تربية الأولاد
...
...
3579
...
الأسرة والمجتمع
...
...
الأبناء
...
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
...
...
الرياض
...
21/1/1425
...
...
جامع الإمام تركي بن عبد الله
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- نعمة صلاح الذرية. 2- صلاح الذرية مطلب الأنبياء والصالحين. 3- ضرورة الدعاء للأولاد. 4- التربية بالقدوة الحسنة. 5- تعاهد الأولاد ومناصحتهم. 6- ثمرات صلاح الأولاد. 7- ضلال المجتمعات الكافرة وانتشار الجريمة فيها.
الخطبة الأولى
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عباد الله، صلاحُ الأبناء والبنات أمنيّةٌ للآباء والأمهات، صلاح الأولاد ذكورهم وإناثِهم نعمةٌ عظيمة ومنّة جليلة من رب العالمين. ما أسعدَ المسلم وهو ينظر إلى أولاده قد هداهم الله الطريقَ المستقيم ورزقهم الاستقامة على الدين والهدى، يحبهم ويحبونه، يودّهم ويودّونه، إن أمرهم أطاعوه، فهم يبرّون به، ويطيعونه، وينفّذون أوامره في طاعة الله، قرّت بهم عينه، وانشرح بهم صدرُه، وطابت بهم حياته، تلك نعمة عظيمة من الله. أولادٌ رُبُّوا تربية صالحةً، هُذِّبت أخلاقهم، حسُن سلوكهم، طابت ألفاظهم، حسُنت معاملتهم لربهم قبل كل شيء، ثم للأبوين، ثم للإخوان والجيران والأرحام والمسلمين عمومًا. رُبُّوا على مكارم الأخلاق وفضائل الأعمال، فصاروا عونًا للأبوين على كلّ ما أهمّهم من أمر دينهم ودنياهم.
أيّها المسلمون، ولعظيم هذا الشأن نرى أنبياءَ الله وخيرته من خلقه يسألون الله لذريَّتهم الصلاح والهداية، قال تعالى عن الخليل عليه السلام وهو يدعو ربَّه بتلكم الدعوات: رَبّ اجْعَلْنِى مُقِيمَ الصلاةِ وَمِن ذُرّيَتِى [إبراهيم:40]، أي: اجعل من ذريتي من يصلي ويزكي، وها هو زكريا عليه السلام ينادي ربه قائلاً: رَبّ هَبْ لِى مِن لَّدُنْكَ ذُرّيَّةً طَيّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاء [آل عمران:38]، وها هم المؤمنون كما أخبر الله عنهم أنهم يقولون في دعائهم: رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْواجِنَا وَذُرّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا [الفرقان:74]، وها هو الرجل الصالح الذي أنعم الله عليه بنعمه يتذكَّر نعم الله عليه ويقول شاكرًا لنعم الله شاكرًا لآلائه وإفضاله: رَبّ أَوْزِعْنِى أَنْ أَشكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِى أَنْعَمْتَ عَلَىَّ وَعَلَى والِدَىَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِى فِى ذُرّيَّتِى إِنّى تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنّى مِنَ الْمُسْلِمِينَ [الأحقاف:15].
أيها المسلم، فأولادك من ذكورٍ وإناث بأمسِّ الحاجة إلى دعوات منك إلى الله أن يهديَهم صراطه المستقيم. الجأ إلى فاطر الأرض والسموات، وادعوه آناء الليل وأطراف النهار أن يصلحَ لك عقِبك، وأن يعيذهم من مكائد شياطين الإنس والجن، وأن يحفظهم بالإسلام، ويرزقهم الثباتَ والاستقامة عليه، فتلك قرة أعين المؤمنين، وَالَّذِينَ ءامَنُواْ وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مّنْ عَمَلِهِم مّن شَىْء كُلُّ امْرِىء بِمَا كَسَبَ رَهَينٌ [الطور:21]. فالآباء يوم لقيامة قد تعلو منزلتهم وإن ضعُفت بأعمالهم إكرامًا من الله للأبناء الصالحين، وقد يرفع الله منزلة الأبناء إكرامًا للآباء الصالحين إذا كان الإيمان جامعًا للجميع.
أيها المسلم، أولادُك بأمسِّ الحاجة إلى دعائك، وبأمسِّ الحاجة إلى رعايتك، لتُربِّهم تربيةً صالحة، يسعدون بها في حياتهم وآخرتهم، وتسعَد أنت أيضًا بذلك، ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَّ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6]. ومع دعاء الله، ومع الالتجاء إلى الله، ومع التضرُّع بين يدي الله فاعلم ـ أيها الأب الكريم ـ واعلمي ـ أيتها الأم الطيبة ـ أن تربيةَ الأولاد وصلاحَهم واستقامتهم بعد إرادة الله متوقفٌ على حركاتِ وسكنات الأبوين، على أقوالهم وأفعالهم، فالأبناء والبنات من الصِّغر يرقبون أخلاقَ الأبوين ويرقبون كلامَهم وتصرّفاتهم كلَّها، يرقبون أحوال الأبوين، فالأبناء والبنات إن تربَّوا في أحضان أب يخاف الله وأمّ تخشى الله نشؤوا على ذلك الخلق الكريم.
أيها الأب الكريم، إنَّ أولادك مرآةٌ يعكسون أخلاقك وأعمالك، إن رأوك تعظِّم الله وتخافه عظَّموا الله جل وعلا، إن رأوك تخشى الله وتتَّقيه خَشَوا الله واتقوه في أعمالهم بتوفيق من الله، إن رأوك ذا محافظة على الصلوات الخمس في أوقاتها، إن رأوك على هذه الصفة تأسَّوا بك فحافظوا عليها، إن رأوك معظِّمًا لأبيك وأمك فإنهم سيعاملونك كذلك، إن رأوك تجالس ذوي التقى والصلاح بعيدًا عن أهل الإجرام والإفساد نفروا من تلك الشلل الفاسدة والمجتمعات الآسنة، إن رأوا منك كلمات طيبةً وألفاظًا حسنة كانت ألفاظهم كذلك، وإن سمعوا منك السِّباب واللعان والقبح والفحش في الأقوال سمعتَ منهم مثل ذلك وأشدّ.
أيها الأب الكريم، لا بدّ من عظةٍ للأبناء ونصيحة لهم ورسم الطريق الصالح ليسلكوه، اسمع الله يحدثنا عن لقمان الحكيم: وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يابُنَىَّ لاَ تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13]، يحذِّره من شركٍ بالله، ويأمره بإخلاص الدين لله، ثم يوجِّهه للأخلاق الكريمة: يابُنَىَّ أَقِمِ الصلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأمُورِ [لقمان:17]، ويحذِّره من الأخلاق السيئة: وَلاَ تُصَعّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلاَ تَمْشِ فِى الأرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ وَاقْصِدْ فِى مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الأصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ [لقمان:18، 19]، فهو يحذره من الكِبْرِ والعُجْبِ والتعالي على الناس بكل أحواله، ويبين له أيضًا أن الله مراقب عليه عَالمٌ بسره وعلانيته: يابُنَىَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِى صَخْرَةٍ أَوْ فِى السَّمَاواتِ أَوْ فِى الأرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ [لقمان:16]، تلك موعظةٌ عظيمة وجَّهها لقمان الحكيم لابنه، بينها الله لنا في كتابه، لنتأسى بتلكم الأخلاق وبأولئك الأقوام في أقوالهم وأعمالهم.
أيّها المسلم، الأبناء والبناتُ أمانة في العنق سيسألك الله عنهم يوم القيامة، إن رعيتهم حقَّ الرعاية أصبت، وإن خُنت الأمانة وضيَّعت فالله لا يحبّ الخائنين.
أيها المسلم، عوِّد الأبناء والبناتِ على كلِّ خير، عوّد الأولاد على المحافظة على المسجد، عوِّدهم على إقام الصلاة والعناية بها، حُثَّهم على مكارم الأخلاق، حثَّهم على البر والصلة، حُثّهم على إفشاء السلام وطيب الكلام، رغِّبهم في حسن المعاملة، حبِّب الصدق إلى نفوسهم، وكرّه الكذب إلى نفوسهم، حبِّب إليهم الأقوال الطيبة، وكرّه لهم الأقوال البذيئة، علّمهم حسنَ التعامل مع الآخرين؛ مع الأهل ومع الجيران والأرحام، حثّهم على المكارم والفضائل لينشؤوا النشأة الصالحة الطيبة المباركة.
أيها المسلم، هؤلاء الأولاد متى أحسنتَ تربيتهم نِلتَ بهم السعادة في الدنيا والآخرة، واسمع نبيَّك إذ يقول: ((إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلاَّ من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفَع به، أو ولد صالح يدعو له))[1]. فأنت في ظلمات الألحاد تصل إليك دعواتُ أولئك الأبرار الأخيار، يسألون الله لك ويدعون الله لك، وأنت في لحدك قد انقضى عملك، وأصبحت فريدًا في لحدك وحيدًا، تتمنَّى مثقال ذرة من خير، وإذا الدعوات الصادقة الصادرةُ من الأبناء والبنات الذين طالما غرستَ الفضائل في نفوسهم، وحبَّبت الإيمان إلى قلوبهم، فدعواتهم تصعد إلى الله لك بالمغفرة والرضوان والتجاوز، فما أنعمها من حالٍ وما أطيبه من فضل، هكذا التربية الصالحة ونتائجها الحميدة وثمارها المباركة.
فلنعتنِ ـ إخوتي ـ بأبنائنا وبناتنا، ولنبذل الجهدَ قدر الاستطاعة وربّك حكيم عليم، يهدي من يشاء، ويضلّ من يشاء، لكن على العبد بذلُ السبب، عليه القيام بالواجب، عليه أن يطهِّر بيته مما يخالف شرع الله. كيف يطمع في صلاح الأبناء والبنات من ترك البيتَ لا خير فيه، أو أدخل فيه المعاصي والفجور والمجون وشربَ المسكرات والعياذ بالله وترويج المخدرات والجلوس مع من لا خير فيهم ومن هم أهل الشقَاء والبلاء؟!
فاحذر ـ يا أخي ـ تلك الأمور السيئة، طهِّر بيتك ومجتمعك، طهِّر مجالسك من السوء، لينشأَ الأولاد والبنات على هذه العفة والصيانة والكرامة.
أيتها الأمّ المسلمة، ربي البناتِ التربية الصالحة، ربيهم على الأخلاق، ربي بناتك تربيةً صالحة، أعدِّيهن للمستقبل الطيّب، وربيهن على الأخلاق والمكارم، وأبعديهن عن السوء والسفور وما لا خير فيه. حذِّروا الأولادَ والبناتِ من بعض القنواتِ الفاجرة الظالمة التي تنشر السوءَ والفساد، وتحارب الأخلاق والفضيلة، وتبعد الأمة عن دينها وعن أخلاق إسلامها.
فلنتَّق الله في أنفسنا، ولنتّق الله في أولادنا، ولنتعاون جميعًا على البر والتقوى. أسأل الله أن يصلح لنا ولكم العاقبة، وأن يعيذنا من شرور أنفسنا ومن الشيطان وشركه، وأن نقترف على أنفسنا سوءًا أو أن نجره إلى مسلم.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه مسلم في الوصية (1631) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحبُّ ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلَّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عباد الله، إن الله يقول في كتابه العزيز: إِنَّا عَرَضْنَا الأمَانَةَ عَلَى السَّمَاواتِ وَالأرْضِ وَالْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً [الأحزاب:72]. فالظلم والجهل متمكِّن في الإنسان، لا يرفع الجهلَ إلاَّ علم، ولا يرفع الظلمَ إلاَّ الإيمان الذي يدعو إلى العدل.
إنَّ البشر إذا فقدوا شرع الله ضلّوا سواء السبيل، وإذا خلَوا من التمسّك بالدين صاروا شرّ الخلق وأسوأهم، يقول الله جل وعلا: وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مّنَ الْجِنّ وَالإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ ءاذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ [الأعراف:179]، ويقول جل وعلا: أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً [الفرقان:44].
فبيَّن أن الذين فقدوا شرعَ الله هم شرٌّ حتى من البهائم، البهائم أهدى منهم سبيلا. هذا الإنسان الذي فقد الدين فقدَ تعاليمَ الإسلام عاد قاسيَ القلب، غليظ الطبع، لا يبالي بأيِّ إنسان كائنًا من كان. لماذا؟ لأنه في حياته لا دين يركن إليه، ولا مبدأ يؤمن به، بل هو مجرِم بطبيعته، ظالم بنفسه، سيئ فقَد الإيمان، فقدَ الدين، فكلُّ شر وبلاء هو مصدره، وهو منطلق من ذلك؛ لأن الإسلام هو الذي يلين القلوب، ويجعلها تحترم الدماء والأموالَ والأعراض، لكن فاقد الدين لا قيمة للإنسان عنده، الدماءُ وسفكها قلَّت أو كثرت أمر عادي وطبيعي، لماذا؟ لأن هذه الفئة لا علاقةَ لها بالإسلام، إذًا فالإجرام مهما تضاعف وتعاظم فليس غريبًا أن يصدر منهم.
أيها المسلمون، تسمعون دائمًا وتنقل الأخبار لنا أحداثًا جسامًا ودماءً تراق ودمارًا كثيرًا وشيئًا يهول الإنسان ويقضّ مضجعه؛ من دماء تسفك بلا مبرِّر ولا سبب، لماذا؟ لأن هذه الأمة هي التي صنعت أسلحةَ الدمار، وأنشأتها بنفسها، فعاد شرُّها على مجتمعها، وعاد سلاحها على نحورها. صنعت أسلحةَ الدمار، وتنافست في صنع أسلحة الفتك بالبشرية، وقامت شركاتُ التسليح تروِّج لمنتجاتها وأسلحةِ دمارها بين العالم، بل تجعلها رخيصةً بمتناول أيِّ فرد، وتربي أجيالاً على هذا الإجرام، تربي فئاتٍ على هذا الإجرام وعلى هذا الفساد، لا يهنأ لها عيش حتى ترى الفساد منتشرًا في الخلق، والله جل وعلا قال عن أعدائه اليهود: وَيَسْعَوْنَ فِى الأرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ [المائدة:64]، فكلّ فساد وظُلم إنما مصدره عندما يُفقد الإيمان، الإيمان الصحيحُ الذي بعث الله به محمدًا هو الدين الذي أرسى دعائمَ العدل، وبسط الرحمةَ والخير، فإن الله قال لنبيه: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لّلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107]، فالرحمةُ التي بُعث بها محمد هي الرحمة التي عاش الناس في ظلالها في عدل الإسلام وأمان الإسلام، الدماءُ والأموال والأعراض محترمة بكل الوجوه، لماذا؟ لأن دين الإسلام دين الرحمة، دينُ العدل، دين الخير، دينٌ أهله رقةٌ في قلوبهم ومحبة الخير لأنفسهم وللبشرية أجمع، لكن هذا العدوان والظلم إنما مصدره من أمة ضائعة لا دينَ ولا شرع يحكمها، فهي ضالة مضلَّة، هذه أسلحة الدمار التي صنعها الأعداء وسخَّروها وتنافسوا في إبداعها وتسابقوا أيّهم الذي يصنع سلاحًا مدمِّرًا، وأيهم الذي ينشر الجريمة، وأيهم الذي يفتك بالبشرية، وأيهم المستطيع لأن [يجعل البشر] مجالاً لتدريب الأسلحة، واختبار لقوتها من ضعفها، وتأثيرها من عدمه.
هكذا الأعداء، ولهذا نبيّنا أخبرنا بأنّ هذا الأمر سيقع في آخر الزمان، عندما يُرفع العلم ويثبت الجهل ويكثر الهرج أي: القتل[1]، وأخبرنا نبينا : في آخر الزمان يقتل القاتل، لا يدري فيم قتَل، ولا يدري المقتول لماذا قُتِل[2]، لماذا؟ لأنها شرور عظيمة عامة، القاتل الذي ينفِّذ ما أمِر به لا يدري لأيِّ سبب فعل، والمقتول الذي ذهب لا يُدْرَى لأيِّ شيء ذهب. إنَّما هي فتنة، وإنما هي مصائب، وإنما هي بلايا، إنما هي أحداث جسام، عندما يسمعها الإنسان ويتصوّرها يرى العجب العُجَاب، في دول تدَّعي الحضارة والرقيَّ في نفسها، لكن الله حكيم عليم فيما يقضي ويقدر.
إنما المسلم لا يرضى بذلك، ولا تقرُّ عينه بذلك؛ لأنه يعلم أن دينَ الإسلام يرفض كلَّ الإجرام على اختلافه، وعلى وقوعه في أي البشرية كان، إذ الظلم في الإسلام محرَّم. ديننا دينُ الإسلام لم يكن سفّاكًا للدماء، ولا حريصًا على ذلك، بل كان حريصًا على حقنِ الدماء ما وجد لذلك سبيلا، كلُّ ذلك لأن دين الإسلام دين الرحمة، دين العدل، دين الخير، الدين الذي يصلِح البشرية في حاضرها ومستقبلها.
عندما فقدت معظمُ البشرية هذا الدينَ وهذا النور العظيم رأينا ما وقع، ونعوذ بالله من الشرور الآتية والمستقبلة. فإن المسلم حينما يتأمّل هذه الجرائم الشنيعة يعلم أن هناك فئةً من الناس قاسية قلوبهم، غليظة طباعهم، فاسدًا تصوّرُهم، إنما يطمئنون ويرتاحون عندما يدبِّرون هذه المؤامرات الدنيئة، وعندما تقع هذه الجرائم الكبيرة التي يذهب ضحيَّتها في لحظة من اللحظات مئات من البشر بلا سببٍ ولا مبِّرر ولا داعي، لكنها والعياذ بالله دليل على عُمق الجرم في النفس، وبعدهم عن الهدى والخير.
شريعةُ الإسلام التي عاش المسلمون في ظلّها قرونًا عديدة كان العدل والرحمة والخير يسود البشرية، فالدماء محترمة ((لا يحَلّ دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة))[3]، وأن من قتل نفسًا فكأنما قتل الناس جميعًا، ومن حافظ على حياة نفس واحدة فكأنما أحيا الناسَ جميعًا، فاحتُرمت دماء الأمة مسلمِها ومعاهَدها، احترِمت في الإسلام وروعيَت حقوقُ البشرية جمعاء، هكذا عدالة الإسلام، وهكذا حقوق الإنسان في الإسلام، كلُّها الخير والعدل والهدى، أما ما نسمعه الآن وما تحمِله لنا وكالات الأنباء من هذه الجرائم المتعدِّدة التي أصبح الإنسانُ لا يأمن في جوّ ولا بحر ولا أرض إنما هي والعياذ بالله نتيجة تلك القلوبِ القاسية المجرمة الآثمة التي لا ترتبط بأيّ دين، ولكن تريد بثَّ الفساد في العالم، أعاذنا الله وإياكم من الفتن ما ظهر منها وما بطن، وطهَّر مجتمعات المسلمين من كلِّ سوء وحفظهم من كلّ بلاء، إنه على كلّ شيء قدير.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أنّ أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله على الجماعة، ومن شذ شذ في النار.
وصلوا ـ رحمكم الله ـ على نبيكم محمد امتثالاً لأمر ربكم، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىّ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن الخلفاء الراشدين...
[1] أخرجه البخاري في العلم (85)، ومسلم في الأيمان (157) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[2] أخرجه مسلم في الفتن (2908) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[3] أخرجه البخاري في الديات (6878)، ومسلم في القسامة (1676) عن ابن مسعود رضي الله عنه.
ـــــــــــــــــــ(68/55)
ظاهرة التسوّل
...
...
3629
...
الأسرة والمجتمع
...
...
قضايا المجتمع
...
أحمد المهنّا
...
...
الرياض
...
...
...
جامع أحمد البدّاوي
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- حقيقة المال. 2- ظاهرة التسول: أسبابها وعلاجها. 3- ذم مسألة الناس. 4- عواقب سؤال الناس.
الخطبة الأولى
أما بعد: عباد الله، اتقوا الله حق تقاته، وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ [البقرة:281].
أيها المسلمون، لقد خلق الله الإنسان في هذه الدنيا وكرّمه أحسن تكريم، وقوّمه أحسن تقويم، ولقد جاءت الشريعة المطهّرة من لدن حكيم عليم، عالم بأسرار الكون وما يصلح النفس البشرية وما ينفعها في معاشها وفي معادها، وهو الذي وعد بقوله جل وعلا، قوله الحق ووعده الصدق: وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ [الطلاق:2، 3].
عباد الله، لا للمال خلِقنا، ولا لاتخاذه هدفًا أسمى أمرنا، وليس المال خيرًا محضًا فنقصر جلّ تفكيرنا عليه، بل ولا شرًّا محضًا فنجعل قوانا على التخلّص منه، إنما المال يكون خيرًا إذا استُغلّ في أوجه الخير، ويكون شرًّا وأعظم به من شرّ إذا لم يرقب صاحبه في جمعه إلاً ولا ذمّة.
أما شرّ المال إذا دِيس به كرامة الإنسان، فكم وئِد من أجل المال من فضيلة وديس من كرامة. روى الإمام أحمد والترمذي في حديث حسن قول النبي : ((ما ذئبان جائعان أرسِلا في زريبة غنم بأفسدَ لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه)).
فاتقوا الله يا عباد الله، اتقوا الله في أموالكم، فإن أخذ المكاسب الخبيثة والمصارف المحرّمة شدّة حساب وسوء عقاب.
أيها المسلمون، إن سؤال الناس مذلّة وضعة، والمؤمن عزيز غير ذليل، وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ [المنافقون:8].
عباد الله، لقد ظهر في مجتمعنا فئة من الناس تسأل الناس إلحافًا، اتخذت ذلك حرفةً ووسيلة لجمع المال، إنه التسوّل الذي يُعتبَر في بعض البلاد جريمة يُعاقب عليها صاحبها، فإذا كان المتسوّل صحيح البدن أصبحت هذه الطريقة عنده وسيلة من وسائل كسب المال، بل هي وسيلة مريحة يجني بها صاحبها المال الكثير دون عناء أو مشقة.
في إحدى الدول عُمِلت إحصائية لهؤلاء الصنفِ من الناس، فماذا خرجت النتيجة؟
خرجت أن دخل بعضهم شهريًا قرابة العشرة آلاف، وأن ما يقرب من تسعين في المائة ليسوا فقراء، لقد أصبح الكثير منهم مبدعًا في التسوّل، كان له تطوير مقنِع، آلات ترى أن أحدهم يحمل أوراقًا طبّية تبيّن للناس أنه يعاني من أمراض مزمِنة، وأنه محتاج فقط إلى قيمة الدواء، وتجد الآخر يجمع تبرّعات لبناء مسجد أو مدرسة أو نحو ذلك.
وإليكم هذه القصة: في شهر رمضان الماضي قام رجل وادعى في المسجد أنه رئيس لجامعة إسلامية في أحدى الدول، يحمل معه مخططات لبناء تلك الجامعة، وأرفق معها خطابات وتزكيات، ومعه أوراق تحدّد تكلفة البناء، ويحمل مستندات، وأن منهج هذه الجامعة سلفيَّ، يدعو إلى التوحيد وإلى محاربة البدع وإلى العناية بالقرآن الكريم، وبعد الإطلاع على هذه الأوراق تبيّن لهذا المطّلع أن هذه الأوراق مزوّرة، وأن القائم على جمع التبرّعات والذي يزعم أنه رئيس لهذه الجامعة يعمل سبّاكًا في إحدى المدن، ليس له أي علاقة في مثل هذه الأعمال الخيرية، ومع الأسف تجد أن بعض الناس يتعاطف مع هؤلاء، ويستغلّون طيبة البعض، تجد من يعطيهم دون تدقيق أو تحقيق أو سؤال.
إن الواجب على الجميع عدم التساهل مع هؤلاء وأن لا نتسامح معهم، بل يجب إبلاغ الجهات المعنية بهم والتأكد من هويّتهم. والله، إن بعضهم يلعب بتلك الأموال القمار، والبعض الآخر يتاجر بها في المخدّرات. وقد يظهر لك أنه محتاج وأنه مسكين، ولو أعطيت أحدهم طعامًا أو شرابًا ما قبله.
عباد الله، إن التسوّل إحدى ظواهر الخلط في المجتمعات، ولا يخلو مجتمع مهما كان تقدّمه حتى في أوربا وأمريكا، لا يخلو مجتمع من هذه الظاهرة، وما علموا أن هذه المهنة تؤثّر على كرامة الإنسان.
إن التسوّل قد يدفع الأطفال إلى التسرّب من المدرسة، ويعرّضهم إلى مظاهر من الاستغلال، بل فيه تعريض لهم إلى مخاطر الانحراف والإجرام.
فلاحظ أنهم يتواجدون في الأسواق وعند أبواب المساجد وعند إشارات المرور، يستخدمون أساليب في استعطاف الناس من ارتداء الملابس البالية أو حمل الأطفال، والغريب أن هؤلاء يتمتعون بصحة جيّدة، ولا أدلّ على ذلك وقوفهم في شدّة الحرّ عند إشارات المرور.
ثم بعد ذلك قامت دراسة ميدانية لهؤلاء ووُجد أن من أهمّ أسباب التسوّل البطالة ثم الحاجة إلى العائد المغري غير المكلِف.
أما حكم التسوّل فقد حرّم العلماء التسوّل وسؤال الناس بغير ضرورة أو حاجة مهمّة، ثم قالوا: إن الأصل فيه التحريم، لأنه لا ينفكّ عن ثلاثة أمور محرّمة:
الأول: إظهار الشكوى من الله تعالى؛ إذ السؤال إظهار للفقر، وذكر لقصور نعمة الله تعالى، وهو عين الشكوى.
والثاني: أن فيه إذلال السائل نفسَه لغير الله تعالى.
والثالث: أنه لا ينفكّ عن إيذاء المسؤول غالبًا.
وقال ابن القيم رحمه الله: "إن المسألة في الأصل حرام، وإنما أبيحَت للحاجة والضرورة؛ لأنه ظلم في حق الربوبية، وظلم في حق المسؤول، وظلم في حق السائل".
إن الإلحاح على السؤال ينافي حال الرضا ووصفه، ولقد أثنى الله عز وجل على الذين لا يسألون الناس إلحافًا فقال جل وعلا: يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا [البقرة:273]، قال ابن عباس رضي الله عنهما: (من كان عنده غداء لا يسأل عشاءً، وإذا كان عنده عشاء لا يسأل غداءً).
والآية الكريمة من سورة البقرة اقتضت ترك السؤال مطلقًا، لأنهم وُصِفوا بالتعفّف والمعرفة بسيماهم دون الإفصاح بالمسألة؛ لأنهم لو أفصحوا بالسؤال لم يحسبهم الجاهل أغنياء.
ثبت في الصحيحين من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، أنه قال: قال رسول الله : ((ما يزال الرجل يسأل الناس حتى يأتي يوم القيامة ليس في وجهه مزعة لحم))، وفي مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله قال: ((ليس المسكين بهذا الطوّاف الذي يطوف على الناس، فتردّه اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان))، قالوا: فما المسكين يا رسول الله؟ قال: ((الذي لا يجد غِنى يغنيه، ولا يُفطَن له فيتصدَّق عليه، ولا يسأل الناس شيئًا))، وفي البخاري عن الزبير عن النبي أنه قال: ((لأن يأخذ أحدكم حبله، فيأتي بحزمة من الحطب على ظهره، فيبيعها فيكفّ الله بها وجهه خير له من أن يسأل الناس، أعطوه أو منعوه))، إن جمع حزمة من الحطب ـ ممّا رغب عنه الناس ـ أو من كلأ مباح، يحمله الرجل على ظهره، ويبيعه بدرهم أو درهمين، يحفظ بذلك على نفسه كرامتها، ويحفظ عزّها، ويقي وجهه من ذلّ السؤال، خير له من أن يسأل الناس، أعطوه أو منعوه.
قال فيما رواه ابن مسعود رضي الله أنه قال: ((من أصابته فاقة فأنزلها بالناس لم تُسدَّ فاقته، ومن أنزلها بالله أوشك الله بالغنى، إما بموت عاجل أو غنى عاجل)) رواه أبو داود، ورواه الترمذي وقال: "حديث حسن صحيح".
لقد سمع عمر رضي الله عنه سائلاً يسأل بعد المغرب فقال لرجل من القوم: قم عشِّ هذا الرجل، فعشاه، ثم سمعه ثانية ثم قال: ألم أقل لك عشِّ الرجل؟! فقال: يا عمر، قد عشيتُه، فنظر عمر فإذا تحت يده مخلاة مملوءة خبزًا، فقال له عمر: لست سائلاً، ولكنك تاجر، ثم أخذ المخلاة ونثرها بين يدي إبل الصدقة، ثم ضربه بالدرّة وقال له: لا تعُد.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا [البقرة:273].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: عباد الله، فعن قبيصة بن مخارق الهلالي رضي الله عنه، قال: تحمّلتُ حمالة ـ أي: دية أو غرامة يحملها الإنسان بسبب الصلح بين الناس ـ فأتيت رسول الله أسأله فيها، فقال له: ((أقم حتى تأتينا الصدقة فتأمر لك بها))، ثم قال: ((يا قبيصة، إن المسألة لا تحلّ إلا لأحد ثلاثة: رجل تحمَّل حمالة فحلّت له المسألة حتى يصيبها ثم يمسك، ورجل أصابته جائحة اجتاحت ماله فحلّت له المسألة حتى يصيب قوامًا من عيش ـ أو قال: ـ سدادًا من عيش، ورجل أصابته فاقة حتى يقول ثلاثة من ذوي الحجى من قومه: لقد أصابت فلانًا فاقة فحلّت له المسألة حتى يصيب قوامًا من عيش ـ أو قال: ـ سدادًا من عيش، فما سواها من المسألة ـ يا قبيصة ـ سحت يأكلها صاحبها سحتًا)) رواه الإمام مسلم.
ولما جاء حكيم بن حزام رضي الله عنه إلى النبي سأله فأعطاه، ثم قال: سألته فأعطاني، ثم قال: ((يا حكيم، إن هذه المال خضرة حلوة، فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارَك له فيه وكان كالذي يأكل ولا يشبع، واليد العليا خير من اليد السفلى))، قال حكيم رضي الله عنه: فقلت: يا رسول الله، والذي بعثك بالحق لا أرزأ أحدًا بعدك شيئًا حتى أفارق الدنيا، وكان أبو بكر رضي الله عنه يدعو حكيمًا إلى العطاء فيأبى، ثم إن عمر دعاه ليعطيه فأبى أن يقبل منه شيئًا، ثم قال عمر: إني أشهدكم ـ أيها المسلمون ـ على حكيم أني أعرض عليه حقّه من هذا الفيء فيأبى أن يأخذه، فلم يرزأ حكيم أحدًا من الناس بعد رسول الله حتى توفيّ. حديث متفق على صحته.
أيها المسلمون، إن النصوص الدالة على ذم التسوّل كثيرة، ولا صحّة لما يستدلّ به بعض العوام: "لو صدق السائل ما أفلح من ردَّه".
فلا تحسبنّ الموت موت البلى فإنما الموت سؤال الرجال
كلاهما موت ولكن ذا أشدّ من ذاك لذل السؤال
يكفي ـ يا عباد الله ـ أن التسوّل يورث الذلّ والهوان في الدنيا والآخرة، وأن هذا العمل عمل دنيء تمجّه الأذواق السليمة، وأن فيه دلالة على دناءة النفس وحقارتها.
فعلينا جميعًا ـ يا عباد الله ـ أن تحذّر أنفسنا من هذه، وأن تحارب هذه الظاهرة بجميع ما نملك.
هذا وصلوا على النبي المصطفى والرسول المجتبى فقد أمرنا الله جل وعلا أن نصلي عليه فقال: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىّ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلِّم وزد وبارك على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء..
ـــــــــــــــــــ(68/56)
حق الوالدين
...
...
3631
...
الأسرة والمجتمع
...
...
الوالدان
...
عكرمة بن سعيد صبري
...
...
القدس
...
28/1/1425
...
...
المسجد الأقصى
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- دروس في بر الوالدين من آيات سورة الإسراء. 2- الرسول يؤكد على عظم حق الوالدين. 3- التحذير من العقوق وبيان جزائه في الدنيا والآخرة. 4- التحذير من سماسرة الأرض الذين يبيعون أرض فلسطين والقدس لليهود.
الخطبة الأولى
أما بعد: فيقول الله عز وجل في سورة الإسراء: وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِى صَغِيرًا [الإسراء:23، 24]، صدق الله العظيم.
أيها المسلمون، هاتان الآيتان الكريمتان تشيران إلى معان إيمانية سامية أذكر بعضًا منها:
أولاً: يتوجب على الأبناء الإحسان إلى الوالدين، وبخاصة حين بلوغ أحدهما أو كليهما الكبر، ويلاحظ أن الإحسان إليهما قد ورد مباشرة في القرآن الكريم بعد ذكر عبادة الله رب العالمين، وذلك لبيان أهمية طاعة الوالدين. ومعنى وَقَضَى رَبُّكَ أي: أمر وحكم، وهناك آية كريمة أخرى تؤكد هذا المعنى، فيقول سبحانه وتعالى في سورة النساء: وَاعْبُدُواْ اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَانًا [النساء:36].
ثانيًا: النهي عن التأفف والتبرم من قِبل الابن أمام والديه لأي سبب من الأسباب يراه منهما، وينبغي على الابن التصبر والتحمل لما يصدر عنهما. وماذا نقول ـ يا مسلمون ـ فيمن يشتم أباه أو أمه، بل ويمد يده عليهما بالضرب؟! فالإثم أشد وأشد، واللعنة تنزل على الابن العاق في الدنيا وفي الآخرة.
أيها الأبناء، أيتها البنات، أما النقطة الثالثة التي أشارت إليها هاتان الآيتان الكريمتان، فهي تحريم زجر الأبوين بأي كلام ينغّص عليهما أو يجرح شعورهما.
رابعًا: يتوجب على الابن أن يقول لهما قولاً حسنًا طيبًا مقرونًا بالاحترام والتقدير والتبجيل.
خامسًا: ينبغي على الابن أن يتواضع لهما تواضعًا مقرونًا بالرحمة والرأفة.
سادسًا: يتوجب على الابن أن يدعو لهما بالرحمة في حياتهما وبعد مماتهما عرفانًا بالجميل.
أيها المسلمون، أيها الأبناء، أيتها البنات، لقد تناولت موضوع بر الوالدين والنهي عن عقوقهما لما نشاهد ونلمس من تزايد لحالات العقوق، وما يترتب على ذلك من سلبيات كثيرة لا تخفى على أحد منكم، نتيجة تفكك المجتمع والانجراف نحو الدنيا ومفاتنها، وتحكم المقاييس الفردية في تصرفات معظم الناس.
أيها الأبناء، أيتها البنات، ينبغي أن يعلم أن بر الوالدين من أوجب الواجبات على الأبناء والبنات، ففضل الوالدين على الابن عظيم، ولا يستطيع الابن أن يوفي حقهما، ويبدو هذا واضحًا فيما ثبت في السنة، ففيها أن رجلاً جاء إلى الرسول فقال: يا رسول الله، إني حملت أمي على عنقي فرسخين في رمضاء، لو ألقيت فيها بُضعة من اللحم لنضجت، فهل أديت شكرها؟ فقال: ((لعله أن يكون بطلقة)).
وقد قدر الفقهاء مسافة الفرسخ بثلاثة أميال، وعليه يكون الفرسخان ستة أميال وكان ذلك في يوم شديد الحر، فالابن الذي حمل على عنقه أمه مسافة ستة أميال في يوم شديد الحر لا يوازي ذلك طلقة واحدة حينما تلد الأم ابنها.
أيها المسلمون، أيها الأبناء، أيتها البنات، إن من حقوق الوالدين على الأبناء الإنفاق عليهما ومد يد العون لهما، فقد ورد أن ابنًا اشتكى إلى الرسول أن أباه يأخذ من ماله، فدعا رسول الله الأب، فماذا كانت المفاجأة يا مسلمون؟ الأب شيخ كبير السن يتوكّأ على العصا، فسأله رسول الله عليه الصلاة والسلام عن ذلك، فقال الأب: إن ابني كان ضعيفًا وأنا قوي، وكان فقيرًا وأنا غني، فكنت لا أمنعه شيئًا من مالي، واليوم أنا ضعيف وهو قوي، وأنا فقير وهو غني، وبخل علي بماله، فبكى رسول الله صاحب القلب الرحيم الرؤوف، وقال عليه الصلاة والسلام للابن: ((أنت ومالك لأبيك))، أي: من حق الأب أن يأخذ قدر حاجته من مال ابنه، وفي حديث نبوي شريف آخر: ((أولادكم من أطيب كسبكم، فكلوا من أموالهم)).
أيها المسلمون، أيها الأبناء، أيتها البنات، إن من حقوق الوالدين أيضًا على الأبناء والبنات القيام بخدمتهما ورعايتهما، وإن خدمة الأبوين واجبة على الأبناء والبنات بل هي مقدَمة على الجهاد في سبيل الله، أي أن ثواب خدمة أحدهما يفوق ثواب الجهاد في سبيل الله، فقد ثبت أن رجلاً جاء إلى النبي يستأذنه في الجهاد فقال: ((أحيّ والداك؟)) قال: نعم، قال عليه الصلاة والسلام: ((ففيهما جاهد))، وثبت أن الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: سألت رسول الله أي العمل أحب إلى الله؟ قال: ((الصلاة في وقتها))، قلت: ثم أي؟ قال: ((بر الوالدين))، قلت: ثم أي؟ قال: ((الجهاد في سبيل الله)).
أيها المسلمون، أيها الأبناء، أيتها البنات، لقد فاضل الشارع الحكيم بين الأب والأم في الحقوق والرعاية من قبل الأبناء والبنات، فجعل حق الأم على الابن أعظم وأكبر من حق الأب، لأن الأم أوفر رحمة وأعظم شفقة، فهي التي تقاسي من آلام الحمل والوضع، وهي التي تشقى وتتعب في الرضاعة والحضانة والتربية، إنها تسهر ليلها ليرتاح ابنها، إنها تجوع نهارها ليشبع ابنها، كما أن الأم هي المحور الذي تلتقي حوله الأسرة، فالأم هي مركز الأسرة، وهي مصنع الرجال ومربية الأطفال، لذا استحقت التكريم والرعاية والعناية.
ففي الحديث النبوي الشريف المشهور سأل رجل رسولَ الله : من أحق الناس بحسن صحبتي؟ قال: ((أمك))، قال: ثم من؟ قال: ((أمك))، قال: ثم من؟ قال: ((أمك))، قال: ثم من؟ قال: ((أبوك)).
وثبت أن الصحابي الجليل معاوية بن جاهمة السلمي قد جاء إلى النبي فقال: يا رسول الله، أردت أن أغزو، وقد جئت أستشيرك، فقال: ((هل لك من أم؟)) قال: نعم، قال: ((فالزمها، فإن الجنة تحت قدميها))، وفي رواية: ((تحت رجليها)).
أيها المسلمون، أيها الأبناء، أيتها البنات، كما أن بر الوالدين من أوجب الواجبات فإن عقوق الوالدين من أكبر الكبائر، بل إن العقوق يأتي في الإثم بعد الإشراك بالله، لقول رسولنا الأكرم : ((ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟)) ثلاثًا، قلنا: بلى يا رسول الله، قال: ((الإشراك بالله وعقوق الوالدين))، وكان متكئًا فجلس، وقال: ((ألا وقول الزور، ألا وشهادة الزور))، فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت، ولقوله عليه الصلاة والسلام: ((كل الذنوب يؤخر الله منها ما شاء إلى يوم القيامة إلا عقوق الوالدين، فإن الله يعجله لصاحبه في الحياة قبل الممات)). فالابن العاق يعاقب عقوبتين: إحداهما في الدنيا، والعقوبة الأخرى في اليوم الآخر نتيجة عقوقه، فإن جريمة العقوق هي الوحيدة من الكبائر التي لها عقوبتان: دنيوية وأخروية.
ويجب عليكم ـ أيها المسلمون ـ بر الوالدين وطاعتهما، حينئذ ينزل الله رحمته علينا، فالرحمة لا تنزل على قوم فيهم قاطع رحم. وينبغي أن نتراحم فيما بيننا في جميع مجالات حياتنا؛ في الأسواق وفي المدارس وفي البيوت وفي كل موقع، فإن بر الوالدين يؤدي إلى أن يبركم أبناؤكم. إياكم وعقوق الوالدين، فإن العاق يحرم من الجنة، لقول رسولنا الأكرم : ((لا يدخل الجنة عاق ولا قمّار ولا منان ولا مدمن خمر)).
ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، فيا فوز المستغفرين.
الخطبة الثانية
نحمد الله رب العالمين حمد عباده الشاكرين الذاكرين، ونصلي ونسلم على المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا محمد، عليه من الله صلاة وسلام دائمين إلى يوم الدين، اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد كما صليت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم، وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد كما باركت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم، في العالمين إنك حميد مجيد.
أيها المصلون، نحتسب عند الله عالمًا عاملاً وداعية ناجحًا ومصلحًا لذات البين مخلصًا، إنه المرحوم ـ بإذن الله ورحمته ـ فضيلة الشيخ عبد الحليم عايش أبو محمود، مفتي محافظة بيت لحم، وكان رحمه الله محبًا للأقصى، وحريصًا على صلاته ودوامه في الأقصى، فترحموا عليه.
أيها المسلمون، لقد قررت المحكمة الإسرائيلية هذا الأسبوع تمديد اعتقال خمسة من إخواننا الأفاضل في الحركة الإسلامية في الخط الأخضر مدة تسعين يومًا، وفي هذا الإجراء ظلم وتعسف ولا مبرر له، إلا لأنهم يقولون: ربنا الله، ولأنهم يحبون المسجد الأقصى المبارك، ونسأل الله أن يفرج عنهم وأن يفك أسرهم وأسر سائر المعتقلين، لنراهم في المسجد الأقصى المبارك، فهم من محبيه، ومن الذين يعمرونه.
أيها المسلمون، يا أبناء أرض الإسراء والمعراج، لقد وصلتني عريضة من أهالي سلوان الكرام يحذرون فيها من تصرفات وأعمال السماسرة المجرمين، ومثل ذلك وصلتني عريضة أخرى من أهالي الطور جبل الزيتون الكرام، هؤلاء السماسرة الذين لا يتقون الله، وفي هذه الأيام يصولون ويجولون، وبخاصة في البلدة القديمة من مدينة القدس وفي سلوان وفي الطور أيضًا، إنهم قاموا بتسريب عدد من البيوت، لقد انكشفت صفقات البيع، وعرف السماسرة كما عرف البائعون، فأرضنا فلسطين هي أرض طاهرة مقدسة مباركة تنبذ النجس وتنبذ السماسرة وتكشف جرائمهم، ولا مجال لأن يستتروا طويلاً.
وقد سبق لعلماء فلسطين أن أصدروا عدة فتاوى تحرم بيع الأراضي والبيوت لليهود، وذلك منذ الثلاثينات من القرن الماضي، وقد أكدنا على هذه الفتاوى مرارا، وأكدنا أن السماسرة والبائعين للأراضي والبيوت هم مفارقون لجماعة المسلمين، وأنهم تاركون للدين، وأن الذي يموت منهم لا يغسل ولا يكفن ولا يصلى عليه ولا يدفن في مقابر المسلمين، وقد حصل أن عددًا من هؤلاء السماسرة والشواذ لم يصلَ عليهم في المسجد الأقصى المبارك، ولم يدفنوا في مقابر المسلمين، فالسعيد من اتعظ بغيره، والشقي من كان عظة لغيره.
هذا وعلى جميع المواطنين أن يكونوا حذرين من الأساليب الملتوية الشيطانية التي يتبعها سماسرة السوق في تسريب البيوت، بل يتوجب على المسلمين كما ورد في الفتوى أن يقاطعوهم، لأنهم خارجون عن جماعة المسلمين.
أيها المسلمون، يا أبناء بيت المقدس وأكناف بيت المقدس، أما ما يتعلق بمقبرة باب الرحمة المحاذية لسور المسجد الأقصى المبارك من الجهة الشرقية، فهي مقبرة الصحابة الكرام رضوان الله عليهم، ويعود تاريخها إلى الفتح العمري، وقد جرى خلال هذا الأسبوع العبث بقبورها من قبل ما تسمى بسلطة حماية الطبيعة الإسرائيلية، وتناثرت عظام الأموات، كما حصلت اعتداءات على مقابر أخرى للمسلمين، ورسولنا الأكرم يقول: ((كسر عظم الميت ككسره حيًا)).
هذا وقد أصدرنا فتوى شرعية تتعلق بالاعتداء على المقابر بشكل عام وعلى مقبرة باب الرحمة بشكل خاص، وأوضحنا في الفتوى بأن المقابر لها حرمتها، ويتوجب المحافظة عليها وعدم المساس بها، ويحرم العبث فيها ونبشها، وعلى المسلمين أن يتكاتفوا للحفاظ على قبور آبائهم وأجدادهم، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.
ربنا عليك توكلنا، وإليك أنبنا، وإليك المصير، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
ـــــــــــــــــــ(68/57)
علو الهمة
...
...
3642
...
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
...
...
أعمال القلوب, قضايا المجتمع
...
فهد بن حسن الغراب
...
...
الرياض
...
13/5/1422
...
...
جامع شيخ الإسلام ابن تيمية
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- علو الهمة مجمع الفضائل. 2- ثناء الله عز وجل على عالي الهمة. 3- علو همته عليه السلام وكذا أصحابه والسلف من بعدهم. 4- دنو الهمة خلق المنافق وضعيف الإيمان. 5- أسباب علو الهمة.
الخطبة الأولى
أما بعد: فإن من محاسن الأخلاق وطيب السجايا علو الهمة.
فكبير الهمة من يتحرى الفضائل، لا للذةٍ ولا لثروة ولا استعلاءً على البرية، بل يتحرى مصالح العباد، شاكرًا بذلك نعمة الله، وطالبًا به مرضاته، غير مكترث بقلة مصاحبيه، فإنه إذا عظم المطلوب قلّ المساعد، وطرق العلياء قليلة الإيناس.
قال سفيان بن عيينة: "اسلكوا سبلَ الحق، ولا تستوحشوا من قلة أهلها".
إن كبير الهمة لا يزال يحلق في سماء المعالي، ولا ينتهي تحليقة دون عليين، فهي غايته العظمى وهمه الأسمى، حيث لا نقص ولا كدر، ولا تعب ولا نصب، ولا هم ولا غم ولا حزن، وإنما هي نور يتلألأ، وريحانه تهتز، وقصر مشيد، ونهر مطرد، وفاكهة نضيجة، وزوجه حسناء جميلة، وحلل كثيرة، في مقام أبدي، إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً خَالِدِينَ فِيهَا لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً [الكهف:107، 108].
وعالي الهمة يعرف قدر نفسه في غير كبر ولا غرور، قد صانها عن الرذائل، وحفظها من أن تهان، ونزهها عن دنايا الأمور، وجنبها مواطن الذل، بأن يحملها ما لا تطيق أو يضعها فيما لا يليق بقدرها، فتبقى نفسه في حصن حصين وعز منيع، لا تعطى الدنية ولا ترضى بالنقص ولا تقنع بالدون.
وقد أثنى الله على أصحاب الهمم العالية، وفي طليعتهم خاتم الأنبياء والمرسلين محمد : فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنْ الرُّسُلِ [الأحقاف:30]، وقد تجلت همتهم العالية في مثابرتهم وجهادهم ودعوتهم إلى الله عز وجل.
وقد أمر الله بالتنافس في الخيرات فقال عز وجل: سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ [الحديد:21]، وقال: لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلْ الْعَامِلُونَ [الصافات:61]، وقال: وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسْ الْمُتَنَافِسُونَ [المطففين:26]. وقد كان رسول الله يتعوذ بالله من العجز والكسل، وعلمنا علو الهمة كما عند البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله :((فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس؛ فإنه أوسط الجنة، وأعلى الجنة، وفوقه عرش الرحمن، ومنه تفجر أنهار الجنة))، وكما عند مسلم من حديث ربيعة بن كعب قال: كنت أبيت مع رسول الله فأتيته بوضوئه وحاجته، فقال لي: ((سلني))، فقلت: أسألك مرافقتك في الجنة، قال: ((أوَغير ذلك؟))، قلت: هو ذاك، قال: ((فأعني على نفسك بكثرة السجود)).
وقد فقه سلفنا الصالح عن الله أمره، وتدبروا في حقيقة الدنيا ومصيرها، فاستوحشوا من فتنتها، وتجافت جنوبهم عن مضاجعها، وتناءت قلوبهم من مطامعها، فلا تراهم إلا صوامين قوامين، باكين والِهِين، ولقد حفلت تراجمهم بأخبار زاخرة تشهد بعلو همتهم، فعن وكيع قال: كان الأعمش قريبا من سبعين سنة لم تفته التكبيرة الأولى، واختلفت إليه أكثر من ستين سنة، فما رأيته يقضي ركعة. قال البخاري رحمه الله: "ورحل جابر بن عبد الله مسيرة شهر إلى عبد الله بن أنيس في حديث واحد". وروي عن الرازي أنه قال: "أول ما رحلت أقمت سبع سنين، ومشيت على قدمي زيادة على ألف فرسخ ثم تركت العدد، وخرجت من البحرين إلى مصر ماشيا، ثم إلى الرملة، ثم إلى طرسوس، ولي عشرون سنة". وقال أبو زرعة: "كان أحمد بن حنبل يحفظ ألف ألف حديث"، وقال: "حفظت مائتي ألف حديث، كما يحفظ الإنسان: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1]. وقال عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى: "إن لي نفسا تواقة، لم تزل تتوق إلى الإمارة، فلما نلتها تاقت إلى الخلافة، فلما نلتها تاقت إلي الجنة".
وخامل الهمة كلما أراد أن يسمو إلى المعالي ختم الشيطان على قلبه: عليك ليل طويل فارقد، وكلما سعى في إقالة عثرته والارتقاء بهمته عالجته جيوش التسويف والبطالة، وإن نازعته نفسه إلى طلب المعالي والارتقاء بهمته، واقتحام الأهوال والتخلي عن البطالة والعجز والكسل، زجرها ونهاها.
وقد قص الله علينا من قول موسى عليه السلام لقومه: أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ [البقرة:61]، وقال تعالى: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنْ الْغَاوِينَ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصْ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [الأعراف:175، 176]، وقال في ذم المنافقين: رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ [التوبة:87]، وشنّع عز وجل على الذين يؤثرون الحياة الدنيا على الآخرة، ويجعلونها أكبر همهم، فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنْ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ [التوبة:38].
الخطبة الثانية
أما بعد: فإن من أسباب علو الهمة العلم والبصيرة، فالعلم يرفع صاحبه عن الدنايا، ويلزمه معالي الأمور، ويتقي فضول المباحات.
ومنها: إرادة الآخرة، وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا [الإسراء:19]، وقال : ((من كانت همه الآخرة، جمع الله شمله، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا راغمة)).
ومنها كثرة ذكر الموت؛ لأنه يدفع إلى العمل للآخرة، والتجافي عن دار الغرور، ومحاسبة النفس، وتجديد التوبة.
ومنها صحبة أولي الهمم العالية، ومطالعة أخبارهم.
ومنها الاهتمام والعناية بتربية الابن على معالي الأمور ومحاسن الأخلاق منذ نعومة أظفاره، وعدم تجاهله واحتقاره، فهذا أسامة بن زيد يقود جيش المسلمين في حروب الردة وفيهم أبو بكر وعمر وعمره ثماني عشرة سنة، ويقول الشافعي رحمه الله: "كنت يتيمًا في حجر أمي فدفعتني إلى الكتاب"، وهذا سفيان الثوري تقول له أمه: "يابني، اطلب العلم، وأنا أكفيك بمغزلي"، والأوزاعي نشأ يتيمًا في حجر أمه، وتنقلت به من بلد إلى بلد، حتى استفتي وله ثلاث عشرة سنة.
فما بال بعض شبابنا اليوم، قد صرفوا عن المعالي، وغيبوا عن الفضائل، وأبعدوا عن كريم الشمائل، ورضوا بسبل الرذائل، إذا سألت أحدهم عن مناه، تنمى أن يكون مفحطًا موهوبًا أو راقصًا معروفًا أو سائحًا في ديار الكفر مفتونًا أو متسكعًا في الأسواق معاكسًا أو مغنيًا يطرب الجماهير أو لاعبًا يهز المدرجات، وإذا ارتفعت همته فإلى جمع الطوابع أو ألعاب الحاسب الآلي.
أين هم من قول سعد بن معاذ رضي الله عنه وأرضاه لرسول الله : فامض لما أردت فنحن معك، فوالذي بعثك بالحق، لو استعرضت بنا البحر فخضته لخضناه معك، ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن نلقى عدونا غدًا، إنا لصُبر في الحرب، صدق عند اللقاء، لعل الله يريك ما تقر به عينك، فسر على بركة الله.
هكذا ـ يا شباب الإسلام ـ فليترب أبناء الأمة، فلسنا اليوم في وقت اللعب، ولسنا في وقت اللهو والطرب، فالأمة تتلقى الطعنات تلو الفاجعات، الأعداء يتربصون بها، والمنافقون يكيدون بها، أما ترون غدرهم في فلسطين؟! أما تشاهدون مكرهم في الشيشان؟! أما تسمعون جرائمهم في كشمير؟!
فالعودة العودة ـ يا مسلمون ـ إلى الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة، تسعدوا بذلك وتسودوا.
ـــــــــــــــــــ(68/58)
غلاء المهور
...
...
3648
...
الأسرة والمجتمع, فقه
...
...
النكاح, قضايا المجتمع
...
زهير بن حسن حميدات
...
...
الخليل
...
28/2/1424
...
...
عبد الرحمن بن عوف
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- النهي عن المغالاة في المهور. 2- نماذج من مهور السلف الصالح. 3- أخطاء ومخالفات يقع فيها كثير من أولياء الأمور عند الخطبة. 4- دعوة لأولياء الأمور لتيسير المهور. 5- دعوة للعلماء وطلاب العلم وأهل الصلاح بأن يكونوا قدوة للناس في تخيفيف المهور. 6- شبهة والرد عليها.
الخطبة الأولى
أيها المسلمون، لقد ازدادت مشكلة غلاء المهور، حتى صار الزواج عند بعض الناس من الأمور الشاقة والمستحيلة، وبلغ المهر في بعض البقاع حدًا خياليًا، لا يطاق إلا بجبال من الديون التي تثقل كاهلَ الزوج. ويؤسف كلَّ غيور أن يصل الجشع ببعض الأولياء أن يطلب مهرًا باهظًا من أناس يعلم الله حالهم، لو جلسوا شطر حياتهم في جمعه لما استطاعوا، فيا سبحان الله، أإلى هذا المستوى بلغ الطمع وحب الدنيا ببعض الناس؟! وكيف تعرض المرأة المسلمة سلعة للبيع والمزايدة وهي أكرم من ذلك كله؟! حتى غدت كثيرات من العوانس مخدرات في البيوت حبيسات في المنازل بسبب ذلك التعنت والتصرف الأرعن.
إخوة الإسلام، يقول الفاروق رضي الله عنه: (ألا لا تغالوا في صداق النساء، فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا أو تقوى في الآخرة لكان النبي أولاكم بها؛ لم يصدق امرأة من نسائه ولم تُصدق امرأة من بناته بأكثر من ثنتي عشرة أوقية)، ولعله لا يزيد في عملتنا المعاصرة على عشرين دينارا فقط.
وجاءت امرأة إلى رسول الله فقالت: إني وهبت من نفسي، فقال رجل: زوجنيها إن لم تكن لك بها حاجة، فقال عليه الصلاة والسلام: ((هل عندك من شيء تصدقها؟))، قال: ما عندي إلا إزاري، فقال: ((إن أعطيتها إياه جلست لا إزار لك، فالتمس شيئًا))، فقال: ما أجد شيئًا، فقال النبي : ((التمس ولو خاتمًا من حديد))، فلم يجد، فقال: ((أمعك من القرآن شيء؟))، قال: نعم سورة كذا وكذا وسورة كذا، لسور سمّاها، فقال: ((قد زوجناكها بما معك من القرآن)).
ولقد خطب أبو طلحة أم سليم فقالت: والله، ما مثلك يرد، ولكنك كافر، وأنا مسلمة، ولا يحل لي أن أتزوجك، فإن تسلم فذلك مهري، ولا أسألك غيره، فكان كذلك، أسلم وتزوجها.
وهذا عبد الرحمن بن عوف وهو من أغنى أهل المدينة، والذي توفي عن أربعة وستين مليون دينار، تزوج على وزن نواة من ذهب، صاحب الملايين تزوج على وزن نواة من ذهب.
والصحابة رضوان الله عليهم كانوا يمهرون ملء الكف من الدقيق أو السويق أو التمر، قال النبي : ((من أعطى في صداق امرأة ملء كفيه سويقًا أو تمرًا فقد استحل)).
وهذا سعيد بن المسيب رحمه الله سيد التابعين، يتقدم لخطبة ابنته الخليفة عبد الملك بن مروان لابنه الوليد ولي العهد، فيرفض، ويزوجها لتلميذ صالح صاحب دين وخلق، اسمه عبد الله بن أبي وداعة، ماتت زوجته، فقال له شيخه: وهل استحدثت امرأة غيرها؟ قال: ومن يزوجني وما أملك إلا درهمين أو ثلاثة؟! فقال: أنا أزوجك، وزوجه بابنته على درهمين أو ثلاثة. يقول التلميذ عبد الله بن أبي وداعة: فدخلت بها فإذا هي من أجمل النساء، وأحفظ الناس لكتاب الله، وأعلمهم بسنة رسول الله، وأعرفهم بحق الزوج، وبعد شهر عاد إلى شيخه سعيد، فدفع له شيخه عشرين ألف درهم.
معاشر الإخوة، إن قصة سعيد بن المسيب وتلميذه عبد الله بن أبي وداعة توبيخ لمن باع ابنته بالدرهم والدينار، واشترط لها أموالاً طائلة وتكاليف باهظة، لقد آثر سعيد ما يبقى على ما يفنى، والسعادة ـ والله ـ ليست في الأموال، وإنما في الإيمان بالله والعمل الصالح، قال تعالى: مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لّلْعَبِيدِ [فصلت:46].
وقد أنكر الرسول على المغالين في المهور، فقد جاءه رجل يسأله فقال: يا رسول الله، إني تزوجت امرأة على أربع أواق من الفضة، فقال النبي : ((أوّه، على أربع أواق من الفضة؟! كأنما تنحتون الفضة من عُرض هذا الجبل، ما عندنا ما نعطيك)).
أمة الإسلام، يا أمة محمد، يقول الرسول : ((إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد عريض)). هذا أمر رسول الله الذي خالفه بعض الأولياء هداهم الله، فخانوا الأمانة التي حُمِّلوها في بناتهم بمنعهنّ من الزواج من الأكفاء دينًا وخلقًا وأمانة، فقد يتقدم إليهم الخاطب الكفء فيماطلونه ويعتذرون له بأعذار واهية، وينظرون فيه إلى أمور شكلية وجوانب كمالية، يسألون عن ماله، وعن وظيفته، وعن وجاهته ومكانته، ويغفلون أمر دينه وخلقه وأمانته، بل لقد وصل ببعض الأولياء الجشع والطمع أن يعرض ابنته سلعة للمساومة وتجارة للمزايدة والعياذ بالله، وما درى هؤلاء المساكين أن هذا عضل وظلم وخيانة، ألم يسمع هؤلاء بالقصص الواقعية لضحايا هذه الظاهرة؟! ألم يقرؤوا الرسائل المؤلمة المفجعة التي سطرتها دموع هؤلاء؟! إنها صرخة نذير في آذان الآباء والأولياء، ورسالة عاجلة إليهم أن يتداركوا شرفهم وعفتهم وعرضهم قبل فوات الأوان.
أين الرحمة في قلوب هؤلاء الأولياء؟! كيف لا يفكرون بالعواقب؟! أيسرُّهم أن تلطَّخ سمعتهم مما يندى له جبين الفضيلة والحياء؟! سبحان الله، كيف يجرؤ مسلم غيور يعلم فطرة المرأة وغريزتها على الحكم عليها بالسجن المؤبد إلى ما شاء الله؟! ولو عقل هؤلاء لبحثوا هم لبناتهم عن الأزواج الأكفاء، فهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يعرض ابنته حفصة على أبي بكر ليتزوجها، ثم على عثمان رضي الله عنهم أجمعين. وهذا سعيد بن المسيب رحمه الله سيد التابعين يزوج تلميذه أبا وداعة.
أيها المسلمون، يا أحباب محمد، إن الإسلام لم يشرع في نفقات العقد والزفاف سوى المهر للمرأة، والوليمة لحفلة العرس، وإكرام الضيف بما يناسب الحال. أما ما عداها من الهدايا والنفقات، كغرفة النوم وأثاث البيت والملابس والمال الذي يعطى لأب العروس وإخوتها وعمها وخالها، فهي ليست فرضًا واجبًا، وليس من شروط العقد والنكاح في شيء أبدًا. ومن أراد أن يكرم على العروس فليكرم عليها من ماله.
والله الذي لا اله إلا هو، إنه لمن العار على أقارب العروس أن يأخذوا من العريس ما يكرمون به على رحمهم أمام الناس، يطلب ولي العروس مهرا بآلاف الدنانير، ويبخل عليها بعشرة دنانير، أإلى هذا المستوى ـ أيها الناس ـ أصبحنا تبعا للعادات والتقاليد الجاهلية؟!
يا أمة محمد، يا خير أمة أخرجت للناس، لم يشرع في الزواج إلا المهر، فمن أين جاءت تلك التكاليف الباهظة؟! ذهب، غرفة نوم، ملابس، أثاث بيت، هدايا لأقارب العروسين، العم والخال، أجرة صالون، نفقات حفلة الزفاف، وغير ذلك من تبعات الزواج، ناهيك عن المهر المؤجل الذي يبقى دينا على الزوج في حياته ومماته، آلاف الدنانير هي تكاليف الزواج عندنا.
كل هذا على من؟! على عامل ينام في العبارات أو في الحرش، تحت الأرض أو فوق الشجر، يعمل يوما ويسجن أياما، أو على موظف معاشه لا يكفي لحاجاته الضرورية، فكيف سيوفر آلاف الدنانير؟! كم سنة يحتاجها لتوفير هذا المبلغ؟! شباب فقراء مساكين في مجتمع لا يرحم، يحلمون بالزواج وكأنه أصبح ضربا من الخيال.
فإلى من تكلوهم يا عباد الله؟! إلى الاحتلال الصهيوني الذي يسقطهم أفواجا أفواجا، أم إلى السلطة الفلسطينية التي أحلت لهم الزنا واللواط، ووفرته لهم في الجامعات وأماكن الاختلاط؟!
فيا أولياء الأمور، أين الرحمة بهؤلاء؟! بل أين الرحمة ببناتكم؟! كل شيء بالانتفاضة تأثر إلا المهر، وكل العادات تتغير وتتبدل إلا في الزواج، فإلى متى يا عباد الله؟! إلى متى يا أولياء الأمور؟! إلى متى يا من تتركون سنة الحبيب المصطفى؟!
الرسول لم يُزَوِّج ولم يَتَزَوَّج بأكثر من عشرين دينارا بمستوى معيشتنا، وأمته في هذا البلد لم تُزَوِّج ولم تَتَزَوَّج بأقل من ثمانية آلاف دينار.
فيا أولياء الأمور، نسألكم بالله العظيم أن تتعاونوا على تخفيض المهور، ويا أيها العلماء، يا أئمة المساجد، يا أهل الدين، يا أهل الخير، نسألكم بالله العظيم أن تزوِّجوا بسنة محمد، فأنتم القدوة، وغيركم تبع لكم. سنة ميتة، من يحييها له أجر مائة شهيد، من منكم يكون أهلا لها؟! من منكم يملك الجرأة الكافية والإيمان القوي لينتصر على نفسه الأمارة بالسوء، وعلى تلك العادات الجاهلية الموروثة، فيثبت بذلك حبه لرسول الله ، ويسن سنة حسنة، له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة؟!
أيها المؤمنون، يقول النبي : ((إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير)). وهذا خطاب للرجال العقلاء، لا للنساء اللواتي قُلِّدن أمر الزواج في هذا المجتمع.
لقد صار بيد المرأة الموافقة على الزواج، وبيدها تحديد المهر، فكثرت العوانس، وغلت المهور، وتضاعفت نفقات الزواج. ولا شك أن المرأة بما جبلت عليه من فِعال وعاطفة، وبما تحبه من المظاهر والمفاخرة وحب الظهور أمام الناس، لا يمكن أن يتحقق على يديها خطبة أو زواج، إلا إذا كانت تزن الأمور بميزان الشرع والدين، ومثل ذلك قليل. فكم سمعنا عن أمهات يفسدن زواج بناتهن؛ لأن الواحدة منهن تدعي أن ابنتها ليست بأقل من بنت فلان.
إن المرأة ـ أيها الناس ـ مهما بلغت فهي ناقصة عقل، ولا تكاد تعرف عواقب الأمور، لذلك قال الرسول : ((لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة)). ولذلك جعل الله أمر التزويج بأيدي الرجال الراشدين والأولياء الصالحين، قال تعالى: وَأَنْكِحُواْ الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِن يَكُونُواْ فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ [النور:32]. هذا أمر الله للأولياء بتزويج أبنائهم وبناتهم، ووعد منه برزقهم ورعايتهم، ومن أصدق من الله قيلا؟!
إن العار إذا لحق إنما يلحق بالرجال. فاحذروا ـ أيها الرجال ـ فالقوامة لكم لا لنسائكم.
فيا أيها الأولياء، اتقوا الله فيمن تحت أيديكم من البنات، بادروا بتزويجهن متى ما تقدم الأكفاء في دينهم وأخلاقهم، ((إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير)).
بارك الله لي ولكم في الكتاب والسنة، ونفعني وإياكم بالآيات والحكمة، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولكافة المسلمين والمسلمات، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه كان حليمًا غفورًا.
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي خلق من الماء بشرًا فجعله نسبا وصهرا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدًا عبد الله ورسوله، بعثه الله هاديًا ومبشرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: أيها الأحبة، إننا نقولها وبصراحة: ماذا ينفع المرأةَ أهلها إذا بقيت عانسًا قد فاتها ركب الزواج، وأصبحت أيِّمًا لم تسعد في حياتها بزوج وأولاد، يكونون لها زينة في الحياة، وذخرًا لها بعد الوفاة؟! وكم من امرأة فاتها قطار الزواج، وذهبت نضارتها، وذبلت زهرتها، وتمنت بعد ذلك الموت لمن عطل زواجها، لتسمع كلمة الأمومة على لسان وليدها، وكم هي الصيحات والزفرات الحرَّاء التي أطلقت من مثل هؤلاء، فأين الرحماء ببناتهم؟! أين العقلاء؟!
والله، إننا لنحزن على أخوات لنا ظلمهن أولياؤهن ظلما كبيرا، فلا هن متزوجات فيسعدن، ولا هن بميتات فيسترحن. فهذه امرأة في عصرنا الحاضر شابة تقدم إليها الخطاب، فرفض أبوها أن يزوجها، فلما تقدم بها السن، وحضرت أباها الوفاة، قال لها: يا بنية، اجعليني في حل، سامحيني سامحك الله، فقالت له: والله، لا أسامحك، بل عليك لعنة الله كما حرمتني من حقي في الحياة. وهذا رجل آخر يزور أخته في المستشفى، وقد تقدم بها السن ولم تتزوج، بعد أن رد أخوها خطابها، ولما كانت على فراش الموت في آخر لحظة من حياتها قالت لأخيها: اقترب مني يا أخي، فلما اقترب منها، قالت له: حرمك الله الجنة كما حرمتني من الزواج، وفاضت روحها إلى الله. هذه المآسي ـ يا عباد الله ـ بسبب المغالاة في المهور وتعسير أمور الزواج.
فاتقوا الله عباد الله، يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا، ((إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض)).
أمة الإسلام، لقد حث الإسلام على تسهيل الزواج وتيسير أموره، ونهى عن المغالاة في المهور، والمبالغة في تكاليفه، فهذا خير البشر محمد يزوج ابنته فاطمة رضي الله عنها بعلي بن أبي طالب بما يساوي أربعة دراهم. والإسلام اعتبر أن المرأة كلما كان مهرها قليلاً كان خيرها كثيرًا، قال رسول الله : ((إن أعظم النكاح بركة أيسره مؤونة))، وقال : ((يمن المرأة تيسير خطبتها وتيسير صداقها)).
فاتقوا الله عباد الله، ويسروا أمر الزواج، واحرصوا على من ترضون دينه وخلقه، وإياكم من الرغبة في المال دون الدين، فالمال عرض زائل وعارية مستردة، والبقاء للدين.
وإني لأدعوكم ـ أيها الأخوة ـ للعودة إلى المهر المحدود المقطوع، كما كان قديما، به تشتري العروس ما شاءت، ولا تسأله غير هذا المهر، حقا خالصا لها، كخطوة أولى نحو أحياء سنة الحبيب المصطفى ، ليتزوج العازبون، ويعدد المتزوجون، وتقل نسبة العوانس، ويستغني الشباب بالحلال عن الحرام.
ولعل هذا الكلام ـ أيها الأحبة ـ قد لا يعجب بعض السامعين، فيستخفون به، ويعترضون عليه، ظانين بأن هذا يقلل من قيمة بناتهم.
فأقول لهؤلاء: إن بناتكم ونساءكم لسن بأشرف من بنات ونساء الرسول اللواتي قبلن بأقل من هذا، وهن أشرف وأطهر نساء الأرض، وأنتم لستم بأفضل من رسول الله الذي قبل بأقل من ذلك لبناته وأزواجه، والبركة في القليل من المهر، لقول الرسول : ((إن أعظم النساء بركة أيسرهن مؤونة)).
فاتقوا الله أيها الناس، وقوموا بمسؤولياتكم، وَأَنْكِحُواْ الأيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمائِكُمْ [النور:32].
ثم صلوا وسلموا على نبيكم محمد، فقد أمركم بذلك ربكم فقال في محكم تنزيله: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبيّ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين...
ـــــــــــــــــــ(68/59)
صلة الرحم
...
...
3672
...
الأسرة والمجتمع
...
...
الأرحام
...
علي بن عبد الرحمن الحذيفي
...
...
المدينة المنورة
...
19/2/1425
...
...
المسجد النبوي
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- القرآن والسنة فيهما تفصيل كل شيء. 2- تعريف الأرحام. 3- الأمر بصلة الرحم. 4- ثواب الصلة. 4- فوائد صلة الأرحام. 5- صلة الرحم واجبة وإن قطعت. 6- مفاسد قطيعة الرحم ووعيدها. 7- حقيقة الصلة. 8- السبيل إلى صلة الرحم. 9- أهمية المرأة في هذا الباب. 10- التذكير باليوم الآخر.
الخطبة الأولى
أمّا بعد: فاتقوا الله أيّها المسلمون، وأدّوا الحقوقَ لأربابها، وأوصِلوها لأصحابها، يكتبِ الله لكم عظيمَ الثواب، ويجزكم على ذلك ثوابًا عظيمًا، ويجِركم من أليم العقاب.
واعلموا ـ عباد الله ـ أن ربَّكم بمنِّه وكرمه فصَّل في كتابه كلَّ شيء، وأرشدكم رسولُ الهدى عليه الصلاة والسلام إلى ما يقرِّبكم من الجنّة وما يباعدكم من النار ويسعدكم في هذه الدار، فبيَّن الحقوقَ التي لربِّ العالمين على عباده؛ لأنّ حقَّ الله علينا أعظم ما افترضه وأكبر ما أوجبه، ولكنّ الله برحمته فرض علينا بعضَ ما في وُسعنا، وإلاَّ فحقّ الله أن يُذكَر فلا ينسَى، وأن يطاع فلا يُعصَى، وأن يشكَر فلا يكفَر.
وبيَّن الله حقوقَ العباد بعضِهم على بعض؛ لتكونَ الحياة آمنة مطمئنّة راضية مباركة، تظلُّها الرحمة، وتندفع عنها النِّقمة، ويتمّ فيها التعَاون، ويتحقّق فيها التناصُر والمودّة، فبيَّن حقوقَ الوالدين على الولَد وحقوقَ الولد على الوالدين وحقوقَ ذوي القربى والأرحام بعضِهم على بعض.
وكلٌّ يُسأَل عن نفسِه في الدنيا والآخرة عن هذه الحقوقِ الواجبات، فإن أدَّاها وقام بها على أحسنِ صِفة كان بأعلى المنازل عند ربِّه تبارك وتعالى، وقام بأداء هذه الأمانة التي أشفَقت منها السموات والأرض والجبال، ومن ضيَّع هذه الحقوقَ كان بأخبثِ المنازل عند ربّه الذي هو قائم على كلّ نفس بما كسبت، لا يعزُب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض.
عباد الله، إنَّ صلةَ الرحم حقٌّ طوَّقه الله الأعناقَ، وواجبٌ أثقل الكواهلَ وأشغل الذمم. والأرحامُ هم القراباتُ من النَّسَب والقرابات من المصَاهرة.
وقد أكَّد الله تعالى على صِلة الأرحام وأمَر بها في مواضعَ كثيرة من كتابه، فقال تعالى: وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا [الإسراء:26]، وجعل صلةَ الرحم بعد التّقوى من الله تعالى فقال عز وجل: وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَتَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].
ولعِظم صلةِ الرحم ولكونها من أسُسِ الأخلاق وركائز الفضائلِ وأبواب الخيرات فرَضها الله في كلِّ دين أنزله، فقال تعالى: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ [البقرة:83]، وفي حديث عبد الله بن سلام رضي الله عنه أنَّ النبي قال أولَ مقامٍ بالمدينة: ((أيّها الناس، أفشوا السلامَ وأطعِموا الطعام وصِلوا الأرحام وصَلّوا بالليل والناس نيام تدخلُوا الجنة بسلام)) رواه البخاري[1].
وثوابُ صِلة الرحِم معجَّل في الدنيا مع ما يدَّخر الله لصاحبِها في الآخرة، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: ((من سرَّه أن يُبسَط له في رزقه وأن يُنسَأَ له في أثره فليصِل رحمه)) رواه البخاري[2] والترمذي ولفظه قال: ((تعلَّموا من أنسابِكم ما يَصِلون به أرحامكم، فإنّ صلَة الرحم محبَّةٌ في الأهل مثراة في المال منسأة في الأثر))[3]، وعن علي رضي الله عنه عن النبي : ((من سرَّه أن يُمَدّ له في عُمُره ويوسَّع له في رزقه ويُدفع عنه ميتةُ السوء فليتَّق الله وليصِل رحمه)) رواه الحاكم والبزار[4]، وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((إنّ الله ليعمِّر بالقوم الديار، ويثمِّر لهم الأموال، وما نظر إليهم منذ خلَقَهم بُغضًا لهم))، قيل: كيف ذاك يا رسول الله؟! قال: ((بصِلَتهم أرحامَهم)) رواه الحاكم والطبراني[5]، قال المنذري: "بإسناد حسن"[6]، وعن أبي بكرةَ رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((ما مِن ذنبٍ أجدرُ أن يعجِّل الله لصاحبه العقوبةَ في الدنيا مع ما يدَّخر له في الآخرة من البغيِ وقطيعة الرحم)) رواه ابن ماجه والترمذي والحاكم[7]، وعن أبي بكرةَ رضي الله عنه أيضًا قال: قال رسول الله : ((إنّ أعجل البرّ ثوابًا لصِلةُ الرحم، حتى إنَّ أهلَ البيت ليكونون فَجَرة، فتنمو أموالهم ويكثُر عددهم إذا تواصلوا)) رواه الطبراني وابن حبان[8].
وصلة الرحِم لها خاصّيّة في انشراحِ الصدر وتيسُّر الأمر وسماحةِ الخلُق والمحبّة في قلوب الخلق والمودَّة في القربى وطيب الحياة وبركتها.
والمسلم فرضٌ عليه صلةُ الرحم وإن أدبَرت، والقيامُ بحقِّها وإن قطَعت، ليعظمَ أجرُه ويقدِّم لنفسه، وليتحقّق التعاون على الخير، فإنَّ صلَة الرحم وإن أدبرت أدعى إلى الرجوعِ عن القطيعة وأقربُ إلى صفاء القلوب، فعن أبي ذر رضي الله عنه قال: أوصاني خليلي بخصالٍ من الخير: (أوصاني أن لا أنظرَ إلى من هو فوقي وأن أنظر إلى من هو دوني، وأوصاني بحبّ المساكين والدُنُوِّ منهم، وأوصاني أن أصِلَ رحمي وإن أدبرت، وأوصاني لا أخاف في الله لومة لائم) رواه الإمام أحمد وابن حبان[9]، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلاً قال: يا رسول الله، إنّ لي قرابةً أصِلُهم ويقطعوني، وأحسِن إليهم ويسيئون إليّ، وأحلُم عليهم ويجهَلون عليّ، فقال: ((إن كنتَ كما قلت فكأنما تسفُّهم الملّ ـ أي: الرماد الحار ـ، ولا يزالُ معك من الله عليهم ظهير ما دمتَ على ذلك)) رواه مسلم[10]، وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبيّ قال: ((ليس الواصلُ بالمكافئ، ولكنّ الواصل الذي إذا قطعت رحمُه وصلها)) رواه البخاري[11].
وقطيعةُ الرحِم شؤمٌ في الدنيا ونَكَد وشرّ وحَرج وضيقٌ في الصدر وبُغض في قلوب الخلقِ وكراهةٌ في القربى وتعاسَة في أمور الحياة وتعرّضٌ لغضَب الله وطردِه وعقوبةٌ أليمة في الآخرة، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إنَّ الله خلق الخلقَ حتى إذا فرغ منهم قامت الرحم فقالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة، قال الله: نعم، أما ترضين أن أصل من وصلَك وأقطعَ من قطعك؟ قالت: بلى، قال: فذاك لك))، قال رسول الله : ((اقرؤوا إن شئتم قول الله تعالى: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمْ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ [محمد:22، 23])) رواه البخاري ومسلم[12]، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: ((إنّ أعمالَ بني آدم تعرَض كلَّ خميس ليلةَ الجمعة فلا يقبَل عملُ قاطع رحِم)) رواه أحمد[13]، وعن الأعمش قال: كان ابن مسعود رضي الله عنه جالسًا بعد الصبح في حلقة فقال: (أنشد الله قاطع رحم لما قام عنا، إنَّا نريدُ أن ندعوَ ربَّنا، وإنَّ أبواب السماء مُرتَجَة[14] دون قاطِع رحم) رواه الطبراني[15]، وعن أبي موسى رضي الله عنه أنّ النبي قال: ((ثلاثة لا يدخلون الجنة: مدمنُ الخمر وقاطع الرحم ومصدِّقٌ بالسحر)) رواه أحمد والطبراني والحاكم[16].
أيها المسلمون، إنَّ صلةَ الرحِم هي بذلُ الخير لهم وكفُّ الشرّ عنهم، هي عيادةُ مريضهم ومواساة فقيرهم ونفع وإرشاد ضالّهم وتعليمُ جاهلهم وإتحاف غنيّهم بالهدية له ونحوها ودوامُ زيارتهم والفرحُ بنعمتهم والتهنئة بسرورهم والحزنُ لمصيبتهم وتفقُّدُ أحوالهم وحفظهم في غيبتهم وتوقيرُ كبيرهم ورحمةُ صغيرهم والصبر على أذاهم وحسنُ صحبتهم والنصحُ لهم، وفي مراسيل الحسن: ((إذا تحابَّ الناس بالألسن وتباغضوا بالقلوب وتقاطعوا بالأرحام لعنهم الله عند ذلك، فأصمَّهم وأعمى أبصارهم))[17].
وإنَّ القطيعة بين الأرحام في هذا الزمان قد كثُرت، وساءت القلوب، وضعُفت الأسباب، وعامّةُ هذه القطيعة على الدنيا الحقيرة وعلى الحظوظ الفانية، فطوبى لمن أبصر العواقبَ، ونظر إلى نهاية الأمور، وأعطى الحقَّ من نفسه، وأبدى الذي عليه، ورغب إلى الله في الذي له على غيره، وأتى إلى الناس ما يحبُّ أن يأتوه إليه.
وإنَّ القطيعةَ المشؤومة قد تستحكم وينفخ الشيطان في نارها، فيتوارثها الأولاد عن الآباء، وتقع الهلكة وتتَّسع دائرة الشرّ، ويكون البغي والعدوان، وقد تدوم هذه القطيعةُ بين ذوي الرحِم حتى يفرِّق بينهما الموتُ على تلك الحالِ القبيحة، وعند ذلك يحْضر الندم وتثور الأحزان وتتواصَل الحسرات وتتصاعد الزفرات، وعند ذلك لا ينفعُ الندم، ولا يداوي الأسف جراحاتِ القلوب، ويتركون جيفةَ الدنيا بعدَهم، فلا لقاءَ إلاَّ بعد البعث والنشور، فيجثو كلٌّ أمام الله الحَكَم العدل، فيقضي بينهم بحكمه وهو العزيز العليم.
والصبرُ والاحتمال والمعروف والعفو خير الأمور وأفضل دواءٍ لما في الصدور، عن عُقبة بن عامر رضي الله عنه قال: لقيتُ رسولَ الله فأخذتُ بيده فقلت: يا رسول الله، أخبرني بفواضلِ الأعمال، فقال: ((يا عقبة، صِل من قطعَك، وأعطِ من حرمك، وأعرض عمّن ظلمك))، وفي رواية: ((واعفُ عمّن ظلمك)) رواه أحمد والحاكم[18].
أيها المسلمون، إنّ المرأةَ قد تكون من أسباب القطيعة؛ بنقلها الكلام وبثِّها المساوئ ودفنها المحاسن وتحريشها للرجال، وقد تَرى لحماقتها أنَّ لها في ذلك مصلحةً، وقد تدفع أولادَها في الإساءة لذوي القربى، فعليها يكونُ الوزرُ، والله لها بالمرصاد.
وقد تكون المرأة من أسبابِ التواصل بين الأرحام وتوطيدِ المودّة بينهم؛ بصبرها وتحمُّلها ونصيحتها لزوجها وأولادها وحثِّها على الخير وتربية أولادها، والله عز وجل سيثيبها، ويصلِح حالها وحالَ أولادها، ويحسِن عاقبتها.
فيا أيتها المسلمات، اتقِين الله تعالى وأصلِحن بين ذوي القربى، ولا تكن القطيعةُ مِن قِبَلكن، فإنّ الله لا يخفَى عليه خافية، قال الله تعالى: فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ [الروم:38].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، ونفعنا بهدي سيد المرسلين وبقوله القويم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب فاستغفروه، إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه أحمد (5/451)، والترمذي في صفة القيامة والرقائق والورع (2485)، وابن ماجه في إقامة الصلاة والسنة فيهما، باب: ما جاء في قيام الليل (1324)، وصححه الحاكم (3/14)، والمقدسي في الأحاديث المختارة (6/431)، وهو في صحيح سنن الترمذي (2019).
[2] صحيح البخاري: كتاب الأدب (5985) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[3] سنن الترمذي: كتاب البر (1979) عن أبي هريرة رضي الله عنه، وأخرجه أيضا أحمد (2/374)، وابن أبي الدنيا في مكارم الأخلاق (252)، وقال الترمذي: "هذا حديث غريب من هذا الوجه"، وصححه الحاكم (7284)، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة (276).
[4] المستدرك (7280)، مسند البزار (693)، وأخرجه أيضا عبد الله بن أحمد في زوائد المسند (1/143)، والمحاملي في الأمالي (201)، والطبراني في الوسط (3014)، وابن عدي في الكامل (4/239، 7/111)، والبيهقي في الشعب (6/219)، وصححه الضياء في المختارة (537، 538)، وجوده المنذري في الترغيب (3/227)، وقال الهيثمي في المجمع (8/153): "رجال البزار رجال الصحيح غير عاصم بن ضمرة وهو ثقة"، وصححه الألباني بدون زيادة: ((ويدفع عنه ميتة السوء))، ضعيف الترغيب (1488).
[5] المستدرك (7282)، المعجم الكبير (12/85)، وقال الحاكم: "تفرد به عمران بن موسى الرملي الزاهد عن أبي خالد، فإن كان حفظه فهو صحيح"، وحسنه الهيثمي في المجمع (8/152)، وقال الألباني في ضعيف الترغيب (1491): "يشير الحاكم إلى سوء حفظ عمران الذي أشار إليه غير واحد... ولذلك خرجته في الضعيفة (2425)".
[6] الترغيب والترهيب (3/228).
[7] سنن ابن ماجه: كتاب الزهد (4211)، سنن الترمذي: كتاب صفة القيامة (2511)، مستدرك الحاكم (3359)، وأخرجه أيضا أحمد (5/36)، وأبو داود في الأدب (4902)، وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وصححه ابن حبان (455، 456)، وهو في السلسلة الصحيحة (918).
[8] صحيح ابن حبان (440)، قال الهيثمي في المجمع (8/152): "رواه الطبراني عن شيخه عبد الله بن موسى بن أبي عثمان الأنطاكي ولم أعرفه، وبقية رجاله ثقات"، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب (2537)، وانظر: السلسلة الصحيحة (918).
[9] مسند أحمد (5/159، 173)، صحيح ابن حبان (449)، وأخرجه أيضا الطبراني في الأوسط (7739)، قال الهيثمي في المجمع (10/263): "أحد إسنادي أحمد ثقات"، وقال في موضع آخر (8/154): "رجال الطبراني رجال الصحيح غير سلام بن المنذر وهو ثقة"، وحسن إسناده الألباني في تخريج أحاديث المشكاة (5187).
[10] صحيح مسلم: كتاب البر (2558).
[11] صحيح البخاري: كتاب الأدب (5991).
[12] صحيح البخاري: كتاب الأدب (5987)، صحيح مسلم: كتاب البر (2554).
[13] مسند أحمد (2/483)، وأخرجه أيضا البخاري في الأدب المفرد (61)، والبيهقي في الشعب (6/224)، قال المنذري في الترغيب (3/233) والهيثمي في المجمع (8/151): "رواته ثقات"، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب (2538). وفي الباب عن أسامة بن زيد رضي الله عنه عند الطبراني في الكبير (1/167).
[14] مرتجة بضم الميم وفتح التاء المثناة فوق وتخفيف الجيم: مغلقة.
[15] المعجم الكبير (9/158)، ورواه أيضا معمر في جامعه (11/174 ـ المصنف ـ)، والبيهقي في الشعب (6/224)، قال المنذري في الترغيب (3/234) والهيثمي في المجمع (8/151): "رواته محتج بهم في الصحيح إلا أن الأعمش لم يدرك ابن مسعود"، وأورده الألباني في ضعيف الترغيب (1502).
[16] مسند أحمد (4/399)، المستدرك (7234)، وصححه ابن حبان (6137)، وهو في صحيح الترغيب (2539).
[17] لم أقف عليه من مرسل الحسن، وأخرجه الطبراني في الأوسط (1578)، وأبو نعيم في الحلية (3/109) عن سلمان رضي الله عنه مرفوعا، قال العراقي في تخريج الإحياء (1/47): "إسناده ضعيف"، وقال الهيثمي في المجمع (7/287): "فيه جماعة لم أعرفهم". وروي عن سلمان موقوفا عليه.
[18] مسند أحمد (4/148، 158)، مستدرك الحاكم (7285)، وأخرجه أيضا الروياني في مسنده (157)، والطبراني في الكبير (17/269، 270)، والبيهقي في الشعب (6/222، 261)، قال المنذري في الترغيب (3/232) والهيثمي في المجمع (8/188): "أحد إسنادي أحمد رجاله ثقات"، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (2536).
الخطبة الثانية
الحمد لله ربِّ العالمين، الرحمن الرحيم، أحمدُ ربي وأشكره على فضلِه العميم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له العليم الحكيم، وأشهد أنّ نبيّنا وسيّدنا محمّدًا عبده ورسوله الهادي إلى صراط مستقيم، اللهمّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولِك محمّد النبيّ الأميّ ذي الخلُق الكريم، وعلى آله وصحبه ذوي النهج القويم.
أمّا بعد: فاتقوا الله عبادَ الله، فتقوى الله أربحُ بضاعة والعدّةُ لكلِّ شدّة في الدنيا ويوم تقوم الساعة.
أيّها المسلمون، عظِّموا أوامرَ الله بالعمل بها، وعظِّموا ما نهى الله عنه باجتنابِه، وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [البقرة:281]، واعمَلوا للدار الآخرة صالحَ الأعمال، فإنها دار القرار، لا ينفَد نعيمها، ولا يبلى شبابها، ولا تخرب دارها، ولا يموت أهلُها، واتّقوا نارًا وقودُها الناس والحجارة، عذابها شدِيد، وقعرُها بعيد، وطعام أهلِها الزقوم، وشرابهم المهلُ والصديد، ولباسهم القطران والحديد.
واعلموا أن لله عمَلاً بالليل لا يقبله بالنهار، وعملاً بالنهار لا يقبله بالليل، وأعمالُ العباد هي ثوابُهم أو عقابهم، قال الله تعالى: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ [الجاثية:15]، وفي الحديث عن النبيّ عن ربّه تعالى أنه قال: ((يا عبادي، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوفّيكم إياها، فمن وجد خيرًا فليحمدِ الله، ومن وجد غيرَ ذلك فلا يلومنّ إلاَّ نفسه))[1]. وتذكَّروا تطايرَ صحفِ الأعمال، فآخذٌ كتابه بيمينه، وآخذٌ كتابه بشماله، وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت:46].
عباد الله، إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56]، وقد قال : ((من صلى عليّ صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشرا)).
فصلّوا وسلِّموا على سيّد الأولين والآخرين وإمام المرسلين.
اللهمّ صلِّ على محمّد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وسلّم تسليمًا كثيرًا، اللهم وارض عن الصحابة أجمعين...
[1] أخرجه مسلم في البر (2577) عن أبي ذر رضي الله عنه.
-ـــــــــــــــــــ(68/60)
أهمية الأمن
...
...
3682
...
الأسرة والمجتمع, موضوعات عامة
...
...
جرائم وحوادث, قضايا المجتمع
...
علي بن عبد الرحمن الحذيفي
...
...
المدينة المنورة
...
26/2/1425
...
...
المسجد النبوي
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- شكر الله تعالى على نعمه. 2- نعمة الأمن جزء من الإسلام. 3- أركان الإسلام لا تتمّ إلا بالأمن وشعائره. 4- الأمن أساس المصالح الدنيوية. 5- نابتة العصر. 6- حادث قتل رجال الأمن. 7- وجوب التصدّي للمفسدين في الأرض. 8- دعوة الخارجين للرجوع إلى الحقّ. 9- الوصية بلزوم الجماعة.
الخطبة الأولى
أمّا بعد: فاتقوا الله ـ أيها المسلمون ـ حقَّ التقوى، وراقبوه في السرِّ والنجوى، فتقوى ربِّكم عدّتُكم للشدائد، وذخرٌ لكم يومَ القيامة، يوم لا تجزي نفسٌ عن نفس شيئًا ولا يقبَل منها عدل، ولا تنفعها شفاعة ولا هم ينصَرون.
أيّها الناس، اذكروا نعمَ الله عليكم التي لا تُعدُّ ولا تُحصَى، واحمدوا ربَّكم واشكروه على نعمة الإسلام الذي هو أجلّ النعم، فبه تدوم النِّعم، وتتمّ به، ويتمّ به إحسانُ الله على العباد.
واعلموا ـ عباد الله ـ أن نعمةَ الأمن جزءٌ عظيم لا يتجزّأ من الإسلام. الأمنُ من تمام الدين، ولا يتحقَّق الإسلام إلاّ بالأمن، ولا يُعمل بشعائر الدين إلا في ظلِّ الأمن، قال الله تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ [النور:55].
روى ابن جرير رحمه الله في تفسيره عن أبي العالية قال: مكَث النبي عشر سنين خائفًا، يدعو إلى الله سرًّا وعلانية، قال: ثم أُمر بالهجرة إلى المدينة، قال: فمكث بها هو وأصحابه خائفين، يصبحون في السلاح ويمسون فيه، فقال رجل: متى يأتي علينا يومٌ نأمَن فيه ونضَع عنا السلاح؟ فقال النبي : ((لا تلبثون إلا يسيرًا، حتى يجلسَ الرجل منكم في الملأ العظيم محتبيًا فيه ليس معه حديدة)) فأنزل الله هذه الآية[1].
وبيّن الله تعالى أنَّ الصلاةَ لا تكون في تمامٍ وطمأنينة إلاّ في ظلّ الأمن، قال الله تعالى: حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ [البقرة:238، 239]، وقال تعالى: فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا [النساء:103].
والزكاة لا تتحقّق جبايتها في الزروع والثمار وبهيمة الأنعام إلاّ مع الأمن ووجود جماعة المسلمين وإمامهم؛ لأن نوّاب الإمام هم الذين يجبون الزكاةَ في الأموال الظاهرة، ويفرّقونها في مستحقّيها، وقد قال الله تعالى: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ [النور:56].
وصيامُ رمضان لا يكون إلا برؤيةِ هلاله، والفطرُ برؤية هلال شوّال، كما قال النبي : ((صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته))[2]، وهذا يقتضي ثبوتَ الرؤيةِ عند الإمام أو نُوّابه وتبليغَ المسلمين ليصوموا وليفطروا، ولا يتحقّقَ هذا إلا باستتباب الأمن.
والحجّ لا يتحقّق إلاّ مع الأمن، قال الله تعالى: فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ [البقرة:196].
والحدود لا تُقام ولا يُؤخَذ على يدِ المفسدين المجرمين العابثين إلاّ مع تحقُّق الأمن؛ لأنّ ذلك يقتضي قوةَ ونفوذَ وليِّ الأمر على الجماعة، قال الله تعالى: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ [الحج:41].
ولو تتبّع المسلم نصوصَ الكتاب والسنّة لوجَد أنّ الأمنَ جزءٌ لا يتجزَّأ ولا ينفصِل عن الإسلام، ولعلِم يقينًا بأن الأمنَ من تمام الإسلام، كما قال رسول الله لعديّ بن حاتم حين وفد عليه: ((أتعرفُ الحِيرة؟)) قال له: لم أعرفها ولكن قد سمعتُ بها، قال: ((فوالذي نفسي بيده، ليُتمّنّ الله هذا الأمرَ حتى تخرجَ الظعينة ـ أي: المرأة ـ من الحِيرة حتى تطوفَ بالبيت في غير جوارِ أحَد، ولتُفتَحَنَّ كنوز كِسرى بن هرمز))، قلت: كسرى بن هرمز؟! قال: ((نعم كِسرى بن هرمز، وليُبذلَنَّ المالُ حتى لا يقبله أحَد))، قال عديّ: فهذه الظعينة تخرج من الحِيرة فتطوف بالبيت في غير جِوار أحد، ولقد كنتُ فيمَن فتح كنوزَ كسرى بنِ هُرمز، والذي نفسي بيده لتكوننّ الثالثة لأنّ رسول الله قالها[3].
أيّها الناس، دينُ المسلم مرتبِطٌ بالأمن، مصالح الناسِ الدنيويّة أساسُها الأمن، فتبادُلُ المنافع والمصالح وانتظامُ التّجارة وتوظيف الأموال واستثمارها واتّساع العمران وفشوّ الماشية وأمان الأسفار والطرق وتزايد التنمية وانبساط الآمال في الحال والاستقبال كلّ ذلك لا يكون إلاّ مع الأمن، وضدُّ ذلك كلّه لا يكون إلا مع الخوف والفوضى.
وقد امتنّ الله تعالى بالأمن على أهل حَرَمه فقال تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ [العنكبوت:67].
وإنّ هذه البلادَ قد منّ الله عليها بالأمنِ والإيمان وبنعمٍ لا تُعَدّ ولا تحصى، حتى صارت ـ ولله الحمد ـ مضربَ المثل في الأمن، ولكنها ابتُليت في هذه الأيامِ بشِرذمةٍ اعتنقت أفكارًا تخالف كتابَ الله وتخالف سنة رسول الله ، وخرجت على جماعةِ المسلمين وإمامهم، وعصى هؤلاء الخوارجُ الله تعالى، وعصَوا رسوله ، وعصَوا الإمام، وقد أُمِروا بالطاعة في قوله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ [النساء:59]، وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((على المرءِ المسلم السمعُ والطاعة فيما أحبَّ أو كره، إلاّ أن يؤمَر بمعصية)) رواه البخاري ومسلم[4].
وعصى هؤلاء الخوارج الوالدين لمن كان له والِد، وشَقّوا عصَى المسلمين، عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((من فارَق الجماعة شبرًا فقد خلَع رِبقة الإسلامِ من عُنُقه)) رواه أبو داود[5].
وإنَ أعمى العَمى الضلالةُ بعد الهدى والعياذ بالله، فهؤلاء الخوارجُ قاموا بأعمالٍ شنيعة، وجمعوا بين معاصٍ وكبائر كثيرة، لا تفسَّر إلا أنها تخدِم أعداءَ الإسلام والمسلمين، وتضرّ غايةَ الضرَر الدينَ والمجتمع، فسفكوا الدمَ الحرام، واستحلّوا ما حرّم الله تعالى من دِماء المسلمين وأموالهم، واستحلّوا من رِجال الأمن ما حرّمه الله تبارك وتعالى.
ندعو الله تعالى ونتوسّل إليه بقُدرته ورحمته أن يتقبّل رجالَ الأمن الذين قُتِلوا في الشهداء، وأن يرفعَ درجاتهم في جنّات النعيم بما قدّموا لدينهم وبما خدَموا وطنَهم، وأن يُطفئ فتنةَ الخوارج المفسدين ويكُفّ شَرّهم عن الإسلام والمسلمين أبدَ الآبدين.
وإنّ ما يقوم به هؤلاء المفسدون ومَن وراءَهم لا يؤثِّر ولا يهزُّ أمنَ هذه البلادِ ولله الحمد، فالمجتمع مع ولاة أمره وعلمائه يقفون صفًّا واحدًا، ويتّخذون خندقًا واحدًا، يصدّون ويحاربون منه كلَّ فِكرٍ منحرِفٍ وكلَّ متربِّص بهذه البلاد حاقد، سواءً كان من الداخل أو من الخارج، امتثالاً لقول الله تبارك وتعالى: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا [آل عمران:103]، وقوله تبارك وتعالى: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى [المائدة:2].
وإنّنا نوصي بأن يكونَ الجميع يدًا واحدةً وقلبًا واحدًا ضدَّ هذه الأعمال الإرهابية الآثمةِ لتُدفَن في مهدها، ويجب شرعًا البلاغُ عن أيِّ عملٍ من هذه الأعمال المحرّمة الآثمة بالرفع للسّلُطات، ومن لم يفعل ذلك فقد خان الله ورسولَه والمؤمنين؛ لأنّ شرَّ ذلك عامٌّ على الكافَّة.
وإنّا لندعو هؤلاء الذين تشرَّبوا هذه الأفكارَ التكفيريّة أن يرجعوا إلى الله تعالى، وأن يعودوا إلى رُشدهم، وأن لا ينجرفوا وراءَ أحدٍ في الغيِّ والضلال كائنًا من كان، وأن يُقبلوا على العلم الشرعيّ من الكتاب والسنة، وأن يسألوا أهلَ العلم عمّا يُشكل عليهم ليرشدوهم ويزيلوا عن قلوبهم هذا العمى بقول الله وقول رسول الله ، وأن يحذروا هذه الأعمالَ الإرهابيّة المفسدة التخريبيّة التي أُهدِرت فيها الدماء المحرّمة والأموال المعصومة، ففي الحديث: ((لزوال الدنيا بأسرها أهون عند الله من قتل رجلٍ مسلم))[6].
وندعو هؤلاء الخارجين على جماعةِ المسلمين أن يشكروا اللهَ على نعمةِ الأمن؛ فإنّ كفرانَ النِّعَم ضامنٌ لتحوُّلها إلى ضدِّها، ولينظُروا إلى ما منّ الله به على هذه البلاد من النِّعم التي لا تُحصَى، وأن يتذكّروا مصائبَ وفتنَ الخوف والفوضى والفتنَ المظلمة المضِلَّة، وليعلموا أنّ الخروج على وليّ الأمر جامعٌ لكلّ المفاسدِ في الدين والدنيا، قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ [النساء:59].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإيّاكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، ونفعنا بهدي سيِّد المرسلين وبقوله القويم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] جامع البيان (18/159-160)، وهو حديث مرسل. وأخرجه الطبراني في الأوسط (7029)، والبيهقي في الاعتقاد (ص265)، والواحدي في أسباب النزول (ص328) عن أبي العالية عن أبي بن كعب رضي الله عنه مختصرا، وصححه الحاكم (3512)، والضياء في المختارة (1145)، وقال الهيثمي في المجمع (7/83): "رجاله ثقات"، وفي سنده علي بن الحسين بن واقد ضعفه بعضهم.
[2] أخرجه البخاري في الصوم (1909)، ومسلم في الصيام (1081) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[3] أخرجه أحمد (4/257) عن عدي رضي الله عنه، وهو عند البخاري في المناقب (3595) بنحوه.
[4] صحيح البخاري: كتاب الجهاد (2955)، صحيح مسلم: كتاب الإمارة (1839).
[5] سنن أبي داود: كتاب السنة (4758)، وأخرجه أيضا أحمد (5/180)، وابن أبي عاصم في السنة (892، 1053)، والحاكم (401، 402)، والبيهقي في الكبرى (8/157)، وصححه الألباني في ظلال الجنة (2/434). وفي الباب عن ابن عمر والحارث الأشعري ومعاوية وابن عباس وأبي هريرة وأبي الدرداء وعامر بن ربيعة رضي الله عنهم.
[6] أخرجه الترمذي في كتاب الديات (1395)، والنسائي في كتاب تحريم الدم (3987) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، وليس فيه ((بأسرها))، وقال الترمذي: "وفي الباب عن سعد وابن عباس وأبي سعيد وأبي هريرة وعقبة بن عامر وابن مسعود وبريدة"، وأشار إلى أن وقفه أصح من رفعه، وكذا رجّح وقفه البيهقي في الكبرى (8/22)، ورمز له السيوطي بالصحة، وصححه الألباني في غاية المرام (439).
الخطبة الثانية
الحمدُ لله ربِّ العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، أحمده سبحانه وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له القويّ المتين، وأشهد أنَّ نبينا وسيّدنا محمّدًا عبده ورسوله الأمين، اللهم صلّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أمّا بعد: فاتقوا الله ـ عباد الله ـ حقَّ تقواه، وتقرّبوا إليه بما يرضاه.
أيّها المسلمون، يقول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [الأنفال:24، 25]، أي: اتّقوا أسبابَ كلِّ فتنةٍ، إذا وقع جزاؤها وعقابُها لا تختصُّ بمن ظلم.
وعن العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: وعَظنا رسول الله موعظةً وجِلت منها القلوب وذرَفت منها العيون، فقلنا: يا رسولَ الله، كأنها موعظة مودِّعٍ فأوصنا، قال: ((أوصيكم بتقوى الله والسمعِ والطاعة وإن تأمَّر عليكم عبدٌ، فإنه من يعِش منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنّتي وسنّةِ الخلفاء الراشدين المهديين، عضّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثاتِ الأمور، فإنّ كلَّ بدعة ضلالة))[1]. فتمسَّكوا بهذه الوصيّة العظيمةِ في أموركم كلِّها عباد الله.
أيها الناس، إنّ الله تبارك وتعالى أمركم بأمر بدأ فيه بنفسه فقال عز وجل: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56]، وقد قال : ((من صلّى عليّ صلاة واحدة صلّى الله عليه بها عشرًا)).
فصلوا وسلّوا على سيد الأولين والآخرين وإمام المرسلين.
اللهم صلِّ على محمّد وعلى آل محمّد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد...
[1] أخرجه أحمد (4/126-127)، وأبو داود في السنة (4607)، والترمذي في العلم (2676)، وابن ماجه في المقدمة (46)، والدارمي في مقدمة سننه (95)، قال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وصححه ابن حبان (1/179)، والحاكم (1/95-96)، ووافقه الذهبي، ونقل ابن رجب في جامع العلوم والحكم (2/109) عن أبي نعيم أنه قال: "هو حديث جيد من صحيح حديث الشاميين"، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (37).
ـــــــــــــــــــ(68/61)
مسؤولية أمن الأمة
...
...
3683
...
الأسرة والمجتمع, موضوعات عامة
...
...
جرائم وحوادث, قضايا المجتمع
...
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
...
...
الرياض
...
26/2/1425
...
...
جامع الإمام تركي بن عبد الله
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- مثل الآمرين بالمعروف والتاركين له. 2- وجوب الأخذ على أيدي السفهاء. 3- أمن الأمة مسؤولية الجميع. 4- المفسدون في الأرض. 5- حرمة الأنفس المعصومة. 6- مكر الأعداء بالأمة الإسلامية.
الخطبة الأولى
فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، في الصحيح عنه قال: ((مَثَل الواقع في حُدود الله والقائم فيها كمثل قوم استهموا سفينةً، فكان بعضهم أسفلَها وبعضهم أعلاها، فكان الذين في أسفلِها إذا استقوا فأتوا إلى مَن فوقهم فقالوا: لو خرقنا في نصيبنا خرقًا نستقي منه الماء ولم نؤذٍ من فوقنا))، قال رسول الله : ((فإن تركوهم وما أرادوا هلَكوا جميعًا، وإن أخذوا على أيديهم نجَوا ونجوا جميعًا))[1].
أيها المسلم، إنَّ تدبُّر هذا المثلِ ليعطي المسلمَ تصوّرًا صحيحًا؛ أنّ الواجبَ على الجميع التعاونُ على البر والتقوى، وأن الواجبَ الأخذُ على أيدي السفهاء حتى لا يتمكّنوا من مرادهم، الأخذ على أيديهم وفرض الحق عليهم، فإنّ الأمةَ إذا لم يأخذ عاقلُها على يدي سفيهها وعالمها على يدِ جاهلها فإنّ الفوضى تعمّ الأمة، والنبي قال: ((والذي نفسي بيده، لتأخذنَّ على يد السفيه، ولتأطرنّه على الحق أطرًا، ولتقصرنَّه على الحقّ قصرًا، أو ليوشكنّ الله أن يضربَ قلوب بعضكم ببعض، ثم يلعنكم كما لعنهم))[2].
أيها المسلم، إنّ أمةَ الإسلام أمةُ تعاونٍ على الخير والتقوى، أمّةٌ تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، تأمر بالمعروف وتحثّ عليه، وتنهى عن المنكر وتحذّر منه.
أمةَ الإسلام، إذا لم يؤخَذ على يد الظالم وإذا لم يكن لدى الجميع تعاونٌ على الحقّ وقطع خطِّ الرجعة على كلّ مفسدٍ وآثم، حتى يعلم أنّ الأمةَ في يقظةٍ وانتباه، وأن هذا المجرمَ والظالم لا يروج باطله وظلمُه على المجتمع المسلم.
أيها المسلم، إنّ واجبك أن تكونَ حريصًا على مصلحةِ أمتك حرصًا عظيمًا كما تكون حريصًا على مصلحة نفسك؛ لأنّ حرصك على مصلحة أمّتك يدلّ على وجود الخير والهدى في نفسك.
أيها المسلم، إنّ أهلَ الفساد والإجرام إذا لم يجِدوا لهم أرضيّة في أيّ مكان ووجدوا من المجتمع يقظةً وانتباهًا وأخذًا على يدِ كلّ مفسد وعدم تمكينه من إجرامه وفساده، عند ذلك يعلم أنّ الأمةَ في يقظةٍ فيكفّ شرّه وينتهي المسلمون من ضرره وأذاه.
أيها المسلم، إنّ نبيَّنا يقول: ((انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا))، قالوا: يا رسول الله، ننصره مظلومًا، فكيف ننصره ظالمًا؟! قال: ((تردعه عن الظلم، فذلك نصرك إياه))[3].
أيها المسلم، إنّ أمةَ الإسلام تُصاب أحيانًا من فئاتٍ فسدت ضمائرها، ومن فئاتٍ ضعُف الإيمان في نفوسها، ومن فئات لا تبالي بمصلةِ دينها ودنياها، ومن فئاتٍ تغلغل الشرّ في نفوسِهم، فسَدت ضمائرهم، وقلّ حياؤهم، وانعدم الخير في نفوسهم، فهم لا يبالون بأيّ ضررٍ ألحقوه للأمة؛ لأنهم ـ والعياذ بالله ـ يعيشون مرضى القلوب، لا يهتمون بمصالح الأمة، ولا يقيمون لأمنها ومصلحتها أيَّ أمر.
هذه الفئةُ من الناس غرَّر بهم الأعداء، وخدَعهم الأعداء، وانقادوا للأعداءِ، فصاروا ـ والعياذ بالله ـ خنجرًا مسمومًا في نحور الأمة المسلمة.
هذه الفئةُ المنحرفة لا يمكن أن نتّقي شرَّها إلاَّ بتعاونٍ من الأمّة من أفرادها جميعًا؛ لأنّ الأمةَ تشعر أنّ ما تنعَم به من أمنٍ واستقرار وطمأنينة ورغدِ من العيش، تلك النعمةُ التي مَنَّ الله بها على الأمة، إنّ أولئك الفئة يسعَون في انتزاع كلّ خير من أيدي الأمة، يسعَون في ضرب الأمة بعضها ببعض، يسعَون في نشر الفوضى بين المجتمَع المسلم، والمجتمعُ المسلم يجِب أن يكونَ يقظًا حذِرًا منتبِهًا لكلّ مجرم يريد للأمة شرًّا، أن يأخذَ على يده، ولا يمكِّنه من ظلمه وجَوره، هذه مسؤوليةُ كلّ فرد منا، وإن تفاوتت المسؤولية على قدرِ مسؤولية الإنسان، لكن كلّ مسلم مسؤول عن أمن أمته، مسؤولٌ عن سلامة دينها ودنياها، مسؤول كلَّ المسؤولية؛ لأنّه إذا تقاعس كلّ فرد عن مسؤوليته وجد العدوّ المجرمُ أرضيةً خصبة ليبثّ فيها سمومه وأحقادَه.
فالواجب على الجميع تقوى الله، والتعاونُ على البر والتقوى، وأن لا يعينَ مسلم أحدًا على الإثم والعدوان، وأن يأخذَ على يدِ أيّ ظالم أو مفسدٍ يريد نشر الفساد في الأمة.
أيّها المسلم، إنَّ حرمةَ الدماء عند الله عظيمة، وقتل الأبرياء بلا حقٍّ كبيرة من كبائر الذنوب، ومن يستحلُّ قتلَ الأبرياء ويرَى حِلّ دمائهم فإنّ ذلك يخشى عليه أن يكونَ على غير الإسلام؛ لأن قتلَ المسلم كبيرة من كبائر الذنوب، متوعَّد صاحبها بلعنة الله وغضبه والخلودِ في عذابه، فمَن يستحلّ دمَّ المسلم بغير حقّ ويرى أن دمَ هذا المسلم حلالٌ له سفكُه فإنّ ذلك مصابٌ في دينه والعياذ بالله.
أيّها المسلم، إنَّ مسؤوليةَ أمن الأمة يجب أن يتصوّرها كلّ فرد منَّا، وأن يسعى كلّ فردٍ منا في تحقيقها. المجتمعُ المسلم إنما أوتي من تكاسُل أبنائه وضعفِ المسؤولية، فالواجبُ على الجميع القيامُ بهذا الواجب، كلٌّ على قدره؛ لأنّ أمنَ الأمة أمن يعمّ كلَّ أحد ونعمة يعيش في ظلالها كلّ أحد، فالواجب تقوَى الله في السرّ والعلانية، الواجبُ السعيُ في الخير ودفع الشرّ بكل مستطاع، هذه مسؤوليةُ كلّ فرد منا، من يتهاون في هذا أو يستخفّ بهذا أو لا يَرى هذا واجبًا فذاك لقلّة علمه وسوءِ تصوّره.
أيرضى المسلمُ لهذا الأمن العظيم أن يسعَى مفسدٌ في تكدير هذهِ النّعمة أو السعي على إضعاف شأنها؟! لا يرضى بذلك مسلم يؤمِن بالله واليوم الآخر.
إن هذه الفئاتِ المجرمة وما تقدم عليه من ضرر وبلاء لا شكّ أن هذا دليل على ضعفِ الإيمان في القلوب، إذ لو وجد إيمان صحيح لردَع عن تلك الجرائمِ العظيمة والفضائح الكبيرة.
أيّها المسلم، إنَّ الله جل وعلا يقول: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ [آل عمران:104]، وأيّ منكرٍ أعظم من منكرِ من يسِفك دماءَ الأمة ويسعى في الإفساد، والله جل وعلا لا يحب المفسدين؟! بأيّ وسيلةٍ استحلّوا دماء الأمة؟! بأيّ وسيلة سعوا في الأرض بالفساد؟! إن هذا دليلٌ على فساد إيمانهم، إنّ هذا دليل على أنهم مجرِمون في أنفسِهم، تلك الجريمة التي أدّت إلى سفك دماء الأبرياء وقتلِ الأبرياء والعياذ بالله من حالة السوء.
إنّ الله جل وعلا يقول لنا في كتابه العزيز: وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ [البقرة:204، 205]، يعجبك قولُه وأنّه يدعو إلى خير ويدعو ويدعو، ولكن والعياذ بالله وراءَ تلك الدعوةِ الباطلة أعمالٌ سيّئة تدلّ على فساد هذا القول وكذِب هذا القول وتلك الادّعاءات الباطلة، إذ لو كان على حقّ وهدى لعلم أن احترامَ الدماء أمر مطلوب من المسلم شرعًا، وعلِم أنّ ترويع الآمنين خطرُه عظيم وذنبه كبير، فلا يحلّ لمسلم أن يتهاونَ في هذا الواجب، ولا يحلّ لمسلم أن يتساهَل في هذا الواجب، ولا يحلّ لمسلم أن يتغاضَى عن كلّ مجرم يريد للأمّة البلاءَ والشر.
إنَّ الأمة مسؤولة كلّها عن أمنها وعن طمأنينتها وعن رغَد عيشها، مسؤولةٌ عن حِفظ دينها وأخلاقها، وإنها مسؤوليةُ كلّ فرد منّا على قدره، وإن كان من له الأمرُ عليه واجِب، لكن كلّ فرد عليه أن يشعر بمسؤوليتِه نحو أمنِ أمّته واستقرارها، فهذا رسول الله يمثِّل بهذه السفينةِ، أناس في أعلاها وأناس في أسفلها، مَن بأعلاها عندهم ماء، ومن بالأسفل يصعدون ليأخذوا الماء، أرادوا أن يخرِقوا في السفينة خرقًا لينالوا الماء من قريب، فالنبيّ قال: ((إن هم تركوهم هلَكوا جميعًا))[4]، دخل الماءُ السفينةَ فقلب أوّلها وآخرها، وإن أخذوا على أيديهم ولم يمكّنوهم من مُرادهم فإنّ النجاة للجميع.
وهكذا المسلم إذا رأى من يفسِد في الأرض أو يسعَى في الفساد أو يخطّط لهذه المكائد والضلال، إذا علم به فإنّه يجب أن يكشِف حاله وأن يحولَ بينه وبين مرادِه حتى تأمنَ الأمة جميعًا، يأمنَ هذا وهذا، وإن تغاضى الناس عن المفسدين ولم يبالوا بهم وتستَّروا عليهم وتغاضّى أيّ إنسان عنهم فإنّ ذلك فساد يعمّ الجميع. فالواجب تقوى الله في كلّ الأحوال، الواجب التناصحُ والتعاون وتبصير الجاهلين وتوضيحُ الحقّ لأولئك المنحرفين حتى يعلَموا الخطأ الذي هم واقعون فيه، فيجتنبوا باطلَهم ويعودوا إلى رشدهم وينيبوا إلى ربهم.
أيها المسلم، مصلحةُ الأمة مصلحةٌ عظيمة، يشعر بأهمّيتها من في قلبه إيمانٌ وخوف من الله، من في قلبه إيمانٌ وخوف من الله يشعر بمسؤولية الأمّة وأنّ مسؤوليتَها مسؤولية عظمى، كلّ مسلمٍ يساهم في هذا الواجب ويسعى في الخير جهدَه لكي يحقّق للأمةِ ما تسمو إليه من خلق.
إنّ العالمَ الإسلاميّ وهو يواجه التحدياتِ العظيمة في كلّ أرضٍ من أرضه واجبٌ عليه أن يستيقظَ وينتبه ويحفظَ شبابه ويطهِّر مجتمعاته من دعاةِ الفرقة والضلال. المجتمع المسلمُ يعاني حملاتٍ من أعدائه في كلّ مكان، تسلَّط الأعداءُ على المسلمين، ففي كلّ مكانٍ تسمع قتالاً عظيمًا وقتلاً وسَلبًا ونهبًا والعياذ بالله، تلك الأمة المسلمةُ التي فرَّطت في دينها سلِّطت عليها هذه الفتن والمصائب. فالواجب تقوى الله، والواجب الرجوعُ إلى الله والإنابة إليه والقيام بالواجب والأمر بالمعروف والنهيُ عن المنكَر على ما يحبّ الله ويرضاه، لكي يأمنَ المسلمون ويعيشوا حياةً سعيدة طيبة ويبصِّروا الجاهلَ ويأخذوا على يد السفيه ويدلّوه على الطريق المستقيم؛ لأنّ الأمة لا صلاح لها إلاَّ بذلك؛ بتعاونِ أفرادها مع مسؤوليها، وتعاونِ الجميع على الخير، واليقظةِ والانتباه لكلّ مَن يريد الفسادَ في الأرض أن لا يمكَّن ولا يترَك لكي ينفّذ جريمتَه وظلمه، بل يؤخَذ على أيدي الجميع لكي تعيش الأمة في سعادةٍ وأمن وطمأنينة، ولذا قال الله: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ [المائدة:2]، وقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلا تَتَنَاجَوْا بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [المجادلة:9].
إنّ المجتمعَ المسلمَ أفرادُه مسؤولون كلّهم جميعًا مطالبون بالسعي فيما يؤمن للأمة ويصلِحها ويدفع عنها كيد الكائدين. إنّ أعداء الإسلام لا يبالون بما يحصُل في الأمّة المسلمة من فتنٍ وبلاء؛ لأنهم يسخّرون ضعفاء العقول ومن قلّ إيمانهم وفسَدت ضمائرهم وتلوّثوا بكلّ شرّ وبلاء، يسعون في الاستحواذ عليهم وتوجيههم لأغراضهم الدنيئة، فلا بدّ للمسلمين من يقظةٍ وانتباه واستعانة بالله وثقةٍ بالله وتعاون على البر والتقوى وتآمر بالمعروف وتناهٍ عن المنكر، الأب يجب عليه أن يتّقي الله في أبنائه ويحرصَ على توجيههم ويحذَر أن ينزلقوا ويسألهم عمّن يصاحبون ومن يخالطون ومن يسهرون معه، لا بدّ للأمة من هذا حتى يكونَ عندها انتباهٌ واهتمام بالمصالح في الحاضر والمستقبل، وإذا حسُنت النية وصدَقت النية وأخلَص العبد لله أعماله فإنّ الله جل وعلا يوفّقه لكل خير، المهمّ التعاون على البرّ والتقوى، المهمّ أن لا ندعَ للمجرم أن ينفّذ إجرامه، ولا للمفسد أن ينفّذ فسادَه، ولا بدّ أن يكونَ يقظةٌ من الجميع حتى تسلمَ الأمة من خطر أولئك المفسدين.
نسأل الله لنا ولكم التوفيق والسدادَ والعون على كل خير، وأن يهديَ ضالَّ المسلمين ويثبّت مطيعهم ويحفظَ نعمته عنَّا من الزوال بفضله وكرمه.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في الشركة (2493) عن النعمان بن بشير رضي الله عنه بنحوه.
[2] أخرجه أحمد (1/391)، وأبو داود في الملاحم (4336)، والترمذي في التفسير (3047)، وابن ماجه في الفتن (4006) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه، قال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب"، وقد اختلف في إرساله ووصله، وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة (1105).
[3] أخرجه البخاري في الإكراه (6952) عن أنس بن مالك رضي الله عنه بنحوه.
[4] تقدم تخريجه.
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتّقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
أخي المسلم، أنتَ مسؤولٌ عن دينِك، مسؤولٌ عن إسلامِك، الله سيَسألك عمّا ائتمنك عليه، فقد ائتمنك على هذا الدين فهل قمت به خير قيام؟ مسؤول عن أمن أمّتك وسلامتها، عن سلامة هذا المجتمع، أنت مسؤول على قدر مسؤوليتك.
إنَّ أعداءَ الإسلام يحاربون الأمةَ المسلمة بكلّ ما أوتوا مِن قدُرات، فتارةً يحاربونهم بنشرِ المخدّرات وبثِّها في المجتمعات عندما يجِدون من هو ـ والعياذ بالله ـ شقيّ غلب عليه حبّ المادة حتى أدّى ذلك إلى أن يكون سمسارًا يروّج المخدّرات في بلاد الإسلام، ويسعى في بثّها بين المجتمع المسلم، أين الإيمان الذي يردعُك من هذا الشر والفساد؟! أين الإيمان الذي يحول بينك وبين هذِه الجريمة النكراء؟!
يجدون أناسًا يصغون إلى أعداء الإسلام الذين يريدون أن يبثّوا في الأمة الفرقةَ والاختلاف، وأن يكدّروا عليهم أمنهم وطمأنينتَهم، وأن ينشروا الفساد والإجرامَ بين مجتمعاتهم. فلا بدّ للمسلم أن يكونَ يقظًا، وأن يكون حذرًا، من أن يكونَ آلة بيدِ أعدائه، يوجّهونه كيف يريدون، ويسخِّرونه كيف يهوَون. واجبُ المسلم أن يكون له يقظة وانتباهٌ واهتمام بدينه وأمّته، حتى يكون مؤدّيًا للواجب مساهِمًا في صلاح أمّته وحمايتها من كيد المجرمين والضالين، فمن يسعى في فساد الأمّة لا يدري أنّه محارب لله ورسوله، إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنْ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ [المائدة:33]. الفسادُ عامّ في الأخلاق، وفسادٌ في سفكِ الدماء ونهب الأموال وتدميرِ الممتلكات، الواجبُ أن يكونَ الجميع في يقظةٍ وانتباه وحذرٍ من مكائد الأعداء.
فيا أيها المسلم، اتق الله في نفسك، اتّق الله في دينك، واتّق الله في أمّتك، واحذَر أن تكون عونًا للأعداء على أمتك أمة الإسلام، احذَر أن تكونَ ساعيًا في فسادها أو ساعيًا في إلحاقِ الضرر بها، فذاك ينافي إيمانك الصادق، فصاحب الإيمان الصادِق يحمي هذا المجتمعَ بقدر إمكانيّته، ينصح ويدعو إلى الخير، ويوجّه الأمة للخير، ويسعى في بثّ الخير والتحذير من الشرّ ووسائله. أسأل الله أن يعينَ الجميع على كلّ خير.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهديِ هدي محمّد ، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلّ بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله على الجماعة ومن شذّ شذّ في النار.
وصلّوا ـ رحمكم الله ـ على محمّد كما أمركم بذلك ربكم، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمّد، وارض اللهمّ عن خلفائه الراشدين الأئمة المهديّين..
ـــــــــــــــــــ(68/62)
المرأة تربية ومكانة
...
...
3023
...
أديان وفرق ومذاهب, الأسرة والمجتمع
...
...
المرأة, مذاهب فكرية معاصرة
...
عبد المحسن بن عبد الرحمن القاضي
...
...
عنيزة
...
20/2/1423
...
...
جامع السلام
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- إهانة المرأة في الجاهليات القديمة. 2- منزلة المرأة في الإسلام. 3- الجاهلية الجديدة ووأد المرأة باسم التحرر. 4- صور من المؤامرة على المرأة. 5- دور المرأة وإمدادها لهذا الدور. 6- واجبنا تجاه هذه المؤامرة. 7- الأنموذج الذي اتبعه دعاة التحرير والسفور في مصر.
الخطبة الأولى
أما بعد: فيا عباد الله اتقوا الله تعالى وتوبوا إليه..
أيها الإخوة المؤمنون، أهينت كرامتها، وهضمت حقوقها، وكان يتشاءَمون منها، ليس لها حق الإرث. وليس لطلاقها عددٌ محدود.
ولا لتعدد الزوجات حد، كانت تورث وتباع كالبهيمة والمتاع.
و تكره على الزواج والبغاء بأنواعه المتعددة. وتعددت الجاهليات والنهاية واحدة.
جاهليةٌ تبيح للوالد بيع ابنتهِ ووأدها حيةٌ في مهدِها وَإِذَا بُشّرَ أَحَدُهُمْ بِالاْنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّا وَهُوَ كَظِيمٌ يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوء مَا بُشّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِى التُّرَابِ أَلاَ سَآء مَا يَحْكُمُونَ [النحل:58، 59].
كم من الأعاصير العنيفة التي واجهتها المرأةُ؟ وكم من حقول الشوكِ عبَرتها في عمق التاريخ؟ وكم من سياط الذل والخسفِ التي نزلت على جسدها وقلبها، أجمع الجاهليون القدماء على إهانتها. ونظروا إليها بعين الشكِّ والعار. وفرَضُوا عليها الفسادَ والعُهرَ امتداداً لجاهليات كانت تهين المرأة كالجاهلية الرومانية والبابلية واليونانية كما أثبت ذلك التاريخُ. فكانت المرأة بعد كلِّ ذلك مكلومةَ الفؤاد.. ممزقة النفس دامعةَ العين.. واهيةَ الجسد والروح.
لكن الإسلام الذي جاء مخلصاً للبشريةِ بتعاليمه الساميةِ.. أكرم المرأة وجعل لها المكانة الخاصةَ والرعايةَ الكريمةَ.. جاء الإسلام وأعطى للمرأةِ حقوقاً حمتها ورعى منزلتها وأعلا مكانتها، فالمرأة إلى جانب الرجل تكلَّف كما يتكلّف الرجلُ إلا فيما اختصَّ به مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حياةً طَيّبَةً [النحل:97].
فمنزلة المرأة في الإسلام عزيزةً كريمةً أماً أو زوجة أو أختاً أو بنتاً، تقوم بدورها إلى جانب الرجل، تؤازره وتشدُّ من عزمِه، تناصره وتقوي همته، تحفظُه إن غاب وتسره إن حضرَ إليها، وتضحي بدورها لأجل دين الله، وتساهم في بعث الأمل بنصر الله.
فسميَّة رضي الله عنها أول شهيدةٍ في الإسلام وخديجةُ بنت خويلدٍ الزوجة التي شجعت رسول الله على دعوته لدين الله. وعائشةُ وأسماءُ وأم سليم وأمُّ عِمَارة كلَّها أسماءٌ سطَّرت تاريخاً حافلاً في نصرةِ الإسلام، وسجَّل لهن التاريخ ولغيرهن أروعَ المواقف في نصرتِه وتأييدِه. وتربية المنزل لذلك وتهيئة أولئك الأبطالُ في بيوتهن الذي صنعوا التاريخ الإسلاميَّ وفتوحاته.
وسارت تعاليمُ الإسلام بالمرأة فأدبَّها الإسلام، وحرَّرها من رقِّ الجاهلية وصان حقوقها، وخصها بما يناسب فطرتها.
ومع ضعف الإسلام في النفوسِ أهله وذلَّتهم وصلت المرأة في زمننا وعالمنا العربِّي والإسلاميِّ إلى جاهليةٍ معاصرةٍ في زمننا هذا، أرادت هذه الجاهلية إخراج المرأةِ عن دورها الحقيقيَّ، تعقد لها المؤتمرات أو قُل المؤامرات. وأنشأت لها منظمات الحرية المزعومة والتحرير الموهوم، فوأدت هذه الجاهلية المعاصرةُ المرأةَ، ليس وأداً بالتراب لكنه وأدٌ فكريٌ وأخلاقيٌ، وأدٌ لرسالتِها، وأدٌ لفكرِها، وأدٌ لأخلاقها، فتأثرت المرأة المسلمةُ بهذه الهجماتِ الشرسة وجَلَبتَ لها مدنية هذا العصرِ ذبحاً صارخاً للأعراضِ ووأداً كريهاَ للغيرةِ. وتحريفاً لدورها في الحياة، يمجِّدون الفردَ ويهمِّشون الأسرةَ، ويهتمون بالفرد ويهملون العائلةَ، لا يرون في المرأة زوجةً ولا أماً ولا بنتاً، وإنما يرونها عاملةً وموظفةً، المرأة في مسلكهم آلت إلى سلعةٍ في سوقٍ اللذات والشهوات، يستعبدها الرجل الذي يزعمُ تحريرها، يستمتع بها لأنه يريدُ حرية الوصول إليها، وليس حرَّيَّتها.
وهكذا ضاعت المرأة وتشتت الأسرةُ وهدم المجتمع وهُزِمَتْ وذلَّت الأمَّةُ، فالأم مربية الأجيال أصبحَتَ تربى على الانفتاح اللاأخلاقي وأُهمل إعدادها فضاعت المجتمعاتُ.
والأمُّ مدرسةٌ إذا أعددتها أعددت شعباً طيب الأعراق
أيها الإخوة المؤمنون، إذا كان هذا حال المرأة في زمننا في بلاد الكفرِ والفسوقِ، فلاشك أن مما يُحْزَنُ له أنك ترى لوثات هذا الفساد قد سيطرت على عددٍ من بلدان العالم الإسلاميِّ حتى أصبحت المرأة في بعض دولِ العالم الإسلامية ـ بسعيٍ من مفسدِيها عبرَ الزمن ـ قرينةً للمرأة الكافرةِ، قرينةً لها بتبذُّلها وسوء أخلاقِها، وسفورها، تحللت من كلِّ الروابط والقيم الأسرية. وتغلَغلَت تلك الهجماتُ وتمكَّنَت بدعمٍ من وسائل الإعلام ورعايةٍ من بعض الجهات المسؤولة في تلك البلدان، لكننا بعد أن رأينا بوادر تلك الهجمات الشرسة تطالُ المرأة في بلادنا حجاباً وخلقاً وعلماً وتعليماً، بدأنا نرى ثماراً جناها بعض دعاة الفسوق والرذيلة في التأثير على المرأة المسلمة، غاظهم حال المرأة لدينا وكيف حافظت بالرغم من كل تلك التغيُّرات والهجمات على عفافها، غَاظَهم أنها استجابت لرَّبها وأقامت دينَها وأكملَت تعليمها مستقلة عن الرجالِ، فأصبحت مِثالاً حياً، وطريقاً يُحتذى، جمعَتَ بين تعاليم الإسلام آداب الدين، واستوعبت ما يفيدها من علوم العصر، ومن خلال ميادينها المستقلة تمكنت المرأة في بلادنا أن تساهم بعطائها في المجتمع والوطن مجتنبةً الويلات التي يعاني منها المستسلمون والمتخاذلون.
أيها الأحبة، ومع كلِّ هذه الفضائل التي تعيشُها المرأةُ في بلادنا إلا أنَّنا نَرى هجمات مبطنةً وظاهرةً، نرى بوادرها تغزو مجتمعنا.. وتستغلُّ المناسباتِ والأزماتِ لتمرير أهدافها على المرأة، ونشطُوا في حرب القيم وعكس المفاهيم، وارتبطت هجماتُهم الماكرةُ بمصالحَ ماديةٍ وإعلاميةٍ وأهدافٍ وطنيةٍ مزعومةٍ وضرورات عصريةٍ تراثيةٍ وعبر جهاتٍ مسؤولة.
وحدّوا جهودهم وشحذوا ألسنتَهم وبَرَوا أقلامهم، وعقدُوا المؤتمرات والندوات وسطَّروا المقالات.. وامتطوا صهوات الهيئات لتحقيق مآربهم. وأنت إذا نظرتَ إلى تلك المبادئ البائسة التي تحاك لنسائِنا ومجتمعنا فإنك تراه ينادي بها ويدافع عنها ويتحمس لها نخبٌ علمانيةٌ ذاتُ هيمنةٍ على مجرياتِ الفكرِ والصحافةِ والإعلامِ، تأملوا كيف تعاونت تلك الأقلامُ الساقطةُ والأفلامُ الهابطة، تمزق حجابَ العفةِ ثم تتنافسُ وتتسابق في شرحِ المعاصي وفضحِ الأسرارِ وهتك الأستارِ وفتح عيون الصغار قبل الكبار، انظروا كيف انبرت تلك الألسنة والأقلام للحرب على جهاتٍ الحكومية التي تخدم تعليم المرأة في الجرائد أو تقدم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويريدون بكيدهم إسقاط تلك الجهات ألا ساء ما يريدون أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ [الأنعام:31].
إن المعششَ في عقولِ هؤلاء أن التقدم العلمي والسباق التقنيَّ لن يتحَّقَقَ إلا على أنقاض الفضيلةِ والإيمان والالتزام بأحكام الإسلام وتقويض جهات التعليم والدعوة والحسبة التي تميزت بها بلادنا، لن يتحَّقَقَ التقدُّمُ في نظرهم إلا من خلالِ تقليدٍ صليِّبي أو بوذيِّ في تعليمهم واتباعِهم في إعلامهِم.. هُزموا في نفوسِهم ففقدوا القدرةَ على التمييزِ بين الحقِ والباطلِ، وسعَوْا بكلِّ ما أُوتوا لتنفيذِ خطَطِهم وأجلبوا خيلهم ورجْلهِم.. ولبَّسوا على المسؤولين وغشُّوا الناسَ وهم يُظهرُون حبَّ الإصلاحِ، في حيِن أنَّهم مفسدونَ، يدعَّون الوطنيَّةَ وهم يسعْون لخراب الوطنِ. وكيدهم هذا يظهر تارةً ويختفي تارةً، فكلما رأوا الأجواء مناسبةً أوقدوا نار حربهم وكثفوا هجومهم، فإذا كبتوا كما كبت الذين من قبلهم اختفوا كما الجرذان في جحورهم، لكنهم لا يلبثون أن يخرجوا إذا رأوا طعماً لهم. وإن كانوا قد حققوا بعض مراداتهم فلنعلم أنهم بإذن الله خاسرون أمام سياجات متينةٍ من إيمان المجتمعِ وأخلاقهم وغيَرِتهم على نسائِهم وتعاونهم فيما بينهم على مقاومة هذه الأدواء، ولنثقْ أنَّهم وإن تحقَّقَت لهمْ بعضُ مطالبهم لاسيَّما بدعمٍ صليبي، فإنَّهم لن يُحقِّقُوا آمالَهم في تغريبِ المجتمعِ وصرفِ المرأة عن مهمتها الأساس ببناءِ بيتَهِا على الإيمانِ والتقوى، ويجبُ أن نتكاتفَ جميعاً قادةً وشعباً ورجالاً ونساءً وآباء وأمهات على ردِّ هذه الهجمات وعلى أن نحُصِن أنفسنا تجاهها، وأن يبحث كلُ واحد منا عن دورٍ يساهم من خلاله في تحصينِ المرأةِ في مجتمعنِا أمام هذا المكر والكيدِ، لاسيما ونحن ولله الحمد نفاخر بنسائنا في بيوتنا من أمهاتٍ وزوجاتٍ وبناتٍ وأخواتٍ.
أيُّها الإخوةُ المؤمنون، إن طريقة السلامةِ لنسائِنا في المجتمع ـ لمن يريد السلامة ـ لن يكونَ إلا بعدَ الإيمانِ بالله ورحمتِه وعصْمتِه، إن طريقَ السلامةِ ينبعُ من البيتِ والبيئةِ.. فهناك بيئاتٌ تُنبتُ الذلَّ وأخرى تُنبتُ العزَّ، وثمة بيوتاتٌ تظلَّلها العفةُ والحشمةُ، وأخرى ملؤها الفحشاءُ والمنكَرُ. وإننا ولله الحمدِ في الوقتِ الذي نُفَاخِرُ فيه بما آلتَ إليه عددٌ من بيوتِ المسلمين من سترٍ للأعراض وحمايةٍ للمرأةِ فإننا نخْشى ونستغربُ من تغيِّرٍ سريعٍ طال عدداً من بيوتنِا الإسلاميةِ.
يجبُ أن نعلمَ أنَّ هذه الحربَ المبطنةَ والظاهرةَ على المرأةِ في بلادنا لن تُحَقِّقَ أهدافَها وتنالَ مرادَها إلا حينَ نغفلُ عن بيوتِنا ونهملُ التواصي فيما بينَنا على الحقِّ والتواصي على الصبِر والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.. إننا سنواجهُ هذه الهجمات على المرأةِ إذا استطعْنا أن نجعلَ منها عضواً فاعلاً في المجتمعِ محصَّناً تحصيناً ذاتيَّاً ضدَّ ما يرادُ بها.
ولنعلم أن تأسيسَ الجيلِ على إيثار الحقِّ والخيِر والفضيلةِ وحبِّ العلمِ ومآثر الأخلاق ومعالي الأمورِ يكون بفضلِ الله ثم بأمٍ عرفت قدّر نفسها ووعَت دورَها ورسالتَها، فهي المدَّرسةُ الأولى والمعلّمةُ الرؤوم، يستمدُّ منها الطفلُ ـ بتوفيق الله ـ مفرداتِ اللسانِ وأركانَ الإيمانِ ومعالَم الإسلامِ ومناهجَ السلوكِ، هذا الدورُ العظيمُ الذي يُوازي كلَّ وظيفة.
لكنَّ هذا الدورَ للمرأةِ لن يأتَّي بالأماني، ولا يتحقَّقُ بالتنظيِر فقط بل هو مهمةٌ كُبرى وجهادٌ مستمرٌ يبدأُ بإعداد المنزلِ والبيئةِ الصالحةِ التي تترَّبى فيها البنتُ من صِغَرِها تترَّبى على لوحاتِ الفضيلةِ ومناظرِ العفافِ والتفاهم لا التخاصم فيما بين الأبِ والأمِّ، على تربيةِ الأولادِ على الخيِر، حينَ ُتتْلى في المنزلِ آياتُ القرآنِ الكريم وتطبّق وتتلَقَّى أحاديثَ الرسولِ وتعيشُ سيرتَه وقصص صحابته.
يبدأ إعدادُ المرأة عندَما يخفقُ قلبُها بحبِّ الله تعالى وحبِّ الأنبياء والصالحين والمسلمين لا بحبِّ مغنٍ ساقط.. أو رياضيٍّ ضائعٍ.. أو إعلامٍ ماجن.. وفنٍ هابطٍ.
يبدأُ إعدادُ المرأةِ عْندَما ترى أبوين يُقلِقهُما تخبُّط المسلمين وتأخُرُّهم، فتحمُل الفتاةُ منهما همَّ الإسلامِ، فترتفعُ عن صغارِ الهمومِ ،و صغائرِ الأمورِ.
لابدَّ أن يبدأ إعدادُ المرأةِ لدينا من خلالِ أبوين مُتحابين جاديْن يعملان لبناءِ أسرةٍ قويةٍ في دينها صحيحةٍ في جسومِها لتكونَ هذه الأسرةُ لبنةً في بناءِ مجتمعٍ قويٍ، وذلكَ حين تترَّبى البنتُ في هذا البيت لتتهَّيأ لبيت الزوجيةِ الذي تؤدِّي فيه دورَها.
أيها الآباءُ والأولياءُ، إنها مهمةٌ عظيمةٌ أوجَبها اللهُ عليكم بتربية البناتِ وإعدادهِن لمواجهةِ أعباءِ هذه الحياةِ.. هذه المهمةُ الكبرى بالتربية التي أْعطى اللهُ لها الأجرَ العظيم بإحساِنها يقولُ رسول الله : ((من كان له ثلاثُ بناتٍ فصبَر على لأواِئهنَّ وضَّرائهنَّ أدخلَه الله الجنَّةَ برحمتِه إياهُن))، فقال رجل: وابنتان يا رسول الله قال: ((وابنتان))، فقال آخر: وواحدة، قال: ((وواحدة)) رواه الحاكم وصححه.
ويقول عليه الصلاة والسلام: ((من عال جارتْين حتى تبلُغا جاءَ يومَ القيامة أنا وهو كهاتين وضمَّ أصابعَه)) رواه مسلم.
أيها المؤمنون، إن الهجومَ على المرأة يشتدُّ والمعركةُ ستكونُ أكثَرَ ضراوةٍ بقدرِ ما تكونُ المرأةُ مستمسكةً بعروةِ الإسلامِ الوثقى، وبقدر ما تُطبِّقُ تعاليم الدينِ ومبادئَ القيمِ عن علمٍ وحبّ وإيمان، كما هو حالُ غالب نسائِنا ولله الحمد.
وإن المرأة حين تحصن نفسها بهذا الإيمان فإن هذه الهجمات سترد عنها بطرف حسير. ولن تحقق شيئاً في بناء المرأة المتين، يجب أن نعلم أننا كلنا مستهدفون بيوتاً وأسراً ونساءً. وإذا لم نحصن نساءنا علمياً وعملياً وعقلياً وخلقياً، وإذا لم نجعلْ ذلكَ من أوَّل مهامِنا بحيثُ لا تدعُ لباغٍ مَنْفَذَاً ولا لداع للشهوات والشبهات مدخلاً، إذا لم نفعل ذلك فإن دعاة التغريب والغربة ـ وما أكثرهم هذه الأيام ـ ينتظرون غفلةً منا وتغافلاً ليتوجسوا خلال عقلِ الفتاةِ وقلبِها ويستغلِّوا تعليمَها لتميل ميلاً عظيماً.
أيها المسلمون، حذارِ ثم حذارِ أنُ تُقدِّموا على صلاحِ بيوتكم وبناتِكم همَّاً آخر مهما كانُ ملحاً، حذارِ ثم حذارِ أن تَدعُوا دعاةَ الرذيلةِ على أهوائِهم ليتركُوا بيوتنا قاعاً صفصفاً، وليكونَ العفافُ فيها أثراً بعد عين كما تحقَّقَ ذلك لقرنائِهم في عدد من بلادِ المسلمين.
حذارِ أن تلقي بالمسؤوليةِ عن المرأة في بيتكِ ومجتمعكِ على الحكومةِ وحَدها أو على العلماءِ فقط وإن كانوا مسؤولين بالدرجة الأولى، لكنه تعاونٌ وتعاضدٌ فيما بينَكَ وبينَهم سيُؤتي ثماره بإذن الله، إذا كان الوعُي حاضراً والحذرُ موجوداً والحرصُ مُشتركاً.
إن علينَا جميعاً محاصرةَ الفسادِ وأهلهِ بكل الطرقِ المشروعةِ والمتاحةِ والمباحة، كما علينا مصارحَة كُلِّ مسئول ومناصحته من منطلقِ الحرصِ وحبِّ الخيِر لا الحقد.
مناصحة العلماءِ والآباء، مناصحةُ الجميعِ بالأخطارِ القادمةِ إن أرخوا العنانَ لدعاةِ تحريفِ المرأةِ، وغضُّوا الطرفَ عن مشاريعهم الهدَّامةِ. وكتاباُِتهم الساقطة، إن الجميع سيجني بالسكوتِ مرارةً وعَلْقَماً، والساكتُ عن الحق شيطانٌ أخرس. ولنحذرْ من المغرياتِ الحديثةِ للمرأة التي تُغريها بالخروج مِن بيتها مهملةً دورَها الأساسَ في المنزلِ. ولنحذرَ كذلك طرائق تشويه حِجابِ المرأة الذي طالَتْه الموضاتُ والفتحاتُ مِن ُكلِ جانبٍ.
ولنعلمَ أن استقرارَ المرأة في بيتها خيرٌ لها، ووظيفتُها في بيتِهَا من أشرفِ الوظائفِ في الوجودِ، وما ُيحسنُ هذه المهمةَ ولا يتأهّلُ لها إلا من استكملَ أَزْكَى الأخلاقِ، وأنْقَى الأفكارِ.
ومن الخطأ في الرأي وفسادِ التصوُّر الزعمُ بأن المرأةَ في بيتِها قعيدةٌ لا عملَ لها، أو أنَّها عالَةٌ على أهلها كما يقولُهُ البعضُ، فهذَا سوءُ فهمٍ غليظ وجهلٌ بطبيعة المرأةِ في المجتمعِ. والأشدُّ الظنُ بأن هذه الوظيفَة قاصرةٌ على الطهي والخدمةِ، إن مهمَّتها الأساسُ تربيةُ الأجيالِ والقيام عليها، حتى تُنْبُتَ نباتاً حسناً ذكوراً وإناثاً، وهي مهمةٌ تعدِلَ في الإسلامِ شهودَ الجُمع والجماعات، وتعدلُ حجَّ التطوعِ والجهاد.
جاءت أسماء بنت يزيد الأنصارية رضي الله عنها إلى رسول الله فقالت: يا رسول الله: إن الله بعثك للرجالِ والنساءِ كافَّةً، فآمنّا بك وبإلهك، وإنا معشرَ النساءِ محصوراتٌ، مقصوراتٌ، قواعدُ بيوتِكم، وحاملاتُ أولادِكم، وإنكم معشرَ الرجالِ فُضِّلْتُم علينا بالجمعِ والجماعاتِ، وفُضِّلْتُم بشهودِ الجنائزِ وفُضَّلْتُم علينا بالحجَّ بعدَ الحجِّ، وأعظمُ من ذلك الجهادُ في سبيل الله، وإن الرجلَ منكم إذا خرجَ لحجٍ أو عمرةٍ أو جهادٍ، جلسْنا في بيوتِكم نحفظُ أموالكم، ونربِّي أولادَكم، ونغزلُ ثيابكم، فهل نشاركُكْم فيما أعطاكم اللهُ من الخيِر والأجرِ؟! فالتفت النبي وقال: ((هل تعلَمون امرأةً أحسنَ سؤالاً عن أمور دينِها من هذه المرأة؟!)) قالوا: يا رسول الله ما ظننا امرأةً تسأل سؤالها فقال عليه الصلاة والسلام: ((يا أسماء أفهمي عنَّي.. أخبري من ورائك من النساء أن حسن تبعل المرأة لزوجها وطلبها لمرضاته، واتبعاها لرغباته يعدل ذلك كله)) فأدبرت المرأة وهي تهلل وتكبر. أخرجه البيهقي.
إن تاريخ الأمة شاهد صدق لنساءٍ فضليات جمعن في الإسلام آداباً وستراً ووقاراً دون أن يتعثرن بفضول حجابهن أو يقبلن دعاوى الماكرين والماكرات. وإن من شواهد عصرنا في فتياتنا المؤمنات.. متحجباتٍ بحجابِ الإسلامِ، مستمسكاتٍ بهدي السنةِ والكتابِ، قائماتٍ بمسؤولياتهنَّ خيرٌ ثم خيرٌ من قريناتٍ لهنَّ شاردات كاسيات ـ عاريات – متبرجات تبرَّج الجاهليةِ الأولى لاهثاتٍ خلف سرابِ حُرِّية صليبيةٍ مزعومةٍ، فالله الله أيها الأولياء.
أيها الآباء، أخاطبُ فيكم مسئوليتكم، أناجي قوامتَكم ورعايتَكم، يجب أن نحذرَ من مكر الفسوقِ وجلب أجهزتِه ومجلاتِه لمنازلنِا ومن مكرِ العلمنةِ في بلادنا، نسألُ الله جلَّ وعلا أن يُعينَنَا جميعاً على دفعِ شرِّ كُلِّ من يُريدُ إفسادَ نسائِنا وخلطهنَّ مع الرجال، وأن يُعينَنَا جميعاً للتعاون على كُلِّ ما يُحقِّقُ صيانةَ المرأةِ وأن يُهيئَ للمجتمعاتِ الإسلاميةِ القادة الناصحين والعلماءَ العاملين والمربياتِ والمربين المخلصين، إنه ولي ذلك والقادرُ عليه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
الخطبة الثانية
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي ،بعده أما بعد فيا عباد الله اتقوا الله تعالى وتوبوا إليه.
أيها الإخوة المؤمنون، نظراً لما يعيشه ويشاهده بعض الأخيار في مجتمعنا ولله الحمد من خير عظيم تتفيء ظلاله المرأة في بلادنا التي تنعم بالستر والعفاف وتتجنب السفور والاختلاط إلا من بعض لوثات التقليد وآثار السفر للخارج، إن كل ذلك الخير الذي يراه بعض الخيرين يدفعهم إلى أن يستغربوا كثرة الحديث عن المرأة. وقد يتهمون أصحابه بالمبالغة وتجاوز الحد.
وبعضهم يستغرب الخوف والقلق الذي ينتاب بعض الغيورين عند أي إجراءٍ يتعلق بالمرأة قائلين: إن المرأة في مجتمعنا محصنةٌ ضد أيِّ هجمةٍ. ويجب أن نعلم إخوتي أن هذا الخوف والحرصَ على المرأةِ وحجابها وتعليمها المستقل إنما هو نابع من حِرص الغيورين على المجتمعِ وخوفاً على المرأة وخشيةً من فتنتها، لاسيما مع التجارب المريرة التي رأينا أثرها في بلاد ليست بالبعيدة عنا، وكيف تحول حال المرأة فيها إلى حالٍ لا يرضي ربنا ولا يرضي أيُّ غيورٍ على محارمه.
كتب أحد المفكرين الإسلاميين عن بلده مصر: إن مصر في بداية القرن الماضي كانت تنعم بحجابٍ لنسائها، وكانت الطالبات مستقلاتٌ عن الطلبة، وكن يأتين إلى المدارس في عرباتٍ مقفلة ومع آبائهم ويأخذهم الآباء بعد انتهاء الدراسة ثم ذكر كيف بدأ الاختلاط بدعوى نقص المدرسات فوضعوا مدرسين ذكور ثم خلطوا صغار الطلبة مع الطالبات ثم خلطوا المرحلة المتوسطة ثم الثانوية تدريجياً، وتساهل الناس بتقبل ذلك.
وكتب وفقه الله كيف بدأ التغيير بالحجاب بألوانٍ للعباءات ورفعٍ لمستواها على الجسم وكشفٍ للوجه ثم جزءٌ من الرأس حتى ألغي تماماً في مظاهرة نسوية بدعوى مقاومة الاستعمار وفي ميدانٍ لازال يُسمى ميدان التحرير رمزاً لذلك.
ولما قام أهل الغيرة باستنكار ذلك عنفهم بعضُ المثقفين والنُخب ـ كما يُسمون ـ ووصفوهم بالمتزمتين وهكذا تكالبت مكائد الجهود الشيطانية لإفساد المجتمع المصري وتصدير الفساد منه إلى المجتمعاتِ الأخرى، هذا الفساد الذي يبدأ ببراءة وتسويق من أُناسٍ وكِل إليهم حمايةُ المجتمع.
وشاركتهم فيه غفلة الناس وحسن ظنهم الذي كان في غير محله، وإن ثار أحدهم فإنما ثورته للتقليد وليست للعقيدة وحماية المجتمع، فإن الحجاب حين يكون عقيدةً فإنه لا يسقط، لكن المحصلة في النهاية أن المجتمع تغير من جذوره إلا بقايا خيرٌ وصحوة لا زالت تزداد يوماً بعد يوم ولله الحمد، وإننا نتحدث عن المرأة ـ إخوتي ـ لكي نبين أن الكيد لها ولسترها يتخذُ وسائل شتى قد تكون بدايته بريئةً كل البراءة، لكن نهايته على المجتمع مريرة.. يأتي الحديث عن المرأة في بلادنا التي في وقت أصبحت الهجمات مركزة عليها وعلى حجابها وعفافها وتعليمها من قنواتٍ خارجية ومجلاتٍ داخلية ودعم صليبي ونفاق داخلي.
إننا نتحدث عن المرأة حرصاً على أهم كيانات المجتمع، وإذا كنا لا نرضى المبالغةَ والتهويل واتهام نيات الناس والتكفير فإننا ندعو العقلاء والخيرين، وأهل الغيرة والدين، إلى أن يكون لهم النصيب الراجح والسهم الوافر في الحفاظ على المرأة، نقول لدعاة الإصلاح وأصحاب الغيرة وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً [الأنفال:25]، فإن بداية الخطر الماحق للمجتمع بفتنة النساء إذا تساهلنا مع بدايتها، قال عليه الصلاة والسلام: ((اتقوا الدنيا واتقوا النساء فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت بالنساء)) ويقول كذلك: ((ما تركت فتنةً أضر على الرجال من النساء)) فلا مجال إذاً للتساهل، وينبغي أن يساهم كلٌ منا بدوره في الحفاظ على المجتمع بالحفاظ على المرأة وتربيتها وتعليمها وأن تلتزم الحجاب مظهراً ومخبراً.
ومن الواجب إيضاحُ الأمر وبيانُه ومقاومة مظهري الفساد وناشريه حتى لا تزَّل قدمٌ بعد ثبوتها، فيذوق مجتمعنا السوء، نسأل الله جل وعلا أن يحمي مجتمعنا ونساءَنا غوائل السوء ومن مكر العلمنة والفسوق.
أيها الأحبة، يجب علينا أن نثق بنصر الإسلام والمسلمين مهما احلولك الظلام، ويجب أن نعلم ـ إخوتي ـ أن تاريخ الأمة مملوء بالعظماء الذين سطروا بجهادهم قصص التضحية والبطولات والحرب المزرية على الأعداء، ويجب أن نستيقن أن فقد أولئك الأبطال وقتل الشهداء لن يفت فينا، فإن أرحام الأمهات الماجداتِ اللاتي أنجبنهم لن تعدمَ بإذن الله أن تنجب لنا أبطالاً عظاماً يعيدون لنا مجد الإسلام، وإن هذه التراكمات من الضحايا المؤلمة والتنازلات المخذِّلة والمصائب المهلكة التي تطال إخواننا في فلسطين وكل مكان ينبغي ألا تجلب لنا اليأس، بل هي دافع لمزيد من العمل وبذل الجهد لإكمال مشوار أولئك الأبطال في فلسطين والشيشان وغيرها من بلاد الإسلام.
ـــــــــــــــــــ(68/63)
العناية بالشباب وتحذيرهم من الأفكار المنحرفة
...
...
3704
...
الأسرة والمجتمع
...
...
الأبناء, قضايا الأسرة
...
عبد العزيز بن محمد القنام
...
...
وادي الدواسر
...
...
...
جامع النويعمة القديم
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- فطرة الله تعالى. 2- عقولُ الشباب هدفٌ لأعداء المسلمين. 3- تحصين الشباب بالعلم. 4- البعدُ عن مواطن الفتَن والشّبهات والشهوات. 5- لزوم الكتابِ والسنّة. 6- العناية بالمناهج الدراسية. 7- أهمية الإعلام في توجيه الشباب. 8- ربط الشباب بالقرآن الكريم. 9- خطورة الفراغ. 10- خطورة الفجوة بين الوالد والولد. 11- أهمية الجليس. 12- عرض الشبهات على العلماء. 13- أهمية الأسرة. 14- أسس الأسرة المسلمة. 15- العناية بقضايا الشباب. 16- تحذير الشباب من مسالك الغلو.
الخطبة الأولى
أما بعد: فاتقوا الله ـ عبادَ الله ـ حقَّ التقوى، فتقوى الله نِعم الأمل، والإعراض عنها بِئس العمل.
أيّها المسلمون، لقد خلق الله عبادَه على الفطرة السليمة السويَّة، وبعث الرسلَ لتقريرها وتكميلها، والناشئةُ في بكور حياتِها ديوانٌ مفتوح وسجلّ ناصع، تتلقَّى ما يرد عليها من حقٍّ أو باطل، أرضٌ تُنبِت أيَّ غراس من صحيح العقائد وفاسدِها، ومن مكارم الأخلاق ومساوئها، ((كلُّ مولود يولَد على الفطرة، فأبواه يهوّدانه أو ينصّرانه أو يمجّسانه)).
وعقولُ الشباب هدفٌ لأعداء المسلمين الذين تنوّعت وسائلهم ليوقِعوا الشبابَ في شَرَكهم، وليزجُّوا بهم في وَحل الفتن تارة، ويلقوا عليهم الشبهاتِ تارةً أخرى، ليردّوهم ويورِدوهم مستنقعَ الهوى والشّهوات، ويغرِقوهم في الملهيات والمحرّمات، ولا أنفعَ بإذن الله للشباب من التحصُّن بعلم الشريعة، يزيدُ الإيمان، وينير البصيرةَ، ويهذِّب النفس، ويرفع عن دنيء الأفعال، طالبُه منظومٌ في سِلك العظماء، يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ [المجادلة:11]، سلوكُه توفيقٌ للخلود في الجِنان، والخلق عنهم راضون، ولصنيعهم مستغفِرون، والملائكة لمجالسةِ أهله راغبون.
ومِن تعظيم الشريعة والدّين تعظيمُ العلماء، فهم خلَف أنبياء الله في دعوتِهم، قال عليه الصلاة والسلام: ((وإنَّ العلماءَ ورثة الأنبياء)) رواه أحمد. حقٌّ علينا تبجيلُهم وتوقيرهم، وعلى هذا سارَ أسلاف هذا الدين، يقول الربيع بن سليمان: "ما اجترأتُ أن أشربَ الماء والشافعيّ ينظر إليَّ هيبةً له". سؤالُهم عِلم، ومجالستهم سعادة، ومخالطتهم تقويمٌ للسّلوك، وملازمتُهم حفظٌ للشباب بإذن الله من الزّلل، يقول ميمون بن مهران: "وجدتُ صلاحَ قلبي في مجالسة العلماء".
ثمرةُ مجالسة العلماء ليست في التزوّد من العلوم والمعارف فحسب، بل الاقتداء بهم في الهدي والسّمت وعلوّ الهمّة ونفع الآخرين، علمٌ آخر نحتاج إليه، وبُعد ناشئة المسلمين عنهم يؤدِّي إلى تخبُّطٍ في طلب العِلم وإعجابٍ بالرّأي وقلّة في التعبّد.
وواجبٌ على الشباب البعدُ عن مواطن الفتَن والشّبهات والشهوات، ونبيُّنا محمّد تعوَّذ من الفتن، وأمر أصحابَه بالتعوّذ منها، ومن مدَّ عينيه إلى الفتن وأرخى سمعَه لها وقع فيها، يقول عليه الصلاة والسلام عن الفتن: ((ومن استشرف إليها ـ أي: تطلَّع إليها ـ أخذته)) رواه البخاري.
والإسلامُ الحنيف جاء بلزوم النورَين: الكتابِ والسنّة، ونهى عن ضدِّهما ممَّا يورث القلبَ الفساد، والشبهةُ إذا وردت على القلب ثقُل استئصالُها، يقول شيخ الإسلام رحمه الله: "وإذا تعرَّض العبد بنفسه إلى البلاء وكَله الله إلى نفسه".
والتقصيرُ في أداء الواجبات والوقوع في المحرّمات وتشبُّث الناشئ بالفضائيّات ولهثُه وراءَ المنكرات بوَّابةُ فسادٍ للأخلاق ودنَس السلوك ومرتَعٌ للأفكار المنحرفة، والقلبُ إذا أظلم بكثرة المعاصي ثقُل عليه أداء المعروف، وسهُل عليه قبول المنكَر.
وتشكيكُ الناشئةِ في المناهج الدّراسيّة يُضعِف همَّتهم في التحصيل وأخذِ المعارف منها، ومتغيِّرات الزمان وتوالي الحوادِث وتعاقُب الأحداث وحلول الفِتن يُحتِّم تكثيفَ المناهج الدينيّة والتوسُّع فيها والبسطَ في شرحها وتسهيل فهومِها للناشئة، مع عدم إثقال كاهلِ الطّلاب بكثرة المواد غيرِ الدينيّة التي يغني بعضُها عن بعض، فالحاجة مُلحَّة إلى أمور الشريعة.
وبهذه المناهج المرتكزة على الدّين والعمل بالعلم أصبحت هذه البلاد بحمد الله تزخَر بالعلماء الذين يفهَمون أحكامَ الشريعة، ويُرجَع إليهم في الفتوى والمسألة، واكتسَبوا الثقةَ والتبجيلَ في التوجيه والإرشاد والدّعوة، وبفضلٍ من الله استوزَر ممَّن درس هذه المناهجَ الوزراء الناصحون، وبرع المستشارون المؤتمَنون، وتأدَّب الأدباء المثقَّفون، وبرز الصحفيّون الإعلاميّون، ونبغ الأطبَّاء الحاذقون، وتألّق الاقتصاديّون العارفون، وتخرّج منها مَن أسهَم في بناء وتنميَة الحضارة ومقوّمات الحياة في المجتمعات، ومِن الوفاء الثناءُ على المناهِج التي كان ثمرةَ علومها.
أيّها المسلمون، الإعلام نافذة واسعةٌ على المجتمع، والشّباب بحاجةٍ إلى نصيبٍ وافر منه في التوجيه والإرشاد وفي النّصح والفتوى، والتعرّض للدين المتين باللّمز أو لأهله بالسّخريّة والغَمز يوغِر الصدورَ ويؤجِّج المكامن، والثناءُ على الناشِئة واحتواؤهم وتوجيههم طريقٌ قويم يُسلَك حمايةً للشّباب لئلا يتَلقَّفهم الأعداء بحلاوة اللسان وحُسن البيان.
والقرآن العظيم كلام ربِّ العالمين، بتِلاوته تتنزّل السكينة، وبتدبُّره يزيد الإيمان، نورٌ يُبدِّد الظلمات، قال سبحانه: قَدْ جَاءَكُمْ مِنْ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ [المائدة:15]. وانتشار حلقات القرآن الكريم في بيوتِ الله في هذه البلاد ورعايةُ ولاة الأمور لها أمرٌ يدعو إلى الفخر والاعتزاز، ولقد صان الله بها كثيرًا من الناشئة عن الانحراف، وحفِظ الله بها الدين، كَم انتفع بها من يتيم، وكم أسدَت للناشئة من معروف، وكم أوصدَت من أبواب الشرور، وكم وسَّعت من مدارِك، وكم فتحَت من آفاق، والقرآن الكريم أصلُ العلوم وأسُّها، ومنه تُؤخَذ الآداب والأخلاق. وتوجيهُ الآباء أبناءَهم لحفظ كتاب الله حفظٌ لهم من الشرور والفتن، وحصنٌ من توغُّل الأفكار المنحرفة إلى عقولهم.
والفراغ عامِل من عوامل الانحرافِ الفكريّ والسلوكيّ والأخلاقيّ، كما أنَّ الملهيات الحضاريّةَ المحظورة والمحطّات الفضائيّة لها قِسط مظلمٌ في انحراف الأفكار وتلويث المعتقدات وتسميم العقول من المتربِّصين بالشباب، والأبُ الحاذق من يمنع دخولَ تلك المحطّات والملهيات إلى داره قبل أن تذرف منه دمعة الحزن والأسى، وقبل أن يُفجَع بخبر فاجع.
أيّها المسلمون، الفجوةُ بين الوالد والولد عامِل من عوامل حَجب الابن عن إظهار مكنون صدره لوالدِه، فيبوح بما في سريرته إلى غير والده ممَّن قد لا يُحسن التربيةَ والتوجيه، ولا يحمِل له المودَّة والشفقة، وقربُ الأب من أبنائه والتبسُّط معهم في الحديث ومبادلة الرأيِ من غير إخلالٍ باحترام الوالدين سلامةٌ للأبناء وطمأنينة للآباء وقاعدةٌ في تأسيس برّ الوالدين.
والجليس سببٌ في الإصلاح أو الإفساد، ورُسُل الله عليهم الصلاة والسلام عظَّموا شأنَه، فنبيّ الله عيسى عليه السلام يقول: من أنصاري إلى الله؟ ونبيّنا محمّد اتّخذ له صاحبًا مُعِينًا له على طريق الدعوة، يقول عليه الصلاة والسلام: ((لو كنتُ متَّخِذًا من أمّتي خليلا لاتَّخذت أبا بكر خليلا، ولكن أخي وصاحبي))، وعائشة رضي الله عنها تقول: لم أعقِل إلا وأبويَّ يدينان الدين، وكان النبيّ يأتينا وهو بمكّة أوّلَ النّهار وآخره.
الجليس الصّالح يهديك للخير، يذكِّرك إذا نسيت، ويحضُّك إذا غفَلتَ، يُظهر ودَّك إذا حضرت، ويحفظُك إذا غِبت. ورفيقُ السّوء يجري خلفَ ملذاتِه وأهوائه، وإذا انقضت حاجتُه منك نبَذك، من كلّ شرٍّ يدنيك، وعن كلّ خير ينأى بك، على أمور الدنيا لا يُؤمَن، وفي الآخرة تندَم على مصاحبتِه، قال جلّ وعلا: وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً يَا وَيْلَتِي لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلاً [الفرقان:27، 28]، فجالِس الصالحين واشرُف بصحبتِهم، وابتعِد عن مصاحبة من يسوؤك في دينك ودنياك.
أيّها الشابّ المسلم، ربّما عرضَت لك شبهة، أو زيّن لك أحدٌ أمرًا وحسّن لك رأيًا، فيا أخي الشابّ المسلم اتّق الله، وإيّاك أن تقبَل كلَّ ما أدلِي إليك، وإيّاك أن تغترَّ بمن تظنّه ناصحًا والله يشهد إنّهم لكاذبون. اتّصِل بعلمائك وعلماءِ أمّتك لتجدَ عندَهم كشفًا لشبهتك، وإزالةً للبس العارض لك. إن يكن عندك شبهةٌ أو اضطراب في أمر فإيّاك أن تقبلَ من أناسٍ لا ثقة في دينهم، ولا ثقةَ في علمهم وتصوّرهم. اتَّق الله في ذلك، فاعرِض كلّ الشبَه على علماء أمّتك، فإنّ علماءَ أمّتك هم حريصون على تبيين الحقّ وكشفِ كلّ لبس حصل عندك حتى تكونَ في أمورك على المنهج القويم. ولا تنخدعْ بنفسك، ولا تسئ الظنَّ بعلماء أمّتك، ولا تقل كما يقول المتطاولون والكاذبون: أولئك كذا وأولئك كذا. لا، اتّق الله، وأتِ الأمورَ من أبوابها، وسترى عند أهل العلم من رحابةِ الصدر وسعةِ الأفق وحسن التعامل ما ـ إن شاء الله ـ يزيل عنك كلَّ الشبَه التي يمكِن أن يكونَ غرَّك بها مَن غرّك وخدَعك بها مَن خدَعك حتّى ظننتَ أنّ الأخطاءَ والفساد حقّ وصلاح، ظننتَها لقصور علمك ومعرفتك، فأتِ علماءَ الأمّة، واسألهم عمّا أشكل عليك، واعرض عليهم الشبهَ التي عرضَت لك حتّى يكونَ أمرك واضحًا، فيوضحون لك الحقّ، ويبيِّنون لك الباطل، ويزيلون عنك كلَّ لبس عرض عليك، حتى تكونَ في أمورك على منهج قويم وصراط مستقيم، أمّا أن تغترَّ بما يقال، تسمَع من هذه الاتصالات أمورًا يقولونها ونشراتٍ ينشرها من لا يدرَى عنه، وإنّما يريد غشَّ الأمّة والكذبَ وترويجَ الباطل، فهذا أمر لا يجوز أن تعتمدَ عليه، ولا أن تثقَ به، وإنّما ائتِ علماءَ أمّتك، واسألهم عمّا أشكلَ عليك، واعرِض لهم كلَّ الشبَه التي عرضَت لك، لترى كشفَها وإزالتها على وفق ما دلّ الكتاب والسنة عليه إن شاء الله.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: مَنْ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً [الإسراء:15].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني الله وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كلّ ذنب فاستغفروه، إنّه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشّكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن نبيّنا محمّدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه.
أمّا بعد: أيّها المسلمون، الأسرة مرتَكَز قويمٌ بالإسلام، في ظلِّها تلتقِي النفوس على المودّة والرحمَة والعفوِ والمحبّة، وقد أقسَم الله في كتابه بالأولاد والآباء فقال جلّ وعلا: وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ [البلد:3]، والعناية بصلاحِهم مَسلكُ الأخيار، وباستقامتِهم بهجَة الآباء والأمّهات، رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا [الفرقان:74].
وأوّل لبنةٍ في بناء الأبناء غرسُ مراقبةِ الله في نفوسهم، يقول النبي لابن عبّاس وهو غلام: ((يا غلام، احفَظ الله يحفظك، احفَظ الله تجدْه تجاهك)). وهم بحاجةٍ إلى التربيّة على المعرفةِ بالعلوم واغتِنام الأوقَات، يقول عليه الصلاة والسلام: ((احرِص على ما ينفعُك)).
وعلى الوالِد أن يسعَى لجلبِ ما ينفع أبناءَه، وإبعادُ ما يضرّهم، واختيارُ الرفقةِ الصالحين لهم، وإنَّ حُسن تنشئتهم مرتبطٌ باستمساك والديهم بدينهم، وكلّما استقام الوالدان اقتدى بهم الأبناء وكانوا بمنجاة من عواملِ الضياع وأسباب الضّلال.
فيا أيّها الآباء والمربّون حرّاس الجيل والمؤتمنون عليه، أنتم بناةُ عقولهم ونفوسهم، أسِّسوها على مبادئِنا الإسلاميّة الأصيلة، أشربوهم عرفانَ نفاستها وقيمتِها، فإنّ من لم يعرف قيمةَ الثمين أضاعَه. ولمّا أن ضاعت من آحاد وفُقِدت من أفرادٍ كان ما كان من القلاقل. واعتَنوا بتربيتِهم، واسألوهم عن كلّ ما عِندهم، وإذا شمَمتم من أحد شيئًا ممّا يخالف الشرع فاحرصوا على التحاقهم بأحد العلماء وذوي الرأي السديد، ليكشفوا عنهم هذا الباطل، ويبيّنوا لهم الحقّ، ويهدوهم إلى صراط الله المستقيم.
واعلم ـ أيّها الابن ـ أنّ أمَلَ والدَيك أن تكونَ ممَّن سِيَرهم فاضلة وأخلاقهم سامِية، مع الاستقامة والبُعد عن الرذائل والمهالك، وأن لا تقعَ فريسةً للانحراف، أو أسيرًا للملذّات والشّهوات، فلا تضيِّع أملك وأملَهم أمام لحظةٍ من شهوة أو ساعة من غفلة، وعليك بانتقاء الأصحابِ في المخالطة والمؤانسة، والزَم صحبةَ العلماء، وجالس الصالحين، تجنِ سعادةَ الدنيا والآخرة.
وفي المنعرج الحرِج تُوجّه الدّعوة بإلحاحٍ إلى إيلاء قضايا الشّباب عنايةً خاصّة؛ إذ هم في الأمّة محطّ أنظارها ومعقِد آمالها، هم مشاعلُ الحاضر وبناة المستقبل بإذن الله، هم ذُخر الأوطان وغيثُها المبارك الهتّان، فيجِب ـ ونحن أمّة ثريّة بحمد لله بدينها وقيَمها ـ أن نعملَ على إنشاء جيلٍ يحمِل مشعلَ الإيمان والعقيدة، ونورَ العقل والبصيرة، وبردَ الثقة واليقين، وسدادَ الفكر والرأي، واتّقادَ الذهن والضمير، وصفاءَ السيرة والسريرة، ليكون بإذن الله خيرَ مَن يغار على دينه وأمّته وبلاده ومقدَّراتها، يدفع عنها الأوضار، ويقيها بحول الله عاتياتِ الأشرار وعاديات الفتَن وهائجات المِحن.
فيا شبابَنا، اعلموا ـ يا رعاكم الله ـ أنّ دينَكم الوسَط هو البرهان والنّور والظهور، فلا يزهِّدنّكم فيه جهلةٌ مؤوِّلون، ولا مارقون معطِّلون، ولا مشبوهو الدِّخلة والنِّحلة، ولا أنصافُ المتعلِّمين مِن ذوي الفتاوى الشاذّة والأحكام الجائِرة الفاذّة، مثل ما غرر به من شباب في ريعان شبابهم من أناس مارقين خارجين عن الإسلام يعلمونهم الفساد في البلاد، وأي بلاد؟! بلاد الحرمين الشريفين، وبجوار بيت الله العتيق، والذي كانت آخر أعمالهم حيث وجد مع هؤلاء الشباب أسلحة الدمار والتدمير في أطهر بقعة على الأرض، والذين تمكن رجال الأمن من القبض عليهم، وسيلاقون جزاءهم، وولاة أمر هذه البلادِ بالمرصاد لمن يَسعى بالقتل والتّدمير أو الإفساد الذي يستهدِف الأمنَ، انطلاقًا ممّا توجبه الشريعة الإسلاميّة من الحفاظ على دماءِ الناس وأموالهم وحقوقِهم، ينفِّذون فيه ما تحكم به الشريعة.
واعلموا ـ وفّقكم الله ـ أنّكم في دياركم المباركة تتقلَّبون بين أعطافِ العيش السعيد، وتنعَمون بأوفرِ أسباب الأمن الوارفِ الرّغيد، سواء في داركم أو في حِلِّكم وترحالكم، وإنّ هذا النّداء المترَع بالحبّ والحنوّ ليستجيشُ فيكم مشاعرَ النّخوة والاعتزاز في أن تكونوا خيرَ رادةٍ في رياضه، وخيرَ ذادَةٍ عن حياضه، ترِدون قرضَه، وتحفظون بإذن الله مجدَه وأرضَه، ائتِساءً بنبيّكم وَسَيرًا على نهج سلفِكم الصالح رحمهم الله.
فاللهَ الله ـ أمّة الإسلام ـ في أداءِ الواجب الملقى على عواتقِنا جميعًا، في معالجة هذه الظواهر الخطِرة على مجتمعاتِنا واستئصال شأفتِها، وأن نكون يدًا واحدة وعينًا ساهرة في الحفاظ على دين الأمّة وأمنِها وبلادها، كما يجِب تجفيفُ منابع الشرور والإرهاب والإبلاغُ وعدمُ التستّر على كلّ من أراد تعكيرَ أمن المجتمع أو الإخلال باستقرار البلاد والعباد أو السعي في الأرض بالفساد، وأن لا يُستجرَّ شباب الأمّة إلى منحدراتٍ فكريّة سحيقة، وأن يلتحِموا مع ولاتِهم المسلمين وعلمائِهم الربانيّين ودعاتِهم المصلحين النّاصحين.
ألا فلتسلمي يا أرضَ الحرمين الشريفين، ولتهنئي يا موئِلَ العقيدة ومأرز الإيمان، فلقد أثبتِّ بفضلِ الله الخروجَ من الأزمات أكثرَ تماسُكًا وأشدّ تلاحمًا بحمد الله، ولتبقَي بإذن الله على مرّ الدهور وكرّ العصور شامةً في دنيا الواقع وأنموذجًا يحتذَى ومَثلاً يُقتفى في الأمن والإيمان، وشاهَت وجوه الأعداء المتربّصين، وخسِئت أعمال المعتدِين المفسِدين المجرمين، وردّ الله كيدَ الكائدين إلى نحورهم، وحفِظ اللهَ بلادَنا وسائر بلاد المسلمين من شرّ الأشرار وكيد الفجّار، إنّه خير مسؤول وأكرمُ مأمول.
ألا وصلّوا وسلِّموا ـ رحمكم الله ـ على الهادي البشير والسراج المنير، سيِّد الأوّلين والآخرين ورحمة الله للعالمين، الرحمةِ المهداة والنعمة المسداة، نبيّكم محمد بن عبد الله، كما أمركم ربّكم جلّ في علاه، فقال تعالى في أصدق قيله ومحكمِ تنزيله: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمَّ صلِّ وسلِّم وبارك على النبيّ المصطفى والرسول المجتبى والحبيبِ المرتضى نبيّنا محمّد بن عبد الله، وعلى آله وأصحابه ومن دعا بدعوته واهتدى بهداه، وارض اللهم عن الخلفاء الراشدين: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر أصحابه أجمعين، وعنا معهم بجودك وكرمك يا أكرم الأكرمين.
ـــــــــــــــــــ(68/64)
عقوق الوالدين
...
...
3707
...
الأسرة والمجتمع
...
...
الوالدان
...
عبد العزيز بن محمد القنام
...
...
وادي الدواسر
...
...
...
جامع النويعمة القديم
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- ظاهرة العقوق. 2- جريمة العقوق التي حصلت في البيشة. 3- فضل الوالدين. 4- من مظاهر العقوق. 5- البر والعقوق دَين ووفاء. 6- حقوق الوالدين بعد وفاتهما. 7- معنى العقوق وبيان عاقبته الوخيمة. 8- ضوابط طاعة الوالدين.
الخطبة الأولى
أيها الإخوة المؤمنون، أوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى، فهي وصية الله لنا ولمن قبلنا، وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنْ اتَّقُوا اللَّهَ [النساء:131].
معاشر المسلمين، حديثنا في خطبة هذه الجمعة عن موضوع يهمّ كثيرا من الأبناء والأسر في المجتمع، وهو ما نسمع عن كثير من الناس وكثرة الأخبار المزعجة التي تفطّر القلوب وتدمي الأسماع، وهي نذير شؤم وعلامة خذلان، يجب على الأمة جميعها أن تتصدى لإصلاح هذا الخلل الذي بدأ ينتشر انتشار النار في الهشيم، ألا وهو عقوق الوالدين.
عقوق الوالدين ـ أيها الإخوة ـ من أكبر الكبائر بعد الإشراك بالله، وكيف لا يكون كذلك وقد قرن الله برهما بالتوحيد فقال تعالى: وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [الإسراء:23]، وقال تعالى: قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [الأنعام:151]، بل هو من المواثيق التي أخذت على أهل الكتاب من قبلنا: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا [البقرة:83]. وها نحن نسمع بين الحين والآخر ـ وللأسف ـ من أبناء الإسلام من يزجر أمه وأباه أو يضربهما أو يقتل أمه أو أباه.
أقول: أيها الإخوة، إن انتشار مثل هذه الجرائم البشعة، وبشاعتها ليس في الإسلام فحسب، بل في عرف جميع بني آدم، أقول: إن انتشارها نذير شؤم وعلامة خذلان للأمة، ومن هنا وجب على جميع قنوات التربية والتوعية والإصلاح تنبيه الناس على خطر هذا الأمر، وإظهار هذه الصورة البشعة لمجتمعاتنا بأنها علامة ضياع وعنوان خسارة.
أيها الإخوة في الله، ما سبب انتشار أمثال هذه الجرائم؟ ولا أقول: وجودها لأنها قد وجدت من قديم الزمان، لكن ما سبب انتشارها إلا انتشار الفساد والأفلام المقيتة بوجهها الكالح وتشبه طبقة من طبقات المجتمع بصورة الشاب الغربي الذي يعيش وحده، وليست له أي صلة تربطه بذي رحم أو قريب، فيتأثر البعض بهذه المناظر فيحصل ما لا تحمد عقباه من العقوق؟!
وإليك قصة غاية في البشاعة والإجرام والجحود. الجريمة المروعة التي طالعتنا بها جريدة الوطن ليوم السبت الماضي، لقد وقعت في محافظة بيشه جريمة مروعة شنعاء هي التي دفعتني إلى الحديث اليوم عن هذا الموضوع. وهو أنه في يوم الجمعة الماضية أثناء خطبة الجمعة والإمام يلقي الخطبة في الجامع أقدم شاب على طعن والده المسنّ بستّ طعنات حتى أرداه قتيلا.
من هو القاتل؟!! الابن. ومن هو المقتول؟! والده. ومتى؟! أثناء خطبة الجمعة. وأين؟! في بيت من بيوت الله. وما السبب؟! هو سوء تفاهم الولد وأبيه، ومهما كان السبب ما يصل الأمر إلى قتل الأب أو حتى التلفظ عليه بكلمة واحده. لا نقول إلا حسبنا الله ونعم الوكيل، وعليه من الله ما يستحق، والله إن الحلقَ ليجفّ، وإن القلب لينخلع، وإن العقلَ ليشطّ، وإن الكلمات لتتوارى في خجل وحياء، بل وبكاء وعويل أمام هذه المأساة المروعة الشنعاء بكل المقاييس.
عباد الله، فإنّ بر الوالدين فريضة عظيمة وعقوقهما حرام، والبر هو الصلة الحسنة والخير، وهو اسم جامع للخير.
وأما عقوق الوالدين فهو أذاهما ومعصيتهما والخروج عليهما، ولا ينكر فضل الوالدين إلا متوغل في النذالة، ولن يستطيع الأبناء والبنات مجازاة الآباء والأمهات على ما قاموا به نحوهم من الطفولة إلى الرجولة من عطفٍ ورعاية وتربية وعناية إلا أن يجد الولد الوالدَ مملوكًا فيشتريه فيعتقه، ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((لا يجزي ولد والده إلا أن يجده مملوكًا فيشتريه فيعتقه))، لو حصل أن وجد ولد والده عبدًا ومملوكًا فاشتراه فأعتقه لجزاه بما فعله معه وبما قام به نحوه من التربية والعناية والعطف والرعاية، على أن الفضل دائمًا للمتقدم بالفضل، للذي تقدم وبدأ.
فشكر المنعم واجب، ولله سبحانه على عباده نعم لا تحصى كما قال سبحانه: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا [إبراهيم:34]، من ذلك نعمة الخلق والإيجاد، وجعل سبحانه وتعالى للوالدين نعمة الوِلاد والتربية الفالحة والعناية التامة بالأولاد، وأكثر الخلق وأفضلهم نعمة على الإنسان بعد رسل الله صلوات الله وسلامه عليهم الوالدان اللذان جعلهما الله سببًا لوجوده واعتنيا به منذ أن كان حملاً إلى أن كبر، فأمه حملته شهورًا تسعة في الغالب تعاني به في تلك الأشهر ما تعاني من آلام من مرض ووحم وثقل، وإذا حان وقت الوضع وجاءها المخاض شاهدت الموت وقاست من الآلام ما الله به عليم، فتارة تموت وتارة تنجو، ويا ليت الألم والتعب ينتهي بالوضع، كان الأمر إذًا سهلاً، ولكن يكثر النصَب ويشتد بعده كما قال تعالى في سورة الأحقاف: حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا [الأحقاف:15]، ثم ترضعه حولين كاملين غالبًا، فتقوم به مثقلة وتقعد به مثقلة، وفي أثناء ذلك صياح الليل يحرم الوالدين النوم، وكذلك بالنهار يقلق به راحتهما ويتعب قلبيهما ويذرف دموعهما، ومرض يصيب الولد من وقت لآخر ينخلع له قلبهما انخلاعا وتنهدّ به أبدانهما هدًا، وتعهُّد من الأم لجسمه بالغسل ولثيابه بالغسل ولإفرازاته بالإزالة، ليس يومًا ولا يومين، ولا شهرًا ولا شهرين، ولا سنة ولا سنتين، هما به في متاعب ليلاً ونهارً، ومشاق تصغر بجانبها متاعب المحكومين في الأعمال الشاقة، يضاف إلى ذلك امتصاص دمها الذي هو اللبن مدة الرضاع، ولو لم يكن منه إلا هدم بدنها وإضعافه وإذهاب قوتها لكفى، ومن أجل ذلك قدم بر الأم على بر الأب، وكان لها من البر ثلاثة أمثال ما للأب لأنها تشقى بالحمل والوضع والرضاع، ومما يدل على تقدمها عليه في البر ما جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلاً جاء للنبي فقال: يا رسول الله، من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: ((أمك))، قال: ثم من؟ قال: ((أمك))، قال: ثم من؟ قال: ((أمك))، قال: ثم من؟ قال: ((أبوك)).
فإذا شبّ الولد وبرزت أسنانه وقويت معدته على قبول الطعام وهضمه وانفتحت شهواته له انفتح للوالدين باب فكر وكدّ لجلب طعامه وشرابه وسائر شئونه، وربما احتمل الوالد ألم الغربة والسفر إلى بلد بعيد لطلب المعيشة للأولاد، وكثيرًا ما يضحي الوالدان في سبيل راحة الأبناء والبنات.
أيها الإخوة المؤمنون، لا أظن أنه تخفى علينا النصوص الواردة من الكتاب والسنة في فضل بر الوالدين وحرمة عقوقهما وأن عقوق الوالدين من كبائر الذنوب، ولكن ينقصنا العمل بما نعلم، ونغفل أحيانًا كثيرة عن مواضع البر مع زحمة الأعمال الدنيوية، كزيارة الوالدين وتفقد أخبارهما والسؤال عن أحوالهما وسؤالهما عن حاجتهما.
وكم نجد ونسمع من يلتمس رضا زوجه ويقدمه على رضا والديه، فربما لو غضبت الزوجة لأصبح طوال يومين حزينًا كئيبًا لا يفرح بابتسامة، ولا يسرّ بخبر، حتى ترضى زوجه الميمون، وربما لو غضب عليه والداه ولا كأن شيئًا قد حصل
أيها المسلمون، إنّ بعض الناس يسمع لزوجته ويلبي مطالبها ويسعى لمرضاتها، وهذا حسن، ولكنه يسيء إلى أمه، فيهملها ولا يسأل عنها، ولا يجلس معها، وربما يسمع ما يقال فيها من قِبَل زوجته وأولاده فيغضب عليها ويتمنى فراقها.
هذه صورة من صور العقوق، يدخل الزوج وهو يعيش مع والديه أو أن والديه يعيشان عنده، يدخل البيت معبس الوجه مكفهرّ الجبين، فإذا دخل غرفة نومه سمعت الأمّ الضحكات تتعالى من وراء باب الحجرة، أو يدخل ومعه هدية لزوجه فيعطي زوجته، ويدع أمه، هذا نوع من العقوق والعياذ بالله، بل الواجب أن يسعى الإنسان إلى إرضاء والدته ولو غضب كل الناس.
عليك ـ أيها المسلم ـ أن تمنع أولادك من أذية أمك بقول أو فعل، وأن لا تقبل بحال من الأحوال شكوى زوجتك نحو أمك، بل عليك بحض زوجتك على احترام أمك والصبر على ما قد يصدر منها، فإن في ذلك خيرا كثيرا وبرا وفيرا.
ويا أخي المسلم، مَن أحق بالبر؟! أمك التي هي سبب وجودك، والتي حملتك في بطنها تسعة أشهر، وتألمت من حملك، وكابدت آلام وضعك، بل وغذتك من لبنها، وسهرت ونمتَ، وتألمت لألمك، وسهرت لراحتك، وحملت أذاك وهي غير كارهة، وتحملت أذاك وهي راضية، فإذا عقلتَ ورجَت منك البر عققتَها، وبررت امرأة لم تعرفها إلا سنةً أو سنتين أو شهرًا أو شهرين.
إني أدعوكم جميعًا ـ أيها الإخوان ـ أن لا تخرجوا من هذا المسجد المبارك إلا وقد عاهدتم الله أنه من كان بينه وبين والديه شنآن أو خلاف أن يصلح ما بينه وبينهم، ومن كان مقصرًا في بر والديه فعاهدوا الله من هذا المكان أن تبذلوا وسعكم في بر والديكم، ومن كان بارًا بهما فليحافظ على ذلك، وإذا كانا ميتين فليتصدق لهما ويبرهما بدعوة صالحة أو عمل صالح يهدي ثوابه لهما.
وأما أنت ـ أيها العاق ـ فاعلم أنك مجزي بعملك في الدنيا والآخرة، يقول العلماء: كلّ معصية تؤخر عقوبتها بمشيئة الله إلى يوم القيامة إلا العقوق، فإنه يعجل له في الدنيا، وكما تدين تدان.
ذكر العلماء أن رجلاً حمل أباه الطاعن في السن، وذهب به إلى خربة فقال الأب: إلى أين تذهب بي يا ولدي؟! فقال: لأذبحك، فقال: لا تفعل يا ولدي، فأقسم الولد ليذبحنّ أباه، فقال الأب: فإن كنت ولا بد فاعلاً فاذبحني هنا عند هذه الحجرة؛ فإني قد ذبحت أبي هنا، وكما تدين تدان.
اللهم أعنا على بر والدينا، اللهم وفق الأحياء منهما، واعمر قلوبهما بطاعتك، ولسانهما بذكرك، واجعلهم راضين عنا، اللهم من أفضى منهم إلى ما قدم فنور قبره، واغفر خطأه ومعصيته، اللهم اجزهما عنا خيرًا، اللهم اجزهما عنا خيرًا، اللهم اجمعنا وإياهم في جنتك ودار كرامتك، اللهم اجعلنا وإياهم على سرر متقابلين، يسقون فيها من رحيق مختوم، ختامه مسك.
اللهم أصلحنا وأصلح شبابنا وبناتنا، اللهم أعلِ همتهم، وارزقهم العمل لما خلقوا من أجله، واحمهم من الاشتغال بتوافه الأمور، وأيقظهم من سباتهم ونومهم العميق وغفلتهم الهوجاء والسعي وراء السراب.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولجميع المسلمين فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي حكم بالخسران على العاقين لوالديهم وهم لا يظلَمون، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له يعلم ما تبدون وما تكتمون، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها المسلمون، اتقوا الله تعالى، واعلموا أن البر والعقوق دَين ووفاء، فإذا أطعت ـ أيها المسلم ـ والديك أطاعك أولادك، وإذا أكرمت والديك أكرمك أولادك، وبالعكس إذا توليت عن والديك وأعرضتَ عنهما سلط الله عليك من ذريتك من لا يراعي فيك عهدا ولا يحفظ لك ودًا ولا يقيم لك وزنًا ولا يعرف لك حقّ أبوّة ولا واجب بنوّة، جاء في الحديث: ((بروا آباءكم تبركم أبناؤكم)).
أيها المسلم، احذر عقوبة الله نتيجة لعقوقك، قال النبي : ((كل الذنوب يؤخر الله تعالى ما شاء منها إلى يوم القيامة إلا عقوق الوالدين، فإن الله يعجله لصاحبه في الحياة قبل الممات))، وقال النبي : ((رغم أنفه، رغم أنفه رغم أنفه))، قيل: من يا رسول الله؟ قال: ((من أدرك والديه عند الكبر أو أحدهما ثم لم يدخل الجنة)).
وقال عمر بن عبد العزيز رحمه الله: "لا تصحب عاقا لوالديه، فإنه لن يبرك وقد عقّ والديه".
فاحذر ـ أيها المسلم ـ من العقوق وتضييع الحقوق، قال عمر رضي الله عنه: (إبكاء الوالدين من العقوق)، وقال مجاهد رحمه الله: "لا ينبغي للولد أن يدفع يد والده إذا ضربه، ومن شدّ النظر إلى والديه لم يبرهما، ومن أدخل عليهما ما يحزنهما فقد عقهما"، وسئل كعب الأحبار عن العقوق فقال: "إذا أمرك والداك بشيء فلم تطعهما فقد عققتهما العقوق كله".
ثم اعلم ـ أخي المسلم ـ أن لوالديك حقّا عليك بعد وفاتهما، ومن البر بهما بعد موتهما:
أولا: الدعاء لهما بالرحمة والمغفرة ودخول الجنة والنجاة من النار، قال تعالى: وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا [الإسراء:24]، وللحديث: ((إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له)).
ثالثا: سداد الديون المالية وقضاء الفرائض التعبدية كالحج والنذر.
رابعا: صلة أقربائهما، فقد جاء رجل من بني سلمة فقال: يا رسول الله، هل بقي من بر أبوي شيء أبرهما به بعد موتهما؟ قال: ((نعم الصلاة عليهما ـ أي: الدعاء لهما ـ، والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما ـ أي: العمل بوصيتهما ـ من بعدهما، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما ـ مثل الجد والجدة والعم والخالة والخال وغيرهم ـ، وإكرام صديقهما)).
وأمّا العقوق فهو مأخوذ من العقّ وهو القطع، والمراد به الإساءة إلى الوالدين في القول والفعل، وصور العقوق كثيرة، ومنها تقديم رضا الزوجة على رضاهم، سألت عائشة رضي الله عنها النبي : أيّ الناس أعظم حقا على المرأة؟ قال: ((زوجها))، قالت: فعلى الرجل؟ قال: ((أمه)). وكذا الغلظة والفظاظة ورفع الصوت والعبوس وعدم تلبية ندائهما وعدم الإنفاق عليهما وعدم استئذانهما لسفر فيه مشقة وعدم المبالاة بمشاعرهما أو التسبب في سبهما.
وأما عاقبة العقوق فالعقوبة العاجلة لحديث: ((كل الذنوب يؤخر الله منها ما شاء إلى يوم القيامة إلا عقوق الوالدين، فإن الله يجعله لصاحبه في الحياة قبل الممات))، الخسران والهلاك لحديث: ((رغم أنفه، ثم رغم أنفه))، قيل: من يا رسول الله؟ قال: ((من أدرك والديه عند الكبر أو أحدهما ثم لم يدخل الجنة)).
الحرمان من كلمة التوحيد عند الموت فعن عبد الله بن أبي أوفي قال: كنا عند النبي فأتاه آت، فقال: شاب يجود بنفسه، فقيل له: قل: لا إله إلا الله، فلم يستطع، فقال: كان يصلي؟! فقال: نعم، فنهض رسول الله ونهضنا معه، فدخل على الشاب، فقال له: ((قل: لا إله إلا الله))، فقال: لا أستطيع، قال: ((لم؟)) قال: كان يعقّ والدته؟ فقال النبي : ((أحيّة والدته؟)) قالوا: نعم، قال: ((ادعوها))، فدعوها فجاءت، فقال: ((أهذا ابنك؟)) فقالت: نعم، فقال لها: ((أرأيت لو أجّجت نارا ضخمة، فقيل لك: إن شفعت له خلينا عنه وإلا حرقناه بهذا النار، أكنت تشفعين له؟)) قالت: يا رسول الله إذًا أشفع له، قال: ((فأشهدي الله وأشهديني أنك قد رضيت عنه؟))، قالت: اللهم إني أشهدك وأشهد رسولك أني قد رضيتُ عن ابني، فقال له رسول الله : ((يا غلام، قل: لا إله إلا الله))، فقالها، فقال رسول الله : ((الحمد لله الذي أنقذه من النار)). الجنة محرمة على العاقّ لحديث: ((ثلاثة حرم الله تبارك وتعالى عليهم الجنة: مدمن الخمر، والعاق، والديوث الذي يقرّ الخبث في أهله)).
وأما موقف المسلم من البر بالوالدين فطاعتهما، وإن لطاعة الوالدين حدّا محدودا، فلا يجوز طاعتهما في أمر فيه معصية الله سبحانه، فلقد كان سعد بن أبي وقاص بارا بأمه فقالت: لتدعن دينك أو لا آكل ولا أشرب شرابا حتى أموت فتعيّر بي ويقال: قاتل أمه، فقلت لها: يا أماه، لو كانت لك مائة نفس فخرجت نفسًا نفسًا ما تركت ديني، فلما رأت ذلك أكلت، قال تعالى: وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا [لقمان:15].
ولا يجب أن يطلّق الرجل زوجته إذا طلبا منه ذلك، سأل رجل الإمام أحمد فقال: إن أبي يأمرني أن أطلق زوجتي، قال: لا تطلقها، قال: أليس عمر أمر ابنه عبد الله أن يطلق امرأته فطلقها؟! فقال الإمام أحمد: حتى يكون أبوك مثل عمر. أي: في تحريه للحق وعدم اتباع الهوى.
قال العلماء: إذا كانت الزوجة مؤذية للوالدين أو محرّضة للزوج أو الأبناء على إيذائهما وجب عليه طلاقها.
وإن تعارضت طاعة الأم مع طاعة الأب فطاعة الأم مقدّمة كما قال الجمهور، قال رجل: يا رسول الله، من أحق بحسن صحابتي؟ قال: ((أمك))، قال: ثم من؟ قال: ((أمك))، قال: ثم من؟ قال: ((أمك))، قال: ثم من؟ قال: ((أبوك)). إلا أن تكون في طاعة أحدهما معصية فعليه أن يطيع الذي يأمر منهما بطاعة، وأما إذا تعارض برهما في غير معصية فيحرص على إرضائهما ما أمكن.
روي أن رجلا قال للإمام مالك رحمه الله: والدي في السودان كتب إلي أن أقدِم عليه، وأمي تمنعني من ذلك، فقال له مالك: أطع أباك ولا تعص أمك، أي: يبالغ في طاعة أمه ولو بأخذها معه مثلا.
اللهم وفقنا لصلة الرحم وبر الوالدين، وارحمنا برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم صلّ وسلم وبارك على نبينا وسيدنا وقدوتنا وحبيبنا محمد بن عبد الله، وارض اللهم عن الخلفاء الراشدين: أبي بكر الصديق وعمر الفاروق وعثمان ذي النورين وعلي أبي السبطين، وعن السبطين العلمين وعن أصحاب بدر والعقبة وعن آل بيته الطيبين الطاهرين وعن الطاهرات أمهات المؤمنين وعن الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
-ـــــــــــــــــــ(68/65)
شرح حديث: ((لعن الله من لعن والديه))
...
...
3725
...
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
...
...
أحاديث مشروحة, الكبائر والمعاصي, الوالدان
...
ناصر بن محمد الأحمد
...
...
الخبر
...
23/5/1415
...
...
النور
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- تعريف اللعن. 2- الملعونون في القرآن. 3- الملعونون في السنة. 4- شرح حديث: ((لعن الله من لعن والديه، ولعن الله من ذبح لغير الله، ولعن الله من آوى محدثًا، ولعن الله من غيرّ منار الأرض)).
الخطبة الأولى
أما بعد: روى مسلم في صحيحه عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله تبارك وتعالى عنه أنه قال: قال رسول الله : ((لعن الله من لعن والديه، ولعن الله من ذبح لغير الله، ولعن الله من آوى محدثًا، ولعن الله من غيّر منار الأرض)).
اللعن هو الطرد والإبعاد من رحمة الله جل وتعالى، فكل فعل ورد في حقّ صاحبه اللعن إما من كلام الله أو من كلام رسوله فيجب أن نعلم بأن هذا الفعل وهذا العمل مستقبح ومنكر ومحرم ولا يجوز فعله، إن لم يكن شركًا أو كبيرة من الكبائر.
وإليك أمثلة سريعة من كتاب الله جل وعز: قتل المؤمنين الأبرياء بغير ذنب: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ [النساء:93]. إيذاء الله ورسوله بأي صورة كانت: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمْ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ [الأحزاب:57]. ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ [المائدة:78، 79]. الإفساد في الأرض وقطيعة الرحم: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمْ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ [محمد:22، 23]. الكفر: إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا [الأحزاب:64]. الظلم: فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ [الأعراف:44].
ثم إليك أمثلة سريعة أخرى من كلام المصطفى : قال : ((لعن الله الراشي والمرتشي))، وقال: ((لعن الله آكل الربا وموكله وشاهديه وكاتبه))، وقال: ((لعن الله المتشبهين من الرجال بالنساء، ولعن الله المتشبهات من النساء بالرجال))، وقال: ((لعن الله الخمر وشاربها وساقيها وبائعها ومبتاعها وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه وآكل ثمنها))، وقال: ((لعن الله الواصلة والمستوصلة والواشمة والمستوشمة))، وقال: ((لعن الله من سب أصحابي))، وقال: ((لعن الله اليهود والنصارى؛ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)).
إذًا فلنحذر ما ورد في حقه اللعن، ولنحذّر غيرنا أيضًا.
وحديث علي بن أبي طالب الذي قرأناه عليكم في مقدمة الخطبة هو ما سيتم التعليق عليه إن شاء الله تعالى.
((لعن الله من لعن والديه، ولعن الله من ذبح لغير الله، ولعن الله من آذى محدثًا، ولعن الله من غير منار الأرض)).
الملعون الأول: ذلك الذي لعن والديه.
أيّ كرامة للإنسان الذي يلعن والديه؟! كيف لا يستحقّ اللعن من الله هذا الحقير المجرم الذي يلعن والديه؟!
عجيب أمر هذا الإنسان، وعجيب قسوة قلوب بعض البشر. وهذا الأمر لو لم يكن حاصلاً ما أخبر به الرسول ، نعم إنه يوجد من الأبناء من يشتم والديه، ويوجد من يقاطع والديه، بل جاءني مرة رجل في هذا المسجد بعد إحدى الصلوات وقال لي: أريد أن أتوب، فقلت له: إن باب التوبة مفتوح، لكن ما ذنبك؟ فقال: لقد ضربت والدي قبل الصلاة. لا حول ولا قوة إلا بالله.
فأقول عجيب أحوال بعض الناس، هذان الوالدان اللذان بسببهما كان وجودك، وعلى أيديهما ترعرعت وكبرت، وفي أحضانهما نشأت، يسهران الليل لترتاح أنت، يتعبان طوال النهار لتأكل وتشرب أنت، ينزعان ما عليهما لتلبس أنت، ثم يكون جزاؤهما أن يجدا منك السبّ والشتم واللعن، بئس الرجل أنت لو كان هذا حالك، كيف تريد من ربك بعد ذلك توفيقًا في عمل أو تجارة أو زواج أو أي أمر آخر وهذا حالك مع أقرب الناس إليك؟!
يروى عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (ثلاث آيات نزلت مقرونة بثلاث، لا تقبل منها واحدة بغير قرينتها، إحداها قوله تعالى: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ [المائدة:92]، فمن أطاع الله ولم يطع الرسول لم يقبل منه، الثانية قوله تعالى: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ [المزمل:20]، فمن صلى ولم يزك لم يقبل منه، الثالثة قوله تعالى: أَنْ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ [لقمان:14]، فمن شكر الله ولم يشكر والديه لم يقبل منه).
يقول عليه الصلاة والسلام: ((من صنع إليكم معروفًا فكافئوه، فإن لم تجدوا فادعوا له حتى تعلموا أنكم قد كافأتموه))، وليس في الوجود أحد بعد الله سبحانه أسدى إليك ـ أيها الإنسان ـ معروفًا أكثر مما أسدى إليك أبوك وأمك؛ فقد ربياك صغيرًا، وآثراك على أنفسهما كبيرًا، وكانا قبل ذلك السبب في وجودك وبروزك في الحياة شخصًا سويًا، فقد بذلا من أجلك الشيء الكثير، بذلا مهجهما وراحتهما ومالهما لإنعاشك وإسعادك. إن مرضت مرضا معك، وإن سهرت سهرا معك، إن حضرت خافا عليك، وإن غبت بكيا عليك.
فمن أجل هذا،ومن أجل أن توفّق لما أُمرت به من طاعة الله وبر الوالدين، فتسعد في دنياك وتنعم في أخراك، أمرك الله جل جلاله ببرهما والإحسان إليهما والعطف عليهما وخفض الجناح لهما والترحم عليهما ومخاطبتهما باللين والرفق واليسر والحسنى، ووصاك بهما تعالى توصية مُبَيّنة حكمتها، توصية تستجيش المشاعر وتهزّ القلوب: وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا [الأحقاف:15]، وقال تعالى: وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنْ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ [لقمان:14].
فاتقوا الله أيها المسلمون، اتقوا الله تعالى وأطيعوه فيما أمركم من بر الوالدين وطاعتهما، فإن برهما وطاعتهما من أكبر القربات المقربة إلى الله، وعقوقهما وعصيانهما من أكبر السيئات المبعدة عن الله.
روى البخاري ومسلم رحمها الله عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: سألت رسول الله : أي الأعمال أحب إلى الله؟ قال: ((الصلاة على وقتها))، قلت: ثم أي؟ قال: ((بر الوالدين))، قلت: ثم أي؟ قال: ((الجهاد في سبيل الله))، وعن أبي بكرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله : (( ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟)) ثلاثًا، قلنا: بلى، قال: ((الإشراك بالله، وعقوق الوالدين ـ وكان متكئًا فجلس ـ فقال: ـ ألا وقول الزور، ألا وشهادة الزور))، فما زال يكرّرها حتى قلنا:ّ ليته سكت. رواه البخاري ومسلم.
فاتقوا الله عباد الله، بِرّوا تُبَرّوا، وأحسنوا يُحْسن إليكم، وأطيعوا الله في والديكم، يطع اللهَ فيكم أولادُكم، وإياكم ثم إياكم من لعن الوالدين، فإنه من موجبات لعن الله. نسأل الله السلامة والعافية.
والملعون الثاني: الذابح لغير الله تعالى.
إن الذبحَ لا يجوز أن يكون إلا لله، إن دم الذبيحة لا يجوز أن تُراق إلا لله: فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ [الكوثر:2]، وإنها من أفضل ما يُتقرّب به إلى الله جلّ وتعالى، ولا يجوز صرفُها لغيره، كمن ذبح لصنم أو لقبر أو للكعبة ونحو ذلك، فكلّ هذا حرام ولا يجوز، بل ولا تحل هذه الذبيحة.
فإن قصد مع ذلك تعظيم المذبوح له غير الله تعالى كان ذلك كفرًا، فإن كان الذابح مسلمًا قبل ذلك، صار بالذبح مرتدًا، والعياذ بالله.
وهذا الأمر ـ أيها الإخوة ـ موجود في بعض بلاد المسلمين، قرابين تقرّب لمقبورين، وطوائف من هذه الأمة ممن يَدّعون الإسلام دينهم، وهذه عقيدتهم، يذبحون لقبورهم أكثر مما يذبحون لله، أفلا يستحق هؤلاء اللعن من رب العالمين؟! كيف لا، وهم قد دخلوا في باب من الشرك لا يُدرى هل يخرجون منه، أم يموتون على هذه العقيدة الفاسدة.
فنسأل الله جل وتعالى أن يختم لنا بخاتمة السعادة، وأن يبصرنا في ديننا، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية
أما بعد: فالملعون الثالث والذي تُوّعد بهذا الحديث هو ذلك الذي يأوي محدثًا: ((ولعن الله من آوى محدثًا)).
إن أصحاب البدع لا مكان لهم في المجتمع المسلم، وكما يقول ابن القيم: "وهذه الكبيرة تختلف مراتبها باختلاف مراتب الحدث في نفسه، فكلما كان الحدث في نفسه أكبر كانت الكبيرة أعظم".
إن الذي يتستّر على أصحاب البدع والمخالفات، هذا الإنسان قد ارتكب جرمًا عظيمًا في حق المجتمع المسلم، لذلك استحق اللعن.
إن تستره عليه وإيواءه يعني أنه راضٍ عما يصنع، هذا إذا كان مجرد إيواءٍ فقط، فما بالكم بمن يسهل هذه الأمور، ويدعم أصحابها بالمال، ويدافع عنهم، ولا يرضى بالتعرض لهم؟! وكل هذا يحصل في بلاد المسلمين.
ولهذا، فلا تستغرب إذا رفع أصحاب البدع عقيرتهم ولوحوا بأعلامهم وتكلموا بملء أفواههم، ليسمعهم القريب والبعيد، وصدق الصادق المصدوق : ((ولعن الله من آوى محدثًا))؛ لأنه عليه الصلاة والسلام يعلم خطورة هذا الأمر، وأنه ما أُحدثت بدعة إلا وأميتت سنة، ولأن البدع لو ترك لها المجال في الانتشار والتوسع، فإنها ستقضي على الدين كله، وستأكل الأخضر واليابس.
إنه لا بد من وقفة مراجعة ومحاسبة لأصحاب البدع، وذلك قبل أن يعض المجتمع المسلم أصابع الندم.
الإحداث في الدين ليس فقط التحريف في الأسماء والصفات، بل كل شرخ وحدث في أي جانب من الجوانب العقدية يعتبر إحداثًا.
وأما الملعون الرابع: ف هو من غير منار الأرض، قال ((ولعن الله من غيّر منار الأرض)).
منار الأرض هي علاماتها وحدودها التي يهتدي الناس بها في الطريق.
هناك علامات توضع في الطريق ليهتدي بها المسافر والغريب عن الأرض، والذي يعبث بهذه العلامات ويغيرها متوعد باللعنة. لماذا؟ لأن هذا نوع من الإيذاء لعباد الله، وتضليلهم عند سبيلهم. أرأيت ـ أخي المسلم ـ لو كنت تريد السفر إلى مكة وأنت غريب، ومعك أهلك وأولادك، ثم رأيت علامة تقول لك بأن مكة من ها هنا، وهذه العلامة قد جاء قبلك من غيرها عن وجهتها الصحيحة، هل تظن أنك ستصل إلى مكة؟! ماذا يكون حال النساء والأطفال معك وأنت ضائع تائه في الصحراء؟! ألا يستحق صاحب هذا العمل اللعن من الله؟!
أيها الأحبة، إن منارات الأرض، ضربان: منارات حسّية، وهي ما سمعتم قبل قليل، وهناك منارات معنوية، وعلامات وحدود وضعها الله عز وجل، ليهتدي الناس بها في هذه الأرض أيضًا، وهي أولى من سابقتها، ألا وهي شرعه ووحيه: الكتاب والسنة، إنهما لأعظم المنارات في هذه الأرض.
فماذا يستحق من الله عز وجل ذلك الذي أو أولئك الذين يغيرون في هذه المنارات، ويعبثون ويتلاعبون بها، وينتج عن هذا التغيير إضلال طوائف من البشر، وربما لأجيال متعاقبة؟!
إذا كان تغيير منارة من منارات الأرض في طريق ونحوه يستحقّ صاحبها اللعنة، وقد يكون المتضرر من هذا التغيير شخص أو شخصين قل حتى ولو ألف من الناس، فكيف بالذي يغيّر منارات بل ربما يزيل منارات، يكون المتضرر منها الأمة بكاملها، يترتب على تغيير هذه المنارات العبث بأفكار الناس وتصوراتهم ومفاهيمهم. لا شك بأن عقوبة هذا أشد وعاقبته أعظم؛ لأنه قد حرم ملايين من الناس من الاهتداء والاستفادة والأخذ والتلقي من هذه المنارات، فكلما اتسعت دائرة الضرر عظمت العقوبة. والله المستعان.
فنسأل الله جل وعز أن يصلح أحوال المسلمين، كما نسأله أن يعجل بفرج هذه الأمة.
اللهم إنا نسألك رحمة تهدي بها قلوبنا...
ـــــــــــــــــــ(68/66)
ولا تبرجن
...
...
3727
...
الأسرة والمجتمع
...
...
المرأة
...
ناصر بن محمد الأحمد
...
...
الخبر
...
17/6/1421
...
...
النور
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- أهمية الاعنتاء بأمر المرأة. 2- أسباب انحراف المرأة. 3- من مظاهر انحراف المرأة. 4- نتائج انحراف المرأة. 5- عباءات لا يجوز بيعها ولا لبسها. 6- فتاوى للشيخ ابن عثيمين في تحريم النقاب العصري. 7- واجب الرجل على أهل بيته. 8- حال المرأة في الغرب. 9-استغلال أعداء الدين المرأة لمحاربة أهل الإسلام. 10- الغيرة على الأعراض. 11- طريق السلامة والنجاة.
الخطبة الأولى
أما بعد: أيها المسلمون، من الملاحظ منذ فترة أنه قد توسّع كثير من نساء المسلمين في المجتمعات بشكل عام وفي مجتمعنا بشكل خاص في التبرج والسفور وإلقاء الحجاب والحشمة جانبا، كأنه ليس عليهن رقيب من أحد، وباتت المرأة تتشبه بالنساء الساقطات السافرات اللواتي خلعن برقع الحياء، وانسللن من دينهن بدعوة تقولها الواحدة منهن: إنها حرة.
عباد الله، إن مشكلة النساء ليست بالمشكلة التي يُتهاون بها، وليست بالمشكلة الجديدة، إنها مشكلة عظيمة يجب الاعتناء بها ودراسة ما يقضي على أسباب الشر والفساد، إنها مشكلة الوقت قديما وحديثا، لقد كانت مشكلة بني إسرائيل، وهي مشكلة هذه الأمة، كما ثبت في الصحيحين عنه أنه قال: ((ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء))، وكما هو معلوم أن أعز ما تملكه المرأة الشرف والحياء والعفاف، والمحافظة على هذه الفضائل محافظة على إنسانية المرأة في أسمى صورها، وليس من صالح المرأة ولا من صالح المجتمع أن تتبرج المرأة وتتخلى عن الصيانة والاحتشام، ولا سيما أن الغريزة الجنسية هي أعنف الغرائز وأشدها على الإطلاق، والتبذل وإظهار الزينة مثير لهذه الغريزة ومطلق لها من عقالها. والمرأة ـ كما نعلم ـ فتنة ليس أضر على الرجال منها، يقول عليه الصلاة والسلام: ((إن المرأة تقبل في صورة شيطان، وتدبر في صورة شيطان))، وتجرد المرأة من ملابسها وتبرجها وإبداء مفاتنها يسلبها أخص خصائصها من الحياء والشرف، ويهبط بها عن مستواها الإنساني.
وسبب هذا الانحراف هو الجهل والتقليد الأعمى للكافرات السافرات الساقطات، فأصبح من المعتاد أن يرى المسلم المرأة المسلمة متبذلة، عارضة مفاتنها، خارجة في زينتها، كاشفة عن وجهها ونحرها وذراعها وساقها، ولا تجد أي غضاضة في ذلك، بل تجد من الضروري وضع الأصباغ والمساحيق والتطيب بالطيب واختيار الملابس المغرية، وللمجلات مجال واسع في تشجيع هذه السخافات والتغرير بالمرأة للوصول إلى هذا المستوى المتدني الرخيص.
أيها المسلمون، إنه كلما عظم الخطر عظمت المسؤولية، وكلما كثرت أسباب الفتنة وجبت قوة الملاحظة، وإننا في عصر عظم فيه الخطر وكثرت فيه أسباب الفتنة بما فتح علينا من زهرة الدنيا واتصالنا بالعالم الخارجي مباشرة، أو بواسطة وسائل الإعلام المسموعة والمرئية، وخاصة ما يبث عبر قنوات البث المباشر والمقروءة، وبسبب ضعف كثير من الرجال وتهاونهم للقيام بمسؤولياتهم تجاه نسائهم، وترك الحبل لهن على الغارب؛ حتى إنك لترى المرأة الشابة تذهب من بيتها إلى أي مكان تريد دون أن تُسأل: إلى أين؟ وتتكلم بالهاتف الساعات الطوال دون أن يعلم ولي أمرها من تكلم، وترى بعض النساء يخرجن إلى الأسواق بلا رقيب، تطوف بها ليلا ونهارا صبحا ومساء، وما ذهابها إلى السوق من أجل شراء شيء تريده، وإنما من أجل التسلي والتسكع، ومن أجل تضييع الوقت، ومن أجل البحث عن الجديد من الأزياء أو المكياج حتى تكون الزينة لها هدفا لذاته، حتى إن بعضهن يلبسن ألبسة مغرية مزركشة سواء كانت عباءة خفيفة أو طرحة شفافة يظهر لون جلد وجهها وقسماته من خلاله، وبعضهن ينتقبن بنقاب ملفت للنظر، وتبدو مكحّلة العينين ملونة الوجنتين، تزاحم الرجال وتكلمهم، وربما تمازحهم إذا قوي تمرّدها وقل حياؤها. وبعض النساء يكشفن الوجه في السيارة أو في الشارع أو أمام البائع وكأنه أحد محارمها. نسأل الله السلامة والعافية. هذا غيض من فيض مما يفعله بعض النساء من أسباب الفتنة والخطر العظيم والسلوك الشاذ الخارج عن توجيهات الإسلام.
أيها المسلمون، إن من نتائج هذا الانحراف أن كثر الفسق، وانتشر الزنا، وابتعد الناس عن الزواج، وانهدم كيان الأسرة، وأهملت الواجبات الدينية، وانعدمت الغيرة، واضمحل الحياء، وتركت العناية بالأطفال، وأصبح الحرام أيسر حصولا من الحلال، وكثرت الجرائم، وفسدت أخلاق الرجال خاصة الشباب المراهقين، وأصبحت المتاجرة بالمرأة كوسيلة دعاية أو ترفيه في مجالات التجارة وغيرها، وكثرت الأمراض التي لم تكن في السابق، قال : ((لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا)) رواه ابن ماجه، وهو حديث صحيح.
ومن أعظم العقوبات التي هي قطعا أخطر من القنابل الذرية وغيرها استحقاق نزول العقاب الإلهي، وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا [الإسراء:16]، وقال عليه الصلاة والسلام: ((إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك الله أن يعمهم بعذاب)).
أيها المسلمون، لقد شاع في هذا الزمان بين أوساط كثير من النساء ما رأيتموه جميعا، بل كل يوم يأتينا عنه نبأ، ألا وهي هذه العباءات الغريبة، فتارة ترى عباءة مزينة بالقيطان، أو مطرزة في موضع الأكمام أو الصدر أو الظهر، أو عباءة مكتوب عليها بالذهبي عبارات ملفتة، أو ما يسمى بالعباءة الفرنسية، أو موديل الدانتيل، أو موديل التخريم وغيرها وغيرها.
ومن مشاهد الضياع في ارتداء الحجاب ما يفعله بعض النساء من وضع العباءة على كتفها ولف الطرحة على رأسها ليبدوَ قوامها، ولا شك ـ أيها الإخوة ـ أن هذا الفعل فتنة للمرأة وفتنة للرجل، وقد أفتى علماؤنا بحرمة هذه العباءات، فهي محرمة ولا يجوز للمرأة أن تلبسها، وبناءً عليه لا يجوز بيعها. فليتق الله أصحاب محلات بيع العباءات النسائية أن يستوردوا لنا مثل هذه الأشياء، وليعلموا أن كسبهم من ورائها حرام والعياذ بالله.
وقبل هذا وبعده، أين الرجال؟! وأين محارم هؤلاء النسوة؟! وليتق الله أولياء أمور هؤلاء النسوة، ولا يسمحوا لأعراضهن ارتداء أشياء محرمة ودخيلة على مجتمعاتنا وعاداتنا، والعباءة والحجاب لم يشرع للزينة، بل شرع للستر والحشمة.
ومن مظاهر الحجاب العصري الفاسد المنتشرة بين كثير من النساء بداعي التقليد والإثارة أو الجهل ما يفعله كثير منهن من إظهار العينين وجزء من الوجه، وربما اكتحلت إحداهن أو وضعت الأصباغ على وجهها لتبدو بشكل ملفت ومثير بحجة أنها متنقبة، وليس هذا هو النقاب الذي شرع في الإسلام للمرأة أن تلبسه إذا هي احتاجت إليه.
وقد سئل فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين أطال الله في عمره وشفاه عما يسمّى بالنقاب وطريقة لبسه، ففي بداية الأمر كان لا يظهر إلاّ العينان فقط، ثم بدأ النقاب بالاتساع شيئا فشيئا، فأصبح يظهر مع العينين جزء من الوجه مما يجلب الفتنة، ولا سيما أن كثيرا من النساء يكتحلن عند لبسه.
فأجاب فضيلته: "في وقتنا هذا لا نفتي بجوازه، بل نرى منعه؛ وذلك لأنه ذريعة إلى التوسع فيما لا يجوز، ولهذا لم نفت امرأة من النساء لا قريبة ولا بعيدة بجواز النقاب أو البرقع في أوقاتنا هذه، بل نرى أنه يمنع منعا باتا، وأن على المرأة أن تتقي ربها في هذا الأمر، وأن لا تنتقب؛ لأن ذلك يفتح باب شر لا يمكن إغلاقه".
أيها الإخوة المؤمنون، إن هذه المظاهر الشاذة في مجتمعنا المسلم المحافظ لمما يبعث على الأسى والحسرة، ولكن ما واجبنا كرجال ملّكنا القوامة على النساء، وحمّلنا مسؤولية التوجيه والتربية لزوجاتنا وبناتنا؟
إن الواجب أن نتقي الله سبحانه أولاً وآخرًا، وأن ننصح لزوجاتنا وبناتنا، ونعلمهن ما هو حلال ونعينهن عليه، وما هو حرام فنزجرهن عنه؛ لأن الرجل هو الذي يغار على أهله، ويحفظهم من نظرات الساقطين والسافلين، فلنكن ـ أيها الإخوة ـ رسل هداية ومنابر توجيه لأهلينا.
إن من أعظم مقاصد هذا الدين إقامة مجتمع طاهر، الخلق سياجه، والعفة طابعه، والحشمة شعاره، والوقار دثاره. مجتمع لا تهاج فيه الشهوات، ولا تثار فيه عوامل الفتنة، تضيق فيه فرص الغواية، وتقطع فيه أسباب التهييج والإثارة. ولقد خُصَّت المؤمنات بتوجيهات في هذا ظاهرة ووصايا جليلة، فعفة المؤمنة نابعة من دينها، ظاهرة في سلوكها، ومن هنا كانت التربية تفرض الانضباط في اللباس سترة واحتشامًا، ورفضًا للسيرة المتهتكة والعبث الماجن.
ومهما قيل في الحجاب في كيفيته وصفته فما كان يومًا عثرة تمنع من واجب، أو تحول دون الوصول إلى حق، بل كان ولا يزال سبيلاً قويمًا يمكِّن المرأة من أداء وظيفتها بعفةٍ وحشمةٍ وطهرٍ ونزاهةٍ على خير وجهٍ وأتم حال.
وتاريخ الأمة شاهد صدق لنساء فُضْلَيات جمعن في الإسلام أدبًا وحشمةً وسترًا ووقارًا وعملاً مبرورًا، دون أن يتعثرن بفضول حجابهن أو سابغ ثيابهن.
وإن في شواهد عصرنا من فتياتنا المؤمنات متحجبات بحجاب الإسلام، متمسكات بهدي السنة والكتاب، قائمات بمسؤولياتهن، خيرٌ ثم خيرٌ ثم خير من قرينات لهن، شاردات كاسيات، عاريات مائلات مميلات لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها، متبرجات بزينتهن تبرج الجاهلية الأولى.
وليعلم دعاة السفور ومن وراءهم أن التقدم والتخلف له عوامله وأسبابه، وإقحام الستر والاحتشام والخلق والالتزام عاملاً من عوامل التخلف خدعة مكشوفة، لا تنطلي إلا على مغفل ساذج، في فكره دخل، أو في قلبه مرض.
ودعاة السفور ليسوا قدوة كريمة في الدين والأخلاق، وليسوا أسوة في الترفع عن دروب الفتن ومواقع الريب، إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمْ الْغَالِبُونَ [المائدة:55، 56].
أيها الأحبة، إن المرأة المسلمة هي أم المستقبل ومربية الليوث القادمة والحصن المنيع ضد تيارات الفساد والتدمير، بل إنها نموذج الصبر والتضحية، إنها قبس في البيوت مضيء، وجوهرة تتلألأ، ولكن لم يكن لأصحاب تيار الرذيلة والانحراف يد من نسف الحياة الطيبة التي تعيشها المرأة المسلمة في ظل دينها وإسلامها، فأصبحت وسائل الإعلام بمختلف أنواعها توجه المرأة، وغدت المنظمات الدولية والمؤسسات الحقوقية تتسابق في توجيه المسلمة، وتعريفها بمسؤولياتها وواجباتها، وتتباكى على حال المرأة المسلمة، فهل من وعي لهذه القضية؟!
لقد شاعت الفاحشة شيوعا لم يسبق له مثيل، فقد كان أول طوفان تحرير المرأة، لقد اكتسح الغرب التحرير، فلم تعد مزاولة الفاحشة ـ أجارنا الله وإياكم ـ مقصورة على دور البغاء، بل تجاوزت ذلك إلى الفنادق والمقاهي الراقصة والمنتزهات وعلى قارعة الطريق، ولم يعد من الغريب ولا الشاذ أن يقع الأب مع بناته، والأخ مع أخته، بل لقد أصبح ذلك في الغرب شائعا ومألوفا. وأصبحت الخيانة الزوجية ظاهرة عامة، ففي أمريكا من كل أربعة نسوة امرأة واحدة تخون زوجها، فالمرأة تخون زوجها، والرجل يخون زوجته، مما أدى إلى الطلاق وتفكك الأسر وتبعثرها.
أما الاغتصاب فإن معدله في الولايات المتحدة وحدها يزيد عن مثيلاتها في اليابان وإنجلترا وإسبانيا بعشرين ضعفا. أما التفكير في الانتحار في ظل الرفاهية المزعومة والحرية وحقوق المرأة التي ينادون بها في الغرب فإن أربعا وثلاثين بالمائة من النساء يفكرن في الانتحار. أما الأمراض التي ظهرت بسبب الفاحشة والشذوذ فقد انتشر الزهري والسيلان وهما مرضان خطيران في قمة الأمراض الخطيرة في الغرب، وجاء دور الإيدز، يقول مؤلف كتاب (يوم أن اعترفت أمريكا بالحقيقة): "مئات الآلاف من الأمريكيين يكوّنون علاقات جنسية في كل ليلة من ليالي الأسبوع مع أشخاص يعتقدون أنهم مصابون بهذا المرض ـ ثم يقول: ـ إن استقراءً سريعًا لإحصائيات هذه الدراسة يشير إلى أن هناك ما نسبته: 2.2 مليون أمريكي على يقين بأنهم مصابون بمرض الإيدز، وسبعة ملايين يعتقدون أنهم في خطر كبير من الإصابة بهذا المرض، ومعظم هؤلاء المصابين بالإيدز أو الذين هم في خطر كبير بالإصابة به هم أشخاص أسوياء وغير شاذين، فكم تكون النسبة بين الشاذين؟!
هكذا ـ أيها الإخوة الكرام ـ تعيش المرأة في ظل الجاهليات، وإنه لشيء حتمي بسبب البعد عن الله، وهكذا تعيش المرأة المتحضرة المتحررة ـ زعموا ـ التي يسعى المنافقون والعلمانيون وأصحاب الشهوات عندنا أن تعيش نساؤنا وبناتنا حياة ضنكا، وأن تصطلي بنار البعد عن الإسلام، وأن تغدو معذبة محطمة تفكر في الانتحار كل يوم، وتعاني صنوف القسوة كل ذلك باسم الحرية والمساواة والتقدم والانفتاح، وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيمًا [النساء:27].
إنها الحرية العرجاء التي ينادون بها ويدعون إليها، يريدون إخراج المرأة من عفافها، من شرفها، من دينها، من مملكتها الأسرية وجنتها الزوجية، مدعين أنها في سجن، وأن جلبابها هو خيمة سوداء ترتديها، وأنها جاهلة ومتخلفة، ولن تعرف العلم حتى تلحق بركاب المرأة الغربية وتحذو حذوها: كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِبًا [الكهف:5].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم...
الخطبة الثانية
أما بعد: أيها المسلمون، لقد أخذت الأرض زخرفها وزينتها وظن أهلها أنهم قارون عليها، وانصرف الناس عن دينهم إليها، وانقادوا لغرورها وافتتنوا بحضارة الغرب وزخارف الشرق، وصادف هذا كله غفلة دعاة الحق، لكن أعداء الإسلام لم يغفلوا عنا، فحملوا بخيلهم ورجلهم، وجردوا الحملات المسلمة بسهام الشهوات وسموم الشبهات، لتعيث في قلوب المسلمين فسادا، وتجوس خلال ديارهم، لتسلخهم من دينهم الحق الذي ارتضاه الله لهم.
وقد كان هؤلاء الأعداء خبثاء ماكرين في حربهم؛ إذ تفرسوا في أسباب قوة المسلمين وحددوها، ثم اجتهدوا في توهينها وتحطيمها بكل ما أوتوا من مكر ودهاء. علموا أن المرأة من أعظم أسباب القوة في المجتمع الإسلامي، وهم يعلمون أنها سلاح ذو حدين، وأنها قابلة لأن يكون أخطر أسلحة الفتنة والتدمير، ومن هنا كان لها النصيب الأكبر من حجم المؤامرات على تمزيق الأمة وتضييع طاقاتها.
إن المرأة تملك مجموعة من المواهب الضخمة الجديرة بأن تبني أمة، وأن تهدم أمة، فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي أنه قال: ((إن الدنيا حلوة خضرة، وإن الله مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا واتقوا النساء، فإن أول فتن بني إسرائيل كانت في النساء))، وعن أسامة بن زيد وسعيد بن زيد رضي الله عنهما عن النبي قال: ((ما تركت بعدي في الناس فتنة أضر على الرجال من النساء)).
أيها الأحبة، إن كل امرئٍ عاقلٍ، بل كل شهم فاضل لا يرضى إلا أن يكون عرضه محل الثناء والتمجيد، ويسعى ثم يسعى ليبقى عرضه حرمًا مصونًا لا يرتع فيه اللامزون، ولا يجوس حماه العابثون.
إن كريم العرض ليبذل الغالي والنفيس للدفاع عن شرفه، وإن ذا المروءة الشهم يقدم ثروته ليسد أفواهًا تتطاول عليه بألسنتها أو تناله ببذيء ألفاظها. نعم، إنه ليصون العرض بالمال، فلا بارك الله بمال لا يصون عرضًا، بل لا يقف الحد عند هذا فإن صاحب الغيرة ليخاطر بحياته ويبذل مهجته ويعرض نفسه لسهام المنايا عندما يرجم بشتيمة تلوث كرامته، يهون على الكرام أن تصاب الأجسام لتسلم العقول والأعراض، وقد بلغ ديننا في ذلك الغاية حين أعلن النبي فقال: ((من قتل دون أهله فهو شهيد)).
أيها الإخوة، بصيانة العرض وكرامته يتجلى صفاء الدين وجمال الإنسانية، وبتدنسه وهوانه ينزل الإنسان إلى أرذل الحيوانات بهيمية. يقول ابن القيم رحمه الله: "إذا رحلت الغيرة من القلب ترحَّلت المحبة، بل ترحل الدين كله".
ولقد كان أصحاب رسول الله من أشد الناس غيرة على أعراضهم، روي عن رسول الله أنه قال يومًا لأصحابه: ((إن دخل أحدكم على أهله ووجد ما يريبه أَشْهَدَ أربعًا))، فقام سعد بن معاذ متأثرًا فقال: يا رسول الله، أأدخل على أهلي فأجد ما يريبني أنتظر حتى أشهد أربعًا؟! لا والذي بعثك بالحق، إن رأيت ما يريبني في أهلي لأطيحنَّ بالرأس عن الجسد، ولأضربنَّ بالسيف غير مصفح، وليفعل الله بي بعد ذلك ما يشاء، فقال عليه الصلاة والسلام: ((أتعجبون من غيرة سعد؟! والله، لأنا أغير منه، والله أغير مني؛ ومن أجل غيرة الله حرَّم الفواحش ما ظهر منها وما بطن)) والحديث أصله في الصحيحين.
من حُرم الغيرة حرم طُهر الحياة، ومن حرم طُهر الحياة فهو أحطُّ من بهيمة الأنعام، ولا يمتدح بالغيرة إلا كرام الرجال وكرائم النساء.
إن الحياة الطاهرة تحتاج إلى عزائم الأخيار، وأما عيشة الدَّعارة فطريقها سهل الانحدار والانهيار، وبالمكاره حفت الجنة، وبالشهوات حفَّت النار.
أيها الإخوة، إن الأسف كل الأسف والأسى كل الأسى فيما جلبته مدنية هذا العصر من ذبح صارخ للأعراض، ووأدٍ كريه للغيرة. تعرض تفاصيل الفحشاء من خلال وسائل نشر كثيرة، بل إنه ليرى الرجل والمرأة يأتيان الفاحشة وهما يعانقان الرذيلة غير مستورين عن أعين المشاهدين، لقد انقلبت الحال عند كثير من الأقوام بل الأفراد والأسر، حتى صار الساقطون الماجنون يُمثلون الأسوة والقدوة، وسامَ افتخارٍ وعنوان رجولة.
هل غارت من النفوس الغيرة؟! وهل غاض ماؤها؟! وهل انطفأ بهاؤها؟! هل في الناس دياثة؟! هل فيهم من يقر الخبث في أهله؟!
ما هذا البلاء؟! كيف يستسيغ ذوو الشهامة من الرجال والعفة من النساء لأنفسهم ولأطفالهم، لفتيانهم ولفتياتهم هذا الغثاء المدمر، من ابتكارات البث المباشر وقنوات الفضاء الواسع؟! أين ذهب الحياء؟! وأين ضاعت المروءة؟! أين الغيرة من بيوت هيأت لناشئَتها أجواء الفتنة، وجرتها إلى مستنقعات التفسخ جرًا، وجلبت لها محرضات المنكر تدفعها إلى الإثم دفعًا، وتدعُّها إلى الفحشاء دعًّا؟!
اطلعت امرأة شريفةٌ على الخمر، ثم سألت: هل تشرب هذا نساؤكم؟ قالوا: نعم، قالت: يزنين وربّ الكعبة.
أيها الإخوة، إن طريق السلامة لمن يريد السلامة ـ بعد الإيمان بالله ورحمته وعصمته ـ ينبع من البيت والبيئة، فهناك بيئات تنبت الذلّ، وأخرى تنبت العزّ، وثمة بيوتات تظلها العفة والحشمة، وأخرى ملؤها الفحشاء والمنكر. لا تحفظ المروءة ولا يسلم العرض إلا حين يعيش الفتى وتعيش الفتاة في بيت محتشم محفوظ بتعاليم الإسلام وآداب القرآن، ملتزم بالستر والحياء، تختفي فيه المثيرات وآلات اللهو المنكر، يتطهر من الاختلاط المحرم، وفي مقدمة هذا كله الحجاب الشرعي، قال الله تعالى: وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى [الأحزاب:33].
ـــــــــــــــــــ(68/67)
يوسف عليه السلام (1)
...
...
3728
...
الأسرة والمجتمع, سيرة وتاريخ
...
...
القصص, قضايا الأسرة
...
ناصر بن محمد الأحمد
...
...
الخبر
...
10/2/1410
...
...
النور
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- قصة يوسف عليه السلام والدروس المستفادة منها. 2- الاختلاط وأضراره. 3- من أضرار السائقين والخادمات. 4- سعير الشهوة.
الخطبة الأولى
أما بعد: نقضي معكم دقائق هذه الجمعة، مع قصة نبي الله يوسف عليه السلام نأخذ فيها العبرة والعظة، كما قال تعالى: لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [يوسف:111].
تبدأ قصة يوسف عليه السلام بأنه رأى في منامه أحد عشر كوكبا، والشمس والقمر قد سجدوا له خاضعين، فلما أصبح قص على أبيه عجيب ما رأى، فأدرك أبوه يعقوب عليه السلام من هذه الرؤيا أن ابنه سيكون له شأن عند الله وعند الناس، لكنه خشي عليه من حسد إخوانه، فأوصاه بأن لا يقص خبره على إخوته: إِذْ قَالَ يُوسُفُ لأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ قَالَ يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ [يوسف:4-7].
رأى أبناء يعقوب من إيثار ومحبة أبيهم ليوسف وأخيه الشقيق بنيامين ما لم يكن لواحد منهم، فغاظهم ذلك، وصاروا يحقدون على أخيهم، فأضمروا له الشر، وائتمروا فيما بينهم على الخلاص منه، وظنوا أنهم بهذا العمل يستأثرون بحب والدهم، ثم يتوبون بعد ذلك من عملهم هذا، ويكونون قومًا صالحين، فيقبل الله توبتهم، إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوْ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ [يوسف:8، 9].
ولنا وقفة ـ أيها الإخوة ـ مع أولئك الآباء الذين يفضلون بعض أبنائهم على بعض، وهذا أمر إضافة إلى أنه لا يجوز، فإنه يوقع العداوة والبغضاء بينهم، يحقد بعضهم على بعض، بل ربما يصل إلى قتل بعضهم البعض، كل هذا بسبب إساءة هذا الوالد في تربيتهم، وعدم الإنصاف في المعاملة بينهم.
نعم ـ أيها الإخوة ـ إن الحب القلبي لا يملكه أحد، فهو قد يحب أحد أولاده أكثر من البقية، لكن هذا الحب مادام أنه قلبي فلا بد أن يبقى في القلب، ولا يظهر على السلوك في المعاملة، فيعطيه أكثر من إخوانه على مرأى ومسمع منهم. ولنا في هذه القصة عبرة.
أيها المسلمون، أشار بعد ذلك أحد الإخوة بعدم قتل يوسف بل يلقوه بعيدًا عن العيون، في أغوار بئر، فلعل قافلة تلتقطه منه، وتحمله معها، وبذلك يتحقق لهم غرضهم من إقصائه عن أبيه، وينجون من إثم القتل، وعلى هذا استقر رأيهم.
ذهبوا إلى أبيهم وراحوا يحتالون لأخذ يوسف معهم، فقالوا له: يا أبانا، ما الذي رابك منا حتى تبعد يوسف عنا ونحن نحبه ونشفق عليه؟ أرسله معنا إلى المراعي غدًا ليلعب ويمرح، ويتمتع بالأكل والشرب معنا، وإننا لحريصون عليه حرصَنا على أنفسنا، فأجابهم يعقوب عليه السلام بأنه يحزنه أن يبتعد عن يوسف، ويخاف أن يأكله الذئب وهم في غفلة عنه، قال الله تعالى: قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنتُمْ فَاعِلِينَ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ [يوسف:10-14].
أذن يعقوب عليه السلام لأولاده باصطحاب يوسف معهم، وعندما خرجوا به نفذوا مخططهم، فألقوه في البئر. رجع إخوة يوسف في المساء يظهرون الحزن ويرفعون أصواتهم بالبكاء، فقالوا: يا أبانا، ذهبنا نستبق في الرمي والجري وتركنا يوسف عند متاعنا ليحرسه فأكله الذئب ونحن بعيدون عنه، وإنا نعلم بأنك لن تصدّقنا لاتهامك إيانا بأننا نكرهه، وأخرجوا له قميص يوسف وقد تلوث بالدم، لكن فراسة الأب كشفت له كذبهم، حيث أن القميص لم يكن ممزّقًا، ولا يمكن للذئب أن يأكله مع عدم تمزيق قميصه.
سبحان الله، كم في هذا الحادث من إشارة إلى أن أية جريمة مهما أحكم الإنسان ضبطها فإنه لا بد أن تفوته بعض جوانبها تكون سببًا لكشفها إما عاجلاً أو آجلاً، قال تعالى: فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ [يوسف:15-18].
أيها الإخوة، بعد ذلك مرت قافلة أمام البئر بلطف الله عز وجل ورحمته، وكانت قاصدة مصر، فذهب أحدهم ليأتي لهم بالماء من البئر، فلما أدلى دلوه تعلق به يوسف حتى خرج من البئر، وفرح به الرجل فرحًا شديدا، وأتى به إلى رفقائه، وأخفوه بين أمتعتهم التي يرغبون في بيعها، باعوه بعد ذلك ـ أيها الإخوة ـ في مصر، بدراهم قليلة للتخلص منه، خشية أن يدركهم أهله، وكان الذي اشتراه وزير الملك، فأرسله إلى بيته وأوصى زوجته بالإحسان إليه، فصار ليوسف بعد ذلك مقام كريم في منزل وزير الملك، وألهم عليه السلام تفسير الرؤى، واقرؤوا معي ـ أيها الإخوة ـ هذه الآيات: وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنْ الزَّاهِدِينَ وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ [يوسف:19-22].
أيها المسلمون، تعرّض يوسف عليه السلام لفتنة عظيمة جدًا وهو في بيت وزير الملك، وذلك لما منّه الله تعالى عليه من الجمال، وذلك أن امرأة العزيز رأت بعين الأنثى جمال يوسف فخفق قلبها واضطرمت مشاعرها، لبثت وقتًا تتردّد في إظهار شعورها نحو يوسف إلى أن غلب الحبّ عواطفها، واستحوذ الضعف الطبيعي على مشاعرها، فانتهزت فرصة وجوده في بيتها يومًا، وأخذت تغريه بنفسها ليبادلها الحب، فعرضت عليه محاسنها ومفاتنها بعد أن غلقت الأبواب، وقالت له: أقبل عليّ فقد هيأت لك نفسي. والله، إنها لفتنة لا يقوى على تحملها وتجاوزها إلا من وفقه الله عز وجل، ولهذا كان من السبعة الذين يظلهم الله في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله رجل دعته امرأة ذات منصب وجمال، فقال: إني أخاف الله. فنفر منها يوسف نفرة المستنكر لهذا الأمر، ولكن الله أعمى قلبها فلم تبال بما قال وأصرّت أن تخالطه، ونازعته نفسَه إليها، لولا رحمة الله عز وجل بعبده فرأى نور الحق فاستضاء به فلم يطاوع ميل النفس، وامتنع عن المعصية، وهكذا صرف الله عنه سوء الزنا والخيانة؛ لأنه من عباد الله الذين أخلصوا له. أسرع يوسف عليه السلام إلى الباب يريد الإفلات منها، وأسرعت وراءه لتحول دون خروجه، وجذبت قميصه من الخلف لتمنعه من الخروج، فتمزق، لكنه تمكن من الخروج، وفي هذه الحال وجدا عند الباب زوجها، فبادرته باتهام يوسف بمحاولة اغتصابها، وحرضته على سجنه، لكن يوسف عليه السلام دفع التهمة عن نفسه بأنها هي التي حاولت أن تخون زوجها، وأنه امتنع عن الاستجابة لها، وبينما هما يتبادلان الاتهام حضر الجدال قريب لها، فحكم قائلاً: إن كان قميصه شقّ من أمام فقد صدقت، وإن كان قميصه شقّ من خلف فهذا يعني أنه كان يحاول الفرار، فقد كذبت في قولها وهو من الصادقين، فلما رأى الزوج أن قميصه شق من خلف علم صدقه عليه السلام، وتبين له كيد زوجته، لكنه رغب في ستر الفضيحة، فقال ليوسف: تناسَ ما جرى لك واكتمه، وقال لامرأته: استغفري الله لذنبك وتوبي إنك كنت من الآثمين، وفي هذا يقول الله تعالى: وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتْ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلاَّ أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنْ الْكَاذِبِينَ وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنْ الصَّادِقِينَ فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنْ الْخَاطِئِينَ [يوسف:23-29].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
الخطبة الثانية
أما بعد: تتمة لقصة هذا النبي الكريم يوسف عليه السلام، انتشر خبر الحادثة التي وقعت في بيت الملك إلى جماعة من نساء المدينة، وتناقلنه في مجتمعاتهن، قائلات بأن امرأة العزيز أغرت خادمها وراودته عن نفسه ليطيعها فيما تريده منه، وقد خالط حبه شغاف قلبها. وصل هذا إلى سمع امرأة العزيز، فقررت أن تريهن يوسف عليه السلام ليلتمسن لها العذر، فاستضافتهن يومًا، وبعد أن استقرّ المقام بالمدعوات أمرت جواريها بإعداد الطعام، وأعطت كل واحدة سكينًا لتقطع بها، جريًا على العادة من وضع السكاكين على المائدة لقطع اللحم والفاكهة. وفي هذه الأثناء أمرت يوسف أن يخرج إليهن فكان صدفة لهن، إذ بهرهن جماله الرائع، فجرحن أيديهن من فرط الدهشة والذهول، ولما رأت امرأة العزيز أن النساء شاركنها في إعجابها به، حينئذٍ باحت لهن بمكنون فؤادها قائلة: هذا هو الفتى الذي تلومونني في حبه، هذا هو الفتى الذي حاولت إغراءه فامتنع، وأُقسم لكنّ إن لم يفعل ما آمره ليعاقبن بالسجن ليكون من الأذلاء، لكن يوسف عليه السلام لم يلن، فلجأ إلى ربه مناجيًا، بأنه يفضل السجن على معصيته، ثم دعا ربه أن يصرف عنه شر مكرهن، فاستجاب الله دعائه، فصرف عنه المعصية، إنه وحده السميع لدعوات الملتجئين، قال تعالى: وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكًَا وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتْ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونَ مِنَ الصَّاغِرِينَ قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنْ الْجَاهِلِينَ فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [يوسف:30-34].
أيها المسلمون، نود أن نقف معكم وقفة مع هذه الحادثة، وهو ما أرادت أن تحصل عليه امرأة العزيز من نبي الله يوسف، وأرادت أن توقعه في الزنا، أن في هذا الحدث ـ أيها الإخوة ـ صورة لغواية المرأة للرجل، ودأبها المتواصل المستمر للحصول على مبتغاها. فالمرأة ذلك المخلوق الضعيف، ولكنها بفتنتها وإغرائها للرجل تصبح ذلك القوي الذي لا يقهر. فالذي نريد، ونود أن نسأل أنفسنا: ما الأسباب التي أدت إلى غواية امرأة العزيز ليوسف عليه السلام؟ ما الذي حملها في أن تلاحقه في جنبات القصر وهو يود الفرار منها خوفًا من الله عز وجل حتى مزقت قميصه؟ إنه سبب واحد ـ أيها الإخوة ـ ولا سبب غيره، ألا هو الاختلاط والخلوة.
إن اختلاطها معه ووجوده المستمر في القصر بجانبها من الدواعي التي أدت إلى إضرام شعلة الحب في قلبها، ولهذا كانت تتعرض له بالإغراء.
إن انفراد الرجل الأجنبي بالمرأة الأجنبية بعيدًا عن رقابة الأهل والمجتمع يؤدي إلى أضرار لا تحمد عقباها، ويؤثر التأثير السيئ على مستقبل الرجل والمرأة، ولهذا حذر الإسلام من الخلوة، وحرمه أشد التحريم، لما يترتب عليه من النتائج السيئة.
فلا أدري ـ يا عباد الله ـ بعد هذه الوقفة، هل يفيق من غفلتهم من أدخلوا بيوتهم من الرجال والنساء الأجانب تحت اسم السائق والخادمة؟!
إن السائق ـ أخي المسلم ـ رجل أجنبي، إن الخادمة ـ أخي المسلم ـ امرأة أجنبية، لا يحل لك النظر إليها، ولا الخلوة بها، وإن كان سائقًا فهو رجل فيه شهوة كما في باقي الرجال، وإن تلك المرأة وإن كانت خادمة فهي كبقية النساء تفتن وتغري وتحركها وتقودها شهوتها في حالات ضعفها. كم تسمعون يا عباد الله، كل يوم من المشاكل الأخلاقية التي تقع من الخدم والسائقين، فهل يتعظ أولئك الذين لا يغارون على أهليهم، ويجعل زوجته أو أحد بناته تذهب مع السائق لوحدها؟! هل يتعظ مما نقرأ ونسمع كل يوم ذلك الذي أدخل هذه المرأة الأجنبية بحجة أنها خادمة في بيته وله من الأولاد من هم في سن المراهقة، ينظرون إليها وهي تذهب وتجيء في أركان البيت، وربما شوهدت مستلقية أو نائمة، مما يزيد في الإغراء والفتنة؟!
فاتقوا الله أيها المسلمون، لا تعرضوا أهليكم للهلاك، لا تعرضوا أولادكم للفساد، تجنبوا أسباب الشر والفتنة. والله يا عباد الله، إن الشهوة إذا تحركت في جسم الإنسان فإنها لا تعرف خادمًا ولا سائقًا، لا تعرف سيدًا أو مسودا. كم خضع وركع أمام شهوة الجنس عظماء التاريخ من رؤساء وقواد جيوش، كم كُشفت أسرار دول عن طريق الشهوة، كم سمعنا بفضائح كبار الشخصيات في شتى دول العالم بسبب إغراء امرأة له.
فاتقوا الله أيها المسلمون، قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6]. فها هي امرأة العزيز امرأة وزير الملك تذل نفسها تحت ضغط الجنس عند فتًى يعمل عندها وهي سيدته.
وها هو نبي من أنبياء الله يتعرض لفتنة صعبة جدًا، سعارها الشهوة الجنسية ، لكن رحمة الله عز وجل هي حفظت هذا النبي الكريم يوسف عليه السلام.
فنسأل الله عز وجل بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجنبنا وإياكم وجميع المسلمين وأولادنا وبناتنا، من الوقوع في الفواحش والمنكرات.
اللهم إنا نسألك رحمة تهدي به قلوبنا...
ـــــــــــــــــــ(68/68)
إحداد المرأة بين الجاهلية والإسلام
...
...
3736
...
الأسرة والمجتمع, فقه
...
...
الجنائز, قضايا الأسرة
...
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
...
...
الرياض
...
25/3/1425
...
...
جامع الإمام تركي بن عبد الله
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- عِظم العلاقة بين الزوجين. 2- عدة المطلقة. 3- الحكمة من العدّة. 4- عدّة المتوفى عنها زوجها. 5- وجوب الإحداد على المتوفى عنها زوجها. 6- تعريف الإحداد وبيان أحكامه. 7- إحداد المرأة في الجاهلية. 8- ما يرخّص فيه للمحادّة. 9- أمور ليست من الإحداد الشرعي. 10- فضل الصبر عند مصيبة الوفاة. 11- نهي المرأة عن الإحداد فوق ثلاث لغير زوجها.
الخطبة الأولى
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، العلاقةُ بين الزوجين علاقةٌ من آكدِ العلاقات وأعظمِها رسوخًا، ولذا سمَّى الله عقدَ النكاح بأنه ميثاقٌ، ووصفَ هذا الميثاقَ بأنه غليظ: وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا [النساء:21].
أيّها المسلم، ولمَّا كان بين الزوجين ما بينهما من صِلاَتٍ في هذه الدنيا وأُوجِب على كلٍّ التزامُ الواجب نحوَ الآخر، هذه الصِّلاتُ لم تختصَّ بالحياة خاصّة، وإنما لها علاقةٌ حتى بعد مفارقةِ الزوجين أحدهما للآخر بالطلاق أو بالموت، فشرعَ الله عدَّةَ الطلاقِ للمطلقة: ثلاثَة قروء ثلاث حيض، أو وضع الحمل إن كانت حاملاً، أو ثلاثة أشهر إن كانت صغيرةً أو آيِسة من الحيض، وشرع للمتوفَّى عنها زوجُها أن تعتدَّ عليه أربعة أشهر وعشرا إن لم تكن حاملاً، فإن كانت حاملاً فبوضع حملِها تبين من عدَّتها.
كلُّ هذا احترامًا لعقدِ النكاح وتعظيمًا لشأنه ومعرفةً لقدر الزوج واحترامًا لفراشه. كلُّ هذه الأمور التي أساسُها طاعةٌ لله وتنفيذٌ لأوامره، ولكنها في نفس الوقتِ لها حِكَم ومصالح، فمنها التأكُّد من براءةِ الرحم من الحمل، ومنها أيضًا احترام حقِّ الزوج وتعظيمُ هذا العقدِ ـ أعني عقدَ النكاح ـ وبيان ما له من الشأن والأهمية، وليكون فرقٌ بين النكاح والسّفاح وتمييز لهذا العقد عن غيره، وسبحانَ الحكيم فيما قضى وفيما شرع.
أيّها المسلم، والمتوفَّى عنها زوجُها تعتدُّ بعد موتِه أربعةَ أشهرٍ وعشرةَ أيام، قال تعالى: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا [البقرة:234]، هذا إن لم تكن حاملاً، فإن كانت حاملاً فإنَّ عدتَها بوضعِ الحمل سواء كان في أوّله أو في آخره، قال تعالى: وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ [الطلاق:6]، فالحاملُ عِدَّتُها وضعُ حملها كما دلَّ القرآن والسنة على ذلك، فإنّ إحدى الصحابيات لمّا توفّيَ عنها زوجُها لم تنشن [أن] وضعت حملها، فأخبرها النبيّ أن عدَّتَها قد انقضت بوضع حملها[1].
أيّها المسلم، أيّتها الأختُ المسلِمة، إنَّ الإحدادَ للزّوج أمرٌ زائد على العِدّة، فعدَّتها أربعةُ أشهر وعشرة أيام إن كانت غيرَ حامل، وبوضع حملِها إن كانت حاملاً، ولكن هناك شيءٌ آخَر وهو التزام المرأةِ المسلمةِ للإحدادِ على زوجِها زمنَ العدّة، أمرٌ آخر هو التزام المرأة التي تقضي عدَّةَ الوفاة بأمرٍ زائد عن العدَّة، ألا وهو التزام الإحداد مدَّةَ زمنِ العدّة.
والإحدادُ الذي تلزمه المرأةُ هو [كما] قال العلماء: تركُ ما يدعو إلى نكاحِها أو يرغِّب في خِطبتها أثناءَ العدة؛ لأنها تقضي عدّةً شرعية لا يحلُّ لأحدٍ أن يخطبها في تلك العدّة، ولهذا أُلزمت بالإحداد واجتناب أمور خاصَّة، هذه الأمورُ التي أمِرت المتوفَّى عنها زوجُها باجتنابها زمنَ العِدّة وسيلةٌ لمنع تقدُّم أيِّ خطيب لخطبتها أو يرغَب في ذلك بالتصريح بالخطبة.
وهذه الأمورُ الشرعيّة واجبٌ على المرأة المسلمةِ أن تلتزمَ بها مدّةَ قضائها لعدّة الوفاة، وهذه أمورٌ تتكوّن في أشياء:
أولاً: يجب عَليها البقاءُ في بيتِ زوجها، أي: يجب على المتوفَّى عنها زوجُها أن تقضيَ عِدَّتها في المنزل الذي كانت تسكنه وقتَ وفاةِ زوجها، هذه سنّةُ رسول الله . فُرَيعَة الصحابيّة رضي الله عنها أخبرَتنا أنّها توفِّيَ زوجها، وأتت النبيَّ تقول: إنَّ زوجي خرج في طَلَب أعبُدٍ له، وإنهم قتلوه، وإنَّ بيتي ناءٍ، ولم يخلِّف زوجي بيتًا ولا نفقة، أفأنتقِل عند أهلي؟ فرخَّص لها ثم لما أرادَت الانصرافَ دعاها وقال: ((امكُثي في بيت زوجك حتى يبلغَ الكتابُ أجلَه))، فأمرها بالبقاءِ في بيتِ زوجِها إلى أن تنتهيَ العدّةُ، وبلَّغت بذلك أميرَ المؤمنين عثمان بن عفّان، فعمِل به وألزم النساءَ به رضي الله عنه وأرضاه[2].
وثانيًا: أنّ النبيَّ حرَّم عليها أثناءَ العِدَّة أن تلبَس الجميلَ من الثياب، ليس دعوةً لأن تلبسَ كلَّ قذِر أو دنِس أو وسِخ، لكنّ المهمَّ أن لا تلبسَ ثيابًا يعدُّه النساءُ أنه من لبس التجمُّل والزينة، ولذا تقول أم عطيّة: إنّ النبيَّ قال: ((لا تلبس المحادّة ثوبًا فيه ورسٌ أو زعفران))[3]، فنهاها عن لبس الثواب الذي فيه ألوانٌ مختلفة، يعني: ثوب مهيَّأٌ للتجمل. لا يلزمُها الأسودُ ولا الأخضر ولا غيره، إنما تجتنِب ما كان معَدًّا ومهيَّأً للتجمُّل في أماكن التجمُّل.
ونهاها النبيُّ عن لبس الحليّ[4]؛ لأنّ الحليَّ ضربٌ من الزينة، فنهاها عن لبس الحليّ.
ونهاها أيضًا عن الطّيب، فهي ممنوعةٌ من الطيب، سواءً كان بخورًا أو عُطورًا، ممنوعةٌ منه أثناءَ العدة إلا إذا اضطرّت إليه بعد طُهرها من حيضٍ أو كانت في مدَّة نفاسٍ انتهت، فإنَّ النبيَّ رخّص لهنّ في نبذة من قِسط أو أظفار[5] إذا انقضى زمنُ الحيض ونحوه[6]، لكنَّها ما عدا ذلك فهي ممنوعةٌ من كلِّ الطيب عطورًا أو بخورًا أو نحو ذلك.
ونهاها النبيّ أيضًا عن الحِنَّاء والامتشاطِ بالطيب، وأذن لها أن تمتشطَ بالسِّدر[7]، كلُّ ذلك دعوة لها إلى البعد عن أنواع الطيب لأنّه من وسائل الزينة وممّا يرغِّبُ في النكاح.
استأذَنت إحدى الصحابيات النبيَّ قائلةً له: إنّ ابنتي توفِّي عنها زوجُها وهي تشتكي عينها أفتكحلها؟ قال: ((لا، إنما ذلك أربعةَ أشهر وعشرًا))[8]، وقالت له امرأة من الصحابيات: إنها تضع صبرًا على عينها، قال: ((هذا يشبِّب بها، لتضعه في الليل وتنزعه في النهار))[9].
وقالت زينب بنتُ أمّ سلمة: كانت المرأة في الجاهلية إذا توفِّيَ عنها زوجها تلبَس أقبحَ ثيابها، وتجلس في حُفْشٍ في دارها، ولا تقرب ماءً ولا طيبًا ولا تقلِّم أظافرَ ولا تزيل شعرًا حتى يَمضي عليها حولٌ كامل، ثم تُؤتى ببعرةٍ فترميها إيذانًا بانقضاءِ العدّة، ثم تؤتَى بدابة طيرٍ أو حمار فتزيل به أوساخها وتفرُك به بدنها، فقلَّما أوتيت بدابة إلاّ ماتت من نَتن ريحها. هكذا كانوا في الجاهلية، فجاء الإسلامُ وأزال تلك القاذورات وتلك الخرافات، وإنما ألزمها بالعدَّة، وألزمها بالإحداد في الأمور المعقولةِ التي لا يؤثِّر على المرأة، ولا يضرُّها التزامها، وإنما هي أمور يسيرة، إذا اقتنعت المؤمنةُ بذلك وعلمت أنَّ هذا شرع الله التزمت بهذه الآدابِ الشرعية وسارت عليها طاعةً لله وتنفيذًا لأمره.
أيتها المرأةُ المسلمة، لا شكَّ أنّكِ في الإحداد ممنوعةٌ من الخروج من المنزل إلاَّ إذا دعَت إلى ذلك حاجة أو نزلت ضرورة، فإنّ للحاجات حكمَها، فإذا دعتِ الحاجة المحادَّة أن تخرجَ إلى أمرٍ لا تجدُ أحدًا يقوم مقامها في قضائها كأن احتاجت إلى قضاءِ حاجةٍ لها من السوق أو احتاجت إلى مستشفى أو إلى أمرٍ يتعلَّق بها ذاتها فإنه جائز لها الخروجُ مع التزامِ آداب الإحداد، وكذلك تؤدِّي وظيفتَها أو تؤدِّي دراستَها أو امتحانها، لكن بشرط التزام آداب الإحداد، لكن لا تعود مريضًا، ولا تنتقل من مكانٍ إلى مكان من بابِ الفُسحة والتفرّج، وإنما تلزم بيتَها الذي توفِّي عنها زوجها [وهي فيه]، تلزَم ذلك قدرَ استطاعتها ما لم تقم ضرورةٌ تدعو إلى الانتقال.
أيتها المرأةُ المسلِمة، وإنّ المحادَّة لا بأسَ عليها أن تمشيَ في بيتها، سواءٌ في ساحةِ البيت أو في أعلاه أو في أدناه، كلُّ ذلك لا مانعَ منه. لا مانعَ عليها مِن أن تستعملَ وسائلَ التنظيف غيرَ الطيب، فوسائلُ التنظيف غير الطيب لا مانعَ عليها من استعمالها. لا مانعَ على المحادَّة أن تحدِّثَ من هاتفها أو كلَّمها إذا كانت تلك المحادثةُ ليست خِطبة، ولكنّها سلامٌ أو استفسار عن أمرٍ ما من الأمور. لا مانعَ أن يسلَّم عليها، أو يسلِّم عليها أقاربُها، يسلِّمون ويسألون عن صحَّتها، فذاك أمرٌ لا مانعَ منه، إنما المحرَّم الخِطبة والتصريحُ بها قبل انتهاء العدة.
المرأة المسلمة أثناءَ العدَّة ليست محجورةً على شيء، إنما هي أمورٌ خاصّة مُنِعت منها المسلمة، لكن أن تمشيَ في دارها تصعد إلى الدَّور الأعلى أو تنزل أو كان لها في محيطها أقاربُها تنتقل من بيتٍ إلى بيت داخلَ السور فهذا لا مانعَ منه، لكن شريطةَ أن تكونَ في الليل في المكان الخاصّ بها، فإنّ النساءَ المسلمات اللواتي فقدنَ أزواجهنَّ يومَ أحُد سألنَ النبيَّ أنهن يجتمعن ويتحدَّثن؛ لأنّ بيوتهن متقاربة، فأذِن لهن بالحديث، لكن أمرهنَّ في الليل أن تعودَ كلُّ امرأة إلى مكانها وتبيتَ في مسكنها الخاصِّ بها[10].
بعضُ النسوة ربّما يسألن: هل الصلاةُ يختلفُ وقتُ المحادّة عن وقت غيرها؟! بمعنى أنهم يقولون للمحادَّة: لا بدَّ أن تؤدِّيَ الصلاةَ بعد الأذان مباشرة؟ وكلُّ هذا لا صحّةَ له، وقتُ الصلاة موسَّع: وقتٌ في أوّله، ووقتٌ في وسَطِه وآخره، وكلُّ ذلك جائز، والمبادرةُ للصلاة في أوَّل الوقت مطلوبةٌ من المسلم والمسلمة في أيِّ وقتٍ كان.
البعضُ من النِّسوة قد يُقال لهنّ: إنَّ الاغتسالَ بالماء والاستحمامَ يكون كلَّ أسبوع فقط، وهذا أيضًا لا صحَّة له ولا معوَّل عليه.
البعض من النِّسوة يقال لهن وهنَّ في الإحداد: الْزَمْنَ غِطاءَ الوجه والرأس حتى داخلَ المنزل أثناءَ الإحداد وإن لم يكن هناك أجنبيّ، وهذا أمرٌ لا داعيَ له، فليست ملزمةً بأن تغطِّي وجهها في دارها، اللهمَّ إلا أن يدخلَ عليها قريبٌ أجنبيّ ليس من محارمها، أمّا أن تُلزمَ بتغطية الوجه في داخل المنزل فهذا أمرٌ لا صحَّةَ له.
ووسائلُ التنظيف من الصابون وأمثالها لا تمنَع منه المحادَّة؛ لأنّ الإسلام جاء بالنظافة ودعا إليها، إنما منعَها من أمرٍ زائد على التنظيف كما منعها من الطيب.
هذه أحكامُ المتوفَّى عنها زوجها، لتنتبِهَ المرأة المسلمة لذلك، وتنقادَ لشرع الله، وتسمع وتطيع، فإنَّ هذا مقتضى الإيمان، أسأل الله للجميع التوفيقَ والسّداد والعونَ على كلّ خير.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [الحشر:7].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآياتِ والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيمَ الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] هذه الصحابية هي سبيعة بنت الحارث الأسلمية، وزوجها الذي توفِّي عنها هو سعد بن خولة من بني عامر بن لؤي، أخرج حديثها هذا البخاري في المغازي (3991)، ومسلم في الطلاق (1484).
[2] أخرجه أحمد (6/370، 420)، وأبو داود في الطلاق (2300)، والترمذي في الطلاق (1204)، والنسائي في الطلاق (2530، 2532)، وابن ماجه في الطلاق (2031) نحوه، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وصححه الذهلي كما في المستدرك (2/226)، وابن حبان (4292، 4293)، والحاكم (2832، 2833)، وابن القيم في الزاد (5/603)، وهو في صحيح سنن أبي داود (2016).
[3] أخرجه البخاري في الطلاق (5343)، ومسلم في الطلاق (938) بلفظ: ((ولا تلبس ثوبا مصبوغا إلا ثوب عصب)).
[4] نهي المعتدة من وفاة عن الحلي أخرجه أحمد (6/302)، وأبو داود في الطلاق (2304)، وأبو يعلى (7012)، والطبراني في الأوسط (7732) عن أم سلمة رضي الله عنها، وصححه ابن الجارود (767)، وابن حبان (4306)، وجوده ابن كثير في إرشاد الفقيه (2/232)، وهو في صحيح سنن أبي داود (2020).
[5] قال ابن حجر في الفتح: "نبذة بضمّ النّون وسكون الموحّدة بعدها معجمة أي: قطعة, وتطلق على الشّيء اليسير... قال النّوويّ : القسط والأظفار نوعان معروفان من البخور وليسا من مقصود الطّيب, رخّص فيه للمغتسلة من الحيض لإزالة الرّائحة الكريهة تتبع به أثر الدّم لا للتّطيّب. قلت: المقصود من التّطيّب بهما أن يخلطا في أجزاء أخر من غيرهما ثمّ تسحق فتصير طيبًا, والمقصود بهما هنا كما قال الشّيخ: أن تتبّع بهما أثر الدّم لإزالة الرّائحة لا للتّطيّب".
[6] أخرجه البخاري في الطلاق (5343)، ومسلم في الطلاق (938) عن أم عطية رضي الله عنها.
[7] أخرجه أبو داود في الطلاق (2305)، والنسائي في الطلاق (3537)، والبيهقي (7/440) عن أم سلمة رضي الله عنها، وحسنه ابن القيم في الزاد (5/624)، وابن حجر في بلوغ المرام (3/202ـ سبل السلام ـ)، وفي إسناده من لا يعرف، ولذا أورده الألباني في ضعيف سنن أبي داود (502).
[8] أخرجه البخاري في الطلاق (5336، 5338)، ومسلم في الطلاق (1488، 1489) عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: جاءت امرأة إلى رسول الله فقالت: يا رسول الله، إن ابنتي توفي عنها زوجها وقد اشتكت عينها أفتكحلها؟ وذكرت الحديث.
[9] هذه الصحابية هي أم سلمة رضي الله عنها، أخرج حديثها هذا أبو داود في الطلاق (2305)، والنسائي في الطلاق (3537)، والبيهقي (7/440)، وحسنه ابن القيم في الزاد (5/624)، وابن حجر في بلوغ المرام (3/202ـ سبل السلام ـ)، وفي إسناده من لا يعرف، ولذا أورده الألباني في ضعيف سنن أبي داود (502).
[10] ينظر من أخرجه.
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له، وأشهد أنّ محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها النّاس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
أيتُها المرأة المسلمة، عندما تصابين بمُصابِ فَقدِ زوجِك فما عليك إلا الالتجاءُ إلى الله وتفويضُ الأمر إلى الله وسؤال الله العفو والعافية وأن يخلُفَ عليك ما مضى بخير.
توفِّي زوجُ أمّ سلمة فأرشدها النبيّ إلى أن تقولَ: ((إنَّا لله، وإنا إليه راجعون، اللهمّ أجِرني في مصيبتي، واخلُف لي خيرًا منها))، قالت: كنتُ أقولها، ولكن أقول: هل هناك أحدٌ يأتيني أفضلُ من أبي سلمة؟! هي أدَّت هذا الذكرَ الذي أرشدها إليه الرسول، ولكن تفكِّر في نفسها: هل يأتيها زوجٌ أفضلُ من ذلك الزوج الذي طالما عاشرته وقامت بينهما المحبّة والمودّة؟! قالت: ولكني قُلتُه اتباعًا لسنةِ رسول الله، فلمّا انقضت عدَّتي خطبها النبي إلى نفسِه، وقالت: ليس من أوليائي حاضِر، قال: ((ما مِن أوليائك أحدٌ حاضر أو غائب يكرَه أن أكونَ زوجًا لك))، قالت: إنَّ عندِي غَيرة، قال: ((أدعو اللهَ أن يرفعَها عنك))، قالت: لي صِبيةٌ صِغار، قال: ((هم أولادي وأنا وليُّهم))، قالت: فأخذتُ النبيَّ ، فعوَّضني الله خيرًا من أبي سلمة[1]. كلُّ ذلك نتيجة للرضا والتسليم وعدَم السّخط والرضا بما قسَم الله. فارضَي أيتها المسلمة، وتقبَّلي كلَّ المصائبِ بالصبر والتحمُّل والرضا عن الله والاسترجاع وسؤال الله أن يجبُر المصابَ أو يعوِّضَك خيرًا، هذه سنة رسول الله .
ونهى النبيّ المرأةَ عن الإحدادِ أكثرَ من ثلاثةِ أيام إلاَّ على الزوجِ أربعةَ أشهر وعشرًا، أما غيرُ زوجها من أبيها أو أخيها أو ولدها فإنَّها لو أرادَت أن تحادَّ وتجتنب الزينة فلا تزيدُ على ثلاثة أيام.
توفِّي أبو سفيان أبو أمِّ حبيبة زوج النبيِّ ، فلمّا مضى عليها ثلاثةُ أيام دعَت بصُفرةٍ يعني: زعفران أو غيره، فوضعت في يدَيها وقالت: ما لي بالطيبِ شأنٌ، ولكن سمعتُ رسول الله يقول: ((لا يحلُّ لامرأةٍ تؤمنُ بالله واليوم الآخر أن تحادَّ على ميِّت فوقَ ثلاثٍ إلاَّ على زوج أربعةَ أشهر وعشرا))[2].
هذه سنّةُ رسول الله، فاعمَلي بها أيتها المرأة المسلمة، والتزِمي بأحكام الله، ففيها السعادةُ لك في الدنيا والآخرة.
واعلَموا ـ رحمكم الله ـ أنّ أحسنَ الحديثِ كتاب الله، وخير الهديِ هدي محمّد ، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلّ بدعةٍ ضلالة، وعليكم بجماعةِ المسلمين، فإنّ يدَ الله على الجماعة، ومن شذَّ شذَّ في النّار.
وصَلّوا ـ رحمكم الله ـ على نبيّكم محمّد كما أمَركم بذلك ربّكم، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمَّ صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدِك ورسولِك محمّد، وارضَ اللهمّ عن خلَفائه الراشدين...
[1] أخرجه أحمد (4/27) بنحوه، وأخرجه مسلم مختصرا في الجنائز، باب: ما يقال عند المصيبة (918) عن أم سلمة عن النبي ، قال ابن عبد البر في التمهيد (3/181): "هذا الحديث يتّصل من وجوه شتى، إلا أن بعضهم يجعله لأم سلمة عن النبي ، وبعضهم يجعله لأم سلمة عن أبي سلمة عن النبي ... وهذا مما ليس يقدح في الحديث لأن رواية الصحابة بعضهم عن بعض ورفعهم ذلك إلى النبي سواء عند العلماء؛ لأن جميعهم مقبول الحديث مأمون على ما جاء به بثناء الله عليهم".
[2] أخرجه البخاري في الطلاق (5334، 5339، 5345)، ومسلم في الطلاق (1486).
ـــــــــــــــــــ(68/69)
منكرات الأعراس
...
...
3764
...
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
...
...
الكبائر والمعاصي, النكاح, قضايا المجتمع
...
فيصل بن عبد الرحمن الشدي
...
...
الخرج
...
...
...
جامع العز بن عبد السلام
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- الفرح بكثرة الزواجات. 2- الأمر بالوليمة. 3- انتشار المنكرات في الأفراح. 4- مخالفات في الزينة واللباس. 5- مخالفات في حفلة الزفاف.
الخطبة الأولى
أيها الناس، اتقوا الله واخشوا يومًا ترجعون فيه إلى الله، ثم توفى كل نفس بما كسبت وهم لا يظلمون، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ [التوبة:119].
عباد الله، تُسَرّ العين وتأنس الأذن وينشرح القلب وتطيب النفس عندما نسمع ونرى ذلك البناء العظيم الذي سيبدأ بنيانه، وأهله يعدّون العدة لإقامته وإتيانه، وكيف لا يكون عظيمًا والله سبحانه قد تفضّل به منة وإنعامًا؟! بل حثّ عليه، ونبيه وجَّه إليه صيانة للإنسانية وإكرامًا، به يقطع الشر ويشيع الطهر ويحفظ الفرج ويُغض البصر، علكم عرفتموه، وما رُمته فهمتموه، إنه الزواج، آية من آيات الله: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الروم:21].
وفي مثل أيام الإجازات تكثر الزيجات، فلله الحمد والمنَّة، لكن المقام وحال كثير من الأنام في مثل هذه الأيام، يستوجِب العظة والذكرى، نصحًا وتذكيرًا لأولى الأحلام والنهى.
ذاكم ـ يا رعاكم الله ـ مما نشاهده بأمّ أعيننا، وأخباره تملأ أسماعنا، بل ولربما صنعته أيدينا ومن غيرنا وأهلينا من منكرات وخطيئات، تعجّ بها أفراحنا وتمحق بركة أعراسنا، دعونا ـ يا عباد الله ـ نتحسّس الداء، علّنا نتوب ونستغفر ونعرف وننكر ونجانب ونحذر، علَّ الله أن يرحمنا ويسبغ نعمه علينا ولا يؤاخذنا بما فعل السفهاء منا.
إن وليمة العرس ـ يا رعاكم الله ـ سنة مؤكدة وحثّ عليها الإسلام ورغّب، ففي الصحيحين أن النبي قال لعبد الرحمن بن عوف: ((أولم ولو بشاة))، ولا خلاف بين أهل العلم في شرعية إجابة الدعوة لها، بل بعضهم يرى وجوب إجابتها لأمر الرسول بذلك، والناس في هذا الزمان ولله الحمد أولموا ولم يقصّروا، وأجاب كثيرهم ولم يتمنعوا، ولكن السؤال: كيف وضع هؤلاء عرسَهم؟ وما حدث فيه؟ وكيف أولئك أجابوا؟ وما صنعوا فيه؟
لقد عمت في هذا الزمان والعياذ بالله منكرات الأفراح وطمّت، وما منشأ ذلك إلا الجهل بدين الله وقلة الخوف من الله والأمن من مكر الله وتقليد الآخرين والتفاخر والرياء والسمعة وعدم القيام بالنصيحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وضعف كثير من الرجال وتسليم القيادة والقوامة للنساء والتهاون واحتقار المعصية، كل واحدة مما مضى تسهم بسهمها في إشاعة منكرات الأعراس وكثرتها.
أما منكرات الأعراس فهي قسمان: مخالفات في الزينة لها، ومخالفات في ليلة الزفاف نفسها، أما مخالفات الزينة فهي كثيرة، من أهمها ما يلي:
أولاً: لبس غير الكاسي من الثياب بالنسبة للنساء حتى إن الداخل لأسواقنا ليرى ألبسة عجيبة يستنكر العقلاء فضلاً عن ذوى الإيمان أن تلبسها النساء، ثياب رقيقة وأخرى عارية تبدي جزءًا من المرأة، وألبسة مخرمة وكذا القصيرة والمفتوحة من الجوانب والضيقة التي تصف حجم الأعضاء، وحدث ولا حرج عن البناطيل والصدور والنحور بادية وأسافلها مفتحة، والحجة: موديل العصر ونحن أمام النساء. يا سبحان الله، أين هنّ مما جاء في مسلم يقول : ((صنفان من أهل النار لم أرهما قط))، وذكر: ((نساء كاسيات عاريات مائلات مميلات رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها))؟! ورد في تفسير كاسيات عاريات أنها تستر بعض بدنها وتكشف بعضه، أو تلبس ثوبًا رقيقًا تصف بدنها.
وفي جواب اللجنة الدائمة للإفتاء لمن تلبس ما شاءت مما سبق وتحتج أنها أمام النساء قالت اللجنة: وقد دل ظاهر القرآن على أن المرأة لا تبدي للمرأة إلا ما تبديه لمحارمها مما جرت العادة بكشفه في البيت كانكشاف الرأس واليدين والعنق والقدمين، وأما التوسع في الكشف فعلاوة على أنه لم يدل دليل على جوازه، فهو طريق لفتنة المرأة وتشبه بالكافرات والبغايا الماجنات في لباسهن، وقد ثبت عن النبي : ((من تشبه بقوم فهو منهم)).
ويقول الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: "لابسة البنطلون تدخل في حديث: ((صنفان من أهل النار)) الآنف الذكر حتى ولو كان واسعًا فضفاضًا".
2- عدم التزام الحجاب الشرعي، بل أصبح الحجاب ذاته عند بعضهن تجمّل ومباهاة، وذلك بلبس العباءات المطرّزة وأغطية الوجه المخالفة للشرع والنقابات الواسعة ووضع العباءة على الكتف ولبس الكاب وغيرها، وما سبق فتاوى العلماء فيه ظاهرة واضحة بالحرمة، لا يعرض عنها إلا المكابرون الذين يستمدون تحليلها من أهوائهم ورغباتهم والحجة: لا أظن أنه حرام، وماذا فيها؟!
3- ما تفعله كثير من المتزوجات من لبس ثياب بيضاء تسمّى التشريعة، وربما كانت طويلة ولا تستطيع المشي بها حتى يحمله معها عدد من النساء، وتلبس معها شرّابًا أبيض وقفازين أبيضين، وهي من الأعراف الفاسدة الدخيلة على المسلمين، ناهيك ما فيها من الرياء والسمعة والإسراف والتبذير، تُشرى بغالي الأثمان من أجل أن تلبس مرة واحدة ولمدة ساعات، وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ [الأنعام:141].
4- المبالغة في تفصيل الثياب من الحاضرات والمباهاة بها لمجرد أن تلبس مرة واحدة في إحدى المناسبات، والراقية من تلبس الأغلى ونسيت حساب العلي الأعلى.
5- ومن المخالفات بالنسبة للرجال إسبال الثياب والمشالح إلى أسفل الكعبين، وقد أخرج مسلم في صحيحة أن النبي قال: ((ثلاث لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم)) منهم المسبل إزاره.
6- لبس الباروكة وهي حرام فهي واصلة، وصح عن النبي : ((لعن الواصلة والمستوصلة)).
7- الذهاب إلى محلات تصفيف الشعر ووضع المساحيق وهي ما تسمّى بالكوافيره، فتدخل المرأة في مكان لا يؤمَن عليها فيه، بل قد تصوَّر وهي لا تعلم، بل بعضهن تبدي من جسدها ما لا يحلّ بحجة التنظيف، والله المستعان.
8- قص الشعور أو تسريحها على وجه يشبه ما عليه الكافرات وهذا محرم، أو تجمع الشعر بطريقة مائلة فوق رأسها فتدخل في وعيد نبيها: ((رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة، لا يدخلن الجنة)).
9- حلق ما يحرم حلقه من الشعر، فتحلق المرأة حواجبها وهذا هو النّمص، وقد صح عن النبي لعن النامصة والمتنمصة، وكذلك حلق الرجل لحيته يريدون الجمال زعموا، وهل عرفت الدنيا أجمل من محمد ؟! كان كث اللحية، وهو القائل: ((جزوا الشوارب، وأرخوا اللحى)). ومن ذلك أيضًا تخفيفها أو تحديدها ونحو ذلك.
10- صبغ اللحية بالسواد، وهذا ما يفعله بعض كبار السن في المناسبات، وعند الإقدام على الزواج خاصة، فأين هم عما رواه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي عن ابن عباس قال: قال رسول الله : ((يكون قوم يخضبون في آخر الزمان بالسواد كحواصل الحمام، لا يريحون رائحة الجنة)). وقد أفتت اللجنة الدائمة للإفتاء برئاسة الشيخ ابن باز رحمه الله بحرمته. ألا فليتق الله أولئك، وحجتهم: فلان يعمله وفلان يعمله، ألا إن كل نفس بما كسبت رهينة، ولن يحاجّ أحدٌ عن أحد.
11- خروج النساء من بيوتهن متعطرات ومرورهن أمام الرجال، وقد نهى النبي المرأة إذا مست بخورًا أن تأتي إلى المسجد، فكيف بالله إذا خرجت لغيره؟!
12- لبس الكعب العالي، وقد أفتت اللجنة الدائمة للإفتاء بحرمته.
13- إطالة الأظفار، فإن كان تشبهًا فلا شك في حرمته، وإن كان هوى فهو خلاف الفطر المستقيمة.
حفظ الله أعراضنا وأعراضكم، ووقاني الله وإياكم الشر وأسبابه والحرام وبابه، إنه سميع قريب سريع الاستجابة.
الخطبة الثانية
الحمد الله رب العالمين، يقص الحق وهو خير الفاصلين، أحمده تعالى وأشكره، وأثني عليه الخير كله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وخيرته من خلقه، اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر النبيين.
أما بعد: عباد الله، نأتي نحن وإياكم الآن إلى حفلة الزفاف نفسها، وفي جعبتها ما فيها من مخالفات وحَيْدة عن تعاليم دين ربها، فمن ذلك:
1- الإسراف في حفلات الزفاف ابتداءً من بطاقات الدعوة والمغالاة فيها شكلاً ومضمونًا وعددًا وطباعة، والوريقة اليسيرة بل والمكالمة تجزئ عنها، ولكنه التباهي والتفاخر، وانتهاءً بقصور الأفراح والمباهاة فيها، بل تطور الأمر ببعضهم إلى إقامة حفلات الزفاف في الفنادق بمبالغ طائلة، وكذلك الإسراف في المطاعم والمشارب، وذاك عند النساء خاصة، ومن بعدهن الرجال، فلم تكتف النساء بطعام الوليمة، بل انظر إلى ما قبلها عند الاستقبال وبعدها من لذائذ الأطعمة، وصرف مئات بل آلاف الريالات عليها، ناهيك عن رؤوس المواشي ثم أين مصيرها؟ لقد رأيته ـ والله ـ بأم عيني هاتين والبُخار الحار يتعالى منها وهي مرمية في حاوية كبيرة للنفايات، فرحماك يا إله العالمين، وعفوك يا أرحم الراحمين، أمم تتباهى بأطعمتها نوعًا وكمًّا، وترمي بزائدها، وإخوانها في العقيدة والدين في مشرق الأرض ومغربها يبحثون عن فتات الخبز، ألم تروا ألم تقرؤوا عن النساء المسلمات في تشاد وهن يبحثن في بيوت النمل عن حبة القمح ليأكلوها؟! أين نحن؟! وأين هم؟! وبماذا سنجيب ربنا عنهم؟!
اخشوا عقوبة الله وغضب الله، فأمره بعد الكاف والنون، وما بين غمضة عين وانتباهتها يغير الله من حال إلى حال. اثنان وعشرون آية في القرآن يعيب الله فيها المسرفين وكفاك: وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ [غافر:43].
تفننوا في عرض حلوياتهم وعرض أصناف مطعوماتهم، ألم يفكروا في أسر مسلمة قريبة منهم تحتاج الواحدة منهم لقمة لتسدّ جوعتها أو بعض نقود لتفك عوزتها؟! استرخصوا الآلاف في ولائمهم، وشحّوا بالمئين، بل ما دونها فيما يدعوهم إليه ربهم، فالله المستعان، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
2- تخصيص الدعوة إلى الوليمة للأغنياء دون الفقراء، والنبي قال كما في الصحيحين: ((شر الطعام طعام الوليمة؛ يدعى إليه الأغنياء ويترك الفقراء)).
3- حضور النساء إلى حفلات الأعراس وغيرها بلا محرم، بل مع السائق وخروجهن معه، فوليها لا طاقة له بانتظارها، فالعرض العرض.
4- التصوير وهذا حرام بلا شك، ولا يرضى عاقل أن تلتقَط صور لمحارمه ونسائه فضلاً عن ذي إيمان ومروءة، ويزيد الأمر قبحًا إذا صوّر لقاء النساء ورقصهن بكاميرات الفيديو، فالعار العار والشنار الشنار.
5- جلوس الزوج وزوجته على المنصّة أمام النساء، بل ولا تتحجّب كثير من النساء عند دخوله، ولكأن التكليف رفع تلك الساعة، قلة حياء، وهذا ـ وربي ـ شر البلاء.
6- دخول بعض الرجال كإخوة العريس عند النساء ورقصهم وإنشادهم الأشعار، أو دخول خدم الفنادق وقصور الأفراح من الرجال لخدمة النساء، ومثله دخول بعض المراهقين والحجة صِغر سنه وهو ابن الخامسة عشر بل وإلى الثامنة عشر وتزيد، فأين الغيرة يا رعاكم الله؟! والحجة: نحن في ليلة فرح، ولكأن ذلك من الضرورات، فلا حول ولا قوة إلا بالله.
7- والبلية العظمى والطامة الكبرى إحياء حفلة الزفاف زعموا بالغناء الماجن المصاحب لآلات العزف المحرمة، بل وتستقدم بعضهم الفرق الغنائية لذلك، كلمات ماجنة وعبارات ساقطة، دعوات مبطنة للرذيلة، وإخلال على رؤوس الأشهاد بالفضيلة، ومكبرات أصوات تسمع صوتها يخرق الجدران ويدوي في الآذان بكلمات الهوى والحب والشيطان. ألا فاعلموا ـ رحمكم الله ـ أن ما أباحه دينكم هو الطار وهو المختوم من وجه واحد، وإنشاد بكلام شريف لا وضيع، ولا يكون فيه أذى للجيران وغيرهم.
8- الرقص الماجن الخليع من النساء، إثارة للشهوة وتحريك للغرائز، والحجة: أمام النساء. ألا فليتقوا فاطر الأرض والسماء.
9- السهر الطويل ليلة الزفاف، بل ولربما صلى الناس وهم في لهوهم سادرون، وإن ذهبوا فقرب الفجر فهم في فرشهم خامدون، وعن صلاة الفجر معرضون.
10- النثار وهو طرح النقود ونحوها في الزواج، كتبت إحدى الصالحات في مجلة الدعوة أن امرأة كانت ترقص وفي يدها عشرة آلاف ريال، وبعد انتهاء شوطها مزقتها ورمتها على الأرض. فاللهم لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا.
11- إطلاق الأعيرة النارية في الهواء، ولا يخفى ما فيه من تعريض أرواح الناس للخطر.
12- تزاحم الرجال أمام بوابة النساء عند خروجهن بطريقة مزرية.
13- تهنئة الجاهلية وهو قولهم: بالرفاء والبنين. والسنة قول: بارك الله لك، وبارك عليك، وجمع بينكما في خير.
وختامًا لدي رسالتان:
أولاها للآباء وأولياء أمور النساء أن يتقوا الله في رعيتهن، في لباسها وحجابها وسترها وعن الشر ردعها والأخذ على يدها، والذي لا إله حق غيره لتسألن عنه، وحينئذ يعظم الخطب ويشتد الكرب، وربَّ بنيات وأولاد ونساء جروا آباهم إلى النار.
الثانية: إلى كل مؤمن ومؤمنة، إلى ذوي الغيرة على محارم الله، قوموا بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مروا واصبروا وانهوا واحتسبوا، فإن لم تفعلوا فالشر سيستطير، والحساب بين يدي العلي الكبير عسير.
ـــــــــــــــــــ(68/70)
عقبات في طريق العفّة
...
...
3771
...
الأسرة والمجتمع, فقه
...
...
النكاح, قضايا المجتمع
...
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
...
...
الرياض
...
9/4/1425
...
...
جامع الإمام تركي بن عبد الله
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- الترغيب في النكاح وبيان فوائده. 2- مشكلة غلاء المهور وتكاليف الزواج. 3- ضرورة تعاون المجتمع وتكاتفه. 4- آفة التقليد. 5- ظاهرة الإسراف والمباهاة. 6- مشروعية الصداق وسنية تخفيفه. 7- الزواج الشرعي في الإسلام.
الخطبة الأولى
أمّا بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، إنَّ الله جلّ وعلا أمر بالنِّكاح ورغَّب فيه ورتَّب عليه الجزاءَ العظيمَ، قال تعالى: وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ [النور:32]. وأمَر الفقيرَ العاجز بالعِفّةِ عن محارِم الله رجاءَ أن يسهِّل الله أمره: وَلْيَسْتَعْفِفْ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [النور:33]. وأخبر أنَّ قاصدَ النكاح والجادَّ في طلبِه أحدُ الثلاثةِ الذين يعينُهم الله، ففي الحديث عنه : ((ثلاثةٌ حقّ على الله عونُهم)) ذكر منهم: ((المتزوّج يريد العفاف))[1]. وفي الزواجِ غضٌّ للبصر وتحصينٌ للفَرج وطمأنينة للنفس، ((يا معشر الشباب، منِ استطاع منكم الباءةَ فليتزوّج؛ فإنه أغضّ للبصر وأحصنُ للفرج))[2]، وفيه طمأنينةُ النفس وسكونها، هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا [الأعراف:189]، وفيه حصولُ الولد وامتداد حياةِ بني الإنسان إلى أن يأذنَ الله بآخِر نسمةٍ من صُلب آدم.
أيها المسلم، وهذا النكاحُ الذي رغّب فيه الشرع وحثَّ عليه ورتَّب على حصوله المنافعَ العظيمة، هذا الأمر قد يعرِض له ما يعيقه ويسبّب عدمَ شيوعه ويقلِّله بين بعض أفراد المجتمع المسلم، ذلكم ـ يا إخواني ـ مشكلةُ ما يترتَّب على الزواج من تكاليفَ متعدّدة، أنواع مختلفة، منها: غلاء المهور أوّلاً، فغلاء المهور وكثرتها وتنافُسُ الناس فيما يدفَعون سبَّب عزوفَ بعض الشبابِ المسلم عن الإقدام على هذا الزواج؛ لأنه يرى نفسه عاجزًا وغيرَ قادر مهما بذل، ثم ما يُضاف إلى ذلك من التكاليفِ المتعدِّدة والولائم الكبيرة والتبعات التي بإمكان المجتمع المسلم التخفيف والتيسير فيها.
أيّها المسلم، مشكلةُ غلاءِ المهورِ أو مشكلةُ تكاليفِ الزواج عمومًا هي لا شكَّ مشكلة، ولا شكَّ أنها نازلة، وعلاج هذا لا يكون إلا بتعاونِ أفرادِ المجتمع المسلم فيما بينَهم ليحقِّقوا لمجتمَعهم السعادةَ والهناء. المجتمع المسلم مِن خُلُقه أن يشعر كلٌّ بمصالح الآخرين، وإذا كان كلٌّ إنما ينظر لواقعه وشخصيّته ومحيطِه الخاصِّ به دون أن يكون هناك نظرة للعموم فهناك البلاء والعياذ بالله. الله جلّ وعلا أرشدَنا بقوله: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [المائدة:2].
إنّ مِن التعاون على البرِّ سعيَ المجتمع المسلم في تخفيضِ التكلفاتِ في الزواج بأيّ أنواعها، إذا شعَر المسلم أن له أبناءً يريد تزويجَهم وأنّ له بناتٍ يريد أن يتزوَّجنَ ويعفّهن الله عن الحرام، إذا شعر المسلم بذلك دعاه إلى التيسير وسَلك طرق التيسير وإشاعة هذا الزواج وانتشاره.
أيّها المسلم، إنَّ المجتمعَ المسلم عندَما يتكاتف على الخيرِ ويشعُر كلّ فرد بمصلحة الآخرين فعند ذلك يقع الخير بتوفيق من الله، أمّا أن يتغاضَى الإنسان عن الآخرين وإنما ينظر لواقعه الخاصّ دون نظر إلى واقع الآخرين فتلك مصيبةٌ عظمى.
أيها المسلم إذا فكَّرت قليلاً ونظرتَ إلى بعض شبابِ من شبابنا وبعض الفتيات، بعضُ الشبابِ يريد الزواج، وبعضُ الفتيات والكل يريد الزواج، كلٌّ يريد الزواج من ذكورٍ أو إناث، علِمتَ أن هذه الفئةَ تحتاج إلى من يعينها ويلفِت النظرَ لها، ويساعد الجميع، فإنّك إذا نظرتَ هذا النظرَ الخاصّ دعاك إلى أن تبذلَ جهدَك وتدلي برأيك وتساهِم في تخفيف هذه التكلفات، لأنَّ إشاعة الزواج في المجتمع عنوان سعادتهِ وسلامتِه، إذ بقاءُ من لم يستطعِ الزواجَ ما بين عفيفٍ يبقى مكبوتًا في حياته، يعيش حسرةً وتألُّما، وما بين منحدر في رذائله، لا يلوي على شيء، وربما استلذَّ المعصية وأنس بالفساد وانتقل هنا وهناك، وأمضى وقته ومضى بعضُ عمره وما تحقَّقت له أمنيته.
أيها المسلم، ليس علاجُ التكلفات بنظامٍ يفرَض على الأفراد لا يتجاوزونه، فتلك الأنظمةُ ربما يتخطّاها الناس سرًّا، ويتغلّبون عليها ولا يبالون بها، لكن إذا كان الأمرُ نابعًا من ضميرِ مسلم حيّ يحبّ الخيَر لأمته ويكره الشرَّ لمجتمعه ويسعى في تحقيق الصلاح والاطمئنان والقضاء على وسائل الجريمة والانحراف، كان هذا الأمر أمرًا نافعًا بتوفيقٍ من الله.
أيّها المسلم، طبيعةُ المجتمعاتِ أن يقلِّد بعضهم بعضًا، ويحاكيَ بعضهم بعضًا، فالطبقةُ الوسطى تريد أن تماثلَ الطبقةَ التي أعلى منها، ومَن دونهم يريدون أن يحاكوا من فوقهم، وأصبحتِ المسألة تقليدًا ومباهاة ومجاراة، كلٌّ عسى أن يكون يظهر بالمظهر اللائق به من هذه التكلفات الزائدة التي لا تهمّ كثيرًا من الناس لكثرةِ ما عنده، ولا يبالي بما ينفق، فيكونُ البعض مقلّدًا للبعض على هذه التّكلفات الزائدة، حتى في الغالبِ لا تكادُ أن تفرِّق بين ولائمِ مَن كان متوسّط الحال وولائمِ مَن فوقه؛ لأنّ المجاراة والمحاكاة حكمت على المجتمع بهذا الأمر الخطير.
أيّها المسلم، يكون البعضُ ذا ثراءٍ وغِنى وجِدة وسَعة، لو ينفق في الليلة الواحدة كذا ألفًا لا يهمّه ولا يكترث به، لأنّ الله قد أعطاه وأغناه، لكن هذه النفقةُ التي لا يبالي بها وتسهُل في يده لأنّ الله أوجد له الخير، هذه النفقة التي ينفِقها لو فكّر قليلاً وتدبّر أنَّ جزءًا منها لو صُرف لزواجِ العاجِز وإعانة العاجز لكان هذا خيرًا له ولشباب الأمة مستقبلاً.
إن مَن ينفق الأموال الطائلة لكون أمواله كثيرةً لا ينقصه أن ينفقَ كذا ألفًا في ليلةٍ واحدة، ولا أن ينفق المئات الألوف في الليلة الواحدة، بينما الآخرون عاجزون لا يستطِيعون ولا يقوَون على هذا الأمر. فمِن واجب المجتمع المسلم أن ينظرَ إلى هذا الأمر نظرةً جدِّية فيها التعاونُ والتكاتف والتساعُد، وأن يكونَ لدى الناس تعاون على الخير وتشجيعٌ لمن يظهر هذا الأمر وإعانته والثناء عليه، حتى تأخذَ الأمّة هذا الطريقَ المستقيم، فتسهل عليهم المهمّة. إنّ الأمر يتعلَّق بالمجتمع المسلم، لا بد أن ينبعَ الأمر من قلوبٍ مستنيرة وقلوب حريصة على الخير، ونفوس يهمّها ما يصيبُ الآخرين من نقصٍ وأذى.
أيها المسلمون، الصَّداق في القرآنِ والسنّة هو عِوَض يدفَع للزوجة، ليس عوضًا أنه قيمة لذاتها، فهي أغلى من ذلك، ولكنّه رمزُ المحبّة والاستئناس، فما يدفعه لها مقابلَ استمتاعه بها وارتباطه بهذا العقد الموثَّق العظيم الذي قال الله فيه: وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا [النساء:21]. هذا الصداقُ واجب للمرأة بنص القرآن والسنة، قال تعالى: وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً [النساء:4]، فهو واجبٌ بلا إشكال بنصِّ القرآن وفعلِ النبي وتقريرِه وإجماعِ المسلمين على ذلك، لكن سنّةُ محمّد التي سارَ عليها من جهة نسائِه أو بناتِه كانت سيرةً عادلة وكانت سيرةً نبيلة، إذ هو قدوةُ المسلمين وهو إمامهم، لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا [الأحزاب:21].
فهو ضَرَب أروعَ الأمثال في ذلك، فزوجاتُه ما كانَ يدفع للواحدةِ منهن إلاّ اثنتي عشرةَ أوقية من الفضة، وما كان يقبّل لصدقات بناتِه إلا اثنتي عشرة أوقيّة من الفضة، أي: ما يقارب خمسمائة درهم بالدرهم الإسلامي، هكذا كان صداقُه لنسائه، وهكذا كان صداقُ بناته . هو ملتزمٌ بذلك، فما واحدة من نسائه أعطاها أكثرَ من ذلك، ولا واحدة من بناتِه أعطِيَت أكثرَ من ذلك، كان ملازمًا لهذا التيسير؛ لأنه قدوةٌ للمسلمين يتأسَّون به في الخير والهدى صلوات الله وسلامه عليه.
بل الأمرُ في السنة جاء بالتيسير بما هو أعظم من ذلك، فإنّ امرأةً في عهد النبيّ طلبت ممن خطبها أن يسلِم، فلمَا أسلم تزوَّجته وجعلت مهرَها منه إسلامَه ودخولَه في الإسلام[3]. وامرأة زوَّجها النبيّ برجلٍ على أن يحفِّظها ما معَه من القرآن[4]. وقال لعبد الرحمن بن عوف: ((ماذا أصدقت امرأتَك؟)) قال: وزنُ نواةٍ من ذهب[5]. ثم يقول عمر رضي الله عنه مخاطبًا للناس يحثُّهم على عدم التغالي في المهور ويقول: (لو كان تقوًى للهِ أو مكرمةً للناس لكان أولى به منكم رسولُ الله )، وذكر أنَّ رسول الله ما أصدق امرأةً من نسائه أكثرَ من اثنتي عشرة أوقية، ولا أُصدِقت أحدٌ من بناته بأكثر من اثنتي عشرة أوقية[6].
كلُّ هذا تيسير للناس وتسهيل، هو لا شكَّ أنه حقٌّ للمرأة، لكن ينبغي للمجتمعِ المسلم أن يترَبى على الخير وروح التعاون والمحبة بين المسلمين، ولذا قال العلماء: إنَّ من يريد الزواجَ إذا كان فقيرًا يعطَى من زكاة المال ما يعينه على مهمَّته. هو فقير أمامَه تكلفاتٌ كثيرة، وأمامَه وأمَامه.. فيصلُح أن يعطَى من الزكاة ما يعينه على هذه المهمّة، ليتخطَّى تلك العقبات الكأداء.
إنَّ المجتمع المسلم متى شاع فيه هذه الروحُ الطيبة روح التعاون والمحبة والنظر إلى الفقيرِ والمسكينِ والعاجز ورحمتِه والإحسان إليه ومساعدته بكلّ ممكن، هذا الذي يحقِّق للمجتمعِ الخيرَ والصلاح ويقضِي على الجريمة والانحرافِ الخلُقي الذي يبتلَى به من يبتلَى به، فإنَّ هذه الغرائزَ إن لم تكافَح بالخير ويعان أهلُها على الخير يوشك أن يتسلَّط الشيطان على أولئك، فيزيِّن لهم الفواحشَ ويغريهم بالمنكرات، فتمضي أعمارُهم من باطل إلى باطل، تقسى القلوب، وتنفر النفوس عن هذا الأمر العظيم، وتستلذّ الراحةَ بهذه المعصية، فيخسَر المسلمون شبابهم، ويخسروا فتياتهم، تعنس النساء، ويذهَب الشباب، وتبقى الأمّة في نقصٍ عظيم. فلا بدَّ للمجتمع المسلم أن يعالجَ تلك علاجًا شرعيًا؛ تعاوُنًا وتساعدًا وحرصًا على القضاءِ على مظاهر السرَف والبذخ مظاهر السرَف والتجاوز أو التبذير بالإنفاق في الحرامِ مِن جلبِ المغنِّيات ونحو ذلك، فالمسلمون مطلوبٌ منهم أن يكونوا يدًا واحدة متآمرين بالمعروف متناهين عن المنكر، والله يقول: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ [آل عمران:104]. ولا شكّ أن مِن الأمر بالمعروف أن يسعَى المسلمون في تيسير أمر الزواج، وأنّ من المنكر أن يترَك الناس في هذا التنافُس الزائد والمجاراة العظيمة التي كلَّ عام تأتينا بشكلٍ ما كان عليه من قبل؛ إسرافًا ومجاوزة ومبالغة في الحدِّ، فالمسلمون مطلوبٌ منهم أن يتعاوَنوا على الخير والتقوى، أسأل الله للجميع التوفيقَ والسداد، إنه على كل شيء قدير.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه أحمد (2/251، 437)، والترمذي في فضائل الجهاد (1655)، والنسائي في الجهاد (3120)، وابن ماجه في الأحكام (2518) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن"، وصححه ابن الجارود (979)، وابن حبان (4030)، والحاكم (2678)، وحسنه الألباني في غاية المرام (210).
[2] أخرجه البخاري في النكاح (5065)، ومسلم في النكاح (1400) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.
[3] هذه المرأة هي أم سليم رضي الله عنه، وزوجها الذي أسلم هو أبو طرحة رضي الله عنه، والقصة أخرجها عبد الرزاق في المصنف (6/179)، والنسائي في النكاح (3341)، والطبراني في الكبير (5/90، 25/105)، وأبو نعيم في الحلية (9/59) عن أنس رضي الله عنه، وصححها ابن حبان (7187)، والضياء في المختارة (1607)، وابن حجر في الفتح (9/115)، وهي في صحيح سنن النسائي (3133).
[4] أخرجه البخاري في فضائل القرآن (5029)، ومسلم في النكاح (1425) عن سهل بن سعد رضي الله عنه.
[5] أخرجه البخاري في النكاح (5072، 5148، 5153، 5155، 5167)، ومسلم في النكاح (1427) من حديث أنس رضي الله عنه.
[6] أخرجه أحمد (1/40-41، 48)، وأبو داود في كتاب النكاح (2106)، والترمذي في كتاب النكاح (1114)، والنسائي في كتاب النكاح (3349)، وابن ماجه في كتاب النكاح (1887) ولفظه: (ألا لا تغالوا بصدُق النساء، فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا أو تقوى عند الله لكان أولاكم بها النبي ، ما أصدَق رسول الله امرأةً من نسائه ولا أصدِقت امرأة من بناته أكثرَ من ثنتي عشرَة أوقية)، قال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وصححه ابن حبان (4620)، والحاكم (2/175-176)، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (1852). قال الترمذي: "الأوقية عند أهل العلم أربعون درهما، وثنتا عشرة أوقية أربعمائة وثمانون درهما".
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربُّنا ويرضى، وأشهَد أن لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريكَ له، وأشهَد أنّ محمّدًا عبده ورسوله، صَلّى الله عليه وعلى آله وصَحبه، وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، الزواجُ في شريعةِ الإسلام تميَّز عن السفاحِ المذمومِ بأمور، ففي الزواجِ الشرعيِّ شُرط أن يحضُرَ الزواجَ وليُّ المرأة أبوها أو من يقوم مقامها، ولا بدَّ من حضور شاهدين، ولا بدَّ من رضا الزوجةِ بالزوج والزوج بالزوجة، وشُرعت الوليمة ودعِي إليها، فقال النبيّ لعبد الرحمن بن عوف: ((أولم ولو بشاة))[1]، وأمر بحضور وليمة الزواج، وقال فيها: ((من لم يجِب الدعوةَ فقد عصى محمدًا ))[2]، كلّ هذا لأنّ النكاح في الإسلام يجِب أن يعلَنَ ويظهَر ويعلَى شأنه، وقال أيضًا: ((أعلِنوا هذا النكاحَ واضرِبوا عليه بالدف))[3]، فالإشهادُ وحضور الوليّ والوليمة والإعلان كلّ هذا مطلوب في النكاح؛ لأنّ ظهورَ هذا العقد وشيوعَه في المجتمع دليل على وجودِ الخير وقصدِ الخير في المجتمع المسلم، فكلما كثر الزواج وشاع وكلّما انتشر وعُلِم دلّ ذلك على وجودِ خيرٍ في المجتمع المسلم، لكن ينبغِي أن يكونَ الإعلان بقدر، وأن تكونَ الولائم بقدر، وأن يكون كلّ الأشياء باعتدالٍ لا إسرافَ ولا تقتير، لا ندعو إلى زواجٍ مكتوم متواصًى بكتمانه وإخفائه، لا، الإعلانُ والوليمة وإظهارُه وحضوره والدعوةُ إليه كلُّها أمور مطلوبة شرعًا، كلما كان الزواج شائعا وكلّما حضر من حصر وكلما أُقيمتِ الوليمة وكلما عُلِم هذا أمر لا يشكّ المسلم في مشروعيته، لكن الكلام أن تكونَ هذه الأمور كلّها باعتدال، فتكون الوليمة باعتدال والمظاهر كلّها باعتدال، أوّلاً: البعدُ عمّا حرّم الله منِ اختلاطِ الرجال والنساء وتصويرِ الرجال الشباب والفتيات في مجتمع الزواج، وإشاعةِ هذه الصوَر ونشرها بين الناس، ثم ما يجلَب من مغنّين ومغنّيات، وينفَق عليهم الأموال الطائلة، ثم ما يحصل من تضخّمٍ في الولائم وكثرتها، ووضع شيءٍ قد لا يحتاج الحاضرون إلى عُشره.
فالمطلوبُ من المسلمين التعاون والوسطيةُ في أمورهم والاعتدالُ في هذه الأمور، وأن لا تكونَ الأمور خاضِعة لطاعةِ النساء أو السفهاء، بل ينبغي لعقلاءِ الأمّة أن يتدبّروا واقعَهم، وأن يكونَ كلّ منا يحرِص على أن يكونَ السبَّاق في الخير والسَّباق في الاعتدال والسَّباق في هذه الأمور الخيِّرة، حتى يكونَ بين الناس تنافسٌ في الخير وتنافس في الاعتدال وبُعد عن المظاهر السيئة.
أسأل الله أن يحفظنا بالإسلام، وأن يحفظ شبابَنا وفتياتنا، وأن يعينَ من أراد الزواج على الزواج، وأن يسهّل لهم أمورهم ويوفِّقهم ويفتحَ لهم أبوابَ رزقه، إنه على كل شيء قدير.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أنَّ أحسنَ الحديث كتاب الله، وخيرَ الهدي هدي محمد ، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلّ بدعةٍ ضلالة، وعليكم بجماعةِ المسلمين، فإنّ يدَ الله على الجماعة، ومن شذّ شذّ في النار.
وصلّوا ـ رحمكم الله ـ على عبدِ الله ورسولِه محمّد كما أمركم بذلك ربكم، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهمّ عن خلفائه الراشدين...
[1] أخرجه البخاري في النكاح (5072، 5153، 5155، 5167)، ومسلم في النكاح (1427) من حديث أنس رضي الله عنه.
[2] أخرجه البخاري في النكاح (5177)، ومسلم في النكاح (1432) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ: ((فقد عصى الله ورسوله )).
[3] أخرجه الترمذي في النكاح (1089)، وابن ماجه في النكاح (1895)، والبيهقي في الكبرى (7/290) عن عائشة رضي الله عنه نحوه، وقال الترمذي: "هذا حديث غريب في هذا الباب، وعيسى بن ميمون الأنصاري يضعف في الحديث"، وضعفه ابن حجر في الفتح (9/226)، وهو في ضعيف سنن الترمذي (185). ولشطره الأول شواهد تقويه.
ـــــــــــــــــــ(68/71)
رعاية الإسلام للمرأة
...
...
3810
...
الأسرة والمجتمع
...
...
المرأة
...
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
...
...
الرياض
...
21/5/1425
...
...
جامع الإمام تركي بن عبد الله
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- حال العرب في الجاهلية. 2- صور ظلم المرأة في الجاهلية. 3- صور من ظلم المرأة في العصر الحاضر. 4- المرأة أمانة. 5- إثم عضل النساء.
الخطبة الأولى
أمّا بعد: فيا أيّها النّاس، اتَّقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، يذكِّر الله عبادَه المؤمنين نِعَمه عليهم بهذا الدين، ويذكُر لهم حالَهم قبلَ هذا الدين القويم، فيقول جلَّ وعلا مخاطبًا لهم: فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنْ الضَّالِّينَ [البقرة:198].
يقول الله لهم: وَإِنْ كُنتُمْ مِنْ قَبْلِهِ أي: من قبل هذا الدين من قبل مَبعَث محمّد كنتم في ضلالٍ مبين، ليس ضلالاً خفِيًّا، ولكنه ضلالٌ بَيِّنُ الضلالةِ واضحٌ جليّ. ضلالٌ تمثَّل في معتقداتِهم عندما عدَّدوا الآلهة وعبدوا مع الله غيرَه وتعلَّقوا بالمعبودات المتعدِّدة من أشجارٍ وأحجار وجنٍّ وأولياء وغير ذلك. ضلالٌ تمثَّل في نظرتِهم لهذه الحياة، فهم يرونَها حياةً [ليس] بعدها حياة، وَقَالُوا مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ [الجاثية:24]، أنكَرُوا المعادَ بعد الموت، فلم يقرُّوا بذلك، وقالوا: أَإذا كنَّا تُرابًا وعظامًا أئِنَّا لفي خَلقٍ جَدِيد؟! ضلالٌ تمثَّل في معَاملاتِهم، فما بين جهالةٍ وغَرَر وظُلمٍ وعدوان. ضلالٌ تمثَّل في سلوكهم وعلاقاتهم الاجتماعية، فهم قومٌ لم تستطع لُغَتُهم أن توحِّدَهم، ولا أرضُهم أن تجمعَ كلمتَهم، وهم قوم متفرِّقون في آرائهم كما هم متفرِّقون في معبوداتهم. للمرأة نصيبٌ من هذا الضَّلال وهذا الجهلِ العظيم، فهي جاهلية بكلِّ ما تحمِله الكلمة من معنى، فنال المرأةَ من هذه الجاهليةِ وهذا الضلالِ المبين نالها ما نالها.
فأوّلاً: كراهيَّتُهم للأنثى وبُغضُهم لها وتضجُّرهم عندما يُبشَّر أحدهم بها، وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ يَتَوَارَى مِنْ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ [النحل:58، 59].
نَظَرُهم للمرأة نظرٌ قاصِر، يرَونَها مجرَّد مُتعة لا سوى ذلك، هم يئدونها يقْتلونها أحيانًا خوفَ الفَقر لأنهم يظنّون عجزَها وعدمَ قدرتها على الاكتساب، يَئدونها خوفَ العار ثانيًا، ولهم تصرّفات سيّئة خاطئة في نظرهم للمرأة في كلِّ أحوالها، فجاء اللهُ بالإسلام، وجاء بهذا النبيِّ الكريم، فقضى الله به على ظُلم الجاهلية، وهدم به منارَ الجاهلية، وأقام على أنقاضه حُكمَ الإسلام العادل الذي لا جورَ ولا ظلم فيه، فأعطى كلَّ ذي حقٍّ حقَّه، أعطى المرأة حقَّها المناسبَ لها، وأعطى الرجالَ الحقَّ المناسب لهم، ووضَعَ لكلٍّ ما يناسب حالَه ووضعه، فسبحان الحكيم العليم، وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [الأنعام:115].
جاء الإسلامُ فأعطى المرأةَ حقَّها، كانت في الجاهلية تُورَث ولا ترِث، تُمْلَكُ ولا تَمْلِكْ، صوتُها مكبوت، رأيُها مطَّرَح، فهي مُتعَة حتى أنَّ بعض جاهلية الأمم يتحدَّثون: هل للمرأة روحٌ أم لا؟ هل هي آدميةٌ تستحقّ اسمَ الآدمية والإنسانية أم لا؟ وهل يمكن أن يكونَ لها دورٌ [أم لا]؟ جاء الإسلام فقال: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً [النحل:97]، فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ [آل عمران:195]، وقال: يُوصِيكُمْ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ [النساء:11].
أيها الإخوة، إنّ في الجاهلية ظلمًا للمرأة، هذا الظلمُ تمثَّل في أمور:
فمِن ذلكم ما بيّن الله في كتابه بقوله: وَإِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [البقرة:232]. هذه الآية موجَّهة لأولياء النساء، وأنَّ الله منع الرجالَ من عضل المرأة ومنعِها من أن تعودَ إلى زوجها الذي طلَّقها بعد انتهاء عدَّتها إذا كانت الطلقةَ الأولى أو الثانية، فإذا أرادتِ العودةَ إلى زوجها وانتهتِ العدّةُ فله العودُ إليها بعقدٍ جديد إذا كان الطلاقُ الطلقةَ الأولى أو الثانية، ولو حاول وليُّها منعَه لقلنا: إنك بهذا عاضلٌ لها والله قد نهاك عن ذلك.
معقِل بن يسار أحدُ أصحاب النبيّ زوّج أختًا له رجلاً من المسلمين فطلّقها، فانتهتِ العدّةُ وأراد العَودَ إليها، فقال: يا لُكَع بن لُكَع، أكرمتُك وزوّجتُك ثمَّ تطلِّقها، ثم تأتي لترجعَ إليها! لا والله ما أمكِّنُك، وقد رضيَتِ المرأة بالزوج وهوَته وهواها، وعلم الله ذلك منهما، فأنزل الله هذا الآية، فدعاه النبيُّ وتلاها عليه فقال: سمعًا وطاعةً لله ورسوله، وكفّر عن يمينه، وأعاد أختَه بعقدٍ إلى زوجها الأوّل[1]. هذا عدلُ الإسلام، وذاك ظلمُ الجاهلية وطغيانُها.
أيّها الإخوة، وممّا كانوا يُعَاملون به المرأةَ في الجاهلية أنّ الرجلَ إذا تزوّج المرأةَ ولم يُقسَم له بينه وبينها مودّةٌ والتئام حاولَ أن يُضرَّ بها وأن يؤذيَها وأن يعضلَها ويمنعها حقوقَها أو يؤذيها بكلام سيّئ وربّما تسلَّط عليها بالضرب عساها أن تفتديَ نفسَها، فيسترجع منها المهرَ الذي دفعه لها، قال تعالى: وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلاَّ أَنْ يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ [البقرة:229]. فإذا تزوّج الرجلُ المرأةَ وقُسِم أن لا اتِّفاقَ بينهما ولا التئامَ بين قلوبهما، والقلوبُ أرواحٌ مجنّدة، ما تعارفَ منها ائتلَف، وما تناكَر منها اختلف، إذا لم يقَع في قلبه حبٌّ لها وليس من المرأةِ خطَأ ولا تقصِير في واجب ولم تكن بذيئةً ولم تكن مقصِّرةً في واجبها ولا يلاحَظ عليها في شرفها وأخلاقِها شيء، إنما قُسِم أنه لم يقَع في قلبه حبٌّ لها، فهَل من اللائِق أن يؤذيَها ويَضرَّ بها ويسبَّها أو ينسبَ إليها ما هي براءٌ منه أو يقذف أهلَها أو يتسلَّط ببذاءة لسانِه حتى يتّقوا شرَّه ويدفَعوا له ما دفع تخلُّصًا من جهلِه وسلاطةِ لسانه وقلَّةِ حيائه وانعدام مروءته؟! فإنّ هذا ظلم؛ إذ المهر استحقّته بالدّخول عليها، قال تعالى: وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا [النساء:21]، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ [النساء:19]. فما دام المرأة خُلقُها كريم وسيرتها فاضلة وعملُها حسَن فغيرُ لائقٍ أن تأخذَ منها ما دفعتَ إليها، فإنها مَلَكَته بالدخول عليها، فلا حقَّ لك في الاسترجاع إلاَّ أن يكونَ هناك من المرأةِ أخطاء في الأخلاقِ أو أخطاء في السلوك، وما دامتِ المرأة سليمةً من كلِّ شيء فإنَّ مِن الظلم استرجاعَ ما دفعتَه إليها ظلمًا وعدوانًا.
أيّها المسلم، ومن ظُلمِ الجاهلية أنَّ الرجلَ إذا مات يقوم أحدُ أقاربه فيُلقي [على زوجته] ثوبَه، فمن سبقَ [إلى] ذلك كان أحقَّ بها دون أن يُسمَع لها صوتٌ أو تستشار أو يعلَم رأيُها، فجاء الإسلام ليمنَعَ من ذلك وقال: ((لا تُنكحُ البِكر حتى تستأذَن، ولا تُنكح الأيِّم ـ أي: الثيِّبَ ـ حتى تُستأمَر))[2]، ذلك أنّ الحقَّ لها، وليس التألُّم أو الانتفاع إلاَّ لها، وغيرها لا يصطلِي بنار الزوج الشقيِّ أو غيره.
أيّها الإخوة، ومِن ظلمِ الجاهلية للمرأة أنّ المرأةَ إذا توفِّي عنها أبوها وكان هذا وليًّا لها وكانت المرأةُ ذاتَ مالٍ وجمال فإنه يحُول بينها وبين أن تتزوَّج الآخرين، رضيَت بزواجه أو لم ترض؛ لأنّه إذا كانت قريبتَه وكان لها مال وشارَكها في المال وأصبَحت الأموال مالاً واحدًا عند ذلك يمنعُها من التزوّج بكُفء خطَبَها، فيريدها لنفسه أو لأولاده، رضيَت المرأة أو لم ترضَ، سخِطت ذلك الزوجَ أو لم تسخَط، هو لا يسمَع لها صوتًا، ولا يَقبَل لها رأيًا، وإنما يتصرَّف تصرّفاتٍ من قبَل نفسِه خوفًا من أن ينتقِلَ المال إلى الآخرين، ويأتي زوج ليس من الأقارب، فيشارِكهم في الثروة والمال. وإن تكُن دَميمةً لكنها ذاتُ مال حالَ بينها وبين أن يتزوَّجها الآخرون وهو لا يريدها لنفسه، بل يبقيها عسى أن تموتَ فيرث كلَّ المال.
هذه تصرُّفاتُ الجاهلية، قال تعالى: وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلْ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللاَّتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنكِحُوهُنَّ [النساء:127]، تذكر عائشةُ رضي الله عنها أنَّ هذه الآية في اليتيمة تكون في حِجر وليِّها، إن رأى جَمالاً ومالاً طمع فيها ومنَعها أيَّ الأزواج حتى يظفَر بها، وإن رأى دمَامةً ومالاً مَنعَها من الزّواج رغبةً في مالها[3]. هكذا كانت حالُهم، فجاء الإسلام ليرشِدَهم أن يتََّقوا الله ويعاملُوها المعاملةَ الشرعية ولا يضرّوها ولا يتعدَّوا عليها، بل إذا تقدَّم لها الكُفءُ المناسِب منهم أو مِن غيرهم فالنبيُّ يقول: ((إذا أتاكم من ترضَون دينه وخلقَه فزوّجوه، إلاَّ تفعلوا تكن فتنةٌ في الأرض وفساد كبير))[4].
مِن ظلمِ الجاهليّة أنَّهم كانوا يحجرون الفتيات؛ إمَّا على أقاربهم، إمّا من بني العمِّ أو بني الخال، ولا يمكِن لهذه المرأةِ أن يتزوَّجها إلاّ قريب من أقاربها من بني عمِّها أو بني أخوالها، وإذا خطبها أجنبيٌّ عن هذا البيت لم يرضَوا بهذا الزواج، لماذا؟ لأنَّ الكِبْرَ في نفوسهم يحول بينهم وبين أن يُعطُوا المرأةَ حقَّها المناسب، والله جل وعلا أمرنا بقوله: وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [النور:32]، فلا يجوز له أن يحجُرها على أناسٍ معيَّنين، وإنما يتركُها لمن تقدَّم إليها من الرجال الذين هم أكفاء لها، سواءٌ كانوا أقاربَها أو غيرَ أقارِبها، المهمّ أن يكونَ من تقدَّم كُفئًا وأهلاً لتلك المرأة، فالواجب أن لا يُحال بينها وبين ذلك.
مِن الظّلمِ للمرأة أحيانًا تسلُّطُ بعضِ الآباء، فقد يكون للمرأة مرتَّبٌ ووظيفةٌ، فهو لا يرضَى أن يزوِّجَها إلى أن ينتهيَ دور وظيفَتها، لماذا؟ لأنه يطمَع في مالها، ولو خطَبها خاطب لشَرَط عليه أنَّ كلَّ ما تملِك من مالٍ فإنه حقٌّ للأب، لا يرضى أن تنتفعَ من مالها ولا بدرهمٍ واحد، لماذا؟ لأنه يريد امتصاصَ أموالها، رضيَت أم سخطت، وهذا من الظلم لها، فالواجب إذا تقدَّم الكفء أن لا يُردَّ ولا يُرجأ.
ومِن الظلم أيضًا أن يَضَعَ الأب أو الأهل عوائقَ ضدَّ الزواج، فيتقدَّم الكفء ثم تأتي شروطٌ من قِبَل الأم أو قِبَلِ الأب، هذه الشروط تتمثَّل إمّا أن يطلُبَ كلاًّ منم أن يُخَصّ بقسطٍ من المال، فتجتمع تلك الحقوق، وتزيد على المهر بأضعافِ أضعافه، وإما شروطٌ فيها تعجيز، فيقال: الرجل مقبولٌ لكنَّ الزواجَ بعد مُضِيّ خمس سنين، أربع سنين، حتى تستكملَ الفتاة المرحلةَ الجامعيّة وحتى وحتى، وربما فات الكفءُ وظفر بغيرها، وأصبَحت تلك الفتاة عانسةً نتيجةً لهذه التصرّفات الحمقاء التي لا يقرُّها دينٌ ثم لا تقرُّها فِطرة.
أيّها المسلم، إنّ المرأةَ أمانةٌ في عُنُق أبيها أو وليِّها أن يتَّقي الله فيها، وأن يراقبَ الله فيها، وإذا تقدَّم لها زوجٌ سأل عنه: أكفءٌ في الدين والأخلاق؟ ما هي حاله وسيرتُه؟ ثم يوضّح للفتاة كلَّ شيء، أما أن ينخدِعَ فيقبل مَن أتى دونَ استفسار وسُؤال وتحرٍّ للأمور، فإنَّ هذا جنايتُه على تلك الفتاة. لا تنظُر إليه لماله أو جاهه، ولكن انظر: هل يغلِب على الظنِّ أنَّ هذا الرجلَ كفءٌ لتلك المرأة فيما يظهَر والغيب علمُه عند الله، لكن فيما يظهر بعد البحث والسؤال، هل هذا الرجل المتقدِّم كفءٌ لتلك المرأة؟ وهل يغلب على الظنِّ تناسُبُه معها؟ ثم تعطَى الفتاة صورةً واضحة جليّة عن هذا الرجل؛ عن حياته سيرته عمله عُمُره جميع ما يتعلَّق بالأمر، حتى تكون على بصيرةٍ، ثم النظر بعد ذلك وتوفيقه إليها، فإن وافقت فالحمد لله، وإن لم توافِق فإنَّ الضغُوطَ والإجبار أمرٌ منهيّ عنه شرعًا. نعم لك أن تشيرَ أيّها الأب، لكَ أن ترغِّب، لك أن تُقنِع، لكَ ولكَ.. لكن ليس لك أن تضغَطَ وتجبر، وليس لك أن تقهرَ، وليس لك أن تتَّخِذ موقفًا صلبًا معها أو مع أمِّها.
إنَّ مِن الأخطاءِ أن يُعاقَبَ الأولادُ نتيجةً لسوءِ العشرة بين الأب والأمّ، فيذهب الأولادُ ضحيَّةً لهذه التصرُّفات بين الأبوَين الخاطئة، الواجبُ تقوَى الله في الجميع ومراعاةُ مصالح الجميع، وأن نتَّقي الله في أمورنا، ونخاف الله في بناتِنا، ونستعينَ بالله، ونطبِّق شرعَ الله، حتى نسلمَ من هذه التَّبِعات وهذه المرافَعات لدى المحاكم الشرعيّة، في أمورٍ لو عَقلها الأبوان وعقلَها أهلُ الزوج والزوجة وسَعَوا في حلّ هذه المشكلة لأمكن أن تنتهيَ بلا حاجةٍ إلى هذه المرافعات الطويلة وإلى هذه السّلبيّات المترتّبة على هذا النزاع، والذي يذهبُ ضحيَّتَه الأبناءُ والبنات.
أسأل الله للجميع التوفيقَ والهداية والعونَ على كلِّ خير، وأن يوفِّقنا جميعًا لمعرفة الحقّ واتّباعه، وأن يجعلنا جميعًا ممّن يستَمعون القولَ فيتّبعون أحسَنَه، أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب.
أقول قولي هذا، وأستغفِر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في النكاح (4735) بنحوه.
[2] أخرجه البخاري في النكاح (4741)، ومسلم في النكاح (2543) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[3] أخرجه البخاري في النكاح (4676، 4702، 4733، 4744)، ومسلم في التفسير (5335).
[4] أخرجه الترمذي في كتاب النكاح (1084)، وابن ماجه في كتاب النكاح (1967) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وصححه الحاكم (2/ 164-165), وتعقبه الذهبي بأن فيه عبد الحميد بن سليمان قال فيه أبو داود: "كان غير ثقة"، وفيه أيضًا ابن وثيمة لا يعرف، ثم اختلف في إسناده، فنقل الترمذي عن البخاري أنه يرجح انقطاعه، ولكن للحديث شواهد يتقوى بها، ولذا حسنه الألباني في السلسلة الصحيحة (1022).
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتّقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، أيّها المسلم، أيّها الوليُّ للفتاة، عندما يتقدَّم لها كفءٌ فتحولَ بينه وبينها نظرًا لقلَّة مادَّته أحيانًا أو أن تريدَ إهانةَ الأمّ أحيانًا أو أن تريدَ معاقبَةَ البنات نظرًا لسوءِ العِشرة بينك وبين أمِّها تارة، فاعلم أنّ [بردّك] للكفء تعلّق بك أمور:
أوّلاً: أنك ظلمتَ تلك الفتاةَ بمنع الكفء المتقدِّم لها، فكنتَ ظالمًا ومسيئًا، وتتحمّل التبعات والأوزار.
ثانيًا: ظلمتَ نفسَك، فارتكبتَ الخطأ ومعصيةَ الله؛ إذ الله جعلك راعيًا وأمينًا، فخنتَ الأمانة، ولم تقم بحقّ الرعاية.
ظلمتَ ذلك المتقدِّم، فحُلتَ بينه وبين حقِّه المشروع، ((إذا أتاكم من ترضَونَ دينَه وأمانَتَه فزوِّجوه، إلاَّ تفعلُوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير))[1].
أيّها الأب، أيّتها الأم، إنّ الشروطَ والتي تسبِّب عجزَ الزوج أو عدمَ قُدرته على تحمُّل ما تشترِطون هذا ظلمٌ منكم، العاقلُ من الرّجال ومن الأمّهات مَن يحمَد الله إذا تقدَّم لابنته كفءٌ في الدّين والخلق، حمِد الله على هذه النعمة، وقال: الحمدُ لله الذي يسَّر الأمر، والحمدُ لله الذي أراني فتياتي وقد زوَّجتُهن، والحمدُ لله الذي ساقَ الأكفاء لهنّ.
أمّا معوِّقاتٌ كثيرة وشروطٌ تعجيزيّة وأمور لا قيمةَ لها في الحقيقةِ فهذه أمورٌ ينبغي تركُها وعدمُ جعلها سببًا في ردِّ الأكفاء.
فاستعِينوا بالله على الخير، وتعاوَنوا على البرّ والتقوى، وقوموا بواجبِ البنين والبنات، لعلّكم تفلحون.
وصلّوا جميعًا على نبيِّكم محمّد سيِّد الأولين والآخرين وإمام المتَّقين كما أمركم ربكم بقوله: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمّد، وارضَ اللهمّ عن خلفائه الراشدين...
[1] تقدم تخريجه.
ـــــــــــــــــــ(68/72)
كل المال الحرام
...
...
3815
...
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
...
...
الكبائر والمعاصي, قضايا المجتمع
...
حسين بن غنام الفريدي
...
...
حائل
...
13/7/1420
...
...
غير محدد
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- بيان ضعف الإنسان. 2- شمولية الشريعة. 3- الرد على من نحى الشريعة عن الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. 4- تهافت الناس على الدنيا. 5- تساهل الناس في أكل الحرام. 6- من عواقب أكل الحرام.
الخطبة الأولى
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، وتوبوا إليه جميعًا لعلكم تفلحون، واعلموا أن الله رغبكم في التوبة فقال: وَاللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيمًا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا [النساء:27، 28].
ففي هذه الآية يقرر المولى تبارك وتعالى ضعف الإنسان؛ فهو ضعيف في نشأته، خلقه من طين، ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين، ضعيف في علمه، وَمَا أُوتِيتُم مّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً [الإسراء:85]، لا يعلم الغيب حتى فيما يخصه، وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ بِأَيّ أَرْضٍ تَمُوتُ [لقمان:34]. ضعيف في إدراكه، فقد يرى الضارّ نافعًا والنافع ضارًا، ولا يدرك نتائج تصرفاته وأعماله، فمن أجل ذلك بعث الله الرسل وأنزل معهم الكتب لهداية العباد والأخذ بهم إلى سواء الصراط، ليخرجهم من عبادة العباد إلى عبادة ربّ العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، تحكمهم شريعة الله، حماية لهم من نظُمٍ من عند أنفسهم يسلكون بها مسالك المتاهات في الظلم والجور والنزاع والخلافات، فجاءت الشريعة الغراء منظمة للناس، ليس في العبادة فحسب، ولكن في العبادات والمعاملات والآداب، فكانت أكمل تلك الشرائع وأشملها وأرعاها لمصالح العباد، وذلك على مر العصور وتعاقب الدهور إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، هذه الشريعة التي ختم الله بها الشرائع لتكون للخلق كافة منهجًا للحياة شاملاً.
ومع ذلك فلقد ضلّ أقوام عن الحق حيث زعموا أن الشريعة إنما تنظم العبادات والأخلاق، ولا شأن لها في أمور الحياة المادية والسياسية، فاتبعوا أهواءهم، وتنكّبوا الصراط، وسنّوا لأنفسهم قوانين من وضع البشر، وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [المائدة:44]، وقال تعالى: فَلاَ وَرَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [النساء:65]، فضلوا وأضلوا، وعموا وتعاموا عن نصوص كثيرة جاءت لتنظيم المعاملات في كتاب الله وسنة رسوله ، بل إن أطول آية في كتاب الله كانت في المعاملات في البيع والشراء الحاضر والمؤجل، وبيان وسائل حفظ ذلك من كتابة وإشهاد ورهن، فالشريعة كما تنظم العبادات فقد نظمت المعاملات، فكما أن في العبادات أمرا ونهيًا ووعدا ووعيدًا وترغيبًا وترهيبا، فكذلك الحال في المعاملات: وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُواْ بِالقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ [الإسراء:35]، وقال تعالى: وَيْلٌ لّلْمُطَفّفِينَ [المطففين:1].
فكما أن المسلم مأمور أن يلتزم في عبادته ولا يتجاوز ما حدّه الله له، فكذلك هو مأمور بعدم التقصير ومجاوزة الحد في المعاملات؛ لأن ذلك كلّه من عند الله جاءت به شريعته التي رضيها لنا سبحانه، فكما أننا مسؤولون عن عباداتنا فإننا مسؤولون عن معاملاتنا، فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ [الأعراف:6، 7].
إن من رضي بالله ربًا فلا عذرَ له في أن يؤمن لبعض الكتاب ويكفر ببعض، يريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلاً، فقد وصف الله من هذا حاله فقال: أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا [النساء:151]
عباد الله، وإن من أخطر الأمور تهافت الناس على الدنيا وأخذها من حلها ومن غير حلها، وأصبح همّ الواحد الحصول على المال، لا يبالي أمن حلال هو أم من حرام، همّه أن يكون من الأثرياء، فضلّ بذلك عن الهدى واتبع الهوى، أَفَمَن يَمْشِى مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّن يَمْشِى سَوِيًّا عَلَى صِراطٍ مُّسْتَقِيمٍ [الملك:22].
يقول الرسول : ((إن الله قسم بينكم أخلاقكم كما قسم بينكم أرزاقكم، وإن الله يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب، ولا يعطي الدين إلا من يحب، فمن أعطاه الله الدين فقد أحبه. والذي نفسي بيده، لا يُسلم عبد حتى يسلم قلبه ولسانه، ولا يؤمن حتى يأمَن جاره بوائقه))، قالوا: وما بوائقه يا نبي الله؟ قال: ((غشمه وظلمه، ولا يكسب عبد مالاً من حرام فينفق منه فيبارك له فيه، ولا يتصدّق به فيقبل منه، ولا يتركه خلف ظهره إلا كان زاده إلى النار، إن الله لا يمحو السيئ بالسيئ، ولكن يمحو السيئ بالحسن، إن الخبيث لا يمحو الخبيث)) أخرجه الإمام أحمد في المسند. إن في هذا الحديث لعبرة وعظة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
إن كثرة الدنيا وتنعّم العبد فيها ليس علامة على أنّ الله يحبه: فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلاَ أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذّبَهُمْ بِهَا فِي الْحياةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ [التوبة:55]، وقال عن قارون: فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحياةَ الدُّنْيَا يالَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِىَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظّ عَظِيمٍ وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لّمَنْ ءامَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلاَ يُلَقَّاهَا إِلاَّ الصَّابِرُونَ فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنتَصِرِينَ وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْاْ مَكَانَهُ بِالأمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرّزْقَ لِمَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَن مَّنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ تِلْكَ الدَّارُ الآْخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأرْضِ وَلاَ فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [القصص:79-83]، فصار المال وبالاً عليه: وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ [محمد:12].
وجاء في الصحيحين قال : ((إن أكثر ما أخاف عليكم ما يخرج الله لكم من بركات الأرض))، قيل: وما بركات الأرض؟ قال: ((زهرة الدنيا))، ثم قال: ((إن هذا المال خضرة حلوة، من أخذه بحقه ووضعه في حقه فنعم المعونة هو، وإن أخذه بغير حقه كان كالذي يأكل ولا يشبع، ويكون عليه شهيدًا يوم القيامة)).
لقد برهنت الوقائع ـ يا عباد الله ـ صدقَ كلام رسول الله ، فها نحن نشاهد من يكتسب المال بالطرق المحرمة، قد ملأ الطمع صدره، وأحرق نفسه، وتلبس بالشح والبخل، أيديهم مملوءة وقلوبهم خاوية، يقول عنهم الناس: أغنياء وهم أشدّ طلبًا للمال من الفقراء؛ لأنهم ـ كما جاء في الحديث ـ كالذي يأكل ولا يشبع، فمن وقع في الربا لا تكاد تجده يتوب منه ولا يفتر في طلبه. والذي يأكل أموال الناس بالباطل قد زين له سوء عمله فرآه حسنًا، لا يرعوي عن حيلة ولا يتوانى في مكيدة. نرى من يتعامل بالغش والتغرير والتدليس على عباد الله. نسمع عمن يأخذ الرشوة على واجبات أنيطت به. نرى من يربح من وراء الطرق الملتوية في المساهمات العقارية وغيرها، لا يتورعون عن الكسب بهذه الطرق المحرمة. نرى من لا يعطي الأجير أجرته ويبخسه حقه.
فكيف يليق ـ يا عباد الله ـ بمن آمن بالله ربًا وبمحمد نبيًا وبالإسلام دينًا ،كيف يليق به وهو يعلم ما يترتب على ذلك من عقوبات ونتائج وخيمة في الدنيا قبل الآخرة؟! كيف يسعى لكسب المال من طريق حرام؟! كيف يرضى أن يخسر دينه ويبيعه بدراهم معدودة؟! أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الْحياةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ [البقرة:86].
يجعل الوسيلة غاية والغاية وسيلة، ألم يعلم أن المال وسيلة لقيام الدين والدنيا وأن اكتسابه بطريق حرام هدم للدين والدنيا؟! الحلال بيّن، والحرام بيّن مهما تأوّل المتأوّلون ممن يلفّقون بين الفتاوى ويلوون أعناق النصوص. الإثم ما حاك في صدرك وتردّد وإن أفتاك الناس وأفتوك.
فاتقوا الله عباد الله، وأجملوا في الطلب، وأطيعوا الله ورسوله لعلكم تفلحون، واتقوا النار التي أعدت للكافرين.
وفقنا الله وإياكم للبصيرة في دينه والعمل بما يرضيه، وحمانا من أسباب سخطه ومعاقبه، وغفر لنا ولجميع المسلمين، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، وتوبوا إليه جميعًا، توبوا إلى الله توبة نصوحًا، عسى ربكم أن يكفر عنكم سيئاتكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار.
واعلموا أن من يتقي الله يجعل له مخرجًا، ويرزقه من حيث لا يحتسب، ومن يتوكل على الله فهو حسبه، إن الله بالغ أمره، قد جعل الله لكل شيء قدرًا.
واقتدوا بالسلف الكرام؛ بالحذر من أكل الحرام، فلقد كانوا يتركون تسعة أعشار الحلال مخافة الوقوع في الحرام، فها هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه كان له غلام يأتيه بطعام فيسأله: من أين لك هذا؟ فإذا اطمأن إليه أكله، ومرة جاءه بطعام فأكله، ثم سأله: من أين لك هذا؟ فقال: اشتريته بمال كسبته في كهانة تكهنتها في الجاهلية، فتلوّن وجه أبي بكر رضي الله عنه وأدخل أصبعه في فيه، فأخذ يتقيأ ذلك الطعام حتى أخرجه، فقال: ويحك يا غلام، كدت أن تهلكني، إني خشيت أن ينبت لحمي على هذا المال الحرام، كيف لي بذلك وقد سمعت رسول الله يقول: ((أيما جسد نبت من سحت فالنار أولى به)).
فاحذر ـ يا عبد الله ـ أن تطعمَ نفسك وأولادك الحرام، سواء كان رِبًا أو غِشًا أو سرقة أو اختلاسًا أو رشوة وغير ذلك من بيع الأمور المحرمة، كبيع أشرطة الفيديو والتي تنشر الفساد والرذيلة وأشرطة الغناء، أو المجلات التي تهزأ بالفضيلة وتنشر الرذيلة، أو ببيع الدخان، وأشدّ من ذلك كله بيع الخمور والمخدرات وترويجها بين المسلمين.
إن أكل الحرام موجب لغضب الله ومانع من إجابة الدعاء، فاتقوا الله في أنفسكم، واحذروا الحرام مهما بلغت بكم الضرورة، واعلموا أن الله أرحم بعباده.
وصلوا وسلموا على نبيكم محمد...
ـــــــــــــــــــ(68/73)
الحرب المعلنة على المرأة
...
...
3826
...
الأسرة والمجتمع
...
...
المرأة
...
حسين بن غنام الفريدي
...
...
حائل
...
22/4/1419
...
...
غير محدد
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- أمر الله بجهاد المنافقين والأصل فيه. 2- تركيز المنافقين وأعداء الإسلام على المرأة. 3- حال المرأة في المجتمع الجاهلي. 4- رفع الإسلام لمكانة المرأة وإقامة الشرائع لحفظها وصونها. 5- الدعوات الآثمة لتحرير المرأة وإخراجها من بيتها.
الخطبة الأولى
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، فبتقوى الله عز وجل يصل العبد إلى منازل الأبرار، وبتقوى الله ينجو من المهالك والأخطار، ويبتعد عن مسالك الشر والأشرار.
عباد الله، لقد أرشدنا المولى تبارك وتعالى إلى تتبع المجرمين والنظر في أفعالهم وطرقهم في هدم الدين فقال: وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ [الأنعام:55]، وأمر عز وجل نبيه أن يجاهد المنافقين فقال: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدْ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ [التوبة:73]، فجهاد الكفار بالسيف والسنان، وجهاد المنافقين وأضرابهم من العلمانيين والمستغربين يكون بالحجة والبيان، لأنّ ظاهرهم الإسلام وباطنهم الكيد لأهل الإيمان.
أولئك هم المروّجون لتغريب المرأة المسلمة المحتشمة، وهم الذين يباركون ما يخطّطه أعداء الإسلام، فينشرون الأفكار ويسعَون إلى التنفيذ، يعلنون للناس أنهم دعاة إصلاح، حالهم حال أسلافهم: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلا إِنَّهُمْ هُمْ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ [البقرة:11، 12].
يخدعون المؤمنين بحلو الكلام، ويخفون ما تنطوي عليهم قلوبهم من الإجرام، وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ [البقرة:14].
يلبسون أفكارهم لباس الإصلاح والحرص على المصلحة، فانخدع بهم ضعاف الإيمان وناقصو العقول، فاستجابوا لدعوتهم، فجلبوا لبيوتهم الشرور والمفاسد، فقد تزعزعت العقيدة وتداخلت الشكوك وضعفت عند ذلك المناعة وغزتهم الأمراض.
عباد الله، كيد أعداء الإسلام عظيم وخطرهم جسيم، فمن ذلك ما يقومون به بين الفينة والأخرى من عقد المؤتمرات التي تتحدّث عن المرأة، مستهدفين بذلك المسلمات العفيفات حقدًا وحسدًا من عند أنفسهم، وما ذاك إلا لأنهم فطنوا لمكانة المرأة الأساسية ودورها في صنع الأمة وتأثيرها على المجتمع، فأيقنوا أنهم متى ما أفسدوها ونجحوا في تغريبها وتضليلها فعند ذلك تهون عليهم حصون الإسلام، بل يدخلونها وهي مستسلمة بدون أدنى مقاومة، لم يكفهم ما نعيشه هذه الأيام من ذل ومهانة، بل إنهم يريدون أكثر من ذلك، وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [البقرة:120].
يقول شياطين اليهود عليهم لعنات الله المتتابعة: علينا أن نكسبَ المرأة، ففي أيّ يوم مدّت إلينا يدها ربحنا القضية. ولذلك نجح اليهود في توجيه الرأي العام الغربي حينما ملكوا المرأة عن طريق الإعلام وعن طريق المال، فأصبح الغرب بين أيديهم. ويقول أحدهم: كأسٌ وغانية تفعلان في تحطيم الأمة المحمدية أكثر مما يفعله ألف مدفع، فأغرقوها في حب المادة والشهوات.
عباد الله، لقد كانت المرأة في الجاهلية مهانة في الأسرة والمجتمع طفلةً وشابة، استعبدها الرجال في ذلة وامتهان، إن سأَلت لا تجاب، وإن احتيج إليها فللسّعي والاحتطاب، لا وزن لها إلا بمقدار ما تطلبه نزوة الرجل ورغبته، ويومُ خروجها إلى الدنيا يومٌ تسود فيه الوجوه، وبشرى البشير بها سخَطٌ وعقاب، وبشراها دفنها في التراب، عقول فارقها رشدُها لبعدها عن نور الوحي من السماء وهدي الأنبياء، رجال رضعوا الوثنية وتربّوا على الكهانة، فنالت الجاهلية من المرأة أقسى منال، فحرمتها الحياة، فسبِيت المرأة وبيعت ووئدت ووُرِثت كما يورث المتاع، لا شأن لها ولا كرامة، فبينما المجتمع الجاهلي يتخبّط في دروب الحياة خبطَ عشواء في ظلمة ظلماء وهمجية رعناء ينبعث من بين ذلك الظلام فجر الإسلام ويشعّ نور الهداية، فتسمع الدنيا لأول مرة: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [التوبة:71]، ويسمع قوله: وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة:228]، ويسمع قوله : ((استوصوا بالنساء خيرًا))، وبذلك يضع الإسلام الأسُس الكبرى لكيان المرأة الجديد، والذي ما لبث أن آتى ثمارَه في ظل المدرسة النبوية، فإذا المرأة إمام يستفتى في مسائل العلم، وإذا هي مُصلِحة وداعية إلى الله تعالى، بل زاد الإسلام المرأة كرامة على كرامة، فجعل الأم أحقّ بالإكرام من الأب، وحثّ على إكرام البنت والأخت، ورتّب الأجر العظيم على رعايتها والقيام بشؤونها والصبر عليها.
عباد الله، لقد وضع الإسلام للمرأة سياجًا قويًا مانعًا من الضياع، إذا هي أخذت به نجت، وإن هي أضاعته ضلت وهلكت، ذلكم هو سياج الحِشمة والعفاف الذي يكون من مقتضاه الحجاب الشرعي والقرار في البيوت والبعد عن مخالطة الرجال والبعد عن غشيان الأماكن العامة التي أقيمت بدعوى الترفيه وفيها ما فيها من إعطاء جرعات قوية في التفلّت من سياج الحشمة كما هو معلوم لديكم، ولا يخفى ذلكم عن ذي عقل مفكر وقلب واع.
وإن سياج الحشمة يجعل المرأة جوهرة في صدفة لا يعرفها إلا الخواص، فالإسلام يرى في الاختلاط خطرًا محقّقًا، فهو يباعد بينهما إلا بالزواج، وأعداء الإسلام يدركون قيمة هذا الحجاب وأثر قرار المرأة في بيتها في حماية نفسها وصيانة عفتها وطهارتها، لذلك تراهم يشنون حربًا على الحجاب فيصفونه بالظلم والجور وأنه دخيل على حياة المسلمين وأنه يحول دون تقدّم المجتمع ويؤدي إلى تدهور الاقتصاد.
وهم بذلك يزيّنون للمرأة الخروج من بيتها، حتى إنهم أغروها تارات وتارات بقيادة السيارة في هذا البلد الآمن المحافظ، وما بهم والله عطف على المرأة المسلمة ولا رحمة بها، وما بهم غيرة على الإسلام ولا حب بالمسلمين، وإنما هو الحقد الدفين والكيد المضمر والكراهية المكنونة في نفوسهم، هَاأَنْتُمْ أُوْلاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ [آل عمران:119]، ولا أدل على ذلك من عقد المؤتمرات وتعالي الصيحات هنا وهناك لأجل تغريب المرأة وخاصة المسلمة.
إنه الحقد والكيد والحسد ملبّسًا بلباس الحرص على المصالح، لقد جرّبوا ذلك الضياع فعرفوه وحصلت لهم منه الويلات، تقول إحدى الإنجليزيات: "ألا ليت بلادنا كبلاد المسلمين، فيها الحشمة والعفاف والطهارة، نعم إنه لعار على بلاد الإنجليز أن تجعل بناتها مثلاً للرذائل بمخالطة الرجال، فما بالنا لا نسعى وراء ما يجعل البنت تعمل بما يوافق فطرتها الطبيعية من القيام في البيت وترك أعمال الرجال للرجال لسلامة شرفها" اهـ.
إن مَن عقَل مِن نسائهم ـ يا عباد الله ـ يقُلن بملء أفواههن: "يا نساء العالم، لا تصدّقن هذه الأكاذيب، ولا تغترِرن بهذه الكلمات المنمّقة التي يطلقها ذئاب البشر، فليس ما نحن فيه إلا واقع الخيبة والضياع، لا نشعر بسعادة حقيقية، ولا نحس بوجود حقيقي، فلا استقرار ولا أمن ولا طمأنينة، إنما هو القلق والحسرة والضيق النفسي والتبرم من كل شيء والانتقال من حضن رجل إلى حضن رجل آخر، نحن محرومات من الأمومة، محرومات من عشّ الزوجية الهانئ السعيد، محرومات من الاحترام الحقيقي النابع من قلب الإنسان وضميره، محرومات من أبسط حقوق الإنسان، لقد اضطرتنا حضارة الغرب المدمّرة بعد أن أخرجتنا من بيوتنا الزوجية وهدمتها فوق رؤوسنا إلى أن نعمل في المصانع والمتاجر والحقول والمناجم، فنرهق أبداننا بما لا نتحمله وبما لم نخلق له، بينما أهملت وظيفتنا الحقيقية ومهمتنا الطبيعية وهي إنجاب الأجيال وتربيتها، فأعطيت للمحاضن وأعطينا ما ليس لنا أصلاً، فأصبحنا نشقى لنأكل، ثم نضطر لإرضاء صاحب العمل ولو كان ذلك على حساب كرامتنا وشرفنا وعفتنا، فنقدّم أجسادنا قرابين له لكسب رضاه ولضمان استمرارنا في عمله".
عباد الله، هذا هو واقع تلك البلاد، أفَبَعد هذا كله يأتي من يقول: إن الإسلام ظلَم المرأة أو إن المرأة المسلمة سجينة مهانة لا شأن لها ولا كيان.
عباد الله،
أرى خلل الرماد وميض جمر وأخشى أن يكون لها ضرام
فإن النار بالعودين تذكى وإن الحرب مبدؤها الكلام
فإن لم يطفها عقلاء قومي يكون وقودها جثث وهام
عباد الله، إن بناتنا من أفضل ثمارنا وخير زروعنا، إنهن الرياحين الناظرة في حياتنا، إنهن فلذات الأكباد ومهج القلوب، وإن هذه الزروع يوشك أن تعصف بها ريح الإثم والجريمة، ريح التبرج والسفور، تنقلها إليهن وسائل الإعلام المختلفة والتي تنشد من المرأة وأد عفّتها وهي حية لا في التراب وإنما في براثن الرذيلة.
وإن المرأة بلا عفة ولا حشمة باطن الأرض خير لها من ظاهرها، إنها إذا وصلت إلى تلك الحال تكون سبة الدهر وعارًا لا تغسله مياه البحار.
فيا أيها الأولياء، ويا أيها الآباء، ويا أيها الغيورون، قولوا للمرأة: يا فتاة الإسلام، لا تسمعي كلام أعداء الدين، أولئك الذين يزينون لك حياة الاختلاط باسم الحرية والمدنية والتقدمية، فإن هؤلاء لا يهمهم منك إلا اللذة العارضة والشهوة العارمة والعشاء العامّ.
عجبت ـ يا عباد الله ـ لغيورٍ يذهب بنسائه وبناته إلى خارج هذه البلاد متبرّجات سافرات! هل هو معدوم الغيرة؟! هل أصابه جنون؟! لقد نقِل لي أن أحدهم أخذ بيد زوجته ليراقصها أمام الناس متبرّجة سافرة، أهذا فعل من نشأ في بلاد الحرمين؟! أهذا نهج من ولِد في مهبط الوحي ومنبع الرسالات؟! ألا نتقي الله؟! ألا نستحي من عباد الله؟! إن العالم الإسلامي ينظر إلينا بعين القدوة، ينظر إلينا أننا أحفاد الصحابة، فلماذا هذه الأفعال؟! لماذا لا نتناصح فيما بيننا؟! لماذا نخلي أنفسنا من مسؤولية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟!
لقد سمعنا بانطلاقة الكثير في هذا الصيف إلى كثير من البلدان، زعموا جمال الطبيعة، زعموا رخص الأسعار، فوا عجبًا لمن يؤثر المال على الأعراض، وماذا يفيدك جمال الطبيعة إذا ذهب جمال الأخلاق؟!
عباد الله، لقد تحدّثت في خطبةٍ قبل ثلاثة أشهر عن خطر التبرّج والسفور، وذكرت كلامًا لا يسع المقام لإعادته، فخذوا من الإشارة ما يغني عن العبارة، وانصحوا لأنفسكم وأهليكم، واعلموا أنّ أعداء الإسلام لكم بالمرصاد.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ الْحَقُّ [البقرة:109].
بارك الله لي ولكم...
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدًا كثيرًا كما أمر، والشكر له وقد تأذن بالزيادة لمن شكر، وأصلي وأسلم على سيد البشر الشافع المشفع في المحشر ما امتدّت عين بنظر وما سمعت أذن بخبر، وعلى آله وأصحابه السادة الغرر.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، واحذروا كيد أعداء الله، إياكم أن تكونوا معاولَ هدم بأيدي عشاق الإباحية، واعلموا أنه لا سبيل لأعدائكم إليكم إلا حين تتخلون عن تعاليم دينكم.
ثم احذروا ـ يا عباد الله ـ من عقوبة تأخذ الصالح والطالح، وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً [الأنفال:25]، فلعلكم تسمعون ما حدث من هذه الفيضانات المدمّرة في عدد من دول العالم أودت بحياة عشرات الآلاف من الناس، واعلموا أنه لا نجاة لنا من غضب الله وسخطه إلا بالتوبة النصوح، وتفقُّد من أولانا الله أمرهم من هؤلاء النساء وحِفظهن والبعد بهن عن كل مسبب للفساد.
عباد الله، ولعلي لا أنسى في غمرة الحديث عن المثالب والأخطاء أن أدعو لتلك الأسرة المحافظة وتلك الأخوات الصالحات الداعيات لكلّ خير، يأمرن بالمعروف وينهين عن المنكر ويناصحن نساء المسلمين ويربين أولادهن على الصلاح والاستقامة والمحافظة على الصلاة مع جماعة المسلمين، فندعو الله لهن بالتوفيق والسداد وأن يكثر الله في المجتمع أمثالهن وأن يكنّ لأخواتهن الغافلات رائدات إصلاح ومشاعل هداية، فبأمثالهن تحرس الفضيلة، وبصبرهن يقضى على الرذيلة، ومن أرحامهن تخرج الأجيال المؤمنة، وبتربيتهن لهم تنتصر العقيدة فتتحقق بذلك سعادة الدارين ويحصل الفوز بالحسنيين.
الأم مدرسة إذا أعددتها أعددت شعبًا طيب الأعراق
الأم روض إن تعهّده الحبا بالري أورق أيما إيراق
الأم أستاذ الأساتذة الأولى شغلت مآثرهم مدى الآفاق
فنسأل الله لنا ولهن الثبات، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
ـــــــــــــــــــ(68/74)
مشروعية تعدد الزوجات
...
...
3830
...
الأسرة والمجتمع, فقه
...
...
النكاح, قضايا الأسرة
...
حسين بن غنام الفريدي
...
...
حائل
...
21/3/1418
...
...
غير محدد
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- تحريم بعض الدول الإسلامية تعدد الزوجات وإباحتها تعدد العشيقات. 2- مشروعية تعدد الزوجات. 3- دور الإعلام في تبشيع هذه المسألة. 4- الحكمة من مشروعية التعدد. 5- شروط جواز التعدد. 6- سبب تعديد الصحابة. 7- نصائح تحلّ خلافات التعدد.
الخطبة الأولى
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، واشكروه إذ هداكم للإسلام وعلمكم الحكمة والقرآن، وتمسكوا بهذا الدين فإنه عصمة أمركم، وإياكم وتحريف الغالين وشُبه المبطلين وانتحال المغرضين، وكونوا على بصيرة مما يخططه لكم أعداء الدين لتعرفوا بذلك خير الخيرين وشرّ الشرين.
عباد الله، تحدّثتُ أمامكم في خطبة مضَت عن تأخير الزواج وخطورة ذلك على الفتيان والفتيات، وإنني اليوم أتحدث عن موضوع يُسهم في معالجة تلك القضية ويقدّم حلاً لمن بلي بهذه البلية.
إن الحديث عن موضوعٍ هو تشريع شرعه الله وسنة سنها رسول الله وسار عليها أصحابه الكرام من بعده، ولقد كان مألوفًا في سلف هذه الأمة. ولكننا في هذا الزمان وحينما انتكست فطرُ بعض الناس وأصبح الزنا خُلقًا وسجية عند بعض الشعوب وواقعةً لا يعاقب عليها القانون في كثير من الحالات. في هذا الزمان أصبح موضوع خطبتنا جريمة لا تغتفَر وهمجية ورجعية يستَحيَا منها أمام الشعوب المتحضرة المتقدمة زعموا.
إن موضوعنا إذا أمعنّا فيه النظر دليل كمال هذا الدين وصلاحيته لكل زمان ومكان، ودليل على شموليته وسعة أحكامه. إن موضوعنا رغم أنه شرع وسنة فقد أصبح في بعض الدول المنتسبة للإسلام جريمة نكراء وداهية دهياء.
إن قوانين تلك الدول لا تمانع أن يتزوّج الرجل بزوجة واحدة ويتّخذ ما شاء غيرها من العشيقات والأخدان، ولكن الويل كلّ الويل لمن يكتَشف وفي عصمته أكثر من زوجة. إن ما شرعه الله وسنة رسول الله جريمة منكرة في قانون القوم!!
عباد الله، موضوع خطبتنا هو تعدّد الزوجات، تلكم السنة التي نفر منها كثير من الناس تقليدًا وتشبّهًا بأعداء الله. وهي قضية محسومة لا جدال فيها ولا مماراة، نصّت عليها الأدلة في هذه الشريعة الغراء، يقول الله تبارك وتعالى: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً [النّساء:3].
ولقد عدَّد رسول الله مِن الزوجاتِ وفَعله الصحابة رضي الله عنهم، واستمرَّ عملُ النّاسِ على هذا في كل عصرٍ ومصر.
يحسِن الرجل إلى المرأة حين يضمّها إليه مع زوجته الأولى؛ لأن بقاءها بدون زوج خطرٌ عليها من كل جانب.
ولم يُعرف عن سلف هذه الأمة ظاهرةُ تأذِّي الزوجة بزواج الرجل من أخرى، وإنما ظهرت هذه البوادر في عصرنا الحاضر بعد أن ضَعُفت العقيدة في النفوس وجهِل الكثير من الناس أحكام الإسلام، بل وتأثروا بمن انحرف عن جادة الصواب.
وظهرت آثار المسلسلات الهابطة والكتابات الماجنة والصيحات الخادعة والنداءات المزوّقة واستمرت تنخر في أدمغة الناس حتى نجح الأعداء في هدّ كثير من المسلمين عن هذا التشريع العادل.
عباد الله، ألسنا مسلمين؟! ألا نؤمن بعلم الله وحكمته وعدله ورحمته؟! سبحانه وتعالى لا يشرع إلا لحكمة، ولا يُرغّب إلا بما هو في صالح العباد، علِموا ذلك أو جهلوا، وديننا دين الفطرة السليمة ينأى بنا عن الرذائل ويوجّهنا نحو الفضائل.
عباد الله، لو أردنا في هذه العجالة أن نستقصي الحكمة من شرعية تعدد الزوجات لطال بنا المقام، ولكن إليكم بعضها على سبيل الإيجاز:
معاشر الأحبة، إن تعدد الزوجات ضرورة اجتماعية ورحمة بالمرأة ورعاية لها قبل أن يكون مغنمًا وكسبًا للرجل، وهذه حقيقة مشاهدة مدركة في العيان، يشاهدها كلّ ذي بصر وبصيرة، فإن نسبة النساء في أي مجتمع تفوق نسبة الرجال، فغير خافٍ عليكم كثرة ولادة الإناث وتعرّض الرجال للموت والفناء أكثر من النساء، لأنهم يتعرضون للحوادث المختلفة وللحروب الطاحنة وكدح الحياة في الأعمال الشاقة. إذا كان الحال ما ذكر فإن اقتصار الرجل على امرأة واحدة سبب في إهمال العدد لكثير من النساء، فيصبحن نهبًا للضياع وأكثر تعرضًا للفتن.
ثم إن مرض أو عقم الزوجة أو توقفها عن الإنجاب والرجل محتاج إلى الذرية بحكم فطرته، فإن ذلك يدعوه إلى الزواج بامرأة أخرى، وعمله هذا خير من طلاقه للأولى وتشرّدها.
ثم إن ما يتمتع به الرجل من قوة جنسية قد لا تسدّ المرأة الواحدة حاجته مع ملاحظة ما يطرأ عليها من حيض وحمل ونفاس مانع من التمتع بها.
وفي شرعية التعدّد تحقيق لمصلحتهم وسلوكهم طريق الاستقامة والعفة.
وهو كذلك حفاظ على شرف المرأة وتحقيق لرغبتها خاصة لمن فاتهنّ قطار الزواج بسبب الدراسة أو التدريس، فكونها عند زوج يرعاها ويلبي غريزتها ويتحقّق لها معه السكن والمودة، حتى وإن كانت ثانية أو ثالثة خير لها من أن تبقى عانسًا بدون زواج، فتصبح فريسة للهموم والأفكار، خاصة في زمان تنوعت فيه سبل الإغراء وراجت فيه أسواق الفساد.
أما مصلحة المجتمع من هذا التشريع فظاهرة في تقوية لحمته وترابطها وتماسك بنيانه وقوته، ويوم أن يكثر سواد الأمة وتتقوى الروابط بين أفرادها فإنه يتحقق لها الشيء الكثير، فلا شك أن العنصر البشري عامل مهم في بناء الحياة في مختلف مناحيها، ولا يخفى ما تحدثه الحروب من أضرار جسيمة، وهي إنما ترفع بعد قدرة الله بسواعد فتية وكثرة كاثرة، وإن هذا التشريع كفيل بإذن الله في زيادة وكثرة العنصر البشري.
وهو كذلك أمن بعد رحمة الله من كثير من الجرائم الأخلاقية، فسبحان من عَلِم فحكم.
عباد الله، لقد ثبت عند البخاري وغيره أن سعيد بن جبير قال: قال لي ابن عباس: هل تزوجت؟ قلت: لا، قال: فتزوّج فإن خير هذه الأمة أكثرها نساء.
إن في ذلك ترغيب وأيّ ترغيب في اتباع سنة رسول الله لمن قدر عليه، وهو سنة في حقه، والتعدد ـ يا عباد الله ـ هو الأصل، فإن تخلّف العدل صار إلى واحدة.
ولكن ليُعلم ـ يا عباد الله ـ أنه ليس كلّ إنسانٍ مؤهّلا لذلك، فإن إقدام بعض الناس على التعدد مع عدم توافر الشروط سبب في كثير من المشكلات التي لم تكن في الحسبان. فلا بد من معرفة شروط التعدد قبل العزم عليه، وهي أربعة شروط:
الأول: العدد، فلا يجوز بأيّ حال الزيادة على أربع نسوة كما هو ثابت بنص الكتاب والسنة.
الثاني: القدرة المالية والجنسية، وهذا شامل للوطء وللطعام والشراب والكسوة والمسكن أو ما يلزم من أثاث يناسب المرأة، وهذا متروك للعرف والعادة. ولقد دلت آية التعدد على اشتراط ذلك حيث قال تعالى: ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُوا [النساء:3]، قال الشافعي: "أَلاَّ تَعُولُوا أي: أن لا تكثر عيالكم".
الشرط الثالث: العدل بين الزوجات، وقد صرحت به الآية، والعدل المطلوب هو ما كان مستطاعًا عليه مقدورًا على تحقيقه، وهو العدلُ بينهن في المأكل والمشرب والملبس والمسكن والبيت والمعاملة، أما ما لا يستطاع كالميل القلبي وما يتبعه من الوطء فلا يلزم العدل فيه لقوله : ((اللهمّ هذا قسمي فيما أملك، فلا تؤاخذ فيما تملك ولا أملك)) رواه أبو داود والترمذي وصححه ابن حبان والحاكم.
ومن فرّط في هذا الشرط فإنه على خطر عظيم وعقوبة بشعة تنتظره يوم القيامة، روى أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((من كانت له امرأتان فمال إلى إحداهما جاء يوم القيامة وشقه مائل)) رواه أحمد والترمذي.
فليحذر الذين لا يعدلون بين نسائهم ممن هجروا هجرًا متواصلاً وجعلوها كالمعلقة، فضيعها ولم ينفق عليها، وأهمل أولاده منها لسنوات وسنوات. إن هذا لظلم كبير وأمر لا يقره الشرع المطهر، وربما كان أمثال هؤلاء سبب لنفرة الناس من التعدد.
أما الشرط الرابع: أن لا يجمع بين من يحرم الجمعُ بينهن، فلا يجمع بين الأختين ولا بين المرأة وعمتها أو خالتها لا من النسب ولا من الرضاعة.
وقال العلماء: وقاعدة ذلك: "أنه لا يجوز الجمع بين امرأتين لو قدِّر أن إحداهما ذكر لم يحلّ له أن يتزوج بالأخرى".
عباد الله، إن التعدد شريعة محسومة لا نملك أمامها إلا التسليم وإن خالفت هوى أنفسنا، فالله تبارك وتعالى يقول: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ [الأحزاب:36].
وتعدد الزوجات رغم ما فيه من إثارة لغَيرة المرأة من ضرّتها فهو يعالج شرًا عظيمًا وخطرًا مستطيرًا، فعلى المرأة أن تضحّي من أجل بنات جِنسها وأن تحبّ لأخواتها ما تحبه لنفسها لترضِي بذلك ربها وتساهم في القضاء على الفساد في أمتها.
وعلى الرجل أن يتحمّل ذلك ليشارك في بناء المجتمع، فإننا ندرك المبرّرات الكثيرة للتعدّد والضروريات الاجتماعية التي تلجئ إليه، مع إيماننا بأن المسلم عليه أن يطبق حكم الله سواء ظهرت له الحكمة والمصلحة أم لم تظهر.
معاشر الأولياء، معاشر الأزواج، معاشر من يصلهن حديثنا من الزوجات، لنعلم جميعًا أن المشكلات التي تناط بالتعدد سببها إما غَيرة المرأة المفرطة وإما حماقة بعض الأزواج في سياسته لزوجاته وأولاده، ولو انضبط هذان الأمران غيرة المرأة وسياسة الرجل للبيت لانعدمت تلك المشكلات أو خفّت كثيرًا وأصبحت السعادة ترفرف على كثير من البيوت.
ثم لنعلم ـ يا عباد الله ـ أن حلّ هذه المشكلات ليس بمنع التعدّد أو تقييده أو الحيلولة دونه أو النيل منه، بل إنّ الحلّ يكمن في إصلاح النفوس وتهذيبها وتقويم سلوكها والأخذ بأيدي الناس ليكون التعامل بينهم على أساس من العدلِ المطلوب، سواء كان بين الزوج وزوجاته أو حتى بين الأب وأولاده من زوجاته.
ثم إنني أسأل الله العلي العظيم أن يوفق الجميع لإقامة السنةِ ودَحر البدعة، وأسأله تبارك وتعالى أن يعيننا على أمور ديننا ودنيانا، وأن يرزقنا القناعة بأحكام ديننا وتشريعاته، وأن يصرفَ عنا كيد المفسدين وسموم أعداء الدين.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُوا [النساء:3].
بارك الله لي ولكم...
الخطبة الثانية
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن تعدّد الزوجات وسيلة فعالة للقضاء على مشكلة فئتين كبيرتين من النساء وهنّ الأرامل والمطلقات، وهنّ كثيرات.
ولقد بلغ من وفاء السلف بعضهم لبعض أن كان الواحد منهم يبادر بالزواج من زوجةِ أخيه إذا استُشهد في سبيل الله، فقد حدث هذا من أبي بكر رضي الله عنه، فقد تزوّج من أسماء بنت عميس بعد استشهاد جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه، ثم تزوجها علي بعد وفاة أبي بكر رضي الله عنه، والدافع لذلك هو الوفاء.
فمن يقول: إن أسماء لم تكن وفيةً لجعفر حينما تزوّجت من بعده، إن هؤلاء هم خير من وطئ على الثرى بعد الأنبياء، واقتفاء أثرهم فيه الهدى والنور.
وإن مما يثلج الصدر أن سمعنا بمن فعل ذلك في زماننا هذا، فشكر الله صنيعهم وأجزل لهم المثوبة.
ثم ليعلم ـ يا عباد الله ـ أن للتعامل مع الزوجات إذا تعدّدت أدبا قلَّ من الناس من يحسنه، ولكي يستطيع الزوج إقامة العدل بين زوجاته فعليه بعد مراقبته الله أن يراعي ما يلي:
أولاً: المساواة التامة بين الزوجات فيما يستطيعه.
ثانيًا: عدم الإفصاح عما يحدث بينه وبين إحدى زوجاته للأخريات.
ثالثًا: أن لا يسمح لإحدى زوجاته أن تنال من غيرها مهما كانت الأسباب.
رابعًا: أن لا يتحدث عن إحدى زوجاته عند الأخريات لا بمدح ولا بذم.
خامسًا: أن لا يعاقب زوجته على خطأ ارتكبته أمام ضرتها، لا بتوبيخ ولا بضرب ونحوها.
سادسًا: معالجة الأخطاء بالحكمة والموعظة الحسنة والروية، وعدم الاستعجال وتصعيد الأمور. والرائد في ذلك سنة المصطفى في معاملته لزوجاته.
سابعًا: التأكيد على أولاده باحترام زوجته الثانية وغرس ذلك في قلوبهم وإشعارهم أنها بمنزلة أمهم.
ولا شك أن تقوى الرجل وحزمه واختيار ذات الدين من النساء مما يهوّن أمر هذه المشكلات المتوقّعَة ويجعل التعدّد يحقّق الحِكم المنشودَة منه، والله خير مسؤول أن يسترَ الجميع بجميل ستره، وأن يؤلّف بين قلوبهم على ما يحبه ويرضاه.
هذا وصلوا على أفضل من عدّد وأعدل من حكَم وأحسن من عاشر وألطف من ولي وأكرم زوج لزوجه، صلوا على خير خلق الله محمد، فقد أمركم بذلك ربكم...
ـــــــــــــــــــ(68/75)
أسباب صلاح الأمّة
...
...
3837
...
الأسرة والمجتمع, العلم والدعوة والجهاد
...
...
قضايا المجتمع, قضايا دعوية
...
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
...
...
الرياض
...
13/6/1425
...
...
جامع الإمام تركي بن عبد الله
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- صلاح الأمة ببعثة النبي . 2- النهي عن الإفساد بعد الإصلاح. 3- صلاح الأمة بتحكيم شرع الله تعالى. 4- صلاح الأمة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. 5- صلاح الأمة بإقامة الحدود الشرعية. 6- صلاح الأمة بالعناية بالتعليم والتربية. 7- صلاح الأمة بصلاح إعلامها. 8- ضوابط الصراع الفكري. 9- حقيقة حبّ وطن الإسلام. 10- الموقف الشرعي من أموات المسلمين.
الخطبة الأولى
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتَّقوا الله تعالى حقَّ التّقوى.
عبادَ الله، بَعَث الله نبيَّه ورسولَه محمّدًا بالهدَى ودِينِ الحقِّ، بَعثَه على حِينِ فترةٍ منَ الرّسل واندِراسٍ من العلمِ والهدَى، وقد طَبقَ الأرضَ جهلٌ عظيم وضَلال مبين، واندَرست المِلّة الحنيفيّة، فأصبحَتِ الخليقةُ في فوضى في كلِّ أحوالها عَقيدةً وسُلوكًا ومنهَجًا وعلاقاتٍ فرديّة واجتماعيّة، فبعث الله محمّدًا رحمةً للعالمين، وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107]. أجَل، إنّه رحمة للعالمين كلِّهم، ورسالتُه رسالةٌ عالميّة، تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا [الفرقان:1]. رحِم الله بِه الخلقَ كلَّهم مؤمنَهم وكافرَهم، مَن آمن به واتَّبعه عاشَ في خيرٍ في دنياه وآخرته، ومَن لم يؤمِن به عاش تحتَ ظِلّ عدالةِ الإسلام آمِنًا مطمئنًّا. لقد كان الصِّراع بين الملَل قبل الإسلام عظيمًا، كلُّ ملّة تقهَر أختَها دومًا ويُدالُ عليها يومًا آخر، فجاء الإسلامُ فرحِم الله به أهلَ الأرض وبسَط عدالتَه على الناس كلِّهم، فعاشوا في ظلِّ عدالة هذا الدين القويم.
أيّها المسلم، بعَث الله محمّدًا بالهدَى ودين الحقِّ ليظهرَه على الدّين كلّه. دعَا إلى الله بمكّة واهتمّ بالعقيدة وتثبيتِها في النفوس واستئصالِ داءِ الشرك من القلوب، وهاجر إلى المدينةِ ففُرضت الفرائضُ وحُدَّت الحدود وشرِعت الأحكام، فما توفيَّ إلاَّ وقد أكملَ الله به الدينَ وأتمَّ به النعمةَ وتركنا على المحجَّة البيضاء ليلُها كنهارِها لا يزيغ عنها بعدَه إلاَّ هالك.
أخي المسلم، إنَّ الله ذكَّرنا هذه النعمةَ فقال لنا في كتابِهِ العزيزِ: وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا [الأعراف:56].
قِف معي ـ يا أخي المؤمن ـ قليلاً لنتدبّر هذه الآية: وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا. حقًَا إنّ الله أصلَح بمحمّد البلادَ، وأصلح به العبادَ، أصلَح بهِ الأرضَ وساكنيها، وقطع دابِرَ الفسادِ فسادِ الأرض وفسادِ ساكنيها بما جاءَ به من الخيرِ والنور والهدَى، فصلوات الله وسلامُه عليه أبدًا دائمًا إلى يومِ الدين، يقول لنا : ((ما بَعَث الله من نبيّ إلاَّ كان حقًّا عليه أن يدلَّ أمّتَه على خيرِ ما يعلمه لهم، وينهاهُم عن شرِّ ما يعلمه لهم))[1]، وإنّه ـ بأبي [هو] وأمّي ـ قد دلّنا على كلّ خيرٍ ينفعنا في دينِنا ودنيانا، فقد حذَّرنا من كلّ بلاءٍ يضرّنا في ديننا ودنيانا، فصلّى الله وملائكتُه والصالحون من عِباده على هذا النبيّ الكريم كما دعَا إلى الله وعرَّف بالله وهدانا إلى كلِّ خير ونعمة، والحمد لله رب العالمين.
أخي المسلم، الصلاح والفسادُ أمران متناقِضان، أحدُهما مضادّ للآخر، وإذا وجِد أحدهما حقًّا انتفى الآخر أو ضعُف. إذًا فلعلّ سؤالاً يرِد: ما معنى صلاحِ الأرض؟ وكيف تصلُح الأرض؟ وكيف تفسُد؟ وكيف صلاح ساكنِيها وفسادُهم؟
نعم أيّها المسلم، إنَّ صَلاحَ البلاد والعباد هو بشرع الله القويم، وإنّ الفسادَ في الأرض وفسادَ العباد عندما تتخلّى الخليقة عن شرعِ الله، فشرعُ الله هو المصلِح للأرضِ معنويًّا وحسِّيًّا وتركُ الدين هو المفسِد للأرض حسًّا ومعنًى.
أخي المسلم، فما هي أسبابُ الصلاحِ إذًا؟ نعم أخِي، إنَّ صلاحَ البلاد والعباد عندما يتأمَّل المسلم شرعَ الله حقَّ التأمُّل يجد أمورًا:
فأوّل ذلك: تحكيمُ شرعِ الله كتابِ الله وسنّة رسوله ، فهما من أعظمِ وسائل الإصلاحِ إذِ الكتاب والسنة أحكامُهما هي الأحكامُ العادلة على الإطلاقِ، لماذا؟ لأنها أحكامٌ صادِرة من ربِّنا جل وعلا، أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك:14]، وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ [النساء:58]، فأحكامُ شرعِ الله هي الأحكامُ العادِلة، وسواها أحكامٌ ظالمة جائِرة، مهما أراد أربابُ القوانين الوضعيّة ومهما بذَلوا قصارَى جهدِهم أن يوجِدوا للخليقةِ أحكامًا تعدِل بينهم فلن يستطِيعوا لذلك سبيلاً، أحكامٌ متناقِضة، ونظُم متبايِنة، وليسَ أعدَلَ من حكمِ الله الذي أنزله على عبده ورسوله محمّد.
إنَّ الله أنزل كتابَه العزيز ليكونَ نِبراسًا للأمة ودستورًا ترجِع إليه ومنهجَ حياةٍ تستقي منه نظُمها ومنهجَها لتكونَ على طريقةٍ مستقيمة، ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنْ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنكَ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ [الجاثية:18، 19]. فأحكامُ الله أحكامٌ عادِلة، كما صلَح بها الرعيل الأوّل يصلُح بها الخلقُ إلى يوم القيامة، وصدق إمامُ دار الهجرة مالكُ بن أنس رحمه الله حيث يقول: "لن يُصلِح آخرَ هذه الأمّة إلاَّ ما صلُح به أوّلها"[2]. نعم إنّه حقٌّ، فلن تصلُح آخرُ هذه الأمّة إلاَّ بما أصلَح الله به أوّلَها.
ثانيًا: الأمرُ بالمعروف والنهيُ عن المنكر مِن أعظمِ وسائلِ إصلاحِ الأرضِ والبِلاد، إذِ الأمر بالمعروفِ والنّهي عنِ المنكر خلُق هذه الأمة، كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ [آل عمران:110]، وهو صمامُ أمانٍ لهم، بِهِ تحقَن الدّماء وتُصان الأعراض وتحفَظ الأموال وتثبَّت دعائِم الأمن ويعيشُ الناس في خيرٍ. وبالأمرِ بالمعروفِ والنّهي عن المنكر يحصُل التّمكينُ في الأرض ويستمرّ العطاء وتمتدُّ قوّة الأمّة وصِلَتها بربها جلّ وعلا، وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ [الحج:40، 41]. وبالأمرِ بالمعروفِ والنّهي عن المنكَر تجتمِع القلوب وتتآلَف النّفوس، وبتركِهِ فُرقةُ الأمّةِ وضعفُها، وفي الحديث: ((لتأمُرنّ بالمعروفِ ولتنهوُنَّ عن المنكر ولتأخُذُنَّ على يدِ السفيهِ ولتأطرنّه على الحقِّ أطرًا، أو ليوشِكَنّ الله أن يضربَ قلوبَ بعضكم ببعض، ثم يلعنكم كما لعَنَهم))[3].
حُدود الله وتنفيذُها من أعظمِ وسائل إصلاحِ البلاد والعباد، فهي الحدود الشرعية التي جعلَها الله حاجزًا بين المجرِمِين وإجرامِهم، كلّما تذكَّر المجرِم ذلك الحدَّ ردَعه عن إقدامه وحالَ بينه وبين فسادِه لأنّه يعلَم المَصير المحتومَ، وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ [البقرة:179]، إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنْ الأَرْضِ [المائدة:33]، وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [المائدة:38]، الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [النور:2]، وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ [الحجرات:9]، في الحديث: ((لحَدٌّ يُقام في الأرضِ خيرٌ مِن أن تمطَروا أربعينَ خريفًا))[4]. نعم حدٌّ يُقام يصلِح البلادَ والعباد خير من مَطرٍ أربعينَ عامًا؛ لأنّ المطرَ منفعتُه محدودة وحدودُ الشّرع مصلحةٌ عامّة للفرد والمجتمع في الحاضِرِ والمستقبل.
أخي المسلم، إنّ من أسبابِ صَلاح الأمة واستقامةِ حالها العنايةَ كلَّ العنايةِ بالتعليم والتربيةِ على الوجهِ الشرعيّ، فأمّة الإسلام بأمسِّ حاجةٍ إلى مناهجَ مؤصّلةٍ تأصيلاً صحيحًا مبنيّة على قواعدِ الشرع حتى تكونَ مناهج نافعَةً ومناهجَ مثمِرَة ومناهجَ مؤثِّرة تقضي على أسبابِ الفرقةِ والاختِلاف، وتبعِد التطرّفَ بكلّ نوعَيه مِن [غلوّ] وجَفاء. مناهج تربط حاضرَنا بماضِينا، وتصِل حاضرَنا بماضينا، وتعلِم حاضرَنا بسيرةِ ماضينا وسلفِنا الماضي وأمجادِه الماضية. مناهج يعلَم بها كلُّ متعلِّم حالَ الماضين وسيرتهم الفاضلة وأعمالَهم الجليلة، يعرِف بها الرعيلَ الأوّل من هذه الأمّة؛ بأيّ شيء سادوا، وبأيّ أسلوبٍ سادوا وقادوا، وما أسبابُ بروزِهم ونفوذِهم وسيطَرَتهم على أرجاءِ المعمورة وإزالتهم الظلمَ عن العباد، رعاء الشاء والبعير بأيّ قوّة سيطَروا وبأيّ قوّة تمكّنوا؟ إنها العقيدة السليمة والتربية الصالحة والمنهج القويم والسلوك الحسن والإخلاص لله في القول والعمل والتفاني في أداء الواجب، حتى رفعوا أعلام الإسلام على أرجاء المعمورة، وتردّدت "لا إلهَ إلا الله" في أرجاء المعمورة، وعلا صوتُ الحقّ: "حيّ على الصّلاة، حيّ على الفلاح".
إنّ الأمة بحاجةٍ إلى مناهجَ أصيلةٍ تؤصِّل العقيدةَ في النفوس، ثم تمتدّ لتربِّيَ الأجيالَ المستقبلة على كلّ خُلُق عظيمٍ، وتربِط حضارتها ورُقِيَّها برِباط الشّرع، فدين الإسلام ليس عَقَبةً أمام أيِّ تقدم للأمة ورقِيٍّ لها، وليس حاجزًا أمامَ الأمّة أن تبلغَ الشأوَ البعيد صِناعيًّا وماديًّا، لكنّه يربِط كلَّ ذلك بالمنهجِ الإسلاميّ الصحيح لتنطلقَ الأمّة في كلّ تصرّفاتها من منهَج إسلامِها العظيم الذي يهيِّئها لكلّ خير ويأمرُها بالأخذِ بالأسباب والارتقاءِ بالأمّة وقوّة العلم والمعرفة واتِّساع الآفاق والمدارك في كلّ علومِ الحياة، لكن شريطةَ أن تكونَ العقيدة مسيطِرةً على الجميع لتكونَ أعمالنا منطلِقة من عقيدتِنا الخالصة الصّافية.
أمّةَ الإسلام، مِن أسبابِ صلاحِ الأمّة أن يكونَ الإعلام الإسلاميّ إعلامًا واقعيًّا وإعلامًا متجرِّدًا وإعلامًا يحمِل على عاتقه همومَ الأمّة ومشاكلَها؛ ليعالج قضاياها ويعالجَ مشاكلَها ويخاطبَ فتياتِها وشبابها بخطابٍ يمكِن من خلاله تأصيلُ القِيَم والفضائل ومكافحةُ الشرور ومحاربة الدِّعايات المضلِّلة والقنوات الخليعة والقنواتِ المنحرفة عن الهدَى. إنَّ إعلامَ الأمة متى قوِيَ بثُّه وقويَت برامِجُه وأخَذ على عاتِقه همومَ الأمة يعالج مشاكلَها ويدافِع عن قضاياها ويزيلُ عنها كلَّ غشاوة وشبهاتٍ ضالة تعلَّق بها المنحرفون فذاك هو واجبُها ليكونَ إعلامًا نافعًا ومِنبرَ توجيهٍ وإصلاح.
أخي المسلم، عندما تحمِل القلمَ لتخُطَّ به كلماتٍ تنشرُها فقِف مع نفسك هنَيهَة؛ هذه الكلمات التي تريد أن تكتبَها هل هي تخدِم هذا الدين؟ هل هي تخدِم قضايا الأمّة؟ هل هي تزيد الأمّةَ قوّةً وثباتًا، أم هي تفتَح ثغرةً على الأمّة ونزاعًا واختلافًا؟
إنّ الصراعَ الفكريَّ يجب أن يقفَ عند حدِّه، ولا يجاوز حدّه. إنّ لنا ثوابتَ ومسلَّماتٍ يجب أن تكونَ بعيدةً عن نقاشٍ صحفيّ أو إعلامي، يجب أن تكونَ النقاشاتُ الإعلاميّة في قضايا الأمّة وفي طرح أيِّ مصلحة للأمّة تخدم دينَها وأخلاقها، أمّا الثوابت والمسلَّماتُ للأمة فيجِب أن تكون بعيدةً عن أيِّ نقاش.
إنَّ الأمَّة اليومَ بحاجةٍ إلى وحدة الصفّ، وبحاجةٍ إلى الالتحام في هذا الزمنِ الذي تضاعفَت فيه التّكتُّلات السياسيّة والاقتصاديّة، وأُريدَ بالأمة ما أريدَ بها، ولكن يأبى الله ذلك، وله الفضل والمنّة، يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ [الصف:8].
إنَّ مسلَّمات الأمّةِ وثوابتَها يجب أن تبقَى بعيدةً عن كلّ نِقاش. النّقاشُ والاختلاف يجِب أن تكونَ الأطروحات في سبيل كلِّ خيرٍ تصِل الأمّة إليه، ويراد بِهِ الصّعودُ بها إلى الكمال.
إنَّ البلادَ الإسلاميّةَ إذا أرادت لنفسِها القوّةَ والثباتَ فلا بدَّ أن تعودَ إلى شرعِ الله لتجدَ فيه الأمنَ والاستقرارَ والطُّمأنينة.
أخي المسلم، حبُّ المسلم لوطَنِ الإسلام أمرٌ مطلوب، لكن كيفَ يكون المسلم محِبًّا لوطنه؟ وكيف يكون مدافِعًا عن وطنه؟ وكيف يكون مصلِحًا لوطنه؟
إنَّ حبَّ الوطنِ حقًّا يتمثَّل في حبّ الخير للأمة والسعيِ فيما يصلِحها وإبعادِ شَبَح أيِّ خلافٍ ونزاع يُرَاد بهِ تفريقُ كلمتِها. إنّ الأمّةَ بأمسِّ حاجةٍ إلى التحامٍ واجتماع وتآلفٍ وقوّة وانتظامٍ حتى لا يجدَ العدوُّ ثَغرًا يلِج من خلالِه. إنّ الصِّراعَ الفكريَّ يجب أن يكونَ له حدٌّ، وأن لا يمتدَّ إلى ما لا خيرَ فيه.
إنَّ كثيرًا ممن يقول أو يكتب قد يكتُب ما لا يدرِي عن أبعادِ ما يكتب، ولا عن نتائجِ ما يكتب، فليتَّق المسلمون ربَّهم في أمورهم كلِّها، وليكونوا يدًا واحدة على الخير والتقوى. إنَّ الجهود يجب أن تتضَافر من كُتّابِنا من خطبائنا مِن أئمّة مساجدنا من كلّ فردٍ في هذه الأمّة فيما يصلِح الأمة ويثبِّت دعائمَ أمنها ويخلِّصها من كلّ الأفكار الدّخيلة عليها، ومن كلّ الآراء الشاطّة التي لا تخدِم هدفًا ولا تحقِّق غرضًا، وإنما يجب علينا أن تكونَ أطروحاتُنا في سبيل ما نمدُّ به هذه الأمة في قوّةٍ وثباتٍ واستقامة.
أسأل الله للجميع التوفيق لما يحبه ويرضاه، إنّه على كل شيء قدير.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام:153].
بارك الله لي ولكم في القرآنِ العظيم، ونفعني وإيّاكم بما فيه منَ الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولَكم ولسائر المسلمين من كلِّ ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه مسلم في الإمارة (1844) عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما في حديث طويل بنحوه.
[2] أخذ مالك رحمه الله هذه الكلمة عن شيخه وهب بن كيسان كما روى ذلك ابن عبد البر في التمهيد (23/10)، ثم اشتهرت عن مالك لشهرته وإمامته.
[3] أخرجه أحمد (1/391)، وأبو داود في الملاحم (4336)، والترمذي في التفسير (3047)، وابن ماجه في الفتن (4006) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه نحوه، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب"، وقد اختلف في إرساله ووصله، وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة (1105).
[4] أخرجه أحمد (2/362، 402)، والنسائي في قطع السارق (4904)، وابن ماجه في الحدود (2538) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بنحوه، وصححه ابن الجارود (801)، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة (231).
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتَّقوا الله تعالى حقَّ التّقوى.
عبادَ الله، وصف الله عباده المؤمنين ومدحهم فذكَر من خِصالهم الحميدَة قوله: وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [الحشر:10].
هكذا حالُ المسلِم، يترحَّم على من مضَى منَ المؤمنين، ويستغفِر لهم، ويَكفّ عن مساوئهم، ويبعُد عن البحثِ عن عيوبهم، فقد مضى الأموات بما مَضَوا عليه، فيسأل الله لهم الرحمة والمغفرة. وهو في نفسِ الوقت ليس في قلبِه غلٌّ على أهل الإيمان، ولا حِقد على أهل الإيمان، لماذا؟ هوَ مؤمنٌ يحِبّ الخيرَ لهم كما يحبّ لنفسه، هو مؤمن يكرَه الشرَّ لهم كما يكرَه لنفسه، هو مؤمن يسعَى في إيصال الخير لهم كما يسعَى في إيصال الخير لنفسه، هو مؤمِن يكتب بقلمِه خيرًا ويخطب بخير ويقول خيرًا ويوصي بخير، هو مؤمِن يهمّه أمرُ أمّته قبلَ كلّ شيء، هو مؤمن يأمَنه الناس على دمائهم وأموالهم، يأمنونَه على أعراضهم، يأمنونه فلا يقول شرًّا ولا يحدِث شرًّا ولا يبرِم شرًّا، ولكنّه المؤمن الصادِق الذي تراه في كلّ ميدان من ميادينِ الأمّة، يسعى جهدَه في الخير، وليحقّق قول الله: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [التوبة:71].
فاحذَر ـ أخي المسلم ـ من أن تكونَ عدوًّا لدينك أو عدوًا لأمّتِك، احذَر أن تكونَ عدوًّا لهم من حيث لا تشعر، كن محِبًّا للخير ساعيًا فيه داعيًا إليه مؤلِفًّا للقلوب جامِعًا للكلمة ساعيًا بما يصلِح الأمةَ في الحاضر والمستقبل بنيّةٍ صادقة ونفسٍ طيّبة.
أسأل الله أن يحفظ الجميع بحفظه، وأن يعيذَنا وإيّاكم من نزغاتِ الشيطان.
اعلَموا ـ رحمكم الله ـ أنّ أحسنَ الحديثِ كتاب الله، وخيرَ الهديِ هدي محمّدٍ ، وشرّ الأمورِ محدثاتها، وكلَّ بدعةٍ ضلالة، وعَلَيكم بجماعةِ المسلمين، فإنّ يدَ الله على الجَمَاعة، ومن شذّ شذّ في النار.
وَصَلّوا ـ رحمكم الله ـ عَلَى عبد الله ورسولِهِ محمّد كما أمركم بذلِكَ ربّكم، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمَّ صَلِّ وسَلِّم وَبَارك عَلَى عبدِك ورسولِكَ محمّد، وارضَ اللهمّ عن خلفائه الراشدين...
ـــــــــــــــــــ(68/76)
أعراضنا إلى أين؟!
...
...
3838
...
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
...
...
الكبائر والمعاصي, المرأة, قضايا المجتمع
...
محمد بن صالح المنجد
...
...
الخبر
...
...
...
عمر بن عبد العزيز
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- عقوبة الذين يحبون أن تشيع الفاحشة. 2- انتشار الفاحشة في هذا الزمان. 3- التقنيات الحديثة وانتشار الفاحشة. 4- حكم التصوير. 5- ظاهرة تصوير النساء. 6- من أحكام النظر. 7- أضرار تصوير النساء. 8- صور من انحراف الشباب والفتيات. 9- الغيرة على الأعراض. 10- أسباب الانحراف.
الخطبة الأولى
أمّا بعد: فيا عبادَ الله، إذا كانت أعراضُ المسلِمين في خَطَر، إذا كانَتِ الفاحِشةُ تشيع في الذين آمَنوا، إِذا كانتِ التّقنية الحديثة تُستَعمل لمعصِية الله، إذا كانَت روائح الفَضائح تزكم الأنوف، إذا هُتِكت الأعراض وعمّت البلايا واختُرقت الحرمات، فمن هو المسؤول؟! وماذا نفعل في هذا الحال؟! نشكو إلى اللهِ تعالى ظلمَ الظالمين.
قال الله سبحانه وتعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النور:19].
أَنْ تَشِيعَ: أن تظهر وتنتشِر، يحبّون ذلك ويعمَلون له، ويختارون ويقصِدون ظهورَ القبيح، ظهور الفاحشة، يحبّون أن يذيع الزّنا في المجتَمَع، كما قال قتادة رحمه الله: "أن يظهر الزّنا وفِعل القبيح". ومن أعانَ على نشرها فهو كالذي يقود النّساء والصّبيان إلى الفاحِشة، وكذلك كلّ صاحِبِ صَنعةٍ تعين على ذلك.
عباد الله، إنّ الله يغار، وغيرةُ الله أن ُتنتَهَك حرماته، يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ منه ما يكون بالقول، ومنه ما يكون بالفِعل. قال شيخ الإسلام رحمه الله: وأمّا ما يكون من الفِعل بالجوارح فكلُّ عملٍ يتضمّن محبّةَ أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا داخلٌ في هذا، بل يكون عَذَابه أشدّ، فإنّ الله قد توعّد بالعذاب على مجرَّد محبّة أن تشيعَ الفاحشة، فكيف بالذي يعمَل على ذلك؟! فإذا كانَ الذي يحبّ فقط أن تشيعَ له عذابٌ أليم في الدنيا وفي الآخرة، وليس فقط في الآخرة، فكيفَ إذا اقترَن بالمحبّة أقوال وأفعال لإشاعَةِ الفاحشة في الذين آمنوا؟! حَشَر الله امرأةَ لوطٍ مع قومها في العذابِ لأنها رَضِيت بفعلهم.
عبادَ الله، إنّ هذه من صفات المنافِقِين، ولماذا نهى العلمَاء، لماذا نهوا عن الشِّعرِ الفاضح والغَزَل الذي فيه التّشبيب بالنساء و وصفِهِن؟ لأنّه يثير الغرائز، ولأنه يَدعو إلى إشاعَة الفاحشة، ماذا لهم؟ عذابٌ أليم موجِعٌ في الدّنيا والآخرَة، وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ، الله يعلمُ ولذلكَ شرعَ الأحكامَ، الله يعلم المفسدَ منَ المصلح، الله يعلَم شدّةَ العذاب، وأنتم لا تتخيَّلونه، ولا تقدِرون أن تتصوَّروا عذابَ الله في الآخرة.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [النور:21]. لا لِطُرُقِ الشيطان، لا لخُطُوات الشيطان التي يُدخِل فيها العبادَ في المعاصي.
عباد الله، نحن في زمنِ إشاعةِ الفاحِشة. تجارةُ الجِنسِ في العالم تقدّر بـ57 بليون دولار في العام الماضي، منها أربع ونصف بليون دولار لتجارةِ الجنس عبرَ الهاتف، وأربعة بلايين عبرَ الإنترنت وأقراص الحاسوب، 12 في المائة من إجمالي مواقع الشبكة لتجارةِ الجنس ونشره، 372 مليون صفحة، وتحمل حركةَ البريد الإلكتروني يوميًّا قرابة 2 بليون ونصف رسالة تتضمّن مواضيعَ وإعلانات جنسيّة، لإثارة الشهوات ونشر الفاحشة.
25 في المائة من إجمالي عددِ طلبات مستخدمي الشبكةِ في محرِّكات البَحث في موضوعاتٍ في الفاحشة والحرامِ والجِنس، وأكثر من 100 ألف صفحةِ إنترنت توفّر صوَرًا فاضحة للأطفال.
وهكذا جاءت جوالات الباندا وغيرها لتعلِن انضمامها إلى مسلسل القذارة في نشر هذه الفواحش، صورٌ ثابتة، وأخرى متحرِّكة، وأنواع التصوير من الكمِرات الثابتة، وتصوير الفيديو، والتصوير التلفزيوني. وعندما كانت كمِرا الجوال تنقل خمسَ عشرة ثانية فقط في التصوير ظهرت البرامج التي يصوَّر بها الآن ثلاث ساعات.
وتقنية البلوتوث التي ترسِل مقاطعَ الفيديو والصوَر في أشخاصٍ في محيطِ هذا الجوال بعشرات الأمتار، وستمتدّ المسافة بتقدّم هذه التقنية، ليكون كلّ من في محيط جوالٍ من هذه الجوالات يلتقط هذه اللّقطات المختلفة.
وتقول الأخبار: أنتجت "كوداك" طابعة تعمل بتقنية البلوتوث لدى معظمِ أجهزةِ الجوالات الحديثة بالتعاونِ مع شركة "نوكيا"، ليصبحَ بالإمكان تحقيق الاتصال بين الطابعة وأيّ جوال لديه هذه التقنية، ليستفيد ـ بزعمِهم ـ أصحاب أجهزةِ الجوال ذاتِ الكمِرا المدمجة. وظهرت لهم مواقعُ تشجِّع على الإبداع ـ بزعمهم ـ في مجال التصوير، وتمكِّن صاحب الجوال من حِفظ ألبوم إلكتروني من الصوَر الفوتغرافية.
انتشارٌ عجيب لهذه التقنية التي ظهرت في عام 2001م، ثم انتشرت في العالم انتشارًا عجيبًا. إن المبيعات تزداد. وفي عام 2008م يتوَقَّع أن يكون نصف الجوالات في العالم في الكرة الأرضية مزوّدا بهذه الكمرات، وربما قبل ذلك. وبعض الشركات لن تنتج أصلاً في موديلاتها الجديدة جوالات بغير كمِرا. 90 مليون هاتف محمول من هذا النوع في أمريكا الشمالية وحدها. و60 في المائة من جوالات اليابانيين مزوَّدة بالكمِرا. وماذا لدينا نحن؟! ربما نسبة أكبر من هذا. فإننا نتسارع ونسارع ـ بزعمنا ـ إلى اقتناء التقنية في أحدث صورها تباهيًا واختيالاً وتظاهرًا. وهذه المظهرية التي ذبحت الكثيرين.
عباد الله، إن التقينة نعمة، لكنهم يجعلونها نقمة، إنها تحوَّل إلى وسيلةٍ اليومَ لنشر الفاحشة والفضيحة في الذين آمنوا. وطلعت الأخبار، وتناقلت المواقع، وعمّت الصحف وساحات الحوار، تلك الأحداث الأليمة التي تحدُث لبناتِ المسلمين في بلدان المسلمين. لا إله إلا الله، ((ويلٌ للعرب من شر قد اقترب))، قالت زينب رضي الله عنها: أنهلك وفينا الصالحون؟! قال: ((نعم، إذا كثر الخبث)). أنهلك وفينا الصالحون؟! ((نعم إذا كثر الخبث))، فسّروه بالزنا وبالفسوق والفجور وهكذا. أين إقامةُ دين الله والغيرة على حرُمات الله؟!
يا عباد الله، إنّ القضية خطيرةٌ جدًا، وإنّ سفينة المجتمع ستغرَق إذا لم نقم لله بالحجة، إذا لم نقُم بما أمرنا به.
عباد الله، لماذا التساهل في التصوير أيضًا؟! وماذا قال العلماء في التصوير؟! إن الذي يتمعّن في كلامِ العلماءِ في التصويرِ ليجد حِكَمًا عجيبة كلّما تقدّم الوقت تدلّ الأحداث على أن هذا الحكم جدير بالعناية والاهتمام والحِرص.
إنّ هذا التصوير هذا التشكيل جعل الهيئة الإتيان به على صفةٍ معينة، هذه السمَة والعلامة هذه الصورة سواء كانت مرسومة أو مطبوعة أو منقوشة منحوتة، نافرة أو مستوية، سواء كانت بكمِرا عادية أو فيديويّة أو دجِتالية أو تلفزيونية ونحو ذلك، كانت مرسومة أو بالآلة، كلها صوَر وتصوير في الحقيقة، وماذا سَتقول عنها غير التصوير؟!
عباد الله، إنها كارثة عظمَى كبِيرة عندما ينتشِر بحاجةٍ وبغير حاجة، إنّ النبي عليه الصلاة والسلام قال: ((إن الذين يصنعون هذه الصوَر يُعذَّبون يوم القيامة، ويُقال لهم: أحيوا ما خلقتم))، وقال: ((إن أشد الناس عذابًا يوم القيامة المصوّرون)) متفق عليه، وقال: ((لعن الله المصوِّرين))، وقال: ((كل مصوِّر في النار)).
وكذلك فإنّ العلماءَ قد بيّنَ كثيرٌ منهم أن ذلك يشمَل جميعَ أنواع الصوَر، إلاَّ ما كان لضرورةٍ أو حاجَة، إلاَّ التصوير لغَرَضِ التعليم في الحالاتِ الطبيّة وغيرها، أو لأجل الإثباتاتِ في الأمور الأمنية وغيرها، أو لأجل التصويرِ على التدريباتِ العسكريّة والتقاطِ ما ينفع المسلمين من صوَر الأعداء ونحوها، وغير ذلك من أنواعِ التصوير للحاجة أو للضرورة، كتتبُّع المجرمين ونحوهم. إن هذا التصوير للحاجة أو للضرورة قد بيّن العلماء جوازه، لكن الآن يتمّ التصوير لحاجة ولغير حاجة، وتنتشر الصور، وتنقَل الصوَر، وعلى من تعرض الصور؟!
يا عبادَ الله، صوَر نسائِنا وبناتنا وصوَر الجنس والخلاعة وأثر هذه القنوات والمجلاّت واضح، وفعل الصورة في النفوس واضِح. إنها ليسَت صوَرًا تنقل جِراحاتِنا ومآسينا لنستعمِلها في الجهادِ الإعلامي، ولكنها صوَر تنقل عوراتِنا، إنها صوَر تنقل أجسادَ نسائنا.
عباد الله، وكم فعلت هذه الصوَر من الأفاعيلِ في الأسر، وكم افتُري بها على المظلومين والمظلومات، وحصلت بها أنواع الفتن والويلات، حتى الداعيات إلى الله لم يسلَمن من ذلك، فتلتَقَط صورهن في محاضراتِ النساء لتركَّب في الشبكة.
وتؤخَذ هذه الصور أيضًا من قِبل الذين يصطادون البنات في هذه الصور للفتياتِ في الأعراس، ليبتزوهن بها بعد ذلك. وهذه أختٌ تتألَّم من أنها فوجِئَت بقيام من صوّرها أثناء قيامها بالوضوء في المدرسة، وأخرى فوجِئَت بطلاقِ زوجها، فإذا هي مكيدَة مدَبَّرة، نتيجةَ صورة التُقِطت بكمِرا الهاتف المحمول. خمس وخمسون كمِرا جوال تمَّ ضبطها في ليلة زفاف واحدة!!
عباد الله، إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا [النور:19].
ثم بعد ذلك عندما ُتلتقط وتنشر فهل يجوز النظر إليها؟ قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ [النور:30]، يغضوا من أبصارهم عن النظر إلى العورات والنساء الأجنبيّات وكلِّ من لا يجوز النظر إليه، ويحفظوا فروجهم عن الحرام. ((يا عليّ، لا تتبع النظرة النظرة، فإن لك الأولى ـ أي: نظرة الفجأة ـ، وليست لك الآخرة)).
عباد الله، حتى النساء لا يجوز لهن النظر إلى الرجال نظرَ الفتنة، ولذلك فإنّ العلماء قد بيّنوا من أحكام النظر ما هو مهمّ جدًا في هذا الباب، فيقولون: إنّ الصورة التي لا يجوز التقاطها لا يجوز النظر إليها. ويقولون أيضًا: إنّ الصوَرَ التي ُتعلَّق حرمتها أشدّ من الموضوعةِ في مكانٍ خفيّ، وإنّ الصوَر على الملابس مِن ذوات الأرواح محرمة كذلك، بدليل أن النبي لما رأى في بَيتِ عائشة سِتارًا فيه تصاوير لم يدخُل وقام على البابِ، وعُرِفت الكراهية في وجهِه، حتى قالت عائشة: يا رسول الله، أتوب إلى الله وإلى رسوله، ماذا أذنبتُ؟ فقال: ((ما بَال هذه النمرقة؟!)) قلت: اشتريتها لك، قال: ((إن أصحاب هذه الصوَر يُعذَّبون يوم القيامة، ويُقال لهم: أحيوا ما خلقتم، إن البيت الذي فيه صور لا تدخله الملائكة)).
عباد الله، إننا نجِد اليومَ أن من النساء من ُفتِنت بالنظر إلى صوَر الرجال، ولذلك فإنها إذا كانَت تنظر نظرًا يفتِن فلا يجوز لها ذلك، وأما الرّجل فأمره واضحٌ في هذه القَضيّة.
عباد الله، إنّ التوسّعَ في التصوير قد أدَّى بنا إلى مآسٍ أليمة، وكذلك فإنّ على المؤمِنِ أن يطهّر نفسَه، وأن يحصّن فرجه.
عباد الله، إنّ قضية نشر صوَر النساء التي تحدث الآن وتبادُلها في الجوالات واضح التحريم، ولعلك ـ يا عبد الله ـ تمعّن في هذا الحديث: قال عليه الصلاة والسلام فيما رواه البخاري: ((لا تباشر المرأة المرأة فتنعتها لزوجها كأنّه ينظر إليها)). ما معنى ((فتنعتها لزوجها))؟ أي: تصفها لزوجها في بدنها ونعومته، وجسدها أو ليونته، وما فيها من أنواعِ الجمال كصفةِ الوجه والكفّين ونحو ذلك، كأنه ينظر إليها، الوصف الدقيق. فما بالكم إذا كانت صورةً تنقله بدقّته، وتأخذه بتمامه، فأيهما أولى بالتحريم؟! إذا كان قال: ((لا تباشر المرأة المرأة فتنعتها لزوجها))، وهو متزوج عنده امرأة، لا تنعتها كأنه ينظر إليها، فما بالكم بالصورة التي تغني عن الوصف تمامًا وتزيد عليه، أيهما أولى بالتحريم؟! إذًا تناقلُ صوَر النساء ولو كانت عمّا يُسمّى بالفضائح أو غيرها أمور محرّمة لا تجوز.
اللهم إنا نبرأ إليك مما فعل السفهاء منا، ونعوذ بك من هَذا الباطلِ والفَحشاء، ونجأر إليك أن تطهِّر قلوبنا وبيوتنا ومجتمعاتنا من الرذائل والفواحش يا رب العالمين.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله على كلّ حال، أشهد أن لا إله إلاَّ الله، وأصلّي على محمد والآل، وأشهد أنّ محمدًا عبده ورسوله، ما ترك خيرًا إلاَّ دلّنا عليه، ولا شرًّا إلاَّ حذرنا منه.
هذه الشرور قد حذرنا منها محمد بن عبد الله . [وهي تسوّق في] أساليب جذّابة في العرض لكي يجمّلها في الأعيُن، ثم يتَلقَّف هذه التقنيةَ من الفسقة والفاسقات ما يريدون به إشاعةَ الفاحشة بيننا، وُتبتزّ النساء.
تصوَّر النساء في الأعراس والحفلات والمدارس والكلّيات، وتركّب على صورٍ خليعة من الشبكة، ثم يحدث الابتزاز وإرادة هدم البيوت، وهذه انتحرَت، وهذه أصيبَت بمرضٍ مستمرّ، وتلك اعتزلت في بيتها ستَةَ أشهر، وأخرى طلَّقها زوجها، وبعضُهنّ بريئات، وبعضهن ظالمات مفترِيات. فالبريئة من الذي يصدّق براءَتها وأن هذه مركبة وأنها التُقِطت بغير علمها ونحو ذلك؟ تُخرَّب البيوت، وتعطَّل النساء عن الزواج، وتحصل الفضائح في المجتمع.
يقوم شباب مسعورون من الذين يريدون أن تشيعَ الفاحشة بالتصوير والنقلِ والفضح دون مراعاةٍ لحرمات الله، إنهم ينتهكون حدودَ الله، وقد قال عليه السلام والصلاة: ((إن الله فرض فرائض فلا تضيّعوها، وحدّ حدودًا فلا تعتَدوها، وحرّم حرمات فلا تنتهكوها)).
لقد كان عليه الصلاة والسلام يبطش، متى كان يبطش؟ ما انتقم لنفسه قطّ، إنما كان ينتقِم عندما تنتهَك حرمة الله، لقد أمرَ بإخراج من كان يصِف النساء من البيوت، وحذّر من الدخول، قال: ((لا يدخلنَّ هذا عليكن)) فحجبه، مع أنه مريض ليس فيه شهوة النساء أصلاً، لكن لأنّه صار يلتفِت إلى معالم الجمال في المرأة، وينقل ذلك الوصف.
وتأتي الفتاة الخبيثة الموكَّلة بأخذِ الصّوَر لتجلس بين المدعوَّات، وقد امتلأ قلبها حِقدًا على هذه العائلة المحترمة، بيدها الجوال لتصوِّر وتنقل للعروس وغيرها من النّساء الحاضرات، وتنقَل الصور وُتوزّع في الأسطوانات وفي مواقع الإنترنت، ليفاجأ هذا بصورة زوجته قد أخذت خِلسة، والآخر بصورةِ زوجته أو ابنته أو أخته ونساءِ أهل بيته. أسفَرَت القضية عن قطيعة للأرحام، أسفَرَت القضيةُ عن تركِ بعض المخلِصين لحضور الزّواجات. وفعلاً إنه قرار صائِب عندما لا تكون هناك الاحتياطات، فأعرضَ العدَد مِنَ الرّجال عن اتِّفاقِهم مع نسائهم على عدم حضور حفلات الزفاف مع أنها لأقارب خشيةَ هذه القضية.
وكذلك صارت هناك الحاجة حقيقة للاحتياطات الكثيرة، إذا كان الكفّار يحتاطون، مخاوف ـ هم يقولون: ـ مخاوف لدينا في مراكزِ اللياقة البدنيّة من لوس أنجلوس إلى تورنتو من قضية الهاتف المحمول، وامتدّت المخاوف إلى الشركات التي تخشى عملية التجسّس الصناعي، ومنعت شركة "تويوتا" ضيوفها وزائريها مِن حمل الهواتف ذات الكاميرات. وكذلك اشترَطت حكومَة كوريا الجنوبيّة على الشرِكات أن يصدِرَ الجهاز المزّود بكمِرا صوتًا عاليًا عند التقاط أيّ صورة. فإذا كان البوذيّون عندهم شيء اسمه الاحتياط، والعمل على منعِ ما ينتهِك الخصوصيّة، نحن عندنا قضية أعلى من الخصوصيّة، لأن خصوصيتَنا في هذه الشريعة، في هذه الأحكام، في هذا الدين، في الأمانة التي حُمِّلناها.
إنّ هذا الأمر الذي يخشَون منه لأجلِ السّرقات الرقميّة نحن عندنا أغلَى من الأشياء العلمية والمعلومات والمستندات التي يخشَون تصويرها، عندنا أعراضنا، إنها أثمن من ذلك. عندما تقوم جمعية "حاملي أجهزة الاتصالات والنشر" اليابانية بتوزيع 300 ألف ملصَق في مكتبات البلاد تحذر من القيام بالسرقات الرقمية، فإنّ عندنا ما يدعو إلى أكثر من ذلك بكثير، لأنه أثمن، وأشدّ حرمة من تلك الأشياء العلمية. وإذا كان يساورهم القلق في بِرَك السباحة وأنديةِ اللياقة وغرَف تبديل الملابس، فعندنا القضية شرعية دينية، مرتَبِطة بربّ العالمين وبكتابه وبنبيّه وبدينه، مرتبطَة بالفضيلة، مرتبطة بشرف المسلم.
يا عباد الله، مطاعِم تمنَع دخول الجوّالات لمنع الإزعاج، مطاعم راقية في باريس، ومساجدنا ُتنتهك حرماتها بالجوالات الموسيقية!
عباد الله، صارت القضية إذًا الآن بحاجة إلى حارسات عندَ أبواب المدارس والكليات والصالات والاستراحات وتفتيش المدارس. إنّ القضية حتى في الحرم. إن مسألةَ التصوير الذي يقوم بهِ هؤلاء شيء عجيب.
إن إنسانًا في الصلاة لمّا رنَّ جواله وأخرجه رأى الذي بجانبه صورة "نانسي مجرم" على الشاشة داخل المسجد. يضعون صوَر الفنانات وذوات الفسق والفجور لتظهر! إنّ ولاءه لهذه المجرمة وذلك الفاسق وتلك الداعِرة وهذا الخبيث، ولاءُ شبابنا، كثير من هؤلاء المراهقين والمراهقات. لماذا توضع هذه الصوَر المحرمة؟! لماذا توضَع في واجهاتِ الجوالات؟! ومشرفٌ يأخذ جوالاً من طالبٍ متَّهم بالتصوير ليرى فيه الوَيلات من الصوَر الفاضحات. وهذا يسرق يخطف جوال سائِق سيارة من يدِه ويهرب، فيتّصل سائق السيارة على الحرامي، ويقول: عيب عليك، صوَر بناتي في الجوال، قال: تستاهل.
عباد الله، المسألة الآن في هؤلاء المتساهلين في التصوير الذين يحتَفِظون بصوَر بناتهم وزوجاتهم وأخواتهم لتنقل بعد ذلك وُتختلس وُتنسخ وُترسل، ثم الفسادُ الذي انتشَرَ بسبَب هذا شيءٌ لا يعلمه إلا الله، القضية خطيرة، ووصلت إلى المجاهرة، فبعضهم يفعَل الفاحشَة ويصوّر وينشر الصوَر. ((كل أمتي معافى إلا المجاهرين))، ((إلا المجاهرون)) كما في رواية أخرى. بليّة عمّت، وفضائحٌ طمّت، ثم بعد ذلك تنتقل الصور لكي ُتظهر أن المجتمعَ كلّه هكذا، مع أن المجتمع فيه أخيار كثر وأفاضل كثر وأطهار كثر، لكن هكذا يُعمَّم أن المجتمع كله هكذا، ليُقال للذي ليس بفاسد: لا مناص من الفساد. محاولة إجبار الجميع على أن يكونوا هكذا.
ثم عندما نسمَع بأن هناك من خرجت عمدًا مع شبابٍ أو شابٍ وتمّ التصوير، فإننا نقول: يا عباد الله، قوا أنفسكم وأهليكم نارًا، ((كلكم راع ٍ وكلكم مسؤول عن رعيته)). فتيات في عمر الزهور يخرجن بما حباهنَّ الله به، يُشاهَدنَ في الليل من شارع إلى آخر، وعلى متن الطائرات وفي المطارات من بلدٍ إلى آخر، قد تزيّنَّ بالملبوسات الشّفافة والعطورات الجذابة التي تريد أن تقولَ للشابّ من أول وهلة مرحّبةً: أين أنت؟ تعالَ اتبعني وهلمّ، والخطوات والالتفات والحركات تدعو ورمشُ العين والإشارات، خروج الفتيات، خروج البنات، والجوالات، مع السائقين، ويريدون الآن سائِقات! وعبارات الإعجاب بعربون الصداقة والورقة والإشارة، و"البلوتوث" الذي صار يُغني عن الأوراق، ثم يقول بعض الناس: نثق في البنات، بناتي أثق بهنّ! تنصحه: يا أخي، بناتك يخرجن ـ أنت جاري ـ بمنظر لا يرضاه الله، قال: أنا واثق، واثق من ماذا؟! واثق من عقوبة الله التي ستنزل عليك لتساهلك؟! واثق بماذا؟! أين الآباء؟! أين الإخوة؟! أين العقلاء؟! أين هؤلاء الرجال؟! أين الرجولة؟! ما معنى الرجولة؟!
يا عباد الله، كمِرات وجوالات ورسيفرات ودشات، وفتيات هكذا يخرجن متبرجات! أين الغيرة؟! الغيرة: الحمية والغضب لمحارم الله، الغيرة: تغيّر القلب وهيجانه أنفة وحمية لله. ((لا أحد أغير من الله، ولذلك حرّم الفواحش ما ظهر منها وما بطن)). إن الله يغار، وغيرة الله أن يأتي المؤمن ما حرّم الله، يغار إذا رأى الناس يعصون الله.
لما أرادوا الدخول على عثمان لقتله، وأحاط به أعداؤه، جاءت امرأته نائلة ونشرت شعرها أرادت أن تستره لتحميه، قال: (خذي خمارك، فلعَمري لدخولهم عليّ ـ يعني لقتلي ـ أهون عليّ من حرمة شعرك). وعليّ بن أبي طالب لما رأى شيئًا من الاختلاط في السوق قال للناس: (ألا تستحون؟! ألا تغارون أن يخرج نساؤكم؟! فإنه بلغني أن نساءكم يخرجن في الأسواق، يزاحمن الرجال والعلوج). كان فتًى على عهد النبي عليه الصلاة والسلام حديث عهدٍ بعُرس، يستأذن النبي أثناء حفرِ الخندق في وسط النهار ليذهب إلى امرأته، ثم يرجع إلى الحفر، فوجدها واقفة بين البابين لما ذهب إليها، فأهوى إليها بالرمح مباشرة ليطعَنها به ـ أصابته الغيرة على امرأته ـ قالت: (اكفف عليك رمحك، وادخل البيت لتنظر ما الذي أخرجني)، فدخل فإذا هو بحيّة عظيمة منطوية على فراشه.. الحديث. هذا الذي تعلّق قلبه بامرأته، وليطمئنّ إليها; ليس عنده مانع أن يخترقها برمح ٍ لأنه رآها بين البابين، فما بالكم الآن؟! أين كثير من الفتيات في هذه المجمعات التجارية؟ بين البابين؟!
عباد الله، حتى بعض الكفرة الذين عندهم شيء من سلامةِ الفطرة عندهم غيرة، فما بال أهل الإسلام؟! نحن لا نوافِق على فعل بعض الكوبيّين الذين تمّ الإبلاغ في بلادهم عن اثني عشرة هجومًا بحمض الكبريتيك على بعض الأجساد التي تعرّت في الشارع غيرةً! لكن عندنا غيرة إيمانية أقوى من هذا يا عباد الله، ونرى الطرق الشرعية من النصيحة والموعظة وإنكار المنكر والقيام لله بالحجة.
الله يغار، والأنبياء يغارون، والمؤمنون يغارون، ومن عنده شهمة وغيرة يغار، بل حتى ذكور الماعز تغار والديكة والإبل والقرود يغارون، فلو جعلتَ اثنين من الديكة بين الدّجاج لرأيتَ قتالاً شنيعًا تدمي منه الريش، فكيف بالحال بين البشر؟!(68/77)
يا عباد الله، البخاري روى في صحيحه حديثًا عجيبًا يبيّن حتى الغيرة بينَ القرود، عندما روى عمرو بن ميمون الأودي ـ والحديث في صحيح البخاري ـ عن قِردٍ جاءَ بقِردة ٍ فاضطجعَ، ثم مدّ يده لها، فاضطجعت بجانبهِ، فلما نام انسلّت، وجاء قردٌ آخر فذهب معها، ـ إذًا الأول الزّوج، والثاني هو الغريب ـ، ثم شعَر زوجها فانتفض وأزعجه، ثم صارت المطاردة، واجتمعت القردة، فتجمّعت وقاموا برجمها، قال عمرو بن ميمون الأودي ـ من كبار التابعين، من تلاميذ عبد الله بن مسعود الثقة الصادق ـ يقول: وكنتُ ممن رجمها. والحادثة وقعت في اليمن في زمن النبوة. إذا كانَ هذا القِرد عنده غيرة، فما بال أهل الإيمان؟! أين ذهبت غيرتك عندما تأمر امرأتك أن تصافح أقاربَ من الرجال، وأن تجلس مع الرجال سواء كانوا من إخوانك أم لا وهي كاشفة، ينظر إليها هذا وهذا، ثم يدلي هذا بنظارته لينظر إليها ضحكت من نكتة فلان أم لا؟! لماذا تجعلها أصلاً في مجلس الاختلاط؟!
يا أخي، يا عباد الله، هؤلاء الذين يرضون لنسائهم أن يخرجنَ بالعباءات المزخرفة المزيّنة المطيّبة، هؤلاء أين الغيرة؟! هل يريدون أن يجعلوا من نسائهم لوحات فنيّة ينظر إليها الغادي والرائح، يستمتع بمنظرها غيرك؟! أين ذهبت الغيرة من الرجال الذين يسافرون بنسائهم إلى خارج البلاد إلى أماكن السفور والتعري والتبرّج؟! أين الغيرة عند الذين يتركون بناتهم يسافرن إلى بلاد بعيدة من أجل الدراسة والتعليم كما يُقال، لا محرم ولا حسيب ولا رقيب؟! أين الغيرة من الذين يتركون بناتهم وأخواتهم يسافرن المسافات الطويلة بلا محرم؟! أين الغيرة من أولئك الرجال الذين تتكلّم نساؤهم مع اللاعبين و المطربين والفنانين على القنوات الفضائيّة أمامَ الله وخلقه; لإبداء الإعجابِ بالفنان والمطرِب والمشاركة في برامج الواقع، والتصويت بالصوت المباشر لملِكات الجمال، وما يسمَّى بهذا من القبح والخلاعة؟! أين الغيرة ممن يسمح لامرأته أن تداخل مداخَلة على الهواءِ مباشرة وتكلِّم المذيع لأجل ساقطٍ من الساقطين؟! والذي يأخذها إلى السوق متبرّجة، عباءة مخصَّرة ضيّقة جدًّا، وغطاء شفاف، وعندما يناصحه مناصح يقول: أنا ما وضعتها لك، الذي يريد أن ينظر ينظر!! رجلٌ يجيء مع أخته في غاية التبرّج بهذه الأصباغ، وعندما يُنكَر عليه يقول: يا أخي لا تنظر أنت، لماذا تنظرون؟! الوقح الذي جاء بها الآن، ثم يُنكر على غيره النظر.
أعرابيّ من الأعراب في القديم لما رأى رجلاً ينظر إلى زوجتِه ويقلّب نظره فيها طلّقها! ونحن لا نقول طلِّقها لأنه لا ذنب لها، لكنّ الأعرابي طلقها، ولما عُوتب في ذلك قال:
وأترك حبّها من غير بغضٍ وذلك لكثرةِ الشركاء فيه
إذا وقَع الذباب على طعامٍ رفعت يدي ونفسي تشتهيه
وتجتنب الأسود ورودَ ماءٍ إذا رأت الكلابَ ولغن فيه
هكذا، يؤتى إلى أبٍ يُقال له: هناك فتاتان تمشيان تعاكِسان في المنتزه، يقول: أنا قلت لهم لا تروحوا بعيد!!
عباد الله، عندما نسمع هذا التساهل الفاضح وقلة الغيرة، عندما نسمع اللامبالاة، والله القلب يحترق. ثم بعد ذلك يُقال: كيف ضُبِطت فلانة مع فلان في استراحة؟! كيف ظهرت صورة فلانة مع فلان في كمِرا، في الجوّالات، في المواقع؟!
مررت على المروءة وهي تبكي فقلت لها: لمَ تبكي الفتاة؟
فقالت: كيف لا أبكي وأهلي جميعًا دون خلق الله ماتوا
عباد الله، مشية الرجل مطأطئ الرأس وامرأته بغايةِ التبرّج، وعندما ينكَر عليه يقول: أنا كلمتها يا شيخ، كلِّمها أنت!! ما هذا الضعف؟! ما هذا الخوَر؟! أين الرجولة عندما يترك الرجلُ زوجتَه تعرض لونَ الجلد على الصائغ وعلى غيره من صاحب الإكسسوارات والملابس; ليختار اللون المناسب لبشرتها؟! إذا كان زوج وزوجة في العصر العباسي لما تقدّما للشكاية، طالبته بخمسمائة دينار من صداقها، فأنكَرَ الزوج، فجاءتِ الشهود، فطلب القاضي من المرأة أن تكشفَ وجهَها للشهود ليعرفوا أنها فلانة، فقال لها ـ فقط ـ: كَفَى يا شيخ، أُعطِيها المهرَ كله؛ لأنه غار أن تكشفَ المرأة للشهود في مجلس القضاء، في شيء يجوز النظر إليه، في حال الاضطرار.
لماذا يحدث هذا؟! كثرة الذنوب والمعاصي، قال ابن القيّم: "من عواقب المعاصي أن تطفئ في القلب نار الغيرة". لماذا يحدث هذا؟! انسياق وراء العواطف، فإذا عرف وقيل له ورأى من بعض أهل بيته ما لا يرضاه الشرع لانَ والتمس الأعذار والتمس المخارج وغضّ الطرف. لماذا قلة الغيرة وانتشار المنكرات؟! سوء التربية، يتربى الصغير وينشأ وهو يرى أمه تخرج بلا ضوابط شرعية وأبوه لا يغير، وأخته تفعل ما شاءت وأبوه لا يمنع. وتأثّر بحياة الغرب، ونقدِّم اليوم سيدات المجتمع اللاتي يقلنَ: نحن من المهتمّات بالسفر والتنقل من بلد وآخر للتعرّف على الشعوب وعاداتهم وتقاليدهم. والبرامج ما قصّرت، والقنوات الفضائحية، ومناظر العري، ودعاة الفتنة، وأعداء الفضيلة. إلى من نشكو؟ إلى من نلجأ؟ والله لا ملجأ إلاَّ الله، لا ملجأ إلاَّ إلى الله، هذا دين، وهذه أعراضنا.
ـــــــــــــــــــ(68/78)
أخطاء ومخالفات في الخطوبة
...
...
3859
...
الأسرة والمجتمع, فقه
...
...
النكاح, قضايا المجتمع
...
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
...
...
الرياض
...
11/7/1425
...
...
جامع الإمام تركي بن عبد الله
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- اشتراط رضا الطرفين في عقد النكاح. 2- مشروعية النظر إلى المخطوبة. 3- ضوابط النظر إلى المخطوبة. 4- مفاسد التحدّث ومبادلة الرسائل مع المخطوبة. 5- تحذير الفتياتِ من تغرير الشبابِ الفاسد. 6- تحذير الزوجين من فتح سِجِلاّت الماضي.
الخطبة الأولى
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، إنَّ من شرطِ صِحّةِ النكاح رضَا كلٍّ من الزّوجين بصاحبِه، ومِن أسبابِ هَذا الرّضا عِلمُ كلٍّ مِنَ الزوجَين بحقيقةِ صاحِبِه فيما يَظهَر من تصرُّفاتِه وحتّى في شَكلِه الظّاهريّ، ولذا جَاءَت سنّةُ محمّدٍ تبيحُ للخاطِبِ نظرَه إِلى مخطوبَتِه وتُبيح لها نَظرَها إلى خَاطبِها، فنظرُ الخطِيبِ إلى مخطوبتِه ونظرُها إليه أمرٌ أرشَدَ إليهِ النّبيّ ، وبيَّن علَّةَ ذلك وسببَه، وأنّ النّظرَ يؤدِّي إلى تكوينِ فِكرةٍ في قَلبِ ذلك الخاطب، فيكون سببًا لالتِئامِ الزوجَين بتوفيقٍ من الله. وهذَا النظرُ الشرعيّ أمرٌ مرغَّب فيه، فلا يجوزُ للأبِ أن يمنعَ الخاطبَ منَ النّظر إلى مَن خطب لأنَّ هذا ليسَ مِن شأنِه، فرسولُ الله رغّب وأمَر أمْرَ استحبابٍ بذلك. روى المغيرةُ بن شعبةَ أنّ النبيَّ قال له: ((إذا خَطَبتَ امرأةً فانظُر إليها فلعلَّه أن يُؤدَم بَينَكما))[1]، يعني أنّ نظرَك إليهَا سَبَبٌ لأن يجعلَ الله بينك وبينها مودّةً ومحبّة، وقال لرجلٍ من أصحابِه وقد خطَبَ امرَأةً: ((انظر إليها فإنّ في أعيُنِ الأنصَارِ شيئًا))[2]، وأخبَرَ أنّ الخاطِبَ إذا نظَر إلى بعضِ ما يدعوه إلى الزواج بمخطوبتِه ولو لم تعلَم المرأةُ بذلك فلا جناحَ عليه[3]. هذا إذا كانتِ النظرةُ آتِيةً لأجلِ الخطبة، لا نظرة تَشَهٍّ وتطلُّعٍ على عوراتِ الآخرين.
أيّها المسلم، وهَذِه النظرةُ الشّرعيّة إنما تَكون بحضُورِ وَليِّ المرأةِ، سواء كان الأب أو أيّ محرمٍ لها؛ لأنَّ حضورَها مَعَ خاطبها الذِي لم يتمَّ عقد النّكاح له عليها يعتَبَر خلوةً بأجنبيّة بعيدةٍ عنه، فلا بدَّ في هذه النظرةِ أن تَكونَ نظرةً بحضورِ محرَمِ المرأة حتى نَأمَنَ مِنَ الخلوةِ بالأجنبيّة.
أيّها المسلم، هذه السنّةُ النبويّة الدالةُ على الترغيبِ في نَظَر الخاطبِ لمخطوبَتِه سنّةُ خيرٍ وهُدى، والتِزام المسلمِ لها مع الضوابطِ الشرعيّة بعدمِ الخلوة وبحضورِ محرَمها هذه هي السنّة، ولذا دلّت سنّةُ رسول الله على تحريمِ خَلوةِ الرجل بالمرأةِ التي ليست مِن محارمِه إذا لم يحضُرهما محرَم، يقول : ((ما خَلا رجلٌ بامرأة إلاَّ كانَ ثالثَهما الشّيطان))[4]، وحذّر من الدّخولِ على النّساء فقال: ((إيّاكم والدّخولَ على النّساء))، فقال رجلٌ: أرأيتَ الحَموَ يا رسول الله؟! قال: ((الحَموُ الموتُ))[5]، وحذَّر المرأةَ أن تسافرَ بلا محرَم وناشدها إيمانَها بالله واليومِ الآخر أن لا تسافرَ إلاَّ بمحرَم يصحَبُها[6] حفظًا لكرامتها وصيانةً لأخلاقها.
أيّها المسلم، ولكن للأسفِ الشديد يغلَط البعضُ من المسلمين ممّن اغترّوا بتقليد الأعداءِ وانساقوا وراءَ تلكَ الشّعارات الزائفةِ والأفكار المنحرفةِ حيث أنّ الخطيب ربما التَقَى بمخطوبتِه لُقيا غيرَ شرعيّة سببُها الاتِّصال الهاتفيّ، الرسائل الجوال، وأمثال ذلك، فمجرَّدِ الخطبة يتَّخذ بعضُ ضعفاءِ الإيمان ذلك وسيلةً إلى الاتصالِ بالمرأة المخطوبةِ والتحدُّث معها عبرَ الجوال أو الهاتف وتبادُل الرّسائل، وذا منكَر يا أخي المسلم، فإنّ هذه الاتصالاتِ والرسائلَ ربما تقرِّب بعضَهم إلى بعض، فيجري اتِّصالٌ ولِقاء وخَلوَة، وربّما وقع المحذور والعياذ بالله.
أختي المسلمة، قد يخدَعُك بعضُ الشباب، فيذكُرُ أنّه يريد خطبَتَك وسيتقدَّم لخطبَتِك لوليِّك، فيكثِر الاتصالَ، ويكثِر التحدّث، ويكثِر بَعثَ الرسائل، وما قصدُه إلاَّ خِداع ومَكر وتضلِيل وتغرير، فإن تكن الفتاةُ فتاةً مؤمنة حقًّا ذات دينٍ واستقامة ومحافظةٍ على دينها وشرفِها لم تمكِّن هذا المتطفِّل منَ الاتصالِ بها وتقول: الأمورُ تُؤتَى من أبوابها، والسنّةُ أباحتِ النظرَ عندما تدعو الحاجةَ إليه، أمّا اتصالاتٌ وأحاديثُ يوميّة، يعلِّل بعضُ أولئك أنّه يريدُ أن يكشِفَ أخلاقَها، ويريدُ أن يسبُر العلاقَةَ النفسيّة، ويريد ويريد، ويتشاوَرَان في تأثيثِ المسكَن أو المشترياتِ للزواج، إلى غيرِ ذلك من هذه العِلَل الواهية، فهذا من تزينِ الشيطان وتحسينِه الباطلَ لبعضِ ضُعفاءِ الإيمان. فلا يخدعنَّك ـ أختي المسلمة ـ ممارِسٌ في الشّرِّ ومتردِّد في الفسادِ وساعٍ في الشرّ والبلاء، إن تقدَّم خاطبًا نظَر وتكفيه النظرةُ الأولى، وأما الأحاديثُ ومبادلَة الأحاديث فذا أمرٌ ينبغي إغلاقُ بابِه إلاَّ بعد العقدِ الشرعيّ الذي يستبيح به المرأةَ المسلمة.
أيّتها المرأةُ المسلمة، كم من شبابٍ خدَعوا بعضَ الفتيات وغرّروا ببعضِ الفتيات وتجرَّؤوا على بعض الفتيات، حتّى حمَلهم ذلك الباطلُ إلى التقاطِ صورٍ لتلك الفتاة وهي تحادِثُ هذا الرجل وتلتقي به، ثمّ يجعلها وسائلَ ضغطٍ على هذهِ الفَتاةِ ليقتَنِصَها ويدمِّر أخلاقَها وفضائلها.
فيا أختي المسلمة، احذَري من هذا الضَّربِ من الناس، وأغلِقِي بابَ الاتصال، واجعلي الأمرَ يأخُذ قنواتِه المعروفة ويأخُذ طُرُقَه الشرعيّة، أمّا اتصالاتٌ ولقاءات مشبوهَة فإنّ ذلك خداعٌ لك من أولئك القوم؛ لأنّ بعضَهم لا يهدِف من ذلك سوى الإفساد، هو فاسِد في نفسِه فيريد أن ينقُلَ الفسادَ والشرَّ إلى غيره، ويفرَح مع عُشَراء السّوء بإفسادِ فتَياتِ المسلمين وإيقاعهنّ في البلاء حتى يقضِيَ غَرضَه المحرّم بأسباب هذه الاتّصالاتِ المشبوهَة.
أختي المسلِمَة، أخي المسلِم، لا بدَّ من تقوَى الله للجميع، وأن نكونَ صادقين في إخبارِنا، فإن تكن صادِقًا فقدِّم الخطبةَ لأبي المرأة، واجعَل حَديثَك مع وليِّ أمرها، وابتعِد عن هذه اللقاءاتِ والأحاديث المشبوهَة، فبإمكانِك عقدُ الزّواج وتعجيل الدخولِ فتكون على طريقةٍ واضحةٍ ومنهَج سليم بعيدٍ عن الحرام قليلِه وكثيرِه.
أيّتها المسلمة، لا بدَّ من تقوى الله ومراقبتِه، لا بدّ من أخذِ الحيطة والحذر من بعضِ أولئك الفاسقين الفاسِدين، أن لا نمكِّنَ لهم الأمرَ، وأن نحولَ بينهم وبين إجرامِهم، وأن نردَعَهم ونوقِفهم عند حدِّهم، فوليُّ الفتاةِ المسلمة يجِب أن يشعِرَها بعد الخِطبة على أنّ هذا الخاطبَ لا يزال أجنبيًّا عنها إلى أن يتمَّ العقدُ الشرعيّ، وأنَّ اتصالَها به واتصالَه بها والتحدّثَ بينهما لا يؤدِّي إلى نتائجَ طيّبة.
أخي المسلم، أختي المسلمة، كم مِن محادَثةٍ أفسدت حتَّى الخِطبة وجَلَبت على المرأةِ وأوليائِها العار، وكم محادَثةٍ جَلبَت المصائبَ والبلايا؛ أقوامٌ هم فاسِدون في أنفسِهم، متمرِّسون في الفساد، مجرِّبون لطُرُق الغواية والإفسادِ والإضلال، فيأخُذ بالهاتِف هذه الفتاةَ بأسلوبٍ معسول، ثم يقلِب المِجنَّ عليها ويبتعِد عنها، وربما تعلَّق قلبُها به فأصابها ما أصابها. إذًا فلا تعطِي الانقيادَ إلى أولئك، ودعوا الأمورَ الشرعية تأخُذ مجراها، بعدَ العقدِ الشرعيِّ يبادَر بالدخول حتى تُغلَق أسباب الشرّ، ويحرِص المسلم على الامتناع عن الشرّ والفساد، ويكون زواجُه زواجًا شرعيًّا قائمًا على أسسٍ ثابتة بعيدًا عن هذه الغواياتِ والتضليل.
فلتتَّقي اللهَ الفتاةُ المسلمة في نفسها، وليتّقِ اللهَ الشابّ المسلم في نفسه، وليتّق الله أولياءُ الرجل وأولياء المرأة، ولتكن البيوتُ مبنيّةً على زواجٍ شرعيّ بعيدٍ عن هذه التّرّهات وعن هذهِ الخداعات والأباطيل. أسأل اللهَ أن يوفِّق الجميع لما يحبّه ويرضاه.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ [محمد:33].
بارَك الله لي ولكم في القرآنِ العظيم، ونفعني وإيّاكم بما فيه من الآياتِ والذكر الحكيم، أقول قولي هذَا، وأستغفر اللهَ العظيمَ الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه أحمد (4/244)، والترمذي في النكاح (1087)، والنسائي في النكاح (3235)، وابن ماجه في النكاح (1688) نحوه، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن"، وصححه ابن الجارود (675)، وابن حبان (4043)، وهو مخرج في السلسلة الصحيحة (96).
[2] أخرجه مسلم في النكاح (1424) عن أبي هريرة رضي الله عنه نحوه.
[3] أخرجه ابن أبي شيبة (4/21)، وأحمد (3/334)، وأبو داود في النكاح (2082) عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال قال رسول الله : ((إذا خطب أحدكم المرأةَ فإن استطاع أن ينظر إلى ما يدعوه إلى نكاحها فليفعل))، وصححه الحاكم (2696)، وحسن إسناده ابن حجر في الفتح (9/181)، والألباني في الإرواء (1791).
[4] أخرجه أحمد (1/18)، والترمذي في الفتن (2165)، والنسائي في الكبرى (9219) من حديث عمر رضي الله عنه نحوه، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه"، وصححه ابن حبان (5586)، والحاكم (387)، والضياء في المختارة (98)، والذهبي في السير (7/102، 103)، وهو في صحيح سنن الترمذي (1758).
[5] أخرجه البخاري في النكاح (5232)، ومسلم في السلام (2172) عن عقبة بن عامر رضي الله عنه.
[6] روى البخاري في الجمعة (1088)، ومسلم في الحج (1339) عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال: ((لا يحلّ لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تسافر مسيرةَ يوم إلا مع ذي محرم)).
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربنا ويرضَى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبِه، وسلّم تَسليمًا كثيرًا إلى يومِ الدّين.
أمّا بعد: فيَا أيّها الناس، اتقوا الله تَعالى حقَّ التّقوَى.
عبادَ الله، إنَّ هناك فئةً من الأزواجِ ـ هدانا الله وإياهم ـ طِباعُهم سيّئة وماضيهِم سيّئ، وقد تردَّدوا في الفسادِ وطرُقه؛ لهذا ترى بعضَهم عندما يخطب الفتاةَ ويدخل بها يحاوِل فتحَ ملفٍّ عن الماضي فيقول لها: أخبِرني عن ماضيك السابِق ماذا حصل؟ التقيتِ بمن؟ ماذا عملتِ؟ مَنِ الصاحب؟ مَنِ الصديقة؟ إلى آخره، ويبني على هذا الشكوكَ في المرأةِ وكراهيّتها وربما أضرَّ بها.
يا أخي المسلم، ما مضى من ماضٍ فلستَ مسؤولاً عنه، وفتحُ الماضي والتحدُّث عن الماضِي لستَ مسؤولاً عنه، أنتَ مسؤولٌ عن المرأةِ مِن أوّل يومٍ انتقلت إليك وخلوتَ بها، فالماضي بما مضى لستَ مسؤولاً عنه، ومحاولةُ إرغامُ المرأة على أن تتحدَّثَ وربما يحمِلها على الكذب ليتَّخِذ ذلك ذريعةً للإضرارِ بها أو إيذاءِ أهلها أو استرجاعِ المهرِ من أهلها، ويكون ذا بذاءةٍ في اللسان وفجورًا في القول، وأضرُّ الناسِ من يُكرمه الناس اتّقاءَ شرِّ لسانِه.
يا أخي المسلم، لستَ مسؤولاً عن الماضي، لنَكُن جادّين في إصلاح حاضِرنا ومستقبَلنا إن شاء الله، أما أمورٌ مضَت فإنّ التحدّثَ بها ومحاولة البحثِ لا جدوى له ولا مصلحةَ منه.
يا أخي، وُجِد عند بعضِ هؤلاء الأزواجِ من يقول لها بعدَ مضيِّ سنين معها: إن لم تخبريني بماضيك فأنت طالق إلى آخره، ويهدِّدها بالطلاق لماذا؟ لأنّ شلّتَه الفاسدة أوحَوا إليه بأكاذيبَ وأباطيل أرادوا بها التفريقَ بينه وبين امرأته، ربما يكون صدقٌ في شيء، لكن الكذب والباطل هو المسيطِرُ على هذه الآراءِ الخطيرة. كريمُ النّفسِ طيّبُ الخلُق يعامِل المرأةَ بالحسنى ويسوسُها السياسةَ الشرعيّة ويتّقي اللهَ فيها، وأمّا فتحُ بابِ الشكوكِ والوساوسِ والأوهامِ الماضِية وأنتَ لا تعلم ولا علاقةَ لك به، لكن شيطانٌ أراد أن يفرِّقَ بينك وبين امرأتك، فربما أتى بأمرٍ يصدُق في واحدةٍ ويكذب في مائة ليفرِّقَ بينك وبين امرأتك ويُحدثَ شرخًا بينكما ويهدِمَ البيتَ ويقضي على الحياةِ الزوجية السعيدة.
فليتَّق اللهَ شبابُنا، وليبتعِدوا عن هذه التّرّهات، وليستقيموا على الطّاعة، وكلُّ ظنونٍ وشكوك مبنيّةٌ على غير أساسٍ كلُّها ضلالٌ وخطأ، وكلّها مبنيّة على باطل، واعلَم أن قذفَ المرأة المسلمة بما هي بريئةٌ منه كبيرةٌ من كبائرِ الذنوب، وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [النور:4، 5].
أخِي المسلم، شُلَل الفسادِ وعُشَراء الباطل احذرهم على نفسِك، واحذرهم على أهلِك وولدك، احذَرهم أن يدمِّروا منزلَك، احذرهم أن يفرِّقوا أسرتك؛ لأنهم قومٌ لا خلاقَ لهم، يحبّون الفسادَ والإفساد، ولا تهنأ نفوسُهم إلاَّ إذا فرَّقوا بين الرجل وبين امرأتِه، وربما يتَّخذونها وسائلَ ضغط على تلك المرأة ليوقِعوها في شَبَكات الفسادِ والعُهر والعياذ بالله.
فلنتّقِ الله في أنفسنا وفي عوراتِ المسلمين عمومًا، وأن لا نسعَى بالفساد والإفساد، فلعن الله من خبَّب امرأةً على زوجها، فمن أفسَدَ الحياةَ الزوجية بالأكاذيب والأباطيل فإنّه مستحقٌّ للعنة الله لأنه شيطان من الشياطين لا خيرَ فيه، إذِ المؤمن يسعَى في الخير جُهدَه ويسعى في التأليف، وَإِنْ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ [النساء:128]، أمّا أولئك الهادِمون للبيوتِ المفرِّقون بين الأزواج هؤلاء فِئةٌ ماردة وفئة فاسِدة.
أسأل الله أن يردَّ ضالَّ المسلمين للهداية، وأن يوفِّقَنا وإياكم لصالح القول والعمل، ويجنّبَنا وإياكم طريق الزّلل، إنه على كلّ شيء قدير.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أنّ أحسنَ الحديث كتاب الله، وخيرَ الهدي هدي محمّد ، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلّ بدعةٍ ضلالة، وعليكم بجماعةِ المسلمين، فإنّ يدَ الله على الجماعة، ومن شذَّ شذَّ في النار.
وصلّوا ـ رحمكم الله ـ على نبيّكم محمّد كما أمركم بذلك ربّكم، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدِك ورسولِك محمّد، وارضَ اللهمّ عن خلفائه الراشدين...
ـــــــــــــــــــ(68/79)
حتى تكون الإجازة سعيدة
...
...
3861
...
الأسرة والمجتمع
...
...
الأبناء, قضايا المجتمع
...
مازن التويجري
...
...
الرياض
...
16/4/1425
...
...
جامع أبو بكر الصديق
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- صورة الإجازة الفاشلة. 2- نعمة الفراغ. 3- التحذير من السفر إلى بلاد الكفر والفسوق. 4- دعوة لاغتنام الأوقات. 5- مقترحات ووصايا لاغتنام الإجازة. 6- شكر وتقدير لكل من يسر استثمار الإجازة.
الخطبة الأولى
أبو محمد رجل مسلم، انتهى أبناؤه من الامتحانات ولمّا يحصل على إجازة من عمله، حاول فقيل له: بعد شهر من بدء الإجازة. ومضت أيام هذا الشهر تباعًا، يأتي من عمله والأبناء نيام، فهم سهروا حتى ارتفاع الضحى، يقلّبون القنوات من قناةٍ لأخرى، وبعضهم في محادثاتٍ تطول عبر الإنترنت، أو يبحث عن مواقع تجرّه إلى الرذيلة والعار، وقبَيل العشاء أو بعده يستيقظ الأبناء والبنات، وما هي إلا ساعة تزيد أو تنقص، الأبناء مع رفاقهم، دوران وتسكّع، والبنات مع السائق من سوقٍ إلى سوق، ومن شارعٍ إلى آخر، والمطاعم ملأى، والعذر الذي يجمِع عليه الجميع وتعتذّر به الأم لأبنائها عند والدهم: معذورين في إجازة ولم يتيسّر لهم سفر. وبعد شهر تطير العائلة إلى بلاد أوربا أو أمريكا وغيرها ليبدأ الفصل الثاني من مسلسَل الضياع هناك، وبعد أيام طالت عادت العائلة الكريمة بنفوسٍ قد تلطّخت بشؤم المعصية، وأضحت أبعدَ عن خالقها وربها.
روى البخاري في صحيحة أن النبي قال: ((نعمتان مغبون فيها كثير من الناس: الصحة والفراغ)). فحصول الفراغ وكمال الصحة للعبد نعمة عظيمة، قلّ في الناس من يدركها ويستشعر فضلها، ليستثمرها فيما يعود عليه بالنفع في الأولى والآخرة، وَالْعَصْرِ إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [سورة العصر].
معاشر المؤمنين، إنّ المسلم بحاجة ماسّة إلى أن يضع له ولأفراد عائلته أهدافًا يريد تحقيقَها خاصة في زمن الإجازات التي تخلو من دراسة نظامية أو وظيفة. هذه الأهداف يسعَى للوصول إليها من خلال وسائل ومناشط متعدّدة تناسب جميعَ الأعمار، وتلبي مختلف التوجهات والرغبات. ليس عدلاً في قاموس العقلاء أن تكون الإجازة عند المسلم ضياعًا للأوقات وهدرًا للطاقات وركوبًا لأصناف المعاصي والمنكرات.
بالله عليكم، ماذا جنى أرباب السفر إلى بلاد الكفار أو بلاد الفسق والمجون إلا ضياع الدين وضعف الغيرة والحياء والجرأة على معصية الخالق سبحانه وكسب السيئات والخطايا وهدر الأموال وتبذير الثروات؟! ماذا جنى أرباب سياحة الطرب والغناء والمسارح والعروض؟! أين العقول التي ترى أن الحياة أغلى وأعظم من أن تقضى بشهوة ساعة أو أغنية ماجنة أو ترحال لبلاد لا يسمع فيها لصوت الحق مناديًا؟! أين من يثمّن الأعمار ويدرك قصر الحياة وهو يرى الموت يخطف الأرواح صغيرها وكبيرها، ولا يفرق بين سقيم وصحيح؛ ليسعى لاستغلال دار فانية قصيرة، يعقبها نعيم لا ينفد وقرة عين لا تنقطع؟!
أيها الأفاضل، نعم نحن نعلم بأنه لا خلود في هذه الدار، وأن الموت مصير كل حيّ، ولكن مشكلتنا الحقيقية هي في التطبيق، في العمل، في مجاهدة النفس. نعم، نحب الله ونتمنّى دخول الجنة، نسأل الله المراتبَ العالية فيها، ولكن أفعالنا تخالف الحقيقةَ التي نؤمن بها ومولانا الذي نحبه ونحبّ ما يقربنا له، اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ [الأنبياء:1-3].
إخوتي في الله، إن العلم لا يكفي بمفرده، والحب لا يصح إلا أن نقيمَ البراهين بالأعمال على ذلك العلم والرغبة وندلّل على الحبّ والمحبة. والدعاوي إذا لم يقيموا عليها بينات أصحابها أدعياءُ، وإلا فكل الناس يرجو النجاة، لكن أين من سلكوا طريقها؟! كلنا نسأل الله الهداية في كل ركعة من صلاتنا: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6]، لكن أين من يسعى لنيلها؟! أين من يتجاوز شهواته ويكسر حنين نفسه، ليحصّل مطلوبه وغايته، ويسابق في ميادين البر والخير؟! أما آن للآباء والأمهات أن يلتفتوا لمصالح أبنائهم في مثل هذه الأجازات؟! أن يسعوا لتزكية النفوس وغرس مفاهيم الإسلام وتعاليمه وهم يرون الفتن قد أقبلت بخيلها ورجلها تجوس خلال الديار؟! وليس أعظم من يحفظ الأبناء والبنات من فتن الشهوات والشبهات والدعاوى المضللات سوى البيت المسلم التقي النقي، وما أروع قولة العبد الصالح لابنه وهو يعظه: يَا بُنَيَّ أَقِمْ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنْ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ [لقمان:17].
وكي نتعاون معًا في الاستفادة من هذه الإجازة إليك بعض المقترحات والوصايا:
أولا: إشراك الأبناء في الدورات المكثفة لحفظ القرآن الكريم، والبنات في دُور تحفيظ القرآن الكريم المنتشرة ولله الحمد في مناطق كثيرة. في هذه الدورات يستطيع الطالب أن يحفظَ القرآن كاملاً في خمسة وأربعين يومًا أو شهر واحد. ومن أمثلة التجارب السابقة في العام المنصرم استطاع شاب حفظ القرآن في ستة عشر يومًا فقط، وآخر في ثمانية عشر يومًا، وشابّين في تسعة عشر يومًا. إنه مشروع كبير، لم لا يشارك فيه الأب وأبناءه سويًا ليروا صورة القدوة أمامهم، يتشجعوا ويتنافسوا في هذه الدورات؟! تبدأ بحفظ خمسة أجزاء إلى حفظ القرآن كاملاً.
ثم انطلقت قبلَ أعوام يسيرة دورة حفظ السنّة النبوية في بيت الله الحرام في مكة المكرمة، فيحفظ طلاب العلم صغارًا وكبارًا صحيح البخاري ومسلم خلال شهرين تزيد أو تنقص، إنجازٌ كبير وفوزٌ عظيم. وكان ممن شارك في الدورات السابقة طلاب في المرحلة المتوسطة فما فوق، ونساء حفظنَ الصحيحين في خمسةٍ وخمسين يومًا، فلمَ لا تكون ـ أيها الأب المبارك ـ هذه الإجازة أيامًا لحفظ القرآن الكريم يشار ك فيها الجميع؟! وتذكر على الدوام ما يحطم العقبات: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ [القمر:17].
ثانيًا: الدورات العلمية التي يأخذ فيها طالب العلم علومًا شتى في التفسير والحديث والفقه والعقيدة وغيرها من علماء متخصّصين في أيام قليلة وفي فترة وجيزة مما قد لا يتيسّر مثله في غير هذه الإجازات، فكم هي الأمور التي نجهلها من ديننا، لا أقول في دقائق العلم، بل في مسائل من أهم المهمات في التوحيد والفقه، لمَ لا تكون هذه الإجازة فرصةً لك للتزوّد من العلوم ولقاء العلماء والأخذ عنهم، وانطلاقةً للأبناء في طريق العلم والمعرفة؟! يُذكر مع هذا أن تقوم في مبتدأ الإجازة يزيارةٍ إلى مكتبة علمية مع أبنائك يختار كلّ ابنٍ أو بنت مجموعةً يسيرة من الكتب النافعة فيما يحبّ من فنون لتكون رفيقةَ دربه في هذه الأيام، ويحسن أن يكون هناك كتاب يقرؤه الجميع في جلسة عائليه كلَّ صباح أو مساء.
ثالثا: صقل مواهب الأبناء بإشراكهم في دورات صيفية في الحاسب الآلي أو تعليم السباحة أو الدفاع عن النفس أو دورات في التفكير وفنّ إدارة الأوقات للزوجين في العلاقات الزوجية، وهذا وغيره ولله الحمد مطروح وبكثرة، وهو يجمع بين الفائدة والترفيه في آن واحد، فاجعل في جدولك منه نصيبا.
رابعا: إشراك الأبناء في المراكز الصيفية وهي كثيرة ولله الحمد، لا على سبيل التخلّص من الابن وإلقاءِ همِّ متابعته، ولكن رغبة في الفائدة والنفع، وفي هذه المراكز تقام بعض الدورات كما سبق في المقترَح السابق، ويعتنى فيها بحفظ القران الكريم، وتقام المسابقات في حفظ السنة، ثم هي تكسر حاجز التعرّف على المجتمع والانخراط معه لدى الشابّ، وفيه يكتشف مواهبه وقدراته وينمّيها، ويلقَى من يعتني به من أهل الخير ليعينك في طريق تربيته وإصلاحه، وهي محاضن تحفظ أوقاتهم وتزكي نفوسهم وتقيهم شرّ فتن الشهوات والشبهات، شهد لها القاصي والداني من مسؤولين وآباء ومعلمين، وليس صدقا ولا عدلا أن نرضى بهذه الحملة الشعواء من قبل بعض من له توجّهات تحارب الدين والخير وتسعَى خلف غرب وشرق، وإذا ما حاصرنا كل عمل خير يرتقي بالنفوس ويصلها بربها بسبب ما تعيشه البلاد اليوم من فتن، إذًا نحن نسعى لوأد أغلى ما نملك من الدعوة إلى الدين والخلُق ورفيع المبادئ. إذا أغلقت مثل هذه المحاضن أين سيتوجه الأشبال والشباب؟! ومن سيتولّى توجيههم وتربيتهم؟! قنوات فضائية أم مواقع عنكبوتية، مقاهٍ وشوارع. الأمة بحاجة إلى أن تتكامل في مشروعها التربويّ الذي يقوم على التوسط الذي يرضاه الله، فلا غلوّ ولا جفاء.
خامسًا: الترفيه البريء لإجمام النفوس وإعادة نشاطها، وهذا لا يقدر بقدر، فأنت تعطيه ما ترى كفايته من الوقت، وجميلٌ أن يعلّق الترفيه والراحة بإنجاز عمل أو مطلوب وواجب، فإذا حفظ الجميع ما عليه من وِرد لمدّة أسبوع أو أربعة أيام قامت الأسرة برحلة خلويّة يختار مكانها المتميّزُ من الأبناء في هذا. ويجدر التنبيه هنا بأن الترفيه لا بدّ أن يكون محاطًا بإطار الشرع، فلا يسمع فيه بتجاوزات شرعية، وإنما ترفيه يجدّد النشاط ويبعث حياة الهمّة في النفوس دون أن يكون فيه معصيةٌ وما أكثرَه لو تأمّلنا.
سادسًا: السفر له طعمٌ خاصّ عند الأبناء، فيوضع في الجدول مسبقًا بعد مشاركة الجميع في تلك المناشط أو بعضها حسب ما يتّفَق عليه، فتكون هذه الرحلة الممتدة لأيام بمثابة الجائزة الكبرى أو شهادة الشكر للجميع على ما بذلوه وقدّموه، والخيارات في بلادنا كثيرة ولله الحمد.
سابعًا: المحفّزات والجوائز مطلب لنجاح برنامجك الأسري، فمن أحسن يكافَأ، ومن قصّر وأخطأ يدفع برفق ليلحقَ الركب، والدعاء بالتوفيق والتسديد والصلاح والهداية والتعلق بالله سبحانه والانطراح بين يديه والذلة له وسؤاله العون أعظم سبيل للتيسير قبل العمل وأثناءه وبعده.
ثامنًا: كيف تبدأ؟ خلال الأسبوع المقبل اجمع المطروح من تلك البرامج على الساحة من دورات علمية ودورات لحفظ القرآن الكريم والدُّور النسائية والمراكز الصيفية والمعاهد التي تقدّم الدورات المختلفة وأماكن الترفيه، ثم انظر الأصلحَ والأنفع مراعيًا ما يلي:
لا تكثر البرامج على الأبناء فيملّوا، فقليل دائم خير من كثير منقطع.
لا يكن المكان بعيدًا عن منطقة سكنك مما قد يشقّ عليك ويكون سببًا في الانقطاع إلا عند الحاجة وعدم وجود البديل القريب.
اجعل للأبناء أكثر من خيار، ثم اترك لهم مساحة للتفكير والاختيار.
بعد ذلك ضع الجدول بمشاركتهم ليكون أبلغ في تطبيقهم له.
لا تحدّد تطبيق بعض البرامج بوقت معين من الساعة كذا إلى الساعة كذا، ولكن قل: خلال شهر لا بد أن تقرأ هذا الكتاب بمعدّل ثلاث صفحات يوميًّا، واترك للابن اختيار الوقت المناسب وهكذا.
وأخيرًا صلة الرحم من أهمّ المهمّات فاجعل لها في جدولك نصيبًا وافرًا.
الخطبة الثانية
أيها الإخوة في الله، من خلال ما مضى فإنه من العدل والإنصاف أن يقال بأن أولئك الجنود الذين يقفون على تلك البرامج الهادفة من القائمين على الدورات في بيوت الله والمراكز الصيفية، بل وحتى من أقام الدورات النافعة بمردود مادّي ومن وفّر جوًّا للترفيه البريء الخالي من منغّصات المخالفات الشرعية، كل أولئك لهم منا عطر الثناء وصدق الدعاء، لا يستوون مع من فكّر وسعى وخطط وطبّق لإضاعة أوقاتِ الناس وتهيئة جو الفتنة وتيسير المعصية والرذيلة مما يعود على المجتمع وبالاً، لا يدفع إلى خير، ولا ينشر معرفة، لا يرفع المجتمع ولا يرقى بوعي أفراده، لا يكتشف المواهب ولا ينمي القدرات، بل يساهم في ضياع الشباب والشابات، ويشارك في هدم الطاقات.
أيها الأفاضل، هذا وغيره به نحفظ أبناءنا ومجتمعنا من نزغات الشيطان وحزبه وعبث العابثين، به نربط المجتمع بدينه وأمته، ونحببه لأهله ومجتمعه، به نحفظ عقول الشباب من واردات الهوى وأمراض الشهوات والشبهات، به يعرف أبناء المجتمع ماذا نريد منه وماذا يريد منا، نفتح له آفاقًا لخدمة أمته وبلده، به نكتشف المواهب والقدرات وننميها ونحفظها ونصقلها.
وخاتمة المقال قول رب العالمين سبحانه: وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا وَالنَّهَارِ إِذَا جَلاَّهَا وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:1-10].
ـــــــــــــــــــ(68/80)
احترام الكبير
...
...
3864
...
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
...
...
قضايا المجتمع, مكارم الأخلاق
...
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
...
...
الرياض
...
18/7/1425
...
...
جامع الإمام تركي بن عبد الله
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- غفلة المسلمين عن أخلاق دينهم. 2- حثّ الإسلام على احترام الكبار. 3- تحذير الشاب من الاغترار بقوته وفتوّته. 4- صور من ازدراء الصغار للكبار. 5- تأكد احترام ذي الشيبة من ذوي الأرحام. 6- تربية الأبناء على احترام الكبير. 7- خُلُق النبي .
الخطبة الأولى
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، في شريعتِنا الحنيفيّة السّمحة أخلاقٌ عالية وأدَبٌ عظيم وفضائلُ عِدّة، لكنّ المصيبةَ غفلةُ كثيرٍ من المسلمين عن هذه الأخلاقِ والِقيَم وتناسيهم لها وعدم عَمَلهم بها، فينشأ النشءُ من غير أن يقيمَ لتلك الأخلاق وزنًا، وكان المطلوبُ منا جميعًا أن نربِّيَ نشأنَا التربيةَ الإسلاميّة الصحيحة على الأخلاقِ الإسلامية والقِيَم الإسلامية التي يسعدُ بها الفَرد في حياته وآخرته.
شريعةُ الإسلام جاءت بما يقوِّي الروابطَ بين أفراد المجتمَعِ صغيرِه وكبيره، غنيِّه وفقيره، عالِمِه وجاهِله. جاءت بما يقوِّي تلك الأواصرَ حتى يكون المجتمع المسلِم مجتمعًا مثاليًّا في فضائلِه وقِيَمه، وفي شريعة الله كلُّ خير وهدًى، يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ [يونس:57].
أيّها المسلم، من تِلكُم الآدابِ العظيمة ما جاءت به الشريعةُ مِن حثِّ الصغار على احترامِ الكِبار وأمرِ الصّغار بإجلالِ الكِبارِ وتعظيمِهِم والرِّفقِ بهم وعَدمِ التّطاوُل عليهم أقوالاً وأفعالاً. هذه شريعةُ الإسلام تدعو المسلمَ إلى أن يكرِمَ أخاه المسلمَ الذي تقدَّمَه سِنًّا وسبقه في هذه الحياةِ، تدعوه إلى أن يحترمَه ويكرِمَه ويراعيَ له كِبَرَه وسابِقَتَه في الإسلام، فيجِلّ الكبيرَ ويحترمه، ويعرِف له قدرَه ومكانته، والكبيرُ مأمورٌ برحمةِ الصِّغار والعطفِ عليهم والرِّفق بهم والإحسانِ إليهم. هذه المنافعُ المتبادَلَة بين أفرادِ المجتمَعِ المسلِم تثبِّت أواصِرَ الحبِّ والوئام بين الجماعةِ المسلمة.
أيّها المسلم، إنَّ نبيَّنا محمَّدًا حثَّنا على هذا الخلقِ الكريم ورَغَّبنا فيه، فأوّلاً: يبيِّن لنا نبيُّنا أنَّ مَن أحسن إلى الكبيرِ في الدنيا هيَّأ الله لذلك المحسِنِ عند كِبَر سنِّه ورقَّةِ عَظمه من يجازيه بهذا العمَلِ الصّالح، فيقول : ((مَا مِن مسلمٍ يكرِم ذا الشَّيبةِ إلاَّ قيَّض الله له من يكرِمه في سِنِّه))[1]، فإذا أكرمتَ ذا الكِبَر لسنِّه قيَّض الله لك في حياتِكَ من يجازيك بمثلِ ما عمِلتَ، فيكرمُك ويحسِن إليك.
ونبيُّنا يخبرنا أنّ إكرامَنا لمن هو أقدمُنا سِنًّا أنّ ذلك من تعظيمنا لربِّنا وإجلالنا لربِّنا، يقول : ((إنَّ مِن إجلالِ الله إكرامَ ذي الشَّيبةِ من المسلمين وحامِلِ القرآن غيرِ الغالي فيه والجافي عنه وذي السلطانِ المقسِط))[2]، فمن إجلال الله أن تكرمَ هؤلاء الثلاثة: ذو الشيبةِ من أهل الإسلام، تكرِمه، ترحَم كِبَره، تخاطبه بخطابٍ ليِّن، تقضي حاجتَه، تعينه على نوائِبِ الدنيا، تعرِف له كِبَره وضعفَ قوّته وعجزه عن التصرُّف، فكلُّ هذه الأمور تكون في فِكرِك، فتعامِل ذا الشّيبةِ المعاملةَ الطيّبة التي تنمّ عن رحمةٍ وأدَب حسَن. ثانيًا: من كان حامِلاً لكتابِ الله الحملّ الشرعيَّ، ليس غاليًا فيه، فإنّ الغالي في القرآنِ يخرج به غلوُّه عن المنهَج والطريق السويِّ كما خرج بفرقةِ الخوارج الذين ساءَ فهمُهم للقرآن وقَلَّ وعيُهم وإدراكهم حتى استحلّوا دِماءَ المسلمين، كفَّروهم واستحلّوا دماءَهم وأموالهم، والغالي في القرآن تراه متكبِّرًا على غيره مكفِّرًا لغيره معتقِدًا ضلالَ غيره بلا فِكرٍ ولا رَأي مُصيب، أو الجافي عنه الذي حمَله فعطَّل العملَ به ولم يقم بحقوقِه، عافانا الله وإيّاكم من ذلك. وذو السلطان المقسِط العادِل تكرمه لإمامتِه وقيامِه بشأن رعيَّته.
أيّها الشابّ المسلم، في شبابِك حيويّة وقوّةٌ شبابيّة، ترى نفسَك وأنت ممتَّع بسمعك وبصرِك وسائرِ قوَّتك، يمرُّ بك ذو الشّيبة من المسلمين فما ترعى له حقًّه، لا تسلِّم عليه أحيانًا، ولا تقدِّر له قدرَه، وربما ضايقتَه في الطريق، وربما سخِرتَ منه، وربما استهزأتَ به، وربما عِبتَه، وربما قلتَ وقلت.
أيّها الشابّ المسلم، ولئن كنتَ ممتَّعًا الآن بقوَّتك فتذكَّر بعد سنين وقد ضعُفت تلك القوّة وعُدتَ إلى ضعفِك القديم، اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ [الروم:54]، لئن كان هذا المارُّ بك شيبةً قد أمضى سنينَ عديدة فاعلم أنّك بمضيِّ السنين ستكون حالُك مثلَ حالِه. إذًا فأكرِم ذا الشيبةِ، واعرف له قيمتَه ومكانته، إيّاك أن تستطيلَ عليه بلسانك احتقارًا له وسخريّةً به، إيّاك أن تترفَّع عليه لكونِك ذا علمٍ وفِقه وثقافة فترى ذا الشيبةِ أقلَّ شأنًا من ذلك، بل تزدريه وتحتقِره لعلمك وحيويَّتك ولكِبَره وقد يكون لجهله، إيّاك أن يغُرَّك جاهك أو يخدعَك منصِبك أو يغرّك كثرةُ مالك، فارفق بمن هو أكبرُ منك سنًّا ليدلَّ على الأدبِ الرفيع في نفسك.
الأدبُ إخوتي الشباب، الأدب الإسلاميّ خُلُق يتخلَّق به المسلم، يقودُه لكلِّ فضيلة، وينأى به عن كلِّ رذيلة.
أيّها الشاب المسلم، إنَّ نبيَّنا يروَى عنه أنّه أخبر أنّ إهانةَ الشيخ الكبيرِ والعالِمِ وذِي السلطان أنَّ إهانتَهم وعدَمَ احترامهم دليلٌ على ما في القلبِ من نفاق[3]، فارفق بذي السِّنّ أيّها الشابّ المسلم، وأكرم ذا السّنّ، أكرمه واحترِمه وأعطِه قدرَه، ألا ترى اللهَ جلّ وعلا يرغِّبك في أبويك عند كِبَر سنِّهما فيقول لك: إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنْ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا [الإسراء:23، 24]؟! كم من شيخٍ كبيرٍ إن تحدَّث في مجلِسٍ نظر إليه الشّباب نظرةَ الازدِراء والاحتقارِ، يرَونَ كلامَه غيرَ صحيح، ويرَونَ رأيَه غيرَ صائب، ويعدّونه عِبئًا وثُقلاً عليهم، وما علِموا أنَّ هذا الذي أمضى عمرًا في طاعةِ الله وفي القيامِ بما أوجب الله أنّه أفضلُ وأعلى منهم منزلةً.
أيّها الشابّ المسلم، نبيّنا يقول لنا: ((ليس منَّا من لم يوقِّر كبيرَنا ويرحَم صغيرَنا))[4]، ونبيّنا إذا تحدّث عنده اثنان في أمرٍ ما يبدَأ بأكبَرهما بالحديث ويقول: ((كبِّر كبِّر))[5]، يبدأ الأكبرُ قبلَ أن يبدأَ الأصغر. هكذا خلُق الإسلام، وهكذا رُبِّي المسلمون على هذه التربيةِ العظيمة، أن يحترِمَ صغارهم كبارَهم، وأن يرحَمَ كبارهم صغارَهم، وأن تتبادلَ المنافع بين الجميع ليكون المجتمع المسلم مجتمعًا مترابِطًا متعاونًا على الخير والتقوى.
أيّها المسلم، لا سيّما رحمك، فالرّحِم لهم حقُّ الصِّلة، فكبارهم يجب أن تحترِمَه لرَحمِه أوّلاً ثم لكِبَر سِنّه ثانيًا، تقدِّره وتقدِّمُه وتربِّي الصغارَ على احترامِ الكبار، لا تدَع الصغيرَ يتخطَّى حدَّه، ولا تدع الصغيرَ يبسط لسانَه بالبذاءةِ أو السخرية، ولا تدع الصغيرَ يتقدَّم على الكبير، بل ألزِمهم الأدبَ الحسَن ليعرفَ بعضهم قدرَ بعض، وهكذا الأبناءُ أيضًا، أبناؤُك تربِّيهم على هذَا، ليكونَ صغيرهُم محترِمًا لكبيرهم، وليكن كبيرهم رفيقًا بصغيرهم، فإذا علِم الأبناء منك أنَّك تقدِّم الأكبرَ فالأكبر وتربّيهم على هذا الخُلُق نشؤوا وقد ألِفوا تلكمُ الأخلاقَ العالية، لكن مصيبتُنا للأسفِ الشّديد أنَّ كثيرًا من مجالِسِنا نرى صِغارًا في صدورِ المجالس وكِبارًا في أقصاها، ونرى شبابًا تستطيلُ ألسنتهم على الكبار، ونرى شبابًا لا يعرِف للكبير أيَّ قدرٍ ولا أيَّ مكانة، لا يرى له قدرًا، قد يلمِزه بجهله، وقد يلزمه بضَعف رأيه، وقد يلمزه بقِلّة علمه، وقد يلمِزه بعدَم نظافةِ ملبَسه، وقد وقد.. كلُّ هذه التّرَّهات لا يجب أن تحمِلك على إهانةِ الكبير، بل قدِّر الكبير وعظِّمه وأظهر لأولادك عندما يزورون معك رحِمًا أنّك تقدِّم الأكبرَ فالأكبر. وكم سلك هذا المسلكَ بعضُ من أريدَ لهم خيرٌ مِن أُسَرٍ كريمة، فلا تكاد تعرِف أعمارهم إلاَّ إذا رأيتَ الكبير متقدِّمًا على من دونه ولو كان الكبير أقلَّ مرتبةً ممن هو دونه، لكن يعرِفون للكِبَر حقَّه، ويجلّون الكبيرَ، ويتربَّى النشءُ على هذه الفضائلِ العظيمة.
فكونوا ـ إخوتي ـ على هذا الأدبِ العظيم، ربُّوا أولادَهم على احترام الكبار، سواء من ذوي الرحم أو من ذي غَيرهم، وعلِّموهم الأدَبَ الحسن والقولَ الطيِّب في التعامل مع الآخرين، فتلك أخلاقُ الإسلام التي إن اعتنينا بها حقًّا نِلنا السعادةَ في الدنيا والآخرة.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا [الأحزاب:21].
بارَكَ الله لي ولَكم في القرآنِ العظيم، ونفعني وإيّاكم بما فيهِ منَ الآياتِ والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفِر الله العظيمَ الجليل لي ولَكم ولسائِرِ المسلمينَ من كلّ ذنب، فاستغفروه وتوبُوا إليه، إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] رواه الترمذي في البر (2022)، والعقيلي في الضعفاء (4/375)، والطبراني في الأوسط (5903)، وابن عدي في الكامل (3/27، 7/279)، والبيهقي في الشعب (7/461) من حديث أنس رضي الله عنه بمعناه، وقال الترمذي: "هذا حديث غريب، لا نعرفه إلا من حديث هذا الشيخ يزيد بن بيان"، وضعفه أيضا الذهبي في السير (15/31)، وهو في السلسلة الضعيفة (304).
[2] أخرجه أبو داود في الأدب (4843)، ومن طريقه البيهقي في الكبرى (8/163) عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، وحسنه النووي في رياض الصالحين (173)، وابن حجر في التلخيص الحبير (2/118)، والألباني في صحيح الترغيب (98). وقد أخرجه البخاري في الأدب المفرد (357)، وابن أبي شيبة (6/421) عن أبي موسى موقوفا، قال ابن عبد البر في التمهيد (17/430): "وقد روي مرفوعا من وجوه فيها لين".
[3] رواه الطبراني في الكبير (8/202) عن أبي أمامة بلفظ: ((ثلاثة لا يستخف بحقهم إلا منافق: ذو الشيبة في الإسلام وذو العلم وإمام مقسط))، قال الهيثمي في المجمع (1/127): "رواه الطبراني في الكبير من رواية عبيد الله بن زحر عن علي بن يزيد وكلاهما ضعيف"، وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة (7/245).
[4] رواه أحمد (1/257)، والترمذي في البر (1921)، وعبد بن حميد (586)، والطبراني في الكبير (11/72، 449)، والقضاعي في مسند الشهاب (1203) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب"، وصححه ابن حبان (458، 464). وفي الباب عن عبد الله بن عمرو وأبي هريرة وأنس بن مالك وأبي أمامة وعبادة بن الصامت جابر وواثلة بن الأسقع رضي الله عنهم.
[5] رواه البخاري في الجزية (3173)، ومسلم في القسامة (1669) من حديث سهل بن أبي حثمة رضي الله عنه.
الخطبة الثانية
الحمدُ لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مُباركًا فيهِ كَمَا يحِبّ ربّنا ويَرضَى، وأَشهَد أن لاَ إلهَ إلاَّ الله وحدَه لا شريكَ له، وأشهَد أنّ محمّدًا عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وصَحبه، وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أمّا بعد: فيا أيّها النّاس، اتَّقوا الله تعالى حقَّ التَّقوى.
عباد الله، محمّدٌ سيِّد الأوّلين والآخرين كان في تعامُله مع أهله وغيرِهم على أكمَلِ خُلُقٍ وأعلى أدَب وأشرف معاملة، فصلوات الله وسلامه عليه، وصدق الله: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4].
تذكُر عائشة أمُّ المؤمنين رضي الله عنها شيئًا من هذا فتقول: ما رأيتُ أحدًا أشبَهَ برسول الله سَمتًا ولا هَديًا مِنِ ابنتِه فاطمة رضي الله عنها، قالت: وكانت إذا دَخَلت على النبيِّ قام لها وقبَّلها وأخذ بيدِها وأجلسَها مجلِسَه، وكان إذا دَخَل عليها تقوم لأبيها النبيّ وتقبّله وتُقعِده في مجلسها رضي الله عنها وأرضاها[1].
ونبيُّنا يعلِّمنا أيضًا في أهمِّ شيء وهي الصلاة فيقول: ((ليَلِني منكم أولو الأحلام والنهى ثم الذين يلونهم))[2]، أي: ليكن من يلِي الإمامَ ذو الأحلام والنهى، ذو العلم والكِبَر في السن.
أحَدُ الصحابة كان يصلِّي، فرأى مع أحدِ الصحابة ابنًا له فأخَّره عن الصفِّ الأول، وكأنّه رأى الأبَ قد تغيَّر، فقال: يا أخي، هذه سنّة محمّد [3].
إنَّ هذا الاحترامَ الصادِر من المسلمين بعضهم لبعض دليلٌ على الخيرِ في نفوسهم ودليلٌ على التربيةِ والتنشئَة الصالحة التي ترَبَّى عليها الأجيال التربيةَ النافعة، وما أحوَجَنا لهذه التربية النافِعَة التي تسود مجالسَنا وأماكنَ تجمُّعاتنا أن يكونَ الصغار يعرفون قدرَ الكبار ويجلّون الكبار، يقدِّمونهم مجلِسًا، ويقدِّمونهم جلوسًا، ويبدَؤون بهم، ويستشيرونهم، ويُصغون إليهم، ويورونهم التقديرَ والإجلال، هكذا أدَبُ الإسلام الرّفيع الذي إن تمسَّكنا به نِلنَا السعادةَ في الدنيا والآخرة.
واعلَموا ـ رحمكم الله ـ أنّ أحسَنَ الحديث كتابُ الله، وخيرَ الهديِ هَدي محمّد ، وشرَّ الأمور محدَثاتها، وكلّ بدعةٍ ضلالة، وعليكم بجماعةِ المسلمين، فإنّ يدَ الله على الجماعةِ، ومن شذَّ شذَّ في النّار.
وصلّوا ـ رحمكم الله ـ على نبيكم محمّد كما أمَرَكم بذلك ربّكم، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىّ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمَّ صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدِك ورسولِك محمّد، وارضَ اللهمّ عن خلفائه الراشدين...
[1] رواه البخاري في الأدب المفرد (971)، وأبو داود في الأدب (5217)، والترمذي في المناقب (3872)، والنسائي في الكبرى (5/96، 392)، وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (2969)، والبيهقي في الكبرى (7/101)، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه"، وصححه ابن حبان (6953)، والحاكم (4732، 7715)، وهو في صحيح سنن أبي داود (4347).
[2] أخرجه مسلم في الصلاة (432) عن أبي مسعود البدري وعن ابن مسعود رضي الله عنهما، وهما حديثان، وقد عُدّا في طبعة محمد فؤاد عبد الباقي رحمه الله حديثا واحدا.
[3] ينظر من أخرجه.
ـــــــــــــــــــ(68/81)
مهمّة التعليم
...
...
3868
...
الأسرة والمجتمع, العلم والدعوة والجهاد
...
...
الأبناء, التربية والتزكية
...
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
...
...
الرياض
...
25/7/1425
...
...
جامع الإمام تركي بن عبد الله
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- فضل نعمة العلم. 2- وجوب شكر الله تعالى على تيسير سبل العلم. 3- حث الطُّلاب على الجد والاجتهاد. 4- كلمات توجيهية للمعلمين والمعلمات. 5- التحذير من الأفكار الضالة والانحرافات السلوكية. 6- مسؤولية الآباء. 7- مهمة تربية النشء. 8- الإسلام يدعو إلى العلم النافع. 9- نقد فكرة: "العلم وسوق العمل".
الخطبة الأولى
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، العِلم نعمةٌ من الله يهَبُها لمن يشاء من عبادِه، فضلٌ يتفضَّل الله به على من يشَاء من عبادِه، ملائكةُ الرحمن يقولون: سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ [البقرة:32]، ويقول جلّ وعلا: عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ [العلق:5]، ويمتنُّ بالعلم على العِبادِ بقولِه: وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمْ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [النحل:78].
العِلمُ يدعو إلى خشيةِ اللهِ ومخافتِه، إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ [فاطر:28]. العلم شَرفٌ لأهله ورِفعة لهم في الدّنيا والآخرة، يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ [المجادلة:11]. العالِم والجاهِل ليسوا على حدٍّ سواء، قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [الزمر:9]. استشهَدَ الله بالعلماءِ على أعظمِ مشهودٍ عليه وهو توحيدُه وإخلاصُ الدّين له، شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [آل عمران:18]، وفي الحديث: ((من سلَكَ طريقًا يلتمِس فيه علمًا سهَّل الله له به طريقًا إلى الجنّةِ))[1].
أيّها الإخوَة، غدًا يوم السّبت السادِس والعشرين من رجَب من عام خمس وعشرين وأربعمائة وألف، يتوجّه أبناؤنا وبناتنا إلى مراحِلِ التعليم المختلفة مِن جامعيّين وما دونها من التعليم الثانوي فالمتوسّط فالابتدائي، نرجو من الله أن يكونَ عامَ خيرٍ ونعمة للجميع.
فبهذه المناسبةِ العظيمة أذكِّر أبناءَنا وبناتنا نعمةَ الله عليهم إذ يسَّر لهم سبيلَ الحصول على العِلم، وهيّأ لهم تلك المراحلَ المتعدِّدة يؤمُّونها، وكلٌّ في بلدِه ما يكفيه من مراحِلِ التعليم، وتلك نعمةٌ منَ الله على العباد أن يقصِدَ هذا العدَد الكبير من أبنائنا وبناتنا في أرجاء هذه البلادِ العزيزة مراحلَ التعلم، وقد شُرِعت لهم أبوابها، ويُسِّر لهم سبيل الوصولِ إليها والالتحاق بها، فتلك نعمةٌ عظيمة يشكر العبدُ عليها ربَّه جلّ وعلا. فلقد كانت تُشدّ الرحالُ إلى العلم ويطلَب من أقاصي الدنيا، واليومَ والبلاد تعمُّها مراحل التعليمِ المختَلِفة، وكلٌّ يجد في بلدِه أو بالقربِ منه مراحلَ التعليم التي يحتاج إليها. فلنشكر الله على هذه النّعمةِ وعلى هذا الأمنِ والاستقرارِ وتسهيلِ المهمّات، فللَّه الفضلُ والمنّة أوّلاً وآخرًا.
أيّها الابنُ الكريم، أيّتها الفتاةُ العزيزة، إذا كانَت مراحِلُ التعليمِ قد يُسِّرَت سبُلُها وذُلِّلت الصّعابُ أمامَ أبنائِنا وبناتنا فما عَلى أبنائِنا وبناتِنا إلاَّ الجدُّ في التّحصِيلِ، الجِدّ وبذلُ الوُسعِ في التحصيل العلميّ؛ ليتزوَّدوا عِلمًا ومعرِفة.
أحذِّر أبناءَنا وبناتِنا منَ الكسَل والخمولِ والتَّسكُّع في الطّرقات وتَضييعِ هذه الفرصةِ حتى يمضيَ سنون عديدةٌ وما استفادَ الطالِب عِلمًا، تمرُّ بِه مراحِل التعليم وبينما يحتاج إلى ثلاثِ سنواتٍ ما قد تكون ستَّ سنَوات، لماذا؟ كسَلٌ، خمولٌ، وتسكّع في الطرق، اشتغالٌ بما لا ينفع، تضييعُ الفرَص النافعة حتى تَمضيَ زهرةُ شبابِه وما استفادَ عِلمًا ولا تحصيلا.
عارٌ عليك ـ أيّها الشاب المسلم وأيّتها الفتاة المسلمة ـ أن تمضيَ مراحلُ التعليم وقد جعلتَ كلَّ مرحلةٍ مرحلتين وكلَّ عامٍ عامين بلا سببٍ يقتضي ذلك، لكنّه الكسَلُ والخمول. إنّ هناك فئاتٍ من النّاس قد يثبِّطون طُلاّبَنا وطالباتِنا عن التعليمِ، يثبِّطونهم ويُضعِفون مِن عزائِمِهم ويفُتُّون في عضُدِهم ويدعونهم إلى الكسَلِ والخمولِ وإلى الذّهابِ هنا وهناك، سهرٌ في اللّيل طويل على غيرِ هدًى، وملتقى على غيرِ منفعة، ثمّ يأتي للمدرسة ونحو ذلك فارغَ الذهب قليلَ المعرفة، لا رغبةَ عنده، ولا ميولَ إلى الاستفادة، وإنما قد يأتي خوفًا من الأبِ أو الأم أو مساءلةِ المدرسة. عارٌ عليك ذلك ونقصٌ في حقِّك وأنت مؤهَّل فكريًا مؤهّل للعلم، لكن الخمول والكسَل يخيِّم على البعض ودعاةُ الفساد والتضلِيل ومن يريدون صرفَ أبنائنا وبناتِنا عن التزوُّد بالعِلم النافع ويدعونهم إلى البُعد عن ذلك؛ ليعيشوا جهلاً إلى جَهلهِم، وتمضي أيّامُ الشباب وما استفاد ذاك الشابّ ولا تلك الفتاة من ذلك العمُر خيرًا.
إذًا فعلى الجميعِ أن يستقبِلوا العامَ الدراسيَّ بكلِّ جدٍّ ونشاط وتحصيلٍ علميّ، فالأمّة بأمسِّ الحاجة إلى أبناء وبنات لديهم الفهمُ والتحصيل النافع؛ ليساهموا في بناء هذا المجتمعِ المسلم على أسُسٍ من الأخلاق والفضائلِ والعلوم النافعة.
إنَّ الأمّةَ تُقاس حضارتها بفُشُوّ العلم بين أبنائها، فالعِلم في المجتمعِ هو مِقياس تقدُّمه ورقِيِّه وكونه مجتمعًا نافعًا.
أيّها المعلِّم الكريم، أيّتها المعلّمة الكريمة، إنَّ خطابي معكَ أيّها المعلم ومعكِ أيّتها المعلمة لأذكِّر نفسِي وأذكِّر الجميعَ بالأمانةِ الملقَاة على كاهِلِ الجميع، فأنتَ ـ أيّها المعلم ـ مؤتَمَن، نعَم مؤتَمَن وعلى أيّ شيء؟ على فلذاتِ الأكباد، علَى عدّةِ المجتمع وأمَلِه بعد الله، على هَذا الجيلِ أنتَ مؤتَمَن حقَّ الأمانة.
أيّها المعلم، إذًا اعرِف مسؤوليّتَك، واستحضِر واجبَك، واعلم أنّك مسؤولٌ أَمامَ الله قبلَ كلِّ شيء، مسؤول عن هذه الأمَانةِ التي حَمَلتَها، هل حَمَلتها بحقٍّ فتكونَ ممن أدّى الأمانةَ، أم حملتَها بغيرِ حقٍّ وبكسَل وخمول فتكونَ ممّن خُنتَ تلك الأمانة؟
أيّها المعلم، أيّتها المعلمة، إنَّ أبناءَنا وبناتِنا يَرقُبون سُلوكَ ذلك المعلِّم وسُلوكَ تِلك المعلِّمة، يرقُبُون الأقوالَ والأخلاقَ والسّلوكَ والتّصرُّفات، فإن يكن ذلكَ المعلِّم رجلاً صالحًا مهذَّبَ السّلوك مهذّبَ القَول، إن تكلَّم تلفَّظَ بخَير، وإن تَصرَّف فتصرُّفٌ حسَن، مَظهرُه إسلاميّ، وأقوالُه طيّبة، وأعمالُه حَسَنة، يربِّي الجيلَ تربيةً صالحة، يغرِس في قلوبهم حُبَّ الله وحبَّ رسولِه وتعظيمَ دينِه وتعظيمَ الأوامِر وتعظيمَ النّواهِي، إن تكلَّم فالأقوالُ حَسَنة، فليسَ بالسّبَّابِ ولا باللَّعّان ولا بالفَاحِش ولا البذيء، منضبِطٌ أداءً ووقتًا، فالأمانةُ العلمية تقتضي منه أداءَها على المطلوب، وتقتضي أن يؤدِّيَ الوقتَ المحدَّد على المطلوبِ، وتقتضي أن يكونَ مِثاليًّا في انتظامِهِ في العمَل والسّلوكِ الحسن. إنّك قدوةٌ فأحسِن القُدوةَ، يقتدي بك أولئكَ النّشء، يسمَعون كلامَك، ويرَونَ مظهَرَك وتصرُّفاتِك وانضبَاطَك في الزمَنِ، فيكونون نقَلةً لكلّ تصرّفاتك، فهم مرآةٌ تعكِس أخلاقك وأعمالَك، فاتّق الله أيّها المسلم، اتّق الله في نفسِك تقوًى تحمِلك على أداء الأمانة والقيامِ بالواجب وتربيةِ هذا النشءِ تربيةً إسلامية صالحة مبنيّةً على أسُسٍ من الأخلاقِ والقِيَم والفضائل.
أيّتها المعلمة، بناتُنا يُصغون إليك، وينظرون حركاتِك وتصرّفاتك، فاتّقي اللهَ أيّتها المعلمة، وكوني قدوةً صالحة لهنّ في السلوك والمظهَر الحسَن، إيّاك أن يكونَ المظهَر سيِّئًا؛ من سفورٍ، من تبرّج، من عَدَم عِفّة في الملبس، من أقوالٍ سيّئة، فتنقل الفتاة الصغيرةُ عنك كلَّ ما عمِلت وقلتِ.
فليتَّق الجميع ربَّهم في تربيةِ نشئِنا من بنينَ وبنات، وليكن الجميعُ مراقبًا لأمرِ الله، مراقبًا الله في ما يأتي ويذَر.
أيّها المعلِّم، أيّتها المعلِّمة، إنَّ الأمّةَ تعصِف بها أفكارٌ سيِّئة، سببُها حَمَلاتٌ شرِسَة من لدُن أعداءِ الإسلام؛ ليفرِّقوا كلِمةَ الأمّة ويشتِّتوا شملَها ويَفتُّوا في عضدِها، فلا بدّ لرجالِ العلم والتربية ذكورًا وإناثًا أن يساهِموا في تخليصِ الأمّة من هذه الدّعوات المضلِّلة. أفكارٌ سيّئة ما بين غلوٍّ مشين وما بين جفاءٍ قبيح، فلا بدّ للمعلّم والمعلّمة من علاجِ هذا الفكر المنحرِف، سواءً كان من طريق الغلوِّ المذموم أو من جانبِ الجفاء الممقوت، فلا بدَّ أن نريَهم الحقَّ والطرِيقَ المستقيم ليسيروا عليه.
أبناؤنا وبناتُنا كم يشاهد الجميع بعضَ القنوات الفضائيّة التي تحمِل في طيّاتها إلحادًا وانحرافًا عقديًّا وسلوكيًّا ودعواتٍ مضلِّلة تشكِّك الأمة في ثوابِتها ومسلَّماتها. لا بد لذي العلمِ والتعليم عندما يشعُر عن بعض أبنائنا أو بناتِنا شيئًا من هذه الأفكارِ المنحرِفة أن نعالجَها بفكرٍ سليم صحيح، نصحِّح المسار ونطهِّر القلوبَ من أدران هذه الضّلالات والغوايات.
أيّها المعلِّمون رجالاً ونساء، أبناؤُنا بعضهم قد يكون تهيَّأت له الفرَص فذهب هنا وهناك واطَّلع على عالِم خارجيٍّ وشاهد من الإعلامِ في الصحافة والتلفاز وغيره والمنتديات وغيرها شاهدَ أمورًا عجيبةً وأمورًا غريبة عليه وعلى بيئته، وقد يكون متأثِّرًا بها، وقد تسمعه يتحدَّث عمّا رأى وما شاهد ومعجبًا ببعض الأمورِ التي هي ضارّة ولا بدّ، إذًا فلا بدّ لرجال التعليم من أن يستأصِلوا تلك الأفكارَ الخاطئة، بأن يوضِحوا لهم شريعةَ الله ويبيِّنوا لهم المنهجَ المستقيم، وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ [الأنعام:153].
أيّها المعلِّم، قد يكون عند بعضِ أبنائنا تبادُل لأشرطةٍ أو مقالاتٍ وأفلام هابطة، وقد تشعُر بشيء من هذا، فحاوِل من خلال تعليمِك أن توصيَ الجميعَ بتقوى الله، وأن تحذِّرهم من هذا الانحرافِ الفكريّ، الانحراف السلوكيّ أو الانحراف العقديّ، لتضَعَهم على الطريق المستقيم.
إنّ هذه الثوراتِ الإعلامية لن يستطيعَ أحدٌ إيقافَ زحفها ولا السيطرةَ عليها إلاَّ بفكرٍ سليم يغرِس في قلوب أبنائنا وبناتِنا حبَّ الخير والبعدَ عن الشر والفساد؛ إذ تلك القنواتُ الضالة التي تنقل في شاشاتِها كلَّ بلاءٍ ومنها ما يصوِّر الأشياءَ الضارّة والأخلاق الهابِطة فلا بدّ من فكر سليمٍ يحمله رجالُ العلم ذكورًا وإناثًا إلى شبابِنا من ذكور وإناث، ليوضِحوا لهم الحقَّ ويهدوهم الطريقّ المستقيم ويقابلوا الأفكارَ السيّئة بالأفكار السليمةِ المستقيمة، فالأمّة بأمسّ الحاجة إلى فهمٍ ووعي صحيح لهذه الأمورِ المخالفة ومعالجتِها بالفكرِ السليم الناضج المبنيِّ على الكتاب والسنة.
أيّها الأخ العزيز، أيّها المعلم العزيز، لا بدّ من جهادٍ في سبيل الله بدعوةٍ إلى الله وتبصيرِ النشء وحثِّهم على الخير حتى يسمَعوا ويقبلوا منك، فكلماتُك مقبولة، تسمعُها الأذُن، ويعيها القلب. فاتَّق الله، وأصلح فيما بينك وبين الله، وربِّ هذا النشءَ تربيةً صالحة ليكونَ ما يستمرّون عليه من خيرٍ وهدًى لك أجره إن شاء الله إلى قيام الساعة.
وعلى الآباء والأمّهات أن يكونوا عونًا للأبناءِ على الخير، يحثّونهم على العلم، ويرغِّبونهم في الجدّ، ويحاسبونهم على التخلُّف، ويحولون بينهم وبين وسائلِ التّثبيط عن الخير والهدَى. لا بدّ من تعاون الأبوين جميعًا، فإنّ هذا التعاونَ سببٌ لكلّ خير.
والمسؤولون عن إدارةِ المدارسِ والجامعات من ذكورٍ وإناث لا بدّ للجميع من تعاونٍ بينهم، لا بدّ للمعلِّم والمعلّمة أن ينظروا في واقع أبنائِنا وبناتنا، وأن يحذِّروهم من جلساءِ السوء ودعاةِ الرذيلة ومن يثبِّطون عن العلم ومن يدعون إلى هجرِ العلم ومن يزهِّدون في العلم ومن ينادون إلى أن يكونَ الناس على جهلٍ وبُعد عن الخير، مهما برَّروا تلك الدعواتِ فإنّها دعواتٌ ضالّة خاطئة، لا بدّ من رفضِها وتحذيرِ أبنائنا من أن يغترّوا بها.
أسأل الله للجميعِ التوفيق والسداد، يقول الله جلّ وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6].
بارَكَ الله لي ولكم في القرآنِ العظيم، ونفعني وإيّاكم بما فيه من الآيات والذّكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفِر الله العظيمَ الجليلَ لي ولَكم ولسَائر المسلمين من كلّ ذَنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه مسلم في الذكر (2699) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
الخطبة الثانية
الحمدُ لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربّنا ويرضَى، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريكَ له، وأشهَد أنّ محمّدًا عبده ورَسوله، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يَوم الدّين.
أمّا بعد: فيا أيّها النّاس، اتَّقوا الله تعالى حقَّ التّقوَى.
إنَّ من أهمِّ المهمات السعيَ في تربية النشءِ التربيةَ الصالحة، فهي مسؤوليةٌ عظيمة وأمانة ثقيلة لمن تصوَّرها حقًّا وأدرك الخيرَ أو الشر في ضدِّها. إنّ المسؤولين عن سياسةِ التعليم في عالمنا الإسلاميّ واجبُهم تقوَى الله في كلّ حال، واجبُهم أن يرسموا سياسةً للتعليم ترتبِط بهذا الدّين، بهذه العقيدة الصّالحة، بهذه الأخلاق والقيَم والفضائل.
إنّ دينَنا لا يحارب العلم، وليس عدوًّا للعلم، بل هو يدعو إلى العلوم المختلِفة وأن يتزوّدَ الناس من كلِّ علم نافع، اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا [سبأ:13]، وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ [الأنبياء:80]، وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ الآية [هود:38]. الإسلام يؤيِّد العلمَ ويدعو إليه، ولكن ـ أيّها الإخوة ـ هناك شبهةٌ يثيرها من يثيرُها ويقولها من يقولها، إمّا عن جهلٍ بحقيقة ما يَقول أو عن سوءِ نيته، حينما يطرَح بعضُهم فكرة: "العلم وسوق العمل"، مراد بعضِ أولئك بهذه الكلِمة أنّ العلمَ يجب أن يقتصر على سوقِ العمَل، والمرادُ بالعملِ أن لا يتعلَّمَ الناس إلاَّ العلومَ المادية التي يصلِحون بها أوضاعَهم وحاجاتِ المجتمع من هذه العلوم الماديّة. إذًا فهل العلومُ الشرعيّة خارجةٌ عن سوقِ العمَل؟! هل العلوم الشرعيّة معوّقة للعمَل؟! لا، العلومُ الشرعيّة ضرورةٌ لكلِّ عبد مهما يكن، الرجلُ المسلم ضرورةٌ له أن يتفقَّه في دينه وأن يعلمَ كيف يعبُد ربَّه وكيف يؤدّي فرائضَ الإسلام وكيف يكون في تعاملِه وسيرتِه في هذه الحياة؛ لأنّ تعاليمَ الإسلام جاءت لتهذِّب السلوكَ وتزكّيَ النفوس وتطهِّر القلوب وتأخذ بيدِ الجميع لما فيه الخيرُ والصّلاح.
نعم أيها المسلم، لا أمنعُك من أيِّ عِلم، والعلم مطلوب، وميادين العمَل واسعةٌ، والأمةُ بحاجةٍ إلى أن تزاحِمَ غيرها وتنافِسَ غيرَها في العلوم، وبأمسّ الحاجةِ إلى أن يكونَ في أبنائها المتخصِّصين في شتّى العلومِ النّافعة للأمّة التي يستفيدون منها في دنياهم، ولكن مع هذا كلِّه فلا بدّ من علمٍ شرعيّ يتلقّاه كلُّ طالب مهما بلغت مرحلتُه العلمية؛ لأنّ علمَ الشريعة هو زكاةٌ للنفوس وطهارة للقلوب وتقويَةُ الصِّلة بين العبد وبين ربِّه، فنحن خلِقنا لنعبد الله، خُلِقنا لعبادة ربِّنا، خلِقنا لنعمرَ الأرض بطاعة الله ولنقوم فيها بما أوجبَ الله، وسخَّر لنا الله ما في السّموات وما في الأرض جميعًا منه. فنحن لا نحارِب العلمَ، ولا نقِف حجرَ عثرةٍ أمام كلِّ علمٍ ينفع الأمّةَ ويسعِدها في دنياها وآخرتها، ومعلومٌ التقدّمُ العلميّ في المجتمعات، ونحن ننادي بكلِّ علمٍ نافع ومفيدٍ للأمّة، لكن مع هذا كلِّه لا يجوز أن يتصوَّر أحدٌ أنّ العلومَ الشرعيّة عائقةٌ للمجتمع عن تقدُّمه ورقيِّه، وأنّ العلومَ الشرعيّة هي تنشُر الكسلَ والخمول وتؤخِّر المجتمعَ وتمنعه من التقدُّم والرقيِّ الماديِّ، هذه مقالةٌ خاطئة، فالعلم الشرعيُّ ضرورةٌ لكلِّ مسلم؛ أن يأخذَ من العلم ما يصلِح به أمرَ دينه ويعرِف كيف يتعامَل مع ربِّه الذي خلقَه ليعبدَه ويقومَ بما أوجب الله عليه. فالخلطُ بين سوقِ العمَل وبين عزلِ الأمّة عن علومِ الشريعة خلطٌ بين الأوراقِ وسوءٌ للفَهم وقلّة للإدراك. فالعلمُ الشرعيّ ضرورة لكلّ عبد؛ أن يتعلّمَ ما يصلِح به أمرَ دينه، ليكونَ على علمٍ في عبادة ربِّه وفي معاملاته وفي سائر أحوالِه، ولا ينافي ذلك تزوّدَه بأيّ علمٍ نافع مفيد.
هذا هو المطلوب، نسأل الله أن يوفِّق الجميعَ لكل خير، وأن يرزقَ الجميعَ التعاون على البرّ والتقوى، وأن يصلِح شبابَ المسلمين ويأخذَ بأيديهم لما فيه صلاحُ دينهم ودنياهم، وأن يجعلهم دعاةَ خير وأعضاء صالحين في مجتمَعهم، يساهِمون في بناء هذا المجتمَع على أسُسٍ من الخيرِ والقيَم والفضائل، صالحين في أنفسهم، مصلحين لغيرهم، إنّه وليّ ذلك والقادِر عليه.
اعلَموا ـ رَحمكم الله ـ أنّ أحسنَ الحديثِ كتاب الله، وخَيرَ الهديِ هدي محمّدٍ ، وشَرَّ الأمورِ محدَثاتها، وكلَّ بِدعةٍ ضَلالة، وعَلَيكم بجمَاعةِ المسلِمين، فإنّ يدَ الله عَلى الجَمَاعَة، ومَن شَذّ شذّ في النّار.
وَصَلّوا ـ رحِمكم الله ـ عَلَى نبيّكم محمّد كما أمَركم بذلِكَ ربّكم، قال الله جل جلاله: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمَّ صَلِّ وسَلِّم وَبَارِك عَلَى عبدِك ورسولِكَ محمَّد، وارضَ اللهمّ عَن خلفائِه الرّاشدين...
ـــــــــــــــــــ(68/82)
وقفات مع مشكلة الطلاق
...
...
3895
...
الأسرة والمجتمع, فقه
...
...
الطلاق, قضايا الأسرة
...
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
...
...
الرياض
...
3/8/1425
...
...
جامع الإمام تركي بن عبد الله
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- وجوب قبول أحكام الله تعالى. 2- مشكلة الطلاق وما تحدِثه من مخالفات. 3- مشروعية الطلاق والحكمة منه. 4- مراحل الطلاق. 5- الترغيب في الرجعة للإصلاح. 6- حقوق المطلَّقة. 7- تصرفات وتصورات خاطئة. 8- مشكلة حضانة الأولاد.
الخطبة الأولى
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتقوا الله تعَالى حقَّ التقوى.
عِبادَ الله، إنَّ الواجِبَ على كلِّ مؤمِنٍ ومؤمِنَة قَبولُ أحكامِ الله والرِّضَا بها وانشِراح الصَّدرِ لها وعدَم الاعتِراض عليها بأيِّ عِبارةٍ كانت، فتَسليمُ العبدِ المؤمنِ والمؤمنة لله والرِّضَا بحكمِه والاطمِئنانُ بذَلك هذا أمرٌ يَدلّ على صحَّةِ الإيمان وقوَّته، يَقول الله جلّ جلاله: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِينًا [الأحزاب:36].
أيّها المسلِم الكَريم، أيَّتها المؤمِنة، إنّ هناكَ قضِيّةً اجتماعيّةً يحصُل أحيانًا مِن وُقوعِها ضجَرُ بعضِ ضُعَفاءِ الإيمانِ مِن أحكامِ اللهِ واستِنقاصُهم لأحكامِ الله وعَدَمُ قناعتِهم ورِضاهم بحكمِ الله، فيتفوَّهونَ بكلماتٍ سيِّئة وألفاظٍ وقِحَة، لو عَادوا إلى رُشدِهم لعلِموا أنّ تلكَ الألفاظَ والأقوالَ مُنافيةٌ لكَمالِ الإيمانِ، لأنّ الوَاجبَ الرِّضا والتسليمُ، فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء:65].
هذهِ المشكلةُ الاجتماعيّة تتمثَّل عندما يقَع الطَّلاق من الزوجِ لامرأتِه، فإذا وقَعَ الطّلاقُ منَ الزوجِ لامرَأَتِه عند ذلكَ تَسمَع من الزوجِ أو أهلِ الزّوجِ أو الزّوجةِ أو أهلِهَا تسمَع ألفاظًا وقِحَة واعتراضاتٍ على الشّرعِ، وربّما تسمَع سوءَ ظنٍّ بالله وندَمًا على ما حصَل، ويا ليتَ الزواجَ لم يتمّ، ويا ليتَنا لم نقبَل فلانًا، ويا ليتَنا لم نعرِفه، ويا ليتنَا لم نرتبِط به، وما أقبَحَ السَّاعةَ التي عرفَّتنَا بهذا أو بهذا. هذا يقَع من الزّوجِ أحيانًا وأهلِه، وقد يقَع من الزّوجةِ أو مِن أهلِها، وكلُّ ذلك خَطأٌ من الجمِيع.
هو لا شكَّ أنّ تطبيقَ الأحكامِ الشرعيّة أحيانًا يخِلّ به البعضُ، فيأتي الخطرُ لا مِن ذاتِ الحكمِ الشرعيّ، ولكن من سوءِ التّطبيق، يأتي الخطَر من سوءِ التّطبيق وقِلَّة العنايةِ بالأحكامِ الشّرعيّة، أمّا الأحكام الشرعيّةُ في حدِّ ذاتها فلا ضرَرَ ولا تناقُضَ ولا اضطرابَ فيها، بل هي عَدلٌ، وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [الأنعام:115]، لكن سوءُ التّطبيقِ من أحَدِ الزّوجين الرّجلِ أو المرأةِ هو الذي يسبِّب المشاكِلَ ويحدِث الضَّغائنَ في النفوس، فيحصُل ما يحصُل.
أيّها الرَّجل المؤمِن، وأيّتها المرأةُ المؤمنة، الطلاقُ حكمٌ من أحكامِ الله، حكمٌ تشريعيٌّ من أحكامِ الله، عندما يطبَّق التَّطبيقَ الصحيحَ وتُلتَزَم فيه آدَابُ الشريعةِ فلن يحصلَ أيُّ اضطِرابٍ ولا أيّ قلَق، ولكن عندَما يكون السبَب المثيرُ للطّلاق أمورًا مِن قِبَل المرأةِ أو أمورًا من قِبَل الزّوج أو أهلِه عند ذلك يقَع هَذا الإشكالُ، نسأَل الله التوفيقَ لما يُرضيه.
أيّها الرّجل المؤمِن، أيّتها المؤمِنة، لنَعلم جميعًا أنَّ اللهَ جلّ وعلا حينَما شرعَ الطلاقَ شَرعَه لحِكَمٍ، شرعَه لمصالحَ، شرَعَه لتخليصِ الزوجين عندَما يتعذّر الوِئام ويَصعُب البقَاء في النّكاح، فجاءَ الإسلام بحلٍّ لهذِه المشكِلةِ بِشروطِه وقيودِهِ المبيَّنةِ في شرعِ الله.
أيّها المسلم، إذًا فعلَى المؤمِنةِ أن ترضَى بالطّلاقِ، وعَلى الرّجلِ أن يَرضَى، يَرضَى الجميعُ بحكمِ الله، والواجِبُ تطبيقُ أحكامِ الله والحِرصُ على تطبِيقِ الأحكامِ الشّرعيّة حتى تأخذَ مسَارَها الحقيقيّ وتسلَم البيوتُ من قيل وقالَ.
أيّها المسلم، أيّتها المسلِمة، إنّ الشارعَ عندما أذِن في الطَّلاق وجعَله على مراحِلَ ثلاث: الأولى والثانِية والثالثة يقصد منها علاجَ الوَضع، فإذا تعذَّر الأمرُ فإنّ الشّرعَ أذِن في الطلاق تخليصًا للمرأة من مُشكِلة وتخليصًا للرّجل من مُشكلة، فلم يمنَعِ الطلاق ليجعل المرأةَ غِلاًّ في عنُقِ الرجل، ولم يمنعِ الطّلاق ليجعلَ أيضًا الرّجلَ في قلقٍ وشَقاءٍ ويحول بينَه وبين الاستمتاعِ بما أباحَ الله له، بل جاءَ العلاجُ الشرعيّ لمن تبصَّرَ وتدَبَّر وتعقَّل.
أيّها المسلم، أيّتها المسلِمة، وعندَما أُذِن في الطّلاق لم يكن ذلك الإذنُ معناه مغلِقًا للرّجعة، لا، بل لما أُذِن في الطّلاق شُرِعت الرّجعة للرّجل على امرأتِه في أثناءِ العِدّة بلا حاجةٍ إلى قَضاءِ قاضٍ، وإنما إشهادٌ يُشهِد الرّجل على الرّجعةِ شاهدَي عدلٍ لأنّ الله يَقول: وَأَشْهِدُوا ذَوَى عَدْلٍ مِنْكُمْ [الطلاق:2]. وهذه الرجعةُ تكون باتِّفاق الزوجَين ما دامَت عدّةُ الطّلاق باقيةً، فإنِ انقَضَت عدّةُ الطلاقِ في الطّلقةِ الأولى أو الثانِية فلا بدَّ مِن عقدٍ جديدٍ، وإن وقعَتِ الطلقةُ الثالثة فلا بدّ من نِكاحِ زوجٍ آخَر نِكاحًا لا يُهدف منه تحليلُها، ولكن إن وقَع النّكاحُ اتِّفاقًا ثم طلَّقَها الزّوج الثاني جازَ لزوجِها الأوّل العَود إليها؛ لأنّ الله يقول: فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ [البقرة:230].
وشرَط الله للرّجعةِ أن يكونَ القَصد من الرّجعة الإصلاحَ، ولذا قال الله: وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحًا [البقرة:228]، فإذا أرادَ الزّوجُ الرجعةَ للمَرأة وقد نوَى أن يصلِحَ ويغيِّر مِن وضعِه إن كان الخطَأ منه أو تغيِّر المرأةُ مِن وضعِها إن يكن الخطَأ منها كانتِ الرّجعة مشروعةً، وإن راجَع الرجلُ لأجلِ الإضرارِ بالمرأَة كان آثمًا ومخالِفًا للشّرع.
وربُّنا جلّ وعلا عندما أذِن بالطلاق أمَر الزوجَ بأن يُبقِيَ المرأةَ المطلَّقةَ عندَه في منزلِهِ إذا كانَ الطّلاقُ الطلقةَ الأولى أو الطّلقةَ الثانية؛ عسَاه أن يعودَ إليها، وعسَى المياهُ أن تعودَ لمجارِيها، قال الله تعالى: لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا [الطلاق:1]. فأمَر جلّ وعَلا المطلِّق أن يُبقيَ المرأةَ المطلَّقةَ في حالِ كونِ الطّلاق الطلقةَ الأولى أو الطّلقةَ الثانية أن تبقَى في بيتِ الزوج كإحدى زوجاتِه؛ ينظر إليها وتنظر إليه، ويخلو بها وتخلو به، فلعلّ نظرةً توجِب للقلبِ محبّةً وموَدّة كما قال الله: لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا، أي: رَجعةً بعدَما وقعَ مِن طلاقٍ.
وأمرٌ آخر أنّ اللهَ جلّ وعلا شرعَ أيضًا للمطلَّقةِ أن تُمتَّع بمتعةٍ حسنة، بمعنى: أن يعطِيَها زوجُها إذا طلَّقَها شيئًا أو عِوَضًا ماليًّا تذكيرًا لما كان بينَهما من العلاقةِ، قال تعالى: وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [البقرة:241، 242]. وذكَّر تعالى الزّوجين ما بينَهما من صلاتٍ قديمة، فلا ينسى الرجل للمرأةِ مواقفَها، ولا تنسَى له أيامَهُ ولياليَه معها، قال تعالى: وَلا تَنسَوْا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ [البقرة:237].
أيّها المسلِم، أيّتها المسلمة، إنّ المصيبةَ اليومَ تقَع من بعض تصرّفات بعض أولياءِ الزوج أو بعضِ أولياء المرأة أو من أحدِ الزوجين، عندما تطلَّق المرأةُ من زوجِها يكون هناك تصرّفاتٌ خاطئة، إمَّا من الزّوجين بعضِهم مع بعض وأهلِ المرأة أو أهل الزوج، أو مِن أفرادِ بعض المجتمَع.
فمِنَ الأخطاء السيِّئة عندما يقَع الطلاق بين الزوجين ترى الزوجَ أو أهلَ الزوج يحاوِلون تبريرَ الموقف، فهنا تُنشَر الأسرار التي كانت غائبةً، فينشُر الرجل فضائحَ المرأة، إمّا صِدقًا وإما كذبًا، يبرِّر موقِفَه من طلاقها وينشُر عيوبَها ويقول: قالت وفعَلت وفعلت وإلى آخره، قد يكون مصيبًا فيما يَقول، وقد يكون مخطِئًا فيما يقول، وقد يكون حمَل المرأةَ على ما فعَلت نتيجةً لتصرّفِ الزوج الخاطِئ الذي ليس أهلاً لتحمُّل تلك المسؤوليّة، وربما تحدَّثتِ المرأة أو أولياؤها عن الزوجِ وأهلِه وقالوا عنه كذا وكذا، تكشَف الأسرار، وتنبسِط الألسنةُ بالغيبة، ويكون التشفِّي من أحدِهما بالآخر، وهذا ـ يا إخواني ـ من الأمور الخطيرة.
الله جلّ وعلا شرَع الطلاق، وهذا قضاءٌ وقدر، والمؤمِن والمؤمِنة يرضيان بقضاءِ الله وقدَره، مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا [الحديد:22]. وقَع هذا الطلاقُ فهل معناه أنّ هذه المطلَّقةَ سيُرخَى الستارُ عليها وتُخفَى من الدّنيا ولا يرغَب فيها أحَد ولا يميلُ قلبُ أحَدٍ إليها؟ هذا كلُّه خطَأ، هي امرأةٌ طلِّقَت إمّا لمشكلةٍ منَ الزوج أو مِنها، والنبيّ يقول: ((الأرواحُ جنودٌ مجنّدة، فما تعارَفَ منها ائتلَف، وما تناكر منها اختلف))[1]. قد تكون أخلاقُ هذا الزوجِ لا تتَّفق مع أخلاقِ المرأة، وأخلاقُ المرأة لا تتَّفق مع طباعِ الزوج ولو كان كلٌّ [من] الزوجَين على منهجٍ منَ الاستقامة والالتزام الشرعيّ، لكن اختلافُ الطبائع والأخلاقِ هذه أمورٌ بيَد الله جل وعلا.
إذًا فعَيب المطلَّقَة وإلقاءُ اللّوم عليها واحتقارُها أو اعتقادُ أنها المرأةُ التي فقدَت حياتها فيجِب أن تلزمَ البيتَ وأن تيأسَ منَ الزّواج هذا كلُّه تصرّف خاطئ، هي امرأةٌ مسلمة، هب أنّ الزّوجَ طلّقها، ربما يكون طلاقُه ناتجًا من سوءِ تصرُّفه، من قِلّة تحمّله، من عدَم مبالاتِه، من كونه إنسانًا ليس على المستَوَى المطلوبِ منه وليس مؤهَّلاً لتحمُّل المسؤوليّة، أيُلقى العيبُ على هذه المرأةِ المطلقة، وينظُر المجتمعُ إليها نظرةَ احتقارٍ وازدِراء؟! هذا كلُّه خطأٌ وكلّه مخالفةٌ، الله جلّ وعلا قال مسلِّيًا للزّوجين عند الفراق: وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلاً مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا [النساء:130]. وَإِنْ يَتَفَرَّقَا أي: الزوجان، يُغْنِ اللَّهُ كُلاً مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا. فيغني الله الزوجَ بامرأةٍ هي خيرٌ له من تلك، ويغني الله المرأةَ بزوجٍ هو خيرٌ لها من ذلكَ الزّوج، وسبحانَ الحكيم العليم فيما يقضِي ويقدِّر. المهمُّ من هذا أن لا نجعلَ الطلاقَ سببًا للعداء وسَببًا للبغضاءِ وسببًا للقطيعة.
خُذ مثلاً عندما يطلِّق الرّجل امرأتَه التي هي مِن أقاربِه؛ بنت عمّه، بنت عمّته، بنت خاله، بنت خالته، يكون هذا الطلاقُ سببًا لقطيعةِ الرّحم، فيبغِضون ذلك الزوجَ، ويكرهونه، ويعيبونه، وإذا سُئلوا عنه قالوا فيه أمورًا يعلَم الله براءَته منها، لماذا؟ لأنه طلَّق ابنتَهم. هذا الطلاقُ لا شكَّ أنّه وقع بقضاءٍ وقدَر، فهل يليقُ بنا أن نقطَعَ الرّحِم وأن نكرَهَ ذلك الزوج وأن نلفِّقَ به تُهَمًا هو بَرِيء منها أو يليق أن يتحدَّث أولياءُ الزّوج عن تلك المرأةِ ويقولون فيها ما يقولون؟! كلّ هذه أمورٌ يجب أن يُبتعَدَ عنها، وأن يرضى الجميعُ بقضاءِ الله وقدَره، ويسلِّموا للهِ حكمَه وتشريعَه.
أيّها المسلم، إنّ النبيَّ لمّا توفِّيَ زَوجُ أمّ سَلمَة قَال لها آمِرًا لها أن تقولَ: إنّا لله وإنّا إليه راجِعون، اللهمّ آجِرني في مصيبَتي واخلُف عليّ خيرًا منها، تقول أمّ سلَمة: قلتُها ثمّ قلتُ في نفسي: ومن خيرٌ من أبي سلمة؛ هاجر مع رسول الله وجاهد معه؟! قالت: فلمّا انقضت عدَّتي خطبَني رسولُ الله إلى نفسه، فكان رسولُ الله خيرًا لي من أبي سلمَة[2].
أيّها المسلم، لا نزهد في أحكامِ الله، ولا نجعل تنفيذَ أحكام الله سببًا لتفرُّق قلوبِنا وقطيعةِ أرحامنا، وأن نحفظَ للبيوتِ أسرارَها، فالزوج واجبٌ عليه أن يتّقيَ الله ويستُرَ على المرأة ما عَسى أن لا يكونَ موافِقًا له، هو ينصَح الزوجةَ ويحسِن إليها ويرعاهَا حقَّ الرعاية، وإذا تعذَّرتِ العَلاقةُ معها فإيّاه ونشرَ أسرارِها وكشفَ الأسرارِ وما جرى في البيتِ من قيل وقال. ليلزَمْ أدبَه ويمسِك لسانَه ويحمَدِ الله على العافِية ويَبحث وسَيَرى في النساءِ أخرَيَات. والمرأة أيضًا يجِب عليها وعلى أهلِها الإمساك عن قيل وقال والتحدّث وكشف الأسرارِ والأمور الخفيّة، فلا يجوز أن تظهَرَ على الساحةِ أسرارُ البيوت وما جرَى فيها، يجب أن يرخَى عليها السّتار وأن يُعتَبر أمرًا مضَى وانتهى، أمَّا التحدُّث والتكلّم بالقيلِ والقال والبحث عن المعائِبِ السّابقَة والتحدّث عن ذلك فكلُّها غيبَةٌ أحيانًا، وربما يكون بهتانًا إذا قيلَ خلافُ الواقِع، وربما أوقَعَ الإنسان نفسَه في حرجٍ عندما يعيبُ الزّوج ويتمنّى أنّه ما قبِل خطبتَه وأنّه ما زوّجه، أو يتمنّى الرجل أنّه ما خطَب تلك المرأة. كلُّ هذهِ الأمور لا ينبغِي التحدّث بها، بل ينبغي الرّضا والتسليمُ للهِ ومعالجة الوضعِ بأحسنِ سبيلٍ، حتى تضمَنَ الحياةُ السعيدة ويسلَم المجتمَع من هذه الأشياء التّافهة التي لا يحيِيها ولا يسير وراءَها إلاَّ السفهاءُ منَ الرّجال والنساء.
وفّق الله الجميعَ لكلّ خير، إنّه على كلّ شيء قديرًا.
أقول قولي هذا، وأستغفِر الله العظيمَ الجليلَ لي ولكم ولسائر المسلمينَ من كلّ ذنبٍ، فاستغفِروه وتوبوا إليه، إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] رواه مسلم في البر (2638) عن أبي هريرة رضي الله عنه. وورد عن عائشة رضي الله عنها أيضا.
[2] قصة أم سلمة هذه رواها مسلم في الجنائز (918) عنها رضي الله عنها بمعناها.
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كَما يحبّ ربّنا ويرضى، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريكَ له، وأشهَد أنّ محمّدًا عبده ورَسوله، صلّى الله عليه وعلى آلهِ وصحبِه، وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يومِ الدين.
أمّا بعد: فيا أيّها النّاس، اتّقوا الله تَعالى حقَّ التّقوَى.
عبادَ الله، ينتُج من الطلاقِ مشكلةُ حضانة الأطفال من بنينَ وبناتٍ، والشّرعُ المطهَّر حكَم على أنّ المرأةَ أحقُّ بولدَها ما لم تتزوّج، هذا حكمٌ شرعي لا إشكالَ فيه، لكن المشكلةُ تأتي من أنّ أحيانًا الزوجَ يسعَى في الإضرارِ بالمرأة، وذلك إذا كان تعلُّق أولادها الصغار بها وخوفها من أن يكونَ زواجُها يسبِّب أخذَ الزّوجِ لأبنائِه وبناتِه الصّغار فيقِف حجرَ عثرةٍ ويهدِّد المرأةَ ويقول: إن تزوّجتِ سأفعلُ وأفعَل، وهو يعلم أنّ أولادَه لن ينتسِبوا إلى غيره، ولا شكّ أنّ حكمَ الشّرع أنّ المطلَّقةَ إذا تزوّجت تسقُط حضانتها، لكن لا ينبغي أن يُتَّخذَ ذريعة في الضّغط عليها والحيلولةِ بينها وبين أن تتزوَّج بزوجٍ آخر، بإمكانِه السعيُ في الإصلاحِ والتّوفيق وأن لا يضيعَ الصغارُ لتصلّب الزّوجِ أو أهله أو تصلُّب المرأةِ أو أهلِها، فقد تبقَى المطلَّقَة عانسةً تعلَم أنّ بزواجِها سيتسلّط الزوج هذا على الأولادِ، وربما أخَذَهم، وليس المهمّ الأخذ لكن يمنعُهم من زيارَتها ويحولُ بينهم وبينَ رؤيَتِها إلاَّ بعد التّرافُعِ للمحاكِم والقيل والقال، وهذا التصرُّف خاطئ. أنت أحَقُّ بأولادِك حكمًا شرعيًّا بلا إشكال، لكن هذا الحقُّ هل يقتضِي أن يترتَّبَ عليه الضغطُ عليها ومنعُها من الزواجِ والحيلولةُ بينها وبين الزّواج؟! ثمّ إذا قُسِم أنها تزوَّجت صار في قلبِها ولعٌ على أبنائِها وبناتها، وأنت ـ يا قاسيَ القلبِ ـ لا تحبّ أن تفرِّحَهم بأمّهم ولو يومًا في الأسبوعِ أو نحو ذلك، بل يكونُ عندك تشدُّدٌ ومواقِف متصلِّبة لا تخدِم هدفًا، المضرّةُ إنما تقَع على الصغار من بنينَ وبنات؛ عقدٌ نفسيّة وحالةٌ محرِجة. الواجبُ على الجميعِ تقوَى الله والسعيُ في الخير، وأن لا نحملَ المرأة على ما لا يليق، هذا هو المطلوب منَّا جميعًا.
كما أنّ المرأةَ مطلوبٌ منها أيضًا تعاونُ أوليائها مع الزوج في سبيل رؤيةِ أبنائه والالتقاءِ بهم ونحو ذلك؛ حتى تعالَجَ الأمور بعلاجٍ شرعيّ هدفُه الإصلاحُ العامّ، لا التشفّي ولا الظلم ولا العدوان ولا المواقفُ التي ليسَ لها مبرِّر، وإنما هي قسوةُ قلبٍ وجفاءٍ وانتقام من أحدهما للآخر، وهذا أمرٌ لا يليق بالأمّة المسلِمة.
الواجبُ تقوَى الله في كلّ الأحوال والسعيُ في تربية النشءِ الصّغار تربيةً طيّبة، يعرِفون بها أباهم وشفقتَه وأمَّهم ومرحمتَها وحنانها عليهم، فيتبادَل الجميع المنافعَ، ويكون الأولاد لا يشعُرونَ بضَرَر ولا بفَقدِ الأمّ أو الأب، أما إذا تعصَّب أولياءُ المرأة ووقَفوا المواقفَ السيّئة أو أولياءُ الزوج أو الزوج فالضّحيّة العظيمةُ هم الأبناءُ والبنات. فالواجبُ تقوَى الله، والواجبُ على المطلِّق أو المطلّقة كفُّ الألسُن وعدَمُ التحدّث في الماضي والستر على كلِّ ما مضى، تلك أخلاقُ الكِرامِ. أسأل الله أن يعينَنا وإيّاكم على كلّ خير.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أنّ أحسنَ الحديث كتابُ الله، وخيرَ الهدي هَدي محمّد ، وشرّ الأمورِ محدثاتها، وكلّ بدعةٍ ضلالة، وعليكم بجمَاعة المسلمين، فإنّ يدَ الله على الجماعة، ومَن شذّ شذّ في النّار.
وصلّوا ـ رحمكم الله ـ على محمد كما أمركم بذلك ربّكم، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىّ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمّ صَلِّ وسَلِّم وبارِك على عبدِك ورسولِك محمّد، وارضَ اللّهمّ عن خلَفائِه الرّاشدين...
ـــــــــــــــــــ(68/83)
عار فضائي
...
...
3899
...
الأسرة والمجتمع, العلم والدعوة والجهاد
...
...
الإعلام, قضايا المجتمع
...
عبد المحسن بن عبد الرحمن القاضي
...
...
عنيزة
...
12/2/1425
...
...
جامع السلام
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- نهي القرآن عن الفساد والإفساد. 2- تحذير الدعاة من الغزو الفكري والثقافي. 3- طعنة في الظهر. 4- الاستغلال السيئ للقنوات الفضائية. 5- البرامج الفضائية السافلة. 6- أهداف هذه القنوات الهابطة. 7- المطلوب من عامة المسلمين تجاه هذه القنوات الفاسدة. 8- دعوة للتوبة والرجوع إلى الله. 9- كلمة للآباء وللشباب.
الخطبة الأولى
أما بعد: فيا عباد الله، اتقوا الله تعالى.
أيها الإخوة المؤمنون، إذا كنا قد تحدثنا عن شيخ على كرسيّ الإعاقة ارتفع بهمّته إلى الدعوة والجهاد وحرّك الأمة باستشهاده، فتعالوا لنتحدّث عن أمّة أضحت قعيدةً على كرسيّ الهوان، مشلولة الهمة، مسلوبة الإدارة، تتلهّى بالأباطيل.
أنقلكم اليوم إلى حديث عن مشكلة تؤرّق الأذهان، وتؤذي الأسماع، لا سيما أولئك الذين عافاهم الله من متابعة مثل هذه المنكرات ونجت بيوتهم من مثل هذا الفساد الذي عمّ وطمّ، لكننا نحاول بحديثنا إبراء ذمّتنا جميعا بإنكار هذا الأمر والتبرّؤ منه ومن أهله، علّ ذلك ينجينا من عقوبة الله وعذابه وفتنته التي قد لا تصيب الذين ظلموا منّا خاصة، وسعيًا لتحقيق معنى الإيمان وعدم لبسه بالظلم لنحصّل الأمن والهداية، والله وحده المستعان وعليه التّكلان.
أيّها الأحبة، عند تدبّر كتاب الله والتأمل فيه نرى فيه نهيا وتحذيرا عن الفساد، ومن أعظم الفساد إضلال الناس في أخلاقهم وتشكيكهم في دينهم، وهو خلق المنافقين وسبيل المجرمين الذين إذا قيل لهم: "لا تفسدوا في الأرض" قالوا: "إنما نحن مصلحون"، ألا إنهم المفسدون ولكن لا يشعرون.
أيها الإخوة، لطالما حذّر الدعاة والناصحون من خطورة البثّ المباشر والقنوات الفضائية التي تعبر حدودَنا وتغزو منازلنا، وركزوا على التحذير من مخاطر الغزو الفكري الصليبي والصهيوني عبر قنواتهم وإعلامهم الموجّه لمجتمعاتنا بنشر الإباحية والتنصير وأفكار التحرّر وترويج الفاحشة، لكن الذي حدث وبكل أسف أن ذلك الإفساد والتحلل جاء من قنوات عربية صرفة نعَم عربيّة التمويل واللغة والتفكير. ورحم الله المجاهد نور الدين محمود حين جلس عنده ذات مرة أحد رواة الحديث روى حديثا عن رسول الله متسلسلا بالتبسّم فقال له: تبسّم أيها السلطان، قال: والله، لا أتبسم والنصارى احتلّوا ثغر دمياط والمسجدُ الأقصى في الأسر.
الله أكبر يمتنع نور الدين رحمه الله عن التبسم في الوقت الذي أصبحت فيه دماء العلماء المجاهدين هدرًا للصهاينة، ودماء الشعوب رخيصة للأعداء بلا حساب، وفي الوقت الذي تعاني فيه الأمة انتكاسة في القيَم والمثل وضعفا في الدين، وتتجرّع مرارة الإغراق والتفكّك، وفي الوقت الذي تتذوّق فيه الأمة أنواعَ الهزائم النفسية والاقتصادية والسياسية، ويُشنّ عليها حرب لا هوادة فيها، وتحتل أراضيها وتنهب ثرواتها وتهدر دماء المسلمين رخيصة يوميّا في فلسطين وبلادِ الشيشان والأفغان والعراق مع ضعف وخور في المسلمين شعوبا وقادة.
في هذا الذي تحتاج الأمة فيه إلى إعلام يصلحها ويرفع من شأنها، فإذا بوسائل الإعلام في أمتنا تشن على الأمة حربا تقضي على ما تبقّى من خلق ودين. قنوات فضائية يملكها من يزعم أنه عربي مسلم، وقد ينتسب إلى هذا البلد، لكنهم يبثون فضائح أخلاقية ومسابقات غنائية، رقض على جراح الأمة النازفة ومآسيها المنتشرة التي تعرض صباح مساء، برامج فاسدة يباركها أعداء الأمة ومركّزة على الشباب والمراهقين؛ لأنها تريد إيجاد جيل مسلم متسامح مع أعدائه، غافل عما يصلح حاله، متناسٍ قضايا أمته ومقدساته التي تنتهك حرماتها. ويريد أولئك البغاة الذين يعتدون علينا في بيوتنا من خلال تلك القنوات الهابطة أن نميل إلى باطلهم عبر برامجهم التي تسحَق كل فضيلة عرفها أولادنا وتربّوا عليها، وتزيِّن في أعينهم الرذيلة، وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيمًا [النساء:27].
معاشر الإخوة، لا شك أنه من نعمة الله جلّ وعلا هذا التواصل في التقنيات الحديثة الذي نرى فوائده في عدد من المظاهر لا سيما الاتصالات، ولكن بدلا من شكر نعمة الله واستغلاها في الخير نرى سيطرةً للشر وأهله على تلك التقنيات، وتأكيدا على التفاهات، وتكريسا للتبعية للغرب الصليبي حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلوه وراءهم.
قنوات فضائية عربية تتنافس كلّ يوم في تقديم أنواع جديدة من الفساد، وفي بثّ حي للخلاعة والمجون، ولم يكفهم هذا بل ذهبوا يجمعون الشباب والشابات في برامج وأماكن واحدة لأغراض مختلفة لا جامع بينهما إلا الفساد والإفساد، وكثير من الناس عنهم غافلون، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
يجمعون الشباب والبنات ليصوّروهم طوال ساعات اليوم في مشاهد مخزية تصوّر أكلهم ورقصهم وغناءهم واختلاطهم ولهوهم غير البريء وتنافسهم على فعل المنكرات، ومن يبرز منهم في تلك الأعمال المشينة هو الفائز الذي يتسابق الناس للصويت له، ويضعون أسفل الشاشة شريطا مكتوبا للتواصل يحتوي أخبث الكلام وأسقطه.
عباد الله، إنني لا أحدثكم عن برامج في أمريكا أو أوربا، بل إنها في بلاد الإسلام وبأموال المسلمين ومدعومة من رجال أعمال من بلادنا، نسأل الله لنا ولهم الهداية والسداد.
إن ما يدعونا لذكر مثل هذه البرامج على حقارتها تلك الإحصائيات المبكية للاتصالات الهاتفية بهم من قبل أناس يعيشون بيننا في بلداننا العربية، متناسين هموم أمتهم وقضاياها، حتى فاقت الاتصالات الثمانين مليون اتصال تصوّت لنشر الرذيلة وقتل الفضيلة، منها أحد عشر مليون اتصال من هذا البلد فقط. ثم انظر للدعم اللامحدود من قبل بعض الجهاتِ المسؤولة في بعض البلدان العربية ودعوة مواطنيهم للمشاركة فيها والتصويت لهذا أو تلك.
أيها الأحبة، إنها أمور مبكِية محزنة حين ترى أنّ قضايا المسلمين المصيرية والتصويت لها والتعاطف معها لم ينل مثل هذا التصويت لدعمها. كذلك يحزنك حين ترى أن اهتمام بعض مسؤولي البلاد العربية موجّه لمثل ذلك، متناسين دعم قضايا أمتهم وبلادهم، في تضييعٍ واضح للأمانة وإشغالٍ للشعوب عمّا يهمها في دينها وحياتها، وامتدادا لهذا الاستهتار بالقيم وجراح الأمة ينبري البعض لافتتاح قنواتٍ غنائية على مدى ساعات اليوم لا تبثّ إلا كلّ ما يسيء إلى الخلق والمرأة ويبثّ الدعارة المجانيّة على الهواء، وقنوات أخرى للأفلام والمسلسلات المدبلجة، أو لبرامج حوارية تثير الفتن بين الشعوب، ولا هدف لها إلا الإثارة، ولو كان ذلك على حساب تكفير العلماء الصادقين وتبديع الدعاة الناصحين.
إنها قنوات تعبث بالأخلاق، وينشر هذا البلاء ليصبح همّ الكثيرين لا سيما المراهقين متابعة مثل هذه البرامج ومشاهدة ما يحدث لفلان أو فلانة، حتى وصل ذلك إلى حديث في دور العلم وهي المدار س بين الطلبة والطالبات. ويزداد العبث حين يعلنون كلّ يوم عن افتتاح برامج وقنوات أخرى لا تحمل إلا ذات الأهداف، وكأن الأمة بحالتها هذه وجراحها الدامية بحاجة إلى مثل ذلك.
إنها طعنة غادرة من القائمين على مثل هذه القنوات توجه للشعوب العربية بإيجاد هذه البرامج، إنها حرب على العفاف، حرب على العقيدة والأخلاق، وهدم للحياء، وحرب على المسلمين والمسلمات حينما يظهرون المراهقين والمراهقات وهم ينضمون لبرامجهم تلك، ويرقصون على ضفاف نشرات الأخبار المثقلة بهموم الاحتلال وقتل الشهداء، وترى البكاء والعويل على إخفاق أحدهم في تلك البرامج كما لو أنهم يبكون لاحتلال المسجد الأقصى وسقوط بغداد وقتل أحمد ياسين، نسأل الله السلامة والعافية وأن لا يؤاخذنا بما فعل السفهاء منا.
حرب إعلامية غير أخلاقية تشنّها هذه الفضائيات العربية على العرب والمسلمين في دينهم وأخلاقهم، تأخذ منحنى خطيرا لم يكن أشدّ المحذّرين منها ومن خطورتها يتوقّعه، فهذه القنوات تريد اختزال الإنسانية بالعري والفتون بالعلائق المحرمة. أما أهداف تلك الهجمات فلا تجد أبلغ بيانا من أنها إشاعة للفاحشة في الذين آمنوا وإباحة الباطل وتسويق الاختلاط بين الجنسين حتى يكون هو الحياة الطبيعية، وتقديم ذلك على أنه ثقافة الحاضر وجواز المرور إلى المستقبل عبر إيجاد أجيال يتخبّطها الشيطان من الجنس، أجيال حائرة هائمة على وجهها تتغذّى بفكر يهلك الحرثَ والنسل، والله لا يحب الفساد، أجيال تتناغم مع المشروع الصهيوني الصليبي لصياغة عقول شباب الأمة وحرف أخلاق المرأة.
إنما غرض مشروعهم أن يختزل الشباب حياتهم بالمتع الرخيصة، لاهين عما يراد بأمتهم من مشاريع تغريبية. غرض مشروعهم اختصار المرأة في جسدٍ كاس عار مبذول لمدمني المتَع المحرّمة والاتجاهات المغرضة، ويسمّون مشروعهم الصليبي هذا إصلاحا، قد ينبري من أزلامهم في المنطقة من يروّج له تزامُنا مع الهجمات الصليبية على المنطقة شعوبا وقادة، قاتلهم الله أنى يؤفكون.
إنها برامج من أهدافها هدم المفاهيم الشرعية الصحيحة التي تربى عليها أولادنا؛ كالحجاب والاختلاء المحرّم وغيرها، ورسالة إعلامية موجهة في إظهار المرأة متبرّجة وإلغاء الحواجز بين الجنسين في العلاقات، ويكثرون من عرضها حتى يألفها الشباب فلا يستنكرونه، بل يريدون هذا التصويت الهائل له عبر الهاتف. هكذا تنحر الفضيلة في المجتمع، وتشهَر المنكرات، ويقع فيها أولئك المساكين المغرّر بهم.
إنها برامج تزخر بها فضائياتنا، تلهي الشباب وتخدّر طاقتهم التي تستطيع بالإيمان أن تخدم قضيّتها وتعلي شأن أمتها وتقاوم الغزاة وتخرج المحتلين من المقدّسات في فلسطين والعراق. برامج تفسد الرجولة وتكرّس في عقولهم التفاهة حتى لا يناصروا قضيّة ولا يطلبوا حقّا ولا يحفظوا شرفا. برامج تجعل من نجومها المعروضين قدوات تتأثّر بها أجيالنا، فهل نجوميتهم أنهم حرّروا بلدا أم اكتشفوا دواء أو اخترعوا عِلما جديدا أم لهم ميزة بالعلم والدعوة؟! وأين أسلافنا العظام كأبي بكر وعمر وسعد وابن الزبير ونور الدين وصلاح الدين؟! أينهم في عقول وقلوب أجيالنا التي انشغلت بسير هؤلاء التافهين؟! أي ضرر عظيم لهذه البرامج المعروضة على القناة المسلمة وهي تستهزئ بحجابها وتسهل تواصلها مع الشباب وأن حياءها الذي يعزّها إنما هو عقدة نفسية وتخفّف من رهبة ذلك المنكر في نفسها لتتخذ من رسائل الجوال وأحاديث الإنترنت متنفّسا لها في مثل هذه المحرمات؟! وبعض الآباء الغافلين لاهون عن بناتهم بعد أن وفّروا لهم أجهزة في غرفهم، نسأل الله أن يحفظ نساءنا من عوادي الغفلة ومكر السوء.
أيها الإخوة المسلمون، إن حديثنا هذا ليس بمبالغة أو تهويل، فإن مما يدمي القلب سقوط كثير من الشباب أمام تلك الإغراءات والشهوات التي لا يقرها شرع ولا تتماشى مع خلق، وهذا التنافس البائس المحموم بين هذه القنوات العربية في إيجاد هذه البرامج التي كما أنها تعكس أخلاق منتجيها ومروّجيها فإنها تعكس أيضا جمهورا صنعَه إعلام فعلي ينفق سحابة يومه على متابعتها، فيظهر بؤسه المعنويّ وفقره القيَميّ، وهكذا ضعُف الطالب والمطلوب، فأيّ خيانة لأمتهم من أصحاب هذه القنوات حين يكون هدفهم المادي هو المقدّم وهم الذين يستطيعون بأعمالهم الأخرى جني الأرباح الطائلة بدلا من ترويج هذا الفساد أم أنهم أشبهوا اليهود والنصارى الذين يعبدون المال ويتاجرون في المحرمات دون اهتمام بالمتضرّرين ولو كانوا من أهلهم؟! في التقليد الأعمى الذي أخبر عنه رسول الله صلوات الله وسلامه عليه من التشبه بأهل الكتاب ولو تركوا بيوتهم العامرة ودخلوا جحر ضبّ لدخلوه وراءهم، بل قال عليه الصلاة والسلام كما في رواية الحاكم وأبي داود: ((حتى لو أن أحد جامع امرأته بالطريق لفعلتموه)) وصدق رسول الله .
ألا يتّقون الله ببذل أموالهم في هذا الفساد والتخريب والتغريب؟! ألا يتقون الله وهم أصبحوا أداة بيد الصهاينة والصليبيين لإفساد الأمة قصدوا ذلك أم لم يشعروا به؟! ألا يتقون الله وهم يرون حاجة الأمة إلى إعلامٍ هادف يوضّح الحقائق ويدافع عن المقدسات ويكشف الشبهات ويبني الأمة لا يهدمها؟! ثم ألا يتقون الله ببذل أموالهم هذه وهم يرون وصف الله لإنفاق الكافرين على مثل ذلك: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ [الأنفال:36]؟!
إننا حين نتحدث عن فساد عريض في تلك القنوات فمن العدل عدم تعميم ذلك، فهناك قنوات تحترم عقول مشاهديها وتلتزم بالضوابط الشرعية، لكنها نادرة نادرة أمام هذا الفساد الفاجر، وكما هي بحاجة إلى التطوير فهي بحاجة للدعم والمساندة.
أيها الإخوة المؤمنون، فبالرغم من جماهير المغشوشين والغافلين الذين ابتلوا بمتابعة مثل هذه المنكرات فإن مما يسرّ أن ترى فئاما من الناس ممن لديهم الغيرة والدين ينكرون مثل هذه البرامج والقنوات وتشمئز منها نفوسهم، لكن ذلك لا يكفي. نعم إخوتي، لا يكفي، فإن المطلوب كما أننا نستنكرها في نفوسنا أن ننكرها أمام من هم حولنا في بيوتنا وأصدقائنا وسائر مجتمعاتنا، لا بد أن نشدّ على أيدي المسؤولين لمنع مثل هذه الممارسات والأخذ على يد المشاركين بها والداعمين لها ومحاكمتهم وهم يشهدون منكراتهم في مخالفةٍ للدين واضحة ومجاهرة بالمنكر فاضحة. كذلك لا بد من الوعي بهذه الظواهر المؤلمة وما بينّاه من نتائج خطيرة على جيل المستقبل بدلا من الغفلة أو الثقة الزائدة عن حدّها لدى بعض الآباء. كما أننا إنكارا لمثل هذه المحرمات نقاطع من تميز بها والشركات الراعية والمموّلة مقاطعةً اقتصادية. نتواصى عليها ونحاربهم بها كما حاربونا في أخلاقنا وديننا، ونحذّر من التأجير المحرّم للمحلات التي تبيع أجهزة هذه المنكرات. ثم لا بد من دعواتٍ صادقة نلجأ بها إلى الله ليكفينا شرّ فتن هؤلاء، وأن يرزقنا ما يقوينا من الإيمان، وأن يجنبنا الكفر والفسوق والعصيان، وأن يشغل هؤلاء بأنفسهم عن المسلمين، وإن لم يرد بهم صلاحا وهداية أن يزيدَهم خسرانا في الدنيا وعذابا في الآخرة.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ [البروج:10].
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
أما بعد: فاتقوا الله حق التقوى.
إننا نذكّر من ابتلي بمشاهدة هذه المحرّمات والمداومة عليها بتقوى الله وطلب التوبة بإخلاصٍ حتى يعينه الله، وعليه بالدواء الناجع الذي تطيب به القلوب القاسية وهو ذكر الله تعالى وكثرة قراءة القرآن؛ فإنه سبب لحياة القلوب، وهجره سبب لخرابها، إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًَا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [الأنفال:2]. كما أن صدق التضرّع واللجوء إلى الله ودوام الإنابة واستحضار عظم الجناية وذكر الموت وأهواله أسباب معينة على التوبة لمن أراد استدراك ما فاته.
أما أنت أيها الأب والولي، يا من جلب هذه الأجهزة إلى منزله أو استراحته بلا ضبط وتركها لتضيّع أهلَ بيته ويرضى لهم مثل هذه الخبائث التي تفسِد الدين والخلق وتتجاهل التوجيه الأبوي والتعلم المدرسي، ألا تتذكرون ـ معاشر الآباء والأمهات ـ حديث رسول الله : ((كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته)). اتقوا الله فيمن تحت أيديكم من أولاد وزوجات، واعلموا أنها أمانة عظيمة أنتم مساءلون عنها يوم لا يجزي والد عن ولده، يومَ تذهل كلّ مرضعة عما أرضعت.
تذكر ـ أخي الأب ـ يوما تحتاج فيه إلى مثقال ذرّة من حسنة، فإذا بك تُسأل عن أسباب فسادِ أولادك، يومَ يتعلقون فيه بك ويأخذون بتلابيبك يقولون: يا ربّ، لقد أضاع الأمانة وتسبّب في ضياعنا، وأنت لا تستطيع المدافعة عن نفسك، فأقرب الناس لك خصماؤك الذين ظننت أنك تسعِدهم في الدنيا بجريمة عرض هذه المحرمات عليهم، يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْويهِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنجِيهِ كَلاَّ إِنَّهَا لَظَى نَزَّاعَةً لِلشَّوَى [المعارج:11-16]. نسأل الله أن يرزقنا العافية والنجاة لنا ولأهلينا وأولادنا ووالدينا.
البدار البدار ـ أيها الآباء ـ بتطهير منازلكم من كل هذه المنكرات.
أما أنتم أيها الشباب، فاعلموا أنكم مساءلون عن أوقاتكم وأعماركم وأموالكم التي تبذلونها في هذه المشاهدات وتلك الاتصالات، وإن الأمة تنتظر منكم الكثير، فهداكم في الحياة أسمى من هذا العبث. واعلموا أنكم مستهدَفون من أعدائكم لاختلالكم، وإن المرءَ يحشر يومَ القيامة مع من أحبّ، فهل تحبون أن تحشروا يوم القيامة مع نبيّكم وصحابته الكرام أم مع من أعطيتموهم محبّتكم وعِشقكم مع فسقةِ هذه القنوات، فتصبحوا كما وصف الله جل جلاله: احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ [الصافات:22-24]؟!
إنها مطالبة للمسؤولين بمنع المشاركة وإلغاء أسباب هذه الاتصالات المحرمة والوسائل المفضية إليها، كما أنها دعوة للكتاب والمثقفين والدعاة الناصحين لحمل هموم مجتمعهم والكتابة عنها ونقدها وبيان زيف مثل هذه الممارسات الإعلامية وبيان خطرها وسوء تغريبها، ولا بد من السعي لإثارة البدائل المناسبة الموافقة للشرع والخلق. واعلموا أن العلاج ليس صعبا حين تصدق النفوس وتحسن النوايا في أمّة متكاتفة متعاونة على البرّ والتقوى.
اللهم احفظ أبناءنا وبناتنا وجميعَ المسلمين وأصلِحهم وردّهم إلى الحق ردّا جميلا. وصلّ اللهم وسلّم على نبيّنا محمد
ـــــــــــــــــــ(68/84)
الجار: حقوق وعقوق
...
...
3900
...
الأسرة والمجتمع
...
...
قضايا المجتمع
...
فواز بن خلف الثبيتي
...
...
الطائف
...
14/6/1420
...
...
جامع الفاروق
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- عظم حق الجار. 2- أصول حق الجوار. 3- من مظاهر إيذاء الجار.
الخطبة الأولى
أما بعد: فإن الروابط بين الناس كثيرة، والصلاتِ التي تصلُ بعضَهم ببعض متعددة، فهناك رابطةُ القرابة ورابطةُ النسب والمصاهرة ورابطةُ الصداقة ورابطةُ الجوار، وغيرها من الروابط التي تقوم الأمم بها وتقوى بسببها، فمتى سادت هذه الروابط بين الناس على أساس من البر والتقوى والمحبة والرحمة عظمت الأمة وقوي شأنها، ومتى أُهملت هذه الحقوق وتفصّمت تلك الروابط شقيت الأمة وهانت وحل بها التفكك والدمار، من أجل ذلك ـ عباد الله ـ جاء الإسلام بمراعاة هذه الروابط وتقويمها وتمكينها وإحاطتها بما يحفظ وجودها ويعلي منارها بين المسلمين.
ومن بين هذه الروابط العظيمة التي دعمها الإسلام وأوصى بمراعاتها وشدّد في التقصير في حقوقها وواجباتها رابطةُ الجوار، تلك الرابطةُ العظيمة التي فرّط كثير من الناس فيها ولم يرعوها حق رعايتها؛ إما جهلاً منهم بحقوق الجوار وإمّا تناسيًا لها، أو لا مبالاة بأذى الجار والاعتداء عليه، مما سبب التنافر والتباغض بين المسلمين، بل والعداء والكيد فيما بينهم، أفرادًا وجماعات، وحتى دُولاً مسلمةً متجاورة!!
أيها الإخوة في الله، الجار هو من جاورك جوارًا شرعيًا، سواءً كان مسلمًا أو كافرًا، برًا أو فاجرًا، صديقًا أو عدوًا، محسنًا أو مسيئًا، قريبًا أو أجنبيًا. وله مراتبُ بعضُها أعلى من بعض، تزيد وتنقص بحسب قربه وقرابته ودينه وخلقه، فيُعطى كلٌ بحسب حاله وما يستحق.
فالجار الملاصق لك في الدار ليس كالبعيد، وله ما ليس للبعيد، والجارُ ذي القربى ليس كالجار الجُنب، وصاحبُ الدين ليس كالفاسق المؤذي. وكما يكون الجوار في المسكن فيكون في العمل والسوق والمسجد والسفر والدراسة ونحو ذلك، بل يشمل مفهوم الجوار التجاور بين الدول، فلكل دولةٍ على جارتها حقوق.
عباد الله، لقد أوصى الإسلام بالجار وأعلى من قدره، فللجار في الإسلام حرمة مصونة وحقوق كثيرة، لم تعرفها قوانين وشرائع البشر والدول، تلك القوانين والشرائع الوضعية التي تتنكّر للجار وتستمرئ العبث بحرمته.
فقد قرن الله حق الجار بعبادته وتوحيده وبالإحسان للوالدين واليتامى والأرحام، فقال عز من قائل: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ [النساء:36]. الجار ذي القربى: هو الذي بينك وبينه قرابة، أو مَن قرب جواره، وقيل: المسلم. والجار الجنب: الذي ليس بينك وبينه قرابة، أو غير المسلم.
هذه وصية الله عز وجل في كتابه، أما وصية رسول الله فجاءت في صورة جليلة وتعبير مستفيض لمعاني وحقوق الجار، والوصاية به، والصيانة لعرضه، والحفاظِ والسترِ لعورته، وغضّ البصر عن محارمه، والبعد عن كل ما يريبه ويسيء إليه، قال فيها رسول الله : ((ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورِّثه)).
معاشر المسلمين، إن حقوق جيراننا علينا كثيرةٌ عديدة، وكلُّها حقوق عظيمة، لا يجوز التساهلُ فيها أو الإخلال بها. وتَرْجعُ الحقوق بين الجيران في أصولها إلى أربعة حقوق:
الأول: كفّ الأذى، فقد جاء الزجر الأكيد والتحذير الشديد في حق من يؤذي جاره؛ لأن الأذى بغير حق محرم، وأذية الجار أشد تحريمًا، فعن أبي شريح رضي الله عنه أن النبي قال: ((والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن))، قيل: من يا رسول الله؟ قال: ((من لا يأمن جارُه بوائقه)). وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال: ((لا يدخل الجنة من لا يأمن جارُه بوائقه)). وفي الصحيحين قال رسول الله : ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذِ جاره)).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قيل: يا رسول الله، إن فلانة تصلي الليل وتصوم النهار وفي لسانها شيء، تؤذي جيرانها، سليطة، قال: ((لا خير فيها، هي في النار))، وقيل له: إن فلانة تصلي المكتوبة، وتصوم رمضان، وتتصدّق بالأثوار ـ أي: القطعة الكبيرة من الأقط ـ وليس لها شيءٌ غيره، ولا تؤذي أحدًا، وفي رواية الإمام أحمد: ولا تؤذي بلسانها جيرانها، قال: ((هي في الجنة)).
بل جاء الخبر بلعن من يؤذي جاره، ففي حديث أبي جُحيفة قال: جاء رجل إلى النبي يشكو جاره، فقال له: ((اطرح متاعك في الطريق))، قال: فجعل الناس يمرون به فيلعنونه ـ أي: يلعنون من كان يؤذي جاره ـ فجاء إلى النبي فقال: يا رسول الله، ما لقيتُ من الناس، قال: ((وما لقيتَ منهم؟)) قال: يلعنوني، قال: ((فقد لعنك الله قبل الناس))، قال: يا رسول الله، فإني لا أعود. أخرجه البخاري في الأدب المفرد وصححه الحاكم ووافقه الذهبي. فهل بعد هذه الأحاديث وهذا الترهيب الشديد من أذى الجار يتساهل متساهل بحقه ويتعرض لأذيته؟!
فكم ـ وللأسف ـ بيننا من صورٍ مشاهدةٍ ملموسةٍ للإخلال بهذا الحق العظيم بين الجيران في مثل مضايقة الجار بإيقاف السيارات أمام بابه لتُضيّق عليه دخولَه وخروجه، ومِنْ تركِ المياه تتسرب أمام منزله، وإيذائه بالروائح الكريهة المنبعثة من مياه المجاري والزبائل ونحوها، ومن إيذائه بمخلفات البناء التي لا داعي لبقائها أمام منزل الجار، أو إيذائه بالاعتداء على حقوقه كأخذ شيء من أرضه والتعدي على حدوده بإزالةٍ أو تغيير، أو بالسرقة من الجار وأخذ شيء من متاعه، سواءً في العمل أو المدرسة أو السوق ونحو ذلك، فقد جاء عن المقداد بن الأسود قول النبي : ((فما تقولون في السرقة؟)) قالوا: حرمها الله ورسوله فهي حرام، قال: ((لأن يسرق الرجل من عشرة أبيات أيسر عليه من أن يسرق من جاره)).
ومن صور الأذى للجيران التعدي على الجار بإيذاء أبنائه أو العبث بسيارته وممتلكاته، والإزعاج برفع الصوت المنكر، كصوت الغناء أو لعب الصبيان أو بالشجار، أو لعب الأولاد بالكرة، أو بطرق الأبواب، أو إطلاق منبّهات السيارات والإزعاج بها، وخاصة في وقت النوم والراحة، فكل هذه صورٌ من الأذى المحرم بين الناس وبين الجيران من باب أولى.
ومن صور أذية الجيران تأجير من لا يرغبون في إسكانه بينهم، كحال من يؤجر للعزّاب بين البيوت الآهلة بالحُرم، أو من يؤجر للفسقة المنحرفين الذين يخشى منهم إفساد أبناء الحي، أو كحال من يؤجر المحلات التي تجلب الضرر على الجيران، كقصور الأفراح ومحلات المقاهي والاستراحات ونحوها، قال ابن رجب رحمه الله: "ومذهب أحمد ومالك أن يمنع الجار من أن يتصرف في خاص ملكه بما يضرّ بجاره".
وقريب من هذا أن يبيع الرجل ما يملكه من منزل أو أرض دون عرض ذلك على جيرانه، فعن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي أنه قال: ((من كانت له أرض فأراد أن يبيعها فليعرضها على جاره)).
ومن أعظم وأخطر صور الأذية للجار الخيانةُ والغدر به، كالتجسس عليه، والوشايةِ به عند أعدائه، وتتبع عوراته، والنظر إلى محارمه عبر سطح المنزل أو النوافذ المطلّة، أو حال زيارةِ الجيران لأهله، فإنه من أقبح الخصال وأحطِّها، ولا يصنع ذلك إلاّ لئيم خسيسُ الطبع، فإن العرب على جاهليتها كانت تأنف من مثل هذه الخصال الدنيئة وتأباها وتفخر بالترفّعِ عنها كما قال عنترة:
وأغضّ طرفي إن بدت لي جارتي حتى يواري جارتي مأواها
أين هذا من أخلاق وتصرفات بعض قليلي المروءة والحياء حين ينتظرون جاراتهم ويرقبونهن حال دخولهن وخروجهن من بيوتهن؟! وأين هذا من حال أولئك الغادرين الخائنين الذين نشاهدهم كل يوم وهم ينتظرون باصات الرئاسة ونحوها لنقل الطالبات؛ ليعاكسوا بنات الجيران ويؤذونهن؟! وأين هذا من فعل ذلك الغادر الخائن لجاره حين عاكس جارته عبر الهاتف أو جلس أمام منزلها مقابلاً لبابها، أمام دكانه أو مكتبه؟! فكم ـ وللأسف الشديد ـ تقع حالاتٌ من الخيانة والغدر والأذية في الأعراض بين الجيران، بل أغلبُ ما تكون هذه الأفعالُ الدنيئة صادرةً من جار على جاره ـ والعياذ بالله ـ أو جارة سيئة مع جارها، تُبدي له زينتها وتتبرج أمامه، مما قد ينتج عنه خيانةٌ وغدر بالأعراض عن طريق ارتكاب المنكرات والفواحش بين الجيران، وهذا في غاية الفحش والبشاعة؛ لأن فاعل ذلك قد جمع جرائم عدّة، كلُّ جريمة أكبرُ من أختها، من الاعتداء على حق الله، وعلى حق الزوج، وهتك حرمة الجار الذي ينتظر من جاره أن يصونه ويحافظ على عرضه حال غيابه.
ولهذا جاء الوعيد الشديد من النبي محذرًا كلَّ معاكسٍ وغادرٍ ومتطلع على عورات جيرانه ونسائهم، فعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، أي الذنب أعظم؟ قال: ((أن تجعل لله ندًّا وهو خلقك))، قلت: ثم أي؟ قال: ((أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك))، قلت: ثم أي؟ قال: ((أن تزاني حليلة جارك))، وعن المقداد رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((ما تقولون في الزنا؟)) قالوا: حرام حرّمه الله ورسوله، فهو حرام إلى يوم القيامة، فقال رسول الله : ((لأن يزني الرجل بعشر نسوة أيسر عليه من أن يزني بامرأة جاره)).
ألا فليتق الله أولئك الغادرون الخائنون الذين يتصيدون الفرص وينتهزون الأوقات؛ ليخونوا جيرانًا لهم ويؤذوهم ويغدروا بهم، عن طريق المعاكسات الحيّة والهاتفية، أو عن طريق النظر والمراسلة، فإن جُرْمَ ذلك عظيم وخطرَه جسيم.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا [الأحزاب:58].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين.
أما بعد: فاتقوا الله أيها المسلمون، واقدروا الجار حق قدره، واحذروا أذيته، فهو أول حق لكل جار على جاره، أن يكفّ أذاه عنه، بأي صورة كان الأذى، حسي أو معنوي، في دينه أو ممتلكاته أو عرضه وهو أشدّ.
أيها الإخوة في الله، وثاني حقوق الجار على جاره: حمايتُه، فمن الوصاية بالجار ومن حقه حمايتُه، سواء كان ذلك في عرضه أو بدنه أو ماله، فقد كانت العرب تفاخر بحماية الجار حتى ملأت أشعارهم:
وإني لأحمي الجار من كل ذلةٍ وأفرح بالضيف المقيم وأبهج
أما ما يحدث اليوم من إخلال بهذا الحق بين الجيران فأمر لا يجوز، كالاحتقار له والسخرية به، إما لفقره أو لجهله أو بكشف أستاره؛ لأن الجار أقرب الناس إلى جاره، أو بتتبع عثراته والفرح بزلاّته، أو تنفير الناس من الجار إذا أرادوا خِطبة منه أو تعاملاً معه، كل ذلك دون ما مناسبة، وإنما لؤمًا وخسّةَ طبع وقلّة دين.
وثالث الحقوق بين الجيران: الإحسان، فلا يكفي الإنسان في حسن الجوار أن يكفّ أذاه عن جاره، أو أن يدفع عنه بيده أو جاهه يدًا طاغية أو لسانًا مفزعًا، بل يدخل في حسن الجوار أن يحسن إليه في كافة وجوه الإحسان، فذلك دليل الفضل وبرهانُ الإيمان وعنوانُ الصدقِ والعرفان، فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي أنه قال: ((ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليحسن إلى جاره))، وفي رواية: ((فليكرم جاره)).
فمن حسن الجوار أن تعزّي جارك عند المصيبة، وتهنئه عند الفرح، وتعودَه عند المرض، وتبدأه بالسلام، وتُطلق له وجهك عند اللقاء، وترشدَه إلى ما ينفعُه في أمر دينه ودنياه، وتواصلَه بما تستطيع من ضروب الإحسان، فقد يكون محتاجًا مُعدمًا، أو قد ركبته الديون، أو لديه مريض، أو في البيت أرامل وأيتام، وأنت لا تعلم عنهم شيئًا، وهم أولى بالإحسان من الأباعد.
ومن الإحسان للجيران تفقّدهم بالطعام، فمع أنه لا يكلف شيئًا إلا أن الغفلة عنه بين الجيران كبيرة، وآثاره في التآلف بينهم عظيمة، فعن أبي ذر رضي الله عنه قال: أوصاني خليلي : ((إذا طبخت مرقًا فأكثر ماءه، ثم انظر إلى أهل بيت جيرانك فأصبهم منها بمعروف))، وقال رسول الله : ((ليس المؤمن الذي يشبع وجاره جائع)).
ومن صور الإحسان بين الجيران التهادي بينهم، فقلّ أن يسلم الجيران من هفوات وزلاّت، فتأتي الهدية لتزيل وتذيب ما قد يحصل في نفوس من حزازيات وظنون سيئة.
إن الهدية حلوةٌ كالسحر تجتذب القلوبا
تدني البعيد عن الهوى حتى تصيّره قريبًا
وتعيد مضطعن العدا وة بعد بُغضته حبيبًا
تنفي السخيمة عن ذوي الشحـ ـنا وتمتحق الذنوبا
قال رسول الله : ((تهادُوا تحابُّوا))، وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت: يا رسول الله، إن لي جارتين، فإلى أيهما أهدي؟ ـ دلالة على تواصل السلف والنساء بالهدايا ـ قال: ((إلى أقربهما منك بابًا)).
وينبغي أن لا يحقر الجار هديةً جاءته من جاره مهما كانت، فإن ذلك من الكبر المذموم، فإن الهدية لا تقدّر بقيمتها، وإنما تقدر بمعناها، قال النبي : ((يا نساء المؤمنات، لا تحقرنّ جارة لجارتها ولو فِرسن شاة)) أي: العظم قليل اللحم، وهو خفّ البعير. والمقصود به هنا حافر الشاة. ولعلّ النبي خصّ النساء هنا المتجاورات بالتهادي لأنه يكثر منهن الاحتقار للهدية أو للمُهدي، ولأنهن أكثر التصاقًا بالجيران من الرجال، ولأنهن موارد المودة أو البغضاء بالجيران.
عباد الله، ورابع الحقوق بين الجيران: احتمال أذى الجار، فللرجل فضلٌ في أن يكفّ عن جاره الأذى، وله فضل في أن يذودَ عنه ويحميه، وله فضل في أن يواصلَه بالإحسان إليه جهده. وهناك فضل رابع وهو أن يغضي عن هفواته، ويتلقى بالصفحِ كثيرًا من زلاّته وإساءاته، ولا سيما إن صدرت عن غير قصد. فاحتمال أذى الجار وترك مقابلته بالمثل من أرفع الأخلاق وأعلى الشيم، وقد فقه السلف هذا المعنى وعملوا به، روى المروذي عن الحسن: "ليس حسن الجوار كفّ الأذى، حسنُ الجوار الصبر على الأذى".
وكم نرى ونسمع في مخالفات لهذا الحق بين الجيران، فكم من الناس من هو كثيرُ الخصومة والملاحاةِ مع جيرانه، يشاجرُ على كل صغيرة وكبيرة، وربما وصل الأمر إلى الاشتباك بالأيدي، أو تطوّرَ إلى الشُرطِ والمحاكم، وعلى أمور لا تستدعي. وكم من جيران تهاجرُوا وتقاطعُوا عند أسباب تافهة أو ظنون سيئة، أو لخلافات يسيرة، لا تستدعي ما وصلت إليه.
ومما جعل هذه الأخلاق المبغوضة توجد بين بعض الجيران قلّة حرص الجيران على إصلاح ذات بينهم، بل ـ والعياذ بالله ـ قد يوجد من حمّالة الحطب من يغري العداوة ويذكي أوارها بين جيرانه.
فالواجب على الجيران احتمالُ بعضهم بعضًا، فإذا ما حصل نزاع أو خصومة سعى الأخيار في الإصلاح بين المتنازعين، وعلى الجار أن يقبل بالصلح ويفرح به ويشكرَ من سعى له، لا أن يرفض ويستعلي. فالجار أولى بالعفو من غيره، والتغاضي عن زلته، خصوصًا إذا كان ذا فضل وإحسان.
وإذا الحبيبُ أتى بذنب واحدٍ جاءت محاسنُه بألف شفيع
وليس من حق الجار على جاره أن يردّ الأذى بمثله والإساءة بأختها، فالله تعالى يقول: خُذْ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ [الأعراف:199]، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي يشكو جاره، فقال: ((اذهب فاصبر))، فأتاه مرتين أو ثلاثًا، فقال: ((اذهب فاطرح متاعك في الطريق))، فطرح متاعه في الطريق، فجعل الناس يسألونه فيخبرهم خبره، فجعل الناس يلعنونه: فعل الله وفعل، فجاء إليه جاره فقال له: ارجع، لا ترى شيئًا تكرهُه.
فالصبرُ واحتمالُ الأذى والعفوُ والصفحُ هو الأولى بين الجيران كما قال أحدهم:
أقول لجاري إذا أتاني معاتبًا مُدِلاًّ بحقٍّ أو مُدلاًّ بباطلِ
إذا لم يصل خيري وأنت مجاورٌ إليك فما شرّي إليك بواصل
قال رسول الله : ((ثلاثة يحبهم الله)) وذكر منهم: ((والرجل يكون له الجار يؤذيه جارهُ فيصبر على أذاه حتى يفرّق بينهما موتٌ أو ظعن)).
أيها المؤمنون المتحابون المتآلفون، هذه هي حقوق الجار على جاره، فكم فينا من تقصير، وكم في تعاملنا مع جيراننا من خلل ونقص، مع أن حقّه عظيم، ولا غرابة بعد هذه الحقوق أن يظن النبي أن الله سيورثُ الجار الجار.
عباد الله، هنيئًا لمن وفّقه الله لجار صالح، فإن الجار الصالح الذي يرعى هذه الحقوق مكسبٌ وسعادة فـ((من سعادة المرء المسلم المسكن الواسع والجار الصالح والمركب الهنيء)) هكذا أخبر رسول الله . وللأسف تجد الكثير من الناس لا يبالي باختيار الجار الصالح، خاصة إذا أراد بناءَ منزل جديد أو شراءَه، فتراه يحرص على حسن الموقع وقربه من الخدمات، أما صلاح الجيران من عدمه فلا يهمه ذلك، وهذا خلل كبير، فالجار قبل الدار كما أُثر عن علي رضي الله عنه.
وقد كان السلف الصالح والكرامُ من الناس لا يؤثرون بالجار الصالح مالاً ولا عرضًا من الدنيا، فهذا أبو الجهم العدوي باع داره بمائة ألف درهم، ثم قال: بكم تشترون جوار سعيد بن العاص؟ قالوا: وهل يُشترى جوارٌ قط؟ قال: ردّوا عليّ داري، وخذوا مالكم، لا أدع جوار رجل إن قعدتُ سأل عني، وإن رآني رحّب بي، وإن غبتُ حفظني، وإن شهدت قرّبني، وإن سألتُه قضى حاجتي، وإن لم أسأله بدأني، وإن نابتني نائبة فرَّج عني، فبلغ ذلك سعيد بن العاص فبعث إليه بمائة ألف درهم.
فالجارُ الصالح له منزلةٌ عند العقلاء ومن يقدُرون المكارم قدرها، فهم يحرصون عليه، ولا يفرّطون في مجاورته إن أراد الانتقال عنهم، بخلاف جار السوء ـ أعاذنا الله وإياكم منه ـ فقد تعوذ منه النبي في دعائه فقال: ((اللهم إني أعوذ بك من جار السوء في دار المقام، فإن جار الدنيا يتحوّل))، فهو إذًا من البلاء ومما يتعوذ منه، فقد لا يطيقُ الإنسانُ احتمال أذى الجار السيئ وإهانتَه ومذلتَه له أو مضرته له في دينه أو عرضه، فإن الحزم والحكمة يقتضيان أن يرتحل عن داره ما دام هذا وصف جاره.
وفي هذا يُحكى عن رجل أنه كان مجاورًا لجيران سوء، فصبر عليهم وصابر، إلا أنهم يزدادون سوءًا، فباع داره برُخصٍ وانتقل عنهم، فلامه أقاربُه ومعارفُه لومًا شديدًا فقال:
يلومونني إذ بعت بالرخص منزلاً ولم يعرفوا جارًا هناك ينغِّصُ
فقلت لهم: كفّوا الكلام، فإنها بجيرانها تغلو الديار وترخصُ
ـــــــــــــــــــ(68/85)
صنائع المعروف
...
...
3902
...
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
...
...
فضائل الأعمال, قضايا المجتمع
...
فواز بن خلف الثبيتي
...
...
الطائف
...
5/4/1421
...
...
جامع الفاروق
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- مصائب الدنيا. 2- حق المسلم على أخيه المسلم. 3- فضل تفريج الكرب وقضاء الحوائج. 4- علاج الكرب والهم.
الخطبة الأولى
فأوصيكم ـ أيها الناس ـ ونفسي بتقوى الله عز وجل.
أيها الإخوة في الله، إن أعباءَ الدنيا جسام، والمتاعبَ تنزل بالناس من اليتامى والأرامل والغرباء والضعفاء والمعسرين. والإنسانُ بمفرده أضعف من أن يصمد طويلاً تجاه هذه الشدائد، ولئن صمد فإنه يبذل من الجهد ويقاسي من المعاناة ما كان في غنًى عنه لو أن إخوانه التفتوا إليه وهرعوا لنجدته وأعانوه في مشكلته، فالمرء قليل ضعيف بنفسه كثيرٌ قوي بإخوانه.
ومن حق المسلم على أخيه المسلم أن يتألم لألمه، ويحزن لحزنه، ويعينه على دفع كربته، أما موت العاطفة وقلّة الاكتراث وكأن الأمر لا يعنيه فهو تنكّر لهذه الأخوة، فضلاً عن أنه جفاء في الخلق وجمود في الطبع.
والتألم الحق هو الذي يدفعك إلى كشف ضوائق إخوانك، فلا تهدأ حتى تزول الغمة وتنكشف الظلمة، ((المسلم أخو المسلم؛ لا يظلمه ولا يسلمه ولا يخذله، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته)).
عباد الله، إن من رحمة الله حين خلق المعروف أن خلق له أهلاً فحببه إليهم وحبب إليهم إسداءه، ووجههم إليه كما وجّه الماء إلى الأرض الميتة فتحيا به ويحيا به أهلها، وإن الله إذا أراد بعبده خيرًا جعل قضاء حوائج الناس على يديه، ومن كثرت نعم الله عليه كثر تعلّق الناس به، فإن قام بما يجب عليه لله فيها فقد شكرها وحافظ عليها، وإن قصّر وملّ وتبرّم فقد عرّضها للزوال، ثم انصرفت وجوه الناس عنه.
ورد في الحديث: ((إن لله أقوامًا اختصهم بالنعم لمنافع عباده، يقرّها فيهم ما بذلوها، فإذا منعوها نزعها منهم فحوّلها إلى غيرهم)) أخرجه الطبراني وابن أبي الدنيا. وعن ابن عباس مرفوعًا: ((ما من عبد أنعم الله عليه نعمة وأسبغها عليه ثم جعل حوائج الناس إليه فتبرّم فقد عرّض تلك النعم للزوال)) رواه الطبراني بسند جيد.
وفي الصحيح عن النبي قال: ((من نفّس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسّر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلمًا ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه)). وفي صحيح مسلم: ((من سره أن ينجيه الله من كرب يوم القيامة فلينفس عن معسر أو يضع عنه، ومن أنظر معسرًا أو وضع عنه أظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله)).
فالمؤمن للمؤمن كالبنيان يشدّ بعضه بعضًا، وأحب الخَلق إلى الله أنفعهم لعباده، وصنائع المعروف تقي مصارع السوء، والجزاء من جنس العمل، فكما تعامل الخلقَ في الدنيا يعاملك الخالق سبحانه في الآخرة، فاختر لنفسك.
ولما سئل نبينا عن أحب الناس إلى الله وأحبِّ الأعمال إلى الله، قال عليه الصلاة والسلام: ((أحبُّ الناس إلى الله أنفعُهم للناس، وأحبُّ الأعمال إلى الله عز وجل سرور تدخلُه على مسلم، أو تكشف عنه كربة، أو تقضي عنه دينًا، أو تطرد عنه جوعًا، ولأن أمشي مع أخٍ في حاجة أحبّ إليّ من أن أعتكف في هذا المسجد شهرًا ـ أي: المسجد النبوي الذي الصلاة فيه بألف صلاة ـ، ومن كفَّ غضبه ستر الله عورته، ومن كظمَ غيظه ولو شاء أن يمضيه أمضاه ملأ الله قلبه رجاءً يوم القيامة، ومن مشى مع أخيه في حاجة حتى تتهيأ له أثبت الله قدمه يوم تزولُ الأقدام)) وصدق رسول الله .
وخيرُ عبادِ الله أنفعهم لهم رواه من الأصحاب كلُّ فقيه
وإن إله العرش جلّ جلالُه يُعينُ الفتى ما دامَ عون أخيه
فهنيئًا لمن يسارعُ في صنائع المعروف وقضاءِ حوائجِ الناس، وهنيئًا للموظف الذي يسعى لذلك ولو لم يكن من صميم عمله، وهنيئًا لمن توسّط في قبول طالبٍ أو مساعدة محتاج أو تنفيس كربة مكروب مهموم، هنيئًا لمن شفع شفاعة حسنة له أجرها وبرّها في الدنيا والآخرة، قال حبيبنا : ((صنائعُ المعروف تقي مصارع السوء))، وقال: ((وكلُّ معروف صدقة، وأهل المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الآخرة، وأهل المنكر في الدنيا هم أهل المنكر في الآخرة)).
والغبطة ـ أيها الأحبة ـ فيمن يسّر الله له خدمةَ الناس وأعانه على السعي في مصالحهم، فعن عبد الله بن مسعود قال قال النبي : ((لا حسد إلا في اثنتين رجل آتاه الله مالا فسلط على هلكته في الحق ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها)).
إن دروب الخير ـ أيها المسلمون ـ كثيرةٌ وحوائجُ الناس متنوعة: إطعامُ جائع وكِسوةُ عاري وعيادةُ مريض وتعليمُ جاهل وإنظارُ معسر وإعانةُ عاجز وإسعافُ منقطع، تطردُ عن أخيك همًا وتزيلُ عنه غمًا، تكفُل يتيمًا وتواسي أرملة، تُكرمُ عزيزَ قوم ذلّ وتشكرُ على الإحسان وتغفرُ الإساءة، تسعى في شفاعة حسنة تفكّ بها أسيرًا وتحقن به دمًا وتجُرُّ بها معروفًا وإحسانًا، وشهادةُ حق تردُّ وتحفظُ بها حقًا لمظلوم. كلُّ ذلك تكافلٌ في المنافع وتضامنٌ في التخفيف من المتاعب، تنفيسٌ للكروب ودفعٌ للخطوب، وتصبيرٌ في المضائق وتأمينٌ عند المخاوف، وإصلاحٌ بين المتخاصمين، وهدايةٌ لابن السبيل، فإن كنتَ لا تملكُ هذا ولا هذا فادفع بكلمة طيبة وإلا فكفَّ أذاك عن الناس، فإنه صدقةٌ منك على نفسك.
أخرج الترمذي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال: ((تبسمك في وجه أخيك صدقة، وأمرُكَ بالمعروف ونهيُكَ عن المنكر صدقة، وإرشادُكَ الرجلَ في أرضِ الضلال لكَ صدقة، وإماطتُكَ الحجرَ والشوكَ والعظمَ عن الطريق لك صدقة، وإفراغُكَ من دلوك في دلو أخيك صدقة)).
نعم أيها الإخوة، كلُّ معروف صدقة، وأهلُ المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الآخرة، والصدقةُ تطفئ غضب الرب، وصلة الرحم تزيدُ في العمر، والمال إن لم تصنع به معروفًا أو تقضِ به حاجة أو تدّخر لك به أجرًا فما هو إلا لوارثٍ أو لحادث، وصنائعُ البر والإحسان تستعبدُ بها القلوب.
أحسن إلى الناس تستعبد قلوبَهم فطالما استعبد الإنسانَ إحسانُ
والشحيحُ البخيلُ كالحُ الوجه، يعيشُ في الدنيا عيشةَ الفقراء، ويحاسَبُ يوم القيامة حسابَ الأغنياء، فلا تكن ـ أيها الموسِرُ القادرُ ـ خازنًا لغيرك.
أيها الإخوة الأحباب، إن صفوَ العيش لا يدومُ، وإن متاعب الحياة وأرزاءَها ليست حِكرًا على قوم دون قوم، وإن حسابَ الآخرة لعسير، وخُذلانُ المسلم شيءٌ عظيم.
المسلمون اليوم هانوا أفرادًا وهانوا أُممًا، حين ضعفت فيهم أواصِرُ الأخوة، ووهتْ فيهم حبالُ المودة، استحكمتْ فيهم الأنانيات، وساد حب الذات، فوقعت الآفات، ومحقت البركات، ((وهل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم)).
بل إن بعض غِلاظِ الأكباد وقُساةِ القلوب ينظرون إلى الضعيف والمحتاج وكأنه قذى في العين، يُزلقونه بأبصارهم في نظرات كلُّها اشمئزازٌ واحتقار. ألا يعتبر هؤلاء بأقوام دار عليهم الزمان وعدتْ عليهم العوادي واجتاحتهم صروفُ الليالي فاستدارَ عزُهم ذلاً، وغِناهُم فقرًا، ونعيمُهم جحيمًا؟!
فاتقوا الله رحمكم الله، وأصلحوا ذات بينكم، ولتكنِ النفوسُ سخيةً والأيدي بالخير ندية، واستمسكوا بعرى السماحة، وسارعوا إلى سداد عَوَز المُعْوزين، ومن بذَلَ اليوم قليلاً جناه غدًا كثيرًا. تجارةٌ مع الله رابحة، وقرضٌ لله حسن مردودٌ إليه أضعافًا مضاعفة، إنفاقٌ بالليل والنهار والسر والعلن، لاَ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء:114].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم وبهدي رسوله الكريم، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، له الملك وله الحمد، هو المتفضل وصاحب الفضل، هو الكريم وصاحب الكرم، خلق عباده وفضّل بعضهم على بعض، وجعل بعضهم فوق بعض درجات، يعزّ ويذل، يغني ويفقر، يعطي ويمنع، ويخفض ويرفع، لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ [الأنبياء:23]، والصلاة والسلام على عبده ورسوله الأمين، الذي وصفته زوجه خديجة رضي الله عنها لمّا بُعث: (كلا والله ما يخزيك الله أبدًا؛ إنك لتصل الرحم، وتحمل الكلّ، وتقري الضيف، وتكسب المعدوم، وتعين على نوائب الحق) فكان المصطفى يفرج كرب المعدم ومن أصابته النوائب، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فالمعروف أيمن زرع وأفضل كنز، ولا يتم المعروف إلا بثلاث: تعجيله وتصغيره وستره، فمن وفق لبذل المعروف والإحسان إلى الناس فليكن ذلك بنية صالحة ووجه طلق ومظهر بشوش، وليحرص على كتمان معروفه وإحسانه مراعاة للإخلاص وحفظًا لكرامة أخيه المسلم.
أيها الإخوة في الله، ويبلغ الأدب غايته حين يعلم باذل المعروف أن ما يقدمه من المعروف هو حق لمن قدمه لهم، ساقه الله على يديه، فلا ينتظر منهم جزاءً ولا شكورًا، بخلاف من يتبع معروفه بالمنّ والأذى، فإنه يمحق أجره ويُبطل ثوابه، ويُعرّض ما أنعم الله به عليه للزوال. فالمال والجاه والمنصب وغيرها كلّها من الله، هو واهبها، وهو القادر أن يسلبها من العبد في لحظة.
فيا من جعل الله حوائج الناس إليه، ابذل المعروف لهم، صدقة وإحسانًا، مساعدة وشفاعة، فقد كان السلف رحمهم الله يفرحون بقضاء حوائج الناس أيما فرح، يقول حكيم بن حزام: "ما أصبحت وليس ببابي صاحب حاجة إلا علمت أنها من المصائب".
وأنت أخي المحتاج، يا صاحب الحاجة، ويا أيها المكروب، لا يكن اعتمادك فقط على من هم مثلك من البشر، فربُّ من تستشفع بهم هو القادر، وإلهُ من تسألُهم هو الناصر، والبشر لا يملك أحدهم لنفسه فضلاً عن غيره نفعًا ولا ضرًا، إلا أن يشاء الله. فلا تكن عن الله غافلاً أو معرضًا، ولا تكن على غيره معتمدًا أو متوكلاً، فربّما وكلك الله إلى نفسك أو إلى من سألتهم قضاء حاجتك فتخسر الدين والدنيا.
عن أبي بكرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((دعوات المكروب: اللهم رحمتك أرجو، فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين، وأصلح لي شأني كله، لا إله إلا أنت)) حديث صحيح، وعن علي رضي الله عنه قال: علّمني رسول الله إذا نزل بي كرب أن أقول: ((لا إله إلا الله الحليم الكريم، سبحان الله وتبارك الله رب العرش العظيم، والحمد لله رب العالمين)) رواه أحمد وهو صحيح. وكان نبينا صلوات الله وسلامه عليه إذا كربه أمر يقول: ((يا حي يا قيوم، برحمتك أستغيث)).
فالله هو فارج الهمّ وكاشف الكرب وميسّر العسير ومسهّل الأمور، والناس ـ إلا من رحم الله ـ عن دعاء ربهم غافلون، وعن سؤاله والإلحاح عليه معرضون، وبغيره من البشر متعلّقون، وعليهم معتمدون، وهذا نقص في التوحيد وكماله، وخلل في التوكل وصدقه، قُلْ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [آل عمران:26].
أيها الإخوة المؤمنون، ليس للمعروف حدّ، بل لا يقتصر بذل المعروف على بني آدم، فحتى البهائم والحيوان في بذل المعروف لها أجر، فالرحمة في ديننا شملت البهائم حتى القطط والكلاب، قال رسول الله : ((دخلت امرأة النار في هرّة؛ حبستها لا هي أطعمتها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض))، وفي صحيح مسلم: ((إن امرأة بغيًا رأت كلبًا في يوم حار يطيف في بئر قد أدلَعَ لسانه من العطش، فنزعت له موقها ـ أي: خفها ـ فسقته فغُفر لها)).
فيا عباد الله، إن كانت الرحمة وبذل المعروف لكلب من امرأةٍ بغي أوجب لها ما أوجب، ألا تكون الرحمة وبذل المعروف والإحسان للمسلمين أعظم وأنفع؟! فالمعروف وصنائع المعروف تثمر حتى مع البهائم العجماوات.
يذكر الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عند حديثه عن الإمام القدوة العالم الجليل شيخ الإسلام في زمانه سفيان الثوري رحمه الله قال: يقول أبو منصور: بات سفيان الثوري في هذا البيت، وكان هنا بُلبل لابني، فقال سفيان: ما بال هذا محبوسًا؟! لو خُلّي عنه، قال: فقلت: هو لابني وهو يهبه لك، قال سفيان: لا، ولكن أعطيه دينارًا، قال: فأعطاه دينارًا وأخذ البلبل وخلّى عنه. يقول أبو منصور: فكان البلبل يذهب يرعى فيجيء بالعشي ـ آخر النهار ـ فيكون في ناحية البيت، فلمّا مات سفيان الثوري تبع البلبل معنا جنازته ـ سبحان الله العظيم ـ فكان البلبل يضطرب على قبره، ثم اختلف بعد ليالٍ إلى قبره، فكان ربما بات عند القبر، وربما رجع إلى البيت، ثم وجدوه ميتًا عند قبر سفيان الثوري رحمه الله، فدفن عنده.
هكذا يصنع المعروف مع الطير والبهائم فكيف مع بني الإنسان؟! كيف مع إخواننا المسلمين؟! إنه لأعظم أجرًا ومثوبة ونفعًا في الدنيا والآخر
ـــــــــــــــــــ(68/86)
منكرات الأفراح
...
...
3904
...
الأسرة والمجتمع, فقه
...
...
النكاح, قضايا المجتمع
...
فواز بن خلف الثبيتي
...
...
الطائف
...
12/4/1421
...
...
جامع الفاروق
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- مشروعية الزواج وفضائله. 2- عقبة تكاليف الزواج. 3- البركة حاصلة في قلة تكاليف النكاح. 4- معالجة ظواهر منكرات الأفراح.
الخطبة الأولى
أما بعد: أيها الإخوة في الله، إننا في زمن عصفت فيه الفتن، وماجت فيه المنكرات، واندفق علينا سيل جارف من الشهوات والملهيات والمغريات، من مجلات وأفلام وقنوات وأغنيات ومنكرات، فجّرت في النفوس براكين الشهوات، وكانت ـ وللأسف ـ سببًا في سقوط بعض الشباب والفتيات في حمأة الرذيلة والفاحشة.
ولا سبيل لنيل الفضيلة وحفظ العرض إلا بما شرع الله وأباح من الزواج، الذي لا يشك مسلم أنه من الواجبات وخاصة في هذا الزمان، وقد سئل الإمام أحمد رحمه الله: ما تقول في التزويج هذا الزمان؟ أي: في زمانه هو، زمان الإمام أحمد العفيف الطاهر، فقال رحمه الله: مثل هذا الزمان ينبغي للرجل أن يتزوج، ليت أنه إذا تزوج اليوم ثنتين يسلم، ثم قال: ما يأمن أحدكم أن ينظر النظرة فيحبطَ عمله؟! إذا كان هذا زمن الإمام أحمد فماذا نقول نحن في زماننا هذا؟!
أيها الإخوة الكرام، الزواج سنة الأنبياء والمرسلين، وهو سبيل المؤمنين، ((يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج)).
الزواج تلبية لما في الرجل والمرأة من غريزة النكاح بطريق نظيف مثمر، ولذا نهى الله عن عضل البنات ومنع تزويجهن فقال: فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ [البقرة:232]، ولذا عظّم الله شأن الزواج وسمّى عقده مِيثَاقًا غَلِيظًا [النساء:21].
في الزواج حفظ العرض وصيانة الفرج وتحصيل الإحصان والتحلّي بفضيلة العفاف عن الفواحش والآثام. في الزواج حفظ النسل وتكثير الأمة المسلمة. في الزواج تحقيق السكن والاطمئنان والراحة من كدر الحياة وشقائها وعناء الكدّ والكسب. والزواج من أسباب الغنى ودفع الفقر والفاقة، إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [النور:32]. والزواج يرفع كل واحد من الزوجين عن عيشة البطالة والفتنة إلى معاش الجد والعفة بطريقها المشروع. وبالزواج يستكمل كل من الزوجين خصائصه، فيستكمل الرجل رجولته، ويتحمل مسؤوليته، وتستكمل المرأة أنوثتها وتشعر بمسؤوليتها تجاه بيتها وزوجها وأبنائها ومجتمعها.
معاشر المسلمين، هذا الزواج، وهذه فضائله، فهو نعمة من نعم الله العظيمة، وآية من آياته الكريمة، ولكن ـ وللأسف ـ نرى هذه النعمة قد أحيطت هذه الأيام بأمور تحوّلها إلى بلاء ونقمة، قد أحيطت بمنكرات تُمحق بركتها وتُذهب لذّتها، وتحدّ من انتشارها وأثرها.
ومن أعظم الجهل أن نقلب السعادة بأيدينا نحن إلى شقاء، والسرور إلى تعاسة، من أجل عادات ممقوتة أو تقاليد بالية أو شُهرةٍ زائفة أو مفاخرة مذمومة. والنتيجة تطاول العمر بكثير من الشباب عاجزين عن توفير تكاليف الزواج، وانتشار العنوسة وتأخر زواج الفتيات، فلا غرابة عندها أن يحلّ الشر والفتنةُ والفسادُ العريض، لقول رسول الله : ((إذا أتاكم من ترضون دينه وأمانته فزوجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض)).
لقد أصبح الزواج الذي كان في السابق وإلى عهد قريب من أيسر الأمور، أصبح من أشق الأمور وأعسرها؛ لأننا ألزمنا أنفسنا بأعرافٍ وشكليات، وأثقلنا كواهلنا ببدع ورسميات ما أنزل الله بها من سلطان، ولا يقرها شرع ولا يقبلها عقل.
لقد أحيط الزواج في هذه الأيام بأسلاك شائكة جعلت الحلال عسيرًا، بينما شياطين الإنس والجن قد جعلوا الحرام مبذولاً يسيرًا. أصبح الزواج اليوم محاطًا بأغلال الفخر الزائفة والخيلاء الكاذبة، والآباء والأمهات والقدوات في المجتمع بأيديهم القضاء على كثير من المشاكل والعادات والتقاليد التي جعلت العزوبة تفشو في شبابنا والعنوسة تغزو بناتنا.
وأول العقبات في الزواج المغالاة في المهور، الذي أصبح عند البعض رمزًا للمفاخرة، إما تقليدًا للغير، ففلان زوج بكذا، وفلانة بكذا، وابنتنا ليست بناقصة، وماذا يقول الناس عنّا إذا زوجناها بكذا؟! وقد يكون الطمع والجشع من بعض الآباء والأمهات سببًا في ارتفاع المهر، وتدخّل النساء يجرّ المتاعب ويفسد أكثر مما يصلح إلا من رحم الله.
لقد ظن بعض الناس أنه كلما زاد المهر كلما زاد شرف وقدر ابنته، والعكس هو الصحيح لفعل النبي الكريم الذي ما أصدق امرأة من نسائه ولا بنتًا من بناته أكثر من ثنتي عشرة أوقية ونصف، أي: ما يعادل اليوم 116 ريالاً. ولقوله صلوات الله وسلامه عليه: ((أعظم النساء بركة ـ وماذا يريد الزوج وأهله وأهل الزوجة سوى البركة؟! ـ أيسرهن مؤونة))، فكلما زادت المهور والتكاليف قلت البركة والخير، وكلما كان الاقتصاد والتيسير عظمت البركة بإذن الله، ولو تتبعنا بعض حالات الطلاق لوجدنا الزواج كان قائمًا على الكلفة والتعسير والمبالغة مما أفقده بركته حتى وقع الطلاق، وقال : ((خير الصداق أيسره)).
وقد زوج النبي على خاتم من حديث، وزوج على وزن نواة من ذهب، وزوج ابنته فاطمة سيدة نساء هذه الأمة لعلي على درع حطمية، وزوج على وسادة من أدم حشوها ليف ودقيق وسويق، وزوج رجلاً بما معه من القرآن، فالمهر رمزٌ ولم يكن في الإسلام يومًا ثمنًا.
أيها الإخوة المؤمنون، ومن الظواهر الغريبة التكلّف والسرف في عقد القران والملكة، حتى أصبحت كالزواج، تحجز من أجلها القصور وتذبح الذبائح الكثيرة، وكان الأولى هو التيسير والتواضع.
ومن العادات عند البعض ما يسمى بالكساوي لأم الزوجة ووالدها وبعض أقاربها، إما مالاً أو هدايا ونحوها، وقد يعدّ من عيوب الزوج ومناقصه عدم دفع هذه الكساوي، بل قد لا يتمّ العقد لو أصرّ على عدم تقديمها.
ومن المنكرات خلوة الخاطب بالمخطوبة وخروجها معه قبل العقد بحجة التعرف على الأخلاق والطباع، مما أوحت به الشاشة والأفلام، وهذا منكر وحرام، فما لم يتم العقد فلا تجوز الخلوة بها لأنها أجنبية عنه، ولا تجوز مصافحتها، ولا النظر إليها ولو بوجود محرم لها حتى يتم العقد.
عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: خطبت امرأة، فقال لي رسول الله : ((أنظرت إليها؟)) قلت: لا، قال: ((انظر إليها؛ فإنه أحرى أن يؤدم بينكما))، قال المغيرة: فأتيتها وعندها أبواها وهي في خدرها، فقلت: إن رسول الله أمرني أن انظر إليها، قال: فسكتا، قال: فرفعت الجارية جانب الخدر، فقالت: أحرّج عليك إن كان رسول الله أمرك أن تنظر إليّ لما نظرت، وإن كان رسول الله لم يأمرك أن تنظر إلي فلا تنظر، قال: فنظرت إليها ثم تزوجتها فما وقعت عندي امرأة بمنزلتها.
ومن المنكرات أن يستبدل بعض الناس النظرة الشرعية بالصور الشمسية، وهذا مع حرمته لا يرضى به إلا قليل الغيرة والحياء، وفي المقابل تعجب من أناس قد تبرج بناتهم ونساؤهم ونزلن الأسواق لوحدهن وخالطن الرجال فإذا ما جاء الخاطب تمنّعوا أن ينظر إليها لأن عادتهم ترفض ذلك وتأباه.
ومن المنكرات دبلة الخطوبة، تلكم العادة النصرانية الوافدة على المسلمين، وقد تكون من ذهب يلبسه الرجل، وهذا إثم على إثم، ومنكر على منكر؛ لما فيها من الاعتقاد الباطل والتقليد المُضرِّ.
ومن المنكرات قراءة الفاتحة ونحوها بعد الموافقة أو عند العقد، فإنه من البدع المحدثة في الدين.
ومن المنكرات عدم التحري في اختيار الزوجة أو الزوج، كالزواج من امرأة لا تصلي، أو تزويج من لا يصلي، فإنه منكر عظيم، إذ الصلاة ركن الإسلام وعموده، وتاركها كافر لا يحل تزويجه ولا معاشرته، ((العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر))، ((بين الرجل وبين الكفر والشرك ترك الصلاة)).
ولو علم ولي المرأة أن خاطبها لا يصلي ولو بعد العقد وجب عليه فسخ هذا النكاح ومفارقة هذا الزوج، ولأن تبقى الفتاة في بيت أهلها معززة مكرمة مصونة محفوظة خير من أن تتزوج برجل لا يصلي أو فاسدٍ في دينه وأمانته مرتكبٍ للموبقات والكبائر مجاهرٍ بها.
ومن العظائم إجبار الفتاة على رجل لا تريده، أو تزويجها بغير إذنها، فمن الواجب أخذ رأيها فيمن تقدّم إليها، وموافقتها على ذلك أو رفضها. فهذا من حقوقها التي أعطاها إياه رسول الله .
ومن المنكرات دخول الزوج على زوجته أمام النساء الأجنبيات، فهذه الظاهرة وإن كانت قد تلاشت كثيرًا إلا أنها قد بدأت في الظهور والانتشار، وهو منكر عظيم، أن يدخل الرجل على النساء وقد يدخل معه بعض أقارب الزوجة أو إخوانها، وقد تُلتقط لهم الصور التذكارية والعياذ بالله، يدخل على النساء وهن في كامل زينتهن، ومَنْ فيها حياء قد تتغطّى أثناء دخوله. فأي منكر أعظم من هذا؟! وأي وقاحة وسوء أدب وقلّة غيرة واعتداء على أعراض المسلمين واستهانة بها أكثر من هذا؟!
ومن المنكرات المبالغة من النساء في ثوب الزفاف الذي قد يصل سعره إلى عشرات الآلاف، كل ذلك مفاخرة وشهرة وإسراف وتبذير، والنبي يقول: ((من لبس ثوب شهرة ألبسه الله ثوب مذلة يوم القيامة)).
ومما يترتب على هذا الثوب أن بعض النساء لكبر حجمه لا تستطيع أن تلبس العباءة فوقه، فتخرج من الزفاف لتركب مع زوجها بلا عباءة، وبحجّة أن السيارة مُستّرة والزجاج مغطّى! فأين الستر والحياء؟! وأين الحشمة والفضيلة التي تربّت عليها هذه الفتاة؟!
ومن العادات القبيحة اتّباع الزوج وزوجته وهما خارجان من القصر بموكبٍ من السيارات مع تصفيق وغناء وضرب لمنبهات السيارات في أوقات متأخرة من الليل والناس نيام، وأحيانًا مع أذان الفجر، أو أثناء صلاة الفجر والعياذ بالله، وصدق المصطفى : ((إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت)).
ومن المنكرات الظاهرة وجود التصوير إما بالفيديو أو الكاميرات العادية، فكم جرّت هذه الصور والأفلام من مصائب وآفات، وكم أفسدت من أسر وبيوت، وكم تسببت في طلاق وشقاق وفراق، وكم هُتك بسببها من ستر وعفاف وفضيلة.
ومن المنكرات العظيمة ـ وقد سبق الحديث عنها في جُمع ماضية ـ ظاهرة الأغاني وأشرطته والحكم فيها بين واضح، فالمباح المشروع لا يرفضه أحد، والمحرم الممنوع لا يبيحه أو يرضاه مسلم يخاف الله ويرجوه.
وللأسف فبعض الناس عن آيات الله معرضون، وللمحرم والمنكر مستمعون ممارسون، وكأنهم لا يسمعون ولا يعلمون ولا يعقلون ولا يفقهون، يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمْ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ [البقرة:9، 10].
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقِيهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَائِزُونَ [النور:51، 52].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
أما بعد: فأوصيكم ـ أيها الناس ـ ونفسي بتقوى الله عز وجل واتباع مرضاته ولو أسخط ذلك الناس، فمن أرضى الله بسخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس، ومن أسخط الله برضا الناس سخط الله عليه وأسخط عليه الناس.
أيها الإخوة الفضلاء، ومن المنكرات والآفات الظاهرة المنتشرة في الأعراس والحفلات ما تظهر به بعض أخواتنا المسلمات من طيب يشمّ من مسافات، والنبي يقول: ((أيّما امرأة استعطرت فمرّت على قوم ليجدوا ريحها فهي زانية))، وكان بإمكانها أن تؤخّر التعطّر إلى حين دخولها مكان الزفاف أو غيره.
ومما عمّت به البلوى ـ ولا حول ولا قوة إلا بالله ـ تلك الملابس الفاضحة العارية التي يلبسها كثير من المسلمات في صالات الأفراح وغيرها، ملابس يندى جبين المؤمن الغيور والمؤمنة الغيورة التقية من سماع وصفها، فكيف برؤيتها؟!! كل ذلك بحجة أنه يجوز لبسها عند النساء وأمامهن!
ملابس وأزياء في غاية العري والسفالة، ولولا الحياء لوصفت لكم بعض هذه الملابس وما فيها من تعرّي، إنها أزياء وموديلات جاءت ووفدت إلى نسائنا من لدن البغايا اللائي خسرن أعراضهن بعرض أجسادهن عبر هذه الأزياء المتعرية المتجددة التي شُحنت بها الأسواق وتبارى في السبق إلى شرائها النساء، ولو علموا مصدرها المتعفّن لتباعد عنها الذين فيهم بقية من حياء.
تقول إحدى النساء مصوّرة ومعبرة عن بعض ما رأته في الأفراح من منكرات: بدأت أكره الذهاب إلى حفلات الزفاف لشيء يزلزل كياني، إلى متى تظل فتياتنا شماعة يعلّق عليها أباطرة مصممي الأزياء سخافاتهم تحت مظلة الموضة والتقدم والتطوير؟! إني لأغمض عيني خجلاً لما أرى تلك الوجوه المثقلة بوسائل التزوير العالمية، وتلك الأجساد الطاهرة المسلمة وهي عارية مبتذلة.
نعم أيها الإخوة، إن المنكر لعظيم، وإن ما عليه بعض المسلمات اليوم من ملابس لا يرضاه الله ورسوله ولا يقبله غيور ولا تلبسه مؤمنة.
إن من أعز ما يملكه الإنسان هو الحياء والعفاف والفضيلة، والمرأة إذا تعرّت وتبذّلت ـ ولو أمام النساء ـ فماذا بقي لها من الحياء والعفاف والفضيلة؟!
إن المرأة عورة، هكذا قال الرسول بدون استثناء شيء منها، فجميع بدنها عورة على الصحيح من أقوال أهل العلم إلا ما جرت العادة بكشفه أمام المحارم في البيت وحال المهنة، أما أن تظهر المرأة فخذها وثدييها وظهرها وأجزاء من بطنها ولا ترى في ذلك بأسًا فهذا محرم لا يجوز.
ألا فليتق الله امرؤ من أب أو ابن أو أخ أو زوج ونحوهم ولاّه الله أمر امرأة أن يتركها تنحرف عن الحشمة والفضيلة والحياء والستر والاحتشام والأدب. وليتق الله نساء المسلمين، وليسلمن الوجه لله والقياد لمحمد بن عبد الله ، ولا يلتفتن إلى الهمل دعاة الفواحش والأفن، وليتق الله الأمهات فإنهن مسؤولات ولبناتهن ملاصقات ولملابسهن مشاهدات، وعليهن الدور الأكبر والحمل الأعظم.
أيها الإخوة في الله، ومن المنكرات العظيمة الإسراف في الولائم والذبائح ونحوها، وهذا موضوع له خطورته وله حديث مستقل بإذن الله.
عباد الله، ما أجمل أن تكون الأفراح إسلامية، ليس فيها لمنكر ظهور، ولا لعادات وتقاليد سيئة وجود، وإنما هو التيسير والسماحة والستر والصيانة. فالمسلم والمسلمة ـ وخاصة في هذه الأيام ـ يربأ بنفسه عن حضور مناسبة يُعصى الله فيها بأمر من الأمور. وإننا جميعًا لنشعر بالمسؤولية تجاه هذه المنكرات، وخاصة من هم في محل القدوة أو لديهم القدرة على المنع أو التغيير.
فلنتق الله في أنفسنا وفي أفراحنا، فما تُشكر نعم الله بمعاصيه أبدًا.
ـــــــــــــــــــ(68/87)
يا من تريد الطلاق
...
...
3905
...
الأسرة والمجتمع, فقه
...
...
الطلاق, قضايا الأسرة
...
فواز بن خلف الثبيتي
...
...
الطائف
...
...
...
جامع الفاروق
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- أحكام النشوز بين الزوجين. 2- الرد على شبهات حول الأحكام المترتبة على نشوز الزوجة. 3- وضع المرأة الغربية. 4- وسائل علاج نشوز الزوجة. 5- أحكام الخلع في الإسلام.
الخطبة الأولى
أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله، فبتقوى الله يصلح الفرد والمجتمع، وعليكم بتعلّم أحكام دينكم وشرعكم، فمن يرد الله به خيرًا يفقه في الدين.
أيها الإخوة في الله، سبق لنا الحديث في خطب ماضية عن أسباب الطلاق وآثاره وعواقبه، وبقي لنا وقفة هامة مع أحكام النشوز بين الزوجين وعلاجه، وأخرى عن الطلاق وأحكامه.
فإذا ما نشزت الزوجة وعصت زوجها ولم تقم بحقوقه عليها فإنها تداوى بما في القرآن والسنة من علاج ودواء، يقول الله تعالى: الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا [النساء:34].
يقول الإمام القرطبي رحمه الله عند هذه الآية: "اعلم أن الله عز وجل لم يأمر في شيء من كتابه بالضرب صُراحًا إلا هنا، وفي الحدود العظام كالزنا والقذف، فساوى معصية المرأة لزوجها بمعصية الكبائر العظام" اهـ.
فإذا عصت ونشزت فإنه يبدأ بوعظها وتخويفها بالله عز وجل والآخرة والحساب، ويذكر لها ما أوجب الله له عليها من حقوق وطاعة، وما يلحقها من الإثم بمخالفته وعصيانه، ويذكرها بفضل الزوجة الصالحة وما لها من الأجر عند الله، كل هذا من وعظها وتذكيرها بالله. فإن ارعوت وأطاعت وإلا هجرها، بأن لا يضاجعها ولا يأوي إلى فراشها ولا يُقبِلْ عليها، وإن رأى أن لا يحادثها ولا يكلّمها فله ذلك، ولكن دون ثلاثة أيام، لقوله : ((لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال)). وقد اعتزل النبي نساءه شهرًا في مشرُبته، وللزوج أن يختار من الهجر ما يراه مناسبًا ما لم يُحدث مفسدة أعظم.
وأقصى مدَّة للهجر في المضجع أربعة أشهر، وهي مدّة الإيلاء الذي قال الله فيه: لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [البقرة:226، 227].
فإذا ما انصلح حالها ولان قيادها فالحمد لله، وإلا فليضربها ضربًا غير مبرح، مما لا يُدمي ولا يُخشى معه تلف نفس أو عضو أو كسر أو تشويه أو جروح أو إصابات تأديبًا لا عقوبة وتعذيبا، وليتجنب الوجه؛ فإن الضرب عليه لا يجوز، ولا يزيد في ضربها عن عشرة أسواط لقوله : ((لا يجلد أحد فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله))، وقال النبي : ((لا يجلد أحدكم امرأته جلد العبد ثم يضاجعها في آخر اليوم)).
فالضرب غير المبرح هو الضرب الخفيف وبآلة خفيفة، ولا يُلجأ للضرب إلا عند الضرورة، وعند تعذُّر الإصلاح بالوعظ والهجر. وإذا لجأ إليه الزوج فليكن بعيدًا عن الأبناء؛ مراعاة لمشاعرهم ومشاعر أمّهم، وليكن بعيدًا عن سمع الجيران أيضًا.
عباد الله، هذه الوسائل تشريع الله، وقد أساء بعض المتحضرين من أبناء المسلمين فهمَ هذا النوع من العلاج، فوصفوه بأنه علاج صحراوي جاف، لا يتفق وطبيعة التحضّر القاضي بتكريم الزوجة وإعزازها، وهذا من الجهل بالإسلام وبحِكَمِ شرع الله الذي ارتضاه لعباده في كل زمان ومكان ولكل بيئة وجيل، ونسي هؤلاء المغرضون أن الله تعالى قبل أن يأمر بضرب الزوجة الناشز أشاد بأولئك النساء اللاتي يترفعن بخلقهن وإيمانهن وصلاحهن عن النزول إلى درك المستحقات للهجر فضلاً عن الضرب: فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ [النساء:34]، قدّم ذكرهن على وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ... الآية [النساء:34].
ثم إننا نقول لأولئك الذين يتأففون من تشريع تأديب الزوجة سواء بالهجر أو الضرب، نقول: هل من كرامة الرجل أن يهرع إلى طلب محاكمة زوجته كلَّما انحرفت أو عصت أو خالفت؟! المرأة العاقلة لا ترضى أن ينشر زوجها سرّها، ويكشف للناس أفعالها، ويفضحها في المحاكم أو حتى عند أبيها.
إذًا هل تُترك الأسرة بمشاكلها حتى يتصدع البيت ويتشرد الأولاد بسبب الطلاق، أم تقبَل المرأة وهي هادئة راضية أن يردّها زوجها إلى رشدها بشيء من التأديب المادي الذي لا يتجاوز المألوف في تربيتها هي لأبنائها وصغارها؟!
إن المتأففين من تشريع التأديب للزوجة الناشز يحاولون دائمًا إثارة هذه القضية في الصحف والمجلات ونحوها، لماذا؟ لكسب ودّ النساء لأغراض لهم سيئة، فتجدهم يستكبرون مشروعية التأديب، ولا يستكبرون أن تنشز الزوجة على زوجها وتترفع عليه وتحقره، فكيف يريد هؤلاء أن تعالج مثل هذه الناشز؟! ولكن صدق الشاعر الجاهلي الشنفرى لما خاطب امرأته قائلاً:
وإذا ما جئتِ ما أنهاك عنه ولم أنكرْ عليك فطلقيني
فأنت البعل يومئذ فقومي بسوطك لا أبا لك فاضربيني
ونقول لهؤلاء المغرضين المعجبين بحضارة الغرب وبالمرأة الغربية وما تتمتع به من حرية مزعومة: ألم تسمعوا عن حال المرأة المتحضرة في دول الغرب؟! ألم تسمعوا عن حال من تدعون نساءنا أن يحذين حذوها؟!
نُشِر بالولايات المتحدة الأمريكية في مجلّة التايم تحقيقًا عن حوادث الضرب التي تتعرّض لها الزوجة الأمريكية في العصر الحديث بدرجة هائلة، وتشير الإحصائيات إلى أن ستة ملايين امرأة يتعرضن لحوادث الضرب من أزواجهن كلّ عام، وأن ما بين ألفين إلى أربعة آلاف زوجة يتعرّضن للضرب الذي يفضي إلى الموت كل عام، ويضيع ثلث وقت رجال الشرطة في الردّ على المكالمات الهاتفية للإبلاغ عن حوادث العنف المنزلي. وكشفت دراسة جرت في إحدى المستشفيات الكبرى بالعاصمة الأمريكية واستغرقت الدراسة أربع سنوات وتم الانتهاء منها قبل أعوام قليلة وذلك سنة 1992م تبين أن 25 بالمائة من حالات الانتحار التي تقدم عليها الزوجات يسبقها تاريخ من حوادث الضرب من الزوج. ووُجد أن ضرب الزوجة من زوجها هو السبب الرئيس والوحيد في حدوث إصابات لهن أكثر من حوادث السيارات أو الاغتصاب أو السرقة ونحوها. وتبين أن 50 في المائة من اللاتي تعرضن للقتل قام بقتلهن أزواجهن إما الحاليون أو السابقون.
ولكم أن تعرفوا أن ما تلقاه الزوجة الغربية من ضرب مبرّح يشمل الكدمات والخدوش والجروح وكدمات حول العين أو صدمة أو ارتجاج في المخ وكسور في العظام وأحيانًا فقد للسمع أو البصر.
هذه نماذج مما تعانيه المرأة الغربية من زوجها، وما خفي كان أعظم، فهي مجتمعات تعيش العنف بكل صوره وألوانه، فهل من مدّكر؟! هل حامد لله على شرعه القويم ودينه الحكيم؟! فالحمد لله الذي جعلنا مسلمين.
أيها الإخوة المسلمون، ليس حديثنا عن ضرب الزوجة دعوة إليه أو استحبابًا له، لا، ولكنه دفاع عن أمر من أوامر الشرع والدين، تعدّى عليه بعض من لا يقدّرون الله حق قدره.
وقد اتفق العلماء على أن ترك الضرب والاكتفاء بالتهديد أفضل، فعن يحيى بن سعيد أن رسول الله استؤذن في ضرب النساء فقال: ((اضربوا ولن يضربَ خياركم)) فأباح وندب إلى الترك، وقال : ((لا تضربوا إماء الله))، فأتاه عمر رضي الله عنه فقال: يا رسول الله، ذئر النساء ـ أي: اجترأن ونشزن ـ على أزواجهن، فأذن في ضربهن فضُربن، فأطاف بآل محمد نساء كثير، كلُّهن يشكون أزواجهن، فقال النبي : ((لقد طاف بآل محمد سبعون امرأة كلُّهن يشكون أزواجهن، ولا تجدون أولئك خياركم)). بل هو ما ضرب خادمًا ولا امرأة، ولا ضرب بيده شيئًا إلا أن يجاهد في سبيل الله.
والضرب إنما أبيح لأنه أخف من التأديب بالطلاق، فضرب المرأة أهون وأفضل من طلاقها ولا شك، وليس كل امرأة تحتاج إلى الضرب، فهناك من هي قانتة صالحة، وهناك من هي ناشز ينفع فيها الوعظ ويؤثر، والبعض قد ينفع فيها الهجر، وأخريات لا يتأدبن إلا بالضرب، ونساء لا ينفع معهن إلا الطلاق.
فالنساء يختلفن في طبائعهن، كما أن الرجال أيضًا يختلفون في أساليب حياتهم وتأديبهم، فهناك من الرجال من هو ضرّاب للنساء، بل من الصحابة من كان كذلك، منهم أبو جهم الذي خطب فاطمة بنت قيس فاستشارت رسول الله فقال: ((أما أبو جهم فلا يضع العصا عن عاتقه)) وفي رواية: ((فضرَّاب للنساء)). وكان الزبير بن العوام رضي الله عنه مشهورًا بضربه للنساء، تقول عنه زوجته أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها: كنت رابعة أربعة نسوة عند الزبير بن العوام، فإذا غضب على إحدانا ضربها بعود المشجب حتى يكسره عليها، وقالت: كان يكسر علينا أعواد المساحيب. وهناك من الرجال من لا يضرب زوجته ولو نشزت عليه وعصته وهؤلاء هم أنصار القائل:
رأيت رجالاً يضربون نساءهم فشلَّت يميني يوم أضرب زينب
وللأسف فهناك جهلة في بعض القبائل ـ وخاصة كبار السن وإلى اليوم ـ يتصوّرون أن ضرب المرأة من علامات الرجولة والكمال، فلا يتورَّع أحدهم عن جلد امرأته جلد العبد دون عذر يستدعي، والمرأة مسكينة وليس أمامها إلا الصبر والسكوت والرضوخ؛ لأن أباها أقسى وأشد عليها من زوجها، وهذا ظلم للمرأة أيّ ظلم، وعلى الزوج الغليظ الضّراب لأهله أن يتذكر أن قدرة الله عليه أعظم من قدرته على من تحت يده.
يقول الإمام ابن كثير رحمه الله عن ختام آية ضرب النساء، وهو قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا [النساء:34] قال: "تهديدًا للرجال إذا بغوا على النساء من غير سبب، فإن الله العلي الكبير وليُّهن، وهو المنتقم ممن ظلمهن وبغى عليهن" اهـ.
أيها الإخوة في الله، هذه هي وسائل علاج النشوز من الزوجة، وعظ بلا هجر ولا ضرب، ثم هجر بلا ضرب، ثم ضرب غير مبرح.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا [النساء:34].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون، أما إن أفلست جميع تلك السبل من الوعظ والهجر والضرب في العلاج، فإن الله تعالى يقول: وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحًا يُوَفِّقْ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا [النساء:35]. ولإخلاص الحكمين وصدق نيتهما أثر بالغ وعظيم في الإصلاح بين الزوجين، إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحًا يُوَفِّقْ اللَّهُ بَيْنَهُمَا [النساء:35].
عباد الله، وقد يكون النشوز من الزوج والزوجة متضررة منه، إما بعلوه عليها، أو بتقصيره في حقوقها، فهل تعظه وتذكره وتنصحه؟ نعم، ولكنها لا تهجره ولا تضربه. وإن لم ينفع فيه الوعظ والتذكير فتدخل من يصلح بينها وبين زوجها الناشز، يقول تعالى: وَإِنْ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ [النساء:128].
وقد يصل الحد بالمرأة إلى كراهة زوجها وبغضه وعدم تحمله في خُلُقه أو هيئته وخِلقته، وتخشى أن لا تؤدي حق الله فيه، فلها أن تخلع نفسها منه، وتفتدي بشيء من مال أو منفعة ونحو ذلك، وهذا من إكرام الله للمرأة وتشريفه لها، فقد تطلب الفراق هي، وقد جعله الله حقًا للمرأة في مقابل حق الزوج في الطلاق، فهو مشروع في حالة خوف الزوجين أن لا يقيما حدود الله، فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ [البقرة:229].
فقد جاءت حبيبة بنت سهل الأنصارية رضي الله عنها إلى النبي تشتكي زوجها ثابت بن قيس بن شماس رضي الله عنه، وكان قد شهد معركة أحد وبيعة الرضوان، وكان خطيبا مفوها، وكان من نجباء محمد ، إلا أنه كان دميمًا، فقالت: يا رسول الله، ما أعيب عليه في خلق ولا دين، ولكني أكره الكفر في الإسلام، وكانت تبغضه، فأمره النبي بطلاقها وقال: ((خذ الحديقة، وطلقها تطليقة))، وفي رواية أخرى: أنه ضربها فكسر بعضها، فأتت رسول الله بعد الصبح، فاشتكته إليه، فدعاه النبي فقال: ((خذ بعض مالها وفارقها))، فقال: ويصلح يا رسول الله؟! قال: ((نعم))، قال: فإني أصدقتها حديقتين وهما بيدها، فقال النبي : ((خذها وفارقها))، ففعل رضي الله عنه وعنها. وكان هذا أول خلع في الإسلام.
ومن أحكام الخلع: أن لا يأخذ الزوج أكثر من المهر، وإذا انفسخ عقد الزوجية بالخلع فلا يعدّ طلاقًا إلا إذا نواه طلاقًا أو تلفظ بلفظ الطلاق، والمرأة لا بأس أن تطلب الخلع ولو كانت حائضًا أو في طهر جامعها فيه بخلاف الطلاق؛ لأن النبي لم يسأل أو يشترط ذلك على امرأة ثابت بن قيس لما جاءته، وعدة المختلعة حيضة واحدة، وليس للزوج بعد المخالعة أن يعيد زوجته إلى عصمته في عدتها، وإن رغبا في العودة فلا بد من عقد جديد ومهر جديد، ويحرم على الزوج المضارةُ بزوجته حتى تفتدي نفسها ببعض مهرها أو ترك بعض حقوقها عليه، فهذا من الظلم والاعتداء، قال تعالى: وَلا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ [الطلاق:6]، ولتعلم المرأة أن النبي قال: ((المنتزعات والمختلعات هن المنافقات)) فعلى المرأة أن تصبر على زوجها إذا كان ذا دين وأن لا تتعجل مفارقته.
اللهم أصلح أحوال المسلمين والمسلمات...
ـــــــــــــــــــ(68/88)
أهمية المراكز التربوية
...
...
3906
...
الأسرة والمجتمع, العلم والدعوة والجهاد
...
...
الأبناء, التربية والتزكية
...
صالح بن عبد الله بن حميد
...
...
مكة المكرمة
...
10/8/1425
...
...
المسجد الحرام
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- نعمة الوقت. 2- خطورة الفراغ. 3- ضرورة الحديث عن حسن استغلال الوقت. 4- وسائل محكمة لبناء العقول والشخصيات. 5- منافع المراكز التربوية والدورات العلمية. 6- ضرورة مضاعفة البرامج التربوية والدورات العلمية. 7- فضل الإنفاق على المراكز التربوية. 8- التحذير من منع هذه الفعاليات والمناشط. 9- الرد على أعداء المراكز التربوية. 10- فضل صيام شعبان.
الخطبة الأولى
أمّا بعد: فأوصيكم ـ أيّها الناس ـ ونفسي بتقوى الله عز وجل، فاتّقوا الله رحِمكم الله، ابتَدَأكم بإحسانِه، وأتمَّ عليكم نِعمَه وإفضاله، حلُم مع الاقتدار فلا يغترَّنَّ عبدٌ بالإهمال، ولا يغفَلنَّ مِن خوف الاستدراج، عافانا الله وإيّاكم مِنَ الاغترار بعدَ الإمهال والاستدراجِ بالإحسان، واعلموا ثمّ اعلموا أنّ من الغفلةِ السّفرَ من غير زادٍ والذهابَ إلى القب الموحشِ بغير أنيس، ومن التّفريط القدوم على الحكمِ العدل بغير حجّة. مَن وقف في غير بابِ الله طال هوانُه، ومَن أمَّل غيرَ فضل الله خابت آماله، ومن ابتغى غيرَ وجه الله ضاعَت أعمالُه، أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ [الزخرف:80].
أيّها المسلمون، الوقتُ مادّة الحياة، والزّمنُ وِعاء الأعمار، والأوقات خزائنُ الذّخائر، والأعمال الصالحة هي أعلَى ذخائر، والوقتُ أغلى ما عُنِي الإنسانُ بحفظه، وتصرُّم الزمان أعظمُ واعظ، وانقضاء الأيّام قِصَر في الأعمار، والعُمر أثمنُ بضاعة، والحسرةُ والخَسار لمن قصَّر فيه وأضاعَه، ومِن علامات المقتِ إضاعةُ الوقت، ومَن حفِظ وقتَه فقد حفِظ عمرَه، وإذا أحبّ الله عبدَه بارك له في عُمره ووفَّقه لحُسن عِمارة وقته، والخيرُ والتّوفيق في بركة العمر، لا في طولِه ولا في قصَره، فكم مِن إنسانٍ أمّل الحياةَ وطولَ البقاء فعاشَ إلى زمنٍ بكت فيه عيناه وتقرَّح فيه قلبُه ورأى من شدائدِ الفتَن وصروفِ المحَن ما لا يكادُ يُطاق، والأقدارُ مغيَّبة، والليالي من الزمانِ حُبالى، وكما يعوذُ المسلم بربِّه من فتنة الممات فإنّه يعوذ به من فتنةِ المحيا.
يا عبد الله، الوقتُ كالسيف، وكم لهذا السّيف من ضحايا وصرعَى، تراهم في الأسواق يتسكَّعون وأمامَ الشاشات متسمِّرون وبين يدَي شبكاتِ المعلومات مستَسلمون، كم ندِم المفرِّطون، وكم تحسَّر المقصِّرون، حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [المؤمنون:99، 100]. فمن أصحَّ الله له بدَنه وفرَّغ له وقتَه ولم يسعَ لصلاحِ نفسِه فهو المغبون، بذلِك أخبر الصادِق المصدوق حين قال: ((نِعمتان مغبونٌ فيهما كثير من الناس: الصحّةُ والفراغ))[1]. وحين يحُلّ المرض وتشتدّ العلّة تنكمِش الأعوام حتى كأنها لحظاتُ برقٍ وامض.
أيّها المسلمون، يحسُن التذكير بهذا والشّباب والأسَر تعيش استقبالَ عامٍ دراسيّ في كثيرٍ من الديار والبلدان، والحديثُ عن التعليم والمناهِج والتوجيهِ والإرشاد وحسنِ استغلال الوقتِ والاستفادةِ منه حديثٌ يطول، تحدّث فيه المربّون، ووعظ فيه الواعِظون، ونبّه إلى أساليبِ استغلالِه المصلِحون، في حديثٍ للآباء والأمّهات والمربّين والمربّيات في برامجَ علميّة ومناشطَ ترفيهيّة في فنِّ إدارةِ الوقت وخدمةِ المجتمع وتنميةِ المهارات وصلاحِ الدين والدنيا.
أيّها المسلمون، الإبداعُ واكتشاف المواهِب وتنمية الملكات مطالبُ مهمّة ووسائل محكمَة لبناء العقول وبناءِ الشخصية وشغلِ الأعمارِ والأوقاتِ بالمفيد النافع من العلوم والأعمال. ومن جانبٍ آخر فإنّ توفيرَ الجوّ الصالحِ المكشوف المعلَن في مزاولةِ النشاط وممارسةِ العبادات الصحيحةِ والخلُق السليم كلّ ذلك جديرٌ بصياغةِ الشّباب والناشئة صياغةً صالحة مستقيمة متوازِنة في صلاح الدين والدنيا معًا، مناشِطُ معلَنَة تؤهِّل للصّلاح والنّجاح لينفَعوا أنفسَهم وأهليهم وأمّتَهم وأوطانهم.
معاشرَ الأحبّة، وإنّ مِن أفضل ما تصرَف فيه الأوقات وتصقَل المواهِب ويبني ويُصلِح وبخاصّةٍ في هذهِ الظّروف مراكز خدمة المجتمَع والدّورات العلمية وحلقات تحفيظ كتابِ الله وتعليمه، فهي فرَصٌ تربويّة وتجمُّع للشّباب حميد، عظيمٌ نفعُه، ثريّة معلوماته، يحفَظ الأوقات، ويعين على الخير وتوثيق الصلاتِ. برامجُ مُعَدَّة إعدادًا حسَنًا في دروسٍ مفيدة بحُسن السّلوك وصلاح الدّين وتصليحِ الأخطاءِ وتقويم المعوَجّ على نهج السّلف الصالح. محاضِن تربويّة على قِصَر مدّتها فيها منافِع يعزّ تحصيلها في غيرها. هذه المراكزُ والدّورات والحلَقات والمناشط تربِّي على مكارِم الأخلاق ومعاليها وتنهَى عن سيِّئها وسفسافها، تشارِك في البناء وروح الإبداع.
إنَّ هذه المراكزَ والمناشط والدّوراتِ والحلقات وأمثالَها تعلِن أنّ الشبابَ بحاجةٍ إلى اليدِ الحانية الرحيمةِ التي تقدِّم لهم النصحَ والتوجيه والإرشادَ والهداية في قوالِب من الودّ والشّفقة والملاطَفَة تُشعِرهم بدَورهم في الحياةِ وأثرِهم في المجتمع وأهمّيّتهم في أمّتهم وإشعارهم بالأخطار التي تهدِّدهم وتهدِّد دينَهم وأوطانهم، تذكِّرهم بالقُدوات الصالحة من سلَف الأمّة وخلَفِها من قياداتها وحكّامِها وعُلمائها ورِجالاتها؛ ليتعمَّق فيهِم الشّعورُ الحقّ بالانتماءِ لدينهم والاعتزازِ بأمتِهم والغيرة على ديارهم والاستعصاء على حَمَلات التّغريب والتذويبِ والاختلاط وألوانِ التطرُّف والغلوّ والتشدّد.
إنَّ من المؤكَّد أنَّ هذه المراكزَ والدوراتِ والحلقات وأمثالَها كلُّ أولئك محاضن تربويّة، تحفظ أوقاتَ الشباب فتيانا وفتياتٍ، ترشِدُها وتُرَشِّدُها في مناشطَ علميّة وتربويّة ومَسلكية ومِهنيّة وحِرفيّة، تربيةً على الصلاحِ والإصلاح والخلقِ الفاضل وترسيخِ الانتماء لدين الله وأخوّة الدين والولاء لولاةِ الأمور وحبِّ العلماء وتقديرِ رِجالات الأمّة والاحترام والحبّ للصّغير والكبير وإِكسابِ المهاراتِ واكتشافِ المواهب والملكات وحُسن التعامل مع المشكِلات والإسهام في تشخيصِها وحلِّها وبثّ روحِ التعاون والعمل الجماعيّ والمثمِر وتحمُّل المسؤوليّة وغَرس عُلوّ الهمّة وتكوين الاتِّجاهات الإيجابيّة نحو العمَل والتدريب والإتقان والابتِكار والتجديد بِطُرقٍ تقنيّة متقدِّمة والتدرُّب بأسلوبٍ مشوِّقٍ مبتَكَر والتّدريب على تقديم الخدمات العامّة والحِفاظ على المرافق وصيانة الممتَلَكات العامّة والخاصة والالتزام بالآدابِ العامّة والانخراط في دوراتٍ علمية وندواتٍ فكريّة تعلِّم أدبَ الحوار وحسنَ الاستماع للرّأي الآخر وحسنَ التعامل مع الآخرين وقبولَ الحقّ ممّن جاء به.
مراكزُ وندَوات وحلقات ودورات تضمّ المئاتِ والآلاف منَ الفِتيان والفَتَيات، في مناشطَ وفعاليّات لا تقدِّمها المدارس والجامعات والمعاهِدُ، ولا يتضمّنها كتابٌ مدرسيّ ولا منهَج دِراسيّ. مراكزُ يكتشِف فيها الشابّ قدراتِه ومواهبَه ويجرِّب ملكاتِه وإمكاناتِه، يكتشِف كلَّ ذلك ويمارِسه على مرأَى ومسمَع من مشرفين ومعلِّمين ومدرِّبين وموَجِّهين موثوقِين مِن أهل الفضلِ والصّلاح والخِبرة والاعتدال والعِلم والاختصاص. نعم، إنهم معلِّمون وموجِّهون ومرشدون ومدرِّبون وعلماءُ مؤهَّلون علميًّا وعمليًّا وتربويًّا، وموثوقون في آرائِهم واعتدالهم وحُسن فهمِهم للأحوال والمتغيِّرات والظروفِ والمستجدّات.
أيّها المسلمون، معاشرَ الإخوة، إنَّ الحقَّ والمصلحةَ والحِكمة وبُعد النظر والرؤية والروِيّة تقتضي مضاعفةَ هذه البرامج والتوسُّع فيها لتشمَلَ نشاطاتٍ وإبداعات لم تكن موجودةً ولا ممارسةً مِن قبل؛ مثل التعليم الفنّي والتدريب المهني وتعميقِ مفهوم التديُّن الصّحيح والمواطَنَة الصّالحة ومكافحةِ الإرهابِ وتصحيح المفاهيم وإزالة ما قد يلتبِس حول مفاهيمِ الجهاد والولاءِ والبراء وغيرِها من بعضِ المصطَلَحات والتحذير من الجفاءِ وضَعف التديُّن والمُيُوعة والانحلال؛ ليتربَّى النشء على ممارسةِ حياةٍ هادِئةٍ مستقِرّة ملِيئةٍ بالحيَوِيّة والجدِّية والنافِع المفيد، بعيدًا عن فضولِ النّظرات والكلِمات والتصرّفات، وحُسنِ استخدام المنجَزَات التقنيّة مِن هواتِف وحاسِبات وآلاف وأدواتٍ وشبكات معلومات، بل إنَّ هذه المراكزَ والدوراتِ من الممكِن أن تزيدَ في الإبداع والجاذبيّة والتجديد فتعمِّق وتدقِّق حتى تجعلَ من برامجها ومناشِطها ما يشمَل التوجُّه نحوَ ترشيدِ نشاطاتِ التسوّق والتنزّه والسياحةِ؛ لتجعلَ مِن كلّ ذلك متعةً عائليّة أو فردِيّة تعتمِد الانضباطَ والذوقَ الرفيع والخلُق الكريم والأدب الجمّ.
أيّها المسلمون، إنّ من المأمول مِنَ الجامعات والمعاهدِ والقطاعات التعليمية والمهنية والتدريبيّة ومراكزِ خدمة المجتمع أن تعِدّ خُططًا محكَمَة لمراكزَ وبرامج ونشاطات تقدَّم للطلاب والشّباب، برامجُ تعينهم على مواجهةِ التحدّيات الكبرى في الفِكر والسلوك في الحاضِر والمستقبل، خططٌ حصينة محكَمَة تحُول دونَ وقوعِ هؤلاءِ النّاشِئَة ضحيّةَ أهوالٍ جِسام من الإرهابِ والتزمُّت والمخدِّرات والميوعةِ والتحلُّل والتفسّخ، تقيهم من غُثاءِ القنواتِ وشبكاتِ المعلومات وقرناءِ السوء والمقاهي الموبوءَة والاستراحاتِ المسوَّرة والشُّقَقِ المغلَقَة. هذا الغثاء الذي انساقَ إليه فِئاتٌ من الشّباب في غفلةٍ من المصلِحين والمسؤولين.
كما ينبَغِي أن تفتحَ الأندِيَة الرياضيّة والأدبيّة أبوابَها وتستنفرَ طاقاتها وإمكاناتِها لترسمَ وتخطِّط وتستعدَّ لاحتواءِ الشبابِ في برامجَ جذّابةٍ نظيفة رياضيّة وثقافيّة واجتماعيّة ومهنيّة ومناشطَ سياحيّة منضبِطة، مع التّأكيد على ضرورةِ دَعم كلِّ هذه المرافِق بما تحتاجُه من دعمٍ مادّيّ ومعنويّ لتقومَ بهذه المهمّة العظيمة.
إنّ الإنفاقَ على هذه المراكزِ والمعاهِد والأنديةِ والدورات والحلقاتِ والبذلَ السّخيّ مِن أجلها من أهمّ وجوهِ الإنفاق، يجب أن يتوجَّه إلى ذلك ويدعمَه الحكوماتُ ورجال الأعمالِ والقادرونَ النّاصحون المصلِحون.
عبادَ الله، إنّ من الحكمةِ والعقل وحصافةِ الرّأي أن تُفتَحَ كلّ هذه الميادينِ وتُملأ بذوِي الفكرِ السوِيّ، تُفتَح الأبواب وتشرَع النوافِذ وتهبَّ التّيّارات والنّسائم لتطردَ الروائحَ الكريهة والأجواءَ الرّاكدة والترسُّباتِ الآسنةَ؛ ليدخلَ الهواءُ الطّيِّب والتّيّارات الصّالحة الزّكيّة.
إنَّ من المؤكَّد أنّ هذا الفتحَ والانفِتاح هو سبيلٌ مستقيم لجلبِ كلِّ صالح ودفعِ كلّ سيّئ؛ ذلك أنّ ما يُنسَب مِن إساءاتٍ أو سلبيّات لبعض المنتسِبين لهذه المراكِز والدّورات أو المنخَرِطين فيها هي سلبياتٌ محدودَة موجودة في كلِّ مرفقٍ ومَنشط. يجِب النّظرُ والتدبّر: هل منَ الحكمة منعُ هذهِ الفعاليّات؟! وهل إذا مُنِعت أو أقفلَت سيكفُّ المسيئونَ عن إساءَتهم، أم أنهم سيَبحثون عن قنواتٍ ومجالات أخرى أكثرَ فاعلية وأشدّ أثرًا وتأثيرًا لسوئِهم في أجواء سريّةٍ وأماكنَ مغلَقَة في شُققٍ وخلَواتٍ برّيّة ومواقع بعيدةٍ عن الأنظار والمراقَبَة؟!
إنَّ الانكفاءَ والحذَرَ السّلبيّ ما هو إلاَّ هروبٌ عن حلِّ المشكلة يزيد من انتشارها ويضاعِف في سلبيّاتها، بل يزيد من العتُوّ والتجبّر والانفِلات. إنَّ فتحَ هذه الأبوابِ خيرٌ من إغلاقها، وقَفلُ أبوابِ الخير من أجلِ فئةٍ قليلةٍ شاذّة ليس من الحكمة ولا من الرّشد، وهل المسؤول وصاحبُ القرار من العَجز وقلّةِ الحيلة أن يمنَعَ الكثرةَ الكاثرة من الخير من أجلِ فِئةٍ شاذّة لا يمنَع من سوئِها وإيذائها مثلُ هذه المواقف والقرارات. إن هذه القلّةَ الشاذّة يجب أن تواجَهَ في ميدانِ واضِحٍ فَسيحٍ.
وبَعد: فإنّ كلمةَ الحقّ إن شاء الله أنّ هذه المراكزَ والبرامجَ والأندية وأمثالها سدودٌ ضخمَة أمام كلّ فكرٍ منحرِف أو توجّهٍ متطرِّف أو نهجٍ منحلّ، أمّا الأخطاء أو النقص فيظلُّ أمرًا بَشريًّا في كلِّ جهدٍ وعمَل، محكومًا عليه من قِبَل أفرادِه ومن باشرَه مِن مدرِّبٍ أو متدرِّبٍ أو معلِّم أو متعلِّم، ولا يكون حُكمًا على المشروعِ كلِّه أو على المنشأةِ كلِّها، فهذا ظُلمٌ وتعدٍّ ومجافاةٌ عن سبيلِ الحقّ والعدل.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [المائدة:8].
نفعني الله وإيّاكم بالقرآن العظيم وبهدي محمّد ، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب وخطيئةٍ فاستغفِروه، إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في الرقاق (6412) عن ابن عباس رضي الله عنهما.
الخطبة الثانية
الحمد لله، وفّقَ من شاءَ مِن عباده لطاعته، ويسّر له سبيلَ توفيقه وهِدايتِه، أحمده سبحانه وأشكره أفاضَ علينا مِن فضله ومزيدِ نِعمته، وأشهد أن لا إلهَ إلاَّ الله وحدَه لا شريك له في ألوهيّتهِ وربوبيّته، وأشهد أنّ سيّدنا ونبيّنا محَمدًا عبد الله ورسوله المجتبَى مِن رسُلُه والمصطفى من خليقتِه، صلّى الله وسلّم وبارك عليه، وعلى الطيِّبين والطّاهرين من آلِه وذريّته، والغرّ الميامين من صحابته، والتابعين ومَن تبعهم بإحسان وسار على هديه وسنّته، وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أمّا بعد: فإنّ الذين يثيرون الشكوكَ والاتِّهاماتِ حولَ هذه المناشطِ والبرامج والمراكز والنشاطات الصّفِّيّة وغيرِ الصّفّيَّة لا يوردون دليلاً ولا بُرهانًا، فكلُّ ما يُثار هو تَضخيمٌ في العباراتِ وتهويل في التصوير واستنتاجاتٌ لا تستنِد إلى استدلالات وتوظيفٌ غيرُ حَسَن للظّروف وانتهازٌ غيرُ حميدٍ للأحداث.
إنَّ المسلَكَ الحقّ وطريق الإنصاف الاستنادُ إلى الدلائِلِ والبراهين مِن خلال الزّيارات الميدانيّة وفَحص البرامج واستقراءِ الإحصائيات وغيرِها من وسائل الفحصِ والتحرّي؛ ولهذا فإنّ إقحامَ بعضِ التصرّفات المنكَرَة التي تصدُر من بعضِ الشّباب والفئات ثمّ تلصَق تُهَمًا جائرَة جاهزة لكلّ الأخيار والصّلَحاء وأعمالهِم وجهودِهم وعلى كلّ منهَجٍ صالح في الدين والتعليم والدعوة ظلمٌ وبهتان وجِناية.
ألا فاحذَروا ـ رحمكم الله جميعًا ـ التّهَمَ وموارِدَ المهالك وسوءَ المسالِك، ولْيكُن مِن دنوِّ مواسِمِ الخيرات وأيّام النّفَحات باعثًا وهاديًا إلى محاسَبة النفس والسعي نحوَ الزكاء والطُهر، إنها أيّام شهرُ رمضانَ المبارك، يقدَمُه شهرُ شعبان، والذي كان يكثِر فيه نبيّكم محمّد من الصّيام حتى قالت عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله يصوم شَعبانَ إلاَّ قليلاً، وفي رواية: لم أرَه صائمًا من شهرٍ قطّ أكثرَ من صيامه من شعبان[1].
غيرَ أنّ بعضَ الناسِ يعتقِدون في شعبانَ اعتقاداتٍ باطلةً، وبخاصّةٍ ليلة النّصف منه، فلهم فيها معتقداتٌ وعبادات مبتَدَعة، لا أصلَ لها من كتابٍ ولا سنّة؛ كتخصيصِها بدعاءٍ خاصّ أو بقراءاتٍ فرادى وجماعاتٍ أو تحديد سُوَر من القرآن بعَينها كسورة ياسين مرّةً بنيّة طولِ العمر ومَرّةً بنيّة دفعِ البلاء أو يخصّها بعمرة، فكلُّ ذلك ممّا لم يقُم عليه دَليل ولم يثبُت فيه نصّ. أمّا الصيام فمَن كان يصوم بعضَ شعبانَ أو كثيرًا منه أو يصوم أيّامَ البيض أو وافقَ يوم اثنين أو خميس فليصُمه على عادتِه واتباعًا للسنّة كما سبق في حديثِ عائشةَ وغيره.
ألا فاتّقوا الله رحمكم الله، وليلتَزِمِ المسلم بالسنّة، وليجتَنِب مسالكَ البِدعة، فالبدعَة إحداثٌ في الدّين وتغييرٌ في الملّة وآصارٌ وأغلاَل تُضاع فيها الأوقاتُ وتُتعَبُ فيها الأجسادُ وتصرَف فيها الأموال واتّباعٌ لغير طريقِ رسول الله ، ينشَط الكَسول فيها ويعجَز عن السّنَن، ولا تكادُ تقام بِدعة إلاَّ وتهجَر سنّة، فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور:63].
هذا، وصلّوا وسلِّموا على الرّحمة المهداة والنّعمة المسداة نبيِّكم محمّد رسول الله، فقد أمركم بذلك ربُّكم جلّ في علاه، فقال قولاً كريمًا: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمَّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدِك ورسولك محمّد، وعلى آله وأزواجه وذرّيّته، وارض اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدرن...
[1] أخرجه البخاري في الصوم (1969)، ومسلم في الصيام (1156) واللفظ له في الروايتين.
ـــــــــــــــــــ(68/89)
من صفات المربي (1)
...
...
3917
...
الأسرة والمجتمع, العلم والدعوة والجهاد
...
...
الأبناء, التربية والتزكية
...
مازن التويجري
...
...
الرياض
...
...
...
جامع حي النزهة
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- أهمية التربية في حياة الأفراد والمجتمعات. 2- أهم صفات المربي: العلم بجوانبه المختلفة المتنوعة، القدرة على العطاء، القدرة على القيادة والمتابعة، القدرة على بناء العلاقات.
الخطبة الأولى
إنّ من يتعامل مع غير الإنسان إنما يتعامل مع آلة صمّاء لا روح فيها، وإن كانت الروح تدبّ في جسدها، فما هي إلا كائن حي يمكن السيطرة عليه وترويضه مهما كان حجمه أو قوته، فالجميع مسخّر لك أيها الإنسان، مهيأ لخدمتك، وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الجاثية:13].
بيد أن التعامل مع هذا الإنسان ذاته يعدّ تعاملاً مع مخلوق غريب في عالم أغرب، إنه تعامل مع الروح بإقبالها وإدبارها، مع النفس بأحوالها ومشاعرها، مع الطبع البشري بعواطفه وتقلباته ومزاجيته، مع حبه وبغضه، إقدامه وإحجامه. إنه التعامل مع عطاء الإنسان أو أنانيته، مع عالميته في البذل أو بحثه عن ذاته وشخصه ومصالحه. إذًا فالتعامل مع هذا المخلوق المتقلّب العجيب وتربيته عملية مهمة صعبة في ذات الوقت، إنها إعداد للإنسان وغرس للقيم والمعاني وتطهير للنفوس من رواسب العادات السيئة وأدران أمراض القلوب والجوارح.
إن من البدهيات المقررة لدى الناس أجمع أنه لا بد لكل وظيفة وعمل يقوم به الإنسان من إعداد وتهيئة، فالمحسوسات من حولنا تحكي الواقع وتبرهن على سنة الله في هذا الكون أن لكل صنعة صانع يسبر أغوارها ويحسن التعامل معها بما رزقه الله من فهم في هذا التخصص أو ذاك. وعليه كان لا بد لمن يتصدّى لتربية الناس من صفات يتأهّل بها ليشغل تلكم الوظيفة ويقوم بها خير قيام، إنها رسالة إلى الأب في تربيته لأبنائه، إلى المعلم بين تلاميذه، إلى من تشرّفوا بحمل الرسالة واعترك في نفوسهم هم الإصلاح والدعوة إلى الخير من مؤسسات دعوية ومحاضن تربوية في حلقات لتحفيظ القرآن الكريم أو مكتبات خيرية.
الصفة الأولى: العلم وله جوانب:
أولاً: العلم الشرعي، فالتربية في الإسلام إعداد المرء لعبودية الله تبارك وتعالى، وسبيله العلم الشرعي، فكيف يستطيع الأب أو المربي أن يأمر ابنه بالطهارة والصلاة مثلاً وهو يجهل بعض ما لله عليه فيهما، أو يعجز عن الإجابة عما يطرأ من تساؤلات في ذهن المتربي؟! وقس على هذا سائر نواحي الشرع من عبادات ومعاملات.
الجانب الثاني: ثقافة المربي العامة وإدراكه لما يدور في عصره.
الجانب الثالث: العلم بطبيعة المرحلة التي يتعامل معها إن كانوا أطفالاً أو مراهقين أو كبارًا من رجال أو نساء، فالأب الذي يجهل نفسية ابنه المراهق وما هي عليه من تقلبات وحدة في المزاج وأنه انتقل من مرحلة الطفولة إلى مرحلة بعيدة عنها مغايرة لها لن ينجح في تربيته.
جاء شاب يستأذن النبي في الزنا فقال له : ((أترضاه لأمك؟!)) قال: لا، قال: ((أترضاه لأختك؟!))، قال: لا، قال: ((فكذلك الناس لا يرضونه لأمهاتهم وأخواتهم)) أو كما قال عليه السلام. لقد كان هذا السؤال من الشاب جريئًا مفزعًا غريبًا يستثير غضبَ المسؤول، والأعظم من هذا أنه يلقيه على مسمع البرّ التقي عليه الصلاة والسلام، ومع هذا لم يعنفه أو يزجره، بل أقنعه بأسلوب حكيم ولفظ يقطر لطفًا ورحمة، وما ذاك إلا لعلمه عليه الصلاة والسلام بفورة الشباب وثوران الشهوة في تلك المرحلة.
الجانب الرابع: معرفة المربي بالشخص نفسه من حيث قدراته وإمكاناته حتى لا يبخسه حقه أو يكلفه فوق طاقته، وذلك يظهر جليًا في إلزام كثير من الآباء أبناءهم دراسة العلوم الطبيعية حتى ولو كانوا لا يملكون قدرة تؤهلهم للبروز فيها، وفي المقابل تجد لديه مخزونًا إبداعيًا في تخصص آخر لم يكتشفه والده المربي.
روى أحمد والترمذي وابن ماجه عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((أرحم أمتي بأمتي أبو بكر، وأشدهم في أمر الله عمر، وأصدقهم حياءً عثمان، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، وأفرضهم زيد بن ثابت، وأقرؤهم أُبي، ولكل أمة أمين، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح)).
وكذلك دعا لابن عباس بسعة العلم، ويرسل خالد بن الوليد بسرية بعد سرية، ويشبع رغبة أبا سفيان في الوجاهة والمنصب، وهكذا كلما جهل المربي حال المتربي وقدراته وإمكاناته فسيكون تعامله معه خاطئًا ووصاياه له مجانبة للصواب أو العدل.
والمعنى فيما سبق من جوانب مهمة في العلم أن يملك المربي ما يقدمه لذلك المتربي علمًا وفهمًا للواقع وقدرة في الإجابة على تساؤلاته وسبرًا لأغوار نفسيته، وحين يفقد المربي هذا وذاك يشعر المتربون أنه ليس ثمة ما يدعوهم للارتباط بفلان من الناس، وليس عنده ما يؤهله لأن يتولى تربيتهم، فليتنبه لهذا جموع المربين من آباء ودعاة ومعلمين.
الصفة الثانية من صفات المربي: أن يملك المربي القدرة على العطاء كما يملك حسن العطاء. هناك شخصيات كبيرة فائقة التكوين، متفوقة عقليًا وذاتيًا، ولكنه لسبب ما لا يستطيع أن يعطي التجربة الواقعية لما يحمله في ذاته من مثال رائع، إذًا فليست الأهمية تكمن فيما يملك الشخص من قدرات، ولكنها أيضًا إجابة عن التساؤل: هل هو قادر على العطاء والتربية؟ ولذلك لا عجب في أن تجد أستاذًا يحمل أعلى الشهادات لا يستطيع أن يربي أو يكوّن جيلاً يحمل ولو شيئًا من علمه ومُثله وأخلاقه.
أيها الإخوة، إن البائع الذي يسعى لترويج سلعته يدرك أن مجرّد عرضها على الناس للبيع ليس كافيًا في ترويجها، فهو يحتاج لحسن عرضها والحديث عنها مع الناس بالطريقة التي تشعرهم بحاجتهم إليها. والمقصود أن المربي قد يملك القدرة على العطاء، وهذا لا يكفي بمفرده، فقد يكون عطاؤه بطريقة خاطئة منفرة، فيضيع الأثر المطلوب، وقد ينقلب إلى الضد، ولذلك قيل: قد تحبّ طفلك وتحبّ له الخير، ولكن طريقتك في تقويم الخير إليه تشككه في حبك له، وتوهمه أنك تكرهه. وخلاصة القول أن المربي الحق هو الذي يجيد استخدام الأسلوب الأمثل، في الوقت المناسب، يعرضه في قالب الحب والشفقة.
الصفة الثالثة من صفات المربي: القدرة على القيادة والمتابعة. مع العلم وحسن العطاء لا بد من قيادة الناس وإدارتهم، فالأب الذي لا يستطيع إدارة بيته والمعلم الذي لا يملك زمام فصله والداعية الذي لا يحسن استمالة الجمهور وإقناعهم بفكرته لن يستطيع أولئك أن يجروا بسفينة التربية إلى شاطئ الأمان. فالمربي الحق هو الذي يقود أفراده حسب قناعات راسخة رباهم عليها، لا بقانون العسكر وسَوْق الناس بالعصا.
والأمر الآخر بعد هذا أن يكون قادرًا على متابعة المتربي أبناء وتلاميذ وإخوانا، فالتربية عملية مستمرة لا يكفي فيها توجيه عابر مهما كان مخلصًا صوابًا، ولهذا تجد كثيرًا من المربين يظن أن دوره في التربية يقف عند حد التوجيه والتقويم، فيأمر ابنه بالصلاة ولا يتابعه عليها، وينهاه عن رفقة السوء ولا يشغله بغيرهم، وهكذا..
وليس المقصود بالتوجيه المستمر والمتابعة ـ أيها الإخوة ـ المحاسبة على كل هفوة، فذلك ينفر ولا يربي، فالمربي الحكيم يتغاضى أحيانًا أو كثيرًا عن الهفوة وهو كاره لها؛ لأنه يدرك أن استمرار التنبيه ضار كالإلحاح فيه، وهذا لا يعني الغفلة والثقة المفرطة.
الصفة الرابعة من صفات المربي: القدرة على بناء العلاقات. إن التلقي فرع عن المحبة، وبينها من الاتصال قدر كبير قد لا نتصوّره أحيانًا، وهب أن إنسانًا بلغ الغاية في التأثير وقوة المنطق ورصانة الحجة، أتراه يكون أعلم أو أنصح أو أكثر تأثيرًا من النبي ؟! ومع ذلك قال الله تعالى لنبيّه : فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [التوبة:159]، هذا مع ما آتاه الله من وسائل التأثير وشعور الناس بأن الحق معه هو مأمور بأن يلين لأصحابه، وإلا كانت النتيجة أن ينفضوا من حوله، فكيف بغيره ممن يحمل قائمة طويلة من صفات القصور والنقص؟!
والرجاء أن لا يظن الآباء أنهم بمنأى عن هذا الخطاب، فهم أولى من يسعى في بناء العلاقات مع أبنائهم، وإلا ففي المجتمع أبدال وأمثال، واللبيب تكفيه الإشارة
من صفات المربي (2)
...
...
3918
...
الأسرة والمجتمع, العلم والدعوة والجهاد
...
...
الأبناء, التربية والتزكية
...
مازن التويجري
...
...
الرياض
...
...
...
جامع حي النزهة
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- التربية بالقدوة. 2- تأثر النفس البشرية بالقدوة. 3- خلق النبي . 4- احتجاج المتربي بمربيه. 5- تحذير المربين من يكونوا قدوة في المعاصي.
الخطبة الأولى
من السهل أن يتكلّم المرء عن المُثل والمبادئ، ومن اليسير أن يأمر بطيب الفعال وجميل الخصال، قد نقرأ كلامًا رصينًا عن الخلق وحسن التعامل فنتأثر به ونميل إليه، ولكن قد يكون هذا الميل وذاك التأثّر وقتيًا لا يثمر عملاً أو يربي في النفس سلوكًا. وعليه فثمة وسيلة هي الأقدر والأجدر على ترجمة الخصال الحميدة والأخلاق الفاضلة واقعًا عمليًا ومنهجًا يتربى عليه الجيل بعد الجيل، إنها نداءٌ، ولكنه خالٍ من الكلمات، أمرٌ بعيد كل البعد عن صِيَغه وجُمَله، إنها دعوة إلى منهجٍ متكامل، بيد أنه لا يحتاج إلى كبير جهد وكثير وقت، إنها دعوة صامته إلى فعل الخيرات بجميع أنواعها وأشكالها، ونبذ الشرور وإن تعددت صورها. تلك الوسيلة هي القدوة الحسنة في شخص المربي يعيش في كنفها جمهور المتربين.
لقد مضى الحديث عن صفات عديدة للمربي، واليوم نعيش مع هذه الصفة ولنفرد المقال فيها.
لقد أمر الله جل وعلا عموم الصحابة والأمة من بعدهم باتخاذ سيرة النبي وأحواله وأقواله أسوة ومثلاً يُحتذى: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ [الأحزاب:21].
فالنفس البشرية إذا أحبت رأت فيمن تحب مثلاً وقدوة فيما يقول ويفعل، لذلك لم تكن الرسالات محصورة في تبليغ خطاب الشارع سبحانه للناس وأمرهم بالقيام بما أوجب الله عليهم من العبادات وفضائل الأعمال والأخلاق، بل كان كل رسول يطبق الأمر الرباني في نفسه قبل أن يأمر به قومه، ولهذا كان الرسل يعتلون هامة الهرم في كمال الشخصية عقيدةً وعبادة وتعاملاً، وهذا ما توضحه آية الأنعام: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ [الأنعام:90].
ولهذا كان الداعية الأول والمربي الحكيم يعرض المنهج الرباني كما أراده الله وكما جاء في القرآن، ولما سأل سعد بن هشام بن عامر عائشة رضي الله عنها عن خلق رسول الله كما في صحيح مسلم قالت: ألست تقرأ القرآن؟! قلت: بلى، قالت: فإن خلق نبي الله كان القرآن.
فالله تعالى وتقدس جعل في شخص النبي الصورة الكاملة للمنهج الإسلامي، وأراده قدوة دائمة للبشرية، فيؤمنوا بهذا الدين على واقع تراه عيونهم وتدركه عقولهم. كل هذا لعلم الخالق سبحانه بما تحتاجه النفس البشرية كي تتأثر بالبشر من حولها، فهي قد تستجيب للأمر والنهي، ولكن لفترة محدودة ثم تمل وتسأم، وفي المقابل هي تنقاد من حيث لا تشعر إلى الاقتداء ومحاكاة ما تراه واقعًا عمليًا من خير أو شر.
ولهذا ففي دراسة أجراها الدكتور مسعد عويس على 560 شابًا تتراوح أعمارهم بين 12 إلى 30 سنة، وذلك حول حاجة الشباب إلى قدوة، ظهرت النتائج بأن نسبة الذين يرون الحاجة إلى القدوة 75 في المائة.
معاشر المربين الأكارم، إن مسألة التربية ليست تنظيرًا وتقعيدًا يصبّ في قالب الأمر والنهي، كلا، ولكنها منهج يتمثله المتربون، يرونه صورة واقعية في شخص المربي وحياته في أقواله وأفعاله وتصرفاته. والذي لا بد أن نعيه جميعًا ـ أيها الإخوة ـ أن المربي دائمًا ما يكون تحت عدسة مجهر المتربي ابنًا وتلميذًا وأخًا، فكلماته محسوبة، وحركاته معدودة، والخطأ منه كبير قد لا يغتفر.
والواقع يشهد، فكثيرًا ما تسمع احتجاجًا من ابنك الصغير على فعل ما، فإذا سُئل أخبر أن المدرس لا يفعله أو قد نهى عنه، بل تراه أحيانًا يفعل الفعل لأنه رأى أستاذه يفعله، أو يتكلم بالكلمة بطريقة المعلم، بل قد يحاكي حركاته ومشيته، وقد تكون خطأ أو نسيانًا من معلمه، أو قد لا يعرف معناها وأبعادها ولماذا عملها، وكل ما في الأمر أن أستاذه المحبوب قالها وعملها.
بل قد يترسخ في ذهن الناشئة أحيانًا فعل يرونه حسنًا وهو قبيح، وغاية ما في الأمر أنه صدر عن أبيه أو من يتولى تربيته، يكذب لأنّ والده كذب، يظن حلق اللحية أو إسبال الثوب أمرا لا بأس به لأنه يرى صورة معلمه هكذا، لا يرى في التدخين معصية وعيبًا لأنه اعتاد رؤية لفافاته بين أنامل والده، كذلك من تربى بين أبوين محافظين وفي جوّ مستقيم اعتاد رؤية شعائر الدين تقام قولاً وفعلاً، لا يستسيغ رؤية المنكر أو السكوت عن المخالفة.
حدثني أحد الأساتذة الأفاضل في جامعة الملك سعود عن طفل من أقاربه في الصف الثاني الابتدائي، بينما هو في فصله الدراسي إذ قدم معلم جديد على المدرسة فأخذه المدير في جولة تعريفية على الفصول، فدخلوا على الفصل الذي يوجد فيه هذا الطفل، فأخذ المدير يعرف بالمدرس الجديد ويثني عليه وأنه من خيرة المدرسين، وكان هذا الأخ المدرّس حليق اللحية، وبينما المدير يمدح ويطري إذ قاطعه ذلكم الطالب الصغير: كيف يكون من خيرة المعلمين وقد حلق لحيته؟! عندها تلعثم المدير وخرج مع ضيفه لا يدري ما يقول.
معاشر الآباء والدعاة والمعلمين، إننا بحاجة إلى أن نكون أكثر صدقًا ووضوحًا في تربيتنا لأبنائنا ومن تحت أيدينا، أن يقع المربي في المعصية أو الخطأ فذاك أمر يخصه لا يتعداه لغيره يحمل وزره يوم القيامة، ولكن أن يكون وقوعنا في الخطأ وتجاوزنا حدود الله ذريعة لأن نقنع من حولنا أنه عين الصواب فذاك الخزي وتلك النكسة.
ولمزيد وضوح إذا كان الأب أو المعلم قائمًا على معصية من المعاصي كحلق اللحية مثلاً أو إسبال الثياب ـ وما يمثل بهما إلا لكونهما ظاهرين ـ فلا يجب أن يكون إفهام المتربي بجوازه هو السبيل لتبرئة النفس من الخطأ. إننا بحاجة أن نربيهم بأن الخطأ خطأ وإن وقع مني، وتلك مرحلة لا يستطيعها إلا الأقوياء من المربين.
أيها الإخوة، إنه من المأسوف عليه أن تبقى التربية انتصارًا للنفس، وبحثًا عن كمالٍ مزيّف يظهر المعصية للمتربي جائزة الفعل وحرية في الاختيار، يبقى قصور بعض المربين عن بلوغ الفضيلة مدعاة لأن يصوّروا قبيح فعلهم حسنًا، فيُخرج جيلاً لا يعرف معروفًا ولا ينكر منكرًا إلا ما أشرب من هواه.
الخطبة الثانية
أيها المربي، إنّ وقعَ حركاتك وأفعالك على من تحتك له الأثر البالغ في تغيير سلوكهم وتقويم أخطائهم، وآلاف الكلمات والعظات تذهب أدراج الرياح، يغني عنها موقف صدق وحق، وفي حياتك أنت كم هي المرات التي دُعيت فيها إلى الصدقة مثلاً أو بر الوالدين، قد يكون التأثر فيها وقتيًا ولكن لم تزل صورة لواقعة ما عالقة في ذهنك عندما رأيت بارًا بأمه أو متصدقًا أخفى صدقته.
ولهذا جاء في إجابة نفس الدراسة التي أجريت على عينات الشباب حول تجديد صفات القدوة أن 83 في المائة رأوا أن من صفات القدوة أن يكون له مواقف إنسانية، و82.30 في المائة أنه يتحلّى بالتواضع، و79.10 في المائة أنه متدين، و59.50 في المائة أنه طيب القلب.
وميزات الدعوة بالفعل أنها: 1 – خالية من أسلوب الأمر والنهي الذي تأباه النفس البشرية من مثلها، 2 – لا تحتاج إلى وقت وجهد، 3 – تعمق روابط المحبة وعلاقات الإخاء بين المتربي ومربيه، 4 – أنها سريعة الأثر طويلة التأثير.
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد...
ـــــــــــــــــــ(68/90)
الحب الشرعي وعيد الحب
...
...
3928
...
الأسرة والمجتمع, الإيمان
...
...
الولاء والبراء, قضايا المجتمع
...
ماجد بن عبد الرحمن الفريان
...
...
الرياض
...
14/12/1423
...
...
سليمان بن مقيرن
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- عيد الحب في أصله عيد الخنا والفجور. 2- حرمة الاحتفال بأعياد الكفار. 3- أمثلة من حب النبي . 4- مجالات الحب في الإسلام أشمل وأسمى. 5- دراسات وأرقام حول الزواج عن طريق الحب. 6- عيد الحب مناقض لعقيدة الولاء والبراء. 7- بعض تجار المسلمين يكونون عونا في مثل هذه الاحتفالات.
الخطبة الأولى
أما بعد: فيا عباد الله، اتقوا الله حق التقوى.
معاشر المسلمين، وفي الوقت الذي يحتفل فيه المسلمون بعيدِهم المباركِ عيدِ التوحيد لله تعالى وتكبيره وتمجيده وشكرِه، وعيدِ الإحسان لعباد الله وبذلِ المعروفِ لهم وإدخالِ السرور عليهم، عيدِ الطهرِ والنقاء والعفاف والصفاء، يحتفل غيرهم بعيدٍ يخالِف اسمه مسمّاه، يسمونه عيد الحب، وحقيقته الخنا والفجور والعهْر، يُرتَكَب فيه من الفواحش ما لا يخطر على بال ولا يقبله شريف، يستدرِجون به الناس إلى حمأة الشهوات والرذيلة.
وليس الحديث عنه ترويجًا، وإنما المقصود هو التحذير منه لأنه في الواقع عيد رائج لا يحتاج إلى ترويج، وإنما يحتاج إلى تحذير، يدل على ذلك الحركة التجارية التي تصاحبه والتي تؤكد تفشي هذا الوباء في قطاع من المجتمع لا يستهان به، وهم فئة الشباب من البينين والبنات، وهو عادة جاهلية وبدعة مذمومة وتقليد أعمى اخترقت به الفضائيات خصوصيات المسلمين. ولا شك أن هذا العيد إنما هو دعوة وراءها ما وراءها من إغراء بالشهوات وإشاعة للفحشاء والانحلال بين أبناء المسلمين تحت مسمى الحب ونحوه.
ولسنا نحرّم الحب إذا حرّمنا هذا العيد، فهذا عيد من أعياد الكفار، والمسلمون قد عوضهم الله بعيدين شرعيين لا يجوز لهم الاحتفال بغيرهما، والأعياد من خصائص الأمم، فلا يجوز لنا أن نشارك أمم الكفر الذين هم أعداؤنا في أفراحهم واحتفالاتهم، ولا شك أنه من الخطأ أن يخلط الإنسان بين ظاهر اسم اليوم وحقيقة ما يريدون من ورائه؛ فالحبّ المقصود في هذا اليوم هو العشق والهيام واتخاذ الأخدان، والمعروف عنه أنه يوم الإباحية والجنس عند الكافرين، لا قيود ولا حدود، ولا شك أنهم لا يتحدّثون عن الحب الطاهر بين الرجل وزوجته والمرأة وزوجها، وإنما عن علاقات محرمة.
أيها المسلمون، إن التعبير عن المشاعر والعواطف لا يسوِّغ للمسلم إحداثَ يوم يعظمه ويخصّه من تلقاء نفسه بذلك ويسميه عيدًا أو يجعله كالعيد.
ولا توجد أمة من الأمم ولا دين من الأديان يحث أبناءه على التحابِّ والمودة والتآلف كدين الإسلام، وهذا في كل وقت وحين لا في يوم بعينه، بل حث على إظهار العاطفة والحب في كل وقت، كما قال عليه الصلاة والسلام: ((إذا أحب أحدكم أخاه فليعلمه إياه)) رواه الترمذي وقال: "حديث حسن صحيح غريب"، وجعل المحبة طريقًا إلى الجنة كما في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة: ((والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أوَلا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم))، وهذا رسولنا عليه الصلاة والسلام يضرب لنا أروع الأمثلة في محبته لأهل بيته كما جاء في السنة المطهرة؛ فيحرص عليه الصلاة والسلام أن يشرب من الموضع الذي شربت منه زوجه عائشة رضي الله عنها، وفي مرض موته يستاك بالسواك الذي رطبته له، ويموت عليه الصلاة والسلام بين سحرها ونحرها، فأي حبّ أشرف وأسمى من هذا؟!
بل إن المسلم تمتد عاطفته لتشمل حتى الجمادات، فهذا جبل أحد يقول عنه عليه الصلاة والسلام: ((هذا أحد جبل يحبنا ونحبه))، ولا شك أن الحب في الإسلام أعم وأشمل وأسمى من قصره على الحب بين الرجل والمرأة، بل هناك مجالات أشمل وأرحب وأسمى، فهناك حب الله تعالى وحبّ رسوله عليه الصلاة والسلام وصحابته وحب الدين ونصرته وحب الشهادة في سبيل الله وهناك محاب كثيرة، فمن الخطأ والخطر إذًا قصر هذا المعنى الواسع على هذا النوع من الحب.
أيها المسلمون، ولعل البعض يظن متأثّرًا بما تبثّه وسائل الإعلام ليل نهار أنه لا يمكن أن ينشأ زواج ناجح أو انسجام تام إلا إذا قامت علاقةُ محبة قبله بين الشاب والفتاة، وقد يغفل الإنسان حينما تتكرر عليه العروض الإغرائية عما تتضمنه من دعوة إلى الاختلاط والانحلال وكثير من الانحرافات الخلقية، وما ينشأ عنه من فساد كبيرٍ وجرائم عظيمة وضياع للحرمات والأعراض، لسنا في مقام بيانها، لكن نشير إلى أن الدراسات العلمية أثبتت نقيض هذا المفهوم الخاطئ الذي تروّج له وسائل الإعلام، ففي دراسة أجرتها جامعة القاهرة حول ما أسمته بزواج الحب والزواج التقليدي جاء في الدراسة أن الزواج الذي يأتي بعد قصة حب ينتهي بالإخفاق بنسبة ثمان وثمانين في المائة، أي: بنسبة نجاح لا تتجاوز اثني عشر في المائة، وأما ما أسمته الدراسة زواجا تقليديًا فهو يحقّق النجاحَ بنسبة سبعين في المائة، وبعبارة أخرى فإنّ عدد حالات الزواج الناجحة في الزواج الذي يسمونه تقليديًا تعادل ستة أضعاف ما يسمى بزواج الحب.
وهذه الدراسة أكدتها جامعة سيراكوز الأميركية في دراسة تبيّن منها بما لا يقبل الشك إطلاقًا أن الحب أو العشق ليس ضمانة لزواج ناجح، بل في الأغلب يؤدي إلى الإخفاق، وما هذه النسب المخيفة في حالات الطلاق إلا تصديق لهذه الحقائق. يقول أستاذ علم النفس الاجتماعي بجامعة تولين: "إنّ الحب الرومانسي قوي وعاطفي جدًا، ولكنه لا يدوم، بينما الحبّ الواقعي مرتبط بالأرض والحياة ويستطيع أن يصمد أمام التجربة". وهذا الذي يسميه الحبَّ الواقعي هو ما عبر القرآن عنه بالمودة في قوله تعالى: وَمِنْ ءايَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْواجًا لّتَسْكُنُواْ إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِى ذَلِكَ لايَاتٍ لّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الروم:21]. فالصلة بين الزوجين صلة مودة ورحمة، وليست علاقةَ عشق وهيام وصبابة وغرام، فهي صلة محبة هادئة، لا أوهامٍ عشقية لا تثبت على أرض الواقع، ولا خيالات غرامية لم يقم عليها أيّ زواج ناجح. وما أفقه عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين قال مخاطبًا النساء: (إذا كانت إحداكن لا تحبّ الرجل منا فلا تخبره بذلك؛ فإن أقلّ البيوت ما بني على المحبة، وإنما يتعاشر الناس بالحسب والإسلام).
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية
أما بعد: فيا أيها الإخوة المتحابون بجلال الله، إن الاحتفال بمثل هذا الأعياد مناقض لعقيدة الولاء والبراء ولوازمها، وهو من التشبه بأهل الكتاب في مظاهرهم وأعيادهم وأيامهم، وهو مخالفة صريحة لنهي النبي عن التشبه بالكافرين، ومزاحمة لأعياد الله التي جعلها كافية لهذه الأمة المحمدية المرحومة.
فيا أيها المسلم، دع عنك التبعية لأعداء الدين، والتفت إلى المحبة في الله والبغض في الله؛ فالمرء مع من أحب يوم القيامة، واقتدِ بالصحب الكرام في هذا الأمر، فلقد ضربوا أروع الأمثلة في المحبة العالية السامقة المقرّبة إلى الله تعالى، فلقد روى الطبراني في الأوسط من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: جاء رجل إلى النبي فقال: يا رسول الله، إنك لأحبُّ إليّ من نفسي، وإنك لأحبُ إلي من ولدي، وإني لأكون في البيت فأذكرك فما أصبر حتى آتي فأنظر إليك، وإذا ذكرت موتي وموتك عرفت أنك إذا دخلت الجنة رفعتَ مع النبيين، وإني إذا دخلت الجنة خشيت أن لا أراك، فلم يرد عليه النبي فأنزل الله: وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم [النساء:69].
وإذا حقت الحاقة ووقعت الواقعة وزلزلت الأرض زلزالها ودنت الشمس من الرؤوس فحدث ولا حرج عن الكرامات لهؤلاء المتحابين بجلال الله، يظلهم الله في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله، ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: ((سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله))، وذكر منهم: ((رجلان تحابا في الله، اجتمعا عليه وتفرقا عليه))، وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي أخبر أن الله يقول يوم القيامة: ((أين المتحابون بجلالي؟ اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي)).
إخوة الإسلام، ولا شك أن الوعيَ بخطر هذا العيد وتحريمه قد تحسّن في المجتمع بشكل كبير، وعلم كثير من الشباب والشابات ما في هذا العيد من الخطر على عقيدتهم وسلوكهم، وحتى وسائل الإعلام في هذا البلد بحمد الله تحذر منه وتغري المسؤولين بالتصدي لمظاهره، لكنها ليست بريئة من إفساد عقليات الشباب والشابات بالأفلام التي تعرض والمسلسلات التي تنشر، والتي تزين الحبّ بين الفتى والفتاة، وتصور العشق مقدمة لا بد منها لأيّ زواجٍ ناجح كما يزعمون، فهي مع كونها ترسّخ في أذهان الفتيات الصغيرات أوهامًا وخيالات تجعلهن عرضة للخطأ وصيدًا سهلاً لشباك الشباب الزائغ الضائع فإلى جانب ذلك تعمل على هدم المجتمع وترفع نسَب الطلاق؛ فتهدم المجتمع بإثارة الفتنة والشهوات بين أبنائه، وترفع نسب الطلاق حين تحسَب الفتاة بعد الزواج أن زواجها قد أخفق؛ لأن مشاعر العشق توقفت، وواقعية الزواج ظهرت، والمسؤوليات تسارعت؛ فتحسب المخدوعة أن زواجها أخفق. وكذلك يحسب الفتى الذي يجد زوجته قد انشغلت ببيتها وأولادها ولم تعد تظهر له العواطف القديمة ومشاعر العشق الوالهة أن زواجه قد أخفق؛ فينشأ الشجار لأتفه الأسباب، وتشتد الخلافات، ويحتدم الشقاق، وربما وقع الطلاق.
إخوة الإسلام، ويشارك وسائل الإعلام في نشر مثل هذه الأعياد البدعية بعض تجار المسلمين الذين يدفعهم حرصهم على ربح عاجل إلى بيع ما يستعان به على الاحتفال بمثل هذه الأعياد، ولا شك أن هذا لؤم وتجرد من المسؤولية ومشابهة لليهود في خيانتهم وإفسادهم لمجتمعاتهم، وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: إن بيعهم في أعيادهم للأكل والشرب واللباس يكره كراهة تحريم؛ لأن هذه إعانة قد تفضي إلى إظهار الدين الباطل.. وهذا أعظم من إعانة شخص معين، وهذا المنع إذا كان يبيعه لأهل الكتاب ليستعينوا به على دينهم؛ فكيف ببيعه للمسلم المأمور بعدم التشبه بهم أصلاً؟!
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد...
ـــــــــــــــــــ(68/91)
الصحبة وأثرها على التربية
...
...
3931
...
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
...
...
الآداب والحقوق العامة, قضايا المجتمع
...
ماجد بن عبد الرحمن الفريان
...
...
الرياض
...
29/7/1424
...
...
سليمان بن مقيرن
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- المرء على دين خليله. 2- خصال الصديق الصالح. 3- مصاحبة الصالحين دواء القلوب.4- دعوة للأخيار بحسن المعاملة مع من أقبل على الخير والهداية. 5- الرفقة مطلب نفسي لا يستغني عنه الإنسان. 6- أهمية الصحبة الصالحة خاصة في مرحلة الشباب.
الخطبة الأولى
أما بعد: فيا عباد الله، اتقوا الله حق التقوى.
معاشر المسلمين، الصحبة والصداقة عاطفة سامية القدر ونعمة غزيرة المآثر، وإن من مظاهر امتحان الأخلاق واختبار الأدب ما يعانيه الإنسان في حياته من اختيار أصحاب له وأخلاء، يقرُب من هذا، ويبعد من ذاك، ويتوافق مع أقوام، ولا يتلاءم مع آخرين، يدرك أن صاحبه هو رقعة ثوبه، فينظر بم يرقع ثوبه، ويرتضي لنفسه ما يوافق شخصيته وما يحب أن يزنه الناس به؛ ذلك أن ميزان الإنسان أصدقاؤه، فقل لي من صاحبك أقل لك من أنت، والناس تعرِف المرء صالحًا أو طالحًا من خلال النوعيّة التي شاكلها والصحبة التي سايرها، ولقد جسّد ذلك محمّد بقوله: ((الرجل على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل)) أخرجه أبو داود بإسناد صحيح.
فالإنسان موسوم بسيماء من قارب، ومنسوب إليه أفعال من صاحَب، وهذا ابن مسعود رضي الله عنه يقول: (ما من شيء أدلّ على شيء ولا الدخان على النار من الصاحب على الصاحب)، وقال عدي بن زيد:
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه فكل قرين بالمقارن يقتدي
إذا كنت في قوم فصاحب خيارهم ولا تصحب الأردى فتردى مع الردي
ولما للصاحب من أثر بالغ على صاحبه نهى النبي عن صحبة غير المؤمنين فقال : ((لا تصاحب إلا مؤمنا، ولا يأكل طعامك إلا تقي)) أخرجه أبو داود والترمذي بسند لا بأس به.
أيها المسلمون، كم ضل من ضل بسبب قرين فاسد أو مجموعة من القرناء الأشرار، وكم أنقذ الله بقرناء الخير من كان على شفا جرف هار فأنقذه الله بهم من النار.
وإن من الخيبة ـ والله ـ أن ترى المرء لا تنبسط أساريره إلا مع قرناء السوء، ويصطفي لنفسه من مجموع هذه الخلائق أراذل الناس، إن همَّ بخير ثبطوه، وإن أبطأ عن سوء عجلوه، وإن استحيا من منكر شجعوه وهونوه، فهم دعاة له على طريق جهنم، إن استمر معهم أردوه في أبأس عاقبة وأتعس مصير، وكانت عاقبته الندامة والعض الشديد على اليدين ندمًا على صحبتهم، وإن أشاح عنهم بوجهه وبدنه وعقله وفكره وبحث عن الصحبة التي تدعوه إلى الجنة عصمه الله بإذنه، وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يالَيْتَنِى اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً ياوَيْلَتَا لَيْتَنِى لَمْ أَتَّخِذْ فُلاَنًا خَلِيلاً لَّقَدْ أَضَلَّنِى عَنِ الذّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءنِى وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنْسَانِ خَذُولاً [الفرقان:27-29].
معاشر المسلمين، ذكر أهل العلم والأدب جملة من النعوت والأوصاف يعرف بها الأصحاب في حسن مناقبهم والخلان في مستحسن مذاهبهم يجمل بالمرء أن يعرفها، ونحن نذكر في هذا المقام ثلاث خصال تحوي فروع الفضائل، ولا يمكن التنازل عنها في الصديق:
الخصلة الأولى: عقل موفور يهدي إلى مراشد الأمور، فالأحمق لا تثبت معه مودة، ولا تدوم لصاحبه استقامة، وعداوة العاقل أقل ضررًا من صحبة الأحمق.
الخصلة الثانية: دين يقف بصاحبه على الخيرات ويحجزه عن المنكرات، وقليل الديانة عدو لنفسه قبل غيره، فكيف ترجى منه مودة غيره؟! والصديق الفاسق شؤم على صاحبه لأنه لن يتركه وشأنه، بل سيجرّه معه إلى فسقه ومجونه، ليُذهب عن نفسه وحشة الانفراد بالمعصية، أو ليهدم حاجز النفرة بينه وبين صديقه بسبب معصيته.
الخصلة الثالثة: أن يكون محمود الأخلاق مرضي الفعال مؤثرًا للخير آمرًا به كارهًا للشر ناهيًا عنه، ولا يكفي التدين دون الخلق الحسن؛ لأن المرء قد يطبع على خلال لا تستقيم معها الصحبة.
معاشر المسلمين، وإذا كانت القلوب تموت بمصاحبة الأشرار أو تصاب بالعلل الكبرى فإن في مصاحبة الأخيار دواءً للقلوب وحياة لها، وقد يقنع المرء بصحبة الصالحين، ولكنه يجد في نفسه تثاقلاً أو حياءً أو حواجز نفسيةً تمنعه من صحبتهم، فلا بد أن يجاهد نفسه في البداية فإنها ستنقاد له في النهاية، ولا بد أن تعلم ـ أخا الإسلام ـ أن العتبة الأولى في مصاحبة الصالحين هو أن تكون صالحًا مثلهم، فإذا أصلحت حالك زالت عنك وحشة الذنوب، وانقشع عنك ذل المعصية، وأتتك الجرأة على صحبتهم، فاستعن بالله تعالى وبادر قبل الندم.
وأنتم ـ معشر الأخيار ـ إذا جاءكم المرء مقبلاً على الخير فإياكم أن تكفهرّوا في وجهه حتى ولو رأيتم عليه بقايا المعاصي، فحقّ من وضع رجله في الطريق الصحيح أن يقابل بالودّ والترحاب، وحقّ من استغاث بأهل الخير أن يغيثوه، وإنّ من الخطأ أن ينغلق أهل الخير على أنفسهم أو تكون الريبة هي الأصل في تعاملهم.
فيا أخا الإسلام، نصيحتي لك أن تفرّ من المجذوم في هذه الحياة فرارك من الأسد، ولا تسلّم فكرك للآخرين يقودونك حيث شاؤوا ويوقعون بك من مصائب الدنيا ما يظلّ خزيه يلاحقك ما حييت، والفضيحة على رؤوس الأشهاد أنكى وأخزى، وهذا كتاب الله يقصّ عليك حوارًا معبّرًا عن أثر القرين إلا من حمى الله ووقى، يقول تعالى: قَالَ قَائِلٌ مّنْهُمْ إِنّى كَانَ لِى قَرِينٌ يَقُولُ أَءنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدّقِينَ أَءذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَءنَّا لَمَدِينُونَ قَالَ هَلْ أَنتُمْ مُّطَّلِعُونَ فَاطَّلَعَ فَرَءاهُ فِى سَوَاء الْجَحِيمِ قَالَ تَاللَّهِ إِن كِدتَّ لَتُرْدِينِ وَلَوْلاَ نِعْمَةُ رَبّى لَكُنتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ [الصافات:51-57].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
أما بعد: فيا عباد الله، إن الإنسان اجتماعيٌّ بطبعه، والتعارف بين الناس وما يترتب عليه من مصالح عظيمة في تعاونهم وتزواجهم وتآلفهم أمر قائم مشهود، والصديق والصاحب لا يكاد ينفك عنه تاريخ الإنسان، وهو مصدر من مصادر تربيته ومعرفته وأنسه وسروره ومواساته ومعاونته، وهو ذو أثر كبير في حياة المرء النفسية والاجتماعية والثقافية، ومن الأمثلة التاريخية المتميزة المبينة لأثر الصحبة ووظائفها صحبة أبي بكر الصديق رضي الله عنه لرسول الله والارتباط النفسي والمصيري الذي اقتضته هذه الصحبة الفريدة، نظرًا لارتباطها بأهداف عالية رفيعة، وكيف كان أثرها على أبي بكر رضي الله عنه.
والرفقة مطلب نفسي لا يستغني عنه الإنسان وخصوصًا في مرحلة الشباب والمراهقة، ويصعب منع الشاب عن الرفقة أو فرض العزلة عليه، وهو أمر يصطدم مع طبع الإنسان وجبلته، ويحرمه من حاجة نفسية مهمة، ولذا كان السجن الانفرادي عقابا قاسيا لأنه يعزل الإنسان عن حاجة من حاجاته المهمة ويحرمه من الاجتماع بالناس، والاختلاط بهم وبثّ همومه وأحزانه وأشجانه إليهم.
والشاب المراهق يستوحش كثيرًا من العزلة، ويحسّ بحاجة داخلية ملحة للالتقاء بأصحابه وأبناء مرحلته، ويشعر أنهم يمدونه بزاد نفسي لا يقدمه له الكبار أو الأطفال، وفي الوقت ذاته لا يجد راحة في علاقته بوالديه أو أساتذته ونحوهم، ويشعر أنهم لا يفهمون شخصيته، خاصة إذا بدا منهم احتقار له أو سخرية منه. وهذا يؤكد على أمر مهم جدًا وهو أنك إذا علمت حاجته للصحبة وعلمت أن صحبة الوالدين لا تغني عن صحبة أترابه وأسنانه وعلمت أنه سيصاحب شئتَ أم أبيت فعليك أن تعرِف أهمية الصحبة الصالحة.
وأنت ـ أيها الشاب ـ لا بد أن تنتبه لشأن حالتك النفسية، فلا يكون توجيهك عفويًا لها، بل لا بد أن تلبي حاجتك في صحبة صالحة، ذلك أن لصحبتك أثرًا تراكميًا متدرجًا على شخصيتك، وقلّ أن نجد شابًا كان له خلة ومحبة ومرافقة لصحبة إلا ويكون على نهجها وطريقها متّحدًا معها في أفكاره ومسالكه وأخلاقه، إن خيرًا فخير وإن شرًا فشر، وهذا يؤكّد دور الآباء في انتقاء الصحبة الصالحة لأبنائهم، وعدم تجاهل هذه الحاجة النفسية الملحة حتى يفاجأ بأن ابنه يسير مع صحبة سيئة.
نسأل الله أن يعصمنا جميعًا وذرياتنا من مضلات الفتن ما ظهر منها ومات بطن.
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد...
ـــــــــــــــــــ(68/92)
الحياء
...
...
3572
...
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
...
...
المرأة, مكارم الأخلاق
...
يزيد بن الخضر ابن قاسي
...
...
بوزريعة
...
...
...
علي مغربي
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- عناية الإسلام بالأخلاق. 2- الحياء من صفات الله تعالى. 3- حياء النبي . 4- فضل الحياء وأهميته. 5- حقيقة الحياء. 6- الحياء من الله. 7- الحياء من الناس. 8- خطورة الجهر بالمعاصي. 9- الحياء كله خير. 10- حياء المرأة. 11- وجوب حجاب المرأة وبيان فضله. 12- وعيد المتبرجات. 13- تفنيد بعض شبهات المتبرجات.
الخطبة الأولى
إن الله تعالى قد أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره الكافرون، وثمة أمور عظيمة بعِث بها النبي ، والتي كانت نبراصا منيرا ودليلا قويا على صدق وعظم ما بعِث به، ومن هذه الأمور ـ عباد الله ـ مكارم الأخلاق، قال : ((إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق))، فللأخلاق منزلة عظيمة في ديننا، ولقد عني الإسلام بها عناية جليلة وفريدة، وما ذلك ـ عباد الله ـ إلا لأن الآداب والأخلاق لها صلة وثيقة وقوية بعقيدة الأمة ومبادئها، فكمال الأمة بكمال أخلاقها، وصلاح الأمة بصلاح آدابها وأخلاقها.
إنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا
وإن من هذه الأخلاق الكريمة الفاضلة والصفات العالية الحميدة صفة الحياء، هذا الخلق النبيل والسلوك القويم الذي ما اتصف به مسلمٌ ما إلا وحاز به الخير الكثير، وابتعد به عن الشر المستطير، ونال به الثواب الكبير.
واعلموا ـ عباد الله ـ أن هذه الصفة الكريمة عظيمة الشأن رفيعة القدر، بل ويكفي لعظمها وجلالها أن الله سبحانه وتعالى متصف بها، فالحياء صفة من صفات الرحمن، قال : ((إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ حَيِيٌّ سِتِّيرٌ يُحِبُّ الْحَيَاءَ وَالسّتْرَ))، وقال : ((إنَّ اللهَ حييٌّ كريمْ يَسْتَحي مِنْ عبدِه إذا رفع يديهِ إليهِ أن يرُدَهُما صِفْرًا)).
قال الإمام ابن القيم رحمه الله: "وأما حياء الرب تعالى من عبده فذاك نوع آخر، لا تدركه الأفهام، ولا تكتنفه العقول، فإنه حياء كرم وبرٍّ وجود وجلال، فإنه تبارك وتعالى حيي كريم، يستحيي من عبده إذا رفع إليه يديه أن يردهما صفرًا، ويستحي أن يعذّب ذا شيبة شابت في الإسلام". نعم الحياء صفة من صفاته تعالى، وصفاته تعالى كلها صفات كمال، منزهة عن أي وضعف ونقصان.
ولا يخفى علينا جميعا ـ أيها المسلمون ـ ما كان لنبينا من هذه الصفة الجليلة، فقد وصفه أبو سعيد الخضري بقوله: لرسول الله أشد حياء من العذراء في خدرها، فإذا رأى شيئا يكرهه عرفناه في وجهه. والعذراءُ هي البنتُ التي لم يَسبقْ لها زواج، وخِدرُها موضعُها الذي تُصانُ فيه عن الأعْيُنِ. نعم، هكذا كان رسولنا وقدوتنا .
ويتجلّى ـ عباد الله ـ عظم وأهمية صفة الحياء في ديننا بما أخبر به أن الحياء شعبة من شعب الإيمان، فقال : ((الإيمان بضعٌ وسبعون شعبة، أعلاها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من شعب الإيمان))، وقال أيضا : ((الحياء والإيمان قرناء جميعا، فإذا رفع أحدهما رفع الآخر))، أي: كل واحد منهما مرتبط بالآخر، فإذا ذهب الواحد ذهب الآخر.
والحياء كما عرفه العلماء: هو خلق يبعث على ترك القبيح ويمنع من التقصير في حق من الحقوق، فالحياء خلق فاضل يدعوك إلى التحلي بالفضائل والبعد عن الرذائل، والحياء يدعوك أن تخجل في نفسك، وتستحي من ربك، ثم تستحي من الناس.
وإن الاستحياء من الله هو أسمى وأعظم مرتبة للحياء، وقد أمر به النبي أصحابه فقال: ((استحيوا من الله حق الحياء))، فقالوا: يا رسول الله، إنا نستحي من الله حق الحياء! قال : ((ليس ذلك؛ الاستحياء من الله أن تحفظ الرأس وما وعى، والبطنَ وما حوى، وتذكر الموت والبلى، ومن أراد الآخرة ترك زينة الحياة الدنيا، من فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء)).
فحقيقة الاستحياء من الله أن تحفظ لسانك وسمعك وبصرك وبطنك وفرجك عما حرم الله سبحانه وتعالى عليك، وإن الاستحياء من الله يشمل كذلك أن لا تعصيه في خلوتك وقد قال بعض السلف: "خف الله على قدر قدرته عليك، واستح منه على قدر قربه منك".
وصدق من قال:
وإذا خلوتَ بِريبةٍ في ظُلْمَةٍ والنَّفْسُ داعيةٌ إلى الطُغْيانِ
فاستحي من نظرِ الإلهِ وقُلْ لها إنَّ الذي خلقَ الظلامَ يَرَاني
وإن من الحياء ـ عباد الله ـ أن تستحي من الناس، فحياؤكَ من الناسِ يمنعك من أن تقع أعينهم على ما يعيبونه عليك، وحياؤك من الناس يقودُكَ إلى رفعِ الأذى عنهم، قال ابنُ القيمِ رحِمَهُ الله: "فالحياءُ هو من أعظمِ الأخلاقِ وأكْرَمِها، ذلك لأنه مصدرُ الفضائِلِ، فالولدُ يبرُ بوالديهِ بسبب الحياءِ، وصاحِبُ الدارِ يُكْرِمُ ضيفَهُ بسبب الحياءِ، والعبدُ يفي بالموعدِ بسبب الحياءِ أيضًا، لذلك عندما سُئِلَ المصطفى عليه الصلاة والسلام قالَ: ((إنَّ لِكُلِ دين خُلُقًا، وخُلُقُ الإسلامِ الحياء))" مروي بإسناد حسن عن أنس.
والحياء ـ عباد الله ـ مأثور عن الأنبياء المتقدمين، وأن الناس توارثوه عنهم قرنا بعد قرن، ففي صحيح البخاري من حديث أبي مسعود رضي الله عنه أن النبي قال: ((إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستحِ فاصنع ما شئت))، وفي فهم قوله : ((إذا لم تستحِ فاصنع ما شئت)) معنيان، أحدهما: أنه أمر بمعنى التهديد والوعيد، أي: إذا لم يكن لك حياء فاعمل ما شئت فالله يجازيك عليه بما تستحق، وهو من باب قوله تعالى: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [فصلت:40]، والمعنى الآخر: أنه بمعنى الخبر، أي: أن الإنسان الذي لم يستح صنع ما شاء، فإن المانع من فعل القبائح هو الحياء، فمن لم يكن له حياء انهمك في كل فحشاء ومنكر، كما ذكر ذلك ابن رجب رحمه الله.
فالمرء حينما يفقد حياءه يتدرج في المعاصي من سيئ إلى أسوأ، من رذيلة إلى أرذل، ولا يزال يهوي حتى ينحدر إلى الدرك الأسفل.
وكذلك المرء إذا لم يكن له حياء جهر بالمعاصي أمام الناس ولا يبالي، فالمجاهرون بالجرائم والمعاصي والمعلنون لها أمام الناس جهارا نهارا ولا يبالون بما يفعلون هؤلاء لا يستحيون من الله، ولا يستحيون من الناس، ولهذا استحقوا الوعيد الشديد الذي أخبر به النبي بقوله: ((كل أمتي معافى إلا المجاهرين))، ونفهم من هذا ـ عباد الله ـ أن الجهر بالمعصية أخطر من الإسرار بها، والجهر بالمعصية أعظم إثما وأشدّ جرما عند الله من الإسرار بها، فالذي يشرب الخمر أو يعصي الله بنوع من أنواع الفجور والفسوق على قارعة الطريق أمام أعين الناس أعظم إثما عند الله من الذي يعصيه في كل هذا وهو ساتر لنفسه، بينه وبين نفسه، ساتر لمعصيته عن أعين الناس، بينه وبين ربه؛ لأن الجهر بالمعصية أمام الناس ـ عباد الله ـ فيه تحدٍّ لله عز وجل في محارمه أمام عباده، ولأن الجهر بالمعصية يقود إلى استحلالها، والجهر بالمعصية فيه دعاية ودعوة وإشهار للحرام، ويورث في قلوب الناس الرغبة في ارتكابه، فالناس مفطورون على حبّ التوافق والمشابهة بعضهم ببعض، خاصة عند قصار العقول وضعاف النفوس، فيزين لهم الشيطان ارتكاب الحرام، فيكثر الفساد ويشيع وينتشر في أوساط المسلمين، وكما أن الجهر بالمعصية من موجبات غضب الله وسخطه وعذابه في الدنيا، ولهذه الأسباب كلها كان الجهر بالمعصية أعظم وأشد إثما من الإسرار بها، فمن استحيى من الله ومن الناس وستر معصيته عن أعين الناس وستر نفسه معترفا بذنبه أدركته عافية الله وستره في الدنيا والآخرة، وأما من فضح نفسه وخلع ثوب حيائه وأعلن وجاهر بذنبه أمام الناس كان وبال أمره خسرا، وعقابه عند الله شديدا، ولم يكن من المعافين، قال تعالى: أَفَمَن زُيّنَ لَهُ سُوء عَمَلِهِ فَرَءاهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِى مَن يَشَاء [فاطر:8].
وقد أحسن من أنشد بقوله:
إذا لم تخش عاقبة الليالي ولم تستح فاصنع ما تشاء
فلا والله ما في العيش خير ولا الدنيا إذا ذهب الحياء
يعيش المرء ما استحيى بخير ويبقى العود ما بقي اللحاء
وقال الآخر:
إذا قلّ ماء الوجه قلّ حياؤه ولا خير في وجه إذا قل ماؤه
حياءك فاحفظه عليك فإنما يدلّ على وجه الكريم حياؤه
إن الحياء ـ عباد الله ـ كله خير، رأى النبي رجلا يعاتب أخاه في الحياء، فقال له : ((دعه؛ فإن الحياء لا يأت إلا بخير)). والحياء المقصود في هذا الحديث هو الحياء الشرعي الذي يحمل صاحبه على ترك القبيح، ويمنعه من التقصير في حق من الحقوق، وليس الحياء المذموم، قال الإمامُ النووي في شرحِ هذا الحديث: "وأما كونُ الحياءِ خيرًا كُلُه ولا يأتي إلا بخيرٍ فَقَدْ يُشْكِلُ على بعضِ الناسِ من حيثُ أن صاحِبَ الحياءِ قد يسْتحي أن يواجه بالحقِ من يُجِلُه، فيتْرُكَ أمْرَه بالمعْروفِ ونهيه عنِ المُنْكرِ، وقدْ يحْمِلُه الحياءُ على الإِخْلالِ بِبعضِ الحُقوقِ وغيرِ ذلك مما هو معْروفٌ في العادة".
فلا ينبغي أن يكون الحياء مانعًا من قول الحق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا حائلا عن طلب العلم، وقد قال : ((اثنان لا يتعلمان: مستحي ومستكبر))، وهذا من قبيل الحياء المذموم، فلا يمنعك الحياء ـ أخي المسلم ـ أن تسأل عما أوجب الله عليك، وأن تستفسر عما أشكل عليك في أمور دينك ودنياك، فإن الله لا يستحي من الحق.
الخطبة الثانية
عباد الله، لقد خلق الله المرأة وكانت مثالا للحياء، فقد فطرها الله سبحانه وتعالى على هذه الصفة الجليلة، وجاء الإسلام فجعلها شعارا للعِرض والحرمة، وعنوانا للحشمة والعفة، ورمزا للحياء والسترة، فشرع لها من الشرائع والأحكام ما يحفظ به حياءها وعفتها، وما يصون به شرفها وقيمها.
ومن هذه الأحكام ما أوجبه الله عليها من السترة واللباس، هذا الحجاب هذا اللباس الرباني الذي هو عنوان الحياء والعفة عند المرأة المسلمة، فقد أوجبه الله تعالى في كتابه فقال جل وعلا: ياأَيُّهَا النَّبِىُّ قُل لأزْواجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذالِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا [الأحزاب:59]، وثبت أن النبي قال: ((يا أسماء، إن المرأة إذا بلغت المحيض فلا يحلّ أن يرى منها إلا وجهها وكفيها)).
أيها الإخوة الكرام، إن هناك تلازما بين ما شرعه الله من اللباس لستر العورات وبين التقوى، فكلاهما لباس، قال تعالى: يَابَنِى آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوارِى سَوْءتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذالِكَ خَيْرٌ ذالِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ يَابَنِى آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ [الأعراف:26، 27].
فالتقوى يستر عورات القلب ويزينه، واللباس الشرعي يستر عورات الجسم ويزينه، وهما متلازمان، فمن الشعور بالتقوى والحياء ينبثق شعور يستقبح به المرءُ أن يتعرّى في جسده، ومن لا يستحي من الله ولا يتقيه لا يهمه أن يتعرّى أو أن يدعو غيره إلى العُري، ولهذا كان ستر العورة عند الرجل والمرأة ملازما للتقوى والحياء.
والحجاب الذي يستر المرأة هو عنوان عفتها، فالحجاب يحفظها من أذى الفساق ومرضى القلوب، فلا تتسابق النظرات إليها، لأنها حفظت أوامر الله، فحفظها الله سبحانه تعالى.
والحجاب ـ عباد الله ـ يتناسب مع غيرة الرجل التي جبله الله عليها، أبًا كان أو زوجا أو أخا أو ابنا، فالمؤمن لا يرضى أن توجَّه نظرات خائنة إلى أهله وعياله، وحفظُ كلِّ ذلك بالحجاب.
كما أن الحجاب طهارة للمرأة المحجّبة وطهارة لقلب الرجل، قال تعالى: وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْئَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ ذالِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ [الأحزاب:53]. فوصف الله سبحانه الحجاب بأنه طهارة لقلوب المؤمنين والمؤمنات؛ لأن العين إذا لم تر لم يشتهِ القلب، أما إذا رأت العين فقد يشتهي القلب وقد لا يشتهي. ومن هنا كان القلب مع عدم الرؤية أطهر، ومع عدم الفتنة أسلم.
فالمرأة المحجبة تجدها من أكثر النساء حياء، في لباسها، في كلامها، في مشيتها، وقد ذكر الله على سبيل المدح في سورة القصص من موقف ابنتي الرجل الصالح اللتين تربتا على العفة والطهارة والحشمة والحجاب، قال تعالى: فَجَاءتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِى عَلَى اسْتِحْيَاء [القصص:25].
وإنّ ما نراه اليوم ـ عباد الله ـ مما أحدثه بعض المسلمات في هذا الزمان من التعري ولبس القصير والضيق والشفاف من اللباس بقصد أو بغير قصد مناف للحياء، وهو أمر فظيع، وهو بعيد كلَّ البعد عما أوجبه الله على المسلمات لما أبدينه من المفاتن والمحاسن، فكان سببا عظيما في إثارة الفتنة عند الشباب، وقد حذر الله سبحانه وتعالى من التبرج في كتابه فقال للمسلمات: وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأولَى [الأحزاب:33]، ولقد ثبت عن النبي في السنة الصحيحة أنه قال: ((صنفان من أهل النار لم أرهما بعد: قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات مائلات مميلات، رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا)).
هذه صفات نساء من أمته رآهن النبي في النار، ولم يرهن في زمانه، وهذا من معجزاته ، فقال في وصفهن: ((كاسيات عاريات)) أي: عليهن كسوة لا تفيد ولا تستر، إما لقصرها أو خفتها أو ضيقها، ((مائلات مميلات)) مائلات عن الحق وعن الصراط المستقيم، مميلات لغيرهن، وذلك بسبب ما يفعلنه من الملابس والهيئات الفاتنة التي ضلت بها في نفسها وأضلت غيرها، ثم فقال : ((لا يدخلن الجنة)) أي: لا يدخلن الجنة مع الداخلين الأولين من المسلمين، يمرون بجهنم أولاً والعياذ بالله.
فاتقوا الله ـ عباد الله ـ في بناتكم ونسائكم، ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَّ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6].
وقد يرفض بعض النساء الحجاب بدعوى أنه لباس قديم، ونحن في عصر حضارة وتقدم، فجوابها أن أحكام الله في القرآن صالحة لكل مكان وزمان، ولكل حضارة وانحطاط، إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [الإسراء:9].
وكذلك بعض الآباء والأمهات قد يتساهلون في قضية الحجاب بحجة أن البنت ما زالت صغيرة السن، أو لم تنه الدراسة بعد، قال مبينا السن الذي تكلف به البنت بالحجاب: ((يا أسماء، إن المرأة إذا بلغت المحيض فلا يحل أن يرى منها إلا وجهها وكفيها)).
ومن النساء والفتيات من يمتنعن من ارتداء الحجاب خوفا من عدم الزواج، فبزعمهن أن الفتاة إذا ارتدت الحجاب فإنها ستكون مخبأة عن أنظار الرجال، ولن تعجب أحدا وهي مستورة، وسيفوتها الزواج، وأما إذا كانت متبرجة ومتزينة فستجلب الكثير من الرجال، وأكيد أنها ستقع على من يتزوجها، وهذه نظرة قاصرة ناتجة عن ضعف في الإيمان، فالمسلمة المؤمنة الصادقة يهمها ابتداء طاعة الله ومرضاته واجتناب غضبه وسخطه لا الزواج، والزواج هو نصيب مكتوب بيد الله، والحقيقة والواقع الذي نراه في شوارعنا يكذّب هذا، فإن المرأة المتبرجة لا تجلب أنظار الرجال فحسب، بل أنظار الذئاب كذلك الذين همهم الوحيد هو العبث والسخرية ببنات الناس، ولاحول ولا قوة إلا بالله.
عباد الله، إنَّ الحياءَ خُلُقٌ عظيمْ يحْفَظُ لِلرَجُلِ هيْبَتَهُ ورُجولَتَهُ، ويَحْفظُ لِلمرأةِ عِزّتَها وأُنوثتَهَا، ويُلْبِسُ الشَّابَ الْجَمالَ والْكرَامةَ.
رزقنا الله وإياكم الحياء، وجعله لنا رادعا عن كل محظور، ومانعا من كل منكر.
اللهم أصلحنا وأصلح شبابنا وبناتنا ونساءنا أجمعين.
ـــــــــــــــــــ(68/93)
سورة الحجرات (3)
...
...
3955
...
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
...
...
آفات اللسان, الإعلام, القرآن والتفسير, قضايا المجتمع
...
خالد بن محمد بابطين
...
...
جدة
...
3/11/1424
...
...
مسجد الراجحي
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- مع النداء الثالث: الأمر بالتبين في الأخبار. 2- سبب نزول الآية. 3- المنهج الشرعي في تلقي الأخبار. 4- خطورة الأراجيف والشائعات. 5- الموقف الشرعي من الشائعات. 6- التحذير من القيل والقال. 7- الحرب النفسية.
الخطبة الأولى
أما بعد: فاتقوا الله حقّ التقوى، وراقبوه في السر والنجوى، قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
أيها الإخوة المؤمنون، ها نحن اليوم نتدبّر نداء ربنا الثالث في سورة الحجرات: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ [الحجرات:6].
جاء في سبب نزول هذه الآية ما رواه الإمام أحمد بسنده عن الحارث بن أبي ضرار الخزاعي قال: قدمت على رسول الله فدعاني إلى الإسلام، فدخلت فيه وأقررت به، فدعاني إلى الزكاة، فأقررت بها وقلت: يا رسول الله، أرجع إلى قومي فأدعوهم إلى الإسلام وأداء الزكاة، فمن استجاب لي جمعت زكاته فيرسل إليّ رسول الله رسولاً لإبَّان كذا وكذا ـ أي: وقت كذا وكذا ـ ليأتيك ما جمعت من الزكاة، فلما جمع الحارث الزكاة ممن استجاب له وبلغ الإبّان الذي أراد رسول الله أن يبعث إليه احتبس عليه الرسول فلم يأته، فظنّ الحارث أنه قد حدث فيه سخطة من الله عز وجل ورسوله، فدعا بسروات قومه فقال لهم: إن رسول الله كان وقّت لي وقتًا يرسل إليّ رسولَه ليقبض ما كان عندي من الزكاة، وليس من رسول الله الخُلف، ولا أرى حبس رسوله إلا من سخطة كانت، فانطلقوا فنأتي رسول الله ، وبعث رسول الله الوليد بن عقبة إلى الحارث ليقبض ما كان عنده مما جمع من الزكاة، فلما أن سار الوليد حتى بلغ بعض الطريق فَرَقَ فرجع فأتى رسول الله وقال: يا رسول الله، إن الحارث منعَني الزكاة وأراد قتلي، فضرب رسول الله البعث إلى الحارث، فأقبل الحارث بأصحابه إذ استقبل البعث وفصل من المدينة لقيهم الحارث فقالوا: هذا الحارث! فلما غشيهم قال لهم: إلى من بُعثتم؟ قالوا: إليك، قال: ولم؟ قالوا: إن رسول الله كان بعث إليك الوليد بن عقبة فزعم أنك منعتَه الزكاة وأردتَ قتله، قال: لا والذي بعث محمدًا بالحق، ما رأيتُه بتّة ولا أتاني، فلما دخل الحارث على رسول الله قال له: ((منعتَ الزكاة وأردت قتل رسولي؟)) قال: لا والذي بعثك بالحق، ما رأيته ولا أتاني، وما أقبلت إلا حين احتبس عليّ رسولك؛ خشيتُ أن تكون كانت سخطة من الله عز وجل ورسوله، قال فنزلت: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ إلى قوله: فَضْلاً مِنْ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [الحجرات:8].
أيها الإخوة المؤمنون، هذه الآية الكريمة ترسِم لنا منهجًا عظيمًا في شأن تلقّي الأخبار، وبالأخص في هذا العصر الذي نرى فيه السباق المحموم لنقل الأخبار والأحداث ساعةً بساعة، بل لحظة بلحظة، في عالم قد اتّصل شرقه بغربه وتقارب أقصاه من أدناه، تملأ سماءه فضائيات وقنوات وتغصّ أرضه بصحف ومجلات، ناهيك عن عجيبة هذا العصر شبكة المعلومات العالمية المسماة بالإنترنت.
في هذه الأجواءِ المكفهرَّة ومع التقدّم المتعاظِم في وسائلِ الاتّصال فإنه يجِب الحذَر ثم الحذرُ ممّا يشيعه المرجفون وتتناوله آلاتُ الإعلام وتتناقله وسائِل الاتّصال من شائعاتٍ وأراجيف في عصرِ السّماء المفتوحة التي تُمطِر أخبارًا وتلقِي أحاديثَ وتعليقات لا تقف عند حدّ، بل أصبحت تشكّل عقول الناس وتبني تصوّراتهم وتوجّه أفكارهم، فلا بدّ حينئذٍ من التّمييز بين الغَثّ والسّمين.
أيّها الإخوة، إنَّ الأراجيفَ والشّائعات التي تنطلِق من مصادرَ شتّى ومنافذَ متعدّدة إنّما تستهدِف التآلفَ والتكاتُف، وتسعَى إلى إثَارة النّعَرات والأحقاد ونشر الظنون السيّئة وترويج السّلبيات وتضخِيم الأخطاء. والإشاعاتُ والأراجيف سلاحٌ بيَد المغرِضين وأصحابِ الأهواء والأعداء والعمَلاء، يسلكُه أصحابُه لزلزعةِ الثوابِت وخلخلَة الصّفوف وإضعاف تماسُكها، وغالبًا لا تصدُر الشائِعة إلا من مكروه أو مَنبوذ فردًا أو جَماعة، قد امتلأ بالحِقد قلبُه، وفاض بالكراهية صدره، وضاقت بالغيظ نفسُه، فيطلِق الشائعةَ لينفّس من غيظِه وينفثَ الحقدَ والكراهية من صدره. الإرجافُ لا يصدر إلا مِن عدوّ حاقدٍ أو عميل مندَسّ أو غِرٍّ جاهل.
معاشرَ الأحبّة، وليس الخطاب هنا مع العدوّ الحاقِد ولا مع العميل المأجور، ولكنّه خطابٌ مع هذا المسلمِ الغافِل حسَنِ الطويّة صالحِ النيّة المخلِص لأمّتِه ودياره الذي لا يدرك ما وراء الشائعة ولا يسبُر الأبعادَ التي ترمي إليها تلك الأراجيف. إن على هؤلاء أن يتّصِفوا بالوعي الشّديد والحصافة في الفهمِ وسلوك مسالك المؤمنين الخُلَّص في اتّخاذ الموقف الحقّ من الشائعات، الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ إِنَّمَا ذَلِكُمْ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِي إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران:173-175].
وعليهم أن يتأمّلوا هذه التّوجيهاتِ الدّقيقة والخطوات المرتّبة في الموقف من الشائعات والأراجيف التي رسمها القرآن الكريم وبيّنها أوضحَ بيان.
التوجيه الأول: حسنُ الظنّ بالمسلِمين أفرادًا وجماعات ممّن تتناولهم الشّائعات: لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ [النور:2].
وتأمّلوا هذا التطبيقَ العمليّ لهذا التّوجيه الكريم: هذا أبو أيّوب الأنصاريّ وزوجُه وقد خاض النّاس في حديث الإفك، فماذا كان شأنهما في تلك الشائعة؟ قالت أم أيوب: يا أبا أيوب، أما تسمع ما يقول الناس في عائشة رضي الله عنها؟! قال: نعم، وذلك الكذب أكنتَ فاعلةً ذلك يا أمّ أيوب؟ قالت: لا والله، ما كنت لأفعله، قال: فعائشة ـ والله ـ خير منك وأطيب، إنما هذا كذب وإفك باطل.
إنّه إحسانُ الظنّ بالمسلمين، وهو الطريق الصّحيح الأقربُ والأيسر والأسلَم والأصدَق.
التوجيه الثاني: الموقفُ الحاسِم والجازم والحازِم في ضرورة إثباتِ هذه الشائعة: لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ [النور:13]، وذلك يقتضي مِن المجتمع أن لا يستَمع إلى شيء أو يقبَله من غير بيّنة ظاهرة، فإذا لم تُوجد بيّنة ضُمّت هذه الشائعة لطائِفة الكذِب والكذّابين: فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُوْلَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمْ الْكَاذِبُونَ [النور:13].
التّوجيه الثالث: الموقفُ الصارم من المجتمع في رفضِ الإشاعةِ وعدم السّماح برواجِها والتكلّم بها: وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ [النور:16].
أيّها المسلمون، إن الذي يتعيَّن هو اعتمادُ أخبار الثقات العدول والبعدُ عن السّماع مِن الفسّاق والمجاهيل والمتسرّعين ومَن عُرِف بكثرةِ نقل الأخبارِ من غيرِ تثبّت ومَن عُرف كذلك بالمبالغَة في التفسيرات والتحلِيلات والفهوم البعيدة، كما ينبغِي صونُ اللسان في أوقاتِ الفتَن والأجواء التي تروج فيها الشائعاتُ والأراجيف، بل إنَّ العقل والإيمانَ ليدعُوان صاحبَهما إلى الموازنة بين مصلحةِ الكلام ومصلحةِ الصّمت، فليس الكلامُ خيرًا دائمًا، وليس الصمت بِرًّا دائمًا، وفي الحديث الصحيح قال : ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقُل خيرًا أو ليصمُت))، فليس ثَمَّ ـ يا عبد الله ـ إلا طريقان: إما خيرٌ تقوله، أوصمت تلتزِمه.
أقول قولي هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أمّا بعد: روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((كفى بالمرء كذبًا أن يحدث بكل ما سمع))، وفي الصحيحين عن المغيرة بن شعبة قال: نهى رسول الله عن قيل وقال، و"قيل وقال" أي: كثرة الحديث وكثرة الكلام دون رويّة ولا تدبر ولا تثبت ولا تبيّن. وفي سنن أبي داود أن النبي قال: ((بئس مطية الرجل: زعموا))، وهذه هي التي سماها بعض أهل العلم من المعاصرين: "وكالة يقولون"، فترى كثيرًا من الناس يتناقلون الأحاديث والشائعات والأخبار دون رويّة ولا تثبّت، وقد يسهمون بذلك بفتّ عضد المسلمين وضعضعة معنوياتهم وبثّ الرعب في قلوبهم، فيخدمون من حيث لا يشعرون أهدافَ العدو، فيضعفون المعنويات ويلقون الرعب في القلوب.
أيها الإخوة، إن الحرب النفسية الآن لا تقلّ شراسة عن الحرب العسكرية، وهي حرب محتدمة بين الأطراف كلّها كما هو الشأن في الحرب العسكرية، فعلى كل مسلم أن يتحاشى نقل شيء من الأخبار والشائعات أو التوقعات أو التحليلات إذا كانت مما يضعِف معنويات المسلمين ويبثّ الرعب في قلوبهم، وعلينا أن نتثبّتَ من الأخبار؛ فإن من يتتبّع وسائل الإعلام العالمية يتحيّر ويتخبّط في حيرته مما يرى من تناقض الأخبار والتحليلات والتوقعات، وربما وقع فريسةً لبعض الجهات المغرّضة الحاقدة، والمنافقون لا يفوّتون مثل هذه الفرص، فيحرصون على اغتنامها للتشويش على المسلمين وإلحاق الضرر بهم، قال تعالى: وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوْ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمْ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً [النساء:83].
فاتقوا الله أيها المؤمنون، واحذروا من كيد الأعداء ومكرهم، وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ [إبراهيم:46]. والزموا وصية الله التي أوصى بها: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70، 71].
ـــــــــــــــــــ(68/94)
...
الحجاب
...
...
3961
...
الأسرة والمجتمع
...
...
المرأة
...
ماجد بن عبد الرحمن الفريان
...
...
الرياض
...
30/4/1425
...
...
سليمان بن مقيرن
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- تنكّر دعاة التغريب للشريعة الإسلامية. 2- محاولة دعاة التغريب الالتصاقَ بالعلماء. 3- الفروق بين دعاة التغريب ومن يجيز من العلماء كشف الوجه. 4- من مواضع الاتفاق في قضية الحجاب. 5- نقطة بداية السفور والتبرج والاختلاط. 6- الأدلة على وجوب ستر الوجه. 7- تغطي الوجه هو السائد بين المسلمين من عصور. 8- مقاصد الحجاب. 9- شروط الحجاب.
الخطبة الأولى
أما بعد: فيا عباد الله، اتقوا الله حق التقوى.
معاشر المسلمين، لقد كان دعاة التغريب طرفًا من الزمن يتنكرون للشريعة والدين، لكنَّ هذه الطريقة ارتدت بفشل كبير، فليس من السهولة مصادمةُ المسلمين في دينهم وعرضهم بهذه الوقاحة والصراحة، فلم يكن بدّ من تغيير أسلوب التغريب وطريقته، فكانت الوسيلة الجديدة هي تغريب المجتمع من خلال أحكام الشريعة نفسها بالأسلوب ذاته الذي يتّبعه من في قلبه مرض من تتبُّع المتشابه من الآيات بقصد تحريفها عما نزلت له لصرف الناس عن اتباع أمر الله تعالى، وقد اغترّ بقولهم بعض الفضلاء حتى صار يردّد نفسَ ما يقولون، وهنا الخطر؛ فإن مثل هذه الدعاوى إن أتت من أهل التغريب فلا يزال الناس في شك منها، لكنها إن أتت من فاضل منتسب إلى العلم والدعوة كانت لكثير من الناس فتنة لمحلِّهم من القبول والثقة، وكم يفرح أهل التغريب أن يجدوا أمثال هؤلاء وقد كفوهم مؤنة الاستدلال والاحتجاج على جواز الكشف والاختلاط.
إخوة الإسلام، ولأجل هذه الحملة في تلبيس الحقّ بالباطل كان لزامًا على أهل الإصلاح أن يتصدّوا لهذه المقولات الباطلة ويزيلوا الاشتباه فيها، وذلك في مقامين: المقام الأول: إزالة الاشتباه في مسألة كشف الوجه، وسيكون موضوعَ حديثنا في هذه الخطبة بإذن الله، والمقام الثاني: في مسألة الاختلاط، وسيكون في الجمعة القادمة بمشيئة الله.
معاشر المسلمين، هناك فرق كبير بين العلماء المجيزين لكشف الوجه وبين دعاة السفور، لربما خلط بعض الناس بينهما، فظنَّ ما يُطلق من أحكام في حق فريق هو بالضرورة يشمل الآخر، وليس الأمر كذلك؛ ولأجل إيضاح هذه الحقيقة المهمة حتى لا ينخدع عامة الناس، ولكي نقطع الطريق على المتسلّقين على ظهور الآخرين نقول: إن المعركة القائمة اليوم في مسألة كشف الوجه هي معركة بين دعاة الفضيلة والحجاب ودعاة الرذيلة والسفور، ودعاةُ الفضيلة يمثّلهم العلماء القائلون بوجوب تغطية الوجه، وكذلك العلماء القائلون باستحباب تغطية الوجه دون وجوب، ودعاة الرذيلة والسفور يمثلهم المستغربون الذين ترتفع أصواتهم في وسائل الإعلام منافحين ومدافعين عن التبرج والسفور والحسور بحجة الخلاف في كشف الوجه، وبناء على ذلك فإن كافة العلماء ـ مَنْ يقول بوجوب التغطية ومن يقول باستحباب التغطية مع جواز الكشف ـ يقفون في خندق واحد أمام دعاة السفور، لا نقول هذا تهوينًا في كشف الوجه ولكنْ لأن المستغربين دعاةَ السفور يسعون جاهدين للالتصاق والانتساب إلى العلماء القائلين بكشف الوجه، ليوهموا الناس أنهم منهم، وما هم منهم، وغرضهم من ذلك حماية أنفسهم من اكتشاف حقيقة دعوتهم في نشر الرذيلة ونزع الحجاب وهتك ستر المرأة، وأيضا من أجل السلامة من سخط الناس ونبذهم. إنّ الذين أجازوا كشف الوجه من العلماء ليسوا هم دعاةَ سفور، ولا العكس، وهاكم الفروقات بين الفريقين في المنهجية فقط، أما في التطبيق فلدعاة التغريب مذهب لم يسبقوا إليه، وسنأتي عليه. من الفروقات المنهجية:
أولاً: من أجاز الكشف أجازه مستندا إلى الدليل الشرعي بغضّ النظر عن صواب قوله أو خطئه، أما دعاة السفور فإنما يتّبعون أهواءهم وشهواتهم، فمصدر التلقي عند الفريقين مختلف اختلافًا جذريًا وكلّيًا، هذا يتلقى من الكتاب والسنة، وذاك يتلقى عن الهوى والفكر الغربي.
ثانيًا: من أجاز الكشف يرى أن التغطيةَ أفضل، وأنها مستحبة، ولا يجادل في هذا أحد، بينما دعاة السفور يرون أن الحجاب تخلّف، وأن الكاشفةَ هي المتحضّرة، وليس كشف الوجه فحسب، بل يريدون من المرأة أن تكشف شعرها وتزين وجهها وتخالط الرجال، وهذا أمر تفرّدوا به ولم يجزه أحد من أهل العلم.
ثالثًا: من أجاز الكشف يرى وجوبَ التغطية في حال الفتنة، وهذا أمر يحاول دعاة التغريب إخفاءه وعدمَ ذكره في كلامهم، فالعلماء يبتعدون عن الفتنة، وأما دعاة التغريب فإنهم يرومون الفتنة، ويبحثون عنها، نقول هذا ـ أيها المسلمون ـ لأنّ المستغربين دعاةَ السفور يسعَون جاهدين إلى التلبيس والإفساد عن طريق الالتصاق بالعلماء، والعلماء منهم براءٌ كبراءة الذئب من دمِ يوسف.
إخوةَ الإسلام، لا خلافَ بين أهل العلم أنّ الحجاب يجب إذا كان ثمّة فتنةٌ بتركه، والفتنة المعتبرة عندهم أن تكون المرأة شابةً أو جميلةً أو أن يكثر الفساق والمتهاونون بالأعراض، ونصّ على ذلك الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة، وأورد أقوالهم الشيخ محمد بن إسماعيل المقدّم في كتابه الجيد المعنون بـ"عودة الحجاب". ونحن نقول لأهل التغريب: ألا ترونَ قَدر الفتنة التي تكون اليوم جرّاء خروج الفتاة من بيتها؟! الخروج لوحده يستفزّ السفهاء ليحوموا حول الحِمى، فما بالكم حينما تكشف عن وجهها؟! وعلى هذا فكل العلماء يجمعون أنه في زمانٍ كهذا يجب التغطية حتى من أجاز، والحكمة والعقل يأمران بالحجاب والتغطية وأن ندعو إلى هذه الفضيلة درءًا لهذه الفتنة العمياء.
معاشر المسلمين، اتّفق الفقهاء أيضًا على أنّ الحجاب الكامل على الرأس والوجه فضيلة وأنه مستحبٌ، فِعلُه أفضل من تركِه، واختلفوا في الوجوب، لكنهم يتّفقون على أنه فضيلة وأنّه مستحب وأن فعلَه أفضل، فالذين يحاربون الحجابَ الآن هم في واقعهم يحارِبون الفضيلة ويدعون إلى الرذيلة، وهل يوجد في الدنيا أحد يدّعي الإصلاح وهو يحارب الفضيلة؟! ولذلك لم نجد أحدًا من العلماء القائلين بجواز الكشف من يفعل هذا؛ لأن المصلح الخيِّر لا يحارب الفضائل، وهذا يُبيّن أن دعاة التغريب لم يتحاكموا إلى الشرع، ولم يرفعوا به رأسًا، ولم يستندوا إلى الخلاف الفقهي بكمال وإنصاف، وإنما المسألة في حقيقتها مبنيّة على انتقاء ما يحلو لهم من أقوال العلماء وتوظيفه في معركتهم ضدّ المرأة في الوقت الذي يطَّرحون فيه أقوال العلماء الأخرى، والتي تُقيّد بعدم الفتنة، وتُفضّل التغطية على الكشف.
إن ما يفعله هؤلاء المستغربون من الدعوة بإلحاح وعلى كافة المستويات مع التلفيق والتلاعب بأقوال العلماء ليس له إلا تفسير واحد هو أنهم قد كرهوا هذا الحجاب، كرهوا ما أنزل الله، كرهوا استتار المرأة وعفتها، وضاقت صدورهم ببعدها عن الرجال، فلجؤوا إلى محاربته من خلال الدعوة إلى كشف الوجه بدعوى أن المسألة خلافية، والذي يدلّ على صدق هذا الكلام هو ما نجده في تطبيقات التغريبيين للقول بجواز كشف الوجه، فمن المعلوم أن الخلاف العلمي بين العلماء إنما هو في كشف الوجه فقط، أما إخراج الشعر فهو محرم باتفاق، ونجدهم يخرجون الشعر ويقولون فيه خلاف، وكذلك إخراج الوجه مع تزيينة بالأصباغ المبيّضة والمحمرة والمكحِّلة ونحوها هو محرم أيضًا باتفاق، ونجد من النساء من تخرج وجهها متجمِّلة وتقول: فيه خلاف، ونجد وسائل الإعلام تثني على المرأة المتبرجة المتعطرة المتجملة والمختلطة بالرجال ويصفونها بالانفتاح والفاعلية، ويتمسحون بأقوال أهل العلم قائلين: فيه خلاف، ولدينا مثال قريب في منتدى جدة الاقتصادي، فهذه جريدة عكاظ في تاريخ 27/11/1424هـ تنشر صورة لعشرين فتاة سعودية كاشفات الوجوه سادلات الشعور وبكامل الزينة في الصفحة الأولى تحت عنوان: (سيّدات المجتمع يساهمن بقوّة في المنتدى الاقتصادي)، ويُهَاجم من ينكر على هؤلاء النسوةِ وهذه الصحفِ بأنه أحادي النظرة ولا يتقبل الآخر، وكأنهم يستندون إلى أدلة أو رؤية علمية، وهم لا يستندون إلا إلى الهوى المتّبع الذي يتحكّم فيهم والعياذ بالله.
معاشر المسلمين، إن تغطية وجه المرأة عبادةٌ لله وشريعةٌ ماضية، وليست سنةً حادثةً قائمة على التقاليد، فكلُّ ما دلت عليه النصوص الشرعية هو من دين الله جل وعلا، وليس تقليدًا ولا عادة، وإن ترسُّخَه في المجتمع وعملَ الناس به لا يخرجه عن كونه دينًا، وهذا يدعونا إلى بيان ما جاء من الأدلة التي أخذ منها وجوب الحجاب:
1. قال تعالى: وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ [الأحزاب:53]، وهذا نص صريح في وجوب الحجاب، ولما كان ذلك كذلك ادّعى المخالفون أنه خاصّ بأمهات المؤمنين، وهو زعم لا دليل عليه، بل هو دليل من الأدلة على وجوب التغطية، فكيف يؤمر الطاهرات المطهّرات أمهات المؤمنين بتغطية الوجه ثم يؤذن لسواهن؟! بل القياس يقول: إذا كان أمهات المؤمنين رضوان الله عليهن قد أمرن بالحجاب مع براءتهن وانتفاء الرّيب عنهن فسواهن من باب أولى. هذا وقد علّل هذا الحكم بقوله: ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ، ولا يزعم أحد أنّ سائر النساء لسن في حاجة إلى طهارة القلب.
2. وقال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ [الأحزاب:59]، وقد فسر ابن عباس رضي الله عنه الآية بقوله: (أمر الله نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن في حاجة أن يغطّين وجوههن من فوق رؤوسهن بالجلابيب، ويبدين عينا واحدة)، ومثله عن عبيدة السلماني.
3. وقال: وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ [النور:31]، قال ابن مسعود في تفسير قوله: إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا: (الثياب)، أي: العباءة أو الجلباب، فلا يمكن ستره، فمعفو عنه، وكذا إذا ما حرّكت الريح العباءة فظهر منها شيء دون قصد.
4. وقال تعالى : وَالْقَوَاعِدُ مِنْ النِّسَاءِ اللاَّتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ [النور:60]، قال الجصاص: "أباح لها كشف وجهها ويدها لأنها لا تشتهى"، أما غير القواعد فمحرّم، وهذه الآية من الأدلة المحرجة لدعاة التغريب.
5. وقال : ((إن المرأة عورة، فإذا خرجت استشرفها الشيطان)) رواه الترمذي، وهذا نص صريح في وجوب ستر سائر البدن من غير استثناء.
6. قالت عائشة رضي الله عنها: (يرحم الله نساء المهاجرات الأول، لما أنزل الله: وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ [النور:31] شققن مروطهن فاختمرن بها) أخرجه البخاري، قال ابن حجر: " قوله: (فاختمرن) أي: غطّين وجوههن"، ويقال: خمر الإناء إذا غطى وجهه.
وغيرها من الأدلة، وهي تدل بمجموعها على أن الشريعة تؤصل لتغطية وجه المرأة حماية لها ودرءًا للفتنة، فإذا جاءت أدلة أخرى ظاهرها معارضة هذا الأصل فإنها تحمَل على ما يوافقه، ولا يوجد دليل يظهر منه تسويغ كشف الوجه إلا وفيه من الاحتمالات ما يُضعفه عن نقض هذا الأصل الثابت في الشريعة.
معاشر المسلمين، ولقد كان الحجاب المغطي لوجه المرأة هو السائد في عصور المسلمين، وعليه مضى الناس قرنا بعد قرن، قال أبو حامد الغزالي وقد عاش في القرن الخامس: "لم يزل الرجال على ممرّ الزمان مكشوفي الوجوه، والنساء يخرجن منتقبات"، وحكى الإمام النووي في روضة الطالبين وقد عاش في القرن السابع اتفاقَ المسلمين على منع النساء من الخروج سافرات، وقال ابن حجر وقد عاش في القرن التاسع: "العمل على جواز خروج النساء إلى المساجد والأسواق والأسفار منتقّبات لئلا يراهُنّ الرجال"، وعلى ذلك كان النساء ثلاثة عشر قرنًا حتى بدايات القرن الرابع عشر الهجري، حيث بدأت دول الغرب تتكالب على دولة الخلافة حتى إذا سقطت تقاسمتها، وكان أولُ شيء قامت به تعطيلَ الشريعة ونزعَ الحجاب ابتداء بغطاء الوجه، فغطاء الوجه هو بداية نزع الحجاب الكامل. فليتنبه لمثل هذا، فلم تعد القضية فقهية تبحث في كتب الفقه فحسب، بل القضية أكبر من ذلك، إنها قضية مصير لأمّة محافظة على حجابها، يراد هتك حجابها، وكشف الوجه هو البداية، قد اتخذ من اختلاف العلماء فيه وسيلة لتدنيس طهارة الأمة.
نسأل الله أن يحفظ نساء المسلمين من كل سوء ومكروه في الدين والدنيا.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
أما بعد: فيا عباد الله اتقوا الله تعالى حق التقوى.
إن الشريعة الإسلامية المحكمة لم تفرض الحجابَ على نساء المؤمنين بعيدًا عن المقاصد النبيلة والمصالح العظيمة، إن هذا الحجاب لم يشرع إلا لحكمة، هذه الحكمة قد يغفل عنها بعض نساء المؤمنين، ويتغافل عنها بعض الأولياء، حتى يتحوّل الحجابُ عن هدفه الحقيقي وهو منع الفتنة إلى وسيلة للفتنة، إلى وسيلة للزينة واستثارة الرجال.
إن الحجاب فرض على نساء المؤمنين من أجل منع الفتنة، ابتداءً من مجرد الاستحسان والتلذّذ بالنظر الذي هو زنا العين، وانتهاء بالفاحشة الكبرى والعياذ بالله، فإذا تحوّل الحجاب من مقصده الشرعي ليكون زينة في ذاته فقد فرغ من هدفه ومحتواه، ولذا لا بدّ أن يتعرّف الرجال والنساء على شروط الحجاب الإسلامي؛ لأن كثيرًا من النساء اليوم قد عصفت بهم حمّى العباءات المخصَّرة والمزركشة وغيرها، إن كثيرًا من النساء اليوم يلبسن عباءات هي في واقعها فساتين سوداء ويخرجن فيها، وهي لا تمتّ للحجاب الإسلامي بصِلَة.
معاشر المسلمين، يشترط للحجاب الإسلامي ثمانية شروط:
الشرط الأول: أن يستوعب جميعَ البدن حتى الوجه على القول الصحيح.
الشرط الثاني: أن لا يكون زينة في نفسه.
الشرط الثالث: أن يكون صفيقًا لا يشفّ عما تحته.
الشرط الرابع: أن يكون فضفاضًا غير ضيق ولا مجسّد للبدن.
الشرط الخامس: أن لا يكون مطيّبًا ولا مبخّرًا.
الشرط السادس: أن لا يشبه لباس الرجل.
الشرط السابع: أن لا يشبه لباس الكافرات.
الشرط الثامن: أن لا يكون لباس شهرة.
إذا عرفنا شروط الحجاب الإسلامي ودخلنا أسواق المسلمين تبيَّن لنا مدى الاختراق الذي تعرّضت له كثير من فتيات المسلمين، نسأل الله لهن الهداية.
إخوة الإسلام، ومن باب التحدّث بالنعمة وشكرها نقول: إن موازين القوى في قضية المرأة قد تغيرت كثيرًا بحمد الله، وخاصة بعد الحوار الوطني المخصّص لشؤون المرأة، لقد كان دعاة التغريب ردحًا من الزمن يتحدّثون في الصحف بطريقة الأطفال دون علم ولا حلم ولا دليل ولا تعليل، ولا يمكن أن يردّ عليهم لأن الصحف مثلهم، ولكن لما جاء الجدّ وطولبوا بالحوار الحقيقي والمستند إلى الشرع والبحوث العلمية أصابهم انخناس عظيم، وظهر ما رأينا أثناء الأسبوع المنصرم من الحملات الإعلامية الجائرة، والتي تشبه انتفاضة الغريق قبل موته، وبكاء وعويل وتكذيب للحقائق وتهويل، ووالله لن تضرّ الحق شيئًا، بل المجتمع اليوم هو أكثر قناعة بالحلّ الإسلامي وأكثر اطلاعًا على حقائق المفسدين، وصدق الله ومن أصدق من الله قيلاً: إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ [يونس:81].
نسأل الله أن يهديهم للحقّ والصواب، وأن يكفي المسلمين شرّهم.
وصلوا وسلموا على من أمِرتم بالصلاة والسلام عليه في قوله: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمّ صلّ وسلّم وبارك على عبدك ورسولك محمد...
ـــــــــــــــــــ(68/95)
وقفات مع حديث: ((يا عبادي)) (1)
...
...
3962
...
الأسرة والمجتمع, العلم والدعوة والجهاد
...
...
أحاديث مشروحة, قضايا المجتمع
...
خالد بن محمد بابطين
...
...
جدة
...
28/5/1425
...
...
مسجد الراجحي
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- نص حديث أبي ذر. 2- وصف العبودية. 3- وجوب الحكم والتحاكم إلى شرع الله. 4- خطورة العبث بالنصوص الشرعية. 5- معنى الظلم وأنواعه. 6- ظاهرة ظلم الأولاد والزوجات.
الخطبة الأولى
عن أبي ذر عن النبيّ فيما يرويه عن ربّه عز وجل أنه قال: ((يا عبادي، إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرمًا فلا تظالموا. يا عبادي، كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم. يا عبادي، كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم. يا عبادي، كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أَكْسُكُمْ. يا عبادي، إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعًا فاستغفروني أغفر لكم. يا عبادي، إنكم لن تبلغوا ضُري فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني. يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئًا. يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئًا. يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل واحد مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المِخْيَطُ إذا أدخل البحر. يا عبادي، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه)).
أيها المؤمنون، هذا الحديث القدسي العظيم الجليل خرَّجه مسلم من رواية سعيد بن عبد العزيز عن ربيعة بن يزيد عن أبي إدريس الخولاني عن أبي ذر، وفي آخره قال سعيد بن عبد العزيز: "كان أبو إدريس الخولاني إذا حدث بهذا الحديث جثا على ركبتيه"، ولذلك يحسن بنا في هذا المقام أن نقف مع هذا الحديث وقفات عل الله أن ينفعنا بها.
الوقفة الأولى: قوله تعالى: ((يا عبادي)) نداء تكرر في ثنايا هذا الحديث، نداء بوصف عظيم ونعت جليل، نداء بوصف العبودية لمستحقها الذي كلما ازددتَ في عبادته ذلاً وانكسارًا ازددتَ عنده وعند خلقه رفعة ومكانة، إنه وصف العبودية الذي هو أسمى الأوصاف وأشرفُها، وَصَفَ اللهُ به صفوةَ خلقه وخيرتهم وهم أنبياؤه وملائكته، فقال في شأن داود: وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ [ص:17]، وقال عن سليمان: وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ [ص:30]، وقال عن أيوب: إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ [ص:44]، وقال في المسيح الذي ادُّعيت فيه الإلهية والبنوة: إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرَائِيلَ [الزخرف:59]، وأولُ ما نطق به عيسى في المهد أن قال: إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِي الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا [مريم:30]، وفي شأن محمد فلقد وصِف في أشرف الأحوال وأعلى المقامات بهذا الوصف، اسمع إلى قوله تعالى عنه في مقام الإسراء: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً [الإسراء:1]، وفي مقام الإيحاء قال: تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ [الفرقان:1]، وقال: فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى [النجم:10]، وقال عنه في مقام الدعوة: وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا [الجن:19]، وفي مقام التحدي قال تعالى: وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا [البقرة:23]، وأما الملائكة فقال في شأنهم: بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ [الأنبياء:26، 27].
وحينئذٍ ـ أيها الإخوة ـ فلا غروَ أن يقول الفضيل بن عياض:
ومما زادني شرفًا وتيها وكدت بأخمصي أطأ الثريا
دخولي تحت قولك يا عبادي وأن صيَّرت أحمدَ لي نبيًّا
أيها الإخوة، إن من مقتضى هذا الوصف العظيم أن يحتكِم العبد في أمره كلّه إلى الله ورسوله، وأن لا يتردّد في ذلك ولا يتباطأ فيه، بل ما هو أعلى من ذلك وهو التسليم المطلق لله ولرسوله ، فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء:65]، قال ابن كثير رحمه الله: "يقسم تعالى بنفسه الكريمة المقدسة أنه لا يؤمن أحد حتى يحكّم الرسول في جميع أموره، فما حكم به فهو الحق الذي يجب الانقياد له ظاهرًا وباطنًا"اهـ.
وقال تعالى: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ [الأحزاب:36]، قال ابن القيم رحمه الله: "فدلّ هذا على أنه إذا ثبت لله ورسوله في كل مسألة من المسائل حكم طلبي أو خبري فإنه ليس لأحد أن يتخير لنفسه غير ذلك الحكم فيذهب إليه، وأن ذلك ليس لمؤمن ولا مؤمنة أصلاً، وقد حكى الشافعي إجماع الصحابة والتابعين ومن بعدهم على أن من استبانت له سنة رسول الله لم يكن له أن يدعها لقول أحد، ولم يسترب أحد من أئمة الإسلام فيما قاله الشافعي"اهـ.
وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [الحجرات:1]، قال ابن القيم: "فإذا كان الله سبحانه قد نهى عن التقديم بين يديه فأيّ تقديم أبلغ من تقديم الإنسان عقله على ما جاء به.. ثم قال: ومعلوم قطعًا أن من قدم عقله أو عقل غيره على ما جاء به النبي فهو مِن أعصى الناس له وأشّدهم تقدمًا بين يديه، وإذا كان الله سبحانه قد نهاهم أن يرفعوا أصواتهم فوق صوته: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ [الحجرات:2] فكيف بمن يرفع معقولاتهم فوق كلامه وما جاء به؟!"اهـ.
ومن هنا نعلم ـ أيها الإخوة ـ خطورة التلاعب والعبَث بالنصوص والمسلَّمات والثوابت الشرعية كما هو حاصل كثيرًا عبر ما يُقرَأ أو يشاهد أو يسمع أو تلكوه الألسن في بعض المجالس العامة من أنصاف المتعلمين وأرباعهم، ناهيك أهل الجهل والهوى، وثالثة الأثافي ذلكم العبث الموجود في مواقع الإنترنت، حتى أصبح أولئك يتصدّرون للحسم والقطع في مسائل وقضايا لو عرِضت على عمر لجمع لها أهل بدر، فنسأل الله العفو والعافية.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، وأستغفر الله لي ولكم، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله عَظُمَ شأنه ودام سلطانه، أحمده سبحانه وأشكره عمّ امتنانه وجَزَلَ إحسانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله، به علا منار الإسلام وارتفع بنيانه، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى أصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: عباد الله، الوقفة الثانية مع هذا الحديث: مع قوله تعالى: ((يا عبادي، إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرمًا فلا تظالموا)).
الظلم وضع الشيء في غير موضعه، وهو نوعان: أولهما ظلم النفس وأعظمه الشرك كما قال تعالى: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13]، فإن المشرك جعل المخلوق في منزلة الخالق فَعَبَدَهُ وتألّهه، ثم يليه المعاصي على اختلاف أجناسها من كبائر وصغائر، فالعبد حين يوبق نفسَه بالمعاصي فيوردها موارد العطب والهلاك يكون من أعظم الظالمين، زيّن له الشيطان سوء عمله فرآه حسنًا، فَدَأَبَ على المعاصي والآثام حتى صدق فيه قول الشاعر:
يا متعب الجسم كم تسعى لراحته أتعبتَ جسمك فيما فيه خسران
أقبل على الروح فاستكمل فضائلها فأنت بالروح لا بالجسم إنسان
وأما النوع الثاني من الظلم فهو ظلم الغير ومنهم الأولاد، فكم يقع من كثير من الآباء ظلم لهم، فهذا مشغول بتجارته، وذاك غارق في عقاراته وعماراته، وآخر مستهلك بوظيفته صباح مساء، ورابع لا يكاد يضع عصا الترحال عن عاتقه، وآخر يقطع ليله مع أصدقائه ونهاره في عمله، وسادس مشغول بزوجه الجديدة التي ملكت عقلَه وقلبه ووقته، حتى أضحى كثير من الأولاد أيتامًا وآباؤهم على قيد الحياة.
ليس اليتيم من انتهى أبواه من همّ الحياة وخلّفاه ذليلا
إن اليتيم هو الذي تلقى له أمًّا تخلّت أو أبًا مشغولا
وليست المشكلة فحسب أنّ هؤلاء الأولاد لم يجِدوا من يربّيهم، بل المشكلة أيضًا أن هناك وسائلَ بديلة قامت بتربيتهم، فالإعلام بوسائله المتنوعة المؤثّرة يستلم الطفل أو الشابّ أو الزوجة منذ دخوله المنزل إلى أن ينام بكلّ برامجه وصوَره ومُسَلْسَلاته، حتى أصبح الإنسان يستطيع أن يشاهد مئات القنوات التي تصور له أوضاع الشعوب الأخرى وكيف يعيشون وما هي أنماط أخلاقهم وسلوكهم في النواحي الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
إننا نتساءل بكلّ ألم وحسرة: أين الأب الذي يسأل ولده كلّ يوم عن أمر صلاته وهل أداها في وقتها وحافظ عليها حيث ينادى بها؟! أين هو عنه حين يعكف ويشاهد ما يعرض عبر القنوات الإباحية أو يتداول مع أقرانه الصورَ الفاضحة، بل يرتادون أماكن لا يدري عنها الأب كمقاهي الإنترنت ويتنقلون بين المواقع السيئة؟! وكم ليلة أمضاها ونهارٍ قطعه خارج البيت مع أصحابه وأصدقائه وأنت بعيد عنه لا تدري متى ذهب أو جاء؟!
عباد الله، وثمة نوع آخر من ظلم الغير وهو الظلم بين الأزواج في إضاعة الحقوق والتفريط في الواجبات، حتى أضحت بعض البيوت جحيمًا لا يطاق، فكثرت المشكلات والخلافات، مما يؤدي إلى الطلاق وتفرق الأسرة وتشتّت الأولاد.
أين الزوج الذي يرعى الذمَم؟! أين صاحب الأخلاق والشيم؟! كم من الأزواج من يأخذ زوجته من بيت أبيها عزيزةً كريمةً ضاحِكة مسرورة ثم يردّها بعد أيام قليلة حزينة باكية ذليلة.
لقد كثر الطلاق اليوم حينما استخفّ الأزواج بالحقوق والواجبات وضيّعوا الأمانات والمسئوليات، سهرٌ إلى ساعات متأخّرةٍ، يُضحِك البعيد ويبكي القريب، يؤنس الغريب ويوحش الحبيب. كثر الطلاق اليوم حينما قلّ من الأزواج من يغفِر الزلّة ويستر العورة والهنّة، حينما قلّ من يخاف الله ويتقيه ويرعى حدوده. كثر الطلاق اليوم حين قلّت الصالحات القانتات الحافظات للغيب بما حفظ الله. كثر الطلاق حينما أصبحت المرأة طليقة اللسان طليقة العِنان، تخرج متى شاءت وتدخل متى أرادت. كثر الطلاق اليوم حينما تدخّل الآباء والأمهات في شؤون الأزواج والزوجات في كلّ صغير وكبير وجليل وحقير، حتى ينتهي الأمر إلى الطلاق والفراق.
أيها الإخوة، بقي في الحديث وقفات أخر، نسأل الله أن يمدّ في الأعمار لنتحدّث عنها في الجمعة القادمة إن شاء الله.
ـــــــــــــــــــ(68/96)
مسؤولية البنات
...
...
2920
...
الأسرة والمجتمع, فقه
...
...
الأبناء, المرأة, النكاح
...
عبد الرحمن بن صالح الدهش
...
...
عنيزة
...
26/1/1422
...
...
علي بن أبي طالب
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- التحذير من التشاؤم بالبنات. 2- ذكر بعض مسئوليات الفتاة على أهلها. 3- حقوق البنت في مسألة زواجها. 4- عرض الرجل موليته على الرجل الكفء. 5- كلمة في غلاء المهور.
الخطبة الأولى
أما بعد: فإنَّ مما يختبر به العبدُ ويبتلى ما ثبت في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها عن نبينا المصطفى أنه قال: ((من ابتلي من هذه البناتِ بشيء فأحسن إليهن كنَّ له سترًا من النار)). فقد جعل النبي أمر البناتِ ابتلاء يبتلى به العبد، فإن أحسن إليهن تربيةً وتعليمًا ونفقة وستَرَهن وألبسهن لباس التقوى حِسًا ومعنى فإنَّهن يكن له سِتْرًا يَقِينه دخولَ النَّارِ.
فلا تشاؤمَ جاهلي بولادة البنات أو كثرتهن، كيف وقد كان نبينا محمد أبًا لأربعِ بناتٍ: زينبَ ورقيةَ وأمِّ كلثوم وقد توفين في حياته، ثم فاطمة تأخرت بعده بستةِ أشهر، وهي سيدة نساء أهل الجنَّة.
وعلى قدر ما ورد في فضل رعايةِ البناتِ تعظم المسؤوليةُ في التفريط في حقهن والتساهل في أداء الأمانةِ تجاههنَّ، ((كلكم راعٍ، وكلكم مسؤول عن رعيته)).
ألا وإن مِن أعظم ما يتعلق بالمسؤولية تجاه البناتِ، بل وغيرهن من الأخواتِ وسائر القريباتِ اللاتي لك عليهن ولاية أو وصاية، إنها مسؤولية التزويجِ والنظر في حال الخطابِ والسؤالِ عن الكفء. ولا تعجب إذا علمت أنَّ من أكبرِ أسبابِ فشل الزواج وتفريق البيتِ بعد الاجتماعِ التساهل في أمرِ التزويجِ والتقصير في أمر البحث والتدقيقِ، فما أن يعقد القِرانُ ويتمّ النكاحُ إلا وتتبين خفايا عظام وأمورٌ لا يمكنُ معها البقاءُ والدوامُ، فيسعى الولي في فكاك موليته واستنقاذ مزوجتك.
إن من حق الله عليك بعد أن بلَّغت موليتك سنَّ الزواجِ وطرق بابك إليها الخطاب أن تختار لها الكفء الذي يكونُ به حفظها وتحصل به سعادتها، وهذه المرحلة من أحرج المراحلِ وأشدها خطرًا، ولكن من يستعينُ بالله يعينُه الله.
فواجبٌ على الولي إن لم يكن يعرِفُ الخاطبَ أن يسألَ عنه، وأن يعدد الجهاتِ المسؤولة حتى تكتمل لديه الصورة. وأهم ما يسأل عنه ما يتعلق بأمر دينه واستقامة خلقه.
فلا يزوج من لا يُصَلي وإن حَسنت معاملته ولم تفارق شفتيه ابتسامته، ولا يزوجُ من اشتهر فسقه أو ساءت عِشرتُه ولو كثر تردده وكثُر المتوسِطون له أو رضيت به مخطوبته، فهؤلاء لا يزوجونَ ولا كرامة، ولا إثمَ على الولي لو بقيت موليته طول عمرها بلا زواجٍ.
ثم على الولي بعد سؤاله عن الخاطب وتحريه عنه أن ينقل ما عرفه وقيل عنه إلى المخطوبة من بنت أو غيرها بلا مبالغةٍ أو تقصيرٍ، وأن يشير بما يرى، فلا إكراه في الزواجِ، قال النبي : ((لا تنكح الأيم حتى تستأمر، ولا تنكح البكر حتى تستأذن))، قالوا: يا رسول الله، وكيف إذنها؟ قال: ((أن تسكت)).
وإنَّ على من استشير في تزويجِ أحدٍ من الناس أن يتقي الله في مشورته، فلا يمدح الخاطب ويضع فيه ما ليس فيه من الصفاتِ الحسنة حتى يزَوّجَ، ولا يَعيبه وينتقِصه حتى يردَّ، ((فلا يؤمن أحدكم حتى يحبَّ لأخيه ما يحب لنفسه)).
فإن عجز عن قولِ الحقِّ أو جهل الخاطبَ فالواجب أن يعتذرَ عن المشورة وإبداء الرأي، فمن عجز عن المشورة بالحقِّ فلا يسعه أن يقولَ الباطلَ، سواءٌ كان المسؤولُ قريبًا للخاطِب أو زميلاً أو صديقًا له أو إمامًا أو مؤذنًا لمسجده، يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء للَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ [النساء:135].
وإنَّ بعض المسؤولين عن الخطابِ يصفون الخاطب بما ليس فيه، أو يُغْفِلون ما يقدحُ فيه، ويعتذرون لأنفسهم: لعله يُزوَّجُ فتصلحَ حاله. فيا سبحان الله! هل ترضى أن تُغشَّ بخاطب لبنتك بهذه الحجة؟! فاتق الله، وقل الحقَّ، وقد يكون ردُّه هو سببَ صَلاحِه، وليس تزويجَه.
معاشر الأولياءِ من الآباء والإخوة وغيرهم، ها هنا أمرٌ لعلكم لا تستعجلون في رده واستنكاره، بل تفهّموه وفكِّروا فيه، وقبل أن أذكره أذكر دليله وأصله الشرعي، فقد حكى الله عن صاحب مدين الرجل الصالح أنه قال لنبي الله موسى : قَالَ إِنّى أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَىَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَن تَأْجُرَنِى ثَمَانِىَ حِجَجٍ [القصص:27]، وفي صحيح البخاري وغيره قال عمر رضي الله عنه: لقيت عثمان بن عفان فقلت له: إن شئت أنكحتك حفصة بنت عمر، قال: سأنظر في أمري، فلبثتُ ليالي ثمَّ لقيته فقال: قد بدا لي أن لا أتزوج. قال عمر: فلقيت أبا بكر، فعرضتُ عليه حفصة، فلم يجب أبو بكر ولم يتكلم، فما هي إلا ليالٍ حتَّى خطبها رسول الله ثمَّ تزوجها.
وفي أخبارِ سعيد بن المسيبِ من أفاضل التابعين وعلمائِهم أنَّه ردَّ خطوبة الخليفة الوليد بن عبد الملك لبنته، وأبى أن يزوج بنته ابن الخليفة، ثم خطب هو لبنته أحد تلاميذه، وزوجها إياه بدرهمين، وبادر في زفها إليه على فقره وقلة يده.
إنَّ ما أعنيه ـ أيُّها الولي ـ أن تبحث لبنتك أو غيرها ممن لك ولاية عليها، أن تبحث لها عن الزوجِ الكفء، أن تبحثَ بنفسك أو بواسطة رجلٍ صالحٍ مؤتمن، فتطرق بابه قبل أن يطرقَ بابك، وتختاره قبل أن يختارك. ألست تختارُ لبنتك وموليتك أو تعهد بذلك إلى من يختار لها اللباس المناسب والحوائج المناسبة؟! إنَّ اختيار الزوجَ المناسب أولى وأولى، وهو من أفضل إحسانٍ تبذله لموليتك، ويبقى بعد توفيق الله معروفًا لا ينسى وجميلاً لا ينكرَ من موليتك، بل ومن زوجها المختارِ. وليس في ذلك نقيصةٌ عليك، ولا على من أنت وليُّها، وقد عرفتَ أصلَه، ومن سبقك إلى فعله.
وإن عَرضَ المرأة على الكفءِ لها ـ سواءً عرضتها بنفسك أو بغيرك ـ متأكِّدٌ في هذا الزمن قبل أن يفجأك خاطِبٌ لا تريده، أو مجهولٌ يعسر البحث عنه، ومتأكّدٌ أيضًا في موليتك المطلّقة التي لم يكتب الله لها توفيق في زواج سابقٍ، وفي موليتك التي تقدَّم سنُّها أو قلَّ جمالُها ورُغِب عنها. فعرض هؤلاء على الأكفاء متأكدٌ، ولو أن تعرضها على من تكونُ عنده زوجة ثانية أو ثالثة. فاحتسب هذا، ودافع العقبات الوهمية والموانع العاطفية.
أعانني الله وإياكم على أداء الأمانة، وجعلنا من المتعاونين على البر والتقوى.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
أما بعد: فإن مما لا يغفل الكلامُ عنه ما توسع فيه كثيرٌ من الناس وتفاخر فيه آخرون وصار عقبة أمام المتزوجين قضية المهور. أوَما عَلِم هؤلاء ما قاله أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (لا تُغْلوا صُدُق النساء، فإنها لو كانت مكرمَةً في الدنيا أو تقوى في الآخرة كان أولاكم بها النبي )، وجاء عَن النَّبي : ((إنَّ أعْظَمَ النكاح بركة أيسره مؤونة)) رواه الإمام أحمد وله طرق، وقال النبي : ((من أَعْطى في صداقٍ ملء كفيه سويقًا أو تمرًا فقد استحلَّ))، وأجاز النبي نكاح امرأة على نعلين، وقال لآخر: ((التمس ولو خاتمًا من حديد))، فلمَّا لم يجد زوجه بما معه من القرآن. فنعم الصداق، وبورك هذا الزواج.
قال شيخ الإسلام: "ويكره للرجلِ أن يصدق المرأة صداقًا يُضِرُّ به إنْ نَقَدَه، ويعجُزُ عَن أدائه إن كانَ دَينًا"، وقال: "فمن دعته نفسه إلى أن يزيدَ صداق ابنته على صداقِ بناتِ رسول الله اللواتي هُنَّ خيرُ خلقِ الله في كلِّ فضيلةٍ وهنَّ أفضلُ نساء العالمين في كلِّ صفةٍ فهو جاهل أحمقُ" [مجموع الفتاوى (32/194)].
إنَّ قضيةَ مغالاةِ المهور والتباهي بها قضيةُ كلِّ غيور على شباب المسلمين وشاباتهم، لأنه ما بعد المغالاة في المهور إلا الإعْراض عنْ الزَّواجِ، في زَمَن يُدْرِكُ كُلُّ عاقِل حاجَةَ الشَّابِ المتأكِدَةَ إلى إحصانه بزوجة يغض بها بصرَه ويحفظ بها فرجه، فالفتن مستشرفةٌ، ووسائل الإغواء منتشرة، ولا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم.
إنَّ هذه القضيةَ يجِب أن يَسْعى في حلّها كلُّ مشفِقٍ على شبابِ و شاباتِ المسلمين، فما بالنا نشتكى غلاء المهور في مجالسنا وصعوبة النكاح على شبابنا؟! والأمر كلُّه ـ بعد الله ـ بأيدينا، أوَننتظر فيها قرارًا دوليًا أو نظامًا قانونيًا؟! أيعجَز أحدُنا إذا تَقَدم إليه مَن يرضى دينه وخلقه أن يزوجه بما لا يشقُّ عليه، ولو كان دون مهر المثل إذا رضيته الزوجة؟! ولا يلجئه إلى دينٍ يثقله، يذهب به ماء وجهه.
والعِوَضُ عما يفوت من المهرِ إحْصانُ مولِيَّتك، وحفظها من الحرام وأسبابه، والمساهَمَةُ في فتحِ بيتٍ مسلِمٍ يكثرُ به نسلهم وتزداد به قوتهم. ورَحَم الله امْرأ زوجَ موليته مِنْ كفئها، فلم يُغالِ في مهرها، فأحيا بذلك سنةً حسنةً، وصارت موليته قُدْوَةً لِغَيْرِها.
اللهم وفقنا للقيام بالأمانة، وأعذنا من التفريط والخيانة...
ـــــــــــــــــــ(68/97)
الاختلاط: شرور وآثام
...
...
2910
...
الأسرة والمجتمع
...
...
المرأة, قضايا المجتمع
...
عبد الحي يوسف
...
...
الخرطوم
...
...
...
غير محدد
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- الحياء صفة المؤمنين والمؤمنات. 2- درس الحياء من قصة موسى مع الفتاتين من مدين. 3- الفصل بين الجنسين في العصر النبوي. 4- الشرائع الإسلامية تقرر الفصل وتمنع الاختلاط. 5- فشوّ الاختلاط في بلاد المسلمين. 6- مسئولية الأب والدولة والمجتمع في إزالة الاختلاط ومنعه. 7- التشبه بين الجنسين.
الخطبة الأولى
أما بعد: فإن أصدق الحديث كلام الله تعالى, وخير الهدي هدي محمد , وشرّ الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالة في النار, وما قلّ وكفى خيرٌ مما كثُر وألهى, وإنّ ما توعدون لآتٍ، وما أنتم بمعجزين.
أما بعد: فإنّ شريعة الإسلام جاءت بتقرير الأحكام وتعيين الحدود الفاصلة في علاقة الرجل بالمرأة، لينشأ المجتمع المسلم طاهرًا نظيفًا طاهرًا عفيفًا، لا أثر فيه لفاحشة ولا دعوة فيه لخنى، ولا أمر فيه بمنكر.
جاء الإسلام يقرر أن الحياء مطلوب من الرجال والنساء، لكنه في حق النساء ألزم، ومن حياء النساء أن لا يخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض، وأن لا يتبرجنَ تبرج الجاهلية الأولى، وأن لا يبدينَ زينتهنّ إلاّ ما ظهر منها, وأن يضربنَ بخمُرهنّ على جيوبهنّ, ولا يبدينَ زينتهنّ إلاّ للأصناف التي ذكرها الله عز وجل في كتابه.
ومن حياء النساء كذلك أن لا يخالطنَ الرجال ولا يزاحمنهم، بل الواجب على النساء أن يأخذنَ حافّات الطريق، وأن يكون لهنّ مجتمعاتهنّ الخاصة بهنّ, ولا يخالط النساء الرجال في حفلات عامة ولا خاصة ولا مؤتمرات ولا ندوات ولا تعليم ولا عمل ولا غير ذلك من نواحي الحياة.
في القرآن الكريم يثني ربنا جلّ جلاله على رجلٍ صالح أنه ربّى ابنتين فاضلتين علمهما مكارم الأخلاق ومحاسن العادات وبين لهم الحدود الفاصلة في علاقة الرجل بالمرأة, يقول الله عزّ وجلّ في خبر كليمه موسى عليه السلام: وَلَمَّا وَرَدَ مَاء مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأَتَينِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لاَ نَسْقِى حَتَّى يُصْدِرَ الرّعَاء وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ [القصص:23]. موسى عليه السلام وجد جماعة من الناس طائفة من الرجال يسقون بهائمهم أنعامهم، ووجد امرأتين بعيدتين نائيتين، لا تزاحمان الرجال ولا تخالطانهم، سألهما: ما خطبكما؟ قالتا: لا نسقى حتى يصدر الرعاء، لا نزاحم هؤلاء الرعاة، ولا نخالطهم في سقي الماء، بل نصبر وننتظر حتى إذا سقوا أنعامهم وقضوا حوائجهم وانصرفوا من عند ذلك الماء جئنا نحن فسقينا.
موسى عليه السلام تصرف تصرّف الرجل ذي المروءة والشهامة، الرجل الكريم الذي يعرف ما أوجب الله عليه وما يحبّ الله له، فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظّلّ فَقَالَ رَبّ إِنّى لِمَا أَنزَلْتَ إِلَىَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ [القصص:24]، يقول الله عزّ وجلّ: فَجَاءتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِى عَلَى اسْتِحْيَاء [القصص:25]، تمشي مشية فيها حياء، ليس فيها تبذُّل ولا تبرُّج ولا إغواء ولا تهييج، وإنما مشية الحياء، تَمْشِى عَلَى اسْتِحْيَاء قَالَتْ إِنَّ أَبِى يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا، في أقصر لفظ وأوضحه وجهت الدعوة إلى موسى، ما أكثرت من الكلام ولا أطالت في الحديث، وإنما لفظ مختصر، لكنه واضح في غيرما اضطراب ولا تلجلج يغري أو يهيج، قَالَتْ إِنَّ أَبِى يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا [القصص:25]، هكذا دعوة ترفع اللّبس والغموض، ما قالت له: هيا معنا إلى البيت، ولا قالت: إني أدعوك، ولا قالت: اذهب معي، وإنما أسندت الدعوة إلى أبيها ليطمئن قلبه صلوات ربى وسلامه عليه، إِنَّ أَبِى يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا [القصص:25].
هكذا ثناء ربنا عزّ وجلّ في القرآن على هتين الفتاتين وعلى أبيهما الصالح القانت الذي أحسن تربيتهما وتوجيههما وتعليمهما، حتى كانتا على مثل هذا الخلق القويم.
وهكذا ـ أيها المسلمون عباد الله ـ شريعة محمد ، جاءت بمثل هذا الخلق الكريم، تأمر النساء أن لا يخالطنَ الرجال، وتأمر بالمباعدة بين أنفاس الرجال والنساء، تسدُّ كل ذريعة مفضيةٍ إلى الاختلاط.
في المسجد، رسول يجعل للرجال بابًا وللنساء بابًا يقول: ((لو تركتم هذا الباب للنساء))، يقول نافع رحمه الله: فوالله، ما دخل منه عبد الله بن عمر ولا خرج حتى قبضه الله إليه. للنساء في المسجد بابٌ خاص، وكذلك في الصلاة للرجال صفوفهم وللنساء صفوفهنّ، يقول رسول الله : ((خيرُ صفوف الرجال أولها، وشرها آخرها، وخير صفوف النساء آخرها، وشرها أولها))، مباعدة بين الرجال والنساء في أقدس مكان، في أطهر بقعة، عند أعظم شعيرة، هي شعيرة الصلاة.
بل أكثر من ذلك لو ناب الإمام شيء في صلاته، لو أنه سها، لو أنه أخطأ، شريعة الإسلام تجعل للرجال التسبيح وللنساء التصفيق، إذا ناب الإمام شيء في صلاته سبح الرجال ينبِّهونه، أما النساء فإنهنّ يصفقنّ بأصابعهنّ على ظهور أكفهنّ، لا يرفعنّ أصواتهنّ في المسجد. ويقول رسول موجهًا الخطاب للنساء: ((ليس لكنّ أن تحققن الطريق)): ليس لكنّ أن تأخذن حُقّة الطريق ووسطه، عليكن بحافات الطريق, يمشي النساء على جنبات الطريق، لا يزاحمن الرجال في الشوارع والطرقات، ولا في الأسواق والتجمعات، بل للمرأة خصائصها وللرجل خصائصه، كل ما يؤدّي إلى الاختلاط شريعة الإسلام تمنعه؛ لأن الاختلاط شرٌّ محض يؤدي إلى شيوع البغاء وقلة الحياء واسترجال النساء وخنوثة الرجال وضياع الأعراض وشيوع المنكرات وفشوِّ الزنا وغير ذلك من الموبقات العظيمة.
نهت شريعة الإسلام من دخول الرجال على النساء: ((إياكم والدخول على النساء))، قالوا: يا رسول الله، أرأيت الحمو؟ ـ الذي هو قريب الزوج كأخيه وابن عمه ونحو ذلك ـ؛ قال رسول الله : ((الحمو الموت))، هذا أشد خطرًا من غيره، لأن النفوس لا تنفر من دخوله، ولا تستريب من ولوجه, ((الحمو الموت)).
شريعة الإسلام تحرم نظر أحد الجنسين إلى الآخر نظرة عمد: ((يا علي، لا تتبع النظرة النظرةَ، فإنما لك الأولى وعليك الثانية)). شريعة الإسلام تمنع مُمَاسّة الرجال للنساء والعكس، حتى لو كان مصافحة. تمنع اختلاطهم، بل لو خرجت المرأة إلى المسجد، لو خرجت تريد بيت الله، تريد الصلاة، فلا بد من شروط معتبرة، لا بد من أمورٍ مرعية فرضتها الشريعة الإسلامية, لا تخرج المرأة متبرجة، بل متحجبة، لا تخرج متطيبةً متزينة، بل تخرج تَفِلَة، لا تخرج المرأة مزاحِمَةً للرجال في الطريق ولا في المسجد، لا بد أن تُؤمَنَ الفتنة منها وعليها، لا تَفتِِن ولا تُفتَن، ثم بعد ذلك إذا جاءت إلى المسجد لا ترفع صوتًا حتى لو كان مجلس علم. كان رسول الله يجعل للرجال مجلسًا وللنساء مجلسًا, الرجال قريبون منه، والنساء نائيات عن الرجال، بعيدات عنهم، كل هذا لأن شريعة الإسلام المنزلة من رب حكيم خبير يعلمُ ما يصلح الناس وما يفسدهم.
أيها المسلمون، عباد الله، هذه المصيبة العظيمة مصيبة الاختلاط, اختلاط الرجال بالنساء في التعليم، في مؤسسات العمل، في المحافل والمؤتمرات، في الأفراح والأتراح، ما عادَ كثير من الناس ينكِرها، بل أكثرهم لا يجد في صدره حرجًا، عادت أمرًا طبيعيًا، أكثر الناس لا يُنكرونه ولا يعملون على تغييره, نبتة شيطانية غربية جاءت من عند غير المسلمين, بدؤوا برياض الأطفال، ثم بعد ذلك ما زالوا يتدرجون شيئًا فشيئًا حتى عمموها.
في بعض بلاد الله، في المدارس منذ أن يدخل الأطفال المدرسة وهم في مرحلة الأساس، في بعض بلاد الله مختلطون، ثم إذا ذهبوا إلى الثانوية اختلطوا، ثم في الجامعة، ثم في وسائل المواصلات، ثم بعد ذلك في أماكن العمل، وفي كل مكان أنفاس الرجال والنساء متقاربة، ليس هناك كلفة ولا حاجزٌ ولا مانع، بل الرجال مع النساء في كل مكان.
ماذا كانت النتيجة؟ الآن في بلاد الغرب، في أُوربا وأمريكا، المصلحون وعلماء الأخلاق ورجال التربية الكل ينادي بمنع الاختلاط، الكل يذكر أن الاختلاط ما أتى بخير، لا في علم، ولا عمل، لا في تحصيل، ولا تدريب، بل متى ما وجدت المرأة بجوار الرجل فهي به مشغولة وهو بها مشغول، قال رسول الله : ((ما تركت بعدي فتنة أضرّ على الرجال من النساء)). المرأة إذا وجدت بجوار الرجل فهى ضررٌ عليه، وهو ضررٌ عليها، كلاهما يضرّ الآخر, ما أمرت شريعة الإسلام بالفصل، ما أمرت شريعة الإسلام بمنع الاختلاط إلاّ لأنها تعلم أنّ الاختلاط ينتج عنه عواقب وخيمة تعود على الأفراد والمجتمعات وعلى الأسر والجماعات، الكل يعاني، لا أحد يأمنُ على عرضه، لا أحد يأمن على دينه؛ لأن الخطر بجواره ظاهرٌ غير كامن.
الآن في أوربا وأمريكا يدعون إلى منع الاختلاط، إلى منع اختلاط الرجال بالنساء، لأنهم عانوا من ثماره المُرَّة كثرة اللقطاء، كثرة حوادث الاغتصاب، كثرة الجريمة، فُشوّ الفاحشة، انتشار الأمراض، قال رسول الله : ((ما ظهرت الفاحشة في قومٍ حتى يعلنوا بها إلاّ ابتلاهم الله عزّ وجلّ بالأسقام والأوجاع التى لم تكن في أسلافهم))، أسقامٌ وأوجاعٌ يضج منها البشر، ولا يجدون لها علاجًا، لا يعرفون لها دواءً حتى الساعة، حتى اللحظة لا يجدون لها علاجًا، والجزاء من جنس العمل.
أيها المسلمون، عباد الله، إذا أردنا لهذا المجتمع أن يكون نظيفًا طاهرًا عفيفًا معافًى سالمًا من الآفات، حتى لو كانت هناك فاحشة مرةً أو مرتين تكونُ مستترةً مختفيةً بعيدةً عن الأنظار، يفعلها أهلها في حياء. إذا أردنا للمجتمع أن يكونَ كذلك، فالدَرَجَة الأولى والخطوة الأولى هي منع الاختلاط، منع الاختلاط في الجامعات وفي مؤسسات العمل وفي دواوين الحكومة وفي وسائل المواصلات وفي سائر المرافق والخدمات، يكون للرجال مجتمعهم وللنساء مجتمعهن، ولا يتوقف هذا على الحاكم وحده، بل الصراحة والنصيحة تقتضي أن نقول في هذا المقام: إننا ـ معشر المسلمين ـ في هذه البلاد الآفة في كثير منا, كثير منا في بيته لا يمنع الاختلاط، قد يكون في بيته حفلة عرس، أو يكونُ في بيته مأتم، أو غير ذلك من العوارض والمناسبات، فيختلطُ الرجال بالنساء، ولا نغيِّر، بل لا تتمَعّرُ وجوهنا، دلالة على أن الناس قد انتكس فهمهم للدين.
ولا نريد أن نقول ـ أيها المسلمون عباد الله ـ كما يقول بعض من لا خلاق لهم بأن الاختلاط لا بأس منه ولا حرجَ فيه!! أيكون مجتمعنا أطهر من مجتمع رسول الله ؟! هل قلوبنا أسلم من قلوب الصحابة؟! الصحابة أطهر الناس قلوبًا، رسول الله منعهم من الاختلاط، عمر بن الخطاب رضى الله عنه في أيام خلافته كان يمنع النساء من أن يسِرن في وسط الطريق، بل يُعيِّن محتسبين في الطرقات ينصحون النساء بأن يأخذن الحواف والجنبات. بعض الناس الآن يقولون: إن المجتمع ناضج وفاهم وواعٍ!! الطالب والطالبة في الجامعة كلاهما يدرك مسؤوليته!! سبحان الله!! أيدركون المسؤولية أعظم من إدراك الصحابة؟! معاذ الله أن يقول هذا عاقل.
أيها المسلمون عباد الله، واجب علينا أن نسعى جميعًا وأن نتكاتف جميعًا لإنكار هذا المنكر والحيلولة دون امتداده بعدما رأى الناس آثاره. الآن المدارس مفصولة والحمد لله, للبنين مدارس وللبنات مدارس، ولكن أغلب الجامعات اختلط فيها الحابل بالنابل, يتزين الفتيات، يتجملنّ ويلبسن أحسن ما يجدن، وكذلك الشباب يتعرضون لهنّ، تجد الشاب مع الشابة يجلسان مثنى مثنى في أكثر الجامعات، ولا يغير هذا المنكر أحد ولا يتكلم معهم أحد.
ماذا كانت النتيجة؟ النتيجة كما تعلمون ـ أيها الإخوة الكرام ـ من انتشار الزواج العرفي ومن كثرة الزنا، كثرة اللقطاء وشيوع ذلك المرض الفتاك، ذلك المرض الخطير الذي لا علاج له حتى الآن، والذي من أعظم أسبابه الفساد الذي يكون بين الرجال والنساء، هذه هي النتائج المُرة.
رئاسة الجمهورية أصدرت قرارًا بتشكيل لجنة لمعالجة هذه المظاهر، وأوكلت رئاستها إلى بعض أهل العلم جزاهم الله خيرًا، خرجت هذه اللجنة بتوصية هي من باب النصيحة ووضع اليد على مكمن الداء ومكان الخطر, وأول ما أوصت بأن يكون للذكور جامعات وللإناث جامعات.
هذه التوصية ـ أيها الإخوة الكرام ـ علاج ناجع ودواء فعّال، لو أخذت طريقها إلى التنفيذ, لكنني أقول: إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لن يسكتوا، سيُجلبون بخيلهم ورجلهم، ستصدرُ كتابات، وتدون مقالات، وتلقى خُطَب، ويتكلم كل ناعِق: لم تمنعون؟ لم تفصلون؟ سياسة الفصل ما عادت نافعة، بل لا بد من التحام الرجال بالنساء، فالمرأة نصف المجتمع، إلى غير ذلك من كلام بارد، تعودنا سماعه من أولئك الذين لا يريدون للمجتمع طهرًا ولا نظافة ولا عفافًا ولا استقامة.
نقول: لا أيها المسلمون عباد الله، القول ما قاله الله وما قاله رسول الله ، ليس هناك مجالُ للتنظير ولا للشقشقة، ولا لدغدغة العواطف بمثل هذه الشعارات، المرأة نافعة، لكن ليس بالضرورة أن يكون نفعها قرينًا باتصالها بالرجل والتصاقها به في وسائل المواصلات وفي الجامعات وفي مؤسسات العمل وفي كل مكان الرجل مع المرأة، حتى أدى ذلك إلى شرٍ عظيم, أقول هذه اللجنة جزاهم الله خيرًا قد قامت بما عليها, وواجب على من ولاهم الله الأمر، وواجب على كل جهة منفذة أن تسعى في إحقاق الحق وإبطال الباطل والحيلولة دون الفساد، من أجل أن نأمن على أعراضنا وعلى أبنائنا وبناتنا، ومن أجل أن يسلم ذكورنا وإناثنا من كل تحريضٍ على باطل أو أمر بمنكر.
نسأل الله عز وجل أن يردنا إلى دينه ردًا جميلاً وأن يصرف عنا الفواحش والفتن ما ظهر منها وما بطن، والحمد لله رب العالمين.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين, وأشهد أن لا إله إلا الله إله الأولين والآخرين, وأشهد أنّ سيدنا ونبينا محمدًا عبدُ الله ورسوله النبي الأمين, بعثه الله بالهدى واليقين, لينذر من كان حيًا ويحق القول على الكافرين, اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه وعلى إخوانه الأنبياءِ والمرسلين وآل كلٍّ وصحب كلٍّ أجمعين, وأحسن الله ختامي وختامكم وختام المسلمين، وحشر الجميع تحت لواء سيد المرسلين.
أما بعد: أيها المسلمون، فاتقوا الله حق تقاته، وتوبوا إلى الله جميعًا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون.
واعلموا أن من الأسباب المفضية إلى الاختلاط والتي منعتها شريعة الإسلام تشبه الرجال بالنساء وتشبه النساء بالرجال، مما تُرى آثاره وتسمع أخباره في كثير من دور التعليم، وقد قال رسول الله : ((لعن الله المتشبهين من الرجال بالنساء, والمتشبهات من النساء بالرجال))، وأخبر أن ثلاثةً حرّم الله عليهم الجنة ومن هؤلاء الثلاثة رَجُلَة النساء ـ المرأة المسترجلة ـ التي ترتدي قميصًا وبنطالاً، وتقصُّ شعرها، وتتشبه بالرجال في المشية والهيئة، في السمت والصوت، وفي الكلام والسلام، التى تخالطهم، لا تتحاشاهم، ولا ترى حرجًا في الحديث الطويل معهم، مثل هذا الصنف ملعون على لسان رسول الله .
واجب علينا ـ معشر الآباء ـ أن ننشِّئ بناتنا على أنّ لهن مواهب وخصائص، لهن شخصيات وقدرات، للبنات وظيفةُ كلفهنّ الله عزّ وجلّ بها, ومن المنكر الشائع في مجتمعنا والذي درج عليه الناس سنينَ عددًا أن يكون البنون والبنات في المرحلة الثانوية لباسهم متشابها، كأننا نقول للبنات: لا فرق بينكنّ وبين الذكور! الدراسة واحدة والتخصص واحدٌ، اللباس واحدٌ، والمرأة كالرجل!! لا والله، ينبغي أن يكون للبنات لباسهن، وأن يكون لهنّ زيهنّ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأنثَى [آل عمران:36]، هكذا قانون القرآن، القانون العادل القانون الأبدي، لا يمكن أن تكون المرأة رجلاً، ولا يمكن أن يصبح الرجل امرأة, ما يمكن أن يختلط الحابل بالنابل إلى هذا الحد.
واجب علينا ـ معشر الآباء معشر الأمهات ـ أن ننشِّئ بناتنا على أن تعتزّ الواحدة وتحمد ربها على أن جعلها أنثى، قال الله عزّ وجل: وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ [النساء:32]، ما ينبغي للمرأة أن تتمنى لو كانت رجلاً، ولا ينبغي للرجل أن يتمنى لو كان امرأة, لّلرّجَالِ نَصِيبٌ مّمَّا اكْتَسَبُواْ وَلِلنّسَاء نَصِيبٌ مّمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُواْ اللَّهَ مِن فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلّ شَىْء عَلِيمًا [النساء:32]، هذه التربية هي التي نشّأ عليها محمد الرجال والنساء ومَنع الاختلاط.
أيها الإخوة المسلمون، لا يقعدُ بالمرأة عن بلوغ أمل ولا عن تحصيل علم ولا تفاضل في عمل, فقد كان نساء من المؤمنات يشهدن صلاة الصبح مع رسول الله متلفعات بمروطهن ما يُعرفنَ من الغلس، كانت المرأة تشهد صلاة الصبح مع رسول الله ، وكنَّ يشهدن الجمعة والجماعة والغزو والجهاد، وكنّ يتلقّين العلم، ويسابقنَ في مضامير العمل, ما قعد بهن منع الاختلاط عن تحصيل ثواب أو التفوق في الحصول على أجر، لكن أعداء الله عزّ وجلّ يريدون أن يصوِّروا لنا أن منع الاختلاط معناه أن تحرم المرأة من العلم والعمل، يقولون لنا: أتريدون أن نعود إلى عصر الحريم؟! أتريدون لنا أنْ نرجع إلى القرون الوسطى، إلى العصور المظلمة؟! ونحو ذلك من كلام يهوِّلون به، ويخوّفون كل مُصْلِح, كل من يدعو إلى إصلاح، وكل من يدعو إلى منع الفساد، يهولون عليه بمثل تلك الشعارات الباطلة, لكن يبقى الحق حقًا، ويبقى الباطل باطلاً، وإن دان به أكثر الناس, وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [الأنعام:116].
أيها المسلون عباد الله، في أوائل هذا الأسبوع حملت إلينا الأخبار نبأ مشروع لاتفاقية سلام بين الحكومة وحركة التمرد، لكن لما كانت هذه الاتفاقية بنودها ليست واضحة، وما نُشِرَت نشرًا يستفادُ منه فائدة يترتب عليها موقفٌ شرعيٌ يتكلم به الدعاة وأهل العلم، فإنني أُرْجِئُ الكلام عنها إلى أن يتبين أمرها، وتتضح غاياتها، وتستبينَ معالمها، ليكون الكلام مبنيًا على يقين لا على ظن.
ونسأل الله عزّ وجلّ أن يصرف عنا شر الأشرار وكيد الفجار وشر طوارق الليل والنهار إلاّ طارقًا يطرق بخير يا رحمن
ـــــــــــــــــــ(68/98)
الاختبارات والتربية
...
...
3983
...
الأسرة والمجتمع
...
...
الأبناء
...
خالد بن محمد بابطين
...
...
جدة
...
6/4/1424
...
...
مسجد الراجحي
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- الاستعداد للاختبارات. 2- مدى عناية الآباء بأبنائهم. 3- اختبار القبر واختبار الآخرة. 4- صعوبة تربية الأبناء. 5- مشكلة التربية في العصر الحاضر. 6- علاج مشكلة التربية. 7- أهمية الدعاء بصلاح الأولاد.
الخطبة الأولى
أيها الإخوة، في هذه الأيام يستعد الطلاب والطالبات ويتهيّئون لدخول الاختبارات بعد أن أمضوا شهورًا من العمل والجد والاجتهاد، فتجد الكل ينشطون بأنواع النشاط والاستعداد، فالاختبار فيه شيء من الرهبة، وهو يحدد مصير صاحبه ومستقبله الدنيوي، فتغمره الفرحة بالنجاح فيسرّ ويبتهج، أو يسودّ وجهه ويعلوه الاكتئاب بالفشل، ولذا فقد أصبحت قلوب الآباء والأولاد وجلة وأذهانهم قلقة، وقد أُعلنت في كثير من البيوت حالة الطوارئ، فالأب ينتظر بفارغ الصبر نتيجة ولده، وتراه يعِده ويمنِّيه ويتوعّده ويحذّره، وقد بذل من ماله وراحته وأعصابه من أجل ولده ونجاحه وشهادته، وهذا الأمر لا تثريب فيه لأنه من الأحاسيس الطبيعية التي فطر عليها الإنسان.
ولكن أيها الأبُ المشفقُ على ولده الخائفُ من إخفاقه وفشله، وأنت قد اهتممت بولدك هذا الاهتمام بشأن الاختبار تعالَ معِي ننظر إلى جانب آخر مما يحتاجه هذا الولد؛ هل كان اهتمامك به بالقدر الذي أوليتَه لدراستِه واختباره؟! ولك أن تقارن وتستخرج النتيجة.
هب أن ولدك تأخّر في نومه عن وقت الاختبار ما هي حالك؟ ما هو شعورك؟ كيف ستصنع؟ ألستَ ستسابق الزّمن ليدرك الاختبار؟! ولكن أرأيتَ إن نام يومًا أو أيامًا عن صلاته كيف سيكون موقفك يا تُرى؟ وأنت ـ أيها الأب ـ المشفق في كل يوم تسأله عما قدّمه في اختباره وهل وُفّق للجواب الصواب؟ ولكن هل تسأله كلّ يوم عن أمر صلاته؟ وهل أداها في وقتها وحافظ عليها حيث ينادى بها؟
أيها الأب المشفق، هب أن ولدك قصر في أداء ذلك الاختبار ولم يسدَّد للجواب الصحيح ألا يضيق صدرك ويشتدّ همّك وغمّك ويأخذ بك الغضب كل مأخذ؟! وقد تنزِل به أشدّ أنواع العقوبة، ولكن أين ذلك كله حين تعلم بل وترى ولدك يرتكب معصية أو يضيّع واجبًا شرعيًا؟!
وها أنت ـ أيها الأب ـ تمنعه أيام الاختبارات مما بين يديه من ملذّات ومُتَع كالتّلفاز والإنترنت والسهر مع الأصحاب والأصدقاء لئلا يُشغل عن اختباره بأي شاغل، وهذا أمر حسن ولا شك، ولكن أين أنت عنه طوال العام حين يغلق عليه بابه ويشاهد ما يعرض عبر الشاشة مما هو معروف؟! وأين أنت عنه حين يخلو بنفسه أو يرتاد تلك المقاهي ويتنقّل بين مواقع الإنترنت السيّئة؟! وكم ليلة أمضاها ونهارٍ قطعه خارج البيت مع أصحابه وأصدقائه وأنت تعلم جيدًا ما يفعل كثير من الشباب حين يجتمعون، فماذا كان موقفك؟!
أيها الأب الحنون، ماذا فعلت لإعداد ولدك لاختبار مهمّ جدًا؛ اختبارٍ من فصلين لا ثالث لهما: فصلٍ في القبر، وآخرَ يوم القيامة، وليس هناك دورٌ ثانٍ ولا إعادة ولا حمل للمواد، ما هو إلا نجاحٌ لا رسوبَ بعده أو رسوبٌ قد لا يكون بعده نجاح، ما هي إلاّ جنةٌ أو نار، فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ [آل عمران:185].
اختبارُ القبر سيسأل عنه كلّ إنسان: من ربك؟ ما دينك؟ ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ وهو اختبار مكشوف ليس فيه شيء من السّرِّية، وقد يبدو سهلاً يسيرًا، ولكن من الناس من إذا سئِل فيه أجاب، ومنهم من إذا سئل قال: هاه هاه لا أدري سمعت الناس يقولون ذاك، فيقال له: لا دريت ولا تليت، يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ [إبراهيم:27]. وأما الاختبار الآخر فيوم القيامة حين لا تزولُ قدما عبدٍ حتى يسأَل عن خمس: عن عمره فيم أفناه؟ وعن شبابه فيم أبلاه؟ وعن ماله من أين اكتسبه؟ وفيم أنفقه؟ وماذا عمل فيما علم؟
أيها الأب الفاضل، ماذا تغني عنه شهادته أو تفوّقه؟! ماذا يغني عنه مركزه ومكانته إذا أوتي كتابه بشماله وقال: يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ يَا لَيْتَهَا كَانَتْ الْقَاضِيَةَ مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ [الحاقة:25-29]؟!
أيها المؤمنون، إن قضية التربية قضية مؤرقة وشائكة جدًا؛ حيث إن العوامل التي تدخل فيها وتؤثّر في مخرجاتها كثيرة ومعقّدة، بل ومتناقضة في كثير من الأحيان، وبالتالي فكما جاء في الحديث: ((لا يجنَى من الشوك العنب))، وتأمل في واقع المجتمع وانظر حولك ترى كلّ ما يهدم القيم والأخلاق، فكيف ترجَى ثمراتٌ طيبة للتربية في واقع لا يساعد على نجاحها بل هو يهدمها ويناقضها؟!
فذاك أب مشغول بتجارته، وآخر غارق في عقاراته وعماراته، وثالث مستهلك بوظيفته صباح مساء، ورابع لا يكاد يضع عصا الترحال عن عاتقه، وخامس يقطع ليله مع أصدقائه ونهاره في عمله، وسادس مشغول بزوجه الجديدة التي أخذت عقلَه ولبَّه وقلبَه ووقته حتى أضحى كثير من الأولاد أيتامًا وآباؤهم على قيدِ الحياة.
وليست المشكلة فحسب أن هؤلاء الأولاد لم يجدوا من يربيهم، بل المشكلة أيضًا أن هناك وسائل بديلة قامت بتربيتهم، فالإعلام بوسائله المتنوّعة المؤثرة يستلم الطفل أو الشاب أو الزوجة منذ دخوله المنزل إلى أن ينام بكل برامجه وصوره ومُسَلْسَلاته، وإن شئت فقل: ومُسَلْسِلاته، حتى أصبح الإنسان يستطيع أن يشاهد مئات القنوات التي تصوّر له أوضاع الشعوب الأخرى وكيف يعيشون وما هي أنماط أخلاقهم وسلوكهم في النواحي الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، لذلك فهذا الإعلام بصورةٍ واضحة صريحة يقدّم للناس هديًا وشريعة بديلَين عن شريعة الله تعالى وهدي محمد ، بل بلغ من انتشاره وخطورته أن أصبح يبذل بالمجان لكل من أراد، فإعلاناتٌ في الطرق وعبر رسائل الجوال لتسهيل وصول هذه الوسيلة لكل بيت، بل لكل غرفة، وهي في حقيقتها نشر للفاحشة بين الناس، ولا أظن أصحابها إلا ممن قال الله فيهم: إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النور:19].
وحدّث ولا حرج عن الإنترنت، ذلك البحر الذي لا ساحل له، وثمة عامل مؤثر وهو الشارع بكل ما فيه مما أقلّ ما نقول فيه: إنه ليس مكانا للتّلقي والتربية والتوجيه حيث تغيب فيه الرقابة من الوالدين ومن غيرهم. إضافةً إلى العناصر الدخيلة على المجتمع، فالسائق مثلا حين يذهب بالبنات إلى المدرسة وإلى السوق أو إلى أماكن الترفيه دون أن يكون هناك أيّ قدر من التوجيه أو الرقابة بحجّة أن الثقة في ظنّ الكثيرين موجودة، وكل أب يثق ببناته وأولاده تلقائيا لأنه يذكرهم منذ الصغر ويذكر ما فيهم من البراءة والبعد عن هذه المعاني، ويرى أيضًا ما عندهم من الحياء والخجل الذي يجعلهم لا يتكلّمون أمامه بشيء، فيظن الأب أنّ أبناءه وبناته أبرار أطهار، ولا يتوقع أن المشاعر المتأجّجة التي قد تثور في نفس أيّ شاب قد تثور عند ابنه أو ابنته، فيتساهل في شأن السائق والخادمة واختلاطهم مع أبنائه وبناته، وكم جرّ هذا التساهل من ويلاتٍ تشيب لها مفارق الولدان .
نسأل الله أن يصلح أولادنا، وأن يحفظهم من مضلات الفتن ما ظهر منها وما بطن.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله عَظُمَ شأنه ودام سلطانه، أحمده سبحانه وأشكره عمّ امتنانه وجَزَلَ إحسانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله، به علا منار الإسلام وارتفع بنيانه، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى أصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: أيها الإخوة الكرام، أعتذِر لكم عن هذا الإسهاب في وصف الواقع السيّئ، لكنه واقع ملموس لا بدّ من التعرّف عليه بكل صدق ووضوح، ولا بد من معالجته بكلّ أمانة وإخلاص، ولست أزعم أني سآتي في هذه الخطبة على كلّ ما يمكن أن يقال في هذا الموضوع، فليست الخطبة مجالاً للإسهاب في هذه الموضوعات، وليس علاج هذه المشكلة يكون بخطبة أو كلمة أو محاضرة أو كتاب، بل لا بدّ من أن تترجم كل هذه الأقوال إلى أفعال، وما لا يدرك كله لا يترك جلّه، ولعلي أن أجمِل شيئًا العلاج في النقاط التالية، وحسبي أن يصبح هذا الأمر همًا يستدعي العنايةَ والاهتمام من كل مسؤول عن التربية.
أولاً: لا بد أن تقوم مؤسسات التربية والتعليم بدورها المطلوب، ولا بد أن توفّر لها الإمكانات اللازمة لتواكب وسائلُها تقنياتِ العصر وتفيد منها في بناء الإنسان المسلم بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى، ولا بد أن يختار لها الأكفاء المؤهّلون لحمل هذه الأمانة، لا أن تكون التربية والتعليم وظيفة من لا وظيفة له.
ثانيًا: إحياء دور المسجد ورسالته، فهو منطلق التربية الأول ومصدرها الأساس، وهو الجو الطبيعي للتربية على مكارم الأخلاق ومعاليها، ولقد كان النبي يعيش معظم وقته مع أصحابه في المسجد، ففيه حلْقات التعليم، ويرتاده السائلون والمستفتون، حتى إن الرجل الجاهل يأتي فيدخل المسجد، فيجد الرسول مع أصحابه، فيقف بينهم فيقول: أيكم محمد؟ فيشيرون إليه ويقولون: هو هذا، فيسأله عمّا أشكل عليه من أمر دينه أو دنياه.
ثالثًا: القرناء الصالحون، وهم بحمد الله كُثر، فينبغي الحرص عليهم، وأن يضع الأب ولده في دائرتهم، فهو مسؤول عن وصله بهذه الوسائل المفيدة ومنعه وإبعاده عن تلك الوسائل الضارة، وينبغي أن نعلم أن الشر خفيف على النفس، وأن التكاليف ثقيلة، والشيطان مسلّط، فيحتاج الإنسان إلى مراقبة ورعاية وحثّ وتشجيع.
والنفس كالطفل إن تهمله شبّ على حب الرضاعة وإن تفطمه ينفطم
رابعًا: الحلقات والدروس العلمية كحلقات تحفيظ القرآن الكريم أو حلقات تعليم العلم الشرعي أو مجالس للذكر يؤمر فيها بالمعروف وينهى عن المنكر وترقَّق فيها القلوب وتحرَّك فيها المشاعر.
خامسًا: الوسائل الإعلامية النافعة مثل الكتب والأشرطة والمجلات الإسلامية المفيدة وغيرها، وكذلك المواقع المفيدة في الإنترنت.
سادسًا: المعايشة والمخالطة والتعاهد بالنصح والتوجيه والقدوة الحسنة في الأقوال والأفعال ومحاولة تلمّس حاجاتهم ومشكلاتهم وتذليل ما يواجهون من عقبات وصعوبات.
أيّها الإخوة، إنّ التربية تحتاج إلى صبر ومصابرة ودعاء ومتابعة، فربما استجاب الولد بعد حين وادّكر بعد أمة.
أيها الإخوة، ومع كل ما سبق فثمّة أمرُ الدعاء، فهذا إبراهيم عليه السلام يقول: رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ [إبراهيم:40]، وزكريا عليه السلام دعا ربه فقال: رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ [آل عمران:38]، وحين وهب الله له يحيا قال: وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا [مريم:6]، ومن دعاء المؤمنين: رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا [الفرقان:74].
فما أحرانا أن نخصَّهم بدعوة خالصة في ساعة من ليل أو نهار، لعل الله أن يفتح لها باب القبول.
ـــــــــــــــــــ(68/99)
حقوق الطفل في الإسلام 1
...
...
4001
...
الأسرة والمجتمع
...
...
الأبناء
...
عبد الرحمن بن محمد بوكيلي
...
...
مكناس
...
...
...
بدر
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- حقوق الطفل قبل الحمل. 2- حقوق الطفل أثناء الحمل. 3- حقوق الطفل بعد الولادة: حق الحياة، حق الاعتبار والكرامة، حق الاسم الحسن، حق الرضاع، حق الملاعبة والمداعبة، حق المراقبة.
الخطبة الأولى
يتحدث الناس في هذه الأيام ـ أيها الإخوة ـ عن الطفل وحقوقه، وتعقد الأمم المتحدة دورة خاصة لمناقشة حقوق الأطفال في العالم. وإن الحدث في حد ذاته يثير الاستغراب؛ لأن الناظر الذي يرى ويتأمل أحوال الأطفال في العالم كله يجدهم قد وصلوا حالة من الضياع والضلال والاضطهاد والظلم لم يسبق أن عرفها الإنسان في التاريخ. وأنا هنا أتحدث عن الأطفال كلهم، بما في ذلك أطفال ما يسمى بالدول المتحضرة, أطفال أوربا وأمريكا؛ لأن أحوال أولائك لا تعدو أن تكون أحوال إنسان ضال تائه معذب, أطفال لا يعرفون حنان الأمومة ولا عطف الأبوة, أطفال محرومون من هداية الله تبارك وتعالى, ينشؤون ويكبرون على عبادة غير الله، أما أطفال العالم الثالث أطفال المسلمين فإنهم يشهدون في الديار المقدسة حالة رهيبة من الإبادة لكونهم مشروع مقاومة كما ذكرنا أكثر من مرة.
وكل هذا الذي يحصل من ضلال أولائك وتشريد هؤلاء ترعاه ما يسمى بالأمم المتحدة، ترعاه سياسيا وتوجيهيا وفكريا؛ لأن هذه المؤسسات ـ إخوتي الكرام ـ لها هدف واضح، هو أن يعيش العالم تحت سيطرتها وتوجيهها وهيمنتها، عن طريق المواثيق والمؤتمرات والتوجيهات. إنها مشاريع هيمنة حضارة مادية صرفة.
ونقف ـ إخوتي الأعزاء ـ لأُذَكِّر فحسب, وإن كان عدد من إخوتنا وأخواتنا ينبهون على أن هذه الأمور التي نذكر بها هي أمور للأسف غائبة في صفوفنا، بمعنى أن هذا الذي نسميه تذكيرا أصبح تعليما أساسيا. قلت: أقف لأذكر بمجموعة من الحقوق الكبرى التي ضمنها الحق سبحانه لهؤلاء الأطفال في العالم كله:
أما مرحلة ما قبل الحمل فمن الأمور العظيمة في هذا الدين أنه اهتم بالأطفال قبل الحمل, قبل أن يوجدوا. ولعل أبرز حق وأعظمه ضمنه الله للطفل في هذه المرحلة هو اختيار والديه بعضهما لبعض, أن تختار المرأة الرجل وأن يختار الرجل المرأة, ولا أحد يكره على الزواج. هذا الدين العظيم جعل الرجل لا يكره, ولا أحد يمكنه أن يلزمه بالزواج، سواء كان أباه أو أمه أو الحاكم. كذلك الأمر بالنسبة للبنت, لا تلزم, ولا يمكن أن يلزمها أحد. لذلك قال الرسول : ((والبِكْرُ تُسْتَأْذَنُ فِي نَفْسِهَا، وإذْنُهَا صُمَاتُهَا)) رواه الترمذي وصححه. فتستأذن لأنها بحيائها ورقتها قد لا تصرح، لكن حالها وصمتها وأسارير وجهها تبين لولي أمرها أنها راضية وراغبة في الزواج.
فمن حق الطفل على أبيه أن يختار أمه. روى البخاري ومسلم وغيرهما عن أَبي هُرَيْرَةَ عن النّبيّ قال: ((تُنْكَحُ النّسَاءُ لأَرْبَعٍ: لِمَالِهَا وَلِحَسَبِهَا وَلِجَمَالِهَا وَلِدِينِهَا، فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ)). وروي عن عائشة رضي الله عنها أن الرسول قال: ((تَخَيَّروا لِنُطَفِكُم)) رواه ابن ماجة والحاكم في المستدرك والبيهقي في السنن والسيوطي في الجامع الصغير وصححه.
ومما يزيد هذا الكلام نفاسة وقيمة بيان ربنا في القرآن الكريم أن الذرية لها تأثر كبير بآبائها، فيقول الحق سبحانه: ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْض وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [آل عمران:34]. فعندما تُسأل: من أين هذه الثمرة؟ تقول: من هذه الشجرة. فلا تظنن الإنسان مقطوع الصلة بوالديه وأجداده وتاريخه.
وهل يرجى لأطفال كمال إذا رضعوا ثدي الناقصات
كما أن من حقه على أمه وذويها اختيار الأب الفاضل. أخرج الترمذي وابن ماجة والحاكم وصححه عن أبي هُرَيرَةَ قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : ((إذا خطبَ إليكُمْ من ترضونَ دينهُ وخلقهُ فزوِّجوهُ، إلاَّ تفعلوا تكنْ فتنةٌ في الأرضِ وفسادٌ عريضٌ)). فلا تُزوج لمشرك أو ملحد لا يعطي وزنا للدين، قال تعالى: وَلاَ تُنكِحُواْ الْمُشِرِكِينَ حَتَّى يومِنُواْ وَلَعَبْدٌ مُّومِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَو أعْجَبَكُم [البقرة:122]. كما لا تزوج لفاسق غارق في المعاصي والمنكرات، صح عن الإمام الشعبي قوله: "من زوج كريمته من فاسق فقد قطع رحمها".
وأما أثناء الحمل فقد تحدث الحق سبحانه عن جملة من الحقوق المرتبطة بالطفل حال كون أمه حاملا به:
على رأس ذلك أن تكون حاملا في بيت زوجها، وأن ينفق عليها، وأن يعتني بها مهما كانت الظروف حتى تضع حملها، وَأُوْلاتُ الأحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنّ [الطلاق:4]. فالطفل في بطن أمه شديد التأثر بحالها، فإذا كانت قلقة ومضطربة ومتعبة فإن نصيبا من ذلك يناله، لذلك كان الغالب على أبناء الأسر المضطربة الاضطراب وعدم الاستقرار والانحراف. والعكس بالعكس.
ومن أعظم ما ضمنه الله تعالى للطفل وهو في بطن أمه حق الحياة، فمنذ أن تبدأ نبتته في الأحشاء فهو إنسان لا يجوز للدنيا كلها أن تسقطه. فمما بايع عليه الرسول النساء عدم الاعتداء على حياة أجنتهن، قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيء إِذَا جَاءكَ الْمُؤمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لا يُشْرِكْن بِاللَّهِ شَيْئًا وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلَدَهُنَّ [الممتحنة:12].
ويتعزز هذا الحق ولو كان الجنين من الزنا، روى الإمام مالك في الموطأ عن عبد اللّه بن أبي مُلَيْكة أن امرأةً أتت النبي فأخبرته أنها زنت وهي حامِلٌ، فقال لها رسول اللّه : ((اذهبي حتى تَضَعِي)). لماذا لم يطبق عليها الحد فورا؟ لأنها ليست وحدها، إن هناك إنسانا آخر في أحشائها. فلما وضعَتْ أتته، فقال لها: ((اذهبي حتى تُرضعي))، فلما أرضَعَتْ أتته فقال لها: ((اذهبي حتى تَسْتَودِعيْه))، فاستودَعَتْه، بمعنى جعلته عند من يحفظه ويرعاه، ثم جاءته فأمر بها فأُقيم عليها الحدّ.
ويستغرب الإنسان من سؤال الكثير من إخوتنا المسلمين عن الإجهاض، فيقول السائل: إن رزقي لا يكفي فهل يجوز لي الإجهاض؟! سبحان الله! هل اطلعت على رزقك؟! وإذا كان رزقك كذلك، فهل اطلعت على رزق الجنين وما أعده الله له؟! ألم تقرأ قوله تعالى: وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّن إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُم [الأنعام:152]. فالفقر حاصل واقع، رغم ذلك لا يجوز الإجهاض، وقوله تعالى: وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خطئًا كَبِيرًا [الإسراء:31]. فالإملاق متوقع رغم ذلك لا يجوز الإجهاض. فلا في حالة الفقر الواقع ولا في حالة الفقر المتوقع يجوز إجهاز الجنين والاعتداء على حياته. فما الحل إذًا؟ إنه الصبر والتوكل على الله تعالى والتفكير في توسيع أبواب الرزق، عوض الوقوع في أحابيل الشيطان.
وللطفل في الإسلام حقوق بعد ولادته، منها:
أ- حق الحياة: فمن أبرز حقوق الأطفال التي تحدث عنها القرآن الكريم بعد ولادتهم حق الحياة، يقول الحق سبحانه: وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ [التكوير:8، 9]. كما حفظ الإسلام هذا الحق للأطفال ولو كانوا أبناء الكافرين المحاربين، قال تعالى: وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِين [البقرة:189]، فلا يقاتَل ولا يُقْتَل الأطفال لأنهم لا يُقاتِلون. في صحيح مسلم عن بريدة رضي اللّه عنه قال: كان رسول اللّه إذا أمّرَ أميرًا على جيشٍ أو سريةٍ أوصاه في خاصّتِه بتقوى اللّه تعالى ومَنْ معه من المسلمين خيرًا، ثم قال: ((اغزوا باسْمِ اللّه في سَبِيلِ اللَّهِ، قاتِلُوا مَنْ كَفَرَ باللّه، اغْزُوا وَلا تَغُلُّوا ولا تَغْدِرُوا وَلا تُمَثِّلوا وَلا تَقْتُلُوا وَلِيدًا)). إن الإسلام دين هداية لا دين إبادة، والأطفال رغم كونهم أبناءَ كفارٍ إلا أنهم مشروعُ هداية.
ب- حق الاعتبار والكرامة: فيفرح به عند ولادته سواء كان ذكرا أو أنثى، ويذكر الله تعالى ويشكر، ويعبر عن ذلك بعقيقة في يوم سابعه، ويكرم بكرم الله تعالى.
ج- حق الاسم الحسن: فيسمى اسما حسنا، وذلك لأن الاسم جزء من شخصية الإنسان، وقد كان النبي يحب الأسماء الجميلة، ويكره القبيحة ويبدلها. ففي صحيح مسلم والترمذي وغيرهما عن ابن عمر رضي اللّه عنهما أن النبيّ غيَّرَ اسم عاصية، وقال: ((أنت جميلة)). وفي رواية لمسلم أيضًا أن ابنةً لعمرَ كان يُقال لها: عاصية، فسمَّاها رسول اللّه جميلة. وفي صحيح مسلم كذلك عَنْ مُحَمّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَطَاءٍ قَالَ: سَمّيْتُ ابْنَتِي بَرّةَ، فَقَالَتْ لِي زَيْنَبُ بِنْتُ أَبِي سَلَمَةَ: إِنّ رَسُولَ اللّهِ نَهَىَ عَنْ هَذَا الاِسْمِ، وَسُمّيتُ بَرّةَ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ : ((لاَ تُزَكّوا أَنْفُسَكُمُ، اللّهُ أَعْلَمُ بِأَهْلِ الْبِرّ مِنْكُمْ))، فَقَالُوا: بِمَ نُسَمّيهَا؟ قَالَ: ((سَمّوهَا زَيْنَبَ)).
فيسمى المولود محمدا أو أحمد أو حميدة أو ما اشتق من ذلك، أو يسمى عبد مع إضافة اسم من أسماء الله تعالى، مثل عبد الله وعبد الرحمان وعبد الرحيم وعبد الرزاق، ففي صحيح مسلم عن ابن عمر رضي اللّه عنهما قال: قال رسول اللّه : ((إنَّ أحَبَّ أسْمائكُمْ إلى اللّه عَزَّ وَجَلَّ عَبْدُ اللّه وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ)). أو يسمى اسما يرمز إلى خير، من مثل عمر ومصعب وصلاح الدين وخالد وسعد وفاطمة وزينب وعائشة وأسماء، مما يحمل معنى سليما ويرمز إلى شخصية عظيمة. كما ينبغي تجنب الأسماء القبيحة من مثل الخمار وحادة وعبد النبي.
ومن السنة ـ معشر الإخوة ـ أن نبدل أمثال هذه الأسماء القبيحة، ففي سنن أبي داود بإِسناد جيد وابن حبان في صحيحه عن أبي الدرداء رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه : ((إنَّكُمْ تُدْعَوْنَ يَوْمَ القِيامَةِ بأسْمائكُمْ وأسماءِ آبائِكُمْ، فأحْسِنُوا أسْماءَكُمْ)).
د- حقه في الرضاع: فالأفضل أن ترضعه والدته بما فيه الكفاية، قال تعالى: وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ [البقرة:231]. فالرضاع الطبيعي هو أجود أنواع الرضاع للطفل وللأم، فلا حليب يناسب الطفل كحليب أمه، كما أن زهد الأمهات في ذلك خلاف الطبيعة مما يسبب أمراضا يعلمها المتخصصون، علاوة على ذلك لا يخفى أن رضاع الأم يكون ممزوجا بعطفها وحنانها ودفء أحضانها، وفي ذلك غذاء عاطفي رفيع، الحاجة إليه ليست أقل من الحاجة إلى الطعام والشراب.
هـ- حقهم في الملاعبة والمداعبة: فقد كان محمد بالرغم من مسؤولياته وأثقاله يداعب ويلاعب أبناءه وأبناء المسلمين. روى البخاري ومسلم والترمذي وغيرهما رحمهم الله عن أَنَس بن مَالِكٍ قال: كَانَ رَسُولُ الله يُخَالِطُنَا حَتَّى كَانَ يقُولُ لأَخٍ لي صَغيرٍ: ((يَا أَبَا عُمَيرٍ، مَا فَعَلَ النُّغَيرُ؟))، وقد بوب البخاري لهذا الحديث بقوله: "باب الانبساط إلى الناس". ورُوي عن جابر قال: دخلت على النبي وهو حامل الحسن والحسين على ظهره وهو يمشي بهما فقلت: نعم الجمل جملكما، فقال رسول الله : ((ونعم الراكبان هما)). فليس من الديانة ولا الرجولة دوام الانقباض والسكينة مع الأطفال، لما يخلفه ذلك من الانطواء على ذواتهم وعدم كشفهم لنواياهم وانشغالاتهم.
الخطبة الثانية
ز- حق المراقبة: نعم، إن مراقبة الطفل وحسن متابعته من حقه على أبويه؛ لأن في ذلك صلاحه ونجاته، فإنه لا يعقل أن يترك للطفل الحبل على الغارب بدعوى الحرية والتفتح. لا بد قبل ذلك من أن يكون مزودا بشيء من العلم والخبرة مما يمكنه من معرفة منفعته ومضرته، أما أن يُلقى منذ نعومة أظفاره في يم الفتن والشهوات والأمواج العاتية فيُنتظر منه السداد، فهذا من قبيل العبث والحماقة.
لا يخفى على الإخوة أن المؤتمرات الدولية للطفولة لا تفتأ تدندن حول إتاحة الحرية للأطفال دون ضوابط، مما ينشئ أجيالا متحررة من الدين ومن الأخلاق ومن كل خير؛ لأن كل ذلك يحول دون انطلاقهم نحو الرغبات والملاهي. وليس غريبا أن تنحو المؤتمرات الدولية برعاية الأمم المتحدة هذا المنحى ما دمنا نعرف أنها خادمة لما تريده الصهيونية من إخراج أجيال لا تعرف الصلة بالله.
وإنه لا يضرنا أن يكون هذا دأبهم؛ لأن طريقة حياتنا ومنهج التعامل مع أنفسنا وأبنائنا لا نأخذه منهم، وإنما نستقيه من كتاب الله وسنة رسوله ، ومن حقنا على العالم كله أن يحترم اختيارنا وأن يراعي خصوصياتنا.
إنه ـ معشر المؤمنين ـ لازم علينا أن نراقب أبناءنا في مدخلهم ومخرجهم، في جدهم وهزلهم، في واجباتهم المدرسية والتعبدية، ولا بد من معرفة أصدقائهم ومرافقيهم، فالنبي يخبر أن هذا مما سنسأل عنه يوم القيامة، ففي الحديث المتفق عليه عَنْ عَبْدِ الله بنِ عُمَرَ أنّ رَسُولَ الله قال: ((كُلّكُم رَاعٍ، وكُلّكُم مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيّتِهِ)).
أيها الإخوة الأعزاء، يحول الوقت دون استرسالنا في قضايا الموضوع، فنكتفي بما ذكر على أمل أن نتابع في الجمعة المقبلة بحول الله تعالى.
فنسأله سبحانه أن يصلح أحوالنا وأحوال أبنائنا، والحمد لله رب العالمين.
ـــــــــــــــــــ(68/100)
حقوق الطفل في الإسلام 2
...
...
4002
...
الأسرة والمجتمع
...
...
الأبناء
...
عبد الرحمن بن محمد بوكيلي
...
...
مكناس
...
...
...
بدر
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- عناية القرآن الكريم بالقضايا الأسرية والأخلاقية. 2- مسؤولية التربية تعم الجميع. 3- إبطال مبدأ الحريات الشخصية. 4- أهمية حقوق الطفل لمعنوية. 5- وجوب العناية بالأطفال المحرومين والمشردين.
الخطبة الأولى
معلوم ـ أيها الإخوة الكرام ـ أن تناول القرآن لقضية ما يكون على حسب قيمتها وخطورتها، فكلما كانت القضية كبيرة وعظيمة وكان أثرها على حياة المسلم أثرا بليغا فإن هذا الدين ولله الحمد يوليها اعتبارا أكبر ويتحدث عنها بشكل مستفيض. من ذلك ما يتعلق بالقضايا الأسرية والقضايا الأخلاقية. ومن ذلك ما يتعلق بالطفل, ما يتعلق بحقوقه, ما يتعلق بحياته, ما يتعلق بتربيته, ما يتعلق بتوجيهه. وقد بينت فيما مضى جملة من الحقوق تحدث عنها الحق سبحانه وتحدثت عنها سنة النبي .
من ذلك أن هذا الدين العظيم اهتم بالطفل قبل أن يوجد، وأكرر هذه القضية لأهميتها البالغة؛ لأن الكثير من المفاسد التي نتخبط فيها ناشئ من تلك المرحلة، فكان من الممكن أن يفطن لها الإنسان منذ مدة, ولكن نظرا لتهاونه في البدايات كانت النهايات سيئة, وكانت النهايات صعبة في المعالجة, لماذا؟ لأن الأساس كان خربا, والبناء لم يؤسس على أساس صلب قوي, وإذا كان الأساس غير سليم فمن الصعب أن تصلح البناء أو ترقعه. وتحدثت كذلك عن حقوق هذا الطفل وهو في بطن أمه, ثم عن حقوقه بعد أن يخرج إلى هذه الحياة.
قبل المتابعة أحب أن أنبه على أمرين لهما من القيمة ما لهما:
أولهما: ما قد يفهمه المستمع من أن كلامي موجه للوالدين؛ لأنني لما تكلمت عن اختيار الزوجة واختيار الزوج والاهتمام بالطفل وهو في بطن أمه وكأن الأمر يتعلق بالوالدين فحسب.
فأقول: أيها الإخوة, إن القضية أعظم من ذلك, وأكبر من ذلك. نعم, الأبوان لهما مسؤولية كبيرة وخطيرة, فاحتكاكهم بأبنائهم كبير, وسلطانهم على أبنائهم قوي، ولهذا اعتبر النبي فعل الوالدين أعظم عامل محدد لمسار الأطفال، ففي الصحيحين عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنّهُ كَانَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ : ((مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلاّ يُولَدُ عَلَىَ الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوّدَانِهِ وَيُنَصّرَانِهِ وَيُمَجّسَانِهِ. كَمَا تُنْتَجُ الْبَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ، هَلْ تُحِسّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ؟!)) ثُمّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ: واقرؤوا إِنْ شِئْتُمْ: فِطْرَةَ اللّهِ الّتِي فَطَرَ النّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللّهِ [الروم:30]. وكأن هذا الحديث الشريف العظيم يرد على كثير من الآباء الذين إذا كلمتهم يقولون: إنهم مغلوبون وليست بيدهم حيلة تجاه أبنائهم, والمجتمع هو الذي له الدور الأكبر, والشارع يفسد والمدرسة تفسد, فماذا يمكننا أن نفعل؟! وكأن هذا الحديث الشريف يرد عليهم ويبرز لهم قيمتهم ومكانتهم في هذا الإطار، فليس لهم أن يستسلموا ويفشلوا, وليس لهم أن يحتقروا وظيفتهم, وليس لهم على كل حال أن يسقطوا الموضوع من أيديهم، وإنما يجب عليهم أن يتشجعوا ويقوموا بمسؤولياتهم كما يجب.
رغم ذلك ـ أيها الإخوة ـ فإن المسؤولية لا تظل مرتبطة بالوالدين فحسب, وإنما هي مسؤولية المجتمع كله, كل من موقعه, كل من جهته، فربنا سبحانه وتعالى لما تكلم عن المؤمنين لم يتكلم عنهم منفصلين, لم يتكلم عنهم مبعثرين, وإنما تكلم عنهم كتكتل وتجمع, فلاحظوا في خطاب كتاب الله تبارك وتعالى لا نجده موجها لمؤمن وحده, وإنما الخطاب في الأصل موجه للمؤمنين كافة, موجه للمجتمع والأمة ككل. لذلك نجد في القرآن الكريم مرارا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا؛ لأن المؤمن لا يمكن فصله عن مجتمعه, وعن شارعه ومدرسته, وعن مؤسسات مجتمعه كلها, فبعضها يؤثر في بعض.
وأجمل تشبيه لهذه القضية تشبيه السفينة الذي شبه النبي به المجتمع, فيبين أن المجتمع هو مجموعة ذات مصير واحد, فلا يمكن أن أقول: إنني لوحدي يمكنني النجاة, وإنما المجتمع مصيره واحد, وعواقبه واحدة, فالنتائج التي يمكن أن يستفيد منها هي كذلك مشتركة. ففي صحيح البخاري وجامع الترمذي عن النّعْمَانِ بنِ بَشِيرٍ قال: قال رسولُ الله : ((مثل القائم في حدود اللَّه والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة، فصار بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقًا ولم نؤذ من فوقنا. فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعًا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعًا)).
فلاحظوا ـ إخوتي الأعزاء ـ هذا التشبيه العظيم، فالسفينة هي المجتمع، والذين كانوا في أسفل السفينة هم من مكونات هذا المجتمع. لاحظوا ماذا يحدث لو أنهم حفروا حفرة في الطابق السفلي لهذه السفينة, فإن الماء سيغمر الطابق السفلي, وسيغمر الطابق العلوي، وسيهلك المجتمع كله، ((فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعًا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعًا)). فهذا ـ إخوتي الأعزاء ـ تصور عظيم لحدود حرية الإنسان.
أما يسمى اليوم بالحرية الشخصية فهو شعار مزخرف لمقاصد خطيرة جدا، أن يفعل كل فرد ما يشاء, ولا أحد من حقه أن يتدخل في شؤونه الخاصة، فديننا العظيم لا يعرف هذا المنطق, ولا يعرف هذا الأسلوب، فأي سلوك يمكن أن تفعله أو يفعله غيرك فهو يهمّ المجتمع كلَّه ويؤثر في المجتمع بالسلب أو بالإيجاب. فحتى الكثير من القضايا التي يسميها الغربيون شخصية, هذا الدين العظيم لا يعتبرها كذلك. مثلا: عندهم في أوربا وغيرها أن المرأة إذا زنت برضا زوجها لم ترتكب جرما؛ لأن هذا يدخل في حريتهم الشخصية، بينما في الإسلام إذا زنت المرأة ـ أراد زوجها أو لم يرد, أحب ذلك المجتمع أو لا ـ فقد ارتكبت جرما، وحكمها الجلد إذا كانت غير متزوجة, والرجم حتى الموت إذا كانت متزوجة. وهذا الحكم لا يقدر أحد على إسقاطه، لماذا؟ لأنه قضية حق المجتمع بأكمله.
من هذا المنطلق بالطبع كان من مسؤولية المجتمع في تربية الأبناء أن يوفر البيئة الصالحة، من مسؤولية المجتمع في تربية الأبناء أن يكون الشارع نظيفا، أن يتطهر من مقرات الفساد, وأن يخلو من مراكز اللهو والمجون المحرم، وتلك المتخصصة في تضييع أوقات الأبناء وأكل أعمارهم.
إن الملاحظ في واقعنا ـ أيها الإخوة ـ أن هناك تيارا من الفجور والفساد يجرف ما بقي من أخلاق الشباب والشياب وأوقاتهم، ومن مسؤولية المجتمع أن يوفر مؤسسات الصلاح والإصلاح, لا مؤسسات الفساد والإفساد، فإنه لا يعقل أن ننشد الصلاح والإصلاح ومؤسسات الخمر والقمار والفاحشة والمسخ حيثما وليت وجهك.
متى يبلغ البنيان يوما تمامه إذا كنت تبنيه وغيرك يهدم
وأما الأمر الثاني الذي يستحب ذكره في هذه العجالة وهو حدود هذه المسؤولية، لا شك ـ إخوتي الأعزاء ـ أن الفرق الجوهري بين الحضارة الإسلامية والحضارة الغربية البعيدة عن الله تعالى هو كون الحضارة الإسلامية حضارة لا تقف عند حدود هذه الدنيا, وإنما هي حضارة تعدّ الإنسان وتصلح أحواله كي يكون من السعداء في الدنيا والآخرة. فمن ثَمَّ لا نتحدث عن حقوق الأطفال المادية فحسب, فهناك حق يسبق كل الحقوق، يسبق الأكل والصحة والتعليم, وهو حق تربيتهم تربية يحبها الله. لاحظوا الصورة البغيضة البليدة التي نلاحظها في الكثير من الأوساط: يوفر للأطفال المأكل والملبس والملاهي, ولكن لا دين و لا إيمان و لا أخلاق، فما الفائدة؟! فهل تسمنه وتجهزه لنار جهنم؟! فالأمر ـ إخوتي الأعزاء ـ خطير فعلا، فلذلك كانت المسألة التي يجب أن تطغى هي تحسين صلة الأطفال بربهم سبحانه وتعالى, فمن الصغر تبدأ هذه القضايا تترسخ, فهي الهدف الأسمى الذي يؤطر الحياة الأسرية وحياة المجتمع.
الخطبة الثانية
أيها الإخوة، إذا كان الإسلام قد ضمن للأطفال جميعا جملة من الحقوق فإنه نبه المجتمع على واجبه نحو المحرومين منهم والمشردين والأيتام. وللأسف فإن هذا النوع كثير في مجتمعنا، لماذا؟ لأن صلة مجتمعاتنا بالله ضعفت، ففشو الزنا وسوء التصرف في الثروات واضطراب الأسر كل ذلك يسهم في إنتاج آلاف الأطفال المشردين والمحرومين. وهؤلاء ـ إخوتي الأعزاء ـ يحتاجون لعناية متميزة.
ولعل أول مسألة يثيرها هذا الدين العظيم هي أن وجود الضعفاء والمحرومين ليس بمشكل في المجتمعات عادة, وإنما المشكل في كيفية التعامل معهم, وفي كيفية النظر إليهم، فإنه لا يخلو مجتمع مسلم من ثلاث فئات: الفئة الأولى: فئة العاملين، الفئة الثانية: فئة الذين يقاتلون في سبيل الله، الفئة الثالثة: فئة المرضى والمحرومين. قال تعالى: عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُم مَّرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [المزمل:20]. والمفروض أن المجتمع كله من الناحية الاقتصادية يعتمد على العاملين، المقاتلون في حاجة إليهم، والمرضى والضعفاء في حاجة إليهم أيضا.
إن القرآن الكريم ـ معشر الإخوة الكرام ـ يقرر أن لهؤلاء المحرومين حقا، ليس إحسانا ولا تطوعا، وإنما هو حق معلوم، قال تعالى: وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ [المعارج:24، 25]. فالفرق بين الحق المعلوم الذي يتحدث عنه القرآن الكريم وبين غيره معلوم، فالحق المعلوم حق محدد للسائل والمحروم، ليس لأحد أن يأخذه منه، أو يحرمه منه، فهو ملك له. فكان على المجتمع كله أن يتعاون لكي يصل إليه، فإذا أخذته وأكلته فقد أكلت أموال الناس بالباطل. وأبرز هذا الحق المعلوم الزكاة، إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [التوبة:60]، فهؤلاء لهم حق مضبوط وحق لا يناقش. المجتمع ما دام لا يهتم به ولا يجمع مال الزكاة ولا يوصله إليهم فهو مجتمع آثم، فهو مجتمع لا يستحق رحمة الله، وهذا للأسف من الواجبات العظيمة التي ضيعتها المجتمعات المسلمة. الزكاة التي هي ركن من أركان الإسلام، لمن تركناه؟ تركناه للناس، تركناه للأغنياء، في حين أن الأمر ليس هكذا، فهذا ليس من حقهم، وإنما ينبغي أن يجمع منهم، وأن يؤخذ رغما عنهم إذا امتنعوا، ويعاقبون بأخذ شطر من أموالهم. فهذا حقهم المعلوم على مجتمعهم، أن يسخر مال الزكاة لرعايتهم والقيام بشؤونهم، من مطعم مشرب وتعليم وتربية..
كما رغب هذا الدين العظيم في التنافس في الإحسان إلى المحرومين من الناس عموما، وإلى الصغار منهم بالخصوص، فإنه لا يجوز قهر اليتيم ولا القسوة عليه، قال تعالى: فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَر [الضحى:9]. وكافله من مرافقي النبي في الجنة. أخرج البخاري وغيره عن سَهْلٍ أَنّ النّبيّ قالَ: ((أَنَا وَكَافِلُ الْيَتِيمِ كَهَاتَيْنِ في الْجَنّةِ)) وَقَرَنَ بَيْنَ أُصْبُعَيْهِ: الْوُسْطَى وَالّتي تَلِي الإبْهَامَ.
إن المطلوب في مجتمعات المسلمين أن يؤدَّى هذا الحق في أحسن أحواله، وأن لا يبقى موكولا للأفراد، وذلك بتأسيس مؤسسات الرعاية والتربية والإيواء، وأن ينفق عليها بسخاء، وأن تهتم بالتربية الشاملة الصحية والإيمانية والعلمية والخلقية، وأن لا يقتصر فحسب على توفير بعض الحاجيات المادية وإهمال التربية الخلقية والإيمانية، كما هو سائد للأسف في الخيريات ودور الطالب.
فنسأله سبحانه وتعالى أن يصلح أحوالنا ويتولى أمرنا، وأن يجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، والحمد لله رب العالمين.
ـــــــــــــــــــ(68/101)
واجب الزوج نحو زوجته
...
...
4006
...
الأسرة والمجتمع, فقه
...
...
النكاح, قضايا الأسرة
...
عبد الرحمن بن محمد بوكيلي
...
...
مكناس
...
...
...
بدر
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- أسس مؤسسة الزواج. 2- واجبات الزوج نحو زوجته: المعاشرة بالمعروف، الصبر عليها والحرص على إرضائها، الاعتدال في الغيرة، الاعتدال في النفقة، تلبية رغبة الفطرة.
الخطبة الأولى
أيها الإخوة الأعزاء، ديننا العظيم ـ ولله الحمد ـ أعطى العلاقة الزوجية قيمة خاصة ومكانة متميزة، واعتبرها العلاقة الوحيدة المشروعة بين الذكر والأنثى، ولم يعترف بغيرها. ونظرًا لخطورة الأسرة وما يتعلق بها من أحكام وتوجيهات تحدث عنها الحق سبحانه وتعالى في كتابه المحفوظ بالتفصيل المطلوب، فكلما كان أمر ما عظيمًا وأثره في حياة الفرد والمجتمع بليغًا تحدّث عنه القرآن الكريم أكثر، ضبط القضايا المتصلة به.
هذا ما حصل تمامًا بالنسبة للأسرة، فبيّن سبحانه وتعالى الأسس التي تقوم عليها الأسرة المسلمة، فقال عز وجل: وَمِن آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّن أنفُسِكُم أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُون [الروم:20]. فبعد أن ذكر سبحانه أن المرأة ليست عنصرًا غريبًا عن الرجل، وإنما هي من نفسه وخلقت له، فهي منه وإليه، هي جنس مألوف من قبله؛ ليتحقق السَّكن والأنس، بعد هذا بيّن سبحانه وتعالى الأساسين اللذين يجب أن تقوم عليهما مؤسسة الزواج:
الأول: المَوَدَّة، بمعنى: المحبة الكبيرة والعاطفة الجياشة. فالزوج يحب زوجته وهي تحبه، كل منهما يشعر أن الآخر نعمة أسداها الله إليه ومتعه بها. إذا كان المؤمن محبًا لإخوته في الإيمان فإن حبه لزوجته أقوى، فهي أخته في الدين وعشيرته المقربة.
الثاني: الرحمة، فالأمر ليس موكولاً للعاطفة فحسب، وإنما الرجل رحيم بزوجته مشفق عليها، هذه الرحمة تدعوه إلى الإحسان إليها ومراعاة ضعفها وعدم ضربها أو الاعتداء عليها. وهي بدورها رحيمة به، تسدي إليه الخير، وترحم ضعفه وشيبته ومرضه، وتعامله بالحسنى. إذا كان المؤمن محسنًا للناس بحكم إيمانه وإسلامه فإن إحسان الرجل لزوجته وإحسان الزوجة لزوجها أولى وآكد.
علاوة على ما ذُكِر من أساسَي مؤسسة الزواج، فإن الله تعالى لم يكل الأمر لهذه المحبة وتلك الرحمة التي ربما عصفت بهما تقلّبات قلوب الناس، ففصّل في طبيعة العِشرة التي يجب أن تكون بين الزوجين.
ولنبدأ ـ بحول الله تعالى ـ في تناول جملة من الواجبات على الزوج نحو زوجته، على أمل أن نتحدث عن واجبات الزوجة نحو زوجها في الخطبة المقبلة إن شاء الله تعالى.
وقبل ذلك، اسمحوا لي أن أبدِيَ أسفي واستغرابي بخصوص عدد كبير من أسر المسلمين في واقعنا، والتي لا تعرف عن هذه الواجبات سوى النزر القليل، وتغيب في حياتها التوجيهات الربانية الحاكمة للعلاقات داخل الأسر؛ مما يسبب القلق والاضطراب والانحرافات والكوارث. وما تعجّ به شوارعنا من الشباب التائه، وما تفيض به المحاكم من مشاكل بين الرجال والنساء، ما كل ذلك عنكم ببعيد. إن المسلم قبل أن يقدم على أيّ خطوة ملزَم أن يعرف حكم الله فيها، فكيف يقدم على الزواج وإنجاب الأبناء دون هداية من الله تعالى؟!
الواجب الأول: المعاشرة بالمعروف:
أعظم واجب من واجبات الزوج على زوجته ـ أيها الإخوة ـ هو المعاشرة بالمعروف، يقول الحق سبحانه: وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا [النساء:19]. يخاطب الله تعالى في هذه الآية الرجال، ويأمرهم أن يعاملوا زوجاتهم بالمعروف، أي: بما يحب سبحانه ويرضى، هذا معنى المعروف وليس ما تعارف عليه الناس بإطلاق، فالناس يمكن أن يتعارفوا على ما ينكره الله، أما ترون أن المعروف عند الناس في أحيان كثيرة من عادات وانحرافات ما أنزل الله به من سلطان؟! إن المنكر ولو عمله كل الناس وساد بينهم يبقى منكرًا لا يقبله مؤمن.
فمعاشرة النساء بالمعروف معناها معاشرتهن بما يحبّ الله من الأخلاق الطيبة والمعاملة الحسنة واللين وعدم الغلظة وكلِّ ما هو خير، ففي البخاري ومسلم والترمذي قوله : ((وَاسْتَوْصُوا بالنّسَاءِ خَيْرًا)).
ومن المعروف المعاملة باللطف واللين، فقد روى الترمذي أن الرسول قال: ((أكمَلُ المُؤْمِنِينَ إِيمانًَا أحْسَنُهُمْ خُلُقًا وألْطَفُهُمْ لأهْلِهِ)). وكان سيد الخلق ألطف الناس بأهله، دائم البشر معهم والمداعبة لهم، عن عَائِشَةَ قَالَتْ: قالَ رسُولُ اللّهِ : ((خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لأَهْلِهِ، وَأَنَا خَيْرُكُمْ لأهلِي)) رواه الترمذي وصححه.
إن اللطف بالنساء واللين معهن لا يعني الانسياق مع أهوائهن وملذاتهن وشهواتهن كما هو شأن الكثير من الرجال في زماننا هذا، فتجد الرجل مثلاً يُحضر في عرس ابنه أو ابنته المجرمين إلى بيته، فإذا عاتبته وقلت له: يا حاجّ، أما تعلم أن هذه الأجواق تغضِب الرب، وتجلب اللعنات إلى البيت؟! قال لك: وما نفعل للنساء؟ إنها رغبتهن. وإنما قلنا: اللطف بهن في المعروف، أما غير ذلك فهو الهلاك بعينه. فقد أخرج الحاكم عن أبي بكرة عن النبي : ((هَلَكَتِ الرِّجَالُ حِينَ أَطَاعَتِ النِّسَاء)). والمقصود طبعًا الطاعة فيما يغضب الله. وروي عن الحسن أنه قال: (والله، ما أصبح رجل يطيع امرأته فيما تهوى إلا كبه الله في النار). أما طاعتهن في الرشد فليس ذلك بعيب، وإنما هو من الرشد، فقد استشار النبي أمهات المؤمنين وعمل بمشورتهن لسدادها. أما الحديث الذي يروى: ((شَاوِرُوهُنَّ وَخَالِفُوهُنَّ)) فباطل لا أصل له، ولله الحمد.
الواجب الثاني: الصبر عليها والحرص على إرضائها:
يقول رب العزة: وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا [النساء:19]. ما أعظم هذه الآية! لم يقل سبحانه: فإن كرهتموهن فغيرهنّ كثير، أو فأعرضوا عنهن، أو فاعبسوا في وجوههن، فتجد الرجل مع أصدقائه مستبشرًا نشيطًا، فإذا دخل على زوجته رأيته عبوسًا غضوبًا، وإنما قال سبحانه: فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا. اصبر عليها، فإنك لا تدري ما أعده الله من الخير فيها.
إن العاقل ـ معشر الإخوة ـ لا يركّز نظره على مواطن النقص والضعف في زوجته فحسب، وإنما ينظر أكثر إلى مواطن الخير فيها، فكم من الناس ـ للأسف ـ لا يرون سوى النقائص، وتعمى أعينهم عن غيرها من الخير، ففي الصحيحين عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ : ((لاَ يَفْرَكْ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً، إِنْ كَرِهَ مِنْهَا خُلُقًا رَضِيَ مِنْهَا آخَرَ)). وصدق الشاعر القائل:
وإذا الحبيب أتى بذنب واحد جاءت محاسنه بألف شفيع
الواجب الثالث: الاعتدال في الغيرة:
إن الواجب على المؤمن أن يعمل جاهدًا لوقاية نفسه وأهله نار جهنم، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ أي: احفظوا أنفسكم, امنعوا أنفسكم, حُولوا بين أنفسكم وبين عذاب الله, احموا أنفسكم وأهليكم من غضب الله، قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ [التحريم:6]. لذلك كان من الواجب على المؤمن أن يغار على زوجته، وأن يرفض رفضًا قاطعًا خروجها متبرجة، وكشفها لشعرها أو لساقيها أو لساعديها أمام الرجال، واختلاطها بمن هبّ ودبّ، دون أدب ولا خلق. وإذا لم يفعل كان ديوثًا، وكان من الثلاثة الذين لا يدخلون الجنة، ففي الحديث الذي يرويه الإمام الحاكم ويصححه عن عمار بن ياسر أن رسول الله قال: ((ثلاثة لا يدخلون الجنة: الدَّيُوث، ورَجُلَة النساء، ومدمن الخمر))، وقد سئل عن الديوث فقال: ((الذي يرضى الخبث في أهله))، لكن ذلك لا يعني أن يتطرّف المؤمن في غيرته، بل يكفيه أن يتجنب ما يزخر به المجتمع من نوعي الغيرة المذمومة:
النوع الأول: ضعاف الغيرة أو منعدموها، يرون العري والمسخ والفساد في أهلهم وبناتهم وأخواتهم ولا يحركون ساكنًا، وقد سبق الحديث عنهم.
النوع الثاني: وهم أصحاب الغيرة الزائدة، الممزوجة بالشك والظن السيئ، مما يدفع بأصحابها إلى حرمان أهلهم من العلم ومن المسجد، وإلزامهن بما لم يلزمهن به الله من القيود، في حين يقول رب العزة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْم [الحجرات:12]، وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي اللّه عنه أن رسولَ اللّه قال: ((إيَّاكُمْ وَالظَّنَّ، فإنَّ الظَّنَّ أكْذَبُ الحديث)).
فغيرة هؤلاء مذمومة يبغضها الله ورسوله، روى أبو داود والنسائي وابن حبان عن جابر بن عتيك: ((إن من الغيرة غيرة يبغضها الله تعالى، وهي غيرة الرجل على أهله من غير ريبة)).
الواجب الرابع: الاعتدال في النفقة:
من المعروف الذي أمر الله به إنفاق الزوج على زوجته حسب وسعه، وأن لا يبخل عليها وعلى ولده، قال تعالى: لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاّ مَا آتَاهَا [الطلاق:7]، وقال عليه الصلاة والسلام في حجة الوداع فيما أخرجه الترمذي وصححه: ((أَلاَ إنّ لَكُمْ عَلَى نِسَائِكُم حَقًّا، ولِنسَائِكمْ عَلَيْكُمْ حَقًا، فَأَمّا حَقكمْ عَلَى نِسَائِكُمْ فَلاَ يُوطِئنَ فُرُشكُمْ مَنْ تَكْرَهُون، ولاَ يَأْذَنّ في بُيُوتِكُمْ لِمَنْ تَكْرَهُونَ. ألاَ وحَقهُنّ عَلَيْكُمْ أنْ تُحسِنُوا إِلَيْهِنّ فِي كِسْوَتِهِنّ وطَعَامِهِن)).
ويبين النبي أن الإنفاق على الزوجة وعلى الأبناء خير النفقة، ففي صحيح مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ : ((دِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ فِي سَبِيلِ اللّهِ، وَدِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ فِي رَقَبَةٍ، وَدِينارٌ تَصَدّقْتَ بِهِ عَلَىَ مِسْكِينٍ، وَدِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ عَلَىَ أَهْلِكَ، أَعْظَمُهَا أَجْرًا الّذِي أَنْفَقْتَهُ عَلَىَ أَهْلِكَ)).
فواجبُ الرّجولة والقوامة والزّوجية أن ينفقَ المسلم على زوجته بالشكل الذي يناسب مستواه الاجتماعي، ويناسب دخله الفردي، دون أن يُكلَّف ما لا يطيق، فكم من النساء ورّطن أزواجهن في مصائب لا تعدّ ولا تحصى، بسبب مطالبهن الجائرة.
الخطبة الثانية
الواجب الخامس: إعفافها:
إن العلاقة بين الرجل والمرأة ليست علاقة مادية، إنما هي علاقة عاطفية قبل ذلك ومعه وبعده، هي علاقة محبة وتقارب، فلذلك ليس كافيًا أن تنفق عليها، وأن توفر لها المطعم والملبس والمسكن فحسب، وإنما هناك واجب عظيم لها على زوجها، إنه واجب الإشباع الجنسي. حين يرتبك هذا الحق يظهر الفساد في المجتمع وترتبك الأحوال.
ومن ألطف ما روي بهذا الخصوص ما حصل لسلمان الفارسي رضي الله عنه مع أبي الدرداء رضي الله عنه: ففي الحديث الصحيح في البخاري والترمذي عن أَبي جُحَيْفَةَ قالَ: آخى رَسُولُ الله بَيْنَ سَلْمَانَ وَأبي الدّرْدَاءِ، فَزَارَ سَلْمَانُ أَبَا الدّرْدَاءِ، فَرَأَى أُمّ الدّرْدَاءِ مُتَبَذّلَةً، فقَالَ: مَا شَأْنُكِ مُتَبَذّلَةً؟ قَالَتْ: إِنّ أَخَاكَ أَبَا الدّرْدَاءِ لَيْسَ لَهُ حَاجَةٌ فِي الدّنْيَا. قالَ: فَلَمّا جَاءَ أَبُو الدّرْدَاءِ قَرّبَ إليه طَعَامًا فَقَالَ: كُلْ فَإِنّي صَائِمٌ، قالَ: مَا أَنَا بآكلٍ حَتّى تَأْكُلَ، قالَ: فَأَكَلَ. فَلَمّا كَانَ الّليْلُ ذَهَبَ أَبُو الدّرْدَاءِ لِيَقُومَ، فَقَالَ لَهُ سَلْمَانُ: نَمْ، فَنَامَ. ثُمّ ذَهَبَ لِيَقُومَ فقال لَهُ: نَمْ، فَنَامَ. فَلَمّا كَانَ عِنْدَ الصّبْحِ قَالَ لَهُ سَلْمَانُ: قُمْ الآن. فَقَامَا فَصَلّيَا، فقال له سلمان: إن لربك عليك حقًا، وإن لنفسك عليك حقًا، وإن لأهلك عليك حقًا، فأعط كل ذي حق حقه. فَأَتَيَا النبيّ فَذَكَرَا ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ: ((صَدَقَ سَلْمَانُ)).
والحمد لله رب العالمين.
ـــــــــــــــــــ(68/102)
واجب الزوجة نحو زوجها
...
...
4007
...
الأسرة والمجتمع, فقه
...
...
النكاح, قضايا الأسرة
...
عبد الرحمن بن محمد بوكيلي
...
...
مكناس
...
...
...
بدر
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- فضيلة رضا الزوج عن زوجته. 2- واجبات الزوجة نحو زوجها: طاعة زوجها في المعروف، حسن الخلق مع الزوج، حفظ الزوج في ماله، الخدمة في البيت.
الخطبة الأولى
بعد أن تحدثنا عن واجبات الزوج نحو زوجته، فحديثنا اليوم إن شاء الله تعالى عن واجبات الزوجة نحو زوجها.
فإذا كان هذا الدين العظيم يعتبِر أفضل الرجال وأحسنهم الذي يحسن إلى زوجته ويعاشرها بالمعروف، مصداقًا لقوله : ((خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لأَهْلِهِ، وَأَنَا خَيْرُكُمْ لأهلِ)) أخرجه الترمذي وصححه؛ فإنه يعتبر كذلك أفضل النساء وأعظمهن وأشرفهن وأعلاهن منزلة في الدنيا وأسماهن درجة في الجنة اللواتي يحسن إلى أزواجهن.
إن الفاضلات من النساء ـ أيها الإخوة ـ هن اللواتي يخرجن من هذه الدنيا بكنز ثمين وعمل عظيم. ما هو هذا العمل؟ إنه رضا أزواجهن.
أخرج ابن أبي شيبة والحاكم وصححه والبيهقي عن أم سلمة قالت: قال رسول الله : ((أَيّمَا امْرَأَةٍ ماتَتْ وَزَوْجُهَا عَنْهَا رَاضٍ دَخَلَتِ الْجَنّة)). تأمّلوا ـ إخواني ـ كيف يجعل هذا الحديث العظيم الجنة ـ وهي أسمى ما يتمنّاه الإنسان ـ ثمرة ونتيجة وجزاء لرضا الزوج على زوجته.
عَنِ الْحُصَيْنِ بْنِ مِحْصَنٍ أَنَّ عَمَّةً لَهُ أَتَتِ النَّبِيَّ فِي حَاجَةٍ فَفَرَغَتْ مِنْ حَاجَتِهَا، فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ : ((أَذَاتُ زَوْجٍ أَنْت؟ِ)) قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ: ((كَيْفَ أَنْتِ لَه؟)) لاحظوا معشر الإخوة، إن هذا الدين العظيم لم يترك مجالاً إلا وتكلم فيه، حتى هذه القضايا الشخصية، قَالَتْ: مَا آلُوهُ إِلا مَا عَجَزْتُ عَنْهُ، أي: أبذل جهدي في إرضائه وخدمته إلا ما لا أستطيعه، قَالَ: ((فَانْظُرِي أَيْنَ أَنْتِ مِنْهُ، فَإِنَّمَا هُوَ جَنَّتُكِ وَنَارُكِ)) رواه أحمد ورجاله ثقات. بمعنى: إن أنت أحسنت إليه وصدقت معه وأرضيتيه وأكرمتيه فجزاؤك الجنة. وإن أنت أسأت معاملته وأهنتيه وخنتيه وكذبت عليه وضيعت ماله فجزاؤك النار. نسأل الله السلامة والعافية.
بعد هذا التقديم المجمل تعالوا بنا ـ معشر الإخوة ـ إلى بيان بعض واجبات الزوجة نحو زوجها مما تدعو الحاجة إلى بيانه في حياتنا:
أولا: طاعة زوجها في المعروف:
فأول واجب عليها أن تطيع زوجها في المعروف، في حدود طاعة الله تعالى، فقد رغب ديننا العظيم في طاعة المرأة زوجها، ورتب على ذلك الأجر العظيم.
عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : ((إِذَا صَلَّتِ الْمَرْأَةُ خَمْسَهَا وَصَامَتْ شَهْرَهَا وَحَفِظَتْ فَرْجَهَا وَأَطَاعَتْ زَوْجَهَا قِيلَ لَهَا: ادْخُلِي الْجَنَّةَ مِنْ أَيِّ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ شِئْت)) رواه أحمد وابن حبان. الله أكبر، اسمعوا ـ أيها الإخوة ـ صفات المرأة الصالحة المستحِقَّة للجنة: إذا صلت صلواتها الخمس، وصامت شهر رمضان، وحفظت فرجها، حافظت على شرفها وعرضها، ليست بنت الشارع، وإنما هي عفيفة مُحتشِمة محترَمة، وأطاعت زوجها، فهي طيِّعة له في مدخلها ومخرجها وعلاقاتها، لا أن تقول له: لا دخل لك في أمري. إذا فعلت هذا كانت أبواب الجنة الثمانية مفتوحة في وجهها تدخل من أيها شاءت.
وعَنْ أَبِي أُمَامَةَ عَنِ النَّبِيِّ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: ((مَا اسْتَفَادَ الْمُؤْمِنُ بَعْدَ تَقْوَى اللَّهِ خَيْرًا لَهُ مِنْ زَوْجَةٍ صَالِحَةٍ، إِنْ أَمَرَهَا أَطَاعَتْهُ، وَإِنْ نَظَرَ إِلَيْهَا سَرَّتْهُ، وَإِنْ أَقْسَمَ عَلَيْهَا أَبَرَّتْهُ، وَإِنْ غَابَ عَنْهَا نَصَحَتْهُ فِي نَفْسِهَا وَمَالِهِ)) رواه ابن ماجه وحسّنه السيوطي، وقال العجلوني: "رواه ابن ماجه والطبراني عن أبي أمامة بسند ضعيف، لكن له شواهد تدل على أن له أصلاً".
فالزوجة الصالحة أعظم نعمة يُكرَم بها المؤمن بعد الإيمان والتقوى. زوجة إن أمرها أطاعته، ليست معْوجّة ولا ناشزة، وإن نظر إليها سُرَّ بمنظرها وصلاحها وعبادتها، وإن أقسم عليها أن تفعل شيئًا أو أن تترك شيئًا سعت في إبرار قسمه، وإن غاب عنها منشغلاً في عمله أو مسافرًا لطلب الرزق وفعل الخير لا يخرج من باب وتخرج هي من باب، وإنما تحفظه في نفسها، فلا تخونه في عرضه، وتحفظه في ماله فلا تعرضه للتلف.
ومن أهم المجالات التي تطيع فيها المرأة الصالحة زوجها طاعتها له في فراشها وعدم هجره، ففي صحيحي البخاري ومسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ : ((إِذَا بَاتَتِ الْمَرْأَةُ مُهَاجِرَةً فِرَاشَ زَوْجِهَا لَعَنَتْهَا الْمَلائِكَةُ حَتَّى تَرْجِعَ)).
مرارًا ترد عليَّ شكاوى إخوةٍ من هَجْرِ أزواجهم لهم، وإذا عاتب أحدهم زوجته قالت: الآن لم نعد صغارًا، لقد كبرنا وكبر أبناؤنا، وما عاد من الحياء أن ننام في فراش واحد كما كنا نفعل من قبل!
لا يخفى على الإخوة الأعزاء أن هذا السلوك من أهم ما يُنمّي المشاكل والصراعات والعداوة، وذلك لأن هجر الفراش من قبل الزوج أو الزوجة عمل خطير، يوسّع هُوّة الخلاف، ويزرع البغضاء في القلوب، ويُفسح المجال لخطوات الشيطان؛ لهذا وغيره نهى الله تعالى كُلاً من الزوجين عن هجر فراش الزوجية. ففي حالة تأديب الزوجة الناشز يخاطب الحق سبحانه زوجها قائلا: وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِع [النساء:34]، ولم يقل سبحانه وتعالى: واهجروا مضاجعهن. فحين تغضب عليها وتعمل على تأديبها لا تخرج من الفراش، وإنما ولِّها ظهرك في الفراش. هذا هو الهجر في المضجع، وليس ترك الفراش وهجر البيت. أما هي فمحرَّم عليها أن تبيت مهاجرة فراش زوجها، وإذا فعلت باتت اللعنات تحفّ بها حتى ترجع وتتوب.
معلوم ـ معشر المؤمنين ـ أن لا طاعة إلا فيما يحب الله تعالى، فالرجل إذا أمر زوجته أن تترك صلاتها لا تطيعه، ولو أدّى ذلك إلى ما لا تحمد عقباه. الرجل الديوث إذا طلب من زوجته أن لا تستتر وأن تنزع خمارها أمام الأجانب لا تطيعه ولو كانت العاقبة الطلاق والفراق، ففي صحيحي البخاري ومسلم عن عائشة أن امرأة من الأنصار زوجت ابنتها، فتَمَعَّط ـ أي: تساقط ـ شعر رأسها، فجاءت إلى النبي فذكرت ذلك له، فقالت: إن زوجها أمرني أن أصل في شعرها، فقال: ((لا، إنه قد لُعِن المُوصلات)). فرغم أن زوج البنت هو الذي أمر بوصل شعرها فالنبي لم يقل لها: أطيعي زوجك، وذلك لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق سبحانه.
ثانيا: حسن الخلق مع الزوج:
الواجب الثاني على الزوجة نحو زوجها أن تكون حسنة الخلق معه، وعلى رأس ذلك حسن المنطق، حسن الكلام معه. المؤمن ليس لعّانًا ولا طعّانًا ولا فاحشًا، إذا كان هذا حاله مع الخلق كلهم فإنه من المرأة نحو زوجها آكد. فما أحسن الكلام الطيب داخل الأسرة، الكلام الذي ينم عن احترام المرأة لزوجها والتقدير له، الكلام الذي يفيض بالحرص على مؤسسة الزواج. إنه الكلام الذي يُنتج الوئام والمحبة والتلاحم، ويسد الباب في وجه نزغات الشيطان، وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإنْسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا [الإسراء:53]. فالشيطان يستغل كل فرصة تسنح، كل كلمة عوجاء تصدر؛ ليوقع العداوة ويغرس الشقاق.
وقد مدح النبي المرأة الودود، وحث المؤمن على الاقتران بها، فقال : ((تَزَوّجُوا الودود الْوَلُودَ؛ فإِنّي مُكَاثِرٌ بِكُم الأمم)) رواه أبو داود والنسائي. فالودود التي تتحبب إلى زوجها وتسعى جاهدة لتنال رضاه ومودته.
كما حذر النبي النساء من الكلام البذيء واللعن والجحود، واعتبر ذلك من الأسباب الموجبة لعذاب الله، ففي البخاري ومسلم وغيرهما عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ رَسُولِ اللّهِ أَنّهُ قَالَ: ((يَا مَعْشَرَ النّسَاءِ، تَصَدّقْنَ وَأَكْثِرْنَ الاستغْفَارَ؛ فَإِنّي رَأَيْتُكُنّ أَكْثَرَ أَهْلِ النّارِ))، فَقَالَتِ امْرَأَةٌ مِنْهُنّ جَزْلَةٌ: وَمَا لَنَا ـ يَا رَسُولَ اللّهِ ـ أَكْثَرَ أَهْلِ النّارِ؟! قَالَ: ((تُكْثِرْنَ اللّعْنَ وَتَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ...)).
ومن حسن الخلق الصدق مع زوجها، فالأصل في الكذب أنه من أكبر المحرمات، فتكون صادقة معه في خروجها وصِلاَتِها ونفقتها وتربيتها لأبنائها، أما الكذب الذي رخص فيه النبي فهو في العلاقة العاطفية الخاصة، وليس على إطلاقه، كأن يصرح بعضهما لبعض بالمحبة وإن كان العكس هو الواقع، عَنْ أُمِّ كُلْثُومٍ بِنْتِ عُقْبَةَ قَالَتْ: مَا سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ يُرَخِّصُ فِي شَيْءٍ مِنَ الْكَذِبِ إِلاَّ فِي ثَلاثٍ، كَانَ رَسُولُ اللَّهِ يَقُولُ: ((لا أَعُدُّهُ كَاذِبًا: الرَّجُلُ يُصْلِحُ بَيْنَ النَّاسِ، يَقُولُ الْقَوْلَ وَلا يُرِيدُ بِهِ إِلاَّ الإِصْلاحَ، وَالرَّجُلُ يَقُولُ فِي الْحَرْبِ، وَالرَّجُلُ يُحَدِّثُ امْرَأَتَهُ، وَالْمَرْأَةُ تُحَدِّثُ زَوْجَهَا)) رواه أبو داود وأحمد بسند صحيح.
ثالثا: حفظ الزوج في ماله:
فهي لا تعرض ماله للتلف ولو في وجوه الخير إلا بإذنه، وإنما هي حريصة على حفظه. عن ابن عمر أن النبي قال: ((لا يحل لها أن تُطعِم من بيته إلا بإذنه إلا الرطب من الطعام الذي يُخاف فساده، فإن أطعمت عن رضاه كان لها مثل أجره، وإن أطعمت بغير إذنه كان له الأجر وعليها الوزر)) أخرجه أبو داود الطيالسي والبيهقي.
وحتى في حالة تفريط الزوج وتضييقه في النفقة، فلا يحل لها أخذ ماله إلا بقدر ما يكفيها وأبناءَها. ففي البخاري ومسلم عن عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: جَاءَتْ هِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّه،ِ إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ مِسِّيكٌ، فَهَلْ عَلَيَّ مِنْ حَرَجٍ أَنْ أُطْعِمَ مِن الَّذِي لَهُ عِيَالَنَا؟ قَال لَهَا: ((لا حَرَجَ عَلَيْكِ أَنْ تُطْعِمِيهِمْ مِنْ مَعْرُوف)).
فالمرأة المسلمة قنوعة حريصة على الحلال مهما كان قليلاً، لا تعرض زوجها للمهالك بمطالبته بما لا يطيق، وإنما لسان حالها ما كانت تردده المرأة المسلمة الصالحة الأولى على أسماع زوجها وهو خارج للعمل: "إياك والحرام، فإننا نصبر على الجوع، ولا صبر لنا على نار جهنم".
فكم من زوج كانت رغبات زوجته الطائشة سببًا في ارتكابه المحرمات والبحث عن المال من أي وجه كان، وكم من زوج كانت عاقبته السجن بسبب زوجته التي لا تكف عن المطالب.
الخطبة الثانية
رابعا: الخدمة في البيت:
لا يخفى أن العمل المنزلي من أهم الأعمال وأعظمها نفعًا للمجتمع ودعمًا لاستقرار الأسرة، ولا يمكن أن يقوم به على أحسن وجه وأكمله سوى الأم، فهي وحدها الكفيلة بتوفير الغذاء والنظافة والتنظيم والأمن والاستقرار والطمأنينة. نعم، قد توفر الخادمة الطعام، ولكنها لا تستطيع توفير الراحة والاستقرار، ولا أن تظلل البيت بظلال الحنان والطمأنينة.
إن من البلاهة أن نعتبر الأم في بيتها عاطلة عن العمل، في حين أن الكفرة يخصونها بمنح وعطايا، ويعتبرون عملها في بيتها وتربيتها لأبنائها من أعظم الأعمال التنموية.
وقد ثبت أن الصحابيات رضي الله عنهن على سمو قدرهن كن يقمن بالخدمة داخل البيت:
فأسماء بنت أبي بكر كانت خادمة لبيتها ومعتنية بفرس زوجها الزبير، ففي البخاري ومسلم عَنْ أَسمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ قَالَتْ: تَزَوّجَنِي الزّبَيْرُ وَمَا لَهُ فِي الأَرْضِ مِنْ مَالٍ وَلاَ مَمْلُوكٍ وَلاَ شَيْءٍ غَيْرَ فَرَسِهِ. قَالَتْ: فَكُنْتُ أَعْلِفُ فَرَسَهُ، وَأَكْفِيهِ مَؤُونَتَهُ، وَأَسُوسُهُ، وَأَدُقّ النّوَىَ لِنَاضِحِهِ، وَأَعْلِفُهُ، وَأَسْتَقِي الْمَاءَ، وَأَخْرِزُ غَرْبَهُ، وَأَعْجِنُ، وَلَمْ أَكُنْ أُحْسِنُ أَخْبِزُ، وَكَانَ يَخْبِزُ لِي جَارَاتٌ مِنَ الأَنْصَارِ، وَكُنّ نِسْوَةَ صِدْقٍ. قَالَتْ: وَكُنْتُ أَنْقُلُ النّوَىَ مِنْ أَرْضِ الزّبَيْرِ الّتِي أَقْطَعَهُ رَسُولُ اللّهِ عَلَىَ رَأْسِي، وَهِيَ عَلَىَ ثُلُثَيْ فَرْسَخٍ.
وكانت فاطمة رضي الله عنها تخدم بيتها حتى خشنت يداها وتأثرتا، فطلبت من النبي خادمًا يكفيها هذا، فما أجابها إلى ذلك، وإنما وجهها إلى الاستعانة بالله تعالى والاجتهاد في القيام بأعمالها. عن عَلِي أَنَّ فَاطِمَةَ رضي الله عنهما أَتَتِ النَّبِيَّ تَشْكُو إِلَيْهِ مَا تَلْقَى فِي يَدِهَا مِنَ الرَّحَى، وَبَلَغَهَا أَنَّهُ جَاءَهُ رَقِيقٌ، فَلَمْ تُصَادِفْهُ، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِعَائِشَةَ، فَلَمَّا جَاءَ أَخْبَرَتْهُ عَائِشَةُ. قَالَ: فَجَاءَنَا وَقَدْ أَخَذْنَا مَضَاجِعَنَا، فَذَهَبْنَا نَقُومُ فَقَالَ: ((عَلَى مَكَانِكُمَا))، فَجَاءَ فَقَعَدَ بَيْنِي وَبَيْنَهَا حَتَّى وَجَدْتُ بَرْدَ قَدَمَيْهِ عَلَى بَطْنِي، فَقَالَ: ((أَلا أَدُلُّكُمَا عَلَى خَيْرٍ مِمَّا سَأَلْتُمَا؟ إِذَا أَخَذْتُمَا مَضَاجِعَكُمَا أَوْ أَوَيْتُمَا إِلَى فِرَاشِكُمَا فَسَبِّحَا ثَلاثًا وَثَلاثِينَ وَاحْمَدَا ثَلاثًا وَثَلاثِينَ وَكَبِّرَا أَرْبَعًا وَثَلاثِينَ، فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمَا مِنْ خَادِمٍ)) رواه البخاري ومسلم.
فاللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه وأتباعه. والحمد لله رب العالمين.
ـــــــــــــــــــ(68/103)
عقوق الوالدين (1)
...
...
3094
...
الأسرة والمجتمع
...
...
الوالدان
...
عبد الحليم توميات
...
...
رايس حميدو
...
25/12/1425
...
...
عمر بن الخطاب
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- عقوق الوالدين أحد موبقات الذنوب. 2- الأحاديث المحذرة من العقوق. 3- تأكيد القرآن والسنة على فضل الوالدين. 4- فضل الوالد على ولده. 4- التأكيد على حق الوالدة وفضلها.
الخطبة الأولى
أما بعد: فلقد انتهينا من الحديث عن أكبر الكبائر على الإطلاق، وأعظم الذنوب في حق الله سبحانه، ألا وهو الشرك بالله، وسنرى معكم اليوم إن شاء الله الكبيرة الثانية التي لا يغفرها الله بمجرد الصلاة والصيام وغيرهما من الصالحات، وإنما يغفرها بالتوبة النصوح منها، والإقلاع عنها، والندم على اقترافها، هذه الكبيرة هي "عقوق الوالدين"، والأحاديث في بيان أنها كبيرة من الكبائر كثيرة وكثيرة جدًا، نذكر منها:
1- حديث المغيرة بن شعبة مرفوعًا: ((إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات)) رواه البخاري.
2- حديث أبي بكرة مرفوعًا: ((ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟)) قلنا: بلى يا رسول الله، قال: ((الإشراك بالله، وعقوق الوالدين))، وكان متكئًا فجلس فقال: ((ألا وقول الزور وشهادة الزور))، فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت. رواه الشيخان.
3- حديث عبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعًا: ((الكبائر: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين وقتل النفس، واليمين الغموس)) رواه البخاري.
4- حديث أنس قال: ذكر عند رسول الله الكبائر فقال: ((الشرك بالله وعقوق الوالدين)) رواه الشيخان.
5- حديث ابن عمر مرفوعًا: ((ثلاثة لا ينظر الله عز وجل إليهم يوم القيامة: العاق لوالديه والمرأة المترجلة والديوث، وثلاثة لا يدخلون الجنة: العاق لوالديه والمدمن على الخمر والمنان بما أعطى)) رواه النسائي.
6- حديث عبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعًا: ((من الكبائر شتم الرجل والديه)) قالوا: يا رسول الله، وهل يشتم الرجل والديه؟ قال: ((نعم يسب أبا الرجل فيسب أباه، ويسبّ أمه فيسبّ أمّه)) رواه مسلم.
والذي يتدبر القرآن حق التدبّر ويتأمل الأحاديث الصحيحة حق التأمل يعجب أشد العجب من تعظيم الله تعالى للوالدين ومن شدة تأكيده لبرهما والترهيب من عصيانهما.
قال تعالى: وَاعْبُدُواْ اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَانًا [النساء:36]، وقال: وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا [العنكبوت:8]، وقال: وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِى صَغِيرًا [الإسراء:23- 24].
فبر الوالدين من أعظم الأعمال، وعقوقهما من أبشع الذنوب والآثام، وتأكيدا لبيان منزلتهما نسوق إليكم هذه النقاط، علها تكون ذكرى للطائعين وتنبيهًا وموعظةً للغافلين.
أولاً: تأملوا جيدًا كيف قرن الله تعالى الأمر ببر الوالدين بالأمر بتوحيده وعبادته، فكأنه يعلمنا أن من تمام التوحيد طاعته فيما أمر، وأعظم أوامره بر الوالدين.
ثانيًا: قال تعالى: وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِى عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِى وَلِوالِدَيْكَ إِلَىَّ الْمَصِيرُ [لقمان:14]، ولنا في هذه الآية وقفات:
الوقفة الأولى: أن بر الوالدين وصية الله على مر الدهور، وحق على المسلم أن يقوم بتنفيذ الوصية، فإذا كان واجبًا على المسلم تنفيذ وصية القريب الذي يموت، فكيف بوصية الله الحي الذي لا يموت؟!
الوقفة الثانية: أَنِ اشْكُرْ لِى وَلِوالِدَيْكَ انظروا كيف قرن شكره سبحانه بشكره، قال ابن عيينة رحمه الله: "من صلى الصلوات الخمس فقد شكر الله، ومن دعا للوالدين فقد شكر لهما"، وتصديق كلامه رحمه الله ما رواه البخاري ومسلم عن ابن مسعود قال سألت النبي : أي العمل أحب إلى الله؟ قال: ((الصلاة على وقتها))، قال: ثم أي؟ قال: ((ثم بر الوالدين))، قال: ثم أي؟ قال: ((الجهاد في سبيل الله))، فأخبر رسول الله أن بر الوالدين أفضل الأعمال بعد الصلاة التي هي عمود الإسلام، وقبل الجهاد الذي هو ذروة سنامه.
الوقفة الثالثة: قوله تعالى: إِلَىَّ الْمَصِيرُ ستصير إليه ـ أيها العبد ـ وتحاسب عن معاملتك لهما، فإن كانت خيرا كنت من الفائزين، وإلا كنت من الهالكين الخاسرين، وكأنه تعالى يذكّرك بأن ما علي إلا أن تتذكر أنك سوف تحاسب عن معاملتك لأشرف مخلوقين تعيش معهما.
ثالثًا: ومن النقاط التي نذكر أنفسنا بها أنّ الله قد جعل رضاه ومحبّته موقوفين على رضا الوالدين، ولا يرضى الله عن عبدٍ لم يرض عنه والداه، فنستطيع أن نقول إن الذي يريد أن يدرك منزلته عند الله فلينظر إلى منزلته عند والديه، فقد روى البخاري في الأدب المفرد والترمذي عن عبد الله بن عمرو مرفوعًا: ((رضا الرب في رضا الوالد، وسخط الرب في سخط الوالد)).
رابعًا: مما يدل على شرفهما وعِظم قدرهما أن الله تعالى قد حكم في كتابه العزيز أن النفس بالنفس وأنه لا بد من القصاص، لكنه استثُني الوالد فقال رسول الله : ((لا يقاد الوالد بولده)) أي: لا يقتل الوالد إذا قتل ولده، وهذا لا يدّل إلا على مكانة الوالدين.
خامسًا: كل مخلوق يسدي إليك معروفًا ويتفضل عليك بجميل يمكنك أن تردّ له جميله وتقابل معروفه بمعروف آخر إلا الوالدين، فمهما عملت من عمل لتكافئ والديك به فإنك لن تستطيع إلى ذلك سبيلا، ولن تتوصل له إلى حيلة، اللهم إلا أن يكون عبدًا من العبيد فتعتقه، فقد روى مسلم عن أبي هريرة مرفوعًا: ((لا يجزي ولد والدًا إلا أن يجده مملوكًا فيشتريه فيعتقه)).
ويؤكد ذلك ما رواه البخاري في الأدب المفرد بسند صحيح عن سعيد بن أبى بردة قال: حدثني أبي أنه شهد ابنَ عمر ورجل يماني يطوف بالبيت حَمَل أمَّه وراء ظهره يقول:
إني لها بعيرُها المذلَّل إن أذعرت ركابها لم أذعر
ثم قال: يا ابن عمر، أترانى جزيتُها؟! قال: (لا ولا بزفرة واحدة).
فالله الله في الوالدين، فإنهما وصية الله لكم، وفي طاعتهما طاعة ربكم ومولاكم.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وليّ الصالحين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله خاتم الأنبياء والمرسلين، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: عباد الله، فإن بر الوالدين والإحسان إليهما أمر معلوم من الدين بالاضطرار، لا يحتاج إلى تدريس المدرسين أو تعليم المعلمين، ولكن الإنسان من طبيعته الغفلة والنسيان، والقلب تمرّ عليه سحب الذهول، فتحجب عنه أنوار الطاعة والإيمان، وما علينا إلا أن نذكركم بأحق الناس بالإحسان ألا وهما الوالدان.
الأم، تلكم المرأة الضعيفة التي لا تقوى على حماية نفسها من المكاره، تجدها أقوى الناس في مدة حملك، فهل تراها تلتذّ بذلك؟! لا والله، بل حملتك كرهًا ووضعتك كرهًا، حملتك وهنًا على وهن، ضعفًا على ضعف، ضعف الحمل وضعف الطلق وضعف الوضع، وبعد ذلك تحمل أعباء تنوء بحملها الجبال، ولا يصبر عليها أقوى الرجال، تود لو تفديك بنفسها عوضًا من أن تسمعك تتأوّه، وتبقى كذلك لا تبالي إلا بحالك، حتى تراك رجلاً وتراكِ امرأةً أمامها، فهل جزاء الإحسان إلا الإحسان.
لأمّك حق لو علمت كثير كثيرك يا هذا لديه يسير
فكم ليلةٍ باتت بثقلك تشتكي لها من آلامها أنة وزفير
وفي الوضع لو تدري عليها مشقة فمن غُصص منها الفؤاد يطير
وكم غسلت عنك الأذى بيمينها وما حجرها إلا لديك سرير
وتفديك ممّا تشتكيه بنفسها ومن ثديها شربٌ لديك نمير
وكم مرةٍ جاعت وأعطتك قوتها حنانا وإشفاقا وأنت صغير
فآها لذي عقل ويتبع الهوى وآها لأعمى القلب وهو بصير
فدونك فارغب في عميم دعائها فأنت لما تدعو إليه فقير
نعم يا أخي الكريم، ويا أختي الكريمة، عليكم بالتماس دعائها، فإن دعوتها ليس بينها وبين الله حجاب.
أما الأب، فذلكم الرجل الذي لو وضع السيف بعنقه على أن تصاب بأذى لما تردد في أن يفديك بنفسه، ذلكم الرجل الذي لا يفرّط في رجولته، تراه يقبل الذل أحيانًا وأحيانًا في عمله، ليجلب لك قوت يومك، ويدخل عليك وأنت صغير فيسر عند رؤيتك وكأنه ما ذاق تعبًا وما لاقى ألمًا، ولا يزال يسعى ويكدّ ويلقى كل متاعب الدنيا لأجلك، حتى تصير رجلاً مستويًا على سوقه. فهل جزاء الإحسان إلا الإحسان.
فلا تضجر إن نصحك، فهو لا يريد لك إلا الكمال، ولا تتهمه بالغباء والجهل وقصور النظر فهو أدرى بمصلحتك منك مهما أوتيت علمًا وخبرة، وإياك إياك من أن ترفع صوتك بحضرته أو تتردد في طاعته، وللأسف كل هذا الإحسان ينساه الأولاد في لحظة، وصدق من قال:
غذوتُك مولودًا ومنتُك يافعا تعَلّ بما أجني عليك وتنهل
إذا ليلة ضافتك بالسقم لم أبِت لسقمك إلا ساهرًا أتململ
كأني أنا المطروق دونك بالذي طرِقت به دوني فعيناي تهمل
تخاف الردى نفسي عليك وإنها لتعلم أن الوقت وقت مؤجّل
فلما بلغت السن والغاية التي إليها مدى ما فيك كنت أؤمّل
جعلت جزائي غلظة وفظاظة كأنك أنت المنعم المتفضل
فليتك إذ لم ترعَ حق أبوتي فعلت كما الجارُ المجاور يفعل
هذا هو حال الوالدين، كانا يحملانك وأنت صغير، ويعلّقان عليك الآمال والأحلام، لعلّه يكبر ويكشف به الله الغمة، فلا تنس ذلك أخي الكريم، وكن لهما عبدًا خادمًا، فإن لم تقدر على ذلك فأمسك عن أذيتهما، واعلم أن الجنة تحت أقدامهما، فقد أوصى النبي أحد الصحابة فقال: ((الزم رجلها فثَمّ الجنة)) رواه ابن ماجه.
هذا وللحديث بقية نرجئها إلى خطبة لاحقة، وبارك الله فيكم
ـــــــــــــــــــ(68/104)
عقوق الوالدين (2)
...
...
3095
...
الأسرة والمجتمع
...
...
الوالدان
...
عبد الحليم توميات
...
...
رايس حميدو
...
2/1/1421
...
...
عمر بن الخطاب
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- حقيقة العقوق. 2- صور من العقوق. 3- مفاهيم خاطئة يجب أن تصحح، ومفاهيم ضائعة يجب أن تسترجع.
الخطبة الأولى
أما بعد: فإننا تحدثنا معكم في الخطبة الأخيرة عن حق الوالدين الذي هو من أعظم الحقوق، وذكرنا أن عقوقهما من أبشع أنواع العقوق، ولقد سمعتم آيات الله تتلى عليكم وأحاديث رسول الله تسرد على مسامعكم، كلها تدل على أن عقوق الوالدين كبيرة من الكبائر.
بقي علينا إذن أن نعرف معنى عقوق الوالدين.
قال العلماء: عقوق الوالدين مخالفتهما في أغراضهما الجائزة، كما أن برهما هو موافقتهما على أغراضهما.
أي: إذا أمر الوالدان ابنهما أو بنتهما بشيء مباح حلال صار في حقه واجبًا، فالحلال والمستحب يصير بأمر الوالدين واجبًا فرضًا، إلا إذا أمرا بمحرم فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، قال تعالى: وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَى أَن تُشْرِكَ بِى مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِى الدُّنْيَا مَعْرُوفًا [لقمان:15].
لا تطعهما في معصية الله لأن الله أولى بالطاعة، ولكن صَاحِبْهُمَا فِى الدُّنْيَا مَعْرُوفًا فلا قطيعة ولا نهر ولا هجر، جاء في صحيح البخاري ومسلم عن أسماء بنت أبي بكر قالت: قدمت عليَّ أمي وهي مشركة في عهد قريش إذ عاهدهم، فاستفتيتُ رسول الله فقلت: يا رسول الله، قدمت عليَّ أمي وهي راغبة أفأصِل أمي؟ قال: ((نعم صلي أمك)).
هذا في حق الوالدين المشركين، فكيف تتثاقل ـ أيها المسلم ـ في طاعتهما وهما على الإسلام وطاعة رب الأنام، فقد بلغنا أن رجالاً يمنعون نساءهم من صلة والديهن، وبعض النساء يأمرن أزواجهن أن يقطعن الصلة بوالديهم. ألا فلتتق الله أيها الرجل واتقي الله أيتها المرأة، وتذكرا جيدًا أنكما تأمران بعضكما بعضًا بالمنكر، وتقطعان ما أمر الله به أن يوصل فمهما عمل الوالدان ـ ولو كان مشركين ـ فإنه يحرم على المسلم قطيعتهما في كل حال.
إن كان الذي يأمر بالمعروف ولا يأتيه أوعده الله الوعيد الشديد والعذاب الغليظ فكيف بمن أضحى يأمر بالمنكر، وأيّ منكر؟! يأمر بعقوق الوالدين والعياذ بالله.
فيا عبد الله، دع واطرح الخلافات التي بينك وبين أصهارك، ولا تحمّل زوجتك همّك.
كذلك أنت يا أمة الله، إن كنت تأذيت من أصهارك فتحلّي بالصبر والعفو والصفح الجميل، وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَانُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى [المائدة:8].
ونود في هذه العجالة أن نتكلم عن بعض المفاهيم التي غابت عن أذهان مجتمعاتنا في أيامنا هذه. من تلكم المفاهيم أن كثيرًا من الأبناء لا يبالون بأوامر الوالدين ونواهيهما، فيحملون الأوامر على أنها مجرد عروض وطلبات، له أن يمتثل وله ألا يمتثل.
كلا أخي الكريم أيّ أمر صادر من الأبوين وجب عليك القيام به، فإذا نهاك الوالدان عن السهر فامتثل، وإن نهاك الوالدان عن مخالطة أصحاب السوء فاجتنب، وإذا أمراك بالعمل وكان بقدرتك ذلك فأطع، وإن أمراك ـ أيها الطالب ـ بالاجتهاد في دراستك فيجب عليك الاجتهاد، إلى غير ذلك ممّا يتهاون النّاس فيه، وإلا كنت عاصيًا لربك، عاقًا لوالديك بذنبك.
واسمع إلى ما رواه مسلم عن عبد الله بن عمرو قال: جاء رجل إلى النبي يستأذنه في الجهاد فقال له النبي: ((أحيٌّ والداك؟)) قال: نعم، فقال: ((ففيهما فجاهد)). وفي رواية أخرى قال: تركتهما يبكيان، فقال: ((اذهب فأضحكهما كما أبكيتهما)).
هذا في حقّ الجهاد إذا كان فرض كفاية، الجهاد الذي هو ذروة سنام الإسلام، يسقط وجوبه إذا لم يأذن الوالدان، فكيف بالأعمال الأخرى؟! حتى قال سفيان الثوري: "لا يغزو إلا بإذنهما وإن كانا مشركين".
كل هذا الكلام في بيان أن المباح أو المندوب قد يصير واجبًا بأمر الوالدين، وأن فرض الكفاية قد يسقط بنهيهما عنه.
أما المعاشرة السيئة لهما فذلكم ـ والله ـ هو الخسران المبين، فالله تعالى قد حرّم على المسلم مجرد التأفف وهو قولك: "أف" بحضرة الوالدين، ولو كانت هنالك كلمة هي أدنى من ذلك لذكرها المولى سبحانه، فكيف بمن ينظر إليهما نظرة الغاضب؟! كيف بمن يحرك يديه؟! كيف بمن يصرخ عليهما؟! كيف بمن يقول لهما: "لا" بملء فيه؟! كيف بمن يتهمهما بالقصور وضعف التدبير؟! كيف بمن يغلق الباب في وجوههما؟! كيف بمن سمعنا أنه يبصق عليهما؟! كيف بمن حلف ألا يزورهما؟! كيف بمن هانا عليه فألقى بهما في دار العجزة؟! كيف بمن تعس وانتكس وطبع الله على قلبه فسبّهما وضربهما؟!
إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفّ [الإسراء:23].
ذكر الله حالة الكبر لينبهك إلى أنه يحرم عليك التأفف بحضرتهما ونهرهما حالة يكونان فيها كبيرين، يحتاجان إلى برّك ومودّتك وإلى عطفك وكلامك؛ لأنهما في هذه الحالة ربما أتعباك بالسعي عليهما، فتغسل عنهما الأذى كما غسلاه عنك في صغرك، وتحملهما كما حملاك في صغرك، وقال تعالى: عِندَكَ لينبهك إلى أن طول المكث يشعرك بثقلهما عليك، فيحصل لك الملل والكلل فلا تقل: أُفّ، هذا أقل شيء يحرم عليك فعله، وهو أن تظهر بتنفسك المتردد ضجرا، فحذار حذار.
وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا [الإسراء:23] كقولك: "لا بأس عليكما"، "خدمتكما واجبة عليّ"، "حفظكما الله".. وهكذا.
وهذا هو الجهاد فيهما كما أمر ، وإلا فاستمع إلى المصطفى وهو يقول: ((رغم أنفه، ثم رغم أنفه، ثم رغم أنفه)) أي: ذلّ وصغر، فقيل: من يا رسول الله؟ قال: ((من أدرك والديه عند الكبر أحدهما أو كليهما ثم لم يدخل الجنة)) فكأنه يدعوك إلى أكبر ربح يناله العبد ألا وهو القيام ببر والديه، فبّرهما مفتاح الجنة.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله خاتم الأنبياء والمرسلين، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه أجميعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فاعلموا أن من المفاهيم الضائعة مفهوم النفقة على الوالدين إذا كانا محتاجين، فقد أجمع العلماء واتفقوا على أن الوالدين إذا كانا في حاجة حقّ لهما أن يأخذا من مال الابن أو البنت بقدر الحاجة لقوله : ((أنت ومالك لأبيك)) رواه ابن ماجه. فكيف بنا نسمع من كثير من الآباء يستدينون من أولادهم وبناتهم؟! وهل استدنت منهما في الصغر ليستدينا منك في الكبر؟! ألا فاعلموا أن أعظم النفقات أجرًا هي النفقة على الوالدين المحتاجين.
ومن المفاهيم الضائعة أن كثيرًا من الناس لا تجدهم يلتمسون الدعاء من الوالدين، وتجدهم يلتمسونه من غيرهما، وتراهم اتخذوا عادة سيئة يقولون: ادعُ لنا، يقولونها لكل أحد ولا يقولونها للوالدين اللذين كتب الله إجابة دعوتهما، قال : ((ثلاث دعوات مستجابات لا شك فيهن: دعوة الوالد ودعوة المسافر ودعوة المظلوم)) رواه أبو داود، فاغتنم دعواتهما المباركة، فإنه ليس بينهما وبين الله حجاب، واحذروا من دعواتهما عليكم، وانظروا إلى ذلكم العابد الراهب جريج الذي كان يعبد الله ويصلي، فنادته أمه فقال: يا رب صلاتي أو أمي؟ فنادته ثلاثًا وهو لا يجيب، فدعت عليه قائلة: اللهم لا تمته حتى تبتليه بالمومسات. وكانت هنالك امرأة بغيّ، حملت من راعي غنم، فعندما سئلت عن أبي الغلام قالت: جريج، فهدم الناس صومعة جريج وأنكروا عليه، وهمّوا بعقوبته لولا أن أرجأهم فصلى ركعتين، ثم أقبل على الوليد قائلاً: من أبوك؟ فقال: الراعي.
الشاهد من هذه القصة ـ عباد الله ـ هو استجابة الله دعاء الوالدة على ولدها، فإنها ليس بينها وبين الله حجاب.
ومن المفاهيم الضائعة أنّك تجد الناس يحسنون صحبة الناس وعشرتهم ولا يحسنونها مع أشرف الناس وهم الوالدان، فتراه يضحك حتى يسقط أرضًا مع أناس لم يحسنوا إليه لا من قريب ولا من بعيد، حتى إذا دخل على والديه سكت، وربما أظهر الضجر أمامها.
ألا فاعلم أن الله سوف يحاسبك على تلكم اللحظة، ويسألك عن علمك فيم عملت به، علمك بحديث البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: جاء رجل إلى رسول الله فقال: يا رسول الله، من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: ((أمك)). قال: ثم من؟ قال: ((أمك)). قال: ثم من؟ قال: ((أمك)). قال ثم من؟ قال: ((أبوك)).
ومن المفاهيم الضائعة بعد وفاة الوالدين الكريمين ـ أطال الله عمر والدينا ورحم الله موتاهم ـ حق الوالدين بعد رحيلهما من عالمنا، بعد معاناة شديدة في هذه الدنيا، وبعد سكرات شديدة على فراش الموت، تذكر ذلك المشهد كل يوم، تذكرهما وهما يعانيان الألم الرهيب والوجع العصيب، تذكرهما وهما على غفلتهما واقفين بين يدي الملك، ألا ترضى أن يكونا من أهل الجنة والرضوان، فمن أكرمه الله بوالديه فليقترب منهما كما يقترب من زوجته، من ولده، من صديقه، فهما في أمس الحاجة إليك.
ومن حُرِمَهُما وحرم فرصة برّهما لوفاتهما فليعلم أن هناك وجوهًا في برّهما وهما ميتان، فقد روى أبو داود عن أبي أسيد قال: بينما نحن جلوس عند رسول الله إذ جاءه رجل من بني سلمة فقال: يا رسول الله، هل بقي من برّ أبويّ شيء أبرّهما به بعد موتهما؟ فقال: ((نعم، الصلاة عليهما والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما من بعدهما، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما، وإكرام صديقهما)).
((الصلاة عليهما والاستغفار لهما)) مثل أن تدعو لهما في صلواتك وخلواتك ومناجاتك، ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة مرفوعا: ((إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة، إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له))، وفي سنن ابن ماجه: ((إن الرجل لترفع درجته في الجنة فيقول: أنى هذا؟! فيقال: باستغفار ولدك لك)).
((وإنفاذ عهدهما من بعدهما)) هو أن تنفذ وصاياهما وصدقاتهما وما عليهما من حقوق.
((وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما)) هو صلة إخوانهما وأعمامهما وكل قريب لهما.
((وإكرام صديقهما)) حتى أصدقاء الوالدين إذا وصلهما المسلم لحق الأجر والديه، فها هو ابن عمر لقي رجلاً من الأعراب بطريق مكة، فسلّم عليه وحمله على حمارٍ كان يركبه وأعطاه عمامة كانت على رأسه، قال رجل لابن عمر: أصلحك الله، إنهم أعراب وهم يرضون باليسير! فقال: إن أبا هذا كان ودًّا لعمر بن الخطاب، وقد سمعت رسول الله يقول: ((إن أبرّ البرّ صلة الولد أهل ودِّ أبيه)) رواه مسلم.
ـــــــــــــــــــ(68/105)
الإيدز
...
...
4064
...
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
...
...
آثار الذنوب والمعاصي, الكبائر والمعاصي, قضايا المجتمع
...
عبد العزيز بن محمد القنام
...
...
وادي الدواسر
...
21/10/1425
...
...
جامع النويعمة القديم
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- شؤم الذنوب والمعاصي. 2- أسبابه الإيدز. 3- طرق الوقاية من الإيدز.
الخطبة الأولى
عباد الله، اتقوا في السر والعلن، واحذروا المعاصي فإنها سبب العقوبات العاجلة والآجلة، فما حل في العالم بلاء إلا وهي سببها.
أيها الإخوة المؤمنون، منذ حوالي ربع قرن تقريبًا ظهر عدو رهيب للبشرية، وانتشر بخفية وغموض في بعض مجتمعاتها، وما هي إلا مدة يسيرة حتى استيقظت تلك المجتمعات على صرخات الذُعر وصيحات الهلع، وعويل الخوف والجنون؛ بسبب عدو صغير في حجمه، ومع ذلك لم تستطع أكبر دول العالم قوة وأعلاها تقدما، لم تستطع مواجهته، رغم ما أوتيته من وسائل الهجوم والدفاع، وما أنتجت من أدق وأكبر أنواع الأسلحة الفتاكة المختلفة، وبلغت من المستوى الرفيع في شتى علوم الدنيا، رغم ذلك لم تستطع صد هذا العدو، وبقيت أمامه عاجزة حائرة، لا تملك أمامه دفعا أو تأخيرا.
تدرون من هو هذا العدو يا عباد الله؟ إنه طاعون القرن الخامس عشر وسرطان القرن العشرين، إنه عقوبة الله لأمة كفرت بشريعته وكذبت رسله واستباحت محارمه، وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا [طه:124].
تدرون ما هذا العدو؟ إنه مرض الإيدز، وما أدراك ما الإيدز، إنه فيروس لا يرى بالعين المجردة، ولا تراه واضحا إلا بتكبيره تحت المجهر آلاف المرات.
وحول انتشار هذا المرض قيل: إن هذا الفيروس المتناهي في الصغر قد أصاب أكثر من سبعة وثلاثين مليون شخص فيما يقرب من اثنتين وخمسين ومائة دولة، حاملون لهذا الفيروس، ولا يظهر عليهم، وهم الأشد خطورة على المجتمعات التي يعيشون فيها، والمفزِع لهذا العالم الموبوء أن أرقام منظمة الصحة العالمية تشير إلى أن المجموع التراكمي لحالات الإيدز قد يتضاعف أكثر من عشرين مرة منذ بدأ التبليغ عن حالات الإيدز عام ألف وأربعمائة واثنين من الهجرة، يعني قبل ثلاثة وعشرين عاما.
وهذا الفيروس الذي يقوم العالم أجمع بمكافحته، وقد خصص العالم يوم في كل عام تحت مسمى: "اليوم العالمي لمواجهة مرض الإيدز" والمصادف للعشرين من هذا الشهر، والعالم يقوم في هذا اليوم بحملات إعلامية مكثفة تكلف الملايين من الدولارات للتحذير منه، فينبغي لكل إنسان أن يعرف عن هذا المرض الخطير، وعن أسبابه ومسبباته، كفانا الله وإياكم شره.
ففي خطبتنا اليوم نتحدث عن هذا الوباء الخطير لنتذكر ولنحمد الله على ما من به علينا من نعمة الصحة والعافية، وكما يجب علينا تعاطي أسباب النجاة وتجنب أسباب الهلاك والعقوبات.
نقول: يا عباد الله، إنه عقوبة إلهية لأمم تعدت ما أحل الله لها إلى ما حرم عليها، فهو من عقوبات فاحشة الزنا والشذوذ الجنسي كاللواط ونحوه، تلكم الفواحش التي حرم الله ما ظهر منها وما بطن، قال جل شأنه: وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً [الإسراء:32]، ويقول سبحانه: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا [الفرقان:68]، وفي الحديث عن ابن عباس رضي الله عنهما عن رسول الله قال: ((إذا ظهر الزنا والربا في قوم فقد أحلوا بأنفسهم عذابا)) رواه الحاكم وقال: "صحيح الإسناد".
أما اللواط فهو الذي قال فيه : ((من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به)) رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة والبيهقي، وعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إن أخوف ما أخاف على أمتي من عمل قوم لوط)) رواه الترمذي وقال: "حسن غريب"، ورواه الحاكم وصححه، وقال : ((لعن الله من عمل عمل قوم لوط، لعن الله من عمل عمل قوم لوط، لعن الله من عمل عمل قوم لوط)) ثلاث مرات، رواه النسائي.
نعم يا عباد الله، لقد حرم الله تلك الفواحش ما ظهر منها وما بطن، رحمة بالعباد وهو أعلم بما ينفعهم وما يضرهم، وحسبك عِلمًا أن تؤمن أن الله ما حرم شيئًا إلا لفساده أو ضرره، وما أحل شيئا إلا لنفعه وصلاحه للعباد أجمعين.
ولكن مجتمعات عديدة في هذه البشرية أعرضت عن ذلك كله، وخالفت شرع الله، لا تبالي بخطورة ما حرمه، بل وأغرقت بالأمور المحرمة على ألسنة الرسل جميعا، وبارزت الله جل شأنه بالمعاصي، وجعلتها تجارة تتاجر وترابح بها، فأشاعتها وأعلنتها، فوقع وعيد الله جل وعلا على لسان رسوله : ((لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا)) أخرجه البيهقي في سننه عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما. الإيدز من الأمراض الفتاكة التي لم تعرف إلا في وقت متأخر ولم تعرف في سالف الزمان والأمة.
عباد الله، لقد تحدثت كثير من الصحف الغربية والأجنبية الكافرة عن هذا الفيروس وأقرت أنه عقوبة، ووصفته بقولها: إن ذلك عقوبة إلهية للمجتمعات التي لم تحترم شرائع السماء، ويقول أحد كبار علماء الميكروبولجين: بأن هذا المرض سوف يقضي على مجتمعات ودول كاملة. نسأل الله السلامة والعافية.
وما زلنا نطالع يوما بعد آخر إحصائيات متعددة عن مدى انتشار هذا الفيروس الخطير، وعدد ضحاياه ومن يحملونه، كان آخر إحصائية من منظمة الصحة العالمية بعدد المصابين بهذا الوباء في العالم الآن أنه قد بلغ سبعة وثلاثين مليون نسمة، وأن نصفهم من النساء، وأوضحت المنظمة بأن هناك حوالي 4.9 مليون إصابة جديدة بمرض الإيدز حدثت في العام الحالي.
في إحدى الصحف صرح مسؤول بوزارة الصحة بأن عدد المصابين بالإيدز بالمملكة حتى هذا العام 1425هـ بلغ سبعة آلاف وثمانمائة وثمانية مصاب، منهم ستة آلاف وستون غير سعودي تم ترحيلهم بعد إجراء فحوصات طبية إجبارية، ومنهم ألف وسبعمائة وثلاثة وأربعون شخصا سعوديا، وعدد الوفيات في المملكة من هذا الوباء الخطير خمسمائة وثمانية وثمانون حالة وفاة بسبب الإيدز.
أما تكاليف العلاج فخمسة عشر مليون ريال لعلاج المصابين في العام الماضي، إن مريض الإيدز يكلف الدولة ما بين ألف واثني عشر ألف ريال شهريا، رغم حقارة وصغر هذا الفيروس، إلا أن المبالغ الطائلة رصدت لتنفق لصد زحف هذا المرض الخطير، والتي عجزت وفشلت حتى الآن عن إيجاد علاج مضاد له.
عباد الله، تشير الإحصاءات من بلاء هذا الداء أن نسبة ثلاث وسبعين بالمائة من جميع حالات الإيدز المعروفة هي من الشاذين جنسيا، وأن خمسة عشر إلى سبعة عشر بالمائة من الحالات هي لمدمني المخدرات، وعشرة بالمائة ناتجة عن عمليات نقل الدم الملوث وأسباب أخرى لا زالت مجهولة، وخلاصة القول والمرعب في هذا المرض أنه مهلك لمن هم في زهرة الشباب واكتمال القوة.
وهذا الوباء الخطر ـ يا عباد الله ـ له حالتان:
الحالة الأولى: أن يكون الإنسان ـ ولا حول ولا قوة إلا بالله ـ مصابا به ولا يدري أنه مصاب، ولا تظهر أعراض المرض عليه، وهذا النوع من أشد الناس خطرا على من حولهم، منهم الذين ينقلون العدوى ولا يدرون ولا يدري بهم من يخالطهم.
الحالة الثانية: أن يكون المصاب عالما به لوضوح المرض عليه، وهذا لا أمل له في الحياة إلا أن يشاء الله؛ إذ يبدأ جسمه بفقدان المناعة، وانهيار جهاز المناعة في بدنه ـ يعني أن يكون متقبلا لكل ما يهاجم هذا البدن ـ فتموت الخلايا، ويتهرأ أجزاء بدنه قطعة قطعة حتى يموت، إلا أن يشاء الله غير ذلك، فأمره سبحانه بين الكاف والنون.
ولكن يا عباد الله، إذا تأملتم قول الله تعالى: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود:102].
هذا فيروس حقير صغير لا يرى بالعين المجردة عجزت عنه تلك الدول التي أهلكت وضرت وأفسدت في دول العالم أجمع؛ بسبب سلطتها وويلاتها وفسادها ودمارها على العالم، إنها عقوبة الله جل وعلا: وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَمَا هِيَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْبَشَرِ [المدثر:31].
عباد الله، انظروا واعتبروا، فإن بقاء كل مجتمع سليمًا حيًا صحيحًا بعيدًا عن هذه الأوبئة والأمراض، إن ذلك مرهون بالتحفظ، فاحفظ الله يحفظك، والله سبحانه ابتلى أقوامًا لما عصوه وكفروا به، وكل ذلك مذكور في كتابه العزيز، وإنها قدرة الله جل وعلا، إنها دليل وحدانيته، إنها دليل غضبه، إنها دليل غيرة الله، والله يغار على محارمه، ومن أجل ذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن.
أيها الإخوة، يُثار هذا الكلام وتُقلَّب صفحاته والملايين من البشر يتقلبون في أمراض فتاكة ناتجة عن الرذيلة، يتجرعون غُصصها وأوجاعها، ولا زال الأطباء والعلماء بل والعالم بأسره يتشوّفون لعلاج ناجع يخلّصهم من وبيل سياطها، لكنهم لما يفلحوا في إيقافها، فضلاً عن اقتلاع جذورها، والإسلام خير لهم لو كانوا يعلمون.
لقد جاء الإسلام بما يحفظ العقول والأبدان من الأوبئة والأمراض، وذلك بتشريعاته السامية التي أحاطت جانب العِرض بسياج من العفة منيع، وهذّبت الغرائز، فأباحت الحلال الطيب، وحرمت وعاقبت على المنتن الخبيث.
وهذا الأمر لم يعد سرًا نتغاضى عن ذكره وعلاجه، بل هو ظاهرة مثيرة للجدل اليوم، فقبل كل إجازة سواء الصيف أو العيدين تجد العروض والدعايات السياحية، وتجد الإقبال من بعض الشباب المفتون لقضاء سبع ليال وثمانية أيامٍ حسومًا، يذهبون في الإجازة الصيفية والعشر الأواخر من رمضان وفي عشر ذي الحجة، إجازات دينية عبادية يقضيها المؤمنون مستقبلين لبيت الله الحرام، وهؤلاء قد استدبروا البلد الحرام، وقضوا كثيرًا من أوقاتهم في الحرام، وهؤلاء كثير لا كثرهم الله، ثم يأتون بعد نهاية الإجازة يملؤون المستشفيات الخاصة طلبًا للتحليل عن الإيدز، وتجدهم يخرجون بالنتيجة مغلفة مراعاة للخصوصية، ويهجم بعضهم على زوجته التي حفظته وخانها، والتي أكرمته فأهانها، والتي تسهر عليه إذا مرض، ثم ينقل لها الأمراض التي حملها معه من العمل الحرام.
ونقول لمن يعمل هذا العمل: لو ظفر بك الشرع فإن حدك الرجم حتى الموت، وأنت مرتكب لكبيرة من كبائر الذنوب، ثم أنت زيادة على جرمك الشرعي، أنت لست على مستوى الأخلاق، لئيم على مستوى الوفاء، مستهتر على مستوى المسؤولية، فما ذنب زوجتك وأولادك حتى تدخلهم معك في المصيبة؟! ولكن هذا جزاء من يسكت على هذه الأعمال.
إخوة الإسلام، نحن لا نقول: إن كل من يسافر إلى بعض الدول هو ممن يقع في الرذيلة، ولكنَّ المسافرين للرذيلة عليهم أمارات في صحبتهم، وفي وقت ذهابهم، وفي صورتهم، وغير ذلك، فإذا عرفَت الزوجة وأهلها من الزوج هذا الصنيع فعليهم أن يدفعوه بالراحتين، أو يركلوه بالقدمين، والزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة، وإذا سكتت المرأة على هذه الأعمال المشينة فإن العاقبة عليها وعلى ذريتها مشينة.
تعسّرُ الزواج عليه أو التعدد أو تأخره لا يبرر له جريمة الزنا؛ لأنه باعتباره عضوًا في المجتمع عليه أن يسلك المسلك الحميد الذي لا يجلب الضرر على المجتمع، خاصة أقرب الناس إليه، وأخلصهم له وهم زوجته وذريته.
أما العلاج الإسلامي الشامل لهذا المرض فهو ما سنطرقه في الخطبة الثانية.
اللهم احفظنا واحفظ أمتنا، وأنزل بلاءك وعقابك على أعدائنا.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالُوا لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلاَّ امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنْ الْغَابِرِينَ إِنَّا مُنزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِنْ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ وَلَقَد تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [العنكبوت:33-35].
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله أمر بالعدل والإحسان، ونهى عن الفحشاء والمنكر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يُمهل ولا يُهمل، وإذا أخذ فإن أخذه أليم شديد. وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، مثال الطهر والعفاف، وفي بيته نموذج يحتذى للبيوت المسلمة، إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا [الأحزاب:33]، اللهم صل وسلم عليه وعلى إخوانه وأزواجه وآله المؤمنين.
أما بعد: إخوة الإسلام، فليس يخفى أن هذا العالم المضطرب لم يصل إلى ما وصل إليه من تدني في القيم وفساد في الأخلاق فجأة ولا مصادفة، بل كان نتيجة تراكمات من الفساد والانحراف عن منهج الله، وتغليب الشهوة وتهييج الغرائز، ووأد الكرامة والحياء وإشاعة الفاحشة وترويج المخدرات، ونشر المسلسلات وإطلاق عنان الحرية المزعومة، حتى عمّ البلاء وانتشر الوباء، والخوف قائم من تصديره خارج منطقة الداء.
ونحن ـ معاشر المسلمين ـ مطالبون بحماية أنفسنا ومجتمعاتنا من هذا الوباء أو غيره من الأوبئة الأخرى، والحماية لا تكون بمجرد العلاج إذا وقع الداء وتفشى المرض، وإنما تستلزم الوقاية أولاً، والوقاية خير من العلاج وأجدى.
إن علينا بشكل عام أن لا نفكر في دخول النفق المظلم الذي دخله هؤلاء، ونحن نرى بأم أعيننا كيف كان المنتهى، وأن ننظر إلى دعوات التقليد البلهاء على أنها صوت من أصوات السفهاء، وعلى العقلاء أن يأطروهم على الحق أطرًا. علينا أن ندرك مسؤوليتنا تجاه الناشئة، ونجنبهم مواطن الردى.
إن التربية الجادة للشباب وتوفير المحاضن الصالحة وابتكار البرامج المفيدة كل ذلك يسهم في إصلاح المسيرة، ويجنب أمة الإسلام ما وقعت فيه الأمم الأخرى، ويا ويح أمة يغرق شبابها بالمخدرات، ويفتنون بما تعرضه الشاشات من زبالات، ويح أمة يتعلق شبابها برخيص الفن وتكون الرياضة همه الأول والأخير.
إن توفر الصورة الهابطة عند الشباب عن طريق المجلة أو الشاشة أسلوب من أساليب الإثارة والإغراء، وهو وأد للكرامة واستهلاك للحياء، وربما كان في النهاية طريقًا للفاحشة، وإن إغراق الشباب بسيل المسلسلات الفاتنة والمعتمدة أساسًا على إثارة الغرائز هو انتحار للقيم، وخطوات في طريق تفريغ طاقات الشباب بما يضر ولا ينفع، وإن سفر الشباب للخارج دون حسيب أو رقيب، ودون تنظيم يحقق المصالح ويمنع المفاسد هو رمي لهؤلاء الشباب في أتون معركة قلَّ أن يخرج أحد منها دون أن يصاب بشيء من لهيبها، إنها مخاطرة مع هؤلاء الفتية في مجتمعات تكره المسلمين من جانب، ويتوفر فيها من الإغراءات والإباحية ما يثير الغرائز ويخاطب الشهوات، ومن يرضى لفلذات الأكباد أن يكونوا ضحايا للفساد أو يكونوا نقلة فيروسات الدمار لبني الإسلام؟!
ليس من المنطق السليم أن نطالب الشباب بالعفة والطهر ونحن نواصل إغراءهم ونهيئ لهم من الوسائل ما يثير غرائزهم، لا بد أن نسهم جميعا في حمايتهم ونشارك في تربيتهم. إن بقاء الشباب دون عمل أو المغالاة معه في المهر كل ذلك ربما أسهم في دفع أصحاب الأنفس الضعيفة إلى اقتراف المحرمات والوقوع في حمأة الرذيلة.
وأما المرأة فهي وسيلة للفتنة إذا لم تصن وتحترم، وهل كانت فتنة بني إسرائيل إلا في النساء؟!
ألا فاتقوا الله في النساء، واستوصوا بهن خيرًا، واحفظوهن من التعرض للبلاء، وتنبهوا للدعوات المحمومة التي تريد بهن وبمجتمعهن الشرور والفساد.
هكذا ـ إخوة الإسلام ـ يظهر هذا الكابوس القاتل والجاثم على صدور المنحرفين، وغدًا ربما يظهر ما هو أشد منه طالما ظل الناس سادرين في غيهم مستثمرين العلم الحديث وإمكاناته الهائلة في نشر هذا الفساد وتزيينه للناس، بل ومحاولة قهر الآخرين عليه في المستقبل القريب كما هو ظاهر في مؤتمراتهم الأخيرة عن السكان والمرأة، ولكن: يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ [الصف:8]، وستدور الدائرة عليهم: وَسَيَعْلَمْ الَّذِينَ ظَلَمُواْ أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ [الشعراء:227].
ـــــــــــــــــــ(68/106)
قضيّة مسلّمة
...
...
4097
...
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
...
...
فضائل الأزمنة والأمكنة, قضايا المجتمع
...
عبد الرحمن السديس إمام الحرم
...
...
مكة المكرمة
...
19/11/1425
...
...
المسجد الحرام
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- تطلّع الإنسان إلى الأمن. 2- تحقيق الإسلام للحياة الآمنة. 3- فضل بلاد الحرمين. 4- أهمية استتباب الأمن في بلاد الحرمين. 5- حرمة البلد الحرام. 6- شنشنة الخصوم. 7- تعظيم السلف للحرم. 8- استنكار أعمال التفجير. 9- تهافت الفكر التكفيري. 10- الإشادة بجهود رجال الأمن. 11- كلمة لحجاج بيت الله.
الخطبة الأولى
أمّا بعد: فأوصيكم ـ عبادَ الله ـ ونفسي بتقوَى الله عزّ وجلّ، فاتّقوه حقَّ التقوَى، فهي الرّكن الأقوَى والذّخر الأبقَى والطّريقُ الأنقَى، وهي نِعمَ المطيّةُ إلى جنّةِ المأوَى.
أيّها المسلمون، منذ الأزَلِ كان الإنسانُ ولم يزَل يتطلَّع إلى حَياةٍ آمنة مطمئنّةٍ على ثرَى هذا الكوكَبِ الأرضيّ، تَستقرّ فيها نفسُه، ويهدَأ خاطِره، ويسلو فؤادُه، ويطمئنّ ضَميره، وهل يُرى الخائفُ الفزِع إلاّ حذرًا يترقّب، لا يتلذَّذ بشرابٍ ولا طعام، ولا يستمتِع براحةٍ ولا منام؟! وإنّ حياتَنا المعاصرةَ التي قطعَت في ميدانِ الرقيِّ المادّيِّ والحضَاريّ شأوًا بعيدًا لا تزال تَرزَح تحت نيرِ القلَق والفزَع، ولم تنفكّ ترصف في أصفادِ الخَوف والهلَع وأوهاق الاضطراب والفوضَى، وأيُّ طعمٍ للحياة تحت هذه المعاني القاتمة الكالحَة؟!
ويومَ أن أشرقَت شمسُ هذه الشريعةِ الغراء ظلّلت الكونَ بأمنٍ وارِف وأمان سابغ المعاطِف، لا يستقلّ بوصفِه بيان، ولا يخطّه يَراعٌ وبنان، فالأمنُ مطلَبٌ يرومه جميعُ الأفرادِ والمجتمعات، وتنشدُه كلُّ الشعوبِ والحضاراتِ، في بُعدٍ عن منغّصاتِ الجرائم، وفي منأًى عن جالِباتِ القواصم.
يقالُ ذلك ـ أيّها المسلمون ـ والأمّةُ الإسلاميّة تتوجّه هذه الأيّام نحوَ محوَرِها الذي يجمعها، فالأعناقُ مشرئّبِةٌ والأنظار متوجّهة نحوَ قُطبِ الأمنِ والأمان وركيزةِ الاستقرار والاطمئنانِ، فها هي طلائعُ وفودِ الله قد أقبَلَت، وها هي حلقاتُ قوافلِ ضيوف الرحمن قد شرَّفَت، فحيّهلا بأكرمِ الوفود في أجلِّ بقعةٍ وأفضلِ مشهود.
إخوةَ الإيمان، لقد شاءَ الله لبلاد الحرمين الشريفَين اصطفاءً واختيارًا، وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ [القصص:68]، فجَعلها منطلقًا للرّسالة الإسلاميّة الخالدة، ومتنزَّلاً لوحيه، ومهدًا لدعوة نبيّه عليه الصلاة والسلام، وقِبلةً لعبادِه، ومهوًى لأفئِدَتهم، ومحلاًّ لأداء مناسِكهم، فأمنُها أمنٌ لجميع البلاد، ونورُ إيمانها متلألِئ بحمد الله في كلّ الأصقاع والوِهاد. قلعةٌ من قِلاع الهدى، وصَخرة شمّاء تتهاوى أمامَها سهام العِدا، وتتلاشى أمام شموخِها عوامل الرّدى. منارةُ الإسلام ومأرِز الإيمان ومحضن العقيدة والشريعة ومركَز الإشعاعِ والحضارة ومنطَلَق القيادة والسّيادةِ والرّيادة للعالمِ الإسلاميّ والخطُّ الأخير في غرّةِ الوجود الإسلامي وخاتمةُ سورِ الدّفاع العقديّ والحصنِ الإيمانيّ. هي معقِل الشريعة وعاصمتُها الخالدة ورأسُ مال الأمّة وأغلى أرباحِها، تُعدّ بمثابةِ مركز القَلب في الجِسم الإنسانيّ، حفِظها الله فلم تطَأها قدمُ مستَعمِر، وسلَّمها الله فلن تعبَثَ بأمنِها يد دَعيٍّ مستهتِر. لا مكانَ فيها بإذن الله للعمليّات الإرهابيّة، ولا مجالَ فيها للأعمالِ التخريبيّة والأفعال الإجراميّة، فاللهُ قد بسَط أمنَه في ربوعها، ونشر أمانَه في كلِّ أرجائها، فله الحمد والمنة.
وإنَّ المسلم الحقَّ لينشرِح صدرُه باستتباب الأمن في قِبلة الإسلام الأولى وانطلاقَةِ دعوتِه الكبرى، ويفرح ويغتبِط حينما يرَى صفاء العقيدَة، ويغمره السّرور ويكتنِفه الاستبشارُ والحبور حين يجِد الراحةَ والأمن وهو يحجّ ويعتمِر بكلّ أمانٍ واطمئنان، بعدما كانت رحلةُ الحجّ والعمرة رحلةً مصيريّة تمثِّل حياةً أو مَوتًا، فللَّه الحمد أولاً وآخرًا وباطنًا وظاهرًا.
معاشر المسلمين، وإنَّ من فضل الله على عباده ما هيّأ لهم من هذا البيتِ الحرام والبلدِ الأمين، الحرمِ الأزهر والثرى الأفيحِ الأطهر والمقامِ الأسنى الأنوَر، خيرِ الأماكن وأجلِّ البقاع على الإطلاق وأفضلِها باتفاق، كيف وقد أدام الله ذكرَها في قرآنٍ يتلَى إلى يوم التلاق؟! يقول سبحانه: إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا [النمل:91]، وقد امتنَّ سبحانه على ساكني هذه الدّيار بنعمة الأمن والإيمان، فقال سبحانه: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ [العنكبوت:67]، أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ [القصص:57]، على حينِ أنَّ العالمَ اليومَ تتناوَشه حروبٌ عاصفة ورعودٌ بالخوف والفزع قاصفةـ وتقضّ مضاجعَه أعمال الإرهاب والحوادث، وتنغِّص أمنَه أبشعُ الجرائم والكوارِث، وأخبارُ الزلازل والفيضانات والبراكين والاضطرابات وتنامِي أعمال التخريب والتفجيرات.
إخوةَ العقيدة، وإذا كان الأمنُ في البلدِ الحرام متعدِّيًا إلى الصيدِ والنبات والجماد، فكيف بالإنسان المسلم؟! فهل بعدَ هذا من دليلٍ على رعايةِ الإسلام الفائقَة لحقوق الإنسان، وأنه دينُ الرحمة والأمن والخير والسلام؟!
إنَّ حرمةَ هذا البلد نافذة، وأمنَه ومكانتَه دائمة، من لَدن إبراهيمَ وإسماعيل عليهما السلام، إلى أن يرثَ الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين. وقد حماه سبحانه من كلِّ كيد وردَّ دونه أعتى أيد.
وهذا الأمنُ الذي امتدَّ مَداه وعمَّ أثره وسناه خاصّ بالبلد الحرام من سِوى الأرض أجمع، لا يرتفِع عنها ولا ينفضّ منها بحالٍ من الأحوال، فهو أمنٌ إلهيّ معجِزٌ لكلِّ المحاولات البشريّة في إيجاد منطقةٍ حرام يعمّ فيها الأمنُ والسّلام، ويلقى فيها السلاح، ويأمن فيها المتخاصِمون، وتحقَن الدّماء، ويلوذ بها كلُّ ملهوف، ويؤمَّن فيها كلّ مخوف، وهذا البلد الحرام وما اشتمل عليه من خصائصَ عِظام وأمنٍ لا يُضام منقطِع النّظير والأشباه، وذكرُ شرفِه وأمنِه جارٍ مجرَى سوائِرِ الأمثال على الأفواه، تتساقَط الشّعارات وتتهاوَى الحضارات كأوراق الخريف اليابسَة، ويبقَى البلد الحرامُ عبرَ التأريخ محفوظًا بحِفظ الله، رمزًا للتّوحيد وموئِلاً للعقيدة ودوحةً للأمن والأمان بحمد الله.
معاشرَ المسلمين، ولقد دَأب الخصومُ على رفعِ عقيرَتهم عند تجدُّدِ كلِّ نِعمة وتبدّدِ كلِّ نقمة، فشنّوا الحملاتِ الإعلاميّةَ المغرِضة، وبثّوا الدِّعايات والوشايات الكاذِبة ضدَّ هذه البلادِ المباركة، وهي شِنشِنة معروفةٌ من أَخزَم، يردِّدها بعض من أرخَى زِمامَ نفسِه لخصمه، وأعار عَقلَه وفكرَه لغيره، فصار يهذِي بما لا يدرِي، ويهرفُ بما لا يعرف، جهلاً أو إغراضًا، دون رويّةٍ وتثبّت ونظرٍ وتبيّنٍ واطّلاع، يصدِّق كلَّ ما يذاع، ويسلِّم بكلِّ يُشاع. وشأنُ المسلم الحصيفِ الواعي أن ينظرَ بميزان النقلِ الصحيح والعقل الصريح وجلب المصالح ودرءِ المفاسد والحذَرِ من الانسياقِ وراء أدعياءِ كلِّ فتنةٍ ومؤجِّجِي كلِّ محنَة.
إنَّ علينا جميعًا ـ يا رعاكم الله ـ أن نكونَ مع عِظَم هذا التشريفِ على مستوَى الثقةِ والتكليف، سائرين على دَربِ الجماعة تحتَ رايةِ التوحيد وعلى منهاجِ النبوّة، لا تتوازَعنا الفرَقُ والأهواء، ولا تفرِّقنا الأحزاب والآراء، محيينَ لما اندَرَس من معالم الدّين، مصحِّحين لما التبَسَ من مفاهيم الشريعة، محاذرين كلَّ شائعةٍ وتشويش، مجانِبين كلَّ ذائعةٍ وتشويش، تقصِد الإساءةَ والبلبلة والتحريش.
أمّةَ الإسلام، إنَّ من الثوابت والمسلَّمات أن قدسيةَ الحرمين الشريفين والتجافي عن كلِّ ما يعكِّر أمنَهما عقيدةٌ راسِخة وقضيّة أزليّة ثابتة، لا يغيِّرها السنون، ولا تبدِّلها القرون، فحريٌّ بأهلِ الإيمان مراعاتها والحفاظُ عليها، لا سيّما في زمن الفتن والتحدّيات والمحن والمتغيرات.
يؤكَّد ذلك والأمّةُ لا زالت تكتوِي بنار حملاتٍ مسعورَة تتبارَى وصيحاتٍ مغرضة تتعالى وتتجارَى، ولم يعد أحدٌ في تكذيبها يتمارَى. ألسنةٌ بالبُهتِ انطلقت وبالحِقدِ الدّفين اندَلقَت، إنه وإنِ انبرَى سفيهٌ غيرُ فقيهٍ ولاسنَ موتور ونبَح مَسعورٌ هبيلُ الرأي مسَطَّح التفكير، إثارةً للفتنةِ في بلادِ الحرَمين، وتأجيجًا للأغرار، وتهييجًا للرّعاع، فلن يزيدَ أمنَها إلا ثباتًا وأمانَها إلاّ رُسوخًا. والذي يقال لهؤلاء وأولئك: اقرَؤوا التاريخَ إذ فيه العِبَر، فللبيتِ ربٌّ يحميه، وفي الأثرِ عن أنَسٍ رضي الله عنه: (الفِتنةُ نائمةٌ لعَن الله من أيقظها)[1].
إنَّ استحكامَ الأمنِ في البلد الحرام عقيدةٌ راسخة، أصلُها ثابت وفرعُها في السماء، إزاءَ ما يُعلَم من حملاتٍ ماكِرة وهجماتٍ سافرة، ترفّ حولَ الإسلام وأهله وقِبلته ومقدَّساته من قِبَل أعدائِه وخصومِه ومَن سار في فَلَكهم وخدَم أغراضَهم وحقَّق مَرامَهم من بني جِلدتنا ومن يتكلَّمون بألسنَتِنا، فالذي حفِظَ بيتَه الحرام وسدَنتُه مشرِكون حافظُه ـ بحوله وقوّته ـ وسدَنتُه موحِّدون متَّبعون.
وإنَّ الأمنَ العميم الذي ضرَب بجِرانِه وأحاط بأركانِه على بلادِ الحرمين ـ زادَها الله توفيقًا ـ فآضَت بحمد الله مضرِبَ الأمثال وواحةَ سلامٍ واطمِئنانٍ عديمةَ المِثال لن تفُلَّ في شباتِه أصواتٌ ببَّغاويّة مغرِضة، ولن يلينَ من قناتِه أحداثٌ نشاز عن الحقِّ والهدَى معرِضة. فتبًّا لكلِّ يدٍ آثمة معتديَةٍ على أمنِ البلاد والعباد، متعطِّشةٍ لسفكِ الدّماء وتناثُر الأشلاء وانتهاك حُرمة الأبرياء، ناهِجةٍ منهجَ التّكفير، سالِكةٍ مسلكَ الإجرام والتفجير والتخريبِ والتدمير.
خرّج الترمذيّ في سننه أنّ رسولَ الله نظرَ إلى الكعبة فقال: ((ما أعظمَك وأعظمَ حرمتَك، إلاّ أنَّ المؤمنَ أعظمُ عندَ الله حرمةً منك))[2]. ولقد ضَرَب السلف الكرامُ أروعَ الأمثلة في تعظيمِ البلَدِ الحرامِ والشهر الحرام، وما ذلك إلاّ خشيةَ اللَّمَم وتعظيمًا للحَرَم وصيانةً للحُرَم. ألا ما أروعَه من أدَبٍ، وما أنبلَه من أرَب، وبُؤسًا ثم بُؤسًا لمن خرَج عن نهجِه وشغب. كم يستبيك معظِّمُ الحرَمِ الحرام، وكم يستهوِيكَ موقِّرُ هذه العرَصَات العِظام، وتالله إنَّ ذلك لعنوانُ الصّلاح والفَلاح وميسمُ التّقوَى في الخلوةِ والجلوى، ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ [الحج:30]. فهنيئًا لمن درَج بالخشيةِ بين جنباتِ هذه البلاد الطيّبة ونبَت، ويا بُشرى لمن استقرَّ على تعظيمِها وثبَت، فاللهَ اللهَ ـ إخوتي الحجّاج ـ في المحافظةِ على هذهِ الأجواءِ الآمنة المطمئنّة وتوقير هذه المشاعِر والبقاع الشريفة، فأمنُها أمنٌ لكلِّ مُستقْبِلٍ لقِبلتها، لا يغيظ بذلك إلاّ قلبُ كلِّ جحودٍ وضميرُ كلّ كَنود.
أمّةَ الإسلام، ومع ما يذكَّر من مكانةِ هذه البقاعِ الشريفة وضرورةِ رعايةِ أمنِها، فهي ليست دعوةً محليّة ولا إقليميّة ولا عنصريّة، وإنما هي دعوةٌ إسلاميّة شرعيّة عالميّة، وهذا قدَر الله وإرادتُه الكونيّة والشرعيّة لهذه البلاد المباركة، بل فخرُها وشَرَفها، وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107]، وما موقِع هذه البقعةِ مِنَ العالم إلاّ موقِعُ القِبلةِ من المصلَّى والتاجِ منَ الحُلّة والغُرّةِ من التّحجيل، وقولوا لي بربِّكم: من الذي لا يطبَع قُبلتَه على قِبلتِه ويهيم بحبِّ عَرَفات الشّعائر ومقدَّسات المشاعر وأماكِنِ المناسك لكلِّ متعبِّدٍ ناسِك؟! بل حُبُّها في ضميرِ كلِّ مؤمِنٍ يفيض، ومن قلبِ كلِّ شانئ يغيض، واللبيبُ المنصِف الذي لم تُعشِ نورَ بصَرِه وبصيرته رواسِبُ الغلِّ والشّحناء وكوامِنُ الحِقد والحسَد والبغضاء يدرِكُ أنَّ هذه الحقيقةَ معلَم من معالم هذه الشريعة وملمَح مهمٌّ مِن ملامح هذه الملّة، ينبغي أن يُروَى فلا يُطوى، ويُظهَرَ فلا يغمر، ولا يبانَ فلا يُطمَر، لا سيما للنّشء والأجيال.
يقال ذلك ـ أيّها المسلمون ـ تذكيرًا بالنّعَم ليُشكَرَ المنعِم المتفضِّل سبحانه، وتأكيدًا على هذه القضيّةِ المهمّة؛ حتى يتذكَّرَها جيلُ اليوم الذي يُخشَى أن ينخدِعَ بالأبواق النّاعِقَة التي أصبَحَت من المصداقيّة نافِقَة، وإهابَةً بالأمن للتذكُّر والاتّعاظ والاعتبار، وليس هذا القولُ لأحدٍ مجاملةً ومَدحًا، ولا لآخرَ ذمًّا وقدحًا، ولكنّه لله ثمّ للحقيقةِ والتأريخ.
أمّةَ الإسلام، وحينما يُذكَّر المسلمون بهذا الموضوعِ المهمّ فإنّ كلَّ غيورٍ تهتَزّ بالشّجب والإدانةِ مشاعِرُه وتتحرَّك بالاستنكارِ والتنديد كوامِنُه لكلِّ ما يكونُ سببًا في تقويضِهِ وزَعزَعةِ أمنِه، ولا شكَّ أنَّ ما حَدثَ مؤخَّرًا في مدينةِ الرياض ـ عاصِمةِ بلادِ الحرمين رياضِ التوحيدِ ونجدِ الأصالةِ والتّجديد ـ من تفجيراتٍ آثمة يائِسَة يُعدّ ضربًا من ضروبِ الإفسادِ المحرَّمِ، وصورةً قاتمة من صوَرِ الإرهاب المجرَّم، ودليلاً قاطعًا على تداعِي فِكرِ الغُلوِّ المنحرِف وتهافُتِه بطريقةٍ بشِعَة، حيث يهدِف إلى جرِّ بِلادِ التوحيدِ إلى ميدانٍ للاحتِرابِ والتفجير ومستَنقَعٍ للتّخريب والتدمير، ومع ذلك فإنّه يمثِّلُ ـ بحولِ الله ـ نهايةَ النهايةِ لهذا الفِكرِ المنحرِفِ لما أفرَزَه من أفعالٍ عشوائيّة يائسَةٍ وأعمَال مرتَجَلةٍ مترنِّحَة، تستهدِف كلَّ ما أمَامَها ولو كانَ البلَدَ ومكتسباتِه والمجتَمعَ ومنشآته وقلاعَ أمنه ورجالَه وممتلكاتِه، ممّا يؤكِّد حالةَ اليأس التي يعانيها وأوضاعَ البؤسِ بأبشعِ مراميها، وما هي إلاّ فُقاعاتٌ زائِلَة وإفلاس ذريعٌ وفشَل ظاهِر مفضوح وعبَثٌ صبيانيّ غيرُ مبرَّر.
والسؤال الذي يطرَح نفسَه: لماذا كلُّ هذا التصعيد الإرهابي؟! وإلى متى يستمرّ هذا المسلسَل الإجراميّ؟! ولماذا هذا التوقيتُ الزمنيّ في شهرٍ من أشهُرِ الله الحرُم، وفي الوقتِ الذي تستقبل الأمّة فيه موسِمَ الحجّ المبارك؟! وما هو دورُ كلٍّ منّا في إطفاءِ نارِ الفِتنة والوقوفِ بحزمٍ أمامَ المحرِّضِين عليها منَ القَعَدَةِ المتوَاطِئين والمتخاذِلِين المتفرِّجين؟! وهل يدرِكُ هؤلاء ومَن يقِف وراءَهم أنهم دُمًى يستخدِمها أعداءُ الملّةِ والأمّة وخصومُ البلاد وشانِئوها في تحقيقِ أغراضِهمُ الدّنيئةِ شاؤوا أم أبَوا؟! وهل أخذَتِ الأمةُ بالتدابيرِ الوَاقيَة لحمايةِ عقول أبنائِها وأفكارِ شبابها من هذا الدّخنِ الفكريّ والانحراف المنهجيّ؟! وهل يجعَل أبناءُ هذه البلادِ من أنفسِهم رقيبًا حاضرًا وعينًا ساهِرَةً لا تتغاضَى أمام أيِّ خِيانة لأمنِ البلاد وأمانها؟!
ومع ذلك فإنّه من التحدُّث بنعَم الله تلك الجهودُ الأمنيّة المباركة والضَرَبات الاستباقيّة الموفَّقةُ لرجالِ أمننا البواسِل الذين وقفوا في هذهِ الأحداث موقفَ اللّيوث الأشاوِس على أبوابِ العرينِ الوادع، والدعاءُ مبذولٌ لهم من حرَم الله الآمنِ أن يزيدَهم الله ثباتًا على ثباتهم، ويملأَ قلوبَهم سكينةً وطمأنينة، وأن يجعلَ أعمالهم رِباطًا في سبيله، وأن يثقِّل بها موازينَهم كِفاءَ ما قدّموا ويقدِّمون في خِدمة مجتمَعهم، وجزاءَ ما بذلوا ويبذُلون في تعزيزِ أمنِ بلادهم والمحافظةِ على ثغور مجتمَعِهم، مما يتطلَّب شدَّ أزرِهم وشحذَ هِمَمهم واستنهاضَ عزائمهم وتقديرَ جهودهم والتعاونَ معهم في تحقيقِ الأمن للبلاد والعباد.
ألا فلتسلَم بلادُنا الشماء، ولتهنَأ ربوعُنا الغنّاء، ولتبقَ عبرَ الأعصار دُرّةَ الأمصار وشامَةَ الأقطار وواحةَ أمنٍ وأمانٍ ومنطَلَقَ خيرٍ وسلام واطمئنان للبشريّة كافّة، ولتدُم حارسةً للعقيدة ذائِدةً عن الشريعة ساعيَةً لكلِّ خيرٍ وصلاح للإسلامِ والمسلمين، بل والإنسانيةِ جميعًا، وشاهَت وجوهُ الخصومِ المتربِّصين ورغِمَت أنوفُ الحاقِدين الحاسدين الذين تزكِمُهم وتشرِقُهم منظومتُها الأمنيّةُ المتألِّقة ونسيجُها الأمنيّ المتميِّز، وإن رغِمَت أنوفٌ من أناسٍ فقل: يا ربِّ، لا ترغِم سِواها.
حفِظ الله بلادَ الحرمين وسائرَ بلاد المسلمين من كيدِ الكائدين وحِقد الحاقدين وعدوانِ المعتدين، وأدام عليها أمنَها وإيمانها ورخاءَها واستقرارها، إنّه خير مسؤول وأكرَم مأمول، وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [يوسف:21].
نفعني الله وإيّاكم بالوحيين، وبهديِ سيد الثّقلين، أقول قولي هذا، وأستغفِر الله العظيمَ الجليل لي ولكم ولكافّة المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إن ربي لغفور رحيمٌ.
[1] رواه الرافعي في تاريخ قزوين (1/291) عن أنس مرفوعا، قال الألباني في السلسلة الضعيفة (3258): "منكر". وينظر من أخرجه موقوفا.
[2] الذي في سنن الترمذي في كتاب البر (2032) أن هذا من كلام ابن عمر رضي الله عنهما موقوفا عليه، وصححه ابن حبان (5763)، وحسنه الألباني في غاية المرام (435). وأخرجه ابن ماجه بنحوه عن ابن عمر مرفوعا، قال البوصيري في الزوائد (4/164): "في إسناده مقال"، وضعفه الألباني في ضعيف سنن ابن ماجه (785).
الخطبة الثانية
لله الذي منَّ علينا بالإسلامِ شِرعة ومنهاجًا، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريك له هيّأ لعبادِه البلدَ الحرام فأمّوه آحادًا وأفواجًا، وكسَاه من حُلَل الأمن والإيمان ما يزيده جَلالاً وابتهاجًا، وأشهد أن نبيَّنا محمّدًا عبد الله ورسوله بعثَه ربّه هاديًا ونورًا وسراجًا، صلى الله عليه وعلى آله وصحبِه الذين كانوا للمقتفِين نِبراسًا وللأمة تاجًا، والتابعين ومن تبِعهم بإحسان ما أهلَّ محرِمٌ بالتوحيد وناجى، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أمّا بعد: فيا أيّها المسلمون، ويا أيّها الحجاج الميامين، اتقوا الله ربَّكم فهو بالتقوى قمين.
عباد الله، حجّاجَ بيت الله، ها هي أيّامُ الحجِّ المبارَكَة قد أظلَّت، ولياليهِ الزُّهرُ قد أهلَّت، وبواعِثُ الشوق من مكانِها أهبَّت، وأفئدَةُ المسعَدِين بهذا المكانِ قد وضعَت وخَبّت، وها هي بلادُ الحرَمين الشّريفين لكم قد تبدَّت واستعدَّت، برّاقةَ المباسم استبشارًا بكُم يا وفودَ خيرِ المواسِم.
أيّها الحجاجُ الأكارِم، يا مَن تكابِدون من أجلِ هذه الفريضةِ العظيمة الشوقَ وضرامها، ومِن أجلِ هذا البيت العتيق النّوَى وسِقامه، اشكُروا الله عزّ وجلّ على ما تنعَمون به من شرفَيِ الزمان والمكان، واغتنِموا ـ رحمكم الله ـ الأجورَ والعطايا، واجتنِبوا الآثام والخطايا، فالحقّ تبارك وتعالى يقول: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ [البقرة:179]، ويقول : ((ليس للحجِّ المبرور ثواب إلا الجنة)) خرّجاه في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه[1].
أخي الحاجَّ المبارَك، ها وقَد أسعَدَك الله بسلامةِ الوصول وحصولِ المأمول، وأمتَعَك ببَردِ اليقين، فسحَّت عينُك الدّمعَ السخين، خوفًا من الآثام والذّنوب، واستغفارًا للمعاصي والحوبِ، فاحرص ـ وفّقك الله ـ أن تكونَ نقِيًّا من ألفاظِك، غضيضًا في ألحاظِك، آطِرًا نفسَك على القُرُبات والطّاعات، صائِنًا قلبَك عن الهوى والدركات، مخلِصًا لمن لبَّيت نداءَه بالحج، وليكُن ذلك ـ يا محبّ ـ ديدنَك في كلِّ طريق وفجّ، متحلِّيًا بحسن الأخلاقِ ونُبل الشمائل وكريمِ السجايا وأدبِ التّعامُل، وحِفظِ الأمن والنظام والتأسِّي بالحبيب المصطَفى والرسول المجتبى القائل: ((خُذُوا عني مناسِكَكم))[2]، والاستعدادِ لهذه الفريضةِ العظيمة بالعِلم النافع والعمل الصّالح والتوبةِ النصوح، فلا مكانَ في الحجّ للمزايَداتِ والمهاتَرات والتّجمّعات والمظاهرات.
أيّها الأحبّةُ في الله، وثمّةَ لطيفةٌ ينبغِي أن لا تعزُبَ عن ذهنِ قاصِدِ بيتِ الله الحرام، وهي ذلك الارتباطُ الوثيق والاتِّصال العميق بين الأمنِ والإيمان، بين البيتِ والتوحيد، بينِ الحجّ والعقيدة، وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ [إبراهيم:35]، وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا [الحج:26]. فالتّوحيد ـ يا عبادَ الله ـ أولاً وآخرًا، والعقيدةُ ـ يا حجَّاجَ بيتِ الله ـ ابتِداءً وانتهاءً، فإذا آمنّا أمِنَّا، الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمْ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام:82]، وإذا وحَّدنا توحَّدنا، إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ [الأنبياء:92].
ألا فاتَّقوا الله عبادَ الله، وعظِّموا الشعائرَ والمشاعر تحظَوا بالخيرِ الوافر والنجاةِ يومَ تُبلَى السرائر، ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ [الحج:32].
ألا وصلّوا وسلِّموا ـ رحمكم الله ـ على الهادي البشير والسراج المنير كما أمركم بذلك اللطيف الخبير فقال عزّ من قائلٍ كريمًا: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللّهمّ صلِّ وسلِّم وبارِك على سيّد الأولين والآخرين وخاتم الأنبياءِ والمرسلين ورحمةِ الله للعالمين نبيّنا محمد بن عبد الله، وعلى آله الطيّبين الطاهرين، وأزواجه أمّهات المؤمنين، وصحابته الغرّ الميامين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين...
[1] صحيح البخاري: كتاب الحج (1773)، صحيح مسلم: كتاب الحج (1349) بنحوه.
[2] أخرجه مسلم في كتاب الحج (1297) عن جابر رضي الله عنه.
ـــــــــــــــــــ(68/107)
لماذا لا نلتزم بشرع الله؟! 2
...
...
4132
...
الأسرة والمجتمع, العلم والدعوة والجهاد
...
...
التربية والتزكية, قضايا الأسرة, قضايا المجتمع
...
عبد الرحمن بن عبد الجبار هوساوي
...
...
الظهران
...
19/11/1417
...
...
جامع جامعة الملك فهد
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- غربة آخر الزمان. 2- البيت وأثره في التربية. 3- خطر الفساد الخلقي. 4- واجب الجميع تجاه المنكرات.
الخطبة الأولى
ما زال الحديث موصولاً عن أسباب عدم الالتزام بشرع الله، وقد مضى الحديثُ عن الجزء الأول والأهمّ، وعرفنا الأسباب العشرة التي تعود مسؤوليتها إلى الفرد نفسه، لكن هذه الأسباب مهما تحصَّن الإنسان ضدها فإنه لن يستطيعَ الالتزام المطلوب؛ لأنه لا يعيش وحده بمعزل عن الناس، بل يعيش محاطًا بالناس أفرادًا ومؤسّسات، لا يستغني عنها، وتؤثر عليه بلا شك سلبًا أو إيجابًا، فمهما كان صادقًا ومخلصًا فإنه لن يسلم من آثارِها السلبية عليه، حتى لو لم يعرّض نفسه لهذه الفتن؛ لأننا نعيش في زمن لا يحتاج الإنسانُ أن يُعرِّضَ نفسه للفتن، بل هي تلاحقه في كل مكان حتى في بيته فضلاً عن السوق والملاهي، ولعل هذا هو الزمن الذي تنبأ الرسول به وأخبر عن صعوبة الالتزام بشرع الله فيه، روى البزار والطبراني عن عبد الله بن مسعود قال رسول الله : ((إن من ورائكم أيام الصبر، الصبر فيهن كقبض على الجمر، للعامل فيها أجر خمسين))، قالوا: منهم أو خمسين منا؟! قال: ((خمسين منكم))، وفي رواية الطبراني: ((للمتمسكِ فيه أجرُ خمسين شهيدًا منكم)).
لا أدري إن لم يكن هذا هو زمان الصبر كيف سيكون؟! رحماك ربنا أن يمرّ بنا زمن أسوأُ من هذا الزمان الذي خوِّن فيه الأمين وشهّر بالمتمسّك بدينك وأصبح الالتزام تهمة.
والله، إننا في زمن غُربة وكُربة، يعزّ فيه الالتزامُ بشرع الله تعالى، هكذا هو قدرنا، لكن الأجرَ على قدر المشقة، وقد خفّف الوطء على أهل ذلك الزمان بالأجر العظيم الذي رتَّبَه للمتمسّك بدينه فيه: ((أجر خمسين شهيدًا منكم))، فما لنا لا نصبر وهو قدرنا وهذا أجرنا.
فإذا تصبك مصيبةٌ فاصبر لها عَظُمت مصيبةُ مبتلًى لا يصبرُ
أيّها الإخوة، أول هذه المؤثرات هو البيت، وما أدراك ما البيت، دعونا اليوم نكن صادقين مع أنفسنا، ودعونا من المجاملات والتلهي عن مواجهة الحقيقة المرة، ما أحوالُ بيوتِنا بصراحة؟ هل هي مؤهلة لإخراج أجيال، لا أقوال: كجيل الصحابة؛ لأننا ـ معشرَ الأباءِ ـ لسنا كالصحابة رضي الله عنهم، بل أقول: كجيل آبائنا وأجدادنا؟! هل بيوتُنا معاولُ هدم أم بناء للشخصية الإسلامية؟! أقول كلامًا لا أعمّمه: للأسف كثير من بيوتنا ما عادت محاضن تربية، بل مطاعم تأكيل وتسمين، لقد تخلّينا عن رسالتنا وواجبنا تجاه أبنائنا الذي لخّصته آية في كتاب الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم: 6]. أليس كثير من بيوتنا تعمل على عكس هذه الآية؟! أليس في كثير من الأحيان نكون سببًا في تفريطهم بحقوق الله؟!
الذي يجلب إلى بيته المنكر ثم يقول: هو سلاح ذو حدين، أو يريد متابعة الأخبار العالمية والبرامج العلمية، كلام نظري جميل، ثم يترك الحبل على الغارب للمراهقين والمراهقات، لا رقابة ولا متابعة، أتراه أحسن أم أساء؟! أتراه نصح أم غش رعيته؟! لنعلم أن الله تعالى سائلٌ كلّ راعٍ عما استرعاهُ: أحفظ أم ضيعهُ؟ حتى يسألَ الرجل عن أهلِ بيته، هذا كلامُ رسول الله .
الوالدان اللذان يخالفان أمر الله بأيّ صورة كانت كذبًا أم غيبةً، تركًا للصلاة أم تبرجًا وسفورًا، أم عكوفًا على مشاهدة المحرمات، هل هذا قدوة حسنة أم سيئة؟! وصدق من قال:
إذا كان ربُّ البيت بالدُّفِّ ضاربًا فشيمةُ أهلِ البيت كلِّهِمُ الرقصُ
أنّى لهولاء الضحايا أن يستقيموا على شرع الله الذي لم يرَوه في بيوتهم بل رأوا خلافه وعكسه؟! وفي المثل: "لن تجني من الشوك العنب"، نحن مُسلِّمون بقوله: يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنْ الْحَيِّ وَيُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا [الروم:19]، لكننا نتكلم عن (1+12) وليس عن قدرةِ الله.
إن كنت تزعم أن للدِّين وزنًا في نفسك وأنك تزاوِل التربية مع أبنائك فأجب عما يلي:
ما نسبةُ عتابك وتوجيهك لابنك على التقصير في حقوق الله مقابلَ عتابك بل ضربك عند تقصيره في حقوقك أو حقوق المدرسة؟ أمّا هدي رسول الله فكما وصفته أم المؤمنين عائشة : وما انتقم رسول الله لنفسه، إلا أن تنتهك حرمة الله تعالى.
من هم أصدقاء أبنائك وبناتك؟ أمعرِضون أم مستقيمون؟ الله أعلم.
ماذا يقرؤون؟ قصصًا غرامية أم تربوية؟ لست متأكّدًا؟! ألست أنت الذي اشترى أو أذِن بشراء المجلات التي تقتل الحياء وتثير كوامن الشهوات؟!
أين وكيف يسمرون؟ وماذا يشاهدون؟ من يهاتفون؟ وماذا يقولون؟ صور من يقتنون؟ ولماذا يقتنونها؟
لست أقصد التجسّس وفقد الثّقة، ولكن أليست الوقايةُ خيرًا من العلاج؟!
مشكلة التربية في ثلاثة أنواع من الآباء: عنيفٌ يُكَرّه الأبناء في الدّين، ومايِع بالغ في حسن الظنّ يزعم الحضارة والديمقراطية فماعت الأمور، ومشغول بالدنيا لا يبالي بالتربية. نعم، قد وفّر كلَّ شيء مادّيّ وزيادة، لكنه ترك أبناءه أيتامًا وهو حيّ يرزَق، كما قال شوقي:
ليس اليتيمُ من انتهى أبواه من همّ الحياة وخلّفاه ذليلاً
إنّ اليتيمَ هو الذي تلقى له أمّا تخلّت أو أبًا مشغولاً
صدقتَ يا شوقي، فما أكثر الآباء المشغولين على حساب الأبناء، وما أكثر الأمهات اللاتي تخلّين لصالح الخادمات الجاهلات، والأدهى والأمر الكافرات، أو للإعلام.
أيها الإخوة، كما لا يخفى على أمثالكم فالتربية ليست وعظًا ولا عقابًا ولا حلاً للمشكلات فقط، ولا ردات فعل، وإن كان كل ذلك مطلوبٌ، لكنها منهجٌ متكاملٌ، فيه هدم وبناء، وتعليم وتزكية، وقدوة وممارسة، واستمرار وتكرار، وهذه التربية هي مسؤولية البيت قبل أيّ مؤسسة، والوالدان هما السبب الأول لاستقامة أبنائهم أو انحرافهم لا قدّر الله.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: بَلْ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ [القيامة:14، 15].
الخطبة الثانية
ومن المعيقاتِ عن الالتزام بشرع الله المجتمعُ، لكن هلا سألنا أنفسنا: من هو المجتمع؟ هل المجتمع هو البيوتُ والشوارعُ، أمِ الأيامُ والليالي، أم أنه عدوٌ غريبٌ مستعمر؟ أليس المجتمعُ أنا وأنت؟! بلى، فالمجتمع ما هو إلا مجموعُ أُسَرِنا، فإن مدحناه فقد مدحنا أنفسَنا، وإن ذممناه فقد ذممنا أنفسَنا، والمجتمعُ يُحكم عليه بالصلاحِ أو الفسادِ تبعًا لأهله التزامًا لحدود الله أو انتهاكًا لمحارم الله، وصدق القائل:
نعيبُ زمانَنا والعيبُ فينا وما لزماننا عيب سوانا
ونهجو ذا الزمان بغير ذنب ولو نطق الزمان لنا هجانا
أيّها الإخوة، وأبرزُ أنواعِ الفسادِ المؤثّر على المجتمعات والتي تعيق الالتزامَ بشرع الله في كل زمان ـ وخاصة هذا الزمان ـ الفساد الخلُقي، لذلك لم يكتفِ الإسلام في واقعيته بتحريم الزنا فحسب، بل حرّم سائرَ مقدّماته وأسبابه، فحرم سفر المرأة بلا محرم، وحرم الخلوة والاختلاط والتبرج والسفور، ورغم ذلك تجد بعض المسلمين ـ وربما من المحافظين على الصلاة ـ لا يعبأ بذلك، بل تساهله وصل إلى حدّ اللامبالاة.
أما تعلم ـ يا عبد الله ـ أنك عندما تأذن لنسائك وبناتك بالخروج للمجتمع سافرات متبرجات متزينات ومتعطرات أنك شريك لهن في إثارة غرائز الشباب وإشغال قلوبهم، وفي تحطيم قيم المجتمع وإشاعة الفاحشة في الذين آمنوا؟! أما تخشى أن تكون من الداخلين في قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النور:19]؟!
أضعفُ الإيمان ـ يا عبد الله ـ أن لا تكونَ معول هدم إن لم تستطع أن تكون لبنةَ بناء صالحة في المجتمع، ففي هذه الحالة تكون قد أحسنتَ وأُجرت إن شاء الله، ففي الصحيحين عن أبي موسى قال: قال رسول الله : ((على كل مسلم صدقة، فإن لم يجد فيعمل بيده، فينفعُ نفسه ويتصدَّق، فإن لم يستطع فيعينُ ذا الحاجة الملهوف، فإن لم يفعل فيأمرُ بالخير، فإن لم يفعل فيمسك عن الشرِّ؛ فإنه له صدقةٌ)).
وزاد الطين بلة سلبيةُ المجتمعِ تجاه المنكرات، اعلم ـ علمني الله وإيّاك ـ أن السلبي تجاه المنكر كالفاعل، كلاهما آثم، الفرق بينهما أن الأول شيطان ناطق والثاني شيطان أخرس كما قال ابن القيم، ولن يستحقَّ مجتمعٌ مسلمٌ العذابَ إلاّ إذا كَثُرَ السلبيون مع كثرةِ المنكرات، يقول رسول الله : ((ما مِن قوم يُعملُ فيهم بالمعاصي هم أعزُّ وأكثرُ ممن يعملُه ثم لم يغيرُوه إلا عَمَّهُم الله تعالى منه بعقاب)) أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي، وسألت أمُ المؤمنين زينبُ رسولَ الله : أَنَهْلَكُ وفينا الصالحون؟ قال: ((نعم، إذا كَثُرَ الخبثُ)) أخرجه البخاري.
أسأل الله أن يغفر لنا تقصيرنا تجاه دينه، وأن لا يؤاخذنا بما يفعل السفهاء منا.
ـــــــــــــــــــ(68/108)
بر الوالدين
...
...
3597
...
الأسرة والمجتمع
...
...
الوالدان
...
خالد بن عبد الله المصلح
...
...
عنيزة
...
...
...
جامع العليا
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- منزلة الوالدين في الإسلام. 2- فضل بر الوالدين. 3- حقوق الوالدين.
الخطبة الأولى
أما بعد: فاتقوا الله أيها المؤمنون، واعلموا أن تقوى الله تعالى لا تستقيم لكم حتى تقوموا بما فرض الله عليكم من الواجبات والحقوق، وتذروا ما نهاكم عنه من القطيعة والعقوق.
أيها المؤمنون، إن بر الوالدين من آكد ما أمر الله به عباده، كيف لا وقد قرن الله حقهما بحقه سبحانه وتعالى، وشكرهما بشكره جل علاه، فقال الله تعالى: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [النساء:36]، وقال جل وعلا: أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ [لقمان:14].
ومما يظهر مكانة بر الوالدين في ديننا الحنيف النصوص النبوية الكثيرة المستفيضة، والتي تحث على بر الوالدين، وتنهى عن عقوقهما، فمن ذلك ما في الصحيحين من حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: سألتُ رسول الله : أي العمل أحب إلى الله؟ قال: ((الصلاة على وقتها))، قال: ثم أي؟ قال: ((بر الوالدين))، قال: ثم أي؟ قال: ((الجهاد في سبيل الله))[1]، وفيهما أيضًا من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص قال: جاء رجل إلى النبي يستأذنه في الجهاد فقال: ((أحيّ والداك؟)) قال: نعم، قال: ((ففيهما فجاهد))[2]، وعنه أيضًا قال: قال رسول الله : ((رضا الرب في رضا الوالد، وسخط الرب في سخط الوالد))[3].
أيها المؤمنون، فضل الوالدين كبير، وإحسانهما سابق عظيم، تذكر رعايتهما لك حال الصغر وضعف الطفولة، حملتك أمك ـ يا عبد الله ـ في أحشائها تسعة أشهر، وهنًا على وهن، حملتك كرهًا ووضعتك كرهًا.
فكم ليلة باتت بثقلك تشتكي لها من جواها أنّة وزفير
وفي الوضع لو تدري عليك مشقة فكم غصص منها الفؤاد يطير
وكم مرةٍ جاعت وأعطتك قوتها صفوًا وإشفاقًا وأنت صغير
هذه حال أمك، أما أبوك ـ أيها الأخ ـ فتذكر كده وسعيه، وتنقله وسفره، وتحمله الأخطار والأكدار، بحثًا عن كل ما تصلح به معيشتك، وإن كنت ناسيًا فلا تنس انشغاله بك، وبصلاحك ومستقبلك وهمومك.
نعم أيها الأخ الكريم، هذان هما والداك، ألا يستحقان منك البر والإحسان والعطف والحنان؟! بلى والله، إن ذلك لمن أعظم الحقوق.
أيها المؤمنون، إن مما يحثنا ويشجعنا على بر الوالدين تلك الفضائل التي رتبها الكريم العليم على بر الوالدين، فمن تلك الفضائل أن بر الوالدين سبب لدخول الجنة، ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا: ((رغم أنف، ثم رغم أنف، ثم رغم أنف))، قيل: من يا رسول الله؟ قال: ((من أدرك أبويه عند الكبر، أحدهما أو كليهما، فلم يدخل الجنة))[4].
ومن فضائل بر الوالدين تفريج الكربات وإجابة الدعوات، فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله يقول: ((انطلق ثلاثة رهط ممن كان قبلكم، حتى أواهم المبيت إلى غار فدخلوه، فانحدرت صخرة من الجبل فسدت عليهم الغار، فقالوا: إنه لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم، فقال رجل منهم: اللهم كان لي أبوان شيخان كبيران، وكنت لا أَغْبِقُ قبلهما أهلاً ولا مالاً، فنأى بي في طلب شيء يومًا، فلم أرح عليهما حتى ناما، فحلبت لهما غَبُوقَهما فوجدتهما نائمين، وكرهت أن أَغبق قبلهما أهلاً أو مالاً، فلبثت والقَدَح على يدي أنتظر استيقاظهما، حتى برق الفجر فاستيقظا فشربا غبوقهما، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرج عنا ما نحن فيه من هذه الصخرة، فانفرجت شيئًا لا يستطيعون الخروج))، قال النبي : ((وقال الآخر: اللهم كانت لي بنت عم، كانت أحب الناس إليّ، فأردتها عن نفسها فامتنعت مني، حتى ألمت بها سنة من السنين، فجاءتني فأعطيتها عشرين ومائة دينار على أن تخلي بيني وبين نفسها، ففعلت، حتى إذا قدرت عليها قالت: لا أحل لك أن تفض الخاتم إلا بحقه، فتحرجت من الوقوع عليها فانصرفت عنها، وهي أحب الناس إليّ، وتركت الذهب الذي أعطيتها، اللهم إن كنت فعلت ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة، غير أنهم لا يستطيعون الخروج منها))، قال النبي : ((وقال الثالث: اللهم إني استأجرت أجراء، فأعطيتهم أجرهم غير رجل واحد، ترك الذي له وذهب، فثمرت أجره حتى كثرت منه الأموال، فجاءني بعد حين فقال: يا عبد الله، أد إليّ أجري، فقلت له: كل ما ترى من أجرك، من الإبل والبقر والغنم والرقيق، فقال: يا عبد الله، لا تستهزئ بي، فقلت: إني لا أستهزئ بك، فأخذه كله فاستاقه، فلم يترك منه شيئًا، اللهم فإن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة فخرجوا يمشون))[5].
ومن فضائل بر الوالدين سعة الرزق وطول العمر، ففي الصحيحين عن أنس مرفوعًا: ((من سره أن يبسط عليه رزقه ويُنسأ في أثره فليصل رحمه))[6]، وبر الوالدين أعظم صور صلة الرحم.
ومن فضائل بر الوالدين ما ورد في شأن من عق والديه، فإن الأحاديث كثيرة مستفيضة في تغليظ عقوق الوالدين، ولو لم يكن في ذلك إلا تحريم الجنة على العاق ـ نعوذ بالله من الخسران ـ لكفى، ففي الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله : ((لا يدخل الجنة قاطع رحم))[7].
أيها المؤمنون، لو لم يكن في عقوق الوالدين وترك برهما إلا أنه غصص وأنكاد يتجرعها من لم يألُ جهدًا في الإحسان إليك لكان كافيًا في حملك على تركه، واستمع ـ بارك الله فيك ـ إلى تلك الزفرات التي أطلقها والد ابتلي بعقوق ابنه له، حتى ترى عظم ذلك وفداحته، قال الوالد مخاطبًا ذلك الابن العاق:
فلما بلغت السن والغاية التي إليها مدى ما كنت فيك أؤملُ
جعلت جزائي غلظة وفظاظة كأنك أنت المنعم المتفضل
فليتك إذا لم ترع حق أبوتي فعلت كما الجار المجاور يفعل
فأوليتني حق الجوار ولم تكن عليّ بما لي دون مالك تبخلُ
فيا أيها المؤمنون، اتقوا الله، وقوموا بما فرض الله عليكم من بر والديكم والإحسان إليهم، فإن حقهما عليكم عظيم كبير، جاء رجل إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب فقال: إن لي أمًا قد بلغ منها الكبر أنها لا تقضي حوائجها إلا وظهري لها مطية، فهل أديت حقها؟ فقال الفاروق المحدَّث رضي الله عنه: (لا، لأنها كانت تصنع بك ذلك، وهي تتمنى بقاءك، وأنت تصنعه وأنت تتمنى فراقها، ولكنك محسن، والله يجزي المحسنين على القليل الكثير).
[1] أخرجه البخاري في مواقيت الصلاة (496), ومسلم في الإيمان (120).
[2] أخرجه البخاري في الجهاد والسير (2782), ومسلم في البر والصلة (4624).
[3] رواه الترمذي في البر والصلة (1821) وسنده جيد.
[4] أخرجه مسلم في البر والصلة (4627).
[5] أخرجه البخاري في الإجارة (2111), ومسلم في الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (4926).
[6] أخرجه البخاري في الأدب (5526), ومسلم في البر والصلة (4638).
[7] أخرجه البخاري في الأدب (5525), ومسلم في البر والصلة (4637).
الخطبة الثانية
أما بعد: فيا أيها المؤمنون، إن للوالدين حقوقًا وواجبات نشير في هذه الخطبة إلى بعضها، رجاء أن يثمر ذلك عملاً صالحًا، وبرًا حانيًا، فلئن كانت النفوس السوية مجبولة على حب من أحسن إليها، فإن من شرائع الدين وسمات المروءة وضرورات العقل أن يقابل الإحسان بالإحسان، قال الله تعالى: هَلْ جَزَاءُ الإحْسَانِ إلا الإحْسَانُ [الرحمن:60].
فمن حقوق الوالدين عليك محبتهما وتوقيرهما على من سواهما، روى البخاري في الأدب المفرد أن أبا هريرة أبصر رجلين فقال لأحدهما: ما هذا منك؟ فقال: أبي، فقال: (لا تسمه باسمه، ولا تمشِِ أمامه، ولا تجلس قبله).
ومن برهما الإحسان إليهما بالقول والعمل والحال، كما قال الله تعالى: وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [الإسراء:23].
ومن حقوقهما الدعاء لهما في الحياة وبعد الممات، قال الله تعالى: وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا [الإسراء:24]، وفي الحديث: ((إن الله عز وجل ليرفع الدرجة للعبد الصالح في الجنة، فيقول: يا رب، أنى لي هذه؟ فيقول: باستغفار ولدك لك))[1].
ومن حقوقهما صلة أهل ودهما، فقد روي عن ابن عمر مرفوعًا: ((إن من أبرّ البر صلة الرجل أهل ودِّ أبيه))[2].
ومن حقوقهما النفقة عليهما إذا كانا محتاجين للنفقة، وعند الولد ما يزيد على حاجته، قال شيخ الإسلام رحمه الله: "على الولد الموسر أن ينفق على أبيه وزوجة أبيه وعلى إخوته الصغار، وإن لم يفعل ذلك كان عاقًا لأبيه، قاطعًا لرحمه، مستحقًا لعقوبة الله في الدنيا والآخرة".
ومن حقوقهما التواضع لهما وخفض الجناح، قال الله تعالى: إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا [الإسراء:23، 24].
هذه ـ أيها المؤمنون ـ بعض الحقوق التي افترضها الله عليكم لوالديكم، ولا يظن من وفقه الله في القيام ببعض الحقوق أنه قد قام بما عليه، وقد جزى والديه حقهما، قال النبي : ((لا يجزي ولد والده إلا أن يجده مملوكًا، فيشتريه فيعتقه))[3]. ورأى ابن عمر رضي الله عنهما رجلاً يمانيًا بالبيت، قد حمل أمه وراء ظهره، وهو يقول:
إني لها بعيرها المذلل إن أذعرتْ ركابها لم أذعر
ثم قال: يا ابن عمر، أتراني جزيتها؟ قال: (لا، ولا بزفرة واحدة). أي: عند الولادة.
اللهم إنا نسألك أن تعيننا على القيام بما افترضت علينا من بر الوالدين.
[1] أخرجه أحمد (10202) وسنده حسن.
[2] أخرجه مسلم في البر والصلة (4631).
[3] أخرجه مسلم في العتق (2779).
ـــــــــــــــــــ(68/109)
جنايات الموضة
...
...
3598
...
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
...
...
الأبناء, الفتن, اللباس والزينة, المرأة, قضايا المجتمع
...
خالد بن عبد الله المصلح
...
...
عنيزة
...
...
...
جامع العليا
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- الموضة آثارها وأخطارها. 2- أخطاء ومخالفات في ألبسة النساء. 3- حرمة التشبه بالكفار. 4- حرمة تشبه الرجال بالنساء والنساء بالرجال. 5- أسباب وقاية المرأة من الفساد. 6- التذكير بواجب الآباء تجاه أولادهم.
الخطبة الأولى
الحمد لله الذي كرّم بني آدم ذكَّرهم وأنَّثهم، وفضّلهم على كثير ممن خلق ورفعهم، فشرع لهم من الشرائع ما يصونهم ويحفظهم، ويحقق في الدارين سعادتهم، أحمده تعالى وأشكره على عظيم فضله وسابغ نعمه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أرسله الله بأحسن الشرائع وأكملها، فبلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين وهو على ذلك، فصلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر عباد الله الصالحين.
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله حق تقاته، واعلموا أن الله منّ عليكم بلباسين عظيمين: لباس تزيّنون به بواطنكم وهو لباس التقوى، ولباس تجمّلون به ظواهركم وتسترون به عوراتكم وهو لباس الظاهر من الثياب وغيرها، قال الله تعالى: يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ [الأعراف:26]، فلباس التقوى يستر عورات القلب ويزينه، ولباس الظاهر يستر عورات الجسم ويجمله.
فمن تقوى الله تعالى والحياء منه ينبثق الشعور باستقباح التعري والتكشف، فمن لا يستحي من الله ولا يتقيه لا يهمه أن يتعرى وأن يدعو إلى العري.
وقد حذر الله سبحانه بني آدم ذكرهم وأنثاهم من اتباع خطوات الشيطان وأعوانه، الذين يسعون إلى تحطيم حياء الإنسان وأخلاقه، ويدعون إلى العريِِ والتهتك والتكشف باسم الزينة والحضارة والتقدم والموضة وغير ذلك من الشعارات البراقة، قال الله تعالى: يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا [الأعراف:27]، وما هذا إلا وسيلة لإشاعة الفساد والمعاصي والرذائل والتلطخِ بأوضار الدنايا والخطايا.
والمتأمل في واقع الناس اليوم وخاصة النساء يؤمن بصدق ما ذكرنا؛ فإن شياطين الإنس والجن سعوا بكل وسيلة وأخذوا بكل سبب لنشر التعري والتهتك بين نساء المسلمين، فسموا التكشف أناقة، والعري حضارة، وبنوا لهم صنمًا جعلوه قبلتهم سموه الموضة التي هي أكبر ما يفسد الأديان، ويهدم البنيان، فاستباحوا بهذه الموضة المحرمات، واستحلوا الموبقات، فاستنزفوا الأموال واستهلكوا الأوقات، وضيعوا الأهداف والغايات، حتى صارت الموضة همَّ كثير من نسائنا وشغلهن الأوحد، يلاحقنها ويتابعنها هنا وهناك. وقد جاءتنا هذه الفتنة الكبرى بألوان من البلايا والرزايا التي ظهرت في ألبسة كثير من نسائنا، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
فمن ذلك أن هذه الموضة التي تعظمها كثير من نسائنا أباحت لهن التعري والتكشف وإظهار المفاتن، فانتشر بين بناتنا ونسائنا لبس الأزياء والثياب التي تظهر الصدور والبطون والظهور وغير ذلك من المفاتن.
وشاع بين كثير من نسائنا وأخواتنا لبس القصير الذي يعري أكثر الساقين، وقد يبدي ما فوق الركبتين، وفشا بين نسائنا لبس الضيق الذي يحجم الجسم ويفصل مقاطع البدن ويظهر مفاتنه، كالبنطلونات وغيرها من الألبسة الضيقة.
وظهر عند كثير من نسائنا لبس الخفيف الذي لا يستر ما خلفه فينكشف ما تحت الثياب، ودرج كثير من نسائنا على لبس الثياب والأزياء التي تكثر فيها الفتحات من الأمام والخلف، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
أيها المؤمنون، اعلموا أن كلّ هذه الألبسة محرمةٌ لا يجوز لبسها للنساء، لا بين الرجال ولا بين النساء، بل إن لابستها ملعونة فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((صنفان من أهل النار لم أرهما: قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات، مميلات مائلات، رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا)) رواه مسلم[1]. فقوله : ((كاسيات عاريات)) ينطبق على جميع الصور التي فشت وشاعت وانتشرت في ألبسة كثير من نسائنا، فالويل الويل لمن عصى الله وتعدى حدوده.
ومن بلايا هذه الفتنة العظمى التي يسمونها الموضة أن سوغت لكثير من نسائنا وبناتنا التشبه بالرجال، فلبست كثير من النساء ملابس الرجال، كالبنطلونات الضيقة أو الواسعة وغيرها، وقصت بعض نسائنا شعورهن على هيئة قصات الرجال، وهؤلاء المتشبهات بالرجال ملعونات، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لعن رسول الله المتشبهين من الرجال بالنساء، والمتشبهات من النساء بالرجال. رواه البخاري[2]، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لعن رسول الله الرجل يلبس لبسة المرأة، والمرأة تلبس لبسة الرجل. رواه أبو داود[3].
ومن رزايا متابعة الموضة والافتتان بها تشبه كثير من نسائنا بالكافرات الفاجرات، أو بالفاسقات من المسلمات في الأزياء والموديلات، وفي الألبسة والقصات، حتى رأينا من بعض نسائنا من تلبس لباسًا فاضحًا قبيحًا وتحتج بالموضة، وسمعنا عن بعض النساء المفتونات بالموضة من تقص شعرها حتى قد تبدو فروة رأسها، أو تقص قصة يسمونها الفرنسية، وتبلغ السفاهة وقلة الدين والعقل منتهاها عند بعض نسائنا فيستسغن قص شعورهن قصة تسمى قصة كلب فلانة، يريدون إحدى الكافرات.
فكل صرعة تصدرها دور الأزياء الغربية أو الشرقية يتلقّفها بعض نساء المسلمين بلا تردد ولا تفكير، ولا مراجعة قيم ولا دين، بل حالهن كما قال الأول:
إذا قالت حذام فصدقوها فإن القول ما قالت حذام
ولا شك أن التشبه بالكفار أمر خطير عظيم قد يوصل إلى الكفر بالله العظيم، قال النبي فيما أخرجه أحمد وأبو داود بسند جيد عن ابن عمر رضي الله عنهم: ((من تشبه بقوم فهو منهم))[4].
وقد تعتذر بعض المتشبهات بالكافرات في لباسهن بأنها لا تقصد بهذا الزي وبهذا اللباس التشبه بالكفار، فالجواب عن هذه الشبهة ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "ما نهي عنه من مشابهتهم ـ أي: الكفار ـ يعُم ما إذا قصدت مشابهتهم أو لم تقصد"[5] فالحذر الحذر من التشبه بهم وتقليدهم.
ومن ويلات الموضة وبلائها أن جعلت بعض نسائنا يلهث وراء الاشتهار بين الناس بلباس مميز، أو بقصة غريبة ملفتة للأنظار، وقد ورد التحذير عن هذا الفعل، فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((من لبس ثوب شهرة في الدنيا ألبسه الله ثوب مذلة يوم القيامة ثم ألهب فيه نارًا)) رواه أبو داود وابن ماجه بإسناد جيد[6]. والمراد بلباس الشهرة: ما يتميز به لابسه عن ألبسة الناس بلون أو بشكل أو بهيئة، بحيث يجذب انتباه الناس، ويسرق أنظارهم إلى اختيال لابسه وعجبه على الناس[7].
أيها المؤمنون إننا لا نحارب التجمل أو ننهى عن التزين، ولكننا ندعو إلى ضبط التجمل والتزين بضابط الشرع، فإن الله جميل يحب الجمال، ولكن شتان بين التجمل والتزين وبين التكشف والتعري والتهتك.
[1] أخرجه مسلم في اللباس والزينة (3971).
[2] أخرجه البخاري في اللباس (5435).
[3] أخرجه أبو داود في اللباس (3575).
[4] أخرجه أبو داود في اللباس (3512)، وأحمد من حديث ابن عمر (4868).
[5] الاقتضاء (1/420).
[6] أخرجه أبو داود في اللباس (3511)، وابن ماجه في اللباس (3597).
[7] أحكام المرأة (3/335).
الخطبة الثانية
أما بعد: فقد سمعنا شيئًا مما جنته الموضة على نسائنا، ولا شك ـ أيها المؤمنون ـ أن هذا الأمر خطر داهم يجب أن نتعاون جميعًا على سد منافذه، وإغلاق أبوابه، وعلاج أعراضه، وقمع دعاته. وإلا فإن دائرته ستتسع وتعم البلوى به، وهذا يهدد بفساد المجتمع وخرابه، إذ إن المستهدف الأول في هذه الفتنة هم نساؤنا وبناتنا وأخواتنا، وهؤلاء هن المصنع الأساسي للرجال والأجيال، فإذا فسد هؤلاء فسدت الأسر، ويتلوها فساد المجتمع، وهذا هو السر وراء اهتمام كثير من أعداء الأمة وعملائهم بإفساد المرأة، وقد حذر النبي من فساد النساء فقال: ((فاتقوا الدنيا، واتقوا النساء؛ فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء)) رواه مسلم[1]. وقد جاء في بعض الآثار أن فتنتهن كانت المبالغة في التزين وإغواء الرجال بذلك.
أيها المؤمنون، إن المرأة ضعيفة عاطفية، سريعة التأثر والانجذاب، فعلى أولياء الأمور من الآباء والإخوان وغيرهم القيام بتوجيه النساء ورعايتهن، وحمايتهن من أشرار هذه الفتنة التي أفسدت كثيرًا من النساء، فإن هذا من أعظم حقوقهن على أوليائهن، قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6].
ومن ضروريات القيام بواجب الوقاية والحماية لنسائنا وبناتنا قطع أسباب الفتنة والفساد التي تغري بالوقوع في الرذائل والخطايا والموبقات، ومن أبرز هذه الأسباب ما تبثه بعض وسائل الإعلام وقنوات البث المباشر التي تنشر صور النساء المتبرجات من الكافرات أو الفاسقات.
ومن أسباب هذا البلاء المجلات التي تتصدر صفحاتها صور النساء الفاتنات أو الفاسقات، وخاصة ما يسمى بمجلات الأزياء الشرقية منها أو الغربية. فعلى أولياء الأمور أن يمنعوا ذويهم من هذه المجلات ومن تلك البرامج.
ومن أسباب هذه الفتنة أيضا بعض المحلات التجارية ومحلات الخياطة التي تتسابق في عرض آخر التقليعات وأحدث الموضات دون أن يراقبوا الله تعالى فيما يحل من هذه المعروضات وما يحرم، فعلى هؤلاء أن يتقوا الله، وليعلموا أن فعلهم هذا من إشاعة الفاحشة بين المؤمنين، وقد قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النور:19].
وعلى أولياء الأمور أن يمنعوا نساءهم من التعامل مع هؤلاء، وليذكروهن بأن من ترك لله شيئًا عوضه الله خيرًا منه.
وعلى الجهات المسؤولة أن تأخذ على أيدي هؤلاء التجار؛ حماية للمجتمع من أخطارهم وشرورهم.
ومن واجب أولياء الأمور تجاه أبنائهم وبناتهم تنبيههم على الأخطاء، وتفقدهم في البيوت وعند الخروج، فيمنعوا نساءهم وأهليهم عن كل ما يخالف الحشمة والحياء.
أما ما يفعله كثير منا وللأسف من عدم المبالاة بملابس نسائهم ولو كان عليه ملاحظات فإن هذا من التفريط والغش لهم، وقد توعد النبي من فعل ذلك بحرمان الجنة نعوذ بالله من الخذلان، فعن معقل بن يسار رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: ((ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة)) متفق عليه[2]، وفي رواية: ((فلم يحطها لم يجد رائحة الجنة)).
فاتقوا الله أيها المؤمنون، وقوموا بما أوجب الله عليكم من المحافظة على بناتكم ونسائكم وأهليكم، فإنكم غدًا بين يدي الله تعالى موقوفون، وعن هذه الأمانة مسؤولون، واعلموا أن حسن تربية البنات سبب للنجاة من النار، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله : ((من ابتلي من هذه البنات بشيء فأحسن إليهن كن له سترًا من النار)) متفق عليه[3]، وأعظم الإحسان إليهن تربيتهن على الطهر والعفاف والحياء والحشمة والدين.
أعاننا الله وإياكم على القيام بهذه الأمانة.
[1] أخرجه مسلم في الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (4925).
[2] أخرجه البخاري في الأحكام (6618)، ومسلم في الإيمان (203).
[3] أخرجه البخاري في الزكاة (1329)، ومسلم في البر والصلة (4763).
ـــــــــــــــــــ(68/110)
حق الجار
...
...
3600
...
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
...
...
الآداب والحقوق العامة, قضايا المجتمع
...
خالد بن عبد الله المصلح
...
...
عنيزة
...
...
...
جامع العليا
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- منزلة الجار في الإسلام. 2- حقوق الجار الكبرى. 3- الضابط في تحديد الجار. 4- من أحول الناس اليوم مع جيرانهم.
الخطبة الأولى
أما بعد: أيها المؤمنون، عباد الله، إن من نعم الله تعالى علينا في هذه الشريعة المباركة أن ألف بين قلوب المؤمنين وجمع شتاتها ولمَّ شعثها.
وقد شرع الله سبحانه وتعالى لتحقيق ذلك شرائع وحد حدودًا، ففرض سبحانه وتعالى على المؤمنين واجبات وحقوقًا لبعضهم على بعض، تصلح ذات بينهم، وتجمع قلوبهم، وتؤلف بين صدورهم، فكان من تلك الشرائع حق الجوار.
أيها المؤمنون، إن حق الجار على جاره مؤكد بالآيات البينات والأحاديث الواضحة، فهو شريعة محكمة وسنة قائمة، قال الله تعالى: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا [النساء:36]. ففي الآية الوصية بالجيران كلهم قريبهم وبعيدهم، مسلمهم وكافرهم.
وقد أكد النبي حق الجار تأكيدًا عظيمًا، ففي الصحيحين من حديث عبد الله بن عمر وعائشة رضي الله عنهم قالا: إن رسول الله قال: ((ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه))[1]. وهذا يدل على تأكيد حق الجار؛ فإن النبي ظن أن نهاية هذا الحرص وتلك الوصايا من جبريل عليه السلام أن يكون للجار نصيب من الميراث.
أيها المؤمنون، إن حقوق الجار كثيرة عديدة، وهي في الجملة دائرة على ثلاثة حقوق كبرى: الإحسان إليهم، وكف الأذى عنهم، واحتمال الأذى منهم.
أما الحق الأول فإنه الإحسان إلى الجيران، فقد أمر الله سبحانه وتعالى بذلك في كتابه فقال سبحانه: وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ [النساء:36]. وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال : ((ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليحسن إلى جاره))[2]. وقد أمر النبي بإكرام الجار وجعل ذلك من لوازم الإيمان، فقال : ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره))[3].
أيها المؤمنون، إن من الإحسان إلى الجيران سلامة القلب عليهم، وحب الخير لهم، ففي البخاري ومسلم من حديث أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((والذي نفسي بيده، لا يؤمن عبد حتى يحب لجاره ما يحب لنفسه))[4].
وفي هذا تأكيد حق الجار، وأن الذي لا يحبّ لجاره ما يحبّ لنفسه من الخير فإنه ناقص الإيمان، وفي هذا غاية التحذير ومنتهى التنفير عن إضمار السوء للجار قريبًا كان أو بعيدًا.
أيها المؤمنون، إن من الإحسان إلى الجار الحرص على بذل الخير له قليلا كان أو كثيرًا، كما قال الله تعالى: لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا [الطلاق:7]، وفي صحيح البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا: ((يا نساء المسلمات، لا تحقرن جارة لجارتها ولو فرسن شاة))[5]. فرسنُ الشاة هو حافرها. قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "أي: لا تحقرن أن تهدي إلى جارتها شيئًا ولو أنها تهدي ما لا ينتفع به في الغالب"[6].
والمقصود أن يتواصل الخير والود والبر بين الجيران، ففي صحيح مسلم من حديث أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((يا أبا ذر، إذا طبخت مرقة فأكثر ماءها وتعاهد جيرانك))[7].
وأولى الناس بالإحسان من الجيران أقربهم منك بابًا، ففي البخاري من حديث عائشة قالت: يا رسول الله، إن لي جارين، فإلى أيهما أهدي؟ قال : ((إلى أقربهما منك بابًا))[8].
وأما ثاني الحقوق فهو كف الأذى عنهم، ففي الصحيحين عن أبي هريرة مرفوعًا: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره))[9]. ولهما عنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن)), قيل: من يا رسول الله؟ قال: ((الذي لا يأمن جاره بوائقه))[10]. أي: لا يأمن شره وخطره، وفي رواية لمسلم قال : ((لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه))[11].
وهذا فيه تعظيم حق الجار ووجوب كف الأذى عنه، وأن إضراره من كبائر الذنوب وعظائم المعاصي، وقد عظم الله جل وعلا إلحاق الأذى بالجار، وغلظ فيه العقوبة، ففي الصحيح عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: سُئل رسول الله : أي الذنب أعظم؟ فقال: ((أن تجعل لله ندًا وهو خلقك))، قلت: ثم أي؟ قال: ((أن تقتل ولدك خشية أن يأكل معك)), قلت: ثم أي؟ قال: ((أن تزاني حليلة جارك))[12]. وفي مسند الإمام أحمد قال : ((لأن يسرق من أهل عشرة أبيات أيسر من أن يسرق من بيت جاره))[13].
وأما ثالث الحقوق الكبرى فهو احتمال الأذى منهم والصبر على خطئهم والتغافل عن إساءتهم، ففي مسند الإمام أحمد عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إن الله عز وجل يحب ثلاثة ويبغض ثلاثة))، وذكر في الثلاثة الذين يحبهم: ((رجل كان له جار سوء يؤذيه فيصبر على أذاه حتى يكفيه الله إياه بحياة أو موت))[14].
[1] أخرجه البخاري في كتاب الأدب (6015)، ومسلم في البر والصلة والآداب (2625).
[2] أخرجه مسلم في الإيمان (48).
[3] أخرجه البخاري في كتاب الأدب (6019)، ومسلم في الإيمان (47).
[4] أخرجه مسلم في الإيمان (45).
[5] أخرجه البخاري في الأدب (6017)، ومسلم في الزكاة (1030).
[6] الفتح (10/445).
[7] أخرجه مسلم في البر والصلة والآداب (2625).
[8] أخرجه البخاري في الأدب (6020).
[9] أخرجه البخاري في كتاب الأدب (6018)، ومسلم في الإيمان (47).
[10] أخرجه البخاري في الأدب (6016).
[11] أخرجه مسلم في الإيمان (46).
[12] أخرجه البخاري في تفسير القرآن (4477)، ومسلم في الإيمان (86).
[13] أخرجه أحمد (23342) من حديث المقداد بن الأسود.
[14] أخرجه أحمد (21020) من حديث أبي ذر الغفاري رضي الله عنه.
الخطبة الثانية
أما بعد: أيها المؤمنون، إن للجوار في دين الإسلام حقًا عظيمًا، حتى إن جبريل أعاد في أمر الجار وأبدى تأكيدًا لحقه وبيانًا لحرمته.
فاتقوا الله عباد الله، فإن الكرام خيار الناس للجار، وقد قيل:
يلومونني أن بِعت بالرخص منزلي ولم يعلموا جارًا هناك ينغص
فقلت لهم: كفّوا الملام فإنما بجيرانها تغلو الديار وترخص
أيها المؤمنون، إنّ الجار الذي تجب له تلك الحقوق هو الذي يُعَدّ في العرف جارًا، وليس لذلك ضابط من عدد أو غيره، فالمرجع في تحديد من هو الجار يعود إلى عرف الناس، فكل من عده الناس جارًا لك فهو جار تجب له تلك الحقوق، وأكثرهم فيها من كان أقربهم منك بابًا.
أيها المؤمنون، إن الناظر في واقع الناس اليوم يرى كيف أن الدنيا قد استولت على قلوب كثير من الناس، فعصفت بكثير من الأخلاق والقيم، وأنست كثيرًا من الحقوق والواجبات الشرعية، فتباعدت القلوب وتنافرت النفوس، فعق الولد أباه، وقطع الأخ أخاه، وهجر الجار جاره، فضاعت الحقوق، وقامت سوق القطيعة والعقوق إلا من رحم الله، فكم هم الذين أساؤوا إلى جيرانهم فمنعوهم الإحسان، وبذلوا لهم القطيعة والأذى.
فاتقوا الله عباد الله، وأحسنوا إلى جيرانكم، مروهم بالمعروف وانهوهم عن المنكر، ابذلوا لهم الخير ما استطعتم، وردوا عنهم الشر ما ملكتم، تلطفوا إليهم بالهدية والزيارة، فإن لم تجدوا خيرًا تبذلونه فلا أقل من كف الشر عن أنفسهكم
ـــــــــــــــــــ(68/111)
حقوق الأبناء
...
...
4178
...
الأسرة والمجتمع
...
...
الأبناء
...
فرج بن حسن البوسيفي
...
...
بنغازي
...
...
...
الأرقم بن أبي الأرقم
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- عناية الإسلام بالأبناء في شتى مراحل حياتهم. 2- استحباب الأذان في أذن المولود. 3- على الوالدين الرضا بالمولود ذكرًا كان أم أنثى. 4- الحرص على اختيار الاسم الحسن. 5- وجوب نفقة الوالد على ولده بالحلال. 6- أهمية الرحمة في تربية الأبناء. 7- من حق الأولاد تربيتهم على الأخلاق الحسنة وتعليمهم وتقوية صلتهم بالله. 8- الحث على غرس الرجولة في الأولاد.
الخطبة الأولى
اهتم الإسلام بالوليد من أول لحظات ولادته، وعمل على توثيق صلته بخالقه في جميع مراحل حياته؛ من تسميته واختيار مطعمه وتعليمه وتنشئته تنشئة صالحة وتربيته على الرجولة وتعميق معاني الخير فيه، حتى يشبّ فردًا صالحًا يؤدّي حق دينه ووطنه عليه.
فكان أول شيء يفعله الوالد بولده عند بروزه للحياة أن يؤذّن في أذنه، والحكمة من ذلك أن يكون أول ما يطرق سمعه تكبير الله وشهادة الإسلام، فقد أذّن النبي في أذن الحسن بن علي رضي الله عنهما حين ولدته فاطمة رضي الله عنها.
ومن حق وواجب الوالد نحو ولده أن يرضى بالمولود ذكرًا كان أو أنثى، فمن رواسب الجاهلية في هذا العصر أن يفرح البعض بالبنين، ويضيقوا ذرعًا بالبنات، وذلك يتنافى مع التسليم بقضاء الله وحكمته العليا التي يعجز البشر عن إدراك مراميها.
والله سبحانه وتعالى قد أوضح في محكم كتابه أن الأولاد هبة منه لعباده، فقد يهب البعض إناثًا فقط، أو العكس، أو يهبه الصنفين معًا، وأحيانًا يحرمه منهما، فالله عز وجل يعلم مصلحة عباده، وهو وحده سبحانه صاحب الإيجاد والمنع، لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاء يَهَبُ لِمَنْ يَشَاء إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَن يَشَاء الذُّكُورَ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَن يَشَاء عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ [الشورى:49، 50].
وبيّن الإسلام أن من سلوك الجاهلية أنهم يكرهون الإناث من الأولاد: وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلاَ سَاء مَا يَحْكُمُونَ [النحل:58، 59].
وبعض الناس يفرّق في معاملته بين أولاده الذكور والإناث، والرسول يقول: ((من ابتُلِي من هذه البنات بشيء فأحسن إليهنّ كنّ سترًا من النار)).
ومن حق ابنك عليك أن تختار له اسمًا حسنًا؛ لأن الاسم يلازمه، والاسم الحسن يعيش صاحبه حياته متفائلاً بعيدًا عما توحي به الأسماء القبيحة من منغّصات، روى مالكٌ في موطئه في باب: ما يكره من الأسماء عن يحيى بن سعيدٍ أن رسول الله قال للقْحَة تحلب: ((من يحلب هذه؟)) فقام رجلٌ، فقال له رسول الله : ((ما اسمك؟)) فقال له الرجل: مُرّة، فقال له رسول الله : ((اجلس))، ثم قال: ((من يحلب هذه؟)) فقام رجلٌ فقال له رسول الله : ((ما اسمك؟)) فقال: حربٌ، فقال له رسول الله : ((اجلس))، ثم قال: ((من يحلب هذه؟)) فقام رجلٌ فقال له رسول الله : ((ما اسمك؟)) فقال: يعيش، فقال له رسول الله : ((احلب)).
قال الإمام الباجي في شرحه للموطأ: روى عبد الله بن عمر أن النبي غيّر اسم ابنةٍ لعمر بن الخطاب، كان اسمها عاصيةً فسماها جميلةً، وروى الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبيه أن أباه جاء إلى النبي فقال له: ((ما اسمك؟)) قال: حزنٌ، قال له: ((أنت سهلٌ))، قال: لا أغيّر اسمًا سمّانيه أبي. قال سعيد بن المسيب رضي الله عنه: فما زالت الحزونة فينا بعد.. إلى قوله رحمه الله: فاسم حربٍ يذكّر بما يحذر من الحرب وكذلك مُرّة، فتكرهه النفوس لذلك, وكان النبي يحبّ الفأل الحسن, وقد روي عنه أنه قال: ((أحب الفأل))، قيل له: وما الفأل؟ قال: ((الكلمة الحسنة))، وهي التي تذكر بما يرجوه من الخير فتسرّ به النفس، وربما كان بمعنى البشارة بما قدّره الله عز وجل من الخير، ولذلك قال النبي يوم الحديبية وقد طلع سهيل بن عمر: ((قد سهل لكم من أمركم))، فكان كما قال . وذكر الباجي مسائل ممتعة في الباب لا ينبغي للطالب الجهل بها.
وقال عمر لرجل: ما اسمك؟ فقال: جمرة، فقال: ابن مَن؟ فقال: ابن شهاب، قال: ممن؟ قال: من الحرقة، قال: أين مسكنك؟ قال: بحرة النار، قال: بأيّها؟ قال: بذات لظى، قال عمر: أدرك أهلك فقد احترقوا، قال: فكان كما قال عمر بن الخطاب .
ومن حقّ ابنك أن تنفق عليه، فقد اقتضت إرادة الله تعالى إبقاء نوع الإنسان بالتناسل، وجرى بذلك قضاؤه، ولما كان الولد لا يعيش في العادة إلا بتعاون من الوالد والوالدة في أسباب حياته فقد أوجب الشرع الحكيم على كل منهما ما يتيسّر له، والمتيسّر من الوالدة الإرضاع، ومن الوالد الإنفاق قدر استطاعته، وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ [البقرة:233]. فالوالدة يجب عليها إرضاع ولدها إن لم يكن هناك عذر مانع من مرض ونحوه؛ لأن لبنها أفضل لبن لولدها باتفاق الأطباء، حيث كُوِّن من دمها، فهو الذي يلائمه ويناسبه، وقد اقتضت الحكمة الإلهية بأن تكون حالة لبن الأم في التغذية ملائمة لحال الطفل بحسب درجات سنه.
وقال : ((أفضل دينار ينفقه الرجل دينار ينفقه على عياله، ودينار ينفقه على فرسه في سبيل الله، ودينار ينفقه على أصحابه في سبيل الله))، فبدأ بذكر العيال، فأيّ رجل أعظم من رجل ينفق على عيال صغار، يعفّهم الله، وينفعهم به ويغنيهم؟! وإذا فرّط الأبوان أو أحدهما في قوت أولادهما فقد باءا بالإثم والخطيئة، وكفى بالمرء إثمًا أن يضيّع من يقوت، كفى بالمرء إثمًا أن يضيع من يعول.
ويجب على الآباء تحرّي الطيب الحلال؛ ليطعموا منه أولادهم، حتى يكونوا نبتًا طيبًا، لم يختلط بغذائهم كسب حرام من مال السرقة والرشوة والربا والاحتيال، قال الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6]، فالله سبحانه وتعالى أمر المؤمنين بوقاية أنفسهم وأهليهم من النار، وذلك بالابتعاد عن كل ما يخالف أوامره، والذي من جملته كسب الحرام، وأيما جسد نبت من سحت فالنار أولى به.
من حق الأولاد على والديهم الرحمة بهم، فالطفل في حاجة إلى غرس الثقة في نفسه، وذلك يبدأ بإحاطته بنوع من الحنان والشفقة والرحمة، حتى لا ينشأ في رعب وفزع، وأمر الإسلام بالرحمة مع كل الناس، وبخاصة الأولاد، وقال : ((إنما يرحم الله من عباده الرحماء))، وكان يقبّل الحسن والحسين وعنده الأقرع بن حابس التميمي، فقال الأقرع: إن لي عشرة من الولد ما قبّلت منهم أحدًا قط، فنظر إليه ثم قال: ((من لا يَرحم لا يُرحم)).
وعَجِب أعرابي من تقبيل الصبيان فقال: إنكم تقبّلون الصبيان وما نقبّلهم، فقال : ((أوَأملك لك أن نزع الله الرحمة من قلبك))، وقال أحد الصحابة: ما رأيت أحدًا كان أرحم الناس بالعيال من رسول الله ، وعثر أسامة بن زيد بعتبة الباب فدمي، فجعل النبي يمصّه ويقول: ((لو كان أسامة جارية لحلّيتها ولكسوتها حتى أنفّقها)).
وعثر الحسن والنبي على منبره فحمله وقرأ: إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ [التغابن:15]، وخرج بالحسين فركب عنقه وهو ساجد، فأطال السجود بالناس حتى ظنوا أنه قد حدث أمر، فلما قضى صلاته قالوا: قد أطلت السجود يا رسول الله حتى ظننا أنه قد حدث أمر، فقال: ((إن ابني قد ارتحلني فكرهت أن أعجله حتى يقضي حاجته)).
وجاء رجل لعبد الله بن المبارك فشكا إليه بعض ولده، فقال: هل دعوتَ عليه؟ قال: نعم، قال: أنت أفسدته، ((إنما يرحم الله من عباده الرحماء)).
من يرحم الخلق فالرحمن يرحمه ويكشف الله عنه الضر والباسا
ففي صحيح البخاري جاء متصلاً: لا يرحم الله من لا يرحم الناس
ومن حق الأولاد التربية، فالرحمة التي يجب أن يستظل بها الأولاد لا تعني التقصير في حقهم وإهمالهم من أنواع التربية التي يتعين على الآباء أن يمرّنوهم عليها حتى ينشؤوا نشأة طيبة، ويتربّوا على المكارم، ويتخلّقوا بكريم الصفات؛ ليكونوا دعائم قوية للحفاظ على العرض والدين.
قال الشافعي: "إياك أن تسترضي الولد إذا غضب بلين الكلام وخفض الجناح؛ فإن ذلك يتلف حاله، ويهون عليه العقوق، بل ذَكِّرْهُ بخطئه، وما أعد له من العقاب عليها، وإياك أن تسبه أو تشتمه؛ فإن ذلك يجرئه بمثله على إخوانه، بل معك".
ومن حق الأولاد أن يبسط الوالدان لأولادهم الأخلاق والقيم التي نادى بها الإسلام، ويزودوهم بها صغارًا، ليكبروا وقد تحلّوا بالفضائل، فالطفل ينشأ على ما كان عوّده أبوه، وقال : ((كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهوّدانه أو ينصّرانه أو يمجّسانه))، وإن أفضل هدية يقدمها الوالدان لأولادهم الأدب الحسن.
ومن حق الأبناء أن تصلهم بالله عز وجل، حيث ترغبهم بتعاليم دينهم، وتحبيب عبادة الله إليهم، وتعويدهم على طاعته، حتى يلتزموا الطريق المستقيم في نموهم وجميع مراحل حياتهم، ولقد بيّن لنا سيدنا لقمان عليه السلام، بيّن الخط الرباني السديد؛ لينظر المربّون التطبيق العملي في التربية القرآنية للأولاد، وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13]، يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ [لقمان:16-19].
وهذا رسولنا الكريم يربي ابن عمه على الصلة بالله عز وجل، حيث يقول لابن عباس: ((يا غلام، إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، إذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك بشيء إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك بشيء إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام، وجفّت الصحف)).
ومن حق الأولاد أن يهتمّ وليّهم بتعليمهم، فإن ديننا الحنيف جاء حربًا على الأمّية والجهالة، والنبي جاء بالقرآن الكريم ليعلمنا الكتاب والحكمة، فهلاّ علّمنا أولادنا القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، وهلاّ علّمناهم مكارم الأخلاق وما يصلح الدنيا ويوصل للآخرة بسلام. إن أول ما يجب تعليمه للطفل أمور دينه التي جاء بها القرآن الكريم، ووضحتها السنة النبوية الشريفة، ثم بعد ذلك يتعلم كل ما يقدر على تعلمه من معارف وعلوم نافعة، وقال عمر بن الخطاب : (علّموا أولادكم السباحة والرمي والفروسية).
وحق عليك ـ أيها الوالد وأيتها الوالدة ـ أن تبعثا بأولادكم إلى المسجد ليتعلموا القرآن الكريم ويحفظوه، بدلاً من التسكّع في الطرقات والأسواق والعكوف أمام شاشة المرئية، حيث تضيع منهم الفرص والأوقات، فيكونوا من الجاهلين، وذلك لأن الصبي إذا بدأ حياته مع القرآن الكريم وعرف تعاليم الدين الحنيف اختلطت هذه التعاليم بشخصيته كلما نما وبلغ مبلغ الرجولة، قال : ((مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر، وفرّقوا بينهم في المضاجع)).
حرص الإسلام على أن يشبّ صغارنا بعيدًا عن تيارات الميوعة والتخنّث وحياة الترف التي تبعدهم عن القيام بدورهم في الحياة، فعليكم ـ أيها المؤمنون ـ بإنماء مواهب أولادكم وبناء شخصياتهم، فلا يُهمل رأيهم، ولا يُكبت شعورهم، ولا يُتجاهل إحساسهم بذات أنفسهم، راقبوا تصرفاتهم وتطلعاتهم، نظموا حياتهم وهذبوها، ربوا الذكور على الرجولة ليعيشوا رجالاً ويموتوا أبطالاً، عودوا بناتكم على العفة والطهارة ليخرج من تحت أيديهن جيل نقي قوي.
قال أحد الماضين في تعريف الولد: "ثمار قلوبنا، وعماد ظهورنا، ونحن لهم أرض ذليلة وسماء ظليلة، وبهم نثور على كل جليلة، فإن طلبوا أعطهم، وإن غضبوا فأرضهم، يمنحوك ودهم، ويحبوك جهدهم، ولا تكن عليهم ثقلاً ثقيلاً، فيملوا حياتك، ويودوا وفاتك، ويكرهوا قربك".
إن الرجل لا يصلح للنعومة والرقة، فكم هو الفرق بين الدجاج والصقور، وبين النعاج والنمور، دفعت امرأة من الصحابيات لابنها يوم أحد السيف، فلم يطق حمله، فشدته على ساعده، ثم أتت به النبي فقالت: يا رسول الله، هذا ابني يقاتل عنك، فقال : ((أي بُني، احمل ها هنا))، فأصابته جراحة فصُرع، فقال النبي : ((لعلكِ جزعت؟)) فقالت: لا، يا رسول الله.
وكانت النسوة من السلف الصالح يحرضن أولادهن على تلقي العلم النافع وحضور حلقه ومجالسه، فمروا أولادكم ـ أيها المؤمنون ـ بتعلم القرآن والمحافظة على شرائع الإسلام، فإن رسول الله قال: ((كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته)).
ـــــــــــــــــــ(68/112)
صلة الرحم
...
...
4179
...
الأسرة والمجتمع
...
...
الأرحام
...
فرج بن حسن البوسيفي
...
...
بنغازي
...
...
...
الأرقم بن أبي الأرقم
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- للأقارب حقوق وواجبات. 2- أهمية صلة الرحم وما جاء من النصوص في ذلك. 3- وسائل صلة الرحم. 4- من آداب الزيارة.
الخطبة الأولى
وبعد: فلأقاربك عليك حقوق وواجبات، ولك عليهم حقوق وواجبات، فرض ديننا وشريعتنا أن نراعي هذه الحقوق والواجبات.
فمن تلك الحقوق عدم التباعد والعقوق، وجعل الله اللعنة فيمن أعرض عن أمر الله: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ [محمد:22، 23]، ففي هذه الآية يذكّرنا ربنا بأن السخط والغضب على الذين يفسدون في الأرض بعد إصلاحها، ويقطعون صلتهم بأقاربهم من ذويهم.
لا خير في قربى بغير مودة ولرب منتفع بودّ أباعد
وإذا القرابة أقبلت بمودة فاشدد لها كفّ القبول بساعد
قال رسول الله : ((من سرّه أن يُبسط له في رزقه وأن يُنسأ له في أثره فليصل رحمه))، أي: من سره أن يوسع الله عليه في الرزق وأن يؤخر فيطيل الله عمره ببقاء ذكراه فليصل قرابته.
هذا حديث شريف مبارك، يرغب فيه رسول الله الأقارب أن يصلوا أرحامهم، كعادته في إرساء دعائم المجتمع المثالي المبارك.
أسرتك ـ أيها المؤمن ـ تتكون من أبيك وأمك، ومنك ومن إخوتك وأخواتك، وتمتدّ فتشمل أقاربك القريب منهم والبعيد، وديننا الإسلامي الحنيف حريص على أن تكون الروابط في الأسرة قوية، وأن تكون الصلات بين أفرادها وثيقة؛ لأن الأسرة هي الوحدة الصغرى التي يتكون منها المجتمع، ومتى كانت الأسر قوية كان المجتمع قويًا متماسكًا. ويتضح ذلك في هذا الحديث، فالرسول يرغب في صلة ذي القربى وفي برّهم، ويعد من يبرّ أقاربه أن الله يوسع له في رزقه، ويمدّ في عمره بتوفيقه إلى الخير والأعمال الطيبة التي تجعل حياته مباركة طويلة وإن قصرت، وتجعل ذكره جميلاً باقيًا بعد موته.
ووسائل البر بالأقارب كثيرة، منها أن يكون المرء رفيقًا بهم، ويحسن معاملتهم، ويعمل على إزالة ما قد يكون بينهم من خلاف، ويفعل ما يحبون، ويجتنب ما يكرهون، ويعين فقيرهم، ويعطف على ضعيفهم، ويشارك في مسراتهم وأحزانهم، ويبذل لهم ما يستطيع من ماله ومساعدتهم ونصيحتهم.
وليس أخي من ودّني بلسانه ولكن أخي من ودّني في النوائب
ومن مالُه مالي إذا كنت معدمًا ومالي له إن عضّ دهرٌ بغارب
فلا تحمدنْ عند الرخاء مؤاخيًا فقد تنكر الإخوان عند المصائب
قال تعالى: وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ [الإسراء:26]، وقال عز وجل: إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى [النحل:90]، وقد جاء في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال : ((إن الله خلق الخلق حتى إذا فرغ منهم قامت الرحم فقالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة، قال: نعم، أما ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك؟ قالت: بلى، قال: فذلك لك))، ثم قال رسول الله : ((اقرؤوا إن شئتم: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ [محمد:22، 23])).
وينبغي للإنسان المؤمن حقًّا أن يصل رحمه ولو قطعه أقاربه، فقد جاء رجل لرسول الله وقال: يا رسول الله، إن لي قرابة أصلهم ويقطعوني، وأحسن إليهم ويسيئون إليّ، وأحلم عنهم ويجهلون عليّ، فقال : ((لئن كنت كما قلت فكأنما تسفّهم الملّ ـ أي: الرماد الحار ـ، ولا يزال معك من الله ظهيرٌ عليهم ما دمت على ذلك))، قال الإمام النووي رحمه الله: "أي: كأنما تطعمهم الرماد الحار, وهو تشبيه لما يلحقهم من الألم بما يلحق آكل الرماد الحار من الألم, ولا شيء على هذا المحسن, بل ينالهم الإثم العظيم في قطيعته وإدخالهم الأذى عليه".
ولا أدفع ابن العم يمشي على شفا ولو بلغتني من أذاه الجنادع
ولكن أواسيه وأنسى ذنوبه لترجعه يومًا إليَّ الرواجع
وأفرشه مالي وأحفظ عيبه وأرعاه غيبًا بالذي هو سامع
وحسبك من جهل وسوء صنيعة مُعاداة ذي القربى وإن قيل: قاطع
وجاء في صحيح البخاري عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((ليس الواصل بالمكافئ، ولكن الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها))، وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله : ((الرحم معلقة بالعرش تقول: من وصلني وصله الله، ومن قطعني قطعه الله)).
وكما يثاب المؤمن على صلة رحمه فكذلك يضاعف له أجر صدقته إذا تصدق بها على أقاربه، ففي سنن الترمذي عن سلمان قال: قال : ((الصدقة على المسكين صدقة، وعلى ذي الرحم ثنتان: صدقة وصلة)).
وكان أبو طلحة أكثر الأنصار بالمدينة مالاً من نخل، وكان أحب أمواله إليه بيْرُحَاء، وكانت مستقبلة المسجد، وكان رسول الله يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب، فلما نزلت هذه الآية: لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ [آل عمران:92] قام أبو طلحة إلى رسول الله فقال: يا رسول الله، إن الله تبارك وتعالى يقول: لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ، وإن أحبّ مالي إليَّ بيْرُحَاء، وإنها صدقة لله تعالى، أرجو برّها وذخرها عند الله تعالى، فضعها ـ يا رسول الله ـ حيث أراك الله، فقال رسول الله : ((بخ، ذلك مال رابح، بخ ذلك مال رابح، وقد سمعتُ ما قلتَ، وإني أرى أن تجعلها في الأقربين))، فقال أبو طلحة: أفعل يا رسول الله، فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه.
أقاربك أقوى الناس صلة بك، وأسرع الناس على مشاركتك فيما يسرك أو يحزنك، فأحسن إليهم تلق جزاء ذلك محبة منهم ورضوانًا من الله تعالى، واعلم بأنه لا يضيع جهد أو مال تبذله في سبيل أقاربك؛ لأن الله يجزي به أوفى الجزاء.
واعلموا أنه لا يقاس عمر الإنسان بالشهور والسنين، وإنما يقاس بما فيه من أعمال طيبة باقية الأثر.
قال رسول الله : ((يقول الله تعالى: أنا الرحمن وهذه الرحم، شققت لها اسمًا من اسمي، فمن وصلها وصلته، ومن قطعها بتته))، وقال أبو ذر : أوصاني خليلي عليه السلام بصلة الرحم وإن أدبرت، وأمرني أن أقول الحق وإن كان مرًا. وعندما هاجر رسول الله من مكة إلى المدينة حرّضه رجل على غزو بني مدلج، فقال له : ((إن الله قد منعني من بني مدلج بصلتهم الرحم)).
وكتب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنهما: (مروا الأقارب أن يتزاوروا، ولا يتجاوروا). وقال بعض العلماء: أمرهم بالتزاور دون التجاور؛ لأن التجاور قد يورث التزاحم على الحقوق، وربما وحشة وقطيعة رحم.
ومسألة التزاور متوقفة على العرف، وعلى حال القريب، فَرُبَّ قريب يحب أن يزور وأن يُزار في كل يوم، كما قال أحدهم:
إذا حقّقت من خلّ ودادًا فزره ولا تخف منه مِلالا
وكن كالشمس تطلع كل يوم ولا تك في زيارته هلالا
وفي الوقت نفسه رأينا الذي يفضّل أن تكتحل عيناه بالسم ولا أن ترى لها قريبًا، وفي مثل هذا يصدق قول القائل:
توقّف عن الزيارة كل يوم إذا أكثرت مللت من تزور
وقال : ((زر غِبًّا تزدد حبًّا))، أي: زر بعد أيام، ولا تجعل الزيارة متتالية؛ تزدد حبًا.
ـــــــــــــــــــ(68/113)
صلة الرحم
...
...
3609
...
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
...
...
الآداب والحقوق العامة, الأرحام
...
خالد بن عبد الله المصلح
...
...
عنيزة
...
...
...
جامع العليا
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- منزلة الرحم في الإسلام. 2- فوائد صلة الرحم. 3- عواقب قطع الأرحام. 4- ضابط الصلة المشروعة.
الخطبة الأولى
أما بعد: عباد الله، صِلوا ما أمر الله به أن يُوصل من حقوقه وحقوق عباده، فصلوا أرحامكم الذين أمركم الله بوصلهم، وهم أقاربكم من جهة آبائكم وأمهاتكم، فإن للأقارب حقوقًا لازمة على عباده المتقين، موجبة لرضا الله رب العالمين.
لقد رتب الله تعالى على صلة الأرحام أجورًا عظيمة ومكاسب كبيرة في الدنيا والآخرة، فالقيام بحقوق الأقارب من أعظم ما يقربكم إلى الله تعالى ويوصلكم إلى رحمته وفضله وواسع منه وكرمه، قال الله جل وعلا: وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ [الإسراء:26]، وقال جل وعلا: وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ [النساء:1]، أي: اتقوا الأرحام أن تقطعوها, وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة قال : ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليصل رحمه))[1], وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها مرفوعًا: ((الرحم معلقة بالعرش تقول: من وصلني وصله الله، ومن قطعني قطعه الله))[2].
أيها المؤمنون، إن من مِنّة الله تعالى علينا أن جعل صلة الرحم سببًا لطول العمر وكثرة الرزق، ففي الصحيحين قال : ((من سره أن يبسط له في رزقه وأن ينسأ له في أثره فليصل رحمه))[3].
فصلة الرحم ـ يا عباد الله ـ سبب لسعة الرزق وطول العمر والمباركة فيه. فبادروا إلى صلة أرحامكم، وصلوهم بكل خير وبِرّ.
إن الواصل لرحمه ـ أيها المؤمنون ـ هو الذي يسعى في إيصال كل خير إلى أقاربه، ودفع كل شر عنهم بحسب الطاقة والوسع.
فصلوا ـ أيها المؤمنون ـ أرحامكم وأقاربكم بكل خير، بالزيارة والهدية والنفقة والمساعدة، صلوهم بالعطف والحنان ولين الجانب وبشاشة الوجه والإكرام والاحترام، صلوهم ببذل ما لهم في الأموال من الحقوق، واحتسبوا الأجر عند الله تعالى في ذلك، فإن الله لا يضيع عمل العاملين.
واعلموا أنه كلما قربت الصلة تأكد الحق وثبت الواجب وزادت الحقوق والواجبات، ففي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رجل: يا رسول الله، من أحق الناس بحسن الصحبة؟ قال: ((أمك، ثم أمك، ثم أمك، ثم أبوك، ثم أدناك فأدناك))[4]. فكلما قربت الصلة تأكد الحق وعظم.
أيها المؤمنون، إن صلة الرحم حق ثابت للأقارب، ولو بدرت منهم الإساءة وبدت منهم القطيعة، فالواجب على العبد أن يصل رحمه ولو قطعوه، وأن يحسن إليهم ولو آذوه وأساؤوا إليه، ففي الصحيح من حديث عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله : ((ليس الواصل بالمكافئ، ولكن الواصل مَن إذا قطعت رحمه وصلها))[5].
فليس الذي يبني كمَن شأنه الهدم، وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة أن رجلاً أتى النبي فقال: يا رسول الله، إن لي قرابةً أصلهم ويقطعونني، وأحسن إليهم ويسيؤون إليّ، وأحلم عنهم ويجهلون عليّ، فقال له النبي : ((لئن كان كما تقول فكأنما تُسِفُّهُمْ الْمَلَّ ـ أي: كأنما تطعمهم الرماد الحار ـ ولا يزال معك من الله ظهير عليهم ـ أي: معين لك عليهم ـ ما دمت على ذلك))[6].
فأبشر بحسن العاقبة وجميل الخاتمة يا من وصلت من قطعك وأحسنت إلى من أساء إليك، ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ [فصلت:34].
وما أجمل ما فعل الشاعر لما هجره أقاربه وأساؤوا إليه:
رأيت انثلامًا بيننا فرقعته برفقي وإحيائي وقد يرقع الثلم
فداويته حتى ارفأنَّ نفارُه فعدنا كأنا لم يكن بيننا جرم
وأطفأ نار الحرب بيني وبينه فأصبح بعد الحرب وهو لنا سلم
[1] صحيح البخاري في الأدب (6138).
[2] صحيح البخاري في الأدب (5958)، ومسلم في البر والصلة (2555) واللفظ لمسلم.
[3] صحيح البخاري في الأدب (5985)، ومسلم في البر والصلة (2557) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه .
[4] أخرجه مسلم في البر والصلة (2548).
[5] أخرجه البخاري في الأدب (5991).
[6] أخرجه مسلم في البر والصلة (2558).
الخطبة الثانية
أما بعد: احذروا ـ أيها المؤمنون ـ من قطيعة الرحم؛ فإنها سبب للعنة الله وسخطه وعقابه، قال الله تعالى: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ [محمد:22-23]، ويقول جل وعلا: وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ [الرعد:25].
وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة مرفوعًا: ((إن الله خلق الخلق حتى إذا فرغ منهم قامت الرحم فقالت: هذا مقام العائذ من القطيعة. قال: نعم، أما ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك؟ قالت: بلى، قال: فذاك لكِ))[1]، وعن جبير بن مطعم قال: قال رسول الله : ((لا يدخل الجنة قاطع رحم)) متفق عليه[2].
وهذا كله يبين أن قطيعة الرحم من كبائر الذنوب وعظائم السيئات.
فاتقوا الله عباد الله، وصلوا أرحامكم، وانظروا في أقاربكم هل قمتم بما أوجب الله عليكم من صلتهم والإحسان إليهم، فإن الله جل وعلا قد قرن قطيعة الرحم بالإفساد في الأرض، قال ابن كثير: "قد أمر الله تعالى بالإصلاح في الأرض وصلة الأرحام، وهو الإحسان إلى الأقارب في المقال والفعال وبذل الأموال".
[1] أخرجه البخاري في الأدب (5987)، ومسلم في البر والصلة (2554).
[2] أخرجه البخاري في الأدب (5984)، ومسلم في البر والصلة (2556) واللفظ لمسلم.
ـــــــــــــــــــ(68/114)
مهلاً يا دعاة التحرر!!
...
...
3618
...
الأسرة والمجتمع
...
...
المرأة, قضايا المجتمع
...
خالد بن عبد الله المصلح
...
...
عنيزة
...
...
...
جامع العليا
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- شرائع الإسلام جميعها عدل وخير. 2- نماذج من تكريم الإسلام للمرأة. 3- مساواة المرأة للرجل في أغلب الأحكام الشرعية. 4- أهداف دعاة تحرير المرأة وحقيقة أمرهم. 5- المرأة في بلاد الغرب.
الخطبة الأولى
أما بعد: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِساءً وَاتَّقوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].
أيها المؤمنون، إن قضية المرأة من القضايا الكبرى التي شغلت الأفكار، واستفزت كثيرًا من الأقلام، وافترق فيها الناس طرائق عدة ومذاهب شتى، تراوحت بين الغلو والتقصير، وبين الإفراط والتفريط، وهذا الاضطراب وذاك التخبط لا نستغربه ممن لم يهتدِ بنور الإسلام، ولم يعرف السنة والقرآن، ولا ما كان عليه سلف الأمة الكرام، لكننا نستغربه غاية الاستغراب من أقوام نشؤوا في بلاد الإسلام، وعرفوا شيئًا من السنة والقرآن، وعندهم من يعلمهم ما جهلوه من أهل العلم والبيان، وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونٍَ [النحل:43].
فلماذا هذا التخبط في شأن المرأة؟! ولماذا هذا الاضطراب؟! أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [النور:50].
أيها المؤمنون، إن هذا الدين العظيم يستمد أحكامه وتصدر شرائعُه من لدن عزيز حكيم، عالمٍ بالخلق وما يصلحهم في معاشهم ومعادهم، أَلا يَعْلمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك:14].
أيها المؤمنون، إن دين الإسلام دين عدل ورحمة، لا ظلم فيه بوجه من الوجوه، فالله جل وعلا لا يظلم الناس شيئًا، وَمَا رَبُّكَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت:46]، فدين الإسلام أعطى كل ذي حق حقه، لا وكس ولا شطط، لا هضم ولا ظلم.
فجميع شرائع الإسلام الحاكمة على المرأة أو على الرجل شرائعُ عدل وخير، تكفل لكل من أخذ بها الأمن والاهتداء، ومن داخله في ذلك شك أو ريب فظن الخير والعدل في غير شرائع الإسلام فقد خلع عنه ربقة الإيمان، والله ورسوله منه بريئان، فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء:65].
أيها المؤمنون، إن الله تعالى قد كرّم بني آدم ذكورًا وإناثًا، وفضلهم على كثير ممن خلق تفضيلاً، وإن نظرة عجلى في بعض آيات الكتاب الحكيم وأحاديث السنة المطهرة تكسب الناظر المنصف يقينًا ثابتًا وإيمانًا راسخًا بأن الإسلام كرم المرأة وحرّرها من كل سيئة وسوء.
فالمرأة في دين الإسلام حرة كريمة مصونة، ذات حقوق مرعية، لا ظلم عليها ولا جور، وقد أكدّ النبي تكريم المرأة وصيانة حقوقها في أعظم مجمع شهده في خطبة يوم عرفة في حجة الوداع، فقال: ((فاتقوا الله في النساء؛ فإنكم أخذتموهن بأمان الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله)) رواه مسلم[1].
أيها المؤمنون، المرأة في الإسلام شريكة الرجل، لا تعاني من خصام معه ولا نزاع، بل هي مكملة له وهو مكمل لها، هي جزء من الرجل وهو جزء منها، قال الله تعالى: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [التوبة:71]، وقال في آية أخرى: بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ [آل عمران:195]، فعلاقة الرجل بالمرأة في المجتمع المسلم علاقة موالاة ومناصرة ومؤاخاة وانتماء، فالرجل والمرأة جناحان لا تقوم الحياة البشرية السوية إلا بهما.
أيها المؤمنون، المرأة في دين الإسلام هي الأم التي جعلها أحق الناس بحسن الصحبة، والمرأة في دين الإسلام هي البنت التي من أحسن تربيتها ورعايتها كانت له سترًا من النار، والمرأة في دين الإسلام هي الزوجة التي قال فيها النبي : ((خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي))[2].
أيها المؤمنون، إن المرأة في دين الإسلام هي كالرجل تمامًا في الغاية من الخلق، قال تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ [الذريات:56]. فالمرأة والرجل خلقا جميعًا لعبادة الله وحده لا شريك له، وبقدر تحقيق واحد منهما لهذه الغاية ينال من الكرامة والهداية، إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات:13].
أيها المؤمنون، إن الأصل في أحكام الشريعة المطهرة استواءُ الرجال والنساء في الأحكام، إلا ما اقتضت حكمة الحكيم الخبير أن يكون خاصًا بأحدهما، فهما مستويان في جميع ما يجب اعتقاده من أصول الإيمان وأركانهِ، وفيما عليهما من أركان الإسلام وواجباته، وكذلك هما مستويان في جزاء الآخرة، قال الله تعالى: مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزَى إِلا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ [غافر:40].
هذا ـ أيها المؤمنون ـ غيض من فيض وقليل من كثير من الدلائل على أن المرأة في دين الإسلام تعيش حياة عزيزة كريمة، موفورة الاحترام، مصونة الجانب، محفوظة الحقوق، ليس كمثلها امرأة من نساء العالمين في جلال حياتها وسناء منزلتها وعلو مكانتها.
معاشر المسلمين، إن دين الإسلام ليس في مقام تهمة نحاول دفعها عنه، وليس فيه نقص نجهد في إخفائه أو ستره، بل هو شمس مشرقة لا نقص فيه ولا مطعن، الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسلامَ دِينًا [المائدة:3]. فرضينا بالله ربًا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد نبيًا. وإنما هو البيان وإقامة الحجة ليحيا من حيي عن بينة، ويهلك من هلك عن بينة.
بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة...
[1] أخرجه مسلم في الحج (1218) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه.
[2] أخرجه الترمذي في المناقب (3895 ) من حديث عائشة، وأخرجه ابن ماجه في النكاح (1977) من حديث ابن عباس.
الخطبة الثانية
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، وبادروا بالأعمال فتنًا كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمنًا ويمسي كافرًا، ويمسي مؤمنًا ويصبح كافرًا، فتن تطيّر الألباب وتقلب القلوب والأبصار. نعوذ بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن.
أيها المسلمون، إن العجب لا ينقضي من أقوام زعموا كذبًا ومينًا أنهم دعاة لتحرير المرأة، والخروج بها مما هي فيه من الظلم والقهر، فيا لله العجب ممَّ يحررونها؟!! أمِن دين الإسلام الذي لا سعادة للبشرية إلا به، أم من الاقتداء بالسلف الصالح في الحشمة والحياء والعفة والصيانة؟! أحقًا يريد أدعياء التقدم ودعاة التحرر تكريم المرأة وتحريرها، أم يريدون تجريدها من العفة والحياء وتقييدها بأوضار السيئة الرذيلة؟!
أيها المؤمنون، بالله مَنْ هم أدعياء تحرير المرأة؟ وما تاريخهم؟ ما الذي قدمه هؤلاء للأمة حتى يوثق بهم وبما يقولون ويدعون؟!
إن جانبًا من نتاج هؤلاء كاف في إسقاط عدالتهم والثقة بهم، فالمتتبع لكتابات هؤلاء يجد فيها الهمز والتشكيك بأحكام الشريعة وآداب الإسلام تحت مسمى: "نبذ التقاليد البالية".
يجد فيها التلميح والتصريح بالدعوة إلى تقليد الأمم الغربية، وأنه لا تقدم ولا رقيّ إلا بمسايرة أمم الكفر، يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ [النساء:108]، بعبارات برّاقة فضفاضة يدسون فيها السم، يُوحي بَعْضهُمْ إِلى بَعضٍ زُخرُفَ الْقوْلِ غُرُورًا [الأنعام:112].
أيها المؤمنون، إن دعاة تحرير المرأة يقولون: المرأة المسلمة في البلاد السعودية المباركة امرأة مهيضة الجناح مسلوبة الحقوق، مصادرة الإرادة مهمشة الدور، لا وزن لها في المجتمع ولا أثر. هذه دعواهم بهتانًا وزورًا، تضليلاً وتلبيسًا، يلبسون الحق بالباطل ويكتمون الحق وهم يعلمون.
فما حل هذه المشكلة ـ أيها المؤمنون ـ في نظر هؤلاء؟
إن الحل عند دعاة التحرر أن تَهُبَّ المرأة من سباتها، وتنزع حجابها الذي عطلها وألغى دورها.
إن الحل ـ عند أولئك ـ أن تنخلع المرأة من حيائها فتخالط الرجال الأجانب، فعدم الاختلاط شذوذ وانحراف.
إن الحل ـ عند هؤلاء ـ أن تقوم الخصومة والمنازعة المريرة بين رجال المجتمع ونسائه.
هذه حلولهم وأطروحاتهم، مهما حاولوا إخفاء وجهها القبيح. خابوا وخسروا، فالله جل في علاه لا يصلح عمل المفسدين.
أيها المؤمنون، أما نتيجة هذا السعي المشؤوم، فلسنا ـ والله ـ سعداء بأن نراه في بلادنا الحبيبة الغالية، كيف وقد شرق به أهله ومن سار في ركابهم، فالسعيد من وعظ بغيره، فحديث الإحصاءات والدارسات عما تعانيه المجتمعات الغربية من دمار ووبال من كثرة الزنا ورواج البغاء وتفكك الأسرة وانخفاض نسبة الزواج وارتفاع معدلات الطلاق وكثرة الخيانة وأولاد الزنا واللقطاء وشيوع الأمراض بأنواعها النفسية والعصبية والبدنية كاف عن خوض غمار هذا المستنقع الآسن، ولو أنك سألت أحد هؤلاء الأدعياء هداهم الله وكفى المسلمين شرهم: ما النموذج الأمثل الذي تقدمه للمرأة السعودية؟ لم تجد عنده إلا نموذج المرأة الغربية المطحونة الغارقة في حمأة الرذيلة التي تتلمس من ينقذها وينتشلها، لا من يتأسى بها.
أيها المؤمنون، إن قضية المرأة قضية كبرى، تحتاج إلى عناية فائقة ورعاية تامة ومعالجة منبثقة من هدي كتاب الله تعالى وسنة نبيه وسيرة السلف الصالح، وإن أي معالجة لقضية المرأة من غير هذا السبيل إنما هي وهم وضلال.
فاتقوا الله عباد الله، استمسكوا بالعروة الوثقى، واحذروا هؤلاء المرجفين المشككين.
إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا [الإسراء:9، 10].
ـــــــــــــــــــ(68/115)
التحذير من فتنة الاختلاط
...
...
4224
...
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
...
...
الفتن, الكبائر والمعاصي, قضايا المجتمع
...
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
...
...
الرياض
...
16/1/1426
...
...
جامع الإمام تركي بن عبد الله
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- عناية الإسلام بتأسيس المجتمع المسلم العفيف. 2- أحكام الإسلام صالحة لكل زمان ومكان. 3- دعوة أذناب الغرب إلى الاختلاط. 4- تحذير الإسلام من الاختلاط والتبرج. 5- مفاسد الاختلاط. 6- العفاف في مجتمع الصحابة. 7- العزة بدين الله.
الخطبة الأولى
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، في كتابِ ربِّنا وسنّةِ نبيِّنا دعوةُ المجتمعِ المسلِم إلى الأخلاقِ الفاضلة والقِيَم الكريمة، وإنَّ المجتمعَ المسلمَ عندما يقوم على أسُسٍ مِنَ الأخلاق والفَضائِلِ يكون ذلكَ المجتمعُ مجتمعًا سَعيدًا ومجتَمعًا محافِظًا على أخلاقِ دينِهِ وقيَمِه، وإنَّ المؤمن حقًّا ليعتقِد كمالَ هذا الدين، وأنَّ محمّدًا بعِثَ بالهدَى ودينِ الحقّ، أكمَل الله به الدينَ، وأتمَّ به النعمةَ، ورضِيَ به لنا دينًا، وإنَّ المؤمنَ ليعتقِد حقًّا كمالَ هذه الشريعةِ، وأنَّ هذه الشريعةَ التي عاش بها النبيّ مع أصحابه وعاش بها الصحابةُ مع نبيِّهم هي الشريعة الصالحةُ لكلِّ القرون لكلِّ الأجيالِ منذ بعَثَ الله عبده ورسولَه محمّدًا إلى أن يرِثَ الله الأرض ومَن عليها وهو خيرُ الوارثين، ولن يصلِحَ آخرَ هذه الأمة إلاّ ما أصلَحَ أوَّلَها، وإنَّ المؤمنَ ليقبَل أوامرَ الله التي جاءَ بها الكتاب والسنّةُ فيمتَثِلها، ويقبَل النواهيَ التي نُهِيَ عنها فيجتنبها، ويَدين لله بتحريمِ المحرَّمات والتِزام الواجباتِ، هكذا المؤمِن حقًّا.
أيّها المسلم، أيّها المؤمن، إنَّ اختِلاطَ الجنسين الرّجال والنّساء في ميادينِ الحياةِ المختلِفة سواء كانت منها المؤسَّساتُ الماليّة أو العلميّة أو اختلاف ميادينِ العمل المختَلِفة، إنَّ اختلاط الجنسين بعضهما مع بَعض منكرٌ جاءَت شريعتُنا بتحريمه، وبلاءٌ جاءت شريعتُنا بالتحذير منه، ومصابٌ أصاب الأمّةَ المحمديّة فصار بابًا واسِعًا لهدمِ القِيَم والأخلاق والفضائل. إنَّ اختلاطَ الجنسَين الرجال والنساء على رأسِ الأولَويَّات التي يدعو لها دعاةُ التغريبِ مِنَ المنافقين من هذهِ الأمّة المسلمة؛ لأنَّ هذه الدّعوة إلى الاختلاط دعوةٌ لسلخِ الأمة من دينها وأخلاقِها وبُعدِها عن مبادئ دينها. إنَّ الأمّةَ يجب أن تعتقدَ أنَّ العزّةَ الحقيقيّة إنما هي باتِّباع هذا الدّين، ليس عيبًا على الأمّة أن تتمسَّكَ بدينها، ليس عيبًا عليها أن تحافِظَ على أخلاقِها، ليس عيبًا عليها أن تجعَلَ مجتَمَعَها مجتمعًا أخلاقيًّا كريمًا، ليس ذا عيبًا عليها، بل هذا مصدرُ عزِّها وكرامتها. إنَّ أولئك الذين يدعون إلى اختلاطِ الجنسَين وتحطيم الحواجِزِ الفارقة بينهما كما يزعمون إنها محادَّةٌ للهِ ورسوله وسبَبٌ للذّلِّ في الدّنيا والآخرة، إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ [المجادلة:20].
أمّةَ الإسلام، دين الإسلام جاء ليقيمَ مجتمعًا طاهرًا نظيفًا، مجتمعًا طاهرًا عَفيفًا، لا يتأثَّر بالفواحِشِ، ولا يروج فيه سوقُ الخنا، ولا يُعَطَّل فيه الأمرُ بالمعروف والنهيُ عن المنكر، جاء ليقيمَ المجتمع المسلمَ على أُسُس من القِيَم والأخلاق والفضائل، دعا إلى الحياءِ، وجعل الحياءَ من أخلاق المؤمنين، الحياءُ شعبةٌ من شُعَب الإيمان، والحياءُ مطلوبٌ من الجميع وإن كان في جانِب النساء أشدّ، فهذا الإسلام ينهى المرأة عن التبرّجِ والسفور: وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى [الأحزاب:33]، ينهاها من أن تخضَعَ بالقول: فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ [الأحزاب:32] يأمرها بغضِّ البصر وتحصينِ الفرج، وينهاها عن إبداء زينَتِها إلاّ ما ظهر منها ولمن أباح الله له النّظرَ إليها كما بيَّن الله ذلك في كتابه العزيز. وهذه سنّةُ محمّد تدلّ على أمور، فمنها ـ أولاً ـ أمرُ المؤمن بغضِّ البصر، يقول الله: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ [النور:30]، ويقول النبيّ لعليّ رضي الله عنه: ((لا تُتبِعِ النظرةَ النظرةَ، فإنّ لك الأولى، وليست لك الثانية))[1]، وها هو يمنَع المؤمنَ مِن أن يدخلَ على امرأةٍ ليست من محارِمِه، فينهى عن دخولِ الرّجل على من ليسَت محرمًا له، ولما قيل له في الحمو قريبِ الزّوج قال: ((الحموُ الموت))[2]، وها هو ينهاهَا عن السّفَرِ بلا محرَمٍ[3] محافظةً على كرامَتِها وفضائلها.
أيّها المسلم، أيّها المؤمن، إنّ الدعوةَ لاختلاط الجنسَين هو بلاء ومصيبةٌ عظيمة، وهو فَتح لأبواب الشرِّ على مصرَاعَيه. وإنَّ الدعاةَ للاختلاط لو ناقشتَ بعضَهم لا يرضاه لابنتِه ولا لأخته ولا لأمّه، ولكن يتفوَّه بهذه الكلماتِ البذيئةِ تقليدًا واتِّباعًا لغيره. إنّ أولئك يريدون أن يحوِّلوا المجتمعاتِ المسلمة إلى مجتمعات تابعةٍ لغيرِها لا تتقيَّد بخلقٍ ولا بفضيلة، ولكن تكون تابعةً لغيرها، ينفِّذ الأعداء فيها مرادَهم، ويُملون عليهم ما يريدون أن يفعَلوه. إنَّ الله أعزَّ الأمةَ بالإسلام كما قال عمرُ رضي الله عنه: (نحن أمّة أعزَّنا الله بالإسلام، ومتى ابتَغَينا العزّةَ من غير الإسلام أذلَّنا الله)[4].
إنَّ الله جلّ وعلا حرَّم على المرأةِ المسلمة أن تخالطَ غيرَ محارِمِها محافظةً على كرامَتِها. إنَّ الذين خلَطوا الجنسَين المرأةَ بغيرها يشكون من ويلاتِ ذلك الاختلاطِ وآثاه السيّئة القبيحة عليهم جميعًا. إنّ بها انتشَرَتِ المنكرات، وبها فشا الزّنا وكثُر اللّقطاء، وبها عمَّت الجرائِم وضعُف الإنتاج وصار عليهم مِنَ البلاء ما الله به عليم. فما حرَّمَ الله ورسوله شيئًا إلاّ وضررُه واضح ضرَرُه ظاهِر، ولا منفعةَ فيه مطلَقًا. إنَّ أولئك الزّاعِمين أنَّ الاختلاطَ لا يؤثِّر وأنّ التربيَة تحمي الإنسانَ من الانزلاق كلُّ هذه مكابَرات، وكلّ هذه مغالَطات. فالواجِب على المسلمين جميعًا تقوَى الله، وأن يعلَموا أنّ العزّةَ والرّفعة إنما هو باتباعِ شريعة الله، وأنَّ الذلَّ والهوان بالتّخلِّي عن مبادِئِ الإسلام وتعاليمِه.
ليس عيبًا على الأمّةِ أن تحافظَ على شرفِها وكرامَتِها، ليس عيبًا عليها تمسُّكها بدينها، ليس عيبًا عليها ثباتُها على أخلاق إسلامِها، مهما قال الأعداء ومهما تفوّهوا، فهم لن يَرضَوا عنّا إلاّ بمفارقةِ هذا الدين والعياذ بالله، وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [البقرة:120]، وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً [النساء:89].
أمّةَ الإسلام، الدّعوةُ إلى الاختلاط دعوةُ إجرام ودعوةُ نفاق ودعوة ضَلالٍ ودعوة بُعدٍ عن الهدى، لا تصدُرُ من قلبٍ فيه إيمان بالله واليومِ الآخر، فمَن في قلبه الإيمانُ الصّادق يعلم أن الدعوةَ إلى الاختلاط دعوةٌ ضالّة مضلَّة، ومن سعى فيها أو حبّذها فليراجِع نفسَه، وليتُب إلى الله من أخطائهِ، وليعلَم أنّه تفوَّه بأمرٍ أسخَطَ اللهَ عليه جلّ وعلا. فليتَّقِ المسلمون ربَّهم، وليحافظوا على قِيَمهم وفضائلهم.
نبيُّنا يقول في الصّلاة: ((خيرُ صفوف الرجال أوّلُها وشرُّها آخرها، وخير صفوفِ النّساء آخرُها وشرّها أوّلها))[5] حثًّا للمرأةِ على البُعد عنِ الرجال. وكان النساءُ في عهدِ النبيّ يشهدن الصلوات، تقول عائشة: يشهَد نساءٌ مع النبيّ الصلاة يرجِعنَ في غايةٍ مِنَ التحفُّظ، لا يعرِفُهنّ أحدٌ مِن حسنِ سِترهنّ وعفافِهن، متلفِّعاتٍ بمروطهِنّ، لا يُعرَفنَ من الغَلَس[6]. إنّه في عهد النبي كانت المجتمعاتُ مجتمعاتٍ نظيفةً ومجتمعاتٍ طيّبة، ومع هذا حُذِّروا من كلِّ وسيلة توقِع في الشرّ والفساد.
فلنتَّق الله في أنفسنا، ولنحافِظ على ديننا. وعلى من ينادي بالاختلاط أو يدعو إليه أو يحبّذه أن يعلمَ أنه على طريقٍ خاطئ ومنهج سيّئ، فليتُب إلى الله، وليستغفِرِ الله ممّا زلَّ بهِ اللسان والقلَم، وليحاسِب نفسَه؛ فإنَّ الله سائلٌ كلَّ قائل عن قوله، مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق:18].
إنَّ الله جلّ وعلا فاوتَ بين الرجال والنساء، ولكلٍّ خصوصيّاتُه وقُدُراته، فمتى خلَطنا الأوراقَ ومتى حاولنا عبثًا أن نصيِّرَ الجنسين جنسًا واحدًا ومتى تغاضَينَا عن النتائجِ السيِّئة فإنَّ هذا دليل على سوءِ الفهم وقلّةِ اليقين.
أسأل الله للجميع الثباتَ على الحقِّ والاستقامة عليه، وأن يرزقَنا جميعًا الفقهَ في دين الله والتمسّكَ بشريعته والثباتَ على ذلك إلى أن نلقاه، إنه على كلِّ شيء قدير.
بارَكَ الله لي ولَكم في القرآنِ العَظيم، ونفعني وإيّاكم بما فيه من الآياتِ والذّكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفِر الله العظيمَ الجليلَ لي ولكم ولسائِرِ المسلمين من كلّ ذَنب، فاستغفروه وتوبوا إلَيه، إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه أحمد (5/353)، وأبو داود في النكاح (2149)، والترمذي في الأدب (2777) من حديث بريدة رضي الله عنه، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب، لا نعرفه إلا من حديث شريك"، وصححه الحاكم (2788)، وحسنه الألباني في غاية المرام (183).
[2] أخرجه البخاري في كتاب النكاح (4831)، ومسلم في كتاب السلام (4037) عن عقبة بن عامر الجهني رضي الله عنه.
[3] كما في حديث ابن عباس رضي الله عنهما عند البخاري في كتاب الحج (1729)، ومسلم في كتاب الحج (2391).
[4] أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (7/10، 93)، وهناد في الزهد (817) بنحوه، وصححه الحاكم (207، 208)، وهو في صحيح الترغيب (2893).
[5] أخرجه مسلم في كتاب الصلاة (440) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[6] أخرجه البخاري في كتاب المواقيت (544)، ومسلم في كتاب المساجد (1020، 1021، 1022) بمعناه.
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التّقوى.
عباد الله، إنّ التمسّكَ بشريعة الإسلام سبَبٌ لعِزِّ الأمّة ورِفعتها، وسبب لرُعب أعدائها مِنها، فتمسُّك الأمّة بهذا الدين يجعل لها المكانةَ العالية والرفعةَ والسّؤدَد، ويلقي الله الرعبَ في قلوب أعدائها إن هِي تمسَّكَت بهذا الدين حقَّ التمسّك.
إنَّ ما أصاب العالمَ الإسلاميَّ من نقصٍ كان أوّله السماحَ للنّساء بالاختلاطِ في ميادينِ الأعمال، فهذا سبَبٌ عظيم فتح أبوابَ الشرِّ على مصراعَيه، ولذا يقول النبيّ : ((ما تركتُ [في] أمتي فتنةً هي أضرّ من فتنةِ [النساء على الرجال]))[1]، ويقول: ((اتَّقوا الدنيا واتقوا النساء؛ فإنّ هلاكَ بني إسرائيل كان في النساء))[2].
هذه القضيّةُ هي التي فتحَت أبوابَ الشرِّ على مصراعَيه، وتداعت الشرورُ والمصائب على الأمّة لما استخفّوا بمحارمِ الله وتساهلوا في ذلك، وفُقِدت الغَيرة من القلوب على محارمِ الله، فعند ذلك وقَعَ المسلمون في شرورٍ عظيمة ومصائبَ وبلايا نتيجةً لهذا التّساهُل، ونتيجةً لهذا التهاوُن، وطاعةً لمن ينادي: "إنّ المرأةَ شقيقة الرجل، دعوها والرجلَ يقفان صفًّا واحدًا، دعوها تعمل ويَعمل على جانبٍ واحد"، فلا حياءَ ولا سمتَ ولا مروءة، إنّه الشرّ بعَينه حينما يختلط الجنسان في الأماكن، تذهَب الغَيرة من القلوب، وتخفّ قيمةُ المحرَّمات في قلوبِ الناس، وتلك مصيبةٌ عُظمى، نسأل الله أن يعافيَ المسلمين من هذا الداءِ العضال، وأن يمنَّ عليهم بالاستقامةِ عَلى الهدَى.
فالحقيقةُ أنَّ مصائبَ العالم الإسلاميّ سببُها بُعدهم عن دينهم، ولهذا تسلَّط عليهم الأعداءُ من كلِّ جانب بأسباب بُعدهم عن دينهم، فإنَّ تمسُّكَ الأمة بدينها هو السّبَب في عزَّتها وقوّتها ورَهبةِ أعدائها منها، فنسأل الله أن يوفِّقَ المسلمين جميعًا للفِقه في دين الله، وأن يعيدَهم للطّريق المستقيم، وأن يرزقَنا جميعًا الثباتَ على الحقّ والاستقامة عليه، وأن يهديَ ضالَّ المسلمين ويثبِّتَ مطيعَهم ويحفَظ الجميع بالإسلام، إنّه على كلّ شيء قدير.
واعلَموا ـ رحمكم الله ـ أنّ أحسنَ الحديث كتابُ الله، وخيرَ الهدي هدي محمّد ، وشرّ الأمورِ محدثاتها، وكلّ بدعةٍ ضلالة، وعليكم بجماعةِ المسلمين، فإنّ يدَ الله على الجماعةِ، ومَن شذّ شذّ في النّار.
وصلّوا ـ رحمكم الله ـ على عبدِ الله ورسولِه محمّد كما أمركم بذلك ربّكم، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللّهمّ صلّ وسلّم وبارك على عبدِك ورسولك محمّد، وارضَ اللّهمّ عن خلَفائِهِ الرّاشدين الأئِمّة المهديّين...
[1] أخرجه البخاري في النكاح (4706)، ومسلم في الذكر (4923) من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما بنحوه.
[2] أخرجه مسلم في الذكر (4925) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه بلفظ: ((فإن أول فتنة بني إسرائيل)).
ـــــــــــــــــــ(68/116)
الحثّ على إشاعة النكاح
...
...
4242
...
الأسرة والمجتمع, فقه
...
...
النكاح, قضايا المجتمع
...
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
...
...
الرياض
...
6/2/1420
...
...
جامع الإمام تركي بن عبد الله
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- ثلاثة حقٌّ على الله عونُهم. 2- الوصية بتيسير الزواج وتسهيله. 3- وصايا عامة لمن أراد الزواج.
الخطبة الأولى
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عباد الله، في الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ رسول الله قال: ((ثلاثة حقٌّ على الله عونُهم: المجاهد في سبيل الله، المكاتَب يريد الأداءَ، المتزوِّج يريد العفاف))[1].
أيّها الإخوة، أخبرنا رسول الله عن هؤلاء الثلاثة أنَّ الله قد تكفَّل بإعالَتهم وتسهيل مهمَّتِهم وإخلافِ ما أنفقوه بخير وأنّ ما أنفقوا في هذا السبيل فنفقة مخلوفة وعمل صالح.
فالمجاهدُ في سبيل الله حقٌّ على الله عونُه، جاهَد بنفسِه، أو جاهد بلسانِه وقلمِه، أو جاهد بمالِه فأنفقَ مالَه في سبيل الخير، في نصرةِ دين الله، وفيما يقرّب إلى الله، فالله يعينه ويوفّقه ويخلِف عليه ما أنفقه بخير، وَمَا أَنفَقْتُمْ مّن شَىْء فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [سبأ:39]؛ لأنها نفقةٌ في سبيل الله وفيما يقرِّب إلى الله، فتلك نفقةٌ مخلوفةٌ على صاحبِها، مبارَكٌ له فيها، بل كلّ النّفقاتِ التي في سبيلِ الله وما أوجَبَه الله على المسلِم فإنّ العبدَ يُعان على ذلك، ويخلف الله عليه ما أنفَق بخير، وفي الحديثِ: ((إنّك لن تنفِقَ نفقةً تبتغِي بها وجهَ الله إلاّ أُجِرتَ عليها، حتى ما تضَع في في امرأتك))[2].
المكاتب يريد الأداءَ، ذلكُم الذي يريد أن يشتريَ نفسَه من سيّده ليعيشَ حرًّا، فإنّ الله يعينه على ذلك إذ حرّيّتُه تعينه على مصالحِ دينه ودنياه، وقد أمر الله بتسهيلِ أمرِ المكاتب بقوله: فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمُتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا [النور:33]، وأمر أن يعطَوا من حقّ الله: وَءاتُوهُمْ مّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِى ءاتَاكُمْ [النور:33]، وكلّ هذا من طرقِ الإسلام في تحرير الأرقّاء؛ لأنّ الرقَّ في الإسلام جاءَ لأمرٍ عارض، ألا وهو الكفر، وجاء تسهيل مهمّة إعتاق الرّقاب والحثّ على ذلك وإعطائهم من الزكاة: وَفِي الرّقَابِ [البقرة:177]، قال العلماء: هم المكاتبون.
وثالث أولئك الثّلاثة الناكح يريد العفافَ، الذي تزوّج يريد أن يعفَّ نفسَه، يريد أن يغضَّ بصرَه، يريد أن يحصِّن فرجَه، يريد سكونَ نفسه، طمأنينة قلبه، يريد حصولَ الولَد، يريد عمارَ البيت، يريد الإنفاقَ على الزوجة والتعاونَ معها على الخير، يريد بزواجه طاعةَ الله والاقتداء بأنبيائه المرسلين، وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرّيَّةً [الرعد:38]، يريد أن يتعاونَ مع امرأته على البرّ والتقوى، يريد حفظَ بني الإنسان، فإنّ هذا الزواج الشرعيَّ يعين الله صاحبَه، حقٌّ على الله أن يعينَه ويوفّقه ويسدّده، ولكن لهذه الإعانةِ أسبابٌ ينبغي للمسلم أن يسلكَها، فأوّل ذلك تقوَى الله في سرِّه وعلانيتِه، والعفّة عمّا حرّم الله عليه، فمن عفّ عن محارم الله سهّل الله له زواجَ الحلال وأعانه على ذلك، قال تعالى: وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ [النور:33]، فمن عفّ عن محارمِ الله والتجأ إلى الله وتعلّق باللهِ وعلم الله منه ذلك فإنّ الله جل وعلا قد تكفّل بإعانته، وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ [الطلاق:2، 3].
أخي المسلم، قد تقول: إنّ تكاليفَ الزواج شديدة، وإنّ تكاليفَه مثقِلة لكاهلِ المسلم، لا سيّما الشابّ ضعيف الموارد، فينظر إلى الزواج بأنّه عقبةٌ كؤود، لا يستطيع اجتيازها، ماذا يعمل؟
نقول: نعم، إنها عقبةٌ، وإنها كأداء، ولكن سيُيسِّرها من إذا قال للشيء: كن فيكون، سيعينك القادرُ على كلّ شيء، سيفتح لك أبوابَ الخير، فما عليك إلا الصّبر، وما عليك إلاّ العفّة عن محارم الله، وما عليك إلاّ أن تأخذَ بالأسباب النافعة، فلا تكون عالةً على غيرك، ولا كلاًّ على الناس، ابذل السّببَ، اعمَل واكدَح وخذ بكلّ سببٍ شرعيّ أذِن الله فيه، فإذا أخذتَ بالأسباب واتّقيتَ ما حرّم الله عليك فإنّ أمرك سيكون يسيرًا؛ لأنّ الصادقَ المصدوق أخبرنا عن ربّنا بقوله: ((ثلاثة حقّ على الله عونهم))، حقّ أوجبه الله على نفسِه، فهو جلّ وعلا أصدق القائلين، ووعدُه حقّ ولن يخلِف ميعاده، ولكن على المسلم أن يأخذَ بالأسباب، ثم إذا أخَذ بالأسباب مِن كدحٍ وبذل للجهد وعفّةٍ عن محارم الله والتجاءٍ إلى الله واستعانة به في كلّ الأمور، قال تعالى: وَأَنْكِحُواْ الأيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِن يَكُونُواْ فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ [النور:32]. هذا وعدٌ للمتزوّج أنه لو تزوّج في حال فقرِه فإنّ الله سيفتح له الأسبابَ من أبواب الرّزق وأسبابِ الخير ما لا يعمله إلا الله، لكن على المسلِم أن يحتسِب، عليه أن يصبِر ويأخذَ بالأسباب ويتّقيَ محارم الله.
ثمّ على المجتمع جميعًا تقوَى الله في هذه الأمور، تقوَى الله في هذه المهمّات، وأن يعينوا الشبابَ على الزواج، وأن يسهّلوا المهمّة، ولا يثقِلوا كاهل الزوجِ بما لا يستطيع، على الجميعِ أن يكونوا أعوانًا على إفشاءِ هذه المهمّة وإشاعتها وتسهيلِ مهمّتها، علينا التعاونُ على البرّ والتقوى، علينا أن لا نفتحَ للسفهاء بابَ السّرف والتبذير، علينا أن نأخذَ على أيدي السفهاء من نساءٍ وصبيان، علينا أن نسهّل المهمّة، علينا أن لا نقفَ عند التقاليد التي لا خيرَ فيها، علينا أن نجاوِزَ هذه التقاليدَ والترَّهاتِ التي تثقِل كواهلَ شبابنا، والتي تسبِّب عنوسَ فتياتنا، فعلينا التعاونُ جميعًا، فإنَّ هذه مسؤولية الأمّة جميعًا، أن يكونوا أعوانًا على البرِّ والتقوى، متناصحين فيما بينهم، متعاونين فيما بينهم.
إنّ إشاعةَ الزواج بين شبابنا أمرٌ يحبّه الله ويرضاه، ففيه غضّ البصرِ وتحصين الفرج وحصول الوَلَد وقلّة الجرائم وعِفّة المجتمع، فمتى شاعَ الزواج في المجتمع دلّ على خيريّة الأمّة وسعادتها، ولكن إذا وقف أمامَ الشباب تلك العقباتُ الكؤود، بمهرٍ غالٍ مرتفع، وولائم متجاوزةٍ للحدود، وتكاليفَ وأمور خطِيرة لا شكّ أن كثيرًا منها لا داعيَ له ولا مبرّر له ولا يُرتجى منه فائدة، إنما هي مجاراةٌ للآخرين، وكلٌّ يحبّ أن يثبتَ وجودَه، وأن يكونَ مظهرُ زواجه أكثرَ من مظهر غيره، تلك المجاراةُ لا خيرَ فيها ولا فائدةَ منها. فعلى المجتمع جميعًا تقوَى الله والتعاونُ على البرّ والتقوى.
نعم، لا بدّ للزواج من مهر، لا بدّ فيه من وليمة، لا بدّ ولا بدّ، ولكن على الجميع تقوَى الله وتسهيلُ المهمّة وتذليل الصعاب، وليتقرّب المسلم إلى الله بما يبذله من عدَم التشدّد في المهر وعدَم التكليف في الولائم، وأن يكونَ الأمر مقتصِرًا على ما يكون به الإعلامُ الشرعيّ، بعيدًا عن المظاهر التي يقلّد الناسُ بعضهم بعضًا فيها، فعلى كلّ من له قدرةٌ ويقتدَى به في الأمور أن يكونَ قدوةً صالحة لغيرِه، وأسوةً يُتأسَّى به في الخير، فكثيرٌ مِن هذه التّكلفاتِ وكثير من هذه الأمورِ لا مبرِّر لها، لا داعيَ لها، لكنّها عقبةٌ أمام زواجِ الشباب، وأمام زواج الفتَيَات، تبقى الفتياتُ عانساتٍ في البيوت، ويبقى الشباب عاجزين عن الزواج، وربما استعمَل الذهابَ هنا وهناك لقضاءِ وطرِه بما لا خيرَ فيه، وتلك جريمةٌ يتحمّل إثمَها المجتمع بأسرِه.
فعلى الجميع تقوَى الله في أنفسهم، والتعاونُ على البر والتقوى، وتذليل تلك العقبات. أسأل الله للجميع العونَ والتوفيق، إنه على كل شيء قدير.
[1] سنن الترمذي: كتاب فضائل الجهاد (1655)، وأخرجه أحمد (2/251، 437)، والنسائي في الجهاد (3120)، وابن ماجه في الأحكام (2518)، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن"، وصححه ابن الجارود (979)، وابن حبان (4030)، والحاكم (2678)، وحسنه الألباني في غاية المرام (210).
[2] أخرجه البخاري في الجنائز (1296)، ومسلم في الوصية (1628) عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه نحوه.
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربّنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله، صلّى الله عليه وعلى آلهِ وصحبه، وسلَّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أمّا بعد: يا أيّها النّاس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
أيها الشابّ المسلم، إذا أردتَ الزواج فاتّق الله، واستعِن بربك في كلّ مهمّاتك، فإنّ الله قريبٌ يجيب دعوةَ المضطرّ إذا دعاه. إيّاك والديونَ الباهظة، إيّاك وأن تستدينَ ديونًا لا تستطيع وفاءَها وتعجز عن وفائها، وتبقى أسيرًا لدى أولئك.
إنّ بعضَ شبابنا ربما يستدِين دينًا يثقِل كاهلَه ويعجِزه، فيعيش عمرَه همًّا وغمًّا.
استدِن قدرَ استطاعتك، وعلى قدر ما تعلَم أنك تقضيه، استدِن على قدر ما تعلَم أن بإمكانك قضاءَه، دينًا لا يثقل كاهلَك وتقضى به مهمّتك.
وعلى أهلِ الزوجة إذا علِموا منَ الزوج كذلك أن لا يزيدوا على حملِه حِملاً، وأن لا يثقِلوه على ديونه بديون أخرى، وأن يسهِّلوا المهمّةَ ويهوّنوها ويحلّوا كثيرًا من الأمور ويجتنبوا كثيرًا من المظاهر التي لو تفكّرنا فيها حقًّا لعلِمنا أنها عقبات، وأنه لا فائدةَ منها ولا خير في كثيرٍ منها، إسرافٌ في الولائم، إسراف في الملابس، إسرافٌ في الحلِيّ إلى غير ذلك.
على الجميع تقوَى الله في أنفسِهم، وعليهم أن ييسّروا هذا الأمر، وأن يستعينوا بالله، ويتقرّبوا إلى الله بهذا العمل الصالح، فعسى الله أن يعمَّ الجميعَ بفضلِه ورحمته، إنّه على كلّ شيء قدير.
وعليك ـ أيّها الشابّ المسلم ـ أن تستعينَ بالله في كلّ مهمّاتك، فلا يسيرَ إلا ما يسّره الله لك، فاستعِن بربّك، واسأله التوفيقَ، واصدق في نيّتك، وعفّ عن محارم الله، فوعدُ الله حقّ وآتٍ لا شكّ فيه، والله لا يخلف الميعاد.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أنَّ أحسنَ الحديث كتاب الله، وخير الهديِ هدي محمّد ، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلّ بدعة ضلالة، وعليكم بجماعةِ المسلمين، فإنّ يدَ الله على الجماعة، ومن شذّ شذّ في النار.
وصلوا ـ رحمكم الله ـ على عبد الله ورسوله محمد كما أمركم بذلك ربّكم، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىّ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمّ صلّ وسلّم وبارك على عبدك ورسولك محمّد، وارضَ اللهمّ عن خلفائه الراشدين...
ـــــــــــــــــــ(68/117)
الطلاق في الإسلام
...
...
4245
...
الأسرة والمجتمع, فقه
...
...
الطلاق, قضايا الأسرة
...
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
...
...
الرياض
...
27/2/1420
...
...
جامع الإمام تركي بن عبد الله
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- الوصية بالنساء. 2- متى يشرع الطلاق؟ 3- نظام الطلاق في الإسلام. 4- نصائح وتوجيهات عامة للزوجين. 5- من أضرار الطلاق. 6- نصائح للزوجين بعد الفراق.
الخطبة الأولى
أمّا بعد: أيّها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عباد الله، عقدُ النكاح أحدُ العقودِ التي أمر الله بالوفاء بها في قوله جلّ جلاله: ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ [المائدة:1]. فعقدُ النكاح عقدٌ ذو شأنٍ كبير، ولذا وصفَه الله بأنّه ميثاق، وأنّ هذا الميثاقَ ميثاق غليظ، قال جلّ وعلا: وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مّيثَاقًا غَلِيظًا [الأحزاب:7]. نعم، إنه ميثاقٌ وأيُّ ميثاق؟! ميثاقٌ يقوم بسببِه البيت، فيه غضّ البصر وتحصين الفرج وحصول الولد وسكون النفس وطمأنينتُها.
أيّها المسلمون، وشريعةُ الإسلام شرَعت ما يسبّب استمرارَ هذا العقد وديمومتَه، ولذا أُمر الزوج بالصّبر على ما يستطيع الصبرَ [عليه] من أخطاءِ المرأة، في الحديث: ((لا يفرُك مؤمِنٌ مؤمنةً، إن كرِه منها خلُقًا رضيَ منها آخر))[1]، وأخبَر أنّ المرأة خُلِقت من ضِلع، وأنّ أعوج ما في الضلعِ أعلاه، فإن ذهبتَ تقيمه كسرتَه، وأمر أن نستمتِعَ بالنساء وأوصانا بهنّ خيرًا، فقال: ((استوصوا بالنّساء خيرًا، فإنها خلِقَت من ضلع، وإنّ أعوجَ ما في الضلع أعلاه))[2].
وهذا العقدُ استُبيح بكلمةِ الله، كما قال : ((أخذتموهنّ بأمانة الله، واستحلَلتم فروجهنّ بكلمة الله))[3].
وأمرَ الزّوج عندما يحصل من امرأتِه شيء من النشوز والعصيان أن لا يقابِلَ ذلك بالطلاق المتسرّع، وإنما أمَره أن يعِظَها ويذكّرها الله والدارَ الآخرة، فعسى موعِظة تصلِح الأخطاء وتزيل ما علق بالنّفوس، وجوّز له هجرَها في المضجع أو ضربَها الضربَ اليسير غيرَ المبرح، فعسى أن يردَعَها جهلُها وتعدِّيها على زوجِها.
والمرأة المسلمة أيضًا مطالَبَة بالصبر على زوجِها، وأنَّ عبادَتها لربِّها بمحافظتِها على عبادة الله ومحافظتها على الصلواتِ الخمس وطاعتها لزوجها سببٌ لدخول الجنة، في الحديث: ((إذا صلّتِ المرأة خمسَها وأطاعت بعلَها قيل لها: ادخلِي الجنّة من أيّ أبواب الجنّة شئتِ))[4].
أيّها المسلمون، وإذا لم تنفع الموعظةُ ولم ينفع الصّبر فالشرع أيضًا أمَر بحَكَمَين من قِبَل المرأة والرّجل، ينظران في شأنهما، فإمّا أن يحكُما باجتماعهما، وإمّا أن يحكما بافتراقهما، وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ حَكَمًا مّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا [النساء:35].
أيّها المسلمون، وعندما تتعذّر كلُّ أسباب الوِئام والاتّفاق فالإسلام شرَع الطّلاق، عندما تدعو الحاجة إليه، وعندما لا يكون سَببًا للخلاص من المشاكل إلاّ الطلاق، فإنّ شريعةَ الإسلام لا تجعل المرأةَ غِلاًّ في عنُق الرّجل دائمًا يشقَى بها، ولا تجعل المرأةَ تضيع مصالحُها بأسبابِ نزاعِها مع زوجها، فإنّ الحياةَ الزوجية إذا تكدّرت شقِي الرجل وشقِيت المرأةُ وشقيت الأسرَة، فشرع الطلاقَ عندما تدعو الحاجة إليه.
أيّها المسلمون، ولكن هذا الطلاق لم يُجعَل على أهواءِ الناس ومرادِهم، وإنما الطلاق على حسَب ما بيَّن الله في كتابِه وبيّنه رسوله محمّد ، فنظام الطلاقِ لم يستمدَّ من آراءِ الناس وتصوُّراتهم، وإنما جاء تشريعًا ربّانيًّا في كتاب ربّنا وفي سنّة نبيّنا ، وإذا التزم المسلم شرعَ الله في زواجه وطلاقه فإنّه يعيش على خير، لأنَّ في شرع الله حلَّ كلِّ المشاكِل على أيسرِ حال وأحسن، وإنما تأتي الفوضى عندما يخالِف المسلم شرعَ الله في الطلاق.
أيّها المسلمون، لقد كان العرَب في جاهليّتهم يؤذون المرأةَ ويلحِقون بها الأذى، فكان الرّجل يطلِّق حتى إذا قارَب انقضاء العدّة راجعها، وربما طلّقها مائة طلقة، وهكذا، فجاء الإسلام بنظامٍ للطلاق، نظامٍ يكفل مصلحةَ المرأة والرّجل معًا.
أيّها المسلمون، إنّ التزامَ المسلمين بشرع الله فيه خلاصٌ لهم من كلّ المشاكل، وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لّقَوْمٍ يُوقِنُونَ [المائدة:50].
أيّها المسلمون، الطلاقُ من أبغضِ الحلال إلى الله، كما في الحديث: ((أبغَض الحلال إلى الله الطلاق))[5]، ولكن لما كان حلاًّ للمشكلةِ كان فيه خير، وإلاّ فالأصل أنّ عدمه أولى، لكن إذا دعَت إليه الحاجة كان مستحَبًّا، وربما كان واجبًا.
أيّها المسلمون، إنّ شرعَ الله حثَّ المسلمَ على الإقلالِ من الطلاق وعدمِ التلاعُب به، فلا ينبغي للمسلِم أن يكونَ الطلاقُ على لسانِه دائمًا، ففي الحديثِ عنه أنه قال: ((ثلاثٌ جِدّهن جدّ وهزلهُن جِدّ: النكاح والطلاق والرّجعة))[6]، بمعنى أنَّ من طلّق وزعَم أنّه هازِل ولاعِب ولم يرِد حقيقةَ الطلاق لا يُقبَل ذلك منه؛ لأنّ الطلاقَ المعتبرُ فيه النّطقُ باللسان إذا كان الناطق به بالغًا عاقلاً يُدرك ما يقول، فلا يُعذَر بقوله: إنه تلاعَب بالطلاق وأظهَرَه من باب المزاح، لا، جدُّه جدّ وهزلُه جِدّ، فلا فرقَ بين هازله وجادّه. إذًا فالمسلم لا يتلفَّظ بالطلاق، ويبتعِد منه خشيةَ أن يقع الطلاق موقعَه.
ثانيًا: شريعةُ الإسلام جعَلت الطلاقَ على مراحل ثلاث، يقول الله جل وعلا: الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ [البقرة:229]، فإنّه إذا طلّقها الطلقةَ الأولى شُرع له أن يبقيَها في منزلهِ وأن لا يخرِجَها منه، كما قال تعالى: لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلاَ يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيّنَةٍ [الطلاق:1]، ثم قال: لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا [الطلاق:1]، فلعل الطلاق وقع في حالةٍ غير متروٍّ فيها، فيندم مع بقاءِ المرأة عنده، فتُغيَّر الأمور بتوفيق من الله. ثمّ إذا انقضت العدّة الأولى وطلّق الثانيةَ أيضًا فلعلّ خطأً منه أو منها فيزول، وإذا طلّقها الثالثة عُلِم أنَّ الأمر لا فائدةَ فيه ولا في بقائهما، فعند ذلك تحرم عليه إلاّ بعد نكاحِ زوجٍ آخر عن رغبةٍ لا تحليلاً. ولذا حرّم الشارع جمعَ الثلاث بلفظٍ واحد. طلَّق رجلٌ في عهدِ النبيّ امرأته ثلاثًا، فغضِب وقال: ((أيُلعَبُ بكتاب الله وأنا بين أظهر كم؟!)) حتى أن رجلاً قال: يا رسول الله، أأقتله؟[7].
أيّها المسلمون، وشرعُ الله حرَّم على المسلم أن يطلّق امرأته في طُهرٍ قد جامَعها فيه، فلعلّها أن تحملَ فيطول الأمر عليها، ثم يندَم إذا حملت، فقد زلّ لسانه بهذا الطلاق. كما حرّم عليه الشارع أن يطلّقها وهي حائِض، كلّ ذلك لأجل أن لا تطولَ المدة عليها، ولأجل أن لا يكونَ سببًا لافتراقهما؛ لأنها إن كانت حائضًا فلا يحلّ له مضاجعتُها، فربما كرِه مستقبلاً، فشرِع له أن يطلّقها في طهرٍ لم يجامعها فيه، أو يطلقَها حاملاً قد استبان حملها.
طلّق ابن عمر رضي الله عنهما امرأتَه وهي حائض، فبلغ النبيَّ فتغيَّر وقال لعمر: ((مُر عبد الله أن يراجعَها حتى تطهر، ثم تحيض فتطهر، ثم إن بدَا له أن يطلّقَها فليطلِّقها في طهرٍ لم يمسّها))[8].
أيّها المسلمون، الطلاق شأنُه عظيم، فالحذَر من التهاون به، والحذَر من الاستعجال فيه وجعلِه على اللسان دائمًا أو تعليق الأمور به أمرًا أو نهيًا، فالبعض من المسلمين ـ هدانا الله وإياهم ـ لا يبالي بهذا الأمرِ العظيم، على أتفهِ الأسباب يعلِّق طلاقه عليه، رُبما أتاه ضيف فأراد إكرامَه، فلم يستجِب له، فقال: عليّ الطلاق أن تأكلَ الذبيحة، وعليّ أن أفعلَ، وعليّ الطلاق أن لا أفعل، كلّ هذا من الخطأ. فلنجنّب ألسنتَنا هذه الأمورَ، ولنتروَّ في أمرِ طلاقنا، ولا نستعجِل، فنندم ولا ينفع النّدم.
وعلى المرأةِ المسلمة أن تتّقيَ الله في تعامُلها مع زوجِها، ولا تحمله على هذا الأمر، ولا تسلُك الطريقَ الذي يسبّب استعجالَه في هذا الأمر، بل لتراعي شعورَ زوجها، وتراعي أحاسيسَه، ولا تحمله على الطلاقِ ما وجدت لذلك سبيلاً. فعندما تراه غضبانًا ومنفعلاً فلتبتعِد عن كلّ أمر يُثير غضبَه، لتترك بعضَ الأمورِ التي لا خيرَ فيها، ولتعرِض عن بعض المعاتبةِ التي قد لا يكون هذا موضعَها، فإنّ المرأة إذا رأت غضبَ زوجها وانفعالَه، ثم بدأت تزيد النارَ نارًا، فربما وقع طلاق فتندَم ويندم الرجل.
أيّها المسلم، للطلاقِ آثارُه غير الحسنة لمن استعجَل فيه، فالطلاق ضرَر لمن يتأمّل؛ تكون المرأة أيّمًا، يتشتّت أمرُ الأسرة، يضيع الأولاد بين طلبِ الأب وبين طلب الأمّ، وربما حصل بين الزوجين عنادٌ في زيارةِ الأبناء لأمّهم أو أبيهم.
المقصود أنّ الطلاَقَ ضررُه عظيم، ولولا الحاجةُ الملحّة إليه ما أباحه الشارع، فالواجِب على الزوجين تقوى الله في أنفسهما، وأن يتذكّرا هذه الأضرارَ للطلاق تذكُّرًا يدعوهما إلى الصّبرِ والتحمّل، فعلى الرجلِ أن يصبرَ ويتحمّل الأخطاء ويحاوِل أن يصبرَ ما دام الأمر لا يتعلّق بالعرض، فيصبر ويتحمّل، فلعلّ العاقبةَ حميدة، وعلى المرأةِ تصبر أن أيضًا وتحتسِب، ولا تدخل في مهاتراتٍ مع زوجها، فيسبّب ذلك فراقَها.
فلنتّق الله في أمورنا، لنتّق الله في طلاقنا ورجعاتنا، ولهذا شرِع للزوجين بعد الطلاق الرجعةُ إن أرادا الإصلاحَ، ما دامت الطلقة الأولى أو الطلقة الثانية.
فعلى المسلِم أن يتّقيَ الله في طلاقه ورجعتِه، وأن يكونَ صادقَ المقال، لا يكون متناقضًا.
بعضُ الإخوة ربما أتى المحكمةَ وطلّق المرأة، ثم إذا انتهى الطلاق وأخذ صَكَّ الطلاق جعل يعتذِر ويقول: ما علِمت، وما فهِمت، وما بُيّن لي، واستعجل مَن كتَب الطلاقَ، إلى غير ذلك من التّرَّهات. سببُ ذلك استعجالهُ وعدمُ رويّتِه، ثم يحمِّل التبعات غيرَه.
فلنتّق الله في أنفسنا، ولنصدُق الله في تعامُلنا، ولنحذَر التهاونَ بهذا الأمر، فإنّ ما بعدَ الطلاق الثلاث أيُّ علاقةٍ مع الزّوج قبلَ زوجٍ آخَر تكون علاقةً سيئة، ويكون أمرًا محرَّمًا.
فلنتّق الله يا عباد الله، ولنأخذ الأمورَ بحكمة، ولا نستعجِل، ولا نقدم على هذا الأمر ما وجَدنا لذلك سبيلاً.
أسأل الله لي ولكم التوفيقَ والهداية والعونَ على خير، إنّه على كل شيء قدير.
يقول الله تعالى، بسم الله الرحمن الرحيم: يأيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النّسَاء فَطَلّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُواْ الْعِدَّةَ وَاتَّقُواْ اللَّهَ رَبَّكُمْ لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلاَ يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لاَ تَدْرِى لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا [الطلاق:1].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإيّاكم بما فيه من الآيات والذّكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم، ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] رواه مسلم في الرضاع (1469) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[2] رواه البخاري في النكاح (5186)، مسلم في الرضاع (1468) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[3] رواه مسلم في الحج (1218) عن جابر رضي الله عنه.
[4] أخرجه أحمد (1/191) من حديث عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه، قال المنذري في الترغيب (2/671): "رواة أحمد رواة الصحيح خلا ابن لهيعة، وحديثه حسن في المتابعات"، وعزاه الهيثمي في المجمع (4/306) للطبراني في الأوسط وقال: "فيه ابن لهيعة، وحديثه حسن، وبقية رجاله رجال الصحيح"، وله شاهد من حديث أبي هريرة عند ابن حبان (4163)، وآخر من حديث أنيس عند البزار (1463، 1473)، وأبي نعيم في الحليلة (6/308)، وثالث من حديث عبد الرحمن بن حسنة عزاه الهيثمي في المجمع (4/306) للطبراني، ولذا حسنه الألباني في آداب الزفاف (ص286)، وانظر: صحيح الترغيب (1932).
[5] أخرجه أبو داود في الطلاق، باب: في كراهية الطلاق (2178)، وابن ماجه في الطلاق، باب: حدثنا سويد بن سعيد (2018) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، وأعِلّ بالإرسال، لذا ضعفه الألباني في الإرواء (2040).
[6] أخرجه أبو داود في الطلاق، باب: في الطلاق على الهزل (2194)، والترمذي في الطلاق، باب: ما جاء في الجد والهزل في الطلاق (1184)، وابن ماجه في الطلاق، باب: من طلق أو نكح... (2039) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب"، وحسنه الألباني في الإرواء (1826).
[7] أخرجه النسائي في الطلاق، باب: الثلاث المجموعة وما فيه من التغليظ (3401) من حديث محمود بن لبيد رضي الله عنه، وأعله ابن كثير في تفسيره (1/278) بالانقطاع، وقال الحافظ في الفتح (9/362): "رجاله ثقات, لكنّ محمود بن لبيد ولد في عهد النّبيّ ولم يثبت له منه سماع, وإن ذكره بعضهم في الصّحابة فلأجل الرّؤية, وقد ترجم له أحمد في مسنده وأخرج له عدّة أحاديث ليس فيها شيء صرّح فيه بالسّماع. وقد قال النسائي بعد تخريجه: لا أعلم أحدا رواه غير مخرمة بن بكير ـ يعني ابن الأشج ـ عن أبيه اهـ. ورواية مخرمة عن أبيه عند مسلم في عدة أحاديث، وقد قيل: إنه لم يسمع من أبيه"، وصححه الألباني في غاية المرام (261).
[8] أخرجه البخاري في الطلاق (5252، 5253)، ومسلم في الطلاق (1471) عن ابن عمر رضي الله عنهما نحوه.
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا كما يحبّ ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمّدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
أيّها الزوج الكريم، عندما يقع منك طلاقٌ لامرأتك فلا يكن هذا الطلاقُ سببًا لنِسيان ما بينك وبين المرأةِ من صلاتٍ ومودّة، ولا يكن هذا الطلاقُ سببًا لمواقِفَ سيّئة تتّخذها من المرأة لا سيّما إذا كان لها أولاد، فتحاول أحيانًا أن تجعلَ الأولادَ لك دونها، وتحاول أن تمنعَ صلتَهم بأمّهم، كما أنّ بعضَ النسوة ربما تتّخِذ موقفًا سيّئًا من زوجِها، فتحاول قطعَ صِلةِ أبيهم بأولاده، وتبغِّض الأبَ لأولاده، وتحاول أن تجعلَ بين الأولاد والأب انفصالاً، كلّ هذا من الزوجين خطأ. الواجبُ التعاون، ولا يذهَب الأولاد ضحيّةً لنزاعِ الرجل والمرأة، ألا تسمَع الله يقول: وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ [البقرة:241]، ويقول: وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ [البقرة:237]؟!
فإذا حصَل الطلاق ـ لا قدّر الله ذلك ـ فإنّ الواجبَ أن لا يتَّخذَ الزّوجُ موقِفًا من امرأتِه وموقفًا من أهلِها، يتمثّل في الإضرار بالبنين والبنات، ومتابعتهم والشكاية الدائمة، ويطلب كذا وكذا، ويقدَح في الأمّ وأهلها، ويقول: ليسوا أهلاً لتربيةِ الأولاد ولا حضانةِ الأولاد، أو تتّخِذ الزوجة موقفًا من زوجِها مع أهلها ضدّ ذلك الزوج، ويكون الضحيّة هؤلاء الصّغار، بين تعصّب الأبِ وتعصّب الأم وأهل الجميع.
الواجب تقوى الله والتعاونُ على البر والتقوى، وأن لا يَكون الطلاق سببًا للعداوةِ والبغضاء، وإنما هذه أمورٌ شرعها الله، والله أحكَم وأعدل، والأرواح جنودٌ مجنّدة، فما تعارفَ منها ائتلفَ، وما تناكر منها اختلف. أسأل الله أن يوفّقني وإيّاكم جميعًا لكلّ خير.
إنّ الحرصَ على شكاية الزوجين لأحدهما والترافع إلى المحاكم ليس أمرًا يسيرًا، هذا يترك أثرًا سَيّئًا في المستقبل، والواجب أن نتداركَ هذه الأمور، ولا يحملنا الطلاق على موقفِ أحدنا من صاحبه، وإنما تمضي الأمور على كلّ حال، ويتعاون الجميع في سبيل تربيةِ هذا النشء وإصلاحه وإعدادِه، فإنّ الأبناء إذا شاهَدوا نزاعَ الأبوين، أبٌ يتعصّب ويتشدّد، وأمٌّ كذلك، وأهلُ المرأة وأهل الرّجل، فإنّ أثرَ ذلك يكون سيّئًا على مستقبَل الأولاد ونفسيّاتهم.
فلنتّق الله في أمورنا، أسأل الله لي ولكم التوفيقَ والهداية لكلّ خير، وأن يجعلَنا ممن يستمِعون القولَ فيتّبعون أحسنه، أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب. إنما هي وصايا لإخواني المسلمين، حرصًا على التعاونِ على الخير والتقوى. أسأل الله القبولَ لي ولكم.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أن أحسنَ الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمّد ، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلّ بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإنّ يدَ الله على الجماعة، ومن شذّ شذّ في النار.
وصلّوا ـ رحمكم الله ـ على محمّد كما أمركم بذلك ربّكم، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيّ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمّد، وارض اللهمّ عن خلفائه الراشدين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر أصحاب نبيّك أجمعين، وعن التابعين وتابعيهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنّا معهم بعفوك وكرمك وجودك وإحسانك يا أرحم الراحمين...
ـــــــــــــــــــ(68/118)
صلة الرحم
...
...
4248
...
الأسرة والمجتمع
...
...
الأرحام
...
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
...
...
الرياض
...
10/4/1420
...
...
جامع الإمام تركي بن عبد الله
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- الحثّ على صِلة الرحم. 2- طرق صلة الرحم. 3- آثار صلة الرحم. 4- أمور تبعث على قطيعة الرحم. 5- وصايا عامة للأرحام. 6- تعريف الأرحام. 7- مشروعية صرف الزكاة والصدقة على الأحارم المحتاجين.
الخطبة الأولى
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، حديثي اليوم معكم ـ أيها الإخوة ـ عن خلُقٍ كريم من أخلاقِ الإسلام، هذا الخلُق الذي ـ وللأسف الشديد ـ قلّ منّا من يعتني به، وقلَّ منا من يهتمّ به، وقلّ منا من يعرِف قدرَه، فأصبح من يقوم بهذا نادرًا بيننا، وذاك لضعفِ الإيمان وسيطرةِ المادية على النفوس، فأصبح الغالبُ منا اهتمامُه بذاتِه وبالمحيط به من أولادِه ونحو ذلك، وأمّا عنايةٌ بالرحم صلةٌ للرحم واهتمامٌ بهذا فهذا أمر ـ وللأسف الشديد ـ قلّ منا من يقوم بحقِّ هذا الواجب ويعرف قدرَه.
صلةُ الرحم خلقٌ كريم، دَعا الإسلام إليه، ورَغَّب فيه، وبيَّن الثواب العظيم لمن اعتنى به، ورَتّب الوعيدَ الشديد على قاطع الرحم.
أيّها المسلم، صلةُ الرحم خلُقٌ من الأخلاق الكريمة، هذا الخلق من اعتنى به وقام به حقَّ القيام جعل الله له بركةً في عُمره وبركةً في ولده وبركةً في رزقِه وعاش بخيرٍ وفارق الدنيا على خير، ولكن النفوسَ بحاجة إلى أن تروَّض هذا العملَ الصالح، فإنّ النفس أمّارةٌ بالسوء إلا ما رحِم ربّي، لذا يتعيَّن علينا الاهتمام بهذا الخلق والعناية به حقَّ العناية؛ لننال رضَا الله عنّا ونبتعدَ عن سخطه وعُقوبته.
أيّها المسلم، إنَّ صلةَ الرحم خلقٌ إيمانيّ يدعو إليه الإيمانُ بالله ورسولِه، اسمع الله يقول: أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنقُضُونَ الْمِيثَاقَ وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ [الرعد:19-21]، فهم يصلون الرحمَ التي أمر الله بصِلتها، ويقول في ضدّ أولئك: وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ [الرعد:25]، فجعل الله قطيعةَ الرحِم نقضًا لما أمر الله أن يوصَل، وجعله فسادًا في الأرض، وقال: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمْ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ [محمد:22، 23]، إنّه لَوعيدٌ حيث وُصِف القاطِع بأنه مفسِد في الأرض وأنّه معرَّض للعنة الله وغضَبه، واللعنةُ هي الإبعاد عن رحمةِ الله وفضلِه، وقال: يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا أي: القرآن وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الفَاسِقِينَ الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ [البقرة:26، 27].
وبيّن جلّ وعلا في المواثيق التي أخذها على بني إسرائيل: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى [البقرة:83]، وقال: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ [النساء:36].
أيّها المسلم، هذه آياتٌ واضحة ترغّب من صِلة الرّحم، وآياتٌ فيها الوَعيد الشديد على قاطِع الرحِم. فما هي صلة الرحم؟ صلتك لرحمك تكون بأمور:
فأولاً: الإنفاقُ عليهم إن يكونوا فقراء وأنت قادرٌ على ذلك، فتواسيهِم بشيءٍ من مالِك لتدفعَ حاجاتهم وتقضيَ مهمّاتهم.
وثانيًا: تفريجُ همومهم وقضاءُ حوائجهم.
وثالثًا: زيارتهم والبشاشةُ في وجوهِهم إن لقيتَهم وتعاهدُهم بذلك.
ومِن صلةِ الرحِم أن تتحسَّس مشاكلَهم وتنظرَ حاجاتِهم وتعتنيَ بهم، فذاك صلةٌ ينفعك الله بها في دنياك وآخرتك.
ومن صلتهم أن تصبرَ على أذاهم، وأن لا تقابلَ إساءتهم بالإساءة، وإنما تقابلُ إساءَتهم بالعفوِ والصفح والتّحمّل.
ومن صلتهم أن تجتنبَ المخاصمةَ معهم والنزاعَ معهم، وتبتعدَ عن كلّ ما تظنّه يثير المشاكلَ بينك وبينهم حتى يبقى الودُّ بينكم، وتتوارثون تلكم الأخلاقَ الكريمة الفاضلة.
أيّها المسلم، صلتُك لرحمك عزٌّ لك في الدنيا ورفعةٌ لك في الدنيا، ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ [فصلت:34، 35]، هذا في البعيد فكيف بالقريب؟! إذًا فتحمّلُك لأخطائِه وصَبرك على زلَلِه وبذلُك المعروفَ له يجعلُه الله وليًّا حميمًا لك بطيبِ الأخلاق وحُسن [التصرُّف]. صلةُ رحمِك يجعل الله [بها] بركةً في عمرك، فيكون عمرُك عُمرًا مباركًا، وقد يجمع الله لك بين بركةِ العمر وبين اتِّساع الأجل. صلتُك لرحمِك يُنزل الله [بها] البركةَ في رزقك، وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ [البقرة:272]، وقال جلّ وعلا في كتابه العزيز: وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [سبأ:39].
أيّها المسلم، قد يحمل على القطيعةِ أمور، فمنها أولاً: قد يكونَ حسدٌ من بعضٍ لبعض، فيحسدُ بعض الأقارب بعضَهم على ما آتاه الله من نعمةٍ وخير، فيحسده، فيحمِله الحسَد على قطيعتِه وتمنّى زوالِ النعمة عنه والعياذ بالله. وقد يحمِله على القطيعةِ إمّا طاعةٌ للنّساء أو طاعةٌ للسّفهاء، فيحملونه على قطيعةِ رحمِه، ويزيّنون له القطيعة، ويحسِّنونها له حتى يقطعَ رحمَه، فيقع في سخَط الله وغضَبه. وقد يحمِل على القطيعةِ نزاعاتٌ ماليّة واختلاف في الميراثِ ونحو ذلك. فالواجبُ تقوى الله وتعاوُن الرحِم فيما بينهم وتلافي تلك الأخطاء، فقد يكون الميراث أحيانًا سببًا لنزاعِ الرحم، فهذا يجحَد حقَّ هذا ويظلِمه بجُحدان حقِّه، وقد يكون سببُ النزاع اختلافًا في الأوقاف والوصايا ونحو ذلك، مما يسبِّب قطيعةً بين الرّحم، ومن اتَّقى الله جلّ وعلا أعطَى كلَّ ذي حقّ حقَّه، وأبرأ ذمَّته ولم يجعل للنّاس عليه سبيلاً.
فبعضُ الناس قد يتولّى قسمةَ الترِكات مثلاً، فيجور في القِسمة، بمعنى أن يخفيَ بعضَ الأشياء، ويدلّسَ بعضَ الأشياء، ويجعل الجيِّد من نصيبِه والضعيفَ من نصيبِ غيره، وقد يكون وكيلاً على وصَايا أو أوقاف، فلا يعطي الناسَ حقوقَهم ويتلاعَب بذلك.
فاتّقوا الله ـ يا عباد الله ـ في أرحامِكم، واحذَروا أسبابَ القطيعة، وابتعِدوا عنها.
أيّها المسلم، قد يكونُ بينك وبين رحمِك خصومةٌ قد يضطرّ أحدُكم إلى القضاء، فالذي يتعيَّن بين الرحِم أن يفصِلوا نزاعَهم بينهم، وأن يكونَ حلُّ مشاكلِهم فيما بينهم، فإنهم إن ترافَعوا للقضاءِ فحكِم لهذا على هَذا ازدَاد الشرُّ واتَّسعت شقّة الخلاف وأصبَح الرحِم متقاطعين فيما بينهم.
أيها المسلم، قد تكون أنت واصِلاً ومحسِنًا وذا فضلٍ وخلُق، لكن لا يعرفها لك بعضُ رحمك، فلا تؤاخِذْهم بزلاّتهم، ولا تحسِب عليهم أخطاءَهم، بل احتمِل ذلك واجعَله في سبيل الله، والعاقبةُ للتقوى.
أيّها المسلم، رحمُك كلُّ قريبٍ يمتُّ لك بصِلة من جِهة أمّك أو أبيك، فإخوانُك وأخواتك وأعمامُك وبنو عمِّك وعمّاتك وأخوالك وخالاتُك ومَن لك بهم صِلة من جهةِ الأمّ أو الأب كلُّهم رحِمٌ لك، فاتَّق الله في رحمك.
أخي المسلم، قد تقول: أنا لا أستطيعُ صلةَ رحمي كلِّهم، نقول: تصِل ما تقدِر على صِلته، وابدأ بالأقربِ فالأقرَب، وليكن صدرُك رَحبًا لرَحمك ومتَّسعًا لهم وصابرًا عليهم، ومُشعِرهم بما بينَك وبينهم من روابطَ وصِلات.
قد تقول: لا يمكنني زيارةُ الجميع، نقول: يا أخي، ليكن من قلبِك حبٌّ للخير لهم، وابذُل جهدَك على أن يكونَ بينك وبين رحمك صِلة بأيّ طريق، بأيّ وسيلة، وإن طال الوقت، لكن لا يكن في قلبك للرَّحم بغضٌ أو شَحناء أو عداوة، طهّر قلبَك من الحِقد على رحمك، وليعلمِ الله منك حبَّك لهم وحرصَك على صِلتهم إن احتاجوا إلى ذلك.
أيها المسلم، إنَّ أعظمَ حاجة الرَّحم أحيانًا احتياجُهم إلى شيءٍ من المال، فإذا علمتَ حاجتَهم وفقرَهم فبادِر بصِلتهم وإن لم يسأَلوك، وابدأهم بالمعروفِ وإن لم يطلُبوك، لتكونَ بذلك من الواصِلين، تبتغِي بذلك وجهَ الله والدار الآخرة.
أيّها المسلمون، سنّة محمّدٍ ترغِّب في صلةِ الرحم وتحثُّ عليها، فيقول لنا مبيِّنًا حقيقةَ الواصِل لرحمِه: ((ليسَ الواصلُ بالمكافئ، إنما الواصلُ الذي إذا قطعَت رَحمه وصلَها))[1]، فيقول لنا : إنّ الذي يكافئُ مَن يحسِن إليه هذا بذَل معروفًا مقابلَ معروف، فليسَ له فضل، ولكنّ الواصلَ حقًّا من إذا قطعت رحمُه وصلَها، هذا هو الواصل، تقطعُه رحمهُ وتبغِضه وتسبُّه وتكرهه وتحسدُه، ومع هذا فهو يصِلهم مع قطيعتِهم له ومع بغضِهم له وكراهيتِهم له، فهو يصِلهم على رغمِ ما يحصُل منهم؛ لأنه يريد بصلَتهم وجهَ الله، أحسَنوا إليه أم أسَاؤوا، ولهذا قال رجل: يا رسول الله، إنَّ لي رحمًا أصِلهم ويقطعونني، وأحسِن إليهم ويسيئون إليَّ، وأحلم عليهم ويجهَلون عليَّ، قال: ((إن كنت كما قلت فكأنما تسِفُّهم الملّ))، أي: الرماد الحار، بمعنى أنك تؤلِمهم وتدخِل عليهم الألم بإحسانِك مع إساءتهم، ((ولا يزال معك ظهيرٌ من الله عليهم ما دُمت على هذا))[2]، يعني: أنك إذا استمرَرت على أنك تحسِن إليهم مع الإساءة والقطيعة فالله يجعل لك ناصرًا عليهم ومؤيِّدًا.
أيّها المسلمون، ويبيِّن أنّ صلةَ الرحم من أخلاقِ المؤمنين فيقول: ((مَن كان يؤمن بالله واليومِ الآخر فليصِلْ رحمه))[3]، وبيَّن ما في صِلة الرحم من البركةِ فيقول: ((من أحبَّ أن ينسَأ له في أجله ويبسَط له في رزقه فليصِل ذا رحمه))[4].
رأى عمرُ رضي الله عنه حُلَلَ حريرٍ تُباع عند المسجِد فقال: يا رسول الله، لو اشتريتَ حلّةً تلبسها يومَ الجمعة وعند الوفود، قال: ((يا عمر، إنما يلبَس هذه من لا خلاقَ له))، قال: وأهدِي النبيّ حلّةً من حرير فبعثَها إلى عمر، فقال: يا رسول الله، كنتُ قلتُ لك في الحلّة العطارديّة فقلتَ: ((إنه لا يلبسها من لا خلاق له))! قال: ((لم أبعَثها لتلبسَها))، فأهداها عمر لقريبٍ له مشرِك في مكّة[5]. هذا يدلّ على أن الرحمَ توصَل ولو كان غيرَ مسلم لأنّ الصلة مطلوبة.
قالت أسماء: يا رسول الله، إنّ أمي أتتني راغبَةً أفأصِلُها؟ فأنزل الله: لا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [الممتحنة:8]، فأمرها بِصِلَتها[6].
أيّها المسلم، وللرّحم شأنٌ لمن وصلَها وقام بحقِّها، فهي سببٌ لسعادته ورضَا الله عنه، يقول في الحديث عنه : ((إنَّ الله لما خلَق الخلقَ وفرغ منهم قامت الرحم فقالت: يا ربّ، أنت الرحمن وأنا الرحِم، هذا مقامُ العائذِ بك من القطيعة، قال: ألا ترضَينَ أن أصِل من وصَلكِ وأقطع من قطعك؟! قالت: نعم، قال: فذلك لك))[7]. فالرحِم قامت تسأل الله أن يصلَ من وصَلها ويقطعَ من قطعها، فأعطاها الله ذلك.
أيّها المسلم، إنّ الصلةَ قد تكون صَعبةً على النفوس، وقد تكون ثقيلةً على النفوس، لا سيّما إن رأيتَ من الرحِم جفاءً، فاستعِن بالله، وروّض نفسَك على الخير، وأرغِمها على الخير، يمدّك الله بعون منه وتوفيقٍ وتأييد، فتنال العاقبةَ الحميدة في الدنيا والآخرة.
بارك الله لي ولكم في القرآنِ العظيم، ونفعني وإيّاكم بما فيه من الآياتِ والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفِر الله العظيم الجليلَ لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في الأدب (5991) عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
[2] أخرجه مسلم في البر (2558) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[3] أخرجه البخاري في الأدب (6138) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[4] أخرجه البخاري في الأدب (5985)، ومسلم في البر (2557) عن أبي هريرة رضي الله عنه نحوه.
[5] أخرجه البخاري في الجمعة (886، 948)، ومسلم في اللباس (2068) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[6] أخرجه البخاري في الجزية (3183)، ومسلم في الزكاة (1003).
[7] أخرجه البخاري في التفسير (4832)، ومسلم في البر (2554) عن أبي هريرة رضي الله عنه نحوه وليس فيه: ((أنت الرحمن وأنا الرحم)).
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربّنا ويرضى، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحده لا شريكَ له، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أما بعد: أيها المسلمون، اتَّقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، من أعظمِ صلةِ الرحم نصيحتُهم في الله وإرشادُهم إن رأيتَ منهم مخالفةً للحقّ، فمِن أعظم صِلتهم أن تنصحَهم وتحذِّرهم بأسَ الله وعقوبتَه، فإذا بلَغك عن رحمٍ سوءٌ من تهاونٍ بالصلاة ومِن قطيعة ومن عقوقٍ أو معاملة سيّئة وأخلاق رذيلة فبادِر بنصيحته، وبادر بتوجيهِه، وبادر بموعِظته، فتلك الصّلة العظمى. هدى الله الجميع لكل خير.
أيها المسلم، إنّ صلةَ الرحِم أمرٌ عُرف من أخلاقِ النبيّ ، فأبو سفيان حينما يعدّ أخلاقَ النبيّ وما يأمر به قال: (ويأمرُنا بالصلاة والعفاف وصِلة الرحم)[1].
أيّها المسلم، إنّ صلةَ الرحم تقضي بأن تخصَّهم بمعروفك إن كان معروفك قليلاً، وبزكاتِك إن تكن زكاتُك لا تكفي لغيرِهم، وفي الحديث عنه أنّه قال: ((صدقتُك على المسكين صدقةٌ، وعلى ذِي الرّحم اثنتان: صدقةٌ وصلة))[2]، فزكاتُك خُصَّ بها الفقراءَ من رحمك وأغنِهم بما تغنيهم، وإن فضَلَ فلغيرهم، فإنك إن تتبّعتَ رحمَك وعرفتَ الفقيرَ والمحتاجَ فخصصتَه بزكاتك فأنت بهذا جمعتَ بين أداءِ الواجب وصلةِ الرحم.
ميمونة أمّ المؤمنين زوجُ النبي أعتقَت وليدةً لها جارية لها، فلمّا أتاها النبيّ وكان عتقُها في غيبة النبيّ قالت: أما علمتَ أني أعتقتُ وليدتي فلانة؟ قال: ((أما إنّك لو أعطيتيها أخوالَك كان أفضلَ لك))[3]. فانظر العتق العظيمُ الذي يقول فيه النبيّ : ((من أعتقَ مملوكًا له أعتَق الله بكلّ [عضوٍ منه عضوًا] من النار حتى فرجه بفرجه))[4]، صار الهديّة للأخوالِ أفضلَ من العتق، ممّا يدلّ على أنّ صلةَ الرحم أمرٌ مرغَّب فيه شرعًا. فلنتدارك فيما بيننا ذلك الخلقَ الكريم، ولنُشِعه بيننا، ولنحمِل نفوسَنا عليه، ولنسأل الله العونَ والتأييد والتوفيق لذلك.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أنّ أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهديِ هَدي محمّد ، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلّ بدعة ضلالة، وعليكم بجماعةِ المسلمين، فإنّ يدَ الله على الجماعة، ومن شذّ شذّ في النار.
وصلّوا ـ رحمكم الله ـ على محمّد كما أمركم بذلك ربّكم، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمّ صلِّ وسلّم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وارضَ اللهم عن خلفائه الراشدين الأئمة المهديين: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر أصحابِ نبيّك أجمعين، وعن التابعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنّا معهم بعفوك وكرمك وجودك وإحسانك يا أرحم الراحمين...
[1] أخرجه البخاري في بدء الوحي (7)، ومسلم في الجهاد (1773) عن ابن عباس رضي الله عنهما في قصة أبي سفيان رضي الله عنه مع هرقل الروم.
[2] أخرجه أحمد (4/214)، والترمذي في كتاب الزكاة (658) والنسائي في الزكاة (2582)، وابن ماجه في الزكاة (1844) من حديث سلمان بن عامر رضي الله عنه، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وصححه ابن خزيمة (2385)، وابن حبان (3514)، والحاكم (1/431-432)، ووافقه الذهبي، وهو في صحيح الترغيب (892).
[3] أخرجه البخاري في الهبة (2592)، ومسلم في الزكاة (999) عن ميمونة رضي الله عنها.
[4] أخرجه البخاري في كفارات الأيمان (6715)، ومسلم في العتق (1509) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
ـــــــــــــــــــ(68/119)
أضرار المخدّرات على الأفراد والمجتمعات
...
...
4249
...
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
...
...
الكبائر والمعاصي, قضايا المجتمع
...
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
...
...
الرياض
...
17/4/1420
...
...
جامع الإمام تركي بن عبد الله
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- العقل نعمة من الله تعالى. 2- خطر المخدّرات وأضرارها. 3- نصحية للمبتلَين بالمخدرات. 4- وصية الآباء بالمحافظة بأبنائهم والعناية بهم. 5- ضرورة التعاون في دفع هذا البلاء ورفعه. 6- إقامة الحد على مروِّجي المخدرات.
الخطبة الأولى
أمّا بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عباد الله، يقول جل جلاله ممتنًّا على عباده عامَّة: وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى ءادَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِى الْبَرّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مّنَ الطَّيّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً [الإسراء:70].
أيها المسلمون، في هذه الآية يبيّن الله تكريمَه لبني الإنسان، كرّم الله بني الإنسان، وفضَّلهم على كثيرٍ ممن خلق تفضيلاً، هذا التكريم تمثَّل في خلق الله لابن آدم على أحسنِ تقويم، لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِى أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ [التين:4]، ياأَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبّكَ الْكَرِيمِ الَّذِى خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ فِى أَيّ صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ [الانفطار:6-8]. خلقه فأحسَن خلقَه، فصار خَلقه في أحسنِ خَلق وأكمله، ثم كرَّمه بالعقل الذي يميِّز به بين النافع والضار وبين الخير والشر، وإذا كمُل هذا العقل ميّز الهدى من الضلال والحسَنَ من القبيح بتوفيق الله وهدايته له.
وهذا العقل أُمِر العبد بالمحافظة عليه وإبعاد كلِّ ما يفسده ويكدِّر صفوَه، فإنَّ به حياةَ الإنسان، وإذا خلا من هذا العقل صار جسدًا خواء لا فائدةَ فيه ولا خيرَ من وجودِه، ولذا بيَّن الله ندمَ أهل النار يومَ القيامة فقال عنهم: وَقَالُواْ لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِى أَصْحَابِ السَّعِيرِ [الملك:10]، لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ إنهم ليسمعون ويعقِلون، ولكنهم لم ينتفِعوا بعقولهم ولم يستفيدوا منها، وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مّنَ الْجِنّ وَالإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ ءاذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ [الأعراف:179]، لهم عقول لكن لم يفقهوا بهذا العقل، ولم يستعملوه فيما ينفعهم، بل عطَّلوا منافعَه.
أيها الإخوة، إنَّ العقل نعمة من الله على عبده، متى سعى في إضعافه فإنه قد جنى على نفسه جنايةً عظيمة.
أيها الإخوة، إن هناك سلاحًا فتّاكًا ومرضًا خفيًّا، سلاحًا فتّاكًا في قلب المجتمع المسلم، ومرضًا وداء عُضالاً، ألا وهو داء المخدِّرات، ذلك السلاح الفتّاكُ الذي يفتك بالأمة ويقضي على كيانها ويقضي على أخلاقها، ويحطِّم الأمّة، يحطّم قوّتها المعنوية والمادية، ويجعلها أمة لا تعي ولا تعقل ولا تدرك.
هذا السّلاح الفتّاك استعمله أعداءُ الإسلام لضرب أمّة الإسلام، بل استعملوه لضرب الشعوب عمومًا، ليقضوا على كيان المجتمعات وعلى قيَمها وعلى أخلاقها وعلى فضائلها، ولا سيّما الأمة المسلمة، فهم حريصون على ما يضعف كيانَ الأمة المسلمة، وعلى ما يدمّر قِيمها وأخلاقها وفضائلَها؛ لأن الأمة عزيزةٌ بدينها وعزيزة بقيَمها وفضائلها، وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ [المنافقون:8]. فالمؤمنون بدينهم وأخلاق إسلامهم أعزّاء، ومتى فقدوا أخلاقَهم ومتى فقدوا قيمَهم وفضائلهم فإنهم كما قال الله: إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً [الفرقان:44]، وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ [محمد:12].
أيها المسلمون، تسمعون في بعضِ الأحيان إعلانًا عن عقوبةِ مروِّجي المخدِّرات، والتحدّث عن جريمتهم، وكيف أدخلوا هذا البلاءَ العظيم إلى بلادِ الإسلام، وأنهم يضعونها في أحشائهم ويفعَلون ويفعلون، هؤلاء المجرمون الآثمون الذين أرادوا بهذا البلاءِ إفسادَ الأمة وضياعَ دنيها وأخلاقها هم جزء من مؤامرةٍ عالمية على الإسلام وأهله؛ لأن هذا الداءَ متى ما حلَّ في أيّ مجتمع فإنه كفيل بتدمير القيَم والفضائل.
أيها المسلمون، إنَّ داءَ المخدّرات إفسادٌ في الأرض، والله لا يحبّ الفساد، والله لا يحبّ المفسدين، إفسادٌ في الأرض، وأيُّ إفسادٍ أعظم من فساد هذه المخدرات؟! إنها تجعل متعاطيها عُضوًا أشلَّ في مجتمعه، تجعله منحرفَ الأخلاق فاسدَ الطباع، تجعله لا يشعُر بمسئوليّة، ولا يهتمّ بواجب، ولا يرعى زوجةً وأولادًا، تجعله يلهث وراءَ تلك المخدّرات، ويبذُل كلَّ جهده ومالِه وعِرضه في سبيل الحصول عليها، تراه ـ والعياذ بالله ـ شقيًّا في نفسه، يشقى به بيتُه من زوجةٍ وأولاد وأبوين، فهم يشقَون به بما يشاهِدون من حالته السيّئة وانحرافه الخلُقيّ وفساده والعياذ بالله، أجل إنهم يشقَون به، فهو يجلِب عليهم المصائبَ، ويضَعهم في غايةٍ من الاضطراب، إنهم لا يأمنون حياتهم أمامَه، ولا يدرُون ماذا سيفاجِئهم به، فإنه إن لم يجِد ما يشتري به هذا المخدِّر بذل كلَّ ما يملك، بل حتى محارمَه يرضى أن يقدِّمهم لمن يعطيه هذا الداءَ الخبيث، إنها جريمةُ العصر وبليّةٌ من البلايا. نسأل الله أن يحفظَ المسلمين من كيدها.
أيها الإخوة، إنهم لا يدرون ماذا سيفاجئهم، وإنّه أحيانًا قد ينحرِف حتى ربما قتَل ولدَه وأمّه وزوجتَه وقتل من حَوله، إنه يتصرَّف تصرّفاتٍ هوجاء، تصرّفاتِ فاقدِ العقل، وأحيانًا يكون فاترًا يلقِي نفسه في الطّرقات، ويغدو مع الناس لا يشعُر بما يقول ولا بما يدور حولَه، يعيش في خيالٍ، لا يدري عن واقعِه الذي يعيش فيه.
أخي المسلم، اتَّق الله في نفسِك، فإن كنتَ ممن ابتُليتَ بهذا الداء فحاوِل التخلّصَ منه، حاول التوبةَ إلى الله والتخلّص من هذا الداءِ الخبيث، تخلّص منه بقدرِ ما يمكن، فإنّ التوبة مفتوحة، بابُ التوبة مفتوح، ومن أراد البعدَ عن السوء فإنّ الله سيعينه.
أخي المسلم، لا تقل: هذا داءٌ استفحل لا أستطيعُ علاجه. لا، حاوِل واعقِد العزيمة الصادقةَ والجأ إلى الله وتضرَّع بين يديه أن يخلِّصَك منه ويعافيَك من شره.
أخي المسلم، من ابتُلي بترويجها وبيعها فليتَّق الله في نفسِه، وليعلم أنّه من المفسدين في الأرض، والله لا يحبّ الفساد، إنّه داخل في قوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِى الْحياةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِى قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْفَسَادَ [البقرة:205].
فاتّق الله، وتخلَّص من هذه التجارةِ الخبيثة، لا يخدعنَّك ما تدرُّه عليك من مالٍ، فإنّ هذا المال مالٌ خبيث ومكسب سيّئ وحرامٌ عليك، إنه مالٌ حرام عليك، مكسَب خبيث، إن تصدَّقت ما قَبِل الله صدقتَك، وإن أنفقتَه ما قبِل الله منك، وإن تركتَه كان حَطبًا عليك يومَ القيامة. إنه مالٌ خبيث لا خيرَ فيه. فاتّق الله أن تطعِم نفسَك وأولادَك هذا المكسبَ الخبيث، تخلّص منه ـ أخي المسلم ـ وتُب إلى الله من شرّه.
أيها الآباء الكرام، اتَّقوا الله في أولادكم، وربّوهم التربيةَ الصالحة، وراقبوا أخلاقَهم وسُلوكهم ومَن يستصحِبون ومن يصاحِبون ويعاشِرون، راقبوا ذلك بكلِّ دقّة، فإنَّ مراقبتَكم لهم بتوفيقٍ من الله تجعلهم في أمانٍ من الوقوع فيها، وإذا أهملتم الأولادَ وتركتم تربيتَهم ولم يكن عندكم علمٌ بأين ذهبوا ولا مع من ذهبوا فيوشِك أن يقتنصَهم جلساءُ السوء، ويغرُونهم بهذا البلاء، فيصعبُ عليك أن تخلِّصَهم من هذا البلاء.
فيا أيها الآباءُ الكرام، ربّوا الأولادَ ووجِّهوهم، وحثُّوهم على الخير، وبيِّنوا لهم أضرارَ تلك المخدّرات، وحذِّروهم منها ومن صُحبة أهلها.
أيها المسلمون، هذه التجارةُ الخبيثة الملعونَة يدعو إليها أحيانًا ضَعفُ الإيمان وقِلّة الخوف من الله، فمن لا إيمانَ في قلبه ومَن ليس في قلبه خوفٌ من الله لا يبالي بأيّ مكسَب نال، لا يبالي بالمكاسِب أمِن حلالٍ أم من حرام، همُّه أن ينالَ المكاسب؛ لأنّ الإيمان ضعيفٌ في قلبه، فتغريهِ المادة والطمع السيّئ، إذا رأى أن تلك التجارةَ فيها ربح عظيم ضحى بدينه وأخلاقهِ ومصلحةِ أمتِه في سبيل الحصولِ على مالٍ خبيث، هذا المال لا يوفَّق فيه لخير، وإنما يكون مالاً حرامًا يؤول به إلى الفقرِ والبلاء والعياذ بالله.
أيّها الشباب المسلم، اتّقوا الله في أنفسكم، واحذَروا مجالسةَ من لا خيرَ فيه ومن لا خيرَ في صُحبته، حتى لا يغرُوكم بهذا الشرّ، ولا يوقعوكم في هذا البلاءِ، فاحذروا ـ عباد الله ـ من ذلك.
أيّتها الأمّة، إنَّ الله جل وعلا أمرنا أن نتعاونَ على البِّر والتقوى بقوله: وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ [المائدة:2]
فمِنَ التعاون على البرِّ والتقوى أن لا ندعَ لهؤلاء المجرمين إجرامَهم، لا ندعهم ينخُرون صفوفَ المسلمين، لا ندعهم يتمكَّنون من نشرِ بلائهم بين الأمة، بل نأخذ على أيديهم نصيحةً وتحذيرًا، ثم إبلاغًا بهم حتى لا نترك لهم المجالَ واسعًا. إنّ التستُّر عليهم وإخفاءَهم وإخفاءَ عيوبهم وتركَهم بلاءٌ على الأمة بلاء عظيم، يستشري في الأمة حتى يصعُب عليها العلاج، فلا بدّ من نصيحةٍ لمن قبل النصيحةَ، وكشفِ أحوالهم؛ لأنّ هذا بلاءٌ عظيم. نسأل الله العفوَ والعافيةَ لجميع المسلمين من كلّ بلاء.
أيها المسلمون، لم تصَب الأمة بداءٍ أعظم من هذا الداءِ الخبيث، ولا ببلاءٍ أعظم من هذا البلاءِ، فكم له من فساد في الأمة، يجعل الإنسانَ يعيش بلا روحٍ بلا عقلٍ بلا فِكر بلا رَأي، يجعل الإنسانَ أشبهَ ما يكون ببهيمةِ الأنعام، يجعل الإنسانَ لا يقدِّر مسؤوليةً ولا يشعر بواجبٍ ولا يربِّي أولادَه ولا يقوم بشؤونِ أسرته، كم أسَر تشقى من حالِ أبيهم، هو صاحبُ مخدّرات، لا يبالي بأولادِه، لا يسأل عن نفقةٍ عليهم، ولا يبالي بنفقتهم ولا بتوجيههم ولا بتعليمهم؛ لأنه يعيش في خيالٍ، يعيش في حالةٍ غير ما يعيش فيه النّاس، هو في ذلٍّ وهوان وفسادٍ وانحراف وفٌقدان فِكر ورأي ووعي. نسأل الله العفوَ والعافية.
فعلى المسلمين تقوَى الله والتناصُح فيما بينهم، وأن يعينَ بعضهم بعضًا على الخير، ويحذِّر بعضهم بعضًا عن الشرّ، ولا يدعوا للمجرمين أن يَعثوا في الأرض فسادًا، فإنهم إذا تُركوا وتغوضِي عنهم وسُتِرت حالهم يوشِك أن يعمَّ بلاؤهم، والبلاءُ ليس محصورًا فيهم، يتعدّى لفلانٍ وفلان وفلان، يتعدّى لي ولك وللكلّ. نسأل الله العفوَ والعافية في الدنيا والآخرة.
فعلى المسلمين تقوَى الله، وعلى مروِّجيها أن يتوبوا إلى الله ويتخلَّصوا من هذا البلاءِ العظيم، وعلى متعاطيها التوبةُ إلى لله، وعلى الآباءِ تربيةُ الأولاد وتوجيهُهم، وعلى المجتمعِ أن يكونَ ذا وعيٍ ويقظَة من بلاء أولئك.
أسأل الله أن يحفظَ الجميعَ بالإسلام، وأن يحيطَنا وإياكم بعنايتِه، ويوفِّقنا وإياكم للصواب، وأن يصلِح ذريّاتنا جميعًا، ويحفظَ شبابَ أمتنا من هذا البلاء ومن كيدِ أولئك، إنه على كلّ شيء قدير.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، يقول الله جل وعلا: إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مّنْ خِلَافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأرْضِ ذالِكَ لَهُمْ خِزْىٌ فِى الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ [المائدة:33].
أستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أمّا بعد: فيا أيها المسلمون، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، لما خرَجت هذه المخدراتُ في القرنِ الثامن من الهجرة وشاهدَ علماء الإسلام أضرارَها وفسادها حكموا عليها بأنها بَلاء، وبأنها أعظمُ من الخمر، بل قالوا: إنّ فيها مائةَ مفسدةٍ تفوق مفاسدَ شرب الخمر؛ لأنها تعطِّل في الإنسان الفضائلَ والأخلاق، تحوِّل ذلك الرجلَ العاقل إلى ديّوث خبيث، لا يبالي بمحارمه، ولا يشعر بأي ضررٍ يحيط به، تحوِّل كيانَه وفضائله وتجعله ـ والعياذ بالله ـ في غايةٍ من السَّفالة والرذالة؛ ولذا عزَّر المسلمون بقتل مروِّجها تخليصًا للأمّة من هذا البلاء، فقتلُ المروِّجين إنما هو من القضاءِ على المفسدين المحاربين لله ورسوله الساعين في الأرض فسادًا، فإقامةُ التعزير عليهم بقتلِهم إنما هو تنفيذٌ لحكم الله، والله لا يحبّ الفساد، وهؤلاء مفسدون لا خيرَ فيهم، ففي إيقاعِ القتل عليهم ردعٌ لأمثالهم ومَن تسوِّل نفسُه هذه الجريمةَ والفساد. نسأل الله العفوَ والعافية والثباتَ على الحق والاستقامةَ عليه، إنه على كلّ شيء قدير.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أنّ أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله على الجماعة، ومن شذ شذ في النار.
وصلوا ـ رحمكم الله ـ على محمد امتثالاً لأمر ربكم، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىّ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين...
ـــــــــــــــــــ(68/120)
نصائح للمعلمين والمعلمات
...
...
4252
...
الأسرة والمجتمع, العلم والدعوة والجهاد
...
...
الأبناء, التربية والتزكية
...
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
...
...
الرياض
...
23/5/1420
...
...
جامع الإمام تركي بن عبد الله
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- الدخول المدرسي. 2- مسؤولية التربية والتعليم. 3- الوصية بالإخلاص والمحافظة على وقت العمل. 4- ضرورة تحلي المعلم والمعلمة بأخلاق وتعاليم الإسلام. 5- مهمة العناية بالنشء وإرشاده. 6- التعليم مجال رحب للدعوة إلى الله تعالى.
الخطبة الأولى
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، يومَ السبت غدًا الرابع والعشرين من جمادى الأولى لعام ألف وأربعمائة وعشرين للهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة وأتمّ التسليم يبتدئ أبناؤنا وبناتنا فصلاً دراسيًا جديدًا، نسأل الله أن يأخذ بنواصيهم لما فيه الخير والصلاح، وأن يسدِّد خطاهم ويوفِّقهم لكلّ عملٍ يرضي الله عنهم، وأن يجعل أعمالَ الجميع فيما يقرّب إلى الله ويعين على كلّ خير، إنّه على كلّ شيء قدير.
أيّها الإخوة، وبهذه المناسبة أحبّ أن أتحدّث مع إخواني من معلّمين ومعلمات، أحبّ أن أتحدّث معهم وأوجِّه لهم نصيحةً أرجو الله أن تكونَ خالصةً لوجه الله، وأرجو الله أن يكون لها أثرٌ في نفوس الجميع.
أيّها المعلّم، أيتها المعلمة، إن مسؤوليّةَ التربية والتعليم مسؤوليةٌ جسيمة ومسؤولية كبيرة ومسؤولية عظيمة، لماذا؟ لأنّها تتعلّق بتربية هذا النشء من بنينَ وبنات، تتعلّق بتربيتهم وتوجيههم ورسم الطريق الذي يسيرون عليه في مستقبل أمرهم، إذًا فالمعلِّم والمعلِّمة يجب أن يستحضِر كلٌّ منهما هذه المسؤوليةَ العظيمةَ، وأن يتصوَّروا هذه المهمَّةَ الملقاة على عواتقهم، فإن تصوّروها حقّ التصوّر وعلموا أهمّيتَها وكبيرَ شأنها دعاهم ذلك إلى أن يؤدُّوا ما استطاعوا من واجبٍ وما قدروا عليه نحوَ أداء هذه المهمّة على الوجه المرضيّ.
أيّها الإخوة، إنَّ كلاًّّ مسؤولٌ عمّا استرعاه الله عليه، في الحديث يقول : ((من استرعاه الله رعيّة فالله سائله عنها؛ حفظ ذلك أم ضيّع))[1].
أيّها المعلم، أيّتها المعلمة، إنّ في أعناقكم مسؤوليّتين: تربية هذا النشء وتثقيفه، فإن اتقيتِ الله ـ أيّتها المعلمة ـ فيما عُهِد إليكِ من واجب وفيما كُلّفتِ به من مهمّة، وإن اتقيتَ الله ـ أيها المعلم ـ فأدّيتَ الوظيفة حقَّ أدائها، ورعيتها حقَّ رعايتها، فكنتَ مخلصًا لله في أداء تلك المهمّة صادقًا في أدائها، وُفِّقتَ للخير، وهُديتَ للطريق المستقيم. فأخلِص لله عملك، واصدُق الله فيما اؤتُمنتَ عليه من مسؤولية وذلك من عدَّة أمور:
فأوّلاً وقبل [كل شيء] أن تحافظَ على الوقت زمنًا وأداءً، وتلتزمَ الحضورَ في وقتك، وتؤدّي هذا العملَ بجدٍّ واجتهاد، فلا تستخفّ بهذه المسؤولية، ولا تستهن بها، فإنها أمانة عندك، والله سائلك عنها، إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا [النساء:58].
وثانيًا: أن تؤدّيَ هذه الوظيفةَ الأداءَ التام، بأن تؤدِّيَ واجبك بكلّ ما يُطلَب منك، فليس المهمّ أن تقضيَ بين الطلاب زمنًا، ولكنّ المهمّ أن يكونَ هذا الزمن منتِجًا ومفيدًا.
أيتها المعلمة، أنتِ كذلك لا بدّ [لكِ] من إخلاص، ولا بدّ من صدقٍ في أداء تلك الأمانة.
وممّا يطلَب أيضًا تحلّي المعلّم بالأخلاق والسيرة النبيلة والصفات الحميدة. فأنت ـ أيها المعلم ـ كن على يقينٍ من أنّ ما تقوله للطلاب أو تفعله فهو الحقّ عندهم، وما تتركه وتنهاهم عنه فهو الباطل عندهم، فالحقّ ما تقوله وتفعله، والباطل ما تنهى عنه وتجتنبه. إذًا فكن متَّقيًا اللهَ فيما تقول، الزَم الأدبَ في ألفاظك التي تنطق بها، فإنّ أمامك أبناءَنا، سيستقرّ في نفوسهم أيّ مقالة تقولها، فإن كنتَ في قولك مؤدَّبًا؛ تقول خيرًا، وتنطق بالكلمة الطيّبة التي تحمل المعانيَ العظيمة، تلقَّوا منك تلك الكلمات، فثبتت في نفوسهم، فأصبَحت على ألسنتهم يتكلّمون بها.
كلمةُ حقّ تقولها إنّها تستقرّ في نفوسهم، يسمعون منك أوَّل ما تدخل تحيَّةَ الإسلام: "السلام عليكم ورحمة الله"، فإن سمعوها منك فأجابوك كنتَ ممَّن أحييتَ سنة وثبَّتَّ سنّةً من النفوس. عندما تبدأ يسمَعون منك ذكرًا لله وثناءً على الله وصلاةً على محمّد ، فيحفظون ذلك منك. عندما تعرض المادّة تعرضها بنفسٍ جيّدة وصدرٍ رَحب وحِرصٍ على إيصال المعلومة للنفوس، فعرضُك للمادّة عرضٌ جيّدً، متمثِّلاً فيه الإخلاصَ والحرص والجدَّ على أن تنتج في عملك. ثمّ أنت مع هذا حريصٌ عليهم وعلى وقتهم وعلى حضورهم وعلى تواجدهم في تلك المادَّة، فتسألُ عن غائبهم، وتناقشه وتناقش أبَويه، فأنت مسؤول عنهم، فإن كنتَ مضيِّعًا لا يهمّك من أتى ممّن غاب ولا تبحث عن ذلك فذاك تقصيرٌ منك أيها المعلم الكريم. ثمّ احرص على أن يكونَ المظهر مظهرًا إسلاميًّا خيِّرًا. واحذر أن يكون المظهر مظهرا سيِّئا.
فيا أيّها المعلّم، احرص على أن تَكون متخلِّقًا بالأخلاق الطيّبة، متأدِّبًا بآداب السنة، إذا شاهدَ منك أولادُنا إسبالاً منك في الثياب رأوا أن الإسبالَ أمرٌ مطلوب، وهذا مخالفٌ لشرع الله. رأوا منك تختُّمًا بالذهب فإنّهم سيأخذون تلك قضية مسلَّمة، وأنت تعلم أن تختّمَ الرجل بالذهب أمر محرّم شرعًا. إذا رأوا منك مظهرَ التدخين ربّما استحسنوه وظنّوا أن ذلك حسن، والمطلوب منك تحذيرُهم من ذلك الخُلق السيّئ. إن سمعوا منك ألفاظًا بذيئة تحمِل سخريةً واستهزاء أو ألفاظًا قذِرة فيها الفُحش والتفحّش فإنهم سينقلون ذلك عنك، فهم مرآةٌ تعكس أخلاقَك، وأقوالك وتصرُّفاتك، فاتّق الله في نفسك أمام ذلك النّشء الذي تصحَبهم معظمَ اليوم، اتّق الله فيهم تعليمًا وأدَبًا وسُلوكًا وأخلاقا.
أيّتها المعلّمة، وإنّ الله سائلكِ عن تلك الفتيات التي اؤتُمنتِ على تعليمهنّ، فاتقِّ الله فيهنّ، كوني صادقة ومخلصةً وجادّةً في أداء الواجب ومتحلّية بالأخلاق والسيرة الفاضلة. إن شعرتِ من بعض الفتيات بعضَ التصرّفات الخاطئة فبادري بإصلاح الخطأ وتقويمِ مَن اعوجَّت في السلوك ومناقشة الفتاة وسؤال أهلِها ومعالجة كلِّ قضيّة في حينها حتى يصلح شبابنا وفتياتنا، وحتى تُؤدِّي المعلّمة واجبَها، ويؤدّي المعلم واجبه.
أيّها المعلّم الكريم، لا يخفَى على الكلّ أنَّ هذا الزمَن زمنٌ كثُرت فيه المعوِّقات عن الأخلاقِ الكريمة، وكثُرت فيه الدعايات لكلّ خلقٍ سيِّئ من خلال المحطّات الفضائية المختلفة التي تبثُّ من خلال برامجها كلَّ ما يتنافى مع العقيدة الصحيحة والأخلاقِ الكريمة، وأن وسائل الاتصال المختلفة أصبحت بأيدي الكثير مِن أبنائنا وبناتنا، يشاهدون ويسمَعون ويطَّلعون ويبحثون، وأصبحت الاتصالاتُ على اختلافها من كلّ قنواتها مهيَّأةً لكلّ أحدٍ في الغالب، إذًا فما موقفُ ذلك المعلّم؟ وما موقفُ تلك المعلّمة أمام ما يشاهدُه شبابنا من خلال المحطّات الفضائية أو من خلال الوسائل المختلفةِ التي أصبحت بمقدور كثيرٍ من الناس إن لم تكن بمقدور كلّ أحد؟ ما موقف المعلّم؟ وما موقف المعلّمة؟
أيّها المعلم الكريم، لعلّك أن تسمَع من خلال الدّرس ما قد شاهده هذا الابنُ من خلال محطّات الفضاء أو وسائل الاتصالات المتعدّدة السريعة البثِّ التي يمكنه من خلالها أن يطّلع على مواقع مختلفةٍ من فئات متعدّدة، لعلك أن تسمعَ منهم شيئًا ممّا شاهدوه ورأوه، فما الموقف؟ الموقف الصحيحُ أن تعالجَ كلَّ مشكلة انقدحت في نفوسهم، وتحاول أن تزيلَ تلك الشبَهَ والضلالاتِ التي قد تعلق بنفوسهم من خلال ما شاهدُوا ورأوا، لا بدّ أن تعالجَ كلَّ قضيّة من خلال ما تناقشهم، أيّ قضية رأوها أيّ قضية انقدحت في نفوسهم ممّا شاهدوه ورأوه يجب أن تبادرَ فتناقشهم وتصلحَ الأخطاء وتبيّن لهم أخطارَ تلك البرامج المنحرِفة وأضرارها ومفاسدها ومساوئَها، ولا تدَع شبهةً في نفوسهم إلاّ بيَّنتها وأزلتها بأسلوب تربويٍّ مؤثِّر، فعسى الله أن يجعلَ على يديك الخير.
إنّ شبابنا اليومَ ليس كماضيه، فهم يشاهدون ويرَون ويقرؤون، ولا بدّ للمعلّم أن يكون رحيبَ الصدر واسعَ الأفق حريصًا على اجتذاذ كلِّ الأخلاق السيّئة والشبهاتِ المضلِّلة من نفوس أبنائنا، فيعالج القضايا ويبيِّن أخطارَ تلك الأمور، وأنّ أربابها لم يقصدوا خيرًا من خلال ما يبثُّونه من تلك البرامج المنحرفة، فإنّها برامجُ متعدّدة ومواقع مختلفة، لا بدّ للمعلم أن يعالجَ مع أبنائنا تلك المشاكل، فعساه أن يُوفَّق لأن يصحِّح الأخطاء، وعساه أن يُوفَّق لأن يصلح المسيرةَ لشبابنا، فيحذِّرهم من الشرور على اختلافها، ويبيّن لهم زيفَ تلك الشبَهِ والضلالات التي عرضَها أعداءُ الإسلام.
هذا واجبك أيّها المعلم، وواجبك أيتها المعلمة، ليس الهدفُ أن أقضيَ وقتًا وأَشرحَ مادةً وأنصرف، لا، أنا مطالبٌ أن أصلحَ ومطالب بالدعوة إلى الله، فمِن خلال فصول التعليم الدعوةُ إلى الله ميدانها خصبٌ لمن أرادها.
أيّها المعلم، إن نبيَّنا يقول: ((من دعا إلى خير كان له من الأجر مثلُ أجور من تبعه إلى يوم القيامة، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئًا))[2]، فاغتنم أن تكونَ من هؤلاء، تربِّي جيلاً تربيةً إسلامية على الوجه المرضيّ لينشؤوا على خير ويذكروك في مستقبل أعمارهم، تلك التوجيهاتُ وتلك الأخلاق الكريمة التي أخذوها منك ومن سيرتك الفاضلة.
أيّها المعلم، إنّ نبيَّنا يقول لعليّ رضي الله عنه: ((فوالله، لأن يهديَ الله بك رجلاً واحدًا خيرٌ لك من حُمر النعم))[3]، والعلم الذي تبثُّه يبقى لك ثوابه، ويصِل إليك ثوابه وأنت في لحدِك، ((إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقةٍ جارية أو عِلم ينتفَع به أو ولد صالحٍ يدعو له))[4].
فيا أيّها المعلّمون، ويا أيّتها المعلمات، ليتّق الجميعُ ربَّهم، وليحرصوا على الأمانة الملقاة عليهم، وليجعلوا من خلال التعليم وسائلَ للدعوة إلى الله، وسائل لإصلاح الأوضاع، وسائل للتوجيه والإرشاد.
أيّتها المعلّمة، اتقي الله في فتياتِ المسلمين اللواتي هنّ أمانة في عنقك، فاحرصي على توجيههنّ وإصلاحهنّ، وأيّ مشكلة تشعرين بها من أيّ طالبة فحاولي علاجَها بكلّ ممكِن من الاتصال بها أو بأهلها، حتى تكونَ للمدرَسَة علاقة بالبيت، فهنا يحصل التعاونُ بين الجميع على كلّ خير.
أيّها المعلّم، لا بدّ أن تشاهدَ من بعض الأولاد مشاكلَ يعيشونها في بيوتهم وبين أهليهم، فأنت كن حريصًا على حلِّ كلِّ مشكلةٍ، وافتح صدرَك لهم، فعسى أن يبدُوا لك ما تكنّه نفوسهم أو ما يعانونه من مشاكل، فتسعى في حلّها وتناقشهم في حلّها، فعسى أن تتوصّل إلى حلٍّ يسعد به الولد، ويسعد به الأبُ، وتسعد به الأمّ، ويسعد به البيتُ عمومًا.
إنّ المعلّمَ يجب أن يكونَ على متسوًى من الأخلاق والحِرص على الخير والأمانة فيما يؤدِّيه من عمل.
أسأل الله للجميع التوفيق والعونَ على كلّ خير، إنّه على كل شيء قدير.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: إِنَّا عَرَضْنَا الأمَانَةَ عَلَى السَّمَاواتِ وَالأرْضِ وَالْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً [الأحزاب:72].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإيّاكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيمَ الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه النسائي في عشرة النساء (292)، وأبو عوانة في مستخرجه (7036)، والطبراني في الأوسط (1703)، والضياء في المختارة (2460) من طريق ابن راهويه، عن معاذ بن هشام، عن أبيه، عن قتادة، عن أنس رضي الله عنه، وصححه ابن حبان (4492)، وقال الحافظ في الفتح (13/113): "أخرجه ابن عدي بسند صحيح". وأخرجوه أيضًا عقب الموصول من طريق ابن راهويه، عن معاذ، عن أبيه، عن قتادة، عن الحسن مرسلاً، ونقل الترمذي في السنن (4/208) عن البخاري أن الصحيح إنما هو المرسل، وكذا رجح الدارقطني، قال ابن حجر في النكت الظراف: "كون إسحاق حدث عن معاذ بالموصول والمرسل معًا في سياق واحد يدل على أنه لم يهم فيه، وإسحاق إسحاق"، وهو مخرج في السلسلة الصحيحة (1636).
[2] أخرجه مسلم في كتاب العلم (2674) عن أبي هريرة رضي الله عنه بمعناه.
[3] أخرجه البخاري في الجهاد (2942)، ومسلم في فضائل الصحابة (2406) عن سهل بن سعد رضي الله عنه.
[4] أخرجه مسلم في كتاب الوصية (1631) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
أيّها المعلم، إنَّ وصيتي لك تقوَى الله في أمورك كلّها، فتقوى الله وصيّة الله لكلّ خلقه: وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللَّهَ [النساء:131]، وفي الحديث: ((اتّق الله حيثما كنت))[1].
أيّها المعلم، الصلواتُ الخمس ركنٌ ثانٍ من أركان الإسلام، فليشعُر الطلاب منك بترغيبهم فيها وحثِّهم عليها وتبيين منزلتها في الإسلام لكي يؤدّوها، رغّبهم في أدائها، وحثّهم على أدائها، ومُرهم بها، واسألهم: هل أدَّوها؟ اسألهم عن أدائها من باب الحثّ لهم والحِرص على أدائها، ورغّبهم في وقتها وفي أدائها جماعة، وكن حريصًا على ذلك في كلّ فرصةٍ ممكنة.
رغِّب الأولادَ في برّ الأبوين، وبيّن لهم وجوبَ برّ الأمّ والأب والسمع والطاعة لهما في المعروف، وذكِّرهما بحقوق الأبوين، فعسى الله أن ينفعَ بتوجيهك.
حُثّهم على احترام الكبير ورحمةِ الصغير والتعامل مع الجيران والأقارب بكلّ خير، فكن راسمًا لهم للأخلاق الكريمة التي جاء بها الإسلام. حُثّهم وبيِّن لهم أنَ هذا الدين دينُ أخوةٍ ومحبّة ومودّة وجمعٍ للكلمة، فحثّهم على احترام الجيران وكفِّ الأذى عنهم، رغِّبهم في سلوكهم وسَيرهم في ذهابهم إلى المدرسة والرجوع منها حُثّهم على الطمأنينة والهدوء في سيرهم، وحذِّرهم من التهوّر في سياقتهم لسيّاراتهم، حذِّرهم من ذلك، حذِّرهم من الأخلاق السيئة، بيّن لهم ما هم يعيشون فيه في هذه البلاد من أمنٍ وطمأنينة ورغَد العيش، وأنّ سبب ذلك هو تحكيمُ شريعة الله والعمل بها، نسأل الله أن يرزقنا الثباتَ على الحق والاستقامة عليه.
ذكّرهم بهذه النِّعم التي أنعم الله بها عليهم من اجتماع كلمتِهم واتحاد صفّهم، وأن هذه البلاد تعيش أمنًا واستقرارًا والتحامًا مع القيادة في كلّ خير، فلهذا جعل الله هذه البلاد تعيش في نعمة واستقرارٍ وطمأنينة، نسأل الله أن يجمع قلوبَ الجميع على طاعته، وأن يعيذنا من زوال نعمته ومن تحوّل عافيته، ومن فُجاءة نقمتِه.
كن ـ أيّها المعلمَ ـ حريصًا كلَّ الحرص على ما يُصلح هذا النشء، وكوني كذلك أيتها المعلمة. ويا أيّها المسؤولون عن إدَارات تعليم البنين والبنات، على الجميع تقوى الله والتعاون على الخير وأداء هذه المهمّة العظيمة التي ائتمَننا الله عليها، فتربيةُ الأجيال هي مسؤوليّة عظيمة؛ لأنّ أبناء اليوم هم رجال الغدِ وقادَته، فلا بدّ من توجيههم وإصلاحهم حتّى ينشؤوا على الخير.
حفظ الله شبابَنا وفتياتِنا من كلّ سوء، وأحاطهم بعنايته، ورزقهم الاستقامةَ، وسهّل لهم المهمّة، وأعانهم على كلّ ما يعود على الإسلام والبلاد بالخير والصلاح، إنه على كل شيء قدير.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أنّ أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمّد ، وشرّ الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله على الجماعة، ومن شذّ شذّ في النار.
وصلوا ـ رحمكم الله ـ على محمّد كما أمركم بذلك ربكم، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىّ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمّد، وارض اللهمّ عن خلفائه الراشدين...
[1] أخرجه الترمذي في كتاب البر والصلة (1987)، والدارمي في الرقاق (2791) من حديث أبي ذر رضي الله عنه، وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، ثم أخرجه عن محمود بن غيلان عن وكيع عن سفيان عن حبيب بن أبي ثابت عن ميمون بن أبي شبيب عن معاذ به، وقال: "قال محمود: والصحيح حديث أبي ذر". وهذا الاختلاف من سفيان الثوري، فقد أخرجه أحمد في المسند (5/153) عن وكيع عن سفيان، وقال في آخره: "قال وكيع: وقال سفيان مرة: عن معاذ، فوجدت في كتابي عن أبي ذر، وهو السماع الأول". وروي من وجه آخر مرسلاً، ورجحه الدارقطني كما في جامع العلوم والحكم (1/395). ثم قال ابن رجب: "وقد حسن الترمذي هذا الحديث، وما وقع في بعض النسخ من تصحيحه فبعيد، ولكن الحاكم خرجه وقال: صحيح على شرط الشيخين، وهو وهم من وجهين" ثم ذكرهما رحمه الله. فالحديث حسن وقد حسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (2655، 3160).
ـــــــــــــــــــ(68/121)
ظاهرة العزوف عن الزواج
...
...
4259
...
الأسرة والمجتمع, فقه
...
...
النكاح, قضايا المجتمع
...
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
...
...
الرياض
...
20/7/1420
...
...
جامع الإمام تركي بن عبد الله
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- ترغيب الإسلام في النكاح. 2- ضعف مبررات العزوف عن الزواج. 3- تبرير العزوف بمواصلة الدراسة. 4- العزوف بسبب النظرة المادية. 5- التبرير بخوف انتقال المال إلى البعيد. 6- العزوف بسبب انتظار شخص معين. 7- ردّ الخطاب بسبب استغلال المرتب الشهري للفتاة. 8- رد الخطاب بسبب انتظار القريب. 9- عزوف الشباب رغبة في الحرية. 10- عائق غلاء المهور وتكاليف الزواج. 11- معونة الله تعالى للمتزوج يريد العفاف. 12- نصيحة للأولياء.
الخطبة الأولى
أمّا بعد: فيا أيّها النّاس، اتّقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، شريعةُ الإسلام رغّبت المسلمين في الزّواج وحثّتهم على ذلك، وَأَنْكِحُواْ الأيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِن يَكُونُواْ فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [النور:32]. وأُرشِد الرجال العاجزون عن الزّواج إلى العفّة عن محارم الله والصّبر على ترك المحرّمات رجاءَ الفرَج من ربّ العالمين، وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ [النور:33].
أيّها المسلمون، وقد بيّن الله جلّ وعلا الحكمةَ من الزّواج بقوله: وَمِنْ ءايَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْواجًا لّتَسْكُنُواْ إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَاتٍ لّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الروم:21].
أيّها المسلمون، ممّا يؤسَف له عزوفُ بعضِ شبابِنا أو بعض فتياتنا عن الزّواج وزهدُهم في ذلك وعدَم رغبتِهم فيه، وكلٌّ يعلِّل لنفسه ويبرّر موقفَه.
فالفتاة المسلمَة العازفةُ عن الزّواج تبرّر موقفَها أحيانًا بأمورٍ عندما يناقِشها المسلمُ حقًّا يراها أمورًا غيرَ كافية وأمورًا غيرَ مقنِعة للإعراض عن هذه النّعمة العظيمة، ذلكم أنّ الزواج سببٌ لتحصين الفرج وسببٌ لغضِّ البصَر وسكونٌ للنّفس وطمأنينة في القلب وراحةُ بالٍ وحياة سعيدةٌ ينعَم بها كلٌّ من الشّاب والفتاة. وتلك المبرّرات إذا عرَضتها عرضًا صحيحًا وجدتها مبرّراتٍ غيرَ لائقة، وليست سببًا قويًّا يُعزف عن الزّواج، بل هي أسباب ضعيفةٌ لا اعتبارَ لها في الحقيقة.
فالفتاة المسلمةُ تعزف عن الزّواج وتزهَد فيه وتبرِّر موقفَها أنّها فتاة طموحةٌ في التّعليم، تريد مواصلةَ الدّراسة، وتتخطّى كلَّ العقبَات، وتقطع كلَّ مراحِل التّعليم، بل تمضِي إلى ما فوقَ ذلك، وترى أنّ الزواجَ عائق لها، وأنّ الزواج مانعٌ لها، وذاك تصوّرٌ خاطِئ بلا شكّ، فما الدّراسة مانعةٌ مِن الزّواج، وما هي معوِّقة عن الزّواج، بل منافع الزّواج وفوائدُه كثيرة جدًّا، وبإمكان الفتاةِ المسلمة أن تجمَع بين الأمرَين، وذاك ميسَّر عند النيّة الصّادقة وعندما تتخطّى تلك العقباتِ التي تقف في طريقها، وترى أنّ الزواجَ خيرٌ كثير لها؛ لأنّ هذه الفتاة المسلمةَ ربّما يمضي ثلثُ عمرها أو أكثر، تأخذ ثلاثَ عقود من عمرها، وربّما تزداد، فيعرِض عنها ويزهَد فيها الخطّاب، وتندَم ولات ينفع ندمُها.
فالمرأة المسلمةُ لا ينبَغي لها أن يكونَ هذا عائقًا لها، بل تقدِم على الزّواج إذا تقدّم لها الكفءُ من الرّجال، وتحمد الله على هذهِ النّعمة، وبإمكانِها بتوفيقٍ من الله أن تواصلَ تعليمها، وليس هذا بعائقٍ عن التعليم لمن كانت جادّةً في طلب أمورها.
ومرّة أخرى تبرِّر الفتاة المسلمة زهدَها عن الزّواج بالنّظر الماديّ المحض، فهي قد تنظر إلى مَن عنده المالُ الكثير، ولا ترغب إلاّ فيمن تراه موفِّرًا لها كلَّ ما تريده وكلَّ ما تهواه، وأنّ الزوجَ الذي قد يقصر عن بعضِ الأمور لا تريده زوجًا لها، إذًا تفترِضُ صفاتٍ معيّنة، وقد يكون فيما تريده ضررٌ عليها، فهي لا تنظر إلى الزّوج من حيث الأخلاق والقيَمُ والسلوك وحُسن الرّعاية والاستقامةُ على الطّريق المستقيم، بل تنظر إليه أحيانًا النّظرَ الماديّ المحض الذي قد يكون سببًا لشقائها معه من حيث لا تشعر. لا شكّ أنّ المالَ مطلوب وأنّ غِنى الزّوج مطلوب، ولكن ليكن ذلك بالحدود المعقولةِ شرعًا.
ومرّةً أخرى تعلِّل الفتاةُ زهدَها عن الزواج أو قد يكون نظرٌ لأوليائها أنّهم أهلُ ثروة ومال كثير، وأنّ المتقدّمَ إليهم قد يأخذ شيئًا من ثروات مالِهم فيما لو حصل على ربِّ أسرةٍ موتٌ أو نحو ذلك، فانتقل المال إلى الفَتاة، ثمّ إلى أولادِها وزوجها، وتلك نظرة خاطئةٌ وتصوّر غيرُ صواب، فالفتاة المسلمةُ سعادتُها مع دين الله في حصول زوج صالحٍ يعفّها، وتعيش تحت ظِلاله بتوفيقٍ من الله ورحمة.
أيّها الإخوة المسلمون، ومرّةً أخرى تعلِّل الفتاة المسلمةُ زهدَها عن الزّواج بعلّة أخرى، وهي أنّها لا تريد إلاّ شخصًا معيّنًا، وربّما انقدح في ذهنِها أشياء معيّنة، فيكون لها موقِف، ولأهلها موقِف، وتضيعُ الفتاة في سبيل بعضِ التنطُّعات التي لا داعيَ لها، والفتاة المسلمة لو تأمّلت في أمرها حقَّ التأمُّل لعلِمت أنّ الزواج سبب لصيانتِها وسببٌ لعفّتها وراحةِ بالها، وأنّ المرأة التي يمضي عليها عمرُها ولم تتزوّج أنّها تندم في آخر عمرها، وتتمنّى زوجًا يكفلها، وتتمنّى ولدًا صالحًا يكون فيه خيرٌ لها ولعفّتها ولصيانتِها ولخدمتِها وللقيام بواجبها، وترى مَن حولها مِن فتياتٍ ينعمنَ بالبنين والبنات، وهي تركَت الزّواج لِعَللٍ واهية، ولم يكن من آبائها وأمّهاتها من يكون سببًا لتوجيهها وإرشادِها وتبيين طريقِ الصّواب لها.
أيّها المسلمون، وقد يكون الخطأ من الأبِ أحيانًا، وذاك عندما يكون لهذه الفتاةِ مال من مرتَّب أو غيره، ترى هذا الأبَ يحول بين الفتاة وبين زواجِها، لماذا؟ لأنّه يرى زواجَها يقطع عنه ذلك المالَ، فهو إمّا أن يفرضَ على الزّوج أن تستمرّ في عملها وتواصِل عملَها رجاء لأن يأخذَ مرتّبها، وإمّا أن يغلقَ أبوابَ الزواج دونَها، ومن تقدّم لها مِن الأكفاء ردّه بأيّ علّةٍ يبتدِعها من تلقاءِ نفسِه، والغاية من ذلك أن يكونَ مرتّبها لأبيها، فهو لا يريد زواجَها خوفًا من أن ينقصَ ذلك المرتَّب، فهو يحاوِل من خلال تعطيلها عن الزّواج أن يسلَم له مالها، ولا ينافسه في ذلك المالِ غيره. هكذا تصوّر بعضِ اللُّؤماء من الآباء ومَن ليس عندهم إيمانٌ صحيح ولا أداء للأمانة على الوجهِ المطلوب، ألا يعلم هذا الأبُ أنّ الفتاةَ أمانة في عنقِه، وأنّه إذا ردّ عنها الأكفاء مِن الرّجال كان بذلك عاصيًا لله ورسوله؟! يقول : ((إذا أتاكم مَن ترضَون دينَه وخلقه فزوّجوه، إلاّ تفعلوا تكن فتنةٌ في الأرض وفساد كبير))[1].
وربّما منعَ الأب زواجَ الفتاة ليرغِمها على من يَهوى هو ومَن يرغب هو، إمّا قريب، يقول: لا يمكن أن تخرجَ الفتاة عن بيتِنا، ولا يمكن أن يتزوّجها غيرُ فلان وفلان، فيحجر عليها انتظارًا لهذا أو هذا، وقد تكون الفتاةُ لا ترغب في ذلك، فإمّا أن يجبرَها على مراده، وإمّا أن يعطّلها مِن الزّواج عصبيةً جاهلية وحميّة جاهليّة ما أنزل الله بها مِن سلطان.
أيّها الشّباب المسلم، وشبابُنا المسلم يوجَد فيهم عزوفٌ عن الزّواج أحيانًا، فبعضهم يعزف عن الزّواج لا لقلّةِ المال بيده، ولكن يريد أن يمضِي عليه عقودٌ أربعة وهو مشغول بلهوه، متمتِّع بمعاصِيه، صادّ عن الطريق المستقيم، يرى أنّ الزواجَ حاجز له عن أن يذهبَ هنا وهناك، ويرى أنّ الزواجَ يلزمه بالقيام بالواجب، وهذا لا يريد الالتزامَ بأيّ واجب، ولا التقيّدَ بأيّ عمل، يريد أن يكونَ حرًّا، يسافر متى ما شاء، ويسهَر كيف يشاء، ويصاحب من يشاء، بلا قيدٍ ولا شرط. وهذا ـ أخي الشابّ المسلم ـ أمرٌ لا يجوز لك، هذا أمرٌ لا يصحّ لك، فيمضي وقتُك، ويمضي قِسم من عمرك وأنت في لهوِك ولعِبك، فاتّق الله في نفسك، وحصّن نفسَك بزواجٍ طيّب، بالحلال الذي أباح الله لك؛ لتكونَ سعيدًا في دنياك وآخرتِك بتوفيقٍ من الله، فلربّما [رزقك] الله أولادًا صالحين، يكون فيهم السّعادة لك في الدّنيا والآخرة.
أيّها المسلمون، وكم يُسبِّب غلاءُ المهور تعطيلَ بعض شبابنا عن الزّواج، وكم تسبِّب الشروط التي يشرِطها الأب أو الأمُّ فتثقل كاهلَ الزوج، فيحجم عن الزّواج، وينتظر الفرَج، متى ما يحصّل هذا المهرَ الكثير والمطالِب المتعدِّدة، والمجتمَع المسلم مطالبٌ بأن يكون مجتمعًا متعاونًا على الخير والتقوى، مجتمَعًا متعاونًا على البرّ والتقوى، يسعى في تذليل أمر الزّواج وتذليلِ الصِّعاب أمام الزّوج، وأن لا يكلَّف ما لا يطيق، وأن يُقتصَر في الأمور على المهمّات، وأن يكونَ النّاس بعيدين عن السّرَف والتبذير في أمور زواجهم، ويسلكوا الطريقَ المستقيم، فذاك ينفع أبناءَهم وينفع بناتِهم، فيكون المجتمع مجتمعًا متعاوِنًا على البرّ والتقوى.
وكم نسمَع من مهورٍ غالية، وكم نسمَع من ولائمَ يُنفَق عليها الأموال، وكم وكم من شروطٍ ثقيلة، لكن المجتمع المسلم عندما يكون بينَه تعاونٌ على هذا الأمرِ المهمّ وتذليل الصعاب وتسهيل الأمور فإنّها مصلحة عامّة للمجتمع بأسرِه.
أسأل الله لي ولكم التوفيقَ والسّداد والعونَ على كلّ خير.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإيّاكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائرِ المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه الترمذي في كتاب النكاح (1084)، وابن ماجه في كتاب النكاح (1967) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وصححه الحاكم (2/ 164-165), وتعقبه الذهبي بأن فيه عبد الحميد بن سليمان قال فيه أبو داود: "كان غير ثقة"، وفيه أيضًا ابن وثيمة لا يعرف، ثم اختلف في إسناده، فنقل الترمذي عن البخاري أنه يرجح انقطاعه، ولكن للحديث شواهد يتقوى بها، ولذا حسنه الألباني في السلسلة الصحيحة (1022).
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربّنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أمّا بعد: فيا أيّها النّاس، اتّقوا الله تعالى حقَّ التّقوى.
أيّها الشابّ المسلم، إنّ نبيّنا وعد مَن أراد الزّواج لأن يُعفَّ نفسه أنّ الله سيعينه على مهمَّته، وسيكون الله عونًا له في كلّ ما أهمَّه. إذًا فاطلُب عونَ الله، واطلب فضلَ الله، وابتغِ الزواجَ، واحرص عليه، يقول نبيّنا : ((ثلاثة حقٌّ على الله عونُهم))، ذكر منهم: ((المتزوّج يريد العفاف))[1]. فالله سيعينه، واللهُ سيقضي عنه ما أهمّه، سيقضي الله دينَه، وسيفرّج همَّه، وسيكشِف غمّه، وسيجعل له من بَعد عسرٍ يُسرًا، ولكن بالصّبر عن معاصي الله والعفّة عن محارم الله وبذلِ الأسباب والحِرص على هذه المهّمة، فإنّ الله جاعلٌ لك فرجًا ومخرجًا.
فاستعن بالله، ولا تعجَز، ولا تكسَل، واستعِن بربّك، وابذُل السّببَ الذي في مقدورك، ولا تنظر إلى الأمور نظرَ من ينظر إليها أنّها صعبة وعسيرة، انظر إليها أنّها سهلة بتوفيقٍ من الله، وصدّق وعدَ الله الذي وعدَه على لسان نبيّه .
ويا أيّها الأب الكريم، وإن ابتلاك الله بالبناتِ، فربّيتَ تلك البنات، وأحسنتَ إليهن, فاجعل خاتمةَ الحسنى أن لا تردَّ عنهنّ كفئًا قصدهنّ، ولا تجعل تكاليفَ تعيق الزّواج، بل كن سهلاً، وكن ميسِّرًا للأمور، وإذا تقدّم لك [من] قلّ أمره فلا تحمِّله ما لا يطيق، بل كن عونًا له على الزّواج، فتنفعه وتنفع ابنتَك، وهذا شرعُ الله، فبقاء الفتياتِ بلا زواجٍ مشاكلُ عظيمة، وتتحوّل نفوس الفتياتِ إلى نفوسٍ قلِقة غير مطمئنّة، تعيش في حالةِ شقاء وعناءٍ إذا مضى معظم العمر وأعرض عنها الخطّاب، فالأب واجبٌ عليه أن يتّقيَ الله ويسهّل المهمّة، المهمّ النظرُ إلى الزّوج من حيث الأخلاق والقِيمُ والاستقامة والأهليّةُ لرعاية الفتاة، فإذا توفّرت تلك الأمور فما يسّر الله فاقبَله، وما لم يكن فلا تطالِب، ولا تكن ثقيلاً مكثِرًا مِن الطّلب بأمور تعلَم أنّ هذا الشابّ لا يستطيعها، المهمّ قدرته على رعايتِها والقيام بحقّها نفقةً ومسكنًا وطعامًا، هذه المهمّة، وما سوى ذلك فإيّاك أن تصعّبَ الأمور، وإيّاك أن تطلبَ ما قد لا يستطيعه إلاّ أن يحمّل نفسَه الديونَ التي تثقل كاهلَه، ويعجز عن وفائِها، ويصبح شقيًّا بهذه الدّيون التي أتعبته فلم يجِد لها وفاءً. فليتعاون الجميعُ على البرّ والتّقوى.
أسأل الله أن يحفظَنا بالإسلام، وأن يمنّ على أبنائنا بالزّواج الحلال، وعلى فتياتنا بذلك، وأن يجمعَ الجميع على طاعتِه، وأن يرزقَ الجميع التّعاون على البرّ والتقوى، إنّه على كلّ شيء قدير.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أنَّ أحسنَ الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمّد ، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلّ بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإنّ يد الله على الجماعة، ومن شذّ شذّ في النار.
وصلّوا ـ رحمكم الله ـ على سيّد الأوّلين والآخرين وإمامِ المتّقين وقائد الغرِّ المحجَّلين محمّد بن عبد الله كما أمركم بذلك ربّ العالمين: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىّ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمَّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمّد، وارض اللهمّ عن خلفائه الراشدين...
[1] أخرجه أحمد (2/251، 437)، والترمذي في فضائل الجهاد (1655)، والنسائي في الجهاد (3120)، وابن ماجه في الأحكام (2518) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن"، وصححه ابن الجارود (979)، وابن حبان (4030)، والحاكم (2678)، وحسنه الألباني في غاية المرام (210).
ـــــــــــــــــــ(68/122)
فضل العدل
...
...
4261
...
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
...
...
الأبناء, النكاح, مكارم الأخلاق
...
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
...
...
الرياض
...
4/8/1420
...
...
جامع الإمام تركي بن عبد الله
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- جزاء العادل يوم القيامة. 2- تعظيم شأن العدل. 3- العدل في الحكم. 4- العدل بين الأولاد. 5- العدل بين الزوجات. 6- العدل في الولاية.
الخطبة الأولى
أمّا بعد: فيا أيّها النّاس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، في الصحيح عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: سمعت رسولَ الله يقول: ((المقسِطون على منابرَ من نور، عن يمين الرّحمن، وكلتا يدَيه يمين، الذين يعدِلون في حكمهم وأهليهم وما وَلُوا))[1].
أيّها المسلمون، هذا الحديث من جوامِع الكلم الذي أعطِيَه محمّد ، فإنّ الله جلّ جلاله أعطاه جوامعَ الكلم، واختصر له الكلامَ اختصارًا، فكلماتٌ قليلات يقولها وتحتَها مِن المعاني ما الله به عليم.
فلننظر إلى هذا الحديثِ الصّحيح العظيم يبيّن فيه منزلةَ المقسِطين العادلين، منزلتَهم يومَ القيامة، وأنّ منزلتهم على منابرَ من نور؛ لأنّهم قد علَت منزلتهم وارتفع شأنهم، فهم على منابرَ من نور يومَ القيامة، لأنّهم تغلّبوا على الأهواءِ والنّفوس والشهوات، تغلّبوا عليها، فقهَروا أهواءَهم، وساروا على النّهج القويم، فأعلى الله يومَ القيامة منزلتَهم، ورفع شأنَهم فجعلهم على منابرَ من نور عن يمين الرّحمن، وكلتا يدَي الرّحمن يمين.
من هم هؤلاء؟ من هم هؤلاء المقسطون؟ من هم هؤلاء؟ الذين يعدِلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا. ذكر عدلَهم في أمور ثلاثة: في الحكم والأهل وما ولُوا من العمَل.
أيّها المسلمون، لقد عظّم الله شأنَ العدل، وأمر الله به عبادَه، أن يلزَموا العدلَ في الأقوال والأعمال، فقال: وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ [الأنعام:152]، وقال جلّ جلاله: وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى [المائدة:8]، وقال جلّ جلاله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ [النحل:90]، وقال جلّ جلاله: وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ [النساء:58]، وقال في الإصلاح بينَ النّاس: فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ [الحجرات:9].
فالعدلُ به قامت السّموات والأرض، العدلُ خلُق كريم، إنّما يمثّله ذو التّقى والصّلاح والاستقامة على الخير، إنّما يوجد العدلُ عند ذوي التقوى والصلاح المحكّمين لشرع الله، المنفّذين لأوامره، الواقفين عند حدودِه، يلزَمون العدلّ في الأقوال والأعمال، مع من يحبّون ومع من يكرَهون، وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى [المائدة:8].
وفي هذا الحديثِ جُمَل ثلاث:
أوّل الجمل: ((الذين يعدِلون في حكمِهم))، فهم في حكمهم عادلون، لا يجورون، ولا يميلون، يقولون الحقَّ ولو على أنفسِهم، يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء للَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقَيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ [النساء:135]، لا تتّبعوا الهوى فتتركوا العدلَ، فإنّ العدلَ إنّما يكون ممّن سَلِم من الهوى، أمّا صاحب الهوى فالهوى يميل به يمينًا ويسارًا، وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا [النساء:135]، وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا [النساء:58].
فأهلُ الحكم بين النّاس واجبٌ عليهم تقوَى الله، واجبٌ عليهم تحرّي العدل، واجبٌ عليهم الإنصات، واجب التجرُّد من الهوى والمصالح الشّخصية، وأن تكونَ الأحكام متحرًّى فيها العدل، متحرًّى فيها الصّدق وإيقاع الأمورِ موقعَها، والله سائلٌ كلَّ حاكم عمّا استرعاه حفِظ ذلك أو ضيَّعه.
فالذين يعدِلون في حكمِهم يجعَل الله لهم محبّة في القلوب وطمأنينَة لقولهم وثقةً بهم، لأنّهم حكموا فعدلوا وقضَوا بين النّاس بالعدل، يادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِى الأرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقّ وَلاَ تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدُ بِمَا نَسُواْ يَوْمَ الْحِسَابِ [ص:26]، فالعادِلون في حكمِهم أهلُ دين وتُقى، حكموا فعدَلوا، فصارت أحكامُهم موافِقةً للصّواب، واتّقوا الله فيما يحكمون به، فأولئك لهم المنزلةُ الرّفيعة.
وثانيا: ((وفي أهليهم))، فهم أيضًا أهلُ عدل في أهليهم، فليس عندهم جورٌ في أهليهم، بل يعاملون أهليهم بالعدلِ في كلّ الأحوال. فالمسلم أمَام أولادِه ذكورًا وإناثًا يلزَم العدلَ بينهم، ويتّقي الله فيهم، ويظهِر لهم أنّه أبوهم الرّحيم بهم الشفيق عليهم، لا يطمع هذا في ظُلمه، وهذا في حَيفه، لا يطمَع أحدٌ فيه، فيطمع في ظلمِه لإخوانِه وميلِه معه دون غيره، وإنّما الكلّ مطمئنّون إليه، ذلك أنّ هذا الأب ربّى الأولادَ فأحسنّ التّربية، وعاملهم فأحسنَ المعاملة، عدل بينهم في كلّ الأحوال، فلا يفضِّل هذا على هذا، ولا يطمع هذا في مزيدٍ، وإنّما يرى من الأب الميزان العادلَ والمعاملة العادِلة، وذاك موفَّق للخير بتوفيق الله، ولهذا محمّد أرشد الآباءَ إلى هذا، أرشدهم إلى أن يتّقوا الله في أولادِهم، فلا يفضِّلوا بعضًا على بعض، ولا يقدّموا أحدًا على أحد.
في عهدِه جاءَه بشير بن سعد الأنصاريّ ليشهِدَه على أنّه وهب لابنِه النّعمان بن بشير غلامًا، وأمّ النعمان أبَت إلاّ أن توثّق تلك العطيّةَ بشهادةِ محمّد فقالت: لا أقبل أن تعطيَ ابني هذه العطيّة إلاّ أن يكونَ رسول الله شاهدًا عليها، لكي توثقها التّوثيقَ الذي لا توثيقَ بعده، وأيّ شهادةٍ أعظم من شهادة محمد وأصدق منها وأوثق منها؟! فلمّا جاءه وأخبره قال: إنّ أمّ هذا طلبت منّي أن أنْحل ابنَها غلامًا وأن أشهِدَك عليه، فماذا كان جواب المصطفى ؟ سأل بشيرًا سؤالاً معقولاً وسؤالاً واقعيًّا وسؤالاً فيه الإقناع له عن الرّجوع عن هذه الهبة، وعن هذه العطيّة الخاصة، فقال له: ((أكُلَّ ولدك نحلتَه مثل ذلك؟)) يعني: هل جميع أولادك أعطيتَهم مثلَ ما أعطيتَ النّعمان؟ قال: لا، قال: ((أتحبُّ أن يكونوا لك في البرِّ سواء؟)) قال: نعم، قال: ((إذًا فلا))[2]، فهو قال له: هل ترضى أن يكونوا جميعًا بارِّين بك؟ قال: نعم، أمنيّةٌ كلٌّ يتمنّاها، قال: إذًا، فكن معهم كما تريد أن يكونوا معك، إذًا فلا تفضِّل بعضًا على بعض، واجعَل العطيّة سواء، فقام بشير، فردّ تلك العطيّة، وألغاها طاعةً لله ورسوله، ورضًا بما حكَم به محمّد ، وفي لفظ أنّه قال له: ((أشهِد على هذا غيري))[3]، ففهِم منه أنّ هذا الأمرَ الذي امتنع محمّد أن يكونَ شاهدًا عليه دليل على أنّه مخالف للحقّ، وفي بعض الألفاظ أنّه قال له: ((لا تُشهِدني على جَور))[4]، وفي لفظ أنّه قال له: ((اتّقوا الله، واعدلوا بين أولادكم))[5]، هكذا يُربّي المصطفى أصحابَه، ويعْلِمهم بما فيه خير لهم في الحاضِر والمستقبل. وذلك أنّ هذا التفضيلَ يسبّب اختلافَ القلوب وتنافرَ القلوب، ويسبِّب العداوةَ والبغضاءَ بين الأولاد وبين أبيهم، فيستثقلون أباهم، ويكرَهون فعلَه، وربّما جنَوا على أخيهم الذي فضِّل عليهم، فحقدوا عليه، وكرِهوه، وأبغَضوه، والشّيطان حريصٌ على إفسادِ بني آدم، فهو أرشدَهم إلى هذا المنهج القويم.
ولذا طبّق السلف هذا الأمر، فيقول إبراهيم التّيمي رحمه الله: "إنّي لو قبّلت أحدَ الصغار من أولادي لرأيتُ لازمًا عليّ أن أقبّل الصغيرَ مثله خوفًا من أن يقعَ في نفس هذا عليّ أذى"، كلّ هذا تحرّي تطبيقِ السنّة، فإنّ العدلَ بين الأولاد أمرٌ مطلوب شرعًا، وتفضيل بعضهم على بعض بأيّ حيلة احتالها الأب يعلم الله منه أنّه أراد بها التفضيلَ يكون ذلك ظلمًا منه وجورًا، ولهذا يقول : ((إنّ الله قد أعطى كلَّ ذي حقّ حقَّه، فلا وصيّة لوارث))[6].
ومِن العدل في الأهلِ، عدلُ الرّجل بين زوجاتِه إن يكن عنده أكثرُ من واحدة، فإنّ العدلَ بين الزوجات واجب شرعيّ أمر الله به، وأمر به نبيّه ، فالله جلّ وعلا لما أباح لعباده التعدّد قيَّد ذلك بقوله: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِى الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مّنَ النّسَاء مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَواحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ [النساء:3]، فأباح التعدّدَ وأذن فيه، لكن شريطةَ أن يكون المعدِّد يغلِب على ظنّه العدل بين الزوجات، وأن لا يقصِد بالتعدّد ظلمَ هذه لمصلحةِ هذه، وإنّما تقوى الله يحكمه، فيعدل بين الزوجاتِ في الأمور التي يمكنه العدل فيها، يعدل بينهنّ في النّفقة، فلا يفضّل تلك على أخرى بلا سبب، يعدِل في المبيت والمسكن والنّفقة، ولو كان في القلبِ حبٌّ لواحدة، لكن لا يظهر ذلك أمام الأخرى، فلا يقدح في هذه عند الأخرى، ولا يعيب هذه عند الأخرى، ولا يفشِي سرَّ هذه عند الأخرى، وإنّما يلزم العدلَ بينهنّ في الأمور الممكنة من النّفقة والكِسوة والسّكن والمعاشرَة العامّة، وأن لا يظهرَ لتلك ميولاً على الأخرى، هكذا سنّة محمّد .
ومحمّد أباح الله له التعدّد، وخصّه بأن أباح له فوقَ الأربعةِ، فكان له تسعٌ من النّسوة، ولكنّه كان أعدلَ الناس بين نسائه، أعدل النّاس وألزمهم للعدلِ في الأمور كلّها ، يقول أنس بن مالك خادمُ رسول الله : كان لرسول الله تسعٌ من النّسوة، يقسم بينهن فلا يعود إلى الأخرى إلاّ بعد ما يمضيَ تسع ليالٍ[7]، وتذكر عائشة أمّ المؤمنين رضي الله عنهما تقول: كان رسول الله ما يمضي يوم إلاّ مرّ بنا ـ أي: بنسائه ـ، فيدنو ويلمس من غير أن يمسّ، حتى ينتهي إلى التي عندها يومه[8]، أي: يمرّ بهنّ، ويقضي حاجتَهن، ولكن نهاية الاطمئنان عند من عندها يومه، فكنّ يعرفنَ ذلك من عدله .
وتذكر عائشة أنّه كان إذا أراد السّفر أجرى بينهنّ قرعة، فمن خرجت لها القرعةُ سافر بها[9] لتطمئنّ نفوسهنّ، وليعلمن أنّه أعدل الخلقِ في تعامله كلِّه.
ومن ذلكم لمّا مرض وفي الأسبوع الذي مات فيه ، كان يسأل كلّ يوم: ((أين أنا غدًا؟))، يسأل: متى يأتي يومُ عائشة؟ فلمّا علم النّساء منه ذلك أذنَّ له بعدما استأذنهنّ أن يمرَّض في بيتِ عائشة، فأذِنّ له، فكان موتُه في حجر عائشةَ بين حاقنتها وذاقِنتها رضي الله عنها وعن أبيها[10]، كلّ ذلك من عدلِه ، وكان له الحقّ أن يفرِض، لكنّه أعدل الخلقِ وأرحم الخلقِ صلوات الله وسلامه عليه أبدًا دائمًا إلى يوم الدين.
أيّها المسلمون، إنّ محمّدًا أعدل الخلق رسم لأمّته الطريقَ المستقيم والمنهج القويم في كلّ أحواله، فهو أسوةُ الأمّة وقدوتهم وإمامهم في كلِّ الأحوال ، ثمّ هو أيضًا حذّر المسلم من أن يجورَ ويظلم، فيقول أبو هريرة: قال رسول الله : ((مَن كان عنده امرأتان فمال إلى إحداهنّ دون الأخرى جاء يوم القيامة وشقُّه ساقط))[11]، وفي بعض الألفاظ: ((جاء يوم القيامة وشقُّه مائل))[12]، وفي بعضها: ((وأحد شقَّيه مائل))[13]، كلّ هذا تحذيرٌ للمسلمين مِن الظلمِ في نسائِهم.
وللأسفِ الشّديد عمّا نسمع وما يستفتَى أنّ البعضَ من المسلمين هدانا الله وإياهم يرتكِبون أخطاء، وتميل بهم الأهواء، وتعصِف بهم الشّهوات حتى يعامِلوا النساءَ المعاملة السيّئة التي لا تصدر من قلبٍ فيه إيمان حقيقي. البعضُ منهم ربّما عدّد ولكن هذا التعدّد ما نتيجته؟ أنّ الأولى منهنّ ترفَض أحيانًا، وتهجَر أحيانًا، وتقطَع عنها النّفقة أحيانًا والمبيت أحيانًا، وربّما ضُربت وأهينَت وربّما ربّما.. كلّ ذلك من قلّة الإيمان وضعفِ البصيرة، وربّما ينساها، وينسى أيامَها، وينسى صبرَها معه، وينسى كونَها أمَّ أولاده، ويتجاهل كلَّ هذه الأمور في سبيلِ مسألة وهوى.
هذا أمرٌ لا يليق بالمسلم، الواجبُ تقوى الله والعدلُ والإنصاف والقيام بالواجب، فإنّ هذا الجور يسبّب افتراقَ الأولاد وتباغضَهم وتناحرَهم وعدم اتفاقهم، ويكون الأب يكره هذا، ويكره هذا، ويستثقلون حياتَه، وربّما دعَوا عليه، وربّما تمنّوا موتَه وهلاكه.
إنّ المسلم إذا خرج عن منهجِ الله في كلّ أحواله لا بدّ أن يصابَ بنقصٍ في كلّ أموره، فمَن التزم شرعَ الله ومنهجه في أحواله كلّها عاش بخيرٍ ومات بخير، ومَن خرج عن منهج الله وتعدّى سنّة محمّد فلا بدّ أن يصابَ بنقص في نفسه وولده على قدرِ مخالفتِه لشرع الله.
فلنتّق اللهَ في أنفسنا، ولنلزَم العدلَ في أحوالنا، ولنعامِل النساءَ إذا أرَدنا التعدّد المعاملةَ الشرعيّة، مستَقِين من هديِ محمّد .
والجملة الثالثة: ((وما وَلُوا))، أي: أنّ المسلم فيما تولّى من عملٍ يلزم العدلَ، يلزم العدلَ فيمن وُلّي عليهم ويسوسُهم السّياسة الشرعيّة ويحكم بينهم بالعدل، فلا يظلِم هذا، ولا يحقِد على هذا، ولا يحابي هذا ضدَّ هذا، إنّما يعدل بين من تولّى أمرَهم، ويسوسهم السّياسة الشرعيّة، ويقوم بهم على حسب العدلِ والقيام بالواجب، فأقرب النّاس إليه أحسنُهم أداء وأحسنهم عملاً وأنجزهم مهمّة، هذا أحبّ النّاس إليه، لا يميل مع هذا ضدّ هذا، وإنّما يلزم تقوى الله فيمن وُلّي عليهم، والله سائلٌ كلَّ راع وما استرعى؛ حفظ ذلك أو ضيَّعه.
فنسأل الله جلّ جلاله أن يجعلَنا وإيّاكم من العادلين في أقوالنا وأعمالنا وأفعالنا وما ولِّينا عليه، إنّه على كلّ شيء قدير.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه مسلم في الإمارة (1827) بنحوه.
[2] أخرجه البخاري في الهبة (2586)، ومسلم في الهبات (1623) عن النعمان بن بشير رضي الله عنه.
[3] هذا اللفظ هو إحدى روايات مسلم.
[4] أخرجه البخاري في الشهادات (2650)، ومسلم في الهبات (1623).
[5] أخرجه البخاري في الهبة (2587).
[6] أخرجه أحمد (5/267)، وأبو داود في الوصايا (2870) وفي البيوع (3565)، والترمذي في الوصايا (2120)، وابن ماجه في الوصايا (2713) من حديث أبي أمامة رضي الله عنه، وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وصححه ابن الجارود (949)، قال الحافظ في الفتح (5/372): "في إسناده إسماعيل بن عيّاش, وقد قوّى حديثه عن الشّاميّين جماعة من الأئمّة منهم أحمد والبخاريّ, وهذا من روايته عن شرحبيل بن مسلم وهو شاميّ ثقة, وصرّح في روايته بالتّحديث عند التّرمذيّ"، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (2494). وله شاهد من حديث عمرو بن خارجة عند أحمد (4/186، 187، 238)، والتّرمذيّ في الوصايا (2121)، والنّسائيّ في الوصايا (3641، 3643)، وقال الترمذي: "حسن صحيح". وشاهد ثان من حديث أنس عند ابن ماجه في الوصايا (2714)، والدرقطني (4/70)، والبيهقي (6/264)، وصححه الضياء المقدسي (2144، 2145، 2146)، وقال البوصيري في المصباح (3/144): "إسناد صحيح، رجاله ثقات". وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه عند الدّارقطنيّ (4/98). وعن جابر عند الدّارقطنيّ (4/97) أيضا وقال: "الصّواب مرسل". وعن آخرين قال الحافظ في الفتح (5/372): "ولا يخلو إسناد كلّ منها عن مقال, لكن مجموعها يقتضي أنّ للحديث أصلا, بل جنح الشّافعيّ في الأمّ إلى أنّ هذا المتن متواتر فقال: وجدنا أهل الفتيا ومن حفظنا عنهم من أهل العلم بالمغازي من قريش وغيرهم لا يختلفون في أنّ النّبيّ قال عام الفتح: ((لا وصيّة لوارث))، ويؤثرون عمّن حفظوه عنه ممّن لقوه من أهل العلم, فكان نقل كافّة عن كافّة, فهو أقوى من نقل واحد".
[7] أخرجه مسلم في الرضاع (1462) بمعناه.
[8] أخرجه أحمد (6/107)، وأبو داود في النكاح (2135)، والدارقطني (3/284)، والبيهقي في الكبرى (7/74، 300)، وصححه الحاكم (2760)، وهو في صحيح سنن أبي داود (1868).
[9] أخرجه البخاري في الهبة (2594)، ومسلم في التوبة (2770).
[10] أخرجه البخاري في المغازي (4450)، ومسلم في فضائل الصحابة (2443) عن عائشة رضي الله عنها بمعناه.
[11] أخرجه أحمد (2/347، 471)، والترمذي في النكاح (1141) وتكلم فيه، وابن ماجه في النكاح (1969)، وصححه ابن الجارود (722)، وابن حبان (4207)، والحاكم (2759)، ووافقه الذهبي، وهو في صحيح سنن الترمذي (912). ولفظ أحمد وابن ماجه وابن الجارود وابن حبان: ((وأحد شقيه ساقط)).
[12] هذا اللفظ أخرجه أبو داود في النكاح (2133)، والدارمي في النكاح (2206)، قال الحافظ في البلوغ (1085): "إسناده صحيح"، وهو في صحيح سنن أبي داود (1867).
[13] هذا اللفظ أخرجه النسائي في عشرة النساء (3942)، والبيهقي في الشعب (6/413)، وهو في صحيح سنن النسائي (3682).
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربّنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، تقول عائشة رضي الله عنهما: كان رسول الله يقسِم بين نسائِه فيعدِل، ثمّ يقول: ((اللهمَّ هذا قسْمي فيما أملك، فلا تلمني فيما تملِك ولا أملك))[1].
مرادُه أنّه أدّى الواجبَ عليه على قدر استطاعتِه من الأمور الظاهرة، أمّا ميول القلب فذاك أمرُه إلى الله، فالله الذي يسكن المحبّةَ في القلوب ويضعِفها ويزيدها وينقِصها، فهو أدّى الذي عليه وما يستطيعه، وما كان أمرًا غالبًا عليه قال: ((اللهمّ لا تلمني فيما تملك ولا أملك))، يعني محبّة القلب، ولهذا كان يعدِل بين نسائه، ولا يفضّل بعضًا على بعض، وإن كان يحبّ عائشة، ويُغلي عائشة، إلاّ أنّ محبّته لها لم تجعَله يميل معها دونَ الأخريات، بل كان يحبّها، ولها منزلةٌ رفيعة، لكنّه لا يعطيها أكثرَ ممّا يعطي بقيّةَ صواحبها.
هكذا كان، فميلُ القلب أمرٌ لا يقدِر عليه إلاّ الله، لكن المسلم مطالب بالأمور الظّاهرة من نفقةٍ وكِسوة وقَسم في المبيت بنفسٍ مطمئنّة، هذا هو المطلوب مِن المسلم حتّى يؤدّيَ الواجبَ الذي أوجب الله عليه.
وأسأل الله للجميع العونَ والتّوفيق والتّأييد.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أنَّ أحسنَ الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمّد ، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلّ بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإنّ يد الله على الجماعة، ومن شذّ شذّ في النار.
وصلوا ـ رحمكم الله ـ على عبد الله ورسوله محمد كما أمركم بذلك ربّكم، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىّ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمّ صلّ وسلّم وبارك على عبدك ورسولك محمّد، وارضَ اللهمّ عن خلفائه الراشدين...
[1] أخرجه أحمد (6/144)، وأبو داود في النكاح (2134)، والترمذي في النكاح (1140)، والنسائي في عشرة النساء (3943)، وابن ماجه في النكاح (1971) من حديث عائشة رضي الله عنها، واختلف في وصله وإرساله، فرجح أبو زرعة والترمذي والدارقطني الإرسال، وصححه ابن حبان (4205)، والحاكم (2761)، وهو مخرج في الإرواء (2018، 2024).
ـــــــــــــــــــ(68/123)
وسائل لإصلاح بيت المسلم
...
...
4269
...
الأسرة والمجتمع, العلم والدعوة والجهاد
...
...
التربية والتزكية, قضايا الأسرة
...
عبد العزيز بن محمد القنام
...
...
وادي الدواسر
...
...
...
جامع النويعمة القديم
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- بيان نعمة البيت والسكن. 2- أهمية العناية بإصلاح البيت. 3- وسائل إصلاح البيت: اختيار الزوجة الصالحة، السعي في إصلاح الزوجة، جعل البيت مكانًا لذكر الله والعبادة، زيارة الصالحين للبيت، الاجتماعات العائلية، عدم إظهار الخلاف أمام الأبناء، الدقة في ملاحظة أهل البيت، إشاعة خلق الرفق، الملاطفة، مقاومة الأخلاق السيئة، تعليق السوط للتأديب، الحذر من منكرات البيوت.
الخطبة الأولى
أما بعد: عباد الله، أوصيكم ونفسي بتقوى الله، فهي وصية الله للأولين والآخرين، وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنْ اتَّقُوا اللَّهَ [النساء:131]، وذلك بامتثال أمره واجتناب نهيه.
أيها الناس، إن البيوت نعمة من نعم الله عز وجل على عباده، قال الله تعالى: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا [الحجر:8]، فالبيت يعدّ ضروريًا لكل حي، فكل حي لا بد له أن يأوي إلى بيت، ولذلك فإن البيت للمسلم مكان أكله ونومه ونكاحه وراحته، ومكان خلوته واجتماعه بأهله وأولاده، ومكان ستر المرأة وصيانتها، قال الله تعالى: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى [الأحزاب:33].
فإذا ما تأمّلت أحوال الناس الذين لا بيوت لهم ممن يعيشون في الملاجئ أو على أرصفة الشوارع واللاجئين المشردين في المخيمات المؤقتة عرفت نعمة البيت، وإذا ما سمعت حيران مضطربًا يقول: "ليس لي مستقر ولا مكان ثابت فأنا أنامُ أحيانًا في بيت فلان وأحيانًا في المقهى أو الحديقة أو على شاطئ البحر" عرفتَ معنى التشتّت والضياع الناجم عن الحرمان من نعمة البيت؛ ولذلك لما انتقم الله من يهود بني النضير سلبهم هذه النعمة وشرّدهم من ديارهم، فقال تعالى: هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ الْحَشْرِ [الحشر:2]، ثم قال تعالى: يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ [الحشر:2].
أيها المسلمون، إذا علمتم أن البيوت نعمة فإنه يجب شكر هذه النعمة، وشكر هذه النعمة يكون بتسخيرها في طاعة الله والبعد عن معصيته، ولذلك فإنه يجب عليك ـ أيها المسلم ـ الاهتمام بإصلاح بيتك لعدة أمور منها:
أولاً: وقاية النفس والأهل نار جهنم، والسلامة من عذاب الحريق، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6].
ثانيًا: عظم المسؤولية الملقاة على راعي البيت أمام الله يوم الحساب، قال : ((إن الله تعالى سائل كل راعٍ عما استرعاه: أحفظ ذلك أم ضيعه؟ حتى يسأل الرجل عن أهل بيته)) رواه النسائي وابن حبان عن أنس وهو في صحيح الجامع والسلسلة الصحيحة.
ثالثًا: أنه المكان لحفظ النفس والسلامة من الشرور وكفّها عن الناس، وهو الملجأ الشرعي عند الفتنة، قال : ((طوبى لمن ملك لسانه ووسعه بيته وبكى على خطيئته)) رواه الطبراني في الأوسط عن ثوبان وهو في صحيح الجامع، وقال : ((سلامة الرجل في الفتنة أن يلزم بيته)) رواه الديلمي في مسند الفردوس عن أبي موسى وهو في صحيح الجامع.
رابعًا: أن الناس يقضون أكثر أوقاتهم في الغالب داخل بيوتهم، وخصوصًا في الحر الشديد والبرد الشديد والأمطار وأول النهار وآخره وعند الفراغ من العمل أو الدراسة، ولا بد من صرف هذه الأوقات في الطاعات، وإلا فإنها ستضيع في المحرمات والعياذ بالله.
خامسًا وهو من أهمها: أن الاهتمام بالبيت هو الوسيلة الكبيرة لبناء المجتمع المسلم، فإن المجتمع يتكوّن من بيوت هي لبناته، والبيوت أحياء، والأحياء مجتمع، فلو صلحت اللبنة لكان مجتمعنا قويًا بأحكام الله، صامدًا في وجه أعداء الله، يُشِع الخير، ولا ينفذ إليه الشر، فيخرج البيت الصالح إلى المجتمع وأركان الإصلاح فيه من الداعية القدوة والقائد الرباني وطالب العلم المجتهد والمجاهد الصادق والشاب الغيور على دينه وعلى عرضه والبنت العفيفة الطاهرة والزوجة المخلصة والأم المربية وبقية الصالحين المصلحين.
أيها الناس، إذا كان الموضوع بهذه الأهمية وبيوتنا قد نزلت بها المنكرات الكثيرة وأصاب بعضها الضياع والتفريط والحرمان وذلك بسب إهمال إصلاح البيوت، فلذلك فإننا سنتناول بعض وسائل إصلاح البيوت، فنقول: تكوين البيت وإصلاحه يكون بالأمور التالية:
أولاً: حسن اختيار الزوجة، حيث ينبغي على صاحب البيت انتقاء الزوجة الصالحة بالشروط التالية: ((تنكح المرأة لأربع: لمالها وحسبها ولجمالها ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك)) متفق عليه، ((الدنيا كلها متاع، وخير متاع الدنيا المرأة الصالحة)) رواه مسلم، ((ليتخذ أحدكم قلبًا شاكرًا ولسانًا ذاكرًا وزوجة مؤمنة تعينه على أمر الآخرة)) رواه أحمد والترمذي وابن ماجه عن ثوبان وهو في صحيح الجامع، ((تزوجوا الودود الولود؛ إني مكاثر بكم الأنبياء يوم القيامة)) رواه البيهقي في الشعب عن أبي أمامة وانظر: صحيح الجامع، ((عليكم بالأبكار؛ فإنهنَّ أنتق أرحامًا وأعذب أفواهًا وأرضى باليسير)) رواه أحمد عن أنس وقال في إرواء الغليل: "صحيح".
وفي المقابل لا بدّ من التبصر في حال الخاطب الذي تقدم للمرأة المسلمة، والموافقة عليه حسب الشروط الآتية: ((إذا أتاكم من ترضون خلقه ودينه فزوّجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفسادٌ عريض)) رواه ابن ماجه وهو في السلسلة الصحيحة.
فالرجل الصالح مع المرأة الصالحة يبنيان بيتًا صالحًا؛ لأن البلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه، والذي خبث لا يخرج إلا نكدًا.
ثانيًا: السعي في إصلاح الزوجة، إذا كانت الزوجة صالحة فبها ونعمت، وهذا من فضل الله عز وجل، وإن لم تكن بذاك الصلاح فإن من واجبات رب البيت السعي في إصلاحها، وذلك بالوسائل التالية: الاعتناء بتصحيح عقيدتها وعبادتها بكافة أنواعها، السعي لرفع إيمانها، وذلك بحثها على قيام الليل وتلاوة الكتاب العزيز وحفظ الأذكار والتذكير بأوقاتها ومناسباتها، وحثها على الصدقة وقراءة الكتب الإسلامية النافعة وسماع الأشرطة الإسلامية المفيدة العلمية منها والإيمانية، ومتابعة إمدادها بها، واختيار صاحبات لها من أهل الدين تعقد معهن أواصر الأخوة، وتتبادل معهن الأحاديث الطيبة والزيارات الهادفة، ودرء الشر عنها، وسدّ منافذه إليها بإبعادها عن قرينات السوء وأماكن السوء.
أيها المسلمون، اجعلوا البيت مكانًا لذكر الله وشكره، قال : ((مثل البيت الذي يذكر الله فيه والبيت الذي لا يذكر الله فيه مثل الحيّ والميت))، فلا بد من جعل البيت مكانًا للذكر بأنواعه المختلفة، سواء ذكر القلب، أوذكر اللسان، أو الصلوات وقراءة القرآن، أو مذاكرة العلم الشرعي وقراءة كتبه المتنوعة. وكم من بيوت للمسلمين اليوم ميتة بعدم ذكر الله فيها، بل ما هو حالها إذا كان الذي يذكر فيها هو ألحان الشيطان من المزامير والغناء والغيبة والنميمة والبهتان؟! وكيف حالها وهي مليئة بالمعاصي والمنكرات كالاختلاط المحرم والتبرج بين الأقارب من غير المحارم أو الجيران؟! فأحيوا بيوتكم ـ رحمكم الله ـ بذكر الله.
ثم اجعلوا بيوتكم قبلة، وذلك باتخاذ البيت مكانًا للعبادة، قال الله تعالى: وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّأَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرْ الْمُؤْمِنِينَ [يونس:87]، قال ابن عباس: (أمروا أن يتخذوها مساجد)، وقال ابن كثير: "وكأنّ هذا ـ والله أعلم ـ لما اشتدّ بهم البلاء من قبل فرعون وقومه، وضيقوا عليهم، أمروا بكثرة الصلاة، كما قال الله تعالى: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ [البقرة:45]"، ولنتذكر في هذا المقام محراب مريم، وهو مكان عبادتها الذي قال الله فيه: كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا [آل عمران:37]. وكان الصحابة رضي الله عنهم يحرصون على الصلاة في بيوتهم من غير الفريضة، فعن محمود بن الربيع الأنصاري أن عتبان بن مالك وهو من أصحاب رسول الله ممن شهد بدرًا من الأنصار، أنه أتى رسول الله فقال: يا رسول الله، قد أنكرت بُعدي وأنا أصلّي لقومي، إذا كانت الأمطار سال الوادي الذي بيني وبينهم لم أستطع أن آتي مسجدهم فأصلي بهم، وددت ـ يا رسول الله ـ لو أنك تأتيني فتصلي في بيتي فأتخذه مصلى، قال: فقال رسول الله : ((سأفعل إن شاء الله))، قال عتبان: فغدا رسول الله وأبو بكر حين ارتفع النهار، فاستأذن رسول لله فأذنت له، فلم يجلس حتى دخل البيت، ثم قال: ((أين تحب أن أصلي من بيتك؟)) قال: فأشرت له إلى ناحية من البيت، فقام رسول الله فكبر، فقمنا فصففنا، فصلى ركعتين ثم سلّم. رواه البخاري.
أيها الناس، لنربي أنفسنا وأهلينا على الإيمان الذي يتبعه العمل، فعن عائشة قالت: كان رسول الله يصلي من الليل، فإذا أوتر قال: ((قومي فأوتري يا عائشة)) رواه مسلم، وقال : ((رحم الله رجلاً قام من الليل فصلى، فأيقظ امرأته فصلت، فإن أبت نضح في وجهها الماء)) رواه أحمد وانظر: صحيح الجامع. ومما يزيد الإيمان ترغيب النساء في الصدقة، وهو أمر عظيم حثّ عليه بقوله: ((يا معشر النساء، تصدقن؛ فإني رأيتكن أكثر أهل النار)) رواه البخاري.
عباد الله، إن علينا جميعًا الاهتمام بالأذكار الشرعية والسنن المتعلقة بالبيوت، فمن ذلك أذكار دخول المنزل والخروج منه، وأذكار الصباح والمساء، وغير ذلك.
وعلينا أن نقوم بتعليم أهالينا الأحكام المتعلقة بالصلاة والصيام، وجميع أركان الإسلام والإيمان، وأحكام الحلال والحرام، ومما يساعد في ذلك إتاحة المجال لهم ليتفقهوا في الدين، وإعانتهم على الالتزام بأحكام الشريعة، وعمل مكتبة إسلامية في البيت، وليس بالضرورة أن تكون كبيرة، ولكن العبرة بانتقاء الكتب المهمة، ووضعها في مكان يسهل تناولها، وحثّ أهل البيت على قراءتها، وحبذا لو يضاف إلى المكتبة جزء مهمّ من الأشرطة الدينية المفيدة، ولتكن هذه الأشرطة شاملة للعقيدة الصحيحة والفقه المستمد من الكتاب والسنة والزهد والرقائق والآداب والأخلاق والسلوك، وغيرها من العلوم المهمّة، وأن تكون هذه الأشرطة لأهل العلم المتقنين ذوي العقائد السليمة وأصحاب الزهد والورع والمعتمدين على الأحاديث الصحيحة.
أيها المسلم، ومن الوسائل المهمة لإصلاح بيتك: عليك بدعوة الصالحين والأخيار وطلبة العلم لزيارة البيت، قال الله تعالى عن نوح: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِي مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلا تَزِدْ الظَّالِمِينَ إِلاَّ تَبَارًا [نوح:28]. إنَّ دخول أهل الإيمان بيتك يزيدك نورًا، ويحصل بسبب أحاديثهم وسؤالهم والنقاش معهم من الفائدة أمور كثيرة، فحامل المسك إما أن يحذيك، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحًا طيبة، وجلوس الأولاد والإخوان والآباء وسماع النساء من وراء حجاب لما يقال فيه تربية للجميع، وإذا أدخلت خيرًا منعت شيئًا من دخول الشر والتخريب.
وعليك بتعلّم الأحكام الشرعية للبيوت، وتعليمها لأهل بيتك، ومن ذلك أن صلاة النافلة في البيت أفضل من صلاتها في المسجد، فقد قال : ((خير صلاة المرء في بيته إلا الصلاة المكتوبة))، وأن لا يؤمّ غيره في بيته، ولا يقعد في مكان صاحب البيت إلا بإذنه، قال : ((لا يؤم الرجل في سلطانه، ولا يجلس على تكرمته في بيته إلا بإذنه)) رواه الترمذي.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، والصلاة والسلام على رسوله المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه إلى يوم الدين.
أما بعد: ومن الوسائل لإصلاح البيوت: إتاحة الفرصة للاجتماعات التي يناقش فيها مشاكل العائلة، فعندها تتاح الفرصة لأفراد العائلة بالجلوس سويًا في وقت مناسب لمناقشة أمور داخلية أو خارجية تتعلق بالعائلة، فإن ذلك يعد علامة على تماسك الأسرة وتفاعلها وتعاونها.
ومن الوسائل: عدم إظهار الخلافات العائلية أمام الأولاد؛ فإن إظهار ذلك مما يزعزع تماسك البيت، ويضر بسلامة البناء الداخلي لأهل البيت، وعدم إدخال من لا يُرضى دينه وخلقه إلى البيت، قال رسول الله : ((مثل جلس السوء كمثل صاحب الكير))، وفي رواية البخاري: ((وكير الحداد يحرق بيتك أو ثوبك أو تجد منه ريحًا خبيثة))، إي ورب الكعبة، إنه يحرق بيتك بأنواع الفساد والإفساد، فكم سبّب دخول المفسدين والفاسقين العدوان بين أهل البيت، وكم فرّق بين الرجل وزوجته بسبب دخول الفاسدين المفسدين، وكم سبّب دخولهم العداوة بين الأب وأولاده، وما أسباب وضع السحر في البيوت أو حدوث السرقات أحيانًا وفساد الخلق كثيرًا إلا بإدخال من لا يُرضى دينه وخلقه.
وإن المرأة تتحمّل في البيت جزءًا عظيمًا من هذه المسؤولية، قال رسول الله : ((يا أيها الناس، أي يوم أحرَم؟ أي يوم أحرم؟ أيّ يوم أحرم؟)) قالوا: يوم الحج الأكبر، ثم قال في ثنايا خطبته الجامعة في ذلك اليوم: ((فأما حقكم على نسائكم فلا يوطِئن فرشَكم من تكرهون، ولا يأذَنَّ في بيوتكم لمن تكرهون)) رواه الترمذي وهو في صحيح الجامع.
أيها المسلمون، ومن الوسائل في إصلاح البيوت الدقة في الملاحظة لأحوال أهل البيت، فكثير من الآباء لا يعرفون من يصاحب أبناؤهم، ومع من يجلسون، ومع من يسافرون، والبنت من هن صديقاتها؟ وما مدى تعلّمها؟ وهذا الإهمال قد يكون أكبر الأسباب في انتكاس كثير من الأبناء ووقوعهم في الشر والفساد، إلا أنه ينبغي عليك ـ أيها الأب ـ مراعاة ما يلي: عدم تحسيس الأولاد بفقدان الثقة بهم، مراعاة النصح أو العقاب بأعمار الأولاد ومداركهم ودرجة الخطأ، أن تكون المراقبة خفية.
أيها الأب، أيتها الأم، عليكما بالاهتمام بالأطفال في البيت، وذلك في جوانب عدة منها: تحفيظهم القرآن والقصص الإسلامية، الحذر من خروج الأطفال مع من هب ودب، الاهتمام بلعب الأولاد المسلية والهادفة غير المحرمة، التفريق بين الذكور والإناث في المضاجع، الممازحة والملاطفة.
وعليكما بالحزم في تنظيم أوقات النوم والواجبات وحفظ أسرار البيوت، قال : ((إن من شرار الناس عند الله منزلة يوم القيامة الرجل يفضي إلى امرأته وتفضي إليه ثم ينشر سرها)) رواه مسلم، وغيرها من الأدلة.
أيها المسلمون، ومن الوسائل أيضًا إشاعة خلُق الرفق في البيت، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله : ((إذا أراد الله عز وجل بأهل بيت خيرًا أدخل عليهم الرفق)) رواه الإمام أحمد وهو في صحيح الجامع، وفي رواية: ((إن الله إذا أراد أهل بيت أدخل عليهم الرفق)) رواه ابن أبي الدنيا وغيره وهو في صحيح الجامع، أي: صار بعضهم يرفق ببعض.
ومن الوسائل أيضًا معاونة أهل البيت في عمل البيت، فقد كان يخيط ثوبه، ويخصف نعله، ويعمل ما يعمل الرجال في بيوتهم، وسئلت عائشة رضي الله عنها: ما كان رسول الله يصنع في بيته؟ قالت: كان يكون في مهنة أهله ـ يعني: خدمة أهله ـ فإذا حضرت الصلاة خرج إلى الصلاة. رواه البخاري.
ومنها: الملاطفة والممازحة لأهل البيت، ((فهلا بكرًا تلاعبها وتلاعبك، وتضاحكها وتضاحك)) رواه البخاري.
ومنها: مقاومة الأخلاق الرديئة في البيت كخلق الكذب والغش، فقد كان كما تقول عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله إذا اطّلع على أحد من أهل بيته كذب كذبة لم يزل معرضًا عنه حتى يحدث توبة. وهو في صحيح الجامع.
وهذا بخلاف ما يفعله بعض الناس اليوم حيث يرى أحد أبنائه يغشّ أو يكذب فلا ينكر عليه، بل ربما شجعه على ذلك، ولربما قال الأب للبنت أو للابن: إذَا فلان من الناس دقّ الباب وسأل عني فقل له: غير موجود. فأين هذا وأمثاله من هدي رسول الله : كان رسول الله إذا اطلع على أحد من أهل بيته كذب كذبة لم يزل معرضًا عنه حتى يحدث توبة؟! ولا حول ولا قوة إلا بالله. ففسدت البيوت وضاع الأولاد ونزعت البركة بسبب المعصية وعدم إنكار المنكر.
ومنها: تعليق السوط حيث يراه أهل البيت، وذلك تلويحًا بالعقوبة لكل من يرتكب ما يغضب الله، ولكل من يستحقّ التأديب، قال : ((علّقوا السوطَ حيث يراه أهل البيت؛ فإنه أدب لهم)) أخرجه الطبراني وهو في السلسلة الصحيحة.
وأخيرًا: الحذر الحذر من المنكرات في البيوت، من الاختلاط بين الأقارب من الرجال والنساء وصور ذوات الأرواح والتدخين واقتناء الكلاب والنظر إلى الشاشات المحرمة والعبث بالهاتف، وإنني أنصح كل واحد منكم بقراءة كتاب مهم جدًا: (أخطار تهدّد البيوت) للشيخ محمد المنجد. فقد فصّل فيه الأخطار التي تواجه البيوت بما فيه كفاية.
ألا فاتقوا الله عباد الله، وكونوا من المصلحين، تحظوا برضا الخالق رب العالمين، وتكونوا عنده سبحانه من المفلحين الفائزين.
اللهم أعنّا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، اللهم احفظ بيوتنا وبيوت المسلمين من كل شر ومكروه، اللهم اجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
ألا وصلوا وسلموا على الحبيب رسول الله، فقد أمرتم بذلك في كتاب الله، حيث قال سبحانه: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىّ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك سيدنا محمد، وارض اللهم عن خلفائه الأربعة..
ـــــــــــــــــــ(68/124)
أحكام الإحداد في الإسلام
...
...
4267
...
الأسرة والمجتمع, فقه
...
...
الجنائز, المرأة
...
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
...
...
الرياض
...
15/10/1420
...
...
جامع الإمام تركي بن عبد الله
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- عدة المتوفى عنها زوجها. 2- وجوب الإحداد على المتوفى عنها زوجها. 3- تعريف الإحداد. 4- الحكمة من إحداد الزوجة على زوجها. 5- كيفية الإحداد في الجاهلية. 5- صفة الإحداد في الإسلام. 6- نهي المرأة عن الإحداد فوق ثلاث لغير زوجها. 7- أمور ليست من الإحداد الشرعي.
الخطبة الأولى
أما بعد: فيا أيّها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، يقول الله جل جلاله في كتابه العزيز: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِى أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [البقرة:234]، ويقول جل جلاله: وَأُوْلَاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ [الطلاق:4].
ففي هاتين الآيتين بيانٌ من الله جلّ وعلا في عِدّة المتوفَّى عنها زوجها، وأن المتوفَّى عنها زوجها لا تخلو من حالين: حالة أن تكون حاملة، فعِدّتها وضع حملها، والإحدادُ واجبٌ عليها في مدّة الحمل، قلَّ ذلك الحمل أو كثر، فلو كانت في ابتداءِ الحمل لاستكملت مدّة الحمل كلَّه، ولو لم يبقَ منه إلاّ يوم ثم انقضى لانقضت عدّتها، فعدّتها مقدّرة بوضع حملِها سواءً كان في أوّله أو في آخره. وأمّا غير الحامل فجعل الله عدّتها أربعةَ أشهُر وعشرةَ أيام.
ودلّت سنّة محمد على وجوب الإحداد على المتوفَّى عنها زوجُها زمنَ العدّة سواءً كانت بالحمل أو بالأشهر، وهذا الإحدادُ عرّفه العلماء بأنّه اجتناب ما يدعو إلى الرّغبة في زواجها، فتجتنب كلَّ ما يدعو إلى الرغبة في زواجها؛ لأنها ممنوعةٌ أثناء العِدّة من أن يخطبَها أحد من الناس، فهو اجتناب ما يدعو إلى نكاحها واجتنابُ ما يرغّب النظر إليها.
وهذا الإحداد الشرعيُّ الهدفُ منه تعظيم حقِّ الزوج وتعظيم فِراقه، وهو عبادةٌ لله، وفيه التأكّد من براءة الرحِم إن كانت غيرَ حامل وممّن يمكن حملُها، وأيضًا كما سبق تعظيمُ حقّ الزوج وبيان ما لعقدِ النكاح من الأثر العظيم؛ لأن هذا التربّص في هذه المدّة كلّ ذلك مطلوبٌ طاعةً لله وتعظيمًا لعقدِ هذا النكاح؛ فإنّه من العقود المعظّمة، يقول الله جل وعلا: وَأَخَذْنَ مِنكُم مّيثَاقًا غَلِيظًا [النساء:21].
وهذا الإحداد الشرعيُّ الذي تلزَمه المرأة أثناءَ العِدّة هي أمور يسيرة وبإمكانها تحمُّلها ولا مشقّةَ عليها فيها، وهذا الإحدادُ مناقضٌ لما كان عليه أهلُ الجاهلية في جاهليتهم، فلقد كانت المرأة في الجاهلية إذا توفِّي عنها زوجها تلزم مكانًا سيّئًا حِفشًا من بيتها أي: أسوأ مكان من بيتها وأقلّه مساحة، تجلس فيه سنةً كاملة، لا تغيّر ملابسها، ولا يمسّها ماء ولا طيب، بل تلبس شرّ ملابسها، وتبقى في هذا المكان الضيّق الصغير سنةً كاملةً اثني عشر شهرًا، عليها شرّ ملابسها، لا يراها أحَد، ولا يخالطها أحَد، فإذا مضى الحولُ كاملاً أتَوها بدابّة حمارٍ أو شاة أو طائر فتفتضُّ به أي: تنقُض به ذلك الإحدادَ، فلِنَتَن الرائحة وقبحها قلّما فضَّت بشيء إلا هَلك، أي: أنها تدلك جسدَها في ذلك الحيوان، فلِقبح رائحتها ونتنها يموتُ ذلك الحيوان في الغالب، ثم يعطونها بعرةً تلقيها بمعنى أنّ عدتها قد انتهت، هكذا كانت في الجاهلية، فجاء الإسلام بخلاف ذلك الأمر، وجاء بإحدادِ شرعيّ، فيه خير كثير وكفٌّ للمرأة من أن يتعرّض لها من يخطبها أو يرغَب أحد في النظر إليها ما دامت في تلك العدة.
وهذا الإحداد الشرعيّ بيّنته سنة رسول الله . فأولاً: جاءت السنّة بإلزام المتوفَّى عنها زوجها أن تبقَى في البيت الذي توفّيَ عنها زوجها فيه إلى أن تنقضيَ عدتها، أخبرت فريعة بنت مالك رضي الله عنها أن زوجَها خرج في طلب أرقّاء له فقتلوه، فأتت النبيّ وقالت: يا رسول الله، قتِل زوجي وأنا بدارٍ شاسعة من أهلي، ولم يخلّف لي زوجي نفقةً ولا مالاً أرِثه، والدار ليسَت دارًا له، وإني أحبّ أن أنتقِل إلى أهلي وإخوتي، وإنّ بقائي في بيت والدي وإخوتي أرفقُ بشأني، فرخّص لها النبي أن تنتقل، قالت: فلم أغادِر المسجدَ أو الحجرة حتى دعاني وقال: ((امكُثي في البيت الذي توُفي عنك زوجك حتى يبلغ الكتابُ أجله))[1]، فألزمها أن تبقى في المنزل إلى أن تنتهيَ العدّة مع أنها ذكرَت بُعدَ الدار، وأنه ليس ملكًا لزوجِها، ولم يخلِّف نفقةً ولا مالاً، ومع هذا ألزمها بالبقاء في ذلك البيت إلى أن تنقضيَ العدّة.
فهذا حكمٌ من أحكام الإحداد؛ أنّ المتوفَّى عنها زوجها تلزَم المكانَ الذي كانت تسكُنه قبلَ موت زوجها، وهو مكان إقامتها. أما الشيء الطارئ فلا، لكن المكان الذي هو موضِع لإقامة، أمرَها النبيّ أن تلزمه مدّةَ الإحداد.
وجاء في السنة أيضًا أنّ المحادّة ممنوعة من الطّيب، فيقول : ((ولا تكتحِل ولا تمسّ طيبًا))[2]، فمنعها من الطيبِ مطلقًا، سواءً كان هذا الطيب بخورًا أو كان من العطورات العامّة، فجنس الطيب ممنوعة المحادّة منه، وكذلك الاكتحال ممنوعة المحادّة منه، وكلّ وسائل التجميل.
امرأةٌ من نساء الصحابيات تشتكي قالت: يا رسول الله، إن ابنتي تُوفي عنها زوجُها وهي تشتكي عينَها أأكحِّلها؟ قال: ((لا)) مرتين أو ثلاثًا[3]. فمنعها من الكحل، ومنعها من مسّ الطيب.
وجاء في السنة أيضًا منعُها من لبس كلّ ثوب معدٍّ للتجمل، فإنه قال لها: ((ولا تلبس ثوبًا مصبوغًا))[4]، يعني: نهاها عن ذلك لأنه يريد منها أن لا تتعرَّض للخُطّاب، فمنعها من لبس الثوبِ المعَدّ للتجمّل.
وجاء في السنة أيضًا منعُها من الامتِشاط بالحناء والطيب، وأرشَدها للسِّدر تغلّف به رأسَها لأنّه ليس بطيب، كلّ هذا لأنّ هذا الطيبَ والحناء من مظاهر الزينة. ولما دخل النبيّ على أمّ سلمة ورآها قد وضعت على عينها الصَّبر قال: ((ما هذا؟)) قالت: وضعته على عيني، إنّي أشتكي، قال: ((إنه يشُبُّ الوجه ـ أي: يجمِّله ـ، ضعِيه باللَّيل ثمّ انزعيه بالنّهار))[5]. هكذا دلّت سنة رسول الله ، ولم يحدِّد لها لونًا في اللباس، وإنما منعها من ثوبٍ معَدٍّ للجمال والزينة، أمّا لون اللباس فلم يحدّد لها أسوَد ولا أخضَر ولا غيره، بل هي مباح لها كلُّ لبس يعتاد النساء لبسَه ما لم يكن مُعدًّا للتجمّل والزينة به، هكذا سنة رسول الله .
ومنعها أيضًا من لبسِ الحليّ، فجاء في السنة نهي المحادَّة عن لبس حليّ الذهب والفضة[6]، وجاء المنع من خطبتها أثناء عدّتها، فإن خطبتَها أثناءَ العدة أمرٌ محرّم شرعًا بنصّ الكتاب.
أيتها المسلمَة، وما سِوى ما ذكِر فإنّ ذلك مباح لها، مباحٌ لها الاغتسال متى شاءت، ومباحٌ لها النظافة بوسائل التنظيفِ ما لم يكن طيبًا كيف شاءت، ومباح لها التنقّل في دارها من أولّه إلى آخره، ومباح لها العمل في دارها، ومباح لها ما كانت تعمَل، وصلاتها كصلاتها قبل ذلك، تصلّي صلاتها في وقتها، وليس هناك أمرٌ يخصّها في الصلاة مبادرةً أو غير ذلك، بل كلّ ذلك من الأمور المطلَقة، إنما هذه الأمورُ الخمسة وهي: البقاء في المنزل، الامتناع عن الطيب، الامتناع عن الكُحل، الامتناع عن لبس الحليّ من الذهب والفضة، الامتناع عن لبس الثياب المعدَّة للتجمّل، هذا الذي نهت السنّة النبوية عنه، وما سوى ذلك أمرٌ جائز لها.
قالت امرأة: يا رسول الله، توفِّي زوجي، أفأجُدّ نخلي؟ قال: ((جُدّي نخلك، فلعلّكِ أن تتصدّقي منه))، فأباح لها العملَ في بيتها وحقلِها، ولم يمنعها من ذلك، ولكن منعها من الخروج، ولكن قال العلماء: الخروج إذا دعَت إليه الضرورة بأن لا يكون أحدٌ يقضي حاجتَها أو اضطرّت إلى علاج أو أمرٍ ضروريّ يتوقّف الأمر على خروجها لحاجةٍ ما فإنها تخرج، ولكنها إذا انقضَت حاجتها ترجِع، مع الالتزام أحكام الإحداد وعدم الإخلال بشيء مما بيّنته سنة محمد .
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه أحمد (6/370، 420)، وأبو داود في الطلاق (2300)، والترمذي في الطلاق (1204)، والنسائي في الطلاق (2530، 2532)، وابن ماجه في الطلاق (2031) عن فريعة رضي الله عنها، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وصححه الذهلي كما في المستدرك (2/226)، وابن حبان (4292، 4293)، والحاكم (2832، 2833)، وابن القيم في الزاد (5/603)، وهو في صحيح سنن أبي داود (2016).
[2] أخرجه البخاري في الطلاق (5341، 5343)، ومسلم في الطلاق (938) عن أم عطية رضي الله عنها.
[3] أخرجه البخاري في الطلاق (5337، 5339)، ومسلم في الطلاق (1489) عن أم سلمة رضي الله عنها.
[4] أخرجه البخاري في الطلاق (5341، 5343)، ومسلم في الطلاق (938) عن أم عطية رضي الله عنها.
[5] أخرجه أبو داود في الطلاق (2305)، والنسائي في الطلاق (3537)، والبيهقي (7/440) عن أم سلمة رضي الله عنها، وحسنه ابن القيم في الزاد (5/624)، وابن حجر في بلوغ المرام (3/202ـ سبل السلام ـ)، وفي إسناده من لا يعرف، ولذا أورده الألباني في ضعيف سنن أبي داود (502).
[6] نهي المعتدة من وفاة عن الحلي أخرجه أحمد (6/302)، وأبو داود في الطلاق (2304)، وأبو يعلى (7012)، والطبراني في الأوسط (7732) عن أم سلمة رضي الله عنها، وصححه ابن الجارود (767)، وابن حبان (4306)، وجوده ابن كثير في إرشاد الفقيه (2/232)، وهو في صحيح سنن أبي داود (2020).
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له، وأشهد أنّ محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيّها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، وإذ سمعنا ما يلزَم المرأةَ المتوفَّى عنها زوجُها من الإحدادِ نعلم أنّ هذه الشريعةَ جاءت بكلّ خير، ونهت عن كلّ ضرَر وأذًى، فالشارع منَع المسلمةَ من النياحةِ على الميّت وأخبر أنّ النائحةَ إذا لم تتُب قبل موتها تُقام يوم القيامة وعليها سِربال من قطِران ودِرع من جرب[1]، وأن نياحتها ورفعَ صوتها وشقَّ جيبها ونتفَ شعرها كلّ هذا من الأمور المنهيّ عنها، لكنه أرشدها إلى مدّة معيّنة يكون فيه نوعٌ من تقدير الزوج وتقدير العَقد ونحو ذلك، لكنه منعها من أمور تخالفُ الشرع.
أمّ حبيبة زوج النبي بلغها موتُ أبيها أبي سفيان، فلما مضَت أيامٌ ثلاثة دعَت بطيبٍ فمسحته بذراعيها وقالت: والله، ما لي في الطيب من رغبة، ولكني سمعتُ رسول الله على المنبر يقول: ((لا يحلّ لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحادّ على ميت فوقَ ثلاث إلاّ على زوجٍ أربعة أشهر وعشرًا))[2].
فإذًا لها إذا كان المتوفَّى غير زوجها أن تحادّ ثلاثةَ أيامٍ فقط؛ لأنّ هذا فيه إرضاءً للنفس واستنفادًا لألم المصيبة، لكن منعها فيما فوقَ ذلك، فأمّ حبيبة زوج النبي أرادت أن تطبِّق السنةَ، فلما مضت أيامُ المصيبة عليها دعت بالطِّيب لتظهِر أنّ المصيبةَ قد انتهت، وأنّ الأبَ لا يحادّ عليه؛ لأنّ الإحداد خاصّ بالزوج أربعة أشهر وعشرًا، وإلا فغير الزوج فلِلمرأةِ المحادّةُ عليه، لكن لا يتجاوز ثلاثةَ أيام، لأنّ في الثلاثة أيام تنفيسًا عن مصيبتها وتفريجًا لهمّها، لتفرِغ ما في نفسها من آلام وحزن، لكن إذا زادت على [ثلاثة أيام] عُدَّت من النياحة وتذكّر المصيبة ونفادِ الصبر، وهذا أمر يرفضه الشارع، لكن المرأة المتوفى عنها زوجُها لها خصوصية لأمور أخرى، وهي عدتها أربعة أشهر وعشر وتلزم الإحدادَ، أو مدةُ الحمل إن كانت حاملاً، هكذا جاءت سنة رسول الله .
فعلى المسلمةِ التقيّد بذلك وعدمُ الالتفات إلى ما قد يقوله بعضُ العوام من أنّ المرأة في منزلها لا تصعَد للأعلى، ولا تنزل من الأعلى إلى أسفل، ولا تخرج في فناء الدار ونحو ذلك، كلّ هذا من أمورٍ لا دليل عليها، أو ما يقوله بعض النساء أنها تبقى في ملابسها، وأنها لا تغتسل ولا تمسّ الصابون ولا وسائل التنظيف، كلّ هذا مما يخالف السنة، بل تقلّم الأظفار، وتزيل ما ينبغي إزالته، فتغتسِل بالصابون ووسائل التنظيف غيرِ المطيّبة، فإن ذلك مباح لها ومأذون لها شرعًا.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلّ بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يدَ الله على الجماعة، ومن شذّ شذّ في النار.
وصلوا ـ رحمكم الله ـ على محمد امتثالاً لأمر ربكم، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىّ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهم صلّ وسلّم وبارك على عبدك ورسولك محمّد سيد ولد آدم، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين...
[1] أخرجه مسلم في كتاب الجنائز، باب: التشديد في النياحة (934) من حديث أبي مالك الأشعري رضي الله عنه.
[2] أخرجه البخاري في الطلاق (5334، 5339، 5345)، ومسلم في الطلاق (1486).
ـــــــــــــــــــ(68/125)
...
المرأة في الإسلام
...
...
4099
...
الأسرة والمجتمع, العلم والدعوة والجهاد
...
...
المرأة, محاسن الشريعة
...
بهجت بن يحيى العمودي
...
...
الطائف
...
...
...
الأمير أحمد
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- وضع المرأة في الجاهلية. 2- تكريم الإسلام للمرأة. 3- سبب تفضيل الرجل على المرأة. 4- صياتة الإسلام المرأة. 5- المؤامرة الجديدة لإخراج المرأة من بيتها وعن طبيعتها.
الخطبة الأولى
أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله بامتثال أوامره واجتناب ما نهاكم عنه لعلكم ترحمون وتفلحون.
عباد الله، إن حديثنا في هذه الخطبة سيكون عن موضوع شغل بال الإنسانية قبل الإسلام وبعده، وقد جاء الإسلام بما ميزه الله عن سائر الأديان، ففصل فيه ووضع له الحل الكافي والدواء الشافي، ألا وهو موضوع المرأة؛ لأن أهل الشر اتخذوا من هذا الموضوع منطلقًا للتضليل والخداع عند من لا يعرف وضع المرأة في الجاهلية ومكانتها في الإسلام ووضعها عند الأمم الكفرية المعاصرة.
فقد كانت المرأة في الجاهلية تعد من سقط المتاع، لا يقام لها وزن، حتى بلغ من شدة بغضهم لها آنذاك أن أحدهم حينما تولد له البنت يستاء منها جدًّا ويكرهها، ولا يستطيع مقابلة الرجال من الخجل الذي يشعر به، ثم يبقى بين أمرين: إما أن يترك هذه البنت تعيش مهانة، ويصبر هو على كراهيتها وتنقص الناس له بسببها، وإما أن يقتلها شر قتلة، بأن يدفنها وهي حية ويتركها تحت التراب حتى تموت، وقد ذكر الله ذلك عنهم في قوله تعالى: وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ يَتَوَارَى مِنْ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُون [النحل:58، 59]. وأخبر سبحانه أنه سينصف هذه المظلومة ممن ظلمها وقتلها بغير حق، فقال تعالى: وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ [التكوير:8، 9].
وكانوا في الجاهلية إذا لم يقتلوا البنت في صغرها يهينونها في كبرها، فكانوا لا يورّثونها من قريبها إذا مات، بل كانوا يعدونها من جملة المتاع الذي يورث عن الميت، فلهم الحق فيها، فنزل قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا [النساء:19].
وكان الرجل في الجاهلية يتزوج العدد الكثير من النساء من غير حصر بعدد، ويسيء عشرتهن، فلما جاء الإسلام حرم الجمع بين أكثر من أربع نساء، واشترط لجواز ذلك تحقق العدل بينهن في الحقوق الزوجية، قال تعالى: فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ الآية [النساء:3].
نعم أيها الإخوة في الله، لقد جاء الإسلام والمرأة على هذا الوضع السيئ فأنقذها منه، وكرمها وضمن لها حقوقها، وجعلها مساوية للرجل في كثير من الواجبات الدينية وترك المحرمات وفي الثواب والعقاب على ذلك، قال تعالى: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [النحل:97].
ولقد فضل الله الرجل على المرأة ـ أيها المسلمون ـ في مقامات معينة، ولأسباب تقتضي تفضيله عليها، كما في الميراث، فتأخذ المرأة نصف ما يأخذ الرجل، وشهادة الرجل بامرأتين، والدية والقوامة والطلاق؛ لأن الرجل عنده من الاستعداد الخَلْقي والخُلُقي ما ليس عند المرأة، وعليه من المسؤولية في الحياة ما ليس على المرأة، كما قال تعالى: الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ [النساء:34]، وقوله: وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ [البقرة:228].
جعل الله للمرأة حقًّا في الميراث: وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا [النساء:7]. جعل الله لها حق التملك والتصدق والإعتاق كما للرجل، قال تعالى: وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ [الأحزاب:35]. جُعِل لها حقٌ في اختيار الزوج، فلا تُزوّج بدون رضاها.
معاشر المسلمين، إن المرأة صانها الله بالإسلام من التبذل، كف عنها الأيدي الآثمة والأعين الخائنة التي تريد الاعتداء على عفافها والتمتع بها على غير وجه شرعي، وهكذا عاشت المرأة تحت ظل الإسلام وكرامته أمًّا وزوجة وقريبة وأختًا في الدين، تؤدّي وظيفتها في الحياة ربة بيت وأسرة، وتزاول خارج البيت ما يليق بها من الأعمال إذا دعت الحاجة إلى ذلك مع الاحتشام والاحتفاظ بكرامتها، ومع التزام الحجاب الكامل الضافي على جسمها ووجهها، وتحت رقابة وليها، فلا تخلو مع رجل لا يحل لها إلا ومعها محرمها، ولا تسافر إلا مع محرم.
هكذا ينبغي أن تكون المرأة في ظل الإسلام دين الرحمة والكمال والنزاهة والعدل، وقد أوصى بها النبي وصية خاصة في حجة الوداع فقال: ((واتقوا الله في النساء، فإنهن عندكم عوان)) أي: أسيرات، هذا وصف تقريبي للمرأة في الإسلام.
أما وصفها في المجتمعات المعاصرة الكافرة أو من تتسمى بالإسلام ولكن قد استوردت نظمها وتقاليدها من الكفار، إن وضعها اليوم مزري ومخجل وفاضح، فقد جعلت المرأة فيها سلعة رخيصة، تعرض عارية أو شبه عارية أمام الرجال في مواطن تجمعهم، على خادمات في البيوت أو موظفات في المكاتب والمؤسسات والشركات أو ممرضات في المستشفيات أو خادمات في الطائرات أو خادمات في الفنادق ومدرسات للرجال في دور التعليم وممثلات الأفلام التلفزيونية والسينمائية والفيديو، والآن صار العرض أغرى وأفضح، فالمرأة تظهر عارية تمامًا من خلال طبق الدش الخبيث، والذين عصمهم الله من التلفاز أو الأجهزة المرئية فإنهم بذلوها في وسائل أخرى بصوتها في المذياع مذيعة أو مغنية، وبصورتها الفوتوغرافية في الصحف والمجلات الدورية أو على أغلفة السلع التجارية، بل وللدعاية للشاحنات أو الحراثات الزراعية، فتجدهم يختارون أجمل فتاة يجدونها ويضعون صورتها على هذه الصحف والمجلات والسلع والدعاية؛ ليتخذوا منها وسيلة لترويج بضاعتهم، وليقرّوا أهل الفساد الخلقي بفسادهم ليفتنوا الأبرياء، هكذا أصبحت المرأة في عصرنا الحضاري، أقصد عصرنا الحضاري الجاهلي المتخلف بهذه الأفكار، يا لرخص المرأة ـ يا عباد الله ـ في المجتمع المتحضر! ويا لتبذلها بين الرجال دون حياء منها لأنها ألفت ذلك ورضيت به!
كانت قبل الإسلام مستعبدة، وهي اليوم طليقة من كل قيد، أما الإسلام الذي جعلها في حالة متوسطة لها حقوقها في حدود، ولها معالم تنتهي إليها ثم تعود، فلا يرغب فيه هؤلاء الناعقون، لقد ظلموها فخلعوا عنها لباس الستر، تركوها عارية مظهرة لمفاتن جسدها، تنفذها سهام الأنظار المسمومة من كل جانب، كانت في بيتها ترعى زوجها وأبناءها، فأخرجوها باسم الحرية والتقدمية والحضارة، فقذفوها في بحار الاختلاط العفن، حرموا عليها ما أحل الله كالميراث وغيره، وأحلوا لها ما حرم الله من التبرج والتبذل والفسوق والعصيان.
هذا هو فعل أعداء الدين وأعداء المسلمين في حق المرأة المسلمة العفيفة بدينها وخلقها، وإنك لتعجب ـ أخي المسلم ـ حين تعلم أن من بين المسلمين أبواقًا تنادي بمقالات وادعاءات الحرية للمرأة من العلمانيين أذناب الكفرة واليهود، يرددون أقوالهم، كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ [البقرة:118].
أيها المسلمون، تنبهوا ـ رحمكم الله ـ لدسائس أعدائكم ومخططاتهم، متخذين المرأة سلاحًا ضدكم يشهره في وجوهكم بعض المخدوعين من أبنائكم، فسُدوا عليهم الطريق، واعرفوا من أين جاءت سمومهم، فامنعوا المجلات التي تحطم بيوتكم وتفسد نساءكم، فإن الخطر كل الخطر منها ومن غيرها من وسائل الإعلام الهدامة.
ـــــــــــــــــــ(68/126)
...
التحذير من الاختلاط
...
...
2936
...
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
...
...
الكبائر والمعاصي, المرأة, قضايا المجتمع
...
داود بن أحمد العلواني
...
...
جدة
...
...
...
الأمير منصور
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- خطورة الاختلاط وآثاره السيئة. 2- التدابير الوقائية لحماية المجتمع. 3- الخلوة بالأجنبي. 4- التفريق بين الجنسين ومنع الاختلاط.
الخطبة الأولى
أما بعد: فيا عباد الله، اتقوا الله، واعلموا أن من أهم قضايا المجتمعات الحديثة وأعظمها خطورة مسألة الاختلاط بين الرجال والنساء، والمحرَّم بنص الكتاب والسنة؛ حفاظًا على سلامة المجتمع المسلم مما يورده الهلاك للحرث والنسل، حيث إن الاختلاط من أكبر الأسباب الميسّرة للفاحشة وارتكاب جريمة الزنا، فالاختلاط بين الجنسين يحرّك في النفس كوامن الغريزة، ويشعل نار الشهوات الجامحة المحرّمة، ويؤجّج العواطف، ويغري كلا الجنسين بالآخر، فيرخي بذلك العنان للشهوة التي لا حدودَ لها، والإسلام أمر بصيانة العرض والمجتمع المسلم.
ومن آثار ذلك التبرّج والتفنّن بإبداء الزينة والجمال، يصل الأمر إلى الخلاعة والعري من أجل إطفاء شهوة الجنس المحرمة بنص الكتاب والسنة.
ويكون من آثار الاختلاط المدمّرة اضمحلال القوى الجسدية والفكرية في شباب الأمة حين تغتالهم الشهوات المحرمة البهيمية وتسيطر عليهم الاستثارة الجنسية، ويصبح جلّ تفكيرهم وهدفهم واهتمامهم بصور الإغراء والأدب المكشوف الهابط والموسيقى الراقصة والأغاني الماجنة في الإذاعة والفيديو والسينما والتلفزيون.
ومن أخطر آثار الاختلاط أيضًا فقدان الشباب الصبر والجلَد والتحمّل، ويساعد على انتشار الأمراض السرّيّة الفتاكة، ويحوّل المجتمع إلى لهو وعبث ومجون وخلاعة، وهذا بالطبع يؤدي إلى أن يورد المجتمع موارد الهلاك والدمار والعطب والفناء وفشوّ الفاحشة عياذًا بالله.
ويضاف إلى هذه الآثار المدمرة الخطيرة للاختلاط أن يفقد الزواج الطاهر قيمته في نفوس من استحوذ عليهم مرض الاختلاط، حيث يجد كلا الجنسين سبيله إلى متعة مغرية تجعله لا يفكّر بالزواج، بل تفقد المتزوج اهتمامه برابط الزوجية مع زوجته، فيفارقها أو تفارقه إلى اتخاذ الأخدان من الأخلاّء والخليلات، أو الطلاق والفرقة لأتفه الأسباب.
عباد الله، تلك هي أهم أضرار الاختلاط ومفاسده، ومن أجل ذلك أحكم الإسلام في نظامه الاجتماعي العلاقة بين الرجل والمرأة، واتخذ التدابير الوقائيّة التي تجعل هذه العلاقة قائمة على العفة والشرف والكرامة وصيانة العرض وبناء الأسرة المحافظة المسلمة.
وكان من تلك التدابير الوقائية أنه أمر بالحجاب حتى لا تكون هناك فتنة وإثارة، فقال الله تعالى: ياأَيُّهَا النَّبِىُّ قُل لأزْواجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذالِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا [الأحزاب:59]، وقال الله تعالى: قُلْ لّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ ذالِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ وَقُل لّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا [النور:30، 31].
ففي هذه الآيات الكريمة أمرٌ من الله سبحانه وتعالى للنساء بإدناء الجلابيب وغضّ البصر وحفظ الفروج، وفي كل ذلك سد للذرائع وحسم الوسائل المؤدية إلى الفساد وظهور الفواحش والبغي والمنكرات المفضية إلى الهلاك والانحلال والتفسّخ والعزوف عن الزواج المشروع، نسأل الله السلامة والعافية.
ومن تلك التدابير الوقائية أيضًا أن حرّم الخلوة بالمرأة الأجنبية، فلا يجوز أن يخلو رجل بامرأة إلا أن يكون محرمًا لها ولو كان من أدنى أقارب زوجها، فقال رسول الله : ((إياكم والدخول على النساء))، فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله، أفرأيت الحمو؟ قال: ((الحمو الموت))[1]، ومثله في الحرمة ابن أخ الزوج وابن أخته وابن العم وأشباههم.
وبهذا التعبير بيّن لنا معلم البشرية صلوات الله وسلامه عليه خطورة الخلوة بجعلها قرينة الموت؛ لأنها تؤدي إلى هلاك الدين، فينبغي الحذر منها كما يحذر الإنسان من الموت، ولعظم ذلك شدد المشرع في ذلك صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
ومن المؤسف له ـ أيها الناس ـ أن كثيرًا من بيوت المسلمين قد ابتليت بهذا الداء الخطير الفتاك، داء الخلوة بالأجانب، فالرجل يخلو بالخادمة أو السكرتيرة، والدكتور الطبيب يخلو بالممرضة والمريضة، والخاطب يخلو بمخطوبته قبل العقد، والمرأة تخلو بالخادم والسائق والطباخ والحارس, لقد فني مجتمعنا، اللهم إن هذا منكر فأزله، عدا عن اختلاط النساء بالرجال ومزاحمتهن في كثير من محلاّت البيع والشراء، إنْ لم نقل في البيوتات، فترى النساء يدُرن عن الأسواق والشوارع ويغشين المعارض والدكاكين إلاّ ما رحم ربك.
وكل هذا ـ يا عباد الله ـ حرام خلافُ الشرع؛ إذ هي مداخل شرّ ومقدمة فاحشة، وهي من مداخل الشيطان، ولذلك قال رسول الله : ((لا يخلونّ رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما))، كما حذر من سفر المرأة مع غير ذي محرم فقال: ((لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة وليس معها ذو حرمة منها))[2]، اللهم اعف عنا وسلم يا رب.
وقد حذر رسول الله المسلمين من خلط الذكور والإناث ـ حتى ولو كانوا إخوة بعد سن التمييز ـ في المضاجع، فقال عليه الصلاة والسلام: ((مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر، وفرقوا بينهم في المضاجع))[3]، والأمر يقتضي الوجوب، فالتزم أخي المسلم، وألزِم.
فاتقوا الله عباد الله، فإياكم من الاختلاط والخلوة بالأجنبيات، وامنعوا نساءكم وبناتكم من التبرج والاختلاط والتسكّع في الأسواق والمنتزهات، والمسؤولية في ذلك لا تقع على النساء وحدهن، بل تقع عليكم أيضًا، فـ((كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته، فالرجل راع في بيته ومسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها)) الحديث.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وَقُل لّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ ءابَائِهِنَّ أَوْ ءابَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِى إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِى أَخَواتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِى الإِرْبَةِ مِنَ الرّجَالِ أَوِ الطّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُواْ عَلَى عَوْراتِ النّسَاء وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُواْ إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور:31].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] رواه البخاري في النكاح، باب: لا يخلو رجل بامرأة إلا ذو محرم والدخول على المغيبة (6/158)، ومسلم في السلام، باب: تحريم الخلوة بالأجنبية والدخول عليها (2172).
[2] رواه البخاري في تقصير الصلاة، باب: في كم يقصر الصلاة؟ (2/35)، ومسلم في الحج، باب: سفر المرأة مع محرم إلى حج وغيره (1339).
[3] أخرجه أبو داود في الصلاة، باب: متى يؤمر الغلام بالصلاة؟ (495)، وإسناده حسن.
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي شرع لعباده ما فيه مصلحتهم وسعادتهم في الدنيا والآخرة, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الحكم فلا مضادّ لحكمه ولا مبدّل لكلماته وهو السميع العليم، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله نبي الهدى والأمين المبلغ لرسالات ربه، أهدى الناس طريقًا، وأقومهم دعوة، وأنصحهم قصدًا، فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه المتمسّكين بهديه المتبعين لشريعته، المبتعدين عن اتباع الشهوات والأهواء المخالفة لأمر ربه، وحشرنا الله مع رسوله وصحبه الكرام برحمته، إنه جواد كريم.
أما بعد: فيا عباد الله، اتقوا الله واعلموا أن رسول الله قد حذر أمته من اختلاط النساء بالرجال حتى في أماكن العبادة فقال: ((خير صفوف الرجال أولها وشرها آخرها، وخير صفوف النساء آخرها وشرها أولها))[1]، وهذا في موطن العبادة والصلوات وفي المسجد، فكيف بحال من يقدّم المرأة ويكون كالتيس خلفَها كما يفعله الإفرنج وأذناب الغربيين؟!
ففي هذا الحديث الشريف الصحيح أوضحُ دليل على حِرص الشرع ومحبّته لبُعد المرأة عن الرجال واختلاطها بهم، ومن أجل هذا اعتبر الخيريّة في آخر صفوف النساء، وما ذلك إلا لبعده عن الرجال ومخالطتهم ورؤيتهم، فالأمر يتطلّب منا ـ أخي المسلم ـ الحزم والأخذ بشرع الله والتزام ما ورد عن رسول الله والشعور الدائم والإحساس الملازم للمسلم بأنّ عين الله عليه وأنه مراقب في هذه الحياة كما قال الله تبارك وتعالى: مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق:18]، واليقين الذي لا يخالجه الشك بأن الله جل وعلا يرانا في حركاتنا وسكناتنا وتصرفنا وفي وظائفنا وأعمالنا، يرانا أين ما كنا وحيثما نكون، كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن ركن الإحسان: ((أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك)) .
لا شكّ ولا ريب، فإن الله تعالى الذي خلقنا من العدم وأبرزنا إلى حيّز الوجود المشاهَد يرانا ويحيط جل وعلا بنا علمًا، كما قال الله تبارك وتعالى: قَدْ أَحَاطَ بِكُلّ شَىْء عِلْمَا [الطلاق:12]، ويدرك جل وعلا الأبصار: وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الأنعام:103]، فالله جل وعلا الذي يرى ويعلم كل شيء نهانا وحذرنا من مغبّة الاختلاط، وشدّد النكير في ذلك، وأنذر وتوعد عليه، وبين لنا مفاسد الاختلاط وشرّه المستطير، ورسول الله صلوات الله وسلامه عليه شدّد في ذلك حتى قال عن القريب: ((الحمو الموت))، فهل من سامع؟! وهل من مستجيب لنداء الله جل وعلا وهو الحكيم الخبير ولرسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في هذا الأمر الخطير؟!
أسأل الله أن يوفقنا جميعًا لكل ما فيه صلاح الأمة ونجاتها، والقيام بما أوجب الله علينا من رعاية الأهل والأولاد لنقيهم بذلك نار جهنم، ونحقق سعادتهم في الدنيا والآخرة، إنه سميع مجيب.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا...
[1] رواه مسلم في الصلاة، باب: تسوية الصفوف وإقامتها (440).
ـــــــــــــــــــ(68/127)
أمومة لا إمامة
...
...
3549
...
الأسرة والمجتمع, فقه
...
...
الصلاة, المرأة
...
محمد بن صالح المنجد
...
...
الخبر
...
8/2/1426
...
...
عمر بن عبد العزيز
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- وجوب التسليم لأمر الله تعالى. 2- الحكم لله ورسوله . 3- الحرب على الإسلام وأهله. 4- وجوب الدفاع عن الإسلام. 5- بدعة إمامة المرأة في صلاة الجمعة. 6- استغلال المنافقين للحدث. 7- مقاومة السلف للمحدثات في خطبة الجمعة والعيد. 8- الإجماع العملي على عدم إمامة المرأة في صلاة الجمعة. 9- الأدلة على بطلان ذلك. 10- وليس الذكر كالأنثى. 11- مفاسد الدعوة لحرية المرأة. 12- شبهات والجواب عليها. 13- من أقوال العلماء في المسألة. 14- مفاسد إمامة المرأة لرجال في الصلاة.
الخطبة الأولى
أما بعد: فإن الله سبحانه وتعالى قد ندبنا إلى طاعته ومرضاته، وأمرنا أن نستسلم لأمره سبحانه: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء:65]، ولا تثبت قدَمُ الإسلام إلاّ على طريقِ التسليم، فالتسليم لأوامِر الله سبحانه وتعالى ركن عظيم من أركان الإيمان، لا يتم الإيمان إلا بهذا التسليم، التسليم لحكم الله وعدم الاعتراض على شرع الله.
عباد الله، وإن الله سبحانه وتعالى قد حكم في كتابه العزيز بأحكام كثيرة متعدّدة، والله حكيم، والله يحكم بما يشاء، وله الحكم سبحانه، إِنْ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ [الأنعام:57]. وأرسل إلينا نبيه ، فعلمنا من أحكام الله، وما ترك خيرا إلا دلنا عليه، وحذرنا من المحدثات فقال: ((كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة))، وأخبرنا أن كل ضلالة في النار، وحذرنا من الفتن، ومن ذلك هذه الفتن التي تكون فيما يلقى من الشبهات وما يثار لتغيير الدين وتحريف كلام الله وكلام رسوله وتغيير أحكام الشريعة.
وفي هذا الزمان كثرت السهام على دين الإسلام، وأراد أعداؤه تخريب هذا الدين وتخريب أتباعه المسلمين، فأطلقوا الحريات بزعمهم، ولإفساد المجتمع الإسلامي كان لا بد من إطلاق الحريات في أمور المرأة، لتخرج كما تشاء وتخرج بلا ضوابط وتختلط، وهكذا تثور الشهوات، ويعمّ الانحلال المجتمع، وعند ذلك يحصل الانفلات الذي يصعب جدا أن يُلمَّ شعث الأمور بعده، ويحدث اضطراب الأمن في المجتمع.
عباد الله، إن أمن الإسلام أهم وأعلى وأغلى، فيجب علينا أن نحفظ هذا الدين وأن نحافظ عليه، وأن نقاوم جميع الدعوات التي تخرج لتخريبه، ونقاوم جميع البدع والمحدثات، فإن أمرها خطير.
ومما خرج علينا في هذه الأيام المتأخرة من الدعوات المضحكة المؤلمة الإعلان عن إقامة صلاة جمعة تؤمها امرأة، دكتورة في الدراسات الإسلامية بزعمهم في جامعة فرجينيا كومنولث، لتؤمّ المسلمين في صلاة مشتركة بين الرجال والنساء في هذه الجمعة أي: اليوم، وأن هنالك منظمات سترعى هذا الموضوع، وأن هذا الأمر هو سلسلة في حلقات حرية المرأة والمطالبة بدور رائد لها، ولما حارب المسلمون هناك هذا الأمر في مساجدهم لجأ هؤلاء إلى إقامة الصلاة في إحدى الصالات الفنية في مدينة نيويورك، فستقام اليوم بزعمهم صلاة جمعة تؤمها امرأة.
والمنافقون من بني جلدتنا قد طاروا بهذا الخبر وطيّروا به ونشروه، وقام دعاة المساواة بين الجنسين يقولون: ما بالكم تنكرونه؟! لماذا لا تخطب المرأة؟! ولماذا لا تكون إمامة؟! لماذا هذا الاحتكار أيها الرجال؟! أين العدل؟! وصفّق كثير من الجهلة لهذا, ولكن جمهور المسلمين ـ والحمد لله ـ مستنكرون لهذا الأمر أشدّ الاستنكار، يستسخفون هذا الرأي وهذه القضية، ولولا أن الإعلان عن هذه المسألة تمّ بشكل منظم ومدروس وكان له انتشار وشيوع لما ساغ الكلام في هذه المسألة، فإنه من البدهيات المعلومة أن الصلاة والخطبة في الجمعة لا تكون إلا للرجال، ولكن صار الكلام اليوم في الأشياء البدهية وليس في الأمور الخلافية فقط، ولذلك فإن هذه المسألة ليست خلافا فقهيا، ولكنها جزء من مخطط مدروس لإفساد المرأة المسلمة والمناداة بالمساواة من جميع الجهات، يريدون مساواة تامة بين الرجال والنساء مشيًا على خطى الغرب ومتابعةً لسنن اليهود والنصارى الذين حذرنا النبي من الاقتداء بهم والتشبه بهم، وهذه حلقة أيضا من حلقات الإفساد، فتصور في مساجد المسلمين تقوم نساء بخطبة الجمعة أمام الرجال، أي هُزء هذا؟! وأي أضحوكة ومسرحية هزلية يريدون أن يحولوا إليها مساجد المسلمين ودور العبادة والمعاقل الأخيرة والحصون لهذا الدين، أفسدوا البيوت والمجتمعات، وبقي إذا إفساد المساجد، وهكذا تقوم الشوشرة حول الأمور الفقهية وأحكام الدين.
ومن أهم الواجبات الإسلامية الدفاع عن دين الإسلام، وأن نتحرك لمقاومة المحدثات والمنكرات، فإننا في سفينة، ((مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمَثَل قوم استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلِها إذا استقَوا من الماء مَرّوا على من فوقَهم، فقالوا: لو أنا خرَقنا في نصيبنا خرقًا ولم نؤذِ من فوقنا))، فقال النبي : ((فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا))، وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [التوبة:71]، ((من رأى منكم منكرًا فليغيِّره)). والعالم بعد ثورة الاتصالات أصبح كالقرية الواحدة، وما يحدث هناك يؤثر هنا وهكذا، ولذلك ليس الكلام في المسألة عن حدث في مكان بعيد لا يهمّنا، كلاّ، بل إنّ الكتابات تتناوله بين المسلمين، بل ظهر من بعض من يتسنّم الفتوى في بعض مجتمعات المسلمين من يجيز هذا ويقول: المسألة خلافية ولها في ذلك سعة، وتأملوا ـ يا عباد الله ـ منابر المساجد يتسنمها ما يسمى بالجنس اللطيف.
وإن مقاومة الإحداثات في خطبة الجمعة من سنة الصحابة رضوان الله عليهم، بل الخطب عموما وخطبة العيد وهي أقل من خطبة الجمعة في المنزلة قاوم الصحابة التغيير فيها، فجاء في الحديث الصحيح: أوّل من بدأ بالخطبة يومَ العيد قبل الصلاة مروان، فقام إليه رجل فقال: الصلاة قبل الخطبة، فقال: قد تُرِك ما هنالك، فقال أبو سعيد: أمّا هذا فقد قضَى ما عليه ـ أدى واجب الإنكار ـ سمعت رسول الله يقول: ((من رأى منكم منكرًا فليغيِّره)) الحديث، فلا يجوز لنا السكوت على هذا.
عباد الله، إن هذه الخطوات التي يقولون عنها: جريئة هي اليوم لإفساد أعظم الأركان العملية وإدخال المحدثات فيها، وهي الصلاة، وقد قال النبي : ((لينقضن عرَى الإسلام عروة عروة، فكلّما انتقضت عروة تشبّث الناس بالتي تليها، وأوّلهن نقضًا الحكم، وآخرهن الصلاة)).
والآن هذا أمر يراد به نقض عروة من عرى الدين وعروة من عرى الصلاة أيضا، والذين زعموا جواز هذا جاؤوا بأدلة بزعمهم، ولذلك لا بد من الكلام بالأدلة، وإذا كان عندهم حجج فلنقارع الحجة بالحجة، وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر:7].
ما قولكم ـ يا عباد الله ـ في قرون الإسلام الماضية والعلماء الذين مضوا منذ عهد محمد وحتى هذا التاريخ، تصوروا جيدا أن مساجد المسلمين منذ أن بنيت من عهد النبي وحتى هذا اليوم الجمعة حتى تاريخ اليوم لم يقم على منابرها امرأة ولا صلت إمامةً في المساجد بالرجال، واليوم تحدث أول بدعة في تاريخ الإسلام منذ أن أنزل الله الوحي على محمد ، هذا اليوم أول اختراق بدعي في تاريخ الإسلام في خطبة الجمعة وإمامة الناس تقوم به امرأة من هؤلاء المغفلات الجاهلات مهما بلغت في الدرجة الأكاديمية، فتخالف إجماع المسلمين العملي منذ عهد النبي عليه الصلاة والسلام إلى الآن، يؤزّها شياطين الغرب ودعاة تحرير المرأة المزعومين الذين يريدون فتح الباب لها إلى جهنم.
عباد الله، أمر لم تفعله أمهات الصحابيات أمهات المؤمنين، عائشة عالمة أم لا؟ وخطيبة مفوَّهة أم لا؟ وجريئة شجاعة أم لا؟ فلماذا لم تتولَّ الخطابة والإمامة في عهد النبي وبعده؟! بعد أن مات لم تقم في مسجد ولا على منبر تخطب، أفهذه المرأة التي ستخطب اليوم ومن بعدها من النساء خير وأفضل أم عائشة وأمهات المؤمنين والعالمات الصالحات اللاتي مضين؟! ما معنى خرق الإجماع العملي للمسلمين؟! ما معنى شق هذا الإجماع العملي الذي حصل؟! الإمامة من الأمور العبادية المحضة، إمامة الصلاة إنها قضية شرعية وحكم إسلامي وفيها أدلة ولها شروط، ثم فرصة عظيمة لتفنيد قول دعاة المساواة:
الإسلام لم يأت بالمساواة بين الجنسين، والذي يقول هذا جاهل أو كذاب، فإن الله فرق بينهما وقال سبحانه: وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى [آل عمران:36]، الدليل على عدم المساواة بين الجنسين نقولها للمنافقين من بني جلدتنا قبل أن نقولها للكفار، لم يأت في شرع الله المساواة بين الجنسين، بل قال تعالى: وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى، وقال تعالى: الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ [النساء:34]، وقال تعالى: وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ [البقرة:228]، فكيف يستوون؟! لا يستوون عند الله، إنما كانت النساء شقائق الرجال مثلهم، فالنساء مثل الرجال في الأحكام إلا ما دل الدليل على التفريق.
ومن الفروق هذه القضية، وهي قضية الإمامة والخطابة، وقال النبي ـ مفسرا قوله: ((ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للبِّ الرجل الحازم من إحداكن)) ـ: ((أليس شهادة المرأة مثل نصفِ شهادة الرجل؟)) قلن: بلى، قال: ((فذلك من نقصان عقلها، أليس إذا حاضت لم تصلِّ ولم تصم؟)) قلن: بلى، قال: ((فذلك من نقصان دينها)). وهذا النقص جبِلِّي خَلقي لا تحاسب المرأة عليه وتؤَثَّم، وإنما هو شيء فطري خَلقي، ولذلك جعل الله الفروق بين الجنسين، وجعل عقل الرجل في الجملة والعموم أقوى، وأناط به أشياء لم ينطها بالمرأة، وجعلها أقدر من الرجل على الأمومة والحضانة والحمل والرضاع، ولذلك لا يمكن أن يحمل الرجل ولا أن يرضع، وقدمت الشريعة المرأة في الحضانة لأنها أقدر على الولد وأعلم بشأنه وأرفق به، ولذلك فإن الله حكيم، جعل في النساء من الخصائص المناسبة للأمومة وليس للإمامة، وهؤلاء اليوم يريدون للمرأة الإمامة الكبرى ويقولون: ما المانع أن تكون هي الخليفة والرئيسة والإمامة للمسلمين؟! وهكذا يريدون تحطيم الأسرة وإزالة عاطفة الأمومة بإخراج المرأة، جعلها تختلط بالرجال، إلقائها في كل مكان، تخالطهم في الشوارع والمصانع، وتنزل معهم إلى الميدان كما يقولون، اجتماعات مختلطة، وهذه سكرتيرة، وخلوة محرمة، تغوص في الشحوم، وتسوق الشاحنات الثقيلة، تفتح المعارض الفنية لتمشي برفقة الرجال تستعرض لوحاتها، ثم تسابق في الراليات وفي السيارات وفي الطائرات، وتدخل في الممرات الضيقة مضيفة بين الرجال، ويحدث هذا الاحتكاك، وتكمل مضيفة بزينتها ليس بينها وبين الرجل شيء يذكر من المسافة.
عباد الله، إن هذا الانحلال كارثة عظيمة ستصيب المجتمعات، وسيعلم هؤلاء ما ستجنيه أيديهم، ويدغدغون مشاعرها، ويقولون: سننتصر لكِ ونطلق حرياتِك ونساويك بالرجال، أفلا التفتّم إلى مصيبة البطالة عند الرجال فحللتموها بدلا من الزجّ بالنساء في المعمعة وإشغالهن عن الوظائف الأساسية التي أناطتها الشريعة بهن؟! ما معنى إخلاء حصون المسلمين من معاني الأمومة ومن معاني الحفظ والصيانة والرعاية لهذا العشّ الزوجي؟!
عباد الله، جعل الله النبوة للرجال، وجعل الجهاد على الرجال، وقال النبي عليه الصلاة والسلام: ((لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة))، ويقول هؤلاء اليوم: إن هذا حديث خاص بالفرس الذين كانوا على عهد النبي عليه الصلاة والسلام، النبي عليه الصلاة والسلام يقول تشريعا وحكمًا، خاص بالكفار؟! دولة كفار كانت في عهده الحكم خاص بها؟! نبينا نحن أولى به يا عباد الله، وكلامه لنا قبل أن يكون لغيرنا، ولكن الشرع المحمدي عام لجميع من كان في عهد النبي ، يخاطب به المؤمن والكافر، وهؤلاء يقولون: حديث: ((لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة)) جاء على مناسبة خاصة، سبحان الله! إذا هذا حكم شرعي خاص بكفار معينين أما نحن المسلمين فلا يتناولنا، كبرت كلمة تخرج من أفواههم. نحن مخاطبون بهذا الحكم الشرعي، ولذلك نص الفقهاء أن الولايات العامة كالقضاء والإمارة قيادة الجيش وكذلك رئاسة الدولة لا تكون للنساء.
وجعل الله شهادة المرأة على النصف من شهادة الرجل، وكذا ميراث المرأة في كثير من أحواله، وجعل الطلاق بيد الرجل، وأباح للرجل أن يجمع بين أربع نسوة والمرأة لا تجمع أبدا بين رجلين ولا أكثر من ذلك في وقت واحد، وقد جاءت الشريعة أيضا بأن دية المرأة على النصف من دية الرجل، وجعل التسبيح للرجال والتصفيق للنساء، وهذا أحد الأدلة على بطلان كونها إمامة للرجال، فيقال: إن النبي عليه الصلاة والسلام لم يرض أن تتكلم المرأة في صلاة الجماعة وهي خلف الرجال، لا تتكلم إذا أخطأ الإمام، ولا تقول: سبحان الله، أرأيتم "سبحان الله" لا تقولها المرأة في صلاة الجماعة وراء الرجال إذا أخطأ الإمام، وإنما تصفق بيديها تنبيها للإمام على الخطأ إذا لم ينبّهه الرجال، فقال: ((التسبيح للرجال، والتصفيق للنساء)) رواه البخاري، فإذا كان لم يشرع لها أن تقول: "سبحان الله" عند الحاجة تنبيها للإمام وهي خلف الرجال، أفتظنون أنه يسمح لها أن تكون إمامة للرجال وتعتلي منابر الجمعة لتخطب بهم، فأين عقول أولئك القوم؟! تبًّا لعقولهم ولعقول من شايعهم وأيدهم وجعل لهم من الكلام المعسول ما يبرر فعلهم، قلّة فقه وقلة علم وقلة دين وقلة ورع جعلت بعض هؤلاء المفسين يؤيد تلك الفعلة.
ثم قال عليه الصلاة والسلام: ((خير صفوفِ الرجال أوّلها وشرّها آخرها، وخير صفوف النساء آخرها وشرها أوّلها))، يعني شر صفوف النساء أقرب صف إلى الرجال من الخلف، فما بالك إذا صارت المرأة أمام الصف الأول من الرجال إمَامَة، شر على شر، ومصيبة على مصيبة.
ثم إن النبي جعل صلاة المرأة في بيتها أفضل لها من الإتيان إلى المسجد، والرجل في المسجد أفضل من صلاته في بيته، هذا من الفروق، ولم توجب الشريعة الجمعة على المرأة، وهذا من الفروق، وأوجبتها على الرجل، وفي العقيقة شاتان للذكر وواحدة للأنثى، هذا من الفروق، إذًا هناك فروق فطرية خلقية جسدية نفسية، وهناك فروق شرعية، وهؤلاء يريدون خلط الأمور، ثم فرصة للتشويش على المسلمين، كأن المسلمين ينقصهم الآن جدل، كأن المسلمين ينقصهم قضايا جديدة تثور فيها النقاشات وينقل فيها الكلام، ولذلك سياسة الإشغال سياسة معتمدة عند الغرب وعند أعداء الدين، سياسة إشغال المسلمين بالجدل.
هذه قضية مسلَّمة تاريخيّا، لا يعرف لها خرق في تاريخ الإسلام منذ أن بنيت مساجد الله في هذا الدين حتى هذا اليوم لم يخرق هذا العمل، لتأتي هذه المبادرة المشؤومة، ويشغل المسلمون بقضية: ما حكم خطابة المرأة؟ إنه شيء جديد، عجبا! ما هي القضية؟ الناس يتناقلون، وكالات الأنباء، مواقع الإنترنت، الأخبار، إمامة امرأة شيء جديد، وهكذا يتسابق الناس إلى ذكره ونقله.
عباد الله، هذه مصيبة بالإضافة إلى المصائب الكثيرة التي تعاني منها الأمة، ومن أهم الواجبات الإسلامية أن ندافع عن شرع الله، من أهم الواجبات ـ يا عباد الله ـ أن نعرف ما هي أحكام هذه الشريعة حتى نتبناها وندافع عنها. نحن نعتقد جزما بأن القرآن والسنة حق من الله تعالى، وأنه وحي وصدق، ونسلم لذلك، ونوقن بأن الشريعة صالحة للتطبيق في كل زمان ومكان، وأن أحكام الخطبة في الصلاة والجمعة والإمامة الكبرى والإمامة الصغرى إمامة المسلمين عموما وإمامة الصلاة كل ذلك أحكام شرعية، إن أمانتها على عواتقنا، وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ [المائدة:49].
ثم إن الله عز وجل خلق النساء وهو أعلم بهن، أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك:14]، وخلق الرجال وهو أعلم بهم، سبحانه وتعالى، وجعل هذه الفروق في الأحكام، ما معنى منازعة الله عز وجل في أحكامه؟! لماذا الخروج عن شرع الله؟! هذه الموضة الجديدة التي يركبها المنافقون اليوم.
أيها المسلمون، إن ما يحصل في هذه القضية وفي غيرها دليل على ضعف المسلمين وكثرة الاختراقات التي تحصل، كأنه ليس لهم رهبة في صدور أعدائهم ولا لهم وزن ولا قيمة، ولذلك تكثر الاختراقات.
عندما دعَت مُليكة جدَةُ أنس رسول الله لطعام صنَعته، فأكل منه ثم قالَ: ((قوموا فأصليَ لكم))، قال أنس: فقمت إلى حصير لنا قد اسودَّ من طول ما لبِس، فنضحته بماء فقام عليه رسول الله ، وصففت أنا واليتيم وراءه والعجوز من ورائنا ـ العجوز من وراء الصبيان ـ، فصلى لنا رسول الله ركعتين. لم تقم وهي عجوز بجانب الصبيان وأنس من محارمها، فتريد المرأة اليوم أن تقوم أمام الرجال جميعا إمامة في الصلاة، تؤم الرجال إمامة.
ثم ماذا قال العلماء في هذه القضية؟ عندما علق صاحب المنتقى في شرح الموطأ للإمام مالك على حديث: ((لا يفلح قوم أسندوا أمرهم امرأة))، قال القاضي أبو الوليد: "ويكفي في ذلك عندي عمل المسلمين من عهد النبي ، لا نَعلَم أنَّه قُدِّم لذلِك في عَصرٍ مِن الأَعصَار ولا بلَدٍ مِن البِلادِ امرأَةٌ". أما الاحتجاج ببلقيس فإنها كانت ملكة كافرة، كانت على الكفر لما كانت تولّت عليهم. وأما الاحتجاج بشجرة الدرّ فإنها عصت ربها إذا كانت تولت على المسلمين، فهل نحتج بامرأة عصت؟! وصارت هناك ظروف معينة جعلتها كذلك إذا ثبتت القصة، فهل نحتج بفعل امرأة خالفت الأدلة، وكم استمر حكمها؟! وما هي سيرتها فيه؟! كلما جئت تناقش أحد هؤلاء المنافقين قال: شجرة الدر، كأنها نبية وفعلها حجة. قال القاضي أبو الوليد: "لا نَعلَمُ أنَّهُ قُدِّم لذَلكَ في عَصرٍ مِن الأَعصَارِ وَلا بلَدٍ مِن البِلادِ امْرَأَةٌ كمَا لَمْ يُقَدَّمْ لِلإِمَامَة امرأة"، القاضي أبو الوليد من المالكية يقول: لا نعلم أنه قدِّم في عصر من الأعصار ولا بلد من البلاد امرأة في الإمامة الكبرى، ثم قال: كما لم يقدم للإمامة امرأة، إذًا لا الإمامة الكبرى ولا الإمامة الصغرى، ولذلك تجد النصوص عند الفقهاء شعرا ونثرا أن من شروط الإمام أن يكون ذكرا:
شرط الإمام ذكر مكلَّف آتٍ بالأركان وحكمًا يعرف
قالوا: يشترط لإمامة الرجال أن يكون الإمام ذكرًا، فلا تصح إمامة المرأة للرجال، وهذا متفق عليه بين الفقهاء، قال الشافعي في كتابه الأم: "وإذا صلت المرأة برجال ونساء وصبيان ذكور فصلاة النساء مجزئة، وصلاة الرجال والصبيان الذكور غير مجزئة"، فاليوم الذين سيصلون في نيويورك وراء الدكتورة عليهم إعادة الصلاة، فإذا عرفتم منهم أحدا فأخبروه أن عليه بالإضافة إلى التوبة أن يعيدها ظهرا لأن الجمعة ستكون قد فاتته. قال الشافعي رحمه الله: "لأن الله عز وجل جعل الرجال قوامين على النساء وقصرهن عن أن يكن أولياء"، فلا تتولى المرأة، قال الشافعي: "ولا يجوز أن تكون امرأة إمام رجل في صلاة بحال أبدا، ولا يجوز أن تكون امرأة إمام رجل في صلاة بحال أبدا، فإن قلت: الزوجة تؤم زوجها؟ لا".
قال ابن حزم في المحلى: "ولا يجوز أن تؤم المرأة الرجل ولا الرجال، وهذا ما لا خلاف فيه، وأيضا فإن النص قد جاء بأن المرأة تقطع صلاة الرجل إذا فاتت أمامه ـ إذا مرت أمامه ـ، فكيف إذا كانت إمامه؟!"، قال: "وحكمه عليه السلام بأن تكون وراء الرجل ولا بد في الصلاة، وأن الإمام يقف أمام المأمومين لا بد أو مع المأموم في صف واحد، ومن هذه النصوص يثبت بطلان إمامة المرأة للرجل ولرجال يقينا" انتهى كلام ابن حزم رحمه الله.
قال النووي في المجموع: "واتفق أصحابنا ـ يعني الشافعية ـ على أنه لا تجوز صلاة رجل بالغ ولا صبي خلف امرأة"، قال: "سواء في منع إمامة المرأة للرجال صلاة الفرض والتراويح وسائر النوافل، هذا مذهبنا ومذهب جماهير العلماء من السلف والخلف رحمهم الله، وحكاه البيهقي عن الفقهاء السبعة فقهاء المدينة التابعين، وهو مذهب مالك وأبي حنيفة وسفيان وأحمد وداود"، يعني إذًا المسألة هذا عند السلف والخلف.
فإن قال قائل: ألا يوجد من أباح إمامة النساء في النافلة؟! فنقول: هناك قول شاذ في أن المرأة تؤم في صلاة النافلة كالتراويح، لكن الأقوال الشاذة هل يعتمد عليها؟! هل يلتفت إليها؟! هل يستند عليها؟! الأقوال الشاذة شاذة. ثم الذين قالوا ذلك شرطوا له شروطا، فاسمع شروطهم، قالوا: أن يكونوا أميين وهي قارئة، ثانيا: أن تقف خلفهم، ثالثا: أن يكون إمامهم رجل فتقتدي به وهي أثناء القراءة تقرأ فقط، هذا القول الشاذ أن تكون خلفهم تقرأ فقط وإمامهم منهم إذا كانوا لا يحسنون القراءة! فانظر في القيود والشروط في هذا القول الضعيف الشاذ، قال الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله: "لا يجوز أن تؤم المرأة الرجل، ولا تصح صلاته خلفها لأدلة كثيرة، وعلى الذي صلى خلفها أن يعيد صلاته". قال في الفواكه الدواني: "في شروط الإمامة: ثلاثة عشر، أولها الذكورة المحققة، فلا تصح إمامة المرأة ولا الخنثى المشكل"، فإذا لم تكن الذكورة كاملة وكان الإمام خنثى لا تصح الصلاة، قال: "وتبطل صلاة المأموم دون الأنثى التي صلت إماما لنفسها، وعليها وزر هذه البدعة، فإن من ابتدع بدعة في الدين فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة".
اللهم إنا نسألك الفقه في الدين والسلامة والثبات على الإسلام يا رب العالمين، اللهم إنا نسألك أن تعصمنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم، وأوسعوا لإخوانكم يوسع الله لكم.
الخطبة الثانية
الحمد لله، أشهد أن لا إله إلا هو وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا رسول الله الرحمة المهداة البشير والنذير والسراج المنير، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.(68/128)
عباد الله، إن الحجة القاطعة والحكم الأعلى هو الكتاب والسنة، وقد قال النبي : ((تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبدا: كتاب الله وسنتي))، والأمة لا يمكن أن تجتمع على ضلالة، لكن منهم من يفتتح باب ضلالة، ولا شك أن هؤلاء الذين يقولون بإمامة المرأة للرجال وخطابتها فيهم أنهم مفتتحو باب ضلالة، وَمَنْ يُشَاقِقْ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى [النساء:115]، فإذا انعقد إجماع الأمة في المشارق والمغارب عمليا على أنه لا مدخل للنساء في خطبة الجمعة ولا في إمامة الصلاة للرجال، ولم يسطَّر في كتب المسلمين في هذه القرون المتعاقبة قول يجيز للمرأة أن تخطب الجمعة بالرجال، حتى في المذاهب البدعية، فيقوم هؤلاء يخرجون علينا اليوم بالمساواة والديمقراطية وتخطب المرأة ولماذا لا تخطب؟ أقل هي من الرجل شأنا؟! هكذا يقولون. ولم يثبت أن امرأة واحدة عبر التاريخ الإسلامي قد أقدمت على هذا الفعل، أو طالبت به على مدى العصور المتعاقبة من عمر أمة الإسلام، لا في عصر النبوة ولا عصر الخلفاء الراشدين ولا عصر التابعين، ولو كان أحد أولى بذلك فعائشة أم المؤمنين. وقد كان في تاريخ الإسلام شيخات كثيرات وعالمات شرعيات، فلم تتبوأ منهن امرأة واحدة هذه القضية وهي منبر الجمعة، فكانت عالمة وفقيهة وعابدة ومشاركة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لكن لم تكن خطيبة ولا إمامة أبدا، بل إن العامية صاحبة الفطرة السليمة لما حضرت درسا لشيخ يفسر قوله تعالى: يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ [آل عمران:443] قالت: "خرجت إمامة المرأة"، العامية وهي تتعلم في الدرس لما سمعت الآية: وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ وهي مريم أفضل أهل زمانها، قالت العامية: "خرجت إمامة المرأة".
أيها المسلمون، تخيلوا إذًا أن تقوم هذه المرأة ولا بد ومن السنة أن ينظر الرجال إلى الخطب، أليس قد ثبت في السنة أن الصحابة كانوا يستديرون إلى النبي وينظرون إلى وجهه وهو يخطب؟! ووصفوه قالوا: كان إذا خطب احمر وجهه وعلا صوته كأنه منذر جيش، فإذا قامت الدكتورة أو غير الدكتورة بالخطابة والرجال سينظرون إلى الخطيب وهذه هي السنة، فما بالكم؟!
ثم يقولون: حديث أم ورقة، فما قصة حديث أم ورقة؟ إن في هذا الحديث أن النبي أمر أم ورقة أن تؤم أهل دارها. رواه أبو داود والدارقطني. فهل رأيتم في هذا الحديث أنها تؤم الرجال؟! فهي تصلي في دارها، وتؤم أهل دارها من النساء والإماء والفتيات، هذا على فرض صحته.
أيها المسلمون، إن هذه الفتن المتكاثرة التي تخرج علينا اليوم، والتي تصيح في المسلمين، وتنذر بالخطر على العقيدة وعلى الأسس، المناقشات اليوم صارت في الأسس.
يا عباد الله، بين الأمومة والإمامة فرق كبير. "خطيبة الجمعة" إنه عنوان مثير، وحيث إنها ستظهر أمام الناس كاشفة الوجه وهذا قول جمهور العلماء في نظر الخاطب، فإنني أقترح بناء على هذا أن تسمى بخطيبة فعيلة لا من باب اسم الفاعل، بل من باب اسم المفعول يعني المخطوبة، وإذا سميناها خِطِّيبة الجمعة ـ كما يقول العامة ـ فلها وجه، فهي ستنظر إلى كلّ الرجال في المسجد فلعلها تخطب أحدهم، وإذا كانت الصحابة في عهد النبي ينظرون إلى الخطيب فهي الآن ستقول إنها خطيبة فانظروا إلي، وفد يقال: إنها من القواعد من النساء ليست بمغرية، والجواب: لكل ساقطة لاقطة.
ثم إن هذا المكان أصلا لا يجوز للنساء مهما كان درجة جمالها، ولو حاضت ـ يا ترى ـ أثناء الخطبة فهل ستمكث في المسجد لإكمال الخطبة مع إتيانها بجميع الاستعدادات اللازمة، أم ستغادر فورا وتنيب أحدهم لإتمام الخطبة؟! وإذا أتاها ما يأتي النساء بين الخطبة والصلاة فهل ستوكل رجلا أم امرأة مثلها؟! وإذا حاضت أثناء الصلاة فهل ستستخلف أحدا أم ستقول: أكملوها ظهرا؟! وهل ـ يا ترى ـ سيتشجع الشباب الذين لا يصلون ليأتوا إلى المساجد عندما يعلمون بأن هناك امرأة ستخطب ويندفعون لرؤية الخطيبة؟! وإذا أراد بعضهم أن يسأل الخطيبة بعد الصلاة عن سؤال يتعلق بالخطبة أو مسألة شرعية فسيذهب إليها ويجلس أمامها ويسألها، وما الحال إذا كان الموضوع شخصيا؟! فهل إذا كان الموضوع شخصيا سيهمس في أذنها؟! وهل سيكون خلف الإمامة النساء ليسترنها عند السجود أم سيكون الرجال وراءها لتذهب بقية الأحلام والنهى؟!
لما تمنّت أخت أحدهم أن تصلي إماما بالناس في رمضان وقالت: أنا أريد هذا المنصب، ولماذا تحرموننا؟! قال: كم ستصلين من رمضان؟ الشرط أن تصلي الشهر كله، قالت: إلا أسبوع، قال: لا.
عباد الله، مهزلة والله، والله مهزلة، وعجيب أن نرجع إلى الأسس، قضايا لم يكن أحد يتخيل أن يحصل فيها النقاش لأنها محسومة وتاريخيا محسومة، منتهية، لكن الأعداء يعيدوننا دائما إلى هذه المسائل.
اللهم إنا نسألك النجاة يا رب العالمين...
ـــــــــــــــــــ(68/129)
الوصية بالنساء
...
...
2953
...
الأسرة والمجتمع
...
...
قضايا الأسرة
...
داود بن أحمد العلواني
...
...
جدة
...
...
...
الأمير منصور
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- تنظيم الإسلام للعلاقات الأسرية. 2- حقوق الزوجة على زوجها: المهر، النفقة، العدل، حسن العشرة. 3- التحذير من ظلم الزوجات. 4- أسوار تحمي العلاقة الأسرية وتحفظها.
الخطبة الأولى
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
عباد الله، لقد عني الإسلام ـ في جملة ما عني به من تشريعات ومبادئ ـ بتنظيم الحياة الزوجية وما يترتب عليها من الحقوق والواجبات بين الزوجين مما تقتضيه فطرة الرجل وفطرة المرأة بما يحقق الانسجام في الحياة الزوجية، فقال تعالى: وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِى عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة:228]، هذا التوجيه الرباني من الحق تبارك وتعالى الذي خلقنا من عدم وأبرزنا إلى حيز الوجود المشاهد وجعل لنا أزواجًا نسكن إليها، وجعلهن لباسًا لنا ونحن لباس لهن.
والحقوق والواجبات ـ أيها الناس ـ كثيرة ومتنوعة، سنوجز منها في خطبتنا هذه بعض الحقوق الواجبة للزوجة على زوجها مع الإشارة إلى الطاعة الملزمة لها المقدَّمة حتى على والديها.
وأول هذه الحقوق المهر، وهو رمز لإعزاز المرأة ورفعة شأنها ومكانتها وقدرها، وإشعار لها بأنها موضع رغبته وبره ورعايته وعطفه وشموله ومسؤوليته وحنانه وقوامته، قال الله تعالى: وَءاتُواْ النّسَاء صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً [النساء:4].
وقد أرشد الإسلام إلى عدم التغالي في المهور وإن لم يرد دليل من الشرع على تحديده بحدّ أعلى، فقال : ((خير الصداق أيسره))[1]. فإن المغالاة في المهور وتكاليف الزواج الباهظة تقف حائلاً أمام الزواج وعائقًا للزواج وسببًا في عنوسة النساء وتكدّسهن في المنازل وتعطيل لكثرة الحرث والنسل وتفويت وضياع للنساء ومخالفة لما أرشدنا إليه المشرع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
ومن الحقوق الواجبة للزوجة على زوجها النفقة، وهي حق يترتب على عقد الزواج، ويشمل كل ما تحتاج إليه الزوجة من الطعام والكسوة والسكنى، وهو أمر يختلف باختلاف حالة الزوج يسارًا وفقرًا، فقال تعالى: لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا ءاتَاهُ اللَّهُ لاَ يُكَلّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ مَا ءاتَاهَا [الطلاق:7]، ولا يمنع أن تساعده هي إذا كان لها مورد من مال أو راتب.
ومن الحقوق أيضًا العدل والمعاشرة الحسنة، فعلى الزوج أن يراعي العدل في معاملة زوجته، وأن يحسن عشرتها في أقواله وأفعاله وتصرفاته، فيغمرها بحسن خلقه وجميل أدبه وكريم رعايته لقول الله تعالى: وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ [النساء:19]، وقوله : ((خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي))[2]، فلا يحق له أن يسمعها البذيء والفحش والتقبيح والتبرم وتعمد الإساءة إليها بالكلام بما يجرح كرامتها، وأن لا يكون معها غليظًا، ولا يكسر نفسها بالحط من منزلتها وإهانة كرامتها وتحطيم معنويتها أو العبوس في وجهها أو التكدير عليها أو ضربها في غير مبرر منصوص عليه.
وإذا تزوج أكثر من واحدة فعليه العدل والتسوية بينهن فيما لهن من حقوق النفقة وحسن الكلام وطيب المعاملة ولطف العشرة، أما الميل القلبي فهذا مما لا طاقة له به ولا يؤاخذ عليه، فقد كان رسول الله يقسم بين زوجاته فيعدل ويقول: ((اللهم هذا قسمي فيما أملك، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك))[3]، يعني بذلك ميل القلب في الحبّ والمودة، فهو أمر بيد الله جل وعلا، ولا حرج فيه إن شاء الله تعالى.
فاتقوا الله عباد الله، واحفظوا حقوق النساء عليكم، وتلطفوا معهن، واذكروا دومًا وصية رسول الله بالنساء حيث قال: ((إنما النساء عندكم عوان ـ أي: أسيرات ـ أخذتموهن بأمانةِ الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، فاتقوا الله في النساء، واستوصوا بهن خيرًا))[4]، فالله الله في العض بالنواجذ على هذه الوصية.
وإياكم والحيف وعدم العدل بين النساء، فإن ذلك يؤدي إلى الندامة في الدنيا والآخرة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله قال: ((من كانت له امرأتان فلم يعدل بينهما جاء يوم القيامة وشقه ساقط))، وفي رواية: ((جاء يوم القيامة أحد شقيه مائل))[5]، اللهم إنا نسألك السلامة والعافية.
فبئس الرجل يظلم أهله ويتخلق بأخلاق الجاهلية باحتقار المرأة وظلمها، ونعم الرجل يسير على السياسة الحكيمة التي رسمها الإسلام، فبها تستقيم البيوت والأسر، ويسود الوئام والتفاهم، وتعم البركة، ويتربى الأولاد تربية صالحة، وتصلح البيت، وتتّسم بالرفق واللين والسماحة والمحبة والمودة والخير.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وَمِنْ ءايَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْواجًا لّتَسْكُنُواْ إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً [الروم:21].
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه وسيرة نبيه ، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه الحاكم في المستدرك (2/182) وقال: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي.
[2] رواه الترمذي في المناقب، باب: فضل أزواج النبي (3892)، والدارمي (ص292)، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح".
[3] رواه أبو داود في النكاح، باب: في القسم بين النساء (2134)، والترمذي في النكاح، باب: ما جاء في التسوية بين الضرائر (1140)، والنسائي في عشرة النساء (7/64)، وصححه الحاكم (2/187)، ووافقه الذهبي.
[4] جزء من حديث في وصية رسول الله في حجة الوداع, رواه الترمذي في التفسير، باب: ومن سورة التوبة (3087).
[5] رواه أبو داود في النكاح، باب: القسمة بين النساء (2132)، والترمذي في النكاح، باب: ما جاء في التسوية بين الضرائر (1141)، والنسائي في عشرة النساء (7/64)، وصححه الحاكم (2/187)، ووافقه الذهبي.
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي أتم علينا نعمه وأكمل لنا الدين، وشرع لنا من الحقوق والواجبات ما تستقيم به حياة الأسر والزوجات والبيوت والجماعات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله خير البرية وأهداها، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين، ومن سار على هديهم واتبع نهجهم إلى يوم الدين، وسلم تسليمًا.
أما بعد: عباد الله، اتقوا الله تعالى، واعلموا أن الإسلام لم يقف عند بيان الحقوق والواجبات فقط، بل يدفع بالإنسان لاستجاشة مشاعر الصدق والمحبة والودّ والإلفة في نفسه، وطلب منه أن يرد مقابلة السيئة بالحسنة مهما كان الحال والأمر، حتى يعيش البيت في جو من السعادة والطمأنينة، فقال الله تعالى: ادْفَعْ بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ [فصلت:34]، إنه لتوجيه سام رفيع عظيم وحكيم.
بل جعل الإسلام العشرة بالمعروف فريضة على الرجال حتى في حالة كراهية الزوج لزوجته ما لم تصبح العشرة متعذرة، فقال الله تعالى في كتابه العزيز الكريم: وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا [النساء:19].
وكل ذلك حتى لا تكون العلاقة الزوجية ريشة في مهبّ الرياح تتأثر بأدنى النزوات وأقل التصرفات وأصغر الكلمات، ولذلك قال معلم البشرية وهاديها عليه الصلاة والسلام: ((لا يفرك مؤمن مؤمنة، إن كره منها خلقًا رضي منها آخر))[1].
إنه لحق ورب الكعبة، وعلى الزوجة فهم ما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: ((لو أمرت أحدًا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها))، وما أعظم قول الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه لرجل أراد أن يطلّق زوجته لأنه لا يحبها، فقال له: (ويحك، وهل كل البيوت تبنى على الحب؟! فأين الرعاية؟! وأين الذمم؟!).
ألا فاتقوا الله عباد الله، واحذروا الكلام الرخيص الذي ينعق به المتحذلقون باسم الحب، واستمسكوا بعقيدتكم الإسلامية التي فيها مصالح العباد في الدنيا والآخرة ورابطة المودة والمحبة بين الزوجين الواردة في كتاب الله جل وعلا، وليحسن الرجل قيادته لمن استرعاه الله فيهم، وليتق الله في ذلك، وليعلم أنه موقوف ومسؤول أمام الله جل وعلا وبين يديه عن هذه الرعية، وعمن ولاه الله عليهم، فليحسن التربية والتوجيه والإرشاد ومعاشرة زوجته بالمعاشرة التي أمره الله بها، وفي مقدمة ذلك تعليمهم القرآن والسنة وتخصيص جزء من وقته من ليل أو نهار لذلك.
وتعليمهم أمور دينهم ومتابعتهم وحثهم ومراقبتهم حتى يستقيموا على دين الله أمر مهمّ واجب عليه ومتحتّم، ذلك براءة لذمته يوم الوقوف بين يدي الله جل وعلا كما قال الله تعالى عن ذلك اليوم العظيم: يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْء مِنْ أَخِيهِ وَأُمّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهُ وَبَنِيهِ لِكُلّ امْرِىء مّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ [عبس:34-37]، وكما قال الله تبارك وتعالى عن ذلك اليوم: وَلاَ يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ وَفَصِيلَتِهِ الَّتِى تُوِيهِ وَمَن فِى الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنجِيهِ [المعارج:10-14]، فليربِ كل واحد منا زوجته وأولاده على طاعة الله تعالى وتذكيرهم وتخويفهم بالله جل وعلا والخوف من الله والرجاء فيما عنده والله المستعان، ثم الدعاء لهم بالهداية والتوفيق والصبر على ذلك حتى يلقى الله جل وعلا، نسأل الله للجميع الهداية والتوفيق.
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله الطيبين، وارض اللهم عن خلفائه الأربعة، وعن سائر الصحابة أجمعين، وعن التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
[1] رواه مسلم في الرضاع، باب: الوصية بالنساء (1469).
ـــــــــــــــــــ(68/130)
أبغض الحلال
...
...
4283
...
الأسرة والمجتمع, فقه
...
...
الطلاق, قضايا الأسرة
...
ناصر بن محمد الأحمد
...
...
الخبر
...
3/11/1424
...
...
النور
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- آثار الطلاق. 2- أسباب الطلاق. 3- نصائح وتوجيهات لمن أدار أن يقدم على الطلاق. 4- نماذج من الصالحات. 5- حقوق الزوج والزوجة.
الخطبة الأولى
أما بعد: أيها المسلمون، حديثي معكم اليوم عن كلمة طالما أبكت العيون وروعت القلوب، وفرقت الأسر ومزقت الشمل، يا لها من كلمةٍ صغيرة ولكنها جليلةٌ عظيمة خطيرة، هل تعلمون ما هي هذه الكلمة؟ إنها كلمة الطلاق، كلمةٌ أبكت عيون الأزواج والزوجات، وروعت قلوب الأبناء والبنات. أيستغرب أحدكم لو قيل له: إن كلمة من الكلمات تكون معولاً صلبًا يُهدم به صرح أسر وبيوتات؟! أيستغرب أحدكم لو قيل له: إن كلمة من الكلمات تنقل صاحبها من سعادة وهناء إلى محنة وشقاء؟! أيستغرب أحدكم لو قيل له: إن كلمة من الكلمات تحرك أفرادًا وجماعات، وتُنشئ تزلفًا وشفاعات لرأب ما صدعت وجمع ما فرقت؟! لا غرابة في ذلك لو عُلم أن تلكم الكلمة هي: كلمة الطلاق.
إنها كلمة أبكت عيونًا وأجهشت قلوبًا وروعت أفئدة، إنها كلمة صغيرة الحجم لكنها جليلة الخطب، إنها كلمة ترتعد الفرائص بوقعها؛ لأنها تقلب الفرح ترحًا والبسمة غُصّة.
إنها كلمة الطلاق، وما أدراك ما الطلاق. كلمة الوداع والفراق، والنزاع والشقاق، والجحيم والألم الذي لا يطاق.
فللَّه كم هدمت من بيوت للمسلمين، وكم قطّعت من أواصر للأرحام والمحبين، وكم فرّقت من شملٍ للبنات والبنين.
يا لها من ساعةٍ حزينةٍ، يا لها من ساعةٍ عصيبة أليمة ولحظة أسيفة يوم سمعت المرأة طلاقها، فكفكفت دموعها، وودعت أولادها، وفارقت زوجها ووقفت على باب بيتها، لتُلقي آخر النظرات، على بيتٍ مليءٍ بالذكريات، يا لها من مصيبةٍ عظيمةٍ حين تقتلع السعادة أطنابها من رحاب ذلك البيت المسلم المبارك.
أيها المسلمون، الزواج نعمةٌ من نعم الله ومنةٌ من أجلّ منن الله، جعله الله آية شاهدةً بوحدانيته، دالةً على عظمته وألوهيته، لكنه إنما يكون نعمةً حقيقية إذا ترسّم كلا الزوجين هدي الكتاب والسنة، وسارا على طريق الشريعة والملّة، ولكن ما إن يتنكب الزوجان أو يتنكب واحدٌ منهما عن صراط الله حتى تفتح أبواب المشاكل، عندها تعظم الخلافات والنزاعات، ويدخل الزوج إلى بيته حزينًا كسيرًا، وتخرج المرأة من بيتها حزينةً أليمةً مهانةً ذليلةً، عندها يعظم الشقاق ويكبر الخلاف والنزاع، فيفرح الأعداء ويشمت الحسّاد، وبعدها يتفرّق شمل المؤمنين وتتقطّع أواصر المحبين.
أيها المسلمون، لقد كثُر الطلاق اليوم، هل تعلمون لماذا؟ كثر الطلاق اليوم حينما فقدنا زوجًا يرعى الذمم، وعندما فقدنا الأخلاق والشيم، زوجٌ ينال زوجته اليوم فيأخذها من بيت أبيها عزيزةً كريمةً ضاحكة مسرورة، ويردها بعد أيام قليلةٍ حزينةً باكية مطلقة ذليلة.
كثر الطلاق اليوم حينما استخف الأزواج بالحقوق والواجبات، وضيّعوا الأمانات والمسؤوليات، سهرٌ إلى ساعات متأخرةٍ، وضياعٌ لحقوق الزوجات والأبناء والبنات، يُضحك البعيد ويبكي القريب، يؤنس الغريب ويوحش الحبيب.
كثر الطلاق اليوم حينما كثر النمّامون، وكثر الحسّاد والواشون.
كثر الطلاق اليوم حينما فقدنا زوجًا يغفر الزلة ويستر العورة والهنة، حينما فقدنا زوجًا يخاف الله ويتقي الله ويرعى حدود الله ويحفظ العهود والأيامَ التي خلت والذكريات الجميلة التي مضت.
كثر الطلاق اليوم حينما فقدنا الصالحات القانتات الحافظات للغيب بما حفظ الله، حينما أصبحت المرأة طليقة اللسان طليقة العنان، تخرج متى شاءت، وتدخل متى أرادت، خرّاجة ولاّجة، إلى الأسواق، إلى المنتديات واللقاءات، مضيعة لحقوق الأزواج والبيت، يا لها من مصيبةٍ عظيمةٍ.
كثر الطلاق اليوم حينما تدخّل الآباء والأمهات في شؤون الأزواج والزوجات، الأب يتابع ابنه في كل صغير وكبير، وفي كل جليل وحقير، والأم تتدخل في شؤون بنتها في كل صغير وكبير، وجليل وحقير، حتى ينتهي الأمر إلى الطلاق والفراق. إن مثل هذه التدخلات في الحياة الزوجية لهي مكمن الخطر لدى كثير من الأسر، فما بال الآباء والأمهات يهجمون على البيوت فيأتونها من ظهورها، ويمزقون ستارها، ويهتكون حجابها، وينتزعون الجرائد من أكنافها والفرائد من أصدافها، ويوقعون العداوة والبغضاء بين الأزواج.
كثر الطلاق اليوم لما كثرت المسكرات والمخدرات، فذهبت العقول، وزالت الأفهام، وتدنّت الأخلاق، وأصبح الناس في جحيم وألمٍ لا يطاق.
كثر الطلاق اليوم لما كثرت النعم، وبطر الناس الفضل من الله والكرم، وأصبح الغني الثري يتزوج اليوم ويطلق في الغد القريب، ولم يعلم أن الله سائله، وأن الله محاسبه، وأن الله موقفه بين يديه في يوم لا ينفع فيه مالٌ ولا بنون ولا عشيرة ولا أقربون.
لقد كثر الطلاق اليوم لما فُقدت قوامة الرجل في بعض المجتمعات، إبان غفلةِ تقهقرٍ عن مصدر التلقي من كتاب وسنة، ورَكَنَ فئام من الناس إلى مصادر مريضة، قلبت مفاهيم العشرة، وأفسدت الحياة الزوجية، من حيث يشعرون أو لا يشعرون، وتولى كبر تلك المفاهيم الإعلام بشتى صوره، من خلال مشاهدات متكررة يقَعّدُ فيها مفاهيم خاطئة ومبادئ مقلوبة في العشرة الزوجية. والواقع أن داخل البيت المسلم يتأثر بخارجه، وتيارات الميوعة والجهالة إذا عصفت في الخارج تسللت إلى الداخل، فلم ينج من بلائها إلا من عصم الله.
الحياة الزوجية ـ أيها المسلمون ـ حياة اجتماعية، ولا بد لكل اجتماع من رئيس يرجع إليه عند الاختلاف في الرأي والرغبة، والرجل أحق بالرئاسة لأنه أعلم بالمصلحة وأقدر على التنفيذ بما أودع الله فيه من ذلك، وإن ما تتلقنه المرأة من الأجواء المحيطة بها على منازعة الرجل قوامته لمن الانحراف الصرف والضلال المبين. إن قوامة الرجل في بيته لا تعني منحه حق الاستبداد والقهر، فعقد الزوجية ليس عقد استرقاق، ولا عقد ارتفاق لجسد المرأة، إنه أزكى من ذلك وأجل، وكل من الزوجين بشر تام، له عقل يفكر به وقلب يحب به ويكره، فوجب الحق للمرأة حتى مع قوامة الرجل، قال الله تعالى: وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة:228]، كما أن قوامة الرجل لا تعني استغناءه عن زوجه، فالله عز وجل يقول: هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ [البقرة:187].
أيها المسلمون، الطلاق مصيبة عظيمةٌ.
فيا من يريد الطلاق، اصبر فإن الصبر جميل، وعواقبه حميدةٌ من الله العظيم الجليل.
يا من يريد الطلاق، إن كانت زوجتك ساءتك اليوم فقد سرّتك أيامًا، وإن كانت أحزنتك هذا العام فقد سرّتك أعوامًا.
يا من يريد الطلاق، انظر إلى عواقبه الأليمة ونهاياته العظيمة، انظر لعواقبه على الأبناء والبنات، انظر إلى عواقبه على الذرية الضعيفة، فكم بُدد شملها وتفرّق قلبها بسبب ما جناه الطلاق عليها.
يا من يريد الطلاق، صبرٌ جميلٌ، فإن كانت المرأة ساءتك فلعل الله أن يخرج منها ذريةً صالحةً تقر بها عينك، قال ابن عباس رضي الله عنهما في قول الله تعالى: فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا [النساء:19]، قال: (هو الولد الصالح). المرأة تكون عند زوجٍ تؤذيه وتسبّه وتُهينه وتؤلمه، فيصبر لوجه الله ويحتسب أجره عند الله، فما هي إلا أعوامٌ حتى يقرّ الله عينه بذريةٍ صالحةٍ، وما يدريك فلعل هذه المرأة التي تكون عليك اليوم جحيمًا لعلها أن تكون بعد أيام سلامًا ونعيمًا، وما يدريك فلعلّها تحفظك في آخر عمرك. اصبر فإن الصبر عواقبه حميدةٌ، وإن مع العسر يسرًا.
فإذا أردت الطلاق فاستخر الله وأنزل حوائجك بالله، واستشر العلماء وراجع الحكماء، والتمس أهل الفضل والصلحاء، واسألهم عمّا أنت فيه، وخذ كلمة منهم تثبتك ونصيحةً تقوّيك.
فإن كنت مريدًا للطلاق فخذ بسنة النبي ، طلّقها طلقةً واحدةً في طهر لم تجامعها فيه، لا تطلّقها وهي حائضٌ، فتلك حدود الله، وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ [الطلاق:1]. وإذا طلقتها فطلقها طلقة واحدةً لا تزيد، جاء رجل إلى ابن عباس فقال: يا ابن عباس، طلقت امرأتي مائة تطليقة، فقال : (ثلاثٌ حَرُمَت بهن عليك، وسبع وتسعون اتخذت بها كتاب الله هزوًا).
أيها المسلمون، اللجوء إلى الطلاق كاللجوء إلى بتر عضو من الجسم، فهو الحل الأخير للضرر الذي يصيب أحد الزوجين أو هما معًا، ومن حكمة الله تعالى أن جعل الطلاق ثلاث مرات، قال تعالى: الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ [البقرة:229]. سأل أبو رزين الأسدي النبي قائلاً: سمعت الله يقول: الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فأين الثالثة؟ فقال : أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ رواه أبو داود.
الطلاق يكون حرامًا إذا كان لغير سبب أو ضرورة، فالزواج نعمة، والطلاق من غير حاجة إليه فيه ضرر على الزوج والزوجة، ونبينا يقول: ((لا ضرر ولا ضرار)). ونرى اليوم مع الأسف بعض الرجال ممن لم يُقدّر إكرام الله له بجعل الطلاق بيده يتسرع في إيقاع الطلاق لأتفه الأسباب، غير ناظر إلى ما يجره ذلك من نتائج وخيمة عليه وعلى زوجه وذريته، فهو إن باع أو اشترى حلف بالطلاق، وإن أراد أن يُنزل أحدًا على رغبته طلق، أو أراد منع زوجته من شيء حلف وطلق، بل ربما مازح بعض زملائه بالطلاق، أو راهن بالطلاق، فيعود إلى بيته والمسكينة منتظرة إياه متزينة له معدة طعامه، فيُروّعها ويقول لها: احتجبي عني والحقي بأهلك فقد طلقتك.
وربما ثار فيطلق ثلاثا بلفظ واحد متكرر غير آبه لذلك ولا مهتم أنه طلق طلاقًا بدعيًا، ناسيًا أن أبغض الحلال إلى الله الطلاق، فإذا ما هدأت نفسه وتذكر صيحات أطفاله يركضون ويلعبون ببراءة في جنبات البيت وتذكر ما كان غائبا عن ذهنه حين الغضب من صفات زوجته الحميدة، إذا ما تذكر كل هذا عض أصابع الندم، وذرف دموع الحسرة والألم، وسارع يلتمس الفتاوى لإرجاعها، ويتتبع الآراء الضعيفة، مذلاً نفسه مضيعًا وقته، فلا حول ولا قوة إلا بالله.
أيها المسلمون، من أشد أنواع الطلاق الطلاق التعسفي؛ إذ هنالك حالتان يكون الطلاق فيهما تعسفًا وعدوانًا:
أولها: الطلاق حال مرض الموت، الذي يطلق زوجته طلاقًا بائنًا في مرض موته ليَحرِمها من إرثها منه، فيقترف عدوانًا لا يرضاه الله وتأباه المروءة.
والحالة الثانية من حالات طلاق التعسف: أن يطلقها لسبب غير معقول، فقد تكون فقيرة أو عجوزًا لا أمل من زواجها مرة ثانية، فبقاؤها من غير زوج ينفق عليها إضرار بها ولؤم في معاملتها، وهو آثم بلا شك فيما بينه وبين الله تعالى؛ إذ استغل زهرة شبابها، ولم يكن عندها ما يحفظ لها كرامتها.
لقد أكرم النبي امرأة عجوزًا زارته، ولما سألته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قال: ((إنها كانت تغشانا أيام خديجة، وإن حسن العهد من الإيمان)).
أيها المسلمون، إن الله عز وجل لم يخلق الزوجين بطباع واحدة، والزوجان اللذان يظنان أنهما مخلوق واحد يعيشان في أوهام؛ إذ كيف يريد منها زوجها أن تفكر برأسه؟! وكيف تريد هي منه أن يحس بقلبها؟! وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ [البقرة:228].
إن النسيم لا يهب عليلاً داخل البيت على الدوام، فقد يتعكر الجو، وقد تثور الزوابع، وإن ارتقاب الراحة الكاملة نوع وهم، ومن العقل توطين النفس على قبول بعض المضايقات، وترك التعليق المرير عليها، فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا [النساء:19]، وقال رسول الله : ((لا يفرك مؤمن مؤمنة، إن كره منها خلقًا رضي منها آخر)) رواه مسلم.
ومن يتتبّع جاهدًا كلَّ عثرةٍ يجدها ولا يسلم له الدهرَ صاحبٌ
اللهم أصلح نياتنا، اللهم أصلح أزواجنا وذرياتنا، وخذ بنواصينا إلى ما يُرضيك عنا.
بارك الله لي ولكم في الكتاب والسنة...
الخطبة الثانية
أما بعد: عباد الله، إن العلاقات الزوجية عميقة الجذور بعيدة الآماد، فرحم الله رجلاً محمود السيرة طيب السريرة، سهلاً رفيقًا لينًا رؤوفًا، رحيمًا بأهله، لا يكلف زوجته من الأمر شططا، وبارك الله في امرأة لا تطلب من زوجها غلطا، ولا تُحدِث عنده لغطا، قال رسول الله : ((إن من شر الناس عند الله منزلة يوم القيامة الرجل يفضي إلى امرأته وتفضي إليه ثم ينشر سرّها)) رواه مسلم، وقال : ((إذا صلت المرأة خمسها وأحصنت فرجها وأطاعت بعلها دخلت من أي أبواب الجنة شاءت)) رواه ابن حبان.
وبهذا كله يفهم الرجل أن أفضل ما يستصحبه في حياته ويستعين على واجباته الزوجة اللطيفة العشرة القويمة الخُلق، وهي التي تسره إذا نظر، وتطيعه إذا أمر، ولا تخالفه في نفسها ولا مالها بما يكره. إن هذه الزوجة هي دعامة البيت السعيد وركنه العتيد، فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ [النساء:34].
فيا أيها الناس، إن أحدنا لتمر عليه فترات لا يرضى فيها عن نفسه، ولكنه يتحملها، يتعلل بما يَحضُره من المعاذير، وإذا كان الأمر كذلك فليكن هذا هو الشأن بين الزوجين، يلتمس كل منهما لقرينه المعاذير، فإن المؤمن يطلب المعاذير، والمنافق يطلب الزلات، ولا بد من غض الطرف عن الهفوات حتى تستقيم العشرة.
فمن ذا الذي ما ساء قَطْ؟! ومن له الحسنى فَقَطْ؟!
ولا شيء يخفف أثقال الحياة وأوزار المتاعب عن كاهل الزوجين كمثل أحدهما للآخر، ولا شيء يعزي الإنسان عن مصابه في نفسه وغيره مثل المرأة للرجل والرجل للمرأة، فيشعر المصاب منهما بأن له نفسًا أخرى تمده بالقوة وتشاطره مصيبته.
فهذه أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها زوج النبي كانت له في المحنة قلبَه العظيم، وكانت لنفسه كقول: نعم، فكأنما لم تنطق قطّ: لا، إلا في الشهادتين، وما زالت رضي الله عنها تعطيه من معاني التأييد والتهوين، كأنما تلد له المسرات من عواطفها كما تلد الذرية من أحشائها، بمالها تواسيه، وبكلامها تسليه: (كلا والله، لا يخزيك الله أبدا؛ إنك تصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتكسب المعدوم، وتعين على نوائب الحق).
وحدث أنس بن مالك عن أمه أم سليم بنت ملحان الأنصارية رضي الله عنهما قال: مرض أخ لي من أبي طلحة، يدعى أبا عمير، فبينما أبو طلحة في المسجد مات الصبي، فهيأت أم سليم أمره، وقالت: لا تخبروا أبا طلحة بموت ابنه، فرجع من المسجد وقد تطيبت له وتصنّعت، فقال: ما فعل ابني؟ قالت: هو أسكن مما كان، وقدمت له عشاءه، فتعشى هو وأصحابه، ثم أتما ليلتهما على أتمّ وأوفق ما يكون، فلما كان آخر الليل قالت: يا أبا طلحة، ألم تر إلى آل فلان، استعاروا عارية فتمتعوا بها، فلما طُلبت إليهم شق عليهم! قال أبو طلحة: ما أنصفوا، قالت: فإن ابنك فلانا كان عارية من الله فقبضه إليه، فاسترجع وحمد الله وقال: والله، لا أدعك تغلبينني على الصبر، حتى إذا أصبح غدا على رسول الله فلما رآه قال: ((بارك الله لكما في ليلَتَكما)) متفق عليه.
الله أكبر، بمثل هذا فلتكن العشرة أيها الأزواج، بمثل هذا فلتكن الحياة الهانئة السعيدة في النفس والولد والمال.
ثم اعلموا ـ رحمكم الله ـ أن لكلا الزوجين حقًا على الآخر، فحق على الزوج أن ينفق عليها، ولا يكلفها من الأمر ما لا تطيق، وأن يسكنها في بيت يصلح لمثلها، وأن يعلّمها ويؤدّبها، ويغار عليها ويصونها، وأن لا يتخوّنها ولا يلتمس عثراتها وأن يعاشرها بالمعروف، قال رسول الله : ((استوصوا بالنساء خيرا)) متفق عليه، وسُئل : ما حقّ امرأة أحدنا عليه؟ قال: ((تطعمُها إذا طَعِمت، وتكسوها إذا اكتسيت، ولا تضرب الوجه ولا تقبح، ولا تهجر إلا في البيت)) رواه أبو داود.
ومن حق الزوج على زوجته أن تطيعه في المعروف، وأن تتابعه في مسكنه، وأن لا تصوم تطوعا إلا بإذنه، وأن لا تأذن لأحد في بيته إلا بإذنه، وأن لا تخرج بغير إذنه، وأن تشكر له نعمته عليها ولا تكفرها، وأن تدبّر منزله وتهيئ أسباب المعيشة به، وأن تحفظه في دينه وعرضه، قال رسول الله : ((أيما امرأة ماتت وزوجها عنها راض دخلت الجنة)) رواه الترمذي والحاكم، وقال : ((خير متاع الدنيا المرأة الصالحة)) رواه مسلم، وقال : ((لو كنتُ آمرا أحدًا أن يسجد لأحد لأمرت الزوجة أن تسجد لزوجها)) أخرجه الترمذي وهو صحيح.
ـــــــــــــــــــ(68/131)
أمانة الأبناء والبنات
...
...
4359
...
الأسرة والمجتمع, فقه
...
...
الأبناء, المرأة, النكاح
...
نامي بن عوض الشريف
...
...
جدة
...
20/3/1426
...
...
السيدة آمنة
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- نعمة الأولاد. 2- تربية الوالدين للأولاد. 3- رحمة النبي بالأولاد. 4- حالنا مع الأولاد. 5- صفات الأسرة المسلمة. 6- ضرورة التحري في تزويج البنات. 7- إنكار إجبار البنت على الزواج ممن لا ترغب فيه.
الخطبة الأولى
أما بعد: فإن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي نبينا محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أما بعد: أيها الإخوة المسلمون، حديثي إليكم حديث القلب إلى القلب، حديثي إليكم حديث الروح إلى الروح، حديثٌ ذو شجون، حديث تختلط فيه آلام وآمال، تختلط فيه مشاعر الحزن والأسَى من قضايا أسرية ومشكلات اجتماعية يندَى لها الجبين.
حديثي إليك أنت أيها الأب الكريم، أيها الأب الحنون، أيها الأب الرحيم، أيها الأب العطوف، لقد حباك الله تعالى بصفاتٍ عظيمة، وأكرمك الله بما أكرمك به من صحة ومال وعافية تدوم بإذن الله تعالى، رزقك الله تعالى البنين والبنات وحُرمَهم آخرون، فأكرمك الله تعالى بهم، وجعل هؤلاء أمانة في عنقك، تنشّئهم وتربّيهم تربيةً حسنة وتربيةً صالحة، وهو وحده الذي يجازيك على حسن صنيعك وحسن تربيتك.
فمنذ أن تلدَ المرأةُ طفلَها فأوّلُ ما يسمع ذكر الله تعالى، فَيُأَذَّنُ في أذنه، ويَستقبلُ حياتهُ بذكر الله تعالى، بالتوحيد لله لا شريك له.
ويبدأ الأبُ والأمُّ رعاية هذا الطفل ذكرًا كان أو أنثى، فالأمُّ تبدأُ المشوار بعد أن عانت آلامَ حملٍ ووضعٍ وإرضاعٍ وحضانة، ثم بعد ذلك ينشأ على تربية حسنة تربية تُستقى من منهل النبوة الصافي وعلى ما كان النبيّ يربي أبناءه، فهذا عبد الله بن بريدة عن أبيه قال كان رسول الله يخطب، فأقبل الحسن والحسين عليهما قميصان أحمران يَعثران ويقومان، فنزل فأخذَهما فوضعَهما بين يديه ثم قال: ((صدق الله ورسوله: إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ [التغابن:15]، رأيتُ ولديّ هذين فلم أصبر حتى نزلت فأخذتُهما))، ثم أخذ في خطبته.
وعن أبي قتادة أن رسول الله كان يصلي وهو حاملٌ أمامةَ بنت زينب بنت رسول الله ، فإذا قام حملها، وإذا سجد وضعها. هذه الرّحمة الحقّة والشفقة الصادقة، يرحم ويُشفق يعطف ويحنو .
وهذا أخٌ لأنسِ بن مالك كناه أبا عمير ويقول له : ((يا أبا عمير، ما فعل النغير؟)). وهذا الحسن بن علي رضي الله عنه يحمله النبي على عاتقه وهو يقول: ((اللهم إني أحبه فأحبه))، وعن يعلى بن مرّة أنه قال: خرجنا مع النبي ودُعِينا إلى طعام فإذا حسين يلعبُ في الطريق، فأسرع النبي أمام القوم، ثم بسط يديه فجعل الغلام يفرّ ها هنا وها هنا ويضاحكه النبي حتى أخذه فجعل إحدى يديه في ذقنه والأخرى في رأسه، ثم اعتنقه، ثم قال النبي : ((حسين مني، وأنا من حسين، أحبَّ الله من أحبَّ حسينا، الحسين سبط من الأسباط)).
ما أجملَ هذا النزول، وما أروعَ هذا التواضع، نبي عظيم ينزلُ ويداعب، يمازحُ ولا يقول إلا حقًا، فأين نحن من هديه ؟! تجد الرجل منا يكون له ولدٌ صغيرٌ أو بنتٌ صغيرةٌ فلا يمازحُهَا ولا يقبلُها، بلِ البعدُ والجفاءُ طبيعتُه، والغلظةُ والقسوةُ طريقتُه، وما علم أن نبينا وحبيبنا كان من هديه الحنانُ والعطفُ، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: أقبلت فاطمةُ تمشي كأن مشيَتَها مشية النبي ، فقال النبي : ((مرحبا بابنتي))، ثم أجلسها عن يمينه أو عن شماله. فهذا ترحيب منه لابنته وعطف منه عليها.
وربما بدرت من الصغير حركاتٌ بريئة فيُعامله والدهُ معاملةً قاسية؛ ضربٌ وشتمٌ وصُراخٌ، بل تخويفٌ وتهديدٌ ووعيدٌ. في ظنّكم كيف سينشأُ هذا الطفلُ وحياتُه معقّدةٌ محطّمة؟! ويكبر المسكينُ على ذلك وحياتُه آلامٌ وأحزانٌ. لماذا لا نحنو على أبنائنا؟! لماذا لا تتّسعُ صدورنُا لأبنائنا؟! أبعد أن نفقدهم؟! أبعد أن نخسرهم؟! أبعد أن نراهم سلكوا طريقًا سيّئًا بعيدين كلّ البعدِ عن القيمِ الفاضلة والأخلاقِ الحسنة؟! فعندئذ لا ينفع الندم.
وفي حياة الأبناء ذكورًا وإناثًا يقوم الأب بتوجيه أبنائه إلى الصلاة والحثّ عليها، وكذا بناته، قال تعالى: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا [طه:132]. وكذا دور الأمّ مع بناتها، فهي ترحمهم وتعطف عليهم، لا تحابي الصغيرة على الكبيرة، ولا تجامل أحدًا على أحدٍ، بل هم سواء في الحبّ والعطف والحنان، وكذا الأب يعدل بين أبنائه ذكورًا وإناثًا، لا يحابي، ولا يجامل، بل هم سواء، عن النعمان بن بشير قال: انطلق بي أبي يحملني إلى رسول الله فقال: يا رسول الله، أَشهد أني قد نحلتُ النعمان كذا وكذا من مالي، فقال : ((أكلَّ بنيك قد نحلتَ مثل ما نحلتَ النعمان؟)) قال: لا، قال: ((فأشهدْ على هذا غيري))، ثم قال: ((أيسرُّك أن يكونوا إليك في البرّ سواء؟)) قال: بلى، قال: ((فلا إذا))، وفي رواية أن رسول الله قال: ((ألك بنون سواه؟)) قال: نعم، قال: ((فكلّهم أعطيت مثل هذا؟)) قال: لا، قال: ((فلا أشهد على جور)).
عباد الله، الأسرة المسلمة تكون في غاية الحبّ والعطف والسموّ، وتنالُ منالها عندما يحترمُ الصغيرُ الكبير ويعطفُ الكبيرُ على الصغير، عن عبادة بن الصامت أن رسول الله قال : ((ليس من أمتي من لم يُجلّ كبيرنَا ويرحم صغيرنا)). عندما يعطف الشاب على أخته وترحم الفتاة أخاها هم إخوةٌ متحابّون متعاطفون، المحبةُ شعارهم، والعطفُ منهجهم، والشفقةُ طريقهم، أمانيُهم واحدة، إذا اشتكى أحدُهم أو مرض واحد منهم قاموا له جميعًا يواسونه يخفّفون عنه؛ علّهم يصلون به إلى غايتهِ وبغيتهِِ، يفرحون لفرحِه ويحزنون لحزنه.
أبناءٌ بارّون لآبائهم، وآباءٌ مشفِقون على أبنائهم، يعطفون عليهم، يرحمونهم، يبحثون عما يخفّف أحزانهم؛ لأنهم فلذات أكبادهم، إنهم والله أسرة عظيمة، أبُّ وأمُّ قائدان عظيمان يقودان مركبة عظيمة، يقودانها إلى بر الأمان، إنها الأسرة الصالحة، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه سمع رسول الله يقول: ((كلكم راع ومسؤول عن رعيته، فالإمام راع وهو مسؤول عن رعيته، والرجل في أهله راع وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة في بيت زوجها راعية وهي مسؤولة عن رعيتها)) إلى أن قال: ((فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته)).
أبٌ وأمٌ لا يفكران في نفسيهما، لا ينظران إلى حياتهما بقدر ما ينظران إلى حياة أبنائهم وسعادتهم، يَسعَون ويَتعَبُون ليروا أبناءهم فرحين سعداء قد مُلئت حياتُهم بهجة وسرورًا.
فمن الآباء أبٌ يحرص على بناته، فعندما يطرقُ بابَه خاطبٌ يريد ابنتَه ماذا عليه أن يفعل؟ إنه الاختبار الصعب، إنه الاختبار الأقوى، لمن؟ لمن سيكون زوجًا لابنته، لفلذةِ كبده، لمن هي قطعةٌ منه، يريبه ما يريبها، لمن هي أمانة في عنقه، لمن هي رعيّة استرعاه الله عليها.
عباد الله، إن الواجب على الأب الصالح أن يجتهد كلّ الاجتهاد في البحث والسؤال والتحرّي بكل وسيلة ممكنة، يسأل هذا، ويسأل ذاك، يسأل عن صلاحه وصلاته وأخلاقه، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((إذا أتاكم من ترضون خلقه ودينه فزوّجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض))، يسأل عن أخلاقه، يسأل عن عقيدته، لا سيما الآفاقيون الذين لا تربطهم به علاقة.
أيّها الأب الكريم يا رعاك الله، إن التي تدفعُها إليه ما هي إلا ابنتك فلذةُ كبدك، ربيتها صغيرةً وكبيرةً، وأحسنت تربيتَها، وأصلحت تنشئتها، وقد عرفتْ لك أبوّتَك وحقَك، وحفظت لك عرضك، فاعرف لها حقّها، واحفظ لها كرامتها وبرّها.
ومن الآباء من يقتصر على مجرّدُ سؤالٍ عابر، وكأن ابنته حِملٌ يريد أن يُلقيَه عن ظهره، يريد الخلاص منها بشكل أو آخر، يريد أن لا يُبقيَها أمامه. آهٍ من قلوب تحجّرت، ما أقساه من قلب أبٍ لا يعرفُ للبنوّة حقها، ولا للرحمة طريقها، أين تذهبُ من الله تعالى عندما تقفُ بين يديه ويسألك عن هذه المسكينة الضعيفة؟! ماذا ستجيب؟!
أيها الأب الحبيب، حذار أن تضيّع ما استرعاك الله من رعية، وأن تخون ما ائتمنك الله عليه من أمانة، حذار أن يقال لك يوم القيامة: تأخر، ويقال لابنتك: تقدمي واقتصي.
أيها الإخوة الكرام، نسأل الله تعالى أن يمنّ على بناتنا بالصالحين الطاهرين الذين يقدّرون سعادة بناتنا ويكرمونهن، وأن يرزق أبناءنا الصالحات العفيفات الذين يحفظونهم في الغيب والشهادة.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آل بيته الطيبين والطاهرين، وعلى الصحابة والتابعين، ومن سار على نهجهم واقتفى أثرهم إلى يوم الدين.
أما بعد: أيها المسلمون، يرد إلينا من المشكلات الاجتماعية والقضايا الأسرية الشيء الكثير، فهذا أبٌ يجبر ابنته ويكرهها على الزواج من ابن أخيه أو قريبه وهي ترفض وترفض ولكن لا حياة لمن تنادي، فتُغمضُ المسكينة عينيها وتقول: يريد أبي لي الخير والسعادة، وما دَرتِ المسكينة أنه يريد أن يُمضيَ أعرافًا وتقاليد بالية قد عفا عليها الزمن من سقمها وبعدها عن منهج ربها، فعاداتٌ ما أنزل الله بها من سلطان، تُجبرُ وتكرِه على الزواج، ولسان حاله يقول: ماذا أقول لهم؟! ماذا أردُ عليهم؟! لقد أعطيتُهم كلمة، هذا إن شاورها وإلا تكون الموافقة من عنده حالاً. أعرافٌ سيَّرتهُ إلى هذا الطريق المظلم، وكأن المسكينة دميةٌ لا أحاسيس لها ولا مشاعر، فالمهم أن يُمضي كلامَه وأن تتزوج ابنته بما وعد به، ولا ينظرُ إلى النتيجة أتدوم الحياةُ أم لا؟ أتسعد البنتُ أم لا؟ أتهنأُ المرأة أم لا؟ المهم ما وعدتُ به ينفَّذ، أين القلوب الرحيمة؟! أين القلوب العطوفة؟! أين القلوب الشفيقة؟! أين الآباءُ الصالحون الذين يَحرِصون على سعادة بناتهم؟! أين الأولياء الذين يسعون لغرس الفرحة والسعادة والبهجة والسرور في نفوس بناتهم؟!
وهذا أخٌ يُكرهُ أختَهُ بعد موتِ أبيهم، يجبرها أن تتزوج من صاحبه وصديقه، ولربما كان هذا الزوج تاركًا للصلاةِ أو صاحبَ عقيدة فاسدة أو مذهب منحرف، فتلك عنده أمور لا يُسأَل عنها ولكن لا بد أن يتمّ الزواج، ثبت عنه أنه قال: ((العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر)). وماذا بعد ذلك؟ تذهب المسكينة إلى بيت زوجها وهي أسيرةٌ كارهةٌ مجبرة لا حول لها ولا قوة، فالأصوات تنتهِرها، والأعين ترتقبها لإبداء الموافقة، ويبدأُ مسلسلُ الحياةِ القاسية، لماذا؟ لأنه لا يخافُ الله تعالى ولا يُحسنُ عشرتَها.
أيها الإخوة الكرام، يرد إلينا مَن هذه حالها، فالضرب والشتم والإهانة حياتُها، وأخذُ مالها إن كانت عامِلة وبشكل فظيعٍ مقزّز تقشعرُ منه القلوب، ما الذي أوصلها إلى هذه الحالة؟! من الذي زفّها إلى زوجها؟! إنه أنت أيها الولي، أين الغيرة على بناتنا؟! أين الحرقة على أخواتنا؟! أريق ماءُ وجهنا، أين القلوب العالية؟! أين القلوب السامية؟! يا ويلنا ماذا أصابنا؟! تذكَّر ـ يا رعاك الله ـ قول المصطفى : ((ما من رجل يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيّته إلا حرم الله عليه الجنة)).
أخي الحبيب يا رعاك الله، ألا يحركُ هذا الحديثُ قلوبَنا؟! ألا يهزُ مشاعرنا؟! ألا تستيقظُ أحاسيسُنَا؟! أين الرحمة من قلوبنا تجاه فلذات أكبادنا؟! ثبت عنه أنه قال: ((الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء))، وعن جرير عن النبي قال: ((لا يرحم الله من لا يرحم الناس))، وعن أبي سعيد عن النبي قال: ((من لا يَرحم لا يُرحم)).
فالغش ـ أخي الحبيب ـ يكون في عدم التحري وعدم السؤال وعدم التدقيق والتفتيش، ما ضرّنا لو أننا بحثنا لبناتنا الصالحين الطاهرين ليكونوا أزواجًا لبناتِنا، قال البخاري في صحيحه: "بابُ: عرض الإنسان ابنته أو أخته على أهل الخير"، ثم قال: إن عمر بن الخطاب حين تأيَّمت حفصة بنت عمر من خنيس بن حذافة السهمي وكان من أصحاب رسول الله فتوفي بالمدينة فقال عمر بن الخطاب: أتيت عثمانَ بن عفان فعرضت عليه حفصة فقال: سأنظر في أمري، فلبثت ليالي ثم لقيني فقال: قد بدا لي أن لا أتزوج يومي هذا، قال عمر: فلقيت أبا بكر الصديق فقلت: إن شئتَ زوجتُك حفصة بنت عمر، فصمت أبو بكر فلم يرجع إليّ شيئا، فلبثتُ ليالي ثم خطبها رسول الله فأنكحتها إياه، فلقيني أبو بكر فقال: لعلك وجدت عليّ حين عرضتَ عليّ حفصة فلم أرجع إليك شيئا؟ قال عمر: قلت: نعم، قال أبو بكر: فإنه لم يمنعني أن أرجع إليك فيما عرضتَ علي إلا أني كنت علمتُ أن رسول الله قد ذكَرها فلم أكن لأفشيَ سرَّ رسول الله ، ولو تركها رسول الله قبِلتها.
أيها الإخوة الكرام، وسيكون لنا خطبة قادمة بإذن الله تعالى حول المشاكل الأسريّة والخلافات الزوجية وما يترتب عليها من طلاق، وما هو موقف الزوجين والأبوين والأبناء منه، وهل كلّ طلاق يعدّ عذابًا أم قد يكون رحمة، وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلاً مِنْ سَعَتِهِ [النساء:130].
عباد الله، صلّوا وسلّموا على الهادي الأمين، فقد أمركم بذلك حيث قال في كتابه الكريم: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد.
اللهم ارض عن الصحابة أجمعين، وعن الخلفاء الراشدين الأئمة المهديين: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر أصحاب نبيك أجمعين، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذلّ الشرك والمشركين، ودمر أعداءك أعداء الدين...
ـــــــــــــــــــ(68/132)
تغيير الواقع
...
...
4349
...
الأسرة والمجتمع, العلم والدعوة والجهاد
...
...
التربية والتزكية, المسلمون في العالم, قضايا المجتمع
...
ناصر بن محمد الأحمد
...
...
الخبر
...
10/8/1414
...
...
النور
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- البشر هم الذين يرسمون الخطوط العامة لمعالم التاريخ. 2- متى حصل التغيّر في هذه الأمة؟ 3- التغيير السليم والتغيير الفاسد. 4- بعض معالم التغيير الصحيح.
الخطبة الأولى
أما بعد: إن البشر هم الذين يرسمون الخطوط العامة لمعالم التاريخ، وإن البشر هم الذين يغيرون وجه التاريخ بحسب المنهج الذي معهم وبحسب التصورات التي يحملونها، فإن كان في تصوراتهم غبش وفي منهجهم انحراف يكون التغيير الذي يحدثونه تغييرًا سيئًا مخالفا لما أراد الله عز وجل، وبالعكس إذا كان ما يحملون من تصورات موافقا لمنهج أهل السنة والجماعة فأبشر بمجتمع طالما اشتاقت لها النفوس المؤمنة.
أيها المسلمون، إن الواحد منا وهو يقلب النظر في حالة هذه الأمة وما بُليت به لتهفو نفسه وتتطلع إلى رؤية ذلك المجتمع الأول الذي كان بالفعل يمثل القمة الشامخة في تاريخ الإنسانية. ذلك المجتمع الذي عاش بين ظهرانيه رسول الله ، القدوة الأولى لهذه الأمة، ثم بدأت نقطة التحول الأولى من اللحظة التي اختار فيه النبي الكريم ـ صلوات ربي وسلامه عليه ـ لقاء ربه على هذه الدنيا الفانية، يوم عبّر عن ذلك الصحابي الجليل أنس بن مالك رضي الله عنه بقوله: (وإنا لفي الدفن حتى أنكرنا قلوبنا).
ولكن هذا التحول لم يكن ليستمر مع وجود النخبة المصطفاة الذين رباهم النبي على عينيه، فكانت الخلافة الراشدة، الزمام الذي حفظ الله به لهذه الأمة استقامتها على ذلك المنهج القرآني الفريد.
وفي أواخر عهد الخلفاء الراشدين حصل شيء من التغيير، حيث أصيبت وحدة العقيدة بصدع عظيم من جراء ظهور البدع، فظهرت الخوارج والمرجئة والقدرية والرافضة، فكادت هذه الفرق أن تشتت وحدة الأمة لولا أن الله جل وتعالى قيض لهؤلاء المبتدعة من يصد شرهم ويفند أباطيلهم، ويظهر راية السنة منشورة شامخة.
وبعد انقضاء القرون الثلاثة التي شهد لها النبي بالفضل دخلت الأمة مرحلة أخرى من التغيير، دخلت في مرحلة أقل في الفضل بكثير من سابقتها، غير أنه لم يزل الخير غالبًا فيها، إذ يسر الله لها من الخلفاء العظام من اجتهد أن يعيدها سيرتها الأولى، حتى بلغت مرحلة من السيادة كانت فيها حديث العالم أجمع، حيث كان في الخلفاء قوة وتمسك بالحق وعناية بالجهاد واهتمام بالعلم ومناصرة السنة وقمع البدعة، فاستغلّوا خيرات البلاد وثرواتها في الفتوح والدعوة إلى سبيل الله، حتى اتسعت رقعة العالم الإسلامي، فوصلت الفتوحات في عهد الخلافة العثمانية إلى إيطاليا والمجر وألبانيا، فهزت جيوش المسلمين عروش ملوك أوربا، وفتحت القسطنطينية، واستولت على كثير من جزر البحر الأبيض المتوسط، وسيطرت على الملاحة البحرية فيها، ولم يبق من هذا المجد إلا الذكرى الذي عبر عنه الشاعر وهو يقول:
يا من ينوح فؤادي خلف موكبه ومن ترفرف روحي حول مغناه
ماذا تركت بقلبي بعدما نسجت كف الخريف له حرّى بلاياه
هلا ذكرت زمانًا ظل يسعدنا نقضى حياة المنى فِي ظل دنياه
تسعى إلينا الأماني في ظلاله وتستخف بنا أحلام دنياه
ما زلت أذكره في كل آونة رغم الصدود وأنت اليوم تنساه
ثم كان ما كان، يوم سقطت الخلافة، أو قل: أُسقطت الخلافة، وانتفشت العلمانية، وحورب الدين، وتمزق العالم الإسلامي إلى دويلات، كل حزب بما لديهم فرحون، ثم سادت النظريات الإلحادية، ووزعت ثروات الأمة وخيراتها على غير أبنائها، وحصل للأمة ما يعلم كل أحد من خلال دراسة التاريخ، نكبات، دويلات وخيانات، حتى أصبح الضعف والتخلف سمة من السمات المميزة للأمة في الوقت الحاضر، وصار يطلق غيرها عليها: الدول النامية والعالم الثالث، وغيرها من الألقاب التي يجب أن تؤثر فيها ولا ترضى بها وتسعى جاهدة في تغييرها.
أيها المسلمون، بعد هذه المقدمة القصيرة نصل إلى قناعة، إلى أن الواقع يحتاج إلى تغيير، وأن هذا التغيير لا يقوم إلا بجهد، وهذا الجهد لا يكون إلا بالبشر أنفسهم، ومن قلب هذه الأمة لا من خارجها، فهم الذين يباشرون التغيير وذلك بعد مشيئة الله عز وجل، إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ [الرعد:11].
إن كل مجتمع لا بد له من قيادة، وكل جيل لا بد له من موجهين ومنظرين، هناك فئة هم أصحاب التأثير في كل وسط، وعليك أن تتخيل ـ أخي المسلم ـ حالة مجتمع أصحاب التأثير فيه والموجهون فيه والرموز التي ينظر إليها الناس ويعجبون بهم هم الرياضيون ولاعبو الكرة، هل يمكن لهذا الوسط أو لهذا المجتمع أن يقدم خيرًا لأمته، أو أن يغير واقعًا، أو أن يدفع ظلمًا لحق ببعض أبنائه في أرض البلقان أو أرض الأفعان أو أرض الصومال أو غيرها من أراضي الله الواسعة؟! أو عليك أن تتخيل مجتمعًا أو وسطا أصحاب التأثير فيه هم زمرة من الشهوانيين، لا يفكرون إلا في الكأس والمرأة سافرة متبرجة، إما خلف مقود سيارة أو على مدرجات الملاعب أو خلف طاولات العمل، تستقبل الناس في فندق أو مستشفى أو غيرها من الأماكن، كيف يكون حال هذا المجتمع؟! وإلى أي مستوى من التغيير يمكن أن يصل؟! هل تتصور أن هذا الوسط الذي هذه قيادته وهؤلاء أصحاب النفوذ فيه أن يقدّم خيرًا لأمته، أو أن يغير واقعًا، أو أن يساهم في إقامة مصنع، أو تنشيط تجارة على الأقل، فضلاً عن التفكير في أصعب الأمور والعمل لأجلها لرفع مستوى البلد ثقافيًا واقتصاديًا وأخلاقيًا؟!
لا شك أن القيادة والتوجيه ومن بيده اتخاذ القرار لو كان من هذه الفئة وهي فئة الشهوانيين أيًا كان اتجاه هذه الشهوة فإنك سترى المنكر علنًا في ذلك الوسط، وسترى التميّع والتخنث في الشوارع والأسواق والشواطئ، وسترى قلة الحياء، ولا يُستغرب إذا رأيت بعد فترة كتل اللحم أمام ناظريك، لحم الأرجل والسيقان والظهور، وسيصل إلى الصدور والنحور إذا لم يتغمد الله عز وجل ذلك المجتمع برحمته.
وستسمع وسترى عبر وسائل الإعلام في ذلك المجتمع الطرب واللهو والغناء الفاحش، وكل ما يزيد من سعار الشهوة ويلهب من وهجها؛ لأن الذي يعدّ البرامج والذي يفكر ويخطّط لهذه الوسائل رجل الشهوة، فكيف بعد كل هذا يتربى الناس؟! وعلى ماذا يكبرون؟! وما الثقافة التي ستصل إلى أدمغتهم؟! إنك قليلاً ما تشاهد أو تسمع في مجتمع الشهوة برنامجًا جادًا أو حلقة علمية نافعة، حتى بعض الفقرات النافعة أو الجادة في تلك البرامج لا بد من إقحام العنصر النسوي فيها، فالسؤال الآن: هل يمكن لمجتمعٍ أصحابُ القرار فيه هم رجال الشهوة أن يقدم هؤلاء خيرًا للأمة؟!
أوْ عليك أن تتخيّل مجتمعًا أو وسطًا ما أصحاب النفوذ وأصحاب التأثير فيه ومفكروها أناس أبغض ما لديهم الدين، وأكثر ما يزعجهم أحكام الشريعة، يحاولون جادين في إبعاد الدين عن واقع الحياة، ويحاولون إقناع الناس بأن الدين عبارة عن علاقة بين الإنسان وربه، أما الأمور الأخرى، أما العلاقات والقضايا الاجتماعية والحياة الأسرية، فضلاً عن الوظيفة والتجارة، فهذه لا بأس أن تأخذ من أية فكرة أو أي تصور يراه المجتمع صالحًا ونافعًا. كيف يكون حال هذا الوسط؟! وإلى أي درجة سيصل هذا المجتمع؟!
سوف ينتشر بين الناس التفكير المادي والنظرة المادية؛ لأن العناصر القيادية في ذلك المجتمع سيسخِّر إعلامه لإقناع الناس بهذا النمط من التفكير، ولا شك أن الناس سوف تتأثر تدريجيًا، فتقسو القلوب؛ لأنها لا تسمع وعظًا ولا تذكيرًا، بل حتى المُسلَّمات الغيبية عن الناس يأتي من يشكّك فيها، فلا يُستغرب في ذلك المجتمع التي هذه قيادته أن تقرأ في بعض صحفها السيارة أو مجلاتها الأنيقة من يكتب مقالاً حول قضية شرعية عقدية لا نقاش فيها ولا جدال، وغالبًا المقالات الأولى من هذا النوع تكون مقالات عامة وملتوية وبعيدة عن الوضوح، وتكون عبارة عن جسّ نبض الفئة الصالحة في ذلك الوسط، وعبارة عن تجربة لمدى تقبّل الناس في ذلك المجتمع لمثل هذه الكتابات أو هذا الكلام، لو كانت مقابلة شخصية مع أحد رموز هذا التيار.
فإذا لم يظهر رد على هذا المقال ولم تحصل بلبلة فهذا مؤشر إلى تهيؤ المجتمع لمثل هذه الكتابات أو لبثّ هذه الأفكار، فيأتي المقال الثاني لكن بجرعة أكبر، ويزاد فيها نسبة السم، هكذا فالسؤال الآن: هل لهذا الوسط الذي أصحاب التفكير فيه بهذا الاتجاه أن يشارك في تقديم نفع لأمته؟! هل لمجتمعٍ أصحابُ التأثير فيه مُتفلِّتون من تكاليف الدين أن يشارك في آلام الأمة، أو أن يقدم يدَ المساعدة والعون ليتيمٍ أو أرملة في بقاع الله الواسعة لمجرد أنه يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله؟! هل يتأثر؟! بالتأكيد أنه لا يتأثر؛ لأنه لو بيده لسحق كلّ من يتلفظ بهذه الكلمة، لكن أنَّى لمثل هؤلاء المرتَزقة أن يحقّقوا مآربهم، والله جل وتعالى سيفضحهم، ويخيب آمالهم، وسيعلو دين الله عز وجل، رضي من رضي، وسخط من سخط.
أيها المسلمون، نريد أن نصل بعد هذا كله إلى أن المجتمع الذي يظهر فيه شيء مما ذكر فإن واقع ذلك المجتمع يحتاج إلى تغيير، وليعلم بأن التغيير مرتبط بمقدار الجهد المبذول، فإذا تحرك أصحاب التصور السليم كان التغيير سليمًا، وإذا تحرك بعض أصحاب المبادئ التي ذكرت قبل قليل كان التغيير لصالحهم، كما قال تعالى: كُلاً نُمِدُّ هَؤُلاء وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا [الإسراء:20].
فنسأل الله عز وجل أن يهيئَ لهذه الأمة من يأخذ بيدها إلى برّ الأمان، وأن يعجّل فرَجَها، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
الخطبة الثانية
أما بعد: أيها المسلمون، قال الله تعالى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [هود:15، 16].
أخي المسلم، بعدما سمعت الخطبة الأولى أظنّك أدركت ضرورة التغيير وواجب الإصلاح وتقديم كل ما بإمكانك أن تقدمه لدينك وأمتك.
أيها الأحبة في الله، إنني أخاطب بهذه الكلمات كل مسلم في هذه الأمة، وكلّ منا بمقدوره أن يقدم الكثير تجاه هذا الواقع المرّ، وها أنا أرسم لك بعض معالم هذه الخطوات:
فأولاً: لو أتيحَت لك فرصة في مركز قياديّ فلا تتردد، وظيفة أو عمل أو تكليف أو غيره، اعلم جيدًا أنك لو فوّتَّ الفرصة وتخلّيت عن الدور فسيحلّ مكانك إما رجل شهواني أو مغرور أو صاحب أفكار منحرفة، فوجودك أنت في هذا المنصب أولى وأفضل، وبإمكانك من خلاله أن تخدم الأمة وتنفع الناس وتقدم الأفضل.
بعض الناس لو عرضت عليه بعض الأدوار تنحّى جانبًا بحجة التواضع أو ازدراء النفس أو الزهد في الدنيا. يا أخي، هذا ليس مجال تواضع أو زهد، بل هو مجال تنافس وتصارع بين قوى الخير والشر، والأمر لا يهمك أنت شخصيًا، بل يهم الإسلام، بهذا المنظار يجب عليك أن تنظر للأمور.
ثم عليك ـ ثانيًا ـ بالاعتناء بالعلم الشرعي، لا نريد ممن يسعى للتغيير ويطمح لإصلاح الأوضاع أن تكون قراءته قراءَة ثقافة في أوقات الفراغ، هذا لا يصلح، وليس هذا صفات عناصر التغيير في المجتمع، بل نطالب هؤلاء الشباب بثني الركب في حلق العلم، وطلب العلم من مظانه، والصبر على المطولات، والاطلاع بعمق، وغربلة كتب السلف، وتكوين قاعدة صلبة وفق منهج أهل السنة والجماعة، وتأصيل القضايا الشرعية.
ثالثًا: علينا استغلال الملكات والقدرات، ومن المؤسف جدًا أننا نملك الكثير من القدرات والطاقات، والتي لا تقوم إلا بأقل القليل مما يفترض أن تقوم به وبإمكانها أن تقوم به.
إننا نملك الوقت ونملك الفراغ والصحة والشباب والأمن والخيرات، كل هذه القدرات لا بد أن تستغل استغلالاً طيبًا موفقًا من أجل التغيير والإصلاح، ((اغتنم خمسًا قبل خمس: حياتك قبل موتك، وصحتك قبل سقمك، وفراغك قبل شغلك، وشبابك قبل هرمك، وغناك قبل فقرك)).
وبمناسبة استغلال القدرات، يذكَر أن اليابان كانت قبل قرن من الزمان تعيش في عزلة وتخلف، ثم أصبحت في مصاف الدول الصناعية الكبرى، وفي عداد الدول المتقدمة، مع أنها لا دِينَ لها، فكيف حصل ذلك؟! حصل بنوع من الجد الصارم والعزيمة القوية في استخدام الطاقات واستغلال الجهود واستهلاك الوقت في البناء والإصلاح، فإذا كانت هذه الأمة الضالة قد استطاعت أن تفيق من ذلك السبات العميق، فكيف بأمة القرآن ذات المنهج والسيادة والتاريخ؟!
رابعًا: على الموجّهين والذين يهمّهم التغيير تربية الشباب على الجدية والشجاعة والبناء واستغلال الوقت واستثماره في الصلاح وغرس هذه القضية لديهم.
خامسًا: على كل عناصر التغيير بجميع مستوياتها أن تجعل هذا من أساس منهجها في التغيير، وهو أن تغيير النفوس وإصلاح القلوب أولاً وتوجيه الأعمال وتنظيف الأفكار وتطهير الأدران كل ذلك لا يحصل بضغط زر من الأزرار، وإنما الأمر يحتاج إلى مجاهدة ومجالدة وكبد، قال الله تعالى: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [العنكبوت:69]، فالهداية والاستقامة لا تأتي فلتة عارضة من السماء، بل هي متعلقة بالمجاهدة، وأعظم الناس هداية أكثرهم مجاهدة لنفسه، وحتى المهتدين وحتى الأخيار والصالحين والأبرار في حاجة لما هو أفضل وأزكى، وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ [محمد:17].
اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم.
ـــــــــــــــــــ(68/133)
رسالة إلى مسؤول
...
...
4339
...
الأسرة والمجتمع, العلم والدعوة والجهاد
...
...
الأبناء, التربية والتزكية
...
عبد العزيز بن محمد القنام
...
...
وادي الدواسر
...
9/1/1426
...
...
جامع النويعمة القديم
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- أهمية الاهتمام بالأولاد. 2- أسباب انحراف الأبناء. 3- عظم مسؤولية الأبوين في تربية أولادهم.
الخطبة الأولى
أما بعد: عباد الله، أوصيكم ونفسي بتقوى الله، فهي وصية الله للأولين والآخرين: وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنْ اتَّقُوا اللَّهَ [النساء:131]، وذلك بامتثال أمره واجتنابه نهيه.
فيا أيُّها الإخوة في الله، من على هذا المنبر أوجه رسالة إلى مسؤول، نعم مسؤول، ومن هو هذا المسؤول؟ أتدري من هو هذا المسؤول؟ إنه أنت يا أخي، أنت المسؤول، المسؤول الأول عن بيتك وعن أبنائك وبناتك أمام الله سبحانه وتعالى، كما قال النبي : ((كلكم راعٍ ومسؤولٌ عن رعيته... والرجل راعٍ وهو مسؤولٌ عن رعيته)). نعم كلكم راع ومسؤول عن رعيته، فمن هذا المنبر أوجه لك هذه الرسالة الخاصة بتربية فئة غالية عليك جدا لا تقاس بثمن، هم فلذات الأكباد وثمرات الفؤاد، ألا وهم الأولاد.
أيها الإخوة المؤمنون، إن أولادَنا ثمراتُ قلوبنا وفلذاتُ أكبادنا وهديةُ الله إلينا وزينةُ حياتنا والأثرُ الصالح الذي نُذكَر به إذا كانوا صالحين، وهم من كسبنا، ودعاؤهم من العمل الذي لا ينقطع بموتنا، قال رسول الله : ((إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة: إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو لهُ)) رواه مسلم والبخاري في الأدب المفرد وأبو داود والترمذي والنسائي.
فهذا رجلٌ يملك بستانًا فيه رياحينُ وأزهارُ، إذا تعاهدها صاحبها بالسقايةِ والرعايةِ ماذا سيحدث؟ ستنمُو وتينعُ كلَّ حينٍ بإذنِ الله، ولكن لو جعلها نسيًا منسيا وتركها وشأنهَا، فلم يُحطها بنُصحِه ورعايتهِ، فإنَّ الجميعَ ستتفق آراؤهم على أنَّ مآلَ هذا الرياحيِنُ والأزهارِ إلى الخسارة والبوار. وهكذا ـ أحبتي الكرام ـ هذه الرياحينُ هم أبناؤنا. روى النسائي في سننه عن الحسن عن بعض أصحاب رسول الله قال: يعني أنس بن مالك: دخلنا على رسول الله والحسن والحسين ينقلبان على بطنه، قال ويقول: ((ريحانتي من هذه الأمة)). وفلذاتُ أكبادِنا ومهجُ نفوسِنا وحباتُ قلوبنِا، هذه الرياحينُ إذا أحطتَها بنُصحك ورعايتك نلت ما ترجوهُ ـ بإذن الله تعالى ـ من برِّها وإحسانها في حياتك وبعد مماتك، وإن أهملتها وضيعتها فقد حاقَ بك الفساد، وما ربك بظلامٍ للعباد.
أيُّها الأبُ، لثقتي بحرصك الشديدِ على صلاحِ أبنائك واستقامِتهم وبرهم وإحسانهم، ولمعرفتي بخوفكَ العظيمِ من انحرافهم وضلالهم، فإنِّي أضعُ بين يديكَ بعضَ العواصفِ التي تعتري هذه الرياحين، والتي تُؤدي بطبعها إلى الميلانِ بها ذات اليمنِ وذات الشمال، وأحيانًا تجتثها من جُذورها، أضعُها بين يديك تنبيهًا وتحذيرًا، وإرشادًا وتذكيرا. وهذه العواصفُ التي هي بمثابةِ الأسباب التي تعتري أبناءَنا وتصدُهم عن الصراط السوي كثيرةٌ يصعبُ في هذه العُجالة حصرُها وتفصيلُ أجزائها، ولكن حسبي الإشارةُ، والإشارة تُغني عن العبارة، وهي ذكرى، والذكرى تنفع المؤمنين.
وأنا أذكرُ لك هذه الأسباب؛ لأنَّ معرفتها جزءٌ من العلاج، ولذلك كان حذيفةُ يسألُ رسولَ الله عن الشرِّ مخافة الوقوع فيه. وإذا عرفت الأسباب وتلك العواصفُ التي تُؤثر على سلوكِ ابنك فالواجبُ البعدُ عنها وعدمُ مواقعتِها حتى تسلم وتغنم بإذن الله تعالى، وتبرأ الذمةُ والتبعةُ عندما تقفُ بين يدي الواحدِ القهار، فيسألُك عن هؤلاءِ الرياحين: هل أحسنت رعايتَهم؟ وهل أديت الأمانةَ في توجيههم؟
ولعلمي بضخامةِ المسؤوليةِ وثقل التبعةِ كانت هذه الكلمات وهذهِ الإشارات، والتي أسألُ الله تعالى أن تكون نافعةً جامعة، كما أسألهُ سُبحانهُ أن يعينك على حُسن تربيتهم، وأن يُقرَّ عينَك بصلاحهم، والمرءُ إذا اجتهد في فعلِ الأسباب فالتوفيقُ بيد الملك الوهاب، وصلاحُ القلوبِ بيدِ علامِّ الغيوب.
أيُّها الآباءُ الكرام، أولُ هذه الأسباب: إهمالُهم في الذهابِ بهم والعودِة من مدارسهم، كلُّ ذلك رغبةً في النومِ والراحة والدعِةِ والسكون، أو الثقةِ الزائدة، فيرسلُ الأبُ ابنَهُ إمَّا مع زملائهِ الذين لا يعرفهم ولا يعرفُ أخلاقَهم، أو ثقةً بولدِ الجار أو مع السائق، فيكتسبُ الابنُ من جراءِ ذلك أخلاقَ هؤلاء، كما قال النبي : ((المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يُخالل))، وكما قيل: الصاحبُ ساحب. فيتعلمُ الابنُ عادةَ التدخيِن أو سماعَ الغناء أو غيرها من العاداتِ المحرمة، كالألفاظِ البذيئة والأفعالِ القبيحة من جراءِ ذلك.
هذا أحدُ الأبناءِ لم يحفظ درسَ القرآنِ في حلقةِ تحفيظِ القرآن الكريم، فأرسلهُ المعلمُ لإدارة التحفيظ، وبعد أن دارَ الحديثُ معه ـ وهو في الصفِّ الخامس الابتدائي ـ تبين أنَّهُ يحفظُ أغنيةً لأحد المغنين، فسألتهُ: كيف استطعت أن تحفظَ كلَّ هذه الأبياتِ ولم تستطع أن تحفظَ الجُزءَ المقررَ عليك؟! فأجابَ: كنتُ أحضرُ مع سائقِِ جارنا، وكان يُسمعنا هذه الأغنيةَ كلَّما ركبنا معهُ. أبياتٌ كلٌها سخفٌ وهُراء، حفظها الابنُ من جراءِ ذهابِهِ للمدرسةِ ورجوعِه منها مع السائق، فهل يتنبهُ الآباءُ لذلك؟!
وفي تحقيقٍ أُجري في إحدى الصُحفِ المحليةِ عن التدخين تمت مقابلاتٌ مع عددٍ من المدخنين والمدخنات، سُئلت إحداهنَّ: كيف تعلمتِ عادةَ التدخين؟ فأجابت: اعتدتُ التدخين من السائق أولاً أثناءَ خروجي للمدرسةِ ووقتَ العودة، وكنتُ أغريهِ بالمالِ لئلاَّ يُخبرَ أهلي، واستمررتُ على هذا الحال حتى أدمنتُ التدخين، ولم أستطع أن أبتعدَ عنهُ إلى آخر كلامها. فهل يتنبهُ الآباءُ الكرام إلى ذلك؟! وهل يستيقظُ البعضُ من غفلتهِ ويفيقُ من سُباته؟!
ثانيًا: ومن أسبابِ انحرافهم: غيابُ الدورِ الأبويّ في الأسرةِ، وهو بدايةُ الانهيار، وصدق القائل:
ليس اليتيمُ من انتهى أبواه مِن همّ الحياةِ وخلّفاهُ ذليلاً
إن اليتيمَ هو الذي تلقى له أُمًّا تخلّت أو أبًا مشغولاً
وغيابُ الدورِ الأبويِ إمَّا أن يكونَ غيابًا معنويًا أو حسيًا، أو غيابَ القدوةِ الصالحةِ، فغيابُهُ معنوي؛ يُصبحُ وجودُهُ كعدمه، فقط يقتصرُ دورُه على توفيرِ الحاجات وتلبيةِ الطلبات وتنفيذِ الرغبات، ويَرى أنَّهُ قد أحسن صُنعًا تجاهَ أُسرتِه وأولادِه، فلا مُناصحة للأبناء، ولا متابعةَ لهم، ولا محاسبةَ لأفعالهم.
وإمَّا أن يكون غيابُهُ حسيًا؛ فهو إمَّا أن يكون صاحبَ أسفارٍ وجولات، وإمَّا أن يكون صاحبَ مقاهٍ واستراحات أو سهراتٍ مع الأصدقاءِ لمتابعةِ القنواتِ الفاسدات، أو صاحبَ زوجةٍ ثانية، فيتخلى عن الأولى وعن متابعةِ أولاده.
أو يكون غيابَ القدوةِ الصالحةِ؛ فلا تكادُ تسمعُ منهُ إلا عبارات الشجبِ والاستنكار،ِ أو السبّ والاستحقار، يتعاطى الدُخانَ أمام أبنائهِ وبناته، يتخلفُ عن الصلاة، يُعاقرُ المحرمات، يستهينُ بالواجبات، فيا تُرى ما حالُ الأبناء المساكين مع هذا الأب؟! إذا كان محلُ القدوةِ بهذه المثابةِ فكيف سيكون الأبناء؟! إذا كان محلُ الأسوةِ بهذا السلوك كيف يستقيم الأبناء؟!! نعم الهدايةُ بيدِ الله تعالى، لكنَّ الله تعالى جعلَ لكلِّ شيءٍ سببا.
والطامةُ الكُبرى والبليةُ العُظمى حينما يحرصُ بعضُ الآباءِ ـ هداهم الله تعالى لطاعته ـ على عدمِِ صلاحِ أبنائهم، لماذا؟ حتى لا يُزعجهُ الابنُ بالمُناصحة والتذكير! فيقطعُ عليه حبلَ شهواتِه وملذاتِه، فإنَّا لله وإنَّا إليه راجعون، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
هذه حادثةٌ وقفتُ عليها بنفسي، وهي ـ إي وربي ـ مؤلمةٌ مبكية مُحزنة مُؤسفة. أحدُ الآباءِ عندما رأى علاماتِ الاستقامةِ والهداية ظهرت على ولده، هل حمد الله تعالى على هذه النعمة؟! هل شكرَ الله تعالى على استقامةِ ولده؟! كلا، بل قام أولاً بتحذيرهِ من الذهابِ إلى حلقةِ تحفيظ القرآن الكريم، ثُمَّ تحذيرِه من مجالسةِ أهلِها، ثُمَّ اشترى لهُ سيارة وأدخل في بيتهِ جهازَ الدش، وقد تحقق لهذا الأبُ ما يُريد، فقد انحرف الابنُ وتخلَّفَ عن الصلاة، وسيعلمُ هذا الأبُ عاقبةَ فعلِهِ وصنيعه، وما ربُك بظلامٍ للعبيد. وحتى تعلم ـ أيّها الأبُ الكريم ـ أننا لا نتكلمُ من فراغ، أو من عاطفةٍ جياشة، بل هذه هي الحقيقة، حقيقةُ خطورِة غيابِ الأب وتخليهِ عن مسؤولياتهِ، استمع إلى هذه الدراسات التالية:
أجريت دراسةٌ على المحكومِ عليهم بجرائمِ الزنا واللواط والاغتصاب وهتكِ الأعراضِ في الإصلاحياتِ المركزية بالمملكة، فتبينَ أنَّ ستةَ عشرَ بالمائةِ من الآباءِ كانوا يقومون بمهمةِ الضبطِ الاجتماعي لأبنائهم مرتكبي الجرائم، والباقي ما حالهُم؟! لقد تركوا الحبلَ على الغارب، فأصبحوا يتخبطون في لججِ الإجرام، ويخوضون في مستنقعاتِ الحرام.
وفي دراسةٍ أُخرى في إصلاحياتِ النساء بالرياضِ وجدةَ والدمام تبينَ أن ستًا وثمانين بالمائة من مرتكبات الجرائمِ من النساء يتغيب آباؤهنَّ عن المنزلِ باستمرار. فهل يعي هذا الكلامَ أولئكَ الذين يسهرون إلى بزوغِ الفجر أو قريبًا منهُ خارجَ بيوتهم؟! هل يعي هذا الكلامَ أولئك الذين يسهرون على القنواتِ في الاستراحات؟! هل يتنبهُ أصحابُ التجاراتِ والأموالِ إلى خُطورةِ الانشغالِ عن الأهلِ والأولاد؟! هل يتنبهُ المعددون المفرطونَ عاقبةََ تخليهم عن مسؤولياتِهم تجاهَ أبنائهم؟! يقول النبي : ((كلكم راعٍ ومسؤولٌ عن رعيته... والرجل راعٍ وهو مسؤولٌ عن رعيته))، فهل يُقدرُ الآباءُ هذه المسؤولية، فيُراجعوا أنفسَهم؟! فست وثمانون بالمائة نسبةٌ يجبُ أن يقفَ عندها الآباءُ جيدًا، قبل أن يحلَّ الفأسُ بالرأس، وقبل أن يندمَ في ساعةٍ لا ينفعُ فيها الندم، فاللبيبُ بالإشارةِ يفهمُ، والسعيدُ من وُعظَ بغيره، والشقيُّ من وُعظَ غيرهُ به.
ثالثًا: ومن أسبابِ الانحراف أيضًا: العاطفةُ الزائدةُ التي تجعلُ الآباءَ يتغاضون عن توجهات أبنائهم، ويتساهلونَ ببداياتها، أو أنَّهم يتحرجون من مواجهتهم بالنصح والإرشاد وبيانِ الأخطاءِ التي تلاحظُ على الأبناءِ وبأسلوبٍ أبويٍّ حكيم. وهذا يُخالفُ ما كان عليه منهاجُ رسول الله في التعامل مع الصغار، خذ مثلاً عندما رأى النبي عمر بن أبي سلمة تطيشُ يدُهُ في الصحفة، فقال لهُ النبي مبادرًا لنُصحه وتوجيههِ: ((يا غلام، سمِّ الله، وكل بيمينك، وكل مما يليك)) رواه البخاري. ولما رأى النبيُ صبيًا قد حُلق بعضُ رأسه وتُرك بعضُه لم يسكت وقال: هؤلاءِ أطفالٌ صغار، أو هؤلاءِ في سنِ المراهقة، بل نهاهم عن ذلك وقال: ((احلقوهُ كلَهُ أو اتركوه كلَه)) رواه النسائي. قارن بين هذا وبين ما عليه أبناءُ المسلمين اليوم من قصاتٍ غربية حتى وهم صغار، والذي يفعلُ ذلك بهم همُ الآباء فالله المستعان.
لمَّا أخذ الحسنُ بنُ علي رضي الله عنهما تمرةً من تمرِ الصدقة فجعلها في فيه قال النبي له: ((كخٍ كخ)) ليطرحها، ثم قال: ((أما شعرت أنَّا لا نأكلُ الصدقة؟!)) رواه البخاري. ولم تمنعهُ العاطفةُ الأبويةُ من أن يُحذِّر ولدَه من أكلِ هذه التمرةِ. فأين الذين يرون أولادَهم يُشاهدون الأفلامَ وينامون عن الصلاة؟! أين نصحُهم وإرشادُهم وتذكيرُهم بالله تعالى؟!
لما دخل ابنٌ لعمرَ بنِ الخطابِ وقد ترجَّل ولبس ثيابًا حسانًا ضربهُ عمرُ بالدرةِ حتى أبكاه، فقالت له حفصة: لم ضربتهُ؟ قال: رأيتهُ قد أعجبتهُ نفسُهُ فأحببتُ أن أُصغرها إليه. ولمَّا دخل ابنٌ لعبد ِالله بنِ مسعود وكان لابسًا لقميصٍ من حرير، قال له: من كساك هذا؟ قال: أمي، فقام فشقَّهُ نصفين، وقال له: قل لأمك: تكسوك غير هذا.
ونحنُ الآن نرى ارتداءَ بعضِِ أبنائنا ملابسَ غربية، والأبُ يُشاهدُ ابنَهُ على هذه الهيئةِ ولا يحركُ ساكنًا، حتى النصيحة والكلمة الطيبة قد تكون معدومةً، فالله المستعان.
أيُّها الآباء الكرام، إنَّ العطفَ الأبويَ على الابن يجبُ أن يكون بالقدرِ المعقول والطريقة الحكيمة، عطفٌ مقرونٌ بالحكمة، وحبٌ ممزوجٌ بالشدَّة، لا إفراطَ ولا تفريط، لا يتركُ الابن يعبثُ بما يشاء، والابنُ كذلك إذا حُرم من العطف فإنَّهُ يشذُّ كما يشذُّ إذا زاد عليه العطف، ولا يصلحهُ إلا جرعاتُ حزمٍ ورشفاتُ حنانٍ وسماتُ عطفٍ ولمساتُ توجيهٍ وتثقيف وإرشاد. قال بعضُ السلف: "إنَّ خيَر الآباءِ من لم يدعُهُ الحبُ إلى التفريط، وخيرُ الأبناء من لم يدعُهُ التقصيرُ إلى العقوق"، وصدق القائل:
فَقَسَا ليزدجِروا ومن يكُ حازمًا فليقسُ أحيانًا على من يَرحم
تلك القسوةُ الرحيمةُ أو الرحمة القاسيةُ من أسُس التربيةِ المنزليةِ التي تعتمد عليها الأسرة، أمَّا إذا تخلت الأسرةُ عن هذا الأسلوب ففرطت في العقاب أو أفرطت في الحنو اهتزت شخصيةُ الأبناءِ، واستخفوا بالمسؤولية، وقد ثبت ذلك أيضًا من جهة الدراسات، فقد أجريت دراسة في إصلاحيةِ الحائرِ بمدينة الرياض على المحكومِ عليهم بارتكاب قضايا متعددةٍ كالمخدراتِ والسُكرِ والسرقةِ والمضارباتِ والقتلِ والتزوير، ِفوجد أن نسبةَ أحدَ عشرَ بالمائة كانوا يجدون عقابًا من قبل والديهم عند ارتكابهم مخالفاتٍ غيرَ مقبولةٍ في الأسرة، بينما الغالبيةُ ذكرت أنَّهم لم يجدوا عقابًا من قبل والديهم على تصرفات سلوكيةٍ سيئة في الأسرة، مما جعلهم يتمادون في ارتكابِ مخالفاتٍ خارجَ الأسرةِ وعلى مستوى المجتمع. وأشارت تلك الدراسةُ إلى أن معاملةَ الوالدين لأبنائهم المجرمين كانت في الغالب متسامحةً وبعضها مجاملةً، مما انعكس سلبيًا على سلوكيات الأبناءِ في المستقبل.
فاتقوا الله أيها المسلمون، وأدوا ما عليكم من واجبات الذرية، قال الله تعالى: رَبّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِن ذُرّيَتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاء رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ [إبراهيم:40، 41].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، ونفعنا بهدي سيد المرسلين وبقوله القويم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي منّ علينا بنعمة الأولاد، وفتح لنا من أسباب الهداية كل باب، ورغب في طريق الصلاح وحذّر من طرق الفساد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله أفضل الخلق بلا ارتياب، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فاتقوا الله ـ عبادَ الله ـ حقَّ التقوى، فتقوى الله نِعم الأمل، والإعراض عنها بِئس العمل.
أيها الإخوة الأعزاء، إن الإسلامَ يحمِّلُ الأبوين مسؤوليةَ التربيةِ لأولادهم، قال رسولُ الله : ((كل مولود يولد على الْفِطرةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ)) أخرجه البخاري ومسلم.
فكلُّ مولودٍ يولَدُ على الفطرة، وعلى الإيمانِ والتوحيدِ والحقِ والخيرِ والفضيلةِ والنفورِ من الباطلِ والشرِ والرذيلةِ، فلا يولدُ أحدٌ يهودِيًا ولا نصرانيًا، ولا فاسقًا ولا منافقًا، إنما يوجهه إلى ذلك أبواه ومربوه وأهله وجيرانه وأصحابه ومعلموه.
وينشأ ناشئ الفتيانِ فينا على ما كان عوَّده أبوه
وما دان الفتى بحِجًى ولكن يعوِّدهُ التدَيُّنَ أقربوه
معاشرَ الآباء، يجب علينا أن نباشرَ تربيةَ أولادِنا مباشرةً دونَ وساطةٍ، بحيثُ نعلمُ مدخلَهم ومخرجَهم، ونعلمُ أينَ يذهبون، ومَنْ يُصاحِبُون ويُصَادِقُون، وماذا يفعلون؛ لأن الصغارَ لا يوجدُ لديهم الوعيُ الديني الكاملُ الذي يمنعهم من المنكرات والآثام، ولا توجدُ عندهم العقولُ الكاملةُ التي تمنعهم من الفساد والانحراف.
إن كثيرًا من الآباء والأمهات شُغِلُوا عن أبنائهم وبناتهم، فلم تَعُدْ لهم أوقاتٌ يجلسون فيها مع عائلاتهم يسألون عن أخلاقهم وأحوالهم، ولكنهم يهتمون في الغالب بمن يمرضُ فيداوونه، وبمن يجوعُ فيشبعونه، وغابَ عنهم أنهم في هذا الاهتمام يخدمون الجسمَ ويهملون النفسَ والقلبَ والروحَ، والحكيم يقول:
يا خادمَ الجسمِ كمْ تشقى بخدمتِهِ أتطلبُ الربحَ مما فيه خسرانُ؟!
أقبلْ على النفسِ واستكملْ فضائلَها فأنتَ بالنفسِ لا بالجسمِ إنسانُ
عباد الله، إن أولادَنا أحوجُ إلى التربيةِ والتزكيةِ والرعايةِ منهم إلى الطعامِ والشرابِ والدواءِ؛ لأن الطعامَ والشرابَ والدواءَ ينفعُ البدنَ، ويدفعُ عنه الأخطارَ بمشيئة الله تعالى، أما التربيةُ والتزكيةُ فإنها تحفظُ الدينَ والعقلَ والعرضَ والنسلَ والجسمَ والمالَ، وأفضلُ هدية يقدمها الوالدان والمربون لأولادهم هي التربيةُ والتأديب، قال رسولُ الله : (( مَا نَحَلَ وَالِدٌ ولدا من نَحْلٍ أفضل من أدب حسن)) أخرجه الترمذي.
وقد كان العلماءُ والخلفاءُ والصالحون يهتمون بذلك أعظمَ الاهتمام، قال عبدُ الملك بن مروان الخليفة الأموي ينصحُ مُؤَدِّبَ ولده: "علِّمْهم الصدقَ كما تعلّمُهُمُ القرآنَ، واحملْهمْ على الأخلاقِ الجميلةِ، وجالسْ بهم أشرافَ الرجال وأهلَ العلم منهم، واضرْبهم على الكذب، فإن الكذبَ يدعو إلى الفجور، وإن الفجورَ يدعو إلى النار".
أيها المسلمون، يجبُ علينا تعهدُ أبنائنا وبناتنا وتوجيهُهم وتعويدُهم على فعلِ الطاعات وتركِ المنكرات، وتقويةُ الوازع الديني في نفوسهم، قال رسولُ الله : ((مُرُوا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر سنين، وَفَرِّقُوا بينهم في المضاجع)) أخرجه أبو داود والحاكم. وقد كان أصحابُ النبي يدَرِّبُون أولادَهم ويروِّضُونَهم على الصلاةِ والصيامِ والأخلاقِ الحسنةِ، ويعلمونهم سيرةَ النبي العطرةَ، قال سعدُ بنُ أبي وقاصٍ: كنا نعلِّمُ أولادَنا مَغازيَ رسولِ اللهِ كما نُعَلِّمُهُمُ السورةَ من القرآن.
وفي الختام: نصيحتي للآباء أن يهتموا بأولادهم تربيةً وتعليمًا، وأن لا يسْلموهم لأناسٍ غيرِ ثقاتٍ ولا طيبين من خدم أو معلمين، وبخاصة إذا كانوا كافرين أو فاسقين، وأن لا يتيحوا لأولادهم فُرَصَ مشاهدةِ الأفلامِ والقنواتِ والمجلاتِ والإنترنت وغيرها من الوسائل التي تدمر الخُلُق والدين. كما ينبغي حفظُهم من أصحابِ السوءِ ورفقاءِ الشر أهلِ المعاصي والفواحشِ والمنكراتِ والمسكرات والمخدرات وتضييعِ الأخلاقِ والأوقات؛ لأن الأمة ما وصلت إلى ما وصلت إليه من الذل والهوان وتداعي الأمم عليها إلا بتضييع نشئها والتفريط في أبنائها وبناتها، فاحفظوهم ـ عباد الله ـ وأصلحوهم حتى يكونوا صالحين مصلحين هادين مهديين غيرَ ضالين ولا مضلين. ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إمامًا، اللهم لا تَدَعْنا في غَمْرَة، ولا تَأْخُذْنا على غِرَّة، ولا تجعلْنا من الغافلين.
عباد الله، إني داع فأمنوا. اللهمَّ أصلح لنا نياتِنا وذرياتِنا، اللهمَّ اجعلهم صالحين مصلحين غير خزايا ولا مفتونين، اللهمَّ اكفهم شرَّ الأشرار وكيد الفجار يا عزيزُ يا غفَّار. اللهمَّ حبب إليهم الإيمان وزينهُ في قلوبهم...
ـــــــــــــــــــ(68/134)
الطلاق في الإسلام
...
...
2926
...
الأسرة والمجتمع, فقه
...
...
الطلاق, قضايا المجتمع
...
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
...
...
الرياض
...
5/8/1423
...
...
جامع الإمام تركي بن عبد الله
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- أهمية عقد النكاح وتعظيمه. 2- وجوب رعاية هذا العقد. 3- حث الزوجين على الصبر والتحمل. 4- مشكلة الطلاق في المجتمعات الإسلامية. 5- نظام الطلاق في الإسلام. 6- ضرورة التروي في أمر الطلاق. 7- التحذير من شياطين الجن والإنس.
الخطبة الأولى
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عباد الله، عقدُ النكاح من العقود التي يجب احترامُها، ويجب الوفاءُ بما التُزم فيها، ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ [المائدة:1].
وهذا العقدُ عظّم الله شأنَه، فوصفه بأنّه ميثاق، وأن هذا الميثاق غليظ: وَأَخَذْنَ مِنكُم مّيثَاقًا غَلِيظًا [النساء:21].
وجاء في السنة تعظيمُ هذا العقد، وأنَّ الشروطَ المشروطة فيه يجبُ الوفاءُ بها، ففي الصحيح عنه أنه قال: ((إنَّ أحقَّ الشروط أن توفُّوا به ما استحللتم به الفروج))[1]، وفيه أيضًا عنه مبيِّنًا أنَّ هذا العقد يُستحَلّ بكلمة الله، يقول في حقِّ النساء: ((فإنّكم أخذتموهنَّ بأمانِ الله، واستحللتُم فروجهن بكلمة الله))[2].
أيها المسلم، هذا عقدٌ له شأنُه، وله قيمته في الإسلام، عقدٌ ينبني عليه أمورٌ كثيرة، فله حقّ الاحترام والالتزام بما التُزم فيه بما يوافق شرع الله.
هذا العقدُ ليس أمرُه بالسهل، ولا يجوز حلُّه بأيسر الأمور، ولهذا أبغضُ الحلال عند الله الطلاق؛ لأن هذا الطلاق يهدِم هذا النكاح، ويسبِّب من المشاكل ما الله به عليم. إذًا فالطلاق أبغضُ الحلال إلى الله؛ لأنَّ الطلاقَ يهدم هذا النكاح، ويُسبِّب من المشاكل ما الله به عليم. إذًا فالطلاق أبغضُ الحلال إلى الله؛ لأن الطلاق يهدم هذا العقد، ويقضي على هذا العقد العظيم. ولأجل هذا كان الطلاق آخرَ الحلول في الشريعة، ولم يكن الطلاق الحلَّ لأول للمشاكل.
أيها المسلم، إنَّ الواجبَ على الرجل وعلى المرأة جميعًا تقوى الله، ورعايةُ هذا العقد، والاهتمام به، وهذا العقد سببُ استمراره ودوامه التعاملُ بالمعروف، قال تعالى: وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِى عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة:228]، فمتى قامَ الزوجُ بواجبه، وقامت المرأة بواجبها، فعند ذلك سعادةُ البيت والولد، وإنما يتعكّر صفوُ هذه الأمور عندما يعطِّل الرجل شيئًا من الواجب عليه، وعندما تضعف المرأة عن القيام بما يجب عليها، فإذا حصل من أحد الزوجين تقصيرٌ في الواجب وعدمُ قيام به، فذاك مشكلةٌ قد تسبِّب اللجوءَ إلى الطلاق.
أيها المسلم، والمطلوب من الرجل أن يكونَ ذا صبرٍ وذا تحمّل لكلّ الأمور، وأن لا يكونَ ذا عجلة في هذا الشأن، بل التروِّي والتأنّي في هذا الأمر هو المطلوب، ونبينا يقول لنا: ((استوصوا بالنساء خيرا، فإن المرأة خُلقت من ضلع، وإن أعوجَ ما في الضلع أعلاه، فإن ذهبتَ تقيمه كسرتَه، فاستوصوا بالنساء خيرًا))[3]، وقال: ((لا يفرُك مؤمنٌ مؤمنةً، إن كره منها خلقًا رضيَ منها آخر))[4]، حثًّا للرجل على الصبر والتحمّل وعدم التعجّل في هذا الشأن، فإن المطلوبَ من الرجل أن يكون ذا صبر وحلمٍ وأناءة، والله يقول: فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا [النساء:19]، فعسى خلقٌ تكرهه لكن عواقبه حميدةٌ وأخلاق غير ذلك، فشيء كرهته عِوَضُه أشياء تحبُّها، ويجعل الله العاقبة الحميدة.
أيها المسلم، إن من علامة توفيق الله للعبد أن يكون ذا صبرٍ على المرأة وحلم وأناءة، فهو المطلوب منه التحمّل والصبر، وعدم الضجر، وعدم العجلة في هذه الأمور.
ثم كذلك المرأة مطلوبٌ منها أيضًا الصبرُ والتحمل، ومن لم يكن صابرًا ضاعت أمورُه كلها.
والله جل وعلا بحكمته أرشد الزوجين قبلَ الإقدام على الطلاق بأمور، فإذا خاف الزوج من امرأته نشوزًا أرشده الله إلى الموعظة: فَعِظُوهُنَّ، والهجران: وَاهْجُرُوهُنَّ فِى الْمَضَاجِعِ، والتأديب الذي يمكن أن يحصلَ حتى لا تكون الفرقة. وأمر ببعث حكمين بينهما ينظران في أمر اجتماعهما أو افتراقهما، كلّ ذلك حتى لا يُلجأ إلى الطلاق، حتى لا يُضطر إلى الطلاق ويلجأ إليه.
أيها المسلم، مشكلةُ الطلاق في المجتمع المسلم مشكلة عظيمة، تحتاج من المسلمين إلى السعي في حلِّها، مشكلةُ طلاق المرأة ومفارقة الرجل امرأتَه لأتفه الأسباب أحيانًا ولأمور لا تقوى لذلك، لكنها العجلة الزائدة، والطيش وعدم التروِّي فيما بعد الطلاق، فلو تأمَّل المسلم التأمّل الصحيح: ما نتائجُ هذا الطلاق على نفسه؟ ما نتائجه على الولد من بنين وبنات؟ ما هي آثاره؟ وكيف تداركُ ذلك؟ لأيقنَ أنّ هذه المشكلةَ لو تحمَّل الأمور لكان أيسرَ له من ذلك.
لا شكَّ أنَّ في النساء من لا تحسن المعاملة، أو من تقصِّر في الواجب أو نحو ذلك، ولكن ليس هذا بمجرَّده مبرّرًا لأن نتَّخذَ الطلاقَ حلاً لنا في مشاكلنا.
أيها المسلم، قد تواجه مشاكلَ مع امرأتك، مشاكلَ مع ولدك، مشاكلَ مع من تعاملُه، فاتق الله في نفسك، واعلم أن الطلاقَ من أبغض الحلال إلى الله، فما دام لك عن الطلاق معدلٌ فاعدل إليه، ولا تلجأ إليه إلا إذا تعذّرت الوسائل، وقلَّت الحيَل، واستعسرت الحياة، أما ما دُمت قادرًا على التحمل وإصلاح الوضع فإن الصبرَ نتائجه طيبة، صبرٌ قليل ترتاح به كثيرًا.
أيها المسلم، إن دينَ الإسلام لما شرع الطلاقَ لمصالح وحكمٍ اللهُ جل وعلا قدَّرها لم يشرعْ ذلك باختيار الرجل، ولم يجعلْ ذلك لتلاعب من يتلاعب واستخفاف من يستخفُّ به، ولكنه نظَّم أمرَ الطلاق نظامًا عادلاً، يناقض ذلك ما كان عليه أهلُ الجاهلية قبلَ الإسلام، فلقد كانوا قبلَ الإسلام يتلاعبون بأمر الطلاق، كان الرجلُ يطلِّق المرأةَ الطلقاتِ الكثيرة، وربما طلَّق ثمَّ راجع ثم طلَّق ثم راجع، وربما مضى مائة طلقة على المرأة، يتحكَّم فيها بهواه، فيطلِّقها فإذا قاربتْ انقضاءَ العدّة راجعها، وهكذا يستمرّ على ما يهوى ويريد، فجاء الإسلامُ فضيَّق ذلك، وجعلَ للطلاق عددًا محدودًا حرَّم على المسلم تجاوزَه، الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ [البقرة:229]، فإذا طلقها الثالثة حرمت عليه، فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ [البقرة:230].
وجاءت تعاليمُ الشريعة لترشدَ المسلمَ إلى الطلاق المشروع الذي إذا سلك فيه السنةَ ارتاح وانشرح صدرُه وسلمت له الأمور، فربُّنا جل وعلا أمر المسلم إذا أرادَ أن يطلِّق أن يطلقَ امرأتَه طلقةً واحدةً في طهرٍ لم يسبقه جماع: يأيُّهَا النَّبِىُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النّسَاء فَطَلّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ [الطلاق:1]، ثم أمره إذا طلقها طلقة واحدة أن يبقيَها عنده في المنزل، فعسى أن تعودَ المياه إلى مجاريها، وعسى أن يزولَ ما في النفوس، وعسى أن تصلحَ الأحوال: لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلاَ يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيّنَةٍ [الطلاق:1]، وحرَّم رسول الله على المسلم أن يطلقَ امرأتَه وهي حائض؛ لأنه إذا طلقها قد لا يأتيها وربَّما زالت الأمور، وحرَّم عليه أن يطلقها في طهر وطئها فيه، كلّ هذا حفاظًا على هذا العهد العظيم، وتضييقًا لأمر الطلاق حتى لا يتسرّع الناس في أمرٍ ينبغي لهم التأني فيه.
كما جاء في السنة تحريمُ جمع الثلاث في لفظ واحد، لمَّا طلق رجل امرأتَه ثلاثًا غضب النبي عليه وقال: ((أيُلعَب بكتاب الله وأنا بين أظهركم؟!)) حتى قال رجل: ءأقتله يا رسول الله؟[5].
أيها المسلم، فكّر في الأمر قبل أن تقدِم عليه، وتروَّ في الأمر قبل أن تقدِم عليه، واستخِر الله واستشِر، وقارِن بين الأمور، ووازِن بين الحاضرِ والمستقبل، فإنَّك إن سلكتَ هذا الطريق فإنك ـ بتوفيق الله ـ ستُوقى شرورًا كثيرة، لكن الاستعجال في هذا الأمر والتسرّع في هذا الأمر وعدم المبالاة بهذا الأمر [هو] المصيبة.
أيها المسلم، للأسف الشديد أنَّ بعضَ الرجال يسيؤون التعاملَ مع المرأة، ويُلحقون الضرر والأذى بها، ويسعَون في جعل الطلاق ضررًا يُلحقه بالمرأة، والطلاقُ يجب أن يكون بإحسان، اللهُ يقول: فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ [البقرة:229].
ثم فكِّر أيها الرجل، فكِّر التفكيرَ الجيّد في الطلاق، هل ما تُقدم عليه منفعةٌ لك؟ هل هو مصلحة محضة أم هو مضرة؟ ما هي النتائج؟ وماذا سيُعقب هذا الطلاق؟ وأين مصير الأبناء والبنات؟ وهل أنت قادرٌ على القيام بالرعاية أم يَضيع الولدُ والبنت [بين] الزوج والزوجة؟ لو فكَّر الرجلُ التفكيرَ الصحيح قبل أن يقدمَ على ما يقدم عليه، وأصلح الأخطاءَ إن كان منه خطأ، وعالج وضعَ الزوجة وأخطاءَها إن كان منها خطأ، واستشار واستخار اللهَ، وفكَّر في الموضوع التفكيرَ الصحيح الدَّال على التعقّل والتروِّي لكان الأمر يسيرًا، لكن المصيبة أن يجعل الطلاقََ أولاً وقبل كل شيء، ثم بعدما يطلِّق يندم ويتأسَّف ويبحث: هل له مخرج من هذه المضائق أم لا؟ إنه ندَمٌ لا ينفعه أحيانًا، فالواجبُ التأملُ والتروّي والتعقل في الأمور، والموازنة بين الحاضر والمستقبل، ودراسة الوضع دراسةً طيبة، دراسة متعقلة متأنية.
ثم على المرأة المسلمة أن تتقي الله، وأن لا تكون سببًا في طلاقها، وأن تصلح من أوضاعها وأخطائها.
ثم على أولياء الرجل وأولياءِ المرأة جميعًا أن يكونوا متحمِّلين لمسؤوليتهم؛ لأنَّ شيوعَ الطلاق في المجتمع ليس علامةَ خير، لا شكَّ أن الله أباحه لحكمة ومصلحة عندما تدعو الحاجة إليه، لكن إذا عُدل عنه ببقاء النكاح كان أفضلَ وأولى، فلو تعاونَ أولياء الزوجين فيما بينهم وكلٌّ أدّى واجبَه نصيحةً وتوجيهًا وإصلاحًا للأخطاء والأوضاع، لكان المجتمع سعيدًا بهذا.
فليتق المسلمون ربَّهم في طلاقهم، وليحرِصوا على أن يتأدَّبوا بآداب إسلامهم ليكون الطلاق واقعًا موقعَة، ولا يكون طلاقًا يمليه طيشٌ وهواء و تسرّع وعدم تعقّل وطاعةٌ لامرأة وخضوعٌ لرأي سفيه، لا بد من تأمّل وتعقّل في هذا الأمر حتى يكون المسلم على بصيرة، والله جل وعلا حذّرنا من أن نتّخذ آياتِ الله هزوًا: وَلاَ تَتَّخِذُواْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُم مّنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُم بِهِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ بِكُلّ شَىْء عَلِيمٌ [البقرة:231].
فواجبنا تقوى الله في أنفسنا، وواجبُنا رعايةُ الحقوق الزوجية، وواجبنا أن نتحلى بالصبر والأناءة في الأمور، فعسى أن نوفّق لسلوك الطريق المستقيم.
لا شك أن المرأة المطلقة تعاني من آلام الطلاق، والرجل المطلِّق يعاني من آلام العزوبة، والولد الذي بينهما سيكون ضحيةً أحيانًا لسوء تصرّف كلٍّ من الزوج والزوجة، فليتق المسلمون ربهم، ولتكنْ أمورُهم على وفق شرع ربهم، لتستقيم الأحوال، وتستقيم الأسرة، ويزول النزاع والشر.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في الشروط (2721)، ومسلم في النكاح (1418) من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه.
[2] جزء من خطبة النبي يوم عرفة، أخرجه مسلم في الحج (1218) من حديث جابر رضي الله عنهما.
[3] أخرجه البخاري في النكاح (5186)، ومسلم في الرضاع (1468) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بنحوه.
[4] أخرجه مسلم في الرضاع، باب: الوصية بالنساء (1469) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[5] أخرجه النسائي في الطلاق، باب: الثلاث المجموعة وما فيه من التغليظ (3401) من حديث محمود بن لبيد رضي الله عنه، وأعله ابن كثير في تفسيره (1/278) بالانقطاع، وقال الحافظ في الفتح (9/362): "رجاله ثقات, لكنّ محمود بن لبيد ولد في عهد النّبيّ ولم يثبت له منه سماع, وإن ذكره بعضهم في الصّحابة فلأجل الرّؤية, وقد ترجم له أحمد في مسنده وأخرج له عدّة أحاديث ليس فيها شيء صرّح فيه بالسّماع. وقد قال النسائي بعد تخريجه: لا أعلم أحدا رواه غير مخرمة بن بكير ـ يعني ابن الأشج ـ عن أبيه اهـ. ورواية مخرمة عن أبيه عند مسلم في عدة أحاديث، وقد قيل: إنه لم يسمع من أبيه"، وصححه الألباني في غاية المرام (261).
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرا إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عباد الله، إن عدوَّ الله إبليس يستغلُّ غضبَ المسلم وطيشه، فيوقعه في المكروه، يزيِّن له الطلاقَ ليظنَّ أنَّ الطلاقَ هو الذي يخلِّص [من] المشاكل، وأن الطلاق هو الذي يُنهي النزاع، وأن الطلاق هو وهو...
لا يا أخي، الطلاق هدمٌ لهذا العقد، لا يُلجأ إليه إلا إذا تعذَّرت كلُّ وسيلة ممكنةٍ في التحام الزوجين وتعاونهما، ومتى أمكنك إبقاءُ هذا العقد وتحمل بعض الأمور فذاك خير لك.
أيها المسلم، إنَّ من يزيِّن لك طلاقَ امرأتك ويحسّنه لك اعلم أنه شيطانٌ ضدّك في أحوالك، و إلا فالمسلم يسعى في التوفيق والتأليف، لا في الفرقة والإبعاد.
أيها المسلم، جاء في الحديث عنه : ((إن الشيطان يضع عرشه على الماء، ويبثُّ جنودَه في الخلق، فيأتيه آتٍ منهم فيقول: ماذا فعلت؟ قال: ما زلت بفلان حتى عقَّ أمَّه أو أباه، قال: ما فعلتَ شيئًا، يوشك أن يبرَّ أباه وأمه، ويأتيه الآخر ويقول: ما زلتُ بفلان حتى فرقتُ بينه وبين رحمه، قال: ما فعلت شيئًا، يوشك أن يعود إليهم، ويأتيه جندٌ آخر من جنده فيقول: ما فعلت؟ قال: ما زلتُ بفلان حتى طلق امرأته، قال: فيلتزمه ويقول: أنت وأنت وأنت))[1]، أعجبه فعلُه وتصرفه، هكذا شيطان الجن وشياطين الإنس الذين يعينون على هذه الأمور، ويسهِّلون هذه الأمور، والواجبُ على من سمع خلافًا أو شكا إليه شاكٍ من رجل أو امرأة أن يكونَ جوابه الحرصَ على التوفيق بين الزوجين، وجمعِ كلمتهما، وتحذيرهما من الطلاق ما لم تدعُ إليه حاجة قصوى، ومتى أمكن التحام الزوجين واستمرار حياتهما، وإزالة كل الأخطاء فذاك هو الأولى.
ثم أيها المسلم، طلِّق بالشروط الشرعية، فإنك إذا سلكتَ الأدب الشرعيَّ في طلاقك لم تندم، فإن الله جعله ثلاثًا، واحدة ثم الثانية ثم الثالثة، فلعل بعد الواحدة تندم المرأة وتتأسَّف من أخطائها، أو لعلك أنت المخطئ فتراجع نفسك، ثم الطلقة الثانية، ولعلك بعدها أن تتأمَّل، ثم يقال: لم يبقَ إلا واحدة، فإما أن تمسك بمعروف أو تُسرّح بإحسان، وإياك ـ يا أخي ـ وكثرةَ [الدعاوي] في هذا الأمر، وكثرة النزاع والخصام، إن المشاكلَ الزوجية لو تعاون الأهلون والزوجان فيما بين الجميع لأمكن علاجُ هذا من غير اضطرار وترافعٍ للمحاكم، لو تعاون الجميع في رأب الصدع والتوفيق والإصلاح لكان في ذلك خير كثير.
نسأل الله للجميع التوفيق والهداية لما يحبه ويرضاه، وأن يصلح شأن المسلمين عمومًا، ويجمع كلمتهم على الخير، ويعيذ الجميع من مكائد الشيطان.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشرَّ الأمور محدثاتها، وكلّ بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله على الجماعة، ومن شذ شذ في النار.
وصلوا ـ رحمكم الله ـ على عبد الله ورسوله محمد كما أمركم بذلك ربكم قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىّ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين...
[1] أخرجه مسلم في كتاب صفة القيامة (2813) من حديث جابر رضي الله عنهما بنحوه.
ـــــــــــــــــــ(68/135)
صلة الرحم
...
...
3173
...
الأسرة والمجتمع
...
...
الأرحام
...
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
...
...
الرياض
...
20/12/1423
...
...
جامع الإمام تركي بن عبد الله
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- من فوائد صلة الرحم. 2- بيان الأرحام. 3- من صور الصلة. 4- أهمية الرحم وفضل صلتها. 5- حقيقة الصلة. 6- أعظم الصلة. 7- الحث على تجنب الخلافات. 8- ذم القطيعة والتحذير منها. 9- الأسباب المعينة على الصلة. 10- من أسباب القطيعة.
الخطبة الأولى
أما بعد: فيا أيّها النّاس، اتقوا الله تعالى حقّ التقوى.
عباد الله، صلة الرحم خلُقٌ من الأخلاق الكريمة التي رغَّب الله فيها في كتابه العزيز وفي سنّة محمد . صلةُ الرحم خلقٌ يحبه الله، كما أنَّ قطيعة الرحم عمَل يبغضه الله ويمقت فاعلَه.
أيّها المسلم، صلة الرحمِ عمل صالح، سببٌ لبركة العمُر وسعَة الرزق وانشراح الصدرِ وطيبِ النفس ومحبَّةٍ في قلوب الخلق ورضا الله قبل كلِّ شيء، وقطيعةُ الرحم سببٌ لمحق بركة العمُر والرزق وحدوثِ البغضاء في قلوبِ الخلق.
أيّها المسلم، رحِمُك من تربِطك بهِ صلةٌ من جهة أمّك أو أبيك، كلّ أولئك رحمٌ لك، وأقربُ منهم أولادُك وبناتك ونسلك، ثم إخوتك وأخواتك، أعمامُك وبني عمّك، ثمّ عمّاتك، أخوالك وخالاتك، ومن ينتسب إليهم من بني عمّ وبني أخوال وخالة، كلّ أولئك رحمُك الذين يجب عليك صلتُهم ويحرُم عليك قطيعتهم.
أيّها المسلم، إنَّ صلةَ الرحم تكون إمّا بالإمداد بالمال لفقيرهم، إعانةِ محتاجِهم، دفع الضررِ عنهم، العفوِ عن زلاّتهم وهفواتهم، تحمّل أخطائِهم، زِيارتِهم، تقييمهم، هكذا واصلُ الرحم.
أيّها المسلم، إنَّ صلةَ الرحم خلقٌ عظيم لا يقوَى عليه إلا مَن وُفّق للصواب، وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظّ عَظِيمٍ [فصلت:35]. فما كلٌّ مِن الناس يصبِر على ذا، ولا يتحمّل هذا، لكن مَن وفّقه وأخلص لله عملَه ومرادَه فإنَّ تلك الأمورَ تكون يسيرةً عليه بتوفيق من الله وعون.
أيّها المسلم، إنَّ الله يقول في كتابه: وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِى تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ [النساء:1]، فأمر بتقواه، وأمَر بتقوى الرّحم بصلتِها وعدَم القطيعة، وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِى تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ.
وقال جل جلاله: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِى إِسْرءيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِى الْقُرْبَى [البقرة:83]، ومدح الواصلين بقوله: وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوء الحِسَابِ [الرعد:21].
أيّها المسلم، إنَّ سنّة محمّد دلّت على فضل صلة الرحمِ وبيان ما يترتّب على هذه الصلة من الفوائد العظيمة، فأوّلاً يقول : ((مَن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرِم ضيفَه، ومَن كان يؤمن بالله واليومِ الآخر فليصِل رحمَه، ومَن كان يؤمن بالله واليَوم الآخِر فليقُل خيرًا أو ليصمُت))[1].
ولمَّا ابتَدأ الوحيُ بمحمّد في أوَّل الوحي خشِي ممَّا رَأى، فأتَى لخَدِيجة فحدَّثَها بما رَأى، فقالت: كلا، واللهِ ما يخزيك الله أبدًا؛ إنّك لتصِل الرّحِم، وتقري الضَّيف، وتكسِب المعدومَ، وتعين على نوائبِ الحق[2].
أيها المسلم، إنَّ صلةَ الرحم أفضلُ الصدقات وأعظمها، أعتقَت أمّ المؤمنين ميمونة جاريةً لها فأخبرتِ النّبيّ ، فقال: ((فعلتِ ذلك؟)) قالت: نعم، قال: ((لو أنَّك أعطيتِها أخوالَك كان أعظمَ لأجرك))[3]، مع أنَّ العتقَ فيه فضلٌ عظيم، ومَن أعتق مملوكًا له أعتق الله من كلِّ جزءٍ منه جزءًا من النار.
ويقول : ((لمَّا خلق الله الخلقَ قامتِ الرحم فقال: مه، قالت: هذا مقامُ العائذِ بك من القطيعة، قال: ألا ترضَين أن أصلَ من وصلك وأقطعَ من قطعك؟! قالت: نعم، قال: فذلك لك))[4].
وأخبر أنَّ صلةَ الرحم من أسباب دخول الجنة، سأله أعرابي فقال: يا رسول الله، دُلَّني على عمل يدخلني الجنة، قال: ((تعبدُ اللهَ ولا تشرِك به شيئًا، وتُقيم الصلاةَ، وتُؤتي الزّكاة، وتَصِل الرحم))[5].
وأخبر بقوله: ((إنَّ أبرّ البِرّ صلةُ الرجلِ لأهلِ وُدِّ أبيه))[6]، ولا سيّما الرحم منهم.
وأخبر أنّ صلة الرحم سببٌ لبركة العمر وسعة الرزق، فيقول : ((من أحبَّ أن يُنسَأ له في أثره ويبارَك له في رزقه فليصِل ذا رحمه))[7].
أيّها المسلم، وليسَت صلة الرّحم بتبادُل المنافع، إنْ وصلك رحمُك وصلتَه، وإن نأى عنك وابتعَد نأيتَ عنه، ليس الصلة على هذه الصّفة، فتلك مكافأةُ البعض للبعض، ولكن أمر صلة الرّحم فوقَ هذا كلّه، يقول : ((ليسَ الواصل بالمكافئ، إنَّما الواصلُ الذي إذا قطعَت رحمُه وصلها))[8].
ونبيّنا بيّن لنا أيضًا في سنته أنَّ واصل الرّحم قد يتعرّض لأمورٍ من رحمِه، معاكِسًا لفعله، هو يُبدي الصلةَ وهم يبدون القطيعَة، وهو يحلم وهم يجهلون، وهو يقرّبُهم وهم يُبعِدونه، وهو يتودَّد إليهم وهم يُبغِضونه، ومع هذا كلّه أمرَه بملازمة الصّلة، وبيّن له ما يترتَّب على هذا من الثّواب، قال له رجل: يا رسول الله، إنَّ لي رحمًا أصِلهم ويقطعونني، وأحسِن إليهم ويسيؤون إليّ، وأحلم عليهم ويجهَلون علي، قال: ((إنْ كنتَ كما قلتَ فكأنَّما تُسِفّهم الملَّ ـ أي: الرماد الحار ـ، ولا يزال معَك من الله عليهم ظهير ما دُمتَ على ذلك))[9].
أيّها المسلم، صِل الرحمَ بما تستطيع، وأعظمُ الصلة دعوةُ مَن خالفَ الحقَّ إلى الحقّ، وهدايتُه للطريق المستقيم، وإبعادُه عن الظلْم، فإذا وصلتَ الرحمَ فنأيتَ به عن ظلم العباد، وأخذتَ بيده لما فيه خيرُ دينه وإصلاحُ دينه ودنياه، كنتَ من الواصلين حقًا.
أخي المسلم، إن لم تقدِر بمالك فصِل رحمَك بزيارتِهم، وصِلهم بالدّعاء لهم، وصِلهم بكفِّ الضرر عنهم، وإمساكِ اللسان عن التحدّث بعيوبهم وزلاّتهم، وعدم مقابلتهم بما يسوؤهم.
أيّها المسلم، قد يحدُث بينك وبين رحمِك نزاعٌ أو اختلاف، فإيّاك أن توسّع هوّةَ الخلاف، وإنّما تسعى في تضييقِها، وإنّما تسعَى في تلافي كلّ النقص، وإنّما تسعى في الترفّع عن خصومةٍ بينك وبين رحمِك تزيدُ القلوبَ بغضًا وعداوة، ولقد كان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه يُرشِد القضاةَ إلى أن لا يفصِلوا بين الرَّحم في الخصومة، وإنّما يسعَون في الإصلاح بينهم[10]، خوفًا من أن يؤدِّيَ فصلُ الخصوم إلى ازدِياد النزاع والبُعد بين الرّحم بعضِه عن بعض.
أيّها المسلم، احذَر من قطيعة الرحم، فقطيعتُها عنوانُ قسوة القلب وضعف الإيمان، يقول الله جل وعلا: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ فِى الأَرْضِ وَتُقَطّعُواْ أَرْحَامَكُمْ أَوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ [محمد:22، 23]. هذه عقوبةُ القاطعِ لرحمه، عقوبته يوم لقاء ربّه، تلك العقوبة العظيمة، يقول الله: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ فِى الأَرْضِ، فسمّى القطيعة فسادًا في الأرض، وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ [المائدة:64]، أَوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ، وعيدٌ على القاطعين شديد.
ويقول الله: وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِى الأرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوء الدَّارِ [الرعد:25].
وفي الحديث: ((ثلاثةٌ لا يكلّمهم الله يومَ القيامة ولا يزكّيهم ولهم عذابٌ أليم: مدمِن خمرٍ، وقاطعُ الرحِم، والمصدِّق بالسّحر))[11]، وعيدٌ على قاطع الرحم.
فيا أخي المسلم، حاوِل الصلةَ بقدر إمكانِك، وإن لم تقدِر عليها فحاوِل أن لا تُؤذي ولا تُلحق الضررَ بالرّحم، ولا تَحمَّل الخطايا والأوزار.
صِلِ الرحمَ يعينك الله على ذلك، وإن ضعفتَ على الصّلة فاحذَر القطيعةَ، واحذَر البغضاء، واحذَر أن تسَّبَّب فيما يجلب القطيعةَ بينك وبين رحمِك، تجنَّب أسبابَ ذلك، وكُن حذِرًا وحريصًا على جمعِ الكلمة ولمّ الشعث ووحدة الصَّفّ بينك وبين رحمِك، فإنَّ ذلك سببٌ لحصول الخير في الدنيا والآخرة.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في الأدب (6138) واللفظ له، ومسلم في الإيمان (47) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[2] أخرجه البخاري في بدء الوحي (4)، ومسلم في الإيمان (160) من حديث عائشة رضي الله عنها.
[3] أخرجه البخاري في الهبة (2592)، ومسلم في الزكاة (999) من حديث ميمونة رضي الله عنها.
[4] أخرجه البخاري في التوحيد (7502)، ومسلم في البر (2554) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بنحوه.
[5] أخرجه البخاري في الزكاة (1396)، ومسلم في الإيمان (13) من حديث أبي أيوب رضي الله عنه.
[6] أخرجه مسلم في البر (2552) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما بنحوه.
[7] أخرجه البخاري في الأدب (5986)، ومسلم في البر (2557) من حديث أنس رضي الله عنه. وأخرجه أيضا البخاري في الأدب (5985) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[8] أخرجه البخاري في الأدب (5991) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
[9] أخرجه مسلم في البر (2558) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[10] أخرجه عبد الرزاق في المصنف (8/303)، وابن أبي شيبة (4/534) بلفظ: (ردوا الخصوم حتى يصطلحوا)، وضعفه ابن حزم في المحلى (8/164).
[11] أخرجه أحمد (4/399)، وأبو يعلى (7248)، والطبراني ـ كما في مجمع الزوائد (5/74) ـ من حديث أبي موسى رضي الله عنه بلفظ: ((ثلاثة لا يدخلون الجنة...))، وصححه ابن حبان (6137)، والحاكم (7234)، وأقره الذهبي، وقال الهيثمي في المجمع: "رجال أحمد وأبي يعلى ثقات"، ولهذا الجزء شواهد كثيرة، ولذا قواه الألباني في صحيح الترغيب (2362، 2539). وفي الحديث زيادة لا تثبت، انظر: السلسلة الضعيفة (1463).
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربّنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتّقوا الله تعالى حقّ التقوى.
عبادَ الله، [من أسباب] صلة الرحم أمور، فمنها الإيمانُ بالله وتصديقُ وعده وتنفيذ أوامره، فالمؤمن بالله حقًا يصِل رحمَه طاعة لله وقربةً يتقرّب بها إلى الله، يصِل رحمَه رجاءَ رضا الله عنه، يصِل رحمَه طمعًا فيما وعَدَ الله الواصلين من الثواب العظيم.
أيّها المسلم، إنَّ لقطيعة الرّحم أسبابًا، فمنها الحَسَد والعياذ بالله، فقد يحسد الإنسان ذا رحمِه، ذلك الحسَد المذموم الذي يتمنَّى زوال تلك النعمة عنه، لماذا؟ لأنَّه يريد أن ينفردَ بالجاه والمكانَة، وينفردَ بالسّؤدد عن سواه، فلا يرضَى لرحمٍ له أن يصلَ إلى خيرٍ، ولا أن يبلغَ خيرا.
فالحسَد ـ والعياذ بالله ـ يحمِله على قطيعةِ رحمه، وقد بيَّن الله لنا قضيةَ ابنَي آدم وما جرى بينهما فيقول : ((لا تُقتل نفس ظلما إلا كان على ابن آدم الأوّل كفلٌ من دمها؛ لأنه أول من سنَّ القتل))[1]، قتَل أخاه حسَدًا والعياذ بالله، فنال ما نال.
ومِن أسباب قطيعة الرحم الأنانيةُ ومحبّة الذات، فبعض الناس أنانيٌّ في نفسه، لا يحبّ الخيرَ لأحد، ولا يرضَى بخير لأيّ إنسان، همُّه نفسُه فقط، وما عدا نفسه فلا يرى لأحدٍ قدرًا ولا مكانَة، ولهذا ـ والعياذ بالله ـ لو رأى أحدَ رحمِه نال خيرًا لكان أشدَّ عليه من كلّ شيء، فهو يحسد، وهو يبغِض، وهو يتمنّى كلَّ شرّ لرحمه، وهو يودّ لنفسه كلَّ شيء وأن لا يكون في الميدان له منافِس مهمَا بلغ حالُ ذلك الإنسان.
هذه أسباب ذلك، ومِن الأسباب أيضًا السعيُ بالنميمة بينَ الأرحام على قصدِ الإفساد بينهم، فينقل كلامَ هذا في هذا، وكلامَ هذا لهذا، لأجل الإفساد وضرب بعضِهم ببعض، فهو يفرَح على أن ينقلَ كلامًا؛ قال فيك قريبُك كذا، وقال فيك ابنُ عمّك كذا، وتحدَّث عنك ابنُ عمّك بكذا، حتّى يفسِد بينَ الأرحام، ويحدِث القطيعةَ بينهم، ويجعلهم خصماءَ متباغضين. فالنمام ـ والعياذ بالله ـ مفسِد يسعى بالإفساد بين الناس، فليكن المسلمُ على حذرٍ من أولئك، فمَا قصدوا بك خيرًا، وما أرادوا لك خيرًا، واجعل صلةَ الرحم فوقَ هذا كلّه، واستعِن بالله على المهمّات، ومَن كانت ثقتُه بالله لن يضرَّه أيّ مخلوق، في الحديث: ((واعلم أنَّ الأمةَ لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيءٍ قد كتبه الله لك، وإن اجتمَعوا على أن يضرّوك بشيء لم يضرّوك إلا بشيءٍ قد كتبَه الله عليك))[2]، فلتكن ثقتك بربّك، واعتمادُك على ربّك، واتكالك على ربّك، وأيّ خطأ صدَر إليك من رحمِك فاحتسِبه ثوابًا عند الله، واعفُ عن زلاتِهم، وتحمّل أخطاءَهم، فلعلَّ الله أن يثيبك على ذلك، ادْفَعْ بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِى بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِىٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظّ عَظِيمٍ [فصلت:34، 35].
المتواصلون يبارك الله في أعدادِهم، ويبارك الله في مكاسِبهم، ويبارك الله في أحوالهِم كلّها، وأهلُ القطيعة ـ والعياذ بالله ـ يُنزل الله الفشلَ في كلّ أحوالهم، في عددِهم، في رزقِهم، في كلّ أحوالهم ينزل الفشل بينهم، ويمحق الله بركةَ الأعمال والأموال، ويكونون ـ والعياذ بالله ـ متفرّقين، يتسلَّط عليهم كلّ أحد. أما المتواصِلون فهم يدٌ واحدة، متعاونون على البِر والتقوى، متواصلون فيما بينهم، متناصحون فيما بينهم، الأخطاءُ لا تظهر للآخرين، تُدَّارك الأخطاء، وتُصلَح الأخطاء، ويَنصح البعضُ البعض، ويتحابّون في الله، ذلك خلُق الإسلام الذي يدعو إليه، إلى التواصل والمحبّة والتعاون على كلّ خير.
أسأل الله أن يعيننا وإياكم على كلّ خير، وأن يعيذنا وإياكم من نزغات الشيطان.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أنَّ أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي نبينا محمد ، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلّ بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإنَّ يد الله على الجماعة، ومن شذ شذ في النار.
وصلّوا ـ رحمكم الله ـ على محمد امتثالاً لأمر ربكم قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىّ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمَّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وارضَ اللهمَّ عن خلفائه الراشدين...
[1] أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء (3336)، ومسلم في القصاص (1677) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
[2] أخرجه أحمد (4/409-410) (2669)، والترمذي في صفة القيامة (2516) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وصححه الحاكم (3/623)، قال ابن رجب في جامع العلوم والحكم (1/460-461): "روي هذا الحديث عن ابن عباس من طرق كثيرة... وأصح الطرق الطريق التي خرجها الترمذي"، وصححه الألباني في صحيح السنن (2043).
ـــــــــــــــــــ(68/136)
التحذير من المخدرات ومروِّجيها
...
...
2901
...
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
...
...
الكبائر والمعاصي, قضايا المجتمع
...
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
...
...
الرياض
...
...
...
جامع الإمام تركي بن عبد الله
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- نعمة العقل. 2- حياة المؤمن. 3- الساعون في الأرض فسادا. 4- أضرار المخدرات. 5- مروجو المخدرات أشدّ من قطاع الطريق. 6- مزاعم المتعاطين للمخدرات. 7- وجوب التعاون للقضاء على هذه الظاهرة الخطيرة.
الخطبة الأولى
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عباد الله، خلق الله الخلقَ لعبادته، خلقهم لعبادته وحده لا شريك له: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]. سخَّر لهم ما في السموات والأرض جميعًا منه ليستعينوا بذلك على طاعته. كرَّم بني الإنسان فخلقه في أحسن تقويم: لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِى أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ [التين:4]، ياأَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبّكَ الْكَرِيمِ الَّذِى خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ فِى أَىّ صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ [الانفطار:6-8]. كرَّمه بالعقل ليميّز به النافع من الضار، وليكون صفة تميِّزه عن سائر الحيوان. اختصّ من بني الإنسان من كرّمه بالإسلام، وتفضّل عليه بالإيمان، فشرح صدرَه لقبول الحق والعمل به، أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مّن رَّبّهِ فَوَيْلٌ لّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مّن ذِكْرِ اللَّهِ [الزمر:22].
أيها المسلم، حياةُ المؤمن حياةُ خير، حياة سعادة، حياةٌ يَسعد بها في نفسه، وحياة تسعد بها أمتُه، حياة ذلك الإنسان التقيّ المؤمن الذي عرف الحقَّ فعمل به، فلما كمَّل نفسَه سعى في إصلاح واستصلاح الخير للمسلمين، إِنَّ الإِنسَانَ لَفِى خُسْرٍ إِلاَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْاْ بِالْحَقّ وَتَوَاصَوْاْ بِالصَّبْرِ [العصر:2، 3]. ترى ذلك الرجلَ المؤمن يحبّ الخير لإخوانه كما يحبّ لنفسه، ((لا يؤمن أحدكم حتى يحبَّ لأخيه ما يحبُّ لنفسه))[1]، يكره لهم ما يكره لنفسه، لا يرضى بإلحاق الأذى والضرر بهم، لا في دينهم ولا في دنياهم، مترفِّع عن الرذائل، ساعٍ في الفضائل، كلُّ حركاته وتصرّفاته تعود على نفسه وعلى مجتمعه بالخير والسعادة.
أيها المسلم، هكذا تتميّز حياةُ المؤمن التقيّ، حياة المؤمن الصالح، حياة المؤمن الموقن، تتميّز حياته بأنه أسعدَ نفسه، وسعى بتوفيقِ الله في إسعاد مجتمعه، فالناس يأمنون أن يحصل ضررُه، ويأمنون أن ينالَهم على يديه سوء؛ لأنه مؤمن آمن بالله ورسوله واتقى الله في كلِّ تصرفاته.
هذا المؤمن تراه إن اشتغلَ في التجارة فتجارةٌ طيبة وبيعٌ طيب، تجارةٌ مباحة طيّبة تعين المسلمين على الخير، فهو لا يهدِف من كلّ أموره المطامعَ الدنيوية، وإنما يهدِف [إلى] إصلاح نفسه وأمَّته، هكذا المؤمن الذي يرجو الله ويخافه.
ولكن للأسف الشديد يقابل هذا النقاءَ وهذا الطهرَ والصلاح يقابله فئة قد تُحسبُ على الأمة ولكنَّهم أعداؤها داخلاً وخارجًا، هؤلاء المحسوبون على الأمة وهم حربٌ على الأمة في الداخل والخارج، حربٌ على دينها، حربٌ على قيمها وفضائلها، حربٌ على أخلاقها، حربٌ على مبادئها وفضائلها، يسعون جهدَهم في تدمير أنفسهم وأمّتهم علموا أو لم يعلموا.
أيتها الأمة، إن هذا النوع من البشر الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِى الْحياةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا [الكهف:104] وجودُهم ضررٌ على الأمة في حاضرها ومستقبلها، أولئك مروِّجو المخدّرات، الساعون في نشرها في المجتمعات الإسلامية، أولئك الذين فسدت أخلاقهم، وانحطّت قيمُهم، وسعوا في الرذيلة جهدَهم، أولئك شذّاذٌ في المجتمع، أعضاء في المجتمع لا خير فيهم، قد شُلّت من الخير حركاتهم، فحركاتهم في الباطل والعياذ بالله.
أيها المسلم، إن المجتمعات الإسلامية بالأخصّ تشكو من أثر المخدّرات السيئة التي هي تدميرٌ لكيان الأمة، وإفساد لأخلاقها، وسعيٌ في إلحاق الضرر بها، إنها داءٌ عضال، إنه البلاء والعياذ بالله، إن وراءها أعداءُ الإسلام، إن وراء ترويجها أعداء الإسلام في كل آن وحين؛ لأنهم يعلمون أن هذه المخدرات ما حلّت بمجتمع إلا دمَّرت كيانه، وقضت على قيمه وفضائله، وأفسدت الفطرة، وجلبت كلَّ المصائب على الإسلام وأهله.
إذًا فلا يرضى مسلم لنفسه تلك الخصالَ الذميمة، يربأ بدينه من أن يكون مروِّجًا لها، أو متعاطيا لها، أو ساعيًا في بثّها في المجتمع بأيّ وسيلة تكون، يسعى في إبعاد مجتمعه عنها، فلا يكن مساهمًا في ترويجها بأيّ وسيلة كانت. لا شك أن وراءَ ترويجها الأموال الطائلة، ولكن المسلم لا يهتمُّ بهذا، يعلم أن المكاسب من وراء هذا البلاء مكاسبُ خبيثة، مكاسبُ محرمة، مكاسب ضارة خبيثة، وأعظم من ذلك أنه عدوٌّ للإسلام وأهله.
أيها المسلمون، داء المخدرات داءٌ عضال، إن أعداءَ الإسلام من ورائه، ويستعينون بمن ضعف إيمانه من البشر، ومن لا يخاف الله ولا يتقيه ولا يراقبه في أمواله، ويظنّ أن ما يحصل له من مطامع مادية فيها غنى له، وتبًّا لهذا المال الذي مصدره هذا الداء العضال.
أيها المسلم، فليتق المسلم ربَّه من أن يلحق الضرر والأذى بمجتمعه، وليعلم أن تعاطيها أمرٌ محرّم شرعًا، فهي أعظم من المسكر داءً، وأكثر منه بلاء، وكذلك ترويجها وبيعها والسعي فيها والتستّر على أهلها وحمايتهم، كل ذلك من أمور تخالف شرع الله، فإن الله جل وعلا حرَّم على الأمة ما تحقَّق ضررُه، وعظم ضرره وفساده، ولا شك أن المخدرات ضرُرها وشرّها وفسادها استبان لكلّ ذي لبّ، استبان لكل ذي لب ما فيها من الضرر والفساد، إنها تقضي على كلّ خير، إنك إن نظرتَ إليها من حيث تهديدُ الصحة وجدتَها مضِرةً بالصحة، قاضية على قوة الإنسان، قاضيةً على عقله وفكره وتصرفاته. إن نظرتَ إليها اقتصاديًا فهي تمتصُّ الأموال، وينفَق في سبيل الحصول عليها الأموالُ [الطائلة] لمن ابتُلي بها. إن نظرتَ إلى إفسادها للمجتمع فهي داءٌ وبلاء يدمِّر المجتمعَ كلَّه، ويسلبه قوتَه ومعنويته، ويجعله لقمةً سائغة للأعداء. إن نظرتَ إليها من حيث سعيُها في تفكيك الأسر وإهدار كرامتها وأن المتعاطي لها بلاء على نفسه وبلاء على أسرته، بلاء على زوجته وأولاده وبناته. إن نظرتَ إليها وهي تقطع الغيرةَ من قلب الإنسان المتعاطي لها، فربما جعل عرضَه وسيلةً للحصول عليها. إنها تُفقد الإنسان قيمتَه، وتفقِده معنويته، وتُفقده كلَّ خير، فهي بلاء ومصيبة. إذًا فالمسلم يتحاشاها لنفسه، ثم إذا تصوَّر ضررَها علم أن السعيَ في ترويجها ونشرها بين المجتمع فسادٌ عظيم وحربٌ لله ورسوله. إذا كان الله جل وعلا قد حكم على قطّاع الطرق بأنهم محاربون لله: إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِى الأرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مّنْ خِلَافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأرْضِ [المائدة:33]، فكيف بمروِّجي المخدّرات؟! هؤلاء قطّاع الطرق إنما غايةُ أمرهم تهديدُ الأمن أو نهبُ الأموال، لكن من يفسدون الأخلاقَ ويدمّرون كيان الأمة ويقضون على عقولها وأفكارها هؤلاء أولى أن يكونوا حربًا لله ورسوله، هؤلاء المفسدون الضالون.
فالمسلم عندما يجتنبُها خوفًا من أضرارها وخوفًا من مفاسدها، فهو لا يرضاها لأمّته، لا يرضاها لمجتمعه المسلم، دينُه يمنعه من ذلك، ويحول بينه وبين أن يكون مؤذِيًا ضارًّا بالأمة، هو يسعى في الخير جهده، أما أن يكون مروّجًا لها أو متستِّرًا على مروِّجيها أو متغاضيًا عنهم أو معينًا لهم أو مسهّلاً لمهمّتهم، فإن ذلك حربٌ لله ورسوله، وعداءٌ لله ورسوله، وسعي في نشر الفساد في الأرض. فليتق المسلم ربه، وليتصوَّر المسلمون أن هذا البلاءَ مصيبة عظيمةٌ على الأمة، مصيبة على المجتمعات المسلمة.
إن متعاطيها يزعم أنها تُذهب همومَه المتراكمة وأحزانه المتتابعة، وإن ذلك لمِن سوء التصوّر، فالهموم والأحزان لا يزيلها سلبُ العقل، وإنما يزيلها الصبرُ والثبات على الحق. إن متعاطيها يبقى أحيانًا يومًا أو بعض يوم أو أيامًا وهو لا يشعر بمن حوله، ولا يدري في أي حال كان، وإنما شخصٌ ترى صورتَه ولكن قد فقد معنويتَه وحياته الحقيقية، فيا خسارة على الإسلام وأهله.
فيا أمة الإسلام، ليتق كلُّ مسلم ربَّه في نفسه، وليتّق المسلم ربّه في أمته، وفي مجتمعه المسلم، وليعلم أن المكاسبَ الناتجة من وراء هذا البلاء مكاسبُ خبيثة، وإن عظمت وكثُرت فلا خير فيها؛ لأنها ناتجة عن أمر محرّم، قُل لاَّ يَسْتَوِى الْخَبِيثُ وَالطَّيّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ [المائدة:100].
إن ما نسمعه من غسيل الأموال معظمُ ذلك بأسباب هذه المخدّرات، يروِّجونها ويتعاونون مع بعض من لا إيمان عنده، فيتَّخذ تلك الأموالَ باسمه لكي يصدِّرها إلى مكان آخر، وكلّها نتيجة لهذا الداء الخبيث. فليعلم الإنسان أن ما ناله من مكاسبها فإنّه مكسب حرام عليه، ضررٌ وإيذاء، ومكسب خبيث حرام، مُمْحق للبركة في العمر والعمل. وإنَّ تعاون المسلمين فيما بينهم وتكاتفَهم فيما بينهم وشعورَهم بهذا الضرر العظيم هو الذي يؤدِّي بتوفيق من الله إلى قطع خط الرجعة أمام أولئك الأراذل الساعين في الفساد في الأرض وتدمير الأمة.
فلنتق الله في أنفسنا وفي مجتمعنا المسلم، فإن المجتمعَ أمانة في عنق كل مسلم، أن لا يسعى في إلحاق الضرر بهم بأيّ وسيلة من وسائل الشر، ولا سيما المخدرات، فإنها من أعظم المفاسد وأكبرها.
فلنحذر ـ أيها المسلمون ـ من ذلك، وقد نهى النبي عن كل مسكر ومفتِّر، وهذا الداء الخبيث تصوَّر الناسُ ضرره، علموا خطرَه وتصورا مفاسده، وكشف الطبّ الحديث عن أضراره، لكن أحيانًا تعمى البصائرُ في سبيل الحصول على المال والعياذ بالله، أو تعمى بصائر من يستعمله فرارًا من كذا أو كذا فيقع في المحذور.
فليتق المسلمون ربَّهم، وليكونوا أعوانًا على البر والتقوى، لا أعوانًا على الإثم والعدوان.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ آلْعِقَابِ [المائدة:2].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني إياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في الإيمان (13)، ومسلم في الإيمان (45) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عباد الله، يقول الله جل جلاله: وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا [النساء:29].
إن متعاطيَ المخدرات قاتلٌ لنفسه، قاتل لمعنويَّته، قاتلٌ لكرامته، قاتل لكلِّ نزعات الخير في نفسه، قاتل لكلِّ خير، إنه في الحقيقة يتعاطى ما فيه ضررُه المتحقّق وبلاؤه الذي هو على يقين منه، لكن سبحان من يضلّ من يشاء، أَفَمَن زُيّنَ لَهُ سُوء عَمَلِهِ فَرَءاهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاء [فاطر:8].
فعلى المسلمين اليقظةُ في أنفسهم، وتحذير أبنائهم وبناتهم، والتعاون على الخير، وأن لا يدَعوا لهذا المروّج قرارًا، لا يتستّروا عليه، ولا يرحموه، ولا يشفِقوا عليه، فضلاً أن يعينوه أو يساعدوه، إنه يأتي بما يضرّ ويؤذي ويفسد، فالمسلمون جميعًا يكونون [على] يقظة من هذا الخطر العظيم، وحربًا على أولئك المفسدين، وسعيًا في كشف مخطَّطاتهم وهتك أستارهم، فلا يُرحمون ولا يُتغاضى عنهم، فهم شرٌّ وبلاء وفسادٌ عظيم، ولا يمكن التسامح والتساهلُ معهم والتغاضي عنهم أو رحمتهم أو الشفقة عليهم، لماذا؟ لأنهم يروِّجون ما فيه الضرر، وما فيه البلاء، وما فيه الإفساد للأفراد والمجتمعات، فالإسلام يدعو المجتمع المسلم إلى أن يكونوا أهلَ يقظة وحذر من الشر وأهله، فمن أعانهم أو سهَّل مهمَّتهم فإنما يتعاون معهم على الإثم والعدوان، والمسلم بريء من هذه الأخلاق السيئة.
أسأل الله أن يحفظنا ومجتمعَنا ومجتمعات المسلمين عامةً من هذا البلاء العظيم.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله على الجماعة، ومن شذ شذ في النار.
وصلوا ـ رحمكم الله ـ على محمد بن عبد الله كما أمركم بذلك ربكم قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىّ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين...
ـــــــــــــــــــ(68/137)
...
عناية الإسلام بالحياة الزوجية
...
...
2902
...
الأسرة والمجتمع, فقه
...
...
النكاح, قضايا المجتمع
...
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
...
...
الرياض
...
24/4/1423
...
...
جامع الإمام تركي بن عبد الله
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- فضل تدبر القرآن الكريم والعمل به. 2- عناية القرآن الكريم بالحياة الزوجية. 3- أهمية العلاقة بين الزوجين وخطورتها. 4- وصية النبي بالنساء. 5- حق المرأة على زوجها. 6- حق الرجل على امرأته. 7- ضرورة أداء الحقوق والواجبات والتمسك بآداب القرآن. 8- من أسباب الخلافات الزوجية.
الخطبة الأولى
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عباد الله، أنزل الله كتابَه العزيز، وأمر العبادَ بتدبّره والعمل بمقتضاه، ففي تدبّره والعمل بمقتضاه السعادةُ في الدنيا والآخرة، قال تعالى: كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لّيَدَّبَّرُواْ ءايَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُو الألْبَابِ [ص:29]، وقال جل جلاله: وَهَاذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الأنعام:155].
ففي تدبّر القرآن السعادةُ والهدى، وفي تدبّر القرآن الرحمةُ والخير، فالأمة تسعَد عندما يكون كتاب الله نظامَ حياتها، تحكِّمه وتتحاكم إليه، وتعمل بأوامره وتبتعد عن نواهيه، وتتأدَّب بآدابه، وتقف عند حدوده، فعند ذلك تنال السعادة في الدنيا والآخرة، فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَاىَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى [طه:123]. أجل، إن اتباعَ القرآن العزيز عصمةٌ من الخطأ والضلال، فمن اتَّبع هذا القرآن وحكَّمه وتحاكم إليه نجا من الضلال والشقاء.
وهو نورٌ تهتدي به البشرية فيخلِّصها من ظلمات الجهل والضلال، قال تعالى: أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءانَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا [محمد:24]، وقال: قَدْ جَاءكُمْ مّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ يَهْدِى بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِراطٍ مُّسْتَقِيمٍ [المائدة:15، 16].
إنما تُصاب البشرية في معتقداتها وفي أخلاقها وسلوكها، وإنما يصاب الفردُ أيضًا في نفسه في علاقته مع ربه وصلته مع أهله وصلته مع الناس أجمعين، إنما يصاب بالبلاء عندما يتخلى عن العمل بالقرآن، فتطبيق آداب القرآن سببٌ للسعادة والهناء في الدنيا والآخرة، والإعراض عنه سببٌ للشقاء في الدنيا والآخرة.
أيها المسلم، كتاب الله يهدي إلى كل خير، مَّا فَرَّطْنَا فِى الكِتَابِ مِن شَىْء [الأنعام:38]، وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لّكُلّ شَىْء وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ [النحل:89].
أيها المسلم، خذ مثلاً العلاقةَ بين الزوجين وضمانَ حقِّ كلٍّ منهما، قد جاء القرآن بما يكفل ذلك، وبما يُنهي كلَّ نزاع، وبما يحقِّق للزوجين السعادة الزوجية في هذه الدنيا، وبما يضمن اتفاقَ الكلمة، ونشْء الذرية في بيت تُرفرف عليه أعلامُ السعادة والهناء، ولكن عندما يُعرض الفرد عن كتاب الله ولا يطبِّق آدابَ القرآن عند ذلك يقع البلاء.
أيها المسلم، العلاقة بين الزوجين أمرٌ مهمٌّ، فإنَّ استقامتها سببٌ لاستقامة الحال وعمارةِ المنزل وانتظامِ شأن الولد وحياة الأولاد بين الأبوين المتعاونين في سبيل إصلاح الأولاد وتربيتهم التربية الصالحة. وعندما يعطِّل الناس آدابَ القرآن ولا يطبقونه تشقى الحياةُ الزوجية، فتبقى المرأة أرملة والزوجُ أيّمًا بلا زوجة، والولد يتشتت، ويُصاب الأولاد بالعُقد النفسية بين بعدهم عن أبيهم تارة وبين بعدهم عن أمهم تارة أخرى. وكلُّ ذلك من عدم تطبيق أدب القرآن في هذا.
الله جل جلاله في كتابه العزيز وضع للزوجين نظامًا إنْ هما سارا عليه فإنَّ ذلك سبب لسعادتهما واجتماعهما وتآلف قلوبهما، قال تعالى: وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِى عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة:228]، فالجزء من هذه الآية بيَّن الله فيه أن للمرأة حقًا كما عليها حق، وللرجل حق على امرأته كما له عليها حق، فله عليها حق، ولها عليه حق، فإذا قام الزوجُ بالواجب عليه وقامت المرأة المسلمة بالحق الواجب عليها وتعاون الجميع على ذلك فعند ذلك تكون الحياة الزوجية حياةً طيبة سعيدة.
أيها المسلم، سنة محمد أرشدت الزوجين أيضًا إلى هذا المنهج القويم.
فأولاً: نجد في سنة رسول الله ترغيبَ الأزواج في القيام بحق النساء، ووصيتَهم بذلك، فرسولنا يقول: ((استوصوا بالنساء خيرًا، فإن المرأة خُلقت من ضلع، وإن أعوجَ ما في الضلع أعلاه، فإن ذهبتَ تقيمه كسرتَه، فاستوصوا بالنساء خيرًا))[1]، ويقول: ((المرأة كالضلع إن أقمتها كسرتَها وإن استمتعت بها استمتعت بها وفيها عوج))[2]، فأخبرنا عن المرأة وضعفِها وعجزها وأنها خُلقت من ضلع أعوج, وأنَّ الرجلَ يجب أن يكون أقوى منها تحمّلاً، أشدَّ منها صبرًا وتحملاً، لا يعاتِب على كلّ قليل وكثير، ولا يأمَل الكمالَ المطلق، وإنما يقبل منها ما جاء، ويتحمَّل بعضَ ما فات، فبذا تستقيم الحياة، وفي لفظ: ((ولن تستقيم لك على طريقة))[3]، فهي لا تستقيم لك على كلّ ما تريد، لكن الزوج هو أقوى وأشد تحملاً وصبرًا وعلاجًا للمشكل.
ويبين أن المرأة المؤمنة قد يكون منها شيء من الأخلاق التي لا يرضاها الزوج، وهي أخلاق لا تتنافى مع الشرف والفضل والفضيلة، ولكن طباع بعض الناس، فيقول : ((لا يفرك مؤمن مؤمنة، إن كره منها خلقًا رضي منها آخر))[4]، فالمرأة المؤمنة قد تكره منها شيئًا من الطباع، ولكن في مقابل ذلك ترضى بأخلاق حسنة وسيرة طيبة، فليكن ما لديها من خلق كريم وعمل طيب مقابلَ ما قد ترى منها من بعض المخالفات.
ويبين أيضًا كيف يتعامل الرجلُ مع امرأته، يسأله معاوية بن حيدة رضي الله عنه قائلاً: يا رسول الله، ما حقُّ امرأتنا على زوجها؟ قال: ((أن تطعمَها إذا طعمتَ، وتكسوَها إذا اكتسيتَ، ولا تضربِ الوجهَ، ولا تقبِّح، ولا تهجرْ إلا في البيت))[5] هكذا يوصي هذا الصحابي، أنك تنفق عليها، ((تطعمها إذا طعمت، تكسوها إن اكتسيت))، أيضًا إذا أردتَ التأديبَ فكن واقعيًا مؤدّبًا، لا تضربِ الوجه فهو أجملُ أعضائها، والضرب فيه إهانة، ((ولا تقبِّح)) لا تخاطبها بالألفاظ الشنيعة البذيئة الساقطة، تقولُ لها: قبَّحك الله، فكيف بمن يلعن أباها وأمَّها؟! وكيف بمن يسبّها ويعيبها؟! وكيف بمن يقول فيها ما هي براء منه؟! إنَّ غضبَك أحيانًا قد يحمِلك على شيء، لكن ليكن عندك تماسكٌ أثناءَ الغضب، وثباتٌ أثناء الغضب من أن يزلَّ لسانك بكلمات تندم عليها ولا ينفعك الندم.
ويبيِّن في حديث آخر حقَّ الزوجة على زوجها وحقَّ الزوج عليها فيقول: ((إن لكم على نسائكم أن لا يوطِئن فرشَكم أحدًا تكرهونه، ولا يأذنَّ في بيوتكم لمن تكرهونه، ولهنَّ عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف))[6].
أيها المسلم، هكذا أرشد الإسلام الزوجَ كيف يتعامل مع المرأة، وكيف يصبر، وكيف يتحمَّل، وكيف يعالج أيَّ نزاع.
ثم في مقابل ذلك يرشد المرأةَ إلى طاعة زوجها، والسمع والطاعة له في المعروف، والتأدُّب معه، وتنفيذ أوامره، فيقول مبيِّنا عظيم حقّ الزوج على امرأته لمَّا سجد له معاذ بن جبل نهاه، فقال: رأيتُ النصارى يسجدون لبطارقتهم، فقال : ((لو كنت آمرًا أحدًا بالسجود لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها لعظم حقه عليها))[7]، ويقول مبينًا أيضًا ما للزوج على امرأته: ((إذا أغضبتِ المرأة زوجَها في الدنيا قالت زوجته من الحور العين: لا تؤذيه قاتلك الله، فإنما هو عندك دخيل، يوشك أن يفارقك إلينا))[8]، ويحذِّر المرأةَ المسلمة من عصيان الزوج فيما يطلب منها من متعة فيقول : ((إذا دعا الرجلُ امرأتَه لفراشه فلم تجبه فبات غضبان عليها لعنتها الملائكة حتى تصبح))[9].
أيها المسلم، إن بتدبّر القرآن والسنة يعلم الزوجُ ما له وما عليه، وإن قيامَ كلٍّ منهما بما يجب عليه هو الذي يحقّق السعادة، وهو الذي يرسي دعائمَ الاستقرار في المنزل، وهو الذي يجعل الأبوين يقومان بالواجب المُلقى عليهما نحوَ أولادهما، فينشأ الولدُ وتنشأ البنتُ نشأةً صالحة بين أبوين مسلمين، محترمًا بعضهم بعضًا، فتنشأ البنت تحترم زوجَها، وينشأ الابن يحترم أمَّه وأباه، وإنما يُصاب النشء بالعُقد النفسية عندما يشاهد الأطفال الأمَّ والأب وما بينهما من شِجار ونزاع وتبادلٍ للتّهم وتراشقٍ بالكلمات البذيئة التي لا خير فيها، ولا تحقِّق خيرًا، وإنما تنشر سوءًا وبلاء، وَقُل لّعِبَادِى يَقُولُواْ الَّتِى هِىَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوّا مُّبِينًا [الإسراء:53].
فالتعامل بالأخلاق الكريمة بين الزوجين واحترامُ كلٍّ منهما لصاحبه وقيامُ كلّ منهما بالواجب عليه هو الأمر المطلوب من المسلمين، هذا الذي دعا إليه القرآن، وأرشدت إليه سنة المصطفى .
أيها المسلم، إن آدابَ القرآن هي الآداب الحميدة، وهي الآدابُ التي تحقِّق السعادة، فنسأل الله أن يرزقنا وإياكم الاستقامةَ على الهدى، والعملَ بهذا القرآن، إنه على كل شيء قدير.
يقول الله جل وعلا: وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِى عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكُيمٌ [البقرة:228].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء (3331)، ومسلم في الرضاع (1468) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بنحوه.
[2] هذا اللفظ أخرجه البخاري في النكاح (5184)، ومسلم في الرضاع (1468).
[3] هذا أحد ألفاظ مسلم للحديث السابق.
[4] أخرجه مسلم في الرضاع، باب: الوصية بالنساء (1469) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[5] أخرجه أحمد (4/447)، وأبو داود في النكاح، باب: حق المرأة على زوجها، والنسائي في الكبرى (9171)، وابن ماجه في النكاح (1850) من حديث معاوية القشيري رضي الله عنه، وصححه ابن حبان (4175)، والحاكم (2/187-188)، والدارقطني كما في التلخيص الحبير (4/7)، وصححه الألباني في الإرواء (2033).
[6] جزء من خطبة النبي يوم عرفة، أخرجه مسلم في الحج (1218) من حديث جابر رضي الله عنهما، وليس فيه قوله: ((ولا يأذنَّ في بيوتكم لمن تكرهونه))، وهو عند الترمذي في الرضاع (1163)، وابن ماجه في النكاح (1851) من حديث عمرو بن الأحوص رضي الله عنه، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه (1501).
[7] أخرجه أحمد (5/227)، والطبراني في الكبير (20/174) من طريق أبي ظبيان عن معاذ رضي الله عنه، وهذا سند منقطع أبو ظبيان لم يسمع من معاذ، وللقصة شاهد عند أحمد (4/381)، وابن ماجه في النكاح (1853) من حديث عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه، وصححه ابن حبان (4171)، وحسنه الألباني في الإرواء (7/56)، وللفظ المرفوع شواهد كثيرة منها حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند الترمذي في الرضاع، باب: ما جاء في حق الزوج على المرأة (1159)، والبيهقي (7/291)، قال الترمذي: "حسن غريب من هذا الوجه"، وصححه ابن حبان (4162). وقد استوفى الألباني تخريجه في الإرواء (1998).
[8] أخرجه أحمد (2/466)، والترمذي في الرضاع (1174)، وابن ماجه في النكاح (2014) من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه بنحوه، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب، لا نعرفه إلا من هذا الوجه"، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (173).
[9] أخرجه البخاري في بدء الخلق، باب: ذكر الملائكة (3237)، ومسلم في النكاح، باب: تحريم امتناعها من فراش زوجها (1736) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، كما يحبّ ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليماُ كثيرًا إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عباد الله، من الأسبابِ التي تثير النزاعَ بين الزوجين، وتعمِّق هذا النزاع، وتجعله نزاعًا قويًا عميقًا، من أسباب ذلك أمور:
فمن أهمها تدخُّل أولياء الزوجين في اختلاف وجهة النظر بين الزوج وزوجته، فربما تدخّلٌ من أولياء المرأة، وتجسيد للأخطاء، ومحاولةُ إيقاد نار الفتنة بين الزوج وزوجته، فأولياءُ المرأة يقفون معها في كلّ ما تدَّعيه، حقًا كان أو باطلاً، صدقًا كان أم كذبًا، المهمُّ أنهم يقفون مع ابنتهم من غير مراعاة للزوج وحقوقه، وهل البنت محقَّة فيما تقول أم غير محقة؟ وهل يمكن أن هذا الاختلاف يعالَج بالطرق المناسبة أم لا؟ المهمّ أنهم يقفون مع البنت دون مراعاة لحقِّ الزوج، وربَّما وقف أولياءُ الزوج مع ابنهم دون مراعاة لحقّ الزوجة، وهل ابنُهم صادق فيما يدعيه أم ابنهم غير صالح لهذه المرأة؟ فهذا التدخّل من الأولياء مما يسبّب انتشارَ الاختلاف، مما يسبّب عمقَ الاختلاف وتطوّره، ولكن لو كان أولياء الزوجين ولو كان الأهلون من الزوجين ساعين جميعًا في التوفيق واجتماع كلمتهما والحرص على تضييق شقة النزاع لكان خيرًا، ولذا قال الله: وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ حَكَمًا مّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا [النساء:35]، وقال: وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ [النساء:128]. إذًا فالأهلون أهلُ الزوج والزوجة لا بد أن يسعيا في الإصلاح والتوفيق ما وُجِد لذلك سبيل.
ومن أسباب النزاع أيضًا والاختلاف تسلّطُ بعض الأزواج على مال امرأته، وعلى مرتَّب امرأته، والتحكّم فيه، وأخذُ معظمه أو كلّه، وظلمُها بذلك، من غير مراعاة للشعور، وهذا أيضًا خطأ، فمالها هي أحقّ به، وأنت مُلزمٌ بالنفقة والقيام بالواجب، والتسلّطُ على الأموال ليس من المباح، بل هو من الظلم، فلا بد من إعطائها حقَّها، إلا بطيبة نفسٍ منها، فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَىْء مّنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَّرِيئًا [النساء:4].
ومن أسباب هذا الاختلاف ما يحصل أحيانًا من بعض الأزواج، فبعضُ الرجال هدانا الله وإياهم للخير، وبصَّرنا وإياهم فيما يعود علينا بالنفع، بعضُ الأزواج لديه هجرانٌ لامرته، مثلاً في أيام إجازته يستغلّها في البعد عن امرأته، وربَّما ابتعدَ الشهر والشهرين دون أن تعلمَ المرأة عن زوجها وحاله، وربما لا يريد استصحابَ زوجته معه ولا سفرَها معه، ويريد كما يقول أن يأخذ حريتَه في كلّ ما يأتي ويذر، وأن وجودَ المرأة معه تأخذ على يده وتمنعه من بعض التصرُّفات الخاطئة، فهو يريد شُللا يمشي معها دون أن يكون له ارتباطٌ بامرأته، تصحبه فيستثقل سفرَها معه، ويحاول البعدَ عنها مدةً من الزمن، وربما كان هذا السفر مقتطعًا من نفقة البيت والأولاد، ولكن عمَى البصيرة يحول بين الناس وبين التصرفات الطيبة.
وبعضُ الأزواج ـ هدانا الله وإياهم ـ وإن لم يسافر لكن معظم الليل لا تراه في منزله، ولا سيما مساءَ الأربعاء ومساءَ الخميس والجمعة، لا يكون متواجدًا في المنزل، ولا يهتمّ بالمنزل، عدَّة ليال من الأسبوع في لهوه ولعبه وسهره مع زملائه وأصدقائه، أما المرأة والبيت فمهجور مهما كان فيه من الظروف. وهذا ـ يا أخي ـ من الأخطاء السيئة.
وبعضٌ من النساء أيضًا قد يخطئن، فهناك الشكوك الكثيرة من بعض النساء، وهناك التقصّي الذي لا مبرِّر له، وهناك الوساوسُ التي لا داعيَ لها، كما أن الرجلَ يجب أن يكون متَّزنًا، فإياه والشكوك وظنون السوء التي بناها على غير هدى، وإنما هي وساوس وتدخُّلات من بعض جلساء السوء، ليفسدوا بين الزوجين ويفصم عرى المودة بينهما.
فليتق الرجلُ ربَّه في امرأته، ولتتقي المرأة ربَّها في زوجها، وليتَّق أهلُ الرجل وأهل المرأة ربَّهم في الزوجين، وليحرص كلٌّ على جمع الكلمة وردء الصدع ووحدة الصف، فهذا هو المطلوب، نسأل الله أن يعيننا جميعًا على كل خير.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يدَ الله على الجماعة، ومن شذ شذ في النار.
وصلوا ـ رحمكم الله ـ على نبيكم محمد ، حيث أمركم ربكم بذلك قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىّ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين...
ـــــــــــــــــــ(68/138)
فتنة الدعوة لقيادة المرأة للسيارة
...
...
4393
...
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
...
...
الفتن, المرأة, قضايا المجتمع, قضايا فقهية معاصرة
...
عبد الله بن محمد الطوالة
...
...
جدة
...
19/4/1426
...
...
مسجد عبد الوهاب عبد الواسع
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- التحذير من الفتن. 2- خطورة فتنة النساء. 3- القواعد التي ينبني عليها منع المرأة من قيادة السيارة. 4- مفاسد قيادة المرأة للسيارة. 5- مقالة نسائية في كشف فتنة قيادة المرأة للسيارة.
الخطبة الأولى
يقول الله تعالى: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [الأنفال:25].
إن الفتن ـ أيها الأحبة ـ لو نزلت فإنها لا تخصّ صاحبها، بل قد يُخشى عليه وعلى غيره منها، وهل هناك فتنة أشد وأخطر من فتنة النساء؟! وما أدراكم ما فتنة النساء؟! يقول النبي : ((ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء)).
عباد الله، كثر حديث الناس في الصحف والقنوات والمنتديات عن قيادة المرأة السعودية للسيارة، وكما بيّن الشيخ ابن عثيمين رحمه الله فالحكم على هذه المسألة ينبني على قاعدتين مشهورتين بين علماء المسلمين:
القاعدة الأولى: أن ما أفضى إلى محرم فهو محرم.
والقاعدة الثانية: أن درء المفسدة إذا كانت مكافئة لمصلحة من المصالح أو أعظم مُقَدَّم على جلب المصالح.
ثم يقول في نهاية الفتوى: "واعلم أنني بسطت القول في هذا الجانب لما حصل من المَعْمَعة والضجّة حول قيادة المرأة للسيارة والضغط المكثّف على المجتمع السعودي المحافظ على دينه وأخلاقه؛ ليستتبع قيادة المرأة للسيارة ويستسيغها. وهذا ليس بعجيب إذا وقع من عدو متربّص بهذا البلد الذي هو آخر معقل للإسلام يريد أعداء الإسلام أن يقضوا عليه، ولكن هذا من أعجب العجب إذا وقع من قوم مواطنين ومن أبناء جلدتنا يتكلمون بألسنتنا ويستظلون برايتنا، قوم انبهروا بما عليه دول الكفر من تقدم مادي دنيوي، فأُعجبوا بما هم عليه من أخلاق تحرروا بها من قيود الفضيلة إلى قيود الرذيلة، وصاروا كما قال ابن القيم في نونيته:
هربوا من الرِّقِّ الذي خُلِقوا له وبُلُوا برِقِّ النفس والشيطان
وظن هؤلاء أن دول الكفر وصلوا إلى ما وصلوا من تقدم مادي بسبب تحررهم هذا التحرر، وما ذلك إلا لجهلهم أو جهل كثير منهم بأحكام الشريعة وأدلتها الأثرية والنظرية وما تنطوي عليه من حِكم وأسرار تتضمن مصالح الخلق في معاشهم ومعادهم ودفع المفاسد، فنسأل الله لنا ولهم الهداية والتوفيق لما فيه الخير والصلاح في الدنيا والآخرة".
والمتأمّل للآثار الناتجة عن قيادة المرأة للسيارة بعدلٍ وتجرّد وواقعية يجد أن مفاسدها أعظم بكثير من مصالحها، ومن مفاسد قيادة المرأة للسيارة الآتي:
إن قيادة المرأة للسيارة تفضي ولا بد إلى كثرة خروج المرأة من البيت لحاجة وبدون حاجة؛ لكون السيارة تحت تصرّفها متى شاءت، وهذه مفسدة كبرى، بل هي أم المفاسد؛ لأن الواجب والأصل في المرأة أن تَقَرّ في بيتها، ولا تخرج إلا لحاجة، قال تعالى مخاطبًا زوجات النبي : وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ [الأحزاب:32]، فإذا كان هذا في حق أزواج النبي ونساء العهد النبوي فكيف بغيرهن من النساء في العصور المتأخرة؟!
وكثرة خروج المرأة يزيد من شعورها بإمكانية الاستقلال عن قوامة الرجل خلافًا للتوجيه الرباني: الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ [النساء:34]، ومن ثَمّ لا يستطيع زوجها أو وليّها أن يضبطها أو أن يقوم على تصرفاتها، ولهذا فإن نسبة الطلاق ستزيد حتمًا لتوفر الأسباب المفضية لذلك، وهذا من أكبر المفاسد، فكيف سيكون الحال بامرأة مطلّقة ومعها سيارة؟! وفي كثرة خروج المرأة من منزلها تعرّض لأعين الناس وألسنتهم، لا سيما المرأة المتزينة، وهو طبع غالب النساء. ومع كثرة الخروج واستمرائه ستضطر للحديث مع الرجال عند المحطات ونقاط التفتيش أو عندما تتعطل سيارتها أو في الورش ومحلات الزينة وقطع الغيار، وفي هذا من الفتنة ما فيه، بها أو لها.
هذا خلاف كثرة الشكوك بين الزوجين، خصوصًا كلما حصل تأخير في الرجوع إلى البيت أو خروجها بدون إذن أو إذا خرجت متزيّنة، وإذا كثرت الشكوك بين الزوجين فلا تسأل عن سوء العلاقة بينهما.
وإذا لم يحدث هذا فسيحدث عكسه، وهو الدِّياثة التي ستنشأ تدريجيًّا عندما يتعود الزوج أو الولي على كثرة خروج موليته وتطبُّعه وتطبّعها على ذلك، والنتيجة الحتمية لذلك موت الغيرة وانعدام الحياء، والحياء أبرز خصائص المؤمنة.
وفي قيادة المرأة للسيارة إذهابٌ للكثير من حيائها؛ لأنها ـ كما ذكرنا ـ ستتعرّض للكثير من المواجهات والمماحكات مع الرجال والشباب بالذات، مما يضطرها للخروج عن صمتها وحيائها كما هو مشاهد فيمن يعملن في وظائف يكثر فيها التعامل مع الرجال كالمستشفيات وغيرها، فالجميع يرى ويسمع منهن ما لا يمكن وصفه وتصنيفه إلا بقلّة الحياء.
وفي خروج المرأة لوحدها ما يعرّضها لشرور ضعاف النفوس والتخطيط للإيقاع بها كُرهًا أو اختيارًا، مستغلّين ضعفها وبُعدها عمن يحميها، وإذا كانت المرأة لا تسلم من التحرّش وهي مع محارمها أو بين الناس في الأماكن العامة والأسواق، فكيف إذا كانت في السيارة والطرقات وحدها؟!
وهنا قد يقول قائل: إن فتاة الغرب لا يتعرّض لها أحد أثناء قيادتها للسيارة! فالجواب: إن الواقع والإحصائيات خلاف ذلك تمامًا، ولو سلّمنا بصحة هذه المعلومة فإن ما يُراد من الفتاة الغربية مُهَيّأ وقريب والوصول لها سهل وميسور؛ فانتفى الداعي للأذية والتخطيط.
ثم إن كثرة الخروج من المنزل يترتب عليه تفريط في حق البيت والأولاد، ومن المعلوم أن العناية بشؤون البيت هي الوظيفة الأساسية للمرأة المسلمة، ونحن نرى الآن ثمرات خروج المرأة للعمل لفترة بسيطة محددة، بينما المرأة التي لزمت بيتها قد كفاها الله ذلك كله. فهل وَعَينا عظمة وحكمة هذا التوجيه الرباني: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [الأحزاب:32]؟!
ومن المفاسد أن قيادة المرأة للسيارة لا بد أن يؤول إلى كشف الوجه ونزع الحجاب، ومن ينازع في هذا فهو يسخر منا أو من نفسه، قال تعالى: وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِين إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [البقرة:168، 169]. بل إن حكومات بعض البلدان التي تسمح للمرأة بالقيادة منعت المنقّبة والمبرقعة من القيادة رسميًا؛ حتى تُسفِر عن وجهها كاملاً أثناء القيادة. وحجج المنع جاهزة وكثيرة، ولو كان هذا الأمر في بداية السماح لرُفِض تمامًا، لكنها الفتن المظلمة يرقّق بعضها بعضًا، كلما جاءت فتنة مهّدت الطريق للفتنة التي تليها. نسأل الله أن يعافينا منها كلها، وأن يصرف عنا كل الفتن، ما ظهر منها وما بطن.
وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاء وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور:31].
ومن المفاسد المتوقعة أن نسبة حوادث السير والدهس ستزيد إلى 60 في المائة، فما الحل؟! وأن نسبة الخطف والاغتصاب للفتيات ستزيد إلى 70 في المائة، فما الحل؟! وأن نسبة هروب الفتيات التي بدأت تنتشر هذه الأيام ستزيد إلى 60 في المائة، فما الحل؟! وأن زحمة الشوارع ستزيد إلى 100 في المائة بسبب أنه لا أحد من الجنسين سيستغني عن سيارته، فما الحل؟!
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النور:19].
الخطبة الثانية
وفي مقال رائع للأخت لبنى الطحلاوي تقول وفقها الله: "بداية أنا لست متشدّدة ولا متطرّفة، لقد تلقّيت كافة مراحل دراستي حتى تخصصي الجامعي في دول منفتحة للغاية عربية وغربية. كثيرًا ما تُطرح تساؤلات حول موضوع قيادة المرأة السعودية للسيارة، ولكي أجيب على هذا الأمر بكل موضوعية لا بد أن أذكر عدة حقائق... ما سأطرحه من تقارير وإحصائيات هي لا تعبر عن رأيي الشخصي، بل هي آخر ما صدر عن هيئات عالمية رسمية، مثل هيئة اليونسكو ومنظمات حقوق المرأة في العالم، وهذا أمر معلن بشكل رسمي، ولم أقم بجهد كبير كي أطلع عليها. ولكي أتحدث أيضًا بموضوعية في هذا الأمر سأفترض حُسن النوايا من قبل من يطرحون هذه القضية، بالرغم أن هذا يخالف قناعاتي الشخصية. إذًا عليَّ أن أقول لمن يطرحون هذه القضية: أنتم إنسانيون للغاية، تحملون كافة أعباء وهموم المرأة على عاتقكم، وكل ما يتعلق بها من قضايا ومسؤوليات، فهي شغلكم الشاغل بالفعل، ولكن هل مشكلات وقضايا المرأة في العالم جميعها حُلّت وأصبحت في أحسن حال، فلم يبق غير مسألة قيادة السيارة؟! وهل قيادة السيارة غاية أم وسيلة في حدّ ذاتها؟! وما هي القيمة العظيمة التي تعطيها رخصة القيادة للمرأة حتى نقول: إن المرأة السعودية حُرِمت منها؟! وهل لديكم أدنى فكرة عن وضع النساء في العالم؟!
إن المرأة في العالم تتعرّض للاعتداءات الجسدية مثل الضرب والاغتصاب، وأكثر دول العالم تحضّرًا تتربّع على أعلى القائمة في ذلك وفق تقارير رسمية، وأكثر البائعات في المحلات العامة والممرّضات والعاملات في كثير من القطاعات في أوروبا وأمريكا من النساء للتوفير في الإنفاق؛ لأن راتبهن أدنى من الرجل، بل يقارب نصف راتب الرجل الذي يمارس نفس المهنة. ومافيا البغاء مُجَنِّدة أكثر من تسعة ملايين امرأة في أمور الدعارة والبغاء، 95 في المائة منهن يعملن مجبَرات ومكرَهات وفق آخر إحصائيات اليونسكو التي صدرت منذ عدة أشهر. هذا الوضع العالمي بشكل مختصر لمن يهتمون بشأن المرأة.
أما وضع المرأة في البلاد العربية وفق آخر التقارير الرسمية ف في إحدى الدول العربية أعلنت في شهر يوليو الماضي أن محاكمها تشهد اثني عشر ألف قضية إثبات نسب وبنوّة نتيجة الزواجات السرية، ودولة عربية أخرى أعلنت أنها تواجه مشكلة تفاقم عدد الأمهات العازبات، والأمر بات يشكل مشكلة في المجتمع؛ نظرًا لما تعانيه هؤلاء النساء وأطفالهن، وما سيؤول إليه الأمر في المستقبل، ودولة عربية ثالثة مهدّدة من اليونسكو بتعريضها لعقوبة اقتصادية؛ لاحتلالها المرتبة الثالثة على مستوى العالم في الدعارة وعدم تراجعها عن هذا المركز.
مآسي تعيشها المرأة في العالم، والمرأة السعودية أبعد ما تكون عنها، فحكومتها وأسرتها تجنّبانها الذل والمهانة، وتكرمانها وتصونانها، فهي الجوهرة المكنونة في مجتمعنا المسلم.
لقد أثار تطبيق قانون الخُلْع في المحاكم المصرية ضَجّة كبيرة اعتبره العالم إنجازًا عظيمًا من أجل حقوق المرأة، مع أن هذا القانون يطبّق في المحاكم الشرعية بالمملكة منذ تأسيسها عام 1351هـ، فالمملكة هي أول من طبّق هذا القانون في محاكمها ومنذ عقود، لكننا لا نجيد التحدث عن أنفسنا ولا عن إنجازاتنا، وإعلامنا ليس إعلامًا دعائيًّا.
وكثيرًا ما تُطرح هذه القضية كسؤال للمسؤولين في بلادي وللمرأة السعودية عند استضافتها على الفضائيات؛ لإحراج المسؤولين ولإحراج السعوديات القانعات بنجاحهن للنيل من ثقتهن في أنفسهن والتشكيك فيما أنجزن. ومن يريد النيل من أي مجتمع ينال من المرأة في هذا المجتمع، فينال من هيبة وكرامة رجاله في المقابل.
تعرف كل امرأة في هذه البلاد والمثقفات بشكل خاص أن المملكة العربية السعودية لها وضعها الخاص، وتتمتع بمكانة خاصة في العالم الإسلامي، منذ أن حباها الله بالحرمين الشريفين، وجعلها مهبط الوحي والرسالة المحمدية، وخرج منها نبي هذه الأمة الإسلامية، وأن دستورها هو الإسلام، وتعاليمها وأخلاقها تُستمَد من القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، ومكانتها ووضعها يفرض عليها أمورًا معينة.
والمرأة السعودية تدرك جيدًا أنها غالية ومعززة ومكرمة لدى حكومتها ولدى أسرتها، فمعاملاتها تسير في الجهات الرسمية أوّلاً لأنها امرأة، وتقف في مقدمة الطابور لأنها امرأة، وتتعامل معها الدولة وكافة الجهات الرسمية بكثير من الاحترام والتقدير والمراعاة لكونها امرأة، فتمثّل قيمة لدى حكومتها ولدى أسرتها، فهي محاطة بهالة من القدسية والعفّة والاحترام، ولذلك المرأة السعودية أكثر نساء العالم غلاء في مهورهن، مما شكل مشكلة وعقبة رئيسية أمام الشباب الراغب في الزواج، وأوجد مشكلة العنوسة... والمرأة والرجل متساويان في الراتب، إن كانت طبيبة أو مدرسة أو موظفة في أي هيئة أو قطاع في الدولة ولها نفس الحقوق.
نشرت الكاتبة الإنجليزية آني رورد في الصحافة البريطانية بعد أن زارت المملكة وملأها الانبهار وهي ترى مجتمعنا تملؤه القيم والمثل العليا، والمرأة معزّزة مكرّمة ومرفّهة، تتمتّع بمكانة لها الكثير من القدسية، وتنعم بحياة هادئة تجنبها الأخطار والاستغلال: "ليتنا كالمسلمات محتشمات مصونات، ننعم بأزواجنا وأولادنا كما ينعمن".
بإمكان المرأة السعودية أن تقلد أي امرأة في العالم وتتفوق عليها، لكن لا تستطيع أي امرأة في العالم أن تكون امرأة سعودية.
رأينا كيف يعامل الرجال المرأة عند قيادتها للسيارة في أشهر العواصم العربية للسياحة، فيتقوون عليها، ويهينونها إذا لم تُفسِح لهم الطريق، والبعض يتعدّى ويتطاول بالشتائم عليها، والبعض يبصق عليها من النافذة، فإلى أي حدّ من المهانة تتعرّض له المرأة في تلك الدول؟! فهل قيادة السيارة حققت لها الحماية والمكانة المرموقة؟!
إن قيادة السيارة وسيلة وليست غاية في حد ذاتها، ولا يجب أن تُعطى حجمًا أكبر من حجمها، ولا بد أن تخضع لضوابط تناسب كل مجتمع، ولا بد من الاعتراف بأن هناك مجتمعات غير مُهيّأة على الإطلاق لبعض الأمور؛ نظرًا للتركيبة الأيديولوجية للمجتمع، فتكون أبعد ما يكون عن تقبل بعض الأمور، فعوضًا عن أن يتميز مجتمع ما بالأمن والأمان وبأنه أقل المجتمعات تسجيلاً لحوادث الخطف والاغتصاب ربما اختلف الأمر تمامًا.
وتبقى عدة أسئلة تطرح نفسها لمن يثيرون قضية القيادة للمرأة السعودية من حين إلى آخر: هل النساء في بلادكم قدوة لنا؟! هل هُنّ أحسن حالاً؟! هل هُنّ آمنات ومصونات عن الرذائل والأخطار ومحميات عن الاستغلال؟! لقد حوّلتم المرأة إلى سِلعة يُرَوّج لها، فأي المعايير وأي المقاييس تتبعون في الحكم على ذلك: معايير الفيديو كليب والإعلانات، أم مقاييس "مايوهات" مسابقات ملكات الجمال على الفضائيات أمام العالم؟! لا يمكن النيل من المرأة السعودية، ولا إنزالها من القمة التي تعتليها بين نساء العالم" انتهى كلامها وفّقها الله، ولا أزيد إلا الدعاء
ـــــــــــــــــــ(68/139)
النكاح فوائد وأحكام
...
...
4410
...
الأسرة والمجتمع, فقه
...
...
النكاح, قضايا المجتمع
...
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
...
...
الرياض
...
24/5/1426
...
...
جامع الإمام تركي بن عبد الله
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- نصوص في الحث على النكاح. 2- من حكم النكاح وفوائده. 3- حث الشباب على النكاح. 4- دور المجتمع في تيسير النكاح. 5- توجيهات في الخطبة.
الخطبة الأولى
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حقّ التقوى.
عباد الله، من حكمة الربّ جلّ وعلا أنْ كَوّن بني الإنسان من ذكر وأنثى إلا ما استثنى الله من عيسى عليه السلام، فكان من أنثى بلا ذكر؛ آية ومعجزة، قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1]، فتأمّل قوله: وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً، فجعل الله جنس البشر من الذكر والأنثى، فَبِهِ امتداد حياة بني الإنسان.
ولذا جاءت النصوص من كتاب الله وسنة رسوله لترغّب في النكاح أوّلاً، لتأمر به وترغّب فيه، وتبيّن ما يترتّب عليه من الخير والثواب العظيم، قال تعالى: وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ [النور:32]، وقال: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ [النساء:3]. وأخبر تعالى أن الزواج من سُنن المرسلين، قال تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً [الرعد:38]. وامتنّ على زكريّا عليه السلام بقوله: وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ [الأنبياء:90]. ونبيّنا ردّ على أناس أرادوا الزهد بترك الزواج فقال: ((لكنّي أتقاكم لله وأخشاكم له، أما إني أصلّي وأنام وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنّتي فليس منّي))[1]؛ لأنّ بانقطاع النكاح وتعطيله سبب لانقطاع نَسْل بني الإنسان.
وفي هذا النكاح الشرعي من المصالح والفوائد ما الله به عليم، ولا يستطيع إنسان أن يُحصي جميع فضائله ومزاياه، لكن من ذلك: صَوْن النفس عن المحرّمات، والحَيْلُولة بين العبد وبين قضاء الغَرِيزة فيما حرّم الله، فإنّ الله جلّ وعلا رَكّب في الرجال هذه الغَرِيزة ومثلها في النساء أيضًا، إذن فهذه الغَرِيزة لا يَرْوِيها من جهة الجنسين إلا النكاح المشروع الذي أذن الله فيه وأمر به، فإنه الذي تُرْوَى به الغَرِيزة حقًّا، أمّا ـ والعياذ بالله ـ الطرق السيّئة وسلوك الطرق المُلْتَوِية فهذا ضرر وبلاء، نسأل الله السلامة والعافية، وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً [الإسراء:32].
ونبيّنا وجّه الشباب إلى هذا الأمر فقال: ((يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءَة فليتزوّج؛ فإنه أغضّ للبصر وأحصن للفرج))[2]، فبيّن الحكمة العظيمة من هذا، وأنه غضّ للبصر عن التطلّع إلى ما حرّم الله، وتحصين للفرج وحفظ له من الانطلاق في الشهوات المُرْدِية، مع ما يترتّب عليه من بناء الأسرة والمساهمة في إصلاح المجتمع، والقيام بالحقوق والواجبات، وفي الحديث: ((إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوّجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير))[3].
ومن أهداف هذا النكاح ما يحصل للزوجين من الأُنس والراحة، فإنّ الله جعل المرأة سَكَنًا للرجل، قال تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا [الأعراف:189]، فسَكَنُ الرجل إنما هو لامرأته التي أخذها بهذا النكاح الشرعي، فهو يطمئنّ إليها ويأتمنها، ويرعى فراشه الصحيح، ويعدّها شريكته في حياته، بخلاف العلاقات الجنسية الباطلة، فإنما هي مجرّد قضاء وَطَرٍ وبينهما من الشِّقاق والخلاف ما لا يعلمه إلا الله، وقَلَّ مُفسِد إلا وهو يُبغِض تلك الخبيثة ويكرهها، أما الزواج الشرعي فإن الله جعله سببًا للتآلف بين الزوجين، قال تعالى: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الروم:21].
ومن أهدافه أيضًا حصول الولد، فحصول الولد نعمة من الله، وتحقيقٌ لأُمنية محمد القائل: ((تزوّجوا الودود الولود؛ فإني مُكاثِرٌ بكم الأمم يوم القيامة))، جاءه رجل من أصحابه خطب امرأة أعجبته، فقال: يا رسول الله، خطبت تلك المرأة ـ وذكر من جمالها وحسنها ـ غير أنها لا تَلِد. قال: ((تزوّج غيرها))، فكرّر عليه، فقال: ((تزوّجوا الودود الولود؛ فإني مُكاثِرٌ بكم الأمم يوم القيامة))[4].
وأخبر عن زكريّا عليه السلام في دعائه لربّه أنه قال: رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ، قال الله: فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ [الأنبياء:89، 90].
ومع كون الولد زينة في الدنيا كما قال جلّ وعلا: الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [الكهف:46]، ومع هذه الزينة فهذا الولد تقرّ به عين أبيه إن رَبّاه على الخير والتّقى، فيكون عونًا لأبيه على مُهمّاته، ويشدّ الله به أَزْرَه، وتقرّ به عينه، وتمتدّ به حياته بعد موته، هذا الولد إن عاش فنعمة من الله تعالى على أبيه، يدعو لأبيه بعد موته، ويُذكَر بالخير بعد موته، يقول : ((إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له))[5].
هذا الولد والزوجة والإنفاق عليهما مما يرفع به الله درجات العبد، ففي الحديث يقول لسعد بن أبي وَقّاص: ((إنك لن تُنفِق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أُجِرت عليها، حتى ما تضع في فيّ امرأتك))[6].
وبيّن أن الرجل ينال الثواب العظيم مع تلذّذه بما أباح الله له، فيقول : ((وفي بُضْع أحدكم صدقة))، أي في فَرْجه، قالوا: يا رسول الله، أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟! قال: ((أرأيتم لو وضعها في الحرام كان عليه وزر، فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر))[7].
وتربيته للبنين والبنات وإعدادهم الإعداد الصحيح بتوفيق الله أجرٌ يناله بعد موته، فإن من دعا إلى الله كان له من الأجر العظيم وأجر من انتفع بدعوته إلى يوم القيامة، فالأولاد إذا رُبّوا على الخير، ووجُّهِوا التوجيه السليم فكل عمل صالح يفعلونه فإنّ لأبيهم مثل ذلك في الأجر إن قصد بذلك وجه الله والدار الآخرة.
أيها المسلم، وفي هذا الزواج ارتباط الأسر بعضها ببعض، وتآلف القلوب فيما بينها، فقد جعله الله سببًا للارتباط، واتصال الأسر بعضها ببعض، كل ذلك من حكمة الله العظيمة وفضله وكرمه وجوده وإحسانه.
أيها الشاب المسلم، إن الزواج نعمة من الله، ومن تَهَيّأ له في أول شبابه فنعمة من الله، نعمة من الله أن ينشأ الشاب عَفِيفًا صَيِّنًا، يعجب ربّك إلى شاب ليس له صَبْوَة، ينشأ عَفِيف الفرج، ينشأ عظيم الهمّة، ينشأ في أخلاق وطهارة وعِفّة، فيبني حياته على الخير والتُّقَى، فتلك النعمة العُظمَى، بخلاف ـ والعياذ بالله ـ من تكون غَرائزه في المنكرات والفساد والبلاء والأمراض المُعدِية والفساد العظيم، فيضطرب قلبُهُ، ولا تقرّ له عين، بل هو دائمًا من خبيثة إلى خبيثة، ومن فاجرة إلى فاجرة، هذا ـ والعياذ بالله ـ عين التّشتّت، وذهاب الدين والدنيا، نسأل الله لنا ولكم التوفيق والهداية.
أيها الشاب المسلم، إن الزهد في الزواج ليس من أخلاق المسلمين، فمن أخلاق المسلمين المُبادَرة لهذا الأمر، والحرص عليه، والسعي الدؤوب في تحصيله، والاستعانة بالله، والتعفّف عن محارم الله، قال تعالى: وَلْيَسْتَعْفِفْ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [النور:33]، قال بعض السلف: وَعْدٌ لمن عَفّ عن محارم الله أن ييسّر الله له سبل الزواج، وأن يعينه على ذلك، ويهيّئ له من أمره رَشَدًا.
أيها الشاب المسلم، قد تُعلّل فتقول: عَقَبات كَأْدَاء، ومصارف كثيرة، وتبعات ومسؤوليات، من لي بتحمّل هذه المشاكل؟ وأين لي هذا المهر؟ وأين لي هذه التكلفات؟ وأين، وأين؟ فتحسب وتعدّ فتبقى حائرًا، وتقول: هذا الزواج مشكلة عُظمَى وبليّة لا أستطيع أن أجاوز عَقَباتها، ولا أستطيع تحمّلها تحمّلها. نقول: يا أخي، حقًّا إنها مشكلة، ولكن من استعان بالله، والتجأ إلى الله، وعَفّ عن محارم الله، وعلم الله ذلك من نيّته فإن الله سيفتح له باب الرزق، ويهيّئ له الأمور، وييسّر عليه العسير، فيقول : ((ثلاثة حقّ على الله عَوْنُهم))، ذكر منهم: ((الشاب يتزوج يريد العَفَاف))[8]، يعني: يستدين يريد العَفَاف، فإذا استدان دَيْنًا في مَعْقول وحدود قدرته من غير سرف وأراد بذلك عِفّة نفسه فإن الله يعينه على قضاء دَيْنه، وييسّر له الأمور، ويفتح له من عنده باب رزق، والله يرزق من يشاء بغير حساب، المهم الجدّ في الأمر، المهمّ العِفّة عن محارم الله.
ولأن كان المجتمع المسلم أيضًا مطالبًا بالتعاون في هذا الجانب وبذل كل سبب، وأن كل فرد من المسلمين مطلوب بأن يسعى في التيسير والتسهيل وتذليل الصعاب أمام شبابنا وشابّاتنا، فالرجل يُحِبّ لبناته أن يراهُنّ متزوّجات قد صانهنّ الله بالزواج، وبَرّهنّ بالصالح من الأولاد من ذكور وإناث، والرجل يُحِبّ أن يرى أبناءه متزوجين قد يسّر الله أمورهم، وهَيّأ لهم الأمور، إذن فالكل مطالب بالتيسير والتسهيل، والكل مطالب بأن يكون عونًا لهذا الشاب على الخير. عندما يتقدّم شابٌّ تعلم أخلاقه، وتعجبك سيرته وأخلاقه واتّزَانه وأهليته للزواج إذن أنت مطالب ـ يا أبا الفتاة ـ أن تُيسّر الأمور، ولا تحمل على الشاب ما لا يطيق، ولا تطالبه بما لا يستطيع، واجعل الأمر يسيرًا، فخيرهنّ أهونهنّ تكلفة، خيرهنّ أيسرهنّ مهورًا، فحاول [التيسير]، وحاول أن تبذل جهدك حتى تُزَوَّج هذه الفتاة، ويزوّج هذا الشاب، فأنت بهذا أحسنت لابنتك، وأنت بهذا أحسنت لابن أخيك الشاب المسلم، فأعنت الجميع على الزواج، وذلّلت الصعاب، ولم تجعلها مُمَاراة ومفاخرة ولا مُساوَمة، إن البعض قد يعدّها مفاخرة، يفخر بليلته وبوليمة عرسه، ويفخر بالحفلات، وتُنفَق عليه الأموال الطائلة التي قد تخرج من دور الحلال إلى دور التبذير المحرّم. إن المجتمع المسلم مطالب بأن يكون هذا التعاون بين أفراده، لا من جهة أولياء الفتيات، ولا من جهة الأزواج، أن يكون الكل بينهم تعاون وتفاهم وتساعد وحرص على الخير.
إن التفاخر بالولائم، إن التفاخر بالحفلات، إن التفاخر بهذه الأمور ليست ـ والله ـ من شريعة الإسلام، ليست من هدي الإسلام، الزواج مطلوب، والإعلان له مطلوب، والوليمة له مطلوبة، والدعوة لحضوره مؤكّد إجابتُها، لكن ليلتزم المسلمون العدل في أمورهم، ولا يكن للنساء السيطرة على هذا الفِكْر، وإنما الرجال العقلاء الذين يحبون لفتياتهم التوفيق، ويحبون لأبنائهم كذلك، فالمجتمع أيضًا مطلوب منه التعاون في هذا المجال؛ لأن التعاون بيننا يحقّق ولاية بعضنا لبعض: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [التوبة:71]، فمن ولايتك لأخيك المسلم، من موالاتك له أن تسعى في إيصال الخير، فالفتيات أمانة في أعناق الآباء، حرام على الأب أن يَزُجَّ بالفتاة لمن لا يثق بدينه وأمانته، وحرام عليه أن يمنعها الكفء المناسب، وحرام عليه أن يُساوِم على زواجها، ويجعلها منزلة وميزانًا يزن به من تقدّم، بكثرة مال وكثرة وليمة أو نحو ذلك.
إن مجتمعنا المسلم إذا تأمّل هذا كل منا بذل جهده، وكل منا نصح أخاه، وكل منا كان سببًا في إيجاد الأمور الميسرة، فإن ذلك عنوان خير، والمطلوب منّا تشجيع من تكون هذه صفاته، أما المفاخرات والخروج عن المعقول ـ فيا إخواني ـ ضرره عظيم، نفقات طائلة، وقد يتحمّلها بعض المُقِلّين فيتحمّلون في ذممهم ما لا طاقة ولا قدرة لهم بوفائه، وقد تجود النفوس الغنيّة بالأموال في هذا المجال، ولو طَلَبَ فقيرٌ أو محتاجٌ منهم شيئًا لبخلت النفوس، وشحّت النفوس، وانقبضت الأيدي، لكن في سبيل السَّفَه والأمور الكثيرة تجود النفوس بهذه الأموال. فإن مجتمعنا يجب أن يتحلّى بالصدق والوفاء، يجب أن يتحلّى بالتعاون، فهي قضايا لا يمكن فرضها على كل أحد، لكن إذا كان في المجتمع حبّ الخير للجميع والتعاون على البرّ والتقوى فإن هذا يجعل الله فيه سببًا مباركًا، أسأل الله أن يوفق الجميع لما يرضيه، وأن يحفظ شبابنا وفتياتنا، وأن يصلح حالنا، وأن يعيذنا من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، وأن يجعلنا ممن يسعى في الخير جهده، وأن نكون قدوة صالحة وأسوة لغيرنا، إنه على كل شيء قدير.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في النكاح (5063)، ومسلم في النكاح (1401) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
[2] أخرجه البخاري في الصوم (1905)، ومسلم في النكاح (1400) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
[3] أخرجه الترمذي في النكاح (1084)، وابن ماجه في النكاح (1967) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وصححه الحاكم في المستدرك (2/179) وتعقّبه الذهبي، وحسّنه لغيره الألباني في السلسلة الصحيحة (1022)، وأعلّه البخاري والترمذي بالانقطاع.
[4] أخرجه أبو داود في النكاح (2050)، والنسائي في النكاح (3227) من حديث معقل بن يسار رضي الله عنه، وصححه ابن حبان (9/363)، والحاكم في المستدرك (2/176).
[5] أخرجه مسلم في الوصية (1631) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[6] أخرجه البخاري في الإيمان (56)، ومسلم في الوصية (1628).
[7] أخرجه مسلم في الزكاة (1006) من حديث أبي ذر رضي الله عنه.
[8] أخرجه أحمد (2/437)، والترمذي في فضائل الجهاد (1655)، والنسائي في النكاح (3218)، وابن ماجه في الأحكام (2518)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وحسّنه الترمذي.
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربّنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمدًا عبده ورسوله، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حقّ التقوى.
عباد الله، إن المسلم يلزم الصدقَ في الأحوال كلها، إن المسلم بعيد عن الكذب والغش، إن المسلم بعيد عن الخداع والتدليس، إنه واضح في أحواله كلها، عندما يتقدّم الشاب للفتاة، ويتقدم لولي هذه المرأة ينشده أن يعقد له عليها، فسنة رسول الله أجازت لهذا الخاطب أن ينظر إلى تلك الفتاة، أجاز له أن ينظر إليها؛ فإنّ نظره إليها سبب لإنزال البركة بينهما، جاء أن النبي أمر رجلاً من أصحابه خطب امرأة قال: ((انظر إليها؛ فلعلّه أَحْرى أن يُؤدَم بينكما))[1]. فسُنّ للأب أن يمكّن الخاطب من النظر إلى من خطبها، لكن هذا النظر مُقيّد بأن يكون بحضور محرمها أبوها، إن يكن الأب أو أي ولي من أوليائها؛ إذ هي أجنبية عنه قبل أن يعقد عليها، فينظر إليها من غير خلوة، وينبغي الصدق في كل الأحوال، لا الزوج لا ينبغي أن يغش أهل المرأة، ولا المرأة أن يغشوا الزوج، ولا الخاطبة أو الخاطب أن يزوِّرَا، بل الواجب على الجميع الصدق والإخبار بالحقيقة، فهذا سبب لاستمرار هذا العقد.
أيها الشاب المسلم، لعلّ البعض أن يستغلّ الخطبة فيتصل دائمًا بالفتاة ليلاً ونهارًا، هذا الاتصال الهاتفي الذي قبل عقد النكاح حكمه في الشرع أنه لا يجوز؛ لأنه قد يُسبّب مشاكل، وقد يحدث لقاءات بينهما، لقاءات مشبوهة؛ لأنه ما لم يتم العقد عليها فهي حرام عليه، إذن فلا ينبغي كثرة الاتصالات، ولا هذه اللقاءات التي لا تجوز، إذا خطب فليتق الله، وليبادر أولياء المرأة وأولياء الزوج بأن يحقّقوا الأمر، وينجزوا المهمّة؛ حتى يرتاحوا من هذه المشاكل والاتصالات التي قد لا تخدم هدفًا، ومن المصيبة أن هذه الاتصالات بعد الخطبة وقبل العقد كثيرًا منها تَسَبّب في انفساخ الخطبة، لماذا؟ لأن بعض الشباب قد يكون عنده شكوك ووساوس وأمور خطيرة، وقد يكون بعضهم ـ نسأل الله العافية ـ له علاقات مشبوهة مع أخريات، فيحاول أن يكتشف أمر هذه الزوجة، ويحاول أن يلفّ من هنا وهناك عسى أن يظفر منها بكلمة تدلّه على شيء منها، يبحث عن أمور ما كُلّف بها، وربما سبّب إلى فرقة بينه وبينها وبينه وبين أهلها؛ لأن هذه الاتصالات الكثيرة لا تخدم هدفًا، إذا نظرت إليها ونظرت إليك فالحمد لله، فليسع الجميع في تحقيق الزواج والاستعجال به إذا أمكن، أمّا تركه شهورًا عديدة واتصالات ليلاً ونهارًا فهذه تثير الغَرائز، ولا تحقّق هدفًا، وربما استغلّها عدو الله إبليس في أمور لا تُحْمد عُقْبَاها، فإن الشيطان يجري من ابن آدم مَجْرَى الدم.
أسأل الله أن يحفظ الجميع بحفظه، ويحيطنا بعنايته، ويرزقنا العِفّة عن محارمه، إنه على كل شيء قدير...
[1] أخرجه أحمد (4/244)، والترمذي في النكاح (1087)، والنسائي في النكاح (3235)، وابن ماجه في النكاح (1866)، من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه، وحسّنه الترمذي.
ـــــــــــــــــــ(68/140)
الصيّف والعناية بالشباب
...
...
4409
...
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
...
...
اغتنام الأوقات, قضايا المجتمع
...
علي بن عبد الرحمن الحذيفي
...
...
المدينة المنورة
...
24/5/1426
...
...
المسجد النبوي
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- التفكير في الفعل والقيام بالأفعال ملازم لكل إنسان. 2- الإنسان قابل لعمل الخير وقابل لعمل الشر. 3- منكرات ومخالفات تقع في الصيّف، وما يترتب عليها. 4- نصيحة للشباب في الاهتمام بأوقاتهم. 5- رسالة للوالدين وللمعنيين بأمر الشباب. 6- الوصية باستثمار الأيام قبل فواتها بالأعمال الصالحات.
الخطبة الأولى
أما بعد:
فاتقوا الله بامتثال أمره الأكيد، وراقبوه مراقبة من يخشى العذاب الشديد.
أيها الناس، إن فترة الصيف فترةٌ فيها منافع، فمن انتفع بها بالأيام فقد أحسن إلى نفسه وإلى مجتمعه، ومن ضيع الساعات بلا مكاسب نافعة فقد أساء إلى نفسه وإلى مجتمعه، وإن الإنسان لا يمكن أن يبقى متوقفًا بلا حركة عَمَلٍ؛ فقد خلقه الله بإرادة يتبعها عمل، وآتاه الله القدرات والصفات التي يتمكن بها من تحقيق الآمال، والقيام بالأفعال بإذن الله. والإنسان بين تفكير وإرادة وعمل دائمًا لا ينفك عن ذلك، كما قال النبي : ((أصدق الأسماء حارث وهمام))[1]. والمعنى: أن التفكير في الفعل والقيام بالأفعال ملازم لكل إنسان، فالحارث هو العامل، والهمّامُ هو المريد للأفعال.
والإنسان قابل لعمل الخير وقابل لعمل الشر؛ لما ركب الله فيه من الصفات، قال الله تعالى: وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس: 7-10] وقال تعالى: إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا [الإنسان:2، 3]. فمن صَلُحَ وأَصَلَحَ في الدِّين والدنيا كان من المحسنين المصلحين، الذين وعدهم الله بقوله: فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [الأنعام:48]، وبقوله تعالى: وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ [الأعراف:170]. ومن فَسَدَ في نفسه وأَفَسَدَ في الدِّين والدنيا كان من الشياطين المَخَزِيّينَ المخذولين، كما قال تعالى: الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ العَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ [النحل:88]، وقال تعالى: وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ [البقرة:204-206].
وقد بين الله تعالى أعمال الخير والشر، وأحل الحلال وحرم الحرام، وفَصَّلَ المباحات، فمن الناس من اغتنم الأوقات فَمَلأَ زمن عمره بالأعمال الصالحات، وانتفع بالمباحات ونفع المسلمين في دينهم ودنياهم، ففاز بخيري الدنيا والآخرة. ومن الناس من ضيع ساعات عُمُرِه في اللهو واللعب، ونسي حق ربه عليه، ولم يؤدّ حقوق الخَلَقِ فخسر خسرانًا مبينًا.
وزمن الصيف وما شابهه يشاهد فيه الكثير من الشباب وغيرهم، ينتشرون في الشوارع والطرقات في ساعات الليل كُلِّهَا، ويَتَحَلّقُونَ على الأرصفة، ويرتادون المقاهي والمنتزهات، يسهرون الليل كلَّه ويعودون أنفسهم على ذلك، يقضون الأوقات على شرب الدُخَانِ والشِّيشةِ ونحوها، ويخوضون في أودية الكلام الذي يضر ولا ينفع، ويجرهم ذلك إلى مخاطر تضرهم في دينهم ودنياهم وصِحَتِهمِ، ويجعلون نومهم في النهار فيفوتون على أنفسهم مصالح كثيرة، ويضيعون فرصًا عظيمة، ويخسرون صلاة الفجر وغيرها، ويَعْكِسون سنن الله؛ فقد جعل الله الليل راحة وسَكَنًا، والنهار معاشًا وعملاً.
إن على الشباب أن يدركوا ما ينفعهم فيجتهدوا في تحصيله مستعينين بالله تعالى، وأن يدركوا ما يضرهم فيبتعدوا عنه، كما قال عليه الصلاة والسلام: ((احرص على ما ينفعك، واستعن بالله، ولا تعجزنّ)) [2]. وكل يومٍ لا يعود أبدًا فهو شاهد لك أو عليك.
وعلى الوالدين والمعنيين أمانةٌ عظيمة، بأن يهيئوا للشباب ما يستثمرون به أوقاتهم، بإيجاد البدائل النافعة بتوجيههم إلى أنشطة المراكز الأمَيِنَة والدورات العِلميَّة النافعة، وحلقات العلم وتحفيظ القرآن وحضور المحاضرات، وامتصاص طاقاتهم في حدود المباح، وأن يراقبوا مداخل الشباب ومخارجهم، وألا يدعوهم نهبًا لجلساء السوء ونزوات الشباب، ومخاطر الفراغ ومُفَسِدِ العقائد والأفكار، ومجالس اللهو والضياع، عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله : ((كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، فالرجل راع في أهل بيته ومسئول عنهم، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عنه، والخادم راعٍ في مال سيده ومسئول عنه، وكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته)) [3] رواه البخاري ومسلم.
ولَذَّةُ الحياة ونَعِيمُها في عبادة الله تعالى والجِّدِ والعمل بكل صالح مفيد، ونَكَدُ الحياة وتَعَاستُها وشقاؤها في معصية الله تعالى، وفي اللهو واللعب والكسل، واهتمامات البهائم والغفلة عن عواقب الأمور، قال الله تعالى: اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [الحديد:20، 21].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، ونفعنا بهدي سيد المرسلين وبقوله القويم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه غفور رحيم.
[1] أخرجه بهذا اللفظ ابن وهب في الجامع (ص7) قال: أخبرني داود بن قيس عن عبد الوهاب بن بُخْت مرفوعًا.
قال الألباني في الصحيحة (1040): "وهذا إسناد مرسل صحيح، رجاله ثقات رجال مسلم".
وللحديث شاهد ـ قد يتقوى به ـ من حديث أبي وهب الجشمي ـ وكانت له صحبة ـ قال: قال رسول الله : ((تسموا بأسماء الأنبياء، وأحب الأسماء إلى الله عبد الله وعبد الرحمن، وأصدقها حارث وهمام، وأقبحها حرب ومرّة)).
أخرجه أحمد (4/345)، وأبو داود في الأدب، باب: تغيير الأسماء (4950).
[2] جزء من حديث أخرجه مسلم في القدر (2664). من حديث أبي هريرة .
[3] صحيح البخاري كتاب الجمعة، باب: الجمعة في القرى والمدن (893). وصحيح مسلم كتاب الإمارة (1829).
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن نبينا وسيدنا محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه.
أما بعد:
فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، وراقبوه مراقبة من يعلم أن الله مطلع على سِرِّه ونَجْواه.
أيها المسلمون، يقول ربكم جل وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ [الحشر:18، 19]. ومعنى نَسُوا اللَّهَ أي: نسوا أوامره ونواهيه فأنساهم أنفسهم، أنساهم أن يقدموا لأنفسهم خيرًا. وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ الْفَائِزُونَ [الحشر:19، 20].
فيا عباد الله، استثمروا الأيام قبل فواتها بالأعمال الصالحات، وبما ينفعكم في دنياكم وأخراكم، فالحياة المباركة هي حياة العمل الصالح الذي يُصْلِحُ كل شيء، والحياة الشقية هي الحياة التي يُضَيّعُ فيها الإنسان الأمانة، وفي الحديث عن النبي : ((نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ)) [1]. وفي الحديث أيضًا عن النبي : ((لن تزول قدما عبدٍ يوم القيامة حتى يُسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه)) [2].
عباد الله، إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56]. وقد قال : ((من صلى علي صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشرًا))[3]. فصلوا وسلموا على سيد الأولين والآخرين وإمام المرسلين.
اللهم صل على محمد وعلى آله محمد ...
[1] أخرجه البخاري في الرقاق، باب: لا عيش إلا عيش الآخرة (6412). من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
[2] أخرجه الترمذي في صفة القيامة (2417)، والدارمي في المقدمة (537)، وأبو يعلى (7434)، والطبراني في الأوسط (2191). من حديث أبي برزة الأسلمي .
قال الترمذي: "حسن صحيح". وله شواهد انظرها في السلسة الصحيحة للألباني (946).
[3] أخرجه مسلم في الصلاة (384)، من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما.
ـــــــــــــــــــ(68/141)
العفة والاستعفاف
...
...
4418
...
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
...
...
أخلاق عامة, الفتن, قضايا المجتمع
...
صلاح بن محمد البدير
...
...
المدينة المنورة
...
9/6/1426
...
...
المسجد النبوي
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- واجب المسلم تجاه الفتن. 2- منزلة العِفة في الإسلام. 3- وصية لمن عجز عن الزواج ونفقاته. 4- عون العاجز عن النكاح من أفضل أعمال البِّر والإحسان. 5- أضرار ومفاسد المغالاة في المهور وطلبات الزواج. 6- أثر الصوم في العفة. 7- الآفات العظيمة المترتبة على النظر للحرام. 8- رسالة إلى من يريد العفاف ويخشى السقوط والانحراف. 9- رسالة للمرأة المسلمة. 10- رسالة إلى من اتخذ من السفر إلى الخارج طريقًا إلى الحرية.
الخطبة الأولى
أما بعد: فيا أيها المسلمون، اتقوا الله؛ فإنّ تقواه أفضل مُكتسَب، وطاعته أعلى نَسَب، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
أيها المسلمون، إذا عَجَّ الزمن بالفتن، وكثرت دواعي الانحراف؛ لزم المسلم الاستعفاف عن مواقعة الحرام، والاستعلاء عن مقارفة الفواحش، والاستعصام عن الرغبات الجَامِحَةِ والإرادات المهلكة، ومجاهدة النفس وصونها عن الأقذار، وكَبْتها عمَّا لا يَحِلّ. ومتى استسلم المرء لنوازع الشهوة والغريزة واللذة المحرمة فقد تردَّى في مستنقع البؤس والخيبة، وخَرَّ في دركات الضياع والقلق والتوتر والحيرة، وهوي في حَضِيض الانحلال والاضطراب والشقاء، وَمَنْ يَكُنْ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا [النساء:38].
أيها المسلمون، العفّة برهان على صدق الإيمان، وطهارة النفس وحياة القلب، وهي عِزُّ الحياة وشرفها وكرامتها، بها تحصل النجاة من مَرارات الفاحشة، وآلام المعصية، وحسرات عذاب الآخرة، الخارج عنها قَذِرُ المَشْرَبِ، خبيث المَرْكَبِ، نَتِنُ المَطْلَب، ضالّ المذهب، موصوف بأقبح الأوصاف وأسْوَء النُّعُوت، الخزي يلاحقه، والهلاك يدركه، والعذاب يهلكه، فيا خَسَارَ من وقع في حَمْأَة الخَنَث وأوهاك العبث، وخاب العادون المسرفون، وشقي الظالمون المجرمون، لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ [الحجر:72]. سكروا بحب الفاحشة فلا يبالون ذَمًّا، ولا يخشون لومًا، ولا يخافون عَذْلا، فَأَخَذَتْهُمْ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ [الحجر:73-77].
فيا سعادة من عَفَّ، ويا فوز من كَفَّ، ويا هَنَاءَة من غضّ الطرف، طوبى لمن حفظ فرجه، وصان عِرضه، وأحصن نفسه، فعن سهل بن سعد قال: قال رسول الله : ((من يَضْمَنُ لي ما بين لَحْيَيْهِ وما بين رِجْلَيْهِ أَضْمَن له الجنة)) أخرجه البخاري[1]. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((يا شباب قريش، احفظوا فروجكم، لا تزنوا، ألا من حفظ فرجه فله الجنة)) أخرجه الحاكم والبيهقي، وقال الحاكم: "صحيح على شرطهما"[2]. وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله))، فعدّهم، ومنهم: ((رجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله)) متفق عليه[3].
يا من تاقت نفسه إلى النكاح، وعَجِزَ عن طَوْله، وتعَذّر عليه صداقه، وعَسُرت عليه أُهْبَتُه ونفقاته، استعفف عن الحرام، وترفّع عن الآثام، وأصغِ السمع لقول الملك العلاّم: وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [النور:33]. وقد تكفّل الله بمقتضى وعده في إعانة الناكح يريد العفاف، فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((ثلاثة حقّ على الله عزّ وجل عونهم: المكاتَب الذي يريد الأداء، والناكح الذي يريد العفاف، والمجاهد في سبيل الله)) أخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجه[4].
أيها المسلمون، إن عون العاجز عن النكاح ممن يستضِرّ بفقده، ويصيبه العَنَت لعدم وَجْده؛ من أعظم أعمال البر والإحسان، وأجلّ طرق نشر العفّة والإحصان.
ويتوجّب القول بأنّ التمادي في المغالاة في المهور والتباهي بإظهار البذَخ في حفلات الزواج، وتجاوز الحد في الطلبات والشروط، والخروج عن الاعتدال في تكاليف النكاح، أدى إلى عجز الكثير عن إعفاف نفسه بالمباح، وإحصانها بالتزوج، وجَرَّ كثيرًا من الشباب والفتيات إلى الانحراف والفساد، وربنا يقول: وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [النور:32]. ويقول عمر : (ألا لا تغالوا صَدُقة النساء؛ فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا، أو تقوى عند الله لكان أولاكم بها نبي الله ، وما علمت رسول الله نكح شيئًا من نسائه، ولا أنكح شيئًا من بناته على أكثر من ثنتي عشرة أوقية) أخرجه الترمذي[5].
أيها المسلمون، الصوم مَقْطَعة للنكاح، مَدْفَرَةٌ للماء، مَسْكَنة لداعي الزنا والفجور، به يستعين المتعفّفون، وبه يتحصّن المتحصّنون، وبه ينشغل العاجزون، فعن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الهدى : ((يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغضّ للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم؛ فإنه له وِجَاء)) متفق عليه[6].
أيها المسلمون، ومن تداوى بما حرم عليه تخلّفت عنه المعونة، وإطلاق البصر وإرسال النظر وتقليب الطرف في المحرمات عدو العفّة ورائد الفجور، ورسول الشرّ وبذرة الشهوة في القلب، السعادة في غضه، والنجاة في كسره، قال جل في علاه: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ [النور:30، 31].
والصور المحرمة تنجس النفس، وتقوي إرادتها على التمرّد والعصيان، وهل أنتجت مشاهد الإثارة ولقطات التهييج وصور العري والتفكّك إلا خرق سياج العفّة والشرف، وشيوع الجريمة الأخلاقية، وفقدان الأمن وانتشار الاعتداءات المروّعة، وهل يحمل الإلحاح الغريزي الجامح، والسُّعَار الجنسي الهائج، إلا على السَّفَه والخفّة وركوب الشر، وما عساه يُجنَى من أفلام ومجلات وقصص وروايات، وأطباق وقنوات جعلت الإثارة إحدى ركائزها، وتأجيج الغرائز أساس قيامها، ومحاربة العفة والطهارة من أولويات أهدافها؟!
وبادر ـ أخي المسلم ـ في التخلّص من ويلها وبلائها؛ صونًا لشرفك وحفظًا لعرضك وسلامة لنفسك وذريتك، فالدين يوجب رفعها، والأمانة تقتضي دفعها.
يا من يريد العفاف، ويخشى السقوط والانحراف، اختر الصاحب الملازم، واصطفِ القرين المجالس، وابحث عن الخليل المجانس، وإياك والتجمعات المشبوهة والرفقة الشاذة والصحبة السيئة، التي تدعو المرء إلى الوقوع في الرذيلة، والولوغ في الفاحشة، فكم جَرَّ صاحب السوء إلى صاحبه من خزي دام لا يزول، وشرٍ قائم لا يحول، عن أبي هريرة أن النبي قال: ((الرجل على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل)) أخرجه أبو داود والترمذي[7].
يا عبد الله، اعرف شرف الزمان وقدر الوقت وقيمة العمر والحياة، ولا تجعل فراغك مسرحًا للهواجس الضارة والأفكار المنحرفة، والتخيّلات القاتلة، وعادات العبث المهلكة، واجْأَر إلى الله بالدعاء، واسْأَله أن يصرف عنك السوء والفحشاء، وعُذْ به والتجِئ إليه، وحافظ على الصلاة؛ فإنها منهاة عن الفحشاء والمنكر، وتزوّد لمشقة المسير وعظم البلاء بملازمة مجالس الإيمان ودروس القرآن، وعدم مفارقتها إلا من عذر؛ لأنها المرتع الخصيب والروض الأريج، الذي تصح القلوب بخوضه، وتزكو النفوس برعيه. فعن أنس أن رسول الله قال: ((إذا مَرَرْتُم برياض الجنة فَارْتَعُوا))، قالوا: وما رياض الجنة؟ قال: ((حِلَقُ الذِّكْرِ)) أخرجه الترمذي[8].
وقاني الله وإياكم الشرور والآثام، وحمانا بفضله من الفتن والبلايا العظام، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1]صحيح البخاري كتاب الرقاق، باب: حفظ اللسان (6474).
[2] مستدرك الحاكم (4/358)، والبيهقي في شعب الإيمان (4/353)، وأبو نعيم في الحلية (3/100-101).
قال الحاكم: "صحيح على شرط مسلم". وللحديث شواهد انظرها في الفتح (11/309). وذكره الألباني في الصحيحة برقم (2696).
[3] صحيح البخاري كتاب الأذان، باب: من جلس في المسجد ينتظر الصلاة، وفضل المساجد (660)، وصحيح مسلم في الزكاة (1031).
[4] سنن الترمذي كتاب فضائل الجهاد (1655)، وسنن النسائي كتاب الجهاد (3120)، وسنن ابن ماجه كتاب الأحكام (2518)، وأخرجه أيضًا أخرجه أحمد (2/251، 437).
قال الترمذي: "هذا حديث حسن"، وصححه ابن الجارود (979)، وابن حبان (4030)، والحاكم (2678)، وحسنه الألباني في غاية المرام (210).
[5] سنن الترمذي في كتاب النكاح (1114)، وأخرجه أيضًا أحمد (1/40-41، 48)، وأبو داود في كتاب النكاح (2106)، والنسائي في كتاب النكاح (3349)، وابن ماجه في كتاب النكاح (1887).
قال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وصححه ابن حبان (4620 الإحسان)، والحاكم (2/175-176)، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (1852).
قال الترمذي: "الأوقية عند أهل العلم أربعون درهما، وثنتا عشرة أوقية أربع مائة وثمانون درهما".
[6]صحيح البخاري كتاب النكاح، باب: من لم يستطع الباءة فليصم (5066)، وصحيح مسلم كتاب النكاح (1400).
[7]سنن أبي داود كتاب الأدب، باب: من يؤمر أن يجالس (4833)، وسنن الترمذي كتاب الزهد (2378)، وأخرجه أيضًا أحمد (2/303). قال الترمذي: "حديث حسن غريب"، وصححه الحاكم (4/188)، وحسنه الألباني في تعليقه على كتاب الإيمان (ص60).
[8]سنن الترمذي كتاب الدعوات (3510)، وأحمد (4/387)، وأبو يعلى (6/155). عن محمد بن ثابت البناني قال: حدثني أبي عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن رسول الله قال: فذكره.
قال الترمذي: "حديث حسن غريب من هذا الوجه من حديث ثابت عن أنس".
وأورده ابن عدي في الكامل (6/136) في ترجمة محمد بن ثابت، وقال: "لا يتابع عليه".
وللحديث شواهد من حديث جابر وابن عباس وابن مسعود وأبي هريرة وعبد الله بن عمرو رضي الله عنهم؛ لذا حسنّه الألباني في الصحيحة (2562).
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن نبينا وسيدنا محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فيا أيها المسلمون، اتقوا الله وراقبوه، وأطيعوه ولا تعصوه، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ [التوبة:119].
أيتها المرأة المسلمة والعفيفة الطاهرة، إن دورك خطير وواجبك كبير في حفظ طهارة الأمة، ورعاية أسباب العفة ووقاية المجتمع؛ وذلك برعاية واجب الستر والحشمة والحجاب، ونبذ الاختلاط والتبرج والسفور، والحذر من الخلوة المحرمة، فقومي بواجبك المعظم، قومي بواجبك المعظم، قومي بواجبك المعظم، تنالي العيش الكريم والفخر العظيم والفوز في جنات النعيم.
يا عبد الله، يا من اتخذ من السفر إلى الخارج طريقًا إلى الحرية، ووسيلة للممارسات اللا أخلاقية، ومسلكًا للولوغ في الفاحشة والمحرمات، تحت جنح الاستخفاء والاستهتار، تذكّر أنه مهما غَابَ الرقيب وبَعُدَ عنك القريب فإن الله يراك، فإن الله يراك، فإن الله يراك وهو شهيد على سرك ونجواك. أحاط علمه بالأشياء كلها، سِّرها وجهرها، فأقصر عن طريق الهلاك، واستحِ من نظر مولاك، فقد قرعت باب البلاء، ووطئت ذَنَبَ الحية الصماء، وسرت إلى الشقاء والعناء، والعاقل اللبيب يتبصّر العواقب، ويتجنب المصاعب والمصائب، ومن غَرّته أيام السلامة حدّثته ألسنة الندامة، ومن لم تنفعه الإشارة لم يردعه كثير العبارة، يقول الحق في أعظم كتاب: إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [الرعد:19].
أيها المسلمون، إن ثمرة الاستماع الاتباع، فكونوا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه. واعلموا أن الله أمركم بأمر بدأ فيه بنفسه، وثنّى بملائكته المسبّحة بقُدْسِه، وأيَّهَ بكم أيها المؤمنون من جنه وإنسه، فقال قولاً كريمًا: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
ـــــــــــــــــــ(68/142)
العفة بين أعاصير الفضائيات وطوفان الإنترنت
...
...
4419
...
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
...
...
الإعلام, الكبائر والمعاصي, المرأة
...
عبد الرحمن السديس إمام الحرم
...
...
مكة المكرمة
...
9/6/1426
...
...
المسجد الحرام
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- أثر الأخلاق في الحضارات الإنسانية. 2- خطورة الغزو الأخلاقي. 3- إعدام الطهر والفضيلة في وسائل الإعلام. 4- دور شبكات الإنترنت في نشر الإباحية والرذيلة. 5- دعوة لمواجهة تيارات التغريب والرذيلة. 6- توجيهات لأصحاب الحفلات والأعراس. 7- صرخة غيور.
الخطبة الأولى
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، وأيقنوا أنّ التقوى هي العزّ والظَّفَر، وفي الحياة الدنيا ـ وايْمُ الله ـ خير ما يُدَّخَرُ، وأولى ما يُتَّعظ به ويُزْدَجَر، وأعدّوا واستعدّوا ليومٍ يُنادَى فيه: كَلاَّ لا وَزَرَ إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ [القيامة:11، 12].
أيها المسلمون، الحقيقة التي يشهد بها الواقع، وينطق بها التأريخ، ولا تَتَخَلّف عنها السُّنن بحال؛ هي أنّ الأمم والحضارات لا تقوم أركانها، ولا يعلو بُنيانها إلا على قواعد الفضيلة، ولا تحلّ الانتكاسات، وتَدْلَهِمُّ الارْتِكاسات إلا إذا يَمَّمَتِ الأممُ شطرَ الرّذائل. ألا وإن مما يتحسّرُ منه الغيورون أنّ أمتنا الإسلامية الكَلْمَى لا تزال تَتَناوشُها الأرْزَاء من كل مَضِيق، والخُطُوب من كل فجٍّ عميق. يقال ذلك والأسى مِلْءُ جوانحنا، فمن أمعن النظر في بعض القضايا الاجتماعية وسَبَر غَوْرَها بمنْظَار الفَحْص والافْتِقاد، ودقَّقَ فيها بِمُقَلِ التسديد بُغْية الرشاد؛ أَلفاها ذاتَ سُلَمٍ تستوجِبُ الرُّفُوَّ والإرفاد، ووَهَاءٍ شَنِيع ذَرِيع يهْتِفُ بعاجل الرَّتَقِ والإعْضَاد، إنْ تراخت فيها الأمّة أو هَاوَدَت خَلَصت إلى بئيس القرار ووَبِيل المهاد.
ومع ما رُزِئ به العالم اليوم من حوادث العنف والتفجير، وأقضّ مضاجعه من أعمال الإرهاب والتدمير مما يتنادى العقلاء والشرفاء بتجريمه، ويتوارد علماء الأمة المعتبرون على تحريمه، وتتجرّع الأمة الإسلامية سَلبيّاته وآثاره، فإن من أخطر الحروب التي رُزِأَت بها الأمة، بل وانتكست يوم أن ارْتَكَسَت في حَمْأَتها الأممُ والحضارات هي الحرب على الفضيلة وإعلاء راية الرذيلة.
وقد قصدت الشريعة الغَرّاء إلى إيلاء كافة القضايا العناية والرعاية، ومن أهمها قضية حفظ الأعراض، بل قضية وقاية الأسر وحفظ المجتمعات والأجيال من لهيب الرّذيلة والسفور، وبراكين الفجور، وأعاصير الشرور، وجَحَافِل العُهْر وسَعَار اللذّة والإباحية البهيميّة. وإنّ أَنْكَى سلاحٍ بَتّارٍ أشهره العدو في صدورنا فمزّق به نَظِيم أمورنا، وكدّر به نَمِير حياتنا الروحية، وعَكّر به صفو أحوالنا الاجتماعية؛ هو ذلك الطوفان الغاشم من صنوف الرذيلة مما يُعدّ نوعًا من ألوان الإرهاب الأخلاقي والسلوكي ضد قيم الأمة ومُثُلِها وفضائلها، عبر القنوات الفضائية الإباحيّة، والشبكات العنكبوتيّة الدَّنِيّة في الفضاءات المفتوحة التي عَجَّت من قَتَامِها السماء، وضَجَّت من قَتَارِها الأرجاء، وتلك الأقراص الحاسُوبِيّة الخفيّة بَوْتَقة الإثم التي يَنْتَهِبُها الكبير والصغير والطَّرِير والغَرِير في غفلةٍ أو استغفال من الآباء والأمهات والمربّين والمربّيات، ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الروم:41].
والذي يصهر الفؤاد صهرًا من تلك الأرْجَاس والأدْنَاس أنها تُسَوَّق لنا، ونُرْجَمُ بها من قبل عدوٌ مبين، وخَصِيم وراء الأَكَمَة كَمِين عبر سَمَاسِرة الرّذيلة، وقَرَاصِنة الفِكر والفضيلة، من مُلاّكٍ ومُنْتِجِين ومُسَوِّقين يشوّهون بذلك مِلّة الإسلام وهدي سيد الأنام، شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا [الأنعام:112].
إخوة الإيمان، لقد تبيّن الصبحُ لذي عَيْنين في غير مَوَارَبة أو مَيْن كون أعداء الفضيلة ودَهَاقِنة الإباحية وجَلاوِزَة المتع الجنسيّة الفاجرة مُنْيَةُ أبصارهم ومَعْقِدُ آمالهم المشؤومة تصديرَ الأوبئة التناسلية والرذائل، في طاعون قاصِف يدكُّ مَعَاقِل المسلمين دَكًّا، مَعَاقِلَ الشرف والفضائل، ومغادرةَ صروح العِفّة والنُّبْل والمروءة، وقد عَفَا عليها الزمان، وباتت في خبر كان.
فما أجسادٌ شبه مُعَرَّاة وسُحَنٌ بالأَصْبَاغ مُطَرَّاة وغِيدٌ رَعَابِيب عَارِمة الأنوثة والغَنَج، ترمي إلى إظهار المفاتِن بكل التّكَسُّر والتمَيُّع الهاتِن، إلا مكيدةٌ نَكْرَاء تُزيّن الفواحش، وتنشر الدعارة، وتصوّر الحياة غرائز يجب انتهازها وإشباعها عياذًا بالله. خرج الطبراني وغيره بسند صحيح أن النبي قال: ((سيكون آخر أمتي نساء كاسيات عاريات مائلات مُمِيلات على رؤوسهنّ كأَسْنِمَة البُخْتِ المائلة، لا يدخلن الجنة، ولا يجدن ريحها))[1].
أمة الطُّهر والفضيلة، إن الفضائيات المُتَهَتِّكَة الخليعة وكذا المجلات الفاضحة الرَّقِيعة والمشاهد الدَّاعِرة والأفلام الفاضحة ذات الصور العارية والأغاني الصاخِبَة التي تدعو جِهَارًا إلى الفحشاء مع الرقص المثير بهزّ الأعطاف والأرداف التي لا تزيد الغَرِيزة إلا شُبُوبًا وضِرَامًا؛ كلها تَتَرسَّبُ في أَحْناء المراهقين والمراهقات، وتتخطّفهم نحو البحث عن اللذة الفاتكة من أي سبيل وفَجّ، بل ما هي إلا السُّمُّ الزُّعَاف بذاته يُصَبُّ ناقِعًا في حياة كل زوج وشاب عَزَب؛ لأن نار الشهوة العاصفة المُلتهِبة في الصدور لا تَخْمُدُ بكل مَنْظر جديد من الخلاعة والتفسُّخ، بل تزداد أُوَارًا، وتستشرف في قَرَمٍ مشهدًا آخر أكثر إثارة وفتونًا عن العلاقة المشروعة برباط الزواج المقدس إلى حياة الجنس والنزوات المُتَقَلِّبة دون كابحٍ أو حاجز، وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيمًا [النساء:27].
إن تلك الشَّنَائِعَ والفَظَائِع ـ لَعَمْرُ الله ـ للنَّارُ الملتهبة والقنابل الموقوتة والخناجر المسمومة، تذيب قوالب المجتمع، وتُدَمْدِمُ من الأسرة أركانها، ومن الفضيلة شُمّ بُنيانها، إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ [النور:19]. نعم: عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ. فهل أنتم ـ يا هؤلاء وأولئك ـ منتهون ومُرْعَوون، وإلا فَأُفٍّ لكلّ يدٍ تمتدّ لنشر الرذيلة، ولا قَرَّتْ لأصحابها عيون.
ومن لَفْح ذلك الأسى المُحْرِق قوله عليه الصلاة والسلام: ((لم تظهر الفاحشةُ في قوم قَطّ حتى يعلنوا بها إلا تَفَشَّى فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم الذين مضوا)) خرّجه البيهقي وابن ماجه والحاكم بسند صحيح[2]. وما يومُ تلك الأدواء بسِرّ، فهي كمثل ريحٍ فيها صِرّ.
ومن يتحرّش بالرَّدَى يَكْرَعِ الرَّدَى زُعَافًا ومن يَسْتَنْبِتِ النارَ يُحرَقِ
ومن عدل الله وحكمته أن أعقب الفضيلة والنَّقَاء الصحةَ والنشاط، وأعقب الفساد والرذيلة الأدواء والانحطاط.
وأمّا من رَقّ دينُه، واضطرب يقينُه فزعم أن التخَلُّع تمدُّن ورُقِيّ، فالذي أتاه الفَدْمُ أمرًا كُبَّارًا فَرِيًّا، لا بدّ من الاسْتِيقَان بلا مِرَاء، لاسيما من المنهزمين البُلَهاء؛ أنّ الفضائل خيرات وبركات، ومن ثَمَّ عزائم وانتصارات، وأنّ الرذائل مصائب وجِراحات، ومن ثَمَّ هزائم وانتكاسات، أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ [الأعراف:100].
معاشر المسلمين، إن القلم المُجَلَّلَ بسواد الألم الرّاعِفَ بدماء اللَّوْعَة والظَّلَم والمآسي التي عصرت القلب بما به ألَمَّ لَكَهَامٌ تِلقاء وصف هذا الحال المرير الهالِع، والمآل الخطير الخالِع، برهان ذلك إحصاءات مذهلة، وحقائق مُروِّعة، وأعداد مُفْجِعة: (260) موقعًا إباحيًّا يتم إنشاؤها يوميًا على ما يُسمّى بشبكة الإنترنت، و(63) من المراهقين والمراهقات يرتادون صفحات الدَّعَارة ولا يدري آباؤهم ماذا يتصفّحون، (83) من الصور المتداولة في المجموعات الإخبارية صور إباحية، يا لله! هولٌ هائل، وبلاءٌ مُدْلَهِمّ نازل، لا تَسَعُه لَهَاتُ القائل! أليس من الأولى، بل من المتعيّن أن تصرف الأموال الطائلة في التسابق الإباحي على ما فيه إنماء المجتمعات ورفع مستوى الشعوب؟! وفي دراسة علمية لبعض الباحثين المتخصّصين عن سبب الإدمان الإباحي يقول: غالبًا ما ينطلق الإدمان بفضول بريء، ثم يتطور إلى إدمان له عواقب وخيمة دينية واجتماعية واقتصادية وأمنية، والله عز وجلّ يقول: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ الآية [النور:30، 31].
إخوة العقيدة، إن الانحرافات الغَرِيزيّة وتجارة الإباحية التي أرخصت قيمة الإنسان، وأهدرت حقوقه ذَكَرًا وأنثى، وعَفَّرَت في الرَّغَام الأعراض، وطمست الحشمة والحياء دون خجل أو اعتراض؛ امتدّت في قذارة ودناءة إلى طهارة المجتمعات بأسرها التي تفتك بها ذئاب الرذيلة بينما هي تُلِّوحُ بالإنسانية والتقدُّميّة والمدنيّة، فيا ويحهم على الوِلا، وكلاّ للإغضاء ولا، الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمْ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة:268].
أمة الإسلام، وفي عُرَام البثّ المباشر لسَعِير الشهوات القبيحة والحياة المنحرفة الذَّرِيحة التي تُؤجِّجُها في الصدور أوساط إعلامية؛ أنّى للجيل النَّزِيه النَّضِّ والنَّشء العَفِيف الغَضّ سواءٌ البنين والبنات أن تتوفر له بيئة نقية تُهذّب قواه الفكرية، ومداركه العقلية والذهنية، وعواطفه القلبية، وتهفو به إلى المعالي، وتَرْنُو ببصره إلى أسمى المعاني، فلا يجنح إلى امْتِطَاء أفكار منحرفة، ولا تُطَوِّحُ به عن شاطئ السلامة تيارات مُنْجَرِفَة.
ألا فلتشهد الدنيا يمينًا نعلنها صريحة مُدَوِّية دونها المَشْرَفِيّات البَوَاتِر أنه ما أُهدِرت الفضيلة وأدبرت، واستُرخِصت الرذيلة وأقبلت؛ إلا دُمِّرت القيم والأخلاق، وأَلَمَّ بالأمة الذلّ والهوان وحاق، وهل كان من وراء ذلك الفجور إلا انحلال عِرْض، واحتلال أرض، وفساد دين، واختلال أمن، وضَيْعة آمال، وتحطيم مآل، ومَحْو تاريخ، وتشتيت أجيال، وفشوّ زِيْجَات آنِيَّة سِرِّية، مُبتدؤها اللذّة والمُتعة، وخبرها الطلاق والفُرْقة، قد جَفّت منها مُضامين الزواج ومقاصده؟! وهل كان وراء المجاهرة بالفسوق إلا أن تَمَدَّل السفهاءُ الفُجّار بالمرأة، عَبْر مَوَاخِير السِّفاح، في أَفَارِين اللذّة والشهوة والغِوَاية على سمع وبصر من أنصارها المزعومين.
فيا أيها المُنْتَحِبُون على قضايا المرأة وحقوقها، دونكم قضيتَها الكبرى، انتَشِلوها بضاعة ساقطة من أوكار قنوات الزنا ومراقص الخنا، أنقذوها ينبوعًا للحنان ومدرسة للأجيال ومَحْضِنًا زكيًا للرجال، وانزعوا عن بُنَيّات الطريق وأُقْصُوصَتِها والأطروحات المثيرة التي تَتَلَمَّظُون بها حينًا بعد حين إن كنتم صادقين، وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ [الأنفال:30].
وقد يَتَشَبّث بعضُهم بأمور قد تكون في الأصل مشروعة، لكنّها تؤول إلى أمور ممنوعة، ومن القواعد المقرّرة في الشريعة: أنّ الأمر المشروع إذا أدّى إلى الممنوع فهو ممنوع، كما في قاعدة اعتبار المآلات التي نص عليها جمع من أهل العلم المحقّقين كالشاطبي وشيخ الإسلام رحمهما الله.
فيا إخوة الإيمان، ويا أيها المسؤولون مَعَاقِد الآمال، ويا أيها المصلحون حُمَاة الذِّمَار، هل تفلح أمةٌ تَبَطَّحَت أمام مُستنقعات الفَجَرَات، وأدمنت العَبَّ من قنوات الشهوات؟! لاهَ الله، رَبَّاه رَبَّاه، واخَجَلَتَاه؛ مما أصابنا من ضُمُور الغَيْرة واخَجَلَتاه!
ألا فَلْتَنْثَنُوا ـ يا رعاكم الله ـ في هِمّةٍ بَدْرِيّةٍ كاسِحَة، وَحَمِيّة إسلامية مَاسِحَة، دون تلك الخَلاعات والدِّنايات صَفًّا، وجمعًا مُلْتَفًّا؛ لِدَحْر تلك الويلات ساعدًا وكَفًّا، ودفعًا لأعاصير السُّفُور وكَفًّا.
هِمَمٌ غُرٌّ تَعَافُ الدَّنَسَا وذِمَمٌ طُهْرٌ تُجَافِي النَّجَسَا
واعلموا أنه لا ارتفاع لرايات المؤمنين، ولا تَألّق لجبين الصالحين المصلحين، إلا بمقدار انتصارهم على شهواتهم، وامتلاكهم أَزِمَّة رغباتهم. وإن المسلم منيعُ حِجَاب القُبَّة الذي يغار لعينيه أن تسترقّهما وَهَنَانَةٌ حَسَّانة، فَيَكْْرَعُ من الإثم والندامة صَرَى، وتلك عاقبة التمرُّغ بأوحال الرذائل.
فيا هذا وذاك،
أتفرح بارتكابك للمعاصي وتنسى يوم يُؤخذ بالنَّواصِي
فلا تَرْضَ المعايِبَ فهي عارٌ عظيم يورِث الإنسانَ مَقْتًا
وتَهْوي بالوجيه من الثُّرَيّا وتُبْدِلُه مَكان الفوق تَحْتَا
والدعوة الحرَّا موجّهة إلى الآباء والأمهات، وأرباب الفكر ورجال الإعلام، والمعنيين بقضايا التربية؛ أن يسهموا في انتشال الأمة من التردّي في مستنقعات الرذيلة، واضعين الأكفّ بالأكفّ لإيجاد البدائل المشروعة، والحلول العاجلة التي تُقَلِّم أظفار الإباحية، وتُجفّف منابع الرذيلة، مما يحقّق الطموحات والآمال، ويسير بالمجتمع نحو التوازن والاعتدال، ويقصد إلى جلب الخيرات والمصالح ودرء المفاسد والقبائح، وكان الله في عون العاملين المخلصين لدينهم وأمّتهم ومجتمعاتهم.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ [النور:21].
أجارنا الله وإياكم من مُضِلاّت الفتن، ما ظهر منها وما بطن، وحفظنا جميعًا من الرذائل والدنايا، وعصمنا من البلايا والرزايا، إنه جواد كريم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه وتوبوا إليه، سبحانك الله وبحمدك نشهد أن لا إله إلا أنت نستغفرك، ونتوب إليك.
[1] أخرجه الطبراني في المعجم الصغير (2/257)، والأوسط (9/131) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، قال الطبراني في الأوسط: "لا يُروى هذا الحديث عن عبد الله بن عمرو إلا بهذا الإسناد، تفرّد به عبد الله بن عياش"، وحسّنه الألباني في الثمر المستطاب (317).
[2] شعب الإيمان للبيهقي (3/196)، سنن ابن ماجه: كتاب الفتن (4019)، مستدرك الحاكم (4/582) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، وحسّنه الألباني في السلسلة الصحيحة (113).
الخطبة الثانية
الحمد لله المُتفَضِّل بالإنعام وسابِغ المِنَن، حرَّم الفواحش ما ظهر منها وما بطن. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة نستعصم بها من مَهَاوِي الفتن، وأشهد أن نبينا محمدًا عبد الله ورسوله خير من دعا إلى أقوم الهدى وأزكى السُّنن، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه المُقْتَفِين لخير السَّنَن، ومن تَرَسَّم هداهم ما غَرَّدَتْ وَرْقَاءُ بِفَنَن.
أما بعد: فيا أيها المسلمون، اتقوا الله على الدّوام وأطيعوه، وراقبوه في الخلوة والجَلْوة ولا تعصوه.
أيها الإخوة في الله، ولما كانت الإجازة الصيفية مَظِنَّة الفراغ ومَوْئل الأفراح والمناسبات فإن التنبيه يوجّه إلى أهل الإيمان ـ سيّما الأخوات المؤمنات ـ بإعلاء راية الفضيلة، وذلك بالتمسّك بالحجاب والعفاف والاحتشام، وعدم التشبّه بأزياء غير المسلمات، والانسياق المذموم واللهَّثِ المَحْمُوم خلف الموضات والتّقْلِيعات التغريبية المستوردة، والحذر من التبرّج والسفور والاختلاط المحرّم، وما يصاحب ذلك من آلات اللهو والمعازف، إذ لا يُعْقِب ذلك إلا المهالكَ، والشرورَ الحَوَالِك، وإذا كانت بعض الأحوال من هذا السِّفَال أنّى تتنَزّل رحمات الله وبركاته؟! أبانتهاك حدوده وحرماته؟! فلا خير في الأفراح إذا أدّت إلى أَتْراح، أين الغيرة على الأعراض والمحارم؟! وأين الحفاظ على الشرف والمكارم؟! عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((إن الله تعالى يغار، وغَيْرة الله أن يأتي المرء ما حرّم الله عليه)) رواه البخاري[1].
أحبّتي في الله، ومن مظاهر الرذيلة التي كَلَّت من سُوئها نَوَاظِر ذوي الشرف كَلاّ، وتلَّ الطُّهرُ والخجلُ للجَبِين تَلاّ؛ ما يُعرض بجسَارَة وصَفَاقة في بعض الأسواق ووسائل الإعلام والقنوات الفضائية من الأزياء المحرّمة التي تُشِفّ، وللسَّوآت تُبَيِّنُ وتصفّ، فأي داء حَطّم الحياء وأي بلاء؟! هل تبكي الفضيلة من الرذيلة؟! هل تنتحِبُ الفضيلة بقولها على الأعراض والعفاف الرِّثاء، وسَطّروا على تلك الأطلال عبارات العَزَاء؟! يُضاف إلى ذلك ظاهرة حديثة مُنْكَرة وجريمة شنيعة مُدَمّرة تَسلَّلت لِوَاذًا لمجتمع الحياء والحشمة والطُّهر المكَين ألا وهي ظاهرة تصوير النساء المؤمنات الغافلات والفتيات الشريفات العفيفات عبر الهواتف المحمولة في الأفراح والمناسبات، ورفع تلك الصور على رِماح أغراض دَنِيئة مما عظمت به المصيبة على أهل الغَيْرة والحياء، فكم كانت سببًا في دمار البيوت وتفكّك الأسر وهتك الأعراض ونشر الأحقاد والضغائن! يأبى، ثم يأبى أهل الشرف والعفّة والفضيلة أن تُهدَر أعراضهم، وتُنْتَهك محارمهم بتصرُّف غِرٍّ مَأفُون قليل الذوق عديم المروءة لا يبالي بحرمات المسلمين وصون أعراضهم. ولكن نحمد الله، ونثني عليه أن أقام الصُّدُقَ والغُيُر من أهل الغَضْبة المُضَرِيّة لتلك الدسائس بكل مرصد، وفي صدارتهم رجال الحسبة الميامين، لازالوا بالتوفيق مَكْلوئين.
فيا من عزمتم على الأفراح، احذروا التلطّخ بهذه الأَتْراح، والتلبّس بهذه المنكرات والآثام، واسعوا جميعًا إلى مرضاة الملك العلاّم. فكيف ـ يا أمة الطُّهر والنّقاء ـ بما يُجاهَرُ به كثيرًا من تفسّخ وميوعة مرذولة، فإلى الله نَجْأر بشكوانا، فهو العالم بسرنا ونجوانا.
وها هو الغيور يصطرخ في وَجْدٍ لَهِيف لكل قلب شَفِيف: اللهَ اللهَ في مكنونات شرفكم، غارُوا عليها واحفظوها، وفي أعراضكم حَذَارِ حَذَارِ أن تهتكوها، ولا يستخِفَنّكم الذين أُشْرِبت قلوبهم التَّفَرْنُجَ والاستغراب، وانساقوا وراء شعارات العولمة والانفتاح والخراب.
ألا فاتقوا الله عباد الله، وسيروا على دروب الفضيلة، وصونوها أن يمسّها يراعُ طائش، أو يَثْلِمَها تصرُّف دَعِيّ فاحش، واللهَ المسؤول أن يحفظنا والمسلمين من أدران المعاصي والرذائل، وأن يُزيّننا بحُلى الإيمان والفضائل، إنه خير مسؤول، وأكرم مأمول.
هذا وصلّوا وسلّموا ـ رحمكم الله ـ على سيد الأنام، النبي المصطفى من ولد عدنان، الذي أنزل عليه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان، فقد أمركم بذلك المولى الرحيم الرحمن، فقال تعالى قولاً كريمًا: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56]، اللهم صلِّ وسلّم وبارك على سيد الأولين والآخرين نبينا محمد...
[1] صحيح البخاري: كتاب النكاح (5223)، وأخرجه أيضًا مسلم في التوبة (2761).
ـــــــــــــــــــ(68/143)
المفاصلة بين الرجال والنساء
...
...
4473
...
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
...
...
الفتن, المرأة, قضايا المجتمع
...
عبد الله بن سعد الغامدي
...
...
جدة
...
...
...
جامع أم القرى
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- تقرير الإسلام لخصلة الحياء. 2- ثناء الله تعالى على البنتين العفيفتين. 3- دروس وعبر من قصة موسى عليه السلام مع الفتاتين المدينيتين. 4- أحاديث نبوية تقرر منع الاختلاط. 5- مناداة بعض الغربيين بمنع الاختلاط. 6- مفاسد الاختلاط. 7- شبهات دعاة التحرر. 8- أسباب الاختلاط. 9- واجب الآباء والأمهات. 10- منع الاختلاط لا يحبس المرأة عن المنافسة والتميز والإبداع.
الخطبة الأولى
أما بعد: فإن أصدق الحديث كلام الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد ، وشرّ الأمور محدثاتها وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالة في النار، وما قلّ وكفى خيرٌ مما كثر وألهى، وإنّ ما توعدون لآتٍ، وما أنتم بمعجزين.
أما بعد: فإنّ شريعة الإسلام جاءت بتقرير الأحكام وتعيين الحدود الفاصلة في علاقة الرجل بالمرأة؛ لينشأ المجتمع المسلم طاهرًا نظيفًا طاهرًا عفيفًا، لا أثر فيه لفاحشة، ولا دعوة فيه لخنى، ولا أمر فيه بمنكر. جاء الإسلام يقرّر أن الحياء مطلوب من الرجال والنساء، لكنه في حق النساء ألزم، ومن حياء النساء أن لا يخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض، وأن لا يتبرّجنَ تبرج الجاهلية الأولى، وأن لا يبدينَ زينتهنّ إلاّ ما ظهر منها، وأن يضربنَ بخمُرهنّ على جيوبهنّ، ولا يبدينَ زينتهنّ إلاّ للأصناف التي ذكرها الله عز وجل في كتابه.
ومن حياء النساء كذلك أن لا يخالطنَ الرجال ولا يزاحمنهم، بل الواجب على النساء أن يأخذنَ حافّات الطريق، وأن يكون لهنّ مجتمعاتهنّ الخاصة بهنّ، ولا يخالط النساء الرجال في حفلات عامة ولا خاصة ولا مؤتمرات ولا ندوات ولا تعليم ولا عمل ولا غير ذلك من نواحي الحياة، إلا ما دعت الضرورة إليه.
في القرآن الكريم يثني ربنا جلّ جلاله على رجلٍ صالح أنه ربّى ابنتين فاضلتين؛ علّمهما مكارم الأخلاق ومحاسن العادات، وبيّن لهما الحدود الفاصلة في علاقة الرجل بالمرأة، يقول الله عزّ وجلّ في خبر كليمه موسى عليه السلام: وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنْ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمْ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لاَ نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ [القصص:23].
موسى عليه السلام وجد جماعة من الناس طائفة من الرجال يسقون بهائمهم أنعامهم، ووجد امرأتين بعيدتين نائيتين، لا تزاحمان الرجال ولا تخالطاهم، سألهما: ما خطبكما؟ قالتا: لا نسقى حتى يصدر الرعاء، لا نزاحم هؤلاء الرعاة، ولا نخالطهم في سقي الماء، بل نصبر وننتظر حتى إذا سقوا أنعامهم وقضوا حوائجهم وانصرفوا من عند ذلك الماء جئنا نحن فسقينا. ثم تأمل قولهن: وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ، لو لم يكن في ذكر قولهن هذا مغزى لاكتفين برد الجواب بقولهن: لاَ نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وكفى ذلك جوابا لموسى، لكن أضفن جوابا آخر مع الجواب الكامل ليشعِرن موسى أن السبب في خروجهن أن أباهن شيخ كبير، ولو لم يكن كذلك لقام هو بهذا العمل، لكن ضعفه اضطرنا لارتياد أمكنة الماء مع الرجال لنستسقي مما لا غنى لنا عنه، ضرورة ملحة استلزمت مجيئهن لهذا الأمر. قال تعالى عن موسى: فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ [القصص:24].
يقول الله عزّ وجلّ: فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ، تمشي مشية فيها حياء، لا فيها تبذُّل، لا فيها تبرُّج، لا فيها إغواء، لا فيها تهييج، وإنما مشية الحياء، تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا [القصص:25]، في أقصر لفظ وأوضحه وجهت الدعوة إلى موسى، ما أكثرت من الكلام، ولا أطالت في الحديث، وإنما لفظ مختصر، لكنه واضح في غير ما اضطراب ولا تلجلج يغري أو يهيّج، قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا، هكذا دعوة ترفع اللّبس والغموض، أسندت الدعوة إلى أبيها ليطمئنّ قلبه صلوات ربي وسلامه عليه، إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا.
هكذا ثناء ربنا عزّ وجلّ في القرآن على هاتين الفتاتين وعلى أبيهما الصالح القانت الذي أحسن تربيتهما وتوجيههما وتعليمهما حتى كانتا على مثل هذا الخلق القويم.
وهكذا ـ أيها المسلمون عباد الله ـ شريعة محمد ، جاءت بمثل هذا الخلق الكريم، تأمر النساء أن لا يخالطنَ الرجال، وتأمر بالمباعدة بين أنفاس الرجال والنساء، تسدُّ كل ذريعة مفضيةٍ إلى الاختلاط. في المسجد رسول يجعل للرجال بابًا وللنساء بابًا، يقول: ((لو تركتم هذا الباب للنساء))، يقول نافع رحمه الله: فوالله، ما دخل منه عبد الله بن عمر ولا خرج حتى قبضه الله إليه.
للنساء في المسجد بابٌ خاص، وكذلك في الصلاة للرجال صفوفهم وللنساء صفوفهنّ، يقول رسول الله : ((خيرُ صفوف الرجال أولها وشرها آخرها، وخير صفوف النساء آخرها وشرها أولها))، مباعدة بين الرجال والنساء في أقدس مكان، في أطهر بقعة، عند أعظم شعيرة هي شعيرة الصلاة، بل أكثر من ذلك لو ناب الإمام شيء في صلاته، لو أنه سها، لو أنه أخطأ شريعة الإسلام تجعل للرجال التسبيح وللنساء التصفيق، إذا ناب الإمام شيء في صلاته سبح الرجال ينبِّهونه، أما النساء فإنهنّ يصفقن بأصابعهنّ على ظهور أكفهنّ، لا يرفعن أصواتهنّ في المسجد. ويقول رسول موجهًا الخطاب للنساء: ((ليس لكنّ أن تحققن الطريق))، ليس لكنّ أن تأخذن حُقّة الطريق ووسطه، عليكن بحافات الطريق، يمشي النساء على جنبات الطريق، لا يزاحمن الرجال في الشوارع والطرقات، ولا في الأسواق والتجمعات، بل للمرأة خصائصها وللرجل خصائصه، كل ما يؤدي إلى الاختلاط شريعة الإسلام تمنعه؛ لأن الاختلاط شرٌّ محض يؤدي إلى شيوع البغاء وقلة الحياء واسترجال النساء وخنوثة الرجال وضياع الأعراض وشيوع المنكرات وفشوِّ الزنا وغير ذلك من الموبقات العظيمة.
نهت شريعة الإسلام عن دخول الرجال على النساء: ((إياكم والدخول على النساء))، قالوا: يا رسول الله، أرأيت الحمو؟ ـ الذي هو قريب الزوج كأخيه وابن عمه ونحو ذلك ـ، قال رسول الله : ((الحمو الموت))، هذا أشدّ خطرًا من غيره؛ لأن النفوس لا تنفر من دخوله، ولا تستريب من ولوجه، ((الحمو الموت)).
شريعة الإسلام تحرم نظر أحد الجنسين إلى الآخر نظرة عمد: ((يا علي، لا تتبع النظرة النظرةَ، فإنما لك الأولى وعليك الثانية)).
شريعة الإسلام تمنع مُمَاسّة الرجال للنساء والعكس حتى لو كان مصافحة، تمنع اختلاطهم، بل لو خرجت المرأة إلى المسجد، لو خرجت تريد بيت الله، تريد الصلاة فلا بد من شروط معتبرة، لا بد من أمورٍ مرعية فرضتها الشريعة الإسلامية، لا تخرج المرأة متبرجة بل متحجبة، لا تخرج متطيبةً متزينة بل تخرج تَفِلَة، لا تخرج المرأة مزاحِمَةً للرجال في الطريق ولا في المسجد، لا بد أن تُؤمَنَ الفتنة منها وعليها، لا تَفتِن ولا تُفتَن. ثم بعد ذلك إذا جاءت إلى المسجد لا ترفع صوتًا حتى لو كان مجلس علم، كان رسول الله يجعل للرجال مجلسًا وللنساء مجلسًا، الرجال قريبون منه، والنساء نائيات عن الرجال بعيدات عنهم، كل هذا لأن شريعة الإسلام منزلة من رب حكيم خبير يعلمُ ما يصلح الناس وما يفسدهم.
الآن في بلاد الغرب في أُوربا وأمريكا المصلحون وعلماء الأخلاق ورجال التربية الكل ينادي بمنع الاختلاط، الكل يذكر أن الاختلاط ما أتى بخير، لا في علم ولا عمل، لا في تحصيل ولا تدريب، بل متى ما وجدت المرأة بجوار الرجل فهي به مشغولة وهو بها مشغول، قال رسول الله : ((ما تركت بعدي فتنة أضرّ على الرجال من النساء)).
المرأة إذا وجدت بجوار الرجل فهي ضررٌ عليه وهو ضررٌ عليها، كلاهما يضر الآخر، ما أمرت شريعة الإسلام بالفصل، ما أمرت شريعة الإسلام بمنع الاختلاط إلاّ لأنها تعلم أنّ الاختلاط ينتج عنه عواقب وخيمة تعود على الأفراد والمجتمعات وعلى الأسر والجماعات، الكل يعاني، لا أحد يأمنُ على عرضه، لا أحد يأمن على دينه؛ لأن الخطر بجواره ظاهرٌ غير كامن.
الآن في أوربا وأمريكا يدعون إلى منع الاختلاط، إلى منع اختلاط الرجال بالنساء؛ لأنهم عانوا من ثماره المرة؛ كثرة اللقطاء، كثرة حوادث الاغتصاب، كثرة الجريمة، فُشوّ الفاحشة، انتشار الأمراض، قال رسول الله : ((ما ظهرت الفاحشة في قومٍ حتى يعلنوا بها إلاّ ابتلاهم الله عزّ وجلّ بالأسقام والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم))، أسقامٌ وأوجاعٌ يضج منها البشر، ولا يجدون لها علاجًا، لا يعرفون لها دواءً حتى الساعة، حتى اللحظة لا يجدون لها علاجًا، والجزاء من جنس العمل.
أيها المسلمون عباد الله، إذا أردنا لهذا المجتمع أن يكون نظيفًا طاهرًا عفيفًا معافى سالمًا من الآفات حتى لو كانت هناك فاحشة مرةً أو مرتين تكونُ مستترةً مختفيةً بعيدةً عن الأنظار يفعلها أهلها في حياء، إذا أردنا للمجتمع أن يكونَ كذلك فالدرجة الأولى والخطوة الأولى هي منع الاختلاط في سائر المرافق والخدمات، يكون للرجال مجتمعهم وللنساء مجتمعهن، ولا يتوقف هذا على الحاكم وحده، بل الصراحة والنصيحة تقتضي أن نقول في هذا المقام: إننا ـ معشر المسلمين ـ كثير منا في بيته لا يمنع الاختلاط، قد يكون في بيته حفلة عرس، أو يكونُ في بيته مأتم، أو اجتماع الأقرباء المحارم بغير المحارم أو غير ذلك من العوارض والمناسبات، فيختلطُ الرجال بالنساء، ولا نغيِّر بل لا تتمَعّرُ وجوهنا، مما يدلّ على أنّ الناس قد انتكس فهمهم للدين.
أيها المسلمون عباد الله، كما يقول بعض من لا خلاق لهم بأن الاختلاط لا بأس منه ولا حرجَ فيه!! أيكون مجتمعنا أطهر من مجتمع رسول الله؟! هل قلوبنا أسلم من قلوب الصحابة؟! الصحابة أطهر الناس قلوبًا، رسول الله منعهم من الاختلاط، عمر بن الخطاب رضى الله عنه في أيام خلافته كان يمنع النساء من أن يسرن في وسط الطريق، بل يُعيِّن محتسبين في الطرقات ينصحون النساء بأن يأخذن الحواف والجنبات.
بعض الناس الآن يقولون: إن المجتمع ناضج وفاهم وواعٍ، سبحان الله! أيدركون المسؤولية أعظم من إدراك الصحابة؟! معاذ الله أن يقول هذا عاقل.
أيها المسلمون عباد الله، إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لن يسكتوا، سيجلبون بخيلهم ورجلهم، ستصدرُ كتابات، وتدون مقالات، وتلقى خُطَب، ويتكلم كل ناعِق: لم تمنعون؟ لم تفصلون؟ سياسة الفصل ما عادت نافعة! بل لا بد من التحام الرجال بالنساء! فالمرأة نصف المجتمع.. إلى غير ذلك من كلام بارد تعودنا سماعه من أولئك الذين لا يريدون للمجتمع طهرًا ولا نظافة ولا عفافًا ولا استقامة. نقول: لا.
أيها المسلمون عباد الله، القول ما قاله الله وما قاله رسول الله ، ليس هناك مجال للتنظير ولا للشقشقة ولا لدغدغة العواطف بمثل هذه الشعارات، المرأة نافعة، لكن ليس بالضرورة أن يكون نفعها قرينًا باتصالها بالرجل والتصاقها به من أجل أن نأمن على أعراضنا وعلى أبنائنا وبناتنا، ومن أجل أن يسلم ذكورنا وإناثنا من كل تحريضٍ على باطل أو أمر بمنكر.
نسأل الله عز وجل أن يردنا إلى دينه ردًا جميلاً، وأن يصرف عنا الفواحش والفتن ما ظهر منها وما بطن، والحمد لله رب العالمين.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله إله الأولين والآخرين، وأشهد أنّ سيدنا ونبينا محمدًا عبدُ الله ورسوله النبي الأمين، بعثه الله بالهدى واليقين، لينذر من كان حيًا ويحق القول على الكافرين، اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه وعلى إخوانه الأنبياءِ والمرسلين، وآل كلٍّ وصحب كلٍّ أجمعين، وأحسن الله ختامي وختامكم وختام المسلمين، وحشر الجميع تحت لواء سيد المرسلين.
أما بعد: أيها المسلمون، فاتقوا الله حق تقاته، وتوبوا إلى الله جميعًا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون.
واعلموا أن من الأسباب المفضية إلى الاختلاط والتي منعتها شريعة الإسلام تشبه الرجال بالنساء وتشبه النساء بالرجال، مما تُرى آثاره وتسمع أخباره، وقد قال رسول الله : ((لعن الله المتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال))، وأخبر أن ثلاثةً حرّم الله عليهم الجنة، ومن هؤلاء الثلاثة رَجلَة النساء المرأة المسترجلة المتشبهه بالرجال في المشية والهيئة، في السمت والصوت، وفي الكلام والسلام، التي تخالطهم، لا تتحاشاهم، ولا ترى حرجًا في الحديث الطويل معهم، مثل هذا الصنف ملعون على لسان رسول الله .
واجب علينا ـ معشر الآباء ـ أن ننشِّئ بناتنا على أنّ لهن مواهب وخصائص، لهن شخصيات وقدرات، للبنات وظيفة كلفهنّ الله عزّ وجلّ بها، والله تعالى يقول: وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى [آل عمران:36]، هكذا قانون القرآن، القانون العادل، القانون الأبدي، لا يمكن أن تكون المرأة رجلاً، ولا يمكن أن يصبح الرجل امرأة، ما يمكن أن يختلط الحابل بالنابل إلى هذا الحدّ.
واجب علينا ـ معشر الآباء معشر الأمهات ـ أن ننشِّئ بناتنا على أن تعتزّ الواحدة وتحمد ربها على أن جعلها أنثى، قال الله عزّ وجل: وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ [النساء:32]،ما ينبغي للمرأة أن تتمنى لو كانت رجلاً، ولا ينبغي للرجل أن يتمنى لو كان امرأة، لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا [النساء:32]. هذه التربية هي التي نشّأ عليها محمد الرجال والنساء.
أيها الإخوة المسلمون، لا يقعدُ بالمرأة عن بلوغ أمل ولا عن تحصيل علم ولا تفاضل في عمل، فقد كان نساء من المؤمنات يشهدن صلاة الصبح مع رسول الله متلفعات بمروطهن، ما يُعرفنَ من الغلس، كانت المرأة تشهد صلاة الصبح مع رسول الله ، وكنَّ يشهدن الجمعة والجماعة والغزو والجهاد، وكنّ يتلقّين العلم، ويسابقنَ في مضامير العمل، ما قعد بهن منع الاختلاط عن تحصيل ثواب أو التفوق في الحصول على أجر، لكن أعداء الله عزّ وجلّ يريدون أن يصوِّروا لنا أن منع الاختلاط معناه أن تحرم المرأة من العلم والعمل، يقولون لنا: أتريدون أن نعود إلى عصر الحريم؟! أتريدون لنا أنْ نرجع إلى القرون الوسطى؟! إلى العصور المظلمة؟! ونحو ذلك من كلام يهوِّلون به، ويخوّفون كل مُصْلِح، كل من يدعو إلى إصلاح، وكل من يدعو إلى منع الفساد، يهولون عليه بمثل تلك الشعارات الباطلة، لكن يبقى الحق حقًا، ويبقى الباطل باطلاً، وإن دان به أكثر الناس، وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [الأنعام:116].
فنسأل الله عزّ وجلّ أن يصرف عنا شر الأشرار وكيد الفجار وشر طوارق الليل والنهار إلاّ طارقًا يطرق بخير يا رحمن..
ـــــــــــــــــــ(68/144)
لإجازة وصلة الرحم
...
...
4491
...
الأسرة والمجتمع
...
...
الأرحام
...
عامر بن عيسى اللهو
...
...
الدمام
...
16/6/1426
...
...
جامع الأميرة سارة بنت مساعد
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- تنوع اهتمامات الناس في الإجازة. 2- حثّ الإسلام على صلة الأرحام. 3- فضائل صلة الرحم. 4- البواعث على صلة الرحم. 5- عظم ذنب القطيعة. 6- أعظم أنواع الصلة.
الخطبة الأولى
أيها الإخوة المؤمنون، في الإجازات والعطلات تتنوّع اهتمامات الناس، وتتعدّد مشاربهم، وتختلف وجهاتهم، فمنهم من ينشد الترويح البريء، ومنهم من يسعى إلى الاستمتاع المحرّم، وأفضل من هذا وذاك من يتقرب إلى الله بكل حركاته وتنقلاته، قال معاذ بن جبل رضي الله عنه: (إني أحتسب على الله نومتي كما أحتسب قومتي). فالموفق ـ عباد الله ـ من كانت له نية صالحة في كل عمل من أعماله ولو كان من المباحات.
ولما كان في الإجازات وفرة في الوقت ومسرح للتفكير في كيفية قضائها أحببنا أن نذكّر بأمر عظيم ونوع من العبادات كريم، به اكتساب رضا الرب ثمّ محبة الخلق، وهو علامة على كمال الإيمان وحسن الإسلام، ذلكم ـ يا رعاكم الله ـ هو صلة الأرحام.
صلة الرحم من العبادات الجليلة والأخلاق النبيلة التي حثّ عليها الإسلام وحذّر من قطيعتها، ولو لم يكن في الدين أمر بالصلة والبر للأرحام لكان في الطباع السليمة والأخلاق الكريمة ما يدلّ عليه، فكيف وهو من أول ما بعث به النبي ؟! فعن عمرو بن عبسة رضي الله عنه أنه سأل رسول الله : بأي شيء أرسلك الله؟ قال: ((أرسلني بصلة الأرحام وكسر الأوثان، وأن يوحَّد الله لا يشرك به شيء)) رواه مسلم.
صلة الأرحام تقوّي المودة، وتزيد المحبة، وتطرد الوحشة، وتشدّ عرى القرابة، وتزيل العداوة، فلفظها يدلّ على الرقة والعطف والرأفة، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إن الرحم شُجنَة من الرحمن، فقال الله: من وصلك وصلته، ومن قطعك قطعته)) رواه البخاري، وعن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول فيما رواه عن ربه عز وجل: ((أنا الرحمن، وهي الرحم، شققت لها اسما من اسمي، من وصلها وصلته، ومن قطعها بتته)) رواه أهل السنن بإسناد صحيح.
قال الإمام النووي رحمه الله: "صلة الرحم هي الإحسان إلى الأقارب على حسب حال الواصل، فتارة تكون بالمال، وتارة بالخدمة، وتارة بالزيارة والسلام وغير ذلك. ومعنى صلة الله لمن وصل رحمه فهي عبارة عن لطفه بهم ورحمته إياهم وعطفه عليهم بإحسانه ونعمه، أو صلتهم بأهل ملكوته الأعلى وشرح صدورهم لمعرفته وطاعته". وقال رحمه الله: "اختلفوا في حدّ الرحم التي يجب وصلها، فقيل: كل رحم مَحرَم بحيث لو كان أحدهما أنثى والآخر ذكرا حرمت مناكحتهما، وقيل: هو عام في كل رحم من ذوي الأرحام في الميراث، يستوي فيه المحرم وغيره، وهذا هو الصحيح" انتهى كلامه رحمه الله.
عباد الله، في صلة الأرحام رغد العيش والهناء والسعادة في الدنيا والنعيم المقيم في الآخرة، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((من سرَّه أن يُبسط له في رزقه وينسأ له في أثره فليصل رحمه)) متفق عليه. وأينا لا يسره بسط الرزق وبركة العمر؟! وفي الصحيحين عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه أن رجلاً قال: يا رسول الله، أخبرني بما يدخلني الجنة ويباعدني عن النار، فقال النبي : ((لقد وفق)) أو ((لقد هدي))، ثم قال: ((كيف قلت؟)) قال: فأعاد، فقال النبي : ((تعبد الله لا تشرك به شيئا، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصل ذا رحمك))، فلما أدبر قال النبي : ((إن تمسك بما أمر به دخل الجنة)) متفق عليه.
إن أعظم ما يبعث على تعاهد الأرحام وصلتهم هو خوف الله وخشيته، وهذا لا يكون إلا عند أهل الإيمان، قال جل ذكره: وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ [الرعد:21]، وفي الناس من تموت عواطفه وتضعف خشيته، فيجوب الأرض ولا يفكر في زيارة أقاربه أو السلام عليهم، قال عمرو بن دينار رحمه الله: "تعلَمُنّ أنه ما من خطوة بعد الفريضة أعظم أجرا من خطوة إلى ذي رحم"، وقال المرّوذي: أدخلتُ على أبي عبد الله أحمد بن حنبل رحمه الله فقال الرجل: لي قرابة بالمراغة ترى لي أن أرجع إلى الثغر أو ترى أن أذهب فأسلم عليهم؟ فقال له: استخِر الله واذهب فسلّم عليهم.
كما أن من الناس من يتغلب عليه شيطانه، فيقطع رحمه بسبب خلاف أقصى ما يُقال عنه: إنه ليس مستحيلَ الحل، ولكنها العزة بالإثم والمكابرة بالباطل. وفي استطلاع للرأي حول وجود خصومات بين الأقارب على عيّنة من الناس أجاب خمس وستون بالمائة منهم: نعم توجد خصومة، وأجاب خمس وثلاثون بالمائة بالنفي، فنحن أمام ظاهرة خطيرة، يقول النبي : ((لا يحل لرجل أن يهجر أخاه فوق ثلاث، يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام)) متفق عليه، وقال رجل للنبي : إن لي قرابة أصلهم ويقطعوني، وأحسن إليهم ويسيئون إليّ، وأحلم عنهم ويجهلون عليّ، فقال : ((لئن كنت كما قلت فكأنما تسفهم الملّ، ولا يزال معك من الله ظهير عليهم ما دمت على ذلك)) رواه مسلم.
فما أجمل أن يتعالى المسلم على أحقاده، ويكون همه رضا مولاه، فلا جزاء لمن عصى الله فيك بأفضل من أن تطيع الله فيه.
وإن الذي بيني وبين بني أبِي وبين بني عمي لَمختلف جدّا
إذا أكلوا لحمي وفَرتُ لحومَهم وإن هدموا مَجدي بنيتُ لهم مجدًا
ولا أحْمل الْحقدَ القديم عليهمُ وليس زعيم القوم من يحمل الحقدَا
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
الخطبة الثانية
أيها الإخوة المؤمنون، إن خطر قطع الرحم عظيم، وذنبَها جسيم، وعقوبتها معجلة، واقرؤوا إن شئتم قول ربكم: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمْ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ [محمد:22، 23]، ويقول النبي : ((ما من ذنب أجدر أن يُعجل الله لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدخره له في الآخرة مثل البغي وقطيعة الرحم)) رواه أبو داود والترمذي وهو حديث صحيح.
ثم اعلموا ـ يا عباد الله ـ أن الأرحام درجات، فأعظمها عمودي النسب، وهما الأم والأب ثم ما تفرّع عنهما، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رجل: يا رسول، من أحق الناس بحسن الصحبة؟ قال: ((أمك ثم أمك ثم أمك ثم أبوك ثم أدناك أدناك)) رواه مسلم.
عباد الله، وإن من أعظمِ صوَر صلة الأرحام الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتعاون على البر والتقوى، يقول الله تعالى لنبيه : وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ [الشعراء:214]، وإنما خصهم الله بالذكر لتأكيد حقهم. وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: أتيت النبي وهو في قبة من أدمٍ حمراء في نحو من أربعين رجلاً فقال: ((إنه مفتوح لكم، وأنتم منصورون ومصيبون، فمن أدرك ذلك منكم فليتق الله وليأمر بالمعروف ولينه عن المنكر وليصل رحمه، ومثل الذي يعين قومه على غير الحق كمثل البعير يتردّى فهو يمدّ بذنبه)) رواه الحاكم وقال: "صحيح الإسناد" ووافقه الذهبي.
فاتقوا الله عباد الله، وقوموا بما أمركم به وأخذ عليكم الميثاق من صلة الأرحام، وتناسوا الأحقاد والضغائن، فلكم في نبيكم أسوة حسنة.
وصلى الله على نبيّنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين...
ـــــــــــــــــــ(68/145)