تطلاب الكمال ونشدان المعالي، ولنأخذ نماذج لبعض الأمهات ممن كنَّ وراء الخدور، يربِّين الأولاد، ويغرسن الفضيلة في جوانحهم، ويثبِّتْن دعائمها في مسارب دمائهم:
فهذا أمير المؤمنين، أريب العرب وألمْعِيُّها، معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما، من كان وراءه؟ لقد كان وراءَه أمٌّ عظيمة هي هند بنت عُتبة رضي الله عنها، وهي القائلة وقد قيل لها ومعاوية وليد بين يديها: إن عاش ساد قومه، قالت: ثكلته إن لم يسُد إلا قومَه. وكان معاوية إذا نُوزِع الفخر بالمقدرة وجوذب بالمباهاة بالرأي انتسب إلى أمّه، فصدع أسماع خصمِه بقوله: أنا ابن هند.
وهذا عبد الله بن الزبير كان وراءه أمٌ كريمة شجاعة، هي أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما، وهي القائلة وقد نعي ابنها عبد الله: ما يمنعني وقد أهدي رأس يحيى بن زكريا إلى بغيٍ من بغايا بني إسرائيل؟! وهي القائلة أيضًا قبل ذلك عندما استشارها ابنها عبد الله بن الزبير في قتال الحجاج: اذهب، والله لضربة بالسيف على عزٍّ أفضل من ضربة بالسوط على ذُل.
وهذا سفيان الثوري، وما أدراك ما سفيان الثوري؟! إنه فقيه العرب ومحدِّثهم، وأحد أصحاب المذاهب الستة المتبوعة، إنه أمير المؤمنين في الحديث، وما كان ذلك العَلَم الشامخ والإمام الجليل إلا ثمرةَ أمٍ صالحةٍ، حفظ لنا التاريخ مآثرها وفضائلها ومكانتها، وإن كان ضنَّ علينا باسمها.
روى الإمام أحمد بسنده عن وكيع قال: قالت أم سفيان لسفيان: يا بنيّ، اطلب العلم وأنا أكفيك بمِغْزَلي. فكانت رحمها الله تعمل وتقدِّم له ليتفرغ للعلم، وكانت تتخوّله بالموعظة والنصيحة؛ قالت له ذات مرة فيما يرويه الإمام أحمد: يا بُني، إن كتبت عشرة أحرفٍ فانظر هل ترى في نفسك زيادةً في خشيتك وحلمك ووقارك، فإن لم ترَ ذلك فاعلم أنها تضرك ولا تنفعك.
واعلموا ـ معاشر المؤمنين ـ أن هناك أمورا تعين على تربية الأولاد، يجدر بنا مراعاتها، وينبغي لنا سلوكها مع فلذات الأكباد، فمن ذلك ما يلي:
الدعاء للأولاد وتجنب الدعاء عليهم، فإن كانوا صالحين دُعِي لهم بالثبات والمزيد، وإن كانوا طالحين دُعِي لهم بالهداية والتسديد، والحذر كلَّ الحذرِ من الدعاء عليهم؛ فإنهم إذا فسَدوا وانحرفوا فإن الوالدين أولُ من يكتوي بذلك.
ومنها غرس الإيمان والعقيدة الصحيحة في نفوس الأولاد، فمما يجب بل هو أوجب شيء على الوالدين أن يحرصوا كل الحرص على هذا الأمر، وأن يتعاهدوه بالسقي والرعاية، كأن يعلِّم الوالد أولاده منذ الصغر أن ينطقوا بالشهادتين وأن يستظْهِروها، وينمي في قلوبهم محبة الله عز وجل، وأنّ ما بِنَا من نعمة فمنه وحده، ويعلمهم أيضًا أنّ الله في السماء وأنه سميع بصير، ليس كمثله شيء، إلى غير ذلك من أمور العقيدة، وهكذا يوجّههم إذا كبروا إلى قراءة كتب العقيدة المناسبة لهم.
ومنها غرس القيم الحميدة والخلال الكريمة في نفوسهم؛ فيحرص الوالد على تربيتهم على التقوى والحلم والصدق والأمانة والعفة والصبر والبر والصلة والجهاد والعلم؛ حتى يَشِبُّوا متعشّقين للبطولة، محبين لمعالي الأمور ومكارم الأخلاق.
ومنها تحصينهم بالأذكار الشرعية؛ وذلك بإلقائها إليهم إن كانوا صغارًا، وتحفيظهم إيّاها إن كانوا مميّزين، وتبيين فضلها، وتعويدهم على الاستمرار عليها.
ومنها تشويقهم للذهاب إلى المسجد صغارًا، وحملهم على الصلاة فيه كبارًا؛ كأنْ يعْمَد الوالد إلى تشويق أولاده للذهاب للمسجد قبل تمام السابعة من أعمارهم، فيشوّقهم قبل ذلك بأسبوع بأنه سيذهب بالولد إلى المسجد، ثم يذهب به، ويحرص على ضبطه فيه، ولا يسمح له بأن يكثر الحركةَ ويُشغِل المصلّين، أما إذا كبرُوا فإنه يجب عليه أن يقوم عليهم، وأن يأمرهم بالصلاة في المسجد مع جماعة المسلمين، وأن يحرص على هذا الأمر، ويصطبر عليه، قال الله تعالى: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى [طه: 132].
ومنها قراءة الكتب المفيدة في التربية؛ فهي مما يعين على تربية الأولاد؛ لأنها ناتجةٌ عن تجربة وممارسة وخبرة وعُصارة فكر ونتاج تمحيص وبحث.
ومن تلك الكتب التي يجدر بالمسلم اقتناؤها والإفادة منها ما يلي:
أ- العيال لابن أبي الدنيا.
ب- تحفة الودود بأحكام المولود لابن القيم.
ج- المسؤولية في الإسلام للدكتور عبد الله قادري.
د- أثر التربية الإسلامية في أمن المجتمع للدكتور عبد الله قادري.
هـ- تذكير العباد بحقوق الأولاد للشيخ عبد الله الجار الله.
و- الأولاد وتربيتهم في الإسلام لمحمد المقبل.
ز- نظرات في الأسرة المسلمة للدكتور محمد بن لطفي الصباغ.
ح- تربية الأولاد في الإسلام للشيخ عبد الله ناصح علوان.
ـــــــــــــــــــ(68/190)
العنوسة
...
...
709
...
الأسرة والمجتمع, فقه
...
...
المرأة, النكاح
...
صالح الونيان
...
...
بريدة
...
...
...
جامع الإمام محمد بن عبد الوهاب
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1 – الشريعة جاءت لتحقيق مصالح العباد 2 – الزواج فطرة قبل أن يكون شرعة 3 – الشريعة جاءت موافقة للفطرة ومهذبة لها 4 – فوائد النكاح – اسباب ظهور العنوسة 5 – التحذير من عضل النساء – اسباب عضل البنات ومنعهن من الزواج
الخطبة الأولى
أما بعد:
أيها المسلمون!
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
عباد الله!
مما لا شك فيه أن دين الإسلام الحنيف جاء بكل ما فيه مصلحة للفرد والمجتمع، وأمر به، وحث عليه، وحذر من كل ما فيه مضرة ومن الأمور التي حث عليها الإسلام ورغب فيها لما فيها من المصالح الزواج؛ فقد ورد الأمر بذلك في العديد من آيات القرآن الكريم والأحاديث النبوية:
قال تعالى: فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع [النساء:3].
وقال تعالى: وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله والله واسع عليم [النور:32].
عباد الله!
ومما ينبغي أن يعلم أن الزواج فطرة قبل أن يكون شرعة؛ فهو فطرة أودعها الله الخلق يوم خلقه:
قال تعالى: سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون [يس:36].
وقال تعالى: ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون [الذاريات:49].
والإنسان أشرف من خلق الله، اشتمل على نفس التكوين ذكر وأنثى، وفطر كل شطر بالميل إلى الشطر الآخر، وقد ذكرنا الله تعالى بأصلنا ليزداد إيماننا وشكرنا.
قال تعالى: هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها فلما تغشاها حملت حملا خفيفاً فمرت به فلما أثقلت دعوا الله ربهما لئن آتيتنا صالحاً لنكون من الشاكرين % فلما آتاهما صالحاً جعلا له شركاء فيما آتاهما فتعالى الله عما يشركون [الأعراف:189-190].
عباد الله!
وحري بدين الإسلام الذي راعى مصلحة الفرد والمجتمع أن لا يصادم هذه الفطرة، وهذا هو ما حصل؛ فالإسلام هذب هذه الفطرة ولم يصادمها، فشرع التقاء الرجل بالمرأة التقاء شرعياً عن طريق عقد النكاح، وبه يحصل غض البصر وحفظ الفرج والعون على الطاعة والتسابق في الخيرات، وبه تقام الأسرة التي جعلها الإسلام لبنة المجتمع، ومنه النسل المبارك الذي به تباهي أمة محمد ، ويباهي به رسول الله الأمم يوم القيامة:
قال : ((يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة؛ فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج))1.
وعن أنس بن مالك؛ قال: جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي يسألون عن عبادة النبي ، فلما أخبروا، كأنهم تقالوها، فقالوا: وأين نحن من رسول الله قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. قال أحدهم: أما أنا؛ فأصلي الليل أبداً. وقال آخر: أما أنا فأصوم الدهر ولا أفطر. وقال آخر: وأما أنا فأعتزل النساء فلا أتزوج أبداً. فجاء رسول الله ، فقال: ((أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟! أما إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء؛ فمن رغب عن سنتي؛ فليس مني))2.
وفي الزواج عدة فوائد: الولد، وكسر الشهوة، وتدبير المنزل، وكثرة العشيرة، ومجاهدة النفس بالقيام بهن، وهو مصدر سعادة الطرفين؛ لأن فيه سكناً، وفي السكن طمأنينة وراحة، وفي السكن سكون للنفس.
عباد الله!
وإذا كان الإسلام قد رغب في الزواج وحث عليه؛ فإنه قد نهى عن الامتناع منه، وحذر الأولياء من ظلم مولياتهم ومنعهن من التزوج أو الحجر عليهن، فقال تعالى: وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف ذلك يوعظ به من كان منكم يؤمن بالله واليوم الآخر ذلكم أزكى لكم وأطهر والله يعلم وأنتم لا تعلمون [البقرة:232]. وذلك لما يترتب على منع المرأة من الزواج من المفاسد والمضار التي تعود عليها وعلى المجتمع المسلم.
عباد الله!
هناك ظاهرة خطيرة، بدت بوادرها في مجتمعنا، وهي ناشئة من تصرف خاطئ لبعض الأولياء، وهذه الظاهرة هي ما يسمى بـ (العنوسة)، وهي أن تبلغ البنت من الكبر عتياً، وتذهب نضارتها، وتذبل زهرة شبابها، وهي لم تتزوج، حتى وجد بعض الفتيات اللاتي أعمارهن من الثلاثين إلى الأربعين ولم يتزوجن ليسمعن من يناديهن: يا أماه! ومن هذه حالها؛ لو لم يأت لها الخطاب؛ لقلنا: على وليها أن يبحث لها عن كفء يحفظ له هذه العورة.
عباد الله!
وهذه الظاهرة ترجع إلى أمرين:
أحدهما: من تصرف البنت نفسها؛ حيث إنها خدعت أولاً، فقالت: لا أريد أن أتزوج حتى أكمل دراستي!! وهذا في نظري غزو فكري عن طريق المجلات الوافدة والقصص والأفلام التي تحذر من الزواج المبكر، حتى إذا تقدمت بالفتاة السن؛ عزف عنها من تريد، وعزفت عمن يريدها، حتى تقدم بها سنها زيادة، فأوشكت أن تبلغ سن الإياس، والسعيد من وعظ بغيره.
وما تلك الصيحة التي أطلقتها إحدى الطبيبات عبر (مجلة اليمامة)، والتي قالت فيها: خذوا شهادتي وأسمعوني كلمة ماما!! إلا جرس إنذار لمن عقل.
فكم من فتاة ظنت أن الزواج يتعارض مع الدراسة، وهذا وهم رفضت على أساسه الزواج أيام دراستها، وظنت أنها متى طلبت الزواج؛ كان ذلك سهلاً مهما بلغت من العمر، فخانها تقديرها، وتقدم بها عمرها، فأصبحت حبيسة بيت أهلها، وعضت أصابع الندم، ويزداد ندمها وحسرتها حينما ترى من هن في سنها قد أصبحن أمهات لأولاد، ولم يتأخرن في الدراسة.
عباد الله!
الأمر الثاني في تأخر بعض الفتيات عن الزواج حتى يتقدم بهن العمر: يرجع إلى تصرف وليها الخاطئ؛ فأحياناً يسند الولي الأمر في الاختيار إلى النساء، ويكون دوره تنفيذياً، وغالبا ما تكون نظرة بعض النساء قاصرة، فيرد كفء البنت، وهو صاحب الدين؛ بناء على مقاييس تحددها بعض النساء؛ كالجاه، والمال، والقرابة، والوظيفة؛ بغض النظر عن الدين، وقد لا يأتى أحد هؤلاء، فيطلبوا انتظاره، والزمن يمر سريعاً، وقد يأتي من فيه إحدى الصفات التي حددوها، ومن ثم يوافق عليه، فيتزوج، ثم لا تستقيم الأحوال، فترجع إلى بيت أهلها مطلقة.
ثم تتعنت بعض النساء وتطلب مستحيلاً، والضحية هي تلك البنت التي لا زوج لها، ومن كان زمامها بيده من النساء مع زوجها آمنة مستقرة هادئة البال مرتاحة الضمير، ولو قيل لها، وطلب منها الإسراع في تزويج هذه البنت؛ لقالت: العجلة مذمومة، ليس هناك داع للعجلة، والضحية هي تلك الزهرة التي قد تصبح هشيماً، قبل أن يأتي من يقطفها.
فالمرأة ضعيفة، وهي محتاجة إلى قوامة الرجل وبعد نظره؛ قال تعالى: الرجال قوامون على النساء ... .. [النساء:34].
1 رواه البخارى .
2 رواه البخارى .
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي بدأ خلق الإنسان من طين، ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً.
أما بعد:
أيها المسلمون!
اتقوا الله تعالى، وأحسنوا؛ إن الله يحب المحسنين.
عباد الله!
ومن التصرفات الخاطئة لبعض الأولياء، والتي هي سبب في تأخر بعض الفتيات عن الزواج إلى أن يتقدم بهن العمر: تعنت بعض الأولياء الظلمة، ورد الأكفاء، وهذا يرجع في نظري إلى أمرين:
الأول: طمع هذا الولي في مال ابنته أو أخته إن كانت ذات مال؛ كأن تكون موظفة مثلا، فيعلم أنها إذا تزوجت؛ فقد ذلك المال؛ لذلك نسمع أحياناً من يزوج ابنته ويشترط جزء من مرتبها.
فيا سبحان الله! كيف يجرؤ إنسان مؤمن يعلم فطرة المرأة وغريزتها ومع ذلك يمنعها من الزواج ليستفيد من مالها، هي تكدح وهو يأخذ ويتفكه وقد حكم عليها بالسجن المؤبد إلى أن يأذن الله بالفرج؟!
الأمر الثاني: هو طلب وليها مهراً خيالياً، وهذه عقبة كؤد، جعلت كثيراً من الفتيات مخدرات في البيوت، وكثير من الشباب عزفوا عن الزواج بسبب ذلك العنت؛ فخير الأزواج عند ذلك الولي هو من يدفع أكثر، مهما كان التزامه، ومهما كانت أخلاقه، حتى صار الزواج عند بعض الشباب من الأمور المستحيلة أو الشاقة؛ إلا بديون تثقل كاهل الشباب، ولا يجد لها وفاءً.
فينبغي لمن يفعل هذا من الأولياء أن يفكر ملياً: هل البنت أصبحت سلعة كسائر السلع تدخل مزاداً علنياً؟! كلا؛ هي أكرم من ذلك.
ومع ذلك يتعذر البعض بأن ابن فلان بلغ من الكبر عتياً ولم يتزوج أو أنه تزوج أجنبية، ولكن لم يفكر أن فعله هذا هو الذي حدا بابن فلان أن يفعل ذلك الفعل، ولو عقلوا؛ لذهب الواحد منهم يبحث عن كفء لابنته، وليكن لهم قدوة في سلفنا الصالح:
فعمر الفاروق أمير المؤمنين لما أراد أن يزوج ابنته حفصة، عرضها على أبي بكر ليتزوجها، ثم على عثمان؛ لعلمه بصلاحهما.
أما علم أولئك الأولياء أن أعظم النكاح بركة أيسره مئونة؟!
أما علموا أنهم سيسألون عن هذه الأمانة؟!
أنزعت الرحمة من قلوبهم، ولا تنزع الرحمة إلا من شقي؟!
عباد الله!
ولقد حدثني من به أثق أن فتاة بلغت الأربعين أو قاربت ولم تتزوج، وأخواتها يقاربنها في السن، كذلك حدثني أنها رأت طفلاً تحمله أمه، فذرفت الدموع من عينيها، وهي تشتكي إلى الله ما فعل بها أقرب الناس إليها؛ حيث منعها من أداء رسالتها، وحكم عليها بالسجن داخل بيته حتى أيست.
عباد الله!
قال الرسول : ((إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه؛ فأنكحوه، إلا تفعلوا؛ تكن فتنة في الأرض وفساد كبير))3.
لنتساءل – عباد الله! – ما هذا الفساد والفتنة؟!
إن هذا الفساد يحدث إذا منعت المرأة من كفئها؛ فكيف إذا منعت بتاتا؟!
واليوم كثرت المغريات والمثيرات؛ فصور تثير الغرائز، وأفلام وقصص وأغاني تفجر بركان الجنس، وخلوات وخدم وسائقين ومغريات أخر؛ فرحمة بالفتيات والشباب يا أولياء أمور النساء! خذوا على أيديهم واقتادوهم إلى حيث الصلاح.
عباد الله!
والله؛ إن المسلم إذا رأى هذه المغريات، ورأى هذه التصرفات الفتاكة بمجتمعنا، يعتصر قلبه، وما تكلمت عن هذا الموضوع إلا نتيجة شكاوى متعددة وطلب مساعدات مالية من كثير من الشباب ممن حافظوا على أنفسهم.
فكل مسلم مطالب بإيجاد حل لهذه المشكلة العصيبة؛ فوالد الفتيات عليه أن يبحث عن الكفاءة ويخفف المهور، وصاحب الأقمشة وبائع الكماليات مطالبون بالمساعدة بالمال أو بالتخفيض من أسعار السلع لحديثي الزواج، وصاحب السكن مطالب بتخفيض الأجرة، حتى يكون مجتمعنا كما قال الرسول : ((كالبنيان يشد بعضه بعضاً))4.
اللهم! هل بلغت؟ اللهم! فاشهد.
اللهم! اهدنا، ويسر الهدى لنا، وأصلح ذرياتنا وبناتنا.
اللهم! أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين.
اللهم! اسقنا الغيث، ولا تجعلنا من القانطين.
اللهم! أغثنا.
ربنا! لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا.
اللهم أبرم لهذه الأمة أمراً رشيداً؛ يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر؛ إنك سميع الدعاء.
عباد الله!
إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون [النحل:90].
فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.
3الحديث: ((اذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه الا تفعلوا تكن فتنة في الارض وفساد)) قالوا: يا رسول الله وان كان فيه قال: ((اذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه، فأنكحوه)) ثلاث مرات.
4 اخرجه الترمذى في (النكاح، حديث رقم 1085) من حديث أبى حاتم المزنى رضى الله عنه وهو حديث حسن.
ـــــــــــــــــــ(68/191)
المرأة بين جاهليتين
...
...
712
...
الأسرة والمجتمع
...
...
المرأة
...
صالح الونيان
...
...
بريدة
...
...
...
جامع الإمام محمد بن عبد الوهاب
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1 – تحذير النبي صلى الله عليه وسلم من فتنة النساء 2 – تكريم الإسلام للمرأة ومساواتها للرجال في بعض الأمور 3 – انسياق بعض النساء وراء المرأة الغربية 4 – التحذير من التبرج والخلوة 5 – فتن يجر بعضها بعضاً
الخطبة الأولى
أما بعد:
أيها المسلمون!
اتقوا الله تعالى، وقوموا بما كلفكم الله تعالى به من رعاية أهليكم، وأحسنوا رعاية من استرعاكم الله إياهم، ويكون ذلك بفعل ما أمر الله به واجتناب ما نهى عنه.
عباد الله!
لقد درس أعداء الإسلام أحوال المسلمين، وتعرفوا على أماكن القوة ومواطن الضعف في شخصية المسلمين، ثم اجتهدوا في توهين نواحي القوة وتحطيمها بكل ما أوتوا من مكر ودهاء وخبث؛ فعلموا أن المرأة من أعظم أسباب القوة في المجتمع الإسلامي، وعلموا أنها سلاح ذو حدين، وأنها قابلة لأن تكون أخطر أسلحة الفتنة والتدمير، ومن هنا كان لها النصيب الأكبر من حجم المؤامرات الكثيرة التي ترى بوادرها في مجتمعات المسلمين يوماً بعد آخر.
عباد الله!
ولقد حذر النبي من فتنة النساء:
فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، عن النبي ؛ قال: ((إن الدنيا حلوة خضرة، وإن الله مستخلفكم فيها، فينظر كيف تعملون؛ فاتقوا الدنيا، واتقوا النساء؛ فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء))1.
وعن أسامة بن زيد وسعيد بن زيد رضي الله عنهما، عن النبي ؛ أنه قال: ((ما تركت بعدي في الناس فتنة أضر عل الرجال من النساء))2.
وقد كان للمرأة المسلمة دور رائع في بناء الصرح الإسلامي.
وقد انتفعت الأمة بهذا الحد النافع من سلاح المرأة في قرونها الأخيرة، ثم لم تلبث الحال أن تدهورت شيئاً فشيئاً، وجرحت الأمة بالحد المهلك من سلاح المرأة.
عباد الله!
إن مشكلة النساء ليست بالمشكلة الهينة، وليست بالمشكلة الجديدة؛ لأن الفاسقة منهن شرك الشياطين وحبائل الشر، يصطاد بهن كل خفيف الدين مسلوب المروءة.
ولذلك قال النبي : ((إن المرأة تقبل في صورة شيطان وتدبر في صورة شيطان))3.
فاتقوا الله عباد الله! واحذروا هذه الفتنة التي حذر منها النبي واقضوا على أسباب الشر قبل أن تقضي عليكم، وسدوا أبواب الفساد قبل أن تنهار عليكم.
إن الإسلام قد كرم المرأة أما وزوجة وبنتاً، و أعطاها حقوقها كاملة، مما لم تظفر به امرأة فى غير الإسلام، وقد قيل: وبضدها تتميز الأشياء.
وإذا نظرنا إلى حال المرأة قبل الإسلام؛ علمنا تكريم الإسلام للمرأة؛ فالمرأة قبل الإسلام كانت محتقرة مهانة، حتى سموها رجساً من عمل الشيطان، وكانت عندهم كسقط المتاع، تباع وتشترى في الأسواق؛ مسلوبة الحقوق، محرومة من حق الميراث وحق التصرف في المال إلى غير ذلك من الذل والمهانة.
لما أشرق نور الاسلام، رفع عن المرأة ما أحيطت به من الآصار والأغلال، بل رفع مكانها وأعلى منزلتها فجعلها قسيمة الرجل، لها ما لها من الحقوق وعليها من الواجبات ما يلائم تكوينها وفطرتها وعلى الرجل بما اختص به من الرجولة والقوة والجلد وبسطة اليد أن يلي رياستها:
قال تعالى: ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة [البقرة:228]. وتلك هي الرعاية والحياطة، لا يتجاوزها إلى قهر النفس وجحود الحق.
وقال : ((إنما النساء شقائق الرجال))4.
ولقد ساوى الإسلام بين الرجل والمرأة في جزاء الآخرة:
قال تعالى: من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون [النحل:97].
ولقد أتت أسماء بنت يزيد بن السكن رضي الله عنها النبي ، فقالت: إنى يا رسول الله رسول من ورائي من النساء، إن الله بعثك إلى الرجال والنساء؛ فآمنا بك، واتبعناك، ونحن معشر النساء مقصورات مخدورات قواعد في البيوت، وإن الرجال فضلوا بالجمعات وشهود الجنائز والجهاد، وإذا خرجوا للجهاد؛ حفظنا لهم أموالهم، وربينا أولادهم؛ أنشاركهم في الأجر يا رسول الله؟ فالتفت رسول الله بوجهه إلى أصحابه، وقال: ((هل رأيتم امرأة أعظم سؤالاً منها))، فقال رسول الله لها: ((انصرفي يا أسماء! وأعلمي من وراءك من النساء أن حسن تبعل إحداكن لزوجها، وطلبها لمرضاته، واتباعها لموافقته؛ يعدل كل ما ذكرت للرجال)) فانصرفت أسماء وهي تهلل وتكبر استبشاراً بما قاله النبي .
عباد الله!
هذا نموذج من تكريم الإسلام للمرأة، والنماذج كثيرة.
ولكن؛ لنتساءل عباد الله عن واقع المرأة المسلمة اليوم هل هي متمسكة بدين الإسلام أم أنها صريعة الجاهلية؟!
والحق يقال – وليس على سبيل التعميم: - إن بعض النساء قد رفضت تكريم الإسلام لها، وأصبحت صريعة لجاهلية هذا القرن؛ فاندفعت اندفاعاً محموماً وراء كل سراب، وعاشت واقعاً مريراً.
والمؤلم في هذا الواقع المرير أن المرأة قد رضيت أن تؤلف نقطة الضعف؛ فهى ملقية برضى منها إلى التيار، يقذف بها حيث اتجه وسار دون أن تفكر في المقاومة، وساعد في إمداد التيار الهشيم تخلي بعض الرجال عن مراقبتهم على النساء، وترك الحبل على الغارب لهن، والمقروء والمسموع.
ولم تفكر من انساقت من النساء خلف تلك التيارات في حال المرأة الغربية، و ما تعيش من شقاء وتعاسة؛ حيث كانت المرأة في الغرب فريسة للذئاب من البشر؛ عبثوا بكرامتها، وتاجروا بها، وأصبحت صورة المرأة شيئاً قد ألفوه لرواج الكاسد من البضائع والمجلات.
ولكن بعض نساء المسلمين أعجبن بحال نساء الغرب، فحدث ما لا تحمد عقباه؛ حدث في مجتمعات المسلمين وفي نساء المسلمين تبرج النساء، وهو إظهار المرأة زينتها ومحاسنها للرجال، فظهر بين نساء المسلمين من تكشف وجهها أمام الرجال؛ ليروا مفاتنها، فتستيقظ الفتنة النائمة، ووجد من تجعل خمارها قصيراً لا يستر نحرها، ووجد من تضع مادة النشاء في خمارها عند غسله ليبدو واقفاً مكشوفاً شعر رأسها وشفافاً خمارها، ووجد في نساء المسلمين من جعلت ثيابها تلفت النظر إليها؛ لكثرة زخرفتها، أو لضيقها، أو لشفافيتها، حتى وجد من بين النساء من تجعل الثوب ضيقاً، وأكمامه شفافة جداً، ونحرها مكشوفاً، ووجد بين نساء المسلمين من تجعل الثوب قصيراً لا يستر قدميها أو تجعل فتحات على ساقيها، وكل ذلك جرياً وراء أحدث ما ظهر من لباس الكافرات، الذي تحمله إلينا المجلات الوافدة المسماة بمجلات الأزياء!! أو ما يصممه الخياطون الذين غالبهم من غير المسلمين، ويتربصون بنساء المسلمين الدوائر.
ألا فلتعلم المرأة المسلمة أن هذه الأعمال لا تجوز، وأنها تجر إلى الهاوية.
وقد أخبر بمصير من تعمل ذلك من النساء:
فعن أبي هريرة؛ قال: قال رسول الله : ((صنفان من أهل النار لم أرهما: قوم معهم سياط كأذناب البقر؛ يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات، مميلات مائلات، رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة، لا يدخلن الجنة، ولا يجدن ريحها، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا))5.
قال بعض العلماء: معنى (كاسيات عاريات): التي تستر بعض بدنها وتكشف بعضه إظهاراً لجمالها، وقيل: معناه تلبس ثوباً رقيقا يصف لون بدنها.
وهان على كثير من نساء المسلمين الخروج إلى الأسواق دونما ضرورة، والخلوة بالرجال الأجانب في المحلات والسيارات.
وشجع على هذا بعض الآباء بفعله وبذل ماله من أجله؛ فاستقدم سائقاً شاباً يافعاً أجنبياً، وقد يكون كافراً، وجعله تحت إمرة النساء الصغار والكبار، يذهب بهن حيث شئن؛ دون حسيب ولا رقيب؛ فإن نظرت إلى أبواب المدارس؛ وجدت السائقين وحدهم ينتظرون بنات في ريعان الشباب، وليس معهم أحد، وإن نظرت إلى الأسواق؛ وجدت السائقين ينتظرون من وضعوا فيها من النساء ليحملوهم، والمرأة تتقلب من تبرج إلى خلوة، وحدث ولا حرج من سقوط الآداب.
عباد الله!
وهناك أمر يغفل عنه بعض الناس، وهو أن بعض المزارعين يستقدمون عمالاً، ثم يتركونهم يعملون في مزارعهم، وفي حين قطف الثمار يومياً يضمون معهم أهليهم لمساعدتهم، فيكون العامل في وسط النساء بحجة جمع المحصول، وقد يذهب الرجل ليبيع ما جمعوا، ثم يبقون في مكان واحد لإكمال العمل، وهذه خلوة الشيطان يحضر فيها ويسول، وقد يحدث مالا تحمد عقباه، ثم يندم من فعل ذلك، ولات ساعة مندم، ثم يقول بعد فوات الأوان: لا بارك الله بعد العرض بالمال.
عباد الله!
لقد أصبحت المرأة في هذا الزمن كالكرة، تتناولها أيدي اللاعبين، وتتهاوى في كل اتجاه.
لقد بات وضع المرأة المسلمة في مهب الأعاصير، فليس من الحكمة أن يترك زمامه للأمواج تقذف به حيث يشاء أولو الأهواء، ولا ريب أن الواجب يضع على كل عاتق نصيبه من المسؤولية، لا يستثنى من ذلك صغير ولا كبير كل على حسب استطاعته.
عباد الله!
إنى أخاطب أولياء الأمور، وأقول لهم: تذكروا قول الله تعالى: الرجال قوامون على النساء [النساء:34]. وتذكروا أنهن رعيتكم، وستسألون عنهن يوم القيامة، وتذكروا قول الرسول : ((ألا لا يخلون رجل بامرأة إلا وكان ثالثهما الشيطان))6، وقولوا: سمعنا وأطعنا. وتذكروا أن التوبة تجب ما قبلها، وأنه إن استمرت الحال على ما نرى، فسنحصد النتيجة مرة، وعندها لا ينفع الندم.
أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب؛ فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
1 رواه مسلم.
2 رواه البخارى.
3 رواه مسلم.
4 أحمد وابو داود والترمذي.
5 رواه مسلم
6 الحديث أخرجه الترمذي في (الرضاع) وفى (الفتن 7/2165) من حديث عمر وهو جزء من حديث طويل: ((لا يخلو رجل بامرأة إلا وكان ثالثهما الشيطان)) وقال الترمذى :"هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه"
وراه احمد في "المسند" (رقم 114-177)والحاكم في الايمان من طرق صحيحة فالحديث صحيح.
الخطبة الثانية
إن الحمد لله؛ نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله؛ فلا مضل له، ومن يضلل؛ فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً.
أما بعد:
أيها المسلمون!
اتقوا الله تعالى في أنفسكم وفيمن تحت أيديكم من الذكور والإناث، وقوموا عليهم بما أمركم الله به، واعلموا أن السفور مطية للفجور، وأن المعاصي كلها سبب كل شر وبلاء، وهي تجر أمثالها.
عن النواس بن سمعان، عن رسول الله ، قال: ((ضرب الله مثلا صراطاً مستقيماً، وعن جنبي الصراط سوران فيهما أبواب مفتحة وعلى الأبواب ستور مرخاة، وعند رأس الصراط داع يقول: استقيموا على الصراط ولا تعوجوا، و فوق ذلك داع يدعو، كلما هم عبد أن يفتح شيئاً من تلك الأبواب؛ قال: ويحك! لا تفتحته؛ فإنك إن تفتحه..)) ثم فسره فأخبر: ((أن الصراط هو الإسلام، وأن الأبواب المفتحة محارم الله، وأن الستور المرخاة حدود الله، والداعي على رأس الصراط هو القرآن، وأن الداعي من فوقه هو واعظ الله في قلب كل مؤمن))(1).
عباد الله!
ومعلوم أن المعاصي تزرع أمثالها، ويولد بعضها بعضاً، حتى يعز على العبد مفارقتها والخروج منها؛ فكلما فرط من العبد معصية؛ قالت أخرى إلى جانبها: اعملني معها ... وهكذا؛ حتى تصير المعاصي صفات لازمة؛ بحيث لو عطل المسيء سيئاته؛ لضاقت عليه نفسه، وأحس كأنه السمك إذا فارق الماء حتى يعاودها فتسكن نفسه.
قال بعض العلماء: من أعطى أسباب الفتنة نفسه أولاً؛ لم ينج آخراً.
عباد الله!
إننا في زمن قد ادلهمّ ليله، وأظلم نهاره، وفقد بعض الناس شخصيته المميزة؛ فبات بعض الناس كل ما يستطيعونه هو تقليد الغرب مزرعة الرذائل، وأقبلوا يعدون وراءه دون وعي، وتلقوا كل أخطائه الاجتماعية بالقبول والتطبيق، واستحسنوها بعد أن طبقوها، ثم عملوا على نشرها في بلاد المسلمين، فاغرقوا دنيا المرأة بكل ما لاكه الغرب؛ بدءً بفتح محلات الخياطة غير المحتشمة، ومروراً بمحلات التجميل للنساء، وانتهاء بالمجلات التي تعنى بالمرأة، حتى نقضوا عرى الأخلاق عند بعض النساء، ونزعوا الحياء.
ثم بعد ذلك بدأ الزحف لنقض عرى الأخلاق عند الشباب، وتمييع أخلاقهم، ونزع الحياء، فنقلوا ما في بلاد الغرب من انحلال إلى بلاد المسلمين، وفاخروا بذلك؛ لزعمهم أنهم حازوا قصب السبق، فبدأت الشرارة الأولى في هذه الأيام بانتشار محلات التجميل للشباب، ولا تستغربوا هذا؛ فليس ضرباً من الخيال أو المبالغة، فلقد وصل إلي ما يثبت ذلك؛ فقد وصل إلي إعلان عن فتح محل حلاقة للرجال في هذا البلد ما يقوم به ذلك المحل: فرد الشعر، تنظيف وإزالة الحبوب من الوجه، جميع قصات الشعر، وجميع المتطلبات.
عباد الله!
إن الكفار لا يألون جهداً في إفساد أخلاق المسلمين؛ فالدولة وفقها الله فتحت المدارس لتعليم الشباب وتربيتهم تربية إسلامية، ولكن بعض الناس أبوا أن ينحوا هذه التربية التي يتلقاها الشباب في المدرسة أو البيت.
عباد الله!
والله؛ لو أن هذا للنساء؛ لقلنا كثير فكيف بحق الرجال الذين يطلب منهم الشهامة والرجولة؟!
إن تلك المجالات وأمثالها داعية إلى فساد الأخلاق عند الشباب، إني من هنا أدعو صاحب ذلك المحل أن يتقي الله، ويغلق أسباب الفساد، وينتبه لما يدبره الكفار، وكما أني أدعو الشباب إلى نبذ هذه السخافات وهجرها والتحذير منها، أدعو من يهمه الأمر أن يستدرك قبل فوات الأوان.
عباد الله!
إن الناظر في واقع المجتمع المسلم اليوم يرى أنه تكالبت عليه الأعداء بغية إفساده، ويعجب من وقوف المسلمين حائرين أمام تلك الأسلحة؛ ينتظرون أن تفتك بهم.
فيا من جعلتم لمجتمعنا وسائل الفساد للأخلاق! اتقوا الله فينا، اتقوا الله في شبابنا، اتقوا الله في نسائنا، واخشوا أن يحل بنا العقوبة!!
ألم نتعظ بما وقع من الزلازل والخسف والفيضانات والرياح العاتية؟!
أننتظر حجارة من السماء؟!
وأنتم يا أولياء أمور النساء والشباب مسؤولون بالدرجة الأولى عما ضيعتم من فتيات في ريعان الشباب في الأسواق يحادثن الفساق، ويركبن مع السائقين وحدهن، ويقفن على الخياطين، وشباب يتكسرون ويعيشون الضياع.
(1) رواه الامام احمد في " المسند" (4142، 4437) ، والحاكم (2/368)، من حديث النواس بن سمعان.
ـــــــــــــــــــ(68/192)
في بر الوالدين
...
...
8
...
الأسرة والمجتمع
...
...
الوالدان
...
صالح بن عبد الله بن حميد
...
...
مكة المكرمة
...
...
...
المسجد الحرام
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
عِظَم فضل الوالدين وحقهما بعد الله عز وجل , والآيات في ذلك – مكانة الأم ومعاناتها من أجل الابن – مكانة الأب ومعاناته من أجل الابن – من حقوق الوالدين : المحبة , والتقدير , والطاعة والتوقير , والتأدب معهما – عقوبة العقوق والجحود – أثر البر وفضله , وعاقبة العقوق
الخطبة الأولى
أما بعد:
فيا أيها المسلمون: جبلت النفوس على حب من أحسن إليها، وتعلقت القلوب بمن كان له فضل عليها، وليس أعظم إحساناً ولا أكثر فضلا بعد الله سبحانه وتعالى من الوالدين.
حيث قرن الله حقهما بحقه، وشكرهما بشكره، وأوصى بهما إحساناً بعد الأمر بعبادته: وَاعْبُدُواْ اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَاناً [النساء:36].
لله سبحانه نعمة الخلق والإيجاد، وللوالدين بإذنه نعمة التربية والإيلاد. يقول ابن عباس رضي الله عنهما: ثلاث آيات مقرونات بثلاث: لا تقبل واحدة بغير قرينتها: وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ [المائدة:92]. فمن أطاع الله ولم يطع الرسول لم يقبل منه. وَأَقِيمُواْ الصلاةَ وَاتُواْ الزكاةَ [النور:56]. فمن صلى ولم يزك لم يقبل منه. وأن اشكر لي ولوالديك فمن شكر الله ولم يشكر لوالديه لم يقبل منه.
فرضى الله في رضى الوالدين، وسخط الله من سخط الوالدين.
أيها المؤمنون: إحسان الوالدين عظيم، وفضلهما سابق، تأملوا حال الصغر، وتذكروا ضعف الطفولة: رَّبّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِى صَغِيرًا [الإسراء:24]. حملتك أمك في أحشائها تسعة أشهر، وهناً على وهن، حملتك كرهاً، ووضعتك كرهاً، ولا يزيدها نموك إلا ثقلاً وضعفاً.
وعند الوضع رأت الموت بعينها. ولكن لما بصرت بك إلى جانبها سرعان ما نسيت آلامها، وعلقت فيك جميع آمالها. رأت فيك البهجة والحياة وزينتها، ثم شغلت بخدمتك ليلها ونهارها، تغذيك بصحتها .طعامك درها. وبيتك حجرها. ومركبك يداها وصدرها وظهرها.
تحيطك وترعاك، تجوع لتشبع أنت، وتسهر لتنام أنت، فهي بك رحيمة، وعليك شفيقة. إذا غابت عنك دعوتها، وإذا أعرضت عنك ناجيتها، وإذا أصابك مكروه استغثت بها. تحسب كل الخير عندها، وتظن أن الشر لا يصل إليك إذا ضمتك إلى صدرها أو لحظتك بعينها.
أما أبوك فأنت له مجبنة مبخلة، يكد ويسعى، ويدفع عنك صنوف الأذى، ينتقل في الأسفار. يجوب الفيافي والقفار، ويتحمل الأخطار بحثاً عن لقمة العيش، ينفق عليك ويصلحك ويربيك. إذا دخلت عليه هش وإذا أقبلت إليه بش، وإذا خرج تعلقت به، وإذا دخلت عليه هش، وإذا حضر احتضنت حجره وصدره، هذان هما والداك، وتلك هي طفولتك وصباك، فلماذا التنكر للجميل؟ وعلام الفظاظة والغلظة، وكأنك أنت المنعم المتفضل؟!.
أخرج الشيخان وغيرهما واللفظ لمسلم، عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: أقبل رجل إلى رسول الله فقال: أبايعك على الجهاد والهجرة أبتغي الأجر. قال: ((فهل من والديك أحد حي))؟ قال: نعم بل كلاهما. قال: ((فتبتغي الأجر من الله؟)). قال: نعم. قال: ((فارجع إلى والديك فأحسن صحبتهما)) [1].
وفي حديث سنده جيد عند الطبراني: أن رجلا جاء إلى النبي يستشيره في الجهاد، فقال عليه الصلاة والسلام: ((ألك والدان؟)) قال: نعم؟ قال: ((الزمهما فإن الجنة تحت أقدامهما))[2].
أيها الإخوة في الله: إن حق الوالدين عظيم، ومعروفهما لا يجازى، وان من حقهما المحبة والتقدير، والطاعة والتوقير، والتأدب أمامهما، وصدق الحديث معهما، وتحقيق رغبتهما في المعروف، وتنفق عليهما ما استطعت : ((أنت ومالك لأبيك)).
ادفع عنهما الأذى فقد كانا يدفعان عنك الأذى. لا تحدثهما بغلظة أو خشونة أو رفع صوت. جنبهما كل ما يورث الضجر: فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا [الإسراء:23]. تخير الكلمات اللطيفة، والعبارات الجميلة والقول الكريم.
تواضع لهما، واخفض لهما جناح الذل رحمة وعطفاً وطاعة وحسن أدب، لقد أقبلا على الشيخوخة والكبر، وتقدما نحو العجز والهرم بعد أن صرفا طاقتهما وصحتهما وأموالهما في تربيتك وإصلاحك. تأمل حفظك الله قول ربك: إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ [الإسراء:23]. إن كلمة (عندك) تدل على معنى التجائهما واحتمائهما وحاجتهما، فلقد أنهيا مهمتهما، وانقضى دورهما، وابتدأ دورك، وها هي مهمتك: فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا [الإسراء:23]. قال رجل لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: إن لي أماً بلغ منها الكبر أنها لا تقضي حوائجها إلا وظهري لها مطية، فهل أديت حقها؟ قال: لا. لأنها كانت تصنع بك ذلك وهي تتمنى بقاءك، وأنت تصنعه وأنت تتمنى فراقها، ولكنك محسن، والله يثيب الكثير على القليل.
نعم إن حقهما عظيم ولكن الجأ إلى الدعاء لهما في حال الحياة وبعد الممات اعترافاً بالتقصير، وأملاً فيما عند الله رَّبّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِى صَغِيرًا [الإسراء:24].
أيها الإخوة في الله: إن العار والشنار والويل والثبور أن يفجأ الوالدان بالتنكر للجميل، كانا يتطلعان للإحسان، ويؤملان الصلة بالمعروف، فإذا بهذا المخذول قد تناسى ضعفه وطفولته، وأعجب بشبابه وفتوته، وغره تعليمه وثقافته، وترفع بجاهه ومرتبته، يؤذيهما بالتأفف والتبرم، ويجاهرهما بالسوء وفحش القول ،يقهرهما وينهرهما، بل ربما لطم بكف أو رفس برجل يريدان حياته، ويتمنى موتهما، وكأني بهما وقد تمنيا أن لو كانا عقيمين. تئن لهما الفضيلة، وتبكي من أجلهما المروءة.
يا أيها المخذول: هل حينما كبرا فاحتاجا إليك جعلتهما أهون الأشياء عليك؟! قد عممت غيرهما بالإحسان، وقابلت جميلهما بالنسيان. شق عليك أمرهما، وطول عمرهما. أما علمت أن من بر بوالديه بر به بنوه، ومن عقهما عقوه، ولسوف تكون محتاجاً إلى بر أبنائك، وسوف يفعلون معك كما فعلت مع والديك، وكما تدين تدان، والجزاء من جنس العمل. يقول عليه الصلاة والسلام: ((ما من ذنب أجدر أن تعجل لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدخر له في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم))[3].
وإن أكبر الكبائر الشرك بالله وعقوق الوالدين، بهذا صح الخبر عن الصادق المصدوق .
وفي حديث عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة: العاق لوالديه، ومدمن الخمر، والمنان عطاءه. وثلاثة لا يدخلون الجنة العاق لوالديه، والديوث، والرجلة من النساء))[4].
وفي حديث آخر عن جابر رضي الله عنه قال: خرج علينا رسول الله فقال: ((يا معشر المسلمين إياكم وعقوق الوالدين، فإن ريح الجنة توجد من مسيرة ألف عام، والله لا يجد ريحها عاق))[5]، واعلموا أن بر الوالدين فريضة لازمة، وأمر محتم، وهو سعة في الرزق، وطول في العمر، وحسن في الخاتمة. عن علي رضي الله عنه عن النبي قال: ((من سره أن يمد له في عمره ويوسع له في رزقه ويدفع عنه ميتة السوء فليتق الله وليصل رحمه)). والوالدين أقرب الناس إليك رحماً.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِى صَغِيرًا رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِى نُفُوسِكُمْ إِن تَكُونُواْ صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلاْوَّابِينَ غَفُوراً [ الإسراء:23-25].
[1] أخرجه مسلم (4/1975-ح2549).
[2] أخرجه الطبراني في الكبير (2/289-ح2202)، وقال الهيثمي : رواه الطبراني ورجاله ثقات انظر مجمع الزوائد (8/138).
[3] أخرجه احمد (5/38)، وأبو داود (4/276-ح4902)، وابن ماجه (2/1408-ح4211)، واليبهقي في السنن الكبرى (10/234)، والترمذي (4/573-ح2511)، وقال : حديث حسن صحيح ، والحاكم (4/356) وقال : صحيح الإسناد ووافقه الذهبي.
[4] أخرجه النسائي (5/80-ح2562)، وأحمد (2/134) ، وابن خزيمة في كتاب التوحيد (2/859،860-ح575،575)، والبيهقي في شعب الإيمان (2/192-ح7877)، والحاكم في موضعين (1/72) وقال : صحيح الإسناد ووافقه الذهبي ، (4/146،147)وقال : صحيح الإسناد ووافقه الذهبي ، وقال الهيثمي : رواه البزار بإسنادين ورجالهما ثقات انظر مجمع الزوائد (8/14،148).
[5] أخرجه أحمد (1/143)، والحاكم (4/160)وسكت عنه وتابعه والذهبي . وقال الهيثمي : رواه عبد الله بن أحمد والبزار والطبراني في الأوسط ورجال البزار رجال الصحيح غير عاصم بن حمزة وهو ثقة . انظر مجمع الزوائد (8/152).
الخطبة الثانية
الحمد لله وكفى، والصلاة والسلام على نبيه المصطفى، وعلى آله وصحبه، ومن سار على نهجه واقتفى.
أما بعد:
فاتقوا الله أيها المؤمنون، واعلموا أن من البر أن يتعهد الرجل أصدقاء والديه، ويحسن كرامتهم، ويفي بحقهم، فقد قال عليه الصلاة والسلام: ((إن من أبر البر صلة الولد أهل ود أبيه))[1].
وجاء رجل إلى رسول الله وقال: هل بقي علي من بر أبوي شيء أبرهما به بعد وفاتهما؟ قال : ((نعم الصلاة عليهما، وإنفاذ عهدهما، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما، وإكرام صديقهما من بعدهما))[2].
فاستيقنوا هذا رحمكم الله، فالبر بجميع وجوهه: زيادة في العمر، وكثرة في الرزق، وصلاح في الأبناء، فمن بر والديه بره أبناؤه. والعقوق خيبة وخسارة وخذلان. وقد قيل: إن الله ليعجل هلاك العبد إذا كان عاقاً ليعجل له العذاب، وإن الله ليزيد في عمر العبد إذا كان باراً ليزيده براً وخيراً.
[1] أخرجه مسلم (4/1979-ح2552)، وأبو داود (4/337-ح5143).
[2] أخرجه أبو داود (4/336-ح5142)، وابن ماجه (2/1208،1209-ح3664)، وأحمد (3/497،498)، وابن حبان انظر الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان (2/162-ح418)، والطبراني في المعجم الكبير (19/267،268-ح592)، والبيهقي في السنن الكبرى (4/28)، والبخاري في الأدب المفرد ( ص22-ح35).
ـــــــــــــــــــ(68/193)
صلوا أرحامكم 1
...
...
9
...
الأسرة والمجتمع
...
...
الأرحام
...
صالح بن عبد الله بن حميد
...
...
مكة المكرمة
...
...
...
المسجد الحرام
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
اقتران الأمر بالتوحيد والنهي عن الشرك بالإحسان إلى الوالدين والأقربين – من هم الأرحام ؟- فضل صلة الرحم وأثرها بين الناس – صورة الصلة وكيفيتها – تقطيع الأرحام من الكبائر وعقوبته معجلة – ليس من صلة الرحم التعاون على الظلم والباطل
الخطبة الأولى
أما بعد:
فاتقوا الله أيها المؤمنون: اتقوه وأخلصوا له العبادة، اتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام.
يَأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِى خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء [النساء:1].
خلقكم من نفس واحدة، فالرب واحد، والأصل واحد. أسرة واحدة انبث منها الرجال والنساء ليلتقوا في وشيجة واحدة، ويتصلوا برحم واحدة. من هذا المنطلق تقوم تكاليف التكافل والتراحم.
فأسرة الإنسان وقرابته يا عباد الله هم عدته وسنده، وهم أصله وقوته.
يقول علي رضي الله عنه: (أولئك هم عشيرتك، بهم تصول وتطول، وهم العدة عند الشدة، أكرم كريمهم، وعد سقيمهم، ويسر على معسرهم،ولا يكن أهلك أشقى الخلق بك).
أيها الإخوة في الله: ما أمر الله بتوحيده، وما نهى عن الإشراك به إلا وقرن ذلك بالإحسان إلى الوالدين والأقربين.
اقرءوا إن شئتم: وَاعْبُدُواْ اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِى الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِى الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً [النساء:36].
وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَاناً [الإسراء:23].
ثم قال سبحانه: وَءاتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ [الإسراء:26].
أيها المؤمنون: إن صلة الأرحام حق لكل من يمت إليك بصلة نسب أو قرابة. وكلما كان أقرب كان حقه ألزم وأوجب: ((أمك وأباك ثم أدناك أدناك)).
وطريق القيام بحق الأقارب والأرحام فشو المودة، واتساع الصدور، وسلامة القلوب.
إن أعظم ما امتن الله به على الزوجين اللذين هما أصل الأسرة ونواتها، أن جعل المودة والرحمة بينهما وَمِنْ ءايَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْواجاً لّتَسْكُنُواْ إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً [الروم:21].
إن أساس التواصل والرباط الموثق هو التواد والتراحم، وإذا فقد ذلك تقطعت الأوصال، واستشرى الفساد، وحقت لعنة الله عياذاً بالله: وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِى الأرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوء الدَّارِ [الرعد:25].
إن صلة الرحم بركة في الأرزاق، وتوفيق في الحياة، ويكتب الله بها العزة والمنعة، وتمتلئ القلوب بها إجلالا وهيبة.
أخرج الإمام أحمد وابن ماجه – ورواة أحمد ثقات - عن عائشة رضي الله عنها مرفوعاً: ((.. وصلة الرحم وحسن الخلق وحسن الجوار يعمران الديار ويزيدان الأعمار))[1].
وروى البزار بإسناد جيد والحاكم عن علي رضي الله عنه قال: (من سره أن يمد له في عمره ويوسع له في رزقه ويدفع عنه ميتة السوء فليتق الله وليصل رحمه)[2].
وفي صحيح البخاري مرفوعاً: ((من أحب أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أجله فليصل رحمه))[3].
وفي الخبر: ((صلة الرحم محبة في الأهل، ومثراة في المال، ومنسأة في الأثر))[4] أي زيادة في المال والعمر وبركة فيهما.
بصلة الأرحام تقوى المودة، وتزيد المحبة، وتتوثق عرى القرابة، وتزول العداوة والشحناء، ويحن ذو الرحم إلى أهله.
ولتعلموا رحمكم الله أن صلة الرحم والإحسان إلى الأقربين ذات مجالات واسعة ودروب شتى: فمن بشاشة عند اللقاء، ولين في المعاملة.. إلى طيب في القول، وطلاقة في الوجه. إنها زيارات وصلات، وتفقد واستفسارات، مكالمة ومراسلة، إحسان إلى المحتاج، وبذل للمعروف، وتبادل في الهدايا. ينضم إلى ذلك غض عن الهفوات، وعفو عن الزلات، وإقالة للعثرات. عدل وإنصاف، واجتهاد في الدعاء بالتوفيق والصلاح.
وأصدق من ذلك وأعظم مداومة الصلة ولو قطعوا، والمبادرة بالمغفرة إذا أخطأوا، والإحسان إليهم ولو أساءوا.
إن مقابلة الإحسان بالإحسان مكافأة ومجازاة، ولكن الصلة الواصلة بينت في قول نبيكم محمد : ((ليس الواصل بالمكافئ، ولكن الواصل من إذا قطعت رحمه وصلها))[5].
وجاء رجل إلى النبي فقال له: يا رسول الله: إن لي قرابة أصلهم ويقطعوني، وأحسن إليهم ويسيئون إلي، وأحلم عليهم ويجهلون علي. فقال عليه الصلاة والسلام: ((لئن كان كما تقول فكأنما تسفهم المل (أي تطعمهم الرماد الحار في أفواههم) ولا يزال معك من الله ظهير مادمت على ذلك))[6].
ومع كل ذلك أيها المؤمنون ومع هذه الآيات والأحاديث فإن في الناس من تموت عواطفه، ويزيغ عن الرشد فؤاده، فلا يلتفت إلى أهل، ولا يسأل عن قريب.
إن العار والشنار، فيمن منحه الله جاهاً وأحسن له رزقاً، ثم يتنكر لأقاربه أو يتعالى عليهم. بل قد يترفع أن ينتسب إليهم فضلا عن أن يشملهم بمعروفه ويمد لهم يد إحسانه.
وإن قطيعة الرحم شؤم وخراب، وسبب للعنة وعمى البصر والبصيرة: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ فِى الأرْضِ وَتُقَطّعُواْ أَرْحَامَكُمْ أَوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ [محمد:22-23].
إن تقطيع الأرحام من أعظم كبائر الذنوب، وعقوبتها معجلة في الدنيا قبل الآخرة.
أخرج أبو داود والترمذي وصححه الحاكم عن أبي بكرة رضي الله عنه عن النبي قال: ((ما من ذنب أجدر أن يعجل الله لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدخره له في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم))[7].
وروى الإمام أحمد والبخاري في الأدب المفرد – ورواة أحمد ثقات – عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إن أعمال بني آدم تعرض كل عشية خميس ليلة الجمعة فلا يقبل عمل قاطع رحم))[8].
ونقل عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه كان جالساً بعد الصبح في حلقة فقال: (أنشد الله قاطع الرحم لما قام عنا، فإنا نريد أن ندعو ربنا، وإن أبوب السماء مرتجة – أي مغلقة – دون قاطع الرحم)[9].
أيها الإخوة: إن أسرع الخير ثواباً البر وصلة الرحم، وأسرع الشر عقوبة البغي وقطيعة الرحم، ومع هذا ترى في بعض من قل نصيبهم من الخير يسارع في قطع صلاته بأقاربه لأدنى سبب؛ إما لكلمة سمعها، أو شيئاً صغيراً رآه، وما درى أنه بهذا قد يجر إلى نفسه وأهله العداوة والجفاء، فيستحقون اللعنة وزوال النعمة وسوء العاقبة: وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِى الأرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوء الدَّارِ [الرعد:25].
ولقد أوصى زين العابدين علي بن الحسين ابنه رضي الله عنهم أجمعين فقال: (لا تصاحب قاطع رحم؛ فإني وجدته ملعوناً في كتاب الله في ثلاثة مواضع).
فاتقوا الله وصلوا أرحامكم، فأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض. قدموا لهم الخير ولو جفوا، وصلوهم وإن قطعوا، يدم الله عليكم بركاته، ويبسط لكم في الأرزاق، ويبارك في الأعمار.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإْحْسَانِ وَإِيتَآء ذِى الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْى يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النحل:90].
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه وبسنة نبيه محمد ، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه احمد (6/159)، وقال الحافظ ابن حجر: سند رجاله ثقات. انظر الفتح (10/429).
[2] أخرجه احمد (1/143)، والحاكم (4/160) وسكت عنه وتابعه الذهبي. وقال الهيثمي: رواه عبد الله بن أحمد والبزار والطبراني في الأوسط ورجال البزار رجال الصحيح غير عاصم بن حمزة وهو ثقة. انظر مجمع الزوائد (8/152).
[3] أخرجه البخاري (10/429-ح5986)، ومسلم (4/1982-ح2557) بلفظ: ((وينسأ له في أثره)).
[4] أخرجه أحمد (2/374)، والترمذي (4/309) وقال: حديث غريب وأشار الحافظ ابن حجر إلى تحسين الترمذي له. انظر الفتح (10/429)، والطبراني في الكبير (18/98-ح176)، وعزاه الهيثمي إليه وقال: رجاله موثقون. انظر المجمع (1/193،8/153)، والحاكم (4/161) وقال: صحيح الإسناد ووافقه الذهبي.
[5] أخرجه البخاري (10/437-ح5991).
[6] أخرجه مسلم (4/1982-ح2558).
[7] أخرجه احمد (5/38)، وأبو داود (4/276-ح4902)، وابن ماجه (2/1408-ح4211)، والبيهقي في السنن الكبرى (10/234)، والترمذي (4/573-ح2511) وقال: حديث حسن صحيح، والحاكم (4/356)وقال: صحيح الإسناد ووافقه الذهبي.
[8] أخرجه أحمد (2/484)وقال الهيثمي: رواه أحمد ورجاله ثقات. انظر مجمع الزوائد (8/151)، والبخاري في الأدب المفرد (ص32،33-ح61).
4 رواه الطبراني ورجاله الصحيح إلا أن الأعمش لم يدرك ابن مسعود. انظر مجمع الزوائد (8/151).
الخطبة الثانية
الحمد لله حمداً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الحمد في الآخرة والأولى، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله بعثه بالرحمة والهدى، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله الأصفياء وأصحابه النجباء والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله أيها المؤمنون، واعلموا أن حق القريب رحم موصولة، وحسنات مبذولة، وهفوات محمولة، وأعذار مقبولة. وكما قيل: لا تقطع القريب وإن أساء فإن المرء لا يأكل لحمه لو جاع.
أيها المؤمنون: لئن كانت صلة الرحم تعني الإحسان إلى المحتاج، ورفع الظلم عن المظلوم، والمساعدة على وصول الحق. فليس من صلة الرحم المناصرة على الباطل والعون على الظلم والبغي والعدوان، فما هذا إلا الحمية الجاهلية الممقوتة، تفشو بها العداوة، وينشر بها الفساد، وتتقطع بها الأرحام.
ولن يكون البغي والعدوان طريقاً إلى الحق، أو سبيلا إلى العدل والخير. فاعرفوا الحق وميزوه عن الباطل، ولا تأخذكم العزة بالإثم، واستقيموا على أمر ربكم. أطعموا الطعام وأفشوا السلام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام.
ـــــــــــــــــــ(68/194)
أحكام تتعلق بالمرأة
...
...
718
...
الأسرة والمجتمع, فقه
...
...
الزكاة والصدقة, المرأة
...
عبد الحميد التركستاني
...
...
الطائف
...
7/5/1414
...
...
طه خياط
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- شمولية أحكام الإسلام للعقيدة والأخلاق والعبادات ، وتداخل الأوامر بها في النصوص الشرعية. 2- أحكام تتعلق بصلاة المرأة. 3- أحكام للزكاة تتعلق بالرجل والمرأة. 4- زكاة الحلي وإعطاء الزوج من زكاتها. 5- أمر النساء بالاكثار من الصدقة.
الخطبة الأولى
أما بعد:
فاتقوا الله أيها المسلمون: وأطيعوا الله ورسوله إن كنت مؤمنين، ولا نزال أيها الإخوة في موضوع أخلاق المرأة المسلمة ولقد توقفنا عند قوله تعالى: وأقمن الصلاة وآتين الزكاة وأطعن الله ورسوله. إلى آخر الآيات فأقول وبالله التوفيق.
فبعد أن أمر الله نساء النبي بالتقوى وعدم الخضوع بالقول والقول بالمعروف والمكث في البيت وعدم الخروج إلا لحاجة وإذا خرجن فلا يتبرجن تبرج الجاهلية الأولى بعد هذا التصحيح في السلوك الاجتماعي والأخلاقي في الحياة وبعد تهذيب النفس بهذه الآداب والفضائل كان لابد من صلة بالله يرتفع بها الفرد على عرف الناس وتقاليد المجتمع وضغط البيئة، ويشعر أنه أهدى وأعلى من الناس والمجتمع والبيئة، وأنه حري به أن يقود الآخرين إلى النور الذي يراه لا أن يقوده الآخرون إلى الظلمات وإلى أخلاق الجاهلية التي تغرق فيها الحياة كلما انحرفت عن طريق الله.
ولهذا كان الإسلام وحدة تجتمع فيه الشعائر والآداب والأخلاق والتشريعات والنظم كلها في نطاق العقيدة، ومن ثم كان الأمر بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وطاعة الله ورسوله هو خاتمة التوجيهات الأخلاقية والسلوكية لأهل البيت ولأنه لا يقوم شيء من تلك التوجيهات بغير العبادة والطاعة وكل ذلك لحكمة وقصد وهدف، إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا وهذا التطهير عن الرجس وعن الرذيلة لا يتم إلا بالتزام النساء المؤمنات لهذه الصفات التي أمر الله بها أمهات المؤمنين، والتطهير وإذهاب الرجس يتم بوسائل يأخذها الناس أنفسهم ويحققونها في واقع الحياة العملي، وهذا هو طريق الإسلام، شعور وتقوى في الضمير وسلوك وعمل في الحياة يتم بهما معا تمام الإسلام وتتحقق بهما أهدافه واتجاهاته في الحياة.
يقول ابن كثير رحمه الله في تفسيره هذه الآية عند قوله: وأقمن الصلاة. . . : إن الله نهاهن أولا عن الشر ثم أمرهن بالخير من إقامة الصلاة، وهي عبادة الله وحده لا شريك له، وإيتاء الزكاة وهي الإحسان إلى المخلوقين وبالنسبة لقضية الصلاة لنا فيها عدة مسائل:
الأمر الأول: أنه لا يجوز للمرأة أن تظهر شيئا من بدنها سوى الوجه والكفين حتى الشعر النازل على أذنيها يجب أن تغطيه أيضا ظهور قدميها وبهذا تكون قد سترت عورتها المطلوبة منها في الصلاة وذلك لأن ستر العورة شرط لصحة الصلاة فإن بدا شيء من بدنها بغير قصد في أثناء الصلاة يجب عليها تغطيته وإن طال كشف شيء من عورتها بطلت صلاتها وقد ورد في الحديث الصحيح أن النبي قال: ((لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار))، وفي لفظ: ((لا يقبل الله من امرأة صلاة حتى تواري زينتها، ولا من جارية بلغت الحيض حتى تختمر)) وهذان الحديثان يدلان على وجوب تغطية المرأة لرأسها وجميع بدنها في صلاتها ما عدا الوجه والكفان فإذا بلغت وصارت مكلفة فصلّت وشيء من شعرها مكشوف لا تجوز صلاتها، قال الترمذي: (العمل عليه عند أهل العلم أن المرأة إذا أدركت فصلت وشيء من شعرها مكشوف لا تجوز صلاتها) أي أنه ينبغي لها أن تلبس الثوب السابغ الواسع تغطي به بدنها وقدميها ما عدا الوجه والكفان.
الأمر الثاني: إن نابها شيء في الصلاة فإنها لا تسبح بل تصفق.
الأمر الثالث: صلاتها مثل صلاة الرجل لما ورد عن النبي : ((صلوا كما رأيتموني أصلي)).
الأمر الرابع: أنه لا يصح منها أذان ولا إقامة، قال ابن عمر رضي الله عنهما: (ليس على النساء أذان ولا إقامة) فلا يجوز للمرأة أن تؤذن ولا يصح أذانها كذلك لا تصح إقامتها إن وجد ذكر بالغ، وإن لم يوجد بأن كانت بين نساء فإقامتها مستحبة.
الأمر الخامس: إمامة المرأة، فلا تصح إمامة المرأة للرجل مطلقا، ولكن تصح إمامة المرأة للنساء وتقف معهن في الصف وكانت أم سلمة تفعله، فلو كانت هناك دار واسعة وبها نساء كثيرات وأراد النسوة أن يصلين صلاة جماعة فيجوز ذلك بشرط ألا تتقدمهن من تصلي بهن بل تقف معهن في الصف ويجوز لها أن تجهر في الصلاة الجهرية إذا كانت بين النساء بحيث لا يسمعها الرجال.
الأمر السادس: حمل المرأة للصغير وهي تصلي، يجوز لها أن تحمل صغيرها إن بكى إن لم يكف عن البكاء إلا بحمله وصلاتها صحيحة وقد ورد ذلك عن النبي : ((أنه صلى وأمامه بنت زينب ابنة النبي على رقبته فإذا ركع وضعها وإذا قام من سجوده أخذها فأعادها إلى رقبته حتى انتهى من صلاته)).
الأمر السابع: يجوز للمرأة أن تذهب إلى المسجد لتصلي فيه إذا أذن لها زوجها ولكن بيتها خير لها كما ورد بذلك الحديث، فإن ذهبت إلى المسجد تخرج غير متبرجة بزينة ولا متعطرة ولا سافرة والحكمة في ذلك كما قال أهل العلم: لئلا تتسبب في إثارة الشهوة عند الرجال بطيبها ورائحتها، فإن أبت إلا أن تخرج متعطرة ومتزينة فإنها عاصية لله ورسوله، فإن دخلت المسجد فأين يكون موقفها من الرجال، فهي لا تقف أمام الرجال ولا قريبا منهم بل تصلي في مؤخرة المسجد وقد ورد في الحديث الصحيح عن النبي أنه قال: ((خير صفوف الرجال أولها وشرها آخرها، وخير صفوف النساء آخرها وشرها أولها))، وإنما كان خيرها آخرها بالنسبة للنساء لما في الوقوف فيه من البعد عن مخالطة الرجال، وكلامنا هذا لا ينطبق على المكان المخصص بالنساء كما في بعض المساجد اليوم التي توجد بها مقصورات خاصة بالنساء وإنما نقصد المساجد التي لا توجد بها المقصورات الخاصة.
فإذا انتهت الصلاة يستحب للمرأة أن تتصرف من المسجد قبل خروج الرجال.
الأمر الثامن: يجوز للمرأة إذا كانت بالمسجد أن تصلي على الجنازة إن كانت هناك جنازة وقد أمرت عائشة أن يؤتى بسعد بن أبي وقاص لتصلي عليه عندما مات.
الأمر التاسع: يجب على المرأة أن تخرج لصلاة العيد سواء كانت بكرا أم ثيباً شابة أم عجوزا صغيرة أو كبيرة حتى الحائض ما لم تكن معتدة أو كان في خروجها فتنة لحديث أم عطية: ((أمرنا رسول الله أن نخرج في الفطر والأضحى العواتق والحيض وذوات الخدور، فأما الحيض فيعتزلن المصلى ويشهدن الخير ودعوة المسلمين، قلت: يا رسول الله إحدانا لا يكون لها جلباب، قال: لتلبسها أختها)) رواه البخاري. العواتق: جمع عاتق وهي التي بلغت الحلم وقاربت التزويج.
الأمر العاشر: المرأة المستحاضة وهي التي يخرج منها دم غير دم الحيض فإنها تتوضأ لكل صلاة وتصلي وإن قطر الدم أثناء صلاتها وصلاتها صحيحة، وتستثفر أي تضع قطنة على فرجها حتى لا تتسخ ولا يتضرر المكان.
المسألة الحادية عشرة: وهي إذا ما حاضت المرأة بعد دخول وقت الصلاة فإنها تقضي هذه الصلاة بعد طهرها وكذا لو طهرت قبل خروج الوقت ولو بلحظة فإنه يجب عليها قضاء الصلاة التي طهرت في وقتها وهذا مما يجب التنبه له.
المسألة الثانية عشرة: أن المرأة لا يجب عليها حضور صلاة الجمعة في المسجد بل تصلي في بيتها ظهرا أربع ركعات قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أنه لا جمعة على النساء، ولكن لو حضرت إلى المسجد وصلت الجمعة صحت صلاتها وأجزأتها عن صلاة الظهر.
ولعلنا بهذا قد أتينا على معظم مسائل الصلاة بالنسبة للمرأة هذا من الناحية الفقهية، وأما الحكم بوجوب محافظتها على الصلاة فهي كالرجل غير أنها لا تصلي في حال الحيض ولا تجب عليها صلاة الجماعة في المسجد بل بيتها خير لها.
فإن أصرت المرأة على ترك الصلاة فإنها تكفر لقول النبي عليه الصلاة والسلام: ((بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة)) رواه مسلم وفي رواية: ((العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر))، ويترتب على هذا إن ماتت مصرة على ترك الصلاة أن لا يصلى عليها ولا تدفن في مقابر المسلمين، ويجب على زوجها إن كانت متزوجة أن يفارقها إلا أن تتوب وتصلي، وأيضا لا يحق لها حضانة أولادها إن كانت لا تصلي فانتبهوا لهذا الأمر جيدا وأمروا نساءكم بالمحافظة على الصلاة في وقتها وعدم التفريط فيها فإنكم رعاة لهن وكل راع مسؤول عن رعيته.
المسألة الثالثة عشرة: يجوز للمرأة أن تصلي في ثوب حاضت فيه وإن أصابه شيء من دم حيضها إذا حاولت إزالته وبقي شيء يسير منه فقد روى الإمام البخاري عن عائشة رضي الله عنها: (ما كان لإحدانا إلا ثوب واحد تحيض فيه، فإذا أصابه شيء من دم قالت بريقها فقصعته بظفرها) أي دلكته به، وهذا يدل على العفو عن يسير الدم لأن الدم لا يطهر بالريق.
ويجوز للمرضع أن تصلي بثوبها وإن تقيأ عليه الرضيع قال الإمام ابن القيم: (إن المراضع ما زلن من عهد رسول الله وإلى الآن يصلين في ثيابهن والرضع يتقيؤون ويسيل لعابهم على ثياب المرضعة وبدنها، فلا يغسلن شيئا من ذلك).
المسألة الرابعة عشرة: تكره الصلاة للمرأة وللرجل أيضا في غرفة بها صورة لأي كائن حي ذي روح أما إذا كانت الصورة لغير ذي روح كما لو كانت لأشجار أو أنهار أو مدن فلا أثر لها في صحة الصلاة.
واعلموا أن المرأة المسلمة لا تستطيع أن تتخلق بالأخلاق التي ذكرناها حتى تصلي لأن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، فالمرأة المصلية هي التي تتقي ربها وتخشاه وتحصن فرجها وتطيع زوجها وتحسن تربية أبنائها وما ذاك إلا لأن الصلاة هي قوام الدين وعماده وركنه الأساسي بعد الشهادتين ولهذا كان الأمر بالصلاة بعد تلك التوجيهات والنصائح لترتبط المرأة بربها وتتصل به في كل يوم وليلة خمس مرات لتزكي نفسها وتطهرها من كل إثم و رجس، فيطمئن قلبها ويستقر حالها، وتخرج من صلاتها وقد ملأ الإيمان قلبها فلا تفكر بحال فيما يغضب الله أو يسخطه وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقا نحن نرزقك والعاقبة للتقوى .
الخطبة الثانية
أما بعد:
أيها المسلمون: وبعد أن أمر الله عز وجل بالصلاة عقب مباشرة بالزكاة فالزكاة أحد أركان الإسلام ومبانيه العظام وهي قرينة الصلاة في مواضع كثيرة من كتاب الله، وفي إخراجها إحسان إلى الخلق وتطهير للنفس وتزكية لها وطمأنينة وسكن، فهي تطهر من الذنوب والأخلاق الرذيلة وتزيد في الأخلاق الحسنة، والأعمال الصالحة وتزيد في الثواب الدنيوي والأخروي وتنمي الأموال وتطفيء غضب الرب وتدفع البلاء عن الإنسان وهي تقي الإنسان من نار جهنم كما ورد في الحديث: ((فاتقوا النار ولو بشق تمرة)).
والزكاة نوعان: أحدهما ما يتعلق بالبدن وهي زكاة الفطر وهي واجبة على الكل.
والثاني: ما يتعلق بالمال وهي المواشي والأثمان والزروع وعروض التجارة فكل هذه الأصناف تجب فيها الزكاة إذا مضى عليها الحول ما عدا الزروع فإن وقت زكاتها هو وقت حصادها لقوله تعالى: وآتوا حقه يوم حصاده والمقصود بالزروع الحبوب التي يقتات الناس بها مما يكال ويدخر كالبر والشعير والذرة وغيرها إذا بلغت خمسة أوسق وهو ما يبلغ زنته ستمائة واثنا عشر كيلو غرام.
والمرأة كالرجل في وجوب الزكاة إذا تحققت شروط وجوب الزكاة وهي: كمال النصاب وتمام الحول وأظن أنه ليس للنساء شيء يختص بهن في الزكاة سوى المال المدخر فإذا حال عليها الحول أي السنة وجب فيه الزكاة وهو ربع العشر، أو الحلي فإن كان غير معد للزينة فهذا يجب فيه الزكاة إذا بلغ النصاب وهو عشرون دينارا والمراد بالدينار الإسلامي الذي يبلغ زنته مثقالا وزنة المثقال أربعة غرامات وربع فيكون نصاب الذهب خمسة وثمانين غراما ما يعادل أحد عشر جنيها سعوديا وثلاثة أرباع الجنيه. وأما نصاب الفضة فهو خمس أواق وهو ما يعاد خمسمائة وخمسة وتسعين غراما وتعادل ستة وخمسين ريالا عربيا من الفضة.
ومقدار الزكاة في الذهب والفضة هو ربع العشر.
وأما حلي المرأة المعد للزينة ففيه خلاف بين أهل العلم في زكاته والأحوط والله أعلم للمرأة أن تخرج زكاته، لما روت عائشة رضي الله عنها قالت: ((دخل علي رسول الله فرأى في يدي فتخات من ورق (تعني من فضة) فقال لي: ما هذا؟ قلت: صنعتهن أتزين لك يا رسول الله، قال: أتؤدين زكاتهن؟ قلت: لا، قال: هو حسبك من النار)) رواه أبو داود والبيهقي والحاكم وهو حديث صحيح.
ويجوز للمرأة أن تخرج زكاتها لزوجها إن كان فقيرا محتاجا لحديث أبي سعيد الخدري أن زينب امرأة عبد الله بن مسعود رضي الله عنهما قالت: يا نبي الله إنك أمرت اليوم بالصدقة وكان عندي حلي لي، فأردت أن أتصدق به، فزعم ابن مسعود أنه وولده أحق من تصدقت به عليهم، فقال عليه الصلاة والسلام: ((صدق ابن مسعود، زوجك وولدك أحق من تصدقت به عليهم)) رواه البخاري. ومع إخراج المرأة للزكاة فقد حث النبي عليه الصلاة والسلام النساء بكثرة الصدقة وكثرة الإنفاق، والفرق بين الزكاة والصدقة: أن الزكاة فرض على مال الإنسان محاسب على تركها، وأما الصدقة فهي تطوع من الإنسان كعمل من أعمال الخير، فقال عليه الصلاة والسلام: ((يا معشر النساء تصدقن ولو من حليكن فإني رأيتكن أكثر أهل النار، فقالت امرأة: وما لنا أكثر أهل النار؟ قال: لأنكن تكثرن اللعن وتكفرن العشير))، فأمر النبي عليه الصلاة والسلام للنساء بالصدقة ليعلمهن أن في الصدقة تكفيرا لخطاياهن، فبالصدقة تتقي المرأة المسلمة من عذاب الله، فينبغي تنبيه النساء المسلمات لهذا الأمر وحثهن على الإنفاق وليعلمن أن ما ينفقن على الكماليات والزينة والأزياء فيها من الإسراف ما الله به عليم فلو خصصت كل أخت مبلغا من المال للإنفاق في سبيل الله ووجوه الخير لكان خيرا وأعظم أجرا.
ويجوز للمرأة أن تتصدق من مال زوجها إن أذن لها أو إذا علمت رضاه وهذا يختلف باختلاف الناس ومما لا شك فيه أن الزوجة تعي تماما معدن زوجها وطبيعته وميوله فإن علمت رضاه جاز لها التصدق، أما إذا علمت غير ذلك فيحرم عليها الإنفاق ولكن يستثنى من ذلك الشيء القليل الذي جرت به العادة وتسمح النفوس دائما بإعطائه ودليل ذلك حديث أسماء رضي الله عنها أنها قالت للنبي : إن الزبير رجل شديد، ويأتيني المسكين فأتصدق عليه من بيته بغير إذنه، فقال عليه الصلاة والسلام: ((أرضحي ولا توعي فيوعي الله عليك)) متفق عليه. ومعنى أرضحي أي: تصدقي بالقليل، ومعنى لا توعي أي: لا تدخري المال فيمنعه الله عنك، وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله : ((إذا أنفقت المرأة من طعام بيتها غير مفسدة كان لها أجر بما أنفقت، ولزوجها أجرة بما كسب وللخازن مثل ذلك لا ينقص بعضهم أجر بعض)) رواه البخاري.
هذا ما تيسر لي جمعه في هذه المسألة وللحديث بقية نكمله في الجمعة القادمة.
ـــــــــــــــــــ(68/195)
الزواج
...
...
732
...
الأسرة والمجتمع, فقه
...
...
النكاح, قضايا المجتمع
...
عبد الحميد التركستاني
...
...
الطائف
...
...
...
طه خياط
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- الزواج سنة جعلها الله في مخلوقاته. 2- ضبط الشرع لغرائز الإنسان. 3- حرص الصحابة على القيام بهذه الشريعة. 4- حرص الصحابة على القيام بهذه الشريعة. 5- النكاح سبيل الفتن. 6- التبتل والرغبة عن النكاح. 7- النكاح سبب للكثير من ثواب الله. 8- الحكم من الزواج. 9- مشكلة غلاء المهور ونفقات الزواج.
الخطبة الأولى
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله عز وجل واعلموا أنه سبحانه قد شرع الزواج وحث عليه ورغّب فيه تأسيا بالمرسلين وابتعادا عن الرهبنة والتقوقع في حياة العزوبية وهروبا من الفواحش التي تجر إليها الشهوة المسعورة غير المنضبطة بدين ولا حياء ولا مروءة.
فالزواج سنة من سنن الله في الخلق والتكوين وسبب في التكاثر والازدياد لا يشذ عنها عالم الإنسان أو الحيوان أو النبات قال تعالى: ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون وقال أيضا: سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم وعما لا يعلمون .
والزواج هو الأسلوب الذي اختاره الله للتوالد والتكاثر واستمرار الحياة، ولم يشأ الله أن يجعل الإنسان كغيره من العوالم فيدع غرائزه تنطلق دون وعي، ويترك اتصال الذكر بالأنثى فوضى لا ضابط له، بل وضع النظام الملائم لسيادته والذي من شأنه أن يحفظ شرفه ويصون كرامته، فجعل اتصال الرجل بالأنثى اتصالا كريما مبنيا على رضاهما وعلى إيجاب وقبول وعلى إشهاد على أن كلا منهما قد صار للآخر، وبهذا وضع للغريزة سبيلها المأمونة، وحمى النسل من الضياع، وصان المرأة من أن تكون كلأً مباحا لكل راتع، هذا هو النظام الذي ارتضاه الله وأبقى عليه الإسلام وهدم كل ما عداه من الزيجات التي كانت في الجاهلية.
وأما أدلة مشروعية الزواج:
فمن القرآن قوله تعالى: وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم وقوله تعالى وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم وأما أدلة مشروعية النكاح من السنة فكثيرة جدا فمنها:
قوله : ((النكاح من سنتي، فمن لم يعمل بسنتي فليس منى، وتزوجوا فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة، ومن كان ذا طول فلينكح، ومن لم يجد فعليه بالصوم فإنه له وجاء)) رواه ابن ماجه.
وحديث ابن مسعود المتفق عليه: ((يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء)) وقوله : ((تناكحوا تكاثروا)) ففي هذه الأحاديث الأمر بالنكاح والترغيب فيه، لأنه من سنته ومن رغب عنه فقد ترك سنة نبيه وطريقته التي سلكها.
وأما الإجماع: فقد أجمع المسلمون على مشروعية النكاح من عهد رسول الله إلى يومنا هذا.
وقد كان من حرص الصحابة رضي الله عنهم على هذه السنة قول ابن مسعود : (لو لم يبق من أجلي إلا عشرة أيام لتزوجت مخافة الفتنة) ويقول ابن عباس : (لا يتم نسك الناسك حتى يتزوج) وقال عمر لرجل لم يتزوج: (إنما يمنعك من الزواج عجز أو فجور)، ولهذا قال العلماء بأن الزواج يكون واجبا لمن استطاعه وخشي على نفسه العنت والوقوع في الفاحشة وذلك لأن صيانة النفس عن الحرام واجب وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، بل قد يقدّم على الحج الواجب إذا كان اشتياقه إليه شديدا.
عباد الله: ولما كان الزواج بهذه الأهمية في الكتاب، والسنة، وفيه هذه الفوائد العظيمة، فإنه يجب على المسلمين أن يهتموا بشأنه ويسهلوا طريقه، ويتعاونوا على تحقيقه، ويمنعوا من يريد تعويقه من العابثين والسفهاء والمخذلين الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون.
أيها المسلمون: لقد رغّب الله عز وجل في كتابه في الزواج بصور متعددة فتارة يذكر أنه من سنن المرسلين قال تعالى: ولقد أرسلنا رسلا من قبلك وجعلنا لهم أزواجا وذرية .
وتارة يذكره في معرض الامتنان: والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة ورزقكم من الطيبات .
وأحيانا يذكره أنه آية من آياته فيقول عز وجل: ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون .
وقد يتردد المرء في الزواج، فيحجم عنه خوفا من الاضطلاع بتكاليفه وهروبا من احتمال أعبائه، فيلفت الإسلام نظره، إلى أن الله سيجعل الزواج سبيلا إلى الغنى، قال تعالى: وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله والله واسع عليم .
وقد بين ذلك النبي عليه الصلاة والسلام في قوله: ((ثلاثة حق على الله عونهم... وذكر منهم: الناكح يريد العفاف)).
بل إن الإسلام يحث على الزواج حثا شديدا حتى في لحظات اليقظة الروحية عندما يريد الإنسان أن يتبتل وينقطع للعبادة فيبين أن ذلك مناف للفطرة ومغاير لسنة الأنبياء والمرسلين وقد أتى ثلاثة رهط إلى منزل النبي فسألوا عن عبادته، فكأنهم تقالّوها - أي رأوها قليلة - فقال أحدهم: أما أنا أصوم فلا أفطر، وقال الآخر، وأما أنا فأقوم ولا أرقد، وقال الثالث: وأما أنا فلا أتزوج النساء، فلما سمع النبي عليه الصلاة والسلام بمقالتهم، قال لهم - مبينا السبيل الأقوم-: ((ما بال أقوام يقولون كذا وكذا، أما والله إني أقوم وأرقد وأصوم وأفطر وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني)) رواه البخاري ومسلم.
فالدين الإسلامي دين يسر وليس دين عسر ودين فسحه لا دين شده ولهذا لم يرض النبي بفعل هؤلاء الثلاثة وبين لهم الاعتدال في العبادة ونبههم إلى أن العبادة لا تكون عائقا أمام الملذات المباحة بل تكون هذه الملذات من العبادة ذاتها كما قال : ((وفي بضع أحدكم صدقة؟ فقال أحد الصحابة: أيأتي أحدنا شهوته ويكون له بها أجر؟ قال: نعم، أرأيت لو وضعها في حرام أما كانت عليه وزر؟ قالوا: بلى قال: كذلك إذا وضعها في الحلال)).
ولهذا أيها الإخوة: كان الزواج عبادة يستكمل به الإنسان نصف دينه ويلقى ربه على أحسن حال من الطهر والنقاء، قال عليه الصلاة والسلام: ((من رزقه الله امرأة صالحة فقد أعانه على شطر دينه، فليتق الله في الشطر الباقي)). فالزوجة الصالحة من العوامل التي تساعد على تقوى الله فهي فيض من السعادة يغمر البيت ويملؤه سرورا وبهجة وإشراقا.
ولهذا امتدح النبي المرأة إذا كانت صالحة قانتة صينةً عابدة تقية فقال: ((خير نسائكم الودود الولود المواتية المواسية إذا اتقين الله)) وفي رواية لمسلم قال: ((الدنيا متاع وخير متاعها المرأة الصالحة)) وفي رواية قال عليه الصلاة والسلام: ((ثلاثة من السعادة: المرأة الصالحة تراها تعجبك وتغيب عنها فتأمنها على نفسها ومالك، والدابة تكون وطيئة فتلحقك بأصحابك والدار تكون واسعة كثيرة المرافق، وثلاث من الشقاء: المرأة تراها فتسوؤك وتحمل لسانها عليك، وإن غبت عنها لم تأمنها على نفسها ومالك، والدابة تكون قطوفا فإن ضربتها أتعبتك وإن تركتها لم تلحقك بأصحابك والدار تكون ضيقة قليلة المرافق)) رواه الحاكم وهو حديث صحيح.
وأما الحكمة من الزواج فهي تتمثل في فوائد وحكم كثيرة أذكر منها ما يلي:
أولا: أنه يصرف النظر عن التطلع إلى ما لا يحل له ويحصّن الفرج ويحفظه كما قال : ((يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج)).
ثانيا: أنه يبعث الطمأنينة في النفس، ويحصل به الاستقرار والأنس، قال تعالى: ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون .
ثالثا: أنه سبب لحصول الذرية الصالحة التي ينفع الله بها الزوجين وينفع بها مجتمع المسلمين، قال : ((تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة)).
رابعا: أن الزواج سبب لنموّ غريزة الأبوة والأمومة لدى الزوجين في ظلال تربية الأطفال، وتنمو مشاعر الود والعطف الحنان.
خامسا: الشعور بتبعة الزواج مما يبعث على النشاط والجد في طلب الرزق وبذل الوسع في ذلك، حتى يستطيع الزوج القيام بكفالة زوجته ونفقتها وتوفير الراحة لها وصيانتها ورفعتها عن التبذل والامتهان في طلب مؤنتها وإعزازها من الذلة والعنوسة والكساد في بيت أهلها.
سادسا: ومن حكم الزواج وضع الغريزة الجنسية في موضعها الطبيعي في الحلال وهو أنسب مجال حيوي لإشباع الغريزة الجنسية.
قال : ((إن المرأة تقبل في صورة شيطان وتدبر في صورة شيطان فإذا رأى أحدكم من امرأة ما يعجبه فليأت أهله فإن ذلك يردما في نفسه)) رواه مسلم.
هذه بعض حكم الزواج وإلا فحكمه كثيرة جدا لمن تأملها وأمعن فكره فيها.
أيها الإخوة: وبعد الذي ذكرت من الترغيب في الزواج وفوائده وحكمه هل بعد هذا يتردد أعزب عن الزواج؟ أو هل يحجم ولي امرأة عن تزويج ابنته ويعضلها ويجلسها في البيت حتى العنوسة؟
أرجو ألا يكون شيء من ذلك وأتمنى أن يسهل أولياء الأمور تزويج أبنائهم وبناتهم حتى لمن أراد التعدد لكي تقل الفواحش من معاكسات وزنى واختطاف وغير ذلك من الجرائم التي من أهم أسبابها هو الصد عن الخير وإعاقة أمر الزواج وتصعيبه أمام شبابها المستهدف من أعداء الدين الذين يتربصون بهم الدوائر من إغراء وتهييج وإثارة حتى يقع هؤلاء الشباب ضحية المرأة العارية التي ليس لها هم سوى إغواء الشباب البعيد عن الزواج حتى يصبح هذا الشاب ليس له همّ ولا طموح ليكون لنفسه حياة زوجية سعيدة بل يذهب إلى هنا وهناك ليطفئ سعار الشهوة المتهيجة في نفسه، فالله الله في فتيانكم وفتياتكم يسّروا أمر الزواج ولا تعسروه وكونوا مفاتيح للخير مغاليق للشر.
الخطبة الثانية
وبعد:
أيها الإخوة: اعلموا أن هناك معوقات أمام الشباب تصده وتعوقه عن الزواج ومن أهم هذه المعوقات:
غلاء المهور: فغلاء المهر سبب رئيسي لإحجام الكثير من شبابنا وعزوفهم عن الزواج خوفا من أن يثقل أحدهم كاهله بدين يصعب على الجبال الراسيات حمله، ولقد استنكر النبي المغالاة في المهور، كما ورد ذلك عنه في الحديث الصحيح أنه قال لرجل: ((على كم تزوجت))؟ قال الرجل: على أربع أواق يعني من الفضة، فقال له عليه الصلاة والسلام: ((على أربع أواق، كأنما تنحتون الفضة من عرض هذا الجبل)) قال العلماء: أنكر عليه هذا المبلغ لأنه كان فقيرا، فالفقير يكره له تحمل الصداق الكثير بل يحرم عليه إذا لم يتوصل إليه إلا بمسألة أو غيرها من الوجوه المحرمة، والغني يكره له دفع المهر الكثير إذا كان من باب المباهاة، ولأنه يسن سنة سيئة لغيره.
وقال عمر بن الخطاب : (لا تغلوا في صدق النساء، فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا أو تقوى في الآخرة، كان أولاكم بها النبي ما أصدق رسول الله امرأة من نسائه، ولا أصدقت امرأة من بناته أكثر من ثنتي عشرة أوقية)، رواه الخمسة وصححه الترمذي، والاثنتا عشرة أوقية تساوي مائة وعشرين ريالا سعوديا من الفضة، وأين هذا المبلغ من مبالغ المهور الباهظة التي تعلمونها اليوم.
وقد قال عليه الصلاة والسلام: ((خير الصداق أيسره)) رواه أبو داود وهو صحيح، وقال أيضا: ((أكثر النساء بركة أيسرهن مؤونة)).
وأكثر الناس في قضية المهر طرفان ووسط غال وجاف وكلاهما مذموم فبينما نرى رجلا يبالغ في التبسط حتى يصل مهر ابنته إلى ريال واحد نجد آخر يغلو ويسرف حتى تبلغ نفقات ليلة الزواج ما يكفي لزواجات كثيرة.
فالتوسط هو الأفضل كما يقول أحد الكتاب: إن التوسط والبعد عن الإفراط والخيلاء وحب المظاهر من أسباب السعادة الزوجية وهو أمر مطلوب من الأغنياء والوجهاء قبل غيرهم، لأنهم هم الذين يصنعون تقاليد المجتمع والآخرون يتشبهون بهم أ.هـ.
ومع غلاء المهور نجد هناك أيضا المباهاة في إقامة الحفلات، واستئجار أفخم القصور مما لا مبرر له إلا إرضاء النساء والسفهاء، ومجاراة المبذرين والسخفاء، مع أن الوليمة بمناسبة الزواج مستحبة فقد قال النبي لبعض أصحابه لما تزوج: ((أولم ولو بشاة)) وهي على قدر حال الزوج فلا ينبغي الأغنام الكثيرة أو الإبل ثم لا تؤكل ويلقى بلحمها إلى القمامة أو يهدر في التراب، بل وصل الأمر إلى أن بعض الناس دعوا إلى حفل زفافهم خمسة آلاف شخص وانظروا كم أنفق فيها من أموال لو دفعت إلى جياع المسلمين ومنكوبيهم لوسعتهم.
أيها الإخوة: إن بساطة المهر، وقلة تكاليف حفل الزفاف، خطوة تحتاج إلى عزيمة صادقة وهمة عالية، لا تبالي بأقوال سفهاء الناس ودهمائهم.
ومن معوقات الزواج: تبذل المرأة وسفورها وكثرة خروجها من المنزل مما يلقي الريبة في قلوب الخطاّب.
ونظراً لكثرة المعاكسات وانتشار الفواحش لا سيما فاحشة الزنا، أصبح كثير ممن يمارسون هذه الجرائم لا يثقون بأي امرأة كانت، وذلك لأن محيطهم المليء بالمنكرات يعمي عليهم أبصارهم وأفئدتهم فيصبحون لا يرون إلا بمنظارهم الأسود الذي لا يريهم إلا الخبيثات من النساء وكأن المجتمع قد خلا من الصالحات.
وقد يكون هؤلاء معدورين شيئا ما، وذلك لكثرة خروج النساء وهن متبذلات سافرات أو متنقبات مائلات مميلات يصدن بسهامهن كل من في قلبه مرض والسبب في تصّيد المرأة للرجال الأجانب وفعلها معهم فاحشة الزنا هو منعهن من الزواج المبكر مما يثير فيها سعار الشهوة إذا كانت قليلة الدين ولا توجد رقابة لها، فتذهب إلى الأسواق أو إلى هنا أو هناك من أجل أن تطفئ ما بها من الهيجان.
وقد قيل قديما: الفراغ للرجل غفلة وللنساء غلمة (أي محرك للغريزة).
فنحن نطالب أولياء الأمور أن يتقوا الله في بناتهن وألا يكونوا حجر عثرة أمام تزوجهن، وأن يبادر أحدهم بالبحث عن الزوج الكفء لابنته إن لم يتقدم إليها أحد ولا عيب في ذلك كما فعل عمر بن الخطاب عندما بحث بنفسه عن زوج لابنته حفصة رضي الله عنها فتزوجها الرسول عليه الصلاة والسلام، وهذه أفضل من أن يمانع من زواج ابنته ويعرضها بعد ذلك لأمور لا تحمد عقباها فلنتنبه لهذا الأمر جيدا.
ومن العقبات أيضا: تأخير زواج البنت بحجة الدراسة حتى يصير عمرها خمسا وعشرين أو ثلاثين سنة فلا يفكر حينئذ أي أحد أن يتقدم للزواج منها لأنها قد كبرت ولم تصبح أهلا للزواج، وليس معنى هذا أننا لا نرى دراسة المرأة بل تدرس وتطلب الشهادات العليا لكن إن تقدم إليها عريس وكان كفؤا فلترض به ولتتزوج ولا تتعذر بالدراسة لأنه قد يكون أول عريس وآخر عريس ويفوتها القطار وتعض بعد ذلك أصابع الندم.
ومن العقبات :ما يفعله بعض الناس من تحجير المرأة على ابن عمها أو قريبها لا يزوجها إلا به ولو كانت لا تريده وهذا من الخطأ ومن الظلم.
ومن الظلم العظيم للنساء وعرقلة طريق الزواج عليهن أن يمتنع الولي من تزويج ابنته إلا بشرط أن يزوجه الآخر ابنته، وهذا ما يسمى نكاح البدل أو الشغار فإن لم يسمِ فيه مهرا لهما، وجعلت المرأة في مقابل المرأة فهو نكاح باطل بإجماع أهل العلم، وإن سمي فيه المهر فقد اختلف العلماء في صحته.
أيها الإخوة: اتقوا الله ولا تمنعوا زواج بناتكم من أجل أهوائكم ورغباتكم الشخصية أو من أجل أطماعكم الدنيئة أو عدم مبالاتكم، فإنهن أمانات في أعناقكم وقد استرعاكم الله عليهن ((وكل راع مسؤول عن رعيته)).
وربما يسبب منع تزويج الفتيات أو تأخيره عارا وخزيا لا تغسله مياه البحار.
ولا يكن همكم الطمع في المهور أو المباهاة والمفاخرة في الظاهر واستئجار أفضل القصور ونسيان العواقب واعتبروا بالمجتمعات التي اشتغلت نساؤها بالدراسات والوظائف وعطلت الزواج أو قللت الاهتمام به، ماذا حصل فيها من فساد الأخلاق وانتهاك الأعراض، وتفكك الأسر وفساد التربية وخواء البيوت من الزوجات الصالحات حتى صارت النساء كالرجال: ربات أعمال لا ربات بيوت، ولا مربيات أطفال، بيوتهن كبيوت العزاب بحاجة إلى من يقوم بها، والسعيد من وعظ بغيره، والشقي من لم تنفعه المواعظ.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله والله واسع عليم .
ـــــــــــــــــــ(68/196)
الشباب
...
...
733
...
الأسرة والمجتمع
...
...
الأبناء
...
عبد الحميد التركستاني
...
...
الطائف
...
...
...
طه خياط
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- أهمية دور الشباب. 2- صور من مؤامرة الأعداء على شبابنا وصور من ضياعهم. 3- سبب ظهور الظواهر الشاذة في مجتمعنا غفلة الآباء وصحبة السوء. 4- دور الشباب في صدر الإسلام. 5- اغتنام مرحلة الشباب وبقية الأوقات.
الخطبة الأولى
أما بعد:
أيها المسلمون: اتقوا الله حق التقوى وليتذكر كل منكم مسئوليته عن الإسلام والمسلمين، وسوف يكون حديثي في هذا اليوم عن الشباب ومشكلات الشباب.
ولا شك أيها الإخوة أن دور الشباب في الحياة دور مهم، فهم إذا صلحوا ينهضون بأمتهم ويقومون بنشر دينهم والدعوة إليه ولهذا اهتمّ الإسلام بتنشئة الشباب اهتماما بالغا، ومن يطالع السيرة النبوية يجد أن معظم أصحاب النبي كانوا شبابا، ومعظم الذين اتبعوه بادي الرأي هم الشبيبة الفتية وأولوا الهمم العلية والنفوس الطاهرة الزكية الذين زعزع الله بهم العروش القيصرية والأسر الكسروية، فحياهم الله من شباب ورضي الله عنهم.
ما كان أصحاب النبي محمد
إلا شبابا شامخي الأفكار
من يجعل الإيمان رائده يفز
بكرامة الدنيا وعقبى الدار
أيها المسلمون: إن الشباب في كل مرحلة من مراحل التاريخ هم سّر قوة الأمة وعماد نهضتها ومبعث عزها وكرامتها وهم عدة مستقبلها وأهم ثرواتها، وأغلى رأس مال لديها، حيث إن الشباب بما يتصف به من روح الإقدام والإقبال، وصفاء الذهن والعقل، ووفرة الطاقة والقوة تجعله هو الأقدر على قيادة الأمة وبنائها والعمل على صناعة حضارتها ولقد علم أعداء الله أهمية الشباب ودوره في بناء الأمة فخططو ودبروا لتبديد هذه الثروة وتعطيلها وتسميم أفكار الشباب وعقولهم وزرع روح الميوعة والخلاعة في نفوسهم وذلك من خلال المسلسل الذي يستلم الأجيال من الجنسين ليربيهم على الاقتناص والحب الهابط ويعطيهم الأسوة والقدوة بهؤلاء الممثلين الذين هم من أحط طبقات المجتمع المسلم والكافر.
وأيضا عمل أعداء الإسلام من خلال المجلة التي تتاجر بالمرأة في الأزياء والفن والسينما والفيديو والرياضة والدعاية والإعلان.
ومن خلال الأغنية الهابطة التي تخاطب في الإنسان أحط ما فيه ومن خلال الدواوين الشعرية التي قصرت نفسها على دغدغة الأحاسيس الجنسية، ومن خلال القصص والروايات الغرامية التي تباع على قارعة الطريق وغير ذلك من المخططات.
وقد نجح أعداء الإسلام فيما خططوا له من إضلال الشباب المسلم ولهذا من يمعن النظر ويتأمل أحوال شبابنا اليوم يصاب بالدهشة وخيبة الأمل يجد أمامه أنواعا من الشباب على طرق كثيرة من الأهواء والفساد والضلال فنجد أن بعضهم اهتموا بالتزين والتعطر حتى أفرطوا في ذلك فتشبهوا بالنساء بل تدنى بهم الحال حتى لبسوا الملابس الرقيقة التي هي أقرب للأنوثة من الرجولة وتبع ذلك تسريحات الشعر التي يشمئز من أسمائها فضلا عن رسمها فمن ذلك: (تسريحة قصة الأسد، مايكل جاكسون. . الخ) ولعل في المستقبل يكون للحمار والكلب نصيبا من هذه التسريحات، فانعدمت في هؤلاء معالم الذكورة وصفات الرجولة حتى أصبحت لا تفرق بينهم وبين النساء فهذا والله من أعجب العجب وكما قيل:
ولا عجب أنّ النساء ترجّلت
ولكنّ تأنيث الرجال عُجاب
وأين ذهب هؤلاء من الوعيد الشديد للمتشبهين من الرجال بالنساء وبالعكس؟ قال : ((لعن الله المتشبهين من الرجال بالنساء ولعن الله المتشبهات من النساء بالرجال))، فيا شباب الإسلام من يصبر على لعن الله سبحانه وتعالى؟ واللعن هو الطرد والإبعاد عن رحمة الله، وبعض الشباب على العكس من هؤلاء تماما يظنون أن الرجولة هي بأذية الخلق في الطرقات والأسواق والمنتزهات وتجدهم يمشون في الأرض مرحا وكبرا وتيها، تعرفهم بسيماهم فسياراتهم ترتفع عن الأرض مقدار خمسة أصابع ثم يصبغونها بشحم ويتلثمون أو يلفون الأشمغة على رؤوسهم ويلبسون النظارات السوداء أو يميلون العُقُل حتى يكاد أن يسقط عقال أحدهم من رأسه وهم مع ذلك يظنون أنفسهم من أصحاب الكرم والشهامة والغيرة، إذا لم تستح فاصنع ما شئت، أو ما علموا أن ما هم فيه هو الجفاء وقلة الحياء وعدم الاحترام للآخرين، والمجاهرة بشرب الدخان وما يتبعه من المسكرات فليذهبوا إلى قتال أعداء الله في ساحات الجهاد فهي الرجولة كل الرجولة لا أذية المسلمين.
وبعض الشباب تجد قبلته هي الكرة فهو دائما يخرج فيلعب ويلعب حتى منتصف الليل ثم يرجع لينام ليبدأ مشواره من جديد في اليوم الثاني وهكذا حياته لا يدري لم خلق، ولا يفكر حتى أن يصلي، أو يساعد والديه، لكنه كما قال عنه وعن أمثاله: ((جيفة بالليل وحمار بالنهار عالم بأمر الدنيا جاهل بأمر الآخرة))، فلو سألته من صاحب القدم الذهبية والرأس الذهبي والكأس الفضي وغير ذلك من الثقافة الهابطة، لتشدق بملء فمه وأجاب إجابة العارف ولكن لو سألته عن الفاتحة تجده لا يحسن قراءتها إن لم يكن لا يحفظها ولو سألته عن بعض أصحاب النبي بل عن بعض السلف والتابعين تجده يتخبط ذات اليمين وذات الشمال ويتلعثم ثم لا يحير جواباً.
وبعض الشباب قد انشغل بالتفحيط والخمسات والدوران إلى الخلف وحركة السلسلة، وتخصص في هذا العبث الذي قد يودي بحياته في لحظة، والأمر الذي لابد أن يعلمه كل شاب أن بداية هذا العبث له لذة لكن نهايته مشؤومة، ولذلك يعترف أحد المفحطين فيقول: تعلمت التفحيط على أيدي رفقاء السوء وأنا حين أذكر التفحيط أذكر ما يجر إليه من مشكلات ومصائب، مخدرات، سرقات، فواحش الخ، فكما أن الخمر أم الخبائث فالتفحيط هو أبوها. فهذه كلمات مجرب وفي المثل: اسأل مجربا ولا تسأل حكيما.
وبعض الشباب من المثقفين ولكن بغير الثقافة الدينية تجده يزدري الناس وبالأخص المتدينين وتجده يتندر بذكرهم في المجالس بأنهم معقدون ومتشددون... الخ، ويظن نفسه أنه من أهل الوسط وأنه على الحق وما علم المسكين أنه من أصحاب الكمال المزيف الذي يتوصل من تمكن منه إلى أردأ الأخلاق وهو خلق الكبر، فالكبر كما أخبر : ((أنه غمط الناس (أي احتقارهم) وبطر الحق أي الصد عن قبول الحق)).
هذه بعض النماذج الظاهرة من الشباب وما خفي أعظم على أن البعض منهم همّه الوحيد هو مغازلة النساء في التلفون أو في الشارع أو في الأسواق ولو سئل هذا الخبيث: أترضى أن يفعل هذا مع أمك أو أختك أو زوجتك أو إحدى قريباتك؟ قال: لا، فيكف إذاً يرضاه لغيره، هذا هو الضلال البعيد.
ثم نسأل بعد هذا كله ما هي أهم الأسباب لهذه الظواهر الشاذة، في المجتمع؟ ترجع إلى أمرين مهمين هما:
أولا: ضعف سلطة أولياء الأمور على أبنائهم أو إهمال التربية السليمة تجاههم فتجد الأب يرى ابنه لا يصلي، فلا يأمره بالصلاة ويراه يصاحب الفسقة من الشباب المنحرف فلا تجد الأب ينهى ابنه عن المشي مع هؤلاء وهكذا فنجد أباء لا يريدون أن يتحملوا مسؤولية أبنائهم أو حتى توجيههم نحو الطريق المستقيم.
ثانيا: الرفقة السيئة قال الشاعر:
إذا ما صحبت القوم فاصحب خيارهم
ولا تصحب الأردى فتردى مع الردي
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه
فكل قرين بالمقارن يقتدي
فالصاحب ساحب، وكثير ممن انحرف من الشباب كان سبب انحرافه الشلة الفاسدة التي من صفاتها أن أصحابها لا يأمرون بالمعروف وإنما يأمرون بالمنكر، ويزينون الفواحش ويهونونها بل يجاهرون بها، إنهم لا يرضون بالفضيلة بل يمقتون الاستقامة فاليسير من مخالطتهم يكون سببا في ضعف الإيمان، وأخطر نتائجها إخراج المسلم من إسلامه وقد مثلهم النبي بنافخ الكير إما أن يحرق ثيابك وإما أن تشم منه رائحة خبيثة فاحذروا أيها الإخوة ممن هذه صفاته فهم شياطين الإنس فاستعيذوا بالله منهم.
أيها الشباب إنني أناديكم من على هذا المنبر يا أسس المجد والشرف ويا خير خلف لخير سلف، لا يجرمنكم سيل المدنيّة الخبيثة فيمن حرف، ولا تشتغلوا عن الواجبات بأسباب الراحة والترف، ولا يصرفنكم الشيطان عن صفات الرجولة فيمن صرف، فيذهب حينئذ عزكم ويحل بكم الدمار والتلف، ولا تتشبهوا بالنساء في تصفيف الشعور وتنسيق الثياب فإن أبغض الناس إلى الله السبهلل الذي يضيع دينه ونفسه وعياله، وأوصيكم بوصية محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه لابن عباس: ((اغتنم خمسا قبل خمس: حياتك قبل موتك، وصحتك قبل سقمك، وفراغك قبل شغلك، وشبابك قبل هرمك، وغناك قبل فقرك)).
جعلني الله وإياكم ممن عرف الحق وشهد به وحبب إليه الخير وعمل به أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي لكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه وأشهد أن لا إله إلا الله تعظيما لشانه وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه.
أما بعد:
أيها المسلمون: لقد ورد في الحديث المتفق عليه: ((سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله...)) وذكر من هؤلاء السبعة: ((شاب نشأ في طاعة الله)).
إن هذا الشاب المسلم القوي المالك أمر نفسه في طاعة الله، استعمل جسمه وروحه وماله وما أنعم الله به عليه في مرضاته فقد استحق من الله خير الجزاء وكان محبوبا في أهله وقومه ومواطنيه لأنه يريد الخير ويفعله، وإن عجز عنه دعا إليه ورغّب فيه وأثنى على فاعله وإن عرضت له معصية وزينها له الشيطان لم يمنعه منها إلا دينه وخوف الله وما جبل عليه من طاعة الله والاشتغال بعبادته، وهو الذي يستطيع الجهاد في سبيل الله وكسب المال من حله وبر والديه وتربية أبنائه وصغار إخوانه وخدمة بلاده ونفع أمته فهو الجندي في الميدان والتاجر في السوق والفلاح في المزرعة والطبيب في المستشفى والعامل في المصنع والعضو الصحيح في المجتمع، إذا دعي إلى الخير لبى وإذا رأى الشر أو سمع به أزاله وحارب أهله وإن لم يستطع التغيير ابتعد عن المنكر وأنكره بقلبه ولسانه.
أيها الناس ما ظهر الدين وعرف الناس شرائع المرسلين إلا بفضل الشباب الصالحين الذين استجابوا لله والرسول، والتاريخ أصدق شاهد بفضل الشباب الناشئين في طاعة الله أمثال علي وأسامة بين زيد وعبد الله بن عباس وابن عمر ومحمد بن القاسم وغيرهم رضي الله عنهم وأرضاهم فهنيئا لشاب تقي تعلق قلبه بالمساجد ومجالس الخير وعمل الصالحات واغتنم شبابه قبل هرمه وصحته قبل سقمه وغناه قبل فقره وفراغه قبل شغله وحياته قبل موته.
ومن علم أن الشباب ضيف لا يعود وفرصة إذا مرت لا رجوع لها شغله بطاعة الله واستعان به على الصالح لدينه، ودنياه، ومن اتبع نفسه هواها وقاده الشيطان بزمام الشباب إلى الذنوب والمعاصي والمهالك ندم حين لا ينفع الندم حين يرى العذاب يقول: لو أن لي كرة فأكون من المحسنين وأكرم الناس نفسا وأنداهم كفا وأطيبهم قلبا وأرقهم عاطفة وأصدقهم عزما هو الشاب المؤمن التقي الذي يجل الكبير ويحترمه ويحن على الصغير ويرحمه لا تسمعه إلا مهنئا أو معزيا أو مشجعا أو مسليا أو مسلّما ولا تراه إلا هاشا باشا طلق الوجه يحليه إيمانه بمكارم الأخلاق وجميل الصفات فجدير بشاب هذا شأنه أن يظله الله في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله في ذلك اليوم العصيب يوم المحشر يقف فيه الناس حفاة عراة غرلا وتدنوا الشمس من رؤوسهم قدر ميل ويكونوا في العرق حسب أعمالهم لا يوجد ظل إلا ظل عرش الرحمن جل وعلا وتقدس، فالشاب الذي نشأ في طاعة الله يجد له مكانا تحت ظل العرش ويكون آمنا إذا فزع الناس أجمعون وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
فمرحلة الشباب إذاً فرصة عظيمة لا تعوّض يجب اغتنامها في ما ينفع الإنسان في دينه ودنياه وآخرته، وهو فرصة ثمينة تمر بسرعة فإن لم تُشغل بخير شغلت بشر ولابد فالأوقات محدودة والأنفاس معدودة.
وسوف تسأل يا أيها الشاب عن أوقاتك في أي شيء قضيتها؟ فإن قضيتها في طاعة الله كانت لك مكسبا وإن قضيتها في معصية الله كانت عليك وبالا وخسرانا وإن قضيتها في غفلة تحسّرت عليها في قبرك ويوم حشرك.
وسوف تسأل في قبرك من ربك وما دينك ومن نبيك؟ ولا يستطيع الإجابة الصحيحة إلا من كان في حياته طائعا لله، وسوف تسأل يوم القيام عن عمرك فيما أفنيته وعن شبابك فيما أبليته وعن مالك من أين اكتسبته وفيما أنفقته وعن علمك الذي تعلمته ماذا عملت به؟
وسوف تسأل عن حركاتك وسكناتك وأقوالك وأفعالك وسوف يشهد عليك لسانك وسمعك وبصرك ويدك ورجلك، فإن هذه الحواس شاهدة عليك لا لك عند ربك، وسوف يسأل الأولون والآخرون ماذا أجبتم المرسلين؟ وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون .
فأعد للوقوف بين يدي ربك جوابا تستطيع به النجاة وأنت في دار المهلة والعمل.
أخي المسلم: إن مهمتك في الحياة أن تعبد الله حق عبادته لا تلهو ولا تلعب أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون تكون مؤمنا جادا مستقيما على أمر الله ونهيه ولا ترغ روغان الثعلب حينئذ تكون حياتك كلها طاعة وتكون بإذن الله في الآخرة من الناجين الفائزين.
أيها الإخوة: نحن اليوم بأشد الحاجة إلى شباب مؤمن يشعر بواجبه تجاه دينه وأمته وبما عليه من تبعات تجاه بناء الدين وإشادته، نحن بأشد الحاجة إلى شباب مؤمن يحمل نفسا مطمئنة يشعر بأن أكبر سروره في إخلاص العمل لله وتحصينه شباب يحوّل الخيبة إلى أمل واللهو واللعب إلى عمل ، نحن لا نريد شبابا همّه الأول الشهوة، وقبلته الكرة، وأكبر آماله الدخول في عالم الفن هذا الشباب الذي لا يجيد إلا الكرة والغناء وتصفيف الشعور والحواجب لمن أكبر عومل انهيار الأمة وسقوط والمجتمع.
نحن لا نريد أمثال هؤلاء بل نريد شبابا مؤمنا يعتز بدينه وينصح لأمته، وأخيرا لا تتردد أخي الشاب في التوبة والرجوع إلى الله والإقلاع عما أنت فيه وكن من عوامل قوة الأمة ورفعة الدين.
شباب الجيل للإسلام عودوا
فأنتم روحه وبكم يسود
وأنتم سر نهضته قديمسا
وأنتم فجره الزاهي الجديد
ـــــــــــــــــــ(68/197)
التحذير من فتنة النساء
...
...
439
...
الأسرة والمجتمع
...
...
المرأة
...
محمد بن صالح العثيمين
...
...
عنيزة
...
...
...
الجامع الكبير
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
الأمر بتقوى الله ووقاية النفس والأهل من النار وكيفية ذلك - قصور المرأة ونقصان دينها ودليل ذلك ودلالته - واقع كثير من النساء اليوم ، ومخالطتهن الرجال في الأسواق وغيرها وخطورة ذلك - واقع نساء السلف ومبادرتهن لتنفيذ الأوامر - خطورة ترك النساء بلا أمر وتوجيه ، وواجب ولاة الأمور حيال ذلك.
الخطبة الأولى
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله تعالى وقوموا بما أوجب الله عليكم: قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها والناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون [التحريم: 6].
وقوا أنفسكم وأهليكم هذه النار بفعل الوقاية منها، ولا يكون ذلك إلا بامتثال أمر الله ورسوله واجتناب نهي الله ورسوله والقيام بما أوجب الله علينا وحملنا من الرعاية والحماية خصوصا في النساء، فإن النساء يحتجن إلى زيادة الرعاية لأنهن ناقصات في العقل وناقصات في الدين، كما أخبر بذلك سيد المرسلين ومن لا ينطق عن الهوى.
وكما يشهد به الواقع المحسوس، فالمرأة قاصرة النظر والتفكير نظرها لا يتجاوز قدميها، وتفكيرها مضطرب لا يقر على شيء، كل شيء يغيره عاطفتها متداعية كل شيء يجذبها ويميل بها.
ولذلك جعل الله سبحانه وتعالى الرجال قوامين عليهن فقال سبحانه: الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم فقوموا أيها الرجال بما جعلكم الله قوامين به ولا تبخسوا أنفسكم حقها لا تغلبكم النساء على رجولتكم ولا يلهينكم الشيطان عن رعاية أهليكم ولا تنشغلوا بأموالكم عن أولادكم ولا بمكاسبكم عن أخلاقكم وشرفكم.
أيها المسلمون: إن كثيرا من النساء في هذا العصر قد لعب الشيطان بهن وبأفكارهن وتصرفاتهن وجنبهن طريق الهدى إلى طريق الهوى والردى، تخرج الواحدة منهن إلى السوق بدون حاجة.
وقد قال الرسول بيوتهن خير لهن وتخرج الواحدة متزينة بالثياب والحلي ومتطيبة وقد قال رسول الله : ((إن المرأة إذا استعطرت فمرت بالمجلس فهي كذا وكذا يعني زانية)) [رواه الترمذي وقال حسن صحيح]. وتخرج الواحدة فتمشي في السوق مشية الرجل بقوة وجلد، وترفع صوتها كما يتكلم الرجل، وتزاحم الرجل، وتخالط الرجال في السوق وعند الدكاكين، وكل هذا مخالف لهدي السلف الصالح. فإن النبي خرج من المسجد وقد اختلط النساء مع الرجال النساء مع الرجال في الطريق فقال النبي : ((للنساء استأخرن فإنه ليس لكن أن تحتضن الطريق عليكم بحافات الطريق)) فكانت المرأة تلصق بالجدار حتى إن ثوبها ليعلق بها، وقالت أم سلمة رضي الله عنها لما نزلت هذه الآية: يدنين عليهن من جلابيبهن خرج نساء الأنصار كأن على رؤوسهن الغربان من السكينة وعليهن أكسية سود يلبسنها وقالت عائشة رضي الله عنها ما رأيت أفضل من نساء الأنصار أشد تصديقا لكتاب الله ولا إيمانا بالتنزيل لقد أنزلت سورة النور: وليضربن بخمرهن على جيوبهن فانقلب الرجال يتلون عليهن ما أنزل الله إليهم يتلو الرجل على امرأته وابنته وأخته وعلى كل ذي قرابته فما منهن امرأة إلا قامت إلى مِرْطِها([1]) المرحل([2]) فاعتجرت به([3]) تصديقا وإيمانا بما أنزل الله في كتابه.
أيها المسلمون: إن ترك الحبل على الغارب للنساء وإطلاق سراحهن يخرجن متى شئن وعلى أية كيفية أردن بدون مبالاة ولا حياء من الله ولا مراقبة له إنه لمن أكبر أسباب الشر والفساد وسقوط المروءة والأخلاق والسمعة السيئة للبلاد وحلول العذاب والعقاب قال الله تعالى: وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميراً [الاسراء:16]. وقال تعالى: واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن الله شديد العقاب [الأنفال:25]. وقال النبي : ((إن المرأة تقبل في صورة شيطان وتدبر في صورة شيطان)) [رواه مسلم]. وقال: ((المرأة عورة فإذا خرجت استشرفها الشيطان)) أي زينها في نظر الرجال [رواه الترمذي وقال الألباني إسناده صحيح] وقال : ((ما تركت يعدي فتنة أضر على الرجال من النساء)) [متفق عليه].
فاتقوا الله أيها المسلمون واحذروا هذه الفتنة التي حذركم منها نبيكم اقضوا على أسباب الشر قبل أن تقضي عليكم وأغلقوا أبواب الفساد قبل أن تتكسر الأبواب.
أيها الناس: إنه لا يستغرب إذا خرجت المرأة الشابة متزينة بثياب جميلة ليس فوقها سوى عباءة قصيرة أو مرفوعة إلى أعلى بدنها، ولا يستغرب إذا خرجت متطيبة بطيب يحرك النفس ولا يستغرب إذا خرجت مع رفيقتها في الأسواق تتدافعان وتتمازحان، ولا يستغرب إذا وقفت على صاحب الدكان تقلب السلع وهذه تصلح وهذه لا تصلح وهي تضحك عنده مع رفيقتها ولا يستغرب إذا فسرت عن ذراعيها ليرى ما عليهما من حلي وغيره، ولا يستغرب إذا ضربت برجليها ذات الجوارب المكعبة الطويلة، لا يستغرب مع هذا كله أو بعضه أن يطمع فيه من في قلبه مرض، فيلاحقها في سيارته أو على قدميه أو يلقي إليها كلاما لأن الله يقول: فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض [الأحزاب:32].
والخضوع باللباس والفعل يطُمع فيها من في قلبه مرض، لأنه ضعيف الإيمان والمراقبة لله، قليل الخوف من ربه، عادم المروءة في بني جنسه وقد رأى مع ضعف إيمانه ومرض قلبه وانعدام مروءته ما يغريه من هذه المرأة فأصبح صيد شركها وقتيل فتنتها .
أيها الناس: لقد أصبحت مشكلة النساء مشكلة خطيرة لا ينبغي تجاهلها أو السكوت عنها لأنها إن بقيت على ما كانت عليه فسيكون لها عاقبة وخيمة على البلد وأهلها أو سمعتها، أفلا يعقل المسؤولون عن أهليهم وعن بلادهم أن على كل واحد منهم مسؤولية أهله، أفلا يمكنه أن ينصح امرأته وبنته وأخته وذات قرابته كما فعل رجال الأنصار حين أنزلت سورة النور، ثم ألا يمكنه أن يمنع نساءه من الخروج إلا لحاجة لابد منها، ويلزمها إذا خرجت أن لا تخرج متبرجة أو متطيبة، ثم ألا يمكن من له بنت أو أخوات أو أقارب يدرسن أن يحثهن على بث الوعي بين الطالبات وتحذيرهن من التجول في الأسواق وخروجهن بالزينة، إنه كله ممكن ويسير إذا صدق الإنسان ربه وخلصت نيته وقويت عزيمته.
وإَّن على ولاة الأمور في البلد مسؤولية من في الأسواق من رجال ونساء ومنعهم من أسباب الشر والفتنة والقبض على من قامت القرينة على اتهامه والتحقيق معه وإجراء ما يلزم من تأديبه.
وإن على عامة الناس مساعدة ولاة الأمور في ذلك بقدر ما يستطيعون من زجر من يرونها متبرجة أو محاولة للفتنة وإلقاء الأضواء على المشتبه فيهم ممن في قلوبهم مرض حتى لا يبقى لهم في مجتمعنا مكان.
فإذا حرصنا على منع أسباب الفتنة من كثرة النساء في الأسواق وتبرجهن، وحرصنا على مقاومة من يلاحقونهن وإجراء اللازم من تأديبهن، وقمنا في ذلك لله وبالله، مثنى وفرادى فسوف نلقى العون من الله عز وجل والخير الكثير.
اللهم طهر مجتمعنا من أسباب الفتن والفساد، وجنبنا موجبات الهلاك والعقاب، وهيئ لنا من أمرنا رشدا، وأصلح لنا شؤوننا، واغفر لنا ذنوبنا، وكفر عنا سيئاتنا، وتوفنا مع الأبرار، يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم صل وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
([1])كساء من صوف أو خز .
([2])برد فيه تصاوير رحل أو إزار خز فيه علم .
([3])لبسه أو لفته على جسمها.
ـــــــــــــــــــ(68/198)
بر الوالدين
...
...
447
...
الأسرة والمجتمع
...
...
الوالدان
...
محمد بن صالح العثيمين
...
...
عنيزة
...
...
...
الجامع الكبير
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- الأمر بتقوى الله والقيام بحقوق عباده وأعظمها حق الوالدين. 2- بر الوالدين مقدم على الجهاد. 3- الأمر بصحبة الوالدين بالمعروف ولو كانا كافرين. 4- كيفية بر الوالدين والإحسان إليهما في حياتهما وبعد مماتهما. 5- منزلة البر وثوابه وفضله وحديث الثلاثة الذين انطبقت عليهم الصخرة. 6- التحذير من العقوق وإساءة الأدب مع الوالدين خاصة حال كبرهما.
الخطبة الأولى
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله تعالى وقوموا بما أوجب الله عليكم من حقه وحقوق عباده.
ألا وأن أعظم حقوق العباد عليكم حق الوالدين، وحق الأقارب، فقد جعل الله ذلك في المرتبة التي تلي حق الله المتضمن لحقه وحق رسوله ، فقال تعالى: واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً وبذي القربى [النساء:36]. وقال تعالى: ووصينا الإنسان بوالديه [العنكبوت:8].
وبين العلة في ذلك إغراء للأولاد وحثا لهم على الاعتناء بهذه الوصية فقال: حملته أمه وهناً على وهن [لقمان:14]. أي ضعفا على ضعف، ومشقة على مشقة، في الحمل وعند الولادة ثم في حضنه في حجرتها وإرضاعه قبل انفصاله فقال تعالى: وفصاله في عامين أن اشكر لي ولوالديك إلي المصير .
ولقد جعل النبي بر الوالدين مقدما على الجهاد في سبيل الله. ففي الصحيحين عن عبد الله بن مسعود قال: سألت النبي أي العمل أحب إلى الله تعالى قال: ((الصلاة على وقتها قلت: ثم أي؟ قال: بر الوالدين. قلت: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله)).
وفي صحيح مسلم: ((أن رجلا أتى النبي فقال: أبايعك على الهجرة والجهاد أبتغي الأجر من الله، قال: فهل من والديك أحد حي قال: نعم بل كلاهما. قال: فتبتغي الأجر من الله؟ قال: نعم. قال: فارجع إلى والديك فأحسن صحبتهما)).
وفي حديث إسناده جيد أن رجلا قال يا رسول الله إني أشتهي الجهاد ولا أقدر عليه قال: ((هل بقي من والديك أحد؟ قال: نعم أمي. قال: قابل الله في برها، فإذا فعلت ذلك فأنت حاج معتمر ومجاهد)).
وقد أوصى الله تعالى بصحبة المعروف للوالدين في الدنيا وإن كانا كافرين بل وإن كان يأمران ولدهما المسلم أن يكفر بالله، لكن لا يطيعهما في الكفر فقال تعالى: وإن جاهداك (أي بذلا جهدهما) على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفاً واتبع سبيل من أناب إلي [لقمان:15].
وفي الصحيحين عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت قدمت علي أمي وهي مشركة وكان أبو بكر قد طلقها في الجاهلية فقدمت على ابنتها أسماء في المدينة بعد صلح الحديبية قالت أسماء: ((فاستفتيت رسول الله فقلت يا رسول الله قَدِمَتْ عليّ أمي وهي راغبة أي راغبة في أن تصلها ابنتها أسماء بشيء. أفأصل أمي يا رسول الله؟ قال: نعم صِلي أمك)).
أيها المسلمون: إن بر الوالدين يكون ببذل المعروف والإحسان إليهما بالقول والفعل والمال.
أما الإحسان بالقول فأن تخاطبهما باللين واللطف مستصحبا كل لفظ طيب يدل على اللين والتكريم.
وأما الإحسان بالفعل فأن تخدمهما ببدنك ما استطعت من قضاء الحوائج والمساعدة على شؤونهما وتيسير أمورهما وطاعتهما في غير ما يضرك في دينك أو دنياك، والله أعلم بما يضرك في ذلك فلا تفت نفسك في شيء لا يضرك بأنه يضرك ثم تعصهما في ذلك.
وأما الإحسان بالمال فأن تبذل لهما من مالك كل ما يحتاجان إليه طيبة به نفسك منشرحا به صدرك غير متبع له بمنة ولا أذى بل تبذله وأنت ترى أن المنة لهما في ذلك في قبوله والانتفاع به.
وإن بر الوالدين كما يكون في حياتهما يكون أيضا بعد مماتهما فقد: ((أتى رجل من بني سلمة إلى النبي فقال: يا رسول الله هل بقي من بر أبوي شيء أبرهما بعد موتهما؟ قال: نعم الصلاة عليهما، (يعني الدعاء لهما) والاستغفار لهما وإنفاذ عهدهما (أي وصيتهما من بعدهما) وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما وإكرام صديقهما)) [رواه أبو داود].
الله أكبر ما أعظم بر الوالدين وأشمله حتى إكرام صديقهما وصلته من برهما.
وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما أنه كان يسير في طريق مكة راكبا على حمار يتروح عليه إذا مل الركوب على الراحلة، فمر به أعرابي فقال أنت فلان بن فلان؟ قال: بلى. فأعطاه الحمار. وقال: اركب هذا وأعطاه عمامة كانت عليه وقال: اشدد بها رأسك. فقالوا لابن عمر: غفر الله لك أعطيته حمارا كنت تروح عليه وعمامة تشد بها رأسك. فقال ابن عمر: إن هذا كان صديقا لعمر وإني سمعت رسول الله يقول: ((إن من أبر البر صلة الرجل أهل ود أبيه)).
أيها المسلمون: هذا بيان منزلة البر وعظم مرتبته.
أما آثاره فهي الثواب الجزيل في الآخرة والجزاء بمثله في الدنيا، فإن من بر بوالديه بر به أولاده، وتفريج الكربات، ففي الصحيحين من حديث ابن عمر رضي الله عنهما في قصة: ((الثلاثة الذين آواهم المبيت إلى غار، فدخلوه فانطبقت عليهم صخرة فسدته عليهم، فتوسلوا إلى الله تعالى بصالح أعمالهم أن يفرج عنهم فقال أحدهم: اللهم إنه كان لي أبوان شيخان كبيران، وكنت لا أغبق قبلهما أهلا ولا مالا، فنأى بي طلب الشجر يوما، فلم أرح عليهما حتى ناما، فحلبت غبوقهما فوجدتهما نائمين، فلبثت والقدح على يدي أنتظر استيقاظهما حتى برق الفجر، فاستيقظا فشربا غبوقهما. اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرج عنا ما نحن فيه من هذه الصخرة فانفرجت قليلا)).
وتوسل صاحباه بصالح من أعمالهما فانفرجت كلها وخرجوا يمشون.
وإن في بر الوالدين سعة الرزق وطول العمر وحسن الخاتم فعن علي بن أبي طالب أن النبي قال: ((من سره أن يمد له في عمره ويوسع له في رزقه ويدفع عنه ميتة السوء فليتق الله وليصل رحمه)) [إسناده جيد].
وبر الوالدين أعلى صلة الرحم لأنهم أقرب الناس إليك رحما.
أيها المسلمون: إنه لا يليق بعاقل مؤمن أن يعلم فضل بر الوالدين وآثاره الحميدة في الدنيا والآخرة ثم يعرض عنه ولا يقوم به أو يقوم بالعقوق والقطيعة، فلقد نهى الله تعالى عن عقوق الوالدين في أعظم حال يشق على الولد برهما فيها فقال تعالى: إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولاً كريماً واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيراً [الإسراء:23-24].
ففي حال بلوغ الوالدين الكبر يكون الضعف البدني والعقلي منهما، وربما وصلا إلى أرذل العمر الذي هو سبب للضجر والملل منهما، وفي حال كهذه نهى الله الولد أن يتضجر أقل تضجر من والديه، وأمره أن يقول لهما قولا كريما وأن يخفض لهما جناح الذل من الرحمة فيخاطبهما مخاطبة من يستصغر نفسه أمامهما ويعاملهما معاملة الخادم الذي ذل أمام سيده رحمة بهما وإحسانا إليهما ويدعو الله لهما بالرحمة كما رحماه في صغره ووقت حاجته فربياه صغيرا.
إن على المؤمن أن يقوم ببر والديه وأن لا ينسى إحسانهما إليه حين كان صغيرا لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا، وأمه تسهر الليالي من أجل نومه وترهق بدنها من أجل راحته، وأبوه يجوب الفيافي ويتعب فكره وعقله وجسمه من أجل حصوله على معاشه والإنفاق عليه، ولكل منهما بر بجزاء عمله، ففي الصحيحين عن أبي هريرة : ((أن رجلا قال: يا رسول الله من أحق الناس بحسن صحبتي؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أبوك)).
وفقنا الله جميعا لبر أمهاتنا وآبائنا ورزقنا في ذلك الإخلاص وحسن القصد والسداد إنه جواد كريم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولكافة المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
ـــــــــــــــــــ(68/199)
في الحديث عن صلة الأرحام
...
...
448
...
الأسرة والمجتمع
...
...
الأرحام
...
محمد بن صالح العثيمين
...
...
عنيزة
...
...
...
الجامع الكبير
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- المقصود بالأرحام والأنساب. 2- كيفية صلة الأرحام. 3- فضل صلة الأرحام. 4- التحذير من قطيعة الرحم. 5- دعوة لصلة الرحم.
الخطبة الأولى
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله تعالى وصلوا ما أمر الله به أن يوصل من حقوقه وحقوق عباده صلوا أرحامكم، والأرحام والأنساب هم الأقارب، وليسوا كما يفهم بعض الناس أقارب الزوج أو الزوجة فإن أقارب الزوج أو الزوجة هم الأصهار، فأقارب زوج المرأة أصهار لها وليسوا أنسابا لها ولا أرحاما، وأقارب زوجة المرء أصهار له وليسوا أرحاما له ولا أنسابا.
إنما الأرحام والأنساب هم أقارب الإنسان نفسه كأمه وأبيه وابنه وبنته، وكل من كان من بينه وبينه صلة من قِبَل أبيه أو من قبل أمه أو قبل ابنه أو من قبل ابنته.
صلوا أرحامكم بالزيارات والهدايا والنفقات، صلوهم بالعطف والحنان ولين الجانب وبشاشة الوجه والإكرام والاحترام وكل ما يتعارف الناس من صلة، إن صلة الرحم ذِكْرى حسنة وأجر كبير إنها سبب لدخول الجنة وصلة الله للعبد في الدنيا والآخرة اقرؤوا إن شئتم قول الله تعالى: إنما يتذكر أولوا الألباب الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سراً وعلانية ويدرؤون بالحسنة السيئة أولئك لهم عقبى الدار جنات عدن يدخلونها ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار [الرعد:19-24]. وفي الصحيحين عن أبي أيوب الأنصاري : أن رجلا قال: يا رسول الله أخبرني بما يدخلني الجنة ويباعدني من النار فقال: النبي : ((لقد وفق أو قال لقد هدي. كيف قلت؟ فأعاد الرجل فقال النبي : تعبد الله ولا تشرك به شيئا وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصل ذا رحمك فلما أدبر قال النبي : إن تمسك بما أمرته به دخل الجنة)).
صلة الرحم سبب لطول العمر وكثرة الرزق قال النبي : ((من سره أن يبسط له في رزقه وأن ينسأ له في أثره فليصل رحمه)) [متفق عليه]. وقال : ((إن الله تعالى خلق الخلق حتى إذا فرغ منهم قامت الرحم فقالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة. قال الله: نعم أما ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك؟ قالت: بلى. قال: فذلك لك)).
وقال : ((الرحم متعلقة بالعرش تقول: من وصلني وصله الله، ومن قطعني قطعه الله)) [متفق عليه].
ولقد بين رسول الله أن صلة الرحم أعظم أجرا من العتق، ففي الصحيحين عن ميمونة أم المؤمنين رضي الله عنها: ((أنها قالت يا رسول الله أشعرت أني أعتقت وليدتي؟ قال: أوفعلت؟ قالت: نعم. قال: أما أنك لو أعطيتها أخوالك كان أعظم لأجرك)).
أيها الناس: إن بعض الناس لا يصل أقاربه إلا إذا وصلوه، وهذا في الحقيقة ليس بصلة فإنه مكافأة إذ أن المروءة والفطرة السليمة تقتضي مكافأة من أحسن إليك قريبا كان أم بعيدا يقول النبي : ((ليس الواصل بالمكافئ، ولكن الواصل إذا قطعت رحمه وصلها)) [متفق عليه]. فصلوا أرحامكم وإن قطعوكم، وستكون العاقبة لكم عليهم فقد جاء رجل إلى النبي : ((فقال يا رسول الله إن لي قرابة أصلهم ويقطعوني، وأحسن إليهم ويسيئون إليّ، وأحلم عليهم ويجهلون علي فقال: إن كنت كما قلت فكأنما تسفهم الملّ – أي الرماد الحار- ولا يزال معك من الله ظهير عليهم أي معين عليهم ما دمت على ذلك)) [رواه مسلم].
واحذروا أيها المؤمنون من قطيعة الرحم فإنها سبب للعنة الله وعقابه يقول الله عز وجل: فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم ويقول تعالى: والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار .
وقد تكفل الله سبحانه للرحم بأن يقطع من قطعها حتى رضيت بذلك وأعلنته فهي متعلقة بالعرش تقول: من قطعني قطعه الله.
وعن جبير بن مطعم أن النبي قال: ((لا يدخل الجنة قاطع يعني قاطع رحم)) [متفق عليه]. وأعظم القطيعة قطيعة الوالدين ثم من كان أقرب فأقرب من القرابة، ولهذا قال النبي : ((ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ (ثلاث مرات) قلنا: بلى يا رسول الله. قال: الإشراك بالله وعقوق الوالدين)).
سبحان الله ما أعظم عقوق الوالدين ما أشد إثمه يلي الإشراك بالله تعالى.
إن عقوق الوالدين قطع برهما وعدم الإحسان إليهما، وأعظم من ذلك أن يتبع قطع البر والإحسان بالإساءة والعدوان، سواء بطريق مباشر أم غير مباشر. ففي الصحيحين عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن النبي قال: ((من الكبائر شتم الرجل والديه. قالوا: يا رسول الله وهل يشتم الرجل والديه؟ قال: نعم يسب أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه)).
استبعد الصحابة رضي الله عنهم أن يشتم الرجل والديه مباشرة، ولعمر الله إنه لبعيد لأنه ينافي المروءة والذوق السليم، فبين النبي أن ذلك قد لا يكون مباشرة، ولكن يكون عن طريق التسبب بأن يشتم الرجل والدي شخص فيقابله بالمثل ويشتم والديه.
وعن علي بن أبي طالب قال: ((حدثني رسول الله بأربع كلمات: لعن الله من ذبح لغير الله، لعن الله من لعن والديه، لعن الله من آوى محدثا، لعن الله من غير منار الأرض)) [رواه مسلم].
فيا عباد الله يا من آمنوا بالله ورسوله في حالكم انظروا في أقاربكم هل قمتم بما يجب لهم عليكم من صلة؟ هل ألنتم لهم الجانب؟ هل أطلقتم الوجوه لهم؟ وهل شرحتم الصدور عند لقائهم؟ هل قمتم بما يجب لهم من محبة وتكريم واحترام؟ هل زرتموهم في صحتهم توددا؟ وهل عدتموهم في مرضهم احتفاء وسؤالا؟ هل بذلتم ما يجب بذله لهم من نفقة وسداد حاجة؟
فلننظر إن من الناس من لا ينظر إلى والديه اللذين أنجباه وربياه إلا نظرة احتقار وسخرية وازدراء، يكرم امرأته ويهين أمه، ويقرب صديقه ويبعد أباه، إذا جلس عند والديه فكأنه على جمر يستثقل الجلوس ويستطيل الزمن اللحظة عندهما كالساعة أو أكثر لا يخاطبهما إلا ببطء وتثاقل، ولا يفضي إليهما بسر ولا أمر مهم، قد حرم نفسه لذة البر وعاقبته الحميدة.
وإن من الناس من لا ينظر إلى أقاربه نظرة قريب لقريبه، ولا يعاملهم معاملة تليق بهم، يخاصمهم في أقل الأمور ويعاديهم في أتفه الأشياء، ولا يقوم بواجب الصلة، لا في الكلام ولا في الفعال ولا في بذل المال تجده مثريا وأقاربه محاويج، فلا يقوم بصلتهم بل قد يكونون ممن تجب نفقتهم عليه لعجزهم عن التكسب وقدرته على الإنفاق عليهم فلا ينفق.
وقد قال أهل العلم كل من يرث شخصا من أقاربه فإنه يجب عليه نفقته إذا كان محتاجا عاجزا عن التكسب وكان الوارث قادرا على الإنفاق لأن الله تعالى يقول: وعلى الوارث مثل ذلك [البقرة:233]. أي مثل ما على الوالد من الإنفاق، فمن بخل بما يجب عليه من هذا الإنفاق فهو آثم محاسب عليه يوم القيامة سواء طلبه المستحق منه أم استحيا وسكت.
عباد الله: اتقوا الله تعالى وصلوا أرحامكم واحذروا من قطيعتهم واستحضروا دائما ما أعد الله تعالى للواصلين من الثواب وللقاطعين من العقاب واستغفروا الله إنه هو الغفور الرحيم.
ـــــــــــــــــــ(68/200)
العدل بين الأولاد
...
...
538
...
الأسرة والمجتمع
...
...
الأبناء
...
محمد بن صالح المنجد
...
...
الخبر
...
...
...
عمر بن عبد العزيز
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- أوصى الله تعالى الأبناء ببرّ الآباء وأوصى الآباء بالعدل بين الأبناء 2- من المظاهر السيئة في بعض الأُسَر تفضيل بعض الأولاد على بعض بغير مُسوِّغ شرعي 3- بعض الصور التي يتجلى فيها عدم العدل بين الأولاد
الخطبة الأولى
وبعد:
فإن الله قد أوصى الأبناء ببرّ الآباء وجعل حقّهم عظيما عليهم وقرنه بحقّه وتوحيده سبحانه فقال: واعبدوا الله ولاتشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً كما جعل على الآباء حقوقا للأبناء مثل التربية والنفقة والعدل بينهم.
ومن الظواهر الاجتماعية السيئة الموجودة في بعض الأسر عدم العدل بين الأولاد، فيعمد بعض الآباء أو الأمهات إلى تخصيص بعض أولادهم بهبات وأعطيات دون الآخرين، وهذا على الراجح عمل محرم إذا لم يكن له مسوغ شرعي، كأن تقوم حاجة بأحد الأولاد لم تقم بالآخرين كمرض أو دين عليه أو مكافأة له على حفظه للقرآن مثلا أو أنه لا يجد عملا أو صاحب أسرة كبيرة أو طالب علم متفرغ ونحو ذلك.
وعلى الوالد أن ينوي إذا أعطى أحدا من أولاده لسبب شرعي أنه لو قام بولد آخر مثل حاجة الذي أعطاه أنه سيعطيه كما أعطى الأول.
والدليل العام قوله تعالى: اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله والدليل الخاص ما جاء عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما أن أباه أتى به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((إني نحلت ابني هذا غلاما (أي وهبته عبدا كان عندي) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أكل ولدك نحلته مثله؟ فقال: لا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فأرجعه)) [رواه البخاري انظر الفتح 5/211]، وفي رواية فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((فاتقوا الله واعدلوا بين أولادكم)) قال فرجع فرد عطيته [الفتح 5/211]، وفي رواية ((لا تشهدني إذا فإني لا أشهد على جور)) [صحيح مسلم 3/1243]. ويعطى الذكر مثل حظ الأنثيين كالميراث، وهذا قول الإمام أحمد رحمه الله [مسائل الإمام أحمد لأبي داود 204 وقد حقق الإمام ابن القيم في حاشيته على أبي داود المسألة تحقيقا بيِّنا].
والناظر في أحوال بعض الأسر يجد من الآباء من لا يخاف الله في تفضيل بعض أولاده بأعطيات، فيوغر صدور بعضهم على بعض، ويزرع بينهم العداوة والبغضاء. وقد يعطي واحدا لأنه يشبه أعمامه، ويحرم الآخر لأن فيه شبها من أخواله، أو يعطي أولاد إحدى زوجتيه مالا يعطي أولاد الأخرى، وربما أدخل أولاد إحداهما مدارس خاصة دون أولاد الأخرى، وهذا سيرتد عليه فإن المحروم في كثير من الأحيان لا يبر بأبيه مستقبلا، وقد قال عليه الصلاة والسلام لمن فاضل بين أولاده في العطية: ((أليس يسرك أن يكونوا إليك في البر سواء)) [رواه الإمام أحمد 4/269 وهو في صحيح مسلم رقم 1623].
وقال بعض السلف: إِنَّ لَهُمْ عَلَيْكَ مِنَ الْحَقِّ أَنْ تَعْدِلَ بَيْنَهُمْ كَمَا أَنَّ لَكَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْحَقِّ أَنْ يَبَرُّوكَ.
ومن وجوه عدم العدل بين الأولاد كذلك الوصية لبعض الأولاد أو زيادتهم فوق نصيبهم الشرعي أو حرمان بعضهم، وتعمد بعض النساء إلى الوصية بذهبها لبناتها دون أبنائها مع أنه جزء من التركة، أو توصي بشيء وهبه لها بعض أولادها بأن يرجع إليه بعد مماتها إحسانا إليه بزعمها كما أحسن إليها، وهذا كله لا يجوز فإنه لا وصية لوارث، وكذلك فإن ما دخل في مُلك الأم أو الأب ومات عنه، فهو لجميع الورثة حسب أنصبتهم التي فرضها الله تعالى.
وعلى كلّ من الأبوين أن يذكّر الآخر إذا لم يعدل ويقف الموقف الحازم حتى يتحقّق العدل، ومن ذلك المطالبة بردّ الأمر إلى أهل العلم كما تدلّ على ذلك الرواية التالية.
عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ: تَصَدَّقَ عَلَيَّ أَبِي بِبَعْضِ مَالِهِ فَقَالَتْ أُمِّي عَمْرَةُ بِنْتُ رَوَاحَةَ: لا أَرْضَى حَتَّى تُشْهِدَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَانْطَلَقَ أَبِي إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُشْهِدَهُ عَلَى صَدَقَتِي فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أَفَعَلْتَ هَذَا بِوَلَدِكَ كُلِّهِمْ. قَالَ: لا. قَالَ: اتَّقُوا اللَّهَ وَاعْدِلُوا فِي أَولادِكُمْ. فَرَجَعَ أَبِي فَرَدَّ تِلْكَ الصَّدَقَةَ)) [رواه مسلم 1623.]
نسأل الله تعالى أن يرزقنا البرّ بآبائنا والعدل في أولادنا والثبات على ديننا.
وصلى الله على نبينا محمد. . . . الخ.
ـــــــــــــــــــ(68/201)
المطاعم العائلية
...
...
539
...
الأسرة والمجتمع
...
...
قضايا الأسرة
...
محمد بن صالح المنجد
...
...
الخبر
...
...
...
عمر بن عبد العزيز
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- ظاهرة انتشار المطاعم العائلية 2- المحاذير الشرعية والأخطاء التي تقع فيها هذه الظاهرة 3- بعض حُجج من يفعلون ذلك والتنبيه إلى عدم التساهل في الذهاب إليها والبديل عن ذلك
الخطبة الأولى
وبعد:
فقد انتشرت في هذه الأيام بين عدد من الأسر المسلمة والنساء المسلمات ظاهرة غريبة عن المجتمع الإسلامي المحافظ على صيانة المرأة وسترها وحيائها. ألا وهي ظاهرة غشيان المطاعم العائلية أو ذات الأقسام العائلية.
والناظر بعين الشرع والبصيرة بالواقع يرى في ذلك عددا من الأخطار والمحذورات الشرعية.
فمن ذلك:
أولا: أن الحواجز الموجودة في كثير من تلك المطاعم لا تحجب المرأة حجبا شرعيا كاملا عن الرجال الأجانب وذلك إما لقصر الحاجز أو ارتفاعه من الأسفل بحيث تُرى القدم أو الساق أو شفافية هذا الحاجز بحيث يمكن تمييز شيء من بدن المرأة أو أن يكون في هذا الحاجز نقوش مفرّغة بحيث تمكن رؤية من وراءه من خلال هذه الفراغات.
وفي عدد من الأقسام العائلية في كثير من هذه المطاعم لا يوجد أصلا حواجز بين طاولات العوائل وإنما الحواجز فقط بين أماكن جلوس الرجال وبين أماكن العوائل. ولا شكّ أن هذه الطريقة تجعل من الممكن لكل فرد من أفراد العائلة الواحدة رؤية أيّ فرد من أفراد العائلة الأخرى.
ثانيا: من المعلوم أنّ كثيرا من النساء الجالسات في هذه الأقسام متهاونات بالحجاب الشرعي بحيث تبدو وجوههن أو شعورهن أو أقدامهن فما فوق عبر الثياب المشقوقة التي يرتدينها، وحتى النساء المحجّبات يكشف معظمهن وجوههنّ عند تناول الطعام فإذا كانت الحواجز على الطريقة التي سبق وصفها فإنّ رؤية ما حرّم الله كشفه أمر حاصل وواقع.
ثالثا: إن أكثر هذه المطاعم يدخل خدم المطعم - وهم رجال - إلى أماكن جلوس النساء لكتابة الطلب أو إحضار أطباق الطعام، وليس كلّ هؤلاء من الذين يستأذنون، ولا كلّ النساء من اللاتي يحتجبن عند دخول الخدم بشكل متكرر، بل إنّ عددا من النّساء لا يبالين بالحجاب أمام بعض الجنسيات التي منها خدم المطاعم في الغالب.
رابعا: أنّ هذه الأماكن صارت مرتادة من قِبَل عدد من أصحاب الفجور والشهوات الذين يتعرّف الواحد منهم على فتاة ثمّ يصطحبها إلى هذه المطاعم بحجّة أنها زوجته ، فصارت هذه الأقسام متنفّسا لكلّ من يريد الحرام.
خامسا: أن عددا من بنات المترفين صِرْن يُقِمْن حفلات لزميلاتهن في المدرسة أو الكلية في المناسبات المختلفة في هذه المطاعم ومعلوم أن عددا كبيرا منهنّ غير متمسكات بالحجاب الشرعي، وبعض أوليائهن يتساهلون في شأن هؤلاء البنات بحجة أنهن صغيرات مع أنّ حجم هؤلاء كاف جدا لحصول الفتنة، فيأخذ كل سائق هذه البنت إلى موعد ومكان الحفلة في المطعم العائلي مع ما في ذلك من الشرّ العظيم.
سادسا: بالنظر إلى حجم الأموال التي تنفق في تلك الوجبات - خصوصا وأن أكثر تلك المطاعم أسعارها مرتفعة - فإننا نجد أن الإسراف متحقّق في الأكل في هذه المطاعم بالإضافة إلى أنّ باقي الطعام يُرمى - في الغالب - بخلاف ما لو أكل هؤلاء في بيوتهم . والاقتصاد كما قال صلى الله عليه وسلم: ((جزء من أربعة وعشرين جزءا من النبوّة)) (رواه الترمذي رقم 2010 وهو حديث صحيح).
سابعا: إن ترددّ النساء على المطاعم العائلية يؤدي إلى زيادة خروجهن من بيوتهن بغير حاجة وهذا مخالف لقوله تعالى: وقرن في بيوتكن ولا تبرّجن تبرّج الجاهلية الأولى ومعلوم أنّ الشريعة لا تريد مطلقا أن تُصبح المرأة خرّاجة ولاّجة، لما في ذلك من المفاسد التي لا تُحمد عقباها والتي من أعظمها ذهاب الحياء بالتدريج.
ثامنا: إنّ نظافة طعام البيت وفائدته الصحيّة أفضل بكثير من المأكولات التي تُطبخ في المطاعم علما بأنّ كثيرا من الطبّاخين في المطاعم التي يسمّونها راقية هم من الكفرة الذين لا يُراعون طهارة ولا نجاسة، وكثيرا ما يُصاب عدد من روّاد المطاعم بحالات من الإسهال والتسمم المعوي.
والأهمّ من ذلك كلّه أنّ الآكلين في هذه المطاعم لا يدرون عن نوعية اللحوم المُستخدمة في الأطعمة بخلاف المطبوخ في البيت مما يكون تحت نظر الإنسان ومعرفته.
لهذه المحاذير وغيرها ينبغي على المسلم أن يصون أهله عن مثل هذه الأماكن وأن يمتثل لقول الله تعالى: يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يُؤمرون .
وقد يزعم البعض أنّ هذا الخروج للترفيه وتغيير جوّ البيت، وأنّ زوج المرأة أو وليها سيكون معها، وأنّها ستعطي ظهرها للباب، وأنّ الخدم في المطعم سيستأذنون قبل الدخول، وأنّها ستغطي وجهها عند دخولهم وتكون بالحجاب الكامل، أو أنّ الخدم من النساء، وأنّ المطعم خال من الموسيقى، وأنّ مكان جلوس العائلة في غرفة محكمة الإغلاق والسّتر، وأنّ هذا الخروج مرة في الشهر، ولن يُصبح عادة، وأنّ الأموال التي ستُنفق معتدلة.
ولستُ أُريد التضييق والتشديد من خلال الردّ على هذه المزاعم أو تفنيدها، لأنّه قد يوجد في الواقع - وإن كان نادرا - توافر لعدد من هذه الاحترازات، ولكنني أقول: إذا أردنا الصّدق مع أنفسنا ونُشدان الحقّ. فما هي - يا تُرى - نتيجة المقارنة إذا عقدناها بين الواقع وبين هذه الضوابط المزعومة؟ وكم نسبة الذين يطّبقون ذلك فعلا؟ ولو فعل ذلك بعض الأخيار والقدوات في بعض المطاعم لشروط يرونها متحقّقة فماذا سيفهم العامة من ذلك؟
ولست أُنكر أنّ الحاجة – وليس كسل ربّة البيت – تدعو أحيانا إلى طعام من المطاعم مثلما يحدث في الأسفار وعند الخروج في بعض الرحلات أو ظرف يحدث لربّة المنزل، ولكن هناك من الحلول ما يُغنينا عن الدخول بنسائنا إلى المطاعم مثل استعمال خدمة توصيل الطلبات إلى المنازل أو جلب الطعام المعبّأ والمغلّف إلى البيت أو غرفة الفندق مع استشارة المرأة فيما تريده أن يُجلب إليها من القائمة أو "البوفيه"، وعلى وجه العموم فإن اللجوء إلى المطاعم عند الحاجة يكون مختلفا تماما في النتيجة عما إذا كان من باب الاختيار أو الترفيه.
أسأل الله تعالى أن يعيننا على صيانة أهلينا وأن يوفقنا لاتّباع الحقّ وأن يهدينا سواء السبيل. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
ـــــــــــــــــــ(68/202)
بر الوالدين
...
...
545
...
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
...
...
الوالدان, فضائل الأعمال
...
أحمد فريد
...
...
الإسكندرية
...
...
...
غير محدد
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- تعظيم أمر الوالدين. 2- البر والعقوق. 3- الوصية بالوالدين خاصة حال الضعف والكبر. 4- منع الإساءة للوالدين في صورة كانت الإساءة. 5- خصوصية الوالدة عن الوالد. 6- أحاديث في بر الوالدين. 7- صور لبر الوالدين. 8- النهي عن عقوق الوالدين. 9- أحكام في طاعة الوالدين.
الخطبة الأولى
أما بعد:
قال الله تعالى: وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولاً كريماً واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيراً [الإسراء:22].
أمر الله عز وجل بعبادته وتوحيده وجعل بر الوالدين مقرونا بذلك فقال عز وجل: وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً ، كما قرن شكرهما بشكره فقال عز وجل: أن اشكر لي ولوالديك [لقمان:14].
وفي صحيح البخاري عن عبد الله بن مسعود قال: سألت النبي أي العمل أحب إلى الله عز وجل قال: ((الصلاة على وقتها)) قات: ثم أي؟ قال: ((ثم بر الوالدين)) قلت: ثم أي؟ قال: ((الجهاد في سبيل الله))([1]).
والبر اسم جامع للخير، وهو ضد العقوق، ومعناه الصلة وفعل الخير والتوسع فيه واللطف والطاعة.
وقوله تعالى: إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما خص حالة الكبر لأنها الحالة التي يحتاجان فيها إلى بر الولد، لتغير الحال عليهما بالضعف والكبر، فألزم في هذه الحالة بين مراعاة أحوالهما أكثر مما ألزمه من قبل، لأنهما في هذه الحالة قد صارا كلاًّ عليه، يحتاجان أن يلي منهما في الكبر، ما كان يحتاج في صغره أن يليا منه، فلذلك خص هذه الحالة بالذكر، وكذلك طول المكث للمرء يوجب الاستثقال للمرء عادة، ويحصل الملل، ويكثر الضجر، فيظهر غضبه على أبويه، وتنتفخ لهما أوداجه، وأقل المكروه ما يظهره بتنفسه المتردد من الضجر، وقد أمر أن يقابلهما بالقول الموصوف بالكرامة، وهو السالم من كل عيب، فقال: فلا تقل لهما أفٍ ولا تنهرهما وقل لهما قولاً كريماً [الإسراء:23].
قال العلماء: إنما صارت قولة (أف) للأبوين أردأ شيء، لأنها كلمة تقال لكل شيء مرفوض، كما قال إبراهيم لقومه: أف لكم ولما تعبدون من دون الله [الأنبياء:67].
فهي للأبوين كفرٌ للنعمة، وجحد للتربية، ورد للوصية التي أوصى الله بها في التنزيل، وقوله: ولا تنهرهما والنهر هو الزجر والغلظة، وقوله: وقل لهما قولاً كريماً أي لينا لطيفا، مثل: يا أبتاه ويا أماه من غير أن يسميهما ويكنيهما.
قال ابن الهداج التجيبي: قلت لسعيد بن المسيب كل ما في القرآن من بر الوالدين قد عرفته إلا قوله: وقل لهما قولاً كريماً ما هذا القول الكريم؟ قال ابن المسيب: قول العبد المذنب للسيد الفظ الغليظ.
وقوله تعالى: واخفض لهما جناح الذل من الرحمة أمر بمزيد من الشفقة والرحمة، وأن يكون الإنسان مع أبويه في خير ذلة في أقواله وسكناته ونظراته، ثم قال عز وجل: وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيراً أمر الله عز وجل عباده بالترحم على آبائهم والدعاء لهم، فينبغي على العبد أن يرحمهما كما رحماه، وأن يرفق بهما كما رفقا به، إذ ولياه صغيرا جاهلا محتاجا فآثراه على أنفسهما، فسهرا وأناماه، وجاعا وأشبعاه، وتعريا وكسواه، فلا يجزيهما إلا أن يبلغا من الكبر الحد الذي كانهما فيه صغيران فيلي منهما ما وليا منه، ويكون لهما حينئذ فضل التقدم.
قال في تنبيه الغافلين: إنه لو لم يذكر الله تعالى في كتابه حرمة الوالدين، ولم يوص بهما، لكان يعرف بالعقل أن حرمتهما واجبة، وكان الواجب على العاقل أن يعرف حرمتهما، ويقضي حقهما، فكيف وقد ذكره الله تعالى في جميع كتبه: التوراة والإنجيل والزبور والفرقان، وقد أمر في جميع كتبه وأوحى إلى جميع رسله، وأوصاهم بحرمة الوالدين ومعرفة حقهما، وجعل رضاه في رضى الوالدين وسخطه في سخطهما.
وقال تعالى: ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهناً على وهن وفصاله في عامين أن اشكر لي ولوالديك إلي المصير وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفاً واتبع سبيل من أناب إلي ثم إلي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون [لقمان:14].
لما خص الله تعالى الأم بالحمل والوضع والرضاع، خصها بمزيد الوصية بالبر، وهذا يوافق ما ورد في الصحيح عن أبي هريرة قال: جاء رجل إلى رسول الله فقال: ((يا رسول الله: من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أبوك))([2]).
قال عياض: ذهب الجمهور إلى أن الأم تفضل في البر على الأب، وقيل: يكون برهما سواء، ونقله بعضهم عن مالك فروى أن رجلا قال له: إن أبي ببلد السودان، وكتب إلي أن أقدم عليه، وأمي تمنعني من ذلك، فقال له: أطع أباك ولا تعص أمك.
وقد سئل الليث عن هذه المسألة، فأمره بطاعة الأم، وزعم أن لها ثلثي البر، وهذا يشير إلى الطريق التي لم يتكرر بر الأم فيها إلا مرتين، وقد أخرج البخاري في الأدب المفرد: ((إن الله يوصيكم بأمهاتكم ثم يوصيكم بأمهاتكم ثم يوصيكم بأمهاتكم ثم يوصيكم بآبائكم ثم يوصيكم بالأقرب فالأقرب))([3]).
قال ابن حجر: وجاء ما يدل على تقديم الأم في البر مطلقا، وهو ما أخرجه أحمد والنسائي وصححه الحاكم والبزار بإسناد حسن من حديث عائشة قالت: سألت النبي : ((أي الناس أعظم حقا على المرأة؟ قال: زوجها، قلت: فعلى الرجل؟ قال: أمه)).
وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن امرأة قالت: ((يا رسول الله إن ابني هذا كان بطني له وعاء، وثديي له سقاء، وحجري له حواء، وإن أباه طلقني وأراده أن ينزعه مني فقال: أنت أحق به ما لم تنكحي))([4]).
فتوصلت لاختصاصها بها في الأمور الثلاثة.
وقوله تعالى: حملته أمه وهناً على وهن أي حملته في بطنها وهي تزداد كل يوم ضعفا على ضعف، وقيل: المرأة ضعيفة الخلقة ثم يضعفها الحمل، وقوله تعالى: أن اشكر لي ولوالديك قيل: الشكر لله على نعمة الإيمان. وللوالدين على نعمة التربية، قال سفيان بن عيينة: من صلى الصلوات الخمس فقد شكر الله تعالى، ومن دعا لوالديه في أدبار الصلوات فقد شكرهما.
وقال عز وجل: وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفاً [لقمان:14]، ففي هذه الآية دليل على صلة الأبوين الكافرين بما أمكن من المال إن كانا فقيرين، وإلانة القول والدعاء إلى الإسلام برفق.
وعن أسماء بنت أبي بكر وقد قدمت عليها خالتها – وقيل: أمها من الرضاعة – فقالت: يا رسول الله إن أمي قدمت وهي راغبة أفأصلها؟ قال: نعم، قيل: راغبة عن الإسلام، وقال ابن عطية: والظاهر عندي أنها رغبة في الصلة.
وقد وردت الأحاديث الكثيرة في فضل بر الوالدين:
منها ما رواه مسلم عن أبي هريرة عن النبي قال: ((لا يجزي ولد والده إلا أن يجده مملوكا فيشتريه فيعتقه))([5]). وقوله: ((لا يجزي)) أي لا يكافئه بإحسانه وقضاء حقه.
وأخرج البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمر قال: ((جاء رجل إلى النبي يبايعه على الهجرة وترك أبويه يبكيان فقال: ارجع إليهما وأضحكهما كما أبكيتهما))([6]).
وفي رواية عن عبد الله بن عمر قال: ((قال رجل للنبي أجاهد؟ قال: لك أبوان؟ قال نعم، قال: ففيهما فجاهد))، أي إن كان لك أبوان فأبلغ جهدك في برهما والإحسان إليهما فإن ذلك يقوم لك مقام قتال العدو.
وأخرج البخاري في الأدب المفرد والبيهقي في شعب الإيمان عن سعيد بن أبي بردة قال: سمعت أبي يحدث أن ابن عمر شاهد رجلا يمانيا يطوف بالبيت حاملا أمه وراء ظهره يقول:
إني لها بعيرها المذلل إن أذعرت ركابها لم أذعر
ثم قال: يا ابن عمر أتراني جزيتها؟ قال: لا ولا بزفرة واحدة.
وأخرج الإمام أحمد بسند صحيح عن أنس قال: قال رسول الله : ((من سره أن يمد له في عمره، ويزاد له في رزقه، فليبر والديه وليصل رحمه)).
وأخرج مسلم عن أبي هريرة عن النبي قال: ((رغم أنفه ثم رغم أنفه قيل: من يا رسول الله؟ قال: من أدرك والديه عنده الكبر أو أحدهما ثم لم يدخل الجنة))([7]). ومعنى رغم أنفه: أي لصق بالرغام وهو بالتراب.
ومن بر الوالدين عباد الله:
النفقة عليهما إذا احتاجا لقول الله عز وجل: وصاحبهما في الدنيا معروفاً [لقمان:14].
وقوله عز وجل: وبالوالدين إحساناً [الإسراء:22]، وليس من الإحسان ولا من المصاحبة بالمعروف، أن يموتا جوعا والولد موسر.
ومن برهما توقيرهما واحترامهما: روى البخاري في الأدب المفرد وعبد الرزاق والبيهقي عن هشام بن عروة عن أبيه أو غيره أن أبا هريرة أبصر رجلين فقال لأحدهما: ما هذا منك؟ فقال: أبي، فقال: لا تسمه باسمه ولا تمش أمامه ولا تجلس قبله.
وقال طاووس: من السنة أن يوقر أربعة: العالم، وذو الشيبة، والسلطان، والوالد، ومن الجفاء أن يدعو الرجل والده باسمه.
ومن برهما دعوتهما إلى الله عز وجل: روى مسلم وأحمد عن أبي كثير السحيمي قال: ((سمعت أبا هريرة يقول بأنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم: ما سمع بي أحد يهودي ولا نصراني إلا أحبني، إن أمي كنت أريدها على الإسلام فتأبى، فقلت لها فأبت، فأتيت النبي فقلت: ادع الله لها، فدعا فأتيتها وقد أجافت عليها الباب، فقالت: يا أبا هريرة إني أسلمت، فأخبرت النبي فقلت: ادع الله لي ولأمي. فقال: ((اللهم عبدك أبو هريرة وأمه أحبهما إلى الناس)).
ومن برهما صلة أهل ودهما: ففي الصحيح عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله يقول: ((إن من أبر البر صلة أهل ود أبيه بعد أن يولي ))([8]).
ومن برهما الصلاة عليهما، والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما بعدهما .
عن محمد بن سيرين قال: كنا عند أبي هريرة ليلة فقال: اللهم اغفر لأبي هريرة ولأمه ولمن استغفر لهما قال محمد: فنحن نستغفر لهما حتى ندخل في دعوة أبي هريرة.
وروى مالك في الموطأ وابن ماجه والبخاري في الأدب المفرد عن أبي هريرة قال: ((ترفع للميت بعد موته درجته فيقول: أي رب أي شيء هذه؟ فيقال: ولدك استغفر لك))([9]). ومن برهما قضاء دينهما والحج عنهما والوفاء بنذرهما:
عن أبي هريرة قال: ((أتى النبي رجل فقال: إن أبي مات وعليه حجة الإسلام أفأحج عنه؟ قال: أرأيت لو أن أباك ترك دينا أقضيته عنه؟ قال: نعم، قال: فأحجج عن أبيك))([10]).
أخرجه الشافعي والنسائي وابن ماجة والدارقطني.
ووردت الأحاديث كذلك في النهي عن عقوق الوالدين وبيان أن العقوق من أكبر الكبائر:
والعقوق مشتق من العق، وهو القطع، والمراد به صدور ما يتأذى به الوالد من ولده من قول أو فعل، إلا في شرك أو معصية ما لم يتعنت الوالد.
وضبطه ابن عطية بوجوب طاعتهما في المباحات فعلا وتركا، واستحبابها في المندوبات وفروض الكفاية كذلك، ومنه تقديمهما عند تعارض الأمرين، كمن دعته أمه ليمرضها مثلا بحيث يفوت عليه فعل واجب إن استمر عندها، ويفوت ما قصدته من تأنيسه لها وغير ذلك لو تركها وفعله، وكان مما يمكن تداركه مع فوات الفضيلة كالصلاة أول الوقت أو في الجماعة.
تنبيهات:
الأول: قال الحافظ ابن الجوزي في قوله تعالى: لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين . . [الممتحنة:8].
الآية رخصة في صلة الذين لم ينصبوا الحرب للمسلمين، وجواز برهم، وإن كانت المولاة منقطعة، وبهذا تعلم أنه لا يجب طاعة الأب المشرك كالمسلم، لا سيما في ترك النوافل والطاعات، قال في الآداب الكبرى: وهذا أمر ظاهر ولذا قال الخطابي: لا سبيل للوالدين الكافرين في منعه من الجهاد فرضا كان أو نفلا . وطاعتهما حينئذ معصية لله طاعة للكفار، وإنما عليه أن يبرهما ويطيعهما فيما ليس بمعصية.
والثاني: ذكر شيخ الإسلام أنه ليس لأحد الأبوين أن يلزم الولد بنكاح من يريدها، وأنه إذا امتنع لا يكون عاقا.
الثالث: قال في الآداب الكبرى: فإن أمره أبوه بطلاق امرأته لم يجب، ذكره أكثر أصحاب الإمام أحمد، وقد سأل رجل الإمام أحمد فقال: إن أبي يأمرني أن أطلق امرأتي. قال: لا تطلقها، قال: أليس عمر أمر ابنه عبد الله أن يطلق امرأته؟ قال: حتى يكون أبوك مثل عمر.
الرابع: قال الشيخ موفق الدين في حج التطوع: إن للوالد منع الولد من الخروج إليه، لأنه له منعه من الغزو وهو من فروض الكفايات.
الخامس: ينبغي احترام المعلم وتوقيره وقد ذكر بعض الشافعية أن حقه آكد من حق الوالد، لأنه سبب لتحصيل الحياة الأبدية والأب سبب لحصول الحياة الفانية، وقد قال علماء المصطلح: الأشياخ آباء في الدين.
السادس: ذكر عن الإمام ابن عقيل رحمه الله أنه كما يجب الإغضاء عن زلات القرون الثلاثة الذين قال النبي : ((خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ))([11]).
وإذا أسميناهم بالوالدين يجب توقيرهم واحترامهم كما في الوالدين.
وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم تسليما.
([1])البخاري (2/9) مواقيت الصلاة : باب فضل الصلاة لوقتها .
([2])رواه البخاري (10/401) الأدب : باب من أحق الناس بحسن الصحبة ومسلم (16/102) البر والصلة والآداب : باب بر الوالدين وأنهما أحق به .
([3])وأخرجه ابن ماجة (3661) والحاكم (4/151) وأحمد (4/131،132) ، في الصحيحة رقم 1666.
([4])رواه أحمد وأبو داود – مشكاة المصابيح (2/1008) رقم 3378.
([5])مسلم (10/152) العتق:فضل عتق الوالد ، والآداب بر الوالدين وأنهما أحق به .
([6])رواه البخاري (10/403) الأدب :باب لا يجاهد إلا بإذن الوالدين ، ومسلم (16/103،104) البر والصلة ، ورواه أحمد وأبو داود والنسائي عن أنس .
([7])مسلم (16/108) البر والصلة والآداب تقديم الوالدين على التطوع بالصلاة وغيرها .
([8])مسلم (16/110) البر والصلة والآداب : تفسير البر والإثم.
([9])أخرجه ابن ماجة (3660) وأحمد (2/509) وابن أبي شيبة في المصنف والأصبهاني في الترغيب والبغوي في شرح السنة ، وقال الألباني : وأما قول البوصيري ((إسناده صحيح)) ففيه تساهل . الصحيحة (4/129)رقم 1598.
([10])قال الحافظ في التلخيص : وإسناده ضعيف (2/225).
([11])البخاري (7/3) فضائل أصحاب النبي عن عمران بن حصين.
ـــــــــــــــــــ(68/203)
في التحذير من فتنتي الدنيا والنساء
...
...
126
...
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
...
...
الفتن, المرأة
...
عبد الله بن صالح القصير
...
...
الرياض
...
...
...
جامع الأمير متعب
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- فُشُو المنكرات سبب لنزول العذاب 2- رسول الله يحذر من فتنة النساء 3- تبرج النساء وخروجهنّ إلى الأسواق 4- دور الصلاة في قمع الفتن
الخطبة الأولى
أما بعد:
أوصيكم ونفسي بالتقوى، فإنها هي الوصية العظمى، وتمسكوا بكتاب ربكم وسنة نبيكم، فإن التمسك بهما هو العروة الوثقى، واحذروا الذنوب ولا تجترئوا على علام الغيوب، وقد خاب من حمل ظلماً، ومروا بالمعروف، وانهوا عن المنكر، ما دمتم في زمن الإمهال سلماً، وإلا فإقرار المنكرات سبب لخراب الديار العامرات، وقد تحققتم ذلك علماً، ولقد ورد عن نبيكم أنه قال: ((إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه)).
وفي صحيح البخاري – رحمه الله – قيل: يا رسول الله! – أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: ((نعم، إذا كثر الخبث))، وفيه أيضاً عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: ((استيقظ رسول الله ليلة فزعاً مذعوراً يقول: سبحانه، ماذا أنزل الليلة من الخزائن؟ وماذا أنزل من الفتن؟ ومن يوقظ صواحب الحجرات – يريد أزواجه – لكي يصلين؟ رب كاسية في الدنيا عارية في الآخرة)).
أيها المسلمون: تضمن هذا الحديث الصحيح تحذيركم من فتنتين عظمتين أشار النبي إلى أولاهما بقوله: ((ماذا أنزل الليلة من الخزائن؟)). يعني: فتن الدنيا، وأشار إلى الأخرى بقوله: ((رب كاسية في الدنيا عارية في الآخرة)). يعني: فتنة النساء. ولقد جاء التصريح بهما والتحذير منهما في الحديث الذي رواه مسلم رحمه الله عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله قال: ((إن الدنيا حلوة خضرة وإن الله تعالى مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون؛ فاتقوا الدنيا واتقوا النساء)).
وفي الصحيحين عنه أيضا عن النبي قال: ((إن مما أخاف عليكم من بعدي ما يفتح عليكم من زهرة الدنيا وزينتها))، وفيهما أيضا عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما عن النبي قال: ((ما تركت بعدي فتنة هي أضر على الرجال من النساء)) وأخبر أن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء.
أيها المسلمون: إن المتأمل لأوضاع العالم الإسلامي في القرون المتأخرة يجد أن فساد أكثر مجتمعاته كان بهاتين الفتنتين، فتحت الدنيا عليهم أو على مترفيهم فطغت نساؤهم، وضعف أمامها المترفون منهم فخرجت للشوارع سافرة، ونزعت الحجاب متبرجة، وزاحمت الرجال في المكاتب والأسواق والمنتزهات جريئة غير مستحية ولا خجلة، فانفردت بغير محرمها مخاطرة بشرفها وعفتها، متجاهلة سوء عاقبة جريمتها؛ فعمّت الفتن، ووقعت المصائب، وعاجلتهم العقوبة، حيث اختل أمنهم، واشتهرت فضائحهم، وولى الله عليهم شرارهم وسفهاءهم، وسطلهم على خيارهم لقاء تركهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتعديهم حدود الله وانتهاكهم حرماته: وكذلك نولي بعض الظالمين بعضاً بما كانوا يكسبون [سورة الأنعام:129]. فزال سلطان ذوي الدين والرأي منهم، وذهبت نعمتهم من بين أيديهم، وجعل الله بأسهم بينهم، وسلط عليهم عدوهم ،فاستباح حرماتهم، وأذل عزتهم، وأذهب كرامتهم، وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون.
فاتعظوا – رحمكم الله – بمن مضى من القرون، واعتبروا بمن حولكم أيها السامعون، وأطيعوا الله ورسوله لعلكم ترحمون. أحلنا الله وإياكم دار الأمن والسلامة، وجنبنا وإياكم ما يوجب غضبه وانتقامه.
أيها المسلمون: إن ما حدث في الأمصار من فتنة النساء التي أزال الله عنهم بها النعماء، وأحل بهم أصناف الشقاء والبلاء، والتي كان مبتدؤها خروجهن من المنازل، ووقوعهن بأنواع المهازل، كانت قد سبقتها دعوات مغرضة أغرتهن بالخروج إلى الأسواق ومواطن الفساق، وزينت لهن السفور، وشككتهن في الحجاب من حيث الشرعية والجدوى ،وحثتهن على مزاحمة الرجال في الميادين، والأعمال، بواسطة الفكرة المصورة والقصة المزورة عبر الوسائل المرئية والمسموعة والمقروءة، والمنهج، والأستاذ ،ثم تبع ذلك تهيئة الأسباب وتوفير الوسائل وإتاحة الفرص، والتشكيك في صدق وسعة أفق من يعارض ذلك من الناصحين الذين يحثون على الاستفادة من تجارب السابقين، حتى نفذ المقدور، وتعسرت الأمور، وذاق أولئك ما في خروج النساء من بيوتهن، وخروجهن على أولياء أمورهن، وتعديهن لحدود خالقهن، من الشرور وذهاب السرور.
فاتقوا الله أيها المؤمنون، وخذوا حذركم، واعتبروا بغيركم، واتعظوا بمن سبقكم؛ فإن السعيد من وعظ بغيره، والتقي من وعظ بنفسه، فإنكم تعيشون الفتنة، وتجري لكم نفس المكيدة، وستواجهون – إن لم تحذروا وتتقوا وتستدركوا فتصلحوا – أخطر النتيجة وأعظم المصيبة.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يا أيها الذين ءامنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وأنه إليه تحشرون واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن الله شديد العقاب واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس فآواكم وأيدكم بنصره ورزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون [سورة الأنفال:24-26].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا جميعا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم من لكل ذنب، فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله الرحيم الرحمن، الملك الديان، أحمده سبحانه، يسأله من في السماوات والأرض، كل يوم هو في شأن، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً.
أما بعد:
فاتقوا الله أيها المسلمون فيما أنتم عليه من الدين والنعمة والهدى، واتقوا الله في النساء ؛ فإن الله جعلكم عليها قوامين وعليها مؤتمنين: لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون [سورة الأنفال:27]؛ فإن الرجل راع في بيته ومسؤول عن رعيته ،وأول مسؤوليته أن يقيمهم على طاعة الله، وأن يقيهم ناراً وقودها الناس والحجارة. ولقد نبهكم على ما به تتقون فتنة النساء وكيد الأعداء بقوله: ((ماذا أنزل الليلة من الخزائن؟ وماذا أنزل من الفتن؟)) فإن في ذلك توجيهاً للرجل أن يحذر أهله مما يعلم من الفتن، وأن يقطع عنه أسباب المحن، ولابد من العزم على ذلك، والحزم مع أولئك.
وفي قوله : ((من يوقظ صواحب الحجرات؟)) تنبيه منه على أثر الصلاة في الاستقامة، وأنها من أسباب السلامة من موجبات الندامة.
وقد قال تعالى: وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسئلك رزقاً نحن نرزقك والعاقبة للتقوى [سورة طه:132]. وقال سبحانه: وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر [سورة العنكبوت:45]. فإذا نشأ أهل البيت على الصلاة، فرضها ونفلها، وأخص النفل صلاة الليل؛ كان ذلك من أسباب النجاة من الفتن، واتقاء الشرور والمحن.
وفي قوله : ((رب كاسية في الدنيا عارية في الآخرة)) تنبيه على أثر اللباس في السلوك، وأنه إن كان فاتناً كان من أسباب المهالك، وإن كان شرعياً عصم الله مرتديته من شر ما هنالك. وفيه أيضاً تذكير بأن اللباس إذا كان فيه فتنة فهو من أسباب الفضيحة في الآخرة، كيف لا وقد ذكر النبي من أصناف أهل النار: ((نساء كاسيات عاريات، مائلات مميلات، رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة)).
ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار .
عباد الله! إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتائ ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون [سورة النحل:90].
فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.
ـــــــــــــــــــ(68/204)
أولادنا بين البر والعقوق
...
...
598
...
الأسرة والمجتمع
...
...
الوالدان
...
محمد بن إبراهيم حسان
...
...
المنصورة
...
...
...
غير محدد
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- قتل بعض الأبناء لآبائهم 2- خطر عقوق الوالدين 3- فضل بر الوالدين 4- حقوق الوالدين وواجباتهم 5- مسئولية التربية على عاتق الجميع
الخطبة الأولى
أما بعد:-
فإن أصدق الحديث كتاب الله ،وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
أحبتي في الله
أبناؤنا بين البر والعقوق، هذا هو عنوان لقاءنا مع حضراتكم في هذا اليوم الكريم المبارك، وكما تعودنا حتى لا ينسحب بساط الوقت من بين أيدينا سريعاً فسوف أركز الحديث مع حضراتكم تحت هذا العنوان المهم في العناصر الآتية:
أولاً: حقاً إنها مأساة.
ثانياً: خطر العقوق.
ثالثاً: فضل البر.
رابعاً: حقوق تقابلها واجبات.
خامساً: إنها مسئولية المجتمع.
فأعيرونى القلوب والأسماع، والله أسأل أن يجعلنا وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب.
أولاً: حقاً إنها مأساة.
لا شك أن الوالدين يندفعان بالفطرة إلى حب ورعاية الأولاد، بل وإلى التضحية للأولاد بكل غالي ونفيس، فكما تمتص النبتة الخضراء كل غذاء فى الحبة فإذا هى فتات، وكما يمتص الفرخ كل غذاء فى البيضة فإذا هى قشرة هشة، فكذلك يمتص الأولاد كل رحيق وعافية واهتمام، فإذا بالوالدين في شيخوخة فانية، ومع ذلك فهما سعيدان.
ولكن من الأولاد من ينسى سريعاً هذا الحب والعطاء والحنان والرعاية، ويندفع فى جحود وعصيان ونكران ليسيء إلى الوالدين بلا أدنى شفقة أو رحمة أو إحسان، وتتوارى كل كلمات اللغة على خجل واستحياء بل وبكاء وعويل حينما تكتمل فصول المأساة، ويبلغ العقوق الأسود ذروته حينما يقتل الولد أمه، وحينما يقتل الولد أباه، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وإليك قصة غاية فى البشاعة والإجرام والجحود.
لقد وقعت فى إحدى قرى دكرنس جريمة مروعة شنعاء هى التى دفعتني إلى الحديث اليوم عن هذا الموضوع.
فى أسرة فقيرة تتكون من عشرة أبناء، يقضى الوالد المسكين ليله ونهاره ليوفر لأبنائه العيشة الطيبة الكريمة ويلحقهم بأرقى الكليات بالجامعة، ومن بين هؤلاء الأبناء ولد عاق، بدلاً من أن يساعد أباه فى نفقات هذه الأسرة الكبيرة راح يلهب ظهر والده بالمصروفات ليضيعها على المخدرات والفتيات، فقال له والده المسكين: أى بني أنا لا أقدر على نفقاتك ومصروفاتك، دعنى لأواصل المسيرة مع إخوانك وأخواتك، وأنت قد وصلت إلى كلية العلوم فاعمل وشق طريقك فى الحياة، ولكن الولد تمرد على التقاليد والقيم وعلى سلطان البيت والأسرة، بل وعلى سلطان الدين، راح هذا الولد العاق يفكر كيف يقتل أباه؟! إى والله حدث ما تسمعون!! إنه طالب فى كلية العلوم راح يستغل دراسته استغلالاً شيطانياً خبيثاً حيث أعد مادة كيمائية بطريقة علمية معينة، وأخذ كمية كبيرة، وعاد إلى البيت، وانتظر حتى نام أبوه المسكين، فسكب المادة الكيميائية على أبيه وهو نائم، فأذابت المادة لحم أبيه وبدت العظام، الله أكبر !! لا إله إلا الله !! لا إله إلا الله !!
والله إن الحلق ليجف، وإن القلب لينخلع، وإن العقل ليشط، وإن الكلمات لتتوارى فى خجل وحياء، بل وبكاء وعويل، أمام هذه المأساة المروعة الشنعاء بكل المقاييس.
قد يرد الآن عليَّ أب كريم من آبائنا أو أخ عزيز يجلس معنا ويقول إنه الفقر، قاتل الله الفقر!!
والجواب: مع تقديرى لكل آبائي وأحبائي، ما كان الفقر سبباً ليقتل الولد أباه، وإذا أردت الدليل فخذ الحادثة الثانية المروعة التى طالعتنا بها جريدة الأهرام منذ أسبوعين اثنين فقط.
أسرة ثرية وصل الوالدان فيها إلى مرتبة اجتماعية مرموقة، فالأم تحمل شهادة الدكتوراه فى الهندسة جلست هذه الأم المثقفة لتناقش ابنها فلذة كبدها الذى أنهى دراسته الجامعية فى أمر خطيبته التى أراد أن يتزوجها، فالأم تعارض هذا الزواج لاعتبارات وأسباب ترى أنها وجيهة من واقع خبرتها ومسؤليتها تجاه ولدها، فاحتج الولد على أمه وما كان من هذا المجرم العاق إلا أن أسرع بسكين، ثم انقض بالسكين على أمه بطعنات قاتلة حتى فارقت الحياة، ما هذا؟!
والله إن الحلق ليجف، وإن القلب لينخلع، من هول هذه الصورة البشعة من صور العقوق للآباء والأمهات الذى حذر الله جل وعلا منه فى أدنى صوره، وأقل أشكاله وألوانه، فقال جل وعلا: وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا [ الإسراء: 23-24 ].
أيها المسلمون: أيها الأبناء: اعلموا علم اليقين أن العقوق كبيرةٌ تلى كبيرة الشرك بالله وهذا هو عنصرنا الثانى.
ثانيا: خطر العقوق.
العقوق من أكبر الكبائر ففى الصحيحين من حديث أبى بكرة t أن النبى قال: ((ألا أُنَبِّئُكم بأكبر الكبائر ( ثلاثاً ))) قلنا: بلى يا رسول الله، قال: ((الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، ألا وشهادة الزور، أو قول الزور)) – وكان متكئاً فجلس – فمازال يكررها حتى قلنا: ليته سكت([1])
وفى الصحيحين من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضى الله عنهما أن النبى قال: ((إن من أكبر الكبائر أن يسب الرجل والديه)) فقال الصحابة: وهل يشتم الرجل والديه؟ فقال المصطفى: ((نعم يسب الرجل أبا الرجل، فيسب أباه، ويسب أمه، فيسب أمه ))([2]).
انظر إلى هذا السؤال الإنكارى من الصحابة رضوان الله عليهم ،وهل يشتم الرجل والديه لا أن يقتل والديه؟ لا يتصور الصحابة فى مجتمع الطهر مجرد أن يشتم الرجل والديه، فقال الحبيب المحبوب: أن يشتم رجل بأبيه فيرد هذا الرجل على الشاتم بأن يشتم أباه، وبهذا يكون الرجل سب أباه بطريق غير مباشر، وهذا الفعل من أكبر الكبائر والعياذ بالله.
أيها الأبناء: العقوق سبب من أسباب الحرمان من الجنة والطرد من رحمة الله التى وسعت كل شىء، ففى الحديث الذى رواه النسائى و البزار بسند جيد وحسنه الألبانى، ورواه الحاكم فى المستدرك، وصححه على شرط الشيخين البخارى ومسلم من حديث عمر أن النبى قال: ((ثلاثة لا ينظر الله عز وجل إليهم يوم القيامة)) قيل: من هم يا رسول الله ؟! قال: ((العاق لوالديه، والمرأة المترجلة([3])، والديوث([4])))([5]).
أيها الأبناء: أيها الآباء: تدبروا قول الرسول : ((ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة)) خابوا وخسروا ورب الكعبة هؤلاء هم الذين طردوا من رحمة الرحمن، التى وسعت كل شىء، وأول المطرودين: العاق لوالديه.
أيها الأبناء: أخاطبكم بكل قلبى وكيانى، يا من منَّ الله عليكم الآن بنعمة الآباء والأمهات، وأنتم لا تدركون قدر هذه النعمة، ولن تشعروا بها إلا إذا فقدتم الوالدين، أسأل الله أن يبارك فى أعمار أبائنا وأمهاتنا ،وأن يختم لنا ولهم بصالح الأعمال إنه على كل شىء قدير.
أيها الأبناء: العقوق لا ينفع معه أى عمل، سواء صلاة أو زكاة أو حجاً أو صياماً، ففي الحديث الذى رواه الإمام الطبرانى وابن أبى عاصم فى كتاب السنة بسند حسن، وحَسَّنَ الحديث الشيخ الألبانى فى السلسلة الصحيحة من حديث أبى أمامة أن النبى قال: ((ثلاثة لا يقبل الله منهم صرفاً([6]) ولا عدلاً: العاق لوالديه والمنان والمكذب بالقدر ))([7]).
ولكى أختم هذا العنصر لأعرج على بقية عناصر الموضوع أقول: إن العقوق دين لا بد من قضائه فى الدنيا قبل الآخرة، فكما تدين تدان، فإن بذلت البر لوالديك سَخَّرَ الله أبناءك لبرك، وإن عققت والديك سَلَّط الله أبناءك لعقوقك، ستجنى ثمرة العقوق في الدنيا قبل الآخرة، ففى الحديث الذى رواه الطبرانى والبخارى فى التاريخ وصححه الألباني من حديث أبي بكرة أن النبى قال: ((اثنان يعجلهما الله فى الدنيا: البغى وعقوق الوالدين ))([8]).
تدبر معى والدى الكريم وأخى الحبيب: هذا ابن عاق يعيش معه والده فى بيته فكبر الوالد، و انحنى ظهره، وسال لعابه، واختلت أعصابه، فاشمأزت منه زوجة الابن، - وكم من الأبناء يرضون الزوجات على حساب طاعة الأمهات والآباء - فطرد الولد أباه من البيت، فَرَقَّ طفلٌ صغير من أبنائه لجده فقال له: لماذا تطرد جدنا من بيتنا يا أبى، فقال: حتى لا تتأففون منه، فبكى الطفل لجده وقال: حسناً يا أبتي ،وسوف نصنع بك هذا غداً إن شاء الله!! العقوق دَين لابد من قضائه.
وهذا ابن آخر يصفع والده على وجهه، فيبكى الوالد ويرتفع بكاءه، فيتألم الناس لبكاء هذا الشيخ الكبير، وينقض مجموعة من الناس على هذا الابن العاق ليضربوه، فيشير إليهم الوالد ويقول لهم: دعوه. ثم بكى وقال: والله منذ عشرين سنة، وفى نفس هذا المكان صفعت أبى على وجهه !! العقوق دَين لابد من قضائه.
وهذا ابن ثالث عاق يجر أباه من رجليه ليطرده خارج بيته، وما إن وصل الولد بأبيه وهو يجره حتى الباب ،وإذا بالوالد يبكى ويقول لولده: كفى يا بنى، كفى يا بنى إلى الباب فقط، فقال: لا بل إلى الشارع، قال: والله ما جررت أبى من رجليه إلا إلى الباب فقط !! كما تدين تدان.
أيها الأخ الحبيب اذهب اليوم إلى أبيك فقبل يديه وقدميه، وارجع اليوم إلى أمك فقبل يديها وقدميها فثم الجنة، ما أشقاها والله من حياة: حياة العقوق، وما أطيبها وأروحها وأسعدها وألذها من حياة ،آلا وهى حياة البر وهذا عنصرنا الثالث.
ثالثا: فضل البر.
أيها الحبيب الكريم. . يكفى أن تعلم أن الله جل وعلا قد قرن بر الوالدين والإحسان إليهما بتوحيده قال تعالى: وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [ الإسراء: 23 ]
وقال تعالى: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ، وقال تعالى: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [ البقرة: 83 ].
قال ابن عباس ثلاث آيات نزلت مقرونة بثلاثة، لا يقبل الله واحدة بدون قرينتها.
أما الأولى فهى قوله تعالى: أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ [ محمد: 33 ].
فمن أطاع الله ولم يطع الرسول فلن يقبل منه.
وأما الثانية فهى قول الله: وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَءَاتُوا الزَّكَاةَ [ البقرة: 43 ].
فمن أقام الصلاة وضيع الزكاة لن يقبل منه.
وأما الثالثة فهى قول الله تعالى: أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ [ لقمان: 14 ]. فمن شكر الله ولم يشكر لوالديه لن يقبل منه.
حياة البر ما أروعها من حياة، إنها حياة السعادة والطمأنينة، إنها حياة الأمن والأمان، يالها من لذة !! فيها ستشعر بانشراح الصدر، ستشعر بالسعادة فى كل الخطا، بل سيوسع الله عليك رزقك، بل سيبارك الله لك فى عمرك، فى حياة بر الوالدين.
البِرُّ سبب دخول الجنة:
تدبر معى كلام النبى كما فى الحديث الذى رواه مسلم من حديث أبى هريرة، قال الحبيب : ((رغم أنفه، رغم أنفه، رغم أنفه)) قيل من يا رسول الله؟ قال المصطفى: ((من أدرك والديه عند الكبر أحدهما أو كلاهما ثم لم يدخل الجنة ))([9]).
الرسول يقول: رغم أنفه ثلاثاً: أى ذل وهان وتعرض للخيبة و الخذلان من أدرك أبويه عند الكبر أحدهما أو كلاهما،ثم لم يكونا سبباً فى دخوله الجنة.
إياك أن تضيع هذا الخير، يا من منَّ الله عليك به الآن.
بر الوالدين من أعظم القربات إلى رب الأرض والسماوات.
اسمع كلام سيد المرسلين، ففى الصحيحين من حديث عبد الله بن مسعود قال: سألت النبى فقلت يا رسول الله: أى العمل أحب إلى الله تعالى؟ قال: ((الصلاة على وقتها)) قال: ثم أى؟ قال: ((ثم بر الوالدين)) قال: ثم أى؟ قال: ((الجهاد فى سبيل الله))([10]).
وفى الصحيحين من حديث عبد الله بن عمر قال رجل للنبى :
أُجاهد؟ قال: ((لك أبوان؟)) قال: نعم. قال: ((ففيهما فجاهد))([11]).
وفى رواية مسلم أن رجلاً جاء للنبى فقال: يا رسول الله جئت أبيايعك على الهجرة والجهاد فقال له المصطفى: ((هل من والديك أحدٌ حى؟)) قال: نعم، بل كلاهما. قال: ((فتبتغى الأجر من الله؟)) قال: نعم. قال: ((فارجع إلى والديك فأحسن صحبتهما))([12]).
بر الوالدين سبب تفريج الكربات:
ففى الصحيحين من حديث ابن عمر أن النبى قال: ((بينما ثلاثة نفر يمشون أخذهم المطر، فمالوا إلى غارٍ فى الجبل، فانحطت على فم غارهم صخرة من الجبل، فأطبقت عليهم فقال بعضهم لبعض: انظروا أعمالاً عملتموها لله صالحة، فادعوا الله بها لعله يفرجها: فقال أحدهم: اللهم إنه كان لى والدان شيخان كبيران، ولى صبية صغار كنت أرعى عليهم، فإذا رُحتُ عليهم فحلبت، بدأت بوالداي أسقيهما قبل ولدي ،وإنه نأى بي الشجر فما أتيت حتى أمسيت، فوجدتهما قد ناما، فحلبت كما كنت أحلب فجئت بالحلاب فقمت عند رؤسهما، أكره أن أوقظهما من نومهما، وأكره أن أبدأ بالصبية قبلهما، والصبية يتضاغون عند قدمى، فلم يزل ذلك دأبي ودأبهم حتى طلع الفجر، فإن كنت تعلم أنى فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج لنا فرجة نرى منها السماء ،ففرج الله لهم فرجة حتى يرون منها السماء. ....))([13])
إلى آخر الحديث.
انظر جيداً فى معنى هذا الحديث لما تقرب الرجل إلى الله عز وجل ببر والديه استجاب الله دعاءه، فعليك ببر الوالدين بإخلاص تكن مستجاب الدعوة.
أيها الأحبة الكرام: معلوم أن بر الأم مقدم على بر الأب ففى الصحيحين من حديث أبى هريرة جاء رجل إلى رسول الله فقال: ((مَنْ أحق الناس بحسن صحابتى؟ قال: ((أمك)) قال: ثم من؟ قال: ((أمك)) قال: ثم من؟ قال: ((أمك)). قال: ثم من؟ قال: ((أبوك ))([14]).
بل وتدبر معى هذا الحديث الرقيق الرقراق الذى رواه البيهقي ورواه ابن ماجة وحسنه شيخنا الألبانى فى السلسلة الصحيحة من حديث معاوية بن جاهمة، أن جاهمة عندما جاء إلى النبى فقال: يا رسول الله أردت أن أغزو – أى فى سبيل الله وقد جئت أستشيرك، فقال: ((هل لك أم؟)) قال: نعم. قال: ((فالزمها، فإن الجنة عند رجلها))([15])
وقد يتحسر الآن أباؤنا وأحبابنا ممن حرموا من نعمة الوالدين لذا أسوق إليهم حديثاً ربما وجدوا فيه العزاء: وللأمانة العلمية التى عاهدنا الله عليها ففى سنده على بن عبيد الساعدى، لم يوثقه إلا ابن حبان وبقية رجال السند ثقات عن أبى أسيد مالك بن ربيعة الساعدى قال: بينا نحن جلوس عند رسول الله إذ جاءه رجل من بني سلمة فقال: يا رسول الله هل بقى علىَّ من بر أبوي شىء أبرهما بعد موتهما؟ فقال: ((نعم الصلاة عليهما- أى الدعاء لهما والترحم عليهما، والاستغفار لهما- وانفاذ عهدهما من بعدهما، وصلة الرحم التى لا توصل إلا بهما، وإكرام صديقهما))([16])
فيجب علينا أن ندعو لأبائنا ونستغفر لهما ونحج عنهما ونتضرع إلى الله بالدعاء لهما فنقول: ربى ارحمهما كما ربيانى صغيرا.
فلقد كان السلف رضوان الله عليهم إذا ماتت أم أحدهم بكى وقال: ولم لا أبكي وقد أغلق اليوم علىَّ باب من أبواب الجنة.
رابعاً: حقوق تقابلها واجبات..
كما أن للوالدين حقوقاً على الأبناء فإن للأبناء حقوقاً على الآباء، كم من آباء، وكم من أمهات قد ضيعوا الأبناء ؟! إن التربية منذ أول اللحظات مسئولية كاملة للوالدين بل و قبل أن يأتى الولد للحياة، فالوالد مسئول عن هذا الابن الذى لم يأتى بعد، كيف ذلك ؟! أن يحسن اختيار أمه التى يجب أن تربيه بعد ذلك على الصلاح والفضائل.
أحبتى فى الله:
أسألكم بالله أن تتدبروا معى هذه الكلمات التى سأطرحها على حضراتكم، ماذا تقولون لو قلت لحضراتكم الآن: بأن أباً قد عاد اليوم إلى بيته فأخرج ورقة وكتب عليها استقالة لزوجته من تربية أبنائه ؟!! حتماً سيتهم هذا الوالد بالجنون.
أقول وماذا تقولون لو أن أمّاً قد عادت اليوم من عملها إلى بيتها فسحبت ورقة وكتبت عليها استقالة لزوجها من تربية الأبناء ؟!! حتماً ستتهم هذه المرأة بالجنون، بل وقد يفكر هذا الوالد المسكين فى طلاقها.
فماذا تقولون لو قلت لحضراتكم بأن نظرة صادقة إلى الواقع الذى نحياه تقول بأن استقالة جماعية قد حدثت فى بيوت المسلمين؟ نعم لقد استقال كثير من الآباء تربوياً، واستقالت كثير من الأمهات تربوياً، الوالد المسكين يظن أن دوره يتمثل فى أن يكون وزيراً للمالية والنفقات، طوال النهار فى التجارات والسفريات والأعمال أو على المقاهى والمنتديات فإذا ما حَلَّ الليل رجع لينام أو ليسهر أمام التلفاز، ما فَكَّر مرة أن يخلوا بأولاده يطمئن على أحوالهم.
أنا لا أقول فَرِّغ كل وقتك لولدك لأننى أعلم ظروف الحياة وأعلم الحالة الاقتصادية الطاحنة التى ترهق ظهور الآباء.
لكن أقول: والله إن جلوس الأب بين أبنائه وهو صامت لا يتكلم فيه من عمق التربية ما فيه، فما بالكم إذا تكلم فَذَكَّر بجنةٍ، وحَذَّرَ من نارٍ، وحل مشكلة، ووجه نصيحة، وأشعر أولاده أنه يشعر بهم و بأحاسيسهم، وسأل عن صديق الولد، وسأل عن صاحبة البنت، بكل حنان ورحمة وأُبوَّة حانية.
والله يا أخوة لقد جاءنى فى الأسبوع الماضى شاب تزين اللحية وجهه وهو يكاد يبكى، قلت له: لماذا؟ قال: إن أبى يقسم علىَّ بالله إن ذهبت إلى المسجد فسوف يطردنى من البيت!! أيها الوالد أنت مسئول أن تربى ابنك من أول لحظة.
مشى الطاووس يوماً باختيالٍ فقلد مشيته بنوه
فقال: علام تختالون؟ قالوا لقد بدأت ونحن مقلدوه
يشب ناشىء الفتيان منا على ما كان عَوَّده أبوه
أيها الوالد الكريم: إذا ربيت ولدك على الفضائل، والأخلاق الكريمة والصلاح منذ نعومة أظفاره، شب حتماً على هذه الفضائل والأخلاق، نعم قد يقول لى والد: إننى أربى ولدي في البيت وسيخرج إلى الشارع ليعود وقد طُمِس بناؤه الجميل الذى اجتهدت في تزينه وتجميله، سأقول لك أبشر واطمئن فما دام الأصل سليماً وما دام الجوهر نقياً، فسرعان ما يزول هذا الغبش الذى تأثر به ظاهره، وسرعان ما يعود إلى أخلاقه وجوهره النقي، الذى اجتهدت فى تأصله فى بيتك على كتاب الله و سنة رسول الله .
أيها الوالد الكريم: ابنك أمانة، اجتهد لا تضيع ولدك فسوف تسأل عنه. قال تعالى: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلاَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [ التحريم: 6 ]
وفى الصحيحين من حديث ابن عمر أن النبى قال: ((كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، الإمام راع ومسئول عن رعيته، والرجل فى أهل بيته راع ومسئول عن رعيته، والمرأة راعية فى بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها، والخادم راع فى مال سيده ومسئول عن رعيته، وكلكم راع ومسئول عن رعيته ))([17])
وتزداد المأساه يا مسلمون إذا انضم إلى استقالة الآباء استقالة الأمهات، فالأم هى الحضن التربوى الطاهر، الأم هى المدرسة الأولى للتربية، ماذا تقولون لو أغلقت المدرسة الأولى للتربية ؟! ألا وهى مدرسة الأم.
ليس اليتيم من انتهى أبواه وخلفاه فى هم الحياة ذليلاً
إن اليتيم هو الذى ترى له أماً تخلت أو أبا مشغولاً
ماذا تقولون لو علمتم كما ذكرت لحضراتكم أن من الآباء من يمنع ولده من الذهاب إلى المسجد أو يمنع ولده من الذهاب إلى مجالس العلم؟ نعم أسأل الله أن يجعلنى من المنصفين، أنا لا أريد أن أقلل الآن – بعد ما أصلّت ما لوالدين من حقوق – من شأنهما عند أبنائنا وإخواننا، وإنما أود أن أقول لإخواني وأبنائي قد يأمرك الوالد بذلك من منطلق الخوف عليك، وهذا هو الواقع، فالولد قرة عين أبيه، وثمرة فؤاده، فإن أمر الوالد ولده بذلك فليعلم الوالد الكريم أن المعصية أكبر، وبأنه سيزداد خوفه بصورة أكبر إذا منع الولد من معرفة طريق المساجد، وإذا حال بين الولد وطريق السنة، وسوف يبكى الوالد دماً بدل الدموع إذا رأى ولده يحقن نفسه بحقنة مخدرات أو يتعاطى المخدرات أو يمشى مع فتاة فى الحرام ولا حول ولا قوة إلا بالله، لذا أذكر آبائي الكرام بأن يفتحوا الباب على مصراعيه لأبنائهم، وليسلكوا طريق سنة النبى .
أيها الأحباب الكرام: إن للوالدين حقوقاً على الأبناء، وإن للأبناء حقوقاً على الوالدين وهناك من الوالدين من يقع فى عقوق ولده قبل أن يقع ولده فى عقوقه.
جاء رجل إلى عمر بن الخطاب فقال: يا أمير المؤمنين أشكو إليك عقوق ولدي، فقال: ائتنى به، فجاء الولد إلى عمر ، فقال عمر: لم تعق أباك؟ فقال الولد: يا أمير المؤمنين ما هو حقي على والدي؟ فقال عمر: حقك عليه أن يحسن اختيار أمك، وأن يحسن اختيار اسمك وأن يعلمك القرآن. فقال الولد: والله ما فعل أبي شىء من ذلك، فالتفت عمر إلى الوالد وقال: انطلق لقد عققت ولدك قبل أن يعقك.
وأخيراً حتى لا أطيل عليكم إنها مسئولية الجميع، أرجىء الحديث عن هذا العنصر إلى ما بعد جلسة الاستراحة، وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
([1]) رواه البخاري رقم ( 2653 ) فى الشهادات ، باب ما قيل فى شهادة الزور ، ومسلم رقم
( 87 ) في الإيمان ، باب بيان الكبائر وأكبرها ، والترمذي رقم ( 2302 ) فى الشهادات ،
باب ما جاء فى شهادة الزور.
([2]) رواه البخاري رقم ( 5973 ) فى الأدب ، باب لا يسب الرجل والديه ، ومسلم رقم
( 90 ) في الإيمان ، باب الكبائر وأكبرها ، وأبو داود رقم ( 5141 ) في الأدب ، باب
بر الوالدين.
([3]) المرأة المترجلة : التى تتشبه بالرجال فى هيئتهم وأفعالهم.
([4]) الديوث من الرجال : هو الذى لا غيرة له ولا حمية.
([5]) رواه النسائى ( 5/ 80 ) فى الزكاة ، باب المنان بما أعطى ، ورواه أيضاً أحمد فى المسند
و الحاكم فى المستدرك وهو فى صحيح الجامع ( 3063 )
([6]) صرفاً ولا عدلاً : أي فرضاً ولا نفلاً ولا عملاً
([7]) رواه الطبراني في الكبير ( 7547 ) وابن أبى عاصم في السنة رقم ( 323 ) وحسنه الألباني في صحيح الجامع ( 3065 ).
([8]) رواه أحمد في المسند ( 5/ 36 ) والحاكم في المستدرك ( 4/ 177 ) وصححه ووافقه الذهبي
وهو في صحيح الجامع ( 137 ).
([9]) رواه مسلم رقم ( 2551 ) في البر والصلة ، باب رغم من أدرك أبويه أو أحدهما عند الكبر
ولم يدخل الجنة ،والترمذي رقم ( 3539 ) في الدعوات ، ورواه أحمد فى المسند ( 2/345 )
رقم ( 8538 ) ، وهو في صحيح الجامع رقم ( 3511).
([(68/205)
10]) رواه البخاري رقم ( 5970 ) في الأدب ، باب البر والصلة ، ومسلم رقم ( 85 ) في
الإيمان: باب بيان كون الإيمان بالله تعالى أفضل الأعمال.
([11]) رواه البخاري رقم ( 5972 ) في الأدب ، باب لا يجاهد إلا بإذن الأبوين.
([12]) رواه مسلم رقم ( 2549 ) في البر والصلة ، باب بر الوالدين وأنهما أحق به ، وأبو داود
( 2530 ) في الجهاد ، والترمذي ( 1671 ) في الجهاد ، والنسائى ( 6/ 10 ) في الجهاد
([13]) رواه البخاري رقم ( 5974 ) في الأدب ، باب إجابة دعاء من بر والديه ، ومسلم رقم
( 2743 ) في الذكر ، باب قصة أصحاب الغار الثلاثة ، وأبو داود رقم ( 3387 ) فى
البيوع باب في الرجل يتجر في مال الرجل بغير إذنه.
([14]) رواه البخاري رقم ( 5971 ) في الأدب ، باب البر والصلة ، ومسلم رقم ( 2548 ) في
البر والصلة ، باب بر الوالدين وأنهما أحق به.
([15]) رواه النسائي ( 6/ 11 ) في الجهاد ، باب الرخصة في التخلف لمن له والدة ، وابن ماجة
( 2781 ) في الجهاد ، باب الرجل يغزو وله أبوان، ورواه أيضاً أحمد في المسند ( 3/ 429 )
وصححه الحاكم وذكره الهيثمى في المجمع ( 8/ 138 ) وقال : رواه الطبراني في الأوسط
ورجاله ثقات، وحسنه الألبانى في السلسلة الصحيحة.
([16]) رواه أبو داود رقم ( 5142 ) في الأدب ، باب بر الوالدين ، وابن ماجة رقم ( 3664 )
فى الأدب ، باب صل من كان أبوك يصل ، وابن حبان رقم ( 2030 ) وضعفه الأرناؤوط
والألبانى في ضعيف سنن أبي داود.
([17]) رواه البخاري رقم ( 893 ) في الجمعة ، باب الجمعة في القرى والمدن ، ورواه مسلم
( 1829 ) في الإمارة ، باب فضيلة الإمام العادل ، والترمذي ( 1705 ) في الجهاد ، باب
ما جاء في الإمام ، وأبو داود ( 2928 ) في الإمارة ، باب ما يلزم الإمام من حق الرعية.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه وأحبابه وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد: أيها الأحباب الكرام
خامساً: إنها مسئولية الجميع.
نعم يجب أن نعلم أن المسئولية تقع على كواهلنا جميعاً، فعلى البيت مسئولية، وعلى مناهج التعليم مسئولية، وعلى المدرسة مسئولية، وعلى الإعلام مسئولية، وعلى الشارع مسئولية، فالمسئولية تقع على كواهل الجميع، تبدأ من البيت ومن الأسرة، ولكن قد يتألم الآن بعض الأحبة ويقول إذا كان الوالد من الصالحين فاجتهد فى تربية أبنائه تربية ترضى الرب سبحانه واجتهدت الأم كذلك، لكن خرج من بين هؤلاء الأبناء ابن عاق انحرف عن الطريق.
نقول: إن هذا لا يقدح فى أصل القاعدة فإننى أرى بيتاً من بيوت المسلمين يشرف على التربية فيه نبي كريم من أنبياء الله وهو نبي الله نوح عليه السلام، ومع ذلك لا يخرج الولد من هذا البيت عاقاً وإنما يخرج كافراً والعياذ بالله، وألمح بيتاً آخر يقوم على أمر التربية فيه فرعون مصر طاغوت الدنيا بأسرها، ويكون هو المشرف على تربية طفل، هذا الطفل هو نبي الله موسى عليه السلام كليم الله.
فابذل ما استطعت واجتهد، وضع النتائج بعد ذلك إلى الله الذي يعلم كل شىء، والذي يعلم الحكمة إنه عليم حكيم.
أيها الوالد الكريم، أيتها الأم الفاضلة :تبدأ المسئولية فى التربية للأبناء من البيت فهو المدرسة الأولى لكل نَشْء، وهو المكان التربوى الأكبر الذى يؤثر فى شخصية وتكوين الأبناء، فاجتهدوا واتقوا الله فى التربية ولا تهنوا ولا تحزنوا، فمن زرع حصد، واعلموا يقيناً أن من زرع خيراً سيجد خيراً بإذن الله، ومن زرع شراً فسوف يجنيه بإذن الله.
أولادكم أمانة فى أعناقكم، فهذه مسئولية، ويالها من مسئولية !! عندها تتوارى كل المسئوليات، فالأبوة بمعناها الحقيقى هى العطاء بلا حدود، هى العطف، هى الحنان، هى الرحمة، هى الشفقة، هى البذل والتضحية بكل غالى وثمين، هى النصيحة هى الاهتمام، هى الشعور بمشاعر الأولاد ومعايشة أحزانهم وأفراحهم وحوائجهم، فالأبوة فى خصالها السامية لم ولن تعادلها مسئولية قط، ولم لا ؟! وأنت تبنى جيلا الآن يصبح صرح أمة التوحيد الشامخ غداً، يصبح صاحب الكلمة غداً، يصبح رافع راية لا إله إلا الله غداً، ما أسماها من مسئولية! وما أرفعها من مكانة!!
فكن لابنك كما كان محمد لأولاده، ياله من أب جمع كل حسنات فى التربية، وكوني أيتها الأم كما كانت أمهات المؤمنين.
ولن يقع عاتق المسئولية جمعاء على البيت فقط، فالمدرسة لها دور فى صناعة جيل الأمة حامل الراية غداً ، والإعلام له دور خطير فى توجيه النشىء، فليتق الله كل مسئول فى الإعلام فى فلذات أكبادنا فإن الإعلام سلاح خطير ومهم فى تعليم أبنائنا الأخلاق العالية والمثل السامية إذا أحسن استغلاله. وسلاح مدمر للفرد والأسرة والمجتمع إذا أسىء استغلاله فإن الكثير من وسائل الإعلام المختلفة المسموعة والمرئية والمقروءة تعزف على وتر الجنس وعلى وتر أخلاق الغرب التى تصطدم بديننا الحنيف وتقاليدنا العريقة وبعض هذه الوسائل تعزف على وتر التحرر.
ولذا أصبح الولد ينظر إلى أبيه المحافظ صاحب الأخلاق والفضائل نظرة احتقار، نظرة ازدراء، نظرة سخرية.
هكذا أُشرب فى قلبه أن كل من يتمسك بالأخلاق الفاضلة فهو رجل رجعى . فلا غرابة أن تجد ولداً يقول لأبيه: أنت رجل رجعى لا تعيش عصرك، أنت لا تعيش زمانك، إنكم مازلتم تعيشون فى مجاهل القرون الماضية.
العزف بصورة واضحة على نغمة التحرر، جعل الأبناء يتمردون على كل شيء، على سلطة الأسرة، على سلطة الوالدين، بل وتمرد الأولاد أخيراً على سلطة الدين، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
فعلى القائمين على الإعلام أن يتقوا الله، وأيضاً على المدارس ومناهج التعليم وكل المسئولين عن دفة التعليم مسئولية كبيرة، فهم يبنون عقول نشىء، وانظر إلى من يبنى عقلاً، هذا العقل سوف يكون مستقبلاً قائداً للأمة أو أميراً أو طبيباً أو مهندساً أو معلماً أو ... . فانظر كيف يُبنى هذا العقل ؟! إن لم يُبنَ على أُسس وقواعد وأخلاق وغايات وقيم ومبادىء قرآنية محمدية، فكيف يكون هذا العقل مستقبلاً؟ والله إن لم نربى أولادنا على مناهج ربانية محمدية فسوف نجنى أسوأ الثمار، بل سوف نجنى أشواك تجرحنا قبل الآخرين، وتؤذينا قبل الآخرين، فاعلموا أيها المسئولون عن التعليم أن جزءً كبيراً جداً من دفة المسئولية موضوع فى أيديكم فاتقوا الله فيه.
فالمدرسة أب ثانى وأم ثانية لنشىء هو قرة أعيننا وقرة أعينكم قبلنا، فإن ما نسمع الآن من تطاول الطالب على مدرسه ليدمع العين دماً، لذا يجب أن تعود المدرسة من جديد إلى دورها الريادى فى التربية قبل أن تعلم أبناءنا العلم، وإن ما نسمع من أخلاق البنات فى مدارس البنات ليستحى اللسان أن يتلفظ به، فمن أجمل ما قال محمد إقبال رحمه الله: إن العلوم الحديثة تحسن أن تعلم أبناءنا المعاني والمعارف، ولكنها لا تحسن أن تعلم عيونهم الدموع، وقلوبهم الخشوع.
وعلى الشارع أيضاً دور، فلو خرج الأبناء إلى الشوارع بأخلاق البيوت الطيبة لتغير الحال، إذاً المسئولية مشتركة وعلى الجميع، فكل مسئول يجب عليه أن يؤدي ما عليه بأمانة واقتدار حتى نجني قرة عين لا شيطان، لا أريد أن أطيل عليكم أكثر من ذلك.
أسأل الله أن يقر أعيننا وإياكم بصلاح أبنائنا وستر بناتنا، إنه ولى ذلك والقادر عليه...
ـــــــــــــــــــ(68/206)
...
موانع الانقياد للشرع ودور الإعلام في عقوق الأبناء
...
...
831
...
الأسرة والمجتمع, التوحيد
...
...
قضايا الأسرة, نواقض الإسلام
...
عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري
...
...
المدينة المنورة
...
19/2/1409
...
...
قباء
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
كلمة الإسلام وما تتضمنه من معانٍ , ومعناها الرئيس هو الاستسلام والانقياد لله وحده بالقلب والجوارح – لا تنفع المعرفة والإقرار بدون انقياد للدخول في الإسلام – طبيعة اليهود وموقفهم من الرسالة – الحسد والبغي أكثر أسباب الكفر , وهما تركة إبليس – الشهوات والأهواء من أشد موانع الانقياد , والفرق بين تسلطها حتى تضعف الانقياد , وبين منعها له ابتداء وتطبيق ذلك على موقف كسرى وقيصر والنجاشي من دعوته صلى الله عليه وسلم - ظاهرة العقوق مظاهرها وأسبابها والدور الخبيث لوسائل الإعلام في ذلك وأثرها على الأمة - الواجب تجاه هذا الإعلام
الخطبة الأولى
أما بعد: فقد بينا أن كلمة إسلام تتضمن المعاني الآتية: الاستسلام والتسليم والانقياد والطاعة والسلامة والسلام.
أما الجانب الرئيسي من معنى هذه الكلمة فهو الاستسلام والانقياد لله وحده لا شريك له انقيادًا كاملاً يشمل انقياد القلب وانقياد الجوارح.
وبينا أنه لا يمكن الفصل بين هذين فلا يُتصور أن ينقاد القلب لله وتتمرد الجوارح. أما إذا تمردت الجوارح على أمر الله فذلك دليل على أن القلب نفسه متمرد. ويتفرع من هذا أن المعرفة وحدها ليست إسلامًا، فإذا عرف الإنسان الحق وأقربه بلسانه إلا أنه لم يتبعه وأبى الانقياد له فإن تلك المعرفة لا تنفعه عند الله شيئًا. بل وذلك الإقرار أيضًا باللسان لا ينفعه أيضًا. لا ينفعه شيئًا. بل إن الإنسان الذي عرف الحق وأبى أن يتبعه وينقاد له هو أسوأ حالاً من ذلك الذي جهل الحق فلم يتبعه، ولهذا فقد ذم الله اليهود أشد مما ذم سواهم من الكفار والمشركين، ذلك لأن اليهود عرفوا الحق ولم يتبعوه قال سبحانه في وصف حالهم وذم حالهم فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين بئس ما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله بغيًا أن يُنزِّل الله من فضله على من يشاء فباءوا بغضب على غضب وللكافرين عذاب مهين [البقرة:89-90]. اليهود عرفوا الرسول وعرفوا أنه النبي الذي بشرت التوراة والإنجيل وعرفوا أن ما جاء به هو الدين الحق بل وأقروا بذلك بألسنتهم إلا أنهم لم يتبعوه ورفضوا الانقياد لما جاء به حسدًا وبغيًا، بغيًا وحسدًا ممن عند أنفسهم، فإنهم إنما كانوا ينتظرون أن يُبعث هذا النبي منهم من بني إسرائيل، فلما بُعث من قريش حسدوه وعاندوه وبغوا عليه. فالمانع الذي منعهم هنا من الانقياد والاستسلام لأمر الله هو الحسد والبغي.
وهذان هما أكثر أسباب الكفر تحكمًا في البشر وتفشيًا في بني آدم، تلك تركة إبليس وسنته السيئة التي بذر بذرتها يوم أن رفض الانقياد والامتثال لأمر الله عز وجل مع علمه لألوهيته وعظمته سبحانه وأنه لابد من الانقياد لأمره دون تردد أو سؤال أو نقاش، مع ذلك كفر إبليس بعدم انقياده وامتثاله، مع توافر علمه، وسبب كفره هو الحسد والبغي قال لربه: أأسجد لمن خلقت طينًا [الإسراء:61]. ثم تمادى في حسده وبغيه فقال وهو بين يدي رب العزة فقال: أرأيتك هذا الذي كرمت علىّ لئن أخرتني إلى يوم القيامة لاحتنكن ذريته إلا قليلاً [الإسراء: 62].
وقد تكون الشهوات والأهواء والمصالح المتشابكة المبنية عليها قد تكون مانعًا من أشد الموانع التي تمنع الانقياد، من أشد هذه الموانع تأثيرًا في النفس البشرية. فإذا قامت الشهوات والأهواء والمصالح المبنية عليها، إذا قامت حائلاً بين الإنسان وبين الانقياد الكلي لأمر الله ودينه، قامت بينه وبين الانقياد ومن حيث المبدأ، قامت حائلاً بين الإنسان وبين الانقياد الكلي فحينئذ لم يتحقق شيء من معنى الإسلام في نفس الإنسان.
وهناك فرق بين أن تتسلط هذه الأهواء والشهوات والمصالح المبنية عليها تتسلط على الإنسان فتضعف فيه أصل الانقياد الموجود وبين أن تقف حائلاً بينه وبين الانقياد من حيث المبدأ.
ففي الحالة الأولى شيء من معنى الإسلام موجود إلا أنه أضعفته تلك الأهواء والشهوات والمصالح المترتبة عليها وفي الحالة الثانية لاحظ للإنسان من معنى الإسلام، لا شيء من معنى الإسلام موجود مع وقوف تلك الموانع حائلاً بينه وبين الانقياد من حيث المبدأ.
هناك ثلاثة أمثلة بارزة من سيرة المصطفى توضح هذا المبدأ. فقد أرسل النبي كتبًا إلى ملوك أهل الأرض في زمنه وكان من أبرز ملوك أهل الأرض في زمنه كسرى ملك الفرس، وهرقل ملك الروم، والنجاشي ملك الحبشة.
فأرسل النبي إلى كل واحد منهم كتابًا يقول فيه: ((بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى كسرى عظيم الفرس - أو إلى هرقل عظيم الروم - السلام على من اتبع الهدى، أدعوك بدعاية الإسلام أسلم تسلم))[1]، أما كسرى فلما قرأ كتاب النبي استشاط غضبًا ومزق الكتاب أي أعلن بوضوح صارح تمرده على أمر الله عز وجل. ورفضه الوقح للانقياد لله سبحانه وتعالى، ولما بلغ النبي أن كسرى مزق الكتاب دعا عليه[2] بأن يمزق الله ملكه فوالله ما هي إلا سنوات قلائل هي قصيرة في عمر الممالك وإذا بملك كسرى يتمزق شذر مذر وتطأ سنابك خيل المسلمين أرض بلاده ويهيم هو على وجهه شريدًا طريدًا حتى قتله أحد خدمه غيلا.
أما هرقل عظيم الروم فلما قرأ كتاب رسول الله وسمع أوصافه رق قلبه ومال إلى الإسلام بل وأعلن ذلك وأقر به لسانه وبأن هذا النبي حق وهو الذي بشرت به التوراة والإنجيل، بل قال أكثر من ذلك، قال: ليملكن ما تحت قدمي هاتين وودت أني أصل إليه وأغسل الأرض تحت قدميه، لكنه مع ذلك لم يتبع النبي أبى الانقياد لأمر الله الذي جاء به محمد . وذلك خوفًا منه على ملكه وسلطانه وشهواته وأهوائه ومصالحه المترتبة عليها خاف على كل ذلك لما رأى قساوسته ورهبانه سخروا وكفروا وأبوا أن يقروا لسيدنا محمد بالنبوة فخاف منهم ومالأهم وتابعهم على كفرهم فهل نفعته معرفته للحق شيئًا. هل نفعه علمه بالحق شيئًا بل وإقراره بلسانه بل وأكثر من ذلك تمنيه أن يصل إلى النبي ويغسل الأرض قدميه هل نفعه كل ذلك شيئًا، لم ينفعه ذلك شيئًا وبقى هرقل كافرًا ملعونًا بسبب عدم الانقياد.
أما النجاشي رحمه الله فلما قرأ كتاب النبي الذي يدعو فيه إلى الإسلام أسلم[3] وحسن إسلامه رحمه الله، ولما سمع آيات من القرآن قرأها عليه جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه بكى النجاشي وفاضت عيناه من الدمع، وفيه يُقال نزل[4] قوله تعالى: ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانًا وأنهم لا يستكبرون وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق [المائدة:82-83].
وامتثل النجاشي رحمه الله لأمر سيدنا محمد فأكرم صحابته الذين هاجروا إليه، هاجروا إلى الحبشة وآواهم ووفر لهم الحماية ودافع عنهم بل ووكله سيدنا رسول الله أن يزوجه من أم حبيبة بنت أبي سفيان فزوجه النجاشي إياها بل وروى أن النجاشي رحمه الله أرسل إلى النبي يسأله إن كان يأمره بالقدوم إليه فيرحل إليه، لكن الرسول لم يأمره بذلك.
النجاشي رحمه الله مسلم وحسن إسلامه بل وصلى عليه رسول الله صلاة الغائب لما بلغه نبأ وفاته.
أما هرقل فكافر فما الفرق بينهما وكلاهما عرف الحق وعلمه وأقر به بلسانه. الفرق بينهما هو الانقياد فالنجاشي عرف الحق واتبعه وانقاد له وامتثل لأمره، أما هرقل فعرف الحق ولم يتبعه وأبى الانقياد له والامتثال لأمره أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد [آل عمران:20].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب بدء الوحي باب كيف بدء الوحي إلى رسول الله (1/8-9).
[2] أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب الجهاد ، باب دعوة اليهود والنصارى (3/1074).
[3] أخرجه الواحدي وأخرجه الطبري (7/3) وسنده حسن.
[4] أخرجه النسائي في تفسيره (1/443) وغيره.ومسنده صحيح.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.
إن من أبرز الظواهر المفزعة في مجتمعاتنا نحو المسلمين اليوم ظاهرة عقوق الوالدين ظاهرة عقوق الأولاد للآباء والأمهات، حياتنا الاجتماعية كلما ابتعدت عن الحياة الإسلامية وكلما اقتربت من الفرنجة كلما اقتربت من الأمركة كلما اقتربت من أسلوب الحياة المادية ضعفت فيها هذه القيم فالأواصر الإنسانية والعلاقات الأسرية لا قيمة لها في المجتمع الأوربي، وفي المجتمع الأمريكي لا قيمة لكل تلك القيم ولا لتلك الأواصر الإنسانية، ولا إلى العلاقات الأسرية الصلة بين الابن وأبويه، من أقوى أنواع العلاقات الإنسانية ومع ذلك فقد تقطعت هذه الصلة عندهم بشكل مريع، تقطعت عندهم وانهارت بشكل مريع وعندنا اليوم في مجتمعاتنا الإسلامية طابور خامس من أذناب الغرب رضعوا من البان الغرب النجسة فانحرفت فطرتهم وتشوهت وتلوثت مفاهيمهم هذا الطابور الخامس المنحرف المتفرنج يدعو مجتمعاتنا الإسلامية إلى الفرنجة ويسعى إلى فرنجة مجتمعاتنا الإسلامية، وهذه هي مظاهر هذه الفرنجة عقوق الوالدين، كم نعاني اليوم في حياتنا المعاصر من تمرد الأبناء والبنات من سوء أدبهم مع الوالدين، بل من عقوقهم للوالدين. ومن أقرب الأمثلة على ذلك في حياتنا الاجتماعية المعاصرة يكبر الأبناء والبنات فإذا كبروا وذهب كل واحد منهم إلى سبيله تركوا الأبوين وحيدين مهجورين وربما كان أحدهما باقيًا فيُترك مهجورًا وحيدًا وقد بلغ مرحلة الشيخوخة بلغ مرحلة من العمر هو في أمس الحاجة فيها إلى الخدمة والرعاية وإلى وقوف الذرية بجانبه، ثم يتلفت فلا يجد أحدًا من أولاده حوله فأي عقوق هذا أي عقوق شنيع هذا تفشى في مجتمعاتنا نحن المسلمين اليوم.
هذا مرض أجنبي وافد، مرض غربي أوربي أمريكي وفد إلينا من تلك البلاد القذرة النجسة اضطروا إلى أن يُنشئوا الملاجئ للآباء والأمهات الذين بلغوا مرحلة الشيخوخة وهجرهم أولادهم فلم يجدوا من يرعاهم أو يخدمهم وهم في هذه المرحلة البائسة الصعبة فهل وصلنا اليوم في حياتنا الاجتماعية إلى الحد الذي نضطر فيه إلى إنشاء مثل هذه الملاجئ، هذه هي الحياة الأمريكية الأوربية الإفرنجية الذي يدعونا إليها ذلك الطابور الخامس من أذناب الغرب الذي عشش في مجتمعنا وبث سمومه في مجتمعنا، هذه هي الحياة الأمريكية، هذه هي الحياة الأوربية التي تدعونا إليه تلك الوسائل الإعلامية الهدامة المدمرة التي تبث سمومها فينا كل يوم صباحًا ومساء إنها تغسل أدمغة المشاهدين وتصبغ النفوس بالصبغة الغربية حتى بدأنا نحس بآثارها في حياتنا الاجتماعية هذه المشكلات التي ما كنا نعهدها في مجتمعات المسلمين.
تلك البرامج الإعلامية الهدامة والمدمرة تحرض الأبناء والبنات على التمرد على الآباء والأمهات تحرضهم على سوء الأدب مع الوالدين تحرضهم على العقوق للوالدين، وقد قال : ((أكبر الكبائر الإشراك وعقوق الوالدين)).
ولما سُئل رسول الله : أي الأعمال أحب إلى الله؟ قال: ((الصلاة على وقتها)) قيل: ثم أي؟ قال: ((بر الوالدين)) قيل: ثم أي؟ قال: ((الجهاد في سبيل الله))[1].
فانظر كيف رتب سيدنا رسول الله الواجبات والفرائض فجعل بر الوالدين وطاعتهما والإحسان إليهما وبرهما بعد الصلاة وقبل الجهاد في سبيل الله. فيا أيها المسلمون جميعًا أوقفوا هذا السيل الإعلامي الهدام المدمر وانفوا هذا الغزو المدمر الذي يحرض أولادكم وأبناءكم على التمرد على الانفلات من الضوابط والأخلاق، كل مسلم منا مسئول أن يفكر كيف يوقف هذا السيل الهدام. كل مسلم منا مسئول أن يحاول أن يوقف هذا السيل الإعلامي الهدام الذي هجم على بيوتنا وعلى أولادنا وعلى مجتمعاتنا، أوقفوا هذا التدمير هذه الفرنجة أيها المسلمون، هذا التخريب أوقفوه قبل أن تخسروا أولادكم وتخسروا أسركم وتخسروا بناتكم وتخسروا مجتمعكم.
أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
وعليكم أيها المسلمون بالجماعة فإن يد الله على الجماعة ومن شذ شذ في النار.
واعلموا أن الجماعة هي التمسك بالكتاب والسنة ولو كنت وحدك على ذلك.
يا ابن آدم أحبب ما شئت فإنك مفارقه واعمل ما شئت فإنك ملاقيه وكن كما شئت فكما تدين تُدان.
ثم صلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال جل من قائل: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليمًا [الأحزاب:56].
وقال : ((من صلى علىّ واحدة صلى الله عليه بها عشرًاْ))[2].
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبي بكر الصديق وعمر الفاروق وذي النورين عثمان وأبي السبطين علىَّ وعن آل بيت نبيك الطيبين الطاهرين وعن أزواجه أمهات المؤمنين، وعن الصحابة أجمعين والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
[1] أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب الأدب باب البر والصلة (5/2227).
[2] أخرجه البخاري في صحيحه الأدب باب عقوق الوالدين من الكبائر (5/2229).
ـــــــــــــــــــ(68/207)
الغيرة
...
...
658
...
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
...
...
قضايا الأسرة, مكارم الأخلاق
...
هاشم محمد علي المشهداني
...
...
الدوحة
...
...
...
الريان الكبير
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- معنى الغيرة. 2- الغيرة نعمة من نعم الله. 3- أنواع الغيرة. 4- موقف المسلم من الغيرة.
الخطبة الأولى
قال تعالى: قل إنما حرّم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون [الأعراف:33]. استدل العلماء بهذه الآية الكريمة على أنها أصل في إثبات الغيرة لله تعالى، ومن غيرته جل وعلا أن حرّم الفواحش (أي المعاصي) وهي ما يجب فيها الحد، والإثم اسم لما لا يجب فيه الحد، والبغي: هو الظلم التجاوز للحد وأن يجعل لله ندا وهو خالقه.
فما الغيرة؟ وما أنواعها؟ وما موقف المسلم منها؟
الغيرة: هي الحمية والأنفة، والغيرة لا تكون إلا إذا كانت المحبة فكلما قويت محبتك لشيء قويت غيرتك عليه.
والغيرة من صفات الله سبحانه للحديث: ((ليس شيء أغير من الله، من أجل ذلك حرّم الفواحش ما ظهر منها وما بطن))([1]).
والغيرة من سمات المؤمنين للحديث: ((المؤمن يغار والله أشد غيرة))([2]).
وذهاب الغيرة ذهاب بالإيمان كله يقول ابن القيم رحمه الله: (إذا ترحلت الغيرة من القلب، ترحلت منه المحبة، بل ترحل منه الدين، والغيرة أصل الجهاد والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر فإن خلت من القلب لم يجاهد ولم يأمر بالمعروف)([3]).
وذهاب الغيرة علامة من علامات الساعة للأثر: (إذا كان آخر الزمان رفع الله أربعة أشياء من الأرض: رفع البركة من الأرض، والعدل من الحكام والحياء من النساء، والغيرة من رؤوس الرجال).
وأما لماذا الغيرة؟
لأن العبد إذا رزق الغيرة كان حريصا أن يكون عزيزا معتزا بدينه وألا يكون أعداء الله خيرا منه قال تعالى: ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله [البقرة:165]. وقع عبد الله بن حذافة السهمي مع مجموعة من الجند أسيرا لدى ملك الروم، فدعاه إلى النصرانية فأبى، فشده إلى شجرة ورمي بالسهم ما بين يده ورجليه فلم يرتهب، ثم حبسه أياما حتى بلغ به الجوع مبلغه فعرض عليه الخمر ولحم الخنزير، فقال: إن ديني ليبيح لي أكلها به للضرورة ولكني لن أشمت في كافرا. ثم جاء بقدر عظيم ووضع فيه زيتا وأشعل تحته النار حتى غلا، ثم رمى أحد المسلمين فذاب فيه، ثم حمل عبد الله بحبل ونكس في القدر فلما كاد أن يصل بكى عبد الله، فاستبشر ملك الروم وقال: أخرجوه ثم عرض عليه النصرانية فأبى فسأله: علام البكاء؟ قال: لأن لي روحا واحدة، وإني لأتمنى أن يكون لي مائة روح تخرج الوحدة تلو الأخرى لله عز وجل، فطلب ملك الروم منه أن يقبّل رأسه ويطلق سراحه، قال عبد الله: لا حتى تطلق سراح من معي، قال :أفعل فقبل رأسه وأطلق سراحه وسراح من معه، يعود عبد الله إلى عمر وهو حزين، فسأله عمر عن سبب حزنه؟ قال: قبلت رأس كافر! فقام عمر وقال: حق على كل مسلم يراك أن يقبل رأسك وأنا أبدؤهم ([4]).
وإذا رزق العبد الغيرة كان الشيطان بعيدا عن أن يجره إلى المعصية، فالغيرة خير عاصم قال تعالى: وإما ينزغنك من الشيطان نزع فاستعذ بالله إنه سميع عليم [الأعراف:200]. والنزغ: اسم للحركة التي يحدثها راكب الدابة إذا أراد تحريكها، فكأن الشيطان قد جعل من العاصي دابة وامتطاه لتنفيذ ما يريد. رحم الله عمر بن الخطاب حيث يصفه المصطفى : ((لو سلك ابن الخطاب فجا (أي طريقا) لسلك الشيطان فجا غيره))([5]).
وأما أنواعها:
فأعظمها غيرة الله عز وجل ومن غيرته تعالى:
أ- غيرته على كتابه الذي أنزله ليكون المنهج الذي يحكم خلقه، فمنهج الله مبرأ عن الجهل والظلم والمحاباة، وهي سمات بارزة في مناهج البشر فإذا أعرض العبيد عن منهجه غار الله تعالى لكتابه فكتب الشقاء والاضطراب لكل مخالف له: ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا [طه:124]، بل كذبوا بالحق لما جاءهم فهم في أمر مريج أي مضطرب ومن غيرته أن يرفع كتابه من الأرض وهي أعظم علامة من علامات الساعة كما نص العلماء للحديث: ((يدرس الإسلام حتى لا يدرون ما صيام ولا صلاة ولا نسك ولا صدقة ويسرى على كتاب الله في ليلة فلا تبقى في الأرض منه آية))([6]).
ب- غيرته على محارمه وكل ما حرمه الله وقع في حماه فلا يجوز لأحد أن يقع فيه للحديث: ((ألا وإن لكل ملك حمى ألا وإن حمى الله محارمه))([7]). لذا كانت البلايا والمصائب تبعا لكل انحراف للحديث: ((يا معشر الأنصار خمس خصال إن ابتليتم بهن وأعوذ بالله أن تدركوهن: لم تظهر الفاحشة في قوم قط إلا فشا فيهم الطاعون والأمراض التي لم تكن في أسلافهم، ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وشدة المؤنة وجور السلطان، ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر في السماء ولولا البهائم لم يمطروا ولم ينقضوا عهد الله ورسوله إلا سلط عليهم عدوا من غيرهم فيأخذ بعض ما في أيديهم، ولم تحكم أئمتهم بكتاب الله إلا جعل بأسهم بينهم))([8]).
ج- غيرته على أوليائه: إذا أوذوا للحديث: ((من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب))([9])، ولكن شاءت حكمته سبحانه أن يمد لأعدائه حتى يأتوا مثقلين بذنوبهم للحديث: ((إن الله ليملي للظالم فإذا أخذه لم يفلته))([10]) وحتى تزداد مرتبة العبد المجاهد رفعة في الآخرة وقد ذكر: أن عالما قال كلمات حق أغضبت أحد الخلفاء فقال أحد الجلساء: اقتله فقال الخليفة: لا إن هؤلاء يعلمون إذا قتلناهم كانوا شهداء وكنا بقتلهم من أهل النار.
غيرة المؤمن: المؤمن حقاً ينظر للأمور بنظر الله كما قال تعالى: إنهم يرونه بعيدا، ونراه قريبا [المعارج:6-7]. قال ابن كثير ونراه: (أي الله والمؤمنين) يرون اليوم الآخر قريبا واقعا لا يتخلف فيغضبه ما يغضب الله ويفرحه ما يرضاه الله.
أ- غيرته على محارم الله تقول عائشة رضي الله عنها: ((وما انتقم رسول الله لنفسه إلا أن تنتهك حرمات الله فينتقم لله بها))([11]).
ب- غيرته على أهله فالديوث وهو الذي لا غيرة له على عرضه وأهله محروم من الجنة للحديث: ((لا يدخل والجنة ديوث))([12]) والرجل هو المسؤول الأول عن أهل بيته للحديث: ((كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، فالرجل راع في أهله وهو مسؤول عن رعيته))([13]) فيأمرهم بطاعة الله، قال تعالى في إسماعيل عليه السلام: وكان يأمر أهله بالصلاة والزكاة وكان عند ربه مرضيا [مريم:55]. فيحذرهم من كل فعل خاطئ بالكلمة الهادفة الطيبة ذكرت إحدى أزواج النبي امرأة بنقص فيها فقال عليه الصلاة والسلام: ((لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته))([14]) وأن يصحح المفاهيم: تصدق رسول الله بشاة وأبقى الكتف فقالت عائشة رضي الله عنها: ((ذهبت كلها إلا كتفها فقال عليه الصلاة والسلام: ((بل بقيت كلها إلا كتفها))([15])، ويتعاونان على الطاعة للحديث: ((إذا قام الرجل من الليل وأيقظ أهله فصليا ركعتين كتبا عند الله من الذاكرين الله كثيرا والذاكرات))([16]) ويعلمها أمر دينها: زوج سعيد بن المسيب ابنته لتلميذ عنده ماتت زوجته فلما كان الصباح همّ الزوج للذهاب فقالت ابنة سعيد: إلى أين؟ قال: أطلب العلم من والدك. فقالت: اجلس فإن علم سعيد بن المسيب عندي. لقد أصبحت الكثير من بناتنا لا يعرفن حتى فيما يتعلق بشؤون النساء أنفسهم بل إنها لا تتقن إلا التزين لغير زوجها وإثارة الزوج على أهله واستحداث المصائب حتى أصبحت الكثير من البيوت جحيما لا يطاق.
ج- وأن يكون دينه أعظم عنده من أهله وزوجه قال تعالى: يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم [التغابن:14]. نزلت في عبد الرحمن بن مالك الأشجعي وكان كلما أراد الجهاد قام إليه أهله وبنوه فرققوا حالهم عنده وقالوا: إلى من تتركنا، بعدك؟ فيرق لحالهم فيجلس فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وأما موقف المسلم من الغيرة:
لابد أن نعلم أن العلماء جعلوا الضروريات الخمس المطلوب حفظها هي الدين والعقل والمال والعرض والنفس وقالوا: كلها فداء للدين: فلتوظف طاقات العقل وليذهب المال ولتزهق النفس لأجل الدين.
وإن الغيرة لا تعني أن يكون الرجل جبارا ظالما في أهل بيته للحديث: ((إن المؤمن ليبلغ بحسن خلقه درجة الصائم القائم))([17]). ((وإن الرجل ليكتب جبارا وليس عنده إلا أهل بيته))([18]). بل يكون حكيما في تصرفه فلكل مقام مقال وآخر الدواء الكي والتدرج بالعقوبة واجب قال تعالى: واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا [النساء:34].
وألا ننظر إليها من زاوية مظلمة، فكل إنسان له عيوب وللحديث: ((لا يفرك مؤمن مؤمنة إن كره بها خلقا رضي منها آخر))([19]). ومعنى لا يفرك أي لا يبغض، قال تعالى: وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم [البقرة:216].
وأن تعلم أن التي تصحبك في حياتك الزوجية إنسانة لها كرامتها ومشاعرها، ولها قلب ينبض بالحب والإحساس وللحديث: ((لا يجلد أحدكم امرأته جلد العبد، ثم يجامعها في آخر اليوم))([20]) فذاك دليل سماجة وخلق سيئ.
([1])أحمد والشيخان.
([2])متفق عليه.
([3])الفوائد.
([4])حياة الصحابة مجلد 1 ص 284.
([5])البخاري.
([6])ابن ماجة من حديث حذيفة.
([7])متفق عليه.
([8])ابن ماجة في سننه.
([9])البخاري.
([10])متفق عليه.
([11])البخاري ومسلم.
([12])أحمد والنسائي.
([13])متفق عليه.
([14])أبو داود والترمذي.
([15])رواه الترمذي وقل حديث حسن صحيح.
([16])أبو داود بإسناد صحيح.
([17])أبو داود وابن حبان.
([18])ابن حبان في كتاب الثواب.
([19])مسلم.
([20])البخاري ومسلم.
ـــــــــــــــــــ(68/208)
الرجولة
...
...
677
...
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
...
...
قضايا الأسرة, مكارم الأخلاق
...
هاشم محمد علي المشهداني
...
...
الدوحة
...
...
...
الريان الكبير
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- معنى الرجولة. 2- سمات الرجولة. 3- انقلاب الموازين.
الخطبة الأولى
يقول الحق جلا وعلا: من المؤمنين رجال صدقوا ما عهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا [الأحزاب:23].
إن بين الله وبين المؤمنين بيعة، مفادها قول الله تعالى: إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة [ التوبة :111]. المشتري هو الله، والبائع فيها هو المؤمن، والسلعة هي الأنفس والأموال، والثمن هو الجنة.
الله تعالى يعلمنا أن الرجال من المؤمنين هم الذين يصدقون الله في بيعتهم، وليس كل المؤمنين رجال.
فمن هو الرجل؟ وما سمات الرجولة؟ وما أسباب ضياعها؟
الرجل: هو عكس المرأة أو ضدها .
ونعني بالرجل: هو الذي أخضع ذاته ونفسه لمنهج الله عز وجل، فهما وسلوكا.
قال العلماء: الزمن يحوي الليل والنهار، وجنس الإنسان يحوي الذكر والأنثى، ولكل منهما مهمته، فكما أن الليل للسكنى والهدوء والنهار للكدح والعمل، فالرجل بمنزلة النهار، والمرأة بمنزلة الليل.
لذا جمع بينهما رب العزة سبحانه فقال: والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى، وما خلق الذكر والأنثى إن سعيكم لشتى [الليل :1-4].
ولا ينبغي أن يتمنى الرجل أن يكون امرأة، ولا المرأة أن تكون رجلا، وصدق الله العظيم: ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض [النساء:32]. يقول ابن كثير: نزلت في نسوة قالوا: ليتنا كنا رجالا فنغزوا كما يغزون ونجاهد كما يجاهدون، جاءت امرأة إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام تقول: يا رسول الله، إن الله كتب الجهاد على الرجال، فإن يصيبوا أجروا وإن قتلوا فهم أحياء عند ربهم يرزقون، ونحن نقوم على شؤونهم فما لنا في ذلك؟ فقال عليه الصلاة والسلام: ((أبلغي من لقيت من النساء أن طاعة الزوج واعترافا بحقه يعدل ذلك وقليل منكن يفعله))([1]).
سمات الرجولة:
1) الذكر الدائم لله عز وجل، الرجولة هو أن لا تشغلك الدنيا عن الآخرة، بنص قول الله تعالى: في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار [النور:36].
كان رسول الله عليه الصلاة والسلام يخطب على المنبر، فجاءت عير، فخرج الأصحاب ولم يبق إلا اثني عشر، فقال عليه الصلاة والسلام: ((والله لو تتابعتم فلم يبق منكم أحد، لسال بكم الوادي نارا))، وأنزل الله قوله تعالى: وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضوا إليها وتركوك قائما قل ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة والله خير الرازقين [الجمعة:11].
2) أن تقدم طاعة الله على المال وعلى الولد، الله تعالى يقول: المال والبنون زينة الحياة والدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا [الكهف:46]. يقول عليه الصلاة والسلام: ((استكثروا من الباقيات الصالحات))، قالوا: وما هن يا رسول الله؟ قال: ((التكبير والتحميد والتهليل والتسبيح ولا حول ولا قوة إلا بالله هي الباقيات الصالحات))([2]).
الإمام الآلوسي يقول في تفسير هذه الآية: الأموال والأولاد سريعا الزوال، وذكر الله ليس كذلك، والمال قد يكون وبالا على صاحبه لكثرة أصحاب الحقوق فيه، والولد قد يعق وقد يفسد ولا تنتفع به في الدنيا ولا في الآخرة([3]).
3) القوامة على الأسرة: قال تعالى: الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم [النساء:34]. ابن كثير يقول: القيم أي الرئيس، الذي يحكم أهله ويقوم اعوجاجهم إذا اعوجوا، وهو المسؤول عنهم يوم القيامة، ((كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، والرجل راع في أهله وهو مسؤول عن رعيته)).
ولا يقدح في رجولة الرجل أن يعين أهله، فعائشة رضي الله عنها سئلت عن فعل رسول الله عليه الصلاة والسلام في بيته، قالت: ((كان يكون في مهنة أهله يشيل هذا ويحط هذا يخصف نعله ويرقع ثوبه ويحلب شاته))([4])، وهو رسول الله .
ولا يقدح في رجولة الرجل أن يلاطفهن أو أن يمازحهن، تقول عائشة رضي الله عنها: سابقني رسول الله عليه الصلاة والسلام فسبقته، فلما حملت اللحم أي بدت علي السمنة، سابقني رسول الله عليه الصلاة والسلام فسبقني، فقال: ((هذه بتلك))([5]).
الذي يقدح في رجولة الرجل في مجال الأسرة هو:
انعدام غيرته على أهله:
أ – في أمر لباسها فلا يعنيه أن تخرج وأن تكشف عورتها للناس، والرسول عليه الصلاة والسلام أعلمنا أن من أهل النار: ((نساء كاسيات عاريات مائلات مميلات رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة (كسنام البعير) لا يردن الجنة ولا يجدن ريحها، وإن ريحها ليوجد من مسيرة خمسمائة عام))([6]).
ب- أو لا تعنيه الجلسات المختلطة، فالرسول عليه الصلاة والسلام يقول: ((إياكم والدخول على النساء، قالوا: يا رسول الله أرأيت الحمو؟ قال: الحمو الموت)) ([7]) وتركهما منفردين.
يقدح في رجولة الرجل أيضا أن يلقي للزوجة الحبل على الغارب، تخرج متى تشاء، وتعود متى تشاء، ولا يعرف الوجهة التي خرجت إليها، أو أن تسافر بغير محرم، أو عدم وجود الصحبة الطيبة التي تحفظ لها دينها وعفتها في الطريق.
هذه الأمور وعدم انشغال الرجل بها يدل على فقدان الغيرة، والرسول عليه الصلاة والسلام يقول: ((لا يدخل الجنة ديوث))([8]). والديوث هو الذي لا غيرة له على عرضه.
ج- أيضا الذي يقدح في رجولة الرجل هو أن يسلم قيادة أمره إلى أهله، والرسول عليه الصلاة والسلام يقول: ((إذا كان أمراؤكم فساقكم وأغنياؤكم شراركم، وأموركم إلى نسائكم، فبطن الأرض خير من ظهرها))([9])، وفي الأثر: (تعس عبد الزوجة).
د- الذي يقدح في رجولة الرجل أن يقدم محبة أهله على محبة الله ورسوله، عبد الله بن أبي بكر تزوج امرأة يقال لها عاتكة، وكانت ذات حسب ونسب وجمال وأدب، خرج أبو بكر يوما إلى صلاة الجمعة فسمع عبد الله يناغي زوجته وتناغيه بما يكون بين الرجل وأهله، فلما عاد من صلاة الجمعة ورآهما على الحال الذي تركهما عليه قال: يا عبد الله ألم تصلّ معنا؟ قال: أأجمعتم؟ قال أبو بكر: لقد شغلتك عاتكة عن ربك طلقها. فطلقها، ومضت ستة أشهر علم بعدها أبو بكر ندم عبد الله وندم عاتكة أنهما انشغلا بما يكون بين الرجل وأهله عن طاعتهما لله عز وجل، ثم قال له: أرجعها. فأرجعها.
4) حسن الخلق، الرسول عليه الصلاة والسلام يقول: ((إن المؤمن ليبلغ بحسن خلقه درجة الصائم القائم ))([10]).
5) التواضع، لا التكبر، جاء ضيف إلى عمر بن عبد العزيز ، فكاد السراج أن ينطفأ، فقال الضيف: يا أمير المؤمنين أقوم فأصلحه؟ فقال عمر بن عبد العزيز: ليس من كرم الرجل أن يستخدم ضيفه، قال: أوقظ الغلام؟ قال: إنها أول نومته، ثم قام عمر بن عبد العزيز وأصلح السراج ثم عاد، فقال الضيف: أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز يصلح سراجه!! قال: قمت وأنا عمر بن عبد العزيز وعدت وأنا عمر بن عبد العزيز. أي لم ينقص هذا الأمر من قدري، بل ازداد قدرا عند الله عز وجل ومن تواضع لله رفعه.
6) الرجولة في العفو لا في الانتقام، مسطح بن أثاثة كان ممن تكلم في أمر عائشة في حادثة الإفك، وحادثة الإفك ملخصها: أن رسول الله كان إذا خرج في غزوة أقرع بين نسائه، فإذا خرجت القرعة على إحداهن يأخذها معه في سفره تخدمه، وخرجت القرعة على عائشة.
لما قفل الجيش وعاد، خرجت عائشة بعد أن نزل الجيش في مكان لبعض شأنها، فلما عادت إذا بالجيش قد ارتحل، فجلست في مكانها تنتظر، وكان هناك صحابي يقال له صفوان بن المعطل كان ينتظر آخر الجيش، فإذا كان الجيش قد نسي متاعا مثلا يأخذه معه، لما رأى عائشة رضي الله عنها – وكان قد رآها قبل فرض الحجاب – قال: أم المؤمنين. هنا فأناخ بجمله فركبت ولحق بالجيش، فلما وصل الجيش تفقدوا الهودج الذي فيه عائشة فلم يجدوها، فلم يمض وقت قليل إلا وصفوان بن المعطل جاء وهو يسوق الجمل وعليه عائشة، فتكلم رأس المنافقين عبد الله بن أبي بن سلول وطعن في عرض رسول الله عليه الصلاة والسلام أن هناك صلة ما بين عائشة وصفوان.
وممن وقع في هذا الأمر مسطح، وكان فقيرا وكان أبو بكر ينفق عليه وهو يطعن في بنت أبي بكر ، وبعد أن نزلت آيات البراءة في سورة النور، أقسم أبو بكر ألا ينفق على مسطح بعد ذلك أبدا. فأنزل الله تعالى قوله: ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم ([11]) فقال أبو بكر : بلى يا رب نحب، أن تغفر لنا. فأعاد نفقته على مسطح.
أسباب ضياع الرجولة :
نضع سببا واحدا هو انقلاب المقاييس، ورسول الله عليه الصلاة والسلام أعلمنا بانقلاب المقاييس فقال: ((يأتي على الناس زمان، يصدق فيه الكاذب ويكذب فيه الصادق، ويؤتمن فيه الخائن ويخون فيه الأمين، ويكون أسعد الناس بالدنيا لكع بن لكع([12]) لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر))([13]) وقد جاء في الأثر: (لا تقوم الساعة حتى يعيّر الرجل بصلاته كما تعير الزانية بزناها).
فانقلاب الموازين في مجال الرجولة هو:
أ - أن تكون الاستطالة على الضعفاء مثلا: ((رأى رسول الله عليه الصلاة والسلام أبا مسعود يضرب عبدا له، فقال: ((اتق من هو أقدر عليك، منك عليه)) فالتفت فإذا هو رسول الله قد تملكه الغضب، فقال: هو حر لوجه الله يا رسول الله فقال عليه الصلاة والسلام: ((والله لو لم تقلها لمستك النار))([14]).
ب- أصبحت الرجولة في عدم الوفاء بالعهد، أو الالتزام بالشرط، أو إذا وجد مجالا يستطيع به أن يحقق ربحا فلا شرط ولا عهد ولا التزام، وأن هذه هي الرجولة، الرسول عليه الصلاة والسلام يقول: ((ينصب لكل غادر لواءً([15]) يوم القيامة، يقال: هذه غدرة فلان))([16]).
ج- أو أن يكون الكذب هي الرجولة، للتخلص من المواقف المحرجة مثلا، لكن في إسلامنا الرجولة أن تكون صادقا، وتظهر العيب الذي كان، إن الرسول عليه الصلاة والسلام مر على رجل يبيع طعاما، فوضع أصبعه فيه فأصابه بلل، قال: ((ما هذا يا صاحب الطعام؟)) قال: أصابته السماء يا رسول الله. فقلبه فجعل الجيد فوق والرديء تحت فقال : ((ألا أظهرته، من غشنا فليس منا))([17]).
ويقول عليه الصلاة والسلام: ((إياكم وكثرة الحلف، فإنه منفق للسلعة منفق للبركة))([18]).
([1])البزار والطبراني .
([2])أخرجه ابن جرير عن أبي هريرة ، مختصر ابن كثير مجلد 2ص 421 .
([3])روح المعاني مجلد 15ص286.
([4])الطبراني .
([5])أبو داود والنسائي .
([6])رواه مسلم .
([7])متفق عليه .
([8])رواه أحمد والنسائي .
([9])رواه الترمذي .
([10])رواه أبو داود .
([11])مختصر ابن كثير مجلد 2 ص 593آية 22من سورة النور.
([12])لكع بن لكع : أي لئيم ابن لئيم .
([13])رواه أحمد والحاكم .
([14])رواه مسلم .
([15])لواء : أي علم مرفوع .
([16])متفق عليه .
([17])رواه مسلم .
([18])رواه أبو داود .
ـــــــــــــــــــ(68/209)
المرأة
...
...
678
...
الأسرة والمجتمع
...
...
المرأة
...
هاشم محمد علي المشهداني
...
...
الدوحة
...
...
...
الريان الكبير
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- تكامل المجتمع الإنساني بالعلاقة الزوجية بين الذكر والأنثى. 2- الليل والنهار نموذج لهذا التكامل وصورة مقربة له. 3- التشبه بالكافرات أو الرجال محرم على المرأة. 4- قول الجهلة بأن المرأة سبب خروج آدم من الجنة. 5- حال المرأة في المجتمعات الجاهلية قبل الإسلام. 6- تكريم الإسلام للمرأة زوجاً وبنتاً وأماً. 7- الفروق التي أقرتها الشريعة بين الذكر والأنثى.
الخطبة الأولى
يقول رب العزة سبحانه: ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون [الروم:21].
حاجة المرأة للرجل كحاجة الرجل للمرأة، وقد جعل الله تعالى في اجتماعهما سكينة نفسية وعقلية وجسدية كافية، استجابة للفطرة وإعمارا للكون.
فما المرأة؟ وكيف كان حالها قبل الإسلام؟ وماذا صنع الإسلام لها؟ وما الفروق الشرعية بين المرأة والرجل؟ وما الذي يجب على المرأة المسلمة في واقعنا المعاصر؟
أما المرأة فهي ضد الرجل، كما أن الرجولة ضد الأنوثة.
1- وينبغي أن تعلم أن الله تعالى جعل الزمن ينقسم إلى نوعين، ليل ونهار، كذلك سبحانه جعل الجنس البشري ينقسم إلى نوعين، ذكر وأنثى، وذكر رب العزة سبحانه الليل والنهار والذكر والأنثى في آيتين متتاليتين، ليعلمنا عن اختلافهما في النوع وفي المهمة.
أما في النوع فقال تعالى: والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى وما خلق الذكر والأنثى إن سعيكم لشتى [الليل:1-4].
ثم اختلاف في المهمة، فكان الليل للسكنى والهدوء والراحة والستر، وجعل النهار للكدح والعمل والجهد والشقاء.
هيأ الله تعالى الرجل لهذا الجهد، ولهذا الشقاء، ومن قبل قال الله تعالى في حق آدم عليه السلام: إن هذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى [طه:117]. ولم يقل فتشقيا، فجعل الشقاء والعمل والكدح منوط بالرجل.
الرجل العائد إلى بيته يريد الهدوء بعد الضجر يريد الراحة بعد التعب، يريد السكون بعد الحركة .
المرأة الصالحة هي التي تهيئ ذلك كله، وصدق الله العظيم: هن لباس لكم وأنتم لباس لهن [البقرة:187]. فكلاهما، كل منهما ساتر لصاحبه.
2- وينبغي أن تعلم أن كمال المرأة في أنوثتها وأمومتها، كما أن كمال الرجل في رجولته وصلابته وتحمله، لعن النبي عليه الصلاة والسلام المرأة التي تتخلى عن أنوثتها، فتتشبه بالرجال في القول أو الفعل أو الحركة، ولعن النبي عليه الصلاة والسلام الرجل الذي يتخلى عن رجولته فيتشبه بالنساء في القول أو الفعل أو الحركة. ((لعن النبي عليه الصلاة والسلام المتشبهين من الرجال بالنساء ومن النساء بالرجال))([1])، بل لا ينبغي لأحد أبدا أن يتمنى أن يكون على غير الوضع الذي خلقه الله تعالى.
وصدق الله العظيم: ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض [النساء:32]. قالت نسوة ليتنا كنا رجالا نجاهد كما يجاهدون، ونغزوا كما يغزون، فدلهم النبي عليه الصلاة والسلام على أمر فيه نفع للأسرة وللمجتمع، فقال عليه الصلاة والسلام: ((إن طاعة الزوج، واعترافا بحقه يعدل ذلك كله وقليل منكن فاعله))([2]).
3- وينبغي أن تعلم أيضا أنه لا ينبغي للمسلم أبدا أن يردد القول الجاهل من أن سبب خروج آدم من الجنة إنما كان بفعل حواء.
المتأمل في كتاب الله يعلم أن فعل الذنب كان فعلا مشتركا في فعل الذنب وفي التوبة منه، قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين [الأعراف:23]. بل تجد آية في كتاب الله تعالى، أن الله تعالى نسب الفعل إلى آدم وحده وقال تعالى: وعصى آدم ربه فغوى [طه:121]. فهو المسؤول الأول عن زوجه وأهله.
وأما حال المرأة قبل الإسلام: فعلى مستوى الأمم وعلى مستوى الأديان.
أ- أما على مستوى الأمم:
1- أوربا: في عصورها المظلمة، - وأوربا في كل عصورها مظلمة - في العصور الأولى كانت مجالس الفلاسفة تعقد ليناقشوا أمرا مهما، هل للمرأة روح كروح الرجل؟ هل لها روح إنسانية أم حيوانية؟ وينتهون في نقاشهم أن للمرأة روح ولكنها أدنى بدرجات كثيرة من روح الرجل.
2- عند الرومان: كان للرجل السلطة في أن يبيع زوجته وأن يطلقها، أن يعترف بولده أو لا يعترف به، والمرأة في اليونان لا ترث أبدا.
3- عند الهنود: وإلى وقت قريب من عاداتهم أن الرجل إذا توفى فإنه يحرق، وكانت توضع الزوجة الحية إلى جوار زوجها لتحرق معه، فلا معنى لوجودها بدونه.
4- عند العرب قبل الإسلام: كان مجيء ولادة المرأة هم وغم وحزن، وصدق الله العظيم: وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم يتوارى من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب ألا ساء ما يحكمون [النحل:58-59].
المرأة عند العرب كانت مجلبة للعار مجلبة للفقر، ورد الله عليهم فقال: وإذا الموءودة سئلت بأي ذنب قتلت [التكوير:8-9]. ما الذي فعلته هذه البنت البريئة حتى تستحق القتل.
قيس بن عاصم يأتي إلى النبي عليه الصلاة والسلام، يقول يا رسول الله: إني وأدت اثنتي عشرة بنتا، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: ((أعتق عن كل واحدة نسمة))([3]).
في قضية الرزق والفقر، يقول الله تعالى: ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم إن قتلهم كان خطأ كبيرا [الإسراء:31].
المرأة عند العرب كانت تورث ولا ترث فهي من سقط المتاع وصدق الله العظيم: يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها [النساء:19]. بل ما بلغته المرأة عند العرب أنه يجوز للرجل أن يتزوج زوجة أبيه وهي بمنزلة أمه، أو أن يزوجها ويأخذ مهرها وصدق الله العظيم: ولا تنكحوا ما نكح آباءكم من النساء إلا ما قد سلف إنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا [النساء:22]. وكان هناك نكاح البدل وهو أن يقول الرجل للرجل: انزل عن امرأتك وأنزل لك عن امرأتي، كان هنالك نكاح الرهط، أن يجتمع ما دون العشرة على المرأة، كلهم يصيبها فإذا ولدت تخيرت منهم واحدا فيكون أبوه، هذا على مستوى الأمم.
ب- وأما على مستوى الأديان، فإن حالة المرأة:
في الديانة اليهودية: أن المرأة إذا كانت حائضا، أصبحت نجسة، المتعبدون من اليهود
كانوا يعزلون النساء الحيض في خيام بعيدا عن المدينة لا يجالسوهن ولا يشاركوهن، لأن
المرأة الحائض في توراتهم المحرفة أنها إذا مسّت شيئا فإنه يكون نجسا، المرأة في الديانة
اليهودية، لا ترث أبدا إنما الميراث يكون فقط بين الذكور.
عند النصرانية: في الإنجيل المحرف أن المرأة باب الشيطان ووسيلة من وسائل إغرائه.
الملك هنري الثامن أصدر قرارا يحرم على المرأة أن تلمس الإنجيل لأنها نجسة.
وفي شريعة حمورابي: كانت تحسب المرأة في عداد الماشية المملوكة للرجل.
هذا حال المرأة قبل الإسلام على مستوى الأمم وعلى مستوى الاديان.
ما الذي صنع الإسلام للمرأة؟ وينبغي على كل امرأة مسلمة وكل مسلم أن يعلم أنه لم ولن تعرف المرأة كرامتها إلا في الإسلام، أعاد لها إنسانيتها وأعاد لها كرامتها في مواضع كثيرة.
أولا: في وحدة الأصل والمنشأ: الله تعالى يقول: يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا [الحجرات:13]. يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء [النساء:1].
ثانيا: ثم وحدة في العمل ووحدة في الجزاء: فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى، بعضكم من بعض [آل عمران:195]. ثم الأهلية في التصرف والتملك: للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن [النساء:32]. لا كما يفعل من لا دين له أن يفرض على زوجته التي تعمل أن تعطيه راتبها لأنه أذن لها بالعمل، وهذا الأمر ليس له في الإسلام نصيب.
ثم اعلم أيضا أن إسلامنا رعى المرأة في أحوالها الثلاث بنتا زوجة وأما.
أما كونها بنتا: فقد سماها رب العزة هبة وعطاء منه سبحانه، وقدمها في الذكر رعاية لأمرها، وصدق الله العظيم: يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور أو يزوجهم ذكرانا وإناثا ويجعل من يشاء عقيما . والجهلة من المسلمين في واقعنا، يفعل فعل الجاهلية في تذمره وألمه إذا ولدت له أنثى، أو أنه يهدد زوجته إذا ولدت له بنتا فهي طالق ونسي الغبي أن الفعل هو فعل الله تعالى وليس فعل المرأة نفسها.
يقال أن رجلا يقال له أبو حمزة ولدت زوجته بنتا، فهجرها، فمر على خيمة امرأته يوما، فسمعها تداعب ابنتها تقول :
ما لأبي حمزة لا يأتينا يظل في البيت الذي يلينا
غضبان ألا نلد البنينا تالله ما ذلك في أيدينا و إنما نأخذ ما أعطينا ونحن كالأرض لزارعينا
ننبت ما قد زرعوه فينا
فرجع أبو حمزة عن هجره لزوجته، وولج البيت وقبّل رأس امرأته وابنتها([4]).
فليس للمرأة ذنب في هذا الأمر وفي هذا العطاء الذي يمنحه رب العزة سبحانه، ثم ينبغي أن تعلم أن رعاية البنت باب إلى الجنة، رسول الله يقول: ((من رزقه الله أنثى، فلم يؤذها ولم يهنها ولم يؤثر ولده عليها دخل بها إلى الجنة))([5]). رسول الله عليه الصلاة والسلام يقول: ((من عال جاريتين حتى تبلغا كنت أنا وهو كهاتين في الجنة)) وجمع بين السبابة والوسطى([6]). ثم المساواة في العطية لقول النبي عليه الصلاة والسلام: ((ساووا بين أولادكم في العطية، ولو كنت مفضلا أحدا لفضلت النساء))([7]).
رعى الإسلام أمر المرأة وهي زوجة وما حرم إرادتها في الموافقة أوعدم الموافقة على النكاح يقول النبي عليه الصلاة والسلام: ((لا تنكح (تتزوج) الأيّم (الثيب) حتى تستأمر(يطلب إذنها) ولا تزوج البكر حتى تستأذن قالوا: يا رسول الله كيف إذنها؟ قال: أن تسكت))([8]). وإذا أعلنت البنت رفضها فالعقد باطل.
((جاءت امرأة إلى النبي عليه الصلاة والسلام تقول: يا رسول الله إن أبي يريد أن يزوجني من ابن أخيه ليرفع بي خسيسته، (فهو أدنى منها حالا ومكانا) فجعل النبي عليه الصلاة والسلام الأمر إليها فقالت: أجزت ما فعل أبي، ولكن أردت أن تعلم النساء أن ليس للآباء من الأمر شيء))([9]).
أوصى الإسلام برعاية الزوجة: ((أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا، وخياركم خياركم لنسائهم))([10]).
وأما إن كانت أماً فحقها مقدم على حق الوالد لقول النبي عليه الصلاة والسلام: ((أمك ثم أمك ثم أمك ثم أبوك))، بل الجنة عند قدم المرأة الصالحة، ((جاء رجل إلى النبي يسأله عن عمل يدخله الجنة، قال: ألك أم؟ قال: نعم، قال: الزمها فإن الجنة عند قدمها تكتب لمن ذل لأمه وبر بها))([11]).
وأما الفروق الشرعية بين المرأة وبين الرجل: فهذا الباب الذي استطاع منه أعداء الله تعالى أن يرموا سهامه، ويشككوا المسلم بإسلامه ويظن المسلم أن الإسلام يظلم المرأة من خلال هذه الفروق، علما أن الأمر مبني على العدالة، مبني على مراعاة الحال، وليس انتقاصا للمرأة، أو انتهاكاً لحقوقها .
في قضية الميراث مثلا: قال الله تعالى: يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين [النساء:11]. لماذا لا يكون حظ الأنثى كحظ الذكر؟ لماذا لا تكون المساواة؟ ورد العلماء فقالوا: المرأة في إسلامنا مكفولة عند الأب مكفولة عند الزوج، مكفولة عند الأخ لا تنفق من مالها وإن كانت موسرة درهما واحدا.
ولنضرب لذلك مثلا: أخ وأخت ورثا ثلاثة آلاف دينار للأخ ألفان وللأخت ألف، الأخ مكلف بالإنفاق على أخته حتى تتزوج شرعا.
وهي لا تنفق من ميراثها درهما واحدا، هو مكلف بالإنفاق على أسرته وعلى ولده وإن لم تكن له أسرة فعليه أن يسعى في زواج نفسه بالمال الذي يدفعه بالأثاث الذي يشتريه، فإذاً الأعباء الاقتصادية التي تترتب على الرجل أعظم بكثير من الأعباء الاقتصادية التي تطالب بها المرأة.
في قضية الطلاق: لماذا لا يكون الطلاق بيد المرأة ويكون الطلاق في الإسلام بيد الرجل؟ ورد العلماء على هذا من الناحية المادية ومن الناحية الجبلّية:
أما من الناحية المادية فالرجل يعلم في إسلامنا أنه إذا أطلق لفظ الطلاق ما الذي يترتب عليه؟ يترتب عليه من الأعباء الاقتصادية.
أولا: أن يدفع مؤخر المهر.
ثانيا: أن يدفع النفقة من مأكل ومشرب ومسكن للزوجة خلال العدة.
ثالثا: أن يدفع النفقة للأولاد حتى يكبروا.
رابعا: أن ينفق على نفسه.
خامسا: أن ينفق إذا أراد زواجا آخر من مهر وما إلى ذلك.
إذا أعباء اقتصادية كثيرة تجعله يفكر ألف مرة قبل أن يطلق لفظ الطلاق وإذا أطلقه فإنما يطلقه لشعوره أن الحياة أصبحت جحيما لا يطاق وعند ذلك يتحمل ما يتحمل لفض هذه الشركة.
ومن الناحية الجبلية: اقتضت حكمة الله تعالى أن تكون المرأة مرهفة الحس شديدة الانفعال سريعة التأثر، الأمر الذي يتناسب مع مهمتها في تلبية حاجة الطفل التي لا تحتاج إلى تفكير، تلبية كاملة، وهذا من صفات كمالها أنها سريعة التأثر فلو أوكلنا لفظ الطلاق إلى المرأة، وفي لحظة سوء تفاهم أو كدر في العيش أو حصول أمر ما فسرعان ما تطلقه المرأة سريعا لأنها معفاة من الأعباء الاقتصادية ولأن الأمر يتناسب وعاطفتها الجياشة.
في واقعنا الحاصل: المرأة بمجرد أن تشعر بضيق تقول: يا فلان طلقني فكيف لو كان لفظ الطلاق معلقا بها؟ لهدمت أسر لا عد لها ولا حصر!!!
أخيرا في قضية الشهادة: قال تعالى: واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى [البقرة:282].
لماذا لا يكون هذا؟ ولماذا تكون شهادة الرجل الواحد تعدل شهادة امرأتين؟
ورد العلماء فقالوا: الشهادة إما أن تكون خاصة بالنساء وإما أن تكون في الحدود مثلا، فإذا كانت خاصة بالنساء لإثبات الرضاعة، لإثبات الثيوبة أو البكارة، لإثبات الجنس فهذا أمر متعلق بالنساء فشهادة المرأة الواحدة فيه تكفيه.
رجل تزوج امرأة على عهد النبي عليه الصلاة والسلام فقامت امرأة وقالت: إني أرضعتكما معا، ذهب إلى النبي عليه الصلاة والسلام وذكر له الأمر قال: ((كيف وقد قيل؟))([12])، أي لا بد من الفرقة بينك وبينها بشهادة امرأة واحدة.
أما فيما يتعلق بالحدود ولطبيعة المرأة وأنها شديدة الانفعال والتأثر ولغلبة الجانب العاطفي فيها فإذا رأت جريمة تحدث مثلا تغمض عينيها، وقد تهرب، وقد يغمى عليها، ولاستكمال جانب التحقيق في المسألة احتاج الإسلام إلى أن تكون أخرى بجانبها تذكرها ما خفي عليها عند حصول الجريمة وصدق الله العظيم: أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى [البقرة: 282]. فالأمر فيه عدالة وفيه مراعاة للحال وفيه استكمال لجانب التحقيق وليس فيه امتهانا وانتقاصا كما يقول أعداء الله.
وأما الذي ينبغي على المرأة المسلمة في واقعنا المعاصر فعليها:
أولا: أن تدرك ما يخطط لها، علم أعداء الله تعالى أن قضية المرأة هي قضية الأسرة والمجتمع وأن إفسادها إفساد للأسرة والمجتمع.
أول كتاب خرج يعنى بإفساد المرأة في الشرق الأوسط هو كتاب "المرأة في الشرق الأوسط" لفهمي مرقص وفيه يتحدث أنه لابد من السعي للمرأة المسلمة بنزع الحجاب والاختلاط، بترغيب المسلمات بالزواج من غير المسلمين، بتقييد الطلاق بالمنع من الزواج بأكثر من واحدة. ورفع هذا اللواء من عالمنا الإسلامي رفاعة الطهطاوي، قاسم أمين، هدى الشعراوي، أمينة السعيد، نوال السعداوي، نماذج حقيرة تتحمل إثمها وإثم من يصدقها ويسير وراءها.
يقول النبي عليه الصلاة والسلام: ((من سنّ في الإسلام سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة))([13]). وعلى المرأة المسلمة أيضا أن تحذر من دعاة التحرر الذين يطالبونها أن تتحرر من الأخلاق، فالجنس عملية بيولوجية لا صلة لها بالأخلاق أبدا.
في إسلامنا أكرم ما في المرأة عفتها، أكرم ما في المرأة حياؤها، أعز ما في المرأة شرفها وإذا ُمسّ فالمرأة ساقطة لا وزن لها في إسلامنا.
أن تحذر ممن يدعونها أن تنزع الحجاب حتى تكون في متناول الجميع، الجميع يتلذذ بها فتكون سلعة بيد التجار، تجار الرقيق الذين يتاجرون بها.
ثانيا: ثم ينبغي على المرأة المسلمة أن تعلم أن السفلة من دعاة التحرر إذا عرض لأحدهم أن يتزوج فإنه سوف يبحث عن المرأة الفاضلة التي تحفظ له عرضه - إن كان له عرض - وأن تحفظ له ولده.
ذكر أحد الفضلاء أن عنده صديق له علاقة بامرأة لما أراد الزواج أخذ يبحث عن امرأة محجبة وهذه التي كانت تربطه بها صلة التليفون واللقاء قال: إنه لا يستأمنها على عرضه ولا يستأمنها على ولده وما فعلته معه يمكن أن تفعله مع غيره.
قاسم أمين الذي أخرج كتابا سماه "المرأة الجديدة" دعا فيه إلى الاختلاط وترك الضوابط الخلقية.
يذكر المؤرخ الإسلامي وفيق العظيم يقول: أردت أن ألقنه درسا فذهبت إلى دار قاسم أمين فطرقت بابه ولما خرج قلت: له أريد أن أقابل زوجتك حتى أتحدث معها بالأمور الاجتماعية والسياسية يقول وفيق العظيم: فامتعض وغضب قاسم أمين وقال: لا يمكن هذا، قلت: كيف تدعو الناس إلى أمر لا ترضاه لأهلك؟ قال: إنها قد ألفت تربيتها من والديها على التحفظ وعدم الاختلاط، يقول المؤرخ: قلت له: فاعلم أن الأمر الذي تدعوا إليه النساء يمجه الناس حتى أهل بيتك([14]). ولكنهم سفلة يريدون أن يعبثوا بأعراض الآخرين من غير أن يمس عرضهم بشيء.
ثالثا: ثم اعلمي أن على المرأة المسلمة أن لا تخدع بالوهم من أن المرأة الغربية خرجت إلى العمل برغبتها .
المرأة في الغرب الجبان أُجبرت على العمل أعلمها الغرب أنها لا تستحق رغيف العيش إلا أن تعمل.
يقول أحد الكتاب الإسلاميين كنت في زيارة إلى النمسا، ركبت سيارة سائقها امرأة فسألتها: لماذا تعملين؟ فأوقفت محرك السيارة والتفتت إلي وقالت: هذا أعجب سؤال أسمعه في حياتي. سألتها: ولماذا لا ينفق عليك زوجك؟ قالت: وهل في بلد من العالم أن الزوج ينفق على زوجته؟ يقول: فقلت لها: في ديارنا بقية باقية من إسلامنا الذي تركناه من الأحوال الشخصية أن الزوج ينفق على زوجته. قالت: هذا خيال لا نطمع في الوصول إليه([15]).
من يرضى أن يرى أمه وابنته أو زوجته تعمل سائقة أو بائعة لبنزين، في الغرب المرأة تريد أن تعيش فتاجرت حتى بشرفها وعرضها.
والزنا في دول الغرب مهنة تتقاضى الزانية على زناها أجرة من الدولة فمن الذي يرضى هذا لأمة الإسلام إلا ممن تربى على موائد الغرب؟.
([1])رواه أحمد وأبو داود .
([2])رواه البزار .
([3])البزار عن عمر وأخرجه عبد الرزاق .
([4])البيان والتبيين للجاحط ج ص186.
([5])رواه أحمد وأبو داود .
([6])مسلم والترمذي .
([7])رواه الطبراني .
([8])البخاري ومسلم .
([9])رواه أحمد وأبو داود .
([10])رواه الترمذي .
([11])رواه الطبراني .
([12])رواه البخاري ومسلم .
([13])رواه مسلم .
([14])المرأة ومكانتها في الإسلام /أحمد عبد العزيز الحصين ص 67.
([15])محاضرة للأستاذ يوسف العظم
ـــــــــــــــــــ(68/210)
الشباب
...
...
679
...
الأسرة والمجتمع
...
...
الأبناء, قضايا المجتمع
...
هاشم محمد علي المشهداني
...
...
الدوحة
...
...
...
الريان الكبير
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- معنى الشباب. 2- من الشيوخ من فاق الشباب. 3- استجابة شباب قريش لدعوة التوحيد. 4- صفات الشباب كما وردت في كتاب الله. 5- مشكلات الشباب. 6- كيف يقضي الشاب وقت الفراغ. 7- أسباب مشكلات الشباب.
الخطبة الأولى
يقول رب العزة سبحانه: الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفا وشيبة يخلق ما يشاء وهو العليم القدير [الروم:54].
الشباب هم عصب الحياة وقوامها، صلاحهم صلاح لأمتهم، وفسادهم فساد لأمتهم.
فما الشباب؟ وما هي سماتهم في كتاب الله عز وجل؟ وما هي مشكلاتهم؟ وما أسبابها؟ وما العلاج؟
أما الشباب لغة: فقد ذكر الثعالبي في كتابه فقه اللغة أن الشباب جمع شاب وهو ما بين الثلاثين والأربعين، وما بكت العرب على شيء كما بكت على الشباب حتى قال قائلهم:
ألا ليت الشباب يعود يوما
فأخبره بما فعل المشيب
وأما اصطلاحا: فالشباب هو قوة بين ضعفين، قوة بين ضعف الطفولة وضعف الشيخوخة وينبغي أن تعلم:
أن من العلماء من تحدث عن حقيقة الشباب فقال: إن الشباب ليس في قدرة الجسد ولا في قوة الشهوة، وإنما الشباب في صلابة العزيمة وحماسة الروح، فهذا عمر المختار وهو في التسعين من عمره، قاتل الإيطاليين قتال الأبطال، ودخل المعارك الكثيرة واستشهد أكرم استشهاد لله عز وجل.
لقد كان شيخا ولكنه يحمل همم الشباب وحماستهم.
هل يقاس هذا بالشباب العالة التافهين المترفين الذين لا همة لهم ولا غاية ولا أمل هم شيوخ وعجزة ومسنون ولكنهم في صورة شباب.
وينبغي أن تعلم أيضا: أن الله تعالى بعث المصطفى عليه الصلاة والسلام على سن الأربعين وهي أخصب فترة من فترات العمر وأنضجها، وأحاطه بالشباب.
فهذا أبو بكر الصديق ، أسلم يوم أن أسلم وهو في السابعة والثلاثين وعمر بن الخطاب أسلم وهو في الواحدة والثلاثين من عمره وعثمان بن عفان أسلم وهو في الخامسة والثلاثين من عمره، وعلي بن أبي طالب أسلم وهو في الثامنة عشرة من عمره، يقول عليه الصلاة والسلام: ((أوصيكم بالشباب خيرا فإنهم أرق أفئدة، ألا وإن الله بعثني بالحنيفية السمحة فحالفني الشباب وخالفني الشيوخ)).
وينبغي أن تعلم أيضا: أن الشباب لا يدوم ولابد للعبد أن يغتنم شبابه قبل رحيله، يقول الرسول عليه الصلاة والسلام: ((اغتنم خمسا قبل خمس شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل مرضك، وفراغك قبل شغلك، وغناك قبل فقرك، وحياتك قبل موتك))([1]).
وينبغي أن تعلم أخيرا أن أهل الجنة يدخلون الجنة وهم شباب يقول النبي : ((أهل الجنة شباب مرد كحل لا تبلى ثيابهم ولا يفنى شبابهم))([2]).
ومن مزاح النبي عليه الصلاة والسلام: ((أن امرأة عجوزا جاءت إليه: تقول يا رسول الله، أدع الله لي أن أدخل الجنة. قال: لا تدخل الجن عجوز، فذهبت تبكي فردها النبي عليه الصلاة والسلام، وقال لها: ألم تسمعي قول الله تعالى: إنا أنشأناهن إنشاءا فجعلناهم أبكارا عربا أترابا [الواقعة:35-36] )). أترابا أي في سن واحدة على سن ثلاث وثلاثين يدخلون الجنة.
ما هي سمات الشباب في كتاب الله عز وجل:
ضرب لنا رب العزة سبحانه أمثلة للشباب السوي المستقيم وذكر لنا سماتهم:
أنهم لا يخافون في الله لومة لائم: وصدق الله العظيم: إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى وربطنا على قلوبهم إذ قاموا (أي أمام ملكهم دقيانوس) فقالوا ربنا رب السماوات والأرض لن ندعو من دونه إلهاً لقد قلنا إذا شططا [الكهف:13-14]. ويتولى رب العزة أمر رعايتهم: وترى الشمس إذا طلعت تزور عن كهفهم ذات اليمين وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال [الكهف:17]، فهي تعطيهم شيئا من ضوئها لحاجة الجسد إليه، ويعاملهم رب العزة معاملة الأم الرؤوم لأولادها: ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال [الكهف:18]، لذا نجد أن الأم تقلب وليدها من جانب إلى آخر لئلا يفسد لطول المدة، ويلقي عليهم الهيبة: لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا ولملئت منهم رعبا [الكهف:18].
أنهم أصحاب عفة: وراودته التي هو في بيتها عن نفسه وغلقت الأبواب وقالت هيت لك قال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون [يوسف:23]. استعلاء وعفة وحياء، يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: لقد اجتمع ليوسف عليه السلام من الدواعي لإتيان الفاحشة الشيء الكثير فقد كان شابا وفي الشباب ما فيه، والمرأة هي التي دعته إلى نفسها، فلم يتجشم عناء إرضائها وهي ربة الدار وتعلم بوقت الإمكان وعدم الإمكان، وهي التي غلقت الأبواب ولقد كان غريبا لا يأنف مما يأنف منه من يكون بين أهله وعشيرته وكان عبدا، والعبد لا يأنف مما يأنف منه الحر، ويدوس يوسف كل ذلك تحت قدمه.
الشهوة: التي يتكالب عليها كلاب المتعة في واقعنا ويبذلون لها الأموال ويقطعون لها المسافات الطوال لإتيان الفاحشة، يدوسها يوسف بنعله بل يقول: قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين [يوسف:33].
إنهم أصحاب تضحية وفداء، في موضعين، في إبراهيم عليه السلام موضع فيه الذلة ولكنها لله وموضع فيه العزة ولكنها على أعداء الله.
أما الموضع الأول الذي فيه الذلة لله: فلما بلغ معه السعي قال يبني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى [الصافات :102]. ورؤيا الأنبياء وحي من الله تعالى: فانظر ماذا ترى ، تحمل الأمر أنت إما أن تستقبل أمر الله تعالى فتصبر وإما أن تعارض: قال يأبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين [الصافات:102].
ووضع إسماعيل عليه السلام شبابه وآماله كلها في موضع الذبح لله عز وجل.
الموضع الثاني: موضع العزة لله عز وجل، وعلى أعداء الله، إبراهيم عليه السلام في موقفه إذ قال لأبيه وقومه: ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون [الأنبياء:52]. إلى قوله تعالى: أف لكم ولما تعبدون هن دون الله أفلا تعقلون [الأنبياء:67]. وكم نحن بحاجة إلى شباب يدمرون أصنام الأمة الذي يسوسونها بغير منهج الله عز وجل.
وأما ما هي مشكلات الشباب:
الجنس: وينبغي أن تعلم أن الجنس لم يكن مشكلة في المجتمع المسلم الأول لأنه لم تكن هنالك المثيرات حتى تظهر هذه المشكلة.
ولم تكن هنالك البواعث ثم تربية النبي عليه الصلاة والسلام للشباب وإشعارهم أن عرض الأمة هو عرضهم: وقف شاب وقال: يا رسول الله، إئذن لي بالزنا، فقال عليه السلام: ((أترضاه لأمك؟ قال: لا فداك أبي وأمي يا رسول الله، قال: أترضاه لأختك؟ قال: لا فداك أبي وأمي يا رسول الله، قال: أترضاه لعمتك؟ قال: لا فداك أبي وأمي يا رسول الله، قال: أترضاه لخالتك؟ قال: لا فداك أبي وأمي يا رسول الله، قال: إذا زنيت فإنما تزني بأم أو أخت أو عمة أو خالة للمسلمين))([3]). والمعنى أنه لا يستبيح الزنا إلا من رضي أن يزني بأمه أو أخته أو عمته أو خالته، ثم إن الإسلام عالج هذا الأمر بالزواج المبكر يقول النبي عليه الصلاة والسلام: ((يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، فإن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء))([4]). ثم عالج الأمر بعدم الاختلاط.
الله تعالى يقول: وإذا سألتموهن متاعا فسألوهن من وراء حجاب [الأحزاب:53]. ويقول النبي عليه الصلاة والسلام: ((إياكم والدخول على النساء))([5]).
ذكر صاحب "حصوننا مهددة من داخلها": أن للاختلاط ثمرتين كلهما مر:
الثمرة الأول هي: اختلاط الأنساب والزنا، والحادثة التي ذكرتها جريدة القبس بتاريخ 14/5/1989م من اعتداء طالب جامعي على زميلته وهي في الجامعة، إذا كانت الفتاة تذهب إلى الجامعة في أكمل زينتها وكأنها تزف إلى عروسها، ويصادفها الشاب الذي لا دين له ما الذي تنتظره بعد ذلك؟ تضع النار وبجوارها الكاز، ما الذي يحدث بعد ذلك؟ أمتنا تعودت البغبغائية، تعودت أن تكون قردا تقلد غيرها في الاختلاط وفي غير الاختلاط.
ذكر أن السفير العثماني كان في جلسة مع كبراء رجالات انجلترا، فسأله أحدهم: لماذا لا تسمحون لنسائكم بالشرق أن يختلطن بالرجال؟ فقال له السفير العثماني: إن نساءنا في الشرق لا يرغبن أن يلدن من غير أزواجهن.
والثمرة الثانية هي: التي ذكرها صاحب كتاب "حصوننا مهددة من داخلها" أيضا: البرود الجنسي، كثرة الاختلاط بالمجتمع النسائي يؤدي إلى البرود حتى إذا تزوج كان له الأثر السلبي في جماعه لأهله مما يؤدي إلى أن يكون النسل ضعيفا.
الفراغ: ولابد أن تعلم أن للوقت قيمة في إسلامنا، وأقسم رب العزة بالوقت وقال: والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر [سورة العصر].
فأقسم بالوقت وأن كل إنسان خاسر إلا من آمن، وصدق دعوى الإيمان بالعمل، ولزوم الحق والصبر عليه.
وينبغي أن تعلم: أن الوقت يجب أن يقضى بطاعة، فإن لم يقض بطاعة قضي بمعصية ومجالات قضاء الفراغ كثيرة.
منها الرياضة: يقول عمر بن الخطاب : (علموا أولادكم السباحة والرماية وركوب الخيل).
منها أن يتعلم اللغة الأجنبية، في الحديث أن النبي سأل زيد بن ثابت وهو شاب: ((أتحسن السريانية؟ قال: لا، قال: عليه الصلاة والسلام: فتعلمها فإني تأتيني الكتب منهم: يقول زيد بن
ثابت فتعلمتها في سبعة عشر يوما))([6]).إتقان اللغة الأجنبية، فمن علم لغة قوم أمن مكرهم.
أو حفظ كتاب الله عز وجل أو حديث النبي عليه الصلاة والسلام، جاء في الأثر" (مثل الذي يتعلم العلم في الصغر، كالنقش على الحجر، ومثل الذي يتعلم العلم في الكبر كالنقش على الماء) فإنه سرعان ما ينسى.
أن يتعلم البيع والشراء، مر النبي عليه الصلاة والسلام بعبد الله بن جعفر ابن عم النبي عليه الصلاة والسلام، وهو صبي يبيع فيقول له عليه الصلاة والسلام ويدعو له بالخير ويقول: ((اللهم بارك له في بيعه))([7]).
أو أن يعلم الشاب حرفة وصنعة، فيقول عمر بن الخطاب : (إن الرجل ليعجبني فأسأل عنه هل عنده حرفة؟ هل عنده صنعة؟ فإن قيل: لا سقط من نظري).
وكثير من الشباب في واقعنا يتهافتون على الوظائف التي لا عمل فيها فيتقاضى راتبه على كسله وعلى عدم العمل الذي يؤديه، صورة من صور الشباب الضائع في واقعنا والهدر في أموال الأمة وطاقاتها والذي أصبح سمة من سمات حياتنا.
أو أن تتعلم البنت فنون الخياطة وفنون الطبخ مما يجعلها امرأة ناجحة في بيت الزوجية بعد ذلك.
ما هي أسباب مشكلات الشباب؟
التناقض: التناقض في التوجيه، إعلامنا يبدأ بالقرآن وينتهي بالقرآن وما بين القرآن والقرآن هو السم الزعاف، تناقض في قضية الدعوة إلى الإصلاح ثم رصد للمصلحين وإيذاء لهم، تناقض بين إيجاد بواعث الجريمة في المجتمع ثم فتح السجون لمن يجرم بعد ذلك.
أمتنا تعيش التناقض في توجيهها في أساليبها في سياستها تعيش التناقض لأنها فقدت هويتها كأمة مسلمة.
انحطاط القدوة: الأصل أن القدوة هو النبي عليه الصلاة والسلام: لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة [الأحزاب:21]، زوجات النبي أمهات المؤمنين، السلف الصالح هؤلاء قدوتنا ولكن الواقع يشهد أن العاهرة واللاعب، والفنان والفنانة هي التي حلت محل رسول الله عليه الصلاة والسلام، ومحل أزواج رسول الله ومحل السلف الصالح.
وما الذي يخطر في بال شبابنا وأبنائنا عندما يعلمون أن عاهرة قد قدمت عرضا مسرحيا لمدة أسبوع فتقاضت عليه خمسين ألف دينار أو أن مغن عابث تقاضى على أغنية واحدة 40 ألف دينار أو أن يودع اللاعب العابث بآلاف الهدايا.
تموت الأسد في الغابات جوعا ولحم الضأن يرمى للكلاب
وذو جهل ينام على حرير وذو علم ينام على تراب
اختلال موازين الرجولة في واقعنا: ما هي موازين الرجولة، لقد أصبحت أمنية الشاب، بل إن من الخطوط العريضة في حسه إن الرجولة هي في الميوعة، هي في التخنث، هي في التشبه بالنساء، هي أن يضع القلم المذهب في جيبه، هي أن يلبس السوار من الذهب، أو أن يلبس القلادة من الذهب، رسول الله عليه الصلاة والسلام، رفع الذهب والحرير وقال: ((هذان حرام على ذكور أمتي حل لإناثها))([8])، ((ولعن النبي عليه الصلاة والسلام المتشبهين من الرجال بالنساء ومن النساء بالرجال))([9]) ذكر أن عمر بن عبد العزيز ، علم أن ولدا من أولاده اشترى خاتما بألف درهم فكتب إليه يقول: لقد بلغني أنك اشتريت خاتما بألف درهم، فإذا وصلك كتابي فبعه وتصدق على كل جائع بدرهم، واتخذ لك خاتما غيره، واكتب عليه: رحم الله امرءا عرف قدر نفسه.
موازين الرجولة لابد أن تعود: (اخشوشنوا فإن الترف يزيل النعم).
تخلي الوالدان عن مهمتهما: فظن الوالد أن مهمته تنتهي بمجرد إحضار الطعام والشراب والكسوة، وتظن الوالدة أن مهمتها تنتهي بمجرد الوضع والولادة وأما أمر التربية فهو يوكل بعد ذلك إلى الخادمة البوذية أو النصرانية هن اللائي يتولين أمر التربية في واقعنا، فتأمل كيف يأتي الجيل بعد ذلك بتربية خدم في حسه في مشاعره، في أخلاقه، في عقيدته؟.
وأما العلاج:
فلا بد أن نستشعر مسئوليتنا، الكل مسؤول عن هذا الأمر: لقول النبي عليه الصلاة والسلام: ((كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته والمرأة راعية في بيتها وهي مسؤولة عن رعيتها))([10]). ويتحمل ولاة الأمور في أمة الإسلام المسؤولية العظمى عن ذلك، عمر بن الخطاب وفي يوم عرفة قال لولده عبد الله: (يا بني أوصني، فقال له ولده عبد الله: يا أبي انظر أمامك في يوم عرفة فنظر فإذا خلق كثير، انظر وراءك فنظر فإذا الخلق كثير، انظر عن يمينك فإذا الخلق كثير، انظر عن شمالك فإذا الخلق كثير، فقال له: يا أبي كل منهم يسأل الله أن يغفر له ذنباً بينه وبين الله بينما أنت مسؤول عن ذنوبهم يوم القيامة).
لابد أن يسن القانون الذي يحمي دين الأمة وأخلاقها، لقد أصبحت السخرية بالله ورسوله وكتابه من الحرية الشخصية، فكاتب يريد أن يعبر عن رأيه فيسب الله ويسب رسوله، ويسخر بدين الله عز وجل فهذه حرية شخصية، الدولة العثمانية كان من قوانينها أن من ذكر ذات الله بالسوء فإن عقوبته الإعدام. عمر بن الخطاب ، ذكر له أن في المدينة شاب يتخنث، يتشبه بالنساء فأمر به أن يحلق شعر رأسه وأن ينفي إلى خارج المدينة.
لابد من سن القانون الذي يحمي أخلاق الأمة ويحمي دينها.
قضية الدعاء لأبنائنا لا أن ندعو عليهم، الرسول عليه الصلاة والسلام يحذرنا من أن ندعو بالسوء عليهم، فيقول: ((لا تدعوا على أنفسكم ولا تدعوا على أهليكم ولا تدعوا على أولادكم ولا تدعوا على أموالكم، لئلا توافقوا من الله ساعة لا يسأل فيها عطاء إلا أجاب))([11]) بمعنى أنك إذا دعوت الله تعالى بالسوء على ولدك فوافق ساعة إجابة، تكون أنت السبب في ضياعه.
جاء رجل يشكو إلى سعيد بن المسيب فساد ولده فقال له سعيد بن المسيب: علّك دعوت عليه، قال: نعم، قال: أنت أفسدته بالدعوة عليه.
([1])أخرجه ابن أبي الدنيا بإسناد حسن.
([2])رواه الترمذي.
([3])رواه أحمد بإسناد جيد.
([4])رواه الجماعة.
([5])متفق عليه.
([6])رواه أبو داود والترمذي.
([7])رواه أبو يعلى والطبراني.
([8])رواه أحمد وابن ماجة.
([9])رواه بالبخاري.
([10])رواه البخاري ومسلم.
([11])رواه مسلم.
ـــــــــــــــــــ(68/211)
النكاح
...
...
680
...
الأسرة والمجتمع, فقه
...
...
النكاح, قضايا الأسرة
...
هاشم محمد علي المشهداني
...
...
الدوحة
...
...
...
الريان الكبير
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- النكاح سنة في الخلق. 2- مشروعية النكاح والإنكار على تركه. 3- أنواع الأنكحة في الجاهلية. 4- صفات الزوجة الصالحة. 5- دعوة تحديد النسل. 6- صفات الزوج الصالح.
الخطبة الأولى
يقول الحق جلا وعلا: هن لباس لكم وأنتم لباس لهن [البقرة:187]. حقيقة يضعها رب الناس سبحانه أن الزوجة الصالحة ساترة للزوج عن الحرام وأن الرجل الصالح ساتر للمرأة عن الحرام ففي النكاح سكينة بعد اضطرابها وقلقها وغض للبصر وإحصان للفرج .
فما النكاح؟ وما هي أنواعه؟ وما هي صفات الزوجة الصالحة والزوج الصالح؟
أما النكاح: فهو سنة من سنن الله في الخلق والتكوين، كرم الله تعالى به الإنسان عن غيره من العوالم فكان آية من آيات الله، فصدق الله العظيم: ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون [الروم:21]. وتعهد رب بالعزة سبحانه أن يعين طالبه لقول المصطفى عليه الصلاة والسلام: ((ثلاثة حق على الله عونهم المجاهد في سبيل الله، والمكاتب يريد الأداء الناكح يريد العفاف))([1]) .
وليس في إسلامنا رهبنة ولا اعتزال، جاء رهط إلى بيوتات رسول الله عليه الصلاة والسلام – يسألون عن تعبده عليه الصلاة والسلام - فلما أخبروا كأنهم تقالوها فقال أحدهم: هو رسول الله وقد غفر الله له من ذنبه ما تقدم وما تأخر أما أنا فأقوم الليل ولا أنام وقال آخر: أما أنا فأصوم ولا أفطر، وقال الآخر: أما أنا فاعتزل النساء فلا أتزوج، فسمع بهم رسول الله عليه الصلاة والسلام فقال: ((أما أني لأتقاكم إلى الله وأخشاكم له ولكني أقوم الليل وأنام وأصوم وأفطر وأنكح النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني))([2]).
وأما أنواع الأنكحة:
فلقد كانت هنالك أنواع من الأنكحة في الجاهلية هي الزنا بعينه، كان هناك :
نكاح البدل: أن يقول الرجل للرجل، أنزل لي عن امرأتك وأنزل لك عن امرأتي.
نكح الرهط: والرهط ما دون العشرة يجتمعون على المرأة كلهم يصيبها فإذا ولدت تخيرت منهم واحدا يكون أبا له .
نكاح الإستبضاع :إذا طهرت المرأة من حيضها يقول لها زوجها: اذهبي إلى فلان رئيس العشيرة واستبضعي منه - أي اطلبي منه الجماع - حتى يأتينا الولد النجيب.
جاء الإسلام بطهره بعفافه بصفاته، حرم تلك الأنواع من الأنكحة وأقر ما عليه الناس اليوم أن يخطب الرجل من الرجل أو إلى الرجل وليته أو ابنته فيصدقها ثم ينكحها وجعل للنكاح في إسلامنا شروط من إيجاب وقبول وصداق وشهود. فلله الحمد والمنة وصدق الله العظيم: اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا [المائدة:3].
وأما صفات الزوجة الصالحة:
فينبغي أن تعلم أن النكاح في إسلامنا بني على الاختيار وينبغي للمسلم عندما يقدم على هذا الأمر أن يستصحب الأسس والصفات التي جاءت في كتاب الله وفي هدي المصطفى عليه الصلاة والسلام وإلا فهي التعاسة وهي الشقاء .
1- ابتداء لابد أن تنظر إلى الأسرة في أن تكون أسرة معروفة بالأصل معروفة بالشرف معروفة بالعفة والاستقامة، لقول النبي عليه الصلاة والسلام: ((تخيروا لنطفكم فإن العرق دساس))([3]).
وقول المصطفى عليه الصلاة والسلام: ((تخيروا لنطفكم فإن النساء يلدن أشباه أخوانهن وأخواتهن))([4])، وينبغي أن تعول على الجمال كثيرا، قول النبي عليه الصلاة والسلام: ((إياكم وخضراء الدمن، قالوا وما خضراء الدمن يا رسول الله؟ قال: حسنة المظهر سيئة المنبت))([5]).
2- وينبغي أيضا في اختيار الفتاة نفسها أن تكون صالحة لقول النبي عليه الصلاة والسلام: ((الدنيا متاع وخير متاعها المرأة الصالحة))([6]).
والصلاح في النساء قليل لقول النبي عليه الصلاة والسلام: ((إني رأيتكن أكثر أهل النار قالوا: مم يا رسول الله؟ قال: لأنكن تكفرن العشير، لو أحسن الزوج الدهر كله ثم أساء قلتن: ما رأينا منك خيرا قط))([7]).
يقول النبي عليه الصلاة والسلام: ((المرأة الصالحة في النساء كالغراب الأبقع بين الغربان))([8])، والأبقع هو الذي يكون أبيض الصدر وهذا نادر في الغربان يكون، الرجل يتحمل مسؤولية صلاح المرأة أو فسادها يقول الله تعالى: قوا أنفسكم وأهليكم نارا [التحريم:6]. ويقول : ((كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته فالرجل راع في أهله وهو مسؤول عن رعيته))([9]).
3- وأن تكون حسنة الخلق فدوام العشرة واستقرار الأسرة إنما يكون يخلق الزوجة وثمرة ذلك الخلق الحسن إنما هي الطاعة للزوج، جاءت امرأة إلى النبي عليه الصلاة والسلام تقول: أنا وافدة النساء إليك كتب الله الجهاد على الرجال فإن يصيبوا أجروا وإن قتلوا فهم أحياء عند ربهم يرزقون ونحن نقوم على شؤونهم وأحوالهم فما لنا في ذلك فقال لها المصطفى عليه الصلاة والسلام: ((اعلمي من وراءك من النساء أن طاعة الزوج والاعتراف بحقه يعدل ذلك كله وقليل منكن فاعله))([10]).
سوء خلق المرأة - كما يقول أحد العلماء- غل يلقيه الله في عنق من يشاء من عباده.
سئل أحد الأعراب: ما صفات المرأة السيئة الخلق قال: هي المرأة التي تدفن الحسنات وتفشي السيئات، هي المرأة التي تعين الزمان على زوجها ولا تعين زوجها إلى الزمان، هي التي إذا بكى زوجها ضحكت وذا ضحك زوجها بكت، هي التي تبكي وهي ظالمة هي التي يكون صبيها مهزول، هي الحنانة أي التي تحن إلى أهلها مما فيه إنقاص من حق الزوج هي الأنّانة أي التي تتشكى من غير مرض ومن غير سبب، هي المنانة أي التي تمن على زوجها بكل عمل تعمله.
أن تكون ذات دين، قول النبي عليه الصلاة والسلام: ((تنكح المرأة لأربع: لمالها، لحسبها، لجمالها، لدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك))([11]).
أراد الإمام أحد بن حنبل وأرضاه أن يتزوج فبعث خالته تخطب له فتاة فذهبت إلى إحدى الأسر الصالحة ثم عادت وهي تقول: إن عندهم فتاتين الكبرى سمراء بعين واحدة، والصغرى شقراء بعنين سليمتين وقد اخترت لك الصغرى لجمالها، ما الذي قاله الإمام أحمد وما هي موازين الإمام أحمد؟ قال لها: أي الفتاتين أكمل عقلا ودينا، قالت: هي الكبرى، قال: وأنا اخترتها على بركة الله ورسوله. سئل الإمام أحمد عن سب ذلك فقال: حقيقة المرأة في كل النساء موجودة، موضع الحرث، موضع النسل موضع الجماع، في كل النساء موجود، وإنما يتفاضل النساء بالعقل والدين فليس كل النساء لهم العقل وليس كل النساء لهن الدين، قول الرسول عليه الصلاة والسلام: ((من تزوج امرأة لعزها لم يزده الله إلا ذلا ومن تزوج امرأة لمالها لم يزده الله إلا فقرا ومن تزوج امرأة ليغض بها بصره ويحصن بها فرجه، بارك الله له فيها وبارك الله لها فيه))([12]).
ذات الدين هي التي تحفظ لك فراش الزوجية، هي التي تمنع أبناءك من أن يتطاولوا عليك، رأينا في واقعنا من يخبرنا أن زوجته وأبناءه اجتمعوا حتى استطاعوا أن يصدروا قرارا بالحجر عليه وأنه مجنون، ويحجر على ماله وتتمتع الزوجة والولد بماله وهو مغلول اليدين.
أن تكون منجبة ويعرف ذلك بسلامة البدن وبقياسها على عماتها وأخواتها كما قال العلماء: يقول المصطفى عليه الصلاة والسلام: ((تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة))([13]).
نظرية ماركس اليهودي، الانفجار السكاني وأن العالم مقبل على مجاعة ولابد من تحديد النسل، هذه نظرية لم تأخذ بها يهود إنما أخذت بها أمتنا وعرفنا خبث هذه النظرية بعد الحروب التي أحوجتنا إلى النسل الذي يحمي ديار الإسلام.
ولابد عند النكاح أن يكون هنالك تقاربا في السن لدوام العشرة ولحفظ فراش الزوجية.
خطب أبو بكر فاطمة بنت النبي عليه الصلاة والسلام، فقال له: ((إنها صغيرة)) فلما خطب عمر بن الخطاب بنت النبي عليه الصلاة والسلام فقال له: ((إنها صغيرة)) فلما خطبها علي بن أبي طالب زوجه إياها))([14]). لا ينبغي للمسلم أن يقع في هذا المطب، خاصة إذا كانت الفتاة لا دين لها، فلن تحفظ فراش الزوجية أبدا، وفي واقعنا المعاصر حادثة جرت مع كبير في السن أراد أن يتصابى فتزوج فتاة من عمر أحفاده، هو فاقد للقدرة على الجماع، عاجز لمجرد أن يعبث بها ومرت الأيام وإذا بها تمرض، وعرضت على الطبيب وبعد التحليل تبين أنها حامل، وهو عاجز فكيف حملت؟ ثم تبين أن أحد الخدم قد عبث بها.
لا ينبغي للمسلم وقد بلغ من العمر عتيا أن يوقع نفسه في هذا الموضع الأليم.
لابد من الاغتراب والبعد عن القرابة القريبة لأن فيها توريث للعاهات الجسدية من جنون أو ضعف في البصر مثلا، لقول النبي عليه الصلاة والسلام: ((لا تنكحوا القرابة لئلا يخلق الولد ضاويا)).
وأما صفات الزوج الصالح:
أن يكون صاحب دين، جاء رجل إلى الحسن يقول إن لي بنت فمن ترى أن أزوجها قال: زوجها ممن يتقي الله فإن أحبها أكرمها وإن كرهها لم يظلمها.
الإمام الغزالي رحمه الله تعالى يقول: ((ومن زوج ابنته ظالما أو فاسقا أو شاربا للخمر فقد جنى على دينها وتعرض لسخط الله عز وجل)).
ابن تيميه رحمه الله يقول: ولا ينبغي للفاسق أن يزوج، لقول المصطفى عليه الصلاة والسلام: ((من زوج كريمته من فاسق فقد قطع رحمها))([15]).
حسن الخلق: يقول المصطفى عليه الصلاة والسلام: ((إذا أتاكم من ترضون دينه فزوجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبيرا))([16]).
ظاهرة العنوسة التي يعاني منها البعض إنما سببها نحن فالمفاهيم الجاهلية التي نحملها والشرائط والشروط التي تقصم ظهر طالب الحلال وهذه أمور ينبغي على أمة الحق أن تتنزه عنها.
([1])رواه الترمذي .
([2])رواه البخاري ومسلم .
([3])ابن ماجة .
([4])ابن عدي وابن عساكر .
([5])رواه الدار قطني .
([6])رواه مسلم .
([7])البخاري .
([8])الطبراني .
([9])البخاري و مسلم .
([10])البزار والطبراني .
([11])رواه البخاري ومسلم .
([12])الطبراني في الأوسط .
([13])رواه أبو داود والنسائي .
([14])فقه السنة مجلد 2ص 19 .
([15])ابن حبان .
([16])رواه الترمذي .
ـــــــــــــــــــ(68/212)
الزوجة
...
...
681
...
الأسرة والمجتمع, فقه
...
...
المرأة, النكاح
...
هاشم محمد علي المشهداني
...
...
الدوحة
...
...
...
الريان الكبير
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- تكامل الحياة بوجود الرجل والمرأة. 2- مشروعية النكاح. 3- الخروج عن حدود الشرع سبب انتشار الأمراض ودمار المجتمعات. 4- التأكيد على أهمية الإبقاء على عقد الزوجية. 5- المرأة الصالحة خير متاع الدنيا. 6- حقوق الزوجة على زوجها. 7- إزالة الشقاق بين الزوجين.
الخطبة الأولى
قال تعالى: هن لباس لكم وأنتم لباس لهن [البقرة: 187].
إن من سنن الله في الخلق والتكوين أن الرجل متمم للمرأة، والمرأة مكملة للرجل، ولا غنى لأحدهما عن صاحبه حيث الوحدة في المشاعر والآمال والإنجاب والمضجع.
فما الزوجة؟ ولماذا الزوجة الصالحة؟ وما هي حقوق الزوجة على زوجها؟ وما موقف المسلم من ذلك كله ؟
الزوجة لغة: امرأة الرجل، ويقال لها زوج، وبها جاء القرآن اسكن أنت وزوجك الجنة [البقرة:35].
وينبغي أن تعلم:
1- أن الله سبحانه شرع النكاح وجعله السبيل الوحيد الكريم الحلال الذي أذن الله به وحرّم ما سواه فقال تعالى: والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون [المؤمنون:5-8].
لما فيه من تكريم للرجل وصيانة للمرأة وحفظ للأبناء من الضياع وسلامة المجتمع من الانحلال ونجاة من الأمراض التي كتبها الله على المنحرفين من طلاب المتعة الحرام من السفلس والهربس والإيدز مصداقا لقول رسول الله : ((لم تظهر الفاحشة في قوم حتى يعلنوا بها إلا ظهرت فيهم الأوجاع والأسقام التي لم تكن في أسلافهم))([1]).
2- وقد سمى الله تعالى ما بين الرجل وزوجه ميثاقا غليظا قال تعالى: وأخذن منكم ميثاقا غليظا [النساء:21]. وهو العقد، وقد لعن رسول الله كل من كان سببا في التهوين أو الهدم والإفساد لذلك العقد الغليظ فقال في حق الرجل: ((لعن الله كل ذواق طلاق))([2]) وقال في حق المرأة: ((أيما امرأة سألت زوجها الطلاق من غير بأس فحرام عليها رائحة الجنة))([3]) وقال في حق من يسعى لإفساد المرأة على زوجها: ((ليس منا من خبب (أي أفسد) امرأة على زوجها))([4]).
3- واستئذان المرأة فيمن يكون زوجا لها واجب ولها حق المطالبة بالفسخ للحديث: ((عن خنساء بنت ضرام أن أباها زوجها وهي ثيب. فأتت رسول الله فرد نكاحها))([5])،((الثيب أحق بنفسها من وليها والبكر تستأذن في نفسها وأذنها صماتها))([6]).
وأما لماذا الزوجة الصالحة؟ فلابد من الزوجة الصالحة أن تحرص عليها في اختيارك، وانتقائك وذلك:
لأنها خير متاع للحديث: ((الدنيا متاع وخير متاعها المرأة الصالحة))([7]).
سبب لسعادتك للحديث: ((ثلاثة من السعادة: المرأة الصالحة، والمسكن الصالح، والمركب الصالح ومن شقاوة ابن آدم: المرأة السوء والمسكن السوء والمركب السوء))([8]).
فالزوجة سلاح ذو حدين فمن شاء الله إسعاده كتب له الزوجة الصالحة ومن أراد الله شقاءه كتب له الزوجة السوء، سئل أحد الأعراب: عن صفات المرأة السوء، فقال: هي المرأة التي تدفن الحسنات وتفشي السيئات، هي المرأة التي تعين الزمان على زوجها ولا تعين زوجها على الزمان، هي التي إذا بكى زوجها ضحكت وإذا ضحك زوجها بكت، هي التي تبكي وهي ظالمة هي التي يكون صبيها مهزول، هي الحنانة أي التي تحن إلى أهلها مما فيه إنقاص في حق الزوج هي الأنانة أي التي تتشكى من غير مرض ومن غير سبب، هي المنانة أي التي تمن على زوجها بكل عمل تعمله.
هي التي تأمنها على عرضك وشرفك: فإذا خرجت من بيتك لا تلتفت وراءك أبدا مطمئنا إلى عفتها في غيبتك عنها كذا عرّف رسول الله المرأة الصالحة فقال: ((المرأة الصالحة تراها تعجبك وتغيب فتأمنها على نفسها ومالك، المرأة (أي المرأة السوء) تراها فتسوؤك وتحمل لسانها عليك وإن غبت عنه لم تأمنها على نفسها ومالك))([9]).
وأما حقوق الزوجة على زوجها:
قال تعالى: وعاشروهن بالمعروف [النساء:19].
العشرة هي المخالطة والممازجة والصحبة وقد أمر الله تعالى بحسن صحبتهن والحديث: ((خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي))([10]).
وذلك يكون:
بالتبسط معهن ومداعبتهن للحديث: ((كان رسول الله من أفكه الناس مع نسائه))([11]) وسابق يوما عائشة رضي الله عنها فلما حملت اللحم (أي السمنة) سابقها فسبقها فقال: ((هذه بتلك))([12]).
أن يتجمل لها ويتزين، يقول ابن عباس : (إني أحب أن أتزين لامرأتي كما أحب أن تتزين المرأة لي) فينظف نفسه ويزيل عرقه ويقلم أظافره كل هذا ما يتفق مع رجولته من غير تشبه بالنساء.
تعليمها أمور دينها: فالرجل مسؤول عن المرأة بين يدي الله سبحانه للحديث: ((إن الله سائل كل راع عما استرعاه حتى يسأل الرجل عن أهل بيته))([13]). يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا [التحريم:6]. فالرجل مسؤول أن يعلمها.
أ - ما يتعلق بالعبادات من أحكام الطهارة والوضوء والحيض والنفاس والصلاة والصيام.
ب- يعلمها حقوق الزوج والأهل والأقارب والجيران.
ج - يعلمها أدب التعامل مع الآخرين فلا سخرية ولا غيبة ولا نميمة ولا حسد.
د - يعلمها الحذر من ألفاظ الكفر وسب الدين والفاحش من القول أو الدعاء على الأبناء بالسوء أو على نفسها لئلا توافق ساعة إجابة تكون قد جنت على نفسها وبيتها بيدها.
عن أبي موسى قال: ((ما أشكل علينا - أصحاب رسول الله - حديثا قط سألنا عنه عائشة إلا وجدنا عندها منه علما))([14]).
بل إن النساء لابد أن يكون لهن درس خاص مع رسول الله فعن أبي سعيد قال: قالت النساء للنبي : يا رسول الله: غلبنا عليك الرجال فاجعل لنا من نفسك فوعدهن يوما فوعظهن وأمرهن وكان فيما قال لهن: ((ما منكن امرأة تقدم ثلاثة من ولدها إلا كان ذلك لها حجابا من النار فقالت امرأة: يا رسول الله واثنين: قال واثنين))([15]).
ويمكن إيصال ذلك بالمحاضرة أو الكتاب أو الشريط الإسلامي ومدارسة ذلك في لقاء أسري كريم تحفه الملائكة.
الغيرة والاعتدال فيها: المرأة تحب الرجل الذي يحميها من ذئاب الحياة وكلابها، وينأى به عن مواطن الريبة والتحلل.
أ- ومن دلائل الغيرة المحمودة أن يلزم أهله باللباس الشرعي، قال تعالى: ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى [الأحزاب:33].
ب- ومن دلائل الغيرة المحمودة أن ينأى بها عن الجلسات المختلطة: ((إياكم والدخول على النساء))([16]).
ج- ومن دلائل الغيرة المحمودة أن يصونها عما يخدش حياءها من الكلمة المسموعة والمقروءة والمرئية من كلاب المتعة الحرام وطلابها ومن الذين لا يحسنون إلا أدب الفراش وشعراء الهوى، والغيرة من سمات الرجل السوي للحديث: ((إن الله تعالى يغار والمؤمن يغار))([17]) .
وفاقد الغيرة محروم من الجنة للحديث: ((لا يدخل الجنة ديوث))([18]).
ومن صور فقدان الغيرة أن يرضى لزوجته أو ابنته أو أخته أن تمشي عارية الساقين والصدر والظهر وأعين الذئاب تلتهمها بنظراتهم أو أن تجالس الرجال وقد وضعت فخدا على فخد أو أن تذهب إلى الكوافير الرجل أو الخياط الذي يقيس لها فستانها مع ما يصحب ذلك من اللمس والكلمات المائعة وكشف الأستار والواقع يشهد بما هو أنكى وأقبح وقد أعرضنا عنه لانحطاطه وما ذكرناه إنما هو إشارة للعاقل الرشيد.
المهر والنفقة: قال تعالى: وآتوا النساء صدقاتهن نحلة [النساء:4]. صدقاتهن: أي مهورهن نحلة: أي فريضة وللحديث: ((أيما رجل تزوج امرأة على ما قل من المهر أو أكثر ليس في نفسه أن يؤدي إليها حقها خدعها، فإن مات ولم يؤد إليها حقها لقي الله يوم القيامة وهو زان))([19]).
وكذا النفقة لقوله تعالى: الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم [النساء:34]. وللحديث: ((كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يعول))([20]).
وعليك أن تتحرى الحلال فلا تطعمهم الحرام ولقد كان نساء الأنصار يودعن أزواجهن في الصباح ويقلن لهم: (اتقوا الله فينا واطلبوا الحلال فإنا نصبر على الجوع ولا نصبر على النار) وللحديث: ((كل لحم نبت من حرام فالنار أولى به))([21]) .
العدل في القسم بين الزوجات لمن له أكثر من زوجة فيجب على الرجل، أن يعدل بين نسائه إن كان له زوجتان أو أكثر في المبيت والنفقة والسكن والعطاء وفي كل أمر يمكنه العدل فيه وهو معفي فيما لا يمكنه العدل فيه من ميله إلى واحدة دون الأخرى في المحبة لذا كان رسول الله يقول: ((اللهم هذا جهدي فيما أملك، ولا طاقة لي فيما تملك ولا أملك))([22]). وكان حبه لعائشة رضي الله عنها أكثر من حبه للأخريات من غير أن ينقص من حقهن شيء.
ثم الحذر من الظلم والميل إلى واحدة دون الأخرى للحديث: ((من كان له امرأتان فمال: إلى إحداهما دون الأخرى جاء يوم القيامة واحد شقيه مائل))([23]).
وأي ظلم أعظم من أن تستأثر واحدة به فتحرم الأخرى النفقة والمبيت فتصير كالمعلقة لا هي بالزوجة ولا هي بالمطلقة.
أن يرقى بزوجته فهما واهتماما: الزوجة هي من نتاج هذا المجتمع البعيد عن إسلامه المتأثر بانحرافات الأمة فلا تفترض فيها الفهم الإسلامي الكريم ولكن لما كانت هناك بذور صلاح وأصول طيبة فالمعالجة ممكنة.
فعن عائشة رضي الله عنها أنهم ذبحوا شاة وتصدقوا بها إلا كتفها، فقال النبي : ((ما بقي منها؟ قالت: ما بقي منها إلا كتفها فقال رسول الله : بقي كلها غير كتفها))([24]) .
بعد ذلك كانت عائشة رضي الله عنها يأتيها عطاؤها فتفرقه كله فتقول لها مولاتها: (لو أبقيت شيئا تفطرين عليه، فتقول الصديقة بنت الصديق رضي الله عنها وعن أبيها: والله لو ذكرتني لفعلت) .
موقف المسلم من الزوجة:
في حالة الشقاق بين الزوجين: فإن كان السبب هي الزوجة فيعالج الرجل الأمر بالوعظ والتذكير فإن لم ينفع هجرها فلا جماع ولا لهو ولا مزاح ويستمر من 3 أيام إلى شهر ولا يزيد فإن لم ينفع فله أن يضربها تأديبا قال العلماء: يضربها بالسواك وهو عود لا يزيد عن غلظ أصبع وقيل بيده من غير أن يكسر عظما أو يسيل دما أو يمس الوجه قال تعالى: واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا [النساء:34]. وإذا كان السبب هو الزوج أو كلاهما معا فإن الله يأمر أن يُبعث حكم من أهل الرجل وحكم من أهل المرأة للإصلاح: وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا فلا جناح عليها أن يصلحا بينهما صلحاً والصلح خير [النساء:35]. وإن خفتم شقاق بنيهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريد إصلاحا يوفق الله بنيهما [النساء:138].
فيقومان بالصلح أو التفريق إذا لم ينفع الصلح.
زيارة الزوجة لوالديها: ذهب المالكية والحنفية أن للمرأة الخروج لزيارة والديها كل جمعة ومحارمها كل سنة وأن الزوج لا يمنع أبوي الزوجة من الدخول عليها في كل جمعة، وإن اتهم والديها بإفسادها فله أن يدخل امرأة من جهته وذهب الحنابلة إلى إنه عرف بقرائن الحال حدوث ضرر بزيارتهما أو زيارة أحدهما فله المنع([25]) .
فإن امرأة بدون أخطاء تريد رجلا بدون أخطاء ولما كان الخطأ وارد وهو من طبيعة ابن آدم، بل إن أخطاء الزوجة هي سر حاجتها وانجذابها إلى الرجل وتلك من حكمة الحق سبحانه لذا كان لابد من المداراة والمعرفة بطبيعة المرأة وعدم حمل انفلاتها في عاطفتها محمل الجد الذي تبني عليه المواقف التي تؤدي إلى انهيار الأسرة بسبب كلمة قالتها فذلك جهل وعدم تقدير للمواقف وللحديث: ((استوصوا بالنساء خيرا فإنهن خلقن من ضلع أعوج وأعوج ما في الضلع أعلاه فإن ذهبت تقيمه كسرته وإن تركته لم يزل أعوج فاستمتعوا بهن على عوجهن))([26]).
([1])ابن ماجة .
([2])فقه السنة ج2 ص 216.
([3])أصحاب الجنة .
([4])أبو داود والنسائي .
([5])الجماعة .
([6])الجماعة والبخاري .
([7])مسلم .
([8])أحمد بسند صحيح .
([9])الحاكم .
([10])ابن حبان في صحيحه .
([11])البزار والطبراني .
([12])أحمد وأبو داود .
([13])ابن حبان .
([14])الترمذي .
([15])الشيخان .
([16])متفق عليه .
([17])متفق عليه .
([18])أحمد والنسائي .
([19])الطبراني .
([20])أبو داود وغيره .
([21])الترمذي .
([22])أصحاب السنن وابن حبان .
([23])أصحاب السنن وابن حبان .
([24])الترمذي وقال حديث حسن صحيح .
([25])الموسوعة الفقهية مجلد 24 ص82 .
([26])البخاري ومسلم .
ـــــــــــــــــــ(68/213)
الزوج
...
...
682
...
الأسرة والمجتمع, فقه
...
...
النكاح, قضايا الأسرة
...
هاشم محمد علي المشهداني
...
...
الدوحة
...
...
...
الريان الكبير
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- معنى الزوج في الاصطلاح والعرف ، واللغة. 2- قوامة الرجل على المرأة. 3- ظلم الرجل لزوجه. 4- الطلاق والخلع. 5- حسن اختيار الزوج وعدم رد الكفؤ. 6- حقوق الزوج على زوجته. 7- وقفة مع طاعة الزوجة لزوجها.
الخطبة الأولى
قال تعالى: ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة [البقرة:288].
اعلم أن كل حق يقابله واجب، وإذا عرف كلا الزوجين ماله من حقوق وما عليه من واجبات سارت الحياة الزوجية هادئة مطمئنة.
فما الزوج؟ ولماذا الزوج الصالح؟ وما حق الزوج على زوجه؟ وما موقف المسلم من ذلك؟
أما الزوج لغة: الذي له قرين قال تعالى: وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى [النجم:45]. وكل منهما زوج فالرجل زوج للمرأة وهي زوجه.
وأما اصطلاحا: فهو بعل المرأة.
وينبغي أن تعلم :
كل مؤسسة أو شركة لابد لها من رئيس والأسرة هي أخطر مؤسسة فكان لابد لها من رئيس يطاع وذلك لحفظ هذا المؤسسة من الضياع والرجل أحق بهذه القوامة من المرأة قال تعالى: الرجال قوامون على النساء [النساء:34]. وعلل ذلك بأمرين: وهبي وكسبي فقال بما فضل الله بعضهم على بعض بسبب تفضيل الرجال على النساء بخصائص جسمية وعقلية وتلك هبة الله سبحانه والثاني وبما أنفقوا من أموالهم أي بما أوجب على الرجال من الواجبات المالية كالمهر والنفقة فكان له عليها حق الطاعة.
إن هذه القوامة لا ظلم فيها ولا استعلاء و لا تعسف ومن كان كذلك فهو مع الظلمة يوم القيامة للحديث: ((إن الرجل ليكتب عند الله جبارا وليس عنده إلا بيته))([1]).
إن ما بين الرجل وزوجه مبني على المودة والرحمة: ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة [الروم:21].
إن الإنسان ليفرح أن يكون صديقه رئيسا عليه في عمله، فكيف برئاسة الزوج على زوجته وما بينهما من المودة والرحمة ما لا نسبة بينه وما بين صديقين مخلصين.
وإذا بلغ الأمر مداه في كراهية الرجل للمرأة فله حق الطلاق، وإن كانت الكراهية من جهة المرأة فلها حق الخلع وذلك بأن تعطي الزوجة زوجها المهر الذي أخذته منه وقد جاءت امرأة ثابت بن قيس إلى رسول الله فقالت: يا رسول الله ما أعتب عليه في خلق ولا دين ولكني أكره الكفر بعد الإسلام (أي كفران العشير) فقال رسول الله : ((أتردين عليه حديقته؟ قالت: نعم فقال رسول الله : أقبل الحديقة وطلقها تطليقة))([2]).
قال ابن كثير: فأما إذا لم يكن لها عذر وسألت الافتداء والخلع فقد قال رسول الله : ((أيما امرأة سألت زوجها الطلاق في غير بأس فحرام عليها رائحة الجنة))([3]). وللحديث: ((المختلعات هن المنافقات))([4]).
وأما الزوج الصالح: فلا بد للولي أن يختار لكريمته فلا يزوجها إلا لمن له دين وخلق وشرف فإن عاشرها عاشرها بالمعروف وإن سرحها سرحها بإحسان قال تعالى: فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان [البقرة:229].
وذلك لأن تقواه ومخافته من الله تمنعه من الظلم: قال رجل للحسن بن علي رضي الله عنه: إن لي بنتا فمن ترى أن أزوجها له؟ قال: زوجها لمن يتقي الله فإن أحبها أكرمها وإن أبغضها لم يظلمها.
وذلك لأن حسن خلقه يمنعه من الإيذاء: للحديث: ((إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير))([5]).
ولا ينبغي للولي أن يزوج كريمته لفاسق أو شارب للخمر أو زانٍ.
قال تعالى: الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين [النور:3].
وللحديث: ((من زوج كريمته من فاسق فقد قطع رحمها))([6]).
ويقول ابن تيميه رحمه الله: من كان مصرا على الفسوق لا ينبغي أن يزوَج. ويقول الإمام الغزالى: ومن زوج ابنته ظالما أو فاسقا أو مبتدعا أو شارب خمر، فقد جنى على دينها وتعرض لسخط الله لما قطع من الرحم وسوء الاختيار.
وأما حق الزوج على زوجه:
أ - أن تعرف له مكانته وحقه :
فهو بابها إلى الجنة للحديث: ((أيما امرأة ماتت وزوجها عنها راض دخلت الجنة))([7]).
ب- حقه مقدم وأعظم من حق أبيها وأمها للحديث: ((سئل الرسول من أعظم الناس حقا على المرأة؟ قال: زوجها))([8]).
ج- ولولا أن السجود محرم لغير الله لكان على الزوجة أن تسجد لزوجها للحديث: ((لو كنت آمراً أحدا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها))([9]).
د- وإن طاعة الزوج بمنزلة الجهاد في سبيل الله للحديث: ((جاءت امرأة إلى النبي فقالت: يا رسول الله أنا وافدة النساء إليك، هذا الجهاد كتبه الله على الرجال فإن يصيبوا أجروا وإن قتلوا كانوا أحياء عند ربهم يرزقون ونحن معاشر النساء نقوم عليهم فما لنا من ذلك؟ فقال رسول الله : أبلغي من لقيت من النساء أن طاعة الزوج واعترافا بحقه يعدل ذلك وقليل منكن من يفعل))([10]).
الطاعة للزوج: الأسرة لا يستقيم حالها إلا بالطاعة للرجل، فهو المسؤول عن أسرته في الدنيا والآخرة، والمرأة المسترجلة ملعونة على لسان رسول الله : ((لعن المتشبهين من الرجال بالنساء، والمتشبهات من النساء بالرجال))([11]).
وأخبر عن الصالحات فقال سبحانه: فالصالحات قانتات حافظات للغيب [النساء:33]. قانتات قال ابن عباس وغيره: (أي مطيعات لأزواجهن) حافظات للغيب قال السدي وغيره: أي تحفظ زوجها في غيبته في نفسها وماله.
قيل لرسول الله : أي النساء خير؟ قال: ((هي التي تسره إذا نظر وتطيعه إذا أمر ولا تخالفه في نفسها ولا ماله بما يكره))([12]).
بلى إن طاعة الزوجة زوجها عبادة تتعبد الزوجة ربها بها، للحديث: ((إن المرأة إذا صلت خمسها وصامت شهرها وأطاعت زوجها قيل لها: ادخلي من أي أبواب الجنة شئت))([13]).
الطاعة أمر عام يدخل تحته كل أوامر الزوج، في غير معصية، ولو أدركت الزوجة لعلمت أن الزوج إذا رأى من زوجه الطاعة وحسن العشرة كسبت ثقته ومحبته فيعطي زوجته أضعاف أضعاف ما تعطيه بل يلبي لها كل رغباتها عن طيب نفس وخاطر.
ومن طاعة الزوج تلبيه ندائه إذا دعاها للفراش، ذلك حق للزوج على زوجته تمكينه من الاستمتاع فإذا تزوج امرأة أهلا للجماع وجب تسليمها نفسها إليه بالعقد إذا طلب([14]).
وإذا امتنعت الزوجة فالعقوبة عظيمة للحديث: ((إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فلم تأته فبات غضبان عليها لعنتها الملائكة حتى تصبح))([15]).
بل عليها أن تترك ما يشغلها عن تلبية حاجة زوجها للحديث: ((إذا دعا الرجل زوجته لحاجته فلتأته وإن كانت على التنور))([16]).
استئذانه في كل أمر ومنها:
استئذانه عند الخروج فلا تخرج إلا بإذنه للحديث: ((إن المرأة إذا خرجت من بيتها وزوجها كاره لعنها كل ملك في السماء وكل شيء مرت عليه غير الجن والأنس حتى ترجع))([17]).
ولا تصوم نفلا إلا بإذنه للحديث: ((لا يحل لامرأة أن تصوم وزوجها شاهد (أي حاضر) إلا بإذنه))([18]).
ولا تنفق إلا بإذنه للحديث: ((لا تنفق امرأة شيئا من بيت زوجها إلا بإذنه))([19]).
فإن كان الزوج بخيلا فقد قالت هذا امرأة أبي سفيان: يا رسول الله: ((إن أبا سفيان رجل شحيح ولا يعطيني ما يكفيني وولدي إلا ما أخذت منه وهو لا يعلم، فقال: خذي ما يكفيك وولده بالمعروف))([20]).
الغيرة على زوجها:
فلا تسمح لأحد أن يستخدم أشياءه الخاصة للحديث: ((فأما حقكم على نسائكم فلا يوطئن فرشكم))([21])، ألا تسمح لأحد أن يتمتع بالأمور الخاصة بزوجها كالسرير واللحاف والملابس([22]).
ولا تسمح لأحد أن يدخل بيته ممن يكره دخولهم للحديث: ((ولا يأذن في بيوتكم لمن تكرهون))([23]).
فلا يجوز لها أن تدخل أحدا من محارمها إذا كان رافضا لدخوله وما سواهم فهو حرام أصلا: كابن العم وابن الخالة أو أخو الزوج أو صديقه لما في ذلك من فتح لباب الفتنة والفساد والعياذ بالله.
أن تتزين لزوجها: فالزوجة العاقلة هي التي تحرص أن يراها زوجها وقد تزينت له وتعطرت وقد نظفت بيتها، وهيأت نفسها لاستقبال زوجها بالكلمة الحلوة التي تمسح عنه متاعب الحياة لعموم الحديث: ((إن نظر إليها سرته))([24]). سواء كان بتجملها لزوجها أو نظافة بيتها، وكثير من النساء يدخرن زينتهن فلا يظهرنها إلا عند خروجهن ولا يظهرن أمام أزواجهن إلا في صورة منفرة أو أنها تنام الساعات الطوال ولا تقوم إلى عملها إلا في وقت مجيئه من العمل مما يدخل الملل وفقدان الرغبة في المجيء إلى البيت لأنه يعلم مسبقا ما ينتظره من منظر كريه ووضع غير مريح.
ومن وصايا العرب: وصية أم لابنتها (واحفظي أنفه وسمعه وعينه فلا يشمن منك إلا أطيب ريح ولا تقع عينه منك على قبيح والتفقد لوقت طعامه ومنامه فإن تواتر الجوع ملهبه وتنغيص النوم مغضبة).
وأما موقف المسلم:
إن طاعة الزوجة لزوجها فيما لا معصية لله فيه، فإذا أمرها بمعصية فلا سمع ولا طاعة.
وفرائض الله سبحانه المرأة والرجل فيها سواء، ففرائض الله سبحانه من صلاة وصيام (صيام شهر رمضان) وحجة الإسلام الفريضة على المرأة أن تؤديها رضي الزوج أم أبى وليس له منعها بخلاف التطوع من صلاة وصيام وحج فللزوج منعها منه. ويلحق بالفرائض ما فرضه الله على المرأة المسلمة من حجاب وابتعاد عن الجلسات المختلطة ومجالسة الفاسقين فإذا أمر الزوج زوجته بخلاف أمر الله سبحانه فلا تطعه أبدا.
عيادة الزوجة لوالديها: فمذهب الحنفية بأنه ليس للزوج منعها من عيادة والد زَمِن ليس له من يقوم عليه ولا يجب عليها طاعة زوجها أن يمنعها من ذلك، لأن القيام بخدمته فرض عليها في مثل هذه الحالة فيقدم على حق الزوج، أما الشافعية والحنابلة فقالوا: ليس لها الخروج لعيادة أبيها إلا بإذن زوجها وله منعها ولكنه ينبغي ألا يمنعها لما فيه ذلك من قطيعة وسوء معاشرة ومنعها من عيادة والد مريض ليس من المعاشرة الحسنة في شيء([25]).
واستدلوا على ذلك أن رجلا خرج وأمر امرأته أن لا تخرج من بيتها فمرض أبوها. فاستأذنت النبي فقال لها: ((أطيعي زوجك فمات أبوها فاستأذنت منه في حضور جنازته فقال لها: أطيعي زوجك، فأرسل إليها النبي : أن الله قد غفر لأبيها بطاعتها لزوجها))([26]).
خدمة المرأة زوجها فقد ذهب الجمهور أنه ليس على المرأة خدمة زوجها من العجن والخبز والطبخ ونحو ذلك لأن المعقود عليه من جهتها هو الاستمتاع فلا يلزمها ما سواه.
والمذهب الصحيح ما ذكره ابن القيم رحمه الله من لزوم خدمة الزوجة زوجها فيقول: (هذا أمر لا ريب فيه ولا يمنع التفريق بين شريفة ودنيئة، وفقيرة وغنية، فهذه أشرف نساء العالمين كانت تخدم زوجها وجاءت الرسول تشكو إليه الخدمة فلم يشكها (أي لم يسمع شكايتها)([27]). إشارة إلى فاطمة رضي الله عنها أنها أتت رسول الله تشكو إليه ما تلقى من الخدمة فقال: ((ألا أدلكما على ما هو خير لكما مما سألتما: إذا أخذتما مضاجعكما فسبحا الله ثلاثا وثلاثين، وأحمدا ثلاثا وثلاثين، وكبرا أربعا وثلاثين، فهو خير لكما من خادم))([28]) .
وقد حكم رسول الله بين علي بن أبي طالب وبين زوجته فاطمة بنت النبي ، فجعل على فاطمة خدمة البيت، وجعل على علي العمل والكسب([29]) .
من وصايا رسول الله للرجال:
في حالة رؤية الرجل لامرأة فلا يستهين بزوجته: ((من نظر إلى امرأة فأعجبته فليأت أهله فإن الذي مع هذه مع تلك))([30]).
في حالة كراهية الرجل لزوجته: للحديث: ((لا يفرك مؤمن مؤمنة إن كره منها خلقا رضي منها آخر))([31]).
وعلى الرجل أن يضع حدا محدودا لا تتجاوزه المرأة أبدا.
وقد ذكرت لنا كتب الأدب أن امرأة توصي ابنتها فتقول: انزعي زجّ رمحه فإن سكت فكسري العظام على ترسه فإن سكت فقطعي اللحم بسيفه فإن سكت فامتطيه فإنما هو حمارك فإذا ما فسح الزوج للزوجة المجال في التطاول والجرأة امتد الأمر إلى ما لا تحمد عقباه.
([1])ابن حبان .
([2])البخاري والنسائي .
([3])أحمد وأبو داود وابن ماجة .
([4])الموسوعة الفقهية مجلد 10 ص205 .
([5])الترمذي .
([6])ابن حبان .
([7])ابن ماجة والترمذي .
([8])البزار بإسناد حسن.
([9])الترمذي وقال حديث حسن .
([10])البزار .
([11])البخاري وأبو داود .
([12])أبو داود والنسائي .
([13])ابن حبان .
([14])الموسوعة الفقهية مجلد 24 ص 57 .
([15])البخاري ومسلم .
([16])الترمذي .
([17])الطبراني .
([18])البخاري ومسلم .
([19])الترمذي .
([20])البخاري .
([21])الترمذي .
([22])السلوك الاجتماعي ج2 ص105 .
([23])الترمذي .
([24])الترمذي .
([25])الموسوعة الفقهية مجلد 24 ص 58.
([26])الطبراني .
([27])فقه السنة مجلد ص 183 .
([28])الموسوعة الفقهية مجلد 24 ص 59 .
([29])فقه السنة مجلد 2 ص 184 .
([30])مسلم .
([31])مسلم .
ـــــــــــــــــــ(68/214)
حق المولود على والديه
...
...
683
...
الأسرة والمجتمع
...
...
الأبناء
...
هاشم محمد علي المشهداني
...
...
الدوحة
...
...
...
الريان الكبير
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- المراحل التي يمر بها الإنسان في حياته الدنيوية. 2- نعمة الله علينا في الأولاد. 3- فضل رعاية البنات. 4- رعاية الإسلام للمولود في تحريم الزنا. 5- حقوق المولود على أبيه وأمه.
الخطبة الأولى
يقول الله تعالى: الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفا وشيبة يخلق ما يشاء وهو العليم القدير [الروم:54].
سنة من سنن الله في الخلق والتكوين، أن العبد بين ضعفين بين ضعف الطفولة وضعف المشيب وما بينهما إنما هي سحابة صيف توحي بالقوة التي تؤول إلى الأفول.
فما الطفولة؟ وما مظاهر عناية الإسلام بالطفولة؟ وما حق المولود على والديه؟ وما مسؤولية الوالدين تجاه أطفالهم؟
أما الطفل: فهو المولود.
الطفولة: مرحلة بين الميلاد والبلوغ كما جاء في المعجم الوسيط.
وينبغي أن تعلم:
إن الطفل هبة من الله وعطاء قال تعالى: يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور أو يزوجهم ذكرانا وإناثا ويجعل من يشاء عقيما [الشورى:50].
كراهية البنات جاهلية بغيضة، والجهلة من المسلمين من ضعف دينه ويقينه، يفعل فعل الجاهلية في تذمره وألمه إذا ولدت له أنثى: وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسوداً وهو كظيم يتوارى من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب ألا ساء ما يحكمون [النحل:58-59]. أو يهدد زوجته إذا ولدت أنثى فهي طالق، ونسي الغبي أن الفعل والأمر بيد الله وحده للحديث: ((إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة، بعث إليها ملكا، فصورها وخلق سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظامها ثم قال: يا رب أذكر أم أنثى؟ فيقضي ربك ما شاء ويكتب الملك، ثم يقول: يا رب أجله؟ فيقضي ربك ما شاء ويكتب الملك ثم يقول: يا رب رزقه؟ فيقضي ربك ما شاء ويكتب الملك، ثم يقول: أسوي أم غير سوى! فيجعله الله سويا أو غير سويا))([1]).
ومن طرائف العرب أن رجلا يقال له أبو حمزة ولدت له زوجته بنتا فهجرها، فمر على خيمتها يوما فسمعها تداعب ابنتها وتقول :
ما لأبي حمزة لا يأتينا يضل في البيت الذي يلينا
غضبان ألا نلد البنينا تالله ما ذلك في أيدينا
وإنما نأخذ ما أعطينا ونحن كالأرض لزارعينا
ننبت ما قد زرعوه فينا
فرجع أبو حمزة عن هجره وقبل رأس ابنته وزوجته حيث أدرك أن الأمر بيد الله وحده. بل يوصي رسول الله بالبنات فيقول: ((من عال جاريتين حتى تبلغا جاء يوم القيامة أنا وهو كهاتين وضم أصابعه))([2]). وقوله: ((من كانت له ثلاث بنات فصبر عليهن وسقاهن وكساهن من جدته (أي ماله) كن له حجابا من النار))([3]).
وأما مظاهر عناية الإسلام بالطفولة :
شرع الزواج وحث عليه وجعله الوسيلة الوحيدة الكريمة التي يلتقي عليها الرجل والمرأة لما فيه من حماية النسل من الضياع واختلاط الأنساب فكان آية من آيات الله سبحانه: ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون [الروم:21].
وللحديث: ((... وأنكح النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني))([4]).
حرّم الزنا ونفر منه وعاقب عليه، لأنه علاقة حيوانية مبنية على قضاء الشهوة من غير أن يتحمل أحد مسؤولية الولد قال تعالى: ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا [الإسراء:32]. الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلده ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله [النور:2].
أن تتخير لطفلك الأم الصالحة والوعاء الكريم للحديث: ((تخيروا لنطفكم فإن العرق دساس))([5]).
وأما حقوق المولود على والديه :
الأذان في أذن المولود: لحديث أبي رافع مولى رسول الله قال: ((رأيت رسول الله أذن في أذن الحسين بن علي - حين ولدته فاطمة - بالصلاة))([6]) يعني بأذان الصلاة وللحديث: ((من ولد له مولود فأذن في أذنه اليمنى وأقام في أذنه اليسرى لم تضره أم الصبيان))([7]).
وأم الصبيان من الشياطين، فتكون أول كلمة تطرق قلبه "الله أكبر" وما فيها من التعظيم لله عز وجل وحده، ثم شهادة التوحيد "أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدا رسول الله" ثم الدعوة إلى الصلاة و الفلاح "حي على الصلاة، حي على الفلاح" .
وفي ذلك تأكيد وتذكير بالعهد الأول الذي أخذه الله على الأرواح في عالم الغيب. وإذا أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا [الأعراف:172].
العقيقة: وهي ما يذبح عن المولود من شاة يوم السابع من ولادته.
للحديث: ((كل غلام رهين بعقيقته يذبح عنه يوما سابعه))([8])، يقول الإمام أحمد بن حنبل ومعنى:رهين بعقيقته: (أنه إذا مات وهو طفل ولم يعق عنه لم يشفع لأبويه)([9]).
ومن أحكامها أن رسول الله : ((عق عن الحسن والحسين كبشا كبشا))([10]).
والأكمل والأحسن أن يعق عن الغلام بشاتين وعن الجارية شاة للحديث: ((عن الغلام شاتان متكافئتان (أي متشابهتان) وعن الجارية شاة))([11]).
يقول الإمام مالك رحمه الله: (الظاهر أن التقيد باليوم السابع إنما هو على وجه الاستحباب وإلا فلو ذبح عنه في اليوم الرابع أو الثامن أو العاشر أو ما بعده اجزأت العقيقة)([12]).
حلق شعر الوليد: يستحب حلق شعر المولود يوم السابع والتصدق بوزنه فضة إن أمكن الحلق وإلا خمنه تخميناً وتصدق بما يساوي وزنه للحديث: ((لما ولد الحسن قال رسول الله : يا فاطمة احلقي رأسه وتصدقي بزنة شعره فضة، فوزنته فكان وزنه درهما أو بعض درهم))([13]).
وفي حلق شعر المولود تقوية له، وفتحا لمسام الرأس وتقوية لحاسة البصر والشم والسمع كما يقول ابن القيم رحمه الله.
تحنيكه بتمرة عقب الولادة: عن أبي موسى قال: ((ولد لي غلام فأتيت به النبي فسماه بإبراهيم وحنكه بتمرة ودعا له بالبركة ودفعه إلي))([14]).
والتحنيك معناه مضغ التمرة ودلك المولود بها بحيث يصير مائعا ثم يفتح فم المولود ويضعها فيه ليدخل شيء منها جوفه([15])، ويستحب أن يكون من الصالحين رجلا كان أم امرأة.
التسمية باسم حسن: للحديث: ((إنكم تدعون يوم القيامة بأسمائكم وأسماء أبائكم فحسنوا أسماءكم))([16]) فتخير له الاسم الحسن للحديث: ((إن أحب أسمائكم إلى الله عز وجل هو عبد الله وعبد الرحمن))([17]).
أن يجنبه الاسم القبيح، وقد كان من هديه تغيير الاسم القبيح إلى الاسم الحسن فسمى عاصية جميلة، وسمى حربا سلما، وسمى المضطجع المنبعث .
التربية والتعليم: قال تعالى: يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة [التحريم:6]. في الصلاة للحديث: ((مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر سنين وفرقوا بينهم في المضاجع))([18]).
وفي آداب الطعام: يقول عمر بن أبي سلمة: كنت غلاما في حجر رسول الله وكانت يدي تطيش في الصحفة (إناء الطعام) فقال لي رسول الله : ((يا غلام سم الله تعالى وكل بيمينك وكل مما يليك ))([19]).
وفي الخلق الحسن ((يقول عبد الله بن عامر : دعتني أمي يوما ورسول الله قاعد في بيتنا فقالت: ها تعال أعطيك، فقال لها رسول الله : ما أردت أن تعطيه؟ قالت: أردت أن أعطيه تمرا، فقال رسول الله : أما إنك لو لم تعطيه شيئا كتبت عليك كذبة))([20]).
النفقة على الأبناء حتى يقوى عودهم فتتزوج الأنثى ويعود الذكر نفسه للحديث: ((كفى بالمرء إثما أن يضيع من يعول))([21]).
التسوية في المحبة: للحديث: ((عن النعمان بن بشير قال: إن أباه أتى به النبي فقال: إني نحلت (أي وهبت) ابني هذا غلاما كان لي فقال رسول الله ((أكل ولدك نحلته مثل هذا؟)) فقال: لا، فقال رسول الله : ((اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم))، وفي رواية: ((فلا تشهدني إذا فإني لا أشهد على جور))([22]) أي ظلم.
يقول الإمام أحمد رحمه الله: (يجوز التفاضل بين الأولاد إن كان له سبب كأن يحتاج الولد لزمانته (أي مرضه المزمن) أو دينه أو نحو ذلك.
الرحمة بهم مما له الأثر الكريم في استقرارهم النفسي والنشأة السوية الخالية من العقد والاضطرابات النفسية، وحدث أن قبل رسول الله الحسن أو الحسين بن علي وعنده الأقرع بن حابس فقال الأقرع: إن لي عشرة من الولد ما قبلت منهم أحدا قط، فنظر إليه رسول الله وقال: ((من لا يرحم لا يُرحم))([23]).
وفي رواية أخرى: ((أو أملك لك أن نزع الله الرحمة من قلبك))([24]).
وإذا ترحلت الرحمة من الأسرة دبت العداوة والبغضاء بين الأبناء والآباء، ومن ثم يعيش كل منهم في عزلة عن الآخرين مما يجعل أمر الانحراف وارد حيث يعيش كل منهم في عالمه الخاص الذي لا يسمح لأحد أن يتدخل فيه أو أن يوجهه.
وأما مسؤولية الآباء تجاه أبنائهم:
أن مسؤولية الآباء تجاه أبنائهم عظيمة، فأنت كأب المسؤول الأول بين يدي الله عز وجل للحديث: ((والرجل راع في أهله ومسؤول عن رعيته))([25]).
وعلى هذه فمهمتك لا تقف عند توفير المطعم والمشرب والمسكن والسيارة الفارهة بل تتعدى إلى العناية بأمر دينه وآخرته، فليست العبرة بكثرة الأبناء والتباهي بهم وإنما العبرة بصلاح دينهم واستقامتهم.
القدوة الصالحة لهم: فلا تقع أعينهم منك على ما يشين في قول أو فعل أو حال.
وينشأ ناشئي الفتيان فينا على ما كان عوده أبوه
والعرب تقول: ومن شابه أباه فما ظلم.
مراعاة مراحل الطفل حتى البلوغ فلكل مرحلة لها أسلوبها يقول علي : (الولد سبع أمير، سبع أسير، وسبع وزير، ثم تشاوره ويشاورك).
وأن تدعوا لأبنائك بالصلاح والهداية، ورب العزة سبحانه يعلمنا أن نقول: ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما [الفرقان:74].
واحذر أن تدعوا بالسوء للحديث: ((لا تدعوا على أنفسكم ولا تدعوا على أولادكم ولا تدعوا على خدمكم ولا تدعوا على أموالكم لا توافقوا من الله تبارك وتعالى ساعة يُسئل فيها عطاءً فيستجاب لكم))([26]).
([1])رواه مسلم .
([2])رواه مسلم .
([3])رواه أحمد .
([4])البخاري ومسلم .
([5])ابن ماجة .
([6])أبو داود والترمذي .
([7])ابن السني .
([8])أصحاب السنن .
([9])نيل الأوطار ج5 ص 255 .
([10])ابن خزيمة .
([11])الترمذي وصحيحه .
([12])تربية الأولاد / علوان ص 93 .
([13])الترمذي والحاكم .
([14])البخاري ومسلم .
([15])نيل الأوطار / للشوكاني ج2 ص230 .
([16])أبو داود .
([17])مسلم .
([18])أبو داود .
([19])البخاري ومسلم .
([20])أبو داود والبيهقي .
([21])أبو داود والنسائي والحاكم .
([22])متفق عليه .
([23])البخاري ومسلم .
([24])البخاري ومسلم .
([25])متفق عليه .
([26])رواه مسلم .
ـــــــــــــــــــ(68/215)
البر بالوالدين والعقوق
...
...
684
...
الأسرة والمجتمع
...
...
الوالدان
...
هاشم محمد علي المشهداني
...
...
الدوحة
...
...
...
الريان الكبير
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- معنى البر. 2- فضل بر الوالدين. 3- بروا آباءكم تبركم أبناؤكم. 4- بر الوالدين. 5- صور للعقوق. 6- عقوبة عقوق الوالدين في الدنيا والآخرة.
الخطبة الأولى
قال تعالى: وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا [الإسراء:23].
إعلم أن الله تعالى جمع بين الأمر بتوحيده سبحانه والأمر بالإحسان إلى الوالدين ونهى عن الإساءة إليهما في الكلمة أو الفعل وأمرنا بالدعاء لهما في كل حين.
فما البر بالوالدين؟ ولماذا؟ وما صوره؟ وما العقوق وما عاقبته؟ وما موقف المسلم من الأمر كله ؟
أما البر لغةً: فهو الخير والفضل والطاعة.
اصطلاحا: يطلق في الأغلب على الإحسان بالقول اللين والإحسان بالمال وغيره من الأفعال الصالحات([1]). فعلى هذا نعني بالبر بالوالدين: الإحسان إلى الوالدين والطاعة لهما في غير معصية وبذل الوسع في الفوز برضاهما وأداء حقهما في حياتهما وبعد مماتها.
وينبغي أن تعلم :
أن البر بالوالدين من أفضل القربات للحديث: ((عن عبد الله بن مسعود قال: سألت رسول الله : أي الأعمال أحب إلى الله عز وجل؟ قال: الصلاة على وقتها، قال: ثم أي؟، قال: بر الوالدين، قال: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله))([2]). فأخبر رسول الله أن بر الوالدين أفضل الأعمال بعد الصلاة التي هي أعظم دعائم الإسلام.
إن حق الوالدين عظيم للحديث: ((لا يجزي ولد والده إلا أن يجده مملوكا فيشتريه فيعتقه))([3]).
ورأى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما رجلا يطوف حول الكعبة وهو يحمل أمه على كتفه ويقول:
إني لها مطية لا تنفر إذا الركاب نفرت لا تنفر
ما أطعمتني وأرضعتني أكثر الله ربي ذو الجلال الأكبر
تظنني جازيتها يا ابن عمر
فقال ابن عمر: لا ولا طلقة. أي صرخة من صرخات الولادة.
إن البر بالوالدين يكون ولو كانا كافرين: فعن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها قالت: قدمت أمي وهي مشركة في عهد قريش ومدتهم إذ عاهدوا النبي : فاستفتيت النبي : فقلت إن أمي قدمت وهي راغبة أفأصلها؟ قال رسول الله : ((نعم صلي أمك))([4]).
وأنزل الله قوله: لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم [الممتحنة:8].
وأما لماذا البر بالوالدين؟ فلا بد من البر بالوالدين.
لأن الكون مبني على العدل فكما تدين تدان للحديث: ((بروا آباءكم تبركم أبناؤكم وعفوا تعف نساؤكم))([5]).
ذكر أن رجلا رآه الناس وهو يضرب أباه في السوق، فقاموا يحولون بين الوالد والولد ويقولون للولد: كيف تضرب أباك؟ فقال لهم والده: دعوا ولدي يضربني فقد كنت أضرب أبي في هذا الموضع فسلط الله علي ولدي من بعده.
البركة في العمر والرزق للحديث: ((من سره أن يمد له في عمره ويزاد في رزقه فليبر والديه وليصل رحمه))([6]).
المغفرة للذنوب للحديث: ((أتى رجل رسول الله فقال: إني أذنبت ذنبا عظيما فهل لي من توبة؟ فقال: هل لك من أم؟ قال: لا، قال: فهل لك من خالة؟ قال: نعم، قال: فبرها))([7]). وفي رواية: ((هل لك والدان))([8]).
البر بالوالدين جهاد في سبيل الله للحديث: ((أن جاهمة جاء إلى النبي فقال: يا رسول الله أردت أن أغزو، وقد جئت لأستشيرك؟ فقال: ألك والدان؟ قال: نعم، قال: فالزمهما فإن الجنة تحت أرجلهما))([9]).
وأما صور البر بالوالدين:
في النظر إليهما، للحديث: ((ما برّ أباه من سدد إليه النظر بغضب))([10]).
فلا عبوس ولا حدة في النظر ولا تنظر إليهما شزراً من طرف عينك.
في القول: قال تعالى: وقل لهما قولا كريما [الإسراء:23]. قال ابن كثير: أي لينا طيبا حسنا بتأدب وتوقير وتعظيم وألا تكون سببا في سبهما أو لعنهما للحديث: ((إن من أكبر الكبائر شتم الرجل والديه، قالوا: يا رسول الله: وهل يشتم الرجل والديه؟ قال: نعم يسب الرجل أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه))([11]). فلا غلظة ولا فظاظة ولا تأفف ولا تضجر.
في المال: وذلك بالإنفاق عليهما إذا احتاجا والتوسعة عليها للحديث: ((أن رجلا جاء إلى النبي فقال: يا رسول الله، إن أبي أخذ مالي، فقال النبي : فأتني بأبيك، فنزل جبريل عليه السلام: إن الله عز وجل يقرئك السلام ويقول لك: إذا جاءك الشيخ فاسأله عن شيء قاله في نفسه ما سمعته أذناه، فلما جاء الشيخ قال له النبي : ((ما بال ابنك يشكوك))؟ فقال: سله يا رسول الله هل أنفقه إلا على إحدى عماته أو خالاته أو على نفسي، فقال رسول الله : أخبرني عن شيء قلته في نفسك فقال الشيخ :
غذوتك مولودا وعلتك يافعا
تعل بما أجني عليك وتنهل
إذا ليلة ضافتك بالسقم لم أبت
لسقمك إلا ساهرا أتململ
كأني أنا المطروق دونك بالذي
طرقت به دوني فعيني تهمل
تخاف الردى نفسي عليك وإنها
لتعلم أن الموت وقت مؤجل
فلما بلغت السن والغاية التي
إليها مدى ما كنت فيك أؤمل
جعلت جزائي غلظة و فظاظة
كأنك أنت المنعم المتفضل
فليتك إذ لم ترع حق أبوتي
فعلت كما الجار المجاور يفعل
فحينئذ أخذ النبي بتلابيب ابنه وقال: ((أنت ومالك لأبيك))([12]).
لزوم الأدب معهما: إن أبا هريرة :أبصر رجلين فقال لأحدهما: من هذا منك؟ فقال: أبي فقال أبو هريرة: (لا تسمه باسمه، ولا تمشي أمامه، ولا تجلس قبله)([13]) وسئل الفضيل بن عياض عن بر الوالدين فقال: ألا تقوم إلى خدمتها وأنت كسلان وقيل: ألا ترفع صوتك عليها ولا تنظر إليها شزرا ولا يريا منك مخالفة في ظاهر أو باطن وأن تترحم عليهما ما عاشا وتدعو لهما إذا ماتا([14]).
إجابة دعوتهما وإن كنت في صلاة نافلة: للحديث: ((لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة: عيسى ابن مريم، وصاحب جريج وكان جريج رجلا عابدا فاتخذ صومعة فكان فيها، فأتتة أمه وهو يصلي فقالت: يا جريج فقال: يا رب أمي أوصلاتي؟ فأقبل على صلاته فانصرفت فلما كان من الغد أتته وهو يصلي فقالت: يا جريج، فقال: أي رب أمي أوصلاتي؟ فأقبل على صلاته، فلما كان من الغد أتته وهو يصلي فقالت: يا جريج فقال: أي رب أمي أوصلاتي؟ فأقبل على صلاته، فقالت: اللهم لا تمته حتى ينظر في وجوه المومسات (وهن الزواني) فتذاكر بنو إسرائيل جريجا وعبادته وكانت امرأة بغي يتمثل بحسنها، فقالت: إن شئتم لأفتننه. فأتت إلى جريح، فلم يلتفت إليها فأتت راعيا فأمكنته من نفسها فوقع عليها فحملت فلما ولدت، سألوها عن أبيه؟، قالت: هو جريج، فأتوه فاستنزلوه وهدموا صومعته وجعلوا يضربونه، فقال: ما شأنكم؟ قالوا: زنيت بهذه البغي فولدت منك، قال: أين الصبي؟ فجاؤا به فقال: دعوني حتى أصلي فصلى فلما انصرف أتى الصبي فطعن في بطنه وقال: يا غلام من أبوك؟ قال: فلان الراعي فأقبلوا على جريج يقبلونه ويتمسحون به))([15]).
قال العلماء: أفاد الحديث إيثار إجابة الأم على صلاة التطوع، لأن الاستمرار فيها نافلة وإجابة الأم وبرها واجب وقيل: إنما دعت عليه لأنه كان بإمكانه أن يخفف صلاته ويجيبها([16]). لو دعواه لأول وقت الصلاة وجبت طاعتهما وإن فاتته فضيلة أول الوقت([17]).
ومن البر بهما بعد موتهما:
أ- الدعاء لهما بالرحمة والمغفرة ودخول الجنة والنجاة من النار قال تعالى: وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا [الإسراء:23]. وللحديث: ((إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له))([18]).
ب- التصدق عن الوالدين للحديث: ((أن رجلا قال للنبي : إن أبي مات ولم يوصي أفينفعه أن أتصدق عنه؟ قال: نعم))([19]) .
ج- سداد الديون المالية وقضاء الفرائض التعبدية كالحج والنذر.
د- صلة أقربائهما للحديث: ((جاء رجل من بني سلمة فقال: يا رسول الله هل بقي من بر أبوي شيء أبرهما به بعد موتهما؟ قال: نعم الصلاة عليهما (أي الدعاء لهما) والاستغفار لهما وإنفاذ عهدهما (العمل بوصيتهما) من بعدهما، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما (مثل الجد والجدة والعم والخالة والخال وغيرهم) وإكرام صديقهما))([20]) .
وأما العقوق: فهو مأخوذ من العق وهو القطع والمراد به الإساءة إلى الوالدين في القول والفعل وصور العقوق كثيرة ومنها تقديم رضى الزوجة على رضاهما للحديث: ((سألت عائشة رضي الله عنها: أي الناس أعظم حقا على المرأة؟ قال: زوجها، قلت: فعلى الرجل! قال أمه))([21]).
وكذا الغلظة والفظاظة ورفع الصوت والعبوس وعدم تلبية ندائهما أو التعير منهما وعدم الإنفاق عليهما وعدم استئذانهما لسفر فيه مشقة وعدم المبالاة بمشاعرهما أوالتسبب في سبهما.
وأما عاقبة العقوق :
العقوبة العاجلة للحديث: ((كل الذنوب يؤخر الله منها ما شاء إلى يوم القيامة إلا عقوق الوالدين فإن الله يجعله لصاحبه في الحياة قبل الممات))([22]).
الخسران والهلاك للحديث: ((رغم أنفه، ثم رغم أنفه، قيل: من يا رسول الله؟ قال: من أدرك والديه عند الكبر أو أحدهما ثم لم يدخل الجنة ))([23]).
الحرمان من كلمة التوحيد عند الموت للحديث: ((عن عبد الله بن أبي أوفي قال: كنا عند النبي فآتاه آت، فقال: شاب يجود بنفسه، فقيل له: قل لا إله إلا الله، فلم يستطع، فقال: كان يصلي؟ فقال: نعم، فنهض رسول الله ونهضنا معه، فدخل على الشاب، فقال له: قل لا إله إلا الله، فقال: لا أستطيع، قال: لم؟ قال: كان يعق والدته؟ فقال النبي : أحية والدته؟ قالوا: نعم، قال: ادعوها، فدعوها فجاءت، قفال: أهذا ابنك؟ فقالت: نعم، فقال لها: أرأيت لو أججت نارا ضخمة، فقيل لك: إن شفعت له خلينا عنه وإلا حرقناه بهذا النار، أكنت تشفعين له؟ قالت: يا رسول الله إذاً أشفع له، قال: فأشهدي الله وأشهديني أنك قد رضيت عنه قالت: اللهم إني أشهدك وأشهد رسولك أني قد رضيت عن ابني، فقال له رسول الله : ياغلام قل لا إله إلا الله، فقالها، فقال: رسول الله : الحمد لله الذي أنقذه من النار))([24]).
الجنة محرمة عليه للحديث: ((ثلاثة حرم الله تبارك وتعالى عليهم الجنة: مدمن الخمر، والعاق، والديوث الذي يقر الخبث في أهله))([25]).
وأما موقف المسلم من البر بالوالدين :
وجوب استئذانهما في الخروج إلى الجهاد: لأن البر بهما فرض عين لا ينوب عنه فيه غيره، وقال رجل لابن عباس : إني نذرت أن أغزو الروم، وأن أبواي منعاني، فقال: أطع أبويك فإن الروم ستجد من يغزوها غيرك.
وهذا مقيد بأمرين الأول: إذا لم يكن النفير عاما وإلا أصبح خروجه فرض عين، والثاني: استنفار الإمام له وتعينه للخروج([26]).
إن لطاعة الوالدين حد محدود فلا يجوز طاعتهما في أمر فيه معصية الله سبحانه:
فلقد كان سعد بن أبي وقاص بارا بأمه فقالت: لتدعن دينك أو لا آكل ولا أشرب شرابا حتى أموت فتعير بي ويقال: قاتل أمه، فقلت لها: يا أماه لو كانت لك مائة نفس فخرجت نفساً نفساً ما تركت ديني فلما رأت ذلك أكلت، قال تعالى: وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا [لقمان:15].
ولا يجب أن يطلق الرجل زوجته إذا طلبا ذلك: سأل رجل الإمام أحمد فقال: إن أبي يأمرني أن أطلق زوجتي، قال: لا تطلقها، قال: أليس عمر أمر ابنه عبد الله أن يطلق امرأته فطلقها؟ فقال الإمام أحمد: حتى يكون أبوك مثل عمر. أي في تحريه للحق وعدم اتباع الهوى.
قال العلماء: إذا كانت الزوجة مؤذية للوالدين أو محرضة للزوج أو الأبناء على إيذائهما وجب عليه طلاقها.
وإن تعارضت طاعة الأم مع طاعة الأب فطاعة الأم مقدمة كما قال الجمهور([27]).
للحديث: ((قال رجل يا رسول الله: من أحق بحسن صحابتي؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أبوك))([28]) .
إلا أن تكون في طاعة أحدهما معصية فعليه أن يطيع الذي يأمر منهما بطاعة، وأما إذا تعارض برهما في غير معصية فيحرص على إرضائهما ما أمكن.
روي أن رجلا قال: للإمام مالك رحمه الله: (والدي في السودان كتب إلي أن أقدم عليه، وأمي تمنعني من ذلك، فقال له مالك: أطع أباك ولا تعص أمك) أي يبالغ في طاعة أمه ولو بأخذها معه مثلا([29]).
([1])الموسوعة الفقهية مجلد 8 ص 63 .
([2])البخاري ومسلم .
([3])رواه مسلم .
([4])البخاري .
([5])رواه الطبراني بإسناد حسن .
([6])رواه أحمد ورواته محتج في الصحيح .
([7])الترمذي .
([8])ابن حبان والحاكم .
([9])الطبراني بإسناد جيد .
([10])مجمع الزوائد 8 .
([11])مسلم .
([12])الطبراني .
([13])البيهقي وابن السني .
([14])السلوك الاجتماعي في الإسلام / حسن أيوب ج2 ص 168 .
([15])البخاري ومسلم .
([16])نزهة المتقين ص 271 مجلد1 .
([17])الموسوعة الفقهية مجلد 8 ص 71 .
([18])مسلم .
([19])أحمد ومسلم والنسائي .
([20])أبو داود وابن ماجة وابن حبان .
([21])الحاكم .
([22])الحاكم والأصبهاني .
([23])مسلم .
([24])الطبراني .
([25])أحمد والنسائي .
([26])الموسوعة الفقهية ج8 ص65 .
([27])السلوك الاجتماعي حسن أيوب ج2 ص 172 .
([28])البخاري .
([29])الموسوعة الفقهية مجلد 8 ص 68 .
ـــــــــــــــــــ(68/216)
داء الشباب
...
...
167
...
الأسرة والمجتمع, فقه
...
...
النكاح, قضايا المجتمع
...
سعود بن إبراهيم الشريم
...
...
مكة المكرمة
...
...
...
المسجد الحرام
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- اتفاق الأنبياء في دعوتهم على حفظ الضروريات الخمس. 2- أنكحة الجاهلية. 3- من فوائد النكاح. 4- مشكلة العنوسة. 5- أسباب تأخر الشباب عن الزواج.
الخطبة الأولى
أما بعد:
فيا أيها الناس، لقد أشرق الإسلام بآدابه وتعاليمه الخالدة، فأقر كل خير وجد في الأخلاق الأصيلة، وغسلها مما علق بها خلال القرون من الأوضار الدخيلة، ثم أكملها بما أوحى به رب السماوات والأرض إلى نبيه ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ؛ تحقيقا لقول الله ـ عز وجل ـ: ياأَيُّهَا النَّبِىُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشّراً وَنَذِيراً % وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُّنِيراً [سورة الأحزاب:45-46]. فبعثه الله ـ عز وجل ـ لحفظ مصالح الخلق ومقاصدهم، وسد كل ذريعة تخدش دينهم، أو تهز كيانهم، ولذا فقد أجمع الأنبياء والرسل، على التوحيد في مللهم، وعلى حفظ المال والنفس والنسب وحفظ العقل والعرض، فكل ما يتضمن حفظ هذه الأصول الستة فهو مصلحة، ولأجل هذا شرع الله الجهاد لحفظ الدين، والقصاص لحفظ النفس، وحدّ المسكر لحفظ العقل، وحد الزنى لحفظ العرض، وحد السرقة لحفظ المال، وعقد النكاح لحفظ النسب.
أيها المسلمون، لقد ثبت عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أنها قالت: كان النكاح في الجاهلية على أربعة أنحاء:
نكاح الناس اليوم: يخطب الرجل إلى الرجل موليّته أو ابنته، فيصدقها ثم ينكحها.
ونكاح الاستبضاع: كان الرجل يقول لامرأته إذا طهرت من حيضها: أرسلي إلى فلان فاستبضعي منه (أي اطلبي منه الجماع) ويعتزلها زوجها، حتى يتبين حملها، فإذا تبين حملها أصابها إذا أحب، وإنما يفعل ذلك رغبة في نجابة الولد.
ونكاح آخر: يجتمع الرهط على المرأة؛ فيدخلون عليها كلهم يصيبها، فإذا حملت ووضعت ومر عليها ليال، أرسلت إليهم، فلم يستطع رجل منهم أن يمتنع، حتى يجتمعوا عندها فتقول لهم: قد عرفتم ما كان من أمركم. وقد ولدت، فهو ابنك يا فلان، تسمي من أحبت باسمه فيلحق به ولدها، لا يستطيع أن يمتنع منه الرجل.
ونكاح رابع: يجتمع ناس كثير، فيدخلون على المرأة، لا تمتنع ممن جاءها، وهن البغايا؛ ينصبن على أبوابهن رايات تكون علما، فمن أرادهن دخل عليهن، فإذا حملت إحداهن ووضعت، جمعوا لها، ودعوا لها القافة (وهم الذين يشبهون الناس) ثم ألحقوا ولدها بالذي يرون، فالتاط به (أي التصق به وثبت النسب بينهما) ودعي ابنه لا يمتنع منه الرجل. فلما بعث محمد هدم نكاح الجاهلية كله، إلا نكاح الناس اليوم. رواه البخاري[1].
أيها المسلمون، النكاح عبادة يستكمل بها المسلم نصف دينه، ويلقى بها ربه على أحسن حال من الطهر والعفاف، وفي كثرة النسل من المصالح الخاصة والعامة، ما يساعد الأمة على تكثير سواد أفرادها، وقد قال : ((تزوجوا الولود الودود فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة)) [رواه أبو داود والنسائي وغيرهما][2]، وقديما قيل: إنما العزة للكاثر.
ولا تزال هذه حقيقة قائمة لم يطرأ عليها ما ينقصها.
أيها الناس، إن في البلاد المسلمة اليوم، مشكلة من أعضل المشكلات وأعمقها أثرا في حياة الأمة المسلمة، إنها مشكلة الزواج، التي تتلخص في كلمات، هي أن في المسلمين آلافا مؤلفة من البنات في سن الزواج، لا يجدن الخاطب، وآلافا مؤلفة من الشباب لا يجدون البنات، أو لا يريدون الزواج.
وهذه المشكلة الظاهرة، إن لم يتنبه إليها المسلمون، ويفتحوا لها طرق العلاج بالحلال فإنه لن يجد الشباب للوصول إلى حاجاتهم الغرَزية إلا سلوك طريق الحرام، في نحو ما ذكرت عائشة ـ رضي الله عنها ـ أو يزيد، لأن من النتائج الحتمية الظهور والتي لا ينكرها عاقل مسلم، أن الفساد الخلقي سبب في قلة الزواج، وقلة الزواج سبب في الفساد الخلقي، كما قال القائل:
لولا مشيبي ما جفا لولا جفاه لم أشب
إن الوقدة من ضرم الشهوة، في أعصاب الشباب المسلم، هي داء الشباب في كل حين، ولطالما أرقت الكثيرين صغارا وكبارا، ولطالما نفت عن عيون الكثيرين لذيذ العيش، ولطالما صدفت عن دروسه التلميذ، وعن عمله العامل، وعن تجارته التاجر، وكل هذا طَبَعِيٌّ معقول، ولكن الذي لا يكون أبدا طَبَعِيًّا ولا معقولا، أن يحس الفتى والفتاة بهذا كله، في سن الشباب، ثم يضطرهما المجتمع بأسلوبه على مختلف المحاور، إلى البقاء على العزوبة، والصدف عن الزواج، من حيث يشعر أو لا يشعر وهذه هي المشكلة وهي مكمن الداء.
ولربما كانت بعض المجتمعات، تقول للشاب بلسان حالها:
اختر إحدى ثلاث، كلها شر، ولكن إياك إياك وأن تفكر في الرابعة التي هي وحدها الخير، وهي الزواج، وهذه الثلاث:
إما الانطواء على النفس وعلى أوهام الشهوة، والتفكير فيها، وتغذيتها بالروايات الرخيصة، وأحلام اليقظة، ورؤى المنام، حتى ينتهي به الحال إلى الهوس، أو انهيار أعصابه، ولسان حاله يقول للمجتمع:
ألقاه في اليم مكتوفاً وقال له إياك إياك أن تبتل بالماء
وإما اللجوء إلى طرق سرية خفية، لإبراز غلة الشهوة، والتي حرمها جمهور أهل العلم عملا بقوله ـ تعالى ـ: فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذالِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ [سورة المؤمنون:7].
وإما الاغتراف من حمأة اللذة المحرمة، وسلوك سبل الضلال، لتبذل فيها الصحة والشباب في لذة عارضه، ومتعة عابرة، ثم هو لا يشبع، بل كلما واصل واحدة، زاده الوصال نهما كشارب الماء المالح لا يزداد شربا، إلا ازداد عطشا.
وهذا كله، نتيجة ما نحسه اليوم من جمود في حركة الزواج، حتى أصبحت العزوبة الممقوتة أصلا لدى عدد من الشباب ليس بالقليل، والتي تبعها بعد ذلك اضطراب الأقيسة الاجتماعية في طريقة اختيار القرينة، عندما يرغب الشباب في الحياة الزوجية، والزواج ينبغي إلا يكون قضاء وطر وإدراك شهوة فقط، ولكن ينبغي أن يكون امتدادا لأمة تحمل رسالة نبيها ، وبناء لأجيال تقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر وَالَّذِينَ ءامَنُواْ وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرّيَّتَهُم [الطور:21].
أيها المسلمون، لقد توصل كثير من الباحثين في مشكلة الزواج، إلى أسباب كثيرة، كانت سدا منيعا في طريق من يريد الزواج، وهم وإن اختلفوا في عد تلك الأسباب، ما بين مقلٍ منها ومكثر؛ إلا أن أهمها لا يخرج عن أسباب ثلاثة:
أولها: تلكم العادات الشنيعة، التي تخرب بيت الأب وبيت الخاطب معا، وليس فيها نفع لأحد، وإنما هو التفاخر والتكاثر، والتسابق إلى التبذير والسرف، ولو سئل كثير من العزاب اليوم، ما منعكم من الزواج؟ لكان جواب الكثير منهم في صوت واحد: غلاء المهور، غلاء المهور. الذي أدى بالناس إلى الازدواجية في الحياة، ففئام من الناس يعيشون كأنهم في عصر مضى، وفئام من الناس، كأنهم يعيشون في عصر لم يأت بعد، فكيف إذا يلتقي الزوجان وبينهما عصر مديد، هو يعيش كفافا وأهل الزوجة يعيشون إسرافا، هو يريد الزواج وأهلها يريدون الفخر والمباهاة، جاء رجل إلى النبي فقال إني تزوجت امرأة من الأنصار فقال له النبي : ((على كم تزوجتها؟)) قال: على أربع أواق (يعني مائة وستين درهما) فقال له النبي : ((على أربع أواق !!!! كأنما تنحتون الفضة من عرض هذا الجبل ما عندنا ما نعطيك)) الحديث [رواه مسلم][3].
وعندما يصل المجتمع المسلم إلى حد الرشد، فإنه لا يستطيع بطبيعة الحال، أن ينظر بعين الرضى، إلى التنافس الصبياني في غلاء المهور، وعشق الأثاث، ومن أبى إلا ركوب رأسه في هذا المنحدر، فإن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن.
وسبب آخر، من أسباب تلك المشكلة، يتمثل في قلة الدين، وتغيب العفاف، الذي أدى ببعض المجتمعات في كثير من البقاع - إلا من رحم الله – إلى إقرار الاختلاط بين الجنسين، الذي أصبح وسيلة ناجحة لإطلاق عِنان الغرائز، ليعيش الشباب لصوصا على أعراض الناس، يكتفون باختلاس النظرة، واستجداء اللحظة، وسلوك الغش والتضليل، الذي غفل عن خطرها كثير ممن حُرِمَ هدايةَ الله.
والسبب الثالث من أسباب تلك المشكلة: هو ما يردده بعض أرباب الأفكار اللقيطة، الذين ينفثون سمومهم عبر قنوات متعددة، يقررون من خلالها أن التبكير في الزواج عمل غير صالح، وضرب من التغرير بالمراهقين، وأنه لا ينبغي أن يغامر الفتى بعملية الزواج قبل التزود الكافي من التجارب.
وفي ذلك قال قائلهم: لا قِبَلَ لي بهذا المعنى الذي يسمونه الزواج، فما هو إلا بيت ثقله على شيئين، على الأرض، وعلى نفسي، وأطفال يلزمونني عمل الأيدي الكثيرة، من حيث لا أملك إلا يدين اثنتين، وأتحمل منهم رهقا شديدا، ومن ثم سيصبحون عالة على المجتمع، ومن الذي تعرض عليه الحياة سلامها وأشواقها، في مثل رسالة غرام، ثم يدع ذلك كله ويتزوجها؟ فكأنه بذلك يسألها غضبها وخصامها، في نحو قضية من قضايا المحاكم، كل ورقة فيها تلدُ ورقة.
وطَبَعِيٌّ أن يكون لمثل هذا الصدى مريدون ومريدات، يضعون مثل هذه الترهات في مقام القداسة والتعظيم، حتى يقف به الأمر لأن يكون الواحد منهم خوارا جبانا، لا يستطيع أن يحمل أثقالا مع أثقاله، ويستوطن العجز والخمول، فلا يكون إلا قاعد الهمة، رخو العزيمة.
وكل شاب تلك حاله، فهو حادثة ترتدف الحوادث وتستلزمها، ولا يأتي السوء إلا بمثله أو بأسوأ منه، فيشهد العزب على نفسه، أنه مبتلى بالعافية، مستعبد بالحرية، مجنون بالعقل، مغلوب بالقوة، شقي بالسعادة.
وما علم هؤلاء أن رسول الله ألجمهم بقوله: ((يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء)) [رواه الجماعة][4]. قال ـ تعالى ـ: وَأَنْكِحُواْ الايَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِن يَكُونُواْ فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [النور:32]. قال أبو بكر : (أطيعوا الله فيما أمركم به من النكاح ينجز لكم ما وعدكم به من الغنى).
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.
[1] صحيح البخاري ح (5172).
[2] صحيح، أخرجه النسائي ح (3227) بلفظ: ((تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم)) زاد أبو داود ح (2050) : ((الأمم))، وأخرجه أحمد (3/158) واللفظ له إلا أنه قال : ((...مكاثر بكم الأنبياء يوم القيامة)).
[3] صحيح مسلم ح (1424).
[4] صحيح البخاري ح (1905)، صحيح مسلم ح (1400)، سنن الترمذي ح (1081)، وقال : حسن صحيح، سنن أبي داود ح (2046)، سنن النسائي ح (2240)، سنن ابن ماجه ح (1845).
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
أما بعد:
فيا أيها الناس، بالنكاح يلتم الشعث، وتسكن النفس، ويطمئن القلب، ويستريح الضمير من تعب التفكير، ويحصل الولد، ويعمر البيت، وتتم به نعمة الله على الزوجين، ولن تكمل الرجولة حتى يتزوج الشاب، أما الذي لا زوجة له ولا ولد، فرحمته بالناس مفقودة، وشفقته عليهم غير موجودة، لا يهمه إلا بطنه وظهره، ولا يجمع من المال إلا ما يكفيه لحياته. هو عالة على أهله في صغره، وغير مأمول في كبره، إذا طال عمره فغير ملتفت إليه، وإذا مات فغير مبكي عليه، ومن رغب عن النكاح فقد ترهب، وعنده يقف نسل آدم، ومن جهته تنقطع الأبوة والبنوة، فلا يذكر إلا بعلم علمه، أو مال ترك منه صدقة جارية.
دخل الأحنف بن قيس على معاوية ، ويزيد بين يديه، وهو ينظر إليه إعجابا به فقال: يا أبا بحر، ما تقول في الولد؟ فعلم ما أراد فقال: يا أمير المؤمنين هم عماد ظهورنا، وثمر قلوبنا، وقرة أعيننا، بهم نصول على أعدائنا، وهم الخلف لمن بعدنا. فكن لهم أرضاً ذليلة، وسماء ظليلة. إن سألوك فأعطهم، وإن استعتبوك فأعتبهم، لا تمنعهم رفدك، فيملوا قربك، ويكرهوا حياتك، ويستبطئوا وفاتك، فقال: لله درك يا أبا بحر، هم كما وصفت.
هذا وصلوا ـ رحمكم الله ـ على خير البرية وأزكى البشرية جمعاء، محمد بن عبد الله بن عبد المطلب سيد المرسلين، وإمام الغر المحجلين، اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
ـــــــــــــــــــ(68/217)
التربية
...
...
687
...
الأسرة والمجتمع
...
...
قضايا الأسرة
...
هاشم محمد علي المشهداني
...
...
الدوحة
...
...
...
الريان الكبير
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- معنى التربية. 2- الأثر العظيم للوالدين في التربية. 3- صفات المربي. 4- الخطوط العريضة في تربية الأبناء. 5- موقف المسلم من التربية.
الخطبة الأولى
قال تعالى: يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون [التحريم:6]. اعلم أنه كلما اتسعت دائرة الحساب، فمسؤولية العبد بادئ ذي بدء عن نفسه أما وقد تزوج وأنجب أبناءا فيتسع الأمر بعد ذلك، تبعة ومسؤولية وحسابا بين يدي الله عز وجل، عن نفسه وزوجه وأبنائه، وخير ما يصلح الأبناء هي التربية الصالحة.
فما هي التربية؟ وما صفات المربي؟ وما الخطوط العريضة للتربية؟ وما موقف المسلم منها؟
أما التربية لغة: فهي مأخوذة من ربى يربي أي نشأ وترعرع، وأما اصطلاحا فعرف العلماء التربية فقالوا: هي عملية بناء الطفل شيئا فشيئا حتى يبلغ حد الكمال والتمام.
وينبغي أن تعلم:
أن تربية أبنائنا تقع تحت مسؤولية الجميع من ولي الأمر إلى الوالدين إلى الإعلام إلى التربية إلى المجتمع كله، مصداقا لقول النبي عليه الصلاة والسلام: ((كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته))([1]).
وينبغي أن تعلم أيضا أن للوالدين الأثر العظيم في تحديد مسار الأبناء واختيارهم لدينهم لقول النبي عليه الصلاة والسلام: ((ما من مولود إلا ويولد على الفطرة، (أي الإسلام) فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه))([2]).
وينبغي أن تعلم أيضا أنه لابد من العناية بتربية أبنائك حتى تنتفع بهم في حياتك وبعد مماتك في آخرتك، في حياتك بأن تقر عينك برؤيتهم والذين يقولون: ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين [الفرقان:74]، يقول عكرمة: والله ما أرادوا صباحة وجوه أبناءهم ولا جمال أجسادهم إنما أرادوا أن تقر أعينهم بصلاحهم وأن يكونوا مطيعين لله عز وجل([3])، ثم بعد مماتك فالأجر متصل لقول النبي عليه الصلاة والسلام: ((إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له))([4]). وفي الآخرة قول النبي عليه الصلاة والسلام: ((إذا دخل الرجل الجنة سأل عن والديه وزوجه وأبنائه فيقال له إنهم: لم يعملوا عملك فيقول: يا رب قد عملت لي ولهم فيأمر الله تعالى أن يلحقوا به حتى تقر عينه في الجنة))([5]).
ولابد أيضا من العناية بتربية أبنائنا حتى لا تشقى الأمة بأبنائها وأي شقاء أعظم من أن يظهر في الأمة جيل مخنث ناقم على ذكورته ناقم على رجولته يفعل به ويلاط: أتأتون الذكران من العالمين وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم بل أنتم قوم عادون [الشعراء:165]. ((من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به))([6]). أي شقاء أعظم تعيشه الأمة عندما يظهر فيها جيل يشتري الوهم والخيال والأحلام بأموال طائلة، بل إن أحدهم عرض عرضه حتى ينتفع بنشوة من شمة يشمها. أي شقاء للأمة يكون عندما يظهر فيها جيل من الزناة شغله الشاغل أن يعبث بأعراض الآخرين وأمثال هؤلاء لن تسلم أعراضهم.
إن الزنا دين إذا استقرضته كان الوفا من أهل بيتك فاعلم
أمة ظهر فيها الحشاشون والزناة والمخنثون فأي مصير بعد ذلك تنتظر، وأي قبر تحفره بيدها.
وأما صفات المربي: فإن للمربي صفات:
أن يستشعر مسئوليته فعليه أن يستقيم، في منطقه في سلوكه في خلقه لأنه في موضع قدوة والعيون معلقة به، أنت بالنسبة لولدك كنسبة العود إلى الظل ولا يستقيم الظل والعود أعوج، إن من الآباء من أجرموا في حق أبنائهم بالقدوة السيئة التي ضربوها، والد يبدل طاقم الخادمات كل ستة أشهر مرة بعد أن يفجر بهن والزوجة تعلم والأبناء يعلمون، الزوجة تعلم وتسكت لأنها تربت على عفن الإعلام فألف خليلة ولا حليلة فليفعل ما يفعل المهم أن لا يتزوج عليها كذا علمها إعلامنا لأن الزوجة الثانية انتقاص من كرامتها وأنوثتها، والأبناء يعلمون ولكن.
إذا كان رب البيت بالدف ضاربا فشيمة أهل البيت كلهم الرقص
آباء متقاعدون لا يأتون البلاد إلا نادرا شغلهم الشاغل الفجور في بلاد الكفر وإذا أتى فلا يأتي إلا أياما ومنهم من يطلب من ابنته أن تعلمه ضرب الإبر حتى يستعين بها على الحرام فكيف يكون حال الأبناء بعد ذلك؟
من صفات المربي أن يكون قد أحسن اختيار الزوجة، فهي الساعد الأيمن بالنسبة له، هي الرديف، هي التي تجبر النقص الذي تفعله بسبب تقصيرك بانشغالك في الرزق مثلا لذا أكد النبي عليه الصلاة والسلام على تخير الزوجة الصالحة المؤمنة فقال: ((فاظفر بذات الدين تربت يداك))([7])، ((خير متاع المؤمن المرأة الصالحة))([8])، أما المرأة المسترجلة التي ظاهرها أنثى وباطنها ذكر والتي تشيبك قبل المشيب والتي تنازعك القوامة ملعونة على لسان النبي عليه الصلاة والسلام عندما لعن المخنثين من الرجال والمسترجلات من النساء، أمثال هؤلاء يشغلنك عن تربية الولد بتلك الصراعات، وكذلك النزاع الذي يكون هو الجو السائد في الأسرة، وكذا خضراء الدمن التي غرك حسنها فلم تلتفت إلى أصلها ومنبتها، رسول الله حذرنا فقال: ((إياكم وخضراء الدمن قالوا: وما خضراء الدمن يا رسول الله؟ قال: حسنة المظهر سيئة المنبت))([9])، ومثل هذه لا تؤتمن على عرض فضلا عن أن تؤتمن على تربية الولد، والدمن: ما بقي من آثار الديار ويستعمل سمادا.
من صفات المربي أن يكون عادلا فلا يفضل أحدا على أحدا حتى لا يزرع البغضاء والعداوة والنفرة بين أبنائه، وعندما أحس إخوة يوسف أن يعقوب عليه السلام يميل إلى يوسف وأخيه، صدق الله العظيم: إذا قالوا ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا ونحن عصبة إن أبانا لفي ضلال مبين [يوسف:8]. ويتفاقم الأمر إلى القتل: اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضا يخل لكم وجه أبيكم وتكونوا من بعده قوما صالحين [يوسف:9]. حديث النعمان بن بشير جاء إلى النبي عليه الصلاة والسلام يقول: ((يا رسول الله إني نحلت ابني هذا غلاما، (أهديت له غلاما) وأريدك أن تشهد على ذاك، قال له النبي عليه الصلاة والسلام: هل أعطيت كل ولدك ما أعطيت النعمان؟ قال: لا، قال: إذن لا تشهدني على جور))([10])، أي على ظلم.
من صفات المربي أن يكون حازما وفرق بين الحزم والرفق، الرفق والرحمة لابد منهما، فرسول الله عليه الصلاة والسلام كان من أرحم الناس بعياله وأهله وأما الحزم الذي نتكلم عنه فهو أن لا تسكت على خطأ أبدا، لقول النبي عليه الصلاة والسلام: ((ولا ترفع عنهم عصاك أدبا)).
قسا ليزدجروا ومن يك حازما فليقس أحيانا على من يرحم
إذا لم تمارس مهمة الناصح المغير الذي لا يرضى على خطأ أبدا، إن لم تفعل هذا كنت صفرا على الشمال ويتجرأ عليك الصغير والكبير، تفقد هيبتك في بيتك لا يكون لك قيمة، لابد من ممارسة الحزم بأن تثني على الصواب وتعترض على الخطأ.
لابد أن تتولى أمر التربية بنفسك وتحت إشرافك فيكون لك وجود وحضور في أسرتك، أن ترصد كل ما يدخل بيتك من مجلة أو صحيفة أو فلم أو شريط أن ترصد كل ما يعرضه الإعلام من غث وسمين أن تسكت كل صوت لا ينبغي أن يسمع مما فيه دعوة إلى فاحشة وخنا، أن تنمي معاني الرجولة في أبنائك، ومعاني الحياء والعفة في بناتك وقبل أسبوعين نشرت مجلة "اليقظة" في باب أسئلة دينية فتاة تسأل هي طالبة في معهد للسكرتارية تتلقى العلم، لم تجد من يوصلها تبرع شقيق صديقتها أن يقوم بهذه المهمة، ففي الناس أشراف ولكنه كان كلبا مسعورا شغله الشاغل شهوته له صنعته من كلام معسول، يغري ناقصات العقل والدين ممن لم يكن لهن من الدين ما يعصمهن تطاول الأمر حتى مد يده إليها فلم ترفض، أخذ يصحبها إلى شقته يتمتع بها، تقول البنت: وما زلت احتفظ بشرفي، طلبت منه النكاح فرفض وقال: عندي عشرات من أمثالك، تقول: لا أستطيع الاستغناء عنه فماذا أفعل، ضع هذه جانبا وامرأة في عهد النبي عليه الصلاة والسلام، يقال لها أم خلاّد قتل ابنها في المعركة جاءت وهي متنقبة تغطي وجهها تسأل عن ابنها فقال لها بعض الأصحاب: اكشفي عن وجهك حتى نعرف من أنت ومن ابنك؟ قالت لهم: ((لأن أرزأ في ابني أحب إلي من أن أرزأ في حيائي)) أن أصاب بمصيبة في ابني فيموت أحب إلي من أن أصاب بمصيبة في حيائي فأكشف عن وجهي، هذا حديث يرويه أبو داود، تأمل في هذه القمم السامية التي تربت عند النبي عليه الصلاة والسلام وبين هذه السفوح الهابطة، فعل بها كل ما يريد وتقول: ما زلت احتفظ بشرفي، أي شرف يبقى بعد ذلك!! ما هي موازين الشرف في واقعنا! من أي بيت دعارة تخرجت؟! من هم والديها ماذا علموها؟! أسئلة يقف العاقل أمامها حائرا.
أما الخطوط العريضة في تربية الأبناء:
فالخط الأول هو أن تربط الولد بالله، بذكر الله عز وجل بأن تغرس في قلبه معاني اليوم الآخر من جنة ونار وحساب وعرض على الله عز وجل، عندما يولد المولود في إسلامنا من السنة أن تؤذن في أذنه فأول كلمة تطرق قلبه الله أكبر: ((ما من مولود يولد فيؤذن في أذنه اليمنى وتقام الصلاة في أذنه اليسرى إلا لم تضره أم الصبيان))([11]) وهو نوع من الجن، وإذا أراد الكلام فأول كلمة ينطق بها هي كلمة (لا إله إلا الله)) لقول النبي عليه الصلاة والسلام: ((افتحوا على صبيانكم لا إله إلا الله))([12])، ثم تغرس في نفسه معاني اليوم الآخر، أردف النبي عليه الصلاة والسلام ابن عباس وكان غلاما وراء ظهره ثم قال له: ((يا غلام احفظ الله يحفظك احفظ الله تجده تجاهك تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لا ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لا يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك رفعت الأقلام وجفت الصحف))([13]).
التربية بالعادة أن يتعود الخلق الكريم وأن يتعود الطاعة لقول النبي عليه الصلاة والسلام: ((إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد فاشهدوا له بالإيمان))([14]). وهو لم يعتد المساجد في كبره إلا لأنه نشأ على هذا الأمر منذ صغره، تقول أم عطية: ((كنا نصوم صبياننا فإذا بكوا أشغلناهم باللعب حتى يأتي وقت الأذان))([15])، أن يتعود قولة: السلام عليكم. أن يتعود أن يقبل يدي والديه أن يتعود احترام الكبير حتى تنغرس هذه الأمور منذ صغره فتنموا بعد ذلك في كبره.
من الخطوط العريضة أيضا هي التربية بالقصة: إعلامنا أجرم عندما جعل من العاهرة بطلة ومن العاهر بطلا، إعلامنا أجرم في حق أبنائنا فلم يترك عاهرة إلا وصورها وعقد معها لقاء، لابد أن يربط الولد بأنبياء الله عز وجل: أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده [الأنعام:90]. وبرسو ل الله عليه الصلاة والسلام: لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة [الممتحنة:6].
إن لم تكونوا مثلهم فتشبهوا إن التشبه بالكرام فلاح
ولابد من التربية أخيرا بالعقوبة: الضرب للولد مثل السماد للزرع: ((مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع واضربوهم عليها وهم أبناء عشر سنين وفرقوا بينهم في المضاجع))([16]) (الولد سبع أمير وسبع أسير وسبع وزير ثم تشاوره ويشاورك)، ما بين مولده وحتى السابعة من عمره تلبي له طلبه، ولا تستخدم العنف معه مما يفسد طاقاته ومواهبه وبين السابعة والرابعة عشر لابد أن يشدد على الولد، ولابد أن يفرض عليه الخلق فرضا، أصحب فلانا ولا تصحب فلانا، اقرأ كذا، ولا تقرأ كذا، فإذا فلت منك في هذه السن فلن تظفر به بعد ذلك.
وأما موقف المسلم من التربية:
فينبغي أن لا تكون النعمة سببا أن ننسى رسول الله عليه الصلاة والسلام وأن ننسى أخلاقنا يحدثني أحد الفضلاء من المدرسين أن ولدا مسك وهو يمارس الفاحشة في الحمام مع أحد الطلاب ولفداحة الأمر ولخطورته اتصلوا بولي أمره في عمله فلما جاء متلهفا مسرعا، وهذا أمر يثنى عليه عرض عليه الأمر بعد تحرج فنظر إليهم نظرة المستهزئ، وقال: لمثل هذا طلبتموني هل الأمر يستحق أن أترك عملي حتى تخبروني أن ولدي يمارس الفاحشة؟، هو يريد أن يلعب يريد أن يلهو فلماذا الاعتراض عليه؟، أهكذا فعلت بنا النعمة فأصبح الفجور بدل العفة والخلاعة بدل الحشمة والجنون بدل العقل أمور ينبغي أن نلتفت إليها: الذين بدلوا نعمة الله كفرا [إبراهيم:28]. فبدل أن نستقبل نعم الله بالشكر وأن نزداد لله طاعة تطيش العقول ونفقد ديننا وأخلاقنا ويصبح الدينار والدرهم رباً أمور ينبغي أن تراجع.
أيضا موقف المسلم من التربية أن يكون لك حضور في أهلك فإن لأسرتك منك نصيب، ولا يكون العمل هو الشغل الشاغل (حمار في النهار جيفة في الليل عالم بالدنيا جاهل بالآخرة) ومنهم من يكون شغله الشاغل أن يقضي وقته بالديوانيات لا يرى ولده ولا أهله فكيف تكون التربية بعد ذلك؟ وينمي النبي عليه الصلاة والسلام أمر القناعة في القلوب فيقول عليه الصلاة والسلام: ((من أصبح منكم آمنا في سربه، معافا في جسده عنده قوت يومه فقد حيزت له الدنيا بحذافيرها))([17]).
([1])متفق عليه .
([2])البخاري .
([3])مختصر ابن كثير ج2 ص 641 .
([4])مسلم .
([5])الطبراني .
([6])رواه الخمسة إلا النسائي .
([7])رواه البخاري ومسلم .
([8])مسلم .
([9])رواه الدار قطني .
([10])متفق عليه .
([11])البيهقي وابن السني .
([12])الحاكم .
([13]) أحمد والترمذي .
([14])الترمذي .
([15])البخاري ومسلم .
([16])أبو داود بإسناد حسن .
([17])الترمذي وقال حديث حسن .
ـــــــــــــــــــ(68/218)
الستر
...
...
688
...
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
...
...
الآداب والحقوق العامة, قضايا الأسرة
...
هاشم محمد علي المشهداني
...
...
الدوحة
...
...
...
الريان الكبير
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- الستر ومعناه في اللغة والاصطلاح. 2- أسرار الحياة الزوجية. 3- أنواع الستر. 4- متى يفضح الله العبد.
الخطبة الأولى
قال تعالى: إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة والله يعلم وأنتم لا تعلمون [النور:19].
إشاعة الفاحشة في المجتمع الإسلامي أسلوب يستخدمه أعداء الله للذهاب بالبقية من حياء الأمة، ويستخدمه الجهلة من المسلمين لينالوا ممن هم خيرا منهم بأن ينسبوا إليهم ما ليس فيهم والمسلم مأمور بالستر.
فما الستر؟ وما أنواعه؟ ومتى يفضح الله العبد؟
الستر: التغطية والحفظ. قال تعالى: له معقبات من بين يديه ومن خلقه يحفظونه من أمر الله [الرعد:11].
قال مجاهد: (ما من عبد إلا وله ملك يحفظه إلا من شيء أذن الله به فيصيبه).
والستر من خُلق الله عز وجل، للحديث: ((أن الله حيي ستير يحب الحياء فإذا اغتسل أحدكم فليستتر))([1]).
والبيوت أسرار فلا يجوز نشرها، للحديث: ((إن شر الناس منزلة عند الله يوم القيامة الرجل يفضي إلى امرأته وتفضي إليه ثم ينشر سرها))([2]).
ولا يجوز كشف العورة إلا إذا اقتضى الأمر، للحديث: ((عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده، قال: قلت يا نبي الله عوراتنا ما نأتي منها وما نذر؟ قال: احفظ عورتك إلا من زوجتك))([3]).
ولا يجوز ذكر ما بين الرجل وزوجته فيما يتعلق بالجماع للحديث: ((إن رسول الله صلى ثم سلّم ثم أقبل عليهم بوجهه فقال: مجالسكم من منكم الرجل الذي أتى أهله أغلق بابه وأرخى ستره ثم يخرج فيحدث فيقول: فعلت بأهلي كذا وفعلت كذا، فسكتوا، فجثت امرأة على ركبتيها فقالت: أي والله إنهم يتحدثون وإنهن ليتحدثن، فقال: هل تدرون ما مثل من يفعل ذلك؟ إن مثل من يفعل ذلك مثل شيطان وشيطانة لقي أحدهما صاحبه في السكة فقضى حاجته منها والناس ينظرون إليه))([4]).
وأما أنواعه:
ستر الخلقة والتكوين: يقول الإمام الغزالي: ((والله تعالى كثير الستر على عبيده ومن ستره سبحانه أنه أظهر الحسن من الجسد وأخفى القبيح منه كما قال تعالى: لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم [التين:4].
فأخفى الدماء في العروق وأخفى العروق تحت الجلود، ومن ستره سبحانه أنه جعل موطن الخواطر هو القلب فلا يطلع عليه إلا الله تعالى، ولو اطلع الخلق على ما يدور في قلبك لمقتوك ولكنه ستر الله سبحانه.
ستر لأوليائه:
في الدنيا يصرفهم عن المعاصي للحديث: ((ما هممت بشيء مما كانوا في الجاهلية إلا حال الله بيني وبينه، ثم ما هممت حتى أكرمني الله بالرسالة، قلت ليلة للغلام الذي يرعى معي لو أبصرت لي غنمي حتى أدخل مكة وأسمر بها كما يسمر الشباب، فقال: افعل، فخرجت حتى إذا كنت عند أول دار بمكة سمعت عرفا، فقلت: ما هذا؟ قالوا: عرس، فجلست أسمع فضرب الله على أذني فنمت فما أيقظني إلا حر الشمس وفي الليلة الثانية أصابني مثل ما أصابني مثل أول ليلة ثم ما هممت بعده بسوء))([5]).
في الآخرة، للحديث: ((يدني الله تعالى المؤمن يوم القيامة حتى يضع عليه كنفه (أي ستره) فيقرره بذنوبه فيقول: أتعرف ذنب كذا في يوم كذا، فيقول: أعرف، فيقول الله عز وجل: أنا سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم، فيعطى صحيفة حسناته وأما الكافر والمنافق فينادي عليهم على رؤوس الأشهاد: هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين ))([6]).
ستره على عصاته وأعدائه: فيقابل إساءة العبيد وكفرهم بالإحسان إليهم للحديث القدسي: ((أنا والجن والإنس في نبأ عظيم، أخلق ويعبد غيري، وأرزق ويشكر سواي، أتحبب إليهم بالنعم وأنا الغني وهم يبتعدون عني بالمعاصي وهم الفقراء، خيري إليهم نازل وشرهم إلي صاعد))([7]).
كان لأبي حنيفة جار يعاقر الخمر وينشد:
أضاعوني وأي فتى أضاعوا ليوم كريهة وسداد ثغر
فافتقد صوته يوما فسأل، فقيل: إن عسس الليل أخذوه (شرطة الليل) فعزم على زيارته فلقيه تلميذه أبو يوسف، فقال: إلى أين؟ قال: لزيارة جاري، قال: هذا السكير، قال: نعم، قال: وكيف وأنت إمام المسلمين؟ قال أبو حنيفة: لقد نفعني، كان يقول: أضاعوني وهذا حال كل بعيد عن الله: ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا [طه:124]. فعظمت نعمة الإسلام، و كان يقيم الليل في معصية، فقلت: هذا يصبر نفسه على قيام الليل وهو في معصية ولا أصبر نفسي على قيامه وأنا في طاعة فأخذت أقيم الليل، هو ستر الله تعالى عليه شهورا وعسس الليل لا يهتدون إليه، فإذا كان هذا ستره على عصاته فكيف يكون ستره لأوليائه.
وإكراما لمجيء أبي حنيفة يطلق الوالي سراح السجناء وتكون توبة نصوحا لله تعالى.
ستر الأخوة: المسلم الحق عملة نادرة في زماننا فإذا ظفرت به فاحرص عليه، للأثر (المؤمن كثير بأخيه) وموسى عليه السلام سأل ربه أن يقويه بأخيه لأداء مهمة الدعوة: واجعل لي وزيرا من أهلي هارون أخي اشدد به أزري وأشركه في أمري كي نسبحك كثيرا ونذكرك كثيرا [طه:31-36].
والجاهل هو الذي لا يجد مكانه إلا بأن ينحي غيره بالتجريح والطعن وهذا الصنف لا يبارك الله فيه ولا في قوله ولا في عمله، فحرمة المسلم عظيمة، للحديث: ((كل المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه))([8]).
فالغيبة حرام، للحديث: ((من رد عن عرض أخيه رد الله عن وجهه يوم القيامة))([9]). والنميمة حرام، للحديث: ((لا يدخل الجنة نمام))([10]). وهو الذي ينقل الكلام لإيقاع الأذى بين الناس والمساعدة على إيذاء المسلم وقتله حرام، للحديث: ((لو أن أهل السماء والأرض اشتركوا في دم مؤمن لأكبهم الله في النار))([11]). والنصيحة الفاضحة لا تجوز يقول السلف: (من نصح أخاه بينه ويبنه فقد زانه ومن نصح أخاه في ملأ فقد شانه)، ولقد أصبح الكثيرون لا يحسنون النصيحة إلا بالأسلوب الفاضح المؤذي.
وأما متى يفضح الله العبد؟ فإن ذلك يحدث:
إذا كان حريصا على فضح إخوانه، للحديث: ((يا معشر من آمن بلسانه ولم يؤمن قلبه لا تتعبوا عورات المسلمين، فإن من تتبع عورة أخيه تتبع الله عورته ومن تتبع الله عورته يفضحه ولو في بيته))([12]).
المرأة إذا تبرجت وخلعت الستر الذي أمر الله به، خلع الله عنها ستره وحفظه ورعايته، للحديث: ((أيما امرأة وضعت ثيابها في غير بيتها إلا هتك الله عنها ستره))([13]).
المجاهرة بالمعصية، للحديث: ((كل أمتي معافى إلا المجاهرون ومن المجاهرة أن يعمل الرجل العمل بالليل ويصبح وقد ستره الله، فيقول: يا فلان عملت البارحة كذا وكذا، بات يستره الله ويصبح يكشف ستر الله عليه))([14]).
([1])رواه أبو داود.
([2])رواه مسلم.
([3])رواه الترمذي والنسائي.
([4])رواه أحمد والبزار.
([5])فقه السيرة ص 72.
([6])رواه مسلم.
([7])رواه البيهقي عن أبي الدرداء.
([8])رواه مسلم.
([9])رواه الترمذي.
([10])متفق عليه.
([11])ابن ماجة والبيهقي.
([12])رواه أبو داود.
([13])رواه الطبراني.
([14])متفق عليه.
ـــــــــــــــــــ(68/219)
سر التوحيد وحقيقته (5) والزواج
...
...
837
...
الأسرة والمجتمع, التوحيد
...
...
شروط التوحيد, قضايا الأسرة
...
عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري
...
...
المدينة المنورة
...
4/7/1409
...
...
قباء
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
شروط لا إله إلا الله المُبَشَّر أهلها بالجنة , ومعناها : 1- العلم بمعناها 2- الاعتقاد والقبول 3- اليقين 4- الصدق 5- الإخلاص 6- الانقياد 7- المحبة – لا ينتفع بهذه الكلمة إلا من حقق معناها وشروطها – الإكثار من النسل من سنته صلى الله عليه وسلم وسبيل ذلك – التعدد من سنته صلى الله عليه وسلم , ومَن المخاطبون بذلك – دور العادات الغربية في مشكلة الزواج والتعدد
الخطبة الأولى
أما بعد: فإن البشارة بالجنة لأهل لا إله إلا الله قُيدت بسبعة شروط كما دل على ذلك القرآن والسنة. فلا ينتفع صاحب لا إله إلا الله بهذه الكلمة العظيمة حتى يستوفي هذه الشروط ويحققها أما إذا أخلّ بواحد منها لا ينتفع صاحب هذه الكلمة بمجرد النطق بها:-
أولاً: العلم بمعناها .. العلم بمعنى لا إله إلا الله وما فيه من النفي والإثبات لأن المراد هو الاعتقاد والاعتقاد لا يتم إلا بالعلم فإذا علم معنى لا إله إلا الله يمكنه اعتقاده. قال الله عز وجل: فاعلم أنه لا إله إلا الله [محمد:19].
وهذا الخطاب لكل إنسان رجلاً كان أو امرأة: فاعلم أنه لا إله إلا الله وقال عز وجل: ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة إلا من شهد بالحق وهم يعلمون [الزخرف:86].
شهد بالحق معناه أنه شهد أن لا إله إلا الله لأن هذه هي كلمة الحق ثم قيد هذه الشهادة بالعلم بقوله وهم يعلمون، وفي الصحيح عن عثمان بن عفان رضى الله عنه قال: قال رسول الله : ((من مات وهو يعلم أنه لا إله إلا الله دخل الجنة))[1].
ثانيًا: الاعتقاد والقبول:إذ لا يكفي أنه مجرد معرفة معنى هذه الكلمة حتى يتلقى معناها بالقبول ويعقد قلبه عليه فالمراد هو الاعتقاد ومعنى الاعتقاد هو أن يتلقى معنى هذه الكلمة بالقبول والخضوع ويعقد قلبه على معناها ويؤمن بمعناها فيخرج القلب بذلك من ربقة المكذبين المستكبرين الذين قال الله فيهم: إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون ويقولون أءنا لتاركوا آلهتنا لشاعر مجنون [الصافات: 34-36].
وإنما يصرف هؤلاء المستكبرين المكذبين عادة إنما يصرفهم عن قبول هذه الكلمة هذه الشهادة العظيمة، تقليد الآباء والجمود على التقاليد والعادات الموروثات كما أخبر بذلك الرب عز وجل حين قال: وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون قال أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آبائكم قالوا إنا بما أرسلتم به كافرون فانتقمنا منهم فانظر كيف كان عاقبة المكذبين [الزخرف:21-25].
ثالثًا: اليقين.. فلا يكفي أن يعرف معنى هذه الكلمة ويعتقده بل يجب أن يعتقد معنى هذه الكلمة متيقنًا من ذلك أي يستقين بمعناها فإنه لا يغنى في الإيمان إلا علم اليقين. علم الظن لا يغنى في الإيمان شيئًا فكيف بالعلم الذي دخله الشك والارتياب.
الشك والارتياب إذا طرأ على الاعتقاد بلا إله إلا الله أبطله فلا ينتفع صاحبها بها حينئذ قال الله عز وجل: إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون [الحجرات:15].
انظر كيف علق الصدق في الإيمان على قولهم لم يرتابوا أي لم يشكوا قال رسول الله لأبي هريرة في الحديث المشهور في الصحيح: ((من لقيت من وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله مستيقنًا بها قلبه فبشّرة بالجنة))[2].
وفي الحديث الصحيح أيضًا أنه قال: ((أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله لا يلقى الله عبد بهما غير شاكٍ فيهما إلا حرمه الله على النار))[3].
الشرط الرابع: هو الصدق .. أن يكون اعتقاده ويقينه بمعنى لا إله إلا الله صدقًا من قلبه الصدق المنافي للكذب أن يكون قلبه يواطئ لسانه في اعتقاده بلا إله إلا الله. وقد أعلن الرب عز وجل أنه سيمتحن قائلي هذه الكلمة فقال سبحانه وتعالى: الم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين [العنكبوت:2-3].
فالرب عز وجل امتحن قائلي لا إله إلا الله حتى يظهر الصادق من الكاذب حتى يكشف الصادق من الكاذب، وفي الحديث الصحيح عن النبي أنه قال: ((إن الله حرم على النار من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله صدقًا من قلبه))[4].
الشرط الخامس: الإخلاص: وهو من لوازم الصدق ومعناه تصفية الاعتقاد وتصفية القول والعمل من شوائب الشرك أن يكون إيمانه واعتقاده وقوله وعمله خالصًا لوجه الله تعالى أما إذا شابت نيته مقاصد أخرى من الشرك فإن ذلك يبطل إيمانه ويحبط عمله. قال الله عز وجل:
ألا لله الدين الخالص [الزمر:3].
وقال سبحانه: وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء [البينة:5] وقال عزوجل:
إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرًا إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله فأولئك مع المؤمنين وسوف يؤتي الله المؤمنين أجرًا عظيمًا [النساء:145-146].
وفي الصحيحين عن عتبان بن مالك رضي الله عنه قال قال رسول الله : ((إن الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله))[5].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله : ((أسعد الناس بشفاعتي من قال لا إله إلا الله خالصًا من قلبه))[6].
الشرط السادس: الانقياد .. لما دلت عليه لا إله إلا الله من معنى ومن مقتضى فإن هذا هو معنى الإسلام وهذا هو معنى الإيمان.
الإسلام هو الاستسلام لله والإيمان هو التسليم لله، الاستسلام والتسليم هذان هما الانقياد لله عز وجل، الانقياد لما دلت عليه لا إله إلا الله هذا هو الشرط السادس من شروط لا إله إلا الله الانقياد لما دلت عليه لا إله إلا الله.
الشرط السابع: المحبة: محبة ما دلت عليه لا إله إلا الله محبة هذه الكلمة ومحبة ما دلت عليه ومحبة أهلها العاملين بها فبدون هذه المحبة لا يسلم إيمان ولا يصح إسلام. فلو كره ما دلت عليه لا إله إلا الله كره معناها أو مقتضاها أو بغض أهلها العاملين بها فإنه لا ينتفع بمجرد النطق بها أو حتى اعتقادها. محبة هذه الكلمة ومحبة أهلها العاملين بها وعلى رأسهم الأنبياء والمرسلون وعلى رأس المرسلين سيدنا محمد فمحبته ومحبة ما جاء به من شروط صحة لا إله إلا الله والانتفاع بلا إله إلا الله بدون محبة المصطفى لا ينتفع صاحب لا إله إلا الله بهذه الكلمة، وعلامة محبته أن يكون حبك لله ويكون هواك تبعًا بما جاء به محمد عن الله عز وجل كما ثبت في الحديث الصحيح قال رسول الله : ((لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئت به)) اللهم إنا نسألك حبك وحب من يحبك ونسألك حب رسولك وحب من يحب رسولك، وحب كل عمل يقربنا إليك. أقول هذا واستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] صحيح مسلم (26).
[2] صحيح مسلم (31).
[3] صحيح البخاري (128)، صحيح مسلم (32) عن معاذ بن جبل رضي الله عنه.
[4] صحيح البخاري (5401) عن عتبان بن مالك رضي الله عنه وفيه اختلاف يسير.
[5] المصدر السابق نفسه.
[6] صحيح البخاري (99).
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد: فإن مما جاء به سيدنا محمد من الهدى والسنن الإكثار من النسل كما ذكرنا في الخطبة الماضية. الإكثار من النسل لإكثار عدد أمة لا إله إلا الله لو لم يكن يا مسلم في هذا إلا أن تغيظ أعداء الله وتعظم النكاية بهم، عليك أن تحرص على ذلك فكيف وإن علمت أن هذا من أسباب قوة المسلمين ومنعتهم، وكيف وقد سمعت أن النبي يباهي بنا وبكثرتنا، يباهي بكثرتنا الأمم والأنبياء يوم القيامة فعليك يا مسلم عليك بهذا الأمر النبوي، ساهم في إكثار عدد أمة محمد والسبب الرئيسي في هذه المكاثرة هو الإكثار من الزواج وتيسير أسبابه هذا هو سبب المكاثرة، مكاثرة أمة محمد ولذلك كان الزواج هو سنة سيدنا محمد وسنة الأنبياء من قبله الزواج والتعدد في الزواج هو سنة المصطفى وهى سنة أتباعه من بعده، ومن هم أتباعه الذين يخاطبون بهذه السنة، هم الذين فهموا دين الإسلام وتعلموا منه العدل والرحمة والوفاء بالحقوق، فنحن إنما نخاطب بهذه السنة أهل الوفاء والرحمة والعدل وأداء الحقوق، أما أهل الظلم الذين لا يعرفون الوفاء ولا يؤدون الحقوق ولا يعدلون في المعاملة، فإن عليهم أولاً أن يتعلموا من إسلامهم، يتعلموا الرحمة والعدل والوفاء وأداء الحقوق، قبل أن يلتفتوا إلى هذه السنة، فالزواج هو سنة المصطفى والتعدد هو سنة المصطفى فعليك يا مسلم يا من تعلمت من دينك الرحمة والعدل والوفاء وأداء الحقوق عليك بهذه السنة وعليك أن تعلم أنها مرتبطة بشريعة العدل أنها مرتبطة بشريعة الوفاء، أنها مرتبطة بشريعة الرحمة.
عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله : ((النكاح سنتي فمن لم يعمل بسنتي فليس مني، فتزوجوا فإني مكاثر بكم الأمم))[1].
ومعنى قوله : (فتزوجوا) أي تزوجوا مرة ومرة بعد مرة إلى الحد الذي ضربه الله لنا في كتابه وهو الأربعة كما قال الله عز وجل: فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم [النساء: 3].
جعل الاقتصار على واحدة رخصة لمن يخافون من أنفسهم ألا يعدلوا في المعاملة ألا يقوموا بالحقوق، ألا يقوموا بواجب الوفاء والرحمة، والرخصة في الاقتصار على واحدة إنما شرع لضعفاء الهمة لضعفاء المال لضعفاء الإمكانات.
أما قوى الإيمان أما قوى الهمة أما قوى العدل أما قوى الإمكانات في ماله في جَدّه فعليه بسنة المصطفى عليه أن يتزوج واحدة ثم يتزوج الثانية حتى لا يرهق الأولى بكثرة الأولاد والأعباء يتزوج الثانية والثالثة والرابعة إن استطاع هذه هي سنة المصطفى فعليك بها يا مسلم يا أهل العدل والرحمة والوفاء عليكم بسنة المصطفى ولا تعبئوا بتلك العادة الإفرنجية الكاثوليكية التي تسللت إلى حياتنا نحن المسلمين في عصرنا الحاضر. عادة إفرنجية كاثوليكية تسللت إلى حياتنا نحن المسلمين في العصر الحاضر فجعلت الزواج من أصعب الأمور وجعلت التعدد أشد منه صعوبة في نفوس المؤمنين والمؤمنات.
صار هذا ثقيلاً وصعبًا على نفوس المؤمنين والمؤمنات، وليعلموا جميعًا أن هذا من تأثير اليهود والنصارى على حياتنا المعاصرة.
أما بعد فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدى هدى محمد وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وعليكم أيها المسلمون بالجماعة فإن يد الله على الجماعة ومن شذ شذ في النار.
يا ابن آدم أحبب ما شئت فإنك مفارقه واعمل ما شئت فإنك ملاقيه وكن ما شئت فكما تدين تدان، ثم صلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله في كتابه المبين: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليمًا [الأحزاب:56].
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبي بكر الصديق وعمر الفاروق وذي النورين وأبي السبطين علىّ وعن آل بيت نبيك الطيبين الطاهرين وعن أزواجه أمهات المؤمنين وعن الصحابة أجمعين والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
[1] سنن ابن ماجة (1846).
ـــــــــــــــــــ(68/220)
العلم بـ لاإله إلا الله والزواج
...
...
839
...
الأسرة والمجتمع, التوحيد
...
...
شروط التوحيد, قضايا الأسرة
...
عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري
...
...
المدينة المنورة
...
11/7/1409
...
...
قباء
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
شروط لا إله إلا الله التي ينتفع بها العبد : الشرط الأول : العلم بمعناها : معنى هذا الشرط وأهميته – العلم بها إجمالاً وتفصيلاً – العلم بفضلها ووصفها في القرآن وأنها العروة الوثقى والكلمة الطيبة والكلمة الحسنى والمثل الأعلى – العلاقة بين مسألة الزواج والإكثار من النسل - مشروعية التعدد والتسليم لحكم الله , وشبهات أذناب الفرنج حوله – بديل التعدد المشروع عند الفرنج وأذنابهم
الخطبة الأولى
أما بعد: فقد بينا فيما مضى أن لا إله إلا الله إنما ينتفع بها صاحبها بسبعة شروط ذكرناها على سبيل الإجمال وهى العلم بمعناها واعتقاد واليقين في هذا الاعتقاد والصدق فيه والإخلاص والانقياد والمحبة، أي محبة معنى هذه الكلمة ومدلولها ومحبة أهلها العاملين بها وعلى رأسهم الأنبياء والمرسلون وعلى رأس الأنبياء والمرسلين خاتمهم وإمامهم سيدنا محمد هذه هي الشروط السبعة بيناها على وجه الإجمال .. ولنبدأ منذ اليوم بعون الله عز وجل بيانها على وجه التفصيل.
فنبدأ بالشرط الأول الذي هو العلم بمعنى لا إله إلا الله.
يجب عليك يا مسلم أن تعلم معنى لا إله إلا الله ومدلولها حتى تعتقده وتستيقنه وتعمل به وتعمل بمقتضاه أما إذا لم تعلم معناها ماذا تعتقد إذن وماذا تستيقن وتعمل به وتعمل بمقتضاه ، يجب عليك يا مسلم أن تعلم معنى لا إله إلا الله ولو على سبيل الإجمال ولكن كما أنه لا يستوي من يعلم معنى لا إله إلا الله ومن لا يعلم معناها فإنه لا يستوي أيضًا من يعلم معناها على وجه الإجمال، ومن يعلم معناها على وجه التفصيل: قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولوا الألباب [الزمر:9].
فعموم المسلمين عليهم أن يعلموا معنى هذه الكلمة ولو على وجه الإجمال. إذ ليس كل أحد يقدر على أن يعرف التفصيل.
أما علم التفصيل فالغالب أنه يختص به العلماء، فالعلماء يعلمون من أسرار هذه الكلمة ومدلولاتها ما يزيد خشيتهم لله عز وجل وتعظيمهم له وحبهم له، وخوفهم من عقابه وحسابه، قال سبحانه: إنما يخشى الله من عباده العلماء [فاطر:28].
أتراه يريد العلماء بالنحو أو الشعر، العلماء بالفيزياء أو الكيمياء العلماء بالهندسة أو الطب كلاّ إنما أراد في هذه الآية العلماء بـ "لا إله إلا الله" هؤلاء العلماء هم الذين يصفهم الرب في كتابه بهذا الوصف دائمًا، ويسميهم أولي العلم وأهل العلم وقد قرن شهادتهم بشهادته عز وجل وشهادة ملائكته في قوله سبحانه: شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم [آل عمران:18].
عليك يا مسلم أن تعلم أن لا إله إلا الله هي العروة الوثقى التي ذكرها الله عز وجل في قوله: فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها [البقرة:256].
وهى العهد الذي ذكره في قوله: لا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا [مريم:78]. وهى كلمة الحق التي ذكرها في قوله عز وجل: ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة إلا من شهد بالحق وهم يعلمون . وهى كلمة التقوى المذكورة في قوله عز وجل: وألزمهم كلمة التقوى وكانوا أحق بها وأهلها [الفتح: 27].
وهى الكلمة الطيبة المذكورة في قوله عز وجل: ضرب الله مثلاً كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء [إبراهيم: 24].
فأصل هذه الكلمة "لا إله إلا الله" أصلها الذي هو الإيمان ثابت في قلب كل مؤمن وفرعها الذي هو العمل الصالح في السماء صاعد إلى الله عز وجل.
وهذه الكلمة هي الحسنى المذكورة في قوله سبحانه: فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى [الليل: 5-7] وهى الحسنة على أحد التفسيرين هي الحسنة المذكورة في قوله عز وجل: من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها [الأنعام:160]. قاله زين العابدين وإبراهيم النخعي رحمهما الله.
وعن أبي ذر رضى الله عنه مرفوعًا إلى النبي قال: ((هي أحسن الحسنات وهى يمحو الله بها الذنوب والخطايا ويمحو الله بها الذنوب والخطايا))[1].
وهى المثل الأعلى المذكور في قوله عز وجل: ولله المثل الأعلى في السموات والأرض
[النحل:60].
قاله قتادة ومحمد بن جرير ورواه مالك عن محمد بن المنكدر رحمهم الله.
ثم اعلم أن لا إله إلا الله هي سبيل النجاة حقق معناها واستوفِ شروطها واعمل بمقتضاها ثم أبشر بعد ذلك بالنجاة فقد أخرج الإمام مسلم في صحيحه أن النبي سمع مؤذنًا يقول: أشهد أن لا إله إلا الله فقال : ((خرجت من النار))[2]. صدق رسول الله .
هذه الأوصاف الكثيرة المتنوعة في القرآن الكريم التي وصف الله بها هذه الكلمة العظيمة كلمة الشهادة ومفتاح دار السعادة: "لا إله إلا الله" أراد الله جل جلاله بها تنبيه العباد إلى عظم قدر هذه الكلمة وجلال معناها فهي مدار رسالات الرسل وما أنزل عليهم من وحي وكتب ما بعث الله نبيًا ولا رسولاً في أي أمة من الأمم إلا وصلب رسالته وجوهر دعوته لا إله إلا الله، قال الله عز وجل: وما أرسلنا قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون [النحل:25] وقال سبحانه وتعالى: ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت [النحل:36] وهذا هو معنى لا إله إلا الله، عبادة الله وحده والكفر بالطاغوت.
وسنبين إن شاء الله تعالى في الجمعة القادمة شيئًا مما في معناها من النفي والإثبات أقول هذا واستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[2] صحيح مسلم (382) عن أنس بن مالك رضي الله عنه.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد: لماذا أثرنا مسألة الزواج والتعدد، بينما كان حديثنا عن الأولاد وتربية الأولاد، كان ذلك لأمور منها الصلة الوثيقة بين إكثار النسل والاستكثار من الذرية والأولاد التي دعانا إليها الحبيب المصطفى وبين مسألة الزواج والتعدد ومنها أننا أردنا تنبيه أخواتنا المؤمنات إلى شرط الانقياد ومقتضى الاعتقاد وثمرة اليقين في لا إله إلا الله.
فالمؤمنة التي تعلم معنى لا إله إلا الله وتعتقده وتؤمن به وتستيقنه وتنقاد لمدلوله ومقتضاه كالمؤمنة التي هذا حالها لا تشك في أي حكم من أحكام الله عز وجل ولا تناقشه أو تعانده، والله سبحانه الخبير بعباده قد شرع لنا شريعة الزواج مطلقًا ولو بواحدة وجعله واجبًا على كل قادر.
ثم شرع شريعة التعدد، حكم التعدد وجعله سنة وعزيمة ندب إليه القادرين عليه من أهل الوفاء والعزيمة والعدل، إنه ولو لم يوجب هذه السنة عليهم لكنه ندبهم إليها ورغبهم فيها والله عز وجل إذا حكم بحكم، بالمؤمن والمؤمنة يعلمون جميعًا أن في حكم الله العدل والرحمة، وفيه المصلحة كل المصلحة.
يجب أن تعلم المؤمنة أن التعدد حكم نص الله عليه في كتابه وفعله حبيبه المصطفى ولو كان في التعدد أي ظلم للمرأة أو بخس لحقها ما حكم الله به ولا فعله الحبيب المصطفى ونحن هنا لسنا بصدد تبرير هذا الحكم وبيان ما يترتب عليه من مصالح وإنما نريد أن نشير إلى أنه مما دفعنا إلى إثارة هذه المسألة ما لاحظناه أخيرًا من أن هناك في مجتمعاتنا أصواتًا خبيثة للمنافقين أذناب الإفرنج بدأت ترتفع لتصور للمؤمنين والمؤمنات لتصور لهم شريعة التعدد على أنها ظلم للمرأة وقهر للزوجة الأولى صرنا نطالع ذلك أحيانًا في بعض الصحف والمجلات وقد نشاهده في بعض المسلسلات التليفزيونية أو التمثيليات والبرامج الإذاعية وربما ألف أذناب الإفرنج في ذلك كتبًا، أو قصصًا وربما أنشأوا من أجله جمعيات ماذا يريد أذناب الإفرنج أذناب أمريكا وأوربا، أذناب اليهود والنصارى، ما هو البديل عندهم للتعدد الشرعي الذي شرعه الله عز وجل، البديل عند أذناب الإفرنج هو الانحلال والإباحية فبدلاً من تعدد الزوجات الشرعي تعدد الزوجات معززات مكرمات لأن الشرع وإن أباح للزوج أن يتزوج بأكثر من امرأة فإنه ضمن للمرأة حقها فألزم الرجل بالعدل بينهن، وأداء حقوقهن، البديل لهذا عند أذناب الإفرنج هو تعدد الخليلات والعشيقات والمومسات أي الفساد العريض والفتنة الكبرى.
دمار الأخلاق وضياع الأنساب والأعراض وانتشار الجرائم وخاصة جرائم الفواحش والزنا والاغتصاب كما هو المشاهد الملموس في بلاد الإفرنج وما لحقها من بلاد المسلمين، هذا هو البديل عند أذناب الإفرنج لحكم الله عز وجل.
فأين يكمن العدل وأين تكمن المصلحة، يا مؤمنة ويا مؤمن أهو في هذا البديل الذي يريده ويدعو إليه ويخطط له المنافقون من أذناب الإفرنج في مجتمعاتنا يريدون زوجة واحدة ينصرف عنها زوجها إلى عشرات الخليلات، ومئات المومسات كما هو المشاهد الملموس في بلاد الغرب، في أمريكا وأوربا وغيرها من البلاد الإفرنجية.
وتلك الحكومات التي حرمت التعدد الشرعي، حرمت التعدد الشرعي في بلادها أباحت في مقابل ذلك البغاء بشكل مباشر أو غير مباشر، وفتحت المجال للمومسات، أين يكمن العدل وتكمن المصلحة أيها المؤمنون والمؤمنات، ومتى هي المرأة مظلومة مقهورة أتحت ظل حكم الله عز وجل؟ أم تحت ظل هذا البديل الخبيث الذي يدعوها إليه أذناب الإفرنج؟. قال الله عز وجل: والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلاً عظيمًا [النساء:27].
أن تميلوا عن منهج شرع الله وعن حكم الله وعن فطرة الله التي فطر الناس عليها هذا هو ما يريده أتباع الشهوات وحبيس الشهوات من أتباع الإفرنج: يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفًا [النساء:28].
أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدى هدى محمد وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وعليكم أيها المسلمون بالجماعة والجماعة هي التمسك بالكتاب والسنة ولو كنا قلة على ذلك ومن شذ شذ في النار.
يا ابن آدم أحبب ما شئت فإنك مفارقه واعمل ما شئت فإنك ملاقيه وكن كما شئت فكما تدين تُدان.
ثم صلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال جل من قائل: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليمًا [الأحزاب:56].
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبي بكر الصديق وعمر الفاروق وذي النورين عثمان وأبي السبطين علىّ وعن آل بيت نبيك الطيبين الطاهرين، وعن أزواجه أمهات المؤمنين وعن الصحابة أجمعين والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. وعنا معهم بمنك وكرمك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
ـــــــــــــــــــ(68/221)
سر التوحيد وحقيقته (9)
...
...
841
...
الأسرة والمجتمع, التوحيد
...
...
الأبناء, شروط التوحيد
...
عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري
...
...
المدينة المنورة
...
...
...
قباء
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- معنى العبادة وأقسامها 2- العبادة لله حق من حقوقه علينا 3- ترك عبودية الله يجعل العبد عبداً للهوى 4- كيفية الاستسلام لله 5- دور الآباء في التربية 6- مخاطر السفر للخارج 7- غياب القدوة من أذهان شبابنا 8- ضرورة تنشئة الابن على محبة السلف وبُغض الحرام
الخطبة الأولى
أما بعد: لا إله إلا الله معناها توحيد الله بالعبادة، أن تعبده وحده ولا تشرك به أحدًا، والعبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضى من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة، فمن الأفعال الظاهرة الإقرار بالتوحيد وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت، ومنها أيضًا دعاؤه سبحانه واستغفاره وذكره وسؤاله والاستعانة به والذبح والنذر له والجهاد في سبيله.
ومن الأفعال الباطنة الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره ومنها أيضًا الأفعال الباطنة محبته سبحانه وتعالى وتعظيمه والخوف منه عز وجل، والتوكل عليه والحب والبغض فيه بموالاة أوليائه ومعاداة أعدائه فعلى العبد أن يتوجه إلى الخالق سبحانه وحده بهذه الأفعال، وبغيرها يجعل وجهته وقبلته إلى خالقه وحده سبحانه وتعالى: إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفًا وما أنا من المشركين [الأنعام:79].
إن العبادة من خصائص الإلهية، والله هو الإله الحق فوجب أن تصرف العبادة إليه دون غيره فهي حقه سماها سيدنا رسول الله حق الله في حديث معاذ بن جبل الذي في الصحيح قال له رسول الله : ((أتدري يا معاذ ما حق الله على العباد وما حق العباد على الله؟ قال معاذ: الله ورسوله أعلم. فقال : حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا، وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئًا))[1].
فالعبادة حق الله لأنه هو الإله الحق دون سواه سبحانه وتعالى فعليك أيها المسلم أن تصرف هذه العبادات إليه وحده سبحانه وتعالى فعليك أيها المسلم أن توحد الله عز وجل في العبادة.
إذا كانت المحبة والتذلل والخوف والرجاء لله عز وجل فقد عبدته لأن الإله هو الذي تألهه القلوب، أن تعبده تذللاً ومحبة وخوفًا ورجاءً بل إن أي شيء يتعلق به قلبك أيها الإنسان إلى أن يبلغ درجة المحبة والمذلة والخوف والرجال حتى تحب من أجل ذلك المحبوب وتبغض من أجله فقد عبدته.
ألم تر أن الله سبحانه وتعالى سمّى الهوى إلهًا في قوله: أفرأيت من اتخذ إلهه هواه [الفرقان:43]. أي ذلك الذي يفعل كل شيء يشتهي، كلما اشتهى شيئًا اقترفه، لا يردعه عن ذلك رادع فكل همه وشغله الشاغل هو هواه وشهوته حتى إنه ليبغض من أجلها ويحب من أجلها ويوالي ويعادي من أجلها، هذا عبد لهواه، هذا سماه الله عبدًا لهواه، وقد يكون الهوى في الدرهم والدينار نعم إن الإنسان يميل بطبعه إلى هذه الشهوة، شهوة تملك الدرهم والدينار ولكن هذا الميل إذا اشتد وزاد حتى صار محبة متسلطة في القلب تذل صاحبها لذلك المحبوب، الذي هو الدرهم والدينار وتتحكم في تصرفات الإنسان حتى يحب من أجلها ويبغض من أجلها ويوالي ويعادي من أجلها، فإنه حينئذ يكون عابدًا للدرهم والدينار هكذا سماه سيدنا رسول الله حين قال: ((تعس عبد الدينار تعس عبد الدرهم))[2].
محبة القلب وتذلله وخوفه ورجاؤه إذا كان لله فإن العبد حينئذ يكون حبه وبغضه في الله وموالاته ومعاداته في الله، وتكون أقواله وأفعاله وحركاته وسكناته صلاته وذبحه ومحياه ومماته كل ذلك يكون لله وعنوان هذا كله أن تقول أنه وجّه وجهه لله وحده وجَّه وجهه لخالقه وفاطره سبحانه، وحده لا شريك له.
أو نقول أسلم وجهه وقلبه لله، نقول كما قال سيدنا رسول الله أسلم وجهه وقلبه لله فإسلام الوجه معناه أن جميع تصرفات الجوارح تكون لله عز وجل.
وإسلام القلب معناه أن يكون جميع تصرفات القلب لله وحده فإذا كان هذا الإسلام تامًا كاملاً بأن يكون سليمًا من شوائب الشرك الأكبر المنافي لجميعه أو شوائب الشرك الأصغر المنافي لكماله أو مكدرات المعاصي والذنوب المحبطة لثمراته من الأعمال الصالحات والطاعات والخيرات، إذا كان إسلام الوجه والقلب سليمًا من كل هذه الشوائب فقد حقق العبد معنى لا إله إلا الله أتم تحقيق وأكمله.
أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم. بسم الله الرحمن الرحيم: قل إن صلاتي ونسكي ومحياى ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أُمرت وأنا أول المسلمين [الأنعام:163].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الذكر الحكيم أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] صحيح البخاري (7373)، صحيح مسلم (30) عن معاذ بن جبل رضي الله عنه.
[2] صحيح البخاري (2887، 6435) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين أما بعد ..
فيا أيها الآباء أولادكم أمانة في أعناقكم ومسئوليتكم اليوم في تربيتهم أعظم وأشد وجوبًا لأن أسباب الانحراف المغريات بالفساد الملهيات عن ذكر الله عز وجل تحيط بهم من كل جانب. نحن في عصر الفتن والفساد.
دهاقنة الفساد في العالم لم يكتفوا بما أوصلوه من أسباب إلى حد منزلك أيها الأب المسلم، فما لا يستطيع إيصاله إلى منزلك فإنهم ييسرون أسباب السفر إليه لولدك فيشدون رحلهم إلى الشرق والغرب ليعبوا من فساد الشرق والغرب وقاذورات الشرق والغرب، ثم يجدوا من يخفض لهم نفقات السفر وينظم لهم برامج السفر ويشجعهم على ذلك، أيها الأب المسلم لا تترك ولدك يلقي بنفسه في لهيب النار ليحترق وأنت تنظر إليه.
لا تترك ولدك يشد رحله إلى فساد الشرق والغرب فإنه سيرجع إليك خربًا مدمرًا قد تحمل قلبه من الفسوق والزيغ ما أتلفه إيمانيًا.
وتحمل جسمه من الجراثيم والمكروبات من جراثيم الشرق والغرب ما دمره صحيًا لو أهملت ولدك يا أيها الأب المسلم فإنه قد ينشأ ويترعرع وهو لا يعرف رسول الله ولا يعرف أصحابه الكرام الأبطال الحقيقيين.
لا يعرف أبا بكر وعمر، لا يعرف خالد بن الوليد ولا أسامة ولا أسماء بنت أبي بكر ولا ابنى عفراء الشابين الأنصاريين الذين قتلا عدو الله أبا جهل يوم بدر. لكنه يعرف الراقصين والراقصات والمغنين والمغنيات والمومسين والمومسات والمطربين والمطربات والممثلين والممثلات ماذا يمكن أن تستفيد الأمة من جيل قدوته وأسوته ومثله الأعلى المومسون والمومسات من قوادين وحشاشين وزناة، ماذا يمكن أن تستفيد الأمة من ناشئة هذا هو أسوتهم ومثلهم الأعلى، كما علموهم دهاقنة الفساد الذين يحيطون بهم من حولهم.
يا أيها الأب المسلم تتساءل ماذا تصنع؟ الأمر بيدك الحل جعله الله في يدك فقد جعلك الله راعيًا مسئولاً عن رعيتك. أنت المسئول عن رعيتك الذين هم أهلك وزوجك وولدك، أنت الراعي لهم قبل غيرك.
فعليك أن تبدأ بولدك وهو صغير أول ما يميز تلقنه لا إله إلا الله وتعرفه بربه عز وجل وتعزز في قلبه حب الله والخوف من عقابه، حتى إذا ما نما أكثر وأدرك وميز أكثر فعلمه تلاوة القرآن وعلمه الصلاة وحفظه بعضًا من سور القرآن الكريم، ولقنه مغازي سيدنا رسول الله وسير الأبطال الحقيقيين أصحابه الكرام قص على ولدك يا أيها الأب المسلم وهم صغار سير الأبطال الحقيقيين محمد رسول الله وأبي بكر وعمر وعثمان وعلى وخالد بن الوليد وأسامة بن زيد وذات النطاقين وفاطمة البتول وأم عمارة المرأة التي وقفت بين يدي رسول الله في أحد تنافح عنه بسيفها عندما فر الأبطال من حوله إلا قليلاً.
قص على ولدك سير هؤلاء حتى يترعرع وينشأ وقد انطبعت وانغرست في ذهنه ومخيلته هذه الصور النقية المباركة فيكون هؤلاء الكرام قدوته وأسوته ومثله الأعلى فيحاول حينئذ أن يتشبه بهم حينئذ فقط يكون إنسانًا سويًا، يكون مسلمًا مستقيمًا.
يا أيها المسلم هذه قواعد إسلامية لتربية أولادنا فاحرص عليها اعتني أنت بنفسك بهذه القواعد بتربية أولادك بغرس التوحيد في نفوسهم بتعليمهم تلاوة القرآن، بتلقينهم مغازي رسول الله وأصحابه الكرام بتعليمهم الصلاة والعبادات، بتعليمهم الصيام.
واحرص على أن تعلّم ولدك لذة الامتناع عن الشراب والطعام من أجل الله عز وجل قم أنت بنفسك بهذا الواجب ولا تتكل على المدرسة فإن المدرسة وحدها لا تستطيع أن تربي ولدك ولا تترك أولادك فريسة للشاشات الفضية الخبيثة ولا لرفاق السوء ولا لوكالات السفر فإن هذا الثالوث الخبيث، هذا هو الثالوث المدمر لناشئة المسلمين.
أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدى هدى محمد وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار، وعليكم أيها المسلمون بالجماعة فإن يد الله على الجماعة ومن شذ شذ في النار واعلموا أن الجماعة هي التمسك بالكتاب والسنة وإن كنتم قلة على ذلك.
يا ابن آدم أحبب ما شئت فإنك مفارقه واعمل ما شئت فإنك ملاقيه وكن كما شئت فكما تدين تُدان ثم صلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليمًا [الأحزاب:56].
وقال : ((من صلى على واحدة صلى الله عليه بها عشرا))[1].
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبي بكر الصديق وعمر الفاروق وذي النورين عثمان وأبي السبطين على وعن آل بيت نبيك الطيبين الطاهرين وعن أزواجه أمهات المؤمنين وعن الصحابة أجمعين والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين
[1] صحيح مسلم (408) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
ـــــــــــــــــــ(68/222)
سر التوحيد وحقيقته (12)
...
...
844
...
الأسرة والمجتمع, التوحيد
...
...
الأبناء, الشرك ووسائله
...
عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري
...
...
المدينة المنورة
...
2/9/1409
...
...
قباء
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
أثر الإيمان بـ لا إله إلا الله , وفهم مدلولاتها , وأحوال أهل الشرك – أسباب الشرك : 1- مصالح خبيثة , وأهواء نجسة للطواغيت 2- الجهالة العمياء من الأتباع – أحوال القبوريين والمشركين الأُوَل – مسألتان مهمتان في تربية الأبناء : 1- حرص السلف على تدريب الأولاد على العبادات 2- تعليم الأولاد الصدق وتجنيبهم الكذب , والتزام الأبوين هم بذلك
الخطبة الأولى
أما بعد: فقد كان من سنة رسول الله أن يبشر أصحابه بقدوم هذا الشهر الكريم فنبشر إخواننا المؤمنين بشهر رمضان المبارك أبشروا فيه باليمن والبركة.
نسأل الله تعالى أن يعيننا جميعًا على صيامه وقيامه وأن يجعلنا فيه من عتقاءه من النار. أما بعد فيا مؤمن يا موحد اعلم أن نعمة لا إله إلا الله نعمة كبرى من أعظم النعم التي أنعم الله بها علينا، فإن الإيمان بلا إله إلا الله مع فهم مدلولها ومقتضاها يخرج الإنسان من ظلمات الجهالة الجهلاء وظلمات الضلالة العمياء يخرجه من جهالة الشرك وضلالة الوثنية إلى نور التوحيد وضيائه.
ومن أراد أن يعلم عظم قدر هذه النعمة. نعمة التوحيد التي وفقه الله إليها فليتأمل حال أهل الشرك وليقرأ شيئًا من أخبار أهل الوثنية.
من أراد أن يعرف عظم قدر هذه النعمة، فليطلع على أحوال أهل الشرك وليسمع شيئًا من أخبار أهل الوثنية، أهل الشرك لا عقل لهم ولا تفكير قد تعطلت عقولهم، وإلا لما عدلوا عن اللطيف الخبير وذهبوا يلتمسون آلهة أخرى يعبدونها من دون الله ولو كان لهم عقل وتفكير لما سووا بين تلك الآلهة وبين رب العالمين حتى إذا كانوا يوم القيامة ووقفوا بين يدي الجبار عز وجل وتكشفت لهم الأمور والحقائق صاحوا نادمين لما شاهدوا آلهتهم وأصنامهم لا تغني عنهم من الله شيئًا صاحوا نادمين: تالله إن كنا لفي ضلال مبين إذ نسويكم برب العالمين [الشعراء:97]. والشرك في الناس تهيأ له سببان خبيثان:
أولهما: مصالح خبيثة وأهواء نجسة لطواغيت الشرك ورؤوس الفتنة والضلالة ما شاهدوا آلهتهم وأصنامهم لا تغني عنهم من الله شيئًا.
وثانيهما: الجهالة العمياء الجهالة الجهلاء والضلالة العمياء من الأتباع. فالشرك له سدنته من الطواغيت ورؤوس الفتنة يزينون للناس يزينون للجهال الكفر والبدعة والضلالة ويستدرجونهم إلى الشرك إلى حبائل الشرك وأسوأ أولئك الطواغيت أثرًا وأعظمهم ضررًا أولئك الذين لبسوا مسوح الدين وتظاهروا بالصلاح والولاية بين العالمين ثم عكفوا عند الأضرحة والقبور يزينونها بأنواع الزينات ويسرجونها بأصناف الشموع والسرج، ويبخرونها بأنواع البخور ويصنعون عندها من التهاويل والتصاوير والزخارف ما يخلعون به قلوب الجهال ويسيطرون على قلوبهم، فيستغلونهم ويسخرون لمآربهم وأهواءهم وشهواتهم ومصالحهم الشخصية.
والجهال من وقع في الشرك من الجهال قد تعطل عقله لا عقل عنده ولا تفكير. ولذلك يؤخذ بتلك المظاهر الزائفة والأشكال والقوالب البراقة.
فتفعل فعلها في نفسه ولولا أن الجاهل الذي وقع في الشرك لم يستعمل عقله ما أمكن لأولئك الشياطين شياطين الإنس والجن أن يستغلوهم ويسخروهم ويتلاعبوا بعقولهم بتلك الوسائل والمظاهر الزائفة. يقول الإمام الشوكاني رحمه الله في كتاب "الدر النضيد مسائل التوحيد" جاء رجل من الجهال إلى القبة المصنوعة على قبر الإمام أحمد بن الحسين صاحب ذي بين، فلما جاء هذا الجاهل إلى تلك القبة إلى ذلك الضريح فرأى ما فيها ووقف عند باب القبر قال مناديًا لصاحب القبر: أُمسيت بالخير يا أرحم الراحمين. فالشرك جهالة جهلاء وضلالة عمياء فاحمد ربك يا مؤمن يا موحد إذ أنقذك الله من ربقة تلك الجهالة ومن حفرة تلك الضلالة، ماذا كان المشركون من العرب قبل الإسلام يعبدون، كانوا يعبدون الأحجار والأشجار، كانوا يعبدون الأصنام من الحجر أو من الخشب أو حتى من التمر فكان بعض العرب له صنم من تمر يعبده حتى إذا جاع وقرصه الجوع أكله، يقول أبو عثمان النهدي رضي الله عنه: كنت في الجاهلية أعبد حجرًا فإذا بنا في يوم نسمع مناديًا ينادي يا أهل الرحال هلك ربكم فالتمسوا ربا، أي ضاع صنمكم الذي تعبدونه فابحثوا عن صنم آخر.
قال: فخرجنا على كل صعب وذلول نلتمس ربًا فبينما نحن كذلك نطلبه إذ سمعنا مناديًا آخر ينادي: قد وجدنا ربكم أو شبه ربكم فرجعنا فإذا حجر فعبدناه وعكفنا عنده ونحرنا عليه الجزور.
وقال عمرو بن عبسة رضي الله عنه: كنا في الجاهلية نعبد الأحجار وكان الحي إذا نزل منزلاً وليس معهم إله يعبدونه أي ليس معهم صنم يذهب الرجل يخرج الرجل فيأتي بأربعة أحجار يجعل ثلاثة منها أثافى لقدره، يجعلها أثافى يضع عليها قدره الذي يطبخ فيه طعامه، والحجر الرابع يختاره أحسنها وأجودها يختاره إليه يعبده وربما وجد قبل أن يرتحل حجرًا آخر أحسن منه فيترك الأول ويعبد الثاني.
فالحمد لله على نعمة التوحيد. وكان عمرو بن الجموح سيدًا من سادات بني سلمة وبنو سلمة من قبائل هذه المدينة النبوية، كان عمرو بن الجموع قبل إسلامه كان في جاهليته قد اتخذ صنمًا من خشب يسمى مناة، وأسلم فتيان من بني سلمة منهم معاذ بن جبل، ومعاذ بن عمرو بن الجموع ابنه وآخرون.
فكانوا يدلجون من الليل على صنم عمرو وهو نائم فيأخذونه فيطرحونه في حفرة من حفر بني سلمة فيها أوساخهم وعذراتهم يطرحونه منكسًا على رأسه في تلك الحفرة فلما أصبح عمرو بن الجموع فلم يجد صنمه، قال: ويلكم من عدا على آلهتنا الليلة ثم خرج يلتمس صنمه حتى إذا وجده أخذه فغسله وطهره وطيبه ثم أعاده إلى مكانه وقال له: والله لو أعرف من يصنع بك هذا الأخزية لنكلت به ولما عاد إلى نومه في الليلة التالية عاد الفتيان فعدوا على صنمه فصنعوا به مثل ذلك فلما طال عليه هذا الحال استخرج صنمه من المكان الذي ألقوه فيه فغسله وطهره وطيبه ثم أعاده إلى مكانه وأتى بسيفه وعلقه عليه وقال له: والله لا أدري من يصنع بك ما ترى فإن كان فيك خير فامتنع يعني احم نفسك فهذا السيف معك. ثم ذهب ونام فجاء الفتيان المؤمنون الموحدون فأخذوا صنمه وسيفه فقرنوه مع كلب ميت في حبل ثم ألقوهما في بئر من آبار بني سلمة فيها أوساخهم وعذراتهم فلما استيقظ عمرو بن الجموع فلم يجد صنمه ذهب يلتمسه حتى إذا وجد في تلك البئر منكسًا على رأسه في تلك الحال الخبيثة القبيحة تكشف له الحال، فأبصر حقيقته فأسلم رضي الله عنه وحسن إسلامه وقال مخاطبًا ذلك الصنم ..
والله لو كنت إلهًا لم تكن أنت وكلب وسط بئر في قرن
أي موثوقًا بحبل. فاحمد الله يا مؤمن يا موحد على نعمة التوحيد. احمده سبحانه على أن هداك للتوحيد، وأحمده سبحانه على أن جعلك من أهل لا إله إلا الله واحرص إيمانك احرص توحيدك من وساوس الشياطين ومن وساوس طواغيت الشرك، ورؤوس الفتنة والضلالة.
الحمد لله الذي هدانا لنعمة الإسلام. الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، لقد جاءت رسل ربنا بالحق.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول هذا واستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد. ففي مجال تربية الأولاد. من المهم جدًا أن تعرف أيها الأب المسلم وأيتها الأم المسلمة أن تعرفوا مسألتين:
أولهما: أن سلفكم أصحاب رسول الله كانوا يدربون صغارهم يدربون أولادهم الصغار على العبادات منذ صغرهم حتى قبل أن يبلغوا سن التكليف وقد أشرنا فيما مضى إلى أمر النبي للآباء بأن يعلموا أولادهم الصلاة لسبع ويضربوهم عليها لعشر وكان من سنة أصحاب رسول الله أنهم يدربون أولادهم الصغار على الصيام إذا جاء رمضان ويلهونهم باللعب إذا قرصهم الجوع وذلك على قدر ما يطيق هؤلاء الصغار.
والمسألة الثانية: أن تعلموا أن هناك قاعدة إسلامية تربوية عظيمة هي أن تعلموا أولادكم الصدق منذ الصغر وتجنبوهم الكذب وتحذروهم من الكذب.
فهذه القاعدة الإسلامية التربوية العظيمة كرسها سيدنا رسول الله بقوله: ((إن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يُكتب عند الله صديقًا، وإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يُكتب عند الله كذابًا))[1].
فهذه قاعدة عظيمة في التربية الإسلامية: الصدق. كن أيها الأب وكوني أيتها الأم من الصادقين تحري الصدق وعلمي طفلك الصغير الصدق، فإن هذه الخصلة العظيمة تهديه إلى باقي الأخلاق إلى أحسن الأخلاق وأفضل العبادات وتقوم سلوكه كلما نشأ وترعرع، وتعلمه الشجاعة المعنوية، ومواجهة المواقف.
أما الكذب فإنه شر على الصغير والكبير فاحرص أيها الأب واحرصي أيتها الأم ألا تكذبوا أمام صغاركم. لا يتعلمون منكم الكذب ولا تحقرون شيئًا من الكذب مهما قل شأنه وصغر مقداره فإن الكذب يعتبر كذبًا في عرف الشرع، مهما قل شأنه ومهما صغر مقداره، الكذب يكتب كذباً في عرف الشرع.
عن عبد الله بن عامر رضى الله عنه قال: نادتني أمي يومًا ورسول الله قاعد في بيتنا فقالت: ها تعال أعطك فقال لها رسول الله : ((ما أردت أن تعطيه؟ قالت أردت أن أعطيه تمرة فقال : أما إنك إن لم تعطهِ شيئًا كُتبت عليك كذبة))[2].
فانظر إلى هذه الدقة العظيمة في التربية الإسلامية النبوية. إذا قلت لولدك: تعال أعطيك شيئًا وأنت لا تريد إعطاءه شيئًا كُتبت عليك من الكذب أي سجل عليك إثمها ووزرها لأنها تعد من الكذب وإن قل شأنها في عينيك وإن ظننت أنها قليلة الشأن صغيرة المقدار.
وإذا قلت لولدك الصغير: قل لهذا الطارق الذي يطرق الباب إني غير موجود وأنت موجود سُجلت عليك كذبًا وكُتب عليك إثمه ووزره، هذا بالإضافة لما اقترفته من إفساد ولدك وتعليمه الكذب.
فيا أيها الأب المسلم وياأيتها الأم المسلمة اتقوا الله وكونوا من الصادقين وعلموا أولادكم الصغار الصدق، فإن الصدق يهديكم إلى أقوم الأخلاق كما أخبرنا بذلك سيدنا رسول الله .
أما بعد فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدى هدى محمد وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة. وعليكم أيها المسلمون بالجماعة فإن يد الله على الجماعة ومن شذ شذ في النار.
واعلموا أن الجماعة هي التمسك بالكتاب والسنة ولو كنا قلة على ذلك.
يا ابن آدم أحبب ما شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك ملاقيه وكن كما شئت فكما تدين تُدان، ثم صلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله في كتابه المبين فقال جل من قائل إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليمًا [الأحزاب: 56].
وقال : ((من صلى علىّ واحدة صلى الله عليه بها عشرًا)) اللهم صلي على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد. وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد. وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبي بكر الصديق وعمر الفاروق وذي النورين عثمان وأبي السبطين علىّ وعن آل بيت نبيك الطيبين الطاهرين وعن أزواجه أمهات المؤمنين وعن الصحابة أجمعين والتابعين بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بمنك وكرمك وجودك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
[1] صحيح البخاري (6094) ، صحيح مسلم ( عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
[2] مسند أحمد (3/447) ، سنن أبي داود (4991) عن عبد الله بن عامر رضي الله عنه.
ـــــــــــــــــــ(68/223)
سر التوحيد وحقيقته (14)
...
...
845
...
الأسرة والمجتمع, التوحيد
...
...
شروط التوحيد, قضايا الأسرة
...
عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري
...
...
المدينة المنورة
...
27/9/1409
...
...
قباء
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
كلام وهب بن منبه لمن قال له : أليس لا إله إلا الله مفتاح الجنة , ودلالة كلامه – أسنان مفتاح " لا إله إلا الله " أداء الفرائض والواجبات واستيفاء الشرائط واجتناب النواقض – اجتناب المعاصي والمحرمات من أسباب سلامة القلب – ليس المراد بلا إله إلا الله مجرد التلفظ بها والأحاديث في البشارة مقيدة بالأحاديث الأخرى في استيفاء شروطها وانتفاء نواقضها دور الماسونيين في تحديد نسل المسلمين – الدعوة إلى التكاثر من سنة سيد المرسلين
الخطبة الأولى
أما بعد:من مات على التوحيد دخل الجنة لأن شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله هي مفتاح الجنة. ما معنى ذلك ؟
روى البخاري في صحيحه تعليقًا عن وهب بن منبه رحمه الله أنه قيل له: أليس لا إله إلا الله مفتاح الجنة ؟ قال: بلى ولكن ليس مفتاح إلا له أسنان فإن جئت بمفتاح له أسنان فُتح لك وإلا لم يفتح لك.
مقصوده رحمه الله أن شهادة لا إله إلا الله ليست مجرد كلمة تُقال باللسان فينجو بها قائلها حتى ولو لم يؤد فرائضها ويستوف شرائطها ويسلم من نواقضها ومفسداتها. حتى ولو لم يسلم من نواقضها ومبطلاتها هي المفتاح والمفتاح لا يعمل إلا بأسنان. وأسنان هذا المفتاح لا إله إلا الله هي أداء الفرائض والواجبات واستيفاء الشروط واجتناب النواقض والمفسدات ثم بعد ذلك كلما استزاد المسلم من الأعمال الصالحات كانت أسنان مفتاحه أجود، وكلما ابتعد عن المحرمات والمنكرات كان ذلك أسلم لمفتاحه.
ولذلك قال الحسن البصري رحمه الله لما قيل له إن قومًا يقولون: من قال لا إله إلا الله دخل الجنة. قال الحسن رحمه الله: من قال لا إله إلا الله وأدى حقها وفرضها دخل الجنة، وروي عنه أيضًا أنه قال لرجل ذكر شهادة أن لا إله إلا الله فقال له الحسن: هذا هو العمود فأين الطُنُب ومراده رحمه الله أن شهادة أن لا إله إلا الله هي عمود فسطاط الإسلام خيمة الإسلام، عمودها لا إله إلا الله وكما أن الفسطاط لا يقوم إلا على العمود فإنه لا يثبت إلا بالطنب والطنب هنا هي الفرائض فرائض لا إله إلا الله. وهى التي يجب أن تستوفي والمحرمات التي يجب أن تُجتنب، فإن اجتناب المحرمات ضروري لسلامة هذا العمود. لذلك قال الحسن رحمه الله للفرزدق الشاعر المشهور الذي كان يشبب بالنساء في شعره ويذكرهن في شعره وكان أحيانا يباهى في شعره بفعل الفواحش قال له الحسن رحمة الله: إن للا إله إلا الله شروطًا فإياك يا فرزدق وقذف المحصنات. إياك يا فرزدق وقذف المحصنات. لم يرد الحسن رحمه الله أن قذف المحصنة بخصوصه يفسد لا إله إلا الله أو ينقض لا إله إلا الله لكنه ضربه مثالاً على أن اجتناب المعاصي والمحرمات من حيث المبدأ من الشروط لسلامة العمود عمود فسطاط الإسلام لا إله إلا الله ، وقد يبقى هذا العمود على الرغم من ارتكاب بعض المعاصي والمنكرات لكن ارتكاب تلك المعاصي يضعفه ويشتد ضعف هذا العمود كلما أمعن المسلم في ارتكاب المعاصي والمنكرات. حتى يكاد ينهدم بل ربما انهدم يطمس القلب والعياذ بالله. فإن الله عز وجل قد يعاقب المستخف للحرمات والمنكرات، قد يعاقب المستخف للمحرمات المرتكب للمعاصي والمنكرات يعاقبه بطمس قلبه فيفسد حينئذ إيمانه ويضرب عليه النفاق.
أردنا بهذا التنبيه على أن مقولة إن شهادة لا إله إلا الله هي مفتاح الجنة ليس معناها أن قائلها بمجرد التلفظ بها ينجو من النار ويدخل الجنة.
فقد أجمع العلماء على أن من نطق بالشهادة على أن من تلفظ بالشهادة ثم سجد لصنم أو أهان المصحف متعمدًا أنه كافر خارج من ملة لا إله إلا الله.
كما أنهم أجمعوا على أن من تلفظ بالشهادة لكنه لم يعتقد معناها لم يؤمن بمعناها أو شك في معناها أو سخر من مضمونها بأنه كافر خارج من ملة لا إله إلا الله محمد رسول الله.
إذن فليست هذه مجرد كلمة. ليس المراد هو مجرد التلفظ بها بل المطلوب مع التلفظ بها التلبس بحالة مخصوصة من أداء فرائضها وحقوقها واستيفاء شروطها واجتناب نواقضها ومفسداتها.
وسيدنا محمد في إجماله البشارة بالجنة لأهل لا إله إلا الله له تفصيل بينه في أحاديث أخرى وفي مناسبات أخرى، بين قبل ذلك فرائض لا إله إلا الله وشرائط لا إله إلا الله وحقوق لا إله إلا الله فإن البشارة للجنة على وجه الإجمال لأهل لا إله إلا الله كان في الغالب من أواخر كلامه حديث البشارة حديث أبي هريرة رضي الله عنه الذي أمره فيه النبي بأن يبشر كل من يشهد أن لا إله إلا الله مستيقنًا بها قلبه أن يبشره بالجنة[1] هو من أواخر كلامه فإن أبا هريرة رضي الله عنه أسلم في آخر حياة النبي أبو هريرة راوي حديث البشارة هذا أسلم في أواخر حياة النبي فإذن كان النبي قد بين قبل ذلك فرائض لا إله إلا الله وشرائطها وحقوقها ونواقضها ومفسداتها فلما اطمأن إلى أن أصحابه رضي الله عنهم قد فقهوا عنه ذلك أجمل لهم البشارة بالجنة على لا إله إلا الله معتمدًا على فهمهم لشرائطها وفرائضها وحقوقها وسوف نبين هذه المسألة بمزيد من التفصيل في الجُمع القادمة إن شاء الله تعالى أعوذ بالله من الشيطان الرجيم قل إنما أنا بشر مثلكم يوحي إلىّ أنما إلهكم إله واحد فاستقيموا إليه واستغفروه وويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم كافرون [فصلت: 6-7].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني الله وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] صحيح مسلم (31) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله اللهم صلّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين أما بعد. هتف هاتف الشياطين ونادى منادي الماسونيين ألا تتكاثروا يا معشر المسلمين، حددوا نسلكم وقللوا عددكم، وراق هذا النداء الماسوني الخبيث راق بعض الحكام من الظلمة الجائرين الذين تسلطوا على شعوبهم، فنهبوا خيراتها وضيعوا حقوقها وبددوا ثرواتها، حتى إذا فاحت روائح الظلم والفساد ولم تجد تلك الشعوب ما تستر به عوراتها وتسد به حاجاتها ذهب أولئك الطغاة الظلمة الجائرون يوارون فسادهم وظلمهم بهذه الدعوة الماسونية الخبيثة دعوة تحديد النسل.
أما أنت يا مسلم فإمامك وقائدك وحبيبك ونبيك سيدنا محمد يدعوك بعكس ما دعاك إليه الماسونيون وأذناب الماسونيين.
يدعوكم يا مسلمون إلى التكاثر كثروا نسلكم كثروا عددكم فالحبيب يقول لكم: ((تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأنبياء يوم القيامة[1]. وفي رواية مكاثر بكم الأمم))[2].
وعن معقل بن يسار قال جاء رجل إلى النبي فقال له: إني أصبت امرأة ذات حسن وجمال ولكنها لا تلد أفأتزوجها؟ فقال : لا فأتاه الثانية فنهاه فأتاه الثالثة فقال : ((تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم))[3].
يا مسلم لا تظن بالله الظنون، تظن أن الله يخلق خلقًا ولا يرزقهم، إن كل خلق يخلقه الله جل جلاله يُكتب رزقه معه وهو في بطن أمه ويكتب شقي هو أم سعيد، أما اليهود وأذناب اليهود أما الماسونيون وأذناب الماسونيين فيقولون لكم أيها المسلمون حددوا نسلكم لتنظيم أحوالكم الاقتصادية. حددوا نسلكم لإنعاش وإصلاح أحوالكم الاقتصادية.
إنهم يريدون إضعافنا فهم يعلمون أن من أهم أسباب القوة والمنعة والعزة في الأمم هي الثروة البشرية هي الكثرة، كثرة العدد هي من أهم أسباب القوة والمنعة وخاصة إذا كان مع هذه الكثرة عدل وحرص على العدل من الرعاة والرعية فإنها حينئذ تكون قوة ومنعة لتلك الأمة.
يا مسلم اعلم أن الذرية والولد خير لك إن عاشوا بعدك وإن ماتوا قبلك.
إن عاشوا بعدك فخير لك يلحقك بعد موتك باستغفارهم ودعائهم لك إن كنت قد أحسنت تربيتهم وعلمتهم ذلك.
فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي قال: ((يُرفع للعبد في درجته فيقول: أي رب أنى لي هذا؟ فيقول: باستغفار ولدك لك من بعدك))[4].
وثبت عن النبي أنه قال: ((إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية ، وعلم يُنتفع به ، وولد صالح يدعو له))[5].
وأحسن ما يكون للإنسان من النفع والخير والثواب من الذرية البنات إذا أحسن تربيتهن وأحسن إعالتهن فقد روى مسلم في صحيحه عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله : ((من عال جاريتين - أي من قام على بنتين أو أختين بالتربية - حتى يبلغا جاء يوم القيامة أنا وهو هكذا وضم أصبعيه ))[6].
وفي رواية: ((ما يكون لأحد ثلاث بنات أو بنتان أو أختان فيتقي الله فيهن ويحسن إليهن إلا دخل الجنة))[7].
وأما عن نفع الولد والذرية لك إذا ماتوا قبلك فقد روى مسلم في صحيحه عن أبي حسان قال: توفي لي ابنان. فقال لي أبو هريرة سمعت حديثًا عن رسول الله يطيب أنفسنا عن موتانا. فقال أبو هريرة رضي الله عنه: نعم صغارهم - أي صغار المسلمين - دعاميص أهل الجنة إذا لقي الولد أباه أو أبويه أخذ بطرف ثوبه أو يده فلا يفارقه حتى يدخله الله وأباه الجنة[8]، فهذا نفع عظيم وخير عظيم يشفع لك ولدك الذين ماتوا من قبلك حتى يدخلك الجنة ويدعو لك ولدك الذين عاشوا من بعدك ويستغفرون لك فيرفع الله لك درجتك بذلك.
فاحرص يا مسلم على المكاثرة بالذرية والولد كما دعاك إلى ذلك الحبيب المصطفى .
أما بعد:فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
وعليكم أيها المسلمون بالجماعة فإن يد الله على الجماعة ومن شذ شذ في النار.
يا ابن آدم أحبب ما شئت فإنك مفارقه واعمل ما شئت فإنك ملاقيه وكن كما شئت فكما تدين تُدان.
ثم صلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين سيدنا محمد فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال جل من قائل : إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليمًا [الأحزاب: 56].
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد. وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبي بكر الصديق وعمر الفاروق وذي النورين عثمان وأبي السبطين علىّ وعن آل بيت نبيك الطيبين الطاهرين وعن زوجاته أمهات المؤمنين وعن الصحابة أجمعين وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
[1] مسند أحمد (3/158، 245) عن أنس بن مالك رضي الله عنه.
[2] سنن أبي داود(2020) عن معقل بن يسار رضي الله عنه.
[3] سنن النسائي (3227).
[4] مسند أحمد (2/509) ، سنن ابن ماجة (3660) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[5] سنن الترمذي (1376) ، سنن النسائي (3651) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[6] صحيح مسلم (2631) عن أنس بن مالك رضي الله عنه.
[7] مسند أحمد (3/42)، سنن أبي داود (5147) سنن الترمذي (1912) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
[8] صحيح مسلم (2635) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
ـــــــــــــــــــ(68/224)
السحر والسحرة (1) والمرأة
...
...
849
...
الأسرة والمجتمع, التوحيد
...
...
الشرك ووسائله, المرأة, نواقض الإسلام
...
عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري
...
...
المدينة المنورة
...
2/5/1410
...
...
قباء
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
السحر , أثره , وصوره وحكمه في القرآن والسنة – من شُعَب السحر الاستعانة بالنجوم لمعرفة المُغَيبات ... – من لوازم الإيمان اللجوء إلى الله وحده – حكم من أتى كاهناً أو عرَّافاً - فضل المعوذتين وأثرها – خير متاع الدنيا المرأة الصالحة ووصفها , والأسباب التي تُنكح المرأة لأجلها
الخطبة الأولى
أما بعد: قال الله تعالى: ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبًا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلاً أولئك الذين لعنهم الله ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرًا [النساء:51-52].
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (الجبت هو السحر والطاغوت هو الشيطان) وقال جابر رضي الله عنه: (الطواغيت كُهّان كان ينزل عليهم الشيطان في كل حي واحد) - أي في كل حي من أحياء العرب واحد من هؤلاء الكهان - وقال سبحانه وتعالى: ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق [البقرة:102]. أي لقد علمت اليهود الذين استبدلوا السحر بمتابعة الرسول فضلوا اتباع الوسائل الشيطانية كالسحر على متابعة المصطفى والإيمان به.
لقد علموا أن من فعل ذلك ما له في الآخرة من خلاق أي ما له في الآخرة من نصيب وقد ثبت في القرآن أن السحر علم يتعلمه من لا خلاق له في الآخرة فيكفر بتعلمه وتطبيقه واستعماله، ويؤثر في الإنسان المسحور، إما بالتفريق بينه وبين زوجه، أو بقتله أو بإلحاق غير ذلك من أنواع الأذى به، ولا يستطيعون أن يفعلوا ذلك إلا بإذن الله، إلا إذا كان الله قد كتب ذلك على الإنسان المسحور وقدره، قال تعالى: واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أُنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله [البقرة:102].
فدلت هذه الآية على أن تعلم السحر واستعماله كفر، وهذا هو مذهب أكثر الأئمة ولهذا فإن عقوبة الساحر أو الكاهن عندهم هو القتل وهذا هو مذهب الصحابة. فقد ثبت عن جندب رضي الله عنه أنه قال، حد الساحر ضربة بالسيف. وثبت عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كتب إلى ولاته وأمرائه أن اقتلوا كل ساحر وساحرة، وقد قتلوا الصحابة ما وجدوا من السحرة والساحرات ثبت ذلك من فعلهم رضوان الله عليهم أجمعين.
وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله : ((اجتنبوا السبع الموبقات - أي السبع المهلكات - الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق وأكل الربا وأكل مال اليتيم والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات))[1].
فالسحر من السبع الموبقات وقد أورده رسول الله في هذا الحديث بعد الشرك بالله ومن السحر العيافة وهو زجر الطير، ومن السحر الطرق وهو الضرب على الرمل أو الحصى أو الخبط في الأرض.
ومن بعض شعب السحر الاستعانة بالنجوم لمعرفة المغيبات أو التأثيرات على الناس، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله : ((من عقد عقدة ثم نفث فيها فقد سحر ومن سحر فقد أشرك من تعلق شيئًا وُكل إليه))[2].
يا أيها المؤمن الموحد تعلم أن من لوازم الإيمان وواجبات التوحيد أن يكون لجوؤك دائمًا لله وحده، تستعيذ به وبكلماته التامات حتى إذا مسك ضر.
أما ما يصفه الجهال من اللجوء إلى السحرة والكهان والعرافين فهذا مثل صنيع اليهود الذين يؤمنون بالجبت والطاغوت، وقد علمنا أن الجبت هو السحر والطاغوت هو الكاهن والساحر، بل كل من زعم أنه يخبر بالمغيبات بمقدمات ووسائل يتخذها كل من عقد عقدة فنفث فيها، كل من خط خطًا في الأرض أو ضرب على الرمل أو الحصى، كل من زعم أنه يرشد عن السارق أو عن مكان المسروق.
وكل من استعان بالنجوم على معرفة المغيبات والتأثيرات وزعم ذلك.
وكل من استعان بالجن والشياطين على شيء من ذلك كل هؤلاء طواغيت سحرة وكهان ومن أتاهم من المسلمين ولجأ إليهم وصدقهم بما يقول فقد أتى جرمًا عظيمًا، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله : ((من أتى كاهنًا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أُنزل على محمد ))[3].
وروى مسلم في صحيحه عن بعض أزواج النبي وهي حفصة أن النبي قال: ((من أتى عرافًا - والعراف هو الساحر أو الكاهن أو المنجم أو الذي يضرب على الرمل أو يخط في الأرض - فصدقه بما يقول لم تقبل له صلاة أربعين يومًا))[4].
لماذا يلجأ بعض الناس إلى الكهان والسحرة، لماذا ينسون ربهم ويلجأون إلى الطواغيت وقد أنزل الرحيم الرحمن لهم الشفاء والدواء من مسه ضر فليس هناك من شفاء أحسن ودواء أفضل من أن يقرأ المعوذتين: قل أعوذ برب الفلق [الفلق:1]. قل أعوذ برب الناس [الناس:1].
بأن يقرأ المعوذتين ثلاثًا ثم ينفخ في كفيه ثم يمسح بهما جسده أو يقرأ على نفسه الفاتحة أو آية الكرسي أو يرقيه بهما غيره، أو يقرأ غير ذلك من آيات القرآن الكريم فالقرآن كله شفاء أو ما ثبت من أدعية المصطفى .
المؤمن الموحد إذا مسه ضر يلجأ إلى ربه عز وجل يستعيذ به وبكلماته التامات بقرآنه الذي أنزله شفاءً وهدى ورحمة للمؤمنين.
المؤمن الموحد يتيقن من أن أولئك السحرة والكهنة لا يستطيعوا أن يضروا إنسانًا أو ينفعوا إنسانًا إلا بإذن الله فإذا كان الله قد كتب ذلك للإنسان أو كتبه عليه لا يستطيع الكهنة بسحرهم وعقدهم ونفثهم ونفخهم أن يضروا إنسانًا بشيء إلا أن يكون الله تعالى قد كتبه عليه: وما هم بضارين به من أحد [البقرة:102] أي ما هم بضارين بسحرهم أحدا: إلا بإذن الله [البقرة:102].
فالمؤمن الموحد إذا مسه ضر يلجأ إلى من بيده النفع والضر: وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو [الأنعام:17].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] صحيح البخاري (2767) ، صحيح مسلم (89) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[2] سنن النسائي (4079).
[3] مسند أحمد (2/429).
[4] صحيح مسلم (2230).
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى أصحابه أجمعين.
قال الرسول : ((الدنيا متاع وخير متاع الدنيا المرأة الصالحة)) رواه مسلم[1] وروى أحمد في مسنده أنه : ((من سعادة بن آدم المرأة الصالحة والمسكن الصالح والمركب الصالح، ومن شقوة بن آدم المرأة السوء والمسكن السوء والمركب السوء)).
فيا أيها المسلم يا أيها الشاب المسلم اغتنم هذه النعمة العظمى وابحث عن هذه المتعة الكبرى خير متاع الدنيا مصدر سعادتك كما أخبرك بذلك الصادق الأمين المبلغ عن رب العالمين الرءوف الرحيم بأمته .
المرأة الصالحة وأوصافها إنها التي إذا نظرت إليها سرتك وإن أمرتها أطاعتك وإن غبت عنها حفظتك في نفسها وفي مالك.
وليس معنى قوله: (إذا نظرت إليها سرّتك) أنها من أجمل النساء لا يلزم ذلك وإنما معناه أنها من فقهها ومعرفتها بحق الزوج تتجمل وتتزين له دائمًا فلا يقع نظره إليها دائمًا إلا وهي في أحسن هيئة، حتى ولو كانت قليلة الحظ من الجمال فاغتنم أيها الشاب المسلم المرأة الصالحة اظفر بذات الدين تربت يداك.
كما أمرك بذلك سيدنا ونبينا محمد حينما قال: ((تنكح المرأة لأربع: لمالها ولحسبها ولجمالها ولدينها فاظفر بذات الدين تربت يداك))[2] فذات الدين المرأة الصالحة التي تعلمت دينها وعرفت حقوق ربها وعرفت حق زوجها هذه خير متاع الدنيا هذه مصدر السعادة، هذه المرأة الصالحة ذات الدين قدرها عند الله عظيم، مكانتها عند الله عظيمة وأجرها عند الله عظيم.
فعن عبد الرحمن بن عوف قال قال رسول الله : ((إذا صلت المرأة خمسها وصامت شهرها وحفظت فرجها وأطاعت زوجها قيل لها: ادخلي من أي أبواب الجنة شئتِ))[3]. فهذه المرأة الصالحة اظفر بها أيها الشاب المسلم وابحث عنها وأنتِ أيتها المسلمة اقبلي بصاحب الدين والأمانة والخلق الحسن فإن أمر النبي المصطفى حينما قال فاظفر بذات الدين تربت يداك يشملك أنت أيضًا فإذا تقدم ذو الدين صاحب الديانة والأمانة والخلق الحسن فاقبلي به واظفري به ولا تغتري بصاحب المال والثراء ولا الحسب والنسب ولا الجاه والوسامة إذا كان ضعيف الديانة والأمانة خبيث الأخلاق لا تغتري به أبدًا فإنه ليس لك إنه خراب ودمار وفساد وإفساد، إنه ليس لك أبدًا لا يصلح لكِ أبدًا إن كنتِ طيبةً وصاحبة دين وطاعة للرحمن الرحيم، فالخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات، والطيبات للطيبين والطيبون للطيبات.
أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
وعليكم أيها المسلمون بالجماعة فإن يد الله على الجماعة ومن شذ شذ في النار.
واعلموا أن الجماعة هي التمسك بالكتاب والسنة ومنهج الصحابة الأخيار رضوان الله عليهم أجمعين.
يا ابن آدم أحبب ما شئت فإنك مفارقه واعمل ما شئت فإنك ملاقيه وكن كما شئت فكما تدين تُدان.
ثم صلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال جل من قائل: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليمًا [الأحزاب:56].
وقال : ((من صلى علىّ واحدة صلى الله عليه بها عشرًاْ))[4]
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبي بكر الصديق وعمر الفاروق وذي النورين عثمان وأبي السبطين علىَّ وعن آل بيت نبيك الطيبين الطاهرين وعن أزواجه أمهات المؤمنين، وعن الصحابة أجمعين والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
[1] صحيح مسلم (1467) عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
[2] صحيح البخاري (5090) ، صحيح مسلم (1466) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[3] مسند أحمد(1/191).
[4] صحيح مسلم (408) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
ـــــــــــــــــــ(68/225)
السحر والسحرة (2) وبشارات للمرأة الصالحة
...
...
850
...
الأسرة والمجتمع, التوحيد
...
...
الشرك ووسائله, المرأة, نواقض الإسلام
...
عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري
...
...
المدينة المنورة
...
9/5/1410
...
...
قباء
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
وجوب تعلق قلب المؤمن بالله وحده – الإنسان يتعلق قلبه بالسحرة والكهنة وأمثالهم عند ضعف إيمانه – حقيقة السحرة والدجالين , ومن السحر المذموم ما يفعله أرباب البلاغة والبيان من قلب الباطل حقاً , من أصحاب الأدب الهدَّام والإعلام الخبيث – سبيل النجاة من الدجالين وأمثالهم – بشارتان للمرأة الصالحة : 1- أسباب دخول المرأة الجنة كما في الحديث 2- جهاد المرأة وشهادتها , وقيامها بتربية أولادها ورعاية بيتها وفضل ذلك
الخطبة الأولى
أما بعد: قال الله تعالى: أليس الله بكاف عبده ويخوفونك بالذين من دونه ومن يضلل الله فما له من هاد ومن يهد الله فما له من مضل أليس الله بعزيز ذي انتقام [الزمر: 36-37].
إن المؤمن الموحد يكون قلبه دائمًا متعلقًا بالله ربه وإلهه وسيده ومولاه الذي هو رب كل شيء ومليكه ولأجل ذلك فإنه سبحانه وتعالى يكفيه ويحفظه ويتولاه، فمن تولاه الله هل يخاف من دونه، من تولاه الله الإله العظيم القادر الذي بيده تصريف الأمور بيده كل شيء وهو على كل شيء قدير. من تولاه الله هل يخاف ممن دونه، ألا يكفيه أن الله عز وجل يحميه ويرعاه: "أليس الله بكاف عبده" ولكن الإنسان إذا ضعف إيمانه وانطمست بصيرته فإنه يتوجه قلبه ويتعلق قلبه بمن دون الله.
يتعلق قلبه بالسحرة والكهنة والمنجمين لما يرى من جريان بعض الأمور على أيديهم مما يظنه من الخوارق، وحقيقة أمر هؤلاء أنهم يستعينون بشياطين الجن فيتراكب هؤلاء أي يركب بعضهم على كتف بعض حتى يسترقوا السمع من السماء فإذا سمع الشيطان خبرًا من السماء ألقاه إلى الكاهن فيضيف إليه الكاهن مائة كذبة ولكن الناس يصدقونه بسبب ذلك الخبر ولا يكذبونه بالمائة كذبة.
ولقد كان هذا الأمر مستفحلاً في الجاهلية. كان في كل حي من أحياء العرب كاهن كما أخبر بذلك جابر رضي الله عنه.
ثم ببعثة خاتم النبيين محمد حُرست السماء مُلئت حرسًا شديدًا وشهبًا تكريمًا لبعثة رسول الله ، فبعد ذلك قل من يسترق السمع من شياطين الجن، وإذا استرقوا السمع فقل من يسلم منه من الشهاب الثاقب.
لكن قد يسلم بعضهم فيلقي بالخبر إلى الكاهن ولذلك لا نزال نجد اليوم كهنة وسحرة ومنجمين يخبرون ببعض المغيبات ولكن المؤمن مأمور بألا يصدقهم فيما يخبرون ولا يعول عليهم فيما يقولون إنهم إذا صدقوا مرة يكذبون مائة مرة.
كما أخبر بذلك الصادق الأمين فكيف يصدقهم بعد ذلك مؤمن موحد كيف يعول على أقوالهم وأخبارهم ونصائحهم وبعض أرباب البلاغة والبيان مثل هؤلاء السحرة والكهنة والمنجمين.
عن ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إن من البيان لسحرًا))[1] هذا ذم من النبي لبعض أنواع البيان. هذا البعض الذي تزيف فيه الأمور ويقلب فيه الحق باطلاً والباطل حقًا ليس هذا مدحًا كما تخيله بعض الناس.
كيف يكون مدحًا وقد شبهه الرسول بشيء محرم مذموم شبهه بالسحر والسحر أمر محرم مذموم، والمشبه تبع للمشبه به.
ثم إن سبب هذا الحديث أن رجلين من المشركين من أهل المشرق قدما إلى النبي فوقف كل منهما بين يديه خطيبًا يخطب بين يدي النبي فإذا خطب مشرك ماذا سيصدر منه إلا الفخر والخيلاء والباطل.
ولكن أُعجب السامعون بفصاحتهما فقال النبي قولته هذه: ((إن من البيان لسحرًا)) فهل يكون بذلك قد مدح الباطل الذي صدر من هذين المشركين.
كلاّ وألف كلاّ إنما أراد النبي أن ينبه السامعين الذين أعجبوا بفصاحة هذين الشاعرين المشركين إلى أن هذا البيان هو من أنواع البيان الذي يشبه السحر في قلبه للحقائق وتزييفه للأمور.
السحر يزيف الأمور ويقلب الحقائق ولكنه لا يغيرها هو أعجز من أن يغير حقائق الأشياء إنما يخيل للناس أنها تغيرت، يخيل إليهم الشيء الذي لا حقيقة له ويخيل إليهم تغيير حقيقة الشيء وهو لم يتغير، فسحرة فرعون حبالهم وعصيهم لم تنقلب إلى أفاعي وثعابين تسعى لم تتغير حقائقها بقيت حبالاً وعصيًا ولكن خيل للناس الحاضرين يومئذ ومنهم موسى عليه السلام أنها كذلك، أثر السحرة في أعينهم وفي مخيلاتهم. قال تعالى: فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى [طه:66] "يخيل إليه" أي إلى موسى فكيف بغيره، يخيل إليه أنها تسعى وليس كذلك هذا هو معنى قول "يخيل إليه" أي أن حقائق تلك الأشياء لم تتغير بفعل سحر السحرة فإن الساحر لا يفلح حيث أتى.
كذلك بعض أنواع البيان الذي يعني أصحابه بتنميقه وتذويقه وترتيبه وزخرفته يزيفون به الأمور ويحاولون قلب الحقائق والتأثير على السامعين.
ماذا يصنع الأدب الهدام في عصرنا الحديث غير هذا، القصص الهدامة وقد امتلأت بها الأشواق، الشعر الهدام وقد زودت به صفحات الجرائد والمجلات والدواوين ماذا يفعل الأدب الهدام الحديث غير هذا، ماذا يفعل الإعلام في العصر الحديث غير هذا. كثير من الناس يستمعون إلى بعض الإذاعات الأجنبية ويصدقونها ويصدقون أخبارها ويعجبون ببرامجها لأنها صدقت مرة، أو صدقت في بعض المرات يصدقونها من أجل ذلك ويعقلون عن المائة كذبة بل عن مئات الأكاذيب التي تدسها تلك الإذاعات الأجنبية.
فدسها بمهارة وإتقان ومكر وخبث للتأثير على السامعين لتزييف الأمور وقلب الحقائق على السامعين. بعض الإذاعات الأجنبية لا تسمي المجاهدين في أفغانستان مجاهدين، إن أعدائنا يحرصون على أن ينسى المسلمون حتى اسم الجهاد واسم المجاهدين فلذلك تحرص تلك الإذاعة الأجنبية على أن تسمي المجاهدين في أفغانستان المناوئين للحكومة الأفغانية.
وفي هذا الوصف ما فيه من الإيحاءات الخفية إنه نفث كنفث الكهنة والسحرة والمنجمين، فيه ما فيه من الإيحاءات الخبيثة التي يريدون أن يدسوها في نفوس السامعين يؤثرون على نفوس السامعين بمثل هذه الأساليب الماكرة الخبيثة.
فيا أيها المؤمن الموحد ليكن إيمانك عاصمًا لك من الوقوع في شباك هؤلاء وأولئك اقرأ كتاب الله عز وجل وافهم معانيه وتعلم سنن المصطفى وتفقه في أمور دينك يحميك الله ويكفيك من كل هؤلاء الطواغيت طواغيت الكهان وطواغيت البيان، سماسرة الأدب الهدام ودهاقنة الإعلام الهدام لا تصدق طواغيت الكهان ولا تصدق طواغيت البيان.
كيف تصدقهم وهم إن صدقوا مرة يكذبون مائة مرة.
كيف تصدقهم وهم أعداؤك، أعداء الإيمان الذي في قلبك أعداء هذا الدين الذي جاء به نبيك سيدنا محمد .
إنهم أعداء المصطفى يقول الرب عز وجل: وكذلك جعلنا لكل نبي عدوًا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورًا ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون [الأنعام:112].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] صحيح البخاري (5146)
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله اللهم صلي وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد: فقد ذكرنا في الجمعة الماضية البشارة للمسلمات الصالحات بشارة النبي وهي قوله فيما رواه عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه قال : ((إذا صلت المرأة خمسها وصامت شهرها وحفظت فرجها قيل لها: ادخلي من أي أبواب الجنة شئتِ))[1] صدق النبي .
فهذه الأمور الأربعة إذا أفلحت المرأة المسلمة في المحافظة عليها وأفلحت في أدائها أفلحت في جميع أمورها وسائر حياتها لم يذكر النبي من الفرائض إلا هاتين الفريضتين الصلوات الخمس وصيام شهر رمضان وليس معنى ذلك أن باقي الفرائض لا تدخل في ذلك إنما نص النبي على الصلوات الخمس وصيام شهر رمضان لأن هاتين الفريضتين تجبان على جميع النساء يشترك فيهما سائر النساء مع الرجال بخلاف الزكاة مثلاً فهي إن كانت مفروضة على الرجل والمرأة إلا أنها لا تجب إلا على من ملكت مالاً بلغ النصاب وحال عليه الحول.
والحج والعمرة وإن كانا واجبين إلا أنهما لا يلزمان المرأة إلا إذا قدرت على نفقتها ووجدت محرمًا يسافر معها. ولذلك اكتفى الرسول بذكر تلك الفريضتين الواجبتين على سائر النساء.
فإذا أدت المرأة المسلمة الصلوات الخمس ولم تضيعهن وصامت شهر رمضان ولم تضيع هذه الفريضة، وإذا بالغت في أسباب العفاف وصانت نفسها ليس عن الزنا والفواحش فحسب بل حتى عن أسبابها ودواعيها المؤدية إليها وإذا قامت بحق زوجها حق القيام وإذا رعت حياته الزوجية أحسن الرعاية فإنها من أهل الجنة ببشارة النبي ولا شك أن كل من وفقت إلى هذه الأمور الأربعة فإنها ستوفق إلى باقي خصال الخير.
وإليك أيتها المسلمة الصالحة البشارة الثانية من النبي فإن المرأة المسلمة الصالحة إذا كان الإسلام لم يتح لها ما أتاح للرجل من فضل الجهاد والقتال في سبيل الله عز وجل، بل منعها عن ارتياد كثير من المجالات التي شرعها للرجل فإنه اعتبرها وهي في مجالها الرئيسي إذا قامت به أحسن القيام إذا قامت به خير قيام مثل ذلك الرجل المجاهد المرابط في الأجر والثواب.
فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنه أن النبي قال: ((إن المرأة في حملها إلى وضعها إلى فصالها كالمرابط في سبيل الله فإن ماتت فيما بين ذلك فلها أجر الشهيد)). وقد ورد في حديث آخر: ((أن التي ماتت في النفاس من الشهداء))[2].
هذه هي البشارة الأخرى من النبي للمرأة المسلمة الصالحة في مجالها الأساسي مجال بناء الأسرة ورعاية النشء والصغار. وهي تكابد ما تكابد وخاصة في هذه الفترة التي نص عليها الرسول تكابد فيها من المشاق والتعب والنصب إذا أحسنت نيتها في ذلك واتقت الله عز وجل وأحسنت القيام بمهامها التي من أجلها خلقها الرب عز وجل، فما الفرق بينها وبين ذلك الرجل المجاهد في سبيل الله المرابط في مجاله وميدانه على ثغرة من ثغور المسلمين.
إذا كان هذا الرجل مجاهدًا في سبيل الله مرابطًا على ثغرة فهذه المرأة أيضًا مرابطة على ثغرة كلاهما مرابط مجاهد في ثغرته وفي جبهته، إذا أحسن النية واتقى الله في القيام بمهمته فهما سواء في الأجر والثواب.
فيا أيتها الأخت المسلمة الصالحة إنك وأنت تؤدين مهمتك هذه في حملك وفي وضعك وفي فصالك وفي رعايتك لأسرتك في بنائك لأسرتك في رعايتك لنشئك الصغار أنت في ذلك كالمجاهد في سبيل الله في أفغانستان، وفي فلسطين أو في الفلبين أو في غير ذلك من ثغور المسلمين، أنت في ذلك كالمجاهد في سبيل الله في الأجر والثواب سواء. هذا هو معنى كلام المصطفى النبي .
أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
وعليكم أيها المسلمون بالجماعة فإن يد الله على الجماعة ومن شذ شذ في النار.
واعلموا أن الجماعة هي التمسك بالكتاب والسنة ومنهج الصحابة الأخيار رضوان الله عليهم أجمعين.
يا ابن آدم أحبب ما شئت فإنك مفارقه واعمل ما شئت فإنك ملاقيه وكن كما شئت فكما تدين تُدان.
ثم صلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال جل من قائل: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليمًا [الأحزاب:56].
وقال : ((من صلى علىّ واحدة صلى الله عليه بها عشرًاْ))[3]
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبي بكر الصديق وعمر الفاروق وذي النورين عثمان وأبي السبطين علىَّ وعن آل بيت نبيك الطيبين الطاهرين وعن أزواجه أمهات المؤمنين، وعن الصحابة أجمعين والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
[1] مسند أحمد (1/191).
[2] مسند أحمد (4/201) عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه.
[3] صحيح مسلم (408) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
ـــــــــــــــــــ(68/226)
تربية الأبناء
...
...
212
...
الأسرة والمجتمع
...
...
الأبناء
...
عبد المحسن بن عبد الرحمن القاضي
...
...
عنيزة
...
23/10/1415
...
...
جامع السلام
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- مداعبة رسول الله للعيال. 2- العدل بين الأولاء. 3- الصدق في وعد الأبناء. 4- رحمته بالأطفال وتقبيله لهم. 5- الأمر بتربية الأبناء. 6- جواز ضرب الأبناء والموالي لتربيتهم. 7- بيان عظيم مسئولية الوالدين في تربية أبنائهما. 8- خطر الإعلام وقنواته على أبنائنا.
الخطبة الأولى
أما بعد :
أيها الناس : اتقوا الله تعالى وتوبوا إليه .
إخوة الإيمان ، لعلنا نقف بكم اليوم على مواقف من رسولنا الكريم وسلفنا الصالح ، في تربية أبنائهم وشبابهم ، أولئك الأبناء الذين مافتئوا بعد أن كبروا- بل وهم صغار- أن ظهرت ثمار صلاحهم في فتح الفتوحات وتدريس العلم وتدوينه وتسطير المواقف العظيمة في سجلات التاريخ والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتْناهم من عملهم من شيء كل امرئ بما كسب رهين .[الطور:21]
السلف رضوان الله عليهم وعلى رأسهم رسولنا هم قدوتنا في كل شيء ، ومنها التربية ، وقد ثبت يقينا أنهم قد نجحوا في تربية أبنائهم ، وهذا ما رأيناه في أصحاب رسول الله من الفتيان من عجائب وغرائب يقف لها التاريخ شاهدا على صدقها ، شباب ذللوا سبل المعالي ، عبد الله ابن عمر، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن الزبير، وأسامة بن زيد كلهم من تربية مدرسة محمد ، روى مسلم عن أنس قال : ((ما رأيت أحدا كان أرحم بالعيال من رسول الله ))، وعن أنس قال : ((كان رسول الله من أفكه الناس مع الصبي ))، وقد حث على العدل، حين قال : ((إن الله يحب أن تعدلوا بين أولادكم كما يحب أن تعدلوا بين أنفسكم )). رواه الدارقطني .
ولقد اهتم الإسلام بأن يكون الأب في موضع القدوة من ابنه ، فالتميز الخلقي المتمثل بالقدوة الصالحة هو من أكبر العوامل في التأثير على القلوب والنفوس ، وما أجدر الجيل الإسلامي اليوم ، برجاله ، ونسائه ، وكباره ، وصغاره ، أن يفهموا هذه الحقيقة ، وأن يعطوا لغيرهم القدوة الصالحة ليكونوا أقمار هداية وشموس إصلاح ، ودعاة خير وحق ، وأسباب نشر وامتداد لرسالة الإسلام الخالدة ، ومن هنا كان حرص النبي على أن يظهر المربي أمام من يقوم على تربيته بمظهر القدوة الصالحة في كل شيء حتى يتطبع الولد منذ نشأته على الخير ، ويتخلق منذ نعومة أظفاره على الصفات الفاضلة النبيلة .
روى أبو داود والبيهقي عن عبد الله بن عامر قال : ((دعتني أمي يوما ورسول الله قاعد في بيتنا فقالت : يا عبد الله تعال حتى أعطيك ، فقال لها رسول الله :ما أردت أن تعطيه ؟ قالت : أردت أن أعطيه تمرا ، فقال : أما أنكِ لو لم تعطه شيئا كتبت عليك كذبة )) وعنه عليه الصلاة والسلام فيما رواه أحمد وغيره : ((من قال لصبي تعال هاك – أي خذ- ثم لم يعطه ، فهي كذبة))، تربية على الصدق وعدم الكذب للطفل منذ صغره ، وروى البخاري ومسلم عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما، أن أباه أتى به إلى رسول الله فقال : ((إني نحلت ابني هذا- أي أعطيته – غلاما كان لي ، فقال رسول الله : أكل ولدك نحلته مثل هذا؟ فقال : لا ، فقال رسول الله : فأرجعه ))، وفي رواية ، فقال : (( اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم ؛ فرجع أبي فرد تلك الصدقة )) ، وفي رواية أخرى قال رسول الله : ((يا بشير ألك ولد سوى هذا ، فقال :نعم ، أكلهم وهبت له مثل ذلك ، فقال : لا ، قال : فلا تشهدنَّ إذن، إني لا أشهد على جور ، أو قال : أشَهِْد على هذا غيري ، ثم قال : أيسرك أن يكونوا لك في البر سواء؟ قال :بلى ، قال: فلا إذن )).
هذا هديه في غرس العدل في قلوب الآباء من حوله ، لأن الظلم دائما وخصوصا من الأب سبب للخصومات ، ووجود الحقد مما يكون ثمرته ضياع الأبناء ولو استحضرت في ذهنك صور الخصومات والحقد بين الإخوة لرأيته ثمرة لعدم العدل ، ولقد نبه عن طريق صنيعه بضرورة الرحمة بالأبناء وعدم القسوة وذلك فيما روي في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت : ((قبّل رسول الله الحسن والحسين ابني علي رضي الله عنهم ، وعنده الأقرع بن حابس التميمي فقال الأقرع : إن لي عشرة من الأولاد ما قبلت منهم أحدا قط ، فنظر إليه رسول الله ثم قال : من لا يرحم لا يرحم )) وفي الصحيحين كذلك عن عائشة رضي الله عنها قالت : ((جاء أعرابي إلى رسول الله فقال : إنكم تقبلون الصبيان ، وما نقبلهم ، فقال رسول الله : أو أملك أن نزع الله الرحمة من قلبك )) ومتى نزعت- إخوة الإيمان- الرحمة من قلب المرء أبا أو أما أو قريبا فهل تنفع التربية مع الولد ؟ أو التلميذ ؟ هل يتقبل منه موعظة أو نصحا ؟ وما نصح أحد من راحم بمن ضل أو أوشك على الضلال .
لقد كان مثلا مجسدا للرحمة بالأبناء ، روى الترمذي وغيره عن عبدا لله بن بريدة عن أبيه رضي الله عنهما قال : رأيت رسول الله وهو يخطب فجاء الحسن والحسين رضي الله عنهما ، وعليهما قميصان أحمران ، يمشيان ويعثران ، فنزل النبي ، فحملهما ووضعها بين يديه ثم قال إنما أموالكم وأولادكم فتنة ، نظرت إلى هذين الصبيين يمشيان ويعثران فلم أصبر حتى قطعت حديثي ورفعتهما .
وروى النسائي والحاكم : (( بينما كان رسول الله يصلي بالناس ، إذ جاءه الحسين ، فركب عنقه وهو ساجد فأطال السجود بالناس ، حتى ظنوا أنه قد حدث أمر ، فلما قضى صلاته ، قالوا : قد أطلت السجود يا رسول الله ، حتى ظننا أنه حدث أمر ، فقال : إن ابني قد ارتحلني – أي صعد على ظهري ، فكرهت أن أعجله حتى يقضي حاجته ))، وجاء في الإصابة أنه كان يداعب الحسن والحسين رضي الله عنهما فيمشي على يديه وركبتيه ويتعلقان به من الجانبين فيمشي بهما ، ويقول : (( نعم الجمل جملكما ، ونعم العدلان أنتما )) وفي الصحيحين عن أنس أن النبي قال : (( إني لأدخل في الصلاة وأنا أريد إطالتها ، فأسمع بكاء الصبي فأتجوز في صلاتي – أي أختصر – مما أعلم من وَجْد أمِه من بكائه )) وكان كما ورد في الصحيحين إذا مر على الصبيان يسلم عليهم ويحادثهم .
هذه نماذج من رحمة النبي بالأولاد والصبيان ، كان عليه الصلاة والسلام يفعلهما ولم تشغله مشاغله الكثيرة ، وأعباء الدعوة وهمومها عن كل ذلك ، فأي رحمة أعظم من هذه الرحمة فعلها عليه الصلاة والسلام وهو يعلم أثرها في تربية الولد ومحبته ، ولكنه مع هذه الرحمة العظيمة بهم فقد أمر بتأديب الولد وحضه على حسن الخلق ، فقد روى الترمذي أن رسول لله صلى لله عليه وسلم قال: لأن يؤدب الرجل ولده خير من أن يتصدق بصاع أي حينما تؤدبه في وقت ما أفضل من تصدقك بصاع في ذلك الوقت ، ويقول : (( من ولد له ولد فليحسن اسمه وأدبه )) إذا فتأديب الأطفال مطلوب ، وحضهم على فعل الخير مرغوب ، وإبعادهم عن مواطن الشر هو الحصن له من الضياع والفساد ، روى الإمام أحمد في مسنده عن عم أبي رافع بن عمرو يقول عن نفسه : (( كنت وأنا غلام أرمي نخلا للأنصار فأتي النبي فقيل له إن ها هنا غلاما فأتي بي إلى النبي فقال : يا غلام لِمَ ترم النخل ؟ قال : قلت آكل ، قال : لا ترمي النخل، وكل مما يسقط في أسافلها ثم مسح رأسي ، وقال اللهم أشبع بطنه ))، إذا فوقوع الأطفال الصغار في الخطأ غير المقصود وارد ، ولذلك فيجب علاجه وعدم إهماله ، ومع الأسف أننا نرى كثير من الآباء والمربين اليوم إما أن يتشددوا على الطفل عند وقوعه في الخطأ فيخرجهم عن التربية الشرعية ، أو يهملون الصغير إذا أخطأ ولو كان خطؤه مؤذيا ، وهذا فيه إفساد لأخلاق الصبي فإن التأديب للصغير ولو كان بالضرب غير المبرح مؤثر على الصغير ولا ينساه فقد قال : (( اضربوهم عليها وهم أبناء عشر ))، أي على من تخلف عن الصلاة ، ويقول فيما رواه أحمد في مسنده : (( وأنفق على عيالك من طولك – أي من قدرتك – ولا ترفع عصاك أدبا وأخُِفْهُم في الله )) وروى البخاري في الأدب عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله أمر بتعليق السوط في البيت ، وروى الحاكم أن رسول الله خرج في عمرة وكان معه أبو بكر وبعض من الصحابة وكان أبو بكر قد كلف غلاما له بزاملة رسول الله فنزل رسول الله في مكان في الطريق ومعه هؤلاء الصحابة وقد تأخر الغلام ثم حينما ظهر إذا به لوحده ، فقام إليه أبو بكر وكان محرما ، فقال له : أين البعير ؟ فقال : أضلني يا أبا بكر ، فأخذ أبو بكر يضرب الغلام والرسول ينظر ، ويقول : (( انظروا إلى هذا المُحْرم يؤدب غلامه وكان ينظر مبتسما )) وهذا منه إقرار .
إخوة الإيمان: وإذا نظرنا إلى هدي النبي وصحابته الكرام في تربيتهم للبنات ، نجد أنهم أشد اهتماما في إعدادهن كأمهات مربيات صالحات ، في تعويدهن على الحياء ، وعدم مخالطة الرجال وحرصهن على العلم والذكر ، ويكفي أن نقلب السير لما كانت عليه الحال لنساء المدينة وقت النبي والصحابة الكرام من بعده ، حتى نتعرف مدى ما كن عليه من تقوى وورع وحياء وتربية للأولاد بل وللرجال ، انظروا مثلا إلى سيرة فاطمة رضي الله عنها بنت رسول الله حتى تروا تربيته عليه الصلاة والسلام لها ، وكذلك أسماء بنت أبي بكر، وأمامة بنت أبي العاص، وغيرهن من الصحابيات رضوان الله عليهن ، نقول هذا لمن أهمل بناته أو أساء معاملتهن حتى ينتبهوا لأعراضهن من خلالهن .
وهي مسئولية على عاتق كل أب أو أم أو مربٍّ أو مربية ، بل هو تكليف رباني حمّله الله للمسؤول عن الأبناء والبنات ، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم : يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون .[التحريم:6]
بارك الله لي ولكم في الفرقان العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه ...
أما بعد : أيها الإخوة المسلمون : اتقوا الله تعالى ، واعلموا أن هذه النماذج السابقة من تربية النبي وصحابته الكرام للأولاد إنما تبين المسؤولية العظمى التي تقع على الآباء والمربين في التربية والتعليم لأبنائهم وبناتهم ، إن المتطلع إلى مجتمعنا اليوم ليرى أحوالا لأولادنا ما كنا نعرفها قبلُ ، ولا توافق ما قرأناه من نماذج رائعة ، الميوعة الزائدة والتفنن بأنواع الملابس وتزيين السيارات أصبحت طابعا وهما لبعض الشباب ، وكذلك بناتنا اللاتي أصبحن سيعنين وتعلقهن بالأسواق وما ينزل فيها من موضات وتسريحات أو ما هبط في المجلات ، وأما ما تميز به بعض الشباب فهو الإيذاء للآخرين والسهر حتى الفجر وضياع الأوقات .
إن كل هذه الأحوال والمظاهر لدى أبنائنا وبناتنا مع الأسف في هذا المجتمع المسلم ، ولا يستطيع أحد إنكارها لا ألقي باللائمة وحدها على الأب والمربي في اتجاه كثير من أبنائنا وبناتنا إلى تلك المظاهر ، ولكنني أوجه اللوم أيضا إلى بعض وسائل الإعلام ، كالقنوات الفضائية ، تلك القنوات التي نوفرها في بيوتنا وبأموالنا ثم تشترك معنا في تربية أولادنا.
إن نظرة واحدة لبرامج هذه القنوات ، وما يعرض فيها من تضييع للأخلاق ، وتعليم للمساوئ ، وتعويد على أخلاق وعادات الغير ، كل ذلك كافٍ حتى نعلم مدى الخطر الكبير الذي يؤثر على الجميع ، لقد أصبح الإعلام وبتلك القنوات اليوم يشترك مع الآباء والمربين في التربية وهكذا ضاع توجيه الأب والأم ونصح المدرس المربي ، بل ويضيع مع ذلك الدين بالجلسات بالساعات الطويلة أمام هذه المقتنيات الإعلامية والقنوات الفضائية.
إن المقلب لهموم الشباب والأولاد اليوم ليجدها بعيدة كل البعد عن هموم صحابة رسول الله وأبنائهم ، كما رأينا تربيتهم فهم شبابنا، إما في ملبسه وتَزيُنه، أو في الكرة ونواديها التي أصبحت تأخذ كل أوقاتهم أو غير ذلك من الملهيات ، إن المسؤولية العظيمة تقع عليك أيها الأب في كل ذلك ولو قلبت في أحوالك وأمورك لوجدت أنك مقصر كثيرا تجاه بيتك وأسرتك ، أليس من العيب مثلا أن ترى بعض الآباء يسهرون إلى أواخر الليل كل يوم في حوش أو مجلس أمام ورقة يقتلون فيها الوقت ، أو جلسة قيل وقال ، والأطم من ذلك أمام هذه الصحون الفضائية المسماة بالدش ، ثم أليس من العيب والخطر أن ترى بعض الآباء يهملون تربية أولادهم ومحاسبتهم على الخطر ولو عرفوه، كل ذلك بدافع عدم تخويف الولد وتعقيد نفسيته ، ثم يستفحل الأمر بعد ذلك ولات حين مندم ، أليس من الخطأ إخوة الإيمان أن نرى أبناءنا وبناتنا يصاحبون كل من هب ودب ، ولا ننبههم إلى ذلك .
إن كثيرا من المشاكل التي يقع فيها أولادنا يجد المتأمل فيها أن صديق السوء أو صديقة السوء خلفها ، إن الأب إذا لم يقم على مراقبة أهليه وأولاده وتربيتهم تربية صالحة فمن الذي يقوم عيها ؟ هل يقوم عليها أباعد الناس ، أو يترك هؤلاء الأولاد والأغصان الغضة تعصف بها رياح الأفكار المضللة والاتجاهات المنحرفة والأخلاق الهدامة فينشأ من هؤلاء جيل فاسد لا يرعى لله ولا للناس حرمة ، ولا حقوقا ، جيل فوضوي متهور لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا ، متحرر من كل رق إلا من رق الشيطان ، منطلق من كل قيد إلا قيد الشهوة والطغيان ، نعم لابد أن تكون هذه هي النتيجة إلا أن يشاء الله ويرعى ذلك الولد .
إن بعض الناس يقول معتذرا أنا لا أستطيع تربية أولادي إنهم كبروا أو تمردوا علي ولو سلمنا له بهذا ، ولو سلمنا له جدلا أو حقيقة واقعة ثم فكرنا لوجدنا أنك أنت أيها الأب والمربي السبب في سقوط هيبتك في نفوسهم ، لأنك أضعت أمر الله فيهم في أول أمرهم ، فتركتهم يتصرفون كما يشاءون لا تسألهم عن أحوالهم ولا تأنس بالاجتماع إليهم ، لا تجتمع معهم على طعام أو غير ذلك ، فتقع الجفوة بينك وبين أولادك فينفروا منك وتنفر منهم ، فكيف تطمع بعد ذلك أن ينقادوا لك أو يأخذوا بتوجيهاتك بل إلى من يلجئوا حينما يقعون في مشكلة وقعوا فيها أو مصيبة جروا إليها ، لو أن الآباء اتقوا الله في أول أمرهم وقاموا بتربية أبنائهم وبناتهم على الوجه الذي يرضي الله ، لأصلح الله لك أمر الدنيا والآخرة ، يقول تعالى : يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً
ـــــــــــــــــــ(68/227)
دروس من سورة يوسف
...
...
866
...
الأسرة والمجتمع, العلم والدعوة والجهاد
...
...
القرآن والتفسير, قضايا المجتمع
...
عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري
...
...
المدينة المنورة
...
8/4/1411
...
...
قباء
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
قصة يوسف عليه السلام والموضوعات التي تناولتها : 1- الغرائز والمواقف والطبائع البشرية وآثارها وتهذيبها : الغيرة والحسد – الفساد والانحراف الخلقي – صراع الشهوة الجنسية 2- عاقبة الصبر والثبات 3- القصص القرآني حقيقة وثابت وليس من نسج الخيال وله فوائد ودروس – من الدروس المستفادة : 1- أهمية تنوع أساليب الدعوة المشروعة مثل ( الحديث القصة – التذكير ) وضرورة اقتحام الدعاة لهذا المجال , وعدم تركه لأصحاب الشهوات - انتشار مظاهر البذخ والبطر في المجتمع وخطورة ذلك ( الإسراف في الولائم – إلقاء الباقي في المزبلة ) كيف يتحقق إدراك النعمة وشكرها , ودور الجمعيات الخيرية في ذلك
الخطبة الأولى
أما بعد:
فمنذ اليوم نعرض إن شاء الله ما في سورة يوسف من الدروس والعبر. وإن فيها كثيرا من الدروس التي تتعلق بكثير من مشكلاتنا في حياتنا المعاصرة.
إن هذه السورة الكريمة تتعلق بشخصية كريمة لنبي من الأنبياء وما واجهه في حياته من حوادث ووقائع وابتلاءات ومحن فمنذ أن رأى الرؤيا ثم ألقي في الجب ثم تقلب في الرق ثم وهو يواجه محنة الإغراء والفتنة ثم وهو يعاني من محنة السجن ثم وقد خرج من الشدة إلى الرخاء فإذا بالسلطان بين يديه وإذا به المتحكم في الرقاب وفي الأرزاق في رقاب العباد وأرزاقهم.
إنها قصة نبي كريم منذ رأى الرؤيا إلى أن تحقق له تأويلها فرفع أبويه على العرش ورفع التثريب عن اخوته الذين كادوا له.
إنها قصة الصديق نبي الله يوسف عليه السلام. وكيف ثبت بعقيدته وبنقاء نفسه وبطهارة ثوبه أمام مختلف المحن والابتلاءات التي مرت به فإذا به يخرج منتصرا بصلابة عقيدته وثبات إيمانه ونقاء نفسه وطهارة ثوبه.
إنها قصة تتحدث عن مجموعة من الغرائز والطبائع البشرية والمواقف البشرية وتأثير هذه الطبائع والغرائز في الحياة الاجتماعية وتأثير الدعوة الربانية في إصلاحها في إصلاح هذه الغرائز والطبائع وتهذيبها وتوجيهها.
تتحدث عن الغيرة وعن الحسد الذي قد ينهش قلوب أقرب الأقربين وعن المؤامرات والمناورات التي تنبع من هذه الغريزة المدمرة وتنشأ عنها.
تتحدث عن الفساد والخراب الخلقي والانحلال الذي يعتلي الحياة الاجتماعية المترفة والظلم الذي يتفشى عادة بأسباب أولئك المترفين. تتحدث عن الصراع؛ صراع الشهوة والغريزة الجنسية بين ثبات وصمود الأنقياء الأتقياء من الشباب الصالحين وعباد الله المخلصين وبين المتدهورين المنحطين من المترفين الفاسدين.
تتحدث عن عاقبة الصبر والثبات في الشدائد والمحن والابتلاءات وهذه العاقبة هي التمكين في الأرض.
كل هذه الجوانب الإنسانية تتحدث عنها هذه السورة العظيمة في قالب قصصي بديع وأسلوب قرآني رفيع ولكن القصص القرآني يتحدث عن الحقائق وليس عن الخيالات إنه يتحدث عن تجارب الأمم السابقة وبعض الشخصيات السابقة من الأنبياء والمرسلين أو من غيرهم أو ما واجههم من حوادث ووقائع ومواقف كلها حقيقية ثابتة فالقصص القرآني حقيقي ولهذا بدأت هذه السورة العظيمة سورة يوسف وهي أروع مثال وأطول مثال للقصص القرآني بدأت بقول الله تعالى في الآية الثالثة منها: نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين [يوسف:3]. وختمت هذه السورة بقوله تعالى في آخر آية منها: لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون [يوسف:111]. فالشأن في القصص القرآني ليس كالشأن في ما يكتبه القصاصون من الناس عادة، يتخيل القصاص من الناس الشخصية والحوادث والمواقف كلا فالقصص القرآني ما كان حديثا يفترى ليس للخيال ولا للافتراء فيه أي نصيب إنه يتحدث عن شخصيات حقيقية وعن حوادث ووقائع ومواقف صادقة ولكن باسلوب رفيع محكم بديع لا ترقى إليه أى قصة مكتوبة ولا ترقى إليه أي قصة محبوكة.
وفي هذا درس لأهل الأقلام والمواهب ليتعلموا من القرآن ويستغلوا مواهبهم وليسخروا أقلامهم حتى تكون أداة حتى تكون أدوات للرحمة حتى تكون أدوات للهدى وحتى يفصلوا للناس ما يحتاجون إليه من الدروس والعبر.
فإن الدعوة والإصلاح يحتاجان إلى تنوع الأساليب فالنفوس البشرية تملّ وها هو القرآن في هذه السورة العظيمة يعلمنا أول درس إنه درس للموجهين والمصلحين بل هو درس للعلماء المربين كأنما القرآن يهتف بهم جميعا: لا تجمدوا على وسيلة واحدة أو وسيلتين فالمنبر على عظم أهميته وحده لا يكفي وحلقة الدرس على عظم نفعها وبركتها وأهميتها وحدها لا تكفي.
لابد من تنوع الأساليب لابد من تنوع الأساليب لابد من استغلال سائر الوسائل المتاحة التي يأذن لنا الشرع باستغلالها وهذه الوسيلة الفعالة الشديدة الأثر هي من هذه الوسائل المباحة والمتاحة القصة. القصة مكتوبة أو مسموعة أو مرئية مسموعة إنها من أشد الوسائل تأثيرا في النفوس وها هو القرآن الكريم يقدم لنا أروع مثل لهذا اللون من ألوان البيان وهذا الأسلوب من أساليب الإصلاح.
النفوس تمل ولذلك لابد من استخدام جميع الوسائل المتاحة والأساليب المباحة.
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: إن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ملوا ملة – أي اعتراهم الملل في يوم من الأيام – فقالوا للرسول صلى الله عليه وسلم: حدثنا فأنزل الله تعالى قوله: الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها [الزمر:23].
و عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: إن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا له: هلا حدثتنا فأنزل الله تعالى قوله: الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها فقالوا: هلا قصصت علينا فأنزل الله: نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن فقالوا: هلا ذكرتنا. فأنزل الله تعالى قوله: ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق [الحديد:16].
فهذه ثلاثة أساليب: الحديث والقصة والتذكير كلها من ألوان البيان وأساليب البيان وقد استخدمها القرآن واستخدم غيرها من الأساليب.
فهذا هو أول درس قرآني في هذه السورة فيا حملة الأقلام ويا أرباب التوجيه والإصلاح هذا الدرس لكم ويا شباب الإسلام يا أهل الأدب يا أهل الأقلام الأدبية هلا اقتحمتم هذا المجال هذا المجال الشديد التأثير مجال القصة هلا خرجتم لنا بالقصة الإسلامية الهادفة التي تبني ولا تهدم وتصلح ولا تخرب وتعلم ولا تفسد.
لقد امتلأت ساحاتنا بغثاء بركام من إفراز الخبيثين والخبيثات من إنتاج أتباع الشهوات الذين يريدون من المؤمنين أن يميلوا ميلا عظيما.
ما أكثر القصص المفسدة المخربة في ساحاتنا في أسواقنا على صفحات مجلاتنا وجرائدنا فهذه قصص نجيب محفوظ وهذه قصص يوسف إدريس وأمثالهما من العلمانيين والزنادقة واليساريين والبعثيين فتحنا لها أبوابنا فملئت ساحاتنا ودخلت بيوتنا وقد تترجم إلى قصص مسموعة أو مسموعة مرئية حتى يزداد تأثيرها في الهدم والتخريب.
فهيا يا شباب الإسلام يا أصحاب الأقلام يا أصحاب المواهب الأدبية اقتحموا هذا المجال فإن هذا المجال لكم لا تتركوه لأولئك المفسدين القذرين من اليساريين والبعثيين والحداثيين أتباع الشهوات الذين يريدون أن يميل المؤمنين ميلا عظيما: فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض [الرعد:17].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:
فقد روى الإمام أحمد رحمه الله في مسنده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر به سائل فأعطاه تمرة فسخطها ولم يقبلها فمر به آخر فأعطاه إياها فقبلها وقال: تمرة من رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر له رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطي أربعين درهما، وأرسل جارية إلى بيت أم سلمة أن ادفعوا الأربعين درهما التي عندكم وهى لرسول الله صلى الله عليه وسلم[1].
إن المشاهد في مجتمعاتنا اليوم كثير من مظاهر البطر كثير من الناس وقعوا في البطر لا يعرفون قدر النعمة ولا يقدرون حق شكرها يهينون نعم الله عز وجل ولا يعرفون قدرها ولا يؤدون حق شكرها.
وإن من مظاهر هذا البطر وهذا الكفر بالنعمة ذلك الإسراف والبطر الذي يقترفه الكثيرون في الولائم والمناسبات تتكدس الأطعمة على الصحون أرزاً ولحما وشحما حتى إذا صالت الأيدي فيها وجالت تقززت نفوسهم مما بقي بعد ذلك وتأففوا منه فربما رمى به بعض الذي يكفر النعمة ولا يعرف قدرها رمى بهذا الباقي وهو كثير رمى به في المزبلة وكذلك ربة البيت قد ترمي ببقايا الطعام في الصحون والقدور مما يمكن أن يؤكل ترمي به في المزبلة.
وهذا من كفر النعمة وهو محرم لا يجوز هذا من مظاهر البطر ومن أسباب العقوبات العقوبة الإلهية قد تحل على الفرد الذي يقترف مثل هذا الفرد الذي يقترف مثل هذا البطر وقد تحل على المجتمع الذي تتفشى فيه مثل هذه الظاهرة فإن الرب تبارك وتعالى وعد بمزيد من النعم لمن شكر وتوعد من كفر بنعمه بالعذاب الشديد فقال تعالى: وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد [إبراهيم:7].
إذا أردت أن تعرف قدر النعمة التي تتقلب فيها، النعمة التي أنعم الله عليك بها من رغد في العيش وأمن في الحياة ورخاء وتنعم في المأكل والمشرب والملبس إذا أردت أن تعرف قدر نعمة الله عليك فتذكر أن هناك اليوم عبادا لله ماتوا جوعا وعطشا لم يجدوا حتى بعض هذا الذي ترمي به في المزبلة ليسدوا به رمقهم أفلا تخاف أن يصيبك الله بما أصابهم.
إن من شكر نعمة الله عليك أن تشرك الفقير معك في طعامك وشرابك أن تتذكر الفقير فتشركه معك في طعامك وشرابك وأضعف الإيمان أن توزع على الفقراء ما تبقى من موائدك وصحونك وقدورك بدلا من أن تهين نعمة الله عليك فترمي بها في المزبلة.
لقد سمعت أن هناك بعض الجمعيات النسائية الخيرية تقوم بهذه المهمة إذا اتصل بها صاحب المناسبات الباذخة التي تكدست فيها الأطعمة إذا اتصل بها يأتون ويأخذون ما تبقى من الأطعمة ويوزعونه على بيوت فقيرة لا تجد ما تقتات به هنا في مدينة المصطفى صلى الله عليه وسلم، ونعم ما فعلت هذه الجمعيات النسائية الخيرية ما أحسن ما صنعت لقد عرفت كيف تداوي الداء، داء الإسراف وداء الكفر بالنعمة وعرفت كيف تُعنى بأولئك الفقراء الذين لا يجدون ما يسد به رمقهم وهم جيراننا في مدينة المصطفى صلى الله عليه وسلم وليت سائر الجمعيات الخيرية تفعل مثل ما سمعت بدلا من إقامة الحفلات الدعائية والمؤتمرات الفارغة التي ليس وراءها أي نفع للناس التي لا يرضى عنها الفقير ولا الكبير كلها رياء وسمعة لا تجلب على أصحاب تلك الجمعيات الخيرية إلا الإثم والوزر والعقوبة وكراهية الناس.
سئل أحد التابعين: كيف أصبحت؟ فقال: أصبحت بين نعمتين لا أدري أيهما أفضل أما الأولى فقد ستر الله علي ذنوبي فلا يستطيع أن يعيرني بها أحد وأما الأخرى فقد ألقى الله محبتي في قلوب العباد مع أن عملي لا يبلغ ذلك.
أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وعليكم أيها المسلمون بالجماعة فإن يد الله على الجماعة ومن شذ شذ في النار واعلموا أن الجماعة هي التمسك بالكتاب والسنة وبمنهج الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين. يا ابن آدم أحبب من شئت فإنك مفارقه واعمل ما شئت فإنك ملاقيه وكن كما شئت فكما تدين تدان ثم صلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال جل من قائل: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما [الاحزاب:56]. وقال صلى الله عليه وسلم: ((من صلى علي واحدة صلى الله عليه بها عشرا))[2] اللهم صل وبارك على محمد وعلى آل محمد كما صليت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة أبى بكر الصديق وعمر الفاروق وذي النورين عثمان وأبي السبطين علي وعن آل بيت نبيك الطيبين الطاهرين وعن أزواجه أمهات المؤمنين وعن الصحابة أجمعين وعن التابعيين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
[1] مسند احمد 3/155 ،260.
[2] صحيح مسلم (408) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
ـــــــــــــــــــ(68/228)
دروس من سورة يوسف
...
...
884
...
الأسرة والمجتمع, العلم والدعوة والجهاد
...
...
القرآن والتفسير, المرأة
...
عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري
...
...
المدينة المنورة
...
...
...
قباء
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
خطورة الاختلاط – التحذير من الخدم – صور من المخالفات الشرعية مع الخدم والسائقين تنبيهات للمستقدمين
الخطبة الأولى
أما بعد:
فقال الله تعالى: فلما رأى قميصه قد من دبر قال إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم يوسف أعرض عن هذا واستغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين [يوسف:28-29].
في الجمعة الماضية ذكرنا ثلاثة دروس وثلاث مسائل مستفادة من هاتين الآيتين والآيات قبلهما والمسألة الرابعة تنبهنا هذه الآيات إلى خطورة الاختلاط وخاصة مع الخدم يوسف هنا كان مثالا رائعا للنقاء والطهر والأمانة ولم يكن في الحقيقة عبدا مملوكا بل هو سيد كريم ابن سادات كرام لكن كان من البلاء الذي ابتلي به وصبر عليه أنه اتخذ قهرا عبدا مملوكا فاضطر أن يخدم العزيز في قصره واضطر كارها إلى مخالطة أهله فإذا كان غير يوسف مكانه ماذا كان الحال لقد أثبت العزيز في موقفه لا مبالاته وعدم غيرته على أهله إذ كيف رضي أن يضع شابا جميلا عند أهله ليخدمهم منذ البداية كيف رضي بذلك بل حتى بعد أن ثبتت إدانة امرأته وعلم أنها راودت يوسف عن نفسه لم يحاول إبعاد يوسف عنها البلاء منها وليس منه ولكن على الأقل لكي لا تتكرر تلك المحاولة الآثمة من امرأته الآثمة الخائنة وهذه الدياثة هي من أسوأ ما يمكن أن تنتجه حياة المدنية المترفة اللاهية المتفلتة المتحللة من ضوابط الأخلاق وآداب الشرع إن الشرع يأمر الرجل أن يحمي عرضه وأن يغار على أهله وحريمه وأن يحتاط من أجل الحفاظ على عرضه وأخلاقه وأن يبتعد عن الشبهات ((فمن ابتعد عن الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه))[1]، كما قال سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ولذلك منع الشرع الاختلاط وأمر بغض البصر وأمر المرأة بالاحتشام وأمرها بالحجاب أمام الأجنبي حتى لو كان خادما إن مسألة الخدم هي من مظاهر الرفاهية في حياتنا اليوم نعم بحمد الله تعالى جرت الخيرات في أيدي كثير من الناس وكثير من البيوت صار فيها خدم وخادمات ولكن لا تنسى أيها المسلم أن هذه الخادمة أجنبية عنك لا تنسى أيتها المسلمة أن هذا الخادم أو السائق أجنبي عنك فلا تنسوا ذلك لا تنسوا آداب الشرع ولكن من مشكلات هذه الظاهرة من مشكلات مسألة الخدم أنك ترى بعض الناس يأتي بخادمة فتاة جميلة محل فتنة وإغراء فيضعها في بيته أمامه وربما أمام أولاده فتيانا مراهقين أو شبانا يأتي بالفتنة عينها فيضعها أمامه وأمام أولاده ثم يقول لنفسه هو وأولاده لا تحترقوا وترى بعض الناس وترى بعض الناس يتخذ خادما أو سائقا شابا لا تدل هيئته على أنه من أهل الديانة والأمانة والعفاف فماذا يتوقع من يفعلون ذلك هل يتوقعون إلا الخراب والدمار والفساد العريض في بيوتهم انظروا موقف العزيز الذي تصوره لنا تلك الآيات إن فيه تحذيرا مبطنا من ربنا عز وجل تحذيرا لكل عاقل فيه غيره وفيه نخوه وفيه دين وإيمان من أن يؤول به الحال إلى مثل هذه الحال إذا كنا قد بلينا بهذه المسألة واضطررنا إليها في حياتنا المرفهة في هذا العصر فعلى كل منا أن يحتاط لدينه ولعرضه ولأخلاقه ولدين أهله وأولاده وعرضهم قارن بين موقف العزيز الذي بعد أن ثبتت إدانة زوجه وفسادها يقول ليوسف أعرض عن هذا لفلف القضية واسترها لا تتحدث بها وأنت أيتها الزوجة الخائنة استغفري لذنبك قارن بين هذا الموقف وبين موقف آخر يمثل النقاء والعفاف والطهر والحرص على صيانة الأخلاق والأعراض إنه موقف ذلك الشيخ الجليل صاحب موسى عليه السلام لما عاون موسى تلك المرأتين اللتين وجدهما عند بئر أو ماء يسقيان وسط الرجال فعاونهما وسقى لهما ثم تولى إلى الظل وجلس يشكو إلى ربه حاجته وفقره ويسأله أن ينزل عليه من فضله أن ينزل عليه من خيره وسرعان ما جاءته الإجابة جاءته إحدى المرأتين تمشي على استحياء إنها من بيئة شعارها الحياء والحشمة والنقاء والطهر ليست مثل تلك البيئة التي صورتها الآيات بيئة العزيز وامرأته قالت له: إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا [القصص:25]. وذهب موسى عليه السلام إلى أبيهما الشيخ الجليل وقص عليه القصص فلما جاءه وقص عليه القصص قال لا تخف نجوت من القوم الظالمين [القصص:25]. إذن عرف ذلك الشيخ الجليل حقيقة موسى وأخباره كلها عرف نبله وقدره وأمانته وعرف مكانته وقوته فأحبه ورغب أن يعمل عنده أجيرا لكنه حينئذ سيخالطهم سيعيش معهم وذلك الشيخ عنده بنات ونساء ولم يفت ذلك الشيخ أن إحدى ابنتيه انتبهت إلى شهامة ذلك الشاب الجليل الشأن موسى عليه السلام وانتبهت إلى أمانته وقوته فزوجه إياها هكذا بيسر وسهولة وبدون تكلف ولا تعقيد كتعقيد أهل المدنية المترفة زوجه إياها وجعل مهرها أن يعمل عنده أجيرا ثماني حجج ثماني سنين وإن أتمها عشرا فذلك تطوع منه وبذلك صان الشيخ عرضه وأحصن ابنته وكسب ذلك الشاب الجليل الشأن وساعده على الإحصان هذا مثال للنقاء والطهر وللحرص حرص أهل النقاء والطهر والعفاف والتقى على صيانة الأعراض والأخلاق هذا هو المراد وليس المراد أن تزويج الأجير دائما هو الحل فمن يجد مثل موسى عليه السلام وإنما المراد أن هذا مثال لما يجب على العاقل وعلى المؤمن على وجه الخصوص من الحرص على صيانة الأخلاق والأعراض من الحرص على أن يستبرئ لدينه وعرضه وعلى أن يبتعد عن الشبهات فإذا كنت أيها المسلم ألجأتك ضرورة هذه الحياة المرفهة إلى
مسألة الخدم فلا تتخذ إلا خادما تثق بأمانته وديانته وعفافه ولا يحل لك أن تدخل في بيتك خبثا وفسادا عريضا وإذا اضطررت إلى اتخاذ خادمة فلا تدخل في بيتك فتنة أو محل فتنة وإغراء فتعرض نفسك وأولادك وشبابك إلى الفساد العريض خذ بواجب الاحتياط لدينك ولعرضك وابتعد عن الشبهات قدر إمكانك فاتقوا الله أيها المسلمون اتقوا الله أيها المسلمون وحافظوا على دينكم وعلى أعراضكم وعلى أعراض أهليكم وأولادكم.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .
[1] البخاري: كتاب الإيمان (52).
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
لما خرج سيدنا رسول الله سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم إلى تبوك غازيا مجاهدا في سبيل الله قال لأصحابه المجاهدين الذين خرجوا معه: ((إن بالمدينة أقواما ما قطعتم واديا ولا سرتم مسيرا إلا هم معكم، قالوا: وهم بالمدينة؟ قال: نعم حبسهم العذر))[1]، فدل هذا الحديث الشريف على أن من وطن نفسه وعزيمته على الجهاد في سبيل الله وسعى إلى تحقيق ذلك ثم لم يتمكن بسبب العذر فإنه يشارك المجاهد في الأجر فما بالك به إذا شارك معه وسانده ولو لم يخرج معه بنفسه ونحن في هذه الأيام نمر في محنة عظيمة وفتنة عمياء هجم علينا هذا العدو الغادر وهذا الظالم الغاشم هذا البعثي العلماني الملحد هجم علينا وتسبب في كل هذه الفتنة والكارثة العظيمة وكان لابد من أن ندفع عنا شره وشر من وراءه ولقد رد الله كيده في نحره وألب عليه الأمم وجمع عليه الجيوش هذا من لطفه سبحانه وتعالى بجيران هذين الحرمين الشريفين والمسجدين المقدسين وها هم جنودنا من أبناء هذه الأمة يدافعون عنا عن حرماتنا وأعراضنا وأموالنا وديارنا ويدافعون عن حمى هذين الحرمين الشريفين والمسجدين المقدسين قد بذلوا أرواحهم وقدموا أنفسهم في سبيل ذلك فواجب على كل واحد منا مسانداتهم ومعاضاتهم فمن لم يلزمه الخروج معهم للقتال فالواجب عليه أن يكون سندا وعونا لهم لا يكون مصدر فتنة وتشويش عليهم أن يخلفهم بخير وأن يكون سندا وعونا كل بما يستطيع فصاحب اللسان والقلم واجبه أن يدفع عنا بلسانه وقلمه يبين لهم الحقائق يبين للمسلمين حقائق ذلك الصراع فإنها فتنة عمياء اختلط فيها الحق بالباطل على كثير من الناس يبين للمسلمين الحقائق وينشر الوعي بين الناس ويبين لهم واجبهم ويذكرهم بالله عز وجل وينصحهم بالإقلاع عن الذنوب والمسارعة إلى التوبة ومن كان لا يقدر على ذلك يقدم ما يستطيع من إمكانه وقدرته يقدم دمه يتبرع بدمه فهذا من أثمن الأشياء التي يمكن أن تقدمها للمقاتلين هذه من أثمن الأشياء التي تسهم بها في القتال أما من قعد آمنا في بيته معافى في سربه محميا بحماية الله تعالى الذي سخر لنا جميعا من يدافع عنا ويدفع عنا عدوان المعتدين ثم مع ذلك لا يشارك بشيء أبدا لا بمشاعره ولا بلسانه ولا بدمه ولا حتى بدعائه بل ربما لا يكف لسانه عن التشويش والفتنة هذا والعياذ بالله لا أظنه مسلما فإن من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم فاتقوا الله أيها المسلمون وعودوا إلى الله بادروا بالتوبة إليه وأقلعوا عن الذنوب فإن هذا كله من شؤم الذنوب هذا من عواقب المعصية من عواقب المعاصي والذنوب فأقلعوا عن الذنوب وتوبوا إلى الله تعالى قبل أن يعم شؤم هذه الذنوب والمعاصي بادروا إلى التوبة وألحوا بالدعاء على الله تعالى لا تملوا من ذلك فهذا وقت الدعاء في وقت الكرب وقت الضرورة والله رحيم غفور كريم يجيب دعاء المضطرين نسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يكفينا ويكفي المسلمين جميعا شر هذه الفتنة العمياء وأن كل من أراد بالإسلام والمسلمين شرا أن يرد كيده في نحره ويكفينا شره إنه قوي عزيز على كل شيء قدير.
أما بعد فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وعليكم أيها المسلمون بالجماعة فإن يد الله على الجماعة ومن شذ شذ في النار واعلموا أن الجماعة هي التمسك بالكتاب والسنة وبمنهج الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين.
يا ابن آدم أحبب من شئت فإنك مفارقه واعمل ما شئت فإنك ملاقيه وكن كما شئت فكما تدين تدان ثم صلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال جل من قائل: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما [الأحزاب:56]. وقال صلى الله عليه وسلم: ((من صلى علي واحدة صلى الله عليه بها عشرا))[2]، اللهم صل وبارك على محمد وعلى آل محمد كما صليت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة أبى بكر الصديق وعمر الفاروق وذي النورين عثمان وأبي السبطين علي وعن آل بيت نبيك الطيبين الطاهرين وعن أزواجه أمهات المؤمنين وعن الصحابة أجمعين وعن التابعيين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
[1] البخاري: كتاب المغازي (4161).
[2] صحيح مسلم (408).
ـــــــــــــــــــ(68/229)
يوسف ( قال رب السجن أحب إليّ )
...
...
1038
...
الأسرة والمجتمع, العلم والدعوة والجهاد, سيرة وتاريخ
...
...
القرآن والتفسير, القصص, قضايا المجتمع
...
عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري
...
...
المدينة المنورة
...
12/10/1411
...
...
قباء
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
"الحكمة من قصص القرآن – خطر المترفين – من آثارهم : 1- الإباحية والانحلال 2- الدياثة كيف تنتشر الدياثة في المجتمع – النجاة من كيد المترفين "
الخطبة الأولى
أما بعد:
فقال الله تعالى: وقال نسوة في المدينة امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه قد شغفها حبا إنا لنراها في ضلال مبين فلما سمعت بمكرهن أرسلت إليهن وأعتدت لهن متكأ وآتت كل واحدة منهن سكينا وقالت اخرج عليهن فلما رأينه أكبرنه وقطعن أيديهن وقلن حاشا لله ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم قالت فذلكن الذي لمتنني فيه ولقد راوته عن نفسه فاستعصم ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن وليكونن من الصاغرين قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن إنه هو السميع العليم [سورة يوسف:30-34].
ها نحن نعود إلى سابق عهدنا بسورة يوسف وقصته الكريمة وفي حقيقة الأمر نحن لا نروي لكم مجرد قصة أو نروي سورة وإنما نحاول استنباط الدروس والعبر منهما لحياتنا المعاصرة ومشكلاتنا الحاضرة انطلاقا من أن هذا هو مغزى سوق هذه القصة وأمثالها في كلام ربنا عز وجل فكما ذكرنا مرارا إنها ليست مجرد قصة تخيلها قصاص أو لفق حبكتها أديب إنما هي دروس وعبر وهداية لنا من ربنا عز وجل وتفصيل لكل شيء: لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون [سورة يوسف:111]. في هذه الآيات التي تلوناها عليكم من سورة يوسف تصوير لمشهد ليس من مشاهد القصة فحسب إنه من مشاهد الحياة تصوير لمشهد من مشاهد حياة الترف والنعيم حياة الطبقة المترفة من أهل القصور وماذا يمكن أن يفعلوه بالمجتمع إذا استعبدوه وتسلطوا عليه إنهم بإيجاز يخربونه ويقودونه نحو الدمار والهلاك وإذا ما رأيت مجتمعا أي مجتمع سلط الله عليه المترفين فتحكموا في مقدراته وملكوا أمره فاعلم أنه سائر سيرا حثيثا إلى الهلاك والدمار قال تعالى: وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا [سورة الإسراء:16]. إن المترفين من أهل القصور إذا تحكموا في المجتمع فإنهم ينشرون فيه الإباحية والانحلال وبسلوكياتهم الشائنة القذرة التي تصبح حديث المجالس ومحط اهتمامات الناس الفارغين بسلوكياتهم تلك يضعفون نوازع الفضيلة في نفوس الناس والمجتمع في بداية الأمر وهو مازال متصفا بالبراءة وبقدر كبير من النقاء فإن أفراده غالبا ما يستقبلون تلك الأحوال بالاستنكار ويستقبلون تلك الأخبار بالتقزز والنفور ولكن مع استمرارها وتكرارها فإن استنكارهم لها يضعف حتى يصل إلى الحد الذي يسمعون فيه وربما يرون الموبقات التي يرتكبها المترفون من أهل القصور ولا ينبض لهم عرق تلك الغيرة التي كانت تتأجج في الصدور وتلك النخوة إنهما الآن يبردان ويهمدان حتى تنحط مشاعر الناس والعياذ بالله ربما تنحط مشاعر الناس فيصلون إلى الحد الذي يعتادون فيه الخبث بل وربما يتقبلونه لأنه باستمراره وتكراره دون أن يغير فإنهم يألفونه ثم يتقبلونه ثم يتشوفون إليه وهكذا وبالتدريج يتم للمترفين القضاء على تلك البراءة في المجتمع وتلويث ذلك النقاء إن المترفين من أهل القصور لا ينشرون الإباحية والانحلال في المجتمع فحسب بل إنهم ينشرون الدياثة تأمل نموذجا من دياثة المترفين كما تصورها هذه السورة سورة يوسف: فلما رأى قميصه قد من قبل قال إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم [يوسف:28]. هذا هو كل ما فعله ذلك المترف هذا هو كل ما فعله العزيز لما تكشف له انحلال زوجته وفسادها وخيانتها لزوجها ومراودتها لفتاها نوه بكيدها ولم يجرؤ على مخاطبتها مباشرة بذلك مراعاة لخاطرها الملوث فصرف الحكم إلى جنسها من النساء إنه من كيدكن أي أيتها النساء إن كيدكن عظيم ثم بعد ذلك: يوسف أعرض عن هذا ليس هناك عقاب للمسيء ليس هناك أي تدارك للخلل ولا مبادرة لإصلاح الفساد ولكن لفلفة للقضية ودفن لنارها تحت الرماد فتلك المرأة الخائنة لم تلق من العقوبة ما يردعها عن تكرار محاولاتها الآثمة ويوسف البريء النقي بقي في مكانه بعلم العزيز وموافقته والقضية صدر الأمر إلى يوسف بلفلفتها بالسكوت عليها هذا نموذج من دياثة المترفين وهذه الدياثة إذا استحكمت في الرجال فماذا يفعل النساء إذا استحكمت الدياثة في الرجال فإن الوقاحة والجرأة على الخبث تستحكم في النساء تأملوا ماذا فعلت امرأة العزيز بعد ذلك لقد أعلنت عن جريمتها بل إنها تتباهى بجريمتها بكل جرأة ووقاحة ولقد راودته عن نفسه فاستعصم قالت: فذلك الذي لمتنني فيه ولقد راودته عن نفسه فاستعصم [يوسف:32]. هكذا يكون حال النساء عندما تصبح الدياثة ظاهرة عامة في المجتمع والعياذ بالله ولكن كيف تصبح الدياثة ظاهرة عامة في المجتمع اسألوا أذناب القردة والخنازير وتأملوا إلى أي شيء يدعون المجتمع لماذا يصرون ويلحون على إخراج المرأة المسلمة من بيتها لماذا يصرون على تمزيق حجابها لماذا يصرون على تعليمها كيف تراقص الأمريكان أذناب القردة والخنازير يريدون نشر الانحلال والدياثة العامة في المجتمع اسألوهم تعرفون كيف ينتشر الانحلال وتصبح الدياثة ظاهرة عامة في المجتمع وحينئذ الويل للآباء والويل للأزواج والويل للإخوان والأعمام إذا رأوا بناتهم ورأوا زوجاتهم ورأوا أخواتهم يتمرغون أمام أعينهم في وحل القاذورات الإفرنجية إذا ما أخذت النخوة أي واحد منهم فإنه يسجن ويعاقب إذا ما اشتعلت الغيرة في أي واحد منهم الغيرة للعرض وللفضائل وللدين فإنه سوف يسجن وينكل به ولئن لم يفعل ما آمره به ليسجنن وليكونن من الصاغرين [يوسف:32]. من أراد أن يشاهد هذا الذي أحدثكم به فليلق نظرة على جيراننا على المجتمعات من حولنا التي ابتليت بأذناب القردة والخنازير وتحكم فيها دعاة
الانحلال من المترفين ألقِ نظرة تشاهد هذا الذي أقوله وأحذرك منه نسأل الله عز وجل أن يقينا شر هذه الفتن ألقِ نظرة على المجتمعات من حولك تجد هذا الذي أحدثك عنه واضحا للعيان أيها المؤمنون اتقوا الله في أنفسكم واتقوا الله في أعراضكم واتقوا الله في أخلاقكم واحذروا المترفين من أهل القصور احذروا المترفين من أذناب القردة والخنازير دعاة الانحلال أولئك الذين يهلك الله بهم القرى ويدمر بهم الأمم فإن الناس في أي مجتمع إذا ما اعتادوا الخبث إذا ما أصبحوا يرون الخبث في ذويهم وفي مجتمعاتهم فلا ينبض لهم عرق ولا تتحرك فيهم نخوة فإن الهلاك حينئذ قد حط على هذا المجتمع والعياذ بالله.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين واشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:
ماذا تفعل يا أيها المؤمن المتمسك بالنقاء والطهر الثابت على دين الله إذا كنت في مجتمع يسير سيرا حثيثا نحو الانحلال إذا كنت في مجتمع أسباب الانحلال فيه تحاصرك من كل مكان الإعلام والتعليم والسوق والبيت والأقارب والجيران والمعارف والأصدقاء والصديقات إذا كان الجميع يضغطون عليك لأن تفعل وربما يتهددك دعاة الانحلال أذناب القردة والخنازير يتوعدونك بمختلف النعوت والأوصاف إذا لم تستسلم متزمت متشدد متطرف أصولي إنهم أناس يتطهرون [الأعراف:82]. هذه أوصاف تجدونها متفشية اليوم في المجتمعات الإسلامية وخاصة في وسائل الإعلام التي يديرها أذناب القردة والخنازير هذا حصار نفسي من العدو حصار نفسي وهناك حصار اجتماعي وهناك حصار سياسي كل هذا على المؤمن لكي يفعل ولئن لم يفعل ما أمره به ليسجنن وليكونن من الصاغرين [يوسف:32]. يضعونه في سجن هذا الحصار إذا لم يستسلم ويقبل بالانحلال والانهيار عليك يا أيها المؤمن أولا وقبل كل شيء أن تلجأ إلى ربك عز وجل تطلب منه بصدق وإخلاص أن يحميك من كيد هؤلاء من كيد دعاة الانحلال من كيد أذناب القردة والخنازير أن يصرف عنك كيدهم والسوء الذي يريدون استدراجك إليه أنت وأهلك وبناتك وأولادك الجأ إلى ربك أولا كما فعل يوسف الصديق وقال رب السجن أحب إلي وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين فإنك لما بقيت وحدك في الميدان بقدراتك الذاتية بدون معونة إلهية بدون ربك نسيت ربك فلم تلجأ إليه بالدعاء واللجوء والاستعاذة فإنهم منتصرون عليك لا محالة أنت هالك لا محالة فابدأ باللجوء إلى ربك واطلب منه الحماية والعصمة من هذا الذي يدعونك إليه فإن أي شيء يصيبك هو أهون من أن تستجيب إلى ما يدعونك إليه ثم عليك بالثبات على هذا النقاء إذا كنت في مجتمع يجري نحو القاذورات عليك بالثبات على دين الله إذا كنت في مجتمع يبتعد عن الله عليك بالثبات واعلم أن الله عز وجل ناصرك ومعينك إذا علم صدقك وإخلاصك ولجوءك إليه وبذلك لكافة ما تستطيع من الوسائل كما استجاب لعبده الصديق يوسف عبده ونبيه الصديق يوسف فصرف عنه كيدهن إنه هو السميع العليم.
أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وعليكم أيها المسلمون بالجماعة فإن يد الله على الجماعة ومن شذ شذ في النار واعلموا أن الجماعة هي التمسك بالكتاب والسنة وبمنهج الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين.
يا ابن آدم أحبب من شئت فإنك مفارقه واعمل ما شئت فإنك ملاقيه وكن كما شئت فكما تدين تدان ثم صلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال جل من قائل: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما [الأحزاب:56]. وقال صلى الله عليه وسلم: ((من صلى علي واحدة صلى الله عليه بها عشرا))[1] اللهم صل وبارك على محمد وعلى آل محمد كما صليت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد وأرضى اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة أبى بكر الصديق وعمر الفاروق وذي النورين عثمان وأبي السبطين علي وعن آل بيت نبيك الطيبين الطاهرين وعن أزواجه أمهات المؤمنين وعن الصحابة أجمعين وعن التابعيين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
[1] صحيح مسلم (408).
ـــــــــــــــــــ(68/230)
حجاب المرأة المسلمة
...
...
255
...
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
...
...
اللباس والزينة, المرأة
...
منصور الغامدي
...
...
الطائف
...
6/2/1420
...
...
أبو بكر الصديق
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
- تكريم الإسلام للمرأة ومكانتها – نماذج مشرقة للمرأة المسلمة ,وأسباب ذلك – أهمية حجاب المرأة وأثره ,وحكمه – خطورة انحراف المرأة وفسادها على الأمم – دور اليهود والنصارى في إفساد نساء المسلمين ووسائلهم في ذلك : 1- افتعال قضية لها 2- إفساد المجتمع (المجلات الماجنة ,الصحف) 3- دعوى تقييد المرأة 4- تشويه البيت ومكانته 5- شبهات حول الحجاب – خطورة هذه الدعوة ووجوب الانتباه لها
الخطبة الأولى
أما بعد:
فيا أيها الاخوة الكرام، مر معنا في خطبة ماضية حديث عن تكريم الإسلام للمرأة، كيف أنها عاشت تتفيأ نعمة الله عليها بالإسلام فغدت مصونة مكرمة، وأمست جبال الخوف أمنا، ولباس الذل عزا، فأصبحت المرأة في الإسلام لها وزنها وكيانها، إنها لم تكتف بتربية أولادها وحفظ زوجها، بل أصبحت تحمل هم الإسلام وتشارك في نصرة الإسلام والمسلمين، ووقودا يحمل الرجال إلى المعالي، ومساهمة في صناعة الحياة والمجد لأمتها، هذا البطل عبد الله بن الزبير يقاتله الحجاج في المسجد الحرام وينصب المجانيق على الكعبة، ويتساقط أنصار عبد الله بن الزبير واحدا تلو الآخر، ويقل عددهم، فيشعر بحرج في موقفه، ويلفت يمينا ويساراً فلا يجد من أعوانه أحدا، فينطلق إلى أمه أسماء بنت أبي بكر الصديق ويقول: (يا أماه خذلني الناس حتى أهلي وولدي، ولم يبق معي إلا اليسير، ومن لا دفع له أكثر من صبر ساعة من النهار، وقد أعطاني القوم ما أردت من الدنيا، فما رأيك). استمع إلى إجابة هذه الأم العظيمة: (الله الله يا بني، إن كنت تعلم أنك على حق تدعو إليه فامضي عليه، ولا تمكن من رقبتك غلمان بني أمية فليعبوا بك، وإن كنت أردت الدنيا فبئس العبد أنت، أهلكت نفسك ومن معك، وإن قلت إني كنت على حق فلما وهن أصحابي ضعفت نيتي فليس هذا فعل الأحرار ولا من فيه خير، كم خلودك في الدنيا؟ القتل أحسن ما يقع بك يا ابن الزبير، والله لضربة بالسيف في عزّ أحب إلي من ضربة بالسوط في ذل)، فقال يا أماه أخاف إن قتلني أهل الشام أن يمثلوا بي ويصلبوني، قالت: (يا بني إن الشاة لا يضرها السلخ بعد الذبح، فامض على بصيرتك واستعن بالله)؟
ومن النماذج المشرفة التي صنعها الإسلام، أن رجلا قام ذات يوم خطيبا في الناس يدعوهم إلى الإنفاق في سبيل الله لتجهيز المجاهدين، فتوافد عليه الناس وحتى النساء منهن من قدمت مالا ومنهن من قدمت حلياً، حتى جاءته امرأته فوضعت ضفيرتها، فقال ما هذا، قالت لم أجد ما أدفعه إليك إلا هذه الضفيرة، فاجعلها حبلا لفرس في سبيل الله. والنماذج كثيرة والمواقف لا تعد.
أيها الاخوة الكرام، إن الاستجابة لله وللرسول واعتصام المرأة بحيائها وحجابها وقرارها، هو الذي صنع منهن ما صنع.
أيها المؤمنون بالله واليوم الآخر، إن حجاب المرأة ـ أعني ستر وجهها كاملا وبدنها ـ وسامُ عزتها، وعنوان عفتها، ومظهر لصلاحها، ياأَيُّهَا النَّبِىُّ قُل لاِزْواجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذالِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً لقد كانت هذه الآية حصنا حصينا للمرأة من الأعين الجائعة، والقلوب المريضة، إن التزام المرأة بالحجاب هو عبادة تتقرب بها المسلمة إلى ربها، وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ. فليس الحجاب وستر الوجه عادة اجتماعية توارثها المجتمع كما يقوله بعض الناس، بل هو عبادة وأمر شرعي واجب الاتباع.
إن الحجاب الذي يستر المرأة هو عنوان عفتها فلا تتسابق النظرات إليها، ولا تواجه أذى الفساق، لأنها حفظت أوامر الله فحفظها، أما النساء العجائز اللاتي لم يبق فهن موضع فتنة في كشف الوجه والكفين، فقد قال ـ تعالى ـ: وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النّسَاء الَّلَاتِى لاَ يَرْجُونَ نِكَاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرّجَاتِ بِزِينَةٍ وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَّهُنَّ فإذا كان الحجاب عفة للكبيرات في السن اللواتي لا مطمع فيهن، فكيف بالشابات، كما أن الحجاب طهارة للمرأة المحجبة وطهارة لقلب الرجل، قال ـ تعالى ـ: وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْئَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ ذالِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ. فوصف الله ـ سبحانه ـ الحجاب بأنه طهارة لقلوب المؤمنين والمؤمنات، لأن العين إذا لم تر لم يشتهِ القلب، أما إذا رأت العين فقد يشتهي القلب وقد لا يشتهي. ومن هنا كان القلب عن عدم الرؤية أطهر، وعدم الفتنة حينئذ أظهر. المرأة المحجبة تجدها من أكثر النساء حياء والحياء من الإيمان، قال : ((الحياء والإيمان قرنا جميعا فإذا رفع أحدهما رفع الآخر))[1] كما أن حجاب المرأة يدل على الرجل زوجا كان أو أبا أو أخا، فالحجاب يتناسب مع الغيرة التي جبل عليها الرجل السوي الذي يأنف أن تمتد النظرات الخائنة إلى أهله.
لقد أوجب الله على المرأة أن تغطي وجهها وأن تستتر وتحفظ نفسها، ومن الأدلة على ذلك قوله ـ تعالى ـ: وَقُل لّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ فأمر الله المؤمنات بغض البصر وحفظ الفرج، ولا سبيل إلى ذلك إلا بستر الوجه عن الرجال الأجانب، كما أن في الآية وجوب ستر النحر بالخمار، فإذا كان ستر النحر واجبا فوجوب ستر الوجه أولى، لأنه موضع الجمال والفتنة، ومن الأدلة أيضا ما ثبت في الصحيحين عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: كان رسول الله يصلي الفجر فيشهد معه نساء من المؤمنات متلفعات بمروطهن ثم يرجعن إلى بيوتهن ما يعرفهن أحد من الناس[2].
ففيه دلالة على أن الحجاب والتستر كان من العبادات التي يمتثلها نساء الصحابة الذين هم خير القرون وأكرمها على الله ـ عز وجل ـ.
ومن الأدلة أيضا أن النبي قال: ((من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة، فقالت أم سلمة: فكيف يصنع النساء بذولهن، قال: يرخينه شبرا، قالت: إذن تنكشف أقدامهن، قال: يرخين ذراعا لا يزدن عليه))[3]، ففي هذا الحديث دليل على وجوب ستر المرأة، والقدم أقل فتنة من الوجه والكفين بلا ريب، فوجوب تغطية ما هو أكثر فتنة من القدم كالوجه أولى.
ومن أدلة الوجوب أيضا حديث عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: كان الركبان يمرون بنا ونحن محرمات مع الرسول ، فإذا حاذونا سكت إحدانا جلبابها على وجهها من رأسها فإذا جاوزونا كشفنا[4].
ومعلوم أن كشف الوجه للمرأة المحرمة واجب، لكن لما كان الركبان ،وهم أجابن يحاذون الصحابيات، كان تغطية الوجه واجبا، فلولا الاحتجاب وتغطية الوجه عند الأجانب لما ساغ ترك الواجب من كشف الوجه حال الإحرام.
أختاه يا أمة الإله تحشمي لا ترفعي عنكِ الخمار فتندمي
لا تعرضي عن هدي ربكِ ساعة عَضي عليه مدى الحياة لتغنمي
ما كان ربكِ جائرا في شرعه فاستمسكي بعراه حتى تسلمي
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم...
[1] صحيح، أخرجه الطبراني في الأوسط (8309) وقال: لم يروِ هذا الحديث عن عكرمة إلا مسلم بن بشير، تفرد به السمتي، والحاكم في المستدرك: كتاب الإيمان (1/22)، وصححه، قال الهيثمي في المجمع (1/92): وفيه يوسف بن خالد السمتي كذاب خبيث، قلت: وهو ليس في إسناد الحاكم قال المناوي في فيض القدير (3/426): قال الحافظ العراقي: حديث صحيح غريب، إلا أنه قد اختُلف على جرير بن حازم في رفعه ووقفه. وصححه أيضاً الألباني في صحيح الجامع (3195).
[2] صحيح، أخرجه البخاري: كتاب مواقيت الصلاة – باب وقت الفجر (578)، ومسلم: كتاب المساجد ومواضع الصلاة – باب استحباب التبكير بالصبح في أول وقتها... (645).
[3] صحيح، أخرجه عبد الرزاق في مصنفه: كتاب الجامع – باب إسبال الإزار (19984)، وإسناده صحيح، وأخرجه الترمذي: كتاب اللباس – باب ما جاء في جر ذيول النساء، حديث (1731)، والنسائي: كتاب الزينة – باب ذيول النساء، حديث (5336)، ذكره الحافظ في الفتح (10/259) وقوّاه، وقال المناوي في فيض القدير (6/113): إسناده صحيح. وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي (1415).
[4] ضعيف، أخرجه أحمد (6/30)، وأبو داود: كتاب المناسك – باب في المحرقة تغطي وجهها، حديث (1833)، وابن ماجه: كتاب المناسك – باب المحرمة تسدل الثوب على وجهها، حديث (2935)، قال المنذري في مختصر أبي داود (2/354): وفي إسناده يزيد بن أبي زياد، وقد تكلم فيه غير واحد، وأخرج له مسلم في جماعة، غير محتج به. قلت: قال الحافظ في يزيد هذا: ضعيف، كبر فتغير وصار يتلقّن، وكان شيعياً، التقريب (7768)، وانظر إرواء الغليل للألباني (1024).
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين ولا عدوان إلا على الظالمين، وصلى الله وسلم على المبعوث رحمة للعالمين محمد بن عبد الله وآله وصحبه أجمعين.
وبعد:
تعددت يا بني قومي مصائبنا فأقفلت بابنا المفتوح إقفالا
كنا نعالج جرحا واحدا فغدت جراحنا اليوم ألوانا وأشكالا
أيها الاخوة الكرام، لقد أدرك الأعداء أن المرأة حصن عظيم ومهم في الأمة المسلمة، وأن هذا الحصن قد ظل قرونا يحافظ على قوة المجتمع المسلم وصلابته، واهتدوا بهدى الشيطان إلى أنه متى استولوا على هذا الحصن العظيم وأصبح بأيديهم، حينئذ كَبِر على المجتمع أربعا.
لقد استفاد الأعداء مما حل بالحضارتين اليونانية والرومانية من انهيار بسبب فساد المرأة، لقد كانت المرأة في أول حضارتهم مصونة محتشمة تدبر المنزل تشغل الصوف، فاستطاعوا أن يفتحوا الفتوح ويوطدوا أركان إمبراطوريتهم العظيمة، فلما تبرجت المرأة وأصبحت ترتاد المنتديات والمجالس العامة وهي في أتم زينة وأبهى حلة، فسدت أخلاق الرجال، وضعفت ملكتهم الحربية، فانهارت حضارتهم انهيارا مريعا، نعم سقطت الإمبراطوريتان العظميان في ذلك الزمان، ولا بد أن تسقط الأمة الإسلامية سقوطا لا قيام بعده، هذا هو الهدف الاستراتيجي الذي يسعى إليه أعداء الأمة المسلمة، جاء في كتاب بروتوكولات حكماء صهيون: (لقد كنا أول من صاح في الشعب بما مضى بالحرية والإخاء والمساواة، تلك الكلمات التي راح الجهلة في أنحاء المعمورة يرددونها بعد ذلك دون تفكير أو وعي، وكانت هذه الكلمات في ذلك الوقت، شيء إلى الرخاء السائد لدى المسيحيين وتحطم سلمهم وعزيمتهم ووحدتهم، عاملة بذلك على تقويض دعائم الدولة).
أيها الاخوة الكرام، إن أعداء المرأة المسلمة هم اليهود والنصارى، وأتباعهم من المنافقين والعلمانيين والنفعيين، وبالطبع فإن حملة لواء إفساد المرأة المسلمة وإخراجها من بيتها لا يمكن أن يدعو إليه إلا أبناء المسلمين الذين جعلوا كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون، إنهم دعاة إلى أبواب جهنم من أطاعهم قذفوه فيها، ألسنتهم أحلى من العسل وقلوبهم قلوب الذئاب.
أيها المؤمنون، لقد تم نزع حجاب المرأة المسلمة إثر مخطط محكم ومدروس وفي ظل غفلة الأمة، تم نزع الحجاب في مصر والجزائر وأفغانستان وتركيا وغيرها، وسيناريو ـ أو قل ـ مسرحية نزع حجاب المرأة المسلمة واحدة وإن اختلفت الأسماء والأدوار.
وإليك أخي الحبيب، هذا المخطط الإفسادي لنكون جميعا على حذر، ولكي لا يخدعنا أعداء المسلمين من المنافقين والعلمانيين.
أولا: افتعال قضية، فالناس لا يتحركون بغير قضية تزعجهم وتقض مضاجعهم، ومن هنا يحرص المنافقون أن يوحوا للناس أن للمرأة قضية تحتاج إلى نقاش، ثم يستدعون الأنصار لها والمدافعين عنها، فيكثرون الحديث في وسائل الإعلام المختلفة بأن المرأة تعاني ما تعاني وأنها مظلومة وشقٌ معطل ورئة مهملة، ولا تنال حقوقها كاملة، وأن الرجل قد استأثر بكل شيء، وهكذا يشعروا الناس عن طريق الإعلام أن هناك قضية للمرأة، وإذا سئلوا عن الحل قالوا هل سيكون إقامة دعوى ضد الرجل أم ماذا؟ قالوا: لا، الحل في نزع الحجاب، لأنه هو السبب الذي جعل المرأة مظلومة والحق أن المرأة لا تعيش (في مجتمعنا) أي مشكلة، وعلاج مشاكل المرأة تكون بدعوة الرجال والنساء والكبار والصغار إلى تقوى الله، فأي أمة تتقي الله وتخافه، ـ واللهِ ـ لتعيشن السعادة في الدنيا والآخرة.
ثانيا: الإجهاض على مناعة المجتمع ضد الفساد حتى يصبح فاقدا الغَيْرة على دينه والحمية لعقيدته. ومن وسائل إضعاف المناعة ما يلي:
أ . المجلات الماجنة والصحف، فتظهر المرأة بالصورة الفاضحة والمنظر المخزي، ولست أدري كيف تصادر البضائع الفاسدة، ولا تصادر هذه المجلات التي تفسد قلوب وعقول الناس.
ب . والوسيلة الثانية: نشر الفكر المنحرف من خلال الأعمدة الصحفية أو المقابلات، حتى يعتاد الناس على سماعه مرة هنا ومرة هناك.
ثالثا: المطالبة بحرية المرأة، وأن المرأة مقيدة وأنها عبد يجب تحريره فيظهر الديوثون على أعراض أمتهم على أنهم منقذون رحماء. جاء في البروتوكول الرابع: (إن لفظة الحرية تجعل المجتمع في صراع مع جميع القوى، بل مع قوة الطبيعة وقوة الله نفسها).
رابعا: يصورون البيت ومهمة الأمومة والحضانة وقوامة الرجل بصورة بشعة، فالبيت ـ عندهم ـ سجن مؤبد، والزوج سجان قاهر، والقوامة سيف مصلت، والأمومة تكاثر رعوي، حتى تحدث هذه الدعاية ردة فعل سلبي تجاه هذه الأمور.
وأخيرا: يقولون إن العفة سلوك ينبع من النفس الطاهرة، وهذا يعني عند هؤلاء أن المرأة الراقصة مادامت نفسها طاهرة فهي عفيفة، أما المحجبة فلو كانت نفسها غير طاهرة فليست بعفيفة، هكذا يقلبون الموازين رأسا على عقب.
أيها الأحبة الكرام، هل تعلمون ما نتائج هذه الدعوة؟ إنهم يدعون إلى استجلاب غضب الله ـ تعالى ـ على المجتمع ونزول العقوبة به: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ ءامِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مّن كُلّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ.
وإذا نزلت العقوبة فمن ذا يدفعها؟ ومن ذا يردها؟
ويدعون إلى إفساد أخلاق أبنائنا وبناتنا، ودفعهم إلى الفواحش المرحمة بأنواعها يدعوننا إلى تحطيم الروابط الأسرية وانعدام الثقة بين أفرادها وتفشي الطلاق إنهم يدعون إلى انتشار الأمراض الفتاكة قال : ((لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم الذين مضوا))[1]. نعم لقد حرص المنافقون والعلمانيون على إفساد المرأة باسم التحرير، وإذا نزل بنا البلاء وتقطعت منا الأشلاء فلن ينفعنا تباكي أعداء المجتمع على المرأة.
يريدون هدم صروح الفضيلة، يريدون هدم المعاني الجميلة، يريدون وأدك والنفس حية، أنا لست أقبل هذا الهراء، وهذا العداء، فهيا اخرصوا أيها الأدعياء، فأنتم دعاة الهوة والرذيلة. لقد جرب اغرب ما تدعون، فهاهم لما زرعوا يحصدون حصاد الهشيم، ترى البنت تخرج من بيتها، قبيل البلوغ، فترجع تحمل في بطنها نتاج اللقاح، فنجهضه لتعيد اللقاء وتدعه ليلاقي أبناء أعباء الحياة وحده فتلقيه في ملجأ أو حضانة، فيبحث عن أمه أو أبيه، لكي يطعموه لكي يرحموه لكي يمنحوه الحنان الكبير لكي يرضعوه، فينأ يحمل حقدا دفينا لكل الوجود. أهذين الحقوق كما تزعمون؟ فأُفٍّ لكم ولما تدعون.
ألا صلوا وسلموا...
[1] صحيح، أخرجه ابن ماجه: كتاب الفتن – باب العقوبات، حديث (4019) والطبراني في الأوسط (4668)، والحاكم، كتاب الفتن والملاحم (4/54) وصححه، ولم يتعقبه الذهبي، قال البوصيري في زوائد ابن ماجه (ص518): هذا حديث صالح للعمل به، وقد اختُلف في ابن أبي مالك وأبيه، وذكره ابن حجر في الفتح (10/192، 193) وقوّاه بشاهد. وصححه الألباني بشواهده، السلسلة الصحيحة (106).
ـــــــــــــــــــ(68/231)
الحقوق الزوجية
...
...
266
...
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
...
...
الآداب والحقوق العامة, قضايا الأسرة
...
عثمان بن جمعة ضميرية
...
...
الطائف
...
...
...
غير محدد
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- توزيع الإسلام للحقوق بين أفراد الأسرة. 2- حقوق الأفراد مبنية على الحب والعدل. 3- حقوق الزوج على زوجته. منها: أ- الطاعة. ب- مراعاة ظروف الزوج. ج- عدم الخروج إلا بإذنه. د- حفظه في ماله وعرضه.
الخطبة الأولى
أما بعد :
فإن من قدر له أن يحيط بوضع الأسرة في مجتمعنا ، وما تعانيه بعض الأسر من مشكلات نفسية واجتماعية وخلقية ، (ويقف) على ما يقدم إلى المحاكم من دعاوى الخصومة الزوجية أيقن أننا في أشد الحاجة إلى الاهتمام بوضع العائلة والأسرة والعلاقات بين أفرادها ، فإن اضطراب الحياة الزوجية عامل كبير من عوامل اضطراب الأوضاع في الأمة ، وهذه المشكلات إنما تنشأ عن التساهل في أحكام الشرع وعندما تخف رقابة الإنسان لربه تبارك وتعالى ، وعندها تحكم الفوضى والغموض : الحقوق والواجبات بين الزوجين .
فلو استقام الأمر بينهما على حب روحي كريم ، وعلى حق واضح صريح يعرفه كل منهما ويطبقه على نفسه ويطالب به نفسه قبل أن يطالب به الآخر ، لو حصل ذلك كله لارتفع المستوى الاجتماعي في البيت حيث تنعم الأسرة كلها بالأمن والسعادة والاستقرار .
ويوم أن كانت أمتنا المسلمة تقود ركب الإنسانية إلى الخير وتحمل مشعل الهداية إلى الشعوب، كانت في داخل بيوتها تنعم بما لا يعرف له التاريخ مثيلا من استقرار السعادة الزوجية وشمول الطمأنينة والحب والتعاون لجميع أفرادها ، ذلك لأن الإسلام وضع لكل من الزوجين والآباء والأبناء حدودا واضحة يتميز فيها حق كل فئة عن حق الفئة الأخرى ، وهي حقوق متكافئة منسجمة تؤدي إلى ملء القلوب بالحب ، وملء الحياة بالنعيم ، وملء المجتمع بالنسل الصالح الذي يبني ولا يهدم ، ويسمو ويرتفع ولا ينحدر .
وهذه الحقوق أقامها الإسلام على دعامتين من العدل والحب ، لا ينبع من الحياة إلا منهما ، ولا يستقيم شأن إلا بها ويتضح هذا من الغاية التي بينها الله تعالى من الزواج فقال: ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة .
وإذا كنتم قد قمتم بواجبكم أيها الأزواج ، إذ قمتم بواجبكم نحو زوجاتكم فيما أشرنا إليه في الخطب الماضية ، وينبغي أن تقوموا فعلا بها فهي أمر الله الشارع الحكيم فعندئذ يحق لكم اليوم أن تعرفوا حقوقكم أنتم، وأن تعرف كل زوجة واجبها اتجاه زوجها . .
فأول هذا الحقوق : طاعة الزوجة لزوجها بالمعروف حسب ما يقرره الشارع الحكيم ، وهي طاعة تحتمها المصلحة المعنوية المشتركة بين كل شريكين متحابين متصافيين ، إنها ليست طاعة العبد لسيده ، ولا الذليل لمن يستعبده ، وإنما هي طاعة الأخ الصغير للأخ الكبير ، والزوجة غالبا ما تكون أصغر من الرجل سنا ، وهي القوامة التي يطلبها الإسلام من الزوجة لزوجها ، كما أشار الله تعالى إلي ذلك بقوله: الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم .
وهذه الطاعة لها أثرها الكبير في استقامة الحياة وسعادة الأسرة ، بل هي سبب في دخول المرأة إلى جنة ربها تبارك وتعالى: (( إذا صلت المرأة خمسها وصامت شهرها وحفظت فرجها وأطاعة زوجها قيل لها ادخلي الجنة من أي الأبواب شئت)) .
وينبغي التنبيه على أن الطاعة في المعروف وفي غير معصية ، فلو أرادها على شرب حرام أو طعام حرام أو لباس لا يجوز أو اختلاط ، فلا تطعه (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق).
ومن حق الزوج على زوجته أن ترعى شعوره فتبتعد عما يؤذيه من قول أو فعل أو قلق ، وأن تراعي ظروفه المالية ، ومكانته الاجتماعية ، وأن تقدر مسؤولياته في العمل خارج البيت فلا تضيق من ذلك ، ولا تكلفه من النفقات ما لا يطيقه ، وأن لا تستكثر من الطلب لئلا يلجئ إلى الكسب الحرام .
لقد كانت المرأة تقول لزوجها : إنا نصبر على الجوع ولا نصبر على النار وعندما اجتمعت أمهات المؤمنين لطلب النفقة ، اغتم لذلك واعتزلهن شهرا حتى نزل قوله تعالى: يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالن أمتعكن وأسرحكن سراحاً جميلاً وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة فإن الله أعد للمحسنات منكن أجراً عظيماً .
ومن حقوق الزوج أن توفر له زوجته : سكن النفس والطمأنينة في البيت بنظافة حبها ونظافة بيتها ، وأن تتزين له حين يقدم بما يقربها إليه ويزيد حبه لها رسوه وشوقه إليها ، وكانت المرأة توصي ابنتها بذلك عند الزواج كما أوصت امرأة ابنتها ، بنيه : إنك خرجت من العش الذي درجت فيه فصرت إلى فراش لم تعرفيه ، وقرين لم تألفيه ، فكوني له أرضا يكن لك سماء ، وكوني له مهادا يكن لك عمادا ، وكوني له أمة يكن لك عبدا ، ولا تلحفي عليه فيقلاك ، ولا تباعدي عنه فينساك ، إن دنا منك فاقربي إليه ، وإن نأى عنك فأبعدي عنه ، واحفظي أنفه وسمعه وعينه فلا يشمن منك إلا طيبا ، ولا يسمع إلا حسنا ولا ينظر إلا جميلا.
ومن حق الزوج على زوجته أن لا تخرج من بيتها إلا بإذنه ، وألا تبدي زينها في جانب كي يطمئن قلبه ، وتكن نفسه ، ومن وجه النبي إلا تخرج المرأة من بيتها إلا بإذن زوجها ، فإن فعلت لعنتها الملائكة حتى تعود ، وأمر الله بغض النظر فقال: وقل للمؤمنات أن يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن أو أباء بعولتهن أو أبناء بعولتهن أو إخوانهن أو بني أخواتهن أو نسائهن .
ومن حقوق الزوج على زوجته أن تترك له وقتا يفرغ فيه لنفسه ولفكره ، فإن كان عابدا تركت له وقتا للعبادة وإن كان عالما تركت له وقتا لطب العلم ، وإن كان تاجرا وإن كان عاملا ، وهكذا ما لم يصل الأمر إلى حد (النفرة والجفاء) .
ومن حق الزوج أنها تحافظ على سمعته وكرامته وعرضه ، وأن تكون أمينة على ماله ، لا تأخذ منه إلا بالمعروف ، هذه بعض الحقوق التي للزوج على زوجته ، وهو نداء للزوجات ليسمعن له هنا أو ينقله الرجال إليهن: أيها الزوجات احرصن على سعادة أزواجكن واجعلن من بيوتكن جنات يأوي إليها الأزواج حتى يجدوا من قلوبكن وبشركن ونظافتكن وتعاونكن ، ومن قبل ومن بعد من فوقكن الله ومن تقواه التمسك بدينه ، (ما يجعل من هذا كله ما يحبب إلى أزواجكن لبيوتكن ونساءكن )، وحذار حذار من الغفلة والتفريط والتساهل في الحقوق التي شرعها الله تعالى .
ـــــــــــــــــــ(68/232)
أحكام تتعلق بالمرأة
...
...
267
...
الأسرة والمجتمع
...
...
المرأة
...
عثمان بن جمعة ضميرية
...
...
الطائف
...
...
...
غير محدد
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- دور المرأة في تدبير بيتها. 2- آداب خروج المرأة من بيتها. 3- التحذير من التبرج. 4- لباس المرأة.
الخطبة الأولى
أما بعد:
أيها الأخوة المؤمنون: لا يزال حدثينا موصولا بما سبق في الأسبوعين الفائتين عن الأسرة وتنظيمها وحقوق كل من الرجل والمرأة في هذه الأسرة ، ولقد جعلت المرأة في هذا التنظيم ربة البيت وسيدته ، وإذا كان على زوجها كسب الأموال لتدبير شؤون المنزل وقد رفع الإسلام عنها جميع الواجبات التي تتعلق بخارج البيت ، وذلك لأن الإسلام لا يحمد خروج المرأة من البيت وخير الهدي لها في الإسلام أن تلازم بيتها وتستقر فيه ، يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقين فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض وقلن قولاً معروفاً وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى .
ومع ذلك فقد أباح الإسلام للمرأة الخروج لحاجة تقضيها لا مندوحة عنها ، فقد قال عليه الصلاة والسلام: ((قد أذن الله لكن أن تخرجن لحوائجكن)). ومثل هذا الإذن منحه الرسول صلى لله عليه وسلم للنساء مراعاة للأحوال والضرورات وخمسة قيود وشروط :
أ-فقد حرم على المرأة أن تخرج من بيتها إلا بإذن زوجها لأنه القيم المسؤول ، فإذا خرجت دون إذن لعنتها ملائكة السماء حتى ترجع .
ب-وهذا الإذن لا يبيح ما حرم الله عز وجل عليها ولا يرفع عنها القيود والتكاليف التي وضعها الإسلام ، فلا يجوز لها أن تخرج إلا بلباس ساتر سابغ ليغطي جميع حجمها ولا يبدي منه شيئا ولا بضعه ، وألا تكون متعطرة متزينة ، ولا متشبهة بلباسها بالرجال ولا بالنساء الكافرات ، وأن تغض بصرها وتحفظ لسانها ومشيتها ، قال تعالى: قل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها ولا يضربن بخمورهن على جيوبهن ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن أو أباء بعولتهن أو أبناءهن أو أبناء بعولتهن أو إخوانهن أو بني إخوانهن أو بني أخواتهن أو نسائهن أو ما ملكت أيمانهن أو التابعين غير أولي الإربة من الرجال أو الطفل الذي لم يظهروا على عورات النساء ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن .
فهذه آيات الله تعالى وأحاديث النبي كثيرة في هذا المعنى لا يجوز للمرأة أن تخرج إلا بلباس ساتر لجميع جسدها لا يبدي جزءا منه ، ومنه نعرف حكم خروج المرأة بالثياب التي تبدي شيء من الصدر والثياب التي تصنع بنصف كم أو بلا أكمام ، حتى أنك لتجد أن من النادر أن ثوبا نسائيا يصنع بأكمام وكأن الله عز وجل قد حرم هذا على النساء .
وثاني الشروط في لباس المرأة ألا يكون زينة في نفسه ، فإنه إن كان كذلك كان هذا تبرجا حراما منهيا عنه لأنه يلفت أنظار الرجال إلى المرأة ، قال : (( ثلاثة لا يسأل عنهم : رجل فارق الجماعة وعصى إمامه ومات عاصيا ، وأمة أو عبد أبق فمات ، وامرأة غاب عنها زوجها قد كفاها مؤونة الدنيا فتبرجت بعده )).
ولذلك قال العلماء: من الأفعال التي تلعَْن عليها المرأة إظهار الزينة والذهب تحت النقاب وتطيبها بالمسك والعنبر والطيب إذا خرجت ولبسها الصباغات والأزر الحريرية وكل ذلك من التبرج الذي يمقت الله عليه ، ويمقت فاعله في الدنيا والآخرة ولهذه الأفعال التي قد غلبت على أكثر النساء وقال عنهن : (( اطلعت على النار فرأيت أكثر أهلها النساء )).
ويشترط أن يكون لباس المرأة صفيقا ثخينا سميكا لا يشف ، لأن الستر لا يتحقق إلا بذلك وأما اللباس الشفاف فإنه يزيد المرأة فتنة وزينة ، وفي ذلك يقول : (( سيكون في أخر أمتي نساء كاسيات عاريات على رؤوسهن كأسنمة البخت العنوهن فإنهن ملعونات لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها وإن ريحها لتوجد من مسيرة كذا وكذا . .)). ومن هذا تعلمون حكم الخروج بالثياب الرقيقة التي تباع في زماننا هذا ، تلك التي تبدي من الجسم أكثر مما تستره وتخفيه .
وبما يتصل بهذا أن يكون اللباس فضفاضا واسعا غير ضيق لئلا يصف جسم المرأة لأن الثوب للستر ولمنع الفتنة، وإذا كان ضيقا كان أدعى للفتنة .
ولا يجوز للمرأة أن تخرج متعطرة متبخرة في بدنها أو ثوبها لقوله عليه الصلاة والسلام : (( أيما امرأة استعطرت فمرت على قوم ليجدوا من ريحها فهي زانية )) ، وعن زينب الثقفية (( إذا خرجت إحداكن إلى المسجد فلا تقربن طيبا )) ، (( وأيما امرأة أصابت بخوراً فلا تشهد فعل العشاء الآخرة )) . وقد مرت امرأة يوما بأبي هريرة وريحها تقصف ، فقال : يا أمة الجبار ، المسجد تريدين ؟ قالت نعم قال : وله تطيبت ؟ قالت نعم ، قال : فارجعي فاغسلي الطيب عنك ، فإني سمعت رسول الله يقول: (( ما من امرأة تخرج إلى المسجد تقصف ريحها فيقبل الله منها صلاة حتى ترجع إلى بيتها فتغتسل )).
فيا معشر المسلمين : إذا كان حراما على مريدة المسجد أن تتطيب وتتعطر وهي تريد أداء عبادة في المسجد فماذا يكون الحكم على من تريد الأسواق والشوارع وتمر بالرجال فيها ؟ أليست تكون بذلك ارتكبت إثما عظيما ومنكرا كبيرا وشرا كثيرا .
ويشترط في لباس المرأة ألا يكون شبيها بلباس الرجال لأنه عليه الصلاة والسلام: (( لعن الرجل يلبس لبسة المرأة والمرأة تلبس لبسة الرجل )). وقال: (( ليس منا من تشبه بالرجال من النساء ولا من تشبه بالنساء من الرجال )) .
ولا يجوز أن يكون اللباس مشابهاً للباس الكفار، وقد جاءت أحاديث كثيرة جدا في النهي عن التشبه بالكفار في اللباس أو الزينة وفي العبادة وغيرها. .
ولا يجوز أن يكون اللباس لباس شهرة يلبسه تفاخرا بالدنيا وزينتها أو لباسا خسيسا إظهارا للزهد (رياء) لقوله : (( من لبس ثوب شهرة في الدنيا ألبسه الله ثوب مذلة يوم القيامة ثم ألهب فيه نارا)) .
تلكم أيها المؤمنون: شروط ينبغي أن تراعيها المرأة في لباسها عند الخروج وعند غير الخروج، ويستثنى من ذلك شرطان لا يلزمان المرأة وهي في بيتها : أن يكون ساترا ، أن يكون صفيقا ، أن يكون زينة .
نعم المرأة التي تلبس مسؤولة ، والرجل الذي يرضى والرجل الذي يشتري ، والرجل الذي يهوي ذلك وتشجيعه مسؤول عن هذا كله ، (( كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته )) يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون .
ـــــــــــــــــــ(68/233)
أركان الوحدة الإسلامية – المرأة الصالحة
...
...
907
...
الأسرة والمجتمع, التوحيد
...
...
أهمية التوحيد, المرأة
...
عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري
...
...
المدينة المنورة
...
27/11/1412
...
...
قباء
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
من أعظم معاني الحج إبراز معالم وحدة المسلمين ودعائمها : ( قبلة واحدة – شعائر واحدة رب واحد ) – واقع الأمة اليوم والواجب عليهم – مقومات الوحدة الحقيقية وأركانها : 1- التوحيد بمعناه الحقيقي ومفهومه الشامل : ( نماذج من انحراف الأمة في التوحيد ) 2- مصادر استقاء الدين والعقيدة والشريعة : الكتاب والسنة 3- الاجتماع على حب الصحابة وآل بيته صلى الله عليه وسلم – الخطبة الثانية : * من أهم دعائم الحياة الزوجية وأسسها : الاختيار الصالح للرجل أو المرأة – صفات المرأة الصالحة كما في الحديث : 1- إذا نظر إليها سرته , والسبيل إلى ذلك 2- إذا أمرها أطاعته , وعِظَم حق الزوج على الزوجة 3- تحفظ زوجها في نفسه وماله
الخطبة الأولى
أما بعد: فقال الله تعالى: إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون [المؤمنون:52]. إن من أعظم معاني الحج بعد الامتثال وإجابة نداء الله تعالى الذي آذن به أبو الأنبياء إبراهيم الخليل عليه وعليهم السلام أنه يبرز معالم الوحدة بين المسلمين وينبههم إلى دعائمها وأسبابها فالقبلة التي يتوجهون إليها واحدة والشعائر والمناسك واحدة والرب الذي ينادونه واحد والدين الذي يستظلون بظلاله واحد ولكن هل تنبه المسلمون إلى هذه الحقائق, كيف وأكثرهم في حقيقة أمرهم مختلفون متناحرون متنازعون ولأجل هذه الفرقة وهذا التناحر تسلط عليهم الأعداء وحل عليهم هذا الذل الذي حل بهم اليوم ولم ينزع من رقابهم إلى الآن, بينما نبيهم الرؤوف بهم صلى الله عليه وسلم قد حذرهم من ذلك في حجة الوداع في خطبته العظيمة ووصيته الجليلة إلى أمته فقال: ((ألا لا ترجعوا بعدى كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض))[1] فسمى صلى الله عليه وسلم الفرقة والتنازع والتطاحن والتناحر سماه كفراً لأنه قد يفضي إلى الكفر.
فواجب المسلمين اليوم أن يجمعوا كلمتهم وأن يوحدوا صفوفهم ولكن على الحق فكل وحدة في الحقيقة لا تكون على الحق وعلى كلمة الله تعالى وعلى دينه وملته فليست وحدة في الحقيقة, هناك أسس وأركان إذا اختلف فيها الناس فقد اختلفا في الملة والدين وإذا ما اتفقا عليها فهم حينئذ أبناء ملة واحدة وأبناء دين واحد:
أولاً: التوحيد الذي حقيقته وجوهره أن لا نعبد إلا الله تعالى وننفي عبادة ما سواه وأن نكفر بالطواغيت وهم كل من طغى وتجبر وزاد عن حده من معبود أو متبوع أو مطاع, بدون هذا التوحيد لا يكون الإنسان مؤمناً أبداً, هذه هي الكلمة السواء هذه هي الملة الحنيفية الإبراهيمية التي جاءنا بها سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم والتي من أجلها لبث في مكة أكثر من عشر سنين أكثر من نصف عمر دعوته النبوية المباركة يعلمها الناس ويشرحها لهم ويدعوهم إليها لا يكاد يشتغل بغير ذلك صلى الله عليه وسلم, فعلى هذا التوحيد يجب أن يجتمع المسلمون, كيف يتحد المسلمون إذا لم يكونوا موحدين, كيف يتحد ويجتمع من يعبد الله وحده لا شريك له مع من يعبد السيد البدوي أو يعبد التيجاني أو يعبد علي بن أبي طالب أو أي أحد من ذريته أو يستغيث بأي أحد من خلقه كائناً من كان أو يضفي عليه شيئاً من صفات الإلهية التي اختص بها الإله الواحد الأحد سبحانه وتعالى, لا يمكن أن يجتمع هذا مع هذا ولا أن يأتلف هذا مع هذا, أيها المسلمون إذا أردتم أن تجمعوا كلمتكم فعليكم بالتوحيد وانشروا التوحيد بين المسلمين وعلموهم هذه الكلمة السواء, هذه الملة الإبراهيمية الحنيفية كما فعل إمامكم ونبيكم وحبيبكم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.
ثانياً: المصادر فمن أين يستقي المسلمون دينهم وعقيدتهم وشريعتهم؟ من كتاب ربهم القرآن الكريم وسنة نبيهم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم فهذان هما الأصلان الثابتان الخالدان المحفوظان بالحفظ الإلهي, فإن حفظ القرآن الكريم كلام الله يقتضي حفظ سنة نبينا المصطفي صلى الله عليه وسلم فإنها أنزلت معه مبينة له شارحة له لا تنفك عنه ليوم الدين, فهذه المصادر لا نقبل أي تشكيك فيها أبداً, فمن شك في حرف من كتاب الله القرآن أو زعم فيه الزيادة أو النقصان, أو شك في سنة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم فإنه ليس بمسلم, ليس أخاً لنا ولا كرامة, لا تجتمع به الكلمة ولا يأتلف به الصف, إنه ليس من أهل ملتنا ولا من أهل قبلتنا وإن صلى إليها وإن حج إليها.
ثالثاً: رعيلنا الأول أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن الله تعالى كما اصطفي نبيه صلى الله عليه وسلم فإنه اصطفي له واختار له أنصاراً وأصحاباً يحملون عنه الدين ويبلغونه إلى سائر الأمة وآووا نبيهم ونصروه وعزروه وآمنوا به واتبعوا النور الذي أنزل معه, فيجب علينا نحن المسلمين أن نجتمع على حبهم, على حب صدرنا الأول ورعيلنا المبجل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كما نحب نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم وكما نحب آل بيته الكرام فإن آل بيت رسول الله وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم شقيقان لم يفترقا أبداً ولن يفترقا إلى يوم الدين, إلى أن يلقوا جميعا رب العزة والجلال وإن زعم الفرقة بينهما من زعم من فروق المجوس وأذناب اليهود , إن كل من طعن في رعيلنا الأول وصدرنا المبجل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو في الحقيقة إنما يطعن في ديننا وعقيدتنا وشريعتنا وقرآننا وسنة نبينا وإمامنا وسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم لأنهم الذين حملوا ذلك كله وبلغوه إلينا فكيف نقبل منه ذلك؟ بل كيف يكون مسلماً بعد ذلك؟ لا والله ما هو بمسلم وما هو بأخ لنا ولا كرامة, إنه ليس من أهل ملتنا ولا من أهل قبلتنا وإن صلى إليها وإن شد رحله إليها, فيا أيها المسلمون تبصروا في أمر دينكم اجتمعوا على توحيد ربكم وعلى مصادر دينكم وعلى تعظيم صدركم الأول أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وآل بيته الكرام وإلا فكيف تتفق الكلمة وكيف يجتمع الصف؟ وكيف تأتلف القلوب؟ بل كيف تعبدون ربكم الذي أمركم بالاجتماع على عبادته حين قال: إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون [المؤمنون:52]. أي كونوا أمة واحدة تجتمعون على عبادة ربكم وحده لا شريك له.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه غنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري كتاب العلم (121)، مسلم كتاب الإيمان (65].
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد: فعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أنه لما أنزل قوله تعالى: والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم [التوبة:34]. عظم ذلك على الصحابة فقال عمر الفاروق رضي الله عنه: أنا أفرج عنكم. فذهب فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية فقال رسول الله ما معناه أن: ((كل مال أديت زكاته فليس بكنز))[1], ثم قال له صلى الله عليه وسلم: ((ألا أدلك على خير ما يكنز المرء المرأة الصالحة التي إذا نظر إليها سرته وإذا أمرها أطاعته وإذا غاب عنها حفظته))[2]. صدق سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وكما وعدناكم في الجمعة الماضية أن نبدأ في الحديث عن الحياة الزوجية وحقوق الزوجات وما يتعلق بذلك من المشكلات نقول إن من أهم دعائم الحياة الزوجية وأسسها منذ البداية الاختيار الصالح سواء بالنسبة للرجل أو بالنسبة للمرأة, فكما أن على ولي المرأة أن يحسن اختيار الزوج لموليته فإذا جاء من يرضى دينه وأمانته عليه أن يزوجه, فإنه كذلك على الرجل أن يحسن اختيار الزوجة التي يختارها شريكاً له في بناء أسرة مسلمة فعليه أن يبحث عن ذات الدين حتى يظفر بها, وذات الدين هذه من صفاتها هذه الصفات الثلاث التي نوه بها سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم هي من صفات ذات الدين أولاً إذا نظر إليها سرته وذلك لحسن تبعلها لزوجها, لحسن قيامها بواجباتها الزوجية تحرص على التنظف وعلي التزين لزوجها حتى لا يراها إلا وهي في أحسن هيئة وأبهى منظر ولا يلزم من ذلك الجمال فإن الجمال أمر نسبي قد يصير الجمال قبحاً مع الإهمال ومع سوء الطباع وسوء الأخلاق وقبح الأفعال والأقوال وقد تصبح المرأة العادية في غاية الجمال مع جمال النفس وحسن الطباع والأقوال والأخلاق والأفعال.
ثانياً: إذا أمرها أطاعته فإن المرأة الصالحة ذات الدين تعلم أن طاعة الزوج أمر نبوي أمر به سيدنا المصطفي صلى الله عليه وسلم, قال صلى الله عليه وسلم: ((لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت الزوجة أن تسجد لزوجها))[3]، وأخبر صلى الله عليه وسلم أن الزوجة التي تعصي زوجها في المعروف فيبيت غضبان عليها تبيت تلعنها الملائكة[4], فالمرأة الصالحة ذات الدين تطيع زوجها إذا أمرها بمعروف أما إذا أمرها بمعصية فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. ثالثاً تحفظ سره, تحفظ زوجها في غيابه سواء في سره لا تبوح به لأحد أو في ماله لا تبذره أو تحفظه في نفسها فإنها عرضه فتحفظ نفسها من الشبهات وتحفظ نفسها من الحرام. هذه هي صفات المرأة الصالحة التي يجب أن تختارها أيها المسلم وأن تظفر بها, فإذا ظفرت بها فاحرص على إكرامها والقيام بحقوقها هذا واجبك بأمر الله تعالى وبأمر نبيه صلى الله عليه وسلم ولهذا الحديث بقية إن شاء الله.
أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هديه صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
وعليكم أيها المسلمون بالجماعة فإن يد الله علي الجماعة ومن شذ شذ في النار واعلموا أن الجماعة هي التمسك بالكتاب والسنة وبمنهج الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين.
يا ابن آدم أحبب ما شئت فإنك مفارقه واعمل ما شئت فإنك ملاقيه وكن كما شئت فكما تدين تدان ثم صلوا علي خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال عز من قائل: إن الله وملائكته يصلون علي النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما [الأحزاب:56]. وقال صلى الله عليه وسلم: ((من صلى علي واحدة صلى الله بها عليه عشرا))[5] اللهم صل وبارك على محمد وعلى آل محمد كما صليت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وارضى اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبى بكر الصديق وعمر الفاروق وذي النورين عثمان وأبي السبطين علي وعن آل بيت نبيك الطيبين الطاهرين وعن أزواجه أمهات المؤمنين وعن الصحابة أجمعين وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
[1] أبو داود كتاب الزكاة وسنده جيد كما قال العراقي الفتح (3/320).
[2] أبو داود كتاب الزكاة (1664).
[3] الترمذي كتاب الرضاع (1159).
[4] مسند أحمد (4/439).
[5] صحيح مسلم (408).
ـــــــــــــــــــ(68/234)
تربية الأبناء
...
...
302
...
الأسرة والمجتمع
...
...
الأبناء
...
عثمان بن جمعة ضميرية
...
...
الطائف
...
...
...
غير محدد
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- فطرية حب الأبناء والذرية. 2- الأبناء عمل صالح يمتن في صحائف الآباء. 3- واجب الآباء تربية الأبناء. 4- الأمور التي ينبغي أن يغرسها الأب في صدور أبنائه. 5- القدوة في تربية الأبناء.
الخطبة الأولى
وبعد :
أيها المؤمنون : لقد قضت إرادة الله سبحانه وحكمته أن يجعل لهذه الأمة منسكا فريدا مجيدا وطريقا واضحا تسير على هداه المستقيم، ولكل أمة جعلنا منسكاً هم ناسكوه فلا ينازعنك في الأمر وادع إلى ربك إنك لعلى هدى مستقيم .
وبفضل هذا المنهج كانت أمتنا خير أمة أخرجت للناس تربط بين أفرادها أوثق الأواصر والروابط ، ولن يجد الإنسان في علاقات الناس رابطة أقوى وأرسخ من رابطة الأبوة والبنوة ، ومع بداهة التسليم بقوة هذه الرابطة ورسوخها وانفرادها بالسمو والحنان بين جميع العلاقات والارتباطات والمشاعر الإنسانية ، فهي محتاجة دائما إلى التذكير بحقوقها والتحذير من عقوقها .
ونجد في القرآن الكريم صورا حية مشرقة عن لهفة الأبوة على البنوة ، حبا لنيلها وحرصا على خيرها واهتماما بصلاح أمرها ورجاء لسعادتها وفوزها، ولا عجب في ذلك: المال والبنون زينة الحياة الدنيا . وحب الذرية والأبناء فطرة بشرية عميقة تقر بها العين: والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماماً .
والأولاد امتداد لأعمار آبائهم القصيرة وتجديد لوجودهم الفاني وخلف لسلف راحل يذكرونه ويدعون له ، فإذا مات العبد انقطع عمله إلا من ثلاث: (( صدقة جارية أو علم ينتفع به ، أو ولد صالح يدعو له )) .
ولذلك اهتم الإسلام اهتماما عظيما بالأولاد من البنين والبنات وجعل ذلك مسؤولية من أعظم المسؤوليات على الآباء والأمهات ينبغي أن تؤدى بجزم وعزم وأمانة ومضاء على الوجه الذي يتطلبه الإسلام .
ولو تتبعنا آيات القرآن الكريم لوجدناها تهيب بالآباء للقيام بمسؤولياتهم وتحذرهم من التقصير بالواجب، وتؤكد أن هذا التقصير يؤدي بصاحبه إلى الهلاك، وبالمجتمع إلى الدمار: يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون .
وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقاً نحن نرزقك والعاقبة للتقوى . يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم .
أيها المؤمنون: إن تبعة المؤمن ومسوؤليته في نفسه وفي أهله مسؤولية ثقيلة رهيبة، فالنار هناك وهو متعرض لها وأهله ، عليه أن يحول نفسه وأهله دون هذه النار التي تنتظر هناك وقودا من الناس والحجارة ، ولن يقبل عندها عذر عن التقصير ولا ينفع عندئذ الاعتذار، لا تعتذروا اليوم إنما تجزون ما كنتم تعملون .
وفي التوجيهات النبوية كثير من الروائع الممتعة التي تضع الأب والأم أمام مسؤولياتهما تجاه الأولاد بتربيتهم والعناية بهم :
قال عليه الصلاة السلام: (( كلكم راع . . الرجل راع في أهله ومسؤول عن رعيته ، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها . . الخادم . . )) ، ((لأن يؤدب الرجل ولده خير من أن يتصدق بصاع )) (( ما نحل والد ولداً أفضل من أدبٍ حسن )) وقال عليه السلام: ((إن الله سائل كل راع عما استرعاه حفظ أم ضيع )).
وإذا كان المربون من آباء وأمهات ومعلمين مسؤولين عن تربية الأولاد وعن تكوينهم وإعدادهم للحياة ، فعليهم أن يعلموا بجلاء ووضوح حدود مسؤوليتهم ومراحلها المتكاملة وجوانبها المتعددة ليستطيعوا النهوض بمسؤوليتهم على أكمل وجه وأنبل معنى .
وأول ما ينبغي على الوالد أن يلقن أبناءه أصول دينهم وتعاليمه من أركان الإيمان والإسلام ومبادئ الشريعة وأن يربيهم على حب نبيهم وحب آله وأصحابه من الرعيل الأول رضوان الله عليهم وأن يربي فيهم روح المراقبة لله تعالى في كل تصرفاتهم وأحوالهم.
ولذلك أمرنا النبي أن نأمر أولادنا بالصلاة وهم أبناء سبع وكان الصحابة يعلمون أولادهم مغازي رسول الله وسيرته كما يعلمونهم السورة من القرآن .
وعن هذه التربية الإيمانية الصحيحة تنبثق التربية الأخلاقية التي تغرس في الولد الفضائل السلوكية والوجدانية ، فلا عجب أن يولي الإسلام هذا الجانب عنايته الكبرى ، فمن حق الولد على الوالد أن يحسن أدبه ويحسن اسمه وأن يعلمه الخير والأدب ، فهو مسؤول عن تعليم أولاده منذ الصغر بتنشئهم على الصدق والأمانة والاستقامة والإيثار وإغاثة الملهوف واحترام الكبير وإكرام الضيف والإحسان إلى الجار والمحبة للآخرين ، ومسؤول عن تنزيه ألسنتهم من السباب والشتائم والكلمات النابية القبيحة وعن كل ما ينبئ عن فساد الخلق، ومسؤول عن ترفعهم عن دنايا الأمور وسفاسف العادات وقبائح الأخلاق والإضرار بالآخرين وإيذائهم وعن كل ما يحط بالمروءة والشرف والعفة .
وبعد ذلك أيها المؤمنون يقوم الآباء بتربية عقول أبنائهم وأجسامهم ونفوسهم أما أن يفعل هذا(تربية الاجسام) فقط ثم يترك لولده الحبل على الغارب يفعل ما يشاء ويهيم على وجهه كالعجماوات والبهائم، يرتع ويلعب ويلهو ويسرف ويخالط رفاق السوء فيكون أشد انحرافا منهم، فإنه العقوق من الأب للابن، وإنه لضياع للمسؤولية كبير وإنه إلقاء باليد إلى التهلكة ويحصد الأب بعدها ويجني المرارة وسوء الأخلاق والعقوق ويندب حظه العاثر مع أولئك الأولاد الأشقياء، وقد كان هو سببا لشقاوتهم وشقائهم .
فاقدروا أيها الآباء مسؤوليتكم، واعلموا أنكم أنتم القدوة الأولى لأبنائكم، فهم صورة عنكم يصلحون بصلاحكم، ويتخلقون بأخلاقكم، فحذار أن تقودوا أولادكم إلى ما لا تحمدون، إذ كيف يتعلم الولد الحب والحنان في بيت يسوده النزاع والشقاء؟
وكيف يحسن إلى الضعفاء والمساكين من يجد أباه يظلم الآخرين ويمنع حقوقهم؟ كيف يتعلم الأخلاق طفل يرى أمه أو أباه ينغمسان في الرذيلة؟
كيف يحترم الآخرين ويوقرهم من يجد أباه لا يحترم كبيرا ولا يرحم صغيرا؟ كيف يتعلم الصدق من يجد أباه يكذب على أمه أو يكذب عليه ولا بفي له بما يعده؟
إنها القدوة التي يتأثر بها الولد في بيته قبل أن تؤثر فيه الكلمة أو الموعظة ، فكونوا جميعا قدوة لأبنائكم ، وليكن رسول الله قدوة لكم .
والله عز وجل يقول: لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الأخر .0
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم . .
ـــــــــــــــــــ(68/235)
...
أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها، وأم سلمة رضي الله عنها
...
...
933
...
الأسرة والمجتمع
...
...
المرأة
...
عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري
...
...
المدينة المنورة
...
...
...
قباء
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- ثَمّة فوارق بين الذكر والأنثى 2- تساوي الذكر والأنثى في واجبات العبودية لله والجزاء عليها 3- دور خديجة في تثبيت النبي صلى الله عليه وسلم في صدر دعوته 4- مشورة أم سلمة يوم الحديبية
الخطبة الأولى
أما بعد:
فإن الخالق البارئ سبحانه وتعالى، لما خلق الرجل والمرأة، كلفهما الرسالة وحملهما الأمانة؛ فعليهما الامتثال لأمر الله سبحانه وتعالى، والخالق الحكيم لم يجعل الرجل والمرأة متساويين في كل شيء، بل جعل بينهما فروقًا كما بين الليل والنهار، يقرر هذه الحقيقة في كتابه الكريم فيقول سبحانه وتعالى: وليس الذكر كالأنثى [آل عمران:36] إلا أنه جعل بين الرجل والمرأة أشياء يشتركان فيها؛ فهما مثلاً أمام الثواب والجزاء سواء؛ قال تعالى: ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة [النساء:124]. وقال عز وجل: من عمل صالحًا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة [النحل:97].
فالرجل والمرأة سواء في عبوديتهما لله تعالى؛ فإذا قامت المرأة بواجب العبادة للخالق سبحانه دخلت الجنة، وعاشت قبل ذلك في الدنيا حياة طيبة؛ كما هو الشأن في الرجل؛ فالإنسان بشقيه ذكرًا كان أو أنثى عبد لله تعالى؛ فعليه أن يحقق هذه العبودية لله بأن يعبده وأن يخلص العبادة لله سبحانه وتعالى.
إلا أن لكل من الرجل والمرأة؛ لكل منهما واجبات ومهمات ينفرد بها، خلقه الله لها وجبله عليها.
وملخص واجبات المرأة التي هي حديثنا هذه الأيام، ملخص واجباتها ومهماتها في هذه الحياة، بعد واجب العبودية لله والعبادة له سبحانه أنها سند للرجل وسكن له؛ أي مصدر للسكينة؛ فالمرأة إذا أدت مهمتها كما أمر الله تعالى أصبحت سندًا هامًا للرجل تعينه على أداء رسالته التي حمَّله الله إياها في هذه الحياة.
ولنضرب على هذه الحقيقة مثلين من حياة أفضل الرجال وسيد الخلق خاتم النبيين سيدنا محمد :
المثل الأول: قبل أن يفجأه الوحي، قبل أن يفجأ الوحي سيدنا محمدًا كانت هناك مقدمات وإرهاصات تهيئه لاستقبال هذا الحدث العظيم؛ فإن أمر الوحي عظيم وثقيل وشديد الوطأة لا تتحمله إلا النفوس التي رباها الخالق الحكيم لذلك وهيأها لذلك. ومع تهيئته سبحانه وتعالى لنفس محمد لاستقبال هذا الحدث العظيم؛ فإنه أخذ الروع بمجامع نفسه لما بدأ القوي الأمين جبريل يتبدى له ويظهر له في أوائل الوحي ويكلمه ويسلم عليه، فكان يخاف منه ويهرب منه ، كان يظن أن هذا من فجأة الجن، فيعود إلى زوجه أم المؤمنين خديجة يبثها مخاوفه، فتقول له: أبشر يا بن العم؛ فإن السلام خير؛ لأنه يحدثها أن هذا الذي يراه يسلم عليه؛ فإذا بهذه المرأة العظيمة بذهنها الوقاد وعقلها الراجح تتبين هذا الأمر العظيم من أول وهلة فتطمئن نفس سيدنا رسول الله وتقول له: أبشر يا بن العم؛ فإن السلام خير، ثم تذهب إلى ورقة بن نوفل وكان من العلماء بالكتب، من أهل العلم بالكتب المنزلة؛ فلما قصت عليه ما رأى رسول الله ، قال ورقة: قدوس قدوس؛ لئن كنت صدقتيني يا خديجة فهذا هو الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى، وأن محمدًا لهو نبي هذه الأمة؛ فقولي له: فليثبت.
فترجع زوجه ، ترجع خديجة إلى سيدنا محمد فتطمئن نفسه وتذكر له قول ورقة، حتى إذا فجأ الوحي رسول الله وهو في غار حراء وظهر له جبريل واستعلن له، وأخبره بأنه رسول الله وغطه غطة شديدة وأوحى إليه بأول القرآن، فرجع رسول الله ترجف بوادره من شدة هذا الأمر العظيم خائفًا على نفسه فطمأنته زوجه رضي الله عنها خديجة وقالت: كلا، فوالله لا يخزيك الله أبدًا؛ إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث؛ فوالله لا يخزيك الله أبدًا[1]، وإنك لرسول الله، فكانت هذه المرأة العظيمة أول مخلوق آمن به وصدقه كما قرر ذلك العلماء؛ أول إنسان آمن برسول الله زوجه خديجة، ومن الرجل صديقه وحبيبه أبو بكر الصديق رضي الله عن الجميع.
انظر إلى هذه المرأة العظيمة كيف كانت سكنًا وأي سكن لسيد الخلق ، كانت مصدر سكينة وتثبيت لنفس سيدنا رسول الله ؛ ولذلك لم ينسها رسول الله أبدًا حتى بعد أن ماتت كان يذكرها دائمًا ويثنى عليها كما ترويه ذلك أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها.
والمثل الثاني: من غزوة الحديبية، وهي غزوة عظيمة فيها مواقف هامة حرجة ودروس وعظات عظيمة.
ومن أعظم تلك المواقف في هذه الغزوة: أن سيد رسول الله لما أبرم المعاهدة مع قريش والتزم في تلك المعاهدة بأن يفسخ إحرامه وأن يرجع دون أن يدخل مكة هو وأصحابه على أن يعود من العام القابل، كان هذا مما هيج خواطر الصحابة؛ بل اضطربت خواطر كبار الصحابة حتى كان الفاروق عمر رضي الله عنه يجادل رسول الله فيقول: ((ألست نبي الله حقًا ؟! فيقول رسول الله : بلى قال : فعلام نعطي الدنية من ديننا؟! ونرجع ولما يحكم اللهبينا وبين عدونا؟!. .: فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنة فسنيسره للعسرى [الليل:5-10] )).
وأي عسرى تلك التي وقعت فيها تلك المجتمعات التي تمردت على هذا القانون الإلهي، وحاولت أن تعبث به؛ فإذا بالمرأة في تلك المجتمعات تغادر ميدانها وتزاحم الرجل في ميدانه؛ تزاحمه في السوق وفي العمل، تزاحمه في مجالاته، متخلية عن مهمتها، فأصبحت بدلاً من أن تكون سكنًا، أصبحت في تلك المجتمعات دمارًا وخرابًا وخللاً واضحًا في حياة أولئك المساكين.
ولم تغن عنهم قدراتهم شيئًا، ولا تطورهم ولا فكرهم ولا ثقافتهم، لم تغن عنهم أموالهم الهائلة شيئًا في حل المشكلات التي تولدت نتيجة هذا الخلل الذي ترتب على التمرد على القانون الإلهي الرباني الذي صنعه اللطيف الخبير وأمرنا بالوقوف عند حدوده؛ لم يغنهم كل ذلك شيئًا في حل تلك المشكلات؛ فقد حقت عليهم كلمة العذاب، اختل نظام الحياة عندهم، تهدم نظام الأسرة عندهم، تضعضع كيانهم وتصدع بنيانهم: وما يغنى عنه ماله إذا تردى إن علينا للهدى وإن لنا للآخرة والأولى [الليل:11-13].
لله سبحانه الخالق اللطيف الخبير الآخرة، وله هذه الحياة الدنيا؛ فإلى أين يفر أولئك المتمردون المساكين الذين تمردوا على هذا القانون الإلهي؛ رجالاً ونساءً؛ لله الآخرة والأولى فإلى أين يفرون؟ أين المفر؟!: فأنذرتكم نارًا تلظى لا يصلاها إلا الأشقى الذي كذب وتولى [الليل: 14-16].
بارك الله لي ولكم في القرآن، ونفعنا وإياكم بما فيه من الهدى والبيان، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب بدوء الوحي (1) باب كيف كان بدء الوحيالىرسول الله (1/4)وغيرها.
الخطبة الثانية
الخطبة الثانية
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادى له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما فإنه لا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئًا.
أما بعد؛ فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
وعليكم أيها المسلمون بالجماعة فإن يد الله على الجماعة، ومن شذ شذ في النار يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون [آل عمران:102]، يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديدًا يصلح أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزًا عظيمًا [الأحزاب:70-71].
وصلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين؛ فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين، فقال جل من قائل: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسلمًا [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما صليت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد.
وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء والأئمة الحنفاء أبي بكر الصديق، وعمر الفاروق، وذي النورين عثمان، وأبي السبطين علي، وعن آل بيت نبيك الطيبين الطاهرين، وعن أزواجه أمهات المؤمنين، وعن الصحابة أجمعين، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بمنك وعفوك وكرمك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
ـــــــــــــــــــ(68/236)
الطلاق والتسرع فيه
...
...
325
...
الأسرة والمجتمع, فقه
...
...
الطلاق, المرأة
...
عبد الحميد بن جعفر داغستاني
...
...
مكة المكرمة
...
...
...
ابن حسن
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
- ظلم المرأة في أنظمة الجاهلية الأولى. 2- لم كان الطلاق من حقوق الزوج لا الزوجة. 3- علل تمنع دوام الحياة الزوجية. 4- تلاعب بعض الرجال بألفاظ الطلاق في المجالس والمهاترات. 5- الطلاق التعسفي.
الخطبة الأولى
أما بعد :
فإن الله تعالى يقول: الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان [البقرة:229].
فالإسلام شرع لنا الطلاق وراعى فيه ضرورات الحياة وواقع الناس في كل زمان ومكان، كما أنصف المرأة من فوضى الطلاق التي كانت سائدة في عرب الجاهلية حيث لا عدد للطلقات ولا عدة للمطلقة ولا حقوق ولا التزامات لهما.
كما أنقذ الإسلام المرأة من الظلم إذ لا ترى في شرائع بعض الغربيين تشريع الطلاق مما يجعل المرأة مستمرة تحت ظلم زوجها إن كان ظالماً أو في انتظاره أبداُ إن كان غائبا غيبة منقطعة لا يعلم مكانه أو غائبا في مكان معروف متعمداً قاصداً الإضرار بها.
وجعل الله الطلاق بيد الرجل لأنه حامي البيت والقائم بواجباته من طعام ونفقة وكسوة، وهو أولا دفع المهر وتكاليف العرس والرجل في الأعم الأغلب أضبط أعصاباً، وأكثر تقديراً للنتائج في ساعات الغضب والثورة، فهو لا يقدم على الطلاق إلا عن يأس من إمكان سعادته الزوجية مع زوجته، وعن علم بما يجره الطلاق من خسارة عليه .
فنراه لا يطلق زوجته، إلا بعد استحكام خلاف وعناد منها، أو لتضييعها فرائض دينها وعدم محافظتها على نفسها، فالرجل المسلم يحب أن يكون عرضه شريفاً عفيفاً لا تطمع في مسه الأيدي مستحكما فيه.
والعلة الدافعة للطلاق قسمان : علة جنسية تمنع الاتصال الجنسي، وأخرى معدية ضارة أو منفرة بحيث لا يمكن المقام معها إلا بضرر .
ولما كان الأصل في الزواج أن يكون لسكن النفس واطمئنانها إذ يقول الله عز وجل: ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون [الروم:21]. جاز له هنا أن يطلقها كما جاز لها أن تطلب الطلاق إذا ظهر مثل هذا المرض في زوجها .
ونرى اليوم مع الأسف بعض الرجال ممن لم يقدر إكرام الله له بجعل الطلاق بيده يتسرع في إيقاع الطلاق لأتفه الأسباب، غير ناظر إلى ما يجره ذلك من نتائج وخيمة عليه وعلى زوجه وذريته، فهو إن باع أو اشترى حلف بالطلاق، وإن أراد أن ينزل أحداً على رغبته طلق، أو أراد منع زوجته من شيء حلف وطلق ،بل ربما مازح بعض صحبه بالطلاق، أو راهن به، فيعود إلى بيته والمسكينة منتظرة إياه، متزينة له، معدة طعامه، فيروعها ويقول لها احتجبي عني والحقي بأهلك فقد طلقتك .
وربما ثار فيطلق ثلاثا بلفظ واحد متكرر غير آبه لذلك ولا مهتم أنه طلق طلاقاً بدعياً ناسياً أن أبغض الحلال إلى الله الطلاق، فإذا ما هدأت نفسه، وتذكر صيحات أطفاله يركضون ويعبثون ببراءة في جنبات البيت، وتذكر ما كان غائبا عن ذهنه حين الغضب من صفات زوجته الحميدة، إذا ما تذكر كل هذا عض أصابع الندم وذرف دموع الحسرة والألم وسارع يلتمس الفتاوى لإرجاعها ويتتبع الآراء الضعيفة مذلا نفسه مضيعاً وقته، فلا حول ولا قوة إلا بالله .
ومن الرجال من يطلق للمتعة فهو يطلق واحدة ويتزوج أخرى لمجرد الاستمتاع بزوجة جديدة مستغلا ما خوله الله وأعطاه من رزق وجاه استغلالاً سيئاً، وهو لا يعلم كيف ينظر بعض أفراد المجتمع إلى المرأة المطلقة وكم تظلم ويساء بها الظن .
ومن أشد أنواع الطلاق، الطلاق التعسفي إذ هنالك حالتان يكون الطلاق فيهما تعسفاً وعدواناً.
أولها: المريض مرض الموت الذي يطلق زوجته طلاقاً بائناً ليحرمها من إرثها منه يقترف عدواناً لا يرضاه الله وتأباه المروءة وهي بالرغم من تطليقه إياها ترث منه ولو مات بعد انتهاء عدتها ما لم تتزوج زوجاً آخر قبل موته .
والحالة الثانية من حالات طلاق التعسف أن يطلقها لسبب غير معقول وقد تكون فقيرة أو عجوزاً لا أمل من زواجها مرة ثانية، فبقاؤها من غير زوج ينفق عليها إضرار بها، ولؤم في معاملتها وهو آثم بلا شك فيما بينه وبين الله تعالى إذ استغل زهرة شبابها، ولم يكن عندها ما يحفظ لها كرامتها.
لقد أكرم الحبيب امرأة عجوزاً زارته، ولما سألته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قال: (( إنها كانت تغشانا أيام خديجة وإن حسن العهد من الإيمان ))(1).
(1) أخرجه الحاكم في المستدرك 1 / 16 . كتاب الإيمان / حسن العهد من الإيمان .
الخطبة الثانية
الحمد لله وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله وبعد:
فإن الله حث على تزويج الأيم وهي التي فقدت زوجها سواء بالموت أو الطلاق يقول جل من قائل: وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم [النور:32].
فلا ينبغي لولي المتوفى عنها زوجها، أو المطلقة طلاقاً بائنا لا رجعة فيه أن يمانع إذا جاء الخاطب الكفء في تزويجه إياها امتثالاً لأمر الله سبحانه ولعدم الإضرار بموليته المسكينة.
فإن المسارعة في تزويج الأيم أولى من المسارعة في تزويج البكر، إذ البكر يكثر خطابها بعكس الأيم، كما وأن الأيم قد ذاقت طعم النكاح ويخشى عليها من الفتنة، ثم إنها موضع سوء ظن بعض الجهلة .
أما المطلقة طلاقاً رجعياً فلا يجوز لوليها إذا رغبت هي وزوجها في الرجعة أن يمانع بحجة تأديبه أو تأديبها يقول تعالى :
وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف ذلك يوعظ به من كان منكم يؤمن بالله واليوم الآخر ذلكم أزكى لكم وأطهر والله يعلم وأنتم لا تعلمون [البقرة:232].
قال ابن عباس رضي الله عنهما : نزلت هذه الآية في الرجل يطلق امرأته طلقة أو طلقتين فتنقضي عدتها ثم يبدو له أن يتزوجها وأن يراجعها وتريد المرأة ذلك فيمنعها أولياؤها من ذلك فنهى الله أن يمنعوها .
وقد روي أن هذه الآية نزلت في ( معقل بن يسار المزني) وأخته .
روى الترمذي عن معقل بن يسار أنه زوج أخته رجلاً من المسلمين على عهد رسول الله فكانت عنده ما كانت . ثم طلقها تطليقة لم يراجعها حتى انقضت العدة فهويها وهويته ثم خطبها مع الخطاب . فقال له: يالكع(1) أكرمتك بها وزوجتك فطلقتها والله لا ترجع إليك أبداً آخر ما عليك . قال : فعلم الله حاجته إليها وحاجتها إلى بعلها فأنزل الله: وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن [البقرة:232]. إلى قوله تعالى: وأنتم لا تعلمون فلما سمعها معقل قال: سمعاً لربي وطاعة ثم دعاه فقال : أزوجك وأكرمك (3).
(1) لكع : نداء للئيم، وقيل الوسخ، وقد يطلق على الصغير، النهاية في غريب الحديث والأثر 4 / 268 .
(3) سنن الترمذي : كتاب التفسير، باب ( ومن سورة البقرة ) 5 / 216 .
ـــــــــــــــــــ(68/237)
عضل النساء عن النكاح
...
...
343
...
الأسرة والمجتمع, فقه
...
...
النكاح, قضايا الأسرة
...
عبد الحميد بن جعفر داغستاني
...
...
مكة المكرمة
...
17/6/1405
...
...
ابن حسن
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- الظلم معصية. 2- أنواع من الظلم يشتد النكير عليها. 3- من الظلم عضل البنات عن النكاح. 4- النعرة العصبية سبب في عضل النساء. 5- عضل البنات عن الزواج للاستفادة من رواتبهن. 6- عضل البنات عن الزواج بحجة إكمالهن للدراسة. 7- تسرع بعض الأولياء في تزويج بناتهم وأخواتهم. 8- الحث على تربية البنات وبيان فضل ذلك.
الخطبة الأولى
أما بعد :
فإن ظلم ذوي القربى أشد مضاضة
على النفس من وقع الحسام المهند
وإن هذا الظلم ليتخذ صوراً شتى وأنواعاً مختلفة ، ومن أعظم هذه الأنواع خطراً ظلم الإنسان لمن جعل الله ولايته في يده كظلم الوصي للأرملة واليتيم ، وكظلم الزوج للزوجة والأولاد ونكتفي اليوم بذكر ظلم الولي لموليته في النكاح ، فقد فشا هذا النوع من الظلم في بعض أوساط المجتمع فخطره يشتد ونذره تمتد وآثاره تحتد.
لقد جعل الله سبحانه وتعالى ولاية النكاح في يد الرجل أبا كان أم ابنا ، أخاً كان أم أي قريب ذكر آخر له ولاية على امرأة وجعل الله هذه الولاية بيد الرجل لأنه أوفر عقلاً وأكثر حزماً وأبعد نظراً فعقله وعاطفته في توازن يمنع المرأة عن الزلل فى اختيار الزوج وهذا الولي لا يقوم بواجبه الذي أناطه الله به إذا عضل أي : منع موليته من النكاح أو زوجها بغير الكفء ، إذ هو بفعله هذا لا يذكر وصية رسول الله عندما يقول ، فيما أخرجه البخاري: (( استوصوا بالنساء ))(2)، وهو - وفيما يرويه الإمام أحمد وابن ماجه – يقول: (( اللهم إني أحرج حق الضعيفين اليتيم والمرأة ))(3).
إن لتزويج المرأة بغير الكفء أو منعها من الزواج بالكفء أسباباً منها : النعرة القبلية ، والعصبية الجاهلية ، فالحبيب يقول: (( إذا أتاكم من ترضون خلقه ودينه فزوجوه ، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض ))(1) رواه الترمذي وابن ماجه.
ولم يقل إذا أتاكم من ترضون قبيلته أو طبقته الاجتماعية . ونسمع ونرى عجباً من تحكم موازين جاهلية في هذه القضية فهذا قبلي وهذا حضري وذلك بدوي ، وما علم هؤلاء أن أشرف العرب زوجوا بلالاً مؤذن رسول الله وهو عبد حبشي ، وزيد بن حارثة مولى رسول الله تزوج القرشية ذات النسب والحسب زينب بنت جحش ويقول المصطفى عن هذه العصبية التي تفرق ولا تجمع وتضر ولا تنفع: (( دعوها فإنها منتنه ))(3).
وقد يعضل الرجل مولاته عن النكاح طعماً في مهر أكبر وميزات أكثر مما دفعه الكفء فتنقلب المرأة المسكينة إلى سلعة تباع وتشترى وربما دفع المهر الأكبر الولي إلى تزويج المسكينة من رجل في سن أبيها أو أكبر ، ولا يعلم الولي أن هذا الزوج المسن ربما لا يشبع رغبات هذه المرأة الفطرية الجنسية فتطلب ما يشبع رغبتها عن طريق الحرام ، ثم لا تلبث بعد أن يهن جسد زوجها المسن وتذهب قواه أن تصبح خادمة له في بيته تنتظر موته فلا حول ولا قوة إلا بالله .
وقد يمنع الولي المرأة من النكاح استغلالاً لها في خدمة البيت أو استغلالاً لراتبها إذا كانت موظفة إذ أن زواجها يمنع هاتين الاستفادتين ، أو ربما منعها أنانية وحباً للنفس ، فالأب متيم بحب ابنته ، وشغوف بها لا يطيق فراقها فيبقيها عانساً في بيته يحرمها من متعة الزوج وإنجاب الذرية ، وعطف الأمومة ، ويقف سداً منيعاً أمام أسرة تمد الأمة بزادها من الرجال والنساء .
ونغمة جديدة أصبحنا اليوم نسمعها كحجة لمنع الفتاة من الزواج ألا وهي إكمال الفتاة تعليمها العالي ، فنرى الأب أو الأم يحبان أن يفخرا في المجتمع بذكر ابنتهما الحاصلة على الدرجات العلمية العالية ثم يفوتها ركب الزواج فتملأ الحسرة قلب الأبوين وقلبها ، ويندم الجميع حين لا ينفع الندم . يكفي المرأة المسلمة أن تتعلم ما تطيع به ربها وتكمل به عبادتها وتحسن به التبعل لزوجها وتعي التيارات الهدامة من حولها ، الرامية لإخراجها عن كونها أنثى مؤمنة إلى سلعة فاتنة مضلة هادمة ، وما زاد عن قدر هذا العلم فهو من قبيل فرض الكفاية لا بأس به إن لم يتعارض مع واجب أهم وهدف أسمى وأكبر .
وفي مقابل من يمنع موليته عن الزواج نجد من لا يتريث ويتحرى في اختيار الزوج فهو يدفعها لأول طارق طرق بابه وكأنها حمل ثقيل ناء به كاهله ، واشتد على ظهره ، فكم من عجلة يعقبها ندم طويل وحياة مريرة .
ما يلبث الولي أن يكتشف فيما بعد الزواج أن هذا الزوج فاسق وماجن مبتلى بالشراب أو بشلة سيئة من الأصحاب أو يكتشف أنه ممن تعود السفر إلى بلاد الفجور والعهر ليتمتع من الشهوة الحرام، ولربما عاد يحمل مرضاً جنسياً خطيراً من الأمراض التي تملأ تلك البلاد فيزرع هذا المرض في رحم زوجته المسكينة البريئة وليسري المرض في ذريتها إلى قيام الساعة فلله كم يحمل هذا الولي في دفع ابنته لغير الكفء من وزر وإثم ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .
(2) صحيح البخاري: كتاب النكاح ، باب الوصاة بالنساء 6/145.
(3) المسند 2/439، سنن ابن ماجه :كتاب الأدب ، باب حق اليتيم 2/213. وإسناده صحيح.
(1) سنن الترمذي : كتاب النكاح ، باب إذا جاءكم من ترضون دينه فزوجوه 3/394وسنن ماجه : كتاب النكاح ، باب الأكفاء 1/632.
(3) صحيح البخاري: كتاب التفسير . " يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل " 6/66 .
الخطبة الثانية
الحمد لله الهادي من استهداه الواقي من اتقاه المعطي من ابتغى رضاه المنعم على من والاه نحمده حمداً كثيراً طيباً أمد التمام ومنتهاه ونثني عليه بما هو أهله ثناء كاملاً عظيماً كما أثنى هو به على نفسه ، وأشهد أن لا إله إلا الله لا معبود بحق سواه وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله أرسله واصطفاه ، فصلى الله عليه وسلم عدد ما خشع مصل في صلاةه ، واهتدى مهتد بهديه أما بعد :
فإنه ما سد باب من أبواب النكاح إلا فتحت بذلك الباب أبواب من أبواب الزنا – والعياذ بالله – وإن الظلم ظلمات يوم القيامة وإن من أراد الجنة فليستمع إلى هذا الحديث الذي يرويه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه قال : قال رسول الله : (( من كان له ثلاث بنات أو ثلاث أخوات أو ابنتان أو أختان فأحسن صحبتهن واتقى الله فيهن فله الجنة ))(1). رواه الترمذي وأبو داود ، وقال في رواية: (( فأدبهن وأحسن إليهن وزوجهن ))(2).
ومن أراد أن يحشر مع النبي يوم القيامة ويدخل معه الجنة فليسمع ما يرويه أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي قال: (( من عال جاريتين حتى تبلغا جاء يوم القيامة أنا وهو (وضم أصابعه) ))(3)رواه مسلم ورواه الترمذي بلفظ: (( دخلت أنا وهو الجنة كهاتين، وأشار بإصبعيه ))(4).
(1) سنن الترمذي : كتاب البر والصلة ، باب ما جاء في النفقة على البنات والأخوات 4 / 320 .
(2) سنن أبي داود : كتاب الأدب ، باب فضل من عال يتيما 4 / 338 .
(3) صحيح مسلم : كتاب البر والصلة ، باب فضل الإحسان إلى البنات 16 / 180 .
(4) سنن الترمذي : كتاب البر والصلة ، باب ما جاء في النفقة على البنات والأخوات 4 / 319 .
ـــــــــــــــــــ(68/238)
المرأة وواجباتها
...
...
968
...
الأسرة والمجتمع
...
...
المرأة
...
محمد النمر
...
...
الطائف
...
24/4/1420
...
...
الهويش
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
- النظرة الخاطئة للمرأة في تصور البشرية بعيداً عن الإسلام – اضطراب الغرب عند إرادته تصحيح خطأ نظرته وتصوراته للمرأة – طبيعة العلاقة بين الرجل والمرأة في ظل الإسلام ووظيفتها – فضل الزوجة الصالحة وأثرها على الزوج – نماذج من سِيَر الزوجات المسلمات الصالحات
الخطبة الأولى
وبعد:
فيا عباد الله: إن إدراك البشرية لبعض الحقائق اللازمة في حياتها كفيل بأن يوفر عليها أخطاء أليمة تردت فيها ومن ذلك أنها تصورت في المرأة شتى التصورات السخيفة ورأت فيها منبع الرجس والنجاسة وأصل الشر والبلاء مع أنها مخلوقة من النفس الأولى فطرة وطبعا، خلقها الله عز وجل لتكون لها زوجا وليبث منهما رجالا كثيرا ونساء فلا فارق في الأصل والفطرة إنما الفارق في الاستعداد والوظيفة يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء .
ولقد تخبطت البشرية فجردت المرأة من كل خصائص الإنسانية وحقوقها فترة من الزمان تحت تأثير تصور سخيف لا أصل له وهو أن المرأة شيطان لابد منه ووسوسة جبلية وآفة مرغوب فيها وخطر على الأسرة والبيت ومحبوبة فتاكة ورزء مطلي مموه. وهذا قول لأحد رجال الدين في أوروبا في الماضي ولكنهم عندما أرادوا معالجة هذا الخطأ في النظرة إلى المرأة اشتطوا فوقعوا في انحراف آخر فأطلق العنان للمرأة أنها إنسان خلقت لإنسان ونفس خلقت لنفس وشطر مكملها شطر وأنهما ليسا فردين متماثلين، إنما هما زوجان متكاملان تقوم علاقتهما على المودة والرحمة ومن خلال هذا المفهوم تعمل المرأة كل ما يرضي زوجها وتساعده على الارتقاء في مدارج التقى وعلى التخلص من الشيطان ووساوسه، ومن خلال المودة والرحمة يكدح الرجل ويرضي زوجته ويحصنها من انفتاح قلب أو جارحة على خطيئة هكذا فهم المسلمون علاقة كل من الجنسين بالآخر. هذه أسماء بنت يزيد رضي الله عنهما أتت النبي وهو بين أصحابه فقالت يا رسول الله: إني وافدة النساء إليك، إن الله بعثك بالحق للرجال والنساء فآمنا بك واتبعناك، وإنا معشر النساء قواعد بيوتكم وحاملات أولادكم. وأنتم معشر الرجال فضلتم علينا بالجمع والجماعات وشهود الجنائز وأفضل من ذلك الجهاد في سبيل الله تعالى، وإن الرجل إذا خرج حاجا أو مرابطا أو معتمرا حفظنا لكم أموالكم، وغزلنا لكم أثوابكم، وربينا لكم أولادكم، أفلا نشارككم في هذا الخير والأجر يا رسول الله، فالتفت بوجهه الكريم إلى أصحابه ثم قال: هل سمعتم مقالة امرأة أحسن من هذه عن أمر دينها، فقالوا يا رسول الله: ما ظننا امرأة تهتدي إلى مثل هذا، فالتفت النبي إليها ثم قال: ((انصرفي أيتها المرأة، وأعلمي من خلفك من النساء أن طاعة الزوج اعترافا بحقه يعدل ذلك وقليل منكن من تفعله))، فانصرفت وهي تهلل حتى دخلت على نساء قومها وعرضت عليهن ما قاله رسول الله ففرحن وآمن جميعهن. إنه الاهتمام الذي يدفع للسؤال عما يرضي الله عز وجل واسمعوا من هذه السير العطرة: تزوج شريح القاضي الفقيه بزينب ابنة جرير من بني حنظلة فحدث الشعبي عن نفسه قائلاً: ((فلو رأيتني يا شعبي وقد أقبل نساؤهم يهدينها حتى أدخلت علي، فقلت: إن من السنة إذا دخلت المرأة على زوجها أن يقوم فيصلي ركعتين، فيسأل الله من خيرها، ويعوذ به من شرها قائلا: اللهم إني أسألك خيرها وخير ما جبلتها عليه، وأعوذ بك من شرها وشر ما جبلتها عليه، فصليت وسلمت، فإذا هي من خلفي تصلي بصلاتي، فلما خلا البيت ودنوت منها، ومددت يدي إلى ناحيتها قالت: على رسلك يا أبا أمية، كما أنت، ثم قالت: الحمد لله أحمده وأستعينه وأصلي على محمد وآله، إني امرأة غريبة، لا علم لي بأخلاقك فبين لي ما تحب فآتيه، وما تكره فأبتعد عنه، وقالت: إنه كان لك في قومك منكح، وفي قومي مثل ذلك، ولكن إذا قضى الله أمرا كان وقد ملكت فاصنع ما أمرك الله به:إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولك.
قال شريح فأحوجتني والله يا شعبي إلى الخطبة في ذلك الموضع فقلت: ((الحمد لله، أحمده وأستعينه، وأصلي وأسلم على النبي وآله، وبعد فقد قلت كلاما إن تثبتي عليه يكن ذلك حظّك وإن تدعيه يكن حجة عليك أحب كذا وأكره كذا، ونحن سواء فلا تفرقي، وما رأيت من حسنة فانشريها أو سيئة فاستريها، قالت: وكيف محبتك لزيارة الأهل، قال شريح: ما أحب أن يملني أصهاري، قالت: فمن تحب من جيرانك أن يدخل بيتك آذن له ومن تكرهه أكرهه، قال شريح: بنو فلان قوم صالحون، وبنو فلان قوم سوء. قال شريح: فبت يا شعبي بأنعم ليلة، ومكثت معي حولا لا أري إلا ما أحب، فلما كان رأس الحول جئت من مجلس القضاء فإذا بعجوز تأمر وتنهي في البيت، قلت: من هذه، قالوا فلانة ختنك، فسُرّي عني ما كنت أجد، فلما جلست أقبلت على العجوز وقالت: السلام عليك يا أبا أمية، قلت: وعليك السلام من أنت، قالت: أنا فلانة ختنك، قلت قربك الله، قالت: كيف رأيت زوجتك، قلت: خير زوجة، فقالت: يا أبا أمية، إن المرأة لا تكون أسوأ حالا منها في حالتين: إذا ولدت غلاما أو حظيت عند زوجها، فإن رابك ريب فعليك بالسوط فوالله ما حاز الرجال في بيوتهم شرا من المرأة المدللة، قلت: أما والله لقد أدبت فأحسنت الأدب، وروضت فأحسنت الرياضة، قالت: تحب أن يزورك أختانك، قلت متى شاؤوا)).
قال شريح: فكانت تأتيني في رأس كل حول توصيني تلك الوصية، فمكثت معي عشرين سنة، لم أعتب عليها في شيء إلا مرة واحدة وكنت لها ظالما.
ألا ما أسعد الزوج بالزوجة الصالحة التي نشئت تنشئة إيمانية عرفت حق زوجها وبيتها وأبنائها وإليكم مثلا آخر مما يملأ تاريخنا العظيم، كان عبد الله بن وداعة ممن يتلقون العلم عن الإمام سعيد بن المسيب، وحدث أن تأخر عن الدرس أياما فسأله الإمام عن سبب تخلفه، فقال: توفيت زوجتي فشغلت بأمرها، فلما انتهى الدرس وهمّ عبد الله بالانصراف، ناداه الإمام: هل تزوجت يا عبد الله بعد وفاة زوجتك، قال عبد الله: يرحمك الله ومن يزوجني ابنته وأنا لا أملك غير درهمين أو ثلاثة، فقال سعيد: أنا أزوجك ابنتي فانعقد لسان عبد الله، ذلك أن الوليد ابن عبد الملك بن مروان كان قد خطبها فأبى سعيد. ثم التفت الإمام إلى من كان قريبا وناداهم فحمد الله عز وجل وأثنى عليه وصلى على نبيه محمد صلوات الله وسلامه عليه وعقد له على ابنته وجعل مهرها درهمين. يقول عبد الله: فقمت وأنا لا أدري ما أقول من الدهشة والفرح ثم قصدت بيتي وكنت يومئذ صائما فنسيت صومي وجعلت أقول: ويحك يا أبا وداعة ما الذي صنعت بنفسك، ممن تستدين، وممن تطلب المال، وظللت على حالي هذه حتى أذن للمغرب فأديت المكتوبة وجلست إلى فطوري وكان خبزا وزيتا، فما إن تناولت منه لقمة أو لقمتين حتى سمعت الباب يقرع، فقلت: من الطارق، فقال: سعيد، فوالله لقد مر بخاطري كل إنسان اسمه سعيد أعرفه إلا سعيد بن المسيب ذلك لأنه لم ير منذ أربعين سنة إلا بين بيته والمسجد، ففتحت الباب فإذا بي أمام سعيد بن المسيب فظننت أنه بدا له في أمر زواجي من ابنته شيء، وقلت له: يا أبا محمد، هلا أرسلت إلي فآتيك، فقال: بل أنت أحق بأن آتي إليك وقال: إن ابنتي أصبحت زوجة لك وأنا أعلم أنه ليس معك أحد يؤنس وحشتك فكرهت أن تبيت وحدك، فقلت: ويحي جئتني بها فقال: نعم.
ثم انصرف سعيد ودخل عبد الله على زوجته فإذا هي أجمل الناس وأحفظهم لكتاب الله، وأعلمهم بسنة رسول الله وبحقوق الزوجية، وما إن أسفر الصبح حتى نهض عبد الله يريد الخروج فقالت زوجته: إلى أين، قال: إلى مجلس أبيك أتعلم العلم، فقالت: اجلس أعلمك علم سعيد.
هذه سير سلفكم أيها الإخوة في الله فمنها اقتبسوا وعلى نهجهم سيروا لتبلغوا المرتقى الذي وصلوا إليه.
الخطبة الثانية
واعلموا رحمكم الله أن من واجبات الزوجة تربية أولادها والحدب عليهم، تلمح هذا من ربط القرآن الكريم المرأة بابنها ورعايته منذ يولد إذ يقول: والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة معللا فضلهن على غيرهن بأنهن أحناهن على ولده، فالمرأة التي تترك أولادها للخدم أو للشارع إنما ترمي في الهاوية بمستقبلها وبمستقبل أبنائها.
إن الطفل يتعلم من أمه لغة قومه وطريقة حديثها، ومن احترامها لزوجها يقتبس أولادها ذلك، إن الأم هي معهد التربية الذي يتربى فيه الطفل وإذا قيل: إن كل عظيم وراءه امرأة فتلك المرأة أكثر ما تكون هي الأم. ومن واجبات الزوجة القناعة والحرص على مال زوجها قال الإمام الغزالي: (وأهم حقوق الزوج على زوجه أمران: أحدهما الصيانة والستر، والآخر ترك المطالبة بما وراء الحاجة، والتعفف عن لبسه إذا كان حراما)، ومن واجبات الزوجة أن تتجمل لزوجها، وليس القصد من التجمل أن تضيع وقتها إلى المرآة معجبة بنفسها وإنما القصد حثها على النظافة والترتيب، ومن المؤسف أن تهمل بعض النساء زينتهن ما دمن في بيوتهن فإذا عزمت على الخروج تجملت وتزينت مما يترك آثارا سيئة في نفس زوجها. وجماع القول أن تكون المرأة كما أرادها الله عز وجل سكنا لزوجها تغسل كل متاعبه ومعاناته في عمله باستقبالها له وحسن أخلاقها وقيامها بحفظ أولاده وبيته وماله، ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة ، فاتقوا الله يا عباد الله في بناتكم بإعدادهم الإعداد الصحيح الذي يجعل منهن زوجات صالحات وصلوا على من صلى الله عليه.
ـــــــــــــــــــ(68/239)
خروج المرأة
...
...
974
...
الأسرة والمجتمع
...
...
قضايا الأسرة
...
محمد النمر
...
...
الطائف
...
26/10/1419
...
...
الهويش
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
- تركيز أعداء الإسلام على المرأة وإفسادها – عناية الإسلام بالمرأة ونماذج من النساء الصالحات وحِفاظهنّ على دينهن – وجوب العناية بالمرأة وعدم السماح لها بالخروج إلا للضرورة لتجنّب الفتنة
الخطبة الأولى
وبعد :
فيا عباد الله : أخذت الأرض زخرفها وزينتها وظن أهلها أنهم قارون عليها ، وانصرف الناس عن دينهم إليها ، وانقادوا لغرورها وافتتنوا بحضارة الغرب وزخارف الشرق ، وصادف هذا كله غفلة دعاة الحق ، لكن أعداء الإسلام لم يغفلوا عنا ، فحملوا بخيلهم ورجليهم ، وجردوا الحملات المسلمة بسهام الشهوات وسموم الشبهات لتعيث في قلوب المسلمين فسادا ، وتجرس خلال ديارهم ، لتسلخهم من دينهم الحق الذي ارتضاه الله لهم .
وقد كان هؤلاء الأعداء خبثاء ماكرين في حربهم إذ تفرسوا في أسباب قوة المسلمين وحددوها ، ثم اجتهدوا في توهينها وتحطيمها بكل ما أوتوا من مكر ودهاء .
علموا أن المرأة من أعظم أسباب القوة في المجتمع الإسلامي وهم يعلمون أنها سلاح ذو حدين وأنها قابلة لأن يكون أخطر أسلحة الفتنة والتدمير ، ومن هنا كان لها النصيب الأكبر من حجم المؤامرات على تمزيق الأمة وتضييع طاقاتها ، إن المرأة تملك مجموعة من المواهب الضخمة الجديرة بأن تبني أمة ، وأن تهدم أمة ، فعن أبي سعيد الخدري عن النبي أنه قال : (( إن الدنيا حلوة خضرة ، وإن الله مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون ، فاتقوا الدنيا واتقوا النساء ، فإن أول فتن بني إسرائيل كانت في النساء)) ، وعن أسامة بن زيد وسعيد بن زيد رضي الله عنهما عن النبي قال (( ما تركت بعدي في الناس فتنة أضر على الرجال من النساء)) .
لقد أراد أعداء الإسلام أن يفتنوا المسلمين عن دينهم فجعلوا من المرأة أهم معاول هذا المهدم وهم يتظاهرون بالشفقة عليها والحرص على حقوقها وخدعت نساء من نساء المسلمين بذلك لجهلهن بدينهم هذا الدين الذي يعتبر المرأة قسيمة الرجل لها ملكه من الحقوق ، وعليها من الواجبات ما يلائم تكوينها وطبيعتها ، وعلى الرجل بما اختص به من شرف الرجولة ، وقوة الجلو ، وبسطة اليد واتساع الحيلة أن يلي رياستها ، فهو بذلك وليها ، يحوطه بقوته ، ويذود عنها بدمه ، وينفق عليها من كسب يده ذلك ما أجمله الله عز وجل وضم أطرافه وجمع حواشيه بقوله تباركت آياته ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللجر عليهن درجة هذا في وقت كانت المجتمعات الغير إسلامية تعتبر المرأة رجسا أو تعتبر الاقتران بها شرا لابد منه لا بل ظل يناقش أمر المرأة عند أولئك إلى عصور متأخرة أهي تحمل روح إنسان أم حيوان ولم تعطها حق التملك إلا قريبا .
ولقد وعت المرأة المسلمة تكريم الإسلام لها فاعتزت به وأسهمت في بناء المجتمع الإسلامي وفي نشر الإسلام والاعتزاز به فكانت النساء مغارس حكمة ومغاوص آداب إنهن أمهات صدق أقامهن الله على نشئه واستخلفهن على صنائعه وائتمنهن على بناة ملكه وحماة حقه ، لقد كان منهن عمة رسول الله صفية إذ انقلبت لترى ما فعل المشركين بأخيها حمزة في معركة أحد وقد نفذت إليه هند بنت عتبة فبقرت بطنه ونزعت كبده وجدعت أنفقه وسلمت أذنيه ، وجاء أبو سفيان يطعنه برمحه في فمه حتى مزقه ، فاشتد حزن رسول الله وأبصر عمته مقبلة لتنظر ما فعل القوم بأخيها فقال رسول الله لابنها الزبير بن العوام (( دونك أمك فامنعها )) فلما وقف ابنها يعترضها قالت : دونك لا أرض لك ، لا أم لك فرجف بطل قريش واعتقل لسانه وكر رجاعا إلى رسول الله فحدثه حديث أمه فقال (( خل سبيلها)) فأتت أخاها فنظرت إليه ، فصلت عليه واسترجعت ، واستغفرت له ، وقالت لابنتها (( قل لرسول الله ما أرضا بما كان في سبيل الله لأحتسبن ولأصبرن إن شاء الله )) .
ولو ذهبت استقرئ أسماء عظماء في هذه الأمة ومن كان وراءهم لطال في الأمر اقرؤوا تاريخكم : اقرؤوا عن أبناء أسماء بنت أبي بكر عبد الله المنذر وعروة أولا عبد الله بن الزبير واقرؤوا تاريخ علي وتاريخ معاوية الذي كان إذا نوزع الفخر يقول : وأنا ابن هند )) واقرؤوا تاريخ عمر بن العزيز وتاريخ عبد الرحمن الناصر وتاريخ سفيان الثوري أمير المؤمنين في الحديث وتاريخ ابن حنبل وتاريخ الأوزاعي وتاريخ ربيعة الرأي ، كلهم قامت عليهم نساء فضليات عرفن حق الله عليهن فرعين أبناءهن خير رعاية ونشأنهم خير تنشئة .
لقد كان منهن من بلغن المنزلة الرفيعة في العلوم ، هذا الإمام مالك كان يقرأ عليه الموطأ فإن لحن القارئ في حرف أو زاد أو نقص تدق ابنته الباب فيقول أبوها للقارئ : ارجع فالغلط معك ، فيرجع القارئ فيجد الغلط .
وكان لعلاء الدين السمرقندي صاحب تحفة الفقهاء ابنته فاطمة الفقهية العالمة حفظت التحفة لأبيها ، واطلبها جماعة من الملوك فلما صنف أبو بكر الكاساني كتابه ((البدائع)) وهو شرح التحفة ، عرضه على شيخه وهو أبوها ، فازدا به فرحا ، وزوجه ابنته ، وجعل مهرها منه ذلك ، فقالوا في عصره (( شرح تحفته وتزوج ابنته)) .
وما أكثر أسماء من حفظ لنا تاريخنا سيرهن وعلمهن وجهادهن وحسن تربيتهن لأبنائهن ورعايتهن لأزواجهن .
فهل نقرأ هذا التاريخ ، هل تقرأ بناتنا هذه الأسفار فينشأن تلك النشأة ويحفظن حق الله عليهن أم أنهم مشغولات بمتابعة مالا يزيدهن إلا بعدا عن إسلامهن من مسلسلات هابطة في أشرطة فاسدة ومجلات لا تحمل إلا سموما قاتلة تورد وبأسلوب خبيث خادع أن لفلانة مشكلة تعرضها وتقدم المجلة الحلول التي لا نصيب لكرامة المرأة فيها شيء ولعل الأمر كله افتراض وتخيل لإثارة قضايا تدعو المرأة إلى سلوك غير سبيل الإسلام ، لا بل لتخرج المرأة من عفتها وأخلاقها فتكون سلعة تتقاذفها الأيدي القذرة ويسهل اصطيادها في مكان .
لقد جعل الله الرجال قوامين على النساء ، وهؤلاء القوام أوصياء أناء ومن حق الوصي أن يرعى الوصاية ، ويطلب لها الخير والصلاح ، وإن في طليعة ما يجب أن يعني به من حقوق هذه الوصاية توجيه النساء إلى القدوة الحسنة والتأسي بفضليات النساء في الحشمة ، و الترفع عن مجالس الإثم ومزالق الخطيئة ، فالمرأة في بيتها يجب أن تكون مثال الزوجة الصالحة التي وصفها رسول الله بقوله (( خير النساء امرأة إذا نظرت إليه أسرتك وإذا أمرتها أطاعتك ، وإذا غبت عنها حفظتك في نفسها ومالك)) .
فاتقوا الله في أنفسكم وفي نسائكم وبنائكم فأحسنوا التوجيه والتربية والقوامة فإن أخطر الفساد ما أصاب هذا النصف من المجتمع.
الخطبة الثانية
أما بعد فيا أيها الأخوة المؤمنون :
نحن جميعا أمناء ومسؤولية عن تطبيق أحكام هذا الدين الذي أنعم الله به علينا فإن نهضنا بذلك سعدنا في حياتنا الدنيا ورجونا أن تكون من الفائزين في الآخرة وإن فرطنا في ذلك فلابد من أن ندفع الثمن من أعصابنا وأبنائنا ومن أعراضنا ، إن كل واحد منا على ثغر فليحذر أن يؤتي الإسلام من قبله ، إن ترك النساء ويخرجن من البيوت ويزاحمن الرجال في الأسواق ويتحدثن لغير المحارم وتكشف بعضهن عما لا يجوز كشفه من أجسادهن إن كل ذلك حرام وعار ومصيره الدمار ، ولقد كان أول جرم بني إسرائيل انطلاق نسائهم متبرجات للفتنة فابتلاهم الله بالطاعون .
إذا دعت الضرورة المرأة إلى السوق فمن حق القيم عليها أن يلزمها الاحتشام ويمنعها من التبرج وإظهار وما حرم الله إظهاره على الأجانب ومن لبس أفخر الثياب ومن المرور وسط مجالس الرجال ، فقد صح عن رسول الله أنه قال ، وقد رأى اختلاط الرجال بالنساء في الطريق (( استأخرن فإنه ليس لكن أن تحتضن الطريق ، عليكن بحافات الطريق)) ، فكانت المرأة تلتصق بالجدار حتى إن ثوبها ليتعلق بالجدران من لصوقها به ، وعنه أنه قال (( أيما امرأة استعطرت ، فمرت على قوم ليجدوا ريحها فهي زانية)) ، إن تفريطا ظاهرا من جانب النساء بتعدي حدود الله وبالتبرج وإظهار الزينة فليسهن ما قال رسول الله (( صنفان من أهل النار لم أرهما : قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس ، ونساء كاسيات عاريات ، أي يلبسن ثيابا رقاقا تكشف عما تحتها ، مميلات مائلات ، أي زائغات عن الطاعة ، فمتبخترات في مشيتهن ، مميلات للقلوب بتكسره ، رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة ، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا )) .
فاتقوا الله عباد الله وقوموا بما أوجه الله عليكم من حقوق على نسائكم وبما أمركم به من رعاية أهليكم والبعد بهن عما يوجب غضب الله وعذابه.
ـــــــــــــــــــ(68/240)
المحصنات الغافلات
...
...
978
...
الأسرة والمجتمع
...
...
المرأة
...
إسماعيل الخطيب
...
...
تطوان
...
3/2/1419
...
...
الحسن الثاني
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- الحديث عن المرأة المسلمة وأن الله حرّم قذفها بما يسوء 2- أن الإسلام اعتنى بالمرأة فأمَرها بالحجاب وألا تسافر إلا مع ذي مَحْرَم حفاظاً عليها 3- بعض ما يجب على المرأة مراعاته لتجنّب الفتنة بها
الخطبة الأولى
أما بعد:
يقول ربنا تعالى: إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم .
عباد الله، المحصنة، وهي المرأة المسلمة العفيفة ذات الحرمة، أعلى الله قدرها، وحفظ شرفها، وفرض العقوبة على من اتهمها، فقال جل شأنه: والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون ، إن الإتهام بارتكاب جريمة الزنا، أخطر اتهام، وقد يكون سببا في تشتيت أسرة، وضياع أفرادها، لذلك شرع الله هذه العقوبة ردعا لأولئك الذين يحبون أن تشيع الفاحشة، بأن يزول التحرج من ارتكابها، فعندما يشيع في مجتمع أن فلانا المعروف بعمله أو بصلاحه يزني، وأن فلانة المتزوجة تزني، فإن هذه الجريمة تصبح شائعة في النفوس لتشيع بعد ذلك في الواقع، عندما يقول ضعيف الإيمان: إذا كان هؤلاء، وهم من هم يزنون فكيف لا أزني، وبذلك تزول الثقة بالخير والعفة والنظافة.
وشرف المرأة أعز شيء لديها، وهي مطالبة بالحفاظ على عفتها بسلوك سبيل المؤمنات الصالحات القانتات، لذلك أرشدها الإسلام إلى طريق واضح، ومنهج سليم عندما أمرها بلباس الجلباب الذي هو عنوان وعلامة على التزامها بأمر ربها، كما أمرها بأوامر فيها حفظ لشرفها:
أمرها بأن لا تسافر إلا مع محرمها فقال عليه الصلاة والسلام: ((لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة ليس معها محرم))[1]، فالمؤمنة الملتزمة بأمر ربها لا تسافر إلا ومعها أبوها أو أخوها أو زوجها أو أبنها أو ذو محرم منها، بهذا نطق من لا ينطق عن الهوى[2]، إرشادا للمؤمنات.
أمرها إن اضطرت لمخاطبة الرجال الأجانب أن لا ترقق كلامها، كما تفعل الفاسدات، فإن ذلك يطمع الفجار فيها، فقال سبحانه: فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض وعليها أن تكلمهم بجد يبعث على احترامها، قال تعالى: وقلن قولا معروفا .
أمر الإسلام المسلمة بملازمة بيتها، فلا تخرج منه إلا لضرورة، قال تعالى: وقرن في بيوتكن ، فإذا خرجت فلا يجوز لها أن تظهر زينتها ومحاسنها، قال تعالى: ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى ، والتبرج هو أن تظهر المرأة من زينتها ومحاسنها ما يجب عليها ستره، ومن ذلك استعمال الطيب قال عليه الصلاة والسلام: ((لا تمنعوا إماء الله مساجد الله، ولكن ليخرجن وهن تفلات))[3]. أي دون استعمال الروائح العطرية التي تثير الانتباه إليهن .
إذا علمنا هذا تبين لنا مبلغ الإنحراف الذي وصلته النساء في عصرنا، وهو انحراف يزداد يوما بعد يوم نتيجة لضعف التوجيه ولما يقوم به دعاة الابتعاد عن شرع الله من عمل مدروس تحت غطاء حقوق المرأة والمساواة والحرية، وهم يرون كما نرى المرأة وقد أصبحت سلعة رخيصة، مهانة محتقرة، أضاعت دينها وشرفها وكرامتها، فإلى الله المشتكى هو ولينا ومولانا وإليه المصير.
عباد الله: بدراستنا لما جاء في كتاب الله وفي سنة رسوله عليه الصلاة والسلام من توجيه للمرأة المسلمة، نعلم ما هي الأعمال التي يجوز للمرأة المسلمة أن تعملها وما هي الأعمال التي لا تليق بها، إن أعظم مكان لعمل المرأة هو بيتها وأسرتها، إلى هذه المهمة الكريمة العظيمة يشير الرسول عليه الصلاة والسلام وهو ينوه بنساء قريش الصالحات ويقول: ((خير نساء ركبن الإبل صالح نساء قريش: أحناه على طفل وأرعاه لزوج في ذات يده))[4].
أما أن تهجر النساء البيوت إلى المصانع والمتاجر وغيرها فهو فساد واختلال، وربما قال قائل: إذا لم يكن للمرأة مورد ولا كافل فماذا تعمل لكسب رزقها؟ نعم لها الحق شرعا وعقلا في كسب رزقها بعمل يناسبها عمل بعيد عن الفتنة والفاحشة والاختلاط عمل لا يضطرها للسفر مع غير محرمها، أما أن تعمل أي عمل كان، كما هو واقع الآن، فذاك فساد ومهانة للمرأة، ولا خير في مجتمع فسد نساؤه، وفجر رجاله.
[1] رواه مسلم .
[2] البخاري : كتاب تقصير الصلاة – باب في كم يقصر الصلاة .
[3] رواه أبو داود – كتاب الصلاة – باب خروج النساء إلى المساجد .
[4] رواه البخاري .
ـــــــــــــــــــ(68/241)
المشكلات الزوجية
...
...
981
...
الأسرة والمجتمع
...
...
قضايا الأسرة
...
إسماعيل الخطيب
...
...
تطوان
...
8/10/1418
...
...
الحسن الثاني
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- من آيات الله أن خلق الذكر والأنثى وجعل بين الزوجين مودة ورحمة 2- الحياة الزوجية عرضة للمشكلات والحثَّ على التَّعَقّل واللجوء إلى الشرع في حَلّها 3- أن الله جعل القوامة للرجل لا للتسلط والاستبداد بل هي قوامة رحمة وشفقة وتشاور فيما يصلحهما
الخطبة الأولى
أما بعد:
يقول ربنا سبحانه: ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون [ الروم:21].
عباد الله، إن من آيات الله الدالة على عظمته وحكمته خلقه للإنسان من تراب، قال تعالى: ومن آياته أن خلقكم من تراب والتراب ميت ساكن بينما الإنسان حي متحرك، فسبحان من أخرج الحي من الميت، وسبحان من جعل قوام الحياة هذه العلاقة المتينة بين الرجل والمرأة، فكلاهما يألف الآخر ويسكن إليه، ويجد في كنفه الاستقرار والأنس والاطمئنان، وجعل بينهما مودة وهي المحبة ورحمة وهي الرأفة والعلاقة بين الزوجين لا يمكنها أن تستمر إذا لم تكن بينهما مودة ورحمة.
غير أن الحياة الزوجية قد تعترضها خلافات ونزاعات تتسبب في نتائج لا تحمد عقباها، وقد تكون أسباب تلك الخلافات واهية، غير أن العناد والمكابرة وقلة التفقه في الدين، كل ذلك يدفع بالزوجين إلى تضخيم المشاكل الصغيرة، وتحمل نتائجها السيئة.
إن الخلاف والاختلاف من طبائع البشر التي فطر الله الناس عليها، والحياة بين الزوجين لا يمكن أن تكون بغير مشاكل، لكن يستطيع الإنسان أن يعالج كل المشاكل بهدي من كتاب الله وسنة رسوله، يقول ربنا سبحانه: وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا إن الزوج قد يكره من زوجته أشياء كتقصيرها في خدمة بيتها، أو مخالفته في أمر طلبه منها، لكن ذلك لا ينبغي أن يكون سببا في الفراق، فالآصرة الزوجية أوثق من أن تعصف بها مشكلة عابرة، فكم من امرأة كرهها وحسن معاشرته لها، فكانت أعظم أسباب هنائه وسعادته، وليتذكر الرجل أيضا أنه لا يخلو من عيب تصبر امرأته عليه فالكمال لله تعالى وحده.
والآية ترشدنا إلى أن بعض الأشياء التي نكرهها الآن، قد يكون فيها خير في المستقبل، فهذه قاعدة عامة تجعل الإنسان صابرا مترويا عاقلا.
ولما كان كل من الرجل والمرأة لا يخلو من عيب كان عليهما أن ينظرا إلى المحاسن في الوقت الذي ينظران فيه إلى المساوئ، وإلى ذلك يشير قول النبي : ((لا يفرك مؤمن مؤمنة إن كره منها خلقا رضي منها خلقا آخر))[1]. الفرك هو البغض بين الزوجين، والنبي عليه الصلاة السلام يرشد إلى أنه لابد أن يكون في الإنسان عيب أو نقص، فإذا وجد الزوج في زوجته أمرا يكرهه فعليه أن يتذكر ما فيها من المحاسن، والذي يعمى عن المحاسن ولا يلاحظ إلا المساوئ، لابد أن يقلق ويظلم ويعرّض الحياة الزوجية للخطر.
وإن كثيرا من الخلافات التي تقع بين الزوجين سببها عدم التزامهما بالتشاور فيما بينهما، وقد مدح الله تعالى المؤمنين لالتزامهم بالشورى في جميع أمورهم، قال تعالى: والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون ، وقد تعتقد المرأة أن فطام الطفل من اختصاصها وحدها، لكن القرآن الحكيم يجعل الفطام مسؤولية مشتركة بين الزوجين، يقول الله تعالى: والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين ثم يقول سبحانه: فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما والفصال هو الفطام، لأنه يفصل الولد عن أمه، فيكون مستقلا في غذائه عنها، فلما جعل الله تعالى مدة الرضاع حولين، أجاز الاقتصار على ما دون الحولين، بقوله سبحانه: لمن أراد أن يتم الرضاعة فالوالدان إن اتفقا على إرضاع الطفل مدة تقل عن سنتين جاز لهما ذلك لكن لابد من رضائهما وتشاورهما واتفاقهما على أن صحة الطفل تسمح له بالاستغناء عن حليب أمه قبل بلوغه الحولين. وفي هذا الأمر إرشاد إلى ما ينبغي أن تكون عليه العلاقة الزوجية من تشاور وتفاهم يحقق السكينة والسعادة، والمودة والرحمة.
عباد الله: لا شك أن أسباب الخلاف بين الزوجين كثيرة ومتشعبة ومتغيرة، ولا شك أن الخلاف إن طال واستمر، عكّر صفو الحياة، كما أن الزوجين في بعض الحالات لا يستطيعان تحديد سبب الخلاف أو قد يكون الخلاف لسبب تافه كتأخر الزوجة عن إعداد الطعام، لذلك كان على الزوجين أن يتصارحا وأن يناقشا خلافهما بهدوء، وأن يعتذر أحدهما للآخر. فالحقوق والواجبات بينهما متساوية، قال تعالى: ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة ، فما يطلب من الزوجة كالطاعة والأمانة والعفة والإخلاص وحسن المعاشرة والاحترام يطلب أيضا من الرجل، فإذا همّ الرجل بمطالبة زوجته بأمر فليتذكر أنه يجب عليه مثله، وقد أحال ربنا سبحانه معرفة مالهن وما عليهن إلى عرف الناس المستمد من الشريعة والآداب والعادات.
وقوله تعالى: وللرجال عليهن درجة هي درجة الرئاسة، ذلك أن كل جماعة لابد لها من رئيس ينظم أمرها، وبدونه يختل النظام، وقد جعل الله تعالى هذه الرئاسة للرجال لحكم ظاهرة بينة، لكنها ليست رئاسة استبدادية بل تنبني على التشاور والتناصح وتحقيق الخير لجميع أفراد الأسرة.
إن المؤمن يسأل الله تعالى أن يجعل زوجته وأولاده موضع سروره وفرحه، فيتوجه إليه ضارعا قائلا: ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما .
[1] رواه مسلم
ـــــــــــــــــــ(68/242)
مخالفات نسائية
...
...
991
...
الأسرة والمجتمع, فقه
...
...
المرأة, النكاح
...
إسماعيل الخطيب
...
...
تطوان
...
...
...
الحسن الثاني
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- حكم زواج الرجل المسلم بغير المسلمة وحكم زواج المسلمة بغير المسلم 2- التحذّير من فتنة النساء
الخطبة الأولى
أما بعد:
يقول ربنا سبحانه وتعالى: يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن .
عباد الله: لما بدأ المسلمون يهاجرون إلى المدينة، كان من الذين يريدون الهجرة نساء مؤمنات، أزواجهن كفار، فنزل حكم الله يقرر أن المرأة إذا أسلمت فقد حرمت على زوجها الكافر، فلا هي تحل له ولا هو يحل لها.
هذا حكم الله، فالزواج من غاياته إقامة الأسرة المسلمة، وتنشئة الأبناء على الإسلام، وهذا أمر لا يتأتى إذا كان الزوج كافرا، والإسلام إنما أباح للمسلم أن يتزوج بكتابية لأن القوامة للزوج وعلى المرأة أن تطيعه في المعروف وزواجه بها قد يكون سببا في إسلامها، فعثمان بن عفان تزوج بنائلة بنت القراقصة، وهي نصرانية فأسلمت عنده، ولذلك بين العلماء أن الزواج بالنصرانية أو اليهودية مكروه، ذلك لأنها قد تفتنه عن دينه، أو يميل لأهل دينها ويبتعد عن أهل دينه، وهذا أمر مشاهد معروف.
أما زواج المسلمة بغير المسلم، على أي دين كان فقد حرمه الإسلام، والحكمة من هذا التحريم بينة ظاهرة.
إذا علم هذا – معاشر المسلمين – فقد ذكرناكم بهذا الحكم الإلهي لأن طائفة لا ندري عددها من نساء المغرب خارج الوطن يعملون في أمور غير مباحة كالدعارة وغيرها.
ولا يمكن أن نسمي تلك العلاقة المحرمة زواجا فللزواج أركان لابد منها فإذا لم تتحقق فإنما هو الزنا، ولذلك فلا يحق لنا أن نقول، إن فلانة تزوجت بفلان النصراني بل نقول إنها تزني معه والأولاد الذين يأتون نتيجة تلك العلاقة هم أولاد زنى.
إن هذا الأمر الخطير يبين لنا إلى أي حد وصل الاستهتار بالدين، وعدم المبالاة بأحكامه وإلى أي مدى بلغت الجرأة على الله، فهذه المرأة التي تعاشر كافرا لم تصل إلى هذا الدرك الأسفل حتى انسلخت شيئا فشيئا من دينها، فلم يعدلها من الإسلام أي التزام، وكل ذلك نتيجة لضعف الإيمان أو عدمه.
إن النبي عليه الصلاة والسلام حذر أمته من فتنة النساء، فقال: ((ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء)) وهذه الفتنة لا تتحقق إلا إذا خالفت النساء أمر ربهن.
فإذا تركت النساء اللباس الشرعي وتعرين كانت الفتنة.
وإذا نزعن اللباس على الشواطئ، كانت الفتنة وإذا اختلطن بالرجال خاصة في الحفلات كانت الفتنة.
وإذا سافرت المرأة وحدها دون محرم كانت الفتنة، فالفتنة والإفساد، نتيجة حتمية لمخالفة أمر الله.
لما أهبط آدم أوحى الله إليه أربع فيهن جماع الأمر لك ولولدك من بعدك، أما الأولى فلي، وأما الثانية فلك، وأما الثالثة فبيني وبينك وأما الرابعة فبينك وبين الناس؟
أما التي لي فتعبدني ولا تشرك بي شيئا.
وأما التي لك فعملك أجزيكه أفقر ما تكون إليه.
وأما التي بيني وبينك فعليك الدعاء وعلي الإجابة.
وأما التي بينك وبين الناس فتصاحبهم بما تحب أن يصاحبوك به.
أربع من حصل عليها واجتمعت عنده اجتمع له خير الدنيا والآخرة: امرأة صالحة عفيفة، وحديث موافق على طاعة الله ومال من حلال واسع ينفقه في مراض الله وعمل صالح.
اللهم اسلك بنا سبيل الأبرار، واجعلنا من عبادك المصطفين الأخيار، وامنن علينا بالعفو والعتق من النار.
ـــــــــــــــــــ(68/243)
الدعوة إلى تحرير المرأة
...
...
996
...
الأسرة والمجتمع
...
...
المرأة
...
عبد الرحمن بن عبد العزيز السديس
...
...
مكة المكرمة
...
...
...
جامع الفرقان
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
دور العلمانيين والمنافقين في إفساد العقيدة وترويج الفساد , والانحلال – أسلوبهم في إضلال الأمة وإفساد النساء وتدرجهم – مخططات إفساد المرأة السعودية – تاريخ الدعوة لتحرير المرأة بزعمهم – خروج المرأة للعمل , ضوابطه ومخاطره وآثاره على الأسرة والمجتمع
الخطبة الأولى
أما بعد:
فيا عباد الله: لا يزال المنافقون من أهل العلمنة والتغريب ومن اغتر بدعواهم يطالعوننا المرة بعد المرة بأقوال وآراء عبر صحفنا اليومية تخالف ثوابتنا الشرعية ومسلماتنا الإعتقادية يلبسون لبوس الغيرة على الدين أحيانا ولبوس النهضة بالاقتصاد أحيانا أخرى ويطرحون أفكارا خاوية لا تتفق وواقعنا المحافظ على دينه وما هم إلا حفنة قليلة من المتأثرين بالغرب اللاهثين خلف ما يفد منه ولو كان فيه حتفنا ولو كان الغرب قد ذاق مرارته ونادى بالويلات والثبور من جرائه فيصدق عليهم بذلك قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه، قالوا: يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟)) إن هؤلاء المسعورين من العلمانيين والمستغربين ومن سار في فلكهم ممن يتباكون على وضع المرأة في بلادنا هم أعداء المرأة حقا ولعلمهم بواقع مجتمعنا واختلافه عن سائر المجتمعات التي عانت من الاستعمار دهورا فإنهم يتسللون بأفكارهم التحررية ودعوتهم للانحلال من خلال قضايا شرعية يحاولون أن يجعلوها مجال نقاش وأخذ ورد فحين يطالب أحدهم مثلا بالبخنق الذي تلبسه نساء ماليزيا أترونه صادقا في مطالبته هل سيرضى بالوقوف عند هذا الحد أم أنها خطوات الطريق الطويل اللاحب الذي يراد جر المرأة إليه في بلادنا وهل قدوته ماليزيا حقا أم إن قدوته هناك حيث العري والاختلاط والعار والشنار وهل واقعه الآن يشهد بحسن سيرته وطيب طويته وسلامه مشربه أم هو بحاجة إلى إصلاح حاله ثم من نصبه وكيلاً لبنات آدم يطالب لهن بحقوقهن بزعمه ثم ينسف في طريقه مسلمات شرعية وثوابت عقدية بصريح العبارة أو بتلويحها ولحنها: أم حسب الذين في صدورهم مرض أن لن يخرج الله أضغانهم ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول والله يعلم أعمالكم لقد طار العلمانيون والمستغربون ومن انخدع بهم بكلمة قالها ولي العهد وعلق عليها مصدر لم يصرح باسمه نشر تعليقه في جريدة الشرق الأوسط وجريدة الحياة ومما جاء في تعليقه: إن الكلمة المشار إليها تعد الطلقة الأولى للحوار حول المرأة السعودية وتحريك دورها وتابع يقول: إن البعض يتناول قضايا هامشية وقشور مثل قيادة المرأة للسيارات وغطاء الوجه فالموضوع الأول تمت مناقشته في مجلس الشورى وهي قضية تقنية بحاجة مثلا لشرطة نسائية تتولى تنظيمها وأما الثاني فهي قضية خلافية هكذا يقول هذا المصدر الذي لم يصرح باسمه وتابع قائلا: وإذا أردنا مجتمعا دون اختلاط فإننا سنخلق مجتمعاً منقسماً وشاذاً وزاد: حان الوقت لمساهمة المرأة السعودية في المسيرة التنموية وحرص هذا المصدر على تأكيد أن الدين الإسلامي دين يخاطب الجميع وقال: لا وجود لكهنوتية في السعودية هكذا قال هذا المصدر المجهول ولنا مع تصريحه الذي قد جاء بيان يرد عليه بيان توضيحي لكلمة ولي العهد يتبرأ من كل التعليقات التي نسبت إليها والتي تعد نفسها شرحا لها لنا مع هذا التصريح عدة وقفات أولها يلمس أن هناك توجها لبحث قضايا محسومة في هذا البلد من قبل هيئة كبار العلماء تتعلق بالمرأة وطرحها للمفاوضة والنقاش والاعتراض ثانيا وصف القضايا الشرعية كالحجاب ونحوها بأنها قشور وأمور هامشية مما يدعو إلى التوجس والخوف من تلك الدعاوى وإن ألبست بلباس الدين. ثالثاً: الزعم بأن موضوع قيادة المرأة للسيارة تمت مناقشته في لجنة الشورى رغم أنه صدرت فيه فتوى شرعية رسمية وهذا الزعم باطل فقد صرح وزير الداخلية لجريدة اقتصادية بأنه لا توجد أي رغبة أو توجه لدى الدولة بشأن السماح للمرأة بالقيادة في السعودية وبأنه ليس هناك دراسة بهذا الخصوص وأن كل مجتمع له خصوصياته وكأي أمور أخرى تخضع لهذه الاعتبارات لكن أعود وأؤكد أنه لا توجد أي دراسة حول هذا الموضوع انتهى كلامه رابعا أن عمل المرأة الذي يدعى له ويراد فتح أبوابه هو عمل في محيط الرجال وميادينهم كما جاء في التصريح إننا إذا أردنا مجتمعا دون اختلاط فسنخلق مجتمعاً منقسماً شاذاً هكذا قال المصدر المجهول خامسا إلغاء دور المرجعية الدينية والرجوع في كل أمر إلى كتاب الله وسنة رسوله بقوله: لا كهنوتية في السعودية وفي ذلك نسف للثوابت الشرعية وقد تتابعت المقالات الصحفية من جملة من المستغربين من أبناء وبنات هذا المجتمع رغم صدور بيان يرد ويوضح كلمة ولي العهد ويتنصل من كل المقالات التي تعلقت بها رغم ذلك كله فقد تتابعت المقالات من المستغربين في الصحف ومما تضمنته هذه المقالات استغلال كلمة ولي العهد وتوجيهها حسب توجههم المنحرف وجعلها توطئة لعرض ما يريدونه ومن ذلك أن المقالات تضمنت الدعوة الصريحة لتحرير المرأة وتغريبها ورفع الظلم والضيم الذي تعانيه من مجتمعها حسب زعمهم حتى قال بعضهم: المرأة لا تملك الصلاحيات في اتخاذ أبسط القرارات وقال آخر من هؤلاء المستغربين: عمل المرأة كمعلمة بطالة مقنعة وهدر للأموال وقال ثالث : لن تتقدم أمة نصفها
مصاب بالشلل شل الله يمينه ويلحظ تبرم واستياء تلك الفئة المنحرفة من حال مجتمعنا المحافظ والدعوة إلى تغيير أوضاعه حتى قال بعضهم: حال المرأة يدعو إلى الرثاء وضع النساء في مجتمعنا لا يطابق المعايير التي يتفق عليها العقلاء النساء في مجتمعنا لا يحصلن على حقوقهن المرأة لا مكان لها في مجتمعنا نساؤنا في العالم العربي لا يتحدثن عن حقوقهن كي تعود المرأة إلى الإنتاج فإننا في حاجة إلى الكثير من الكلام الصريح اللهم أكفنا شر الأشرار وشر الفجار اللهم من أرادنا والمسلمين بسوء فاشغله بنفسه واجعل كيده في نحره واجعل تدبيره تدميره يا سميع الدعاء.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيما لشانه وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى غفرانه صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه أما بعد فيا عباد الله لقد بدأت حركة ما يسمى بتحرير المرأة قبل مائة عام أي في عام ألف وثمانمائة وتسع وتسعين للميلاد حيث خرج كتاب تحرير المرأة لقاسم أمين الذي دعا فيه المرأة إلى السفور ونبذ الحجاب واختلاطها بالرجال ولم يكن في ذلك الوقت في مصر امرأة تختلط بالرجال سوى امرأة واحدة هي ناظلي فاضل حفيدة محمد على باشا وفي تركيا دعا أحمد رضا عام ألف وتسعمائة وثمانية للميلاد أي قبل تسعين سنة إلى إفساد المرأة حيث قال ما نصه: ما دام الرجل التركي لا يقدر أن يمشي علناً مع المرأة على جسر غلطة وهو جسر في تركيا وهي سافرة الوجه فلا أعد في تركيا دستوراً ولا حرية فهكذا دعا هذا الأثيم إلى سفور المرأة قبل تسعين عاماً تقريباً ولكن انظروا ما يحدث الآن حيث وصل الحال إلى إنشاء المراقص وبيوت البغاء وكل أنواع الشرور كما هو مشاهد ومعلوم في بعض البلاد نسأل الله أن يحمي بلادنا وسائر بلاد المسلمين من كل سوء ومكروه وإن كثيرا من الكتابات التي نطالعها على صفحات جرائدنا إنما هي نسخة مستلة من دعوة قاسم أمين وهي طبق الأصل من كتاباته وأفكاره هو وأضرابه دعاة السفور والاختلاط وإن عمل المرأة بالصورة التي ينادون بها له من المفاسد الشيء الكثير فمما نذكره باختصار إهمال الأسرة وتمزيق أركانها وتضييع النشء وإفساد الأولاد وكثرة حالات الطلاق وكثرة حالات العنوسة في المجتمع وتحديد النسل إذ أن المرأة العاملة تضطر لإيقاف الإنجاب مراعاة للوظيفة والتضييق على الرجل في الحصول على الوظيفة وهذا مشاهد ملموس بل الواقع يشير إلى بداية ظهور البطالة في المجتمع في أوساط الرجال والرجل مطالب بالعمل لكونه مطالب بالنفقة على المرأة ومن ذلك كثرة السائقين والخادمات والمربيات ومن ذلك ما تحدثه من أثر نفسي على الأطفال نتيجة تنشأتهم في دور الحضانة ومنها أنه لا عائد مادي من عمل المرأة إذ أنه سيصرف في تبعات ذلك خادمة أو مربية أو سائق وسيارة وغيرها من المصاريف ومنها تسهيل اللجان بالفساد والانحراف الأخلاقي وما يتبع ذلك من هتك الأعراض وضياع الحرمات أما بالصورة المحافظة فإن الآثار تكاد تنعدم وبالجملة فمن أراد أن يعرف آثار عمل المرأة بالصورة التي ينادي بها العلمانيون فلينظر إلى المجتمعات التي سبقت إلى مثل هذا العمل وما حل بها من فساد وانحراف يوجب على العقلاء من أبناء هذا المجتمع السعي لكف هذا الشر عن المسلمين ويتعين على الجميع بذل الجهود لحفظ المجتمع وصيانة الأمة من خلال السعي على الحفاظ على خصوصية تعليم المرأة وعملها في هذه البلاد بمنع الاختلاط في التعليم والعمل والسعي الجاد إلى إقرار التقاعد المبكر للمرأة والعمل بنظام الساعة والعمل بهذين الأمرين سيغلق الباب أمام تلك المطالبات والخطوات إذ أن قلة الوظائف المطروحة للمرأة هي حجة أولئك في مطالباتهم ومن ذلك إعادة النظر في سنوات تعليم المرأة وعملها بما يتوافق مع طبيعتها ويتلاءم مع وظيفتها الأساسية كأم وزوجة ومن ذلك إنشاء مستشفيات نسائية خاصة تراعي حرمات المرأة ومن ذلك تعديل مناهج التعليم في المراحل كلها من الإبتدائية إلى الجامعية بما يوائم طبيعة المرأة ويخالف الرجال وفي الختام نسأل الله العلي العظيم بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يكفينا شر الأشرار وكيد الفجار
ـــــــــــــــــــ(68/244)
كيف تعالج المشاكل الزوجية
...
...
1058
...
الأسرة والمجتمع
...
...
قضايا الأسرة
...
حسين الأعمش
...
...
متليلي
...
...
...
غير محدد
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- أنواع المشاكل الزوجية 2- النكاح ميثاق غليظ 3- طرق معالجة النزاعات بين الزوجين : أ- العظة والنصيحة ب- الهجران في المضجع ج- الضرب د- جلسة الصلح و- الطلاق 4- كيفية الطلاق وقيده 5- الإحسان في الطلاق
الخطبة الأولى
أما بعد:
فيا أيها المسلمون:
قد تعتري الحياة الزوجية أزمات ومنازعات، وخصومات، وقد تكون النزاعات والخصومات بسبب ذاتي، أي بتقصير من الزوجة أو الزوج وقد تكون بسبب طرف خارجي سواء من محيط الأسرة أو من خارجه، وأمام هذه الحال يطيش لب الزوج فيسارع إلى أبغض الحلال إلى الله وهو الطلاق، وقد يطيش لب الزوجة فتطالب بالطلاق وربما استجاب الرجل فشردت العائلة، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
إن مثل هذه التصرفات السخيفة البليدة لا يقرها الشرع - أيها المسلمون - وإنما سطر مسالك أخرى للعلاج، لو طبقت لوُسع الأمر بعد ضيق ولكن الناس يستعجلون.
إن الإسلام أحاط الأسرة بسياج الكرامة، واعتبر العقد ميثاقاً غليظاً قال سبحانه وتعالى: وقد أفضى بعضكم إلى بعض، وأخذن منك ميثاقا غليظا وقال صلى الله عليه وسلم: ((خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي)). وقال عليه الصلاة والسلام، أيضا: ((لا يفرك مؤمن مؤمنة إن كره منها خلقاً رضي آخر)).
ولقد شدد الإسلام – أيها المسلمون – النكير على دعاة السوء الراغبين في تفريق الأسر، كيفما كان موقعهم ولو كانوا والدين لأن الظلم ظلمات، وليس للولد أن يطيع والديه في طلاقه زوجته إن كانت صالحة طيبة، قال : ((من خبب – أي أفسد – زوجة امرئ، فليس منا)).
أيها المسلمون:
قد يتخذ المسلم كل هذه الوقاية الشرعية، ويحتاط كل الاحتياط، ولكنها الحياة، فقد لا تستقيم الأمور، فهل يعجل بالطلاق؟ مسلك الإسلام ليس كذلك، ولكنه خطط لعلاج هذا المرض على المراحل التالية:
أولاً: العظة والنصيحة:
فعلى الزوج أن ينصح نفسه أولاً، فليراقب تصرفاته، وليزنها، فإن تبين له بعد التجرد من الذاتية، وبعد الاستنصاح وعرض قضيته على أهل الرأي والمشورة فإن بينوا له أن الخطأ منه تاب إلى الله عز وجل، وأرضى زوجته بالهدية البسيطة، أو بالكلمة الحانية، أو بالبسمة الصادقة، وإن تبين له أن الخطأ منها، فليذكرها بالله ويخوفها بما ينتظرها من عقابه لتقصيرها وسوء تدبيرها فإن تابت وعادت فهو المطلوب وإلا انتقل إلى الخطوة الثانية.
ثانياً: الهجر في المضجع:
إنه تأديب مشروع يظهر فيه الزوج عدم رضاه عن زوجته الناشز، مدة تكفي لردعها، ولكن دون شتم ولا تقبيح، وهو هجران في المضجع لا يطلع عليه الأهل ولا الأولاد، ولا يعني الصوم على الكلام بحيث لا يكلمها ولا تكلمه إطلاقا، لا سيما إذا تجاوز الأمر ثلاثة أيام، قال الرسول : ((لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال)).
فإن لم يكف هذا العلاج انتقل إلى الخطوة الثالثة:
ثالثاً: الضرب:
والضرب الذي يعنيه الشرع هو ضرب غير مبرّح، وإنما هو إعلان عن الغضب، بحيث يكون باليد وحدها، دون وسائل أخرى كالعصا والسوط وما إليها، فهذا لا يجوز، وإياك إياك، - أخي المسلم – أن تمس الوجه أو الرأس، فذلك محرم، والضرب كما هو معلوم رخصة لتأديب الزوجة – ولا يضرب كريم – ولم يكن أبدا إظهاراً للقوة أو السطوة، فذلك حرام حرام؛ قال رسول الله : ((لا تضربوا إماء الله))، وقال: ((لا يضرب النساء إلا شرار الرجال)) إن نفع هذا فذلك المرتجى وإلا فهناك المرحلة الرابعة وهي:
رابعاً: جلسة الصلح:
ينبغي أن يجتمع بعض من أهل الزوج وبعض من أهل الزوجة من أهل الحكمة والدراية والصلاح، لا من السفهاء والطائشين، يجتمعون على نية الخير، فينظرون في القضية ويقلبون وجوهها، ويفصلون فيها بعدل وحكمة، وصواب، إما بالتوفيق وإما بالتفريق.
هذه المراحل – أيها المسلمون – جمعت في قوله تعالى: واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا إن الله كان عليا كبيرا وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما إن الله كان عليما خبيرا .
أيها المسلمون:
قد لا تثمر هذه المحاولات، ويستعصي الحل، وتتنافر القلوب، والقلوب إذا تنافر ودُّها فهي كالزجاجة كسرها لا يجبر، وقد تستحيل العشرة، هنا يشرع الطلاق، وآخر العلاج الكي كما قيل، يشرع الطلاق رخصة شرعية للضرورة ورفعاً للحرج، والحديث الصحيح يقول: ((لا ضرر ولا ضرار )). ولكن دائماً على أساس أنه أبغض الحلال إلى الله، وعلى أساس قوله : ((تزوجوا ولا تطلقوا فإن الطلاق يهتز له العرش)).
أقول قولي هذا وأستغفر الله الغفور الكريم لي ولكم فاستغفروه يغفر لكم ذنوبكم ويكفر عنكم سيئاتكم.
الخطبة الثانية
الحمد لله حمداً كثيرا طيبا مباركا فيه نحمده حمد الشاكرين لأنعمه ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ونشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله وصفيه من خلقه وخليله، نصلي ونسلم عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد:
فيا أيها المسلمون :
علمنا أن الطلاق هو آخر ما يلجأ إليه ولكن كيف يكون هذا الطلاق؟ وما قيده؟ قيده الإحسان، هكذا جاء في القرآن: الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ، ومن الإحسان في الطلاق اتباع السنة، فلا تطلق المرأة وهي حائض ولا يُوالى في التطليق وإنما يكون طلقة واحدة، ولا يسارع إلى التحريم والتثليث، فإن من أشنع الكلام وأبشعه هذه الكلمات: هي عليه حرام هي مطلقة ثلاث في ثلاث.. الخ.
فاللهم اغفر خطايانا وذنوبنا، اللهم اهدنا إلى صالح الأعمال والأخلاق اللهم اجعلنا من أوجه من توجه إليك، ومن أقرب من تقرب إليك، ومن أفضل من سألك ورغب إليك، وصلي اللهم وسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين.
ـــــــــــــــــــ(68/245)
صلة الرحم
...
...
561
...
الأسرة والمجتمع
...
...
الأرحام
...
أحمد فريد
...
...
الإسكندرية
...
...
...
غير محدد
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- التحذير من قطع الرحم التي أمر الله بوصلها. 2- بركة العمل في صلة الرحم. 3- الفرق بين المكافئ والواصل. 4- شؤم قطيعة الرحم.
الخطبة الأولى
أما بعد:
قال الله تعالى: يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيباً [النساء:1].
يقول الله تعالى آمرا خلقه بتقواه، وهي عبادته وحده لا شريك له، ومنبهاً لهم على قدرته التي خلقهم بها من نفس واحدة، وهي آدم: وخلق منها زوجها وهي حواء خلقت من ضلعه الأيسر، وقوله: وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء أي ذرأ منهما أي من آدم وحواء رجالا كثيرا ونساء، ونشرهم في أقطار العالم على اختلاف أصنافهم وألوانهم ولغاتهم، ثم قال تعالى: واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام أي اتقوا الله بطاعتكم إياه، واتقوا الأرحام أن تقطعوها، ولكن بروها وصلوها، وقوله: تساءلون أي كما يقال: أسألك بالله وبالرحم، وقيل: تتعاقدون وتتعاهدون به.
وقال تعالى: فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم أولئك الذين لعنهم الله فأصمّهم وأعمى أبصارهم [محمد:22-23].
قال ابن جريج: المعنى فهل عسيتم إن توليتم عن الطاعة أن تفسدوا في الأرض بالمعاصي وقطع الأرحام.
وقال أبو العالية: المعنى فهل عسيتم إن توليتم الحكم فجعلتم حكاما، أن تفسدوا في الأرض بأخذ الرشا.
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((إن الله خلق الخلق، حتى إذا فرغ منهم، قامت الرحم فقالت: هذا مقام العائذ من القطيعة، قال: نعم أما ترضين أن أصل من وصلك، وأقطع من قطعك؟ قالت: بلى، قال: فذاك لك)) ثم قال رسول الله : ((اقرءوا إن شئتم)) : فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها [محمد:22-24].
والرحم هم قرابة الرجل من طرفي أبيه وأمه فتجب لهم الحقوق الخاصة، من المحبة والنصرة وعدم القطيعة، والقيام بحقوقهم كتمريض المرضى، وحقوق الموتى، من غسلهم والصلاة عليهم، وغير ذلك من حقوق المسلمين، وزيادة على ذلك النفقة على المحتاج منهم، وتفقد أحوالهم، وترك التغافل عن تعاهدهم في أوقات ضروراتهم، حتى إذا تزاحمت الحقوق، بدأ بالأقرب فالأقرب.
وقد وردت السنة بتأكيد أهمية هذه العبادة، فمن ذلك ما رواه في الصحيح عن أبي أيوب الأنصاري أن رجلا قال: يا رسول الله أخبرني بعمل يدخلني الجنة فقال القوم: ما له؟ فقال رسول الله : ((أرب ما له فقال النبي : تعبد الله لا تشرك به شيئا، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصل الرحم))([1]).
وفي الصحيح كذلك من حديث أنس: ((من أحب أن يبسط له في رزقه، وينسأ له في أثره فليصل رحمه)) ([2]).
وقوله : ((ينسأ له في أثره)) أي يؤخر أجله وسمي الأجل أثرا لأنه يتبع العمر.
قال زهير:
والمرء ممدود له أمل لا ينقضي العمر حتى ينتهي الأثر
وأصله من أثر مشيه في الأرض، فإن من مات لا يبقى له حركة، فلا يبقى لقدمه في الأرض أثر.
قال ابن التين: ظاهر الحديث يعارض قوله تعالى: فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون [النحل:61] والجمع بينهما من وجهين: أحدهما: أن الزيادة كناية عن البركة في العمر، بسبب التوفيق إلى الطاعة، وعمارة وقته بما ينفعه في الآخرة، وصيانته عن تضييعه في غير ذلك، مثل هذا ما جاء أن النبي تقاصر أعمار أمته بالنسبة لأعمار من مضى من الأمم، فأعطاه الله ليلة القدر، وحاصله أن صلة الرحم تكون سببا للتوفيق للطاعة، والصيانة عن المعصية، فيبقى بعده الذكر الجميل فكأنه لم يمت.
ثانيهما: أن الزيادة على حقيقتها، وذلك بالنسبة إلى علم الملك الموكل بالعمر، وأما الذي دلت عليه الآية فبالنسبة إلى علم الله تعالى، كأن يقال للملك: إن عمر فلان مائة مثلا إن وصل رحمه، وستون إن قطعها، وقد سبق في علم الله أنه يصل أو يقطع، فالذي في علم الله لا يتقدم أو يتأخر، والذي في علم الملك هو الذي فيه الزيادة أو النقصان، وإليه الإشارة بقوله تعالى: يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب [الرعد:39]. فالمحو والإثبات بالنسبة لما في علم الملك.
وقيل فيه جواب ثالث: وهو أن واصل رحمه تكون له الذرية الصالحة يدعون له من بعده.
وورد كذلك أن من وصل رحمه وصله الله.
ففي الصحيح عن أبي هريرة قال: ((إن الرحم شجنة من الرحمن))، فقال: ((من وصلك وصلته، ومن قطعك قطعته))([3]).
قيل وأصل الشجنة عروق الشجر المشتبكة، وقوله ((من الرحمن)) أي أخذ اسمها من هذا الاسم، كما في حديث عبد الرحمن بن عوف في السنن مرفوعا: ((أنا الرحمن خلقت الرحم وشققت لها اسما من اسمي))([4]).
قال الإسماعيلي: معنى الحديث أن الرحم اشتق اسمها من اسم الرحمن، فلها به علاقة وليس معناه أنها من ذات الله تعالى الله عن ذلك.
والمعنى الجامع لصلة الرحم إيصال ما أمكن من الخير ودفع ما أمكن من الشر بحسب الطاقة، وهذا إنما يستمر إذا كان أهل الرحم أهل استقامة، فإن كانوا كفارا أو فجارا فمقاطعتهم في الله هي صلتهم، بشرط بذل الجهد في وعظهم ثم إعلامهم إذا أصروا أن ذلك بسبب تخلفهم عن الحق، ولا يسقط مع ذلك صلتهم بالدعاء لهم بظهر الغيب أن يعودوا إلى الطريق المثلى.
وقوله: ((من وصلك وصلته، ومن قطعك قطعته)) الوصل هو أعظم ما يعطيه المحبوب لمحبه، وهو التقرب منه، وإسعافه بما يريد ومساعدته على ما يرضيه، وهو كما يليق بالله عز وجل وعظمته.
روى مسلم وأحمد عن أبي هريرة قال: أتى رجل للنبي فقال: يا رسول الله إن لي قرابة أصلهم ويقطعوني، وأحسن إليهم ويسيئون إلي، ويجهلون علي وأحلم عنهم قال: ((لئن كان كما تقول كأنما تسفّهم بالملّ، ولا يزال معك من الله ظهير عليهم ما دمت على ذلك))([5]).
قال النووي: كأنما تطعمهم الرماد الحار، وهو تشبيه لما يلحقهم من الألم بما يلحق آكل الرماد الحار من الألم ولا شيء على هذا المحسن بل ينالهم الإثم العظيم في قطيعته، وإدخالهم الأذى عليه.
وقيل إنك بالإحسان إليهم تخزيهم وتحقرهم في أنفسهم، لكثرة إحسانك، ولكنه من يقابل الإساءة منهم بالإحسان إليهم.
ففي الصحيح عن عبد الله بن عمرو عن النبي قال: ((ليس الواصل بالمكافئ، ولكن الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها))([6]).
قال الطيبي: المعنى ليست حقيقة الواصل ومن يعتد بصلته من يكافئ صاحبه بمثل فعله، ولكنه من يتفضل على صاحبه.
وقال البلقيني: المراد بالواصل في هذا الحديث الكامل، فإن في المكافأة نوع صلة بخلاف من إذا وصله قريبه لم يكافئه، فإن فيه قطعا بإعراضه عن ذلك، وهو من قبيل ((ليس الشديد بالصرعة)) و ((ليس الغنى عن كثرة العرض)) انتهى.
وقال ابن حجر: لا يلزم من نفي الوصل ثبوت القطع، فهم ثلاث درجات مواصل ومكافئ وقاطع، فالواصل من يتفضل ولا يتفضل عليه، والمكافئ الذي لا يزيد في الإعطاء على ما يأخذ، والقاطع الذي يتفضل عليه ولا يتفضل، وكما تقع المكافأة بالصلة من الجانبين، فمن بدأ حينئذ فهو الواصل، فإن جوزي سمي من جازاه مكافئا.
وقد وردت الأحاديث كذلك بالوعيد الشديد لقاطع الرحم ففي الصحيحين أن جبير بن مطعم أخبر أنه سمع رسول الله يقول: ((لا يدخل الجنة قاطع))([7]).
عن أبي بكرة عن النبي قال: ((ما من ذنب أحرى أن يعجل الله لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدخر له في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم))([8]).
قال الحجاوي: وقطيعة الرحم من الكبائر.
قال البلباني في آدابه: اعلم أنه يجب عليك أن تصل بقية رحمك، وهم كل قرابة لك من النسب، وقد قرن الله سبحانه الأرحام باسمه الكريم في قوله جل من قائل: واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيباً [النساء:1].
وذلك تنبيه عظيم على أن صلتها بمكان منه سبحانه ومقرب إليه، وقطعها خطر عظيم عنده ومبعد عنه سبحانه.
أخرج الطبراني عن الأعمش قال: كان ابن مسعود جالسا بعد الصبح في حلقة فقال: (أنشد الله قاطع رحم لما قام عنا، فإنا نريد أن ندعو ربنا، وإن أبواب السماء مرتجّة دون قاطع رحم)([9]).
وروي كذلك في الآثار (أن الرحمة لا تنزل على قوم فيهم قاطع رحم، وأن الملائكة لا تنزل على قوم فيهم قاطع رحم)([10]).
قال الحافظ في الفتح: قال الطيبي يحتمل أن يراد بالقوم الذين يساعدونه على قطيعة الرحم ولا ينكرون عليه ويحتمل أن يراد بالرحمة المطر وأنه يحبسه عن الناس عموما بشؤم التقاطع.
وقال كذلك واعلم أن المراد بصلة الرحم موالاتهم ومحبتهم أكثر من غيرهم لأجل قرابتهم، وتأكيد المبادرة إلى صلحهم عند عداوتهم، والاجتهاد في إيصالهم كفايتهم بطيب نفس عند فقرهم، والإسراع إلى مساعدتهم ومعاونتهم عند حاجتهم ومراعاة جبر خاطرهم، مع التعطف والتلطف بهم، وتقديمهم في إجابة دعوتهم، والتواضع معهم مع غناه وفقرهم وقوته وضعفهم ومداومة مودتهم ونصحهم في كل شؤونهم، والبداءة بهم في الدعوة الضيافة قبل غيرهم وإيثارهم في الصدقة والإحسان والهداية ونحوها، ويتأكد فعل ذلك مع الرحم الكاشح المبغض، عساه أن يرجع عن بغضه إلى مودة قريبه ومحبته.
وفي الحديث: ((الصدقة على المسكين صدقة، وعلى ذي الرحم ثنتان: صدقة وصلة)) ([11])، انتهى.
قال السفاريني: واعلم أن هذا كله ليس بواجب أكثره مندوب كما يعلم ،.
وينبغي على العاقل كذلك عباد الله أن يبادر إلى صلة ذي الرحم الكاشح، وأن يدفع ما عنده من الضغن والبغضاء بالإحسان والإغضاء، كما قال تعالى: ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم [فصلت:34].
فيصبح كالحميم الذي هو القريب.
فصل رحمك رَحمك مولاك، وخالف بذلك نفسك وهواك، واصبر على أذاهم فإن بذلك نبيك أوصاك، وبالغ في الإحسان إلى من أساء إليك منهم تحمد بذلك عقباك، وحسن أخلاقك معهم ترضي خلاقك، وتنل راحتك ويطيب مثواك.
والله المسؤول أن يوفقني وإياكم وجميع المسلمين والمسلمات لما فيه السعادة، وأن يرزقنا الحسنى وزيادة، وصلى الله وسلم على النبي الأواب من جاء بالسنة والكتاب، وعلى آله وصحبه ما دجت الأحلاك ودارت الأفلاك.
([1])رواه مسلم (1/172،173) الإيمان : باب بيان الإيمان الذي يدخل الجنة ومعنى (( أرب ماله)) أي حاجة جاءت به فدعوه .
([2])البخاري (10/415) الأدب : باب من بسط له في الرزق بصلة الرحم ، ومسلم (16/114) البر والصلة : باب صلة الرحم وتحريم قطعها ورواه أحمد والبخاري عن أبي هريرة .
([3])البخاري (10/417) الأدب : باب من وصل وصله الله ورواه أحمد وابن أبي عاصم (538) بمعناه .
([4])الترمذي (8/100) أبواب البر والصلة وقال الترمذي صحيح .
([5])مسلم (16/115) البر والصلة : صلة الرحم وتحريم قطعها .
([6])رواه البخاري (4/113) وفي الأدب المفرد (68) وكذا الترمذي (1/348) وأحمد (2/163،190،193) غاية المرام (232) رقم 408.
([7])رواه البخاري (10/415) الأدب : باب إثم القاطع ، ومسلم (16/114) البر والصلة : صلة الرحم وتحريم قطعها .
([8])رواه ابن المبارك في الزهد (724) والبخاري في الأدب المفرد (12) وأبو داود (2/301،302) والترمذي (2/83) وابن ماجة (2/552) والحاكم وأحمد وقال الترمذي : حسن صحيح ، وقال الحاكم صحيح الإسناد وقال الألباني : وهو كما قال فإن رجال إسناده ثقات كلهم (الصحيحة – 2/623/917).
([9])قال الهيثمي : رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح إلا أن الأعمش لم يدرك ابن مسعود – مجمع الزوائد (8/151) كتاب البر والصلة .
([10])رواه البخاري في الأدب المفرد عن ابن أبي أوفي ، وأخرج البيهقي في شعب الإيمان وضعفه الألباني في ضعيف الجامع رقم 463.
([11])رواه أحمد والترمذي وقال : حديث حسن ، والنسائي وابن ماجة الحاكم والمستدرك عن سلمان بن عامر وصححه الألباني – صحيح الجامع رقم 3572.
ـــــــــــــــــــ(68/246)
زينة المرأة المسلمة
...
...
1031
...
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
...
...
اللباس والزينة, المرأة
...
محمد الحكمي
...
...
الطائف
...
15/3/1419
...
...
جامع الجفالي
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- أول فتنة بني إسرائيل في النساء 2- فضل من حرص على تربية البنات والإحسان إليهنّ أن حب الزينة والتجمّل من عادات النساء فلا يُلَمْن على هذا 4- بعض أساليب أهل الضلال لإفساد المرأة 5- الضوابط الشرعية التي يُعرف بها ما يصح ومالا يصح من الزينة
الخطبة الأولى
عباد الله:
أوصيكم ونفسي بتقوى الله ولنكن على ذكر دوما من حديث حبيبنا عليه الصلاة والسلام حين قال: ((من عال جاريتين حتى يدركا دخلت أنا وهو الجنة كهاتين)) وفي رواية: ((من ابتلي من هذه البنات بشيء فأحسن إليهن، كن له ستراً من النار)).
وإن من أعظم الإحسان إليهن عدم الإذن لهن بالتبرج والسفور والاختلاط وتقليد من لا خلاق لهن في زيهن أو طباعهن حتى ينشأن طاهرات عفيفات قد أرخين عليهن الستور واحتجبن حياء عن أهل الفجور فكن من ذوات الخدور.
أيها المؤمنون
حديث اليوم بإذن الله إلى كل عائل قوّام على المرأة أختاً كانت أو زوجة أو ابنة أو يتيمة أو محرماً من محارمه نتأمل فيه ما يتعلّق بزينة المرأة بين المشروع والممنوع والجائز والمحرم لأنهن أمانة في أعناقنا وعنهن سنسأل يوم العرض الأكبر، وقبل الشروع في قضايا هذا الموضوع ليعلم أخي السامع أنني توخّيت قدر الإمكان عرض الراجح من الأقوال في المسائل المعروضة لا بترجيحي ولكن بترجيح العلماء الأثبات من أهل العلم وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب.
أخي في الله:
بادئ ذي بدء ينبغي أن يعلم أن المرأة لا تلام على حب التجمّل والزينة اومن ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين قال ابن كثير رحمه الله: أي المرأة ناقصة يكمل نقصها بلبس الحلي منذ تكون طفلة.
وما الحلي إلا زينة من نقيصة يتمم من حسن إذا الحسن قصّرا
و أما إذا كان الجمال موفراً كحسنك لم يحتج إلى أن يزوّر
بل إن ذلك مطلوب منها شرعاً وهي مأمورة به بمثل قوله عليه الصلاة والسلام: ((خير النساء التي تسرّه إذا نظر، وتطيعه إذا أمر، ولا تخالفه في نفسها ولا مالها بما يكره))، وفي رواية: ((المرأة الصالحة تراها فتعجبك)).
بل إن الحبيب المؤدم بين الأزواج الباعث على توثيق الرباط وزيادة الألفة والمودة بين شريكي الحياة قد نهى أن يطرق الرجل أهله ليلاً من أجل أن تستحد المغيبة وتمتشط الشعثة إذ المرأة في الغالب حال غياب زوجها لا تعتني بزينتها وتطيبها كما لو كان موجودا فخشية أن يفاجأها الزوج بمقدمه فيرى منها ما يكره ورد هذا النهي، والحكم يدور مع علّته وجوداً وعدماً، فإذا ما اتصل الرجل على أهله وأعلمهم بمجيئه ارتفع النهي.
أخي شريف العرض زكي الجناب:
((قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة)).
إننا في زمن نواجه فيه هجمة شرسة ورماحاً مسددّة حاكها ودبّرها يهود وأذنابهم، يقول الدكتور الخائب أوسكار ليفي: نحن اليهود لسنا إلا سادة العالم ومفسديه ومحركي الفتن فيه وجلاديه.
إنها بيوت أزياء ودكاكين تجميل ومحلات مساحيق ومناكير وكوفيرات نمص وقص ونتف وحلق وصرخات موضات من باب، إن أردت الرشاقة وخفّة الحركة فعليك بلبس كذا أما إن أحببت أن تكوني خفيفة الظل جذّابة ناعمة فصففي شعرك وقصيه على طريقة كذا، وهكذا شعارات برّاقة ومجلات فاتنة ودعايات زائفة حتى صدق فينا قول ربنا وفيكم سمّاعون لهم واستبانت في حقنا معجزة نبينا صلى الله عليه وسلم: ((حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه)).
تقليد أعمى وتشبه مقيت وهوان مستحكم فهل من عودة إلى شرع حنيف وزينة مباحة وتجمّل جائز؟ وقبل الحديث عن بعض أحكام الزينة للنساء يحسن ذكر ضوابط عامة وسياجات شرعية يعرف بها ما يصح وما لا يصح من هذه الزينة وذلكم التجمّل:
1- عدم جواز التزين بما هو محرم:
كوصل للشعر أو نتف للحواجب أو لبس لما يحسر عن شيء من الجسد ويبديه.
2- ألا تتزين المرأة بما يشبهها بالرجل:
سواءً باتخاذ مشية كمشيتهم أو ارتداء حللهم أو قص للشعر كقصهم أو نحو ذلك عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((المخنثين من الرجال والمترجلات من النساء)) وفي رواية: ((لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال)) وفي رواية: ((ليس منا)) وفي أخرى ((ثلاثة لا يدخلون الجنة العاق لوالديه والديوث ورجلة النساء)).
إنه التمايز المطلوب والتباعد الطبيعي بين ما يليق بالمرأة وما يختص بالرجل، يتملك العجب عندما تدخل إلى بعض المحلات فتسأل عن بعض الألبسة أنسائية هي أم رجالية؟ فيكون الجواب: كما تشتهي هي صالحة لكل من الجنسين أبلغ بنا الحال هذا المبلغ؟ أما الجنس الثالث فشر بدأ منذ زمن ليس بالبعيد انتشاره ولا حول ولا قوة إلا بالله.
3- عدم جواز التزين بما فيه تغيير لخلق الله.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لعن الله الواشمات والمستوشمات والنامصات والمتنمّصات والمتفلجات للحسن المغيّرات خلق الله)) وفي رواية: ((والواصلة والمستوصلة)).
الوشم: هو غرز الإبرة في الجلد ثم حشو ذلك المكان أو نثر الحناء عليه وفيه ليزرق الجلد أو يخضّر.
النمص: نتف شعر الحواجب أو الوجه.
أما التفلّج: فهو توسيع ما بين الأسنان لتظهر فيه المرأة المسنة أنها لا زالت في ريعان الشباب وقد تفعله غيرها يردن بذلك الحسن.
الواصلة: وهي التي تصل شعرها بشعر غيرها أو تلبس ما يسمى بالباروكة الشعر المستعار الصناعي.
وصدق الله يوم أن أخبر عن مكر وكيد الشيطان فقال: ولآمرنهم فليغيرن خلق الله .
4- ألا يكون في ذلكم التزين تشبه بالكافرات.
فمن تشبه بقوم فهو منهم قال عليه الصلاة والسلام: ((ليس منا من تشبه بغيرنا ولا تشبهوا باليهود ولا النصارى)).
رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم على علي رضي الله عنه ثوبين معصفرين [أي مصبوغين بصبغ أصفر اللون] فقال عليه الصلاة والسلام: ((إن هذه ثياب الكفار فلا تلبسها)).
تعرّضت إحدى النساء للنظرات المتعجّبة من زميلاتها عندما جاءت إليهن وقد لبست ثوبا بكم واحد، فلما سألنها عن الكم الآخر وقد شعرن أن الثوب حتماً لم تكتمل بعد خياطته قالت لهن: إن هذه إحدى آخر الموضات في بلد أوروبي.
((حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه)).
بل لقد رأيت في بعض أسواقنا من الألبسة النسائية المعروضة ما لو ارتدته المرأة لكان لها فوق الركبة والعياذ بالله، فعلام هذه التبعية والإمعية الحرفيّة ونحن أمة قائدة لا مقودة ومتبوعة لا تابعة لنا شخصيتنا المتميزة وهدينا الأسنى والأسمى، صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة ونحن له عابدون .
فيا عجباً أن تتشبه المؤمنة بالكافرات فتدمم أظفارها أو تلبس الصليب أو ما يسمونه بمفتاح الحياة فالتشبه في الظاهر بهن مظهرا وسلوكاً جالب ومورث ومشعر في الباطن بلون تقارب ومودّة وتناسب وتشاكل كل يقود إلى الموالاة المنهي عنها الفاصمة لأوثق عرى الإيمان الآتية على بنيانه من القواعد.
5- ألاّ تتزين المرأة المسلمة بما يكشف شيئا من العورات ونهتك بذلك ستر حيائها وجلباب حشمتها فتصبح نهشاً لذئاب ضارية وفريسة لأعين آثمة ومعاكسات جارحة.
إن عز المسلمة وسؤددها في حيائها واستحيائها فإذا تجمّلت أو تزينت بما يخدش هذا المعنى أو يخل به فقد أزرت بنفسها وأنقصت من قدرها وتعرضت بعد ذلك لما يشينها عندها تندم حيث لا ينفع الندم.
6- ومن بدع الزينة لبس ملابس معينة في أحوال محددة كالتزام لبس السواد فترة الحداد أو في يوم عاشوراء كما تفعله الشيعة الرافضة أو نحو ذلك مما لم تشهد به آية أو تنطق به سنة ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)).
7- ألا يكون تزين المرأة بما فيه إسراف ومخيلة وشهرة فليس صحيحاً أن تستنزف أموالنا جرياً وراء كل جديد أو لهاثاً خلف كل صيحة أو تقليعة مع أن المرأة في المقابل مطلوب منها على وجه الخصوص الإسراع إلى النفقة في وجوه الخير.
ومن الإسراف تبديد الأوقات وتضييع الساعات الطوال والوقوف طويلاً أما المرآة من أجل تحسين الهيئة وتعديل الشكل مما يفوّت على المرأة المسلمة حظها من العلم النافع والعمل الصالح والتربية المثلى لأبنائها بل قد يفوّت عليها ذلك الاهتمام الزائد والسرف المخلّ أداء حقوقٍ كثيرة للزوج إذ تزيّنها في الغالب لغيره.
أما إن كان في لباس المرأة وزينتها ما ينفخ في منخريها إزدراء الآخرين وتكبرها عليهن ورؤيتها لنفسها فذاك والله عين صغارها واحتقارها إذْ ((لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر)).
أما إن كان لبس المرأة وزينتها سبب شهرة بين النساء مما يميزها عنهن ولم يعتدن لُبس مثله فهذا محرم لقوله عليه الصلاة والسلام: ((من لبس ثوب شهرة ألبسه الله إياه يوم القيامة ثم ألهب في النار)).
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه والشكر له على نعه السابغة وامتنانه القائل سبحانه: يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباساً يواري سوءاتكم وريشاً ولباس التقوى ذلك خير، ذلك من آيات الله لعلهم يذكرون وقال عز في علاه ناهيا محذراً ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى .
والصلاة والسلام على رسولنا ومصطفانا القائل: ((صنفان من أهل النار لم أرهما قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس ونساء كاسيات عاريات مميلات مائلات رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا)) صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أيها المؤمنون:
ومن ضوابط الزينة وشروطها المعتبرة شرعا اللازمة حكما وعملاً:
1- ألا يكون في زينة المرأة ما يمنع من إتمام طهارتها من الحدث الأصغر كالذي يكون مانعاً من وصول الماء إلى بشرتها كبعض المناكير والمكاييج وما قد تخشى معه المرأة لو غسلت وجهها، لأذهب وأفسد عليها كثيراً مما تجملت به وصبغت به محياها أو وضعته عل عينيها.
أو كأن تلبس ثياباً كثياب العروسة ليلة زواجها وهو ما يسمى بالشرعة مما يتعذر معه أداءها لوضوئها أو صلاتها بالصورة المطلوبة شرعاً خصوصاً إذا كانت قد خرجت من عند الكوفيرة مع المغرب أو قبله أو نحو ذلك مما قد يؤدي إلى ترك الفريضة بالكلية أو جمعها مع غيرها بدون موجب شرعي للجمع.
2- ألا يكون في تزينها وتجملها ما يضر بها صحيا أو جسديا على المدى القريب أو البعيد فهذه الأخلاط من المساحيق والبودرات وأدوات التجميل ذات الألوان المتعددة والمواد المختلفة قد ثبت طبياً ومن خلال الواقع المشاهد ما لها من أضرار على البشرة كذا الحال لمن تلبس الكعب العالي إلى غير ما هنالك مما سيأتي تفصيله بإذن الله تعالى في موضعه.
3- ألا يكون إبداؤها لزينتها الا لمحارمها كل بحسبه فما يظهر للزوج ليس كالذي يظهر للأب وليس كالذي يظهر للأخ من الرضاع وما قد يظهر من زينتها أمام المرأة المسلمة ليس كالذي يظهر أمام الكافرة أو الكتابية وهكذا ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها .
أما الطبيب والسائق والبائع والخادم والخياط وغيرهم فلا يصح أبداً إبداء الزينة لهم ولا كشف الوجه لديهم أو إبراز شيء من الجسد عندهم.
ولا يخدعنا الواقع المرّ أو ننجرف وراء من قلّ حياؤهنّ فكشفن المستور وحسرن عن المخبوء.
ـــــــــــــــــــ(68/247)
زينة المرأة
...
...
1032
...
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
...
...
اللباس والزينة, المرأة
...
محمد الحكمي
...
...
الطائف
...
14/4/1419
...
...
جامع الجفالي
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- صيانة الإسلام للمرأة 2- حرص أهل الشر على إفساد المرأة 3- الأضرار الصحية الناتجة عن لبس الملابس الضيّقة 4- الشروط الشرعية للباس المرأة 5- بعض المظاهر السيّئة المنتشرة لبعض الملبوسات
الخطبة الأولى
أيها المؤمنون:
لقد أحاط الإسلام المرأة بالصيانة والستر، والعفاف والطهر، في لباسها وزينتها، وحرم عليها مع الرجال خلوتها، وصانها عن الإزراء بالقول والإشارة وقاية لحيائها وألا تمس أو تخدش كرامتها، وأمرها بالقرار في مملكتها أداء لواجبها ورعاية لزوجها وقياماً على تربية أبنائها كل ذلك لتبقى درّة مصونة، عزيزة كريمة لا تطمح فيها أعين الناظرين، ولا تمد إليها أيد العابثين، ولا يدنس عرضها وشرفها من لا خلاق له ولا دين.
وقد مرت أحاديث عن زينة المرأة حول ضوابط شرعية لزينتها ثم كان الحديث عن أدوات التجميل ومساحيق التلوين وأحكام الشعر ونحو ذلك، وحديث اليوم عن حجاب المرأة ولباسها.
ولئن عدنا متأملين مكيدة الشيطان الأولى بإغرائه أبوينا وتسويله لهما حتى أكلا من الشجرة، لنجد أنه بدأ أول ما بدأ بما ذكره الله في محكم تنزيله ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوءاتهما وصدق الله فها هو النزع متوارد متصل على تعاقب الدهور ومر الأزمان بأساليب ماكرة وإغراءات فاتنة ونظرة فاحصة لواقع البشرية اليوم تغنيك عن كثير من الشواهد فما واقع الملابس الرياضية لكثير من الألعاب بخاف علينا لمصارعين وسبّاحين ولاعبي كرة فكيف لو ملت بطرفك إلى ما خدعت به المرأة ولبّس عليها به فكم هي أزياء وموضات تحسر كل يوم وفي كل صرخة عن شيء من مفاتنها عبر مجلات البردة وعارضات الأزياء ولقد قال أعداء الله " أكسبوا النساء أولاً والبقية تتلو " وها هي إحدى الكافرات تقول: " ليس هناك طريق أقصر لهدم الإسلام من إبعاد المرأة المسلمة والفتاة المسلمة عن آداب الإسلام وشرائعه.
أخي الغيور على محارمه:
لقد تفنن أباطرة الشر والإفساد في استحداث ألبسة نسائية إن لم تكن ضيقة فعارية وإن لم تكن عارية فمشققة الجوانب لها فتحات جانبية وخلفية فإن لم تكن كذلك فمتشبه فيها بالكافرات وقد يجمع ذلك كله فتنة وإغراء في كثير من الأزياء.
لقد ذكر الأطباء أن اللباس الضيق تعذيب لحرية الجسد، وضرر صحي محض للأنسجة والخلايا والأجهزة الجسمية المختلفة وخاصة الجهاز التناسلي وجهاز الدوران والحركة، وقد أدّى اللباس الضيق المحزّق عند كثير من النساء إلى العقم أو الولادة المقعدية (غير الطبيعية) غير إصابة من ترتديه وبشكل متكرر بتمزق في عنق الرحم ناهيك عن كونه يؤدي إلى ارتفاع ضغط الدم نتيجة تضيّق مقطع العروق.
أما الملابس العارية فيحذر الأطباء منها لأنها تكشف الجسد فلا تغطي منه إلا أجزاء يسيرة يفقدها نضارتها ويصيبها بالشيخوخة المبكرة هذا غير توقع إصابتها بسرطان الجلد وقد أثبتت بعض الدراسات في أوروبا أن النسبة الكبرى من النساء المصابات بسرطان الجلد كن يعرضن أجسادهن لأشعة الشمس من أجل الحصول على اللون البرونزي.
أما العلماء الأجلاء فقد سئل سماحة الشيخ محمد العيثمين وفقه الله عن حكم اللباس الضيق والمفتوح فقال: "هذا اللباس لباس أهل النار" وذكر حديث مائلات مميلات وقال: "فالتي تلبس هذا اللباس كاسية عارية لأن اللباس الضيق يصف حجم البدن ويبين مقاطعه وكذلك إذا كان مفتوحاً فإنه يبين ما تحته لأنه ينفتح وأفتى أنه حتى بين محارمها من الرجال يجب عليها أن تستر عورتها والضيق لا يجوز لا عند المحارم ولا عند النساء إذا كان الضيق شديداً يبين مفاتن المرأة".
فكيف لو رأى الشيخ ما يلبسه النساء في مناسبات الأفراح والأعياد ونحوها. وحجتهن أنهن بين نساء قال عليه الصلاة والسلام: ((إن أول ما هلك بنو إسرائيل أن امرأة الفقير كانت تكلفه من الثياب أو الصبغ)) أو قال: ((من الصيغة ما تكلف امرأة الغني)).
وهذا واقع في زماننا تباهيا ولفتا للأنظار وحيازة على الإعجاب ورغبة في المديح.
إن حياء المرأة هو منار عزّها وموئل سؤددها فإذا ما تلاشى عُدمت الحياة معناها، وتهاوت بعده القيم وانحلت العُرى.
كانت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها تضع ثيابها إذا دخلت البيت الذي فيه دُفن رسول الله وأبوها رضي الله عنه فلما دُفن عمر رضي الله عنه بجوارهما قالت: "والله ما دخلته إلا مشدودة علي ثيابي حياء من عمر رضي الله عنه".
أخي القائم على أهله بما يصونهم:
وقد ذكر بعض أهل العلم شروطا للباس المرأة مستوحاة ومستفادة من القرآن وأحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم فمن ذلك :
1- أن يكون ساترا لجميع البدن.
قال تعالى: يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين وكان الله غفورا رحيما .
عن أم سلمة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت: حين ذكر الإزار، فالمرأة يا رسول الله قال: ((ترخي شبراً))، قال إذا ينكشف عنها قال: ((فذراعاً لا تزيد عليه)) وفي رواية: ((أن أمهات المؤمنين رخّص لهن رسول الله عليه الصلاة والسلام في الذيل شبراً ثم استزدنه فزادهن شبراً فكن يرسلن إلينا فنذرع لهن ذراعاً)).
وانعكست الآية وانقلبت الموازين وانتكست الأفهام فأصبح الرجال يرخون شبراً والمرأة تحسر عن القدم وتلبس القصير إلى نصف الساق أو يزيد قليلاً.
2- ومن الشروط ألا تُظهر زينة ثيابها أمام غير المحارم والنساء مع لزوم الحشمة والاستتار.
قال تعالى: ولا يبدين زينتهن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى .
قال عليه الصلاة والسلام: ((لا تمنعوا إماء الله مساجد الله وليخرجن إذا خرجن تفلات)) هذا وهي خارجة للعبادة والمسجد فكيف الحال وهي ذاهبة إلى الإسواق والمنتزهات قال ابن المبارك رحمه الله: ((إن أبت المرأة إلا أن تخرج فليأذن زوجها أن تخرج [أي إلى الصلاة] في أطمارها الخلقان ولا تتزين)).
ومن الكبائر ما أخبر عنه المصطفى عليه الصلاة والسلام بقوله: ((ثلاثة لا تسأل عنهم)) وذكر منهم: ((وامرأة غاب عنها زوجها وقد كفاها مؤنة الدنيا فتبرجت بعده )). وعدم التبرج مما كان يبايع عليه النبي عليه الصلاة والسلام النساء.
3- ألا يكون ضيقا يصف شيئا من جسمها أو رقيقا يبدي ما تحته. عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: كساني رسول الله صلى الله عليه وسلم قبطيّة كثيفة كانت مما أهداها دِحية الكلبي رضي الله عن فكسوتها امرأتي فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مالك لم تلبس القبطية)) قلت: يا رسول الله كسوتها امرأتي فقال لي رسول الله : ((مرها فلتجعل تحتها غلالة إني أخاف أن تصف حجم عظامها)).
ودخلت حفصة بنت عبد الرحمن على عائشة رضي الله عنهم وعليها خمار رقيق فشقته عائشة رضي الله عنها وكستها خماراً كثيفاً.
4- ألا يشبه لباس الرجال.
وقد مر ذكر النهي عن ذلك وعن لبس ثوب الشهرة وما فيه إسراف ومخيلة وما فيه تشبّه بالكافرات.
5- ورود النهي عن لبس جلود النمور والسباع.
سواء في الانتعال أو التدفيء بها أو لبس المعاطف المصنوعة منها قال عليه الصلاة والسلام: ((لا تركبوا الخزّ ولا النمار)) أي جلود النمور وهي من السباع.
وتشمل السباع الأسد والذئب والنمر والفهد أما الثعلب فلا وإن كان له ناب فليس بسبع.
قال ابن الأثر رحمه الله:
"إنما نُهي عن استعمالها لما فيها من الزينة والخيلاء ولأنه من زيّ الأعاجم".
6- ألا تلتزم المرأة لبس شيء بعينه في مناسبات معينة كما ذُكر سابقا كلبس السواد حال الحداد.
قال الشيخ العثيمين وفقه الله: لبس السواد عند المصائب شعار باطل لا أصل له.
أخي في الله:
وهنا قضايا لابد من لفت النظر إليها والتعريج عليها:
1- انتشر في الأونة الأخرة لبس بعض النساء لحجاب يسمى الكاب وهو مفصل هيئة الثوب مما تظهر معه مفاتن المرأة من تقاسيم جسدها ونحو ذلك وهذ مما لا ينبغي لها فلابد من لبسها للعباءة من فوق الرأس فإن كان لابد من لبسها الكاب فلتلبس من فوقه حجاباً ينزل إلى ما يستر اليدين.
2- ومما يسوء ويؤلم ظاهرة لبس نسائنا البنطال أو البنطلون مما أفتى فيه العلماء بحرمته لما فيه من تشبه بالرجال من وجه وبالكافرات من وجه آخر زدْ على ذلك أن غالبه ضيق وحتى لو كان واسعاً فقد أفتى الشيخ العثيمين بعدم جوازه.
3- البراقع مظهر سيء إذ ترى من وراء فتحاته عينان كحيلتان وشيء من أطراف الوجه وهكذا يتسع رويداً رويدا إلى ما لا تحمد عقباه وقد حصل، فلا يجوز كما أفتى العلماء.
4- الصغيرات من بناتنا لا نتساهل في إبداء زينتهن وخروجهن بلباس قصير وضيّق وشفّاف فإنهن ينشأن على ما عودن عليه فيكبرن على ذلك ويتطاول بها الزمن وهي كذلك.
5- ومما استهان به الناس حتى ذاع وتفشى فاصبحوا غير مكترثين به ولا مبالين بإنكاره ومقاطعته مع خطورته هو ما يلحظه الجميع من شعارات وكتابات وصور مطبوعة على كثير من الملابس النسائية والرجالية وملابس الأطفال مما بعضه قادح في أصل العقيدة ومخل بها وبعضه مفسد للأخلاق آت على هدم الحشمة والحياء من القواعد، ناهيك عن تشبه فيه بالكفار.
والأدهى من ذلك والأمر أن كثيرا ممن يلبسون مثل هذه الملبوسات أو يُلبسونها لأسرهم قد لا يعلمون ترجمة ما تحمله تلك العبارات ولا من تمثلهم تلك الصور المحمولة على صدور ذويهم وأبنائهم وبناتهم غفلة منهم أو تغافلاً.
فإن كنت لا تدري فتلك مصيبة وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم
فمن ذلك:
ما عليه رسم الصليب وقد كان الحبيب عليه الصلاة والسلام وهو الآمر بطمسه يحكه وينبشه وكيف لا يفعل ذلك وهو شعار النصرانية الثالوث.
ومما يناقض ركن الغيب مثل (حب نسيم الجنة) أو عبارة (تذوّق طعم الجنة)، ونحو ذلك زدْ على ذلك كلمات ممجّدة للكفرة الملاحدة وصور أعلام بلدانهم يحملها البعض على صدورهم بزهو وإعجاب، مما يناقض ركن الولاء والبراء.
أما العبارات والصور المخّلة بالأخلاق الداعية إلى الرذيلة فمن مثل "انظر إلى هذه الجميلة ماذا تفعل" وعبارة أخرى معناها "إلى الغرفة الحمراء" وعبارة "كيف تحصل على غاية الشهوة ومنتهاها" وأخرى "الولد الشاذ جنسياً" وعبارة "هو يمارس الجنس" بضمير المتكلم، وبضمير المتكلم أيضا "قبلها أو المسها" وعبارة "أنا لست رجلاً ولا امرأة" وعبارة "طفل للبيع" وغيرها كثير فمن تتبع واستقرأ رأى ما يندى له الجبين حزناً وألماً.
ألا إننا جميعاً من هذا المكان الطاهر وفي هذا اليوم الفضيل نبعثها رسالة نصح وتذكير إلى كل تاجر ألاْ يدخل ويستورد مثل هذه المخازي وفي الحلال غنية وإلى كل راع عن أسرته ومن يعول ألا فليتق الله ألا يجعل من صدور أبنائه وبناته معارض دعائية متنقّلة ورسالة نبعثها قبل ذلك إلى القائمين على الجمارك ومن ولاّهم الله تحمّل هذه المسؤوليات وغيرها ألا يأذنوا بإدخالها ولا السماح باستيرادها تعاوناً على البر والتقوى وتناهيا عن الإثم والمنكر
ـــــــــــــــــــ(68/248)
النكاح وعقباته
...
...
456
...
الأسرة والمجتمع, فقه
...
...
النكاح, قضايا المجتمع
...
محمد بن صالح العثيمين
...
...
عنيزة
...
...
...
الجامع الكبير
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
- فضل النكاح وحُكمه وفوائده – العقبات التي تحول دون الزواج : عزوف الشباب عنه بحجة الدراسة ,ظلم الأولياء ,المغالاة في المهور
الخطبة الأولى
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله تعالى واشكروه أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون. إن الزواج نعمة عظيمة منّ الله بها على عباده ذكورهم وإناثهم أحله لهم بل أمرهم به ورغبهم فيه فقال سبحانه وتعالى: فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم . وقال النبي : ((يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج)). وقال النبي في الرد على قوم قال أحدهم: أنا أصلي الليل أبدا وقال الثاني: أنا أصوم الدهر ولا أفطر وقال الثالث: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج فقال النبي : ((أنتم الذين قلتم كذا وكذا أما والله إني لأخشاكم لله واتقاكم له لكني أصوم وأفطر وأصلي وأرقد وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني)). وكما أن النكاح سنة خاتم النبيين فهو كذلك سنة المرسلين من قبل قال الله عز وجل: ولقد أرسلنا رسلا من قبلك وجعلنا لهم أزواجا وذرية ففي النكاح امتثال أمر الله ورسوله وبامتثال أمر الله ورسوله حصول الرحمة والفلاح في الدنيا والآخرة. وفي النكاح اتباع سنن المرسلين ومن اتبع سنن المرسلين في الدنيا حشر معهم في الآخرة، وفي النكاح قضاء الوطر وفرح النفس وسرور القلب. وفي النكاح تحصين الفرج وحماية العرض وغض البصر والبعد عن الفتنة وفي النكاح تكثير الأمة الإسلامية وبالكثرة تقوى الأمة وتهاب بين الأمم وتكتفي بذاتها عن غيرها إذا استعملت طاقاتها فيما وجهها إليها الشرع .
وفي النكاح تحقيق مباهاة النبي بأمته يوم القيامة فقد قال : ((تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم يوم القيامة)). وفي النكاح تكوين الأسر وتقريب الناس بعضهم لبعض فإن الصهر شقيق النسب قال الله تعالى: وهو الذي خلق من الماء بشرا فجعله نسبا وصهرا وكان ربك قديرا وفي النكاح حصول الأجر والثواب بالقيام بحقوق الزوجة والأولاد والإنفاق عليهم. والنكاح سبب للغنى وكثرة الرزق ليس كما يتوهمه الماديون وضعاف التوكل يقول الله عز وجل: وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله والله واسع عليم وفي الحديث عن النبي : ((ثلاثة حق على الله عونهم:... - وذكر منهم - الناكح يريد العفاف)) وقال أبو بكر : أطيعوا الله فيما أمركم به من النكاح ينجز لكم ما وعدكم من الغنى. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: رغبهم الله تعالى في التزويج ووعدهم عليه الغنى فقال: إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله .
فالنكاح صلاح للفرد وصلاح للمجتمع في الدين الأخلاق والحاضر والمستقبل وهو كذلك درء للمفاسد الناتجة عن تركه وعدم المبالاة فيما يحول دونه من عقبات. لقد كان ينبغي لنا أن نهتم بدراسة العقبات التي تحول دونه لنتلافى النتائج السيئة التي تترتب على فقده وإن أهم هذه العقبات ثلاث:
إحداها: عزوف كثير من الشباب ذكور وإناث عن الزواج أي أن كثيرا من الشباب الذكور والإناث لا يرغبون في الزواج بحجة أن الزواج يحول بينهم وبين دراستهم وهذه حجة داحضة فإن النكاح لا يمنع من المضي في الدراسة والنجاح فيها والتحصيل بل ربما يكون عونا على ذلك فإن الصالح إذا وفق زوجة صالحة وسادت بينهما روح المودة صار كل واحد منهما عونا للآخر على دراسته وعلى مشاكل حياته وأكثر الناس تتكلل زوجاتهم بالتوفيق ولله الحمد وكم من شباب ذكور وإناث منّ الله عليهم بالزواج فرأوا من الراحة وتفرغ الفكر النفس للدراسة ما كان عونا لهم عليها فعلى الشباب الذين اغتروا بهذه الحجة أن يعيدوا النظر مرة بعد أخرى حتى يصححوا من خطئهم وليسألوا زملاء لهم تزوجوا فرأوا الخير والطمأنينة من وراء الزواج وبهذا تتذلل هذه العقبة. وماذا ينفع المرأة إذا أكملت دراسة ليست بحاجة إليها وفاتتها سعادة النكاح وعقمت من الأولاد وأصبحت رملى من الأرامل هل تسعد في حياتها ولا أولاد له يذكرونها بعد موتها.
العقبة الثانية التي تحول دون الزواج ومصالحه العظيمة احتكار بعض الأولياء الظلمة لبناتهم ومن لهم ولاية تزويجهن أولئك الأولياء الذين لا يخافون الله ولا يرعون أمانتهم ولا يرحمون من تحت أيديهم أولئك الأولياء الذين اتخذوا من ولايتهم على تلك المرأة الضعيفة موردا للكسب المحرم وأكل المال بالباطل تجد الخاطب الكفؤ في دينه وخلقه يخطب منهم فيفكرون ويقدرون ثم يقولون الكلمة الأخيرة: البنت فائتة لغيرك، البنت صغيرة، شاورتها فأبت. أقوالا كاذبة يفترونها ليردوا ذلك الخاطب الكفؤ، إما لعقد نفسية تثقل عليهم الإجابة وإما لطلب مال يحصلونه من وراء ولايتهم وإما لعداوة شخصية بينهم وبين الخاطب والولاية دين وأمانة يجب النظر فيها إلى مصلحة المولى عليه لا إلى أغراض الولي. إن دفع الخاطب الكفؤ في دينه وخلقه بمثل هذه الأقوال الكاذبة إنما هو معصية لله ورسوله وخيانة للأمانة وإضاعة لعمر المرأة التي تحت ولايته وسوف يحاسبون على ذلك يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم. أفلا يكون عند هؤلاء دين ورحمة؟ أفلا يفكرون لو أن أحدا منعهم من الزواج مع رغبتهم فيه فماذا يكون رد الفعل منهم أفلا يعتبرون بذلك فيمن تحت أيديهم من النساء الراغبات في الزواج وهم يمنعوهن الأكفاء خلقا ودينا. سبحان الله ماذا جني هؤلاء الأولياء على أنفسهم وماذا جنوا على من تحت ولا يتهم ولقد أوجد أهل العلم تذليلا لهذه العقبة حيث قالوا إن الولي إذا امتنع من تزويج موليته كفؤا ترضاه فإن ولايته تزول إلى من بعده فمثلا لو امتنع أبو المرأة من تزويجها كفؤا في دينه وخلقه وقد رضيته ورغبت فيه فإنه يزوجه أولى الناس بها بعده فيزوجها أولى الناس بها ممن يصلح للولاية من اخوتها أو أعمامها أو بنيهم. نعم لو كان الخاطب غير كفؤ في دينه أو عفته فرضيته المرأة وأبى وليها فله الحق في ذلك ولا إثم عليه ولو بقيت لم تتزوج إلى الموت لأن إباءه لمصلحتها ومن مقتضى أمانته .
العقبة الثالثة التي تحول دون الزواج ومصالحه العظيمة: غلاء المهور ونفقات الزواج وتزايدها حتى صار الزواج من الأمور المستحيلة أو الشاقة جدا لدى كثير من الراغبين في الزواج إلا بديون تشغل ذمته فتجعله أسيرا لدائنه. وإن تذليل هذه العقبة أن يفكر ذو الرأي من الأولياء ما هو المقصود بالنكاح وما هي مكانة المرأة التي جعلك الله وليا عليه هل المقصود بالنكاح المال؟ وهل المرأة سلعة تباع؟ أو تمنع بحسب ما يبذل فيها من المال؟ كل هذا لم يكن فليس المقصود بالنكاح المال وإنما المال وسيلة إليه. وليست المرأة سلعة بل هي أكرم من السلعة هي أمانة عظيمة وجزء من أهله وإذا فكرنا هذا التفكير وبلغنا هذه النتيجة عرفنا أن المال لا قيمة له وأن المغالاة في المهور ونفقات الزواج لا مبرر لها فلنرجع إلى ما كان عليه النبي وأصحابه فقد قال عمر بن الخطاب : ألا لا تغلوا في صداق النساء فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا أو تقوى عند الله كان أولاكم بها النبي ما أصدق رسول الله امرأة من نسائه ولا أصدقت امرأة من بناته أكثر من اثنتي عشرة أوقية وإن الرجل ليغلو في امرأته حتى يكون لها عداوة في نفسه وحتى يقول: كلفت إليك علق القربة. أي تكلفت دفع كل شيء عندي إليك حتى علق القربة وهو الحبل الذي تعلق به. فإذا رجعنا إلى ما كان عليه السلف الصالح من تقليل المهور تيسرت أمور الزواج وعظمت بركاته وانتفع بذلك الرجال والنساء. إن هذه المغالاة في المهور توجب تعطل كثير من الرجال والنساء عن النكاح أو محاولة الزواج من الخارج الذي قد يسبب له مصاعب ومتاعب كثيرة وربما يحصل به تغيير المجتمع في عاداته وأحواله وربما في عبادته لأن للخُلطة تأثيرا كثيرا في تغيير هذه الأمور.
أيها المسلمون: إن كثيرا من الأولياء الآباء وغيرهم يشترطون على الزوج الخاطب مالا يدفعه إليهم وسيكون هذا المال بالتأكيد على حساب مهر المرأة وهذا أكل للمال بالباطل فالمهر كله للزوجة قال الله تعالى: وآتوا النساء صدقاتهن نحلة فأضاف الصداق إليهن. وفي الحديث عن النبي أنه قال: ((أيما امرأة نكحت على صداق أو حباء أو عدة قبل عصمة النكاح فهو لها وما كان بعد عصمة النكاح - أي بعد عقده - فهو لمن أعطيه)).
فاتقوا الله عباد الله ودعوا مهور النساء لهن ولا تشترطوا لأنفسكم شيئا منه فإن ذلك اقتطاع بغير حق وسبب للتلاعب بولاية النكاح حيث يلاحظ الولي هذا الشرط فيزوج من يعطيه أكثر ومنع من لا يعطيه ضاربا بمصلحة موليته عرض الحائط وهذا إهدار للأمانة وخيانة للولاية فأدوا الأمانة واحفظوا الولاية: لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة وأن الله عنده أجر عظيم .
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولكافة المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
ـــــــــــــــــــ(68/249)
في التحذير من توسع النساء في التبرج
...
...
499
...
الأسرة والمجتمع
...
...
المرأة
...
محمد بن صالح العثيمين
...
...
عنيزة
...
...
...
الجامع الكبير
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- الأب مسؤول عن تربية أهل بيته. 2- قوامة الرجل على المرأة. 3- فتنة النساء فتنة قديمة متكررة. 4- عودة مظاهر التبرج الجاهلي وبعض صوره. 5- ذم اختلاط النساء بالرجال. 6- حال نساء السلف إذا خرجن من بيوتهن. 7- دعوة لغض البصر عن المحرمات التي تعرض في الإعلام وغيره.
الخطبة الأولى
أما بعد :
أيها الناس اتقوا الله تعالى وقوموا بما أوجب الله عليكم من رعاية أولادكم وأهليكم قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة فإنكم رعاتهم والمسؤولون عنهم قال النبي ((الرجل راع في أهله ومسؤول عن رعيته)).
أيها المسلمون يا رجال الإسلام اذكروا هذه الأمانة العظيمة واشكروا الله على هذه النعمة التي حباكم بها وقوموا بها على الوجه الأكمل اسمعوا قول ربكم خالق الكون وعالم أسراره والمحيط بخفيه وظاهره ومستقبله وماضيه وحاضره اسمعوه يقول: الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض لم يجعلكم الله قوامين عليهن إلا لعلمه بقصورهن عقلا ودينا لقد أكد ذلك رسول الله حين قال في النساء: ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن. فاعرفوا أيها الرجال هذا الفضل وقوموا بهذه الأمانة ولا تغلبنكم النساء على رجولتكم ولا يلهينكم الشيطان على رعاية أهليكم ولا تشتغلوا بأموالكم عن الحفاظ على ما هو أهم وأولى.
أيها المسلمون إن مشكلة النساء ليست بالمشكلة التي يتهاون بها وليست بالمشكلة الجديدة إنها مشكلة عظيمة يجب الاعتناء بها ودراسة ما يقضي على أسباب الشر والفساد إنها مشكلة الوقت كله قديما وحديثا لقد كانت مشكلة بني إسرائيل وهي مشكلة هذه الأمة قال النبي ((ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء)). وهذا الحديث الثابت في الصحيحين يتضمن التحذير من هذه الفتنة العظيمة والسعي في القضاء على أسباب الشر قبل أن يستفحل.
أيها المسلمون إن مشكلة النساء عندنا هذا الزمن في التبرج والاختلاط والتسكع في الأسواق وكل ذلك مما نهى الله عنه ورسوله فالتبرج أن تستشرف المرأة للرجال باللباس والزينة والقول والمشية ونحو ذلك مما تظهر به نفسها للرجال وتوجب لفت النظر إليها ولقد قال الله تعالى : ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى ، ولقد توسع النساء في التبرج باللباس فصارت المرأة تلبس للسوق من أحسن اللباس وتضع عليه عباءة ربما تكن قصيرة لا تسترها أو رهيفة أو ترفعها المرأة عن أسفل جسمها حتى يبين جمال ثيابها وزينتها وربما شدت العباءة بيديها من فوق عجيزتها حتى يتبين حجمها وكل هذا مما نهى الله عنه لقد قال تعالى : ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن نهى الله النساء أن يضربن بأرجلهن فيعلم الخلخال الذي تخفيه فإذا كان الله نهى عن الضرب بالرجل خوفا من سماع الخلخال المستور فكيف بمن تلبس جميل الثياب ثم ترفع العباءة عنه ليراه الناس بأعينهم فيفتنهم وإن الفتنة بما يرى أعظم من الفتنة بما يسمع ليس الخبر كالمعاينة. إذا كان الله نهى عن الضرب بالرجل خوفا من سماع الخلخال فكيف بمن تكشف عن ذراعيها لتظهر ما عليهما من الحلي والزينة ونعومة اليد كأنما تقول للناس: انظروا إلى نعومة يدي وإلى ما عليها من الحلي والزينة.
وإن من التبرج أن تخرج المرأة متعطرة متطيبة فإن هذا خلاف أمر النبي فإن النبي ((قال وليخرجن تفلات)) أي غير متطيبات وقال ((إذا خرجت إحداكن للمسجد فلا تمس طيبا)) وقال ((إن المرأة إذا استعطرت فمرت بالمجلس فهي كذا وكذا يعني زانية)) (رواه الترمذي وقال: حسن صحيح) ولقد كثرت الزينة والتطيب في أيام الأعراس تخرج النساء من بيوتهن في أحسن ثيابهن وأطيب طيبهن وربما مشين مجتمعات يتحدثن بالأسواق بأصوات مرتفعة وتدافع بينهن أحيانا مما يثير ويهيج الشر. وأما اختلاط النساء بالرجال ومزاحمتهن لهم فهذا موجود في كثير من محلات البيع والشراء وهو خلاف الشرع فلقد خرج النبي من المسجد وقد اختلط النساء مع الرجال في الطريق فقال للنساء: ((استأخرن فإنه ليس لكن أن تحتضن الطريق عليكن بحافات الطريق)) فكانت المرأة تلصق بالجدار حتى إن ثوبها ليعلق به. ولقد رغب النبي أمته عن اختلاط النساء بالرجال حتى في أماكن العبادة فقال النبي ((خير صفوف النساء - يعني اللاتي يصلين مع الرجال - خير صفوف النساء آخرها وشرها أولها)) وإنما كان آخر صفوفهن خيرا لبعده عن الرجال ومخالطتهم ورؤيتهم لهن ألم يكن في هذا أوضح دليل على محبة الشرع لبعد المرأة عن الرجال واختلاطها بهم.
وأما التسكع في الأسواق والتمشي فيها فما أكثر من يفعله من النساء تخرج المرأة من بيتها لغير حاجة أو لحاجة يسيرة يمكن أن يأتي بها أحد من في البيت من الرجال أو الصبيان.
ولقد قال رسول الله ((لا تمنعوا إماء الله مساجد الله وبيوتهن خير لهن)) فبيت المرأة خير لها حتى من المسجد فكيف بغيره وإن هذا الحديث الصحيح ليدل على أنه يجوز للرجل أن يمنع المرأة من الخروج للسوق ما عدا المسجد ولا إثم عليه في ذلك ولا حرج، أما منعها من التبرج والتعطر عند الخروج فإنه واجب عليه ومسئول عنه يوم القيامة، وعلى المرأة إذا خرجت أن تخرج بسكينة وخفض صوت ولا تمشِ كما يمشي الرجل بقوة تضرب الأرض برجلها وتهز كتفيها وترفع صوتها قالت أم سلمة رضي الله عنها: لما نزلت هذه الآية يدنين عليهن من جلابيبهن خرج نساء الأنصار كأن على رؤوسهن الغربان من السكينة وعليهن أكسية سود يلبسنها. هذه صفات نساء المؤمنين فاقتدوا بهن لعلكم تفلحون ولا تغرنكم الحياة الدنيا وزينتها ولا يغرنكم من لا يؤمنون بالله واليوم الآخر فإن هذا التبرج والثياب القصيرة والضيقة إنما صنعت تقليدا لهم وإن أعداءكم يعلمون أنهم لو دعوكم إلى الكفر ما كفرتم ولو دعوكم إلى الشرك ما أشركتم ولكن يرضون منكم أن يهدموا أخلاقكم ودينكم من جهات أخرى من جهة محقرات الذنوب التي يحقرونها في أعينكم فتحتقرونها وتؤاتونها حتى تنزل بكم إلى النار، قال النبي ((إن الشيطان قد أيس أن تعبدوا الأصنام في أرض العرب ولكنه سيرضى منكم بدون ذلك بالمحقرات وهي الموبقات يوم القيامة ))، فاتقوا الله أيها المسلمون ولا تنخدعوا بما يقدمه لكم أعداؤكم إنكم الآن على مفترق طرق فتحت عليه الدنيا وانهال عليكم الأعداء قدم البعض منهم إلى بلادكم بعاداتهم السيئة وتقاليدهم المنحرفة وسافر البعض منكم إلى بلادهم وشاهدتموهم في وسائل الإعلام في الصحف والتليفزيون.
فإما أن يكون في دينكم صلابة تتحطم عليها مكايد الأعداء وفيكم قوة الشخصية الإسلامية فلا تقتدون بهم ولا تغترون بهم وتتمسكون بما كان عليه أسلافكم الصالحون فتنالون خير الدنيا والآخرة. وإما أن يكون الأمر بالعكس لين في الدين وضعف في الشخصية وانهيار أمام المثيرات فتبوؤن بالصفقة الخاسرة قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا ذلك هو الخسران المبين .
قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن أو آباء بعولتهن أو أبنائهن أو أبناء بعولتهن أو إخوانهن أو بني إخوانهن أو بني أخواتهن أو نسائهن أو ما ملكت أيمانهن أو التابعين غير أولي الإربة من الرجال أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون
ـــــــــــــــــــ(68/250)
حقوق الزوجة
...
...
971
...
الأسرة والمجتمع
...
...
المرأة
...
محمد النمر
...
...
الطائف
...
9/5/1420
...
...
الهويش
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
– على كل من الزوجين حقوق عليه مراعاتها لتستمر الألفة بينهما والمودة – حقوق الزوجة على زوجها
الخطبة الأولى
وبعد:
فيا عباد الله: لن ينعم بالسعادة من عاش خارج دائرة الإسلام، وإن بدا متظاهرا بتحصيلها، ذلك لأن الإسلام منهج رباني تساوي دقته دقة نظام هذا الكون، ودقة عضوية أي كائن فيه لأن المصدر واحد هو الله عز وجل، وكم يحدث من الخلل والإفساد من أراد أن يغير شيئا مما شرعه الله عز وجل مع ما في ذلك من مخالفة لأمره سبحانه، وما أسعد من عاش الإسلام واقعا يعرف واجبه كما يعرف حقه.
ولئن كشفنا عما ينبغي أن تكون عليه المرأة لتكون زوجة صالحة فإن من الحق أن نشير إلى ما ينبغي أن يراعيه الرجل ليكون زوجا صالحا فيعيش عندئذ الزوجان متآلفين متوازيين متراحمين يسعد كل منهما بصحبة صاحبه وينعم من حولهما بثمرات ذلك.
ولن أعرض إلى الحقوق المادية التي رتبها الإسلام على الرجل فتلك لها أحاديث أخر وإنما أشير إلى الحقوق الأدبية التي يجب أن يراعيها الرجل وعلى رأس هذه الحقوق أن يعاشرها ولا يتعمد هجرها فهو مأمور بأداء حقها بقدر حاجتها وقدرته فعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((يا عبد الله ألم أخبر أنك تصوم النهار وتقوم الليل، قلت: بلى يا رسول الله، قال: فلا تفعل، صم وأفطر، وقم ونم، فإن لجسدك عليك حقا وإن لعينك عليك حقا، وإن لزوجك عليك حقا)).
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: دخلت علي خويلة بنت حكيم بن أمية وكانت عند عثمان بن مظعون قالت: فرأى رسول الله بذاذة هيئتها، فقال لي: ((يا عائشة ما أبذ هيئة خويلة: قالت: قلت: يا رسول الله امرأة لها زوج يصوم النهار، ويقوم الليل، فهي كمن لا زوج لها، فتركت نفسها وأضاعتها، قالت: فبعث رسول الله إلى عثمان بن مظعون فجاءه فقال: يا عثمان أرغبة عن سنتي؟ قال: فقال: لا والله يا رسول الله ولكن سنتك أطلب، قال: فإني أنام وأصلي، وأصوم وأفطر، وأنكح النساء، فاتق الله يا عثمان، فإن لأهلك عليك حقا، وإن لضيفك عليك حقا، وإن لنفسك عليك حقا، فصم وأفطر، وصل ونم)).
هذه الشريعة الحنيفية تقرر أن الزوج لو آلى (حلف) ألا يقرب زوجته، يلزم أن يحنث في يمينه قال تعالى: للذين يؤلون منكم من نسائهم تربص أربعة أشهر فإن فاءوا فإن الله غفور رحيم وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم فقد نص على أن الذين يحلفون على ألا يقربوا زوجاتهم يمهلون أربعة أشهر، فإن عاد أحدهم إلى الإنصاف وأداء الحق لها فعليه كفارة يمين، وإلا كان إصراره إضرارا موجبا للفراق.
وما أكثر ما يقع مثل هذا الظلم عند المعددين للزوجات يستغني الواحد منهم بواحدة منهن وهو بعيد عن الأخريات وكأنه لاحق لهن عليه ولا يجب عليه إحصانهن.
وعلى الزوج أن يتزين لزوجته كما يحب أن تتزين له، فإنها يعجبها منه ما يعجبه منها وقد فهم السلف ذلك من قوله تعالى: ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف ، قال ابن عباس رضي الله عنهما: إني لأتزين لامرأتي كما تتزين لي لهذه الآية.
ومن حق الزوجة أن يعلمها أصول دينها: كيف تؤمن بالله الإيمان الحق وتوحده التوحيد الخالص، وتؤمن بأسمائه وصفاته على الوجه اللائق بجلاله سبحانه وتعالى، وتعرف ما يجب لله تعالى، وما يجوز له سبحانه، وما يستحيل عليه تبارك وتعالى، وتؤمن بما جاء من عند الله من أركان الإيمان وسائر أحكام الإسلام الواجبة عليها وأصول معرفة الحلال والحرام. وأن يعلمها أحكام العبادات، ويحضها على القيام بها خاصة الصلاة في أول الوقت وشروطها وأركانها ومفسداتها ومكروهاتها وسائر العبادات وحقوق الله تعالى عليها وحقوق الزوجية، وأن يعلمها مكارم الأخلاق من وقاية القلب من أمراض الحسد والبغضاء ووقاية اللسان من الغيبة والنميمة والسب والكذب، ويراقبها في ذلك كله ما استطاع إلى المراقبة سبيلا يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة ، قال علي : أدبوهم وعلموهم، وقال الألوسي: واستدل بها على أنه يجب على الرجل تعلم ما يجب من الفرائض وتعليمه لهؤلاء.
وقد أثنى الله عز وجل على نبيه إسماعيل عليه السلام فيما أثنى بقوله: وكان يأمر أهله بالصلاة والزكاة وكان عند ربه مرضيا .
ومن حقها عليه أن يغار عليها ويصونها من كل نظرة أو كلمة فهي أعظم ما يكنزه المرء فلا يليق أن يجعلها مضغة في الأفواه تلوكها الألسنة، وتتقبحها الأعين، وتجرحها الأفكار والخواطر، كلا إن الغيرة أخص صفات الرجل الشهم الكريم، وإن تمكنها منه يدل دلالة فعلية على رسوخه في مقام الرجولة الحقة الشريفة، ومن هنا كان كرام الرجال يمتدحون بالغيرة على نسائهم، والمحافظة عليهن، وإن من شر صفات السوء ضعف الغيرة وموت النخوة ولا يركن إلى ذلك إلا الأرذلون.
ولا يقصد بالغيرة سوء الظن والتماس العثرة فعن رسول الله أنه قال: ((إن من الغيرة غيرة يبغضها الله وهي غيرة الرجل على أهله من غير ريبة)).
وقد روى الإمامان البخاري ومسلم رحمهما الله قول رسول الله : ((أتعجبون من غيرة سعد؟ أنا أغير منه والله أغير مني)).
والغيرة المحمودة ما كانت في محلها، أما ما جاوز الحد، وكان ظناً باطلا لا أساس له إلا وسوسة الشيطان فهي غيرة مكروهة قال عنها رسول الله : ((إن من الغيرة غيرة يبغضها الله عز وجل، وهي غيرة الرجل على أهله من غير ريبة)).
ومن حقها أن لا يتخونها ولا يتلمس عثراتها، وذلك بأن يترك التعرض لما يوجب سوء الظن بها، وقد دل على ذلك أحاديث منها ما رواه جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: ((كان النبي يكره أن يأتي الرجل أهله طروقا))، وعنه: ((نهى رسول الله أن يطرق الرجل أهله ليلا يتخونهم، أو يطلب عثراتهم)).
بل على الرجل أن يعلم أهله بقدومه كي يتأهبوا لاستقباله فلا يرى ما ينفره وقد أشار إلى ذلك بقوله لجابر حين قدم معه من سفر: ((إذا دخلت ليلا فلا تدخل على أهلك حتى تستحد المغيبة وتمتشط الشعثة)).
كل ذلك لتبقى العلاقة سليمة بعيدة عن كل ما يوهنها.
الخطبة الثانية
أما بعد:
إن أحسن الحديث كتاب الله عز وجل وخير الهدي هدي محمد بن عبد الله وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار فاهتدوا بكتاب ربكم وسنة نبيكم واحذروا كل مخالفة عن أمره فإن الخير كله في الاتباع.
واعملوا رحمكم الله: أن من أعظم حقوق الزوجة أن يعاشرها بالمعروف ولنتأمل طويلا قول الله تعالى: وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا قال السدي: خالطوهن وقال ابن جرير: صحفه بعض الرواة، وإنما هو خالقوهن، ومعنى بالمعروف: ما لا ينكره الشرع والمروءة، والمراد هنا النصفة في القسم والنفقة، والإجمال في القول والفعل، وقيل بالمعروف: هو أن لا يضربها، ولا يسيء الكلام معها ويكون منبسط الوجه معها، ولا ينبغي للرجل أن يبغضها إذا رأى منها ما يكره لأنه إن كره منها خلقا رضي منها آخر فيقابل هذا بذاك، وقد روي أن عمر قال: لرجل طلق امرأته: لم طلقتها؟ قال: لا أحبها، فقال: أوكل البيوت بني على الحب، فأين الرعاية والتذمم.
وليذكر الرجل قول رسول الله : ((إن المرأة خلقت من ضلع لن تستقيم لك على طريقة، فإن استمتعت بها استمتعت بها وبها عوج وإن ذهبت تقيمها كسرتها، وكسرها طلاقها)).
ومن المعاشرة بالمعروف أن يتحبب إليها ويناديها بأحب الأسماء إليها.
ولقد كان رسول الله نبراسا لمن أراد أن يمتثل قول الله تعالى: لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا ، قال ابن كثير رحمه الله: وكان من أخلاق النبي أنه جميل العشرة، دائم البشر، يداعب أهله، ويتلطف معهم، ويوسعهم نفقته، ويضاحك نساءه.
واعلم أنه ليس حسن الخلق معها كف الأذى عنها، بل احتمال الأذى منها والحلم عند طيشها وغضبها، اقتداء برسول الله فقد كانت أزواجه يراجعنه الكلام، وتهجره الواحدة منهن يوما إلى الليل وراجعت امرأة عمر ، فقال عمر: أتراجعيني، فقالت: إن أزواج رسول الله يراجعنه وهو خير منك.
ويستحب للرجل إذا وجد فراغا أن يشارك المرأة في خدمة البيت فإن هذا من حسن المعاشرة المأمور به، قالت عائشة رضي الله عنها وقد سئلت عنه ما يعمل في بيته: كان يكون في مهنة أهله، يقم بيته، ويرفو ثوبه، ويخصف نعله، ويحلب شاته.
فما أسعد بيوتا عرف أهلها هذا فنهضوا به عرف كل من الزوجين عظم الرابطة التي جمعتهما والغاية من ذلك فأحسن معاشرة الآخر فكانا قدوة لأبنائهما في التواد والتراحم، فاتقوا الله عباد الله. . . .
ـــــــــــــــــــ(68/251)
خلق الرجل والمرأة
...
...
930
...
الأسرة والمجتمع
...
...
المرأة
...
عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري
...
...
المدينة المنورة
...
...
...
قباء
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- قاعدة الزوجية تُهيمن على الكون وسائر مخلوقاته 2- لكلٍ من الزوجين مهمة يقوم بها توافق قُدُراته
الخطبة الأولى
أما بعد:
هو الله الخالق البارئ المصور [الحشر:24].
من هذه الأسماء الحسنى انطق حديثنا عن أسرار الخلق، وكيف بدأ الله الخلق، وأول ما خلق، وأنه خلق آدم بيده، وخلق له من نفسه زوجة؛ خلق المرأة من ضلع آدم، كما أخبر بذلك الصادق الأمين سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فالله الخالق سبحانه، خلق كل شيء فقدره تقديراً، كل شيء عنده بمقدار، أحسن كل شيء خلقه، فسبحانه ما أعظم حكمته وقدرته، وما أوسع علمه، هذا الكون الهائل العظيم، كل شيء فيه يسير بنظام ويتحرك بقانون، لا يستطيع أن يخرج عنه قيد شعرهة، قدره وصنعه وركبه العزيز الحكيم اللطيف الخبير سبحانه وتعالى.
ومن القوانين الإلهية في هذا الكون أنه سبحانه خلق كل شيء فيه مبنياً مكوناً من زوجين اثنين، مبنياً على زوجين اثنين ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون [الذاريات:49].
ويتم نظام الكون بالتوافق والتكامل بين هذه الزوجين؛ في المكان، وفي الزمان، وفي الحيوان، وفي الإنسان؛ في كل من هؤلاء خلق الله سبحانه وتعالى كل هؤلاء من زوجين اثنين؛ فيتم نظامه ويقوم كيانه على التوافق والتكامل بين هذين الزوجين.
في المكان أعلى يقابله أسفل، وداخل يقابله خارج وشرق يقابله غرب، وشمال يقابله جنوب، في الزمان: ليل يقابله نهار، وظلمة يقابلها إسفار.
وفي الحيوان: ذكر وأنثى؛ قال تعالى: وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى [النجم:45].
ولما أراد سبحانه؛ لما أراد بعدله أن يفرق أهل الأرض جميعاً، أمر نبيه نوحاً عليه السلام أن يحمل في سفينته من كل شيء زوجين اثنين. قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين [هود:4].
والإنسان رجل تقابله امرأة، قال تعالى: والله خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم جعلكم أزواجاً [فاطر:11].
فكل من الزوجين في كل هذه الأشياء يقابل الآخر، وله مهمة غير مهمة الآخر، وبالتوافق والتكامل بين هذه الأزواج يقوم نظام الكون، ولو اختلطت مهماتها لفسد نظامها واختل كيانها؛ لفسد نظام هذه الأزواج واختل كيانها، فسبحانه ما أعظم قدرته وأعظم حكمته!
هذه الحقيقة الكونية ليس هناك عاقل يجهلها؛ فالنهار له طبيعة غير طبيعة الليل، والرجل له مهمة غير مهمة المرأة.
النار للسعي والحركة، وطلب الرزق ابتغاء فضل الله تعالى، والليل للسكون والراحة والنوم؛ فإن الإنسان بين يوم حافل بالسعي والحركة والعناء والمشقة بحاجة إلى فترة من الراحة يلتقط فيها أنفاسه ويجدد قوته وهمته.
الرجل للسعي والحركة وطلب الرزق والضرب في مناكب الأرض ابتغاء فضل الله، وإدارة الصراع بين قوى الخير والشر.
والمرأة للبيت تبنيه وتعمره ليكون سكناً يأوي إليه الرجل بعد اليوم حافل بالمشقة والعناء قال تعالى: والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى وما خلق الذكر والأنثى إن سعيكم لشتى [الليل:1-4].
فهذه الأشياء المتقابلة؛ الليل يغشى الكون بسكونه وظلمته، والنهار يُسفر بنهاره وصبحه، والذكر يسعى في مناكب الأرض طلباً للرزق وعمارة لها، والمرأة للبيت ترتبه وتهيئه للسكينة.
فلو اختلطت هذه المهمات من هذه المتقابلات كيف يتم نظام الحياة؟!.
يختل نظام الحياة، لا يتصور عاقل أبداً أنه يمكن أن تختلط المهمات بين هذه المتقابلات ويبقى نظام الحياة دون أن يختل أو يفسد، فهذه الأشياء المتقابلة لكل واحد منها مهمة خلقه الله سبحانه وتعالى لها؛ فعلى كل من الرجل والمرأة، على كل من الرجل والمرأة أن يقف عند حدود المهمة التي خلقه الله تعالى من أجلها، التي خلقه الله تعالى لها.
فالمرأة سكن والرجل للسعي والحركة، والليل سكن والنهار للسعي والحركة، فمهمة الرجل ألصق ما تكون بالنهار، كما أن مهمة المرأة أشبه ما تكون بالليل؛ ولذلك وصف الخالق سبحانه وتعالى؛ كل من الليل والمرأة وصفهما بأنهما سكن؛ قال سبحانه وتعالى: هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصراً [يونس:67]. وقال سبحانه: ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة [الروم:2].
فعلى كل من الرجل والمرأة أن يقف عند حدود المهمة التي خلقه الله عز وجل من أجلها، لا يحاول التمرد على القانون الإلهي والنظام الرباني، بل يتفانى في السعي والحركة ضمن هذا الإطار الرباني والقانوني الإلهي ويعطي مهمته التي خلق الله لها كل من عنده من قدرات وإمكانات، لا يبخل عليها بإمكاناته، ذلك إن كان مؤمنا مصدقا بحكمة الخالق العظيم سبحانه وتعالى.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. من يطع الله وروسوله فقد رشد، ومن يعصمهما فإنه لا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئا.
أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمداً ، وشر الأمور محمدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
وعليكم أيها المسلمون بالجماعة فإن يد الله على الجماعة، ومن شذ شذ في النار، يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون [آل عمران:102]. يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديداً يصلح أعمالكم لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً [الأحزاب:70-71].
ـــــــــــــــــــ(68/252)
لمنجمون (التحذير من المنجمين) - البشرى الثالثة للمرأة المسلمة
...
...
851
...
الأسرة والمجتمع, التوحيد
...
...
الشرك ووسائله, المرأة, نواقض الإسلام
...
عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري
...
...
المدينة المنورة
...
...
...
قباء
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
الحكمة من خلق النجوم كما قال قتادة – أقسام التنجيم الثلاثة وحكمها – الأول : مبني على دين الصابئة أن الموجودات مركبة من تأثير الكواكب , الثاني : الاستدلال بالأحوال الفلكية على الحوادث الأرضية , الثالث : تعلُّم المنازل لمعرفة القبلة وأوقات الصلاة – تكاثر السحرة في هذا العصر , والواجب على المؤمن تجاه ذلك – دور المرأة الصالحة ومكانتها – حال نساء السلف وزهدهنَّ وتحملهنَّ ( أسماء بنت الصديق )
الخطبة الأولى
أما بعد ... فقد قال الله تعالى: وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر قد فصلنا الآيات لقوم يعلمون [الأنعام: 97].
قال قتادة رحمه الله: خلق الله هذه النجوم لثلاث: زينة للسماء ورجومًا للشياطين وعلامات يُهتدى بها فمن تأول فيها غير ذلك أخطأ وأضاع نصيبه وتكلف ما لا علم له به.
نقول إن قول قتادة هذا رحمه الله دل عليه القرآن العظيم قال تعالى: ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجومًا للشياطين [الملك:5] وقال سبحانه: وعلامات وبالنجم هم يهتدون [النحل: 16].
فهذه الأجرام السماوية التي سخرها الله سبحانه ليستفيد بها الإنسان في مثل هذه المجالات ليستدل بها على الأزمنة والأمكنة كما هو الشأن في الشمس والقمر، يقول تعالى عن القمر: يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج [البقرة: 189].
أما الادعاء بأن للنجوم والكواكب صلة بالحوادث التي تجري للناس على الأرض فهذا حكمه كحكم السحر.
قال : ((من اقتبس شعبة من النجوم فقد اقتبس شعبة من السحر))[1].
واعلموا أن التنجيم على ثلاثة أقسام أولها: القول بأن الموجودات في العالم مركبة على تأثير الكواكب، وأن الكواكب فاعلة مختارة هذا هو مبنى دين الصابئة الذين كانوا يعظمون الشمس والقمر والكواكب، ويسجدون لها ويتذللون ويسبحونها بتسابيح ويقدمون لها طقوسًا معروفة في دينهم، فهذا القسم كفر بإجماع المسلمين.
وثاني الأقسام الثلاثة: الاستدلال بالأحوال الفلكية على الحوادث الأرضية أي الزعم بأن لمسير الكواكب والنجوم واجتماعها وافتراقها وغير ذلك من أحوالها صلة بما يجري للناس من حوادث ووقائع على الأرض ويدعون مع ذلك علم الغيب وإن كان المشتغلون بهذا القسم يقولون كل هذا يجري بقدرة الله ومشيئته هذا القسم وإن كانوا اختلفوا في كفره فإنهم لم يختلفوا في تحريمه وهو إلى الكفر أقرب لما فيه من ادعاء علم الغيب الذي استأثر الله به.
وثالثها: تعلم المنازل للاستدلال على القبلة وعلى الجهات وعلى معرفة أوقات الصلوات ونحو ذلك من المصالح الدينية والدنيوية.
هذا هو المشار إليه في قوله تعالى: جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر
[الأنعام: 97].
وبقوله: وعلامات وبالنجم هم يهتدون [النحل: 16].
وهذا القسم لا شك في مشروعيته كما أن القسمان الأوليان محرمان مفضيان إلى الكفر وهما داخلان في قوله : ((من اقتبس شعبة من النجوم فقد اقتبس شعبة من السحر)).
وفي زماننا هذا تكاثر هذا النوع من السحرة والكهان، تكاثر المنجمون الذين يزعمون الاستدلال بالأحوال الفلكية على الحوادث الأرضية ويدعون علم الغيب يدعي أحدهم علم ما جرى لك فيما مضى أو ما سيجري في المستقبل.
يدعون علم الغيب وقد يسمون أنفسهم بالروحانيين وما هم إلا من السحرة أو الكهنة كذابين أصحاب المائة كذبة يكذبون ويأكلون أموال الناس بالباطل ويستغلون ضعف النفوس وضعف العقول ممن يصدقونهم.
والمؤمن الموحد مأمور بألا يصدق هؤلاء المنجمين بأن يحذر منهم ولا يصدقهم ولا يعول على أقاويلهم فإنهم يفسدون عليه إيمانه ويضعفون صلتهم بالرب تعالى ويضعفون توكله عليه وحسن ظنه بالرب سبحانه وتعالى.
إلى جانب ما في تصديقهم والتعويل على أقاويلهم واللجوء إليهم ما فيه من الذنب العظيم والكفر العظيم كما أخبر بذلك سيدنا الأمين سيدنا محمد في قوله: ((من أتى كاهنًا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أُنزل على محمد ))[2] وفي الحديث الآخر الذي في الصحيح: ((من أتى عرافًا فصدقه بما يقول لم تقبل له صلاة أربعين يومًا))[3].
وروى الإمام أحمد في مسنده عن أبي موسى الأشعري قال قال رسول الله : ((ثلاثة لا يدخلون الجنة مدمن الخمر وقاطع الرحم ومصدق بالسحر))[4].
فالمؤمن الموحد يعلم أن تصريف الأمور كلها بيد الرب سبحانه وتعالى هو الذي بيده تصريف الأمور وتدبير شئون العباد وهو الخالق القادر العظيم القاهر فوق عباده له الملك وله الخلق والأمر أليس هو الذي خلق السماوات والأرض وما فيهن وما بينهن فله الملك وله الأمر وله الخلق بيده تصريف الأمور وبيده شئون العباد.
ليس من شأن المؤمن الموحد أن يترك هذا الرب الخالق العظيم ويتعلق بالمخلوق.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] مسند أحمد (1/311) ، سنن أبي داود (3905) ، سنن ابن ماجة (3726).
[2] مسند أحمد (2/429).
[3] صحيح مسلم (2230) ولفظه (( من أتى عرّافاً فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين ليلة)).
[4] مسند أحمد (4/399).
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد:
فإن المرأة المسلمة الصالحة التي تفقهت في دينها وعرفت ما أوجب الله عليها تجاهد في ميدانها الذي عينه لها العزيز الحكيم اللطيف الخبير: ميدان الأسرة والبيت وتربية النشء والأولاد هي قوام حياة الزوج قوام الحياة الزوجية الصالحة الآمنة التي توافر فيها لها السكن وتوافرت لها الطمأنينة وبغير هذين لا يستطيع الرجل أن يفعل شيئًا، إذا فقد هذين: السكن والطمأنينة في حياته الزوجية فإن الرجل تفسد حياته، ولذلك فإن الشارع العزيز الحكيم سبحانه وتعالى جعل المرأة في بيتها وميدانها جعل جهادها كجهاد الرجل في ميادينه التي شُرعت له هما في ذلك سواء فإليك أيتها المرأة المسلمة الصالحة إليك البشارة الثالثة من النبي المصطفى .
فقد أخرج يحيى والبراز عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "أتين النساء إلى النبي وقلن: يا رسول الله ذهب الرجال بفضل الجهاد في سبيل الله ومالنا عمل ندرك به عمل المجاهدين في سبيل الله فقال : ((مهنة إحداكن في بيتها تدرك بها عمل المجاهدين في سبيل الله)).
صدق الرسول وبلغ الرسالة وأدى الأمانة، نعم فهذا هو مقتضى القسمة الربانية قسمة العزيز الحكيم اللطيف الخبير الذي قسم الحياة بين الرجل والمرأة قسمها بينهما ميدانين فللرجل ميدانه وللمرأة ميدانها وكل منهما إذا جاهد في ميدانه وأصلح وأحسن نيته وأبلى في ذلك بلاءً حسنًا فله أجره وثوابه عند الله سبحانه وتعالى وهما في ذلك سواء.
وقد فقه نساء الصحابة ذلك الدرس النبوي وطبقنه في حياتهن رضي الله عنهن وأرضاهن جميعًا، فهذه أسماء بنت أبي الصديق ذات النطاقين ومن لا يعرف أسماء وهي في منزلتها ومكانتها وسابقتها في الإسلام فاسمعوا طرفًا من حياة هذه الصحابية العظيمة ترويه بنفسها رضي الله عنها وأرضاها كما في صحيح البخاري تقول أسماء: لما تزوجني الزبير - الزبير بن العوام فارس رسول الله - لم يكن له في الأرض من مال ولا مملوك - ما كان يملك شيئًا - ولا شيء غير فرسه فكنتُ أعلف فرسه وأكفيه مؤنته وأسوسه وأدق النوى لناضحة وأعلفه واستقي الماء وأعجن وأخبز ولم أكن أحسن الخبز فكانت جارات لي من الأنصار يخبزن لي وكنا نسوة صدق.
تقول رضي الله عنها وكنت أحمل النوى على رأسي من أرض الزبير التي أقطعه رسول الله وهي على ثلثي فرسخ مني (أي تبعد ميلين عن بيتها رضي الله عنها وأرضاها وأرضى الزبير- هذه لا تزال معروفة حتى اليوم وراء جبل أحد من الشمال، فكانت رضي الله عنها تحمل النوى من أرض الزبير على رأسها إلى بيتها) قالت: فجئت يومًا أحمل النوى على رأسي فلقيني رسول الله ومعه نفر من أصحابه فدعاني وقال أخّ ليركبني خلفه ويحملني خلفه - أي أنه أناخ راحلته ليردفها خلفه - قالت رضي الله عنها: فاستحييت أن أسير مع الرجال وذكرتُ غيرة الزبير فعرف النبي أني استحييت فمضى. فجئت الزبير فقلتُ: لقيت رسول الله وأنا أحمل النوى على رأسي فأناخ لي راحلته ليركبني معه نفر من أصحابه فاستحييت وعرفت غيرتك.
فقال الزبير رضي الله عنه: "لحملك النوى على رأسك أشد علىّ من ركوبك معه . تقول أسماء: حتى أرسل إليّ أبو بكر بعد ذلك بخادم فكفتني سياسة الفرس ومؤنته فكأنما أعتقني" رواه البخاري من كتاب النكاح في صحيحه[1].
هذا طرف من حياة هذه المرأة الصحابية العظيمة أسماء ذات النطاقين وأسماء هي أسماء من منا لا يعرفها وهي من السابقات إلى الإسلام ماذا نقول في شرح كلامها هذا والتعليق عليه، إنه أوضح وأبلغ من أي شرح أو تعليق.
أما بعد:
فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
وعليكم أيها المسلمون بالجماعة فإن يد الله على الجماعة ومن شذ شذ في النار.
واعلموا أن الجماعة هي التمسك بالكتاب والسنة ومنهج الصحابة الأخيار رضوان الله عليهم أجمعين.
يا ابن آدم أحبب ما شئت فإنك مفارقه واعمل ما شئت فإنك ملاقيه وكن كما شئت فكما تدين تُدان.
ثم صلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال جل من قائل: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليمًا [الأحزاب: 56].
وقال : ((من صلى علىّ واحدة صلى الله عليه بها عشرًاْ))[2].
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبي بكر الصديق وعمر الفاروق وذي النورين عثمان وأبي السبطين علىَّ وعن آل بيت نبيك الطيبين الطاهرين وعن أزواجه أمهات المؤمنين، وعن الصحابة أجمعين والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
[1] صحيح البخاري (5224).
[2] صحيح مسلم (408).
ـــــــــــــــــــ(68/253)
الهاتف
...
...
1152
...
الأسرة والمجتمع
...
...
قضايا المجتمع
...
ناصر بن محمد الأحمد
...
...
الخبر
...
15/2/1418
...
...
النور
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1-فضل الله تعالى ونعمته على الإنسان بهذا الهاتف 2- صور من صور استغلال الهاتف في إيذاء الآخرين 3- أن استعمال الهاتف للنساء بكثرة يؤدي إلى تجرّأ النساء وفقدهنّ أو نُقصان الحياء فيهنّ وصور من تساهل النساء باستعمال الهاتف 4- نصائح للمرأة ووليّ أمرها فيما يتعلّق باستعمال الهاتف 5- تعليم الأطفال آداب الرد على الهاتف
الخطبة الأولى
أما بعد:
قال الله تعالى: إقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق إقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم .
لقد فجر الإنسان طاقات هذا العقل الذي منحه ربه عز وجل، وصار يعلم ما لم يكن يعلمه من قبل، وصار هذا الإنسان يخرج لنا كل يوم بجديد من هذه الاختراعات، التي سهلت كثيراً من أمور الحياة، وأصبح الإنسان يتمتع بنعم الله جل وعز في هذه الأرض.
فمثلاً، كم سهلت وأراحت الناس هذه المكيفات وكيف سيكون حياة الناس بدونها، لاشك أنها نعمة عظيمة.
وقل مثل هذا الكلام في اختراع الطائرات، والسيارات وأجهزة الكمبيوتر، والثلاجات، ثم هذه القفزات الهائلة في عالم الاتصالات، وغيرها مما أنعم الله به على الإنسان، علم الإنسان ما لم يعلم.
وكل هذه المخترعات، تعدُ نعماً، لما فيها من تيسير حياة الناس، لكن سوء استخدامها في بعض الأحيان، تجلب لصاحبها المشاكل أحياناً.
ولعلنا نقضي دقائق هذه الخطبة مع جهاز الهاتف، هذا الجهاز الذي وفّر على الناس كثيراً من أوقاتهم وأموالهم، وأنجز كثيراً من معاملاتهم وأمورهم، ورفع مشقة الذهاب والإياب، بل والسفر أحياناً لأمور تُقضى بواسطة الهاتف.
تسمع بخبر عن قريب أو صديق، إما خبراً مفرحاً، أو محزناً، وأنت في طرف من أطراف الأرض، وهو في الطرف الآخر، ففي ثوانٍ تدير قرص الهاتف وتتحدث معه، فإما أن تهنيه، أو تعزيه، وتأخذ أخباره، وتعرف أحواله، فلله الحمد على نعمه. ولك أن تجد الفرق بين هذه الصورة، وما كان عليه الآباء والأجداد، ينتظرون أحياناً بضعة أشهر، لوصول رسالة من هنا أو هناك ليعرفوا بها أحوال أقاربهم وأسرهم. يرفع التاجر سماعة الهاتف، لأي جهة من الدنيا، ليعقد صفقة تجارية بملايين الريالات في دقائق معدودة، دون أن يتحمل عناء السفر.
ومع هذا الجهاز العجيب، عدة نصائح وتوجيهات، ووقفات وتأملات:
أولاً:أذية المسلمين، قال الله تعالى: إن الذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتاناً وإثماً مبيناً . إلى أولئك الذين يسيئون استخدام هذا الجهاز، ويوظفونه في أذية عباد الله، ولا تبدأ هواياتهم إلا بعد منتصف الليل، فقط إزعاج الآخرين، كثيراً من الأسر تشتكي من إزعاج الهاتف، خصوصاً بعد منتصف الليل، يكون الواحد، نائماً بعد عناء وتعب النهار، وإذا بالهاتف يصيح، فيقوم الواحد من نومه فزعاً، إذ لا أحد يرد أو يسمعك مقطعاً غنائياً، وغالب هؤلاء المزعجين من الشباب الضائع، الذي يبقى طوال ليله ساهراً، ويتفكه في أذية عباد الله، كم من الدعوات رفعت لها الأيدي في آخر الليل، ووقت التنزل الإلهي على هؤلاء الذين يعبثون في الهاتف، وربما لقي هذا الدعاء باباً مفتوحاً في السماء، وساعة إجابة، فأصابت هذا المزعج إما في نفسه أو بعض أهله بسببه. أذكر هؤلاء مرة أخرى بقول الله تعالى: إن الذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتاناً وإثماً مبيناً وأن الهاتف لم يوضع لهذا.
ثانياً: وهذا يمكن أن يكون ضمن أذية المسلمين، لكن يستحق أن يفرد لوحده، لتنوع الصور المتعلقة به، ألا وهو التصنت على عباد الله من خلال الهاتف. أن التنصت قد يقوم به عدة جهات:
قد يقوم بهذا الدور شاب مراهق، يتصنت على جيرانه، أو بعض أقاربه،من خلال جهاز التصنت ونقل المكالمات، ويقضي معظم ساعات ليله، ونهاره في سماع أحاديث الناس. وما يجري بينهم دون علم منهم، وربما قام بتسجيل بعض هذه المكالمات، ليسمعها زملائه الذين يشاركونه في نفس هذه الهواية، وربما استخدموه تهديداً لبعض الأسر وبعض الفتيات.
وقد يقوم بهذا الدور، دور التصنت أخ أو زوج، والدافع لهذا العمل هو الشكُ فحسب ليس لديه يقينيات، مجرد الشك، صار يشك في زوجته، أو الأخ في أخته، فيقوم بالتصنت عليها، وتسجيل مكالماتها وهي تحادث زميلاتها، وربما في خصوصيات لا يصلح أن يطلع هو عليها. وكل هذا داخل في التصنت المحرم الذي لا يجوز، وقد قال الله تعالى: ولا تجسسوا وقد يقوم بهذا الدور جهات أخرى تتصنت وتصطاد في الماء العكر.
فنُسمع كل هؤلاء الحديث الصحيح الذي رواه البخاري في صحيحه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من استمع إلى حديث قوم وهم له كارهون، صُب في أذنيه الآنكُ يوم القيامة))، والآنك هو الرصاص المذاب، نعم والجزاء من جنس العمل، فهذا الذي وظف أذنيه للتصنت والتجسس على عباد الله، ويتسمع لحديثهم وهم له كارهون، كان مناسباً جداً لهذه الأذن أن يحمي الرصاص حتى يذوب، ثم يصب في أذنيه، فليتأمل جيداً، كل من يقوم بهذا الدور من الشباب وغيرهم، فإن عاقبة هذا الفعل كما سمعتم من قول الصادق المصدوق.
((من استمع إلى حديث قوم وهم له كارهون، صُب في أذنيه الآنكُ يوم القيامة)).
ثالثاً: لقد خلق الله جل وتعالى، الجنسين. الذكر والأنثى، وخلق في كل جنس من الفطرة ما يناسبه، فركب في المرأة عنصر الحياء، والمرأة إذا فقدت الحياء، فقد فقدت كثيراً من أنوثتها التي تُرغب الزوج فيها. وإن استخدامات المرأة للهاتف في زماننا هذا، ساعد كثيراً في نزع نسب من الحياء من المرأة، أصبحت المرأة تتصل بجهات عديدة، والأصل أن ولي الأمر هو الذي يقوم بهذا الدور، لكنه سمح للمرأة أن تمارس دوره، فكسر عندها باب الحياء، وماله بعد ذلك إلا أن يتحمل عواقب ما تساهل فيه، خذ هذه الأمثلة السريعة:
- أصبحت المرأة، تتصل بالمدرسة لتطمئن على وضع ولدها الذي يدرس في الابتدائية. وتتابع أحواله، فتكلم المدير أو الوكيل، وقد تطلب مربي الصف لكي تتفاهم معه شخصياً.
- وصارت المرأة تتصل بالخياط الذي يخيط لها ملابسها لكي تعطيه المقاس أو تعدل في الموديل. أو لمجرد التأكد من موعد استلام الملابس.
- وصارت المرأة، تتصل بمكتب الخطوط للحجز، لكي تؤكد موعد سفر، أو تغير الرحلة.
- وأصبحت المرأة تتصل بمطاعم إيصال الخدمة المجانية للبيوت، لكي تطلب وجبة عشاء لأهل البيت في حالة، بل في حالات عدم رغبتها في إعداد الطعام.
- وتتصل المرأة في بعض الجهات الرسمية، كشركة الكهرباء أو مصلحة المياه، أو استعلامات الهاتف، لكي تتابع فاتورة تأخرت، أو ما أشبه ذلك.
- وتتصل بالبقال، أو بائع الخضروات الذي بجوار منزلهم، ليحضر لها ما نقص عليها أثناء ساعات النهار.
وتتصل، وتتصل، وتتصل.
أقول أين ولي الأمر، الذي يفترض أن كل هذه المهام هي من أعماله.
نعم لو كانت المرأة، أرملة وهي القيّمة على أولادها وليس هناك من محارمها أو أقاربها من يعينها في ذلك، فلا حول ولا قوة، أما أن يكون الولي موجوداً وغير موجود، فهذه هي المصيبة.
وأما عن حديث المرأة مع زميلاتها وجيرانها، فحقيقة هناك مشاكل في بعض البيوت، تجلس المرأة أحياناً تتحدث بالثلاث ساعات والأربع ساعات دون مبالغة، يصادف أنك تتصل أحياناً على بعض البيوت، فتعجز أن تجد الخط خالياً، وأحياناً يكون هناك أمر ضروري، إما حالة وفاة، أو حادث سيارة، وتعجز تماماً عن الاتصال ببعض البيوت، وعندما تفتش وإذا بالمرأة، تحادث جارتها قرابة ساعتين، في كلام لا أول له ولا آخر.
وأما عن مكالمات البنات لبعضهن البعض، بحجة الاستفسار عن الدروس المدرسية، فحدث ولا حرج، وقد تكون بعض هذه الدعاوى صحيحة، لكن من الخطأ، أن يسمح ولي الأمر في المنزل أن يُجعل الهاتف مشغول طوال فترة العصر وما بعد المغرب في شرح الدروس المدرسية، فإن الهاتف لم يوضع لهذا، لماذا لا تنتبه الطالبة وتعرف واجباتها، وما يجب عليها من المدرسة كباقي الزميلات. وقل مثل هذا الكلام بالنسبة للطلاب.
وقبل ختم الكلام عن هذه النقطة وهو فيما يتعلق بالمرأة وجهاز الهاتف، ننصحها بالآتي، وبل وننصح وليها بأن يلزمها بالآتي:
1 – عدم الخضوع بالقول، فإن الله سبحانه نهى نساء نبيه صلى الله عليه وسلم، أمهات المؤمنين رضي الله عنهن، اللاتي لا يطمع فيهن طامع، وهن في عهد النبوة، وحياة الصحابة رضي الله عنهم، نهاهن عن أن يخضعن بالقول فقال تعالى: ولا يخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض وقلن قولاً معروفاً فكيف بمن سواهن.
2 – تُمنع المرأة من الاسترسال في الكلام مع الرجال الأجانب، بل ومع محارمها بما تنكره الشريعة وتأباه النفوس، ويُحدث في نفس السامع علاقة.
3 – تحذّر المرأة وكذلك البنت رفع الصوت عن المعتاد وتمطيط الكلام وتحسينه وتليينه وتنغيمه.
4 – على راعي البيت أن يرتب أموره على الستر والصون، وحفظ المحارم، فلا تكون المرأة هي أول من يبادر إلى إجابة الهاتف مع وجود أحد من الرجال.
5 – احذر يا راعي البيت ثم احذر أن يكون هناك جهاز مستقل في كل غرفة خصوصاً غرف الأولاد والبنات، يمنع فيه الجهاز منعاً باتاً لمن أراد الستر والعفاف.
جهاز واحد عام وسط المنزل، يستخدمه الجميع وعلى مسمع من أهل البيت.
إن الهواتف الجانبية والمخفية في البيوت، عواقبها سيئة، وفي ذلك قصص وأخبار، ليس هذا مقام سردها.
نسأل الله جل وتعالى الستر في الدنيا والآخرة، وأن يبصرنا بأمورنا.
أقول هذا القول واستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية
أما بعد:
رابع وقفات هذا الجهاز:هو مع الأطفال في المنزل. فالطفل إما أن يؤدب ويربى جيداً ويُعلم كيف يرد على الهاتف، أو يمنع منعاً باتاً، ويكون الهاتف بعيداً عن متناول يده.
أحياناً تتصل لأمر مهم وضروري ولا يحتمل التأخير، فتقع ضحية طفل يرفع السماعة، تحاول معه أكثر من عشر دقائق أحياناً ليعطيك كبيراً تتفاهم معه، فتعجز عن ذلك، وأهل البيت في غفلة عن طفلهم هذا وعن جهاز الهاتف.
وغالب الأطفال فيهم براءة الطفل وبساطته، فيقوم بالاتصال أحياناً بعض السفهاء ويبدأ يتحدث مع الطفل، ويلاعبه ويمازحه، ثم يقوم باستخراج بعض المعلومات الخاصة بالمنزل والطفل بكل براءة يجيب.فيُسأل عن أسماء أهل البيت ذكوراً وإناثاً، وهل لديكم خادمة، وما اسمها وجنسيتها، وهل أمك تعمل أو لا تعمل، وأين عملها، وغيرها من خصوصيات البيوت، والطفل يعطي معلومات، ثم يبدأ ذلك السفيه أو قل المجرم، بتوظيف هذه المعلومات فيما يريد. أين أهل البيت عن طفل يتحدث في الهاتف لأكثر من ربع ساعة، ولا يعلمون عنه.
وأحياناً يتصل رجل ذو مكانة ومنزلة ووجاهة في المجتمع، إما لعلمه أو لسنه أو لقرابته، ثم يرد عليه طفل يسيء الأدب معه، وربما تلفظ عليه بألفاظ لا تليق بمقامه، من يتحمل كل هذه الأخطاء؟ قد تقول لي: هذا طفل، نقول نعم طفل، لكن لو أحسنت تربيته وتوجيهه وتعليمه، ودربته تدريباً جيداً على استخدام الهاتف، واختبره في ذلك لتعلم وأجاد، وهناك أطفال، لا يمكن أن تخرج منه بمعلومة، أو تسمع منه كلمة سيئة، ما السبب: والداه.
ملخص الكلام عن الأطفال، إما أن يمنعوا من مس جهاز الهاتف، أو يعلموا تعليماً جيداً.
خامساً: ليكن الهاتف بعيداً تماماً عن متناول الخادمات في البيوت، وكذلك السائقين، خصوصاً إذا كانوا كفاراً. فإن دينهم لا يحرم عليهم الكلام مع الأجنبي، والتبسط معه بل ولا يحرم الخلوة به، بل إن دينهم يبيح لهم الزنا، وشرب الخمر، وغيرها من الفواحش، وترك الهاتف حراً طليقاً في يد الخادمات مصيبة، وأية مصيبة، وربما لديكم من القصص والأخبار بل والحوادث والجرائم بسبب الهاتف أكثر مني.
سادساً: لا يجوز لك أن تستغل هاتف العمل لمصالحك الشخصية، خصوصاً تلك المكالمات المرتفعة الرسوم، وبالأخص ما كان لخارج المنطقة، دون إذن صاحب العمل.
وكذلك لا يجوز لك أيها الموظف أن تتحدث بالهاتف أثناء العمل لعدة ساعات وإن كان يعلم صاحب العمل، في مقابل تعطيل المراجعين وتأخير معاملات الناس.
سابعاً: المعاكسات الهاتفية وتبادل الأرقام بين الأولاد والبنات أصبح أمراً مكشوفاً للجميع، بل أولئك الذين يهمهم أمر المجتمع، لديهم من عجائب القصص الشيء الكثير، فاحذروا وانتبه يا ولي الأمر، وراقب هاتف منزلك جيداً.
ثامناً: الأليق بنا كمسلمين أن نستخدم الألفاظ الشرعية في أحاديثنا خصوصاً عند أول رفع سماعة الهاتف، فنبدأ بالسلام، بدل الألفاظ الأجنبية، ونربي أولادنا على ذلك.
تاسعاً: تأكد من الرقم الصحيح، قبل الاتصال ليقل خطأك، ولو أخطأت في الرقم، فاعتذر بأسلوب طيب ومناسب.
عاشراً وأخيراً: قلل مدة كل اتصال بقدر المستطاع، وحاول أن تدرب نفسك على هذا، وستجد أنك توفر كثيراً من المال، خصوصاً في ظل هذه الرسوم المرتفعة، وخصوصاً إن كنت تستخدم الهاتف الجوال.
ـــــــــــــــــــ(68/254)
تربية الأولاد
...
عارف بن أنور بن نور محمد
... ...
1208
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية اضف إلى رف الخطب
ملخص المادة العلمية
1- اختيار الزوجة الصالحة 2- حقوق الأبناء على الآباء 3- اللطف والرحمة بالأولاد عند تربيتهم 4- ألوان من التربية في القرآن الكريم 5- مراحل التربية 6- أنواع التربية 7- مظاهر الخطأ والتقصير في التربية 8- صور مشرقة من حياة السلف 9- السُّبل المُعينة على تربية الأبناء
قبل التربية يجب أن يتنبه المسلمون إلى أمر مهم وهو قبل التربية وقبل مجيء الأولاد وهو: اختيار الزوجة الصالحة وقد قال صلى الله عليه وسلم: ((... فاظفر بذات الدِّين تَرِبت يداك)) وهو حديث صحيح معروف.
ويجب على الآباء أن يَعلموا أمراً عظيماً جداً وهو أن التربية يجب أن تكون منذ البداية ولذلك فإن حقوقاً على الآباء يجب أن يؤدوها تجاه أولادهم وهي على النحو التالي:
1- العقيقة. 2- التسمية. 3- حلق الرأس والتصدق بوزن شعر المولود فضة والدليل على هذه الأمور قوله صلى الله عليه وسلم: ((الغلام مُرتَهَنٌ بعقيقته تُذبح عنه يوم السابع ويُسمّى ويُحلق رأسه)) رواه الترمذي والحاكم عن سَمُرة صحيح كما في صحيح الجامع.
والعقيقة معروفة، أن تُذبح عن الغلام شاتين وعن الجارية شاة فإن لم يستطع أن يذبح يوم السابع ذبح يوم الرابع عشر أو لإحدى وعشرين كما جاء في الحديث الصحيح قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((العقيقة تُذبح لسبع أو لأربع عشرة أو لإحدى وعشرين)) رواه الطبراني في الأوسط والضياء عن بريدة انظر صحيح الجامع.
وأما التسمية فكذلك يجب على الأب أن يختار لولده اسماً طيباً يتفاءل به. ومن الظلم الذي يقع فيه بعض الآباء مع الأسف الشديد أن يُسمّي ولده بأسماء الطواغيت أو بأسماء الفَسَقة والفَجَرة أو بأسماء بعض المُمثلين أو المُمثلات أو بأسماء زعماء الأحزاب الهدّامة والدعَوات الكافرة وقد بلغ ببعض الآباء ومع نَشْوَة الشيوعية الملحدة أن يسمي أولاده كالتالي: ماركس – إنجلس لينين , عليهم لعائن الله المتتابعة وعن ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أحب الأسماء إلى الله عبد الله وعبد الرحمن)) رواه مسلم.
وأما حلق الرأس والتصدق بوزنه فضة فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ذلك كما ذكره الشَوْكانِي رحمه الله تعالى في نيل الأوطار.
4- الأذان في أُذن المولود: وثبت ذلك في حديث حسن كما يقول الشيخ الألباني رحمه الله وأما الإقامة فالحديث فيه ضعيف.
5- الخِتان: والختان للذَكَر واجب عند جماهير الفقهاء لأنه من سنن الفطرة وأما ختان المرأة فَعَلا خلاف, وقد أوجبه الشافعي رحمه الله تعالى وذلك لحديث الضحّاك بن قيس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأم عطية – وكانت تَخْتِن على عهد رسول الله -: ((اخفضي ولا تُنهكي فإنه أنضر للوجه , وأحظى عند الزوج)) رواه الطبراني والحاكم انظر صحيح الجامع
فهذه الأمور لا بد منها على الأب أن يراعيها تجاه أولاده.
ومما يجب على الآباء كذلك في التربية ملاطفة الأولاد وملاعبتهم وتقبيلهم وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يُقَبِّل الحسن والحسين ولذلك لمّا رآه الأقرع بن حابس التميمي يقبلهما.
قال: والله إن لي عشرة من الولد ما قبّلت واحداً منهم فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: ((أوَ أملك لك إن نزع الله من قلبك الرحمة؟!)) متفقٌ عليه من حديث عائشة رضي الله عنها.
وثبت كذلك في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم حمل أُمامة بنت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي فكان يضعها إذا سجد ويحملها إذا رفع. وارتحله الحسن أو الحسين وهو يصلي في سجوده فلم يقم صلى الله عليه وسلم حتى نزل مِن على ظهره صلى الله عليه وسلم.
ألوان من التربية في القرآن الكريم:
قال تعالى: ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بَني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتنّ إلا وأنتم مسلمون .
وقال أيضاً: وإذ قال لقمان لابنه وهو يَعِظُه يا بني لا تُشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم .
وقال تعالى: ونادى نوح ابنه وكان في مَعْزِل يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين .
هكذا كانت أساليب الأنبياء والصالحين في التربية والدعوة.
وبين سبحانه وتعالى بعض الآداب ولون من ألوان التربية في باب الاستئذان وكيف يُعَوَّدُ الأطفال ويُرشدون إلى ذلك؟ فقال: يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحُلُم منكم ثلاث مرات من قبل صلاة الفجر وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة ومن بعد صلاة العشاء ثلاث عورات لكم ليس عليكم ولا عليهم جناح بعدهُنّ طوّافون عليكم بعضكم على بعض كذلك يبين الله لكم الآيات والله عليم حكيم . وقال تعالى أيضاً: وإذا بلغ الأطفال منكم الحُلُم فليستأذنوا كما استأذن الذين من قبلهم .
مراحل التربية:
أولاً: المنزل وكل ما تقدم يقع على عاتق الأبوين , بل حتى المراحل الآتية.
ثانياً: الشارع والحارة, وإذا كانت التربية في المنزل جيدة فلا تأثير كبيرَ من الشارع.
ثالثاً: الأصدقاء والأصحاب. والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((الرجل على دين خليله فلينظر أحدكم من يُخالِل)) حديث صحيح كما في صحيح الجامع.
رابعاً: المدرسة والمسجد والجامعة. وفي جميع هذه المراحل يجب على الأب أن يكون حريصاً على ولده من متابعة ورعاية وتوجيه وإرشاد.
أنواع التربية:
يجب على المُربّي أن يتخذ أنواع التربية وأساليبها التي يُمكنه من خلالها أن يُربّي ولده التربية الصحيحة وقد جاء في القرآن والسنّة ما فيه الكفاية في ذلك , فمن أنواع التربية:
1- الموعظة.
2- القَصص وأخبار من مضى لأجل التأسي والاقتداء كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يُخبر أصحابه كقصة أصحاب الغار الثلاثة الذين انطبقت عليهم الصخرة. وقصة الأقرع والأعمى والأبرص في الصحيحين أيضاً وقصة جُريج وكيف كانت معاملته مع أمه؟ إلى غير ذلك من القصص.
3- متابعة الولد في جميع أمور حياته خصوصاً في البداية وتوجيهه وإرشاده إلى الأصوَب والأصلح والأنفع , وتحذيره من الأهواء والمعاصي والمبادئ الهدّامة والأحزاب الباطلة وكذا يجب عليه أن يتابع ولده فيما يقرأ وإلى ماذا يميل؟ وكيف يُفكِّر؟ بدون إفراط ولا تفريط.
4- التربية على منهاج السلف ومآثر الأوائل من الصحابة والتابعين, وغرس المفاهيم الصحيحة لمنهج أهل السنة والجماعة والابتعاد عن المناهج المبتدعة والضالة.
5- تنشئة الولد على الأخلاق السامية والآداب الرفيعة كالشجاعة والصبر والعفة والعلم والعدل والقصد في الأمور كلها والجود والكرم والإيثار والتواضع والصدق والرحمة والحكمة والإحسان والعفو والمسامحة والمشاورة والحياء – في موضعه – والحلم.
6- الضرب: وهو آخر الدواء وقد صح في الحديث: ((مُروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين واضربوهم عليها وهم أبناء عشر سنين , وفَرِّقوا بينهم في المضاجع)) رواه أحمد وأبو داود وهو حسن.
وقال صلى الله عليه وسلم أيضاً: ((علّقوا السوط حيث يراه أهل البيت فإنه أدب لهم)) رواه الطبراني عن ابن عباس وهو في صحيح الجامع.
ولا يكون الضرب انتقاماً أو ضرباً مُبَرِّحاً إنما يكون ضرب تأديب وتعليم وتوجيه , ويجب على المربي أن يُبيِّن للولد سبب الضرب ولماذا لجأت إليه؟
وقد ذكر بعض الدعاة قصة عجيبة لأحد الآباء ... حيث أنه عاقب ولده بالتوثيق بالحبال فوثّق يديه وقدميه – وذلك لأنه قام بتمزيق بعض الأثاث في المنزل الجديد – وجاءت أمه تستشفع له فأبى الوالد. وما زال الولد يبكي ويبكي ويستغيث بأبيه والأب رافض فكّ وثاقه حتى أُغمي على الولد ... فلما أسعفه إلى المستشفى قرّر الأطباء بتر وقطع أطرافه من اليدين والقدمين , وذلك لأن الدماء تجمدت ولو سَرَت في الجسد لتسمم الجسد كله ويوشك على الموت. وتمت عملية البتر وكانت الطامة بعد ذلك عندما كان الولد ينادي أباه.
فيقول: أبت أعد إلي يداي وقدَماي ولن أعود إلى ذلك مرة أخرى ... أبتِ أبتِ لن أفعل ولن أكرر هذا الفعل, المهم أن تعيد لي أطرافي ... أبت سامحني على ما حدث مني وأعد إليّ يداي.
فكانت عيشة نكدً لذلك الأب. وهذا كله بسبب سوء تصرفه وعدم اللين والحلم والحكمة في التربية.
مظاهر التقصير والخطأ في التربية:
1- تنشئة الأولاد على الخوف والجُبن وذلك كأن يُخوِّفه من الظلام أو من أصوات الكلاب أو من الجن والشياطين. وكذا تنشئة على الأنانية وحب الذات وعدم البذل والعطاء.
2- الانشغال عن الأولاد والإهمال في التربية وقد بيّن النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: ((كلكم راعٍ وكلُّكم مسئول عن رعيته)) بأن الواجب على الآباء والأمهات تربية الأولاد التربية الصالحة. وأنهم في عُنقهم يوم القيامة. وإن الانشغال عن تربية الأولاد من أكبر الجرائم وأقبح الأعمال يرتكبها الآباء والأمهات تجاه أولادهم. ولذلك يقول الشاعر:
ليس اليتيم من انتهى أبواه من همّ الحياة وخلّفاه ذليلاً
إن اليتيم هو الذي تلقى له أُمّاً تخلّت أو أباً مشغولا
3- المبالغة في حسن الظن بالأولاد بحيث لا يسمح لأحد ينتقد أولاده أو ينصحه فيهم أو العكس وهو المبالغة في سوء الظن بالأولاد بحيث أنهم مهما عملوا كذّبهم أو لم يصدقهم حتى يفقدوا الثقة مع أبيهم.
4- التفريق بين الأولاد في العطية أو في المعاملات – بدون مبرر شرعي – أو الميل كل الميل إلى واحد دون البقية. وهذا لا يجوز كما بيّنه النبي صلى الله عليه وسلم في حديث النعمان بن بشير في العطية.
5- الدعاء على الأولاد بالشر وقد نهى عن ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((لا تدعوا على أنفسكم ولا تدعوا على أولادكم ولا تدعوا على أموالكم , لا توافقوا من الله ساعة يُسأل فيها عطاء فيستجاب لكم)) رواه مسلم.
6- فعل المنكرات أو القبائح أمام الأولاد ثم نهيهم عن ذلك, مثل شُرب الدخان ومتابعة القَنَوات الفضائية الساقطة أو أكل القات – شجرة تؤكل في اليمن ولها مساوئ كثيرة جداً – أو متابعة بعض المجلات الهابطة والأغاني والموسيقى والعياذ بالله تعالى. وقد قال سبحانه: يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون * كبُر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون وقال: أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون .
وقال الشاعر:
لا تنه عن خُلُق وتأتي مثله عار عليك إذا فعلت عظيم
7- كثرة المشاكل بين الوالدين , مما يُسبِّب تمزُّقاً في الأسرة وتفكُّكاً فيها.
8- احتقار المواهب وعدم التشجيع للأولاد فيما يفعلون ويفكرون. وهذا على خلاف منهج السَلَف. وقد كان السلف يشجِّعون أولادهم على الخير والأمور المحمودة ولهذا جاء في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سأل عن الشجرة التي تشبه المؤمن فلم يجب أحد... كان الجواب عند عبد الله بن عمر فلما أخبر الرسول أنها النخلة. أخبر عبد الله والده عمر بأنه كان يعلم الجواب ولكنه استحى من كبار الصحابة الموجودين فقال له عمر: أما والله لو أجبت لكان أحب إليّ من كذا وكذا.
9- الشدة والقسوة في المعاملة والضرب الشديد المُبرِّح , وله عواقب وخيمة وقد تقدم الكلام.
10- إعطاءهم ما يريدون إذا بكوا, وهذه تربية خاطئة. ولذلك يقول د/ محمد الصباغ سمعت مالك بن نبي رحمه الله تعالى: أن رجلاً جاء يَسْتَرشِدُه لتربية ولده, فسأله كم عمره؟ قال: شهر. قال: فاتك القطار. قال مالك: وكنت أظن بادئ الأمر أني مبالغ, ثم إني نظرت فوجدت أن ما قلتُه صحيح وذلك أن الولد يبكي فتعطيه أمه الثدي فينطبع في نفسه أن الصراخ والبكاء هو الوسيلة إلى الوصول إلى ما يريد, ويكبر على هذا, فإذا ضربه اليهود بكى في مجلس الأمن يظن أن بكاءه يوصله إلى حقه. اهـ.
11- التحذير الدائم من الأب لابنه من سوء العاقبة في المستقبل, وكثرة الكلام دوماً حول مستقبل الولد وأنك إذا لم تفعل كذا وكذا كانت العواقب وخيمة, إذا لم تُراجع ستفشل إذا لم تهتمّ بدروسك وواجبك في المدرسة فلا أمل لمستقبلك إذا لم تَنَل الدرجة الأولى هذه السنة فهذا نذير فشل في المستقبل وهكذا فيظن ويتربى الولد على أن الأساس في هذه الدنيا هو العمل لأجلها, كل هذه الاهتمامات وكل هذه الجهود ستصُبّ في المستقبل لنيل شهادة عُليا ومركز مرموق ومكانة عالية ولا أُقلِّلُ من الشؤون الدنيوية ولكنها إذا طغت وصارت هي الأصل فهذه المصيبة وهي الطامة الكبرى ولكنّ الواجب على الأب أن يُربي ولده كذلك على العمل لأجل هذه العقيدة ولأجل هذا الدين ولأجل لا إله إلا الله وأن يتحمّل همّ الدعوة إلى الله عزّ وجل وأن يعيش لأمته لا أن يعيش لنفسه.
12- المراقبة الزائدة لتصرفات الولد إلى حدِّ فقد الثقة عند الطفل كتفتيش غرفته أو مَحِل تواجده غالباً في المنزل أو حقيبته المدرسية أو التَّصنُّت على المكالمات الهاتفية ويمكن معالجة هذه الأمور والبحث عنها ولكن بأسلوب تربوي لا تفقِد معها ثقة الولد بك كَأبٍ له تبحث عن مصلحته.
13- التأدب والأخلاق: يجب أن تكون له مكانة ولا تُهملها قبل أن تُعلِّم ولدك العلم ولو كان العلم شرعيّاً فالآداب والأخلاق قبل التحصيل مهم جداً. ولذلك قيل:
عَوِّد بنيك على الآداب في الصِّغَر كيما تَقَرَّ بهم عيناك في الكِبَرِ
فإنما مَثَل الآداب تجمعها في عنفوان الصبا كالنقش في الحَجَر
14- عدم المصارحة مع الولد وعدم سَعَة الصدر معه, فالطفل بحاجة ماسة إلى من يسمع إليه, بحاجة إلى من يشكو إليه همومه, بحاجة إلى من يستمع إليه, خصوصاً أنه حال الصِبا يظن أنه وحيد وأن الناس حواليه كبار فيشعر بصِغَر نفسه. ولذلك على الآباء أن يجلسوا مع الأبناء ويستمعوا إلى همومهم ويشاركوهم أحزانهم.
15- عدم الاهتمام بشؤون الأولاد خصوصاً إذا كَبُروا وكانوا بحاجة ماسة إلى نصائحك إلى توجيهاتك إلى مساعداتك المادية كاختيار الكُلية المناسبة أو الوظيفة المُعيَّنة أو اختيار الزوجة وربما أهمل الأب تزويج ولده خصوصاً البنات, فهنّ غالباً ينتظرن بفارغ الصبر حديث أبائهن لهنّ حول الزواج وما رأيكِ يا بُنية؟ ماذا قلتِ في فلان قد تقدّم لك؟ ومعلوم أن البنت سيأخُذها الحياء ومعلوم أيضاً أن إذنها صُماتها كما جاء في الحديث.
وإياك إياك أيها الأب أن تكون مانعاً من تزويج بناتك إلا من فئة مُعَينة أو طائفة معينة أو أصحاب الأموال أو السيارات الفارهة فأنت تتحمّلُ وِزر ابنتك وتتحمّل عناءها في الدنيا وتعبها إذا جاوزت سِنّ الزواج ولم تتزوج وكنت أنت السبب في ذلك!! وقد ذكر بعض الدعاة أن رجلاً مَنَع من تزويج ابنته حتى جاوزت سن الزواج، فلما حضرتها الوفاة دعَت أباها. فقالت: يا أبتِ، قل: آمين. فقال الأب: آمين. ثم قالت الثانية: يا أبتِ قل: آمين فقال: آمين, فقالت الثالثة كذلك. فقال أبوها: ولكن على ماذا آمين. قالت: حرمَك الله من الجنة كما حرمتني من الزواج!! وفاضت روحها. فانظر كم عاش تعاسة ذلك الأب؟ وكم تحمَّل من العذاب في حياته بعد موت ابنته؟ وكم نَدِم ولكن مع الأسف الشديد ولات حين مَنْدَم. وقصة أخرى كذلك أن رجلاً كان أباً لثلاث بنات , ومنع تزويجهن إلا من أصحاب الأموال أو الجاه. فلما حضرته الوفاة دعا بناته الثلاث, فقال لهنّ: أريد المسامحة منكنّ فقد أخطأت في حَقِكن إذ لم أُزوجكُن فقُلن بلسان واحد: لك ما شئت يا أبتِ إلا المسامحة!! نسأل الله العفو والعافية, فمات الرجل وبناته غاضبات عليه لأنه لم يقُم بحقهنّ خير قيام.
صور مشرقة من حياة السلف:
قالت أم معاوية بن أبي سفيان – ومعاوية وليد بين يديها – إن عاش ساد قومه ثم قالت: ثكلتُه إن لم يَسُد قومه.
وقالت أم سفيان الثوري لسفيان: يا بُني اطلب العلم وأنا أكفيك بمغزلي.
وكانت أم الشافعي خلفه رحمه الله , فقد وُلِد يتيماً فكفلته وعلّمته وشجعته حتى بلغ ما بلغ.
وكانت أم عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى تعينه على جميع أموره ويستضيء بآرائها – وهي أم عاصم بنت عاصم بن عمر بن الخطاب – وهناك نماذج كثيرة من ذلك.
السُبل المعينة على تربية الأولاد:
1- أولاً وقبل كلِّ شيء اختيار الزوجة الصالحة.
2- التضرع إلى الله عز وجل وسؤاله الذرية الصالحة. ربنا هب لنا من أزواجنا وذرِّياتنا قرة أعين ....
3- غرس المفاهيم الإيمانية والعقيدة الصحيحة في نفوس الأولاد منذ الصِغَر.
4- غرس الأخلاق الحميدة في نفوس الأولاد منذ الصغر وتنشئتهم على ذلك.
5- تعويدهم على الشجاعة والخشونة والإقدام كما كان السلف الصالح وقد تقدّم الكلام بالتفصيل على بعض هذه الأخلاق في باب أنواع التربية.
6- تربية الأولاد على الالتزام بأوامر الله عز وجل كالصلاة والصيام والصدق والتعود على المسجد وحلَقات تحفيظ القرآن الكريم... الخ.
تشجيع الميول والمواهب لدى الطفل وتشجيعه على ذلك فيما لا يخالف الشرع طبعاً ولذلك لا يشجِّع على التلفزيون وكرتون الأطفال والموسيقى والرسم لِذَوات الأرواح .... الخ ويُنهى عن ذلك كله بأسلوب تربوي شرعي.
التفريق بين تربية الأولاد والبنات في المعاملات والكلام واللبس... الخ، ذلك حتى لا يتخنّث الذكور ويَتَرجّل النساء والعياذ بالله تعالى.
ـــــــــــــــــــ(68/255)
بر الوالدين
...
...
1224
...
الأسرة والمجتمع
...
...
الوالدان
...
محمد بو سنه
...
...
عين النعجة
...
...
...
مبارك الميلي
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1 – بر الوالدين قرين التوحيد في كتاب الله 2 – فضل الوالدين 3 – الأم ثم الأب 4 – حق الوالدين والأدب معهما 5 – احاديث فضل بر الوالدين
الخطبة الأولى
روى البخاري ومسلم عن إبن مسعود رضي الله عنه قال: ((سألت رسول الله : أي العمل أحب الى الله؟ قال: الصلاة على وقتها، قلت ثم أي؟ قال: بر الوالدين، قلت: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله)).
بر الوالدين فريضة لازمة وواجب متحتم وعقوقهما حرام، وذنب عظيم، وقد جعل الله بر الوالدين قرين توحيده وعبادته سبحانه، وبيّن ما يجب لهما وما لا يحل فعله معهما فقال جل وعلا: وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولاً كريماً واخفض لهم جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيراً ولن يستطيع الأبناء والبنات مجازاة الآباء والأمهات على ماقاموا به نحوهم من الطفولة الى الرجولة، من عطف ورعاية وتربية إلا أن يجد الولد أباه مملوكاً فيشتريه فيعتقه كما جاء في الحديث عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((لايجزي ولد والده الا أن يجده مملوكاً فيشتريه فيعتقه)) فشكر المنعم واجب ولله سبحانه على عباده نعم لا تحصى كما قال تعالى: وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها فمن تلكم النعم، إن الله عز وجل خلقنا وأوجدنا وجعل سبحانه للوالدين نعمة الإنجاب والتربية الصالحة والعناية التامة بالأولاد، وأكبر الناس مِنَّة وأعظمهم نعمة على الإنسان بعد رسل الله والداه، اللذان جعلهماالله سببا لوجوده وأعتنيا به منذ كان حملاً إلى أن صار رجلاً، فأمه حملته شهوراً تسعاً في الغالب تعاني آلاماً من مرض ووحم وتقل، فإذا آن وقت الوضع وجاءها المخاض شاهدت الموت وقاست من الآلام ما الله به عليم، فتارة تموت وتارة تنجو، وليت الألم والتعب ينتهي بالوضع: يكن الأمر سهلاً، ولكن يكثر النصب ويشدد التعب بعده قال الله تعالى: حملته أمه كرهاً ووضعته كرهاً ثم ترضعه حولين كاملين فتقوم به مثقلة وتقعده به مثقلة تضيق أحشائها وقت حمله وتضعف أعضاؤها عند وضعه وإرضاعه، ثم بعد ذلك بكاء وصياح بالليل يحرم الوالدين النوم وكذلك بالنهار يقلق راحتهما، ومرض يعتري الولد من وقت لآخر يتعب قلبيهما يذرف دموعهما، تعهد من الأم لجسمه بالغسل ولثيابه بالتنظيف، ولفضلاته بالإزالة لا يوماً ولا يومين ولا شهراً ولا شهرين، ليلهما ونهارهما كله في متاعب ومشاق، وكثير ما يضحي الوالدين براحتهما في سبيل راحة الأبناء والبنات، والطفل يعرف أمه ويحبها قبل كل أحد، فاذا غابت صاح حتى تأتيه واذا أعرضت عنه دعاها وناجاها بما قدر عليه من كلام أو غيره، واذا أصابه شيء يؤلمه إستغاث بها وناداها، يظن أن الخير كله عندها ولا الشر يصيبه ما دامت تضمه على صدرها وترعاه بعينها وتدافع عنه بيديها، ولذلك فالأم مقدمة في الحضانة إذا فارقها زوجها ولم تتزوج حتى يميز ويختار من شاء منهما، كما جاء في حديث عبدالله بن عمر بن العاص أن أمرأته قالت: ((يا رسول الله إن ابني هذا كان بطني له وعاء، وحجري له حواء، وثديي له سقاء، وزعم أبوه أنه ينزعه مني، فقال رسول الله : أنت أحق به مالم تنكحي – مالم تتزوجي))، ثم الولد لا يحب بعد أمه إلا أباه، إذا دخل سر وبش به، وإن خرج تعلق به، واذا حضر قعد على حجره، واذا غاب سأل عنه وانتظره، فأي حب وإحترام بعد هذا، ولكن يا للأسف سرعان ما ينسى الجميل وينكر المعروف ويلتفت الى زوجته وأولاده وينسى أباه ولذلك لا يحتاج الآباء الى توصية بالأبناء إنما يحتاج الأولاد الى توصيتهم ببر الوالدين وتذكيرهم بواجبهم نحوهما.
ولقد أجاد من قال:
عليك يا إبن أخي قد أفنت العمرا
وقد تمرغت في أحشائها شهراً
سرت لما ولدت مولدها ذكراً
في حجرها تستقي من ثديها الدررا
منها ولا تشتكي نتنا ولا قذراً
خوفاً عليك وترخي دونك السترا
حتى استويت وصرت كيف ترى
ولا تدع قلبها بالقهر منكسراً
واحفظه لا سيما إن إدرك الكبرا
على ظهرك حج البيت واعتمرا
...
...
فلا تطع زوجة في قطع والدة
فكيف تنكر أماً بثقلك احتملت
وعالجت بك أوجاع النفاس وكم
وأرضعتك إلى حولين مكملة
ومنك ينجسها ما أنت راضعة
وقل هو الله بالمرات تقرؤها
وعاملتك بإحسان وتربية
فلا تفضل عليها زوجة أبداً
والوالد الأصل لا تنكر لتربيته
فما تؤدي له حقاً عليك ولو
فاللهم وفقنا لما وفقت إليه القوم، وأيقظنا من سنة الغفلة والنوم، وأرزقنا الاستعداد لذلك اليوم الذي يربح فيه المتقون، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين.
الخطبة الثانية
وبعد:
فقد فصَّل سبحانه وتعالى ما يجب علينا من الإحسان الى الوالدين فقال: إما يبلغن عندك الكبر أي اذا وصل الوالدان أو أحدهما الى الكبر، حال الضعف والعجز وصارا عندك في آخر العمر، كما كنت عندهما في أوله وجب عليك أن تحنو عليهما وتشفق عليهما وتلطف بهما وتعاملهما معاملة الشاكر لمن أنعم عليه، ويظهر الإحسان إلى الوالدين بأن تتبع معهما أموراً خمسة:
أولاً: ألا تتأفف من شيء تراه أو تشمه من أحدهما أو منهما مما يتأذى منه الناس، ولكن اصبر على ذلك منهما واحتسب الأجر عليه من الله جل وعلا كما صبرا عليك في صغرك واحذر الملل القليل والكثير، وعليك بالرفق واللين معهما والله لايضيع أجر من أحسن عملاً.
ثانياً: أن لا تنغص ولا تكدر حياتهما بكلام قبيح تزجرهما به فقد بلغنا من بعض من لايحفظون للوالدين حقوقاً ولا يعرفون لهما معروفاً ولا إحساناً، بلغنا عنهم أنهم يجرحونهما بكلام قبيح حتى بلغ بأحدهم أن أمه زارته في بيته فغلظ لها الكلام وفتح الباب وطردها، فالله المستعان ولا حول ولا قوة الا بالله.
ثالثاً: أن تقول لهما قولاً كريماً أي حسناً طيباً مقروناً بالإحترام والتعظيم مما يقتضيه حسن الأدب كأن تقول يا أبي ياوالدي يا أمي ولا تدعوهما بأسمائهما ولا ترفع صوتك أمامهما ولا تحدق فيهما بنظرك بل يكون نظرك إليهما نظر عطف ولطف وتواضع، أخرج إبن أبي حاتم عن عروة في قوله تعالى: وأخفض لهما جناح الذل من الرحمة قال: إن إغضباك فلا تنظر إليهما طويلاً، فإن أول ما يعرف به الغضب الرجل شدة نظرة إلى من غضب عليه. وسئل الحسن إلى أي شيء ينتهي إليه عقوق الوالدين؟ قال: أن يحرمهما ويهجرهما ويحد النظر إليهما.
رابعاً: أن تدعو الله أن يرحمهما برحمته الواسعة جزاء رحمتهما بك وجميل شفقتهما عليك.
خامساً: أن تتواضع لهما وتطيعهما فيما أمراك به مالم يكن معصية لله، وينبغي عليك أن تشتاق وترتاح كلما بذلت ما يطلبان منك من حطام الدنيا الفانية.
وعلى الجملة فقد أكد جل وعلا التوصية بالوالدين من وجوه كثيرة، وكفاهما أن جعل الإحسان اليهما مع توحيده سبحانه، وقد جاء في بر الوالدين أحاديث كثيرة من ذلك أن رجلاً جاء الى النبي يستأذنه في الجهاد معه فقال: ((أحي والداك؟ قال: نعم، قال: ففيهما فجاهد)) ومن ذلك ما رواه ابو هريرة رضي الله عنهما أن النبي قال: ((رغم أنف، ثم رغم أنف، ثم رغم أنف من أدرك أبويه عند الكبر أحدهما أو كلاهما فلم يدخل الجنة))، وعن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: أقبل رجل الى النبي فقال: أبايعك على الهجرة والجهاد وأبتغي الأجر من الله تعالى، فقال: ((فهل من والديك أحدٌ حي؟)) فقال: نعم بل كلاهما قال: ((تبتغي الأجر من الله تعالى)) قال: نعم بل كلاهما، قال: ((تبتغي الأجر من الله تعالى؟ قال: نعم، قال: فأرجع الى والديك فأحسن صحبتهما))، وفي رواية لأبي داود قال الرجل: جئت أبا يعك على الهجرة وتركت أبوي يبكيان فقال: ارجع اليهما فأضحكهما كما أبكيتهما، وعن أنس قال: قال رسول الله : ((من سره أن يمد في عمره ويزاد في رزقه فليبر والديه وليصل رحمه)).
وعن أسير بن جابر قال: كان عمر رضي الله عنه اذا أتى عليه أمراء اليمن سألهم أفيكم أويس بن عامر؟ حتى أتى إليه فقال: أنت أويس بن عامر؟ قال: نعم، قال: من مراد ثم من قرن؟ قال: نعم، قال: فكان بك برص فبرأت منه إلا موضع درهم؟ قال: نعم، قال: الك والدة؟ قال: نعم، قال: فإني سمعت رسول الله يقول: ((ياتي عليكم أويس بن عامر مع أمداد اليمن من مراد ثم من قرن: كان به برص فبرئ منه إلا موضع درهم له والدة يحوبها بر، لو أقسم على الله لأبره))، فإن إستعطعت أن يستغفر لك فافعل فاستغفر لي. فانظروا رحمكم الله إلى هذه المنزلة التي بلغها هذا البار بأمه حتى كان من شأنه أن يخبر عن المصطفى وأن يقول لعمر إن إستطعت أن يستغفر لك فأفعل، وانظر الى حوض عمر على البحث عن هذا الرجل البار ليطلب منه الإستغفار له.
ورأى إبن عمر رجلاً قد حمل أمه على رقبته وهو يطوف بها حول الكعبة فقال: يا ابن عمر أتراني جازيتها؟ قال: ولا بطلقة واحدة من طلقاتها ولكن أحسنت، والله يثيبك على القليل بكثير.
فاللهم وفقنا للإحسان الى الوالدين وجنبنا عقوقهما واغفر لهما وارحمهما كما أحسنا إلينا والحمد لله رب العالمين.
ـــــــــــــــــــ(68/256)