إنفلونزا الأسهم وأسباب حل الأزمة
...
...
4795
...
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
...
...
الفتن, قضايا المجتمع
...
عبد الكريم بن علي الشرفي
...
...
الجبيل الصناعية
...
...
...
جامع عمرو بن العاص
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- مصائب من حولنا حفظنا الله منها. 2- مصيبة انهيار الأسهم وآثارها. 3- تلاعب الأقوياء بالضعفاء في سوق الأسهم. 4- دروس وعبر من هذه الأزمة. 5- أسباب حل الأزمة.
الخطبة الأولى
أما بعد: أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل في السر والعلن؛ فإنه من يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
أمة الإسلام، سمعنا كثيرًا عن صرعى المخدّرات وصرعى الشذوذ الجنسي، وحمى الله جل جلاله هذه البلاد وأهلها من هذه الأمراض الخطيرة، وسمعنا عن صرعى انهيار المساكن بسبب الزلازل والفيضانات، وحمى الله جل جلاله هذه البلاد وأهلها من هذه الكوارث، وسمعنا عن صرعى الحروب والأمراض الفتاكة، وحمى الله جل جلاله هذه البلاد من هذه الآفات، ونسمع عن صرعى مرض إنفلونزا الطيور، ونسأل الله أن يحمينا وجميع المسلمين من أخطارها.
وفي خلال الأسابيع الماضية إذ بنا نسمع ونفاجَأ في بلادنا بصرعى إنفلونزا خطير أشدّ خطرا من إنفلونزا الطيور، إنه إنفلونزا الأسهم الذي أصاب بلادَنا بسبب انهيار الأسهم، فإذا بنا نسمع بمن أصيب بسكتة قلبية وأمراض نفسية نتيجة هبوط أسعار الأسهم، وإذا بالاكتتاب ينقلب إلى اكتئاب حتى صار له الآثار السلبية على الصعيد النفسي والأسري والاجتماعي، قال أحد أخصّاء الطبّ النفسي: "إن العيادات النفسية انتعشت كثيرا خلال الأيام الماضية، واستقبلت حالات من ضحايا القلق والاكتئاب والتوتّر والانهيار العصبي"، يذكر أحد الإخوة في الصيدليات أنّ الإقبال شديد في هذه الأيام على أدوية القلَق والاكتئاب النفسي والمهدئات، بل لقد امتدّت موجة هبوط الأسهم لتقضي على أربعة مواطنين نتيجة تعرّضهم لأزمة قلبية بعد انهيار رؤوس أموالهم بين عشية وضحاها، وآخر قتل صديقَه رميا بالرصاص بسبب اختلافهم في مبالغ نقدية في إحدى المحافظ الاستثمارية، ومن أعجب قصص حالات الطلاق تقول إحدى الزوجات: "إن زوجها بدأ يقبل على ارتياد سوق الأسهم قبل عام، وطلب منها أن تبيع جميع ما تملك من الذهب، إضافة إلى اقتراضه من إحدى البنوك الربويّة، وبدأ يغيب عن عمله من أجل مراقبة سوق الأسهم، وفي خلال الثلاثة الأسابيع الماضية خسر كل ماله وأصبح مطالَب بردّ قرض البنك الربويّ؛ مما اضطره إلى بيع سيارته وبيته، وكثر الشجار بينهما نتيجة العصبية وانفعالاته النفسية الزائدة، ولا سيما بعد أن اعتاد ضرب زوجته أمام أطفالها، فطلبت منه الطلاق بعد زواج دام عشرة سنوات.
أيها الإخوة في الله، إن ما حدث في سوق الأسهم في بلادنا الأيام الماضية من انهيار أدى إلى حالة من الهلع والقلق والتذمّر والغضَب عند كثير من المرابين وغير المرابين في السوق يشبه كثيرًا ما حدث في الكويت قبل عشرين سنة تقريبًا "سوق المناخ"، ولكن الذي حصل في الكويت كارثة، بينما الذي حصل عندنا نُذُر، عندما كانت أسهم شركات وهميّة تطرح في السوق وأصبح البيع والشراء اسميًّا غير حقيقي، حتى وصل حجم المبالغ الاسميّة المتداولة تفوق بكثير حجم السيولة الموجودة في دولة الكويت.
ومن صور التلاعب الموجودة في سوق الأسهم ما يحصل أحيانًا من اتّفاق بين اثنين من كبار المساهمين في دخول اللعبه وإغراق السوق من جهة ورفعه من جهة أخرى، والمستفيد من ذلك هذين الهامورين. إنَّ ما يفعله بعض أرباب الأموال من خداع لصغار المساهمين حيث يُغرقون سوق الأسهم لأجل أن ينخفض سعر السهم ثم يأتي بعد ذلك ليشتريه بسعرٍ منخفض، فيكون هناك زيادة في الطلب، فيرتفع السعر بناءً على زيادة الطلب، كلّ هذه المضاربات بأنواعها ليس لها عائد ولا تنفع الأمة، وإنما هي استفادة وربح لنوعية معينه وهم كبار المساهمين على حساب صغار المساهمين. وأنا أشبّهه بعالم الأسماك في البحار، فالسمكة الكبيرة تأكل السمكة الصغيرة.
أيها الإخوة في الله، إن الإسلام بجميع قواعده وأصوله يحرم الضرر، قال : ((لا ضرر ولا ضرار)). وإن هذه المضاربات نتج عنها أضرار نفسية واجتماعية واقتصادية، وما حدث لكثير من المساهمين في خلال الأسابيع الماضية لخير شاهد على الآثار السيئة لهذه المعاملات وصورها، بالإضافة إلى تكديس رؤوس الأموال بجانب على حساب جانب آخر من المجتمع، فينحصر المال في يد زمرة من المرابين الذين تتضخّم أرصدتهم وتتنامى ثروتهم، ثم يضعونها في أيدي أعداء الأمة الإسلامية من اليهود والنصارى، وتولد الرأس مالية بصورة مقنَّنة، بينما تتعرض بلدان أصحاب الأموال للجفاف من السيولة النقدية ومن الكساد الاقتصادي، فينتج عن ذلك البطالة في المجتمع، ناهيك عمّا يترتب على هذه المعاملات المحرمة من قطع أوصال الأخوة والترابط بين أفراد المجتمع الواحد وحصول الفرقة والعداوة والبغضاء والشحناء بين أفراد المجتمع ونزع لروح التآلف والتراحم والتعاطف وسدّ لباب العمل في المكاسب الصحيحة، ولما فيه من ظلم للغير حيث يستولي المرابي على أتعاب المقترضين وجهدهم بغير حق.
أيها الإخوة في الله، لا بد أن نتَّعِظ ونعتبر بما يحلّ بمن قبلنا من أزمات ومصائب، وأن نأخذ منها الدروس والعبر لحلّ الأزمات، فنعتبر ونقرّ أن ما حلّ من انهيار للأسهم إنما هو بذنوبنا، سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً [الأحزاب:62]، وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلاً [فاطر:43]، قانون من قوانين الله في هذا الكون: إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ [الرعد:11]، لا يغير الله الإنسان من نعيم إلى جحيم إلا إذا تغيّر من طاعة إلى معصية، ولا يغيره من جحيم إلى نعيم إلا إذا تغير من معصية إلى طاعة، قال تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ [الأنفال:53]، ويقول النبي : ((إن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه))، ويقول تعالى: وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ [الواقعة:82]، ويقول جل جلاله: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ [الشورى:30].
فمن الدروس والعبر ـ يا أمة الإسلام ـ أن من رحمة الله بعباده أنه لا يترك الناس هكذا سادرين في غيهم، وإنما يبتلهم ليحاسِبوا أنفسهم ويتوبوا إلى الله ويعودوا إلى الله، فقد يمنع الله عن بعض الناس الثراء والغنى رحمة بهم؛ حتى لا يزدادوا إثمًا ولا يزدادوا غيا وبطرًا، وصنف من الناس لولا هذا التضييق الإلهي لظلّوا في بطرهم وطغيانهم، وللجّوا في عصيانهم وإسرافهم، قال تعالى: وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ [المؤمنون:75، 76].
ونقول لإخواننا الذين أعلن إفلاسهم أو قلّ رصيدهم: هل تبتم إلى الله تعالى من التعامل بالربا؟! هل ندمتم على ضياع الصلوات والجماعات بسبب متابعة أسهم البنوك والشركات وتضييع الأمانات؟! هل صدقتم التوبة؟! هل عدتم إلى الله؟! هل ندمتم على ما فعلتم؟! هل تضرعتم إلى الله أم أن القلوب لا تزال منطوية؟! لو عادت الأموال وحُلّت الأزمة هل ستعودون إلى المقامرة وإلى الربا وإلى الدَّين والسَّلب والسرقة لأموال الناس والزوجات، أم أن حالهم سيكون كما قال الله تعالى: وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ [الأنعام:2]؟! والله تعالى قد يكشف هذه الأزمة، وبدأنا نرى بوادر كشفها، ولكن الله تعالى يقول: فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمْ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ [الزخرف:50]، ويعلم الله إن فريقا سينكثون بعد كشف الأزمة عنهم لعلهم يعودون إلى الله كما قال تعالى: إِنْ يَعْلَمْ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ [الأنفال:70]، ونحمد الله تعالى أنه لم يعمّم العقاب، وإنما جعلها في أموالهم، فمنهم من أعلن إفلاسه، ومنهم من عاد برأس ماله، ومنهم من بقي مديونًا، ولو عمّ الله العقاب لهلكنا أجمعين، وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً [الأنفال:25].
فالله جل جلاله ـ أيها الإخوة ـ عندما يأخذ يعطِي، وعندما يبتلي يعافي، فلا يزيد ذلك في ملكه شيئا، ولا ينقص من ملكه شيئا، إنما يريد منّا أن نعود إليه وأن نتوب إليه وأن نلجأ إليه.
جاء رجل إلى أحد العلماء وقال: إنني أصِبت بقحط عظيم، هلك الزرع وجفّ الضرع، قال له: استغفر الله، فجاءه آخر وقال: إن ولدي يموت، فقال: استغفر الله، فجاءه آخر وقال: أموالي تذهب وتجارتي تكسد، فقال: استغفر الله، وجاء رابع وقال: هلكت البساتين والحدائق وسقطت الثمار، فقال: استغفر الله، فقال أحد الجالسين: كلّهم تقول لهم: استغفروا الله، فقال: نعم، وهكذا الله تعالى قال في كتابه العزيز: فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا [نوح:10-13]. فلماذا للأزمات لا ترجعون لله وقارًا؟! لماذا تصرّون على الذنب والمعصية حتى في لحظات الضعف والهزمات أمام الله القوي العزيز وهو القائل في كتابه: وَأَلَّوْ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا [الجن:16].
أيها الإخوة في الله، إن موسى عليه السلام تعرض هو وقومه لمثل هذا البلاء يوم أن خرج فرعون يقول للناس: أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي [الزخرف:51]، وقارون يخرج في زينته على الناس قائلا: إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي [القصص:78]، وضعفت نفوس بعض الناس حتى قال قائل منهم: يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ [القصص:79]، وبدأت الموازين تختلّ؛ مما جعل موسى يدعو على هذه الأموال أن تدمّر فقال موسى: رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوْا الْعَذَابَ الأَلِيمَ [يونس:88]، فاستجاب الله جل جلاله دعوته: قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلا تَتَّبِعَانِ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [يونس:89]، فأرسل الله الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم لتجتاح الزروع والدور والقصور والأشجار والأنهار، قال تعالى: فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ [الأعراف:133]، وأما قارون فخسف الله به وبداره وأمواله الأرض، قال تعالى: فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنْ المُنْتَصِرِينَ [القصص:81].
يا أمة الإسلام، إنا نعلم أن ما حلّ بساحاتنا ومجتمعنا بسبب أزمة الأسهم وفتنتها حتى دخلت في كل بيت، فالموظف ترك وظيفته، والعامل ترك عمله، والمهندس ترك مصنعه، والمدرس ترك مدرسته، وعم هذا البلاء جميع أصناف الناس، رجالا ونساء، كبارًا وصغارًا، حتى أصبح حديثهم في المجالس، بل وقع كثير منهم في المعاملات الربوية المحرمة إلا من رحم الله وقليل ما هم، وإذا بنا بدأنا نفتقد بعضا ممن نحسب فيهم الخير والصلاح في المساجد وحلقات العلم والدروس والمحاضرات وأعمال الخير، وانتشرت تجارة بيع الأسماء حتى غزت هذه الفتنة بيوت الناس.
ومن الدروس والعبر أن يعلم المبتلى أن ما حصل من ربح أو خسارة هو أمر قدريّ، ينبغي أن لا يكون فيه الفرح والحزن مخالفًا لقواعد الإيمان والتوكل على الله، وأن لا يؤدي إلى تجاوزات محرّمة تتعارض مع الإيمان بالقدر والصبر على البلاء، فلا يجزع إذا أصيب في ماله، ولا يبطر إذا وسع عليه في ماله، قال جل جلاله: لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ [الحديد:23].
وينبغي عدم القنوط من رحمة الله، والإيمانُ بقضاء الله وقدره، قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا [التوبة:51]، ونتذكر أن الخسارة المادية أهون من خسارة الدّين، ونتذكر آلام المسلمين ومآسيهم وفجائعهم في أولادهم وأزواجهم وأموالهم وديارهم، وأن هذه أنواعٌ من الابتلاءات، فمن الناس من يبتلى بالمرض، ومن الناس من يبتلى بالخوف، ومن الناس من يبتلى بالموت، ومن الناس من يبتلى بالجوع، ومن الناس من يبتلى بالغنى، ومن الناس من يبتلى بالفقر، قال جل جلاله: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ [الأنبياء:35]، وقال تعالى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنْ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرْ الصَّابِرِينَ [البقرة:155].
ومن الدروس والعبر التي نقتبسها من هذه الأزمة: النظرُ للجانب الإيجابي من الخسارة، فما خسِره الإنسان قد يكون مجرّد ابتلاء يكفّر الله به الذنوب، وقد يكون مالاً حرامًا نزعت منه البركة فكانت فرصة للتخلص منه، وقد تكون تجربة مؤقّتةً ينبّه الله العبد فيها أن لا يغترّ بالدنيا وزينتها، فيعود ويتوب إلى الله، قال تعالى: اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ [الحديد:20].
فلهذا ـ يا عباد الله ـ ينبغي أن يعلم الإنسان أن الهَوَس بالأسهم وغيرها من أمور الدنيا والعيش بهمّها لا ينفعه، بل قد يؤدي به إلى نتيجة كارثة، وعليه أن يتجنب أن يعطي هذه القضايا أكثر من حجمها، بل يرشدها ويسيطر عليها.
اللهم إنا نبرأ إليك من ذنوبنا ومعاصينا، اللهم لا تسلط علينا من لا يخافك فينا ولا يرحمنا، برحمتك يا أرحم الراحمين.
فاتقوا الله عباد الله، وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [البقرة:281]، وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور:31].
فتوبوا إليه واستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا كما يحبّ ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد: أيها الإخوة في الله، من أسباب حل هذه الأزمة الإيمانُ الصادق، قال تعالى: فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ [يونس:98]، فالإيمان بالله تعالى يكشِف الخزي في الحياة الدنيا، وهل هناك أخزَى من أن يصبح الإنسان يملِك المليارات ثم يمسي وقد أعلن إفلاسه؟!
ومن أسباب حل هذه الأزمة الاقتصادية تقوى الله عز وجل، قال تعالى: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ [الطلاق:2، 3].
ومن أسباب حل الأزمات الاقتصادية تركُ الربا والابتعاد عن أكل الحرام، قال تعالى: كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى [طه:81]. والربا جريمة اجتماعية، إذا تفشت في مجتمع من المجتمعات دمرته وقوضت بنيانه، قال ابن القيم: "إذا ظهر الزنا والربا في قرية أذن بهلاكها"، ويقول تعالى: يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ [البقرة:276]، وفي الحديث الذي رواه عبد الله بن مسعود أن رسول الله قال: ((ما أحد أكثر من الربا إلا كان عاقبة أمره إلى قلة)).
ومن أسباب حل الأزمات الاقتصادية أداءُ الزكاة، فبالزكاة تدفع النقم وتستجلب النعم، فالمال مال الله، والعبد وكيل عليه، يصرفه حيث أمر سيده ومالكه الحقيقي، فبإخراج الزكاة يؤدّي شكر نعمة المال، فيضاعفه الله له، قال تعالى: وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَا فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُضْعِفُونَ [الروم:39].
ومن أسباب حل الأزمات الاقتصادية المحافظة على الصلوات وأمر الأهل والأبناء بالمحافظة عليها والصبر على ذلك، قال تعالى: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى [طه:132].
أيها الإخوة في الله، بعض من يتداول الأسهم لم يعد يكترث بمواعيد الصلاة، خصوصًا صلاة المغرب التي تأتي ضمن فترة التداول المسائية، وإن أداها فيؤديها على عجل، والله أعلم بما في قلبه من خشوع.
سليمان عليه السلام يستعرض أعظم أمواله الخيول الصافنات الجياد، مرّت الخيول من أمامه فتتأخّر الصلاة ويمرّ وقتها وهو ينظر إلى الخيل، وعندما تذكّر وانتبه لما نسي ذكر الله، فكان علاج ذلك القلب الذي انشَغل عن ذكر الله أن أمر بإعادة الخيول ثم نحرها في سبيل الله، ولم يرض أن يتصدّق بها حيّة لأنّ القلب الذي التفت التفاتة يسيرة في لحظة من لحظات الضعف البشري لا يعالجه إلا العزم والحزم والعودة إلى الله بصدق بكامل القلب الإيماني، قال تعالى: وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالأَعْنَاقِ [ص:30-33].
ومن أسباب حل الأزمات الاقتصادية المداومة على ذكر الله تعالى؛ فعلى المسلم أن لا ينشغل بالأسهم والمعاملات والتجارة عن ذكر الله تعالى، قال عز وجل: رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ [النور:37]، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ [المنافقون:9].
ومن أسباب حل الأزمات الدعاء الصادق الخالص لله تعالى، أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ [النمل:62]، وقال سبحانه: وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر:60]، والرسول يعالج مثل هذه الأزمات عند أصحابه بمثل هذا الدعاء: ((اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، وأعوذ بك من العجز والكسل، وأعوذ بك من الجبن والبخل، وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال)).
ومن أسباب حل الأزمات التوبة والرجوع إلى الله وعدم اليأس من رحمته، قال تعالى: قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر:53]، فينبغي أن لا ييأس المصابون بهذه الأزمة، فالله يفتح رصيدًا من الحسنات للتائبين بعدد الذنوب، إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا [الفرقن:70]، ويقول سبحانه: وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة:268]، واسع بيده خزائن السموات والأرض، لَمَغْفِرَةٌ مِنْ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [آل عمران:157].
اللهم أغنِنا بحلالك عن حرامك وبطاعتك عمن سواك، اللهم منَّ علينا بصلاح أحوالنا واستقامة أمورنا وصحة معاملاتنا، اللهم طهر قلوبنا وأموالنا وأعمالنا من الحرام يا رب العالمين...
ــــــــــــــــــــ(67/288)
الأم رمز الرحمة والحنان
...
...
4815
...
الأسرة والمجتمع
...
...
الوالدان
...
محمد بن سليمان المهوس
...
...
الدمام
...
23/3/1427
...
...
جامع الحمادي
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- سبب فضل أويس القرني. 2- فضل الأم ومعاناتها. 3- الأمر ببر الأم. 4- صور من بر السلف الصالح بأمهاتهم. 5- إحسان الأم لا يكافأ. 6- من قصص العقوق في العصر الحاضر. 7- حق الأم على ولدها.
الخطبة الأولى
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى، فإنَّ تقوى الله هي العروةُ الوثقى والسعادة الكبرى والنجاةُ العظمى في الآخرة والأولى، ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70، 71].
عباد الله، وصف لنا النبي رجلاً بأدق وصف؛ بل ذكر علامةً تميزه عن غيره، وقبيلته التي يُنْسَبُ إليها، وأخبر عن علو منزلته عند الله وعند ورسوله ، حتى أنه أمر البررةَ الأخيار من آله وصحابته بالتماس دعوته وابتغاء القربى إلى الله بها؛ لأنه إذا أقسم على الله أبره.
وأما عملُ هذا الرجل وآيَتُه العظيمةُ التي أهلته لهذه المنزلة ما حدث به رسولنا أصحابَه بقوله: ((يأتي عليكُم أُوَيْسُ بْنُ عامِرٍ معَ أمْدادِ أهلِ اليمن مِنْ مُرَادٍ ثُمَّ مِنْ قَرَنٍ، كان به بَرَصٌ فَبَرِأَ مِنْهُ إلا مَوْضِعَ دِرْهَمٍ، له والدةٌ هو بها بارٌ، لو أقسم على الله لأبَرَّهُ، فإِنِ اسْتَطَعْتَ ـ أي: يا عمر ـ أنْ يَسْتَغْفِرَ لك فافْعَلْ)) رواه مسلم، فكان عمر إذا أتى عليه أمدادُ أهلِ اليمن يسألهم عنه: أفيكم أويس بن عام؟ حتى أتى على أويس بن عامر فقال: أنت أويس بن عامر؟ قال: نعم، قال مِن مُرَادٍ ثُمَّ من قَرَنٍ؟ قال: نعم، قال: فكان بك برصٌ فَبَرأتَ مِنْهُ إلا موضِعَ دِرْهَمٍ؟ قال: نعم، قال: لك والدة؟ قال: نعم، قال: سمعت رسول الله يقول.. وذكر الحديثَ السابقَ، وطلب منه أن يستغفر لهُ، فاسْتَغْفَرَ لَهُ.
إنه أويس بن عامر القَرَنِي الذي منعه بِرُّه بأمِّه قدومَهُ على النبي ليراه ويسمعَ منه.
عباد الله، البرّ بالأم علامةُ كمالِ الإيمان وحُسْنِ الإسْلام؛ لأنها صاحبةُ القلب الرحيم والصدر الحنون، التي سرت الرحمةُ في جسدها كسريان الدم بالعروق، ونفْسُها الطيبة وَسِعَتْ ما لم تسعه ملاينُ النفوس. تُحِبُّ وإنْ لم تُحَبّ، وتصفح وتسامح من يَجْهَلُ عليها، تَحْزَنُ ليفرح غيرُها، وتشقى ليرتاح غيرها، تقدِّم وتضحي، وتُعطي ولا تطلب.
جاء رجلٌ إلى النبي فقال: من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: ((أمك))، قال: ثم من؟ قال: ((أمك))، قال: ثم من؟ قال: ((أمك))، قال: ثم من؟ قال: ((أبوك)) متفق عليه من حديث أبي هريرة.
أُمُّكَ ـ يا عبد الله ـ التي حملتك في بطنها تسعةَ أشهر وهنًا على وهن، حملتك كُرهًا ووضعتك كرهًا، تزيدها بنموّك ضعفًا، وتحملها فوق طاقتها عناءً، وهي ضعيفة الجسم واهنة القوى. وعند الوضع رأت الموتَ بعينها، زفرات وأنين، غصص وآلام، ولكنها تتصبّر وَتتصبّر, وعندما أبصرتك بجانبها وضمّتك إلى صدرها واستنشقت ريحَك نسيت آلامَها وتناست أوجاعها، رأتك فعلّقت فيك آمالها، ورأت فيك تحقيق أحلامَها، ولسانُ حالِها يقول:
يا حبذا ريحُ الولد ريح الخزامى في البلد
أهكذا كل ولد أم لم يلد مثلي أحد
ولا ينتهي العناء والتعب عند ولادتك، بل حتى بعد الولادة؛ حيث تنشغِلُ في خدمتك ليلها ونهارها، تغذيك بصحتها، وتقوّيك بضعفها، طعامك درّها، وبيتك حجرها، ومركبك يداها، تحيطك وترعاك، وتجوع لتشبع، وتسهر لتنام، تخاف عليك رقّةَ النسيم وطنين الذباب، وتؤثرك على نفسها بالغذاء والراحَة.
على الأكتاف تحمل والأيادي وحبك في الضلوع وفي الفؤاد
فأي بشائر حلت علينا كما حل الربيع على البوادي
لك البسمات ساحرة تغنِّي وتنسينِي مرارات البعاد
فنم ولدي بِمهدك فِي هناء وداعب طيف أحلام الرقاد
وإن حل الظلام بِجناحيه وأرخى ظله فِي كل واد
ونام الخلق في أمنٍ جميعا فقلبي ساهر عند المهاد
ويا ليتَ العناء ينتهي عند هذا، بل يستمرّ ويستمر عند بدايتِك بالمشي، فتُحِيطك بعنايتها، وتُتَابِعُك نظراتُها، وتسعى وراءك خوفًا عليك، حتَّى إذا أخذت منك السنين أخذ منها الشوق والحنين، فصورتك أبهى عندها من البدر إذا استتمّ، وصوتك أنْدى على مسمعها من صوت البلابل وتغريد الأطيار، وريحُك أروع عندها من الأطياب والأزهار، وسعادتك أغلى من الدنيا لو سيقت إليها بحذافيرها، وحياتُك عندها أغلى من نفسها التي بين جنبيها، فتؤثر الموت لتعيش أنت سالمًا معافى.
روى أحمد والنسائي وابن ماجه عن معاوية بنِ جاهمة السّلَمِي رضي الله عنه قال: أتيت رسول الله فقلت: يا رسول الله، إني كنت أردت الجهاد معك، أبتغي بذلك وجه الله والدار الآخرة، قال: ((وَيْحَكَ، أحَيَّةٌ أُمُّكَ؟)) قلت: نعم، قال: ((ارْجِعْ فَبرَّهَا))، ثم أتيته من الجانب الآخر فقلت: يا رسول الله، إني كنت أردت الجهاد معك، أبتغي بذلك وجه الله والدار الآخرة، قال: ((ويحك، أحية أمك؟)) قلت: نعم يا رسول الله، قال: ((فارجع إليها فَبَرَّهَا))، ثم أتيته من أمامه، فقلت: يا رسول الله، إني كنت أردت الجهاد معك، أبتغي بذلك وجه اللهَ والدار الآخرة، قال: ((ويحك، أحية أمك؟)) قلت: نعم يا رسول الله، قال: ((ويحك، الْزَمْ رِجْلَهَا فَثَمَّ الْجَنَّةُ)). إنها الجنة وربّ الكعبة، ((الزم رجلها فثمّ الجنة)). والحديث صححه الألباني رحمه الله.
ولما علم سلفنا الصالح بعظم حق الوالدين قاموا به حق قيام، فهذا محمد بن سيرين إذا كلم أمه كأنه يتضرّع. وقال ابن عوف: دخل رجل على محمد بن سيرين وهو عند أمه، فقال: ما شأن محمد؟! أيشتكي شيئًا؟! قالوا: لا، ولكن هكذا يكون إذا كان عند أمه. وهذا أبو الحسن علي بن الحسين زين العابدين رضي الله عنهم كان من سادات التابعين، وكان كثير البر بأمه حتى قيل له: إنك من أبر الناس بأمك، ولسنا نراك تأكل معها في صحفة، فقال: أخاف أن تسبق يدي إلى ما سبقت إليه عينها، فأكون قد عققتها. وهذا ابن مسعود رضي الله عنه طلبت أمه أن يسقيها ماء في بعض الليالي، فجاءها بالماء فوجدها قد ذهب بها النوم، فثبت عند رأسها حتى أصبح. وهذا حَيوَةُ بنُ شريح وهو أحد أئمة المسلمين يقعد في حلقته يعلّم الناس ويأتيه الطلاب من كل مكان ليسمعوا عنه، فتقول له أمه وهو بين طلابه: قم ـ يا حَيوَةَ ـ فأطعمِ الدجاج، فيقوم ويترك التعليم. ويقول محمد بن سيرين: بلغت النخلة على عهد عثمان رضي الله عنه ألف درهم، فعمد أسامة بن زيد رضي الله عنهما إلى نخلة فاشتراها، فنقرها وأخرج جمّارها، فأطعمها أمّه، فقالوا له: ما يحملك على هذا وأنت ترى النخلةَ قد بلغت ألف درهم؟! قال: إن أمي سألتني، ولا تسألني شيئًا أقدر عليه إلا أعطيتها. وعبد الله بن عون نادته أمه فعلا صوته صوتها، فأعتق رقبتين. وكان طلق بن حبيب لا يمشي فوق ظهر بيت وأمّه تحته إجلالاً لها وتوقيرًا. وبكى إياس بن معاوية حين ماتت أمّه بكاء شديدًا، فقيل له في ذلك فقال: كان لي بابان مفتوحان إلى الجنة فأغلق أحدهما، وحُقّ لعين بُكاها.
فأين هذا النماذج ـ عباد الله ـ من شابّ عاق أودع أمّه دار العجزة ولم يزرها حتى تردّت حالتها فطلبت من مسؤول الدار أن يتّصل بوَلدها لتراه وتقبِّله قبل موتها، فسبقتها دموعها قبل أن تسمع جواب ولدها بالرّفض والاعتذار بضيق الوقت وكثرة الأعمال والأشغال، فلما توفّيت الأم اتصلوا بذلك الابن لإخباره فقال: أكملوا إجراءاتكم الرسمية وادفنوها في قبرها. نعوذ بالله من الحرمان ومن سخط الملك الديان.
قال أبو موسى الأشعري : شهد ابن عمر رجلاً يطوف بالبيت قد حمل أمه وراء ظهره يقول:
إنِّي لَها بعيرها المذلَّل إن أذعرت ركابها لم أذعر
فقال: يا ابن عمر، أتراني جزيتها؟ قال: لا، ولا بزفرة واحدة من زفراتِها؛ ولكنك أحسنتَ، والله يثيبك على الإحسان.
وجاء رجلٌ إلى عمر بن الخطاب فقال: يا أمير المؤمنين، إن لي أمًا بلغت الكبر ولا تقضي حاجتها إلا وظهري مطيّة لها، وأنا أقوم بتوضئتها وأصرف وجهي عنها، فهل أديت حقها وشكرها؟ فبكى عمر ثم قال: إنها صنعت بك ذلك وهي ترجو بقاءَك، وأنت تفعله متمنّيًا فراقها بعد حين.
عباد الله، شابّ تخلّص من أمّه المعاقة برميها عند باب أحد المستشفيات، وآخرُ أودعها دارَ العجزة بحجة ترميم شقته، وآخر يُسمِعُها كلماتِ السبّ والشتائم إذا تكلمت في زوجته وعصت أمرها.
وذكر أحد بائعي الجواهر قصة غريبة وصورة من صور العقوق، يقول: دخل عليّ رجل ومعه زوجته ومعهم عجوز تحمل ابنهم الصغير، أخذ الزوج يضاحك زوجته ويعرض عليها أفخر أنواع المجوهرات تشتري ما تشتهي، فلما راق لها نوع من المجوهرات دفع الزوج المبلغ، فقال له البائع: بقي ثمانون ريالاً وكانت الأم الرحيمة التي تحمل طفلهما قد رأت خاتم فأعجبها لكي تلبسه في هذا العيد، فقال: ولماذا الثمانون ريال؟! قال: لهذه المرأة قد أخذَت خاتمًا، فصرخ بأعلى صوته وقال: العجوز لا تحتاج إلى الذهب، فألقت الأم الخاتم وانطلَقت إلى السيارة تبكي من عقوقِ ولدها، فعاتبته الزوجة قائلة، لماذا أغضبت أمك؟ فمن يحمِل ولدنا بعد اليوم؟! ذهب الابن إلى أمه وعرض عليها الخاتم فقالت: والله، ما ألبس الذهب حتى أموت.
فآهًا لذي عقل ويتّبع الهوى وآهًا لأعمى القلب وهو بصير
فدونك فارغب في عميم دعائها فأنت لما تدعو إليه فقير
نعم عباد الله، يدخل الزوج وهو يعيش مع أمه أو هي تعيش عنده، يدخل البيت عبوسَ الوجه مُكْفَهِرّ الجبين، فإذا دخل غرفة نومه سمعت الأمّ الضحكات تتعالى من وراء باب الحجرة، وربما دخل ومعه هديّة لزوجته، فيعطي زوجته ويدَع أمه.
فلا تطع زوجةً فِي قطع والدة عليك يا ابن أخي قد أفنت العمرا
فكيف تنكر أمًّا ثقلَك احتملت وقد تَمرغت فِي أحشائها عسرا
وعالَجت بك أوجاع النفاس وكم سُرَّتْ لَمّا ولدت مولودها ذكرا
وأرضعتك إلى الحولين مُكْمَلَةً في حجرها تستقي من ثديها الدررا
ومنك ينجسها ما أنت راضعه منها ولا تشتكي نتنا ولا قذرا
و(قل هو الله) بالآلاف تقرؤها خوفًا عليك وترخي دونك السُتُرا
وعاملتك بإحسان وتربية حتى استويت وحتى صرت كيف ترى
فلا تفضّل عليها زوجة أبدًا ولا تدع قلبها بالقهر منكسرًا
وهذه قصة حصلت في إحدى دول الخليج، وقد تناقلتها الأخبار، قال راوي القصة: خرجت لنزهةٍ مع أهلي على شاطئ البحر، ومنذ أن جئنا هناك وامرأة عجوز جالسة على بساط صغير كأنها تنتظر أحدًا، قال: فمكثنا طويلاً حتى إذا أردنا الرجوع إلى دارنا وفي ساعة متأخِّرة من الليل سألتُ العجوز فقلت لها: ما أجلسك هنا يا خالَة؟! فقالت: إنَّ ولدي تركني هنا وسوف ينهي عملاً له وسوف يأتي، فقلت لها: لكن ـ يا خالة ـ الساعة متأخِّرة، ولن يأتي ولدك بعد هذه الساعة، قالت: دعني وشأني، وسأنتظر ولدي إلى أن يأتي، وبينما هي ترفض الذهاب إذا بها تحرّك ورقة في يدها، قال: فقلت لها: يا خالَة، هل تسمحين لي بهذه الورقَة؟ يقول في نفسه: علِّي أجد رقم الهاتف أو عنوان المنزل، اسمعوا ـ يا إخوان ـ ما وجد فيها! وجد فيها ما تدمع لأجله العيون وتتفطّر لهوله القلوب، عبارة يا لها من عبارة كُتِبت بأنامل ابنها العاق: "إلى مَن يعثر على هذه العجوز، نرجو تسليمَها لدار العجزة عاجلاً".
نعم أيها الإخوة، هكذا فليكن العقوق، الأم التي سهرت وتعِبت وتألَّمت وأرضعت هذا جزاؤها!! مَن يعثر على هذه العجوز فليسلّمها إلى دار العجزة عاجلاً. هذا جزاء الأم التي تحمل في جنباتها قلبًا يشع بالرحمة والشفقة على أبنائها، وقد صدق الشاعر حين وصف حنان قلب الأم بمقطوعة شعرية فقال:
أغرى امرؤ يومًا غلامًا جاهلاً بنقوده كيما يَحيق به الضرر
قال ائتني بفؤاد أمك يا فتى ولك الجواهر والدراهم والدرر
فأتى فأغرز خنجرًا في قلبها والقلب أخرجه وعاد على الأثر
ولكنه من فرط سرعته هوَى فتدحرج القلب المعفّر بالأثر
ناداه قلب الأم وهو معفّر: ولدي حبيبي هل أصابك من ضرَر
إني أدعوكم جميعًا ـ أيها الإخوان ـ أن لا تخرجوا من هذا المسجد المبارك إلا وقد عاهدتم الله أنه من كان بينه وبين والديه خِصام أو خلاف أن يصلحَ ما بينه وبينهم، ومن كان مقصّرًا في بر والديه فعاهدوا الله من هذا المكان أن تبذلوا وسعكم في برّ والديكم، ومن كان برًا بهما فليحافظ على ذلك، وإذا كانا ميِّتَين فيتصدّق لهما ويبرهما بدعوة صالحة أو عمل صالح يهدي ثوابه لهما.
وأما أنت ـ أيها العاق ـ فاعلم أنك مجزيّ بعملك في الدنيا والآخرة، يقول العلماء: كل معصية تؤخَّر عقوبتها بمشيئة الله إلى يوم القيامة إلا العقوق؛ فإنه يعجل له في الدنيا، وكما تدين تدان.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
أما بعْدُ: أخي الحبيبُ، إن حق الأم عليك عظيم، وشأنها كبير، فمن حقوقها أن لا تدعوَها باسمها، بل نادِها بما تحبّ من اسمٍ أو كنية، ولا تجلس قبلها، ولا تمش أمامها.
قابلها بوجه طَلْقٍ، وقبّل رأسها، والثَم يدها، وإذا نصحتها فبالمعروف من دون إساءة، وأجِب دعوتها إذا دعتك من دون ضجَر أو كراهية، تكلّم معها باللين، أطعمها واكسُها وأهدها قبل أن تسأل شيئًا، تحسَّس ما تحبّ فاجلبه لها، كن خادمًا مطيعًا لها، أطعها في غير معصية، لا تسبقها بأكل أو شرب، الهج بالدعاء لها آناء الليل وأطرافَ النهار، وغضَّ الطرفَ عن أخطائها وزلاتها، وقِّرها واحترمها، ولا تتكبّر عليها، فقد كنت في أحشائها وبين يديها.
أدخل السرور عليها، وصاحبها بالمعروف، واطلب السماح والصفحَ والدعاءَ منها فإنها جنتك.
هذا، وصلوا وسلموا على من أمركم ربُّكم بالصلاة والسلام عليه؛ فقال: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيّ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلم وزد وبارك وأنعم على عبدك ونبيك محمد، وارض اللهم عن الخلفاء الأربعة...
اللهمّ أعنا على برّ والدينا، اللهم وفق الأحياء منهما وأعمر قلوبهما بطاعتك، ولسانهما بذكرك، واجعلهم راضين عنا، اللهم من أفضى منهم إلى ما قدم فنور قبره، واغفر خطأه ومعصيته، اللهم اجزهما عنا خيرًا، واجمعنا بهم في دار كرامتك يا رب العالمين...
ــــــــــــــــــــ(67/289)
صدى الإحسان
...
...
4825
...
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
...
...
فضائل الأعمال, قضايا المجتمع, محاسن الشريعة
...
محمد بن حمد الخميس
...
...
الدمام
...
22/4/1424
...
...
جامع الهدى
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- ثمرات الإحسان إلى الناس. 2- الحث على الصدقة والإنفاق وتفريج الكربات. 3- قصص واقعية تدل على أن الجزاء من جنس العمل.
الخطبة الأولى
ثم أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون، إن العبد لا يحصد إلا ما زرع، ولا يجد إلا ما بذل، وكما قيل:
الخير زرع والفتى له حاصد وغاية المزروع أن يحصدا
نزل رجل وولده واديًا، انشغل الرجل بعمل له في الوادي، بينما أخد الولد يلهو بكلمات وأصوات، فوجئ الولد أن لهذه الأصوات صدًى يعود إليه، فظن أن هناك من يكلمه أو يرد عليه، فتوجه إليه متوجسًا، قال: من أنت؟ فعاد الصدى: من أنت؟ قال الولد: أفصح لي عن شخصك؟ فرد عليه: أفصح لي عن شخصك؟ فقال الولد غاضبًا: أنت رجل جبان وتخفى عني، فرجعت إليه العبارة نفسها، فقال الولد: إن صاحب الصوت يستهزئ به ويسخَر منه، فانفعل وخرج عن طوره، وبدأ يسبّ ويلعن، وكلّما سب أو لعن رجَعت عليه مثلها. جاء الوالد ووجد ولده منهارًا مضطربًا، فسأله عن السبب، فأخبره الخبر، فقال له: هوّن عليك يا بني، وأراد أن يعلّمه درسًا عمليًا، فصاح بأعلى صوته: أنت رجل طيّب، فرجع إليه الصوت: أنت رجل طيب، ثم قال: أحسن الله إليك، فكان الردّ: أحسن الله إليك، وكلّما قال كلامًا حسنًا كان الرد بمثله. سأل الولد والده بدهشة واستغراب: لماذا يتعامل معك بطريقة مؤدّبة ولا يسمعك إلا كلامًا حسنًا؟! فقال له الأب: يا بني، هذا الصوت الذي سمعته هو صدَى عملك، فلو أحسنتَ المنطِق لأحسن الردّ، ولكنك أسأت فكان الجزاء من جنس العمل.
معاشر المؤمنين، حديثي اليوم بعنوان: "صدى الإحسان". فالمسلم كلّما أحسن إلى الآخرين في هذه الدنيا أحسن الله إليه في الدنيا قبل الآخرة. فالإحسان كاسمه، والمعروف كرَسمه، والخير كوَسمه.
أول المستفيدين من الإحسان هم المحسنون أنفسهم، يجنون ثمراتِه عاجلاً في نفوسهم وأخلاقهم وضمائرهم؛ فيجدون الانشراح والسكينة والطمأنينة.
فإذا طاف بك طائف من هم أو ألمّ بك غم فامنح غيرك معروفًا وأسدِ له جميلاً تجِد السرور والراحة، أعط محرومًا، انصر مظلومًا، أنقذ مكروبًا، أعن منكوبًا، عد مريضًا، أطعم جائعًا؛ تجد السعادة تغمرك من بين يديك ومن خلفك.
إن الإحسان كالمسك ينفع حامله وبائعه ومشتريه، شَربة ماء من بغيّ لكلب عقور أثمرت دخول جنة عرضها السموات والأرض؛ لأن صاحب الثواب غَفور شكور غنيّ حميد جواد كريم، فلا تحتقر ـ أخي المحسن ـ إحسانك وجودك وعطاءك مهما قل.
ذكر الأستاذ مصطفى صادق الرافعي رحمه الله في كتابه: (وحي القلم) قصة عن الإمام أحمد بن مسكين من علماء القرن الثالث الهجري في البصرة، يقول عن نفسه: "إني امتحِنت بالفقر سنة تسع عشرة ومائتين، وانحسَمت مادتي وقحط منزلي، فلم يكن عندنا شيء، ولي امرأة وطفلها، وقد طوينا على جوع يخسف بالجوف خسفا، فجمعت نيتي على بيع الدار والتحوّل عنها، فخرجت أتسبب لبيعها فلقيني أبو نصر، فأخبرته بنيتي لبيع الدار فدفع إلى رقاقتين من الخبز بينهما حلوى، وقال أطعمها أهلك. ومضيت إلى داري فلما كنت في الطريق لقيتني امرأة معها صبي، فنظَرَت إلى الرقاقتين وقالت: يا سيدي، هذا طفل يتيم جائع، ولا صبر له على الجوع، فأطعمه شيئًا يرحمك الله، ونظر إليّ الطفل نظرة لا أنساها، وخيّل إليّ حينئذ أن الجنة نزلت إلى الأرض تعرض نفسها على من يشبِع هذا الطفل وأمه، فدفعت ما في يدي للمرأة، وقلت لها: خذي وأطعمي ابنك. والله ما أملك بيضاء ولا صفراء، وإن في داري لمن هو أحوج إلى هذا الطعام، فدمعت عيناها، وأشرق وجه الصبي، ومشيت وأنا مهموم، وجلست إلى حائط أفكر في بيع الدار وإذ أنا كذلك إذ مرّ أبو نصر وكأنه مستطار فرحًا، فقال: يا أبا محمد، ما يجلسك ها هنا وفي دارك الخير والغنى؟! قلت: سبحان الله! ومن أين يا أبا نصر؟! قال: جاء رجل من خراسان يسأل الناس عن أبيك أو أحد من أهله، ومعه أثقال وأحمال من الخير والأموال، فقلت: ما خبره؟ قال: إنه تاجر من البصرة، وقد كان أبوك أودَعه مالاً من ثلاثين سنة، فأفلس وانكسر المال، ثم ترك البصرة إلى خراسان، فصلح أمره على التجارة هناك، وأيسَر بعد المحنة، وأقبل بالثراء والغنى، فعاد إلى البصرة وأراد أن يتحلّل، فجاءك بالمال وعليه ما كان يربحه في ثلاثين سنة، قال أحمد بن مسكين: حمدت الله وشكرته، وبحثت عن المرأة المحتاجة وابنها، فكفيتهما وأجرَيت عليهما رزقا، ثم اتجرت في المال، وجعلت أربه بالمعروف والصنيعة والإحسان وهو مقبل يزداد ولا ينقص، وكأني قد أعجبني نفسي وسرني أني قد ملأت سجلات الملائكة بحسناتي، ورجوت أن أكون قد كتبت عند الله في الصالحين، فنمت ليلة فرأيتُني في يوم القيامة، والخلق يموج بعضهم في بعض، ورأيت الناس وقد وسعت أبدانهم، فهم يحملون أوزارهم على ظهورهم مخلوقة مجسمة، حتى لكأن الفاسق على ظهره مدينة كلها مخزيات، ثم وضعت الموازين، جيء بي لوزن أعمالي، فجعلت سيئاتي في كفة وألقيت سجلات حسناتي في الأخرى، فطاشت السجلات، ورجحت السيئات، كأنما وزنوا الجبل العظيم بلفافة من القطن، ثم جعلوا يلقون الحسنة بعد الحسنة مما كنت أصنعه، فإذا تحت كل حسنه شهوة خفية من شهوات النفس، كالرياء والغرور وحب المحمدة عند الناس، فلم يسلم لي شيء، وهلكت عن حجتي وسمعت صوتًا: ألم يبق له شيء؟ فقيل: بقي هذا، وأنظر لأرى ما هذا الذي بقي، فإذا الرقاقتان اللتان أحسنت بهما على المرأة وابنها، فأيقنت أني هالك، فلقد كنت أحسن بمائة دينار ضربة واحدة فما أغنَت عني، فانخذلت انخذالاً شديدًا فوضِعَت الرقاقتان في الميزان، فإذا بكفة الحسنات تنزل قليلاً ورجحت بعضَ الرجحان، ثم وضعت دموع المرأة المسكينة، حيث بكت من أثر المعروف في نفسها، ومن إيثاري إياها وابنها على أهلي، وإذا بالكفة ترجح، ولا تزال ترجح حتى سمعت صوتًا يقول: قد نجا، فلا تحقرنّ من المعروف شيئًا ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق، واتقوا النار ولو بشق تمرة.
من حبة البر اتخِذ مثل الندى يا من قبضت على الندى يمناك
هي حبة أعطتك سبع سنابل لتجود أنت بحبة لسواك
وكأنما الشقّ الذي فِي وسطها لك قال: نصفي يَخص أخاك
فيا باغي الخير، هلم إلى بستان الإحسان، وتشاغل بالمعروف عطاءً وضيافةً ومواساةً وإعانةً وخدمةً، وستجد السعادة طعمًا ولونًا وذوقًا.
أحسن إلَى الناس تستعبد قلوبَهم فطالما استعبد الإنسان إحسان
وكن على الدهر معوانًا لذي أمل يرجو نداك فإن الحر معوان
من كان للخيْر مناعًا فليس له على الْحقيقة إخوان وأخدان
ومن جاد بالمال مال الناس قاطبة إليه والمال للإنسان فتان
والصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى يبين لنا هذه القاعدة في الإحسان إلى الغير بقوله: ((من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلمًا ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه)) رواه مسلم. القاعدة واضحة، والأمر بين، فالجزاء من جنس العمل.
أخي الحبيب، هل تريد أن تنفس كربتك ويزول همك؟ فرج كرباتٍ للمساكين. هل تريد التيسير على نفسك في الدنيا والآخرة؟ يسر على المعسرين مما رزقك الله. هل تريد أن يستر عليك ولا يفتضح أمرك؟ استر عبدًا من عباد الله. هل تريد أن تكسَى يوم تعرَى الخلائق؟ اكس مسلمًا. هل تريد أن تطعم حينما يجوع الناس يوم القيامة؟ أطعم جائعًا. هل تريد أن تسقى يوم أن يظمأ الناس في الموقف العظيم؟ أسق مؤمنًا، فالجزاء من جنس العمل.
واسمع ـ أخي الحبيب ـ إلى هذا الحديث العظيم الذي يبين قاعدة صدى الإحسان، قال رسول الله : ((أيما مسلم كسا مسلمًا ثوبًا على عري كساه الله تعالى من خضر الجنة، وأيما مسلم أطعم مسلما على جوع أطعمه الله تعالى يوم القيامة من ثمار الجنة، وأيما مسلم سقى مسلمًا على ظمأ سقاه الله تعالى يوم القيامة من الرحيق المختوم)) حديث حسنه الألباني. ما أعظمه من حديث، وما أروعها من سنة إلهية وقاعدة ربانية، جزاؤك من جنس عملك.
أخي الكريم، تخيل يوم يقوم الناس لرب العالمين وأنت منهم، وقد دنت الشمس من الرؤوس، وسبح الناس في بحار من العرق، وهم عراة حفاة غرل، وقد غشيهم من الهم والغم والكرب ما الله به عليم، وإذا بك تؤخذ من بين الخلائق، ويكسوك الله من خضر الجنة، فتسأل وتتعجب: لماذا فعل معك هذا؟! فيكون الجواب: لأنك ـ يا عبد الله ـ كسوت مسلمًا ثوبًا على عري في الدنيا، واليوم يوم الجزاء، والجزاء من جنس العمل.
وتخيل الناس في هذا الموقف الرهيب المهيب، وقد طال وقوفهم وبلغ منهم الجهد مبلغه، وانثنت أعناقهم من شدة الجوع، وكاد الظمأ أن يقضي عليهم، فإذا بك ـ أخي الكريم ـ تؤخذ على رؤوس الأشهاد، ويقدم لك الطعام، وأي طعام؟ ثمار الجنة، ويقدم لك الشراب، وأي شراب؟ الرحيق المختوم، فتسأل في دهشة: لماذا هذا؟! فيقال لك: لأنك أطعمت مسلمًا على جوع في الدنيا، ولأنك سقيت مسلمًا على ظمأ في الدنيا، فكان هذا جزاءك، والجزاء من جنس العمل.
يروي الأستاذ مصطفى أمين رحمه الله الكاتب المصري المعروف الذي كافح وناضل ضدّ المد الاشتراكي، يقول: "أدخلت السجن عام 1965م ـ قبل أربعين سنة ـ، وتنوعت وسائل التعذيب هناك، حتى منعت من الطعام والشراب، والحرمان من الطعام مؤلم ولكنه محتمَّل، أما الحرمان من الماء فإنه عذاب لا يحتمَل، ولاسيما في فصل الصيف ولمن هو مصاب بالسكر مثلي، اشتدّ بي العطش وأخذت أدور في الزنزانة كالمجنون، وكنت أهوى إلى الأرض أحيانًا، ألحسها لعلّ الحارس ترك نقطة ماء وهو ينظف البلاط، فاضطررت لشرب البول ـ أجلكم الله ـ حتى ما عاد هناك بول أشربه، وشعرت أني قد أشرفت على الهلاك، بينما أنا كذلك وفي ظلمة الليل وإذا بباب الزنزانة يفتح بهدوء، ويمتدّ إلي كأس ماء من شخص وضع يده على فمي وقال بصوت منخفض: لا تتكلم. لم أصدق ما رأيت، أحسست بسعادة لم أعرفها طول حياتي، إذ إنني رأيت عناية الله، اختفى الحارس المجهول بسرعة كما ظهر بسرعة دون أن أعرفه، ولكني تعرفت على بعض ملامحه، وذات يوم رأيته، فقلت له: لماذا أقدمت على هذه المغامرة الخطيرة؟! لو ضبطوك كانوا سيقتلونك، قال: يا سيدي، أنت لا تعرفني، ولكني أعرفك جيدًا، ولن أنسى فضلك في شهر رمضان المبارك، وقبل تسع سنوات أرسل لك رجل فقير خطابًا يقول لك فيه: إنه فلاح بسيط ومكث سبع سنوات يقتصد من قوته وقوت أولاده حتى جمع مالاً واشترى به بقرة، وكانت هذه البقرة سببًا لرزق الأسرة كلها، وبعد أشهر ماتت البقرة، وأوشكَت الأسرة على الهلاك، وإذا رسول منك يطرق الباب ومعه بقرة صدقةً حسنة منكم يا سيدي، سكت الحارس المجهول قليلاً ثم قال: هذا الفلاّح الذي أرسلتم له البقرة هو أبي، وها قد أرسلني الله لك بعد تسع سنوات لأردّ إحسانك"، وصدق الله العظيم: هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ [الرحمن:60].
قال الإمام ابن القيم رحمه الله: "من رفق بعباد الله رفق الله به، ومن رحمهم رحمه، ومن أحسن إليهم أحسن إليه، ومن جاد عليهم جاد عليه، ومن نفعهم نفعه، ومن سترهم ستره، ومن منعهم خيره منعه خيره، ومن عامل خلقه بصفة عامله الله بتلك الصفة بعينها في الدنيا والآخرة، فالله لعبده حسب ما يكون العبد لخلقه". فالجزاء من جنس العمل، والإحسان صداه وأثره يكون للعبد في الدنيا قبل الآخرة.
معاشر المؤمنين، إن الموفَّق هو الذي يختاره الله ليكون صاحب قلب نابض ويد حانية وإحساس مرهف، يشعر بحاجة أخيه، ويفرح بأن الله يجري الخير على يديه، فهذا سيجد جزاء عمله في الدنيا والآخرة.
أورد الشيخ عطية محمد سالم رحمه الله المدرس بالحرم النبوي الشريف في كتابه (ظلال عرش الرحمن) القصة التالية: "وقع لامرأة حادث حينما كانت تسير في ضواحي المدينة المنورة، فسقطت في حفرة متصلة بمجرى كبير للماء، فسحبها الماء تحت الأرض، وقدر الله لها أن تمسك بحجر في هذا المجرى، ومكثت عالقة بهذا الحجر تحت الأرض أربعة أيام، ومرّ رجل في هذا المكان فسمع صوت استغاثة ضعيف، فلما عرف مصدر الصوت، نزل وأخرجها، وسألها عن حالها وكيف كانت تعيش؟! فقالت: إن طاسة الحليب التي كنت أعطيها للعجائز كانت تأتيني كلَّ يوم، وكان لهذه المرأة جيران من النسوة العجائز، وكانت تعطيهم طاسة الحليب من غنمها". والجزاء من جنس العمل.
((تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة))، إن الإحسان إلى الخلق سيعود إليك صداه ولو بعد حين، إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ [يوسف:90].
الخطبة الثانية
عباد الله، إن الصدقة ولو بالقليل تفعل الشيء الكثير إذا وافقت إخلاصًا من المتصدق وحاجة عند الفقير، والبحث عن صاحب الحاجة اليوم عزيز، إذ اختلط الحابل بالنابل، وأفسد الكاذب على الصادق. فينبغي للمتصدق أن يتحرّى في صدقته من كان مستترًا مخفيًا حاجته، لا يكثر البث والشكوى مع ما فيه من الجهد والبلاء والفاقة والحاجة، فهم كما وصفهم رب العالمين: يَحْسَبُهُمْ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنْ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا [البقرة:273]، أي: لا يلحون في السؤال؛ لأنهم أغنياء بيقينهم أعزة بصبرهم.
إن الكريم ليخفي عنك عسرته حتى تراه غنيًا وهو مجهود
فثواب صرف الصدقة إلى هؤلاء المتعففين أضعاف ما يصرف إلى المجاهرين بالسؤال.
ثم إن الذي يلح في السؤال ويجاهر بالطلب ليس بالمسكين الحقيقي كما قال : ((ليس المسكين بهذا الطوّاف الذي يطوف على الناس فتردّه اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان))، قالوا: فما المسكين يا رسول الله؟! قال: ((الذي لا يجد من يعينه، ولا يفطَن له فيتصدَّق عليه، ولا يسأل الناس شيئًا)) رواه مسلم
قبل أيام خلت أصيب عائِل أسرة بمرض وهو رجل ضعيف الحال، لم يتعوّد على السؤال، ذهب إلى المستشفى فقرّر له الطبيب إجراء عملية سريعة، خرج من المستشفى مهمومًا مغمومًا مكروبًا؛ لأنه لا يجد تكلفة العملية على تواضع مبلغها، إذ إن راتبه لا يتجاوز ألفي ريال شهريًا، علمتُ بحالته وقابلته، ثم بادرته بالسؤال: ماذا أقرّ لك الطبيب؟ سكت قليلاً ثم أجاب إجابة بليغة، لا تحتاج إلى مزيد من نقاش أو تعليق حيث سبقت دموعه كلامه، انهمرت عيناه بالدموع، ولسانه معقود عن الكلام، هزني الموقف وتأثرت منه، وسألت الله أن لا يجعلني مثلَه؛ لأن السؤال من غير الله مذلّة، وأسأل الله بمنّه وكرمه وفضله أن لا يكِلني وإياكم إلى غيره. رحمت سنَّه، واحترمتُ رجولته، وبدأت أسحب منه المعلومات سحبًا، فسألته: هل قرر لك الطبيب عملية؟ أشار برأسه نعم، واللسان معقود عن الكلام، فعلمت أن الرجل وصل درجة من الحياء لا يحسَد عليها، فهوَّنت عليه الأمر، وطلبت منه تسعيرة من المستشفى، وقبل ثلاثة أيام ـ وبفضل من الله ـ أجريت له العملية على حساب مشروع التكافل الاجتماعي من خلال صدقاتكم وإحسانكم.
يا محسنون جزاكم المولى بِما يرجو على مسعاكم المَحمود
كم ردّ فضلكم الحياةَ لِميت جوعًا وكم أبقى على مولود
كم يسّر النومَ الهنِيء لساهر شاكٍ ولطف من أسَى مكمود
كم صان عرضًا طاهرًا من ريبة ونفى الأذى عن عاثر منكود
إن الموفَّق هو الذي أنعم الله عليه بالنعم، وجعل حوائج الناس إليه، فأسرع في قضائها، وإلا تعرضت هذه النعم للزوال، قال : ((ما من عبد أنعم عليه بنعمة فأسبغها عليه ثم جعل حوائج الناس إليه فتبرم ـ أي: تضجر ـ إلا عرض النعمة للزوال)) رواه الطبراني بسند جيد، وفي رواية أخرى للطبراني، واسمعوا أيها الموسرون وأيها الأغنياء الفضلاء النبلاء، قال : ((إن لله خلقًا خلقهم الله لحوائج الناس، يفزع إليهم الناس في حوائجهم، أولئك هم الآمنون يوم القيامة)).
((خلقهم الله لحوائج الناس، يفزع إليهم الناس))، ما أعظم هذه النفوس وما أعلاها منزلة عند الله، فهي تعيش لغيرها، لا لنفسها ولشهواتها، تتعب من أجل راحة الناس، تبذل المال من أجل سعادة الناس، فما جزاؤهم؟ وما ثوابهم؟ وما مكافأتهم؟ ((هم الآمنون يوم القيامة)). ما أعظمه من جزاء، وما أجزله من عطاء، وما أرفعه من وفاء، يفزع إليهم الناس في الدنيا لتأمين خوفهم، فإذا جزاؤهم الأمن يوم القيامة، أولئك هم الآمنون، فالجزاء من جنس العمل.
وقد يقول قائل ويسأل سائل: أين نجد هؤلاء المحتاجين؟! كيف السبيل إلى الذين لا يسألون الناس إلحافًا؟! فأقول: اجتهد في البحث تجدهم، وإذا حال بينك وبين البحث الجادّ قيود وقيود فسل عنهم، فكم حولنا من يتيم، وكم في مجتمعنا من أرملة أو مطلقة في حجرها صغار لا يجدون من الضروريات من الدواء والغذاء والكساء، أما الإيجار فهو أم المشاكل.
وإليكم هذه القصة المأساوية عن أسرة وقعتُ على حالتها البارحة، أسرة من أم وأطفالها الأربعة، الزوج سجين ولا يبقى من راتبه شيء، إذ تقضي عليه الأقساط والديون، المنزل بالإيجار، وعليهم استحقاق لمدة سنة، وهم مهدّدون بالطرد منه، المسكن متواضع متهالك قديم، مياه المجاري تحيط به منذ فترة، وقبل أشهر بدأ تسريب للمياة في وسط الصالة حتى تشبع الفرش منه، ومنذ أيام بدأ سقف غرفتين من المنزل بخرير ماء ليس ندى أو رطوبة إنما خرير ماء سمعت صوته ورأيت مصدره، تبين أنه من مياه مجاري الدور العلوي، أفسد عليهم الفرش والأثاث، وتسبب في سقوط الجزء الظاهر من السقف حتى ظهر حديد البناء، لم يسلم من البيت إلا المجلس، فأصبح مكانًا للنوم إذ لا أثر لمياه المجاري فيه إلا الرائحة التي تزكم الأنوف، بسبب هذه الظروف غير الصحية أصيبت البنت الكبيرة بجرثومة رقدت على إثرها في المستشفى عدة أيام، بقي أن نعلم أن هذه الأم المسكينة المنكوبة تنحدر من أسرة خارج المنطقة الشرقية مما زاد في محنتها وشدتها، والأطفال تقرأ على وجوههم البؤس والافتقار للأبوّة والحنان، كان الله في عونهم.
أول أوليات هذه الأسرة الخروج إلى منزل مناسب وإعادة تأثيثه مرة أخرى، ثم الطعام والشراب واللباس، هذه الحالة وأمثالها كثير، لو بحثنا عنها لوجدناها ولا يراودني شك في أن المؤسسات الخيرية وعلى رأسها جمعية البر بالمنطقة الشرقية تعمل ما في وسعها لتخفيف هذه الآلام، ولكن الخرق واسع والاحتياج كبير والله المستعان.
معاشر المؤمنين، إن طريق الإنفاق سبقنا إليه العظماء من الموفّقين، وعلى رأسهم سيد المرسلين الذي قال: ((الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله أو القائم الليل الصائم النهار)) رواه البخاري. وكان لا يتأخر عن تفريج كربات أصحابه، فكم قضى لهم من ديون، وكم خفف عنهم من آلام، وكم واسى لهم من يتيم، وفوق ذلك مات ودرعه مرهونة بأبي هو وأمي ، وكان ينفق غنمًا بين جبلين.
هو البحر من أي النواحي أتيته فلُجَّتُه المعروف والجود ساحله
صلى الله وسلم وبارك عليه.
ما قال: "لا" قط إلا في تشهده لولا التشهد كانت لاؤه "نعمُ"
ثم جاء أصحابه رضي الله عنهم الذين ضربوا أروع الأمثلة في البذل والعطاء والإحسان والسخاء، فالصديق قدّم ماله كله لله، والفاروق قدم نصف ماله لله، وعثمان اشترى الجنة من الرسول مرتين: مرة حين حفر بئر رومة، ومرة حين جهز جيش العسرة. وفي عهد أبي بكر الصديق جاء لعثمان ألف بعير محملة بالبر والزيت والدقيق، وكان المسلمون في حاجة شديدة وكربة كبيرة، فقال لهم عثمان: بكم تشترون؟ قالوا: بضعفين، قال: غيركم أعطاني أكثر، قالوا: بثلاثة أضعاف، قال: غيركم أعطاني أكثر، قالوا: بخمسة أضعاف، قال: غيركم أعطاني أكثر، قالوا: ما نعلم أحدًا يعطي أكثر من هذا! قال: أعطاني ربي عشرة أضعاف، أشهدكم أنها صدقة للمسلمين.
أيها الأخ الحبيب، لا تبخل على نفسك، وقدم لها ما يسرّك غدًا. واعلم أن السفر طويل، والزاد قليل، والذنب عظيم، والعذاب شديد، والميزان دقيق، والصراط منصوب على متن جهنم، وستمر عليه، فإمّا ناج أو هالك، فأنفق ينفق الله عليك، أحسن يحسن الله لك، فرج يفرج الله عنك، فالجزاء من جنس العمل.
اللهم يا سامع الصوت، ويا سابق الفوت، ويا كاسي العظام لحمًا بعد الموت، يمِّن كتابنا، ويسِّر حسابنا، وثقِّل موازيننا، وحقِّق إيماننا، وثبِّت على الصراط أقدامنا، وأقرّ برؤيتك يوم القيامة عيوننا، واجعل خير أعمالنا آخرها، وخير أيامنا يوم لقاك. اللهم لا تجعل بيننا وبينك في رزقنا أحدًا سواك، واجعلنا أغنى خلقك بك، وأفقر عبادك إليك. اللهم هب لنا غنى لا يطغينا، وصحة لا تلهينا، وأغننا اللهم عمّن أغنيته عنا، إنك على ذلك قدير وبالإجابة جدير...
ــــــــــــــــــــ(67/290)
الحث على الإصلاح بين الناس
...
...
4847
...
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
...
...
فضائل الأعمال, قضايا المجتمع, مكارم الأخلاق
...
سعد بن عبد الله العجمة الغامدي
...
...
الطائف
...
2/5/1412
...
...
سعيد الجندول
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- المفهوم الصحيح للإصلاح. 2- فضل الإصلاح وأهله. 3- فضل إصلاح ذات البين. 4- التحذير من صفات المنافقين وأعمالهم. 5- أهمية الإصلاح بين الزوجين. 6- عظم شأن الإصلاح بين المتقاتلين. 7- إصلاح لجان الإصلاح. 8- وجوب معرفة المصلحين طرق الإصلاح وشروطه وآدابه.
الخطبة الأولى
أما بعد: فإن أعمال المسلم وأقواله ومعتقده الصحيح من العبادة الحقّة المأمور بها في القرآن الكريم وفي حديث رسول الله ، ومن العبادة الإصلاح بمعناه الواسع الذي له سُبُل وطرق كثيرة، وليس محصورًا فيما تعارف عليه الناس بأنه الإصلاح بين متخاصمَيْن أو متخاصِمِين قلّوا أو كثروا، فالإصلاح له سبل كثيرة، ومطلوب من كل مسلم ومسلمة المساهمة بما يستطيعون من ذلك، فالدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإماطة الأذى عن الطريق والكلمة الطيبة والعمل الصالح أيًا كان نوعه فيما يعود بالنفع على أفراد المجتمع أو الحيوانات أو الطيور أو غيرها وتعليم العلم النافع والإصلاح بين الناس كل ذلك وغيره من الأعمال التي يتقرب بها العبد إلى الله، وينال عليها الأجر من المولى عز وجل إذا صاحبها الإخلاص والصواب، وهي من الإصلاح حقيقة، ومن عمل المصلحين المخلصين الذين يهمهم شأن أمتهم ومجتمعهم ومن يعيشون معهم على هذه الأرض، سواء كانوا في عصرهم أو يأتون ويلحقون بهم فيما بعد، ذلك شأن المصلحين الساعين بالخير الذين يسعد بهم مجتمعهم مع سعادتهم هم أنفسهم بإذن الله عز وجل.
إن الهلاك لا ينزل بقوم فيهم المصلحون، والمصلحون غير الصالحين، فشتّان بين الصالح في نفسه الذي لا يتعدّى نفعه إلى غيره، وبين المصلح الذي هو صالح في نفسه ساعٍ للإصلاح في المجتمع، فهو مصلح كما ذكر الله عز وجل عن المجرمين المفسدين في الأرض وعن المصلحين أيضًا، وبأن الله لا يهلك قرية كان أهلها مصلحين، قال تعالى: فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُوْلُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ [هود:116، 117]، فلنتنبّه لقول الله تعالى: مُصْلِحُونَ، ولم يقل: وأهلها صالحون، فالمصلح أعم وأشمل وأنفع من الصالح في نفسه؛ لأن المصلح يسعى ويعمل جاهدًا لإصلاح الناس وصلاحهم حتى تستقيم الأمور كما أمر الله عز وجل بأن يدعو إلى الله عز وجل، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويهمه أمر المسلمين بعامة.
وذكر الله عز وجل من أوصاف المنافقين وأهل الزيغ والفساد بأنهم مفسدون في الأرض مع ادعائهم الإصلاح وهم على النقيض من ذلك، قال تعالى: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلا إِنَّهُمْ هُمْ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ [البقرة:11، 12]، وقال عز شأنه: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ [البقرة:204-206].
وعلى العكس من هذا الصنف ذكر الله عز وجل بعد هذه الآيات المتعددة عن هذا النوع بعدها مباشرة ذكر في آية واحدة المصلحين الذين يبيعون أنفسهم يبتغون ما عند الله عز وجل، قال تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ [البقرة:207]. فمن الناس من يكون مفتاحًا للخير مغلاقًا للشر، ومنهم من يكون مفتاحًا للشر مغلاقًا للخير، وشتّان بين الفريقين، وسيجازي الله كلاًّ بعمله، ويوفّيه حسابه، وهو يعلم سبحانه المفسدين من المصلحين، قال تعالى: وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ [البقرة:220]، والذي يتمسك بالكتاب والسنة ويؤدي ما أوجب الله عليه ويقوم به قولاً وعملاً واعتقادًا يُسمّى مصلحًا، ولن يضيع أجره عند الله، وسوف يجزيه الله أحسن الجزاء، قال تعالى: وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ [الأعراف:170].
وموضوع الخطبة جزء من الإصلاح بمفهومه الشامل لمعنى الإصلاح الذي سبق الإيجاز عنه، فالموضوع هو الإصلاح بين الناس عمومًا، وأخص المسلمين المتعادين المتقاطعين سواء كانوا أفرادًا أو أسرًا أو جماعات أو قبائل أو دولاً وحكومات صغرت أم كبرت، وذلك هو المأمور به في الكتاب والسنة في آيات وأحاديث كثيرة، قال تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ [الأنفال:1]، وقال تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الحجرات:10].
وفي الحديث الصحيح الذي رواه البخاري ومسلم رحمهما الله تعالى من رواية أبي هريرة أن رسول الله قال: ((كل سُلامَى من الناس عليه صدقة، كل يوم تطلع فيه الشمس تعدل بين الاثنين صدقة، وتعين الرجل في دابته فتحمله عليها أو ترفع له عليها متاعه صدقة، والكلمة الطيبة صدقة، وبكل خطوة تمشيها إلى الصلاة صدقة، ودَلُّ الطريق صدقة، وتميط الأذى عن الطريق صدقة)). فالشاهد من الحديث قوله : ((تعدل بين الاثنين صدقة))، حينما قال بأن على كل مفصل في الجسم صدقة في كل يوم تطلع فيه الشمس، وذلك شكرًا لله عز وجل على نعمه التي لا تعدّ ولا تحصى، فجعل الله طرق الخير متعددة وكثيرة من أجل كسب الحسنات بالأعمال الصالحة التي تُنال بها الدرجات الرفيعة. فتلك من الأشياء التي ذكرها الرسول من الصدقات التي يُزكّي بها الإنسان عن مفاصله وعظامه وجسمه كله، ويحمد بها ربّه لأداء كل عضو من أعضائه وظيفته، ذلك هو الإصلاح بين الاثنين والحكم بالعدل لا بالجور والظلم، وكان البدء به في أول الصدقات والحسنات وعمل الخيرات لأهميته.
عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله : ((ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟)) قالوا: بلى يا رسول الله، قال: ((إصلاح ذات البين، فإن فساد ذات البين هو الحالقة))، وفي رواية: ((إن فساد ذات البين هي الحالقة، لا أقول: تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين)). نعم، إنها تحلق الدين وتذهب به؛ لأن العناد والخصومة قد تؤدي إلى الكفر، وهذا أمر مشاهد وواقع في مجتمعات المسلمين عندما يذهب لبّ الخصم ولا يردعه إيمانه فهو يُجانب الحق والعدل والإنصاف، ولا يقول كلمة الحق في الغضب والرضا، بل يتكلم في خصمه بما يسوغ له من إلحاق التّهم به والكذب والبهتان وقول الزور والفحش والبذاءة وسلاطة اللسان ونشر قالة السوء بين الناس كذبًا وزورًا، وتحريض العامة والتحرش بالمسلم لتدعيم باطله، ليخرج ذلك الباطل أمام الناس لابسًا ثوب الحق.
ومِن جهل أو تجاهل الظالم لنفسه وغيره استطالته في عرض أخيه المسلم، وتدبير المكائد، ونصب شباك الباطل في الخفاء، وما يبيّته ويضمره هو وأهل الباطل الذين يدفعونه إلى الشر دفعًا ليكون هو المنتصر، وليظهر أمام الناس بأنه صاحب الحق، ولو أدى ذلك إلى ارتكاب ما حرم الله، كل ذلك جعله يقدم على هذه الأفعال المشينة لما غاب عنه الخوف من الله ومن أليم عقابه، وما علم أنه وأعوانه الخاسرون في الدنيا والآخرة، وأن الله لهم بالمرصاد، هذا شأن من يبيّت سوءًا، ويضمر عداوة، ويحمل بين جنبيه قلبًا أسود مِرْبادًا لاختلال إيمانه وضعف عقيدته وقلة حظه من الفقه في دينه، وهذه العلاقة والصفة عدها رسول الله من علامات النفاق حين عدّد صفات المنافق وقال: ((وإذا خاصم فجر))، مع أنه ارتكب كل صفات النفاق التي عدها رسول الله في الحديث وهي: ((إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان، وإذا خاصم فجر)).
أما المؤمن الحق فهو على العكس من ذلك؛ لا يحمل الغل والحقد والبغضاء لسلامة صدره من ذلك، قلبه أبيض ناصع، لا يبيت وفي قلبه على مسلم شيء مما يجده الأعداء محترقًا متغلغلاً في سويداء قلوبهم، لا يطيش به عقله، ولا يخرج عن العدل وقول الحق قدر أنملة، منصف فيما يقول ويدلي به، سواء كان الخصم غائبًا أو حاضرًا، يخشى الله في سره وعلنه، لا يهمه أمر البشر؛ لأن إيمانه وخوفه من الله يردعه عن الوقوع فيما حرم الله، فهو ينتصب للدفاع عن نفسه ودفع الظلم عنه بالكلمة الصادقة والقول الحق العدل السديد.
وقد يرتكب ذلك الطرفان، بحيث يصف كل منهم الطرف الآخر، وذلك هو واقع كثير من المسلمين اليوم عندما ابتعدوا عن الكتاب والسنة وتحكيمهما في حياتهم في كل صغيرة وكبيرة، فلعدم الإنصاف بين المتخاصمين وظلمهم لبعضهم ولعدم تدخل المصلحين بينهم امتلأت المحاكم والإدارات ذات العلاقة بالخصومات والدعاوى الكيدية، وفشا الظلم وانتشر، وساعدهم على ذلك المماطلة وعدم معرفة الحق ودراسته ومعرفة الحق من الباطل، أو الوقوف بجانب الباطل من قبل ضعاف النفوس، وتدخل جهات للفصل في الخصومات ليس لها علاقة شرعية، حيث تعددت الاختصاصات وتباينت، والمعروف في الإسلام والواجب الذي يجب أن يكون التحاكم إليه هو الكتاب والسنة.
ولنتدبر هذه الآية الكريمة التي تُنال بها الدرجات الرفيعة بالحصول على الأجر العظيم الذي وعد الله به في نهاية الآية، ولنتأمل فيها وفي غيرها، ونعمل بالإصلاح بين الناس متى بلغتنا الخصومة والاختلاف، ومن لم يكن كذلك فالواجب عليه أن لا يوسّع الخرق على الراقع، ولا يسعى بالوشاية والإفساد بين الناس، بل يقول خيرًا أو يصمت، ويكفي الناس شره وإفساده، وهذا أقل الواجب في حقه في هذه الحالات، مع أن بعض المفسدين يسعون بالوشاية والوقيعة بين الناس والتحريش بينهم، ولا يستريحون ولا يهدأ لهم بال إلا على هذا الحال وأمثاله، فهم مثل الطُّفَيْلِيّات والميكروبات والجراثيم والصراصير التي لا تعيش ولا تتكاثر إلا في محلات وأماكن العفن والقذارة والأوساخ والفساد، فكيف حالهم إذا وقعت الخصومة؟ إنها حال مخزية يندى لها جبين كل مسلم غيور على دينه وأمته من الاشتغال بالفتن والإِحَنِ بعضهم مع بعض، قال تعالى: لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء:114]، أي: لا خير في كثير مما يُسرّه القوم ويتناجون به في الخفاء إلا إذا تناجوا في صدقة يعطونها سرًا، أو أمرٍ بطاعة الله عمومًا، أو إصلاح بين المتخاصمين في الدماء والأموال والأعراض وكل ما يقع فيه التداعي بين الناس، وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء:114]، أي: من فعل هذه الخصال الطيبة بعدما أمر بها الناس فجمع بين الأمر بالخير وفعله مخلصًا لله في ذلك فله الأجر العظيم عند الله تعالى، وفي هذه الآية ترغيب عظيم في الإصلاح بين الناس.
وكذلك في حديث رسول الله المتفق عليه حين ذم الكذب والكذابين، وعدّ ذلك من صفات المنافقين، ولكنه رخّص فيه إذا كان لا يمكن التوصل إلى الإصلاح بين المتخاصمين إلا عن طريقه أو أنه سوف تفسد العلاقة الزوجية إذا لم يكن إلا الكذب وسيلة لذلك والذي ينمي به الخير بين المتخاصمين، قال رسول الله : ((ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس فينمي خيرًا أو يقول خيرًا)) متفق عليه، وينمي خيرًا أي: يبلّغ وينقل خبرًا فيه خير وإصلاح بين الناس.
ومن أنواع الإصلاح الإصلاح بين الزوجين المختلفين؛ لأن الإصلاح بين الزوجين تبنى عليه البيوت، وتترابط به الأسر التي هي أسس المجتمعات البشرية، وفساد ما بين الزوجين يترتب عليه فساد البيوت وتفكك الأسر وتشتتها، قال تعالى: وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ [النساء:128]، وقال تعالى: وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا [النساء:129]، ففي أي خصومة بين الزوجين ينبغي أن لا تخرج المرأة من بيت زوجها لئلا يدخل شياطين الإنس والجن ويفسدون العلاقة بين الزوجين بإلقاء العداوة بينهما بما يزينونه من الباطل من القول لكل منهما لكي يفرقوا بينهما، والإفساد بين الزوجين أو المتخاصمين هو شأن شياطين الإنس والجن في كل زمان ومكان، وذلك بالإيحاء بزخرف القول غرورًا.
ولا يجوز للمرأة أن تخرج من بيت الزوجية، ولا أن يُخرجها زوجها عندما يطلقها الطلقة الأولى أو الثانية؛ لئلا تتسع الشُّقّة والخلاف بينهما، ولئلا يجد المغرضون والمفسدون مدخلاً لإفساد العلاقة الزوجية بينهما، ولعل الله يحدث بعد ذلك أمرًا يحبانه ويرتاحان له بدخولهما وخروجهما ولقائهما ببعض خلال العدة، فيرجع إليها ويراجعها، هذا إذا كان في الطلاق فما بالنا في غيره من الأمور الأخرى التي لا يخلو منها بيت من البيوت؟! وهذا أمر يغفل عنه كثير من المسلمين، فيقع الشقاق والخلافات والخصومات، وهذا ما يسعى إليه الشيطان وجنوده كل ليلة وهو على عرشه في البحر، حيث ينتشرون للفتنة بين الناس، ويكون أقربهم وأحبهم إليه من سعى بالتحريش بين المرء وزوجه حتى يقع الطلاق والفراق بين الزوجين، والشيطان أيس أن يعبده المسلمون في جزيرة العرب التي تبقى على التوحيد بإذن الله إلى قيام الساعة، ولكنه رضي بالتحريش فيما بينهم وبما يحقرون من الأمور المنكرة، قال رسول الله : ((إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب، ولكن في التحريش بينهم)) أورده في الصحيحة (1608)، وفي رواية أخرى صحيحة: ((إن الشيطان قد أيس أن يُعبد بأرضكم هذه، ولكن رضي بما تحقرون)) أورده في الصحيحة (472).
الخطبة الثانية
الحمد لله يؤتي المصلحين أجرًا عظيمًا نعمة منه وفضلاً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله.
أما بعد: فمن أنواع الإصلاح بين الناس الإصلاح بين الطوائف المقتتلة من المسلمين صغرت أم كبرت في داخل الدولة الواحدة أو على مستوى الدول، واجب المسلمين السعي للإصلاح بين المتقاتلين من أجل القضاء على أسباب الفتنة بالعدل الذي يعطي كل ذي حق حقه؛ لكي يستتبّ الأمن، وتُحقن الدماء، ويؤخذ على يد المعتدي، ويكف عن الظلم والتعدي على غيره فيما بعد، ويتم إنصاف المُعْتَدَى عليه، ولئلا تضعف شوكة المسلمين أمام أعدائهم، وعندها يتربصون بهم الدوائر.
قال تعالى: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الحجرات:9، 10]، ووردت أحاديث عدة حول الأخذ على يد الظالم ونصرة المظلوم والإصلاح بين المتخاصمين، ومنها قوله في آخر الحديث المعروف: ((ولتأخُذُنّ على يد الظالم، ولتأطُرُنّه على الحق أَطْرًا، ولتقْصُرُنّه على الحق قَصْرًا، أو ليضْرِبَنّ الله بقلوب بعضكم على بعض، ثم ليلعننّكم كما لعنهم)) رواه أبو داود والترمذي.
إن مجتمعات المسلمين اليوم بحاجة ماسة إلى رجال مصلحين في شتى المجالات، وللإصلاح في الخصومات خاصة يحتسبون أجرهم على الله، رغم أنهم مأمورون بذلك في القرآن الكريم والسنة المطهرة حين تبلغهم الخصومات والمنازعات والمشاجرات والخلافات التي ملئت بها المحاكم الداخلية والدولية، سواءٌ كانت تلك المحاكم شرعية أو غير شرعية، يدخلون في ذلك لاحتوائها منذ البداية والقضاء عليها، وليعيش أفراد المجتمع الواحد أو المجتمعات المتعددة في حالة من السعادة والطمأنينة التي يُغبطون عليها بين الأمم. وكان هذا فعل السلف الصالح إلى عهد قريب ونحن جميعًا نعرفه، وبوادر العودة إلى ذلك وتبنّي فكرة الإصلاح وإنشاء اللجان الخاصة بذلك بدأت ولله الحمد والمنة، عسى أن تعمّ وتنتشر في مجتمعات المسلمين، ويجني ثمارها القريب والبعيد بإذن الله تعالى.
ومع سرورنا بوجود لجان الإصلاح ولكن واقعها إلى الآن في بعض المدن والمحافظات لا يتعدى المظاهر وحب البروز والظهور في الصحف ووسائل الإعلام، ولذلك كانت الدعاية للمظهر أكثر من المخبر، ففي صحيفة ظَهَرَ اسم ذلك المسؤول عن مكتب إصلاح ذات البين في مدينة من المدن بأنه أحد الأعضاء في تلك اللجنة، ثم جاء الاعتذار له بعد أيام بأنه هو الرئيس، علمًا بأنه يعلم عن مشاكل في حيّه الذي يسكن فيه ولا يحرّك ساكنًا، ولا يعرف أصلاً طرق الإصلاح ووسائله؛ لأن اختياره لم يكن مبنيًا على الشرع المطهر، بل على العلاقات الشخصية لإظهار المسؤولين في الصحافة المحلية، لأنه مسؤول عن مكتب لصحيفة معينة، وإذا كان هذا يُعذر لعدم علمه وفقهه فإن الأسوأ منه ذلك الذي يلقي محاضرة يجتمع لها الناس بعنوان: "الإصلاح وأثره في المجتمع"، ثم يبلغه خلاف ومشاكل بين متخاصمين من جيرانه ولا يأبه بذلك ولا يكترث بما حصل، مع علمه بوصولها للجهات المختصة وإشغال الإدارات ذات العلاقة بالدعاوى والشكاوى الكيدية، فذلك ينطبق عليه قول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ [الصف:2، 3].
وهناك صنف آخر يظهر على أحدهم الصلاح، ويظن المسلم بأنه يحب الإصلاح، ولكنه يبقى في دائرة الصالحين وليس المصلحين بشموليتها، فعندما يعرض عليهم شخصٌ الإصلاح بين متخاصمين لا يزيد أحدهم على قوله: الله يصلح الشأن، الله يهديهم، ليش ما يصطلحون؟ باللهجة العامية، أي: لماذا لا يصطلحون؟ باللغة العربية، مع علمه بأنهم لو كانوا سيصطلحون من عند أنفسهم لما وصلت مشكلتهم إلى ذلك الحد الذي ربما أشغل الإدارات الحكومية، وقد يُخفي هذا الصنف في قرارة أنفسهم وسويداء قلوبهم تشفّيهم للطرفين أو لأحدهما وحبّهم لاستعار النار واشتعالها بينهما، هذا إذا وقفوا عند هذا الحد، بل قد يسعون لإيقاد نار الفتنة ولو من بعيد بكلمات قليلة جدًا، ولكنها تعمل عملاً مفسدًا عظيمًا، فهذه الأصناف محرومة من الأجر الموعود به، بل تتحمل الإثم حيث لم تسلك سبيل المصلحين، بل تزيد عليه أيضًا إثم ما يتغلغل في قلوبها مما تمت الإشارة إليه.
وواقع المسلمين إلى الآن محزن ومخجل ويؤسف له، ولو عرف من يريد الدخول في الإسلام واقع التعامل بين المسلمين في هذا الزمان في كثير من البلاد لما دخل في الإسلام، ولابتعد عنه نتيجة العداوة والبغضاء والمكر والخداع والمراوغة والنفاق والإفساد المنتشر بين المسلمين.
إن واجب المسلمين عدم التخاذل والتكاسل والتخلي عن الإصلاح مع قدرتهم على ذلك، وقد ضُمنت حقوقهم حتى لو بلغ الأمر بالمصلحين أن تحملوا مبالغ من المال قلّت أو كثرت في سبيل الإصلاح بين المتخاصمين ولو أنهم أغنياء، فأموالهم وحقوقهم محفوظة ولا يغرمون فلسًا واحدًا منها، بل جعل الله عز وجل الغارمين المتحملين لتلك الحمالات من ضمن الأصناف الثمانية الذين تحلّ لهم الزكاة، ويجب دفعها لهم ولو كانوا أغنياء، قال تعالى: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [التوبة:60]، فمكان الشاهد قوله تعالى: وَالْغَارِمِينَ.
فما على المصلحين بين الناس على مستوى الأفراد أو الجماعات أو الدول إلا أن يحسنوا النية والقصد للإصلاح واحتساب الثواب والأجر من عند الله جل جلاله، ويحكموا بالعدل، ولا يحيفوا كما أمرهم الله عز وجل بقوله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرً [النساء:58]، وكما ورد في نهاية الآية المرغبة في الإصلاح قال تعالى: وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء:114].
وعلى المصلحين أن يحتسبوا أجرهم على الله، لا يريدون بذلك رياء ولا سمعة ولا ثناء ومدحًا من الناس، ويسعوا بين المتخاصمين قلوا أو كثروا بالأخبار السارة ينقلونها ويحملونها إليهم للجمع بين الأطراف المتخاصمة، حتى لو استدعى الأمرُ الكذب الذي ورد السماح والترخيص فيه في الحديث عن رسول الله لجمع الشمل والتفاف المسلمين حول بعضهم بعضًا.
وقبل ذلك كله يعرف المصلحون أسباب أي مشكلة أو فتنة أو قطيعة ليقتلعوها من جذورها، ويتعرفون أيضًا على الأسباب والدواعي والدوافع من كل طرف على حدة، ويناقشون فيما أشكل عليهم فهمه أو تناقضه وكأنهم محققون رسميون، ويدرسون نفسيات الطرفين ومرادهم، ويجتهدون في ذلك، ويفرّغون أنفسهم ساعات وأيامًا وليالي، بل قد تصل إلى الشهور، ويصلحون بينهم صلح العقلاء وكبار السن، وليس كالصلح بين الأطفال وصغار السن والمراهقين.(67/291)
إن أي مصلح كائنًا من كان ينبغي له أن يعرف طرق الإصلاح، ويسعى بكل رَوِيّة وإخلاص، يقول الحق ويصدع به، ويحذر من العواقب الوخيمة عند الاستمرار على الباطل وما ينتج عنها، لا يحابي ولا يجامل ولا يداهن، إخلاص النية ديدنه، وهدفه ابتغاء مرضاة الله، ولن يحوز على الأجر العظيم الموعود به من رب العالمين إلا بالإتيان بالشروط السابقة، مع التفرغ الصادق في الوقت، وليس كما يفعله بعض المصلحين من وقوفه في أي قضية خمس دقائق، ويقول: أنا ورائي أعمال وأشغال، إن اصطلحوا وإن رفضوا فما خسرتُ شيئًا، بل عليه أن يفرّغ عقله وقلبه وفكره للاستماع والإنصات والمناقشة والتعرف على القضية بكاملها ومعرفة الحق من الباطل وعدم التشاغل بما يصرف ذهن المصلح، خاصة عند سماع كلام أحد الطرفين أو كليهما، ثم الحكم الموافق للكتاب والسنة، وليس الموافق للهوى والعصبيات والعادات الجاهلية؛ لأن حكم المصلح قد يكون مُلزِمًا خاصة فيما بين الزوجين إذا ندبه القاضي للإصلاح بينهما. ورد عن عمر بن الخطاب إذا بعث حكمين للإصلاح بين الزوجين ولم يصطلحا أنه يعلو الحكمين بالدرة لفهمه من إرجاع الضمير في إرادة الإصلاح إلى المصلحيْن والحكمين وليس للزوجين، وهذا مفهوم واضح للفرق بين إصلاحًا واصطلاحًا وتصالحًا مع احتمال المعنيين، ولكنه الحرص منه في الإصلاح بين الناس كما قال عز وجل: إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا [النساء:35].
ومما يندى له الجبينُ حال بعض المصلحين أمام الناس المفسدين في الخفاء وهو الفرح بتلك الخصومات والمنازعات، يوقد نار الفتنة، ويسعى للتحريش بين المتنازعين، ويحرّض على النزاع والشقاق، ويلقّن كل طرف ما يتخذه من الباطل والحيل الشيطانية ضد الطرف الآخر، زاعمًا الإشفاق والمحبة والإخلاص، فذلك من حزب الشيطان وجنده الخاسرين، وقد يكون ذلك طبعه وخلقه عند عدم وجود النية الصالحة، وقد يكون قصده حسنًا وقلبه صافيًا، ولكنه لا يعرف ما يقرب، فهو يسعى بما يباعد، فلا يَصْلُح للإصلاح كل أحد، ولا يُوفّق له كل من سعى وتظاهر بالإصلاح، فقد يسيء ويباعد من يريد الإحسان والتوفيق بين المتخاصمين بأسلوبه البعيد عن الطرق الشرعية والحكمة المرعية والحالة النفسية.
والأسوأ من ذلك الذين يسعون للتحريش والإفساد لإيجاد المشاكل بين الناس أو التحريض وإيقاد نار الفتنة وصب الزيت على النار كما يقال قديمًا، وحديثًا صبّ البنزين على النار، والتمتع بمناظر الصراع والفتن في المجتمع، وقد يفعل أحدهم فعلته الخبيثة بقول أو فعل ويلصقها بفلان من الناس، أي أنه يقتل القتيل ويمشي في جنازته، وهذا أمر ملموس وواقع في المجتمعات المعاصرة، ولكن الواجب التنبه لأولئك المفسدين، ثم على من نُقل إليه عن أخيه المسلم أو ألصق به تهمة للإيقاع بينهما أن يتثبت، ويصل إلى حقيقة الأمر بدلاً من الظنون والشكوك التي سعى بها بل عملها المفسد بنفسه للإيقاع بين الجارين أو المتحابيْن المتوادين وإن كانا بعيدين في السكن، فهذه الأعمال الشنيعة الشيطانية منتشرة في المجتمعات، فيجب أخذ الحيطة والحذر من هذه الجراثيم القاتلة في المجتمع، ويكون الخلاص منها صعبًا إذا تركت؛ فسوف يستفحل أمرها ويعظم شرها.
قال تعالى: إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ [فاطر:6]، وقال عز وجل: وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا [الإسراء:53].
ولو أن كل قرية أو محلة أو حي من الأحياء في مجتمعات المسلمين نصّبوا مجموعة من أهل الصلاح والخير يقومون بحل الخلافات لانتهت كثير من القضايا والمشاكل التي ملأت كل إدارة ذات علاقة، أو بقيت في صدور أصحابها تغلي بها نفوسهم وقلوبهم. وذلك بعد توفيق الله عز وجل للمجتمع، مع أن هذه الدعوة التي دعا إليها أهل الخير منذ عشرات السنين بدت بوادرها في بعض المدن والأحياء ولله الحمد، وعسى أن تعم مجتمعات المسلمين بإذن الله عز وجل وتوفيقه.
ــــــــــــــــــــ(67/292)
بر الوالدين
...
حمادة بن غازي أبو عبيد
... ...
4929
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية اضف إلى رف الخطب
ملخص المادة العلمية
1- فضل الوالدين في القرآن الكريم. 2- ثمرات البر. 3- خطر العقوق.
أولا: فضل الوالدين في القران الكريم:
حقيقة عندما تقترب من هذا الموضوع تحس بأنك تزلزل داخليا معه، يكاد قلبك أن ينخلع، بل يكاد لحم وجهك يسقط، بل لا تستطيع التحكم في سيل الدمع ولا شكوى اللسان خجلا وحياء واستحياء من الله لتقصيرنا في هذا الحق العظيم، والذى جاء به قرآن يتلى ويتعبد به إلى يوم الدين، فالأم والأب ودائما نقول: الأم قبل الأب لأن الذي قدمها هو المصطفى كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة أن رجلا جاء إلى النبي فقال له: من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: ((أمك))، قال: ثم من؟ قال: ((أمك))، قال: ثم من؟ قال: ((أمك))، قال: ثم من؟ قال: ((أبوك)).
إذا ذكرتهما ذكر البر والإحسان، وإذا ذكرتهما ذكر الوفاء والعرفان، وإذا ذكرتهما ذكر فضلهما في السنة والقرآن، وإذا ذكرتهما أسعفتك بالدموع العينان، ذهبت أيام حياتهما، وانقضى شبابهما، وقفا على عتبة هذه الدنيا ينتظران منك قبا رقيقا رقراقا عطوفا حنونا، ينتظران منك كلمة حانية وبرا وإحسانا وجودا وعرفانا، كيف لا والأم قد لاقت من الآلام والمصاعب ما لاقت، يود المرء أن يكون معه نسيا منسيا؛ من حمل وولادة ووضع ورضاعة، جعلت لك بطنها وعاء ودمها لك غذاء وثديها لك سقاء وحنانها وعطفها لك غطاء، تبكي لتضخك أنت، تجوع لتشبع أنت، تسهر لتنام أنت، تمرض لتشفى أنت، تحزن لتسعد أنت. والأب يلاقي ما يلاقي في هذه الحياة من متاعب ومشقات ومصاعب؛ ليوفر لك لقمة العيش الحلال والبيت السعيد والمال الوفير، لتعيش مرفوع الرأس بين الناس.
من هنا كان الملك الجليل جل وعلا يعلم فضلهما وعظم مكانتهما، ورفعها وجعلها مكانة سامية تتوارى معها كل مكانة مهما علت أو سمت، بل قرن المولى جل وعلا هذه المكانة بأهم حق لله تعالى على عباده على الإطلاق، ألا وهو حق التوحيد إذ قال تعالى: وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنْ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا [الإسراء: 23، 24].
قرن عبادته وتوحيده وتمجيده والخضوع له والتذلل له مقترنا بالإحسان إلى الوالدين ولين الجانب وخفض الجناح لهما وجعلهما فوق الرأس، بل وضع أقدامهما فوق الرؤوس كما كان يفعل محمد بن المنكدر، كان يضع خده على التراب ويقول: يا أماه ضعي رجلك على خدي.
قال تعالى: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [النساء:36]، وقال تعالى: قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [الأنعام:151]، وقال تعالى مخاطبا الأمم السابقة: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا [البقرة:83]، بل وصى الله تعالى وصية خالدة إلى يوم القيامة نزل بها سيد الملائكة على سيد البشر والأنبياء والمرسلين ، فقال: وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا [العنكبوت:8]، وقال: وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنْ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ [لقمان:14]. فأي فضل هذا؟! وأي منزلة ومكانة هذه؟! بل قال ابن عباس رضي الله عنهما: (ثلاث آيات نزلت مقرونة بثلاثة، لا يقبل الله واحدة بدون قرينتها، أما الأولى فهي قوله تعالى: أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ [النور:54]، فمن أطاع الله ولم يطع الرسول فلن يقبل منه، وأما الثانية فهي قول الله: وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَءَاتُوا الزَّكَاةَ [البقرة:43] فمن أقام الصلاة وضيع الزكاة لن يقبل منه، أما الثالثة فهي قول الله تعالى: أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ [لقمان:14]، فمن شكر الله ولم يشكر لوالديه لن يقبل منه).
فشكرك والديك هو برهما والإحسان إليهما والقيام على خدمتهما وأن تجثو على الركب تحت أقدامهما كالعبد الذليل بين يدي مولاه؛ لأن هذا من مقامات النبوة ومن أخلاق الأنبياء، فهذا نبي الله نوح يقول: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِي مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ [نوح:28]. وهذا نبي الله إبراهيم الذي علم البشرية كلّها معنى البر، انظر كيف يتحبّب إلى والده بأحب كلمة له كلمة يا أبي، والله الذي لا إله غيره منّا من يتمنى أن يسمع هذه الكلمة ولو لو مرة واحدة، نداء غالٍ له قيمة روحية عالية، انظر مع أن أباه على الكفر يصنع الأصنام ويبيعها ويروّج لها في الأسواق، ومع ذلك انظر إلى هذا النداء الرقيق الرقراق الذي يلين القلوب القاسية: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا إِذْ قَالَ لأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنْ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا يَا أَبَتِ لا تَعْبُدْ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنْ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا [مريم:41-45]، ما أجمل هذا الأدب والبر من خليل الرحمن بعد أن رفض أبوه دعوته، انظر إلى حسن المعاشرة والبر والأدب من الخليل: سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي. وهذا نبي الله يحيى، وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا [مريم:14]. وهذا نبي الله عيسى، وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا، بل وإن كان الأب والأم على الكفر فقد أمر الله سبحانه بالإحسان إليهما بالمعروف في الدنيا، قال تعالى: وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ.
أي فضل هذا أيها الحبيب حين تصبغ بصبغة البر والإحسان والصدق والإخلاص ستجنى ثمرات هذا البر من الله، وهذا هو عنصرنا الثاني.
ثانيا: ثمرات البر:
1- أيها الأخ الكريم، اعلم ـ رحمك الله تعالى ـ أن البر من أعظم الطاعات وأجلّ الأعمال إلى الله تعالى؛ لأن البر بلغ عند الله مكانة عالية سامية، وعند المصطفى أيضا، كما في الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: سألت النبيّ : أيّ العمل أحب إلى الله؟ قال: ((الصلاة على وقتها))، قلت: ثمّ أيّ؟ قال: ((بر الوالدين))، قلت: ثمّ أيّ؟ قال: ((الجهاد في سبيل الله)).
انظر إلى هذه المنزلة العظيمة للبر عند الله تعالى، بل في البخاري من حديث ابن عمرو أن رجلا جاء إلى النبي قال: أبايعك على الهجرة والجهاد أبتغي الأجر من الله تعالى، فقال: ((فهل لك من والديك أحد حيّ؟)) قال: نعم، بل كلاهما، قال: ((فتبتغي الأجر من الله تعالى؟)) قال: نعم، قال: ((فارجع إلى والديك فأحسن صحبتهما)). فجلوسك تحت أقدام والديك وتقبيلهما وغرس السعادة في قلبيهما ويد حانية وكلمة رقيقة وقبلة حانية أعظم قربة لله تعالى بحبّ وإخلاص، بل راجيا من الله لهما البركة في العمر والرزق والصحة، وهذا شيء مهم جدا، لا بدّ من الحبّ بإخلاص، جاء رجل إلى الفاروق عمر رضي الله عنه فقال له: إن لي أمًا بلغ بها الكبر، وإنها لا تقضي حاجتها إلا وظهري مطية لها، وأوضئها وأصرف وجهي عنها، فهل أديت حقها؟ قال: لا، قال: أليس قد حملتها على ظهري وحبست نفسي عليها؟! فقال عمر: إنها كانت تصنع ذلك بك وهي تتمنى بقاءك وأنت تتمنى فراقها.
نعم أحبتي، يجب الإخلاص في حبهما، بل قال أبو موسى الأشعري: شهد ابن عمر رجلاً يطوف بالبيت قد حمل أمه وراء ظهره يقول:
إني لها بعيرها المذلّل إن أذعرت ركابها لم أذعر
فقال: يا ابن عمر، أتراني جزيتها؟ قال: لا، ولا وبزفرة واحدة، ولكنك أحسنتَ، والله يثيبك على الإحسان.
إنهما بابان إلى الجنّة تدخل منهما إلى الجنّة، كما قال أحد الصالحين إياس بن معاوية عندما ماتت أمه فبكى بكاء مريرا، فلما سألوه: لِمَ تبكي هكذا؟ قال: كيف لا أبكي وقد كان لي بابان إلى الجنة، واليوم أغلق أحدهما؟! الله أكبر.
2- البر سبب في دخول الجنة:
كما في مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((رغم أنف ثم رغم أنف ثم رغم أنف من أدرك والديه عند الكبر أحدهما أو كلاهما فلم يدخل الجنة))، خاب وخسر ولصق وجهه بالتراب، إنها تجارة رابحة مع الله جل وعلا، رأس مال مع الله ينمو ويزيد، فاز به من برهما، وخاسِر ومغبون من عقهما، بل في الحديث الذي رواه البيهقي ورواه ابن ماجة وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة من حديث معاوية بن جاهمة أن جاهمة عندما جاء إلى النبي فقال: يا رسول الله، أردت أن أغزو ـ أي: في سبيل الله ـ وقد جئت أستشيرك، فقال: ((هل لك أم؟)) قال: نعم، قال: ((فالزمها، فإن الجنة عند رجلها)).
انظر إلى الصالحين كيف كانوا، هذا زين العابدين علي بن الحسين قيل له: إنك من أبرّ الناس بأمّك، ولسنا نراك تأكل معها في صحفة! فقال: أخاف أن تسبق يدي إلى ما سبقت إليه عينها، فأكون قد عققتها. وأنت لا تعرف أإذا كانت أمك أكلت أم لا، وكذلك الأب لا تعرف أكل شبِع جاع، لا تعرف. وكان طلق بن حبيب لا يمشي فوق ظهر بيت وأمه تحته إجلالاً لها وتوقيرًا، بل وكان الفضل بن يحيى يُدِْفئ الماء لأبيه وهما في السّجن، فيضع الدلو عند المصباح ويمسكه طوال الليل، فعرف السجان ذلك فأخذ المصباح في الليلة التي بعدها، فجعل الفضل يضمّ الوعاء إلى جلده وبطنه طوال الليل، فإذا طلع الفجر كان الماء فاترًا فأعطاه أباه ليتوضأ به، فاتَّقِ الله عبد الله.
3- البر سبب لرضا الله تعالى:
كما في الترمذي بسند صحيح من حديث ابن عمرو أن الحبيب قال: ((رضا الرب من رضا الوالدين، وسخط الرب من سخط الوالدين)).
فيا من تهينهما ولا تكرمهما، يا من تغضبهما ولا ترضيهما، احذر عضب الجبار جلّ وعلا، ألك قدرة على الله؟! ألك قدرة على النار؟! إن أخذه شديد مرير عسير، أخذ عزيز مقتدر. ويا من حرصت على رضاهما، هنيئا لك برضا الله الذي هو أكبر من الدنيا، بل أكبر من الجنة وما فيها، وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللهِ أَكْبَرُ، وخدمتهما شهادة لك بين يدي الجبار جل وعلا، ورضاهما ثروة لك في الدنيا قبل الآخرة. وانظر حينما يكون الأب والأم في رضا عن ولدهم؛ كان رجل يقال له: كلاب بن أمية بن الأسكر، له أبوان شيخان كبيران، وكان يأتيهما بصبوحهما وغبوقهما ـ الصبوح: شرب اللبن في الصباح، والغبوق: في المساء ـ، فجاءه رجلان فلم يزالا به يرغبانه في الغزو حتى اشترى غلامًا فأقامه مقامه وخرج للجهاد، فجاء الغلام ذات ليلة بغبوق الأبوين وهما نائمان، فقام ساعة فلم ينبههما فذهب وتركهما، فانتبها في بعض الليل وهما جائعان فقال الشيخ:
لِمن شيخان قد نشدا كلابا كتابَ الله إن قبل الكتابا
تركت أباك مرعشة يداه وأمك ما تسيغ لها شرابا
إذا نعب الحمام ببطن وج على بيضاته ذكرا كلابا
أتاه مهاجران تكنفاه ففارق شيخه خَطِئا وخابا
أناديه فيعرض في إباء فلا وأبي كلاب ما أصابا
وإنك والتماس الأجر بعدي كباغي الماء يتبع السرابا
وكان عمر بن الخطا رضي الله عنه إذا قدم عليه قادم سأله عن الناس وعن أخبارهم وعن حالهم، فقدم عليه قادم فقال: من أين؟ قال: من الطائف قال: كيف تركتهم؟ قال: رأيت بها شيخًا يقول.. وذكر الأبيات، فبكى عمر وقال: أجل، وأبي كلاب ما أصابا. ثم إن أمية بن الأسكر أخذ بيد قائده ودخل على عمر وهو في المسجد فأنشده:
أعاذل قد عذلت بغير قدر ولا تدرين عاذل ما ألاقي
فإما كنت عاذلتي فردي كلابا إذا توجه للعراق
فتى الفتيان في عسر ويسر شديد الركن في يوم التلاقي
فلا وأبيك ما باليت وجدي ولا شفقي عليك ولا اشتياقي
وإيقادي عليك إذا شتونا وضمك تحت نحري واعتناقي
فلو فلق الفؤاد شديد وجد لَهمَّ سواد قلبِي بانفلاق
سأستعدي على الفاروق ربا له دفعَ الحجيج إلَى بساق
وأدعو الله مجتهدًا عليه ببطن الأخشبين إلَى دفاق
إن الفاروق لَم يردد كلابا على شيخيْن هامُهما زواق
فبكى عمر وكتب إلى أبي موسى الأشعري في ردّ كلاب إلى المدينة، فدعاه فقال: الحق بعمر بن الخطاب، فقال: لِمَ؟! ما أحدثتُ حدثا ولا آويت محدثا، قال: انطلق. فجاء إلى عمر بن الخطاب، فلما قدم دخل عليه فقال له عمر: ما بلغ من برّك بأبيك؟ فقال: كنت أوثِره وأكفيه أمرَه، وكنت أعتمد إذا أردت أن أحلب له لبنًا إلى أغزر ناقة في إبله، فأسمنها وأريحها وأتركها حتى تستقرّ، ثم أغسل أخلافها حتى تبرد، ثم أحتلب له فأسقيه. فبعث عمر إلى أبيه فجاءه فدخل عليه وهو يتهادى وقد انحنى فقال له: كيف أنت يا أبا كلاب؟ فقال: كما ترى يا أمير المؤمنين، فقال: هل لك من حاجة؟ قال: نعم، كنت أشتهي أن أرى كلابا فأشمه شمّة وأضمه ضمّة قبل أن أموت، فبكى عمر وقال: ستبلغ في هذا ما تحبّ إن شاء الله تعالى. ثم أمر كلابا أن يحتلب لأبيه ناقة كما كان يفعل ويبعث بلبنها إليه، ففعل وناوله عمر الإناء وقال: اشرب هذا يا أبا كلاب، فأخذه فلما أدناه من فمه قال: والله يا أمير المؤمنين إني لأشم رائحة يدَي كلاب، فبكى عمر وقال: هذا كلاب عندك حاضر، وقد جئناك به، فوثب إلى ابنه وضمّه إليه وقبّله وبكى بكاء شديدًا، فجعل عمر والحاضرون يبكون وقالوا لكلاب: الزم أبويك، فلم يزل مقيمًا عندهما إلى أن مات. فانظر إلى هذا المثال الرائع في رضا الوالد والوالدة.
4- البر سبب في سعة الرزق والبركة:
كما في مسلم من حديث أنس قال رسول الله : ((من أحب أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره فليصل رحمه)). وإياك أن تتخيل أن الرزق فقط في المال، ولكن حب الله لك رزق، جلسوك الآن في المسجد رزق، حبك للنبي رزق، حب الناس لك رزق، حب والديك لك رزق، وصومك رمضان رزق، وقيامك الليل رزق. فيا باغي الخير أقبل، ها هي البركة والرزق، أب وأم وأبواب كثيرة للرزق والبركة في العمر.
5- البر سبب لاستجابة الدعاء:
كان عمر رضي الله عنه إذا أتى عليه أمراء اليمن سألهم: أفيكم أويس بن عامر؟ حتى أتى إليه فقال: أنت أويس بن عامر؟ قال: نعم، قال: من مراد؟ ثم من قرن؟ قال: نعم، قال: فكان بك برص فبرأت منه إلا موضع درهم؟ قال: نعم، قال: ألك والدة؟ قال: نعم، قال: فإني سمعت رسول الله يقول: ((يأتي عليكم أويس بن عامر مع أمداد اليمن، من مراد ثم من قرن، كان به برص فبرئ منه إلا موضع درهم، له والدة هو بارّ به، لو أقسم على الله لأبره، فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل)) فاستغفر لي. لم يأت إلى النبي مع شدة احتياجه وشوقه إلى ذلك؛ منعه برّه بأمه أن يذهب إلى النبي، فأصبح مجاب الدعوة بفضل برّ الوالدين.
فيا من لا تفكّر في ذلك كلّه ولا تأبه به، بل تعصي والديك، انظر إلى هذا الخطر العظيم الجسيم للعقوق، وهذا هو عنصرنا الثالث مع حضراتكم في عجالة سريعة.
ثالثا: خطر العقوق:
1- العقوق من أكبر الكبائر:
ففي الصحيحين من حديث أبي بكرة أن النبي قال: ((ألا أُنَبِّئُكم بأكبر الكبائر؟)) ثلاثًا، قلنا: بلى يا رسول الله، قال: ((الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، ألا وشهادة الزور، أو قول الزور))، وكان متّكئًا فجلس، فما زال يكرّرها حتى قلنا: ليته سكت. وفى الصحيحين من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي قال: ((إن من أكبر الكبائر أن يسبّ الرجل والديه))، فقال الصحابة: وهل يشتم الرجل والديه؟! فقال المصطفى: ((نعم؛ يسب الرجل أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه)).
انظر إلى هذا الخطر العظيم، فيا من تنظر إلى أبيك وأمك نظرة خائبة، بل يا من ترفع صوتك عليهما، يا من تدير لهما ظهرك، يا من تفضّل عليهما زوجتك، احذر من أكبر الكبائر، واحذر من غضب الله، ويا شباب تسبّون آباءكم في لهوكم ومرحكم مع أصدقائكم، احذروا هذا فإنه من أكبر الكبائر، ويا من لا تذهب إلى أمك وأبيك، ولا تعرف عنهما شيئا، أين أنت منهما؟! اتقِ الله واحذر عقوبته.
2- العقوق سبب لغضب الله تعالى:
ففي الحديث الذي رواه النسائي والبزار بسند جيد وحسنه الألباني، ورواه الحاكم في المستدرك وصححه على شرط الشيخين من حديث عمر أن النبى قال: ((ثلاثة لا ينظر الله عز وجل إليهم يوم القيامة))، قيل: من هم يا رسول الله؟ قال: ((العاق لوالديه، والمرأة المترجلة، والديوث)).
هل لك قدرة على الله وعلى غضبه؟! يا من تعقّ والديك، هل لك قدرة على الطرد من رحمته وأنت في أشد الحاجة إليها؟! احذر غضب ربك أيها العبد المسكين، فلولا رحمة ربك ما دخل أحد الجنه، فاتقِ الله واحذر عقوق الوالدين، واستمع إلى هذه القصة العجيبة:
رجل خلّف ثلاثة أبناء، جمع الأموال، وبنى العمارات، وزوّج أبناءه الثلاثة من ثلاث أخوات، وكبر الأب، وماتت زوجته، فسكن مع أبنائه حتى بلغ من الكبر عتيًا، ورد إلى أرذل العمر، وأصبح لا يعلم من بعد علمٍ شيئًا، فأبدت البنات حينها تضجرًا وتذمرًا من أبيهم، من أبي أزواجهم، وبعد إلحاح من الزوجات قرر الأبناء أن يذهبوا بأبيهم إلى الملجأ، وهناك أخبروا المدير أنهم وجدوه في الطريق وأنه تبين لهم أنه معتوه، فأتوا به إلى الملجأ يبتغون الأجر من الله، فشكرهم المدير على فعلهم الجميل، ولما خرجوا من الملجأ قالوا للحارس: إذا مات ذلك الشخص فاتّصل بنا فنحن سنتبرع بأمور كفنه ودفنه لوجه الله، وعرضوا عليه جزءًا من المال إن هو اتصل بهم، وفي مساء ذلك اليوم أخذ الأب المسكين ينادي زوجات أبنائه: يا فلانة، يا فلانة، هاتوا الإبريق لأتوضأ، فقال له رجل بجواره: من فلانة هذه؟ إنك في ملجأ المسنِّين، وهنا أفاق الرجل وردّ الله إليه عقله، فأخذ يسأل: من أتى بي إلى هذا المكان؟ فقيل له: ثلاث رجال شهامٍ كرام، فلمّا عرف صفاتهم قال: هؤلاء أبنائي، ثم طلب اللقاء مع مدير الملجأ، ثم تبرّع للملجأ بجميع ما يملك من عقارات وعِمارات، وأحضر مدير التسجيل لأنه رفض أن يخرج من الملجأ إلا ميتًا، وصُدّق على الأوراق، واشترط أن يخرج جميع الساكنون من عماراته ولو عرضوا دفع الإيجار، ثم ما لبث الرجل أن مات بعدها بيومين إذ لم يحتمل الصدمة، وسمعه جيرانه وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة ويقول: اللهم اشهد إني غاضبٌ عليهم، اللهم كما حرمتهم من نعيم الدنيا فاحرمهما من نعيم الآخرة، اللهم لا ترني وجوههم في الآخرة إلا وهي ملتهبة بالنيران، اللهم، اللهم.. حتى فارق الحياة، أيّ غضب هذا؟! احذر يا عبد الله.
3- العقوق سبب لعنة الله:
كما في الحاكم من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: إن رسول الله قال: ((لعن الله العاق لوالديه)). وعن ابن عباس قال: قال رسول الله : ((لعن الله من سبّ أباه، لعن الله من سبّ أمه)). فاحذر يا عبد الله.
4- العقوق سبب في عدم قبول الأعمال:
ففي الحديث الذي رواه الإمام الطبراني وابن أبي عاصم في كتاب السنة بسند حسن وحَسَّنَ الحديث الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة من حديث أبي أمامة أن النبي قال: ((ثلاثة لا يقبل الله منهم صرفًا ولا عدلاً: العاق لوالديه، والمنان، والمكذب بالقدر))، لا فرض ولا نفل ولا أي عمل تقوم به، فإن الله لا يقبله طالما أنت عاقّ لوالديك، فكيف تنام على فراشك وأنت تعلم أن أعمالك غير مقبولة من الله؟! انهض ـ يا عبد الله ـ من غفلتك.
5- العقوق دين واجب السداد في الدنيا:
ففي الحديث الذي رواه الطبراني والبخاري في التاريخ وصححه الألباني من حديث أبي بكرة أن النبي قال: ((اثنان يعجلهما الله في الدنيا: البغي وعقوق الوالدين)). ولعل القصة معروفة بين الناس أسوقها لحضراتكم للعبر والعظة:
هذا ابن عاق يعيش معه والده في بيته، فكبر الوالد، وانحنى ظهره، وسال لعابه، واختلت أعصابه، فاشمأزت منه زوجة الابن، وكم من الأبناء يرضون الزوجات على حساب طاعة الأمهات والآباء، فطرد الولد أباه من البيت، فَرَقَّ طفلٌ صغير من أبنائه لجده فقال له: لماذا تطرد جدنا من بيتنا يا أبي؟! فقال: حتى لا تتأففوا منه، فبكى الطفل لجده وقال: حسنًا يا أبتِ، وسوف نصنع بك هذا غدًا إن شاء الله.
العقوق دَين لا بد من قضائه، وهذا ابن آخر يصفع والده على وجهه، فيبكي الوالد ويرتفع بكاؤه، فيتألم الناس لبكاء هذا الشيخ الكبير، وينقض مجموعة من الناس على هذا الابن العاق ليضربوه، فيشير إليهم الوالد ويقول لهم: دعوه، ثم بكى وقال: والله، منذ عشرين سنة وفى نفس هذا المكان صفعت أبي على وجهه .
العقوق دَين لا بد من قضائه، وهذا ابن ثالث عاق يجر أباه من رجليه ليطرده خارج بيته، وما إن وصل الولد بأبيه وهو يجره حتى الباب وإذا بالوالد يبكي ويقول لولده: كفى يا بني، كفى يا بني، إلى الباب فقط، فقال: لا بل إلى الشارع، قال: والله، ما جررت أبي من رجليه إلا إلى الباب فقط. كما تدين تدان.
أيها الأخ الحبيب، اذهب اليوم إلى أبيك فقبّل يديه وقدميه، وارجع اليوم إلى أمك فقبل يديها وقدميها؛ تنعم وتسعد وربّ الكعبة، والله أسأل أن يعلمنا ما جهلنا وأن يجعلنا ممن يستعمون القول فيتبعون أحسنه.
اللهمّ اغفر لنا وارحمنا واهدنا واهدِ بنا وثبّت على الحق أقدامنا وأحسن خواتيمنا وعاقبتنا في الأمور كلها وأجرنا من خزي الدنيا والآخرة..
ــــــــــــــــــــ(67/293)
...
ظواهر سلبية في الولائم والاجتماعات الأسرية
...
...
4950
...
الأسرة والمجتمع
...
...
قضايا المجتمع
...
عبد الله بن محمد البصري
...
...
القويعية
...
11/6/1427
...
...
جامع الرويضة الجنوبي
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- نعمة التزاور والتواصل. 2- انتشار ظواهر سلبية في الاجتماعات. 3- من الظواهر السلبية: الإسراف، تنافر القلوب، المباهاة والمفاخرة، السهر الزائد، الجدال والمراء. 4- خير الاجتماعات.
الخطبة الأولى
أما بعدُ: فإِنَّ ممَّا يَكثُرُ في أَيَّامِ العُطَلِ وَالإِجازَاتِ وَهُوَ مِنَ الظَّواهِرِ الصّحِيَّةِ في المجتمعِ زِيَارَةَ الأَقَارِبِ لأَقَارِبِهِم وَصِلَتَهُم ذَوِي أَرحامِهِم، إِضافَةً إلى وَلائِمِ الأَفرَاحِ وَحَفَلاتِ الزَّواجِ، حيثُ تجتَمِعُ الأُسَرُ والبُيُوتَاتُ، وَيَلتَقِي الأَصهَارُ والأَحمَاءُ وَالأَنسَابُ، وَتَأتَلِفُ القُلُوبُ وَتَتَقَارَبُ النُّفُوسُ، وَيَكمُلُ بِذَلِكَ الفَرَحُ وَيَتِمُّ السُّرُورُ.
وَهَذِهِ الاجتماعاتُ التي تحصُل وتِلكَ الوَلائِمُ التي تُقَامُ في ظِلِّ ما يَتَمَتَّعُ بِهِ الناسُ مِن وَارِفِ الأَمنِ وَرَغِيدِ العَيشِ إنما هي مِن نِعَمِ اللهِ العَظِيمَةِ وَآلائِهِ الجَسِيمَةِ التي يجِبُ أَن تُشكَرَ لِتَقرَّ وَلا تَفِرَّ، عَمَلاً بِقَولِ المولى تبارك وتعالى: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُم لَئِن شَكَرتُم لأَزِيدَنَّكُم. فَفِي الوَقتِ الذي يَنَامُ فِيهِ إِخوَانٌ لنا غَيرَ بَعِيدٍ مِنَّا على خَوفٍ وَجُوعٍ وَنَقصٍ مِنَ الأَموَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَيصحَونَ على هَمٍّ وَحَزَنٍ وَقَلَقٍ بِسَبَبِ ما يَسُومُهُم بِهِ اليَهُودُ وَالنصارى مِن سُوءِ العَذَابِ، أَقُولُ: في ذلك الوقتِ العَصِيبِ عَلَيهِم ـ نَسأَلُ اللهَ أَن يُفَرِّجَ عنهُم ـ نَنعَمُ نحنُ بِالأَمنِ وَالرِّيِّ وَالشِّبَعِ، وَنَتَمَتَّعُ بِلِقَاءِ مَن نَوَدُّ وَرُؤيَةِ مَن نُحِبُّ بَينَ وَقتٍ وَآخَرَ، مُطمَئِنِّينَ غَيرَ مَفزُوعِينَ وَلا مَطرُودِينَ، فَلِلهِ الحَمدُ على مَزِيدِ نِعَمِهِ، وَلَهُ الشُّكرُ على وَافِرِ عَطَائِهِ.
إِلاَّ أنها تَبرُزُ في أَثنَاءِ هذِهِ الاجتِمَاعَاتِ وَتِلكَ اللِّقَاءَاتِ أَو قَبلَهَا أَو بَعدَهَا ظَوَاهِرُ سَلبِيَّةٌ غَيرُ مَرغُوبٍ فِيهَا، وَتصَرُّفَاتٌ سَيِّئَةٌ تُنبِئُ عَن عَدَمِ تَفَكُّرٍ في العَوَاقِبِ، ظَوَاهِرُ تُكَدِّرُ الصَّفوَ وَتُنَغِّصُ الحَيَاةَ، وَتَصَرُّفَاتٌ تُبَيِّنُ عَدَمَ تَقدِيرِ بَعضِنا لِنَعمَةِ اجتِماعِ القُلُوبِ وَائتِلافِ الأَفئِدَةِ. وممَّا يجعَلُ العَاقِلَ يَقِفُ حَائِرًا مَبهُوتًا أَن تَقَعَ تِلكَ التَّصرُّفاتُ ممَّن يُظَنُّ فِيهِم الخَيرُ، وَيَرضَى بها مَن يُنتَظَرُ مِنهم أن يَكُونُوا على مُستَوًى مِنَ التَّعَقُّلِ وَالتَفكِير أَعلَى وَأَكمَلَ.
مِن تِلكَ الظَّوَاهِرِ ـ أيها المسلمون ـ الإِسرَافُ في المَطَاعِمِ وَالمَشَارِبِ وَالتَّبذِيرُ الزَّائِدُ في الدَّعَوَاتِ وَالوَلائِمِ، فِيمَا يُظَنُّ أَنَّهُ مِنَ الكَرَمِ وَالسَّمَاحَةِ وَالنَّدَى، وَهُوَ في حَقِيقَةِ أَمرِهِ نَوعٌ مِن جُحُودِ النِّعمةِ وَكُفرانِ المُنعِمِ سبحانَه، وَإِلاَّ فَإِنَّ العاقلَ الذي يَقدُرُ النِّعمَةَ حَقَّ قَدرِها وَيَرَى الناسَ مِن حولِهِ يُتَخَطَّفُونَ مِن أَرضِهِم يَعلَمُ أَنَّ أَيَّ قَدرٍ زَائدٍ على ما يَسُدُّ جَوعَةَ ضُيُوفِهِ وَيستُرُ وَجهَهُ إِنما هُوَ في الغَالبِ نَوعٌ مِنَ الفَخرِ وَالخُيَلاءِ لا يُحِبُّهُ اللهُ، وَضَربٌ مِنَ الرِّيَاءِ وَطَلَبِ السُّمعَةِ لا يُكتَسَبُ مِنهُ إِلاَّ السَّيِّئَاتُ وَالذُّنُوبُ، وقد قال سبحانَه: تِلكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا في الأَرضِ وَلا فَسَادًا وَالعَاقِبَةُ للمُتَّقِينَ، وقال جل وعلا: إِنَّ المُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا، وقال تعالى: يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسجِدٍ وكُلُوا وَاشرَبُوا وَلاَ تُسرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المُسرِفِينَ، وقد نهى عَنِ الإِسرافِ فقال: ((كُلُوا وَاشرَبُوا وَتَصَدَّقُوا وَالبَسُوا في غَيرِ إِسرَافٍ وَلا مخِيلَةٍ)).
وَأَمَّا مَا يخشَاهُ بَعضُ الناسِ مِن تحدُّثِ الناسِ عنه أَو اتِّهَامِهِم إِيَّاهُ بِالشُّحِّ وَالبُخلِ إِن هُوَ اقتَصَرَ على القَدرِ الوَاجِبِ وَلم يُبَذِّرْ فَإِنما هُوَ تَسوِيلٌ مِنَ الشَّيطَانِ وَوَهمٌ لا حَقِيقَةَ لَهُ في الوَاقِعِ ولا وُجُودَ، يَدفَعُهُ المُؤمِنُ بِإِيمانِهِ أَنَّ اللهَ أََحَقُّ أَن يُرضِيَهُ وَيَرعَى نِعمَتَهُ وَيخشَاه وَيخَافَهُ، فهو سبحانَه الذي أَعطَى هذِهِ النِّعمَةَ، وَهُوَ وَحدَهُ القَادِرُ على سَلبِها في أَيِّ وَقتٍ، قُلْ هُوَ القَادِرُ عَلَى أَن يَبعَثَ عَلَيكُم عَذَابًا مِن فَوقِكُم أَو مِن تَحتِ أَرجُلِكُم أَو يَلبِسَكُم شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعضَكُم بَأسَ بَعضٍ انظُرْ كَيفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُم يَفقَهُونَ. وهُوَ سبحانَه الذي يَزِينُ مَدحُهُ وَيَشِينُ ذَمُّهُ، مَن رَضِيَ عَنهُ فلا يَضُرُّهُ سَخَطُ مخلُوقٍ، وَمَن سَخِطَ عَلَيهِ فَمَن ذَا الذي يُنجِيهِ وَلو رَضِيَ عنه كُلُّ أَهلِ الأَرضِ، في الحديثِ الصحيحِ أَنَّ رجُلاً قال: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ حمدِي زَينٌ وَإِنَّ ذَمِّي شَينٌ، فَقَال النبيُّ : ((ذَاكَ اللهُ))، وقال عليه الصلاةُ والسلامُ: ((مَن أَرضَى اللهَ بِسَخَطِ الناسِ رَضِيَ اللهُ عنه وَأَرضَى عنه الناسَ، وَمَن أَرضَى الناسَ بِسَخَطِ اللهِ عَادَ حَامِدُهُ مِنَ الناسِ لَهُ ذَامًّا)).
وَلْيَتَذكَّرْ كُلُّ مُسرِفٍ مُبَذِّرٍ قَولَ الحَقِّ جل وعلا: وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَريَةً كَانَت آمِنَةً مُطمَئِنَّةً يَأتِيهَا رِزقُهَا رَغَدًا مِن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَت بِأَنعُمِ اللهِ فَأَذَاقَهَا اللهُ لِبَاسَ الجُوعِ وَالخَوفِ بِمَا كَانُوا يَصنَعُونَ.
وَمِنَ الظَّوَاهِرِ السَّلبِيَّةِ في الاجتِمَاعَاتِ أَن تجتَمِعَ الأَبدَانُ وَالأَفئِدَةُ مختَلِفَةٌ، وَتَتَعَارَفَ الأَجسَادُ وَالقُلُوبُ مُتَنَافِرَةٌ، وَأَشَدُّ مِن ذَلِكَ وَأَنكَى أَن تَجِدَ مَن يَخنَسُ عَن تِلكَ الاجتِمَاعَاتِ وَلا يحضُرُها، أَو يَتَكَلَّفُ المَعَاذِيرَ لِلهُرُوبِ مِنها وَالابتِعَادِ عَنهَا، لماذا؟ أَهُوَ لِمُنكرٍ فِيهَا لا يَستَطِيعُ إِزَالَتَهُ وَلا تَغيِيرَهُ؟! أَهُوَ لأَنْ لا فَائِدَةَ له مِنها في دِينِهِ؟! أَلأَنَّهُ مَشغُولٌ وَلا وَقتَ لَدَيهِ لِلحُضُورِ، لا، وَإِنما لأَنَّ فِيها قَرِيبَهُ فُلانًا أَو نَسِيبَهُ عَلاَّنًا، الذي اختَلَفَ مَعَهُ عَامَ أَوَّلَ، أَو وَشَى بَينَهُمَا مَن لا يخَافُ اللهَ، فَأَصبَحَا وَكأَنَّهُمَا عَدُوَّانِ مُتَحَارِبَانِ، لا يُطِيقُ أَحدُهُما مُقَابَلَةَ الآخَرِ وَلا يَتَحَمَّلُ رُؤيَتَهُ. وَايمُ اللهِ، إِنَّ هذَا لِمَن قِلَّةِ البركَاتِ وَالحِرمَانِ الكَبِيرِ، حَيثُ نجَحَ الشيطانُ وَأَعوَانُهُ في التَّحرِيشِ بَينَ المُسلِمِينَ وَإِيقَاعِ العَدَاوَةِ بَينَهُم، فَحَرَمُوا أَنفُسَهُم بِذَلِكَ عَظِيمَ الأَجرِ وَكَرِيمَ الثَّوَابِ، وَقَبلَ ذَلِكَ وَبَعدَهُ حُرِمُوا صَفَاءَ الأَنفُسِ وَنَقَاءَ القُلُوبِ وَسَلامَةَ الصُّدُورِ، التي هي مِن أَسبَابِ خَيرِيَّةِ العَبدِ ورِضا اللهِ عنه وَقَبُولِهِ عَمَلَهُ، حيثُ قال : ((تُفتَحُ أَبوَابُ الجنةِ يَومَ الاثنينِ وَيَومَ الخَمِيسِ، فَيُغفَرُ فِيها لِكُلِّ عَبدٍ لا يُشرِكُ بِاللهِ شَيئًا إِلاَّ رَجُلاً كَانَت بَينَهُ وَبَينَ أَخِيهِ شَحنَاءُ، فَيُقَالُ: أَنظِرُوا هَذِينِ حتى يَصطَلِحَا))، وَعِندَمَا سُئِلَ عليه الصلاةُ والسلامُ: أَيُّ الناسِ أَفضَلُ؟ قال: ((كُلُّ مخمُومِ القَلبِ صَدُوقِ اللِّسانِ))، قالوا: صَدُوقُ اللِّسانِ نَعرِفُهُ، فَمَا مخمُومُ القَلبِ؟ قال: ((هو التَّقِيُّ النَّقِيُّ، لا إِثمِ فِيهِ وَلا بَغيَ وَلا غِلَّ وَلا حَسَدَ)).
وَإِنَّ ممَّا لا يُذكَرُ لِتَفَاهَتِهِ وَحَقَارَتِهِ لكِنَّ الرِّجالَ بُلُوا بِهِ في زَمَنِ ضَعفِ العُقُولِ وَسَفَاهَةِ الأَحلامِ أَنَّ بَعضَ التَّقَاطُعِ وَالتَّهَاجُرِ وَالتَّشَاحُنِ كان مِن أَسبَابِهِ أَنْ حَدَثَ خِلافٌ بَينَ الأَطفَالِ أَوِ النِّسَاءِ في زِيَارَةٍ أَو في وَلِيمَةٍ، أَو كَلِمَةٌ فُهِمَت على غَيرِ مَقصُودِ صَاحِبِها، أَو خِلافَاتٌ قَدِيمةٌ أَحيَاهَا شَيطَانٌ مِنَ شَيَاطِينِ الإِنسِ بَعدَ أَن مَاتَت وَأَكَلَ عَلَيهَا الزَّمَنُ وَشَرِبَ، فَلا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ! مَا أَتفَهَ عُقُولَ بَعضِ الناسِ وَأَرذَلَ تَفكِيرَهُم! وَلا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ! كَم يَحرِمُونَ أَنفُسَهُم مِنَ الأُجُورِ وَالبركَاتِ بِسَبَبِ ضَعفِ تَحَمُّلِهِم وَضِيقِ عَطَنِهِم! فَرَحِمَ اللهُ مَن كان وَاسِعَ الصَّدرِ قَوِيَّ التَّحمُّلِ، كَم هُوَ حَبِيبٌ إِلى اللهِ حَبِيبٌ إلى الناسِ، قال سبحانَه: وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ، وقال لأَشَجِّ عَبدِ القَيسِ: ((إِنَّ فِيكَ لَخَصلَتَينِ يُحِبُّهُما اللهُ تعالى: الحِلمُ وَالأَنَاةُ))، وقال عليه الصلاةُ والسلامُ: ((وَمَن يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللهُ، وَمَا أُعطِيَ أَحَدٌ عَطَاءً هُوَ خَيرٌ وَأَوسَعُ مِنَ الصَّبرِ)).
وَمِنَ الظَّواهِرِ السَّيِّئَةِ في الاجتماعاتِ أَن تُجعَلَ مجالاً لِلمُغَالاةِ في الملابِسِ أَو مَعرِضًا لإِبرَازِ الزِّينةِ، إِذْ يُحِسُّ بَعضُ الناسِ في نَفسِهِ مِنَ النَّقصِ شَيئًا وَافِرًا، فَيَسعَى لِتَعوِيضِهِ بِالمُبَالَغَةِ في لبسِ الثِّيَابِ أَوِ الظُّهُورِ وَالتَّشبُّعِ بِمَا لَيس عِندَهُ، وقد قال : ((المُتَشَبِّعُ بِمَا لم يُعطَ كلابِسِ ثَوبي زُورٍ)). وَأَكثَرُ مَا يَظهَرُ ذَلِكَ لدى النِّسَاءِ وَالشَّبَابِ، حَيثُ يَعمَدُونَ إِلى أَغلى الثِّيَابِ وَأَثمَنِ الحُلِيِّ، لِيُظهِرُوا مِن أَنفُسِهِم مَا لَيسُوا لَهُ بِمُقرِنِينَ، وَكُلُّ ذَلِكَ على حِسَابِ وَليِّ الأَمرِ أو كَبِيرِ العَائِلَةِ الذي قَد يَقتَرِضُ أَو يَستَدِينُ أَو يُكلِّفُ نَفسَهُ رَهَقًا؛ لِيُرضِيَ النِّسَاءَ أَوِ السُّفَهَاءَ، غَيرَ مُلتَفِتٍ إِلى مَا نهاهُ اللهُ عنه حَيثُ قال: وَلاَ تُؤتُوا السُّفَهَاءَ أَموَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُم قِيَامًا وَارزُقُوهُم فِيهَا وَاكسُوهُم وَقُولُوا لَهُم قَولاً مَعرُوفًا.
وَمِنَ الظَّوَاهِرِ غَيرِ المَرغُوبَةِ في الاجتماعاتِ السَّهَرُ الزائِدُ عَن حَدِّهِ، حَيثُ اعتَادَ الناسُ عِندَ اجتماعِهِم في العُطَلِ أَن يَغتَنِمُوا فُرصَةَ لِقَاءِ الأَحبَابِ وَالأَترَابِ، فَيَقطَعُوا اللَّيلَ كُلَّهُ أَو جُلَّهُ في سهرٍ على أحاديثَ جَانِبِيَّةٍ أَو تَبَادُلٍ لِلطَّرَائِفِ وَالنُّكَاتِ، فَلا يَشعُرُون إِلاَّ وَقَد طَلَعَ عليهم الصُّبحُ أو كَادَ، فَيُلقُونَ بِجُنُوبِهِم على وَثِيرِ الفُرُشِ مُنهَكِينَ، ثم لا يُقِيمُونَ بَعدَ ذَلِكَ لِصَلاةِ الفَجرِ وَزنًا، بل منهم مَن يُتبِعُها بِصَلاتَيِ الظُّهرِ والعَصرِ أَو إِحدَاهما، غَيرَ مُنتَبِهِينَ إلى عِظَمِ الأَمرِ وَفَدَاحَةِ الخَطبِ، حَيثُ تَرَكُوا الصلاةَ التي هي عَمُودُ الإِسلامِ وَالفَارِقَةُ بَينَ الكُفرِ وَالإِيمانِ، والتي لم يَكُنْ أَصحَابُ محمدٍ يَرَونَ مِنَ الأَعمَالِ شَيئًا تَركُهُ كُفرٌ غَيرَها، وقال : ((العَهدُ الذي بَينَنَا وَبَينَهُمُ الصلاةُ، فَمَن تَرَكَهَا فَقَد كَفَرَ))، وقال عليه الصلاةُ والسلامُ: ((أَثقَلُ الصلاةِ على المنافقين صلاةُ العشاءِ وصلاةُ الفجرِ، وَلَو يَعلَمُونَ مَا فِيهِما لأَتَوهما ولو حَبْوًا، وَلَقَد هَمَمتُ أَن آمُرَ بِالصَّلاةِ فَتُقَامَ، ثم آمُرَ رَجُلاً يُصلِّي بِالنَّاسِ، ثم أَنطَلِقَ مَعِيَ بِرِجالٍ مَعَهُم حِزَمٌ مِن حَطَبٍ إلى قَومٍ لا يَشهَدُونَ الصلاةَ فَأُحَرِّقَ عَلَيهِم بُيُوتَهُم بِالنَّارِ))، وقال: ((مَن تَرَكَ صَلاةَ العَصرِ فَقَد حَبِطَ عَمَلُهُ)). أَمَّا حِينَ يَكُونُ السَّهرُ على ما حَرَّمَ اللهُ استِمَاعَهُ أوِ النَّظَرَ إِلَيهِ مِن غِنَاءٍ أَو تمثِيلِيَّاتٍ أَو مَسرَحِيَّاتٍ أَو غَيرِها فَتِلكَ ظُلُمَاتٌ بَعضُها فَوقَ بَعضٍ، وَمِثلُهُ حِينَ يَكُونُ في السَّهرِ اختِلاطٌ بَينَ رِجالٍ وَنِسَاءٍ غَيرِ محارِمٍ وَلَو كَانُوا أَقرِبَاءَ، فَقَد قال عليه الصلاةُ والسلامُ: ((إِيَّاكُم وَالدُّخُولَ على النِّسَاءِ))، فقال رَجُلٌ: يَا رَسولَ اللهِ، أَرَأَيتَ الحَموَ؟ قال: ((الحَموُ المُوتُ)).
وَمِنَ الظَّوَاهِرِ السلبيةِ في بَعضِ الاجتِمَاعَاتِ وَلا سِيَّمَا حَفَلاتُ الزَّواجِ ما يَنتَشِرُ فِي بَعضِها مِن جِدَالاتٍ وَمُمَارَاةٍ، خَاصَّةً في المُحَاوَرَاتِ وَالعَرضَاتِ، حَيثُ التَّفَاخُرُ بِالأَنسَابِ وَالتَّعالي بالأَحسَابِ وَتَعيِيرُ الآخَرِينَ وَنَبزُهُم بِالأَلقَابِ وَالحَطُّ مِن شَأنِ قَبَائِلَ بِأَسرِها أَوِ السُّخرِيَةُ مِنها أَوِ الرَّفعُ لأُخرَى وَالغُلُوُّ في مَدحِها، وَكُلُّ ذلك ممَّا لا يُؤجَرُ عَلَيهِ المُسلِمُ وَلا يُثَابُ، بَل هُوَ ممَّا قَد نُهِيَ عنه وَحُذِّرَ منه، وَهُوَ إِنْ وَقَعَ فِيهِ على إِثمٍ وَخَطِيئةٍ، قال سبحانَه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسخَرْ قَومٌ مِن قَومٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيرًا مِنهُم وَلا نِسَاء مِن نِسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيرًا مِنهُنَّ وَلا تَلمِزُوا أَنفُسَكُم وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلقَابِ بِئسَ الاِسمُ الفُسُوقُ بَعدَ الإِيمَانِ وَمَن لم يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالمُونَ، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقنَاكُم مِن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلنَاكُم شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكرَمَكُم عِندَ اللهِ أَتقَاكُم إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ، وقال جل وعلا: وَالشُّعَرَاء يَتَّبِعُهُمُ الغَاوُونَ أَلَم تَرَ أَنَّهُم فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ وَأَنَّهُم يَقُولُونَ مَا لا يَفعَلُونَ، وقال عليه الصلاةُ والسلامُ: ((لَيَنتَهِينَّ أَقوَامٌ يَفتَخِرُونَ بِآبَائِهِم الذين ماتوا إِنما هُمْ فَحمُ جَهَنَّمَ، أَو لَيَكُونُنَّ أَهوَنَ على اللهِ مِنَ الجُعَلِ الذي يُدَهْدِهُ الخُرءَ بِأَنفِهِ، إِنَّ اللهَ أَذهَبَ عَنكم عِبِّيَّةَ الجَاهِلِيَّةِ وَفَخرَهَا بِالآبَاءِ، إِنَّمَا هُوَ مُؤمِنٌ تَقِيٌّ أَو فَاجِرٌ شَقِيٌّ، النَّاسُ كُلُّهُم بَنُو آدَمَ، وَآدمُ خُلِقَ مِنَ التُّرَابِ))، وقال عليه الصلاةُ والسلامُ: ((أَنَا زَعِيمٌ بِبَيتٍ في رَبَضِ الجَنَّةِ لِمَن تَرَكَ المِرَاءَ وَإِنْ كَان مُحِقًّا)).
ألا فاتقوا اللهَ عِبَادَ اللهِ، وَاحذَرُوا مِثلَ هذِهِ الظَّوَاهِر التي لا يُبتَلَى بها مجتَمَعٌ رَضِيَ بِاللهِ رَبًّا وَبِالإِسلامِ دِينًا ورَضِيَ بمحمدٍ نَبِيًّا ورسولا.
أَعوذُ بِاللهِ مِنَ الشيطانِ الرجيمِ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسلِمُونَ وَاعتَصِمُوا بِحَبلِ اللهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذكُرُوا نِعمَتَ اللهِ عَلَيكُم إِذ كُنتُم أَعدَاء فَأَلَّفَ بَينَ قُلُوبِكُم فَأَصبَحتُم بِنِعمَتِهِ إِخوَانًا وَكُنتُم عَلَىَ شَفَا حُفرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِنهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُم آيَاتِهِ لَعَلَّكُم تَهتَدُونَ وَلتَكُن مِنكُم أُمَّةٌ يَدعُونَ إِلى الخَيرِ وَيَأمُرُونَ بِالمَعرُوفِ وَيَنهَونَ عَنِ المُنكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ المُفلِحُونَ وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاختَلَفُوا مِن بَعدِ مَا جَاءهُمُ البَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُم عَذَابٌ عَظِيمٌ.
الخطبة الثانية
أما بعدُ: فاتقوا اللهَ تعالى وَأَطِيعُوهُ، وَرَاقِبُوا أَمرَهُ وَنهيَهُ وَلا تَعصُوهُ.
وَاعلَمُوا أَنَّ خَيرَ الاجتِمَاعاتِ ما كَانَت على طَاعةِ اللهِ وَخَلَت مِن مَعصِيَتِهِ، وَخَيرَ الصَّدَاقَاتِ وَالمحبَّةِ مَا كَانَت لِوَجهِ اللهِ خَالِصَةً، وَعَنِ الرِّيَاءِ وَالسّمعَةِ نَائِيَةً، قال سبحانَه: الأَخِلاء يَومَئِذٍ بَعضُهُم لِبَعضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ المُتَّقِينَ يَا عِبَادِ لا خَوفٌ عَلَيكُمُ اليَومَ وَلا أَنتُم تَحزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسلِمِينَ ادخُلُوا الجَنَّةَ أَنتُم وَأَزوَاجُكُم تُحبَرُونَ يُطَافُ عَلَيهِم بِصِحَافٍ مِن ذَهَبٍ وَأَكوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشتَهِيهِ الأَنفُسُ وَتَلَذُّ الأَعيُنُ وَأَنتُم فِيهَا خَالِدُونَ وَتِلكَ الجَنَّةُ الَّتِي أُورِثتُمُوهَا بِمَا كُنتُم تَعمَلُونَ لَكُم فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنهَا تَأكُلُونَ. إنما هِيَ أَرحَامٌ وَأَنسَابٌ وَعِلاقَاتٌ يَتَعَارَفُ بها الناسُ وَعَلَيهَا يَجتَمِعُونَ، وَهُم عَلَى رِعَايَتِهَا مَأجُورُونَ مُثَابُونَ، لكنَّها لا تَنفَعُ مَن خَفَّت مَوَازِينُهُ بَعدَ المَوتِ وَلا تُنجِيهِ مِن عَذَابٍ أَلِيمٍ، وَإنما يَنفعُهُ عَملُهُ الصالحُ وَمَا قَدَّمَهُ أَمَامَهُ، قال سبحانَه: فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَينَهُم يَومَئِذٍ وَلا يَتَسَاءلُونَ فَمَن ثَقُلَت مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ المُفلِحُونَ وَمَن خَفَّت مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُم فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ.
ألا فاتقوا اللهَ أيها المؤمنون، وَصِلُوا أَرحَامَكُم، وزُورُوا أَقارِبَكُم للهِ وفي اللهِ، تَنَالُوا عَظِيمَ الأَجرِ مِن عِندِ اللهِ، قال : ((مَن أَحَبَّ أَن يُبسَطَ لَهُ في رِزقِهِ وَأَن يُنسَأَ لَهُ في أَثَرِهِ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ))، وقال عليه الصلاةُ والسلامُ فِيمَا يَروِيهِ عَن رَبِّهِ تبارك وتعالى أنه قال: ((وَجَبَت مَحبَّتِي لِلمُتَحَابِّينَ فيَّ وَالمُتَجَالِسِينَ فيَّ وَالمُتَبَاذِلِينَ فيَّ وَالمُتَزَاوِرِينَ فيَّ))، وقال عليه الصلاةُ والسلامُ: ((مَن عَادَ مَرِيضًا أَو زَارَ أَخًا لَهُ في اللهِ نَادَاهُ مُنَادٍ أَنْ طِبتَ وَطَابَ ممشَاكَ وَتَبَوَّأتَ مِنَ الجنةِ منزِلاً)).
ــــــــــــــــــــ(67/294)
صرخة الحجاب
...
...
4953
...
الأسرة والمجتمع
...
...
المرأة
...
رياض ين يحيى الغيلي
...
...
صنعاء
...
...
...
جامع الأوقاف
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- عفاف نساء السلف. 2- منزلة العلماء في الأمة. 3- محاربة فرنسا للحجاب. 4- تقاعس المسلمين عن الدفاع عن قضاياهم. 5- لماذا الحرب على الحجاب؟ 6- فرنسا منطلق الحرب على الحجاب والطهر والعفاف. 7- مؤامرة تحرير المرأة. 8- تناقض فرنسا مع مبادئها. 9- المستقبل للإسلام والمسلمين. 10- رسالة لفتاة الإسلام.
الخطبة الأولى
جاءت امرأة من الأنصار تدعى أم خلاد، جاءت تبحث عن ولد لها قتل في إحدى الغزوات، تبحث عنه بين الجثث، وكانت محجبةً منقبة، لا تظهر منها إلا عين واحدة، فتعجب الصحابة واستغربوا وقالوا لها: يا أم خلاد، كيف تبحثين عن ولدك بين جثث القتلى وبك ما بك من الحزن عليه ولا زلت تنتقبين؟! أما دفعك حَرّ المصاب وألم الفراق إلى أن تخلعي عنك حجابك؟! فماذا كانت إجابة المؤمنة التي تخرجت من مدرسة الحبيب محمد ؟! قالت: يا إخوتاه، إن أُرزأ في ولدي وفلذة كبدي فلن أُرزأ في إيماني وحيائي.
الله الله الله يا إخوتاه، إن أرزأ في ولدي وفلذة كبدي فلن أرزأ في إيماني وحيائي.
يا سيد الأبرار أمتك الْتَوَت في عصرنا ومضت مع التيارِ
شربت كؤوس الذلِّ حين تعلقت بثقافة مسمومة الأفكارِ
إني أراها وهي تسحب ثوبها مَخدوعةً في قبضة السمسارِ
إني أراها تستطيب خضوعها وتلين للرهبان والأحبارِ
إني أرى فيها ملامح خطة للمعتدين غريبة الأطوارِ
اللهم صل على سيدنا محمد الذي صَليتَ عليه قبل أن يصلى عليه أحد من العالمين، وأرسلته رحمة للعالمين، اللهم اجعلنا بالصلاة عليه من الفائزين، وعلى حوضه من الواردين، وبيديه الكريمتين من الشاربين، وبسُنتهِ من العاملين، ولا تَحُل بيننا وبينه يوم الدين، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بِقلب سليم، وعلى إخوانه من الأنبياء والمرسلين، وعلى أزواجه الطاهرات أمهات المؤمنين، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تَبِعَهُمْ بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
أما بعد: فيا حماة الإسلام وحراس العقيدة، العلماء في الإسلام هم من الأمة بمنزلة السمع والبصر، في ظلمة الطريق وهدأة الوحشة يستهدي بهم الناس، كشِعرى يضيء في ليل ضن فيه القمر بنوره. ويوم تخلو الأمة الإسلامية من قيادة لائقة ترنو الأبصار جميعها إلى حملة الرسالة وحراس الشريعة، أنوار لهم العيون شاخصة، ومشاعل لها السواعد رافعة. وحين تداهمنا الملمات في إثر بعضها نفيء إلى ظلال علمائنا الوارفة، نتقي بها حر الهجير.
قبل أيام تجاسر الرئيس الفرنسي "شيراك" على حجاب الصغيرات المسلمات المؤمنات العفيفات الطاهرات، نظر "شيراك" إلى الحجاب على أنَّ ارتداءَه في المدارس إرهاب، رأت دولة الحرية والعدل والمساواة أن الحجاب تهديد لعلمانية فرنسا!
وإذ تناهت إلى أسماع معظم علماء الأمة أنباء هذا الحيف الفرنسي بحق الفتيات الصغيرات فقد تمنيت قبل أن يقر القانون في البرلمان، تمنيت أن يعمد وفد من علمائنا الأفاضل إلى طرق أبواب قصر الإليزيه؛ لينقلوا إلى ردهاته وإلى ساكنيه غضبة هذه الأمة لكشف ضفائر المسلمات العفيفات. تمنيت وأنا أعلم أن علماء الأمة تكبلهم قيود كثيرة ليس أقلها التضييق الممارس على تحركاتهم وانطلاقتهم، لا أقلها رجاء كثير من أنظمة حكمهم أن يستلهموا حكمة "شيراك" في دولهم المسلمة. تمنيت ونحن نجتر ذكريات وفد العلماء إلى طالبان لبحث قضية تمثال بوذا العملاق في إمارة أفغانستان يومها، كان للوفد الذي قطع آلاف الأميال رؤيته التي لم نطمئنّ إليها، ولكننا ما أسأنا بهم الظنون.
واليوم ألا تستحق فجيعة ثلث مسلمي أوروبا ـ 5 ملايين مسلم مقيم في فرنسا من بين 15 مليونا يقيمون في أوروبا كلها ـ، ألا تستحق فجيعتهم تشكيل وفد كبير من علماء اليمن والحجاز ومصر والشام والعراق والمغرب العربي وغيرهم لقطع مسافة تقل كثيرا عن مشقة السفر إلى أفغانستان؛ لإيصال احتجاجنا القوي على الفعلة الفرنسية النكراء؟! وقد يستجيب "شيراك" وشيعته أو لا، لا غرو؛ لكن هذا الوفد لا شك سيزلزل قصر الإليزيه أو سيردع غيره أو لا، فتكفينا منه حينئذ كرامة المحاولة.
ولكن للأسى والأسف الشديدين تجرعنا المرارة من هذا القانون الظالم، ولكن مرارته لم تكن أشد من تلك المرارة التي تجرعناها عندما انبرى شيخ الأزهر يبرّر لفرنسا ظلمها وجورها وعدوانها على العفاف، ويعطيهم الحق في وأد الفضيلة، ويفتي العفيفات المسلمات بالاستجابة لهذا القانون وخلع رداء الحياء؛ لأنهن قد أصبحن في حكم المضطرّ.
أيها الأحبة، فيما كان يعاني المسلمون هول الصدمة؛ إذ استل شيخ الأزهر فتواه فطعن بها أفئدة الملهوفين على عورات المسلمات في فرنسا. فيما كانت صغيرات المسلمات في بلاد الغال يستصرخن شيخ الأزهر حفظ شعورهن عن أعين الغرباء، ويصرخن وامعتصماه؛ إذ ارتدّ صدى صوتهن من شيخ الأزهر لهيبا إلى صدورهن.
ألفنا فتاوى المسلمين على مرّ العصور فتاوى شرعية، إلى أن لاقيناها في آخر زمانهم فتاوى ديبلوماسية, وتلك أسمى درجات العبقرية! فلئن كان الحجاب عصيا على رؤوس النساء، فثمة من هو به خليق، فليحتجب من خذلنا ونأى بجانبه عن جادة طريق العفاف الكريم.
إن الحجاب ستر لعورات النساء، وهو كذلك ستر لأناس لا يأبهون بالحرمات المستباحة. لقد قال مؤرخ أجنبي في يوم ما: "من لم يذهب إلى مصر ما عرف مجد الإسلام ولا عزه؛ لأن فيها الأزهر"، يوم كان رأس قمة الأزهر يذبّ عن حياض الدين، ولكن عظم الله أجركم ـ أيها المسلمون ـ في الأزهر وفي شيخ الأزهر.
أيها الأحبة المؤمنون، هل أتاكم نبأ الوفد السيخي الذي ذهب يحث الخطى إلى فرنسا محتجًا على إدراج العمامة السيخية ضمن القرار؟! هل عمامتهم أولى من حجاب العفيفات؟! هل عمامتهم أعز من عفاف المؤمنات؟! هل باطلهم أقوى من حق الفضيلة؟! لا، لا، ولكنهم يعتزون بباطلهم في وقت تخلى المسلمون عن دينهم وحقهم.
أيها المؤمنون، أيتها المؤمنات العفيفات، لماذا الحجاب؟! لماذا الحجاب بالذات هو المستهدف في أوروبا؟! أتعلمون لماذا؟ أتدرون لماذا الحجاب؟ لأن الأسرة المسلمة هي اللبنة الأساسية في بناء المجتمع الإسلامي، وحجاب المرأة جزء هام من هذه اللبنة يصونها من غوائل السوء، ويحفظها من لصوص الأعراض، ويقي حياءها من الخدش، ويحفزها إلى نقاء الروح وصلاح النفس، كما يحفظ شخصيتها من الذوبان في المجتمعات الأخرى، لهذا كان الاستعمار شديد الحرص على نزع حجاب المسلمات ليصل إلى ما يتمناه من تلك المجتمعات المسلمة.
قال المرحوم محمد طلعت في كتابه: "المرأة والحجاب": "إن رفع الحجاب والاختلاط كلاهما أمنية تتمناها أوربا من قديم الزمان، لغاية في النفس يدركها كل من وقف على مقاصد أوربا بالعالم الإسلامي".
وفرنسا بالذات قبل غيرها من دول أوروبا هي من يتولى كبر هذه المؤامرة، فمنها تخرج رفاعة الطهطاوي الذي بدأ إثر عودته إلى مصر يمهد للتبرج والاختلاط، وينفي أن يكون ذلك داعيًا إلى الفساد، وكان معجبًا بمراقصة الرجال للنساء، معتبرًا ذلك فنًا من الفنون، غَير خارج عن قوانين الحياء. وعلى أرضها درج مرقس فهمي الذي طالب بالقضاء على حجاب المسلمات، ودعا إلى الزواج بين المسلمات والأقباط. وفيها نبتت الأميرة نازلي فاضل، فوثقت علاقتها مع "اللورد كرومر"، وفتحت ناديها لسعد زغلول وقاسم أمين وغيرهما لتنظيم جهودهم ضد الآداب والتقاليد الإسلامية. وفيها نشأت هدى شعراوي التى كانت أول مصرية مسلمة تتمرد علانية على أحكام الله فتخلع الحجاب، وتنشط في تكوين "الاتحاد النسائي المصري" الذي يدعو إلى منع تعدد الزوجات وتقييد الطلاق وإلغاء بيت الطاعة. ومنها انطلق قاسم أمين الذي لقبوه بـ"محرر المرأة"! فكان بمثابة قنبلة فجرت في عالم المرأة كل شيء بما نشره في كتابَيه: "تحرير المرأة" و"المرأة الجديدة" من دعوة إلى رفع الحجاب؛ لأنه يحول بينها وبين العالم الحي، ويجعلها لا ترى ولا تسمع ولا تعرف إلا ما يقع في عالمها الضيق من سفاسف الأمور. وعلى ثراها درجت أمينة السعيد التي تأثرت بطه حسين أشد التأثر، وراحت تُهاجم المحجبات، وتزدري الحجاب، وتتطاول على قانون الأحوال الشخصية، وتحرض النساء على النشوز والفتيات على الانحلال. وفي كنفها ترعرعت نوال السعداوي التي تزعم أن الحجاب استعباد للمرأة وإذلال لها، وتطالب بانتساب الإنسان لأمِّهِ لا لأبيه؛ لأن الأبوة على زعمها مشكوك فيها دائمًا! وتقول: لنفرض أنني سافرت على باخرة، وصادف أن يكون في غرفتي رجل يحجز سريرًا في نفس الغرفة، ماذا أفعل؟ هل أترك له الحجرة؟! لا، لا بد أن أكون متمردة على كل القيود، وواثقة بنفسي. ومن ثقافتها نهل جميل صدقي الزهاوي الذي يقول في مقال له في مجلة المؤيد العراقية: "ليست المرأة المسلمة مهضومة من جهة واحدة، بل مهضومة من جهات عديدة.
ولو كان رمحًا واحدًا لاتَّقيتهُ ولكنه رمحٌ وثانٍ وثالثُ
فهي مهضومة لأن عقدة الطلاق بيده يحلها وحده، وهي مهضومة لأنها لا ترث من أبويها إلا نصف ما يرثه أخوها الرجل، وهي مهضومة لأنها وهي في الحياة مقبورة في حجاب كثيف يمنعها من شمِّ الهواء، ويمنعها من الاختلاط ببني نوعها والاستئناس بهم والتعلم منهم في مدرسة الحياة الكبرى، وليست المرأة المسلمة مهضومة في الدنيا فقط، بل هي مهضومة كذلك في الأخرى"، وأرجع تخلف المسلمين علميا إلى حجاب النساء، ودعا إلى كسر سلاسل العادات ورفع الحجاب، وختم مقاله بقوله: "أَخَّرَ المسلمين عن أمم الأرضِ حجابٌ تشقى به المسلمات"، ثم نظم قصيدة قال فيها:
اسفري فالحجابُ يا ابنة فهر هو داء في الاجتماعِ وخيم
واعتبر حجب النساء غيًا، فقال في قصيدة له بعنوان: "ابنة يعرب":
القوم يا ابنة يعربٍ من جهلهم وأدوكِ وأدا
حجبوكِ عن أبناءِ نوعِكِ حاسبين الغيَّ رشدا
ثم ازدادت وقاحته وجرأته في قصيدته التي أعلن فيها حربه على الحجاب وتحريضه على السفور الذي اعتبره عنوان الطهر والعفاف، فقال:
مزقي يا ابنة العراق الْحجابا واسفري فالحياة تبغي انقلابا
مزقية وأحرقيه بلا رَيْثٍ فقد كان حارسًا كذابا
زعموا أَنَّ في السفور سقوطًا في الْمهاوي وأَنَّ فيه خرابا
كذبوا فالسفور عنوان طهرٍ ليس يلقى مَعَرَّةً وارتيابا
وعلى نهج فلاسفة وأدباء فرنسا سار معروف الرصافي الذي قال في قصيدة له بعنوان: "التربية والأمهات"، اتهم فيها المجتمع المسلم بقبر البنات قبل الممات، ورمى طباع المسلمين باللؤم لحجبهم النساء، وأثنى على الأعراب الذين تبرز نساؤهم حاسرات بحكم البداوة التي يعيشون فيها، فقال:
لئن وأدوا البنات فقد قبَرنا جميع نسائنا قبل المماتِ
ولو عدمت طباع القوم لؤمًا لما غدت النساء مُحجبات
وما ضرَّ العفيفة كشف وجه بدا بين الأعِفَّاء الأُباة
فدًى لخلائق الأعراب نفسي وإن وُصِفوا لدينا بالْجُفاة
فكم برزت بحيِّهِمُ الغواني حواسرَ غيرَ ما مُتَريِّبَاتِ
وكم خشفٍ بمربعهم وظبْي يَمر على الجداية والمهاةِ
ولولا الجهل ثَمَّ لقلتُ مرحا لمن أَلِفوا البداوة في الفلاةِ
ولم يقف عند هذا الحدّ، بل ترسَّم خطى صديقه الزهاوي في معظم ما قال، فاعتبر المرأة مظلومة مهضومة الحقوق في كل شيء حتى في الميراث، حيث تأخذ نصف نصيب الرجل، فتستدعي الرحمة والإشفاق، وقد أنشد في هذا:
لم أرَ بين الناس ذا مَظْلِمَة أحقَّ بالرحمة من مسلمة
منقوصةٍ حتَّى بِميراثها مَحجوبةٍ حتى عن المكرُمَة
وفي سوريا التي كانت مستعمرة فرنسية مزق رجال البعث الحجاب في شوارع دمشق، ومنعوا المحجبات من دخول المدارس بحجابهن. وفي الجزائر التي استعمرتها فرنسا أكثر من مائة عام دعا ابن بلّة الجزائريات إلى خلع حجابهن، وقال: "إنني أطالب المرأة الجزائرية بخلع الحجاب من أجل الجزائر"، فخرجت العذارى المحاربات من بيوتهن، ونزعن الحجاب لأول مرة منذ أن اعتنقت بلادهن الإسلام. أما المجاهد بورقيبة في تونس فقد بزَّ أقرانه في حرب الحجاب، وأصدر مرسومه الشهير (108) بمنع الحجاب في المؤسسات الرسمية للدولة، ودعا التونسيات أن لا يُشْعِرْنَ السياح الأجانب بالغربة في بلادهن.
أيها الأحبة المؤمنون، أيتها العفيفات المسلمات، هذه هي حلقات المؤامرة على الحجاب، على العفاف، على الحياء، على الفضيلة، فعودوا إلى الله، وتوبوا إلى الله، واستغفروا الله إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، أشهد ألا إله الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله إمام المتقين وقائد المجاهدين، صلوات ربي عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: أيها المسلمون والمسلمات، أرأيتم لماذا يخافون من الإسلام ومن الحجاب؟ إنها جريمة كبرى سيسجّلها التاريخ للفرنسيين؛ لأنهم خالفوا ما يدّعونه من الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، بل خالفوا دستورهم الذي وضعه "رونان" والذي من مبادئه: "على الدولة أن تكون حيادية عندما يتعلق الأمر بالديانات، وأن تكون متسامحة مع كل المذاهب".
كان ينبغي على فرنسا أن تدعم الحجاب، وتدعو إليه، فالسوس ينخر في أمتهم من الفساد والانحلال، أليس "نابليون" قائدهم المحنّك هو الذي يقول: "الأم التي تهزّ سرير الطفل بيمناها تهزّ العالم بيسراها"؟! إنها الصرخة التي أطلقها "نابليون" للمرأة كي تعود إلى بيتها.
أيها الفرنسيون، هذا يوم عار في تاريخكم، فلا تذكروا الحريّة الشخصية بعد اليوم، ولا تتشدّقوا بحقوق الإنسان، ولا تتكلموا عن تقرير المصير، إنكم تدنّسون طهر هذه الألفاظ ونقاءها حين تضعونها في أفواهكم. لا تحتفلوا بيوم الرابع عشر من تموز، ولا تقرؤوا كتب "روسو" و"هوغو" و"لامارتين" و"لافوازيه" و"ديكارت"، ولا تتبجّحوا بالأدب الفرنسي؛ لأنكم لم تعودوا خليقين بهذا الأدب، ولا تتباهوا بثورتكم الكبرى، فما هي إلا ثورة القتل والتدمير والنهب. أنسيتم ماذا فعلتم بسوريا والجزائر والمغرب ومصر وأفريقيا كلها أيها المتحضّرون؟! أنسيتم ماذا فعلتم بدمشق أقدم مدينة مأهولة في التاريخ يوم أحرقتموها على رؤوس أبنائها؟!
لقد كتب ملككم "فرانسوا الأول" يوما رسالة لأمه يقول فيها: "لقد خسرنا كل شيء إلا الشرف"، اليوم سيكتب التاريخ أنكم خسرتم كل شيء حتى الشرف.
أما قولكم: لن نسمح للمدّ الإسلامي أن يخترق أوربا فستصير نكتة مضحكة من نكت الحماقة الفرنسية، يتفكّه بها التاريخ، وتضحك عليكم بها القرون الآتيات، فنحن قادمون إليكم كالإعصار، نحن قادمون إليكم بقوة التيار، وسنملك بلادكم بإذن الله، وسيصدح الأذان في كل مكان: الله أكبر، صوت الخلود يملأ الوجود صوت التوحيد يعلن على العبيد، نحن قادمون إليكم نحمل لكم الحضارة التي ما قدرتم على حملها، أخبرنا بذلك الصادق المعصوم : ((ليبلغنّ هذا الأمر ما بلغ الليل والنهر، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين، بعزّ عزيز أو بذلّ ذليل، عزًا يعز الله به الإسلام، وذلاً يذلّ الله به الكفر))، وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: بينما نحن حول رسول الله نكتب، إذ سئل: أيّ المدينتين تفتح أولا: قسطنطينية أم رومية؟ فقال : ((مدينة هرقل تفتح أولا))، ورومية هي روما عاصمة إيطاليا، والقسطنطينية هي مدينة هرقل، وهي الآن إسطنبول، وقد فتحت على يد محمد الفاتح رحمه الله تعالى.
إذًا فقد تحقّق الشطر الأول من الوعد الصادق، وبقي الشطر الثاني، وهو آت بإذن الله، والله متمّ نوره ولو كره الكافرون.
وأنت يا فتاة الإسلام، يا أخت العقيدة، يا رمز العفاف، يا تاج الفضيلة، إياك ـ يا أختاه ـ أن تنخدعي بدعواتهم، إياك أن تنطلي عليك حيلهم وشعاراتهم الزائفة ومزاعمهم الكاذبة. حذار ـ يا أختاه ـ أن تسهمي في إنجاح مخططاتهم وتحقيق أهدافهم، فتكوني سلعة رخيصة بأيديهم ومادة تسويقية لمنتجاتهم. تأملي يا أخت العقيدة: هل يمكن أن يسوقوا منتجًا من منتجاتهم بدون إعلان رخيص يعري المرأة؟! هل يمكن أن يسوقوا مجلة من مجلاتهم دون أن يضعوا صورة عارية على غلافها؟! هل يمكن أن ينتجوا أغنية أو فيلمًا أو مسلسلاً دون أن يعروا النساء فيها؟! هل يمكن أن ينشئوا فضائية دون مذيعات سافرات مائلات مميلات؟! هل يمكن أن يقيموا حفلاً فنيًا ساهرًا دون نساء؟!
يا ابنة الإسلام، هل تريدين الحرية؟! هل تريدين التقدم؟! هل تريدين الفوز؟! حريتك في حجابك، تقدمك في عفافك، فوزك في حيائك، الحجاب عفة، الحجاب طهارة، الحجاب ستر، الحجاب إيمان، الحجاب حياء، الحجاب غيرة. واعلمي أن خلع الحجاب سنة إبليسية، وقصة آدم مع إبليس تكشف لنا مدى حرص عدو الله إبليس على كشف السوءات وهتك الأستار وأن التبرج هدف أساسي له.
اسمعي إلى قول المولى جل جلاله: يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا. إبليس هو صاحب دعوة التبرج والتكشف، وهو زعيم زعماء ما يسمى بتحرير المرأة. وخلع الحجاب جاهلية: قال تعالى: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى.
يا فتاة الإسلام، يا صاحبة الفضيلة، يا حفيدة خديجة الكبرى، يا بنت فاطمة الزهرا، يا حفيدة أسماء وسمية والخنساء وصفية، يا أختاه، يا أختاه، يا أختاه، اصرخي في وجههم قائلة:
بعزيزِ إيماني أصونُُ حجابي وأصونُ عرضي في حِمى جلبابي
كذب الذين يتاجرون بقصّتِي كذبوا وكانوا مثل زيفِ سرابِ
تجريرَهمْ أبصرتُ لا تَحريرَهم قد خابَ مَن قد سار خلف غرابِ
لا لن أكونَ كما أرادوا سلعةً ضاعت بسوق نَخاسةٍ وبغابِ
لا لن أحيدَ عن الْحجاب وطهرهِ رغم الذئاب ورغم نبحِ كلابِ
ثار البغاةُ وكشّروا أنيابِهم وغدًا نحطّمُ صورةَ الأنيابِ
يعوي العبيدُ على صدى أسيادهم وعواؤُهم ما ضرَّ سيْرَ سحابي
أنا لستُ وحدي فِي قرار تحجّبِي خلفي كثيرٌ يقتفينَ مَتابي
فمعي النساءُ السائراتُ على الْهدى ومعي الْحياءُ وفطرتي وكتابي
سأظلُّ أرقى للسماوات العُلا وأظلُّ أحيا في هدى المحرابِ
اللهم صن عفاف المسلمات، واحفظ حياء المؤمنات، واحم الفضيلة في نفوس الفتيات، اللهم عليك بالمتآمرين على حجاب المسلمات وعفاف العفيفات، اللهم رد كيدهم في نحورهم، واجعل تدبيرهم تدميرًا لهم يا رب العالمين، اللهم احفظ بلادنا ونساءنا وفتياتنا وشبابنا من السفور والفجور، وافضح دعاة السفور والفجور على أعين الأشهاد أينما كانوا يا رب العالمين...
ــــــــــــــــــــ(67/295)
بين المدح والقدح والنصح
...
...
4988
...
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
...
...
آفات اللسان, قضايا المجتمع
...
سعود بن إبراهيم الشريم
...
...
مكة المكرمة
...
22/8/1427
...
...
المسجد الحرام
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- حتمية مخالطة الناس. 2- أصناف الناس المخالطين. 3- الصنف المادح. 4- الصنف القادح. 5- الصنف الناصح.
الخطبة الأولى
أمّا بعد: فأوصيكم ـ أيّهَا النّاس ـ ونفسي بتقوى الله سبحانَه والعَضِّ عليها بالنواجذ إبَّانَ هذه الفتن العمياء، وعليكم بالاستقامةِ على دينه والثباتِ عليه للنجاةِ مِن أيِّ داهيةٍ دهياء، وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ [الطلاق:2، 3].
أيّها النّاس، إنَّ حاجَةَ المرءِ في هذه الحياةِ تَؤُزُّه إلى الخوضِ في غمارِها أزًّا ويُدَعَّى إلى مخالطةِ بني جنسِه دعًّا، وإنه كادِحٌ إلى ربِّه كدحًا فملاقيه، ثم هو خِلال ذلك كلِّه إمّا أن يذوق حُلوَ الحياة فيَهنَأ فيها أو أن يُلسَعَ بلهيبِ مُرِّها فيتكدِّر وهو يتجرّعها ولا يكاد يُسيغُها، غيرَ أنه يستجلِب المراغمَةَ والمصابَرَةَ بخيلِه ورَجِلِه، وهو مع هذه المراغَمَةِ في نواحي الحياة خيرٌ ممَّن زَوَى نفسَه وقضَى عليهَا بالعزلةِ في زاويةٍ ضيِّقَة خسيسَةٍ لا يَرَى فيها إلا نفسَه؛ لينأى بها عن مكابَدةِ الحياة ومخالطةِ أهلِها، وقد قال النبيّ : ((المؤمنُ الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خيرٌ من الذي لا يخالط الناسَ ولا يصبر على أذاهم)) رواه أحمد.
وفي خِضَمّ معافَسةِ الحياةِ وضُروبها يجِدُ المرءُ نفسَه بالضّرورةِ مُحاطًا بالنّاس في غيرِ ما سبيل؛ في بيتِه وسوقِه ومَسجدِه وعمَله، وهَيهاتَ هيهاتَ أن تكونَ سِماتُ المخالِطين لَه على حدٍّ سَواء، بل إنهم سَيمثُلون أمامَه على ثلاثةِ أصنافٍ: صِنف مادِح له، وصِنفٌ قادِح له، وصِنفٌ ناصِح له، وخَير هذه الثلاثةِ آخِرُها.
أمّا المَدح ـ عبادَ الله ـ فهو سِلاحٌ خطيرٌ ومحَكٌّ دقيق في عِفَّة اللِّسان وحُسن القَصد، وغالبًا ما يودِي بالممدوحِ إلى الغُرور والبَطَر، وبالمادِح إلى المبالَغةِ والتصنُّع والإغراءِ والنِّفاق؛ لأنَّ من نظَر إلى صاحبه بعينِ الرضا في كلّ شيء كلَّت عينه عن عيوبِه، ولربَّما اشتدَّ الإفراطُ به في المدحِ حتى يُصبح سُلَّمًا للمادِح عند الممدوح لبلوغِ مَأربٍ دنيويّ، فيكثُر مدحُه ويَقِلّ صدقُه ويحسُن لِسانُه ويخبُث قلبُه، أو يمادِح صِنوَه طلَبًا للودِّ ظاهِرًا وسِهامُه تَنطلِق غَيظًا إذا غابَ عنه.
والمحزِنُ أنَّ الناسَ مِن هذا الصِّنف ليسوا قلِيلاً، دَيدَنُ الواحدِ منهم المدحُ والإطراءُ بحقٍّ وبغير حَقّ، لهم وَلَعٌ بالإغراءِ وبقَلب السيِّئات حَسَناتٍ، يحمِل أحدُهم عن الممدوحِ القبائحَ ويحسِّن لَه الأخطاءَ ويسوِّق لَه الحقَّ باطِلاً والباطلَ حقًّا، حتى يألَفَ الممدوح ذلِك، فيغيبُ وعيُه عن حقيقةِ نفسِه، ويتعاظَم عَن عيبِ ذاته؛ ثُمَّتَ يدمِن الثناءَ والإفراطَ حتى يواليَ ويعاديَ على ذَلك؛ فصديقُه الحمِيم هو المادِح، وعدوُّه اللّدود هو المكاشِف الصادق.
ثم إنّه بذيوع مثل ذلكم يكثُر الغشُّ وتضيعُ الحقوق وتَذوب ثقة المرءِ بنفسِه وتضمحلّ منفعتُه ويضمر إخلاصه، فلا ينبض قلبُه إلا بالمَدح، ولا يتنفَّس إلا بالمدح، ولا يجالِس إلاّ المدّاحين، وحينئذ لن يكون للعقَلاء عندَه محلٌّ للاستشارةِ ولا للمخلِصين طريقٌ للاستنارة؛ حيث ذهب به حبُّ المدح والإطراءِ كلَّ مذهب، فصدَّه عن استبصارِ المصلحةِ والنفع المَعلوم.
ولذا ـ عبادَ الله ـ لم يأتِ المدحُ والإطراء في وجهِ الممدوح مذمومًا على هذهِ الصفة إلاّ لما يفضي إليه من الغرورِ والإعجابِ القاضِيَين بالبعدِ عن الأصلح وتضييعِ الأنفع وكسرِ الهِمَم عن بلوغِ المعالي، فقد سمع النبيُّ رجلاً يمدَح صاحبَه أمامَه فقال صلوات الله وسلامُه عليه: ((ويحَك، قطعتَ عُنُقَ صاحبك)) قالها مرارًا. رواه البخاري ومسلم. وقال صلوات الله وسلامه عليه: ((إذا رأيتم المدَّاحين فاحثُوا في وجوهِهم الترابَ)) رواه مسلم، وقال صلوات الله وسلامه عليه: ((إيّاكم والتّمادُحَ؛ فإنّه الذَّبحُ)) رواه أحمد وابن ماجه.
وهذا كلُّه ـ عبادَ الله ـ لا يمنع إعطاءَ كلِّ ذي حقٍّ حقَّه وإنزالَ الأمورِ منازلَها من خلال الشكرِ للمحسِن حقيقةً والتشجيعِ لصاحب الهمّة بالثناء المنصفِ المعتدِل؛ لأنَّ ذلكم خُلُق من أخلاقِ الإسلامِ الرفيعة، ومن لا يشكر الناسَ لا يشكُر الله، وقد أثنى النبيّ في وجوهِ عددٍ من الصحابة على وجهِ الحقيقة والقصدِ مع أمنِ الافتتانِ والغرور.
والحذَرَ الحذَر ـ عبادَ الله ـ مِن حُبِّ المرءِ أن يُمدَح بما لَيس فيه أو بما لم يَفعَله، فقد قالَ جلّ شأنه: لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنْ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [آل عمران:188].
أمّا الصّنفُ الثاني ـ عبادَ الله ـ فهو ذَلكم الرّجلُ القادِح المنطَلِقُ قدحُه من خِسَّة طبعِه ولُؤم نَفسِه وقَذارةِ لِسانه، فهوَ لا يُرَى إلاّ طعَّانًا لعّانًا فَاحِشًا بذيئًا، لِسانُه كما الذّباب لا يقَع إلاّ عَلى الأذَى، لا يَعرف طريقًا إلى الإنصافِ، ويعذِّبه السكوتُ، لسانُه كالعقربِ وقَلَمُه كالعَقور، يقرِض الأعراضَ، ويتطاوَل على الكِرام واللِّئام على حدٍّ سواء، لا يعجِبه فعلُ أحد، ولا يستسيغ الإنصافَ، يُدمِن النقدَ، ويكنز العدلَ، ويُنفق القدحَ، يحبّ أن يخالِفَ ليذكَر وأن يبَلبِل ليُشكَر، يتَقَحَّم في الغَمَرات والمزلاَّت والخوضِ في الكلامِ عَلى غير هُدى، وربما لا تلذُّ نفسُه إلا حين يكون قدحُه ذائعًا في الملأ شائعًا بين الأصحاب، يرَى الناس كلَّهم خطّائين وأنه هو المصيبُ وحدَه، إن تحدَّث عن الماضي فكأنه مطَّلِعٌ عن الخبايا، وإن تحدَّث عن المستَقبَل فكأنه حديثُ من سيرى وسيسمَع، يرى نفسَه فقيهًا وحاكمًا وطبيبًا ومهندسًا ومعلِّمًا، لا يعجِبه العَجب، ولا تتوق نفسُه لحُسن الأدَب، وإنما يلوك لسانَه فيغتاب ويبهتُ، جاعِلاً لسانَه كالمقراض، يقلَع هنا ويجرح هناك، فللَّه ما أشبهَ حالَه بلاحِسِ المبرَد؛ كلّما ازداد لَحسُه ازداد دمُه على المبرد.
وأمثالُ هؤلاء آفةٌ عَلى المجتمعاتِ، وهم شِرار الخَلق الذين قال عَنهم النبيُّ : ((إنَّ شرَّ الناس منزلةً عند الله يومَ القيامة من تَركَه الناسُ اتِّقاءَ فُحشِه)) رواه أبو داودَ والترمذي، وفي الصّحيح قولُ النبيِّ : ((المسلم من سلِم المسلمون من لسانه ويده)).
ثم إنّه قد يَشتدّ الأمر بلاءً إذا كان القَدح مصوَّبًا في نحورِ ذَوي الهيئاتِ والمكانة الرفيعةِ كالسلطان والعالِم؛ حيث إنَّ لهما من الإجلال والتقديرِ ما يقبُح معه التشهيرُ بهما أو التعيير لهما، يقول ابن عبد البرّ رحمه الله: "أحقُّ الناسِ بالإجلال ثلاثةٌ: العلماء والإخوان والسّلطان، فمن استخفَّ بالعلماء أفسَد مروءتَه، ومن استخفَّ بالسلطان أفسَد دنياه، والعاقلُ لا يستخِفّ بأحد".
وممّا يزيد الأمرَ تأكيدًا وتوثيقًا ـ عبادَ الله ـ حينما يكون الخوض فيما قالَ الله أو قال رسولُه ، فليس ذلك إلاّ للعلماء، فهم وَرَثة الأنبياء ومصابيح الدُّجى؛ ولذلك قال سفيانُ الثوريُّ رحمه الله: "ما كُفِيتَ عن المسألةِ والفُتيا فاغتنِم ذلك ولا تنافِس، وإيّاك أن تكون ممن يحبّ أن يُعمَل بقوله أو يُنشَر قوله أو يُسمَع قولُه، وإيّاك وحبَّ الشهرة؛ فإنَّ الرجلَ يكون حبُّ الشهرة أحبَّ إليه من الذهبِ والفضة، وهو بابٌ غامِض لا يبصِره إلا العلماء السّماسِرة".
وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً [الإسراء:36].
بارك الله لي ولكم في القرآنِ والسنّة، ونفعني وإياكم بما فيهما من الآياتِ والذكر والحِكمة، قد قلت ما قلت، إن صوابًا فمن الله، وإن خطأً فمن نفسِي والشيطان، وأستغفِر الله إنّه كان غفّارًا.
الخطبة الثانية
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبيَّ بعدَه.
وبعد: فقد مرّ مَعَنا ـ عبادَ الله ـ ذكرُ صِنفين من النّاس مَذمومَين، وها نحنُ نَذكر ثالثَ الأصناف الخيارَ الوسَط، وهو الصِّنفُ الناصحُ منَ النّاس، وهو الذي يصدُق في نصحِه ويخلِص في قصدِه، إن مدَح مدَح بوجهٍ مشروع، وإن قدَح وجرَح فعلى وجهِ الإصلاحِ وحُسن المقصد، بأسلوبِ الحكيم وصورةِ المعرِّضِ لا المصرِّح، إن راجَع خَطأَ أحدٍ ما فإنما يُراجِعه في لباقةٍ وبراعةٍ؛ ليحملَ المخطِئ على الخير ويَصدَّه عن الشرّ، وهو في الوقت نفسِه يجتنِب النّصحَ المعلَن بين النّاس؛ لأنّه لونٌ مِن ألوانِ التوبيخِ المودي إلى التّعيير.
ولا جرَمَ أنَّ تبادلَ النصحِ الخالص الصادقِ الأمين هو سُلّم الفلاح وطريقُ النجاح، وهو لونٌ من ألوان التعاون على البر والتقوى، وهو الصبغةُ الأصيلة التي أمَر الله بها جلّ شأنه في قوله: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ [آل عمران:104]، وقد أمر بها النبيّ في قوله: ((الدين النصيحة)) قالها ثلاثا، قالوا: لمن يا رسولَ الله؟ قال: ((لله ولكتابِه ولرسولِه ولأئمّةِ المسلمين وعامَّتهم)) رواه مسلم.
فالواجبُ على المسلم ـ عبادَ الله ـ لزومُ النصيحةِ للمسلمين كافّة وتركُ الخيانة لهم بالإضمارِ والقول والفعل معًا؛ إذ إنَّ المصطفى كانَ يشترِطُ على من بايَعَه من أصحابِه النصحَ لكلِّ مسلم. متفق عليه.
ثم إنَّ خيرَ النّاس أشدُّهم مُبالغةً في النصيحةِ الصادِقة، ومِن هنا يصير ضَربُ النّاصِح خَيرًا من تحيّةِ الشانِئ.
بسم الله الرحمن الرحيم، وَالْعَصْرِ إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [سورة العصر].
هذا وصلّوا ـ رَحمكم الله ـ على خيرِ البريّة وأزكَى البَشريّة محمّد بن عبد الله صاحِبِ الحوضِ والشفاعة، فقد أمركم الله بأمر بدَأ فيه بنفسِه، وثنى بملائكتِه المسبِّحة بقدسِه، وأيّه بكم أيّها المؤمنون، فقال جلّ وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56]، وقال صلوات الله وسلامه عليه: ((من صلَّى عليَّ صلاةً صلّى الله عليه بها عَشرًا)).
اللّهمّ صلِّ على محمّد وعلَى آل محمّد كمَا صلّيت على إبراهيم وعلَى آل إبراهيم إنّك حميدٌ مجيد، وبارك على محمّد وعلى آل محمّد كما بارَكت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنّك حميد مجيد...
ــــــــــــــــــــ(67/296)
عيد الفطر 1427هـ
...
...
5024
...
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
...
...
المرأة, المسلمون في العالم, مواعظ عامة
...
إبراهيم بن صالح الدحيم
...
...
المذنب
...
1/10/1427
...
...
جامع ابن خريص
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- حقيقة العيد. 2- نظرة في أحداث العام الماضي. 3- ذم الاستهزاء بالدين وحملته. 4- المستقبل للإسلام. 5- أمن المجتمع. 6- نصائح للزوج. 7- نصائح للمرأة المسلمة. 8- من آداب العيد.
الخطبة الأولى
أما بعد: فيا أيها المسلمون، اتقوا الله سبحانه وتعالى، وداوموا شكره والزموا طريق طاعته تفلحوا.
مضت أيام الصيام والقيام، وقد كشفت عن ساجد وذاكر، وآخر في لهوه سادر، فلا ذا بقي له أنس سهراته، ولا ذاك آنس تعب صلاته، فيا فوز المجتهد المبادر، ويا حسرة الغافل السادر، مَنْ عَمِل صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبيدِ.
العيد استمرار على العهد وتوثيق للميثاق، فيا من وفى في رمضان على أحسن حال لا تغير في شوال، ويا من أدرك العيد عليك بشكر المنعم والثناء عليه ولا تنقض غزلاً بعد قوة وعناء، وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ [النحل:92]. العيد بقاء على الخير وثبات على الجادة واستمرار في الطريق.
العيد تأكيد لتميز المسلم عن المشرك والكافر واستغنائه بالشرع المبارك عن عادات الشعوب البائدة وتقاليد الأمم الماضية، ((قد أبدلكما الله بهما خيرًا منهما: يوم الأضحى ويوم الفطر))، ((هذا عيدنا)). خير مما هم فيه من اللهو واللعب مع الغفلة والإعراض، أعيادنا لا تؤكد الغفلة بل هي مزيد اتصالٍ بالله، نفحة قدسية ورحمة إلهية، نفتتحه بالتكبير والذكر والصلاة والشكر لله على تمام عدة الصيام، وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [ البقرة:185].
أعيادنا ـ أهل الإسلام ـ سماوية ليست أرضية، لم تبن على أمجاد شخصية وتقاليد باليه, لسنا بولادة عظيم أو شفائه من مرض أو تربّعه على عرش الملك نجعل ذلك اليوم عيدًا. أعيادنا يشترك في تحقيق مناسباتها عامة المسلمين؛ ولذا تكون الفرحة به فرحة عامة حقيقية. إن عبادة الصيام ومغالبة الأهواء والشهوات في هذا الشهر يعتبر نصرًا شارك في القيام به كل مسلم، وفرح بتحقيقه كل مؤمن، فهو حقيق بأن يفرح، قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا. لا عيد عندنا للأم ولا للزيتون ولا للحب ولا للتحرير ولا للوطن، هما عيدان يعودان في السنة لا ثالث لهما: الفطر والأضحى. عن أنس قال:قدم رسول الله المدينة ولهم يومان يلعبون فيهما فقال: ((ما هذان اليومان؟)) قالوا: كنا نلعب فيهما في الجاهلية، فقال : ((إن الله قد أبدلكما بهما خيرًا منهما: يوم الأضحى ويوم الفطر)).
العيد فاصل ضروري في حياة المسلم يروح به عن نفسه من ثقل العمل المتتابع الجاد؛ لتعود نفسه بعد ذلك إلى الجادة أجود ما تكون، قد استعادت من القوة والنشاط ما يكون وقودًا لعبادة أخرى، والعيد في ذاته عبادة، والترويح الذي يزاوله المسلم فيه لا يصح أن يخرج به عن حدود الشرع فيقع في الأشر والبطر، فينقطع بذلك عن مبادئه وعقيدته، فعبادة الله لا يحدها زمان، وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ.
العيد فرصة لتحسين العلاقات وتسوية النزاعات وجمع الشمل ورأب الصدع وقطع العداوات المستشرية، ورحم الله من أعان على إعادة مياه المودة إلى مجاريها. اجعل هدية العيد لهذا العام عفوًا وصفحًا وغفرانًا، وَإِن تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ. ما أجمل أن يكون العيد فرصة لاتصال المتهاجرين والتقاء المتقاطعين. إن الرجل الكريم هو من يعفو عن الزلة ولا يحاسب على الهفوة، حاله كما قال الأول:
وإن الذي بيني وبين بنِي أخي وبين بني عمي لمختلف جدا
إذا نهشوا لحمي وفرت لُحومهم وإن هدموا مجدي بنيت لهم مجدا
ولا أحمل الحقد القديم عليهم وليس زعيم القوم من يحمل الحقدا
نعم، ليس زعيم القوم من يحمل الحقدا، ليس كريمًا ولا عظيمًا ولا سيدًا من يجمع الأحقاد ويحمل الضغائن ويداوم على الجفاء والقطيعة. إنه لا بد لتحسين العلاقات من نفوس كبيرة تتسع لهضم البغضاء وقضم العداوات، وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ [الشورى:37]. أطفئ لهيب العداوة ببرد الصدقة، فإن ذلك من أفضل البر، فعن أم كلثوم بنت عقبة رضي الله عنها أن النبي قال: ((أفضل الصدقة الصدقة على ذي الرحم الكاشح)) رواه أحمد وغيره.
مر العام الماضي موقرًا بالأحداث العظام التي لا يصح أن تتجاهل أو تنسى، بل لا بد أن تكون العظة فيها ظاهرة والعبرة منها واضحة.
لما تجرأت الدنمرك بوقاحة على سب النبي والوقوع في شخصه المبارك انتفضت الأمة على المستهزئ العنيد، واجتمعت عن بكرة أبيها على النصرة، وضجت من أجل حبيبها ، فقطعت بالمقاطعة دابر الظالمين، وكادت تقطع بصمصامتها أكحل المجرمين، لولا اختلاف مشين وتهوين مهين أعاد منهم الكرة أخرى، وجرأ غيرهم على سلوك طريقهم، فكان العود منهم بالسب ـ على نوع من الاستهتار المكشوف والاستهانة الظاهرة ـ صفعة مؤلمة في وجه من أراد تخفيف وقع السياط عليهم بادي الأمر.
على المسلمين اليوم وهم يرون عودة الإهانات الوقحة لنبيهم أن يغضبوا له غضبة مضَرية تنهدّ لها الجبال الرواسي، وأن يصرخوا صرخة الخيل المغيرة، ويضربوا في وجه المعتدي بسيف سعد والمغيرة. ناد بالقوم المجرمين: بدأتم فدفعنا وإن تعودوا نعد؛ حتى يعرف المستهزئ العنيد أن محمدًا لم يخلف بنات بل خلّف رجالاً أشاوس يشترون الموت فداءً له وتهون عليهم الأموال من أجله.
إن الضعف في مثل هذه الحوادث لا يولِّد إلا الضعف، ويوم لم نكمل جرعة التأديب لمن له بدء الفجور وثناه ركب حمار السِبة كل مأفون ونعق بالمسبة كل ملعون، فقالة السوء الآثمة لم تخرج من أفواه جهالهم وصبيانهم بل تواطؤوا عليها حتى نعق بها الذي علمهم السوء كبير بابوات الشر فيهم.
إنه مع شدة الحدث وعظمته على نفوس المسلمين إذ هو طعن في أخص خصوصياتهم إلا أنا استفدنا منها شيئًا لم يكن لنا على بال، لاَ تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُمْ. لقد ضج في العالم صوت الإسلام الصاعد مما جعل أعدادًا كثيرة من الناس تتوجه للتعرف على محور القضية وقطب رحاها ومن اهتزت الدنيا كلها لأجله ، وهذا في مقياس النصر الحقيقي ليس بالشيء الهين. كم سنحتاج من وقت ومن مال لإيصال الرسالة للشعوب المغيبة، وَيَأْبَى اللهُ إِلاَّ أَن يُّتِمَّ نُورَهُ. لقد حفلت القنوات والمواقع الإلكترونية باسم النبي ورسمه، وازدانت حلقات النقاش بلفظه ووصفه.
وإذا أراد الله نشر فضيلة طويت أتاح لها لسان حسود
واستفدنا التعرف على حجمنا الحقيقي، والذي لا يعرف نفسه يقف عليها بالتحقير، وعرَّفنا العدو المغرور أننا قوة لا يستهان بها حين تجتمع، وسيل عرمرم لا يوقف في وجهه حين ينحدر. لقد استفدنا أن إمكانية جمع الأمة على كلمة سواء ليس من معجزات الأمور وخوارق العادات، وأن الذي يجمع المسلمين هو الاتفاق على كبار القضايا لا التنازع في صغارها، وأنها تجتمع على الثوابت المحكمات، ويوم تذوب الثوابت لا نجد أرضًا عزازًا تثبت عليها الأقدام وتلتقي فيها الأفهام. لم يكن الاعتداء على النبي هو الأوحد من فجور القوم، فقد أهانوا القرآن, وأرادوا تدنيس قبلة المسلمين يوم أقيم في أمريكا مرقص عهر وفجور على صورة الكعبة وأسموه "بنات مكة", وكل ذلك إثم وفجور يستحق المواجهة والمدافعة, ولكن ليس من المصلحة توزيع قوة المسلمين على عدة جبهات، وهي سياسة النبي حيث اختصر عدوه في المدينة أول الأمر بكفار قريش مع وجود اليهود والمنافقين فيها، وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا.
جاءت حرب لبنان فأكلت الأخضر واليابس، دُك في شهر ما بني في عقود، وذهبت الأرواح وانقطعت الأفراح، واضطرب رأي الناس فيها: فمن مفتون بالحزب الدعي منخدع بشعاراته يمشي مع قاتله قد نسي أو تناسى جرائمه، وآخر معترض لا يأكل مما لم يذكر اسم الله عليه ولا يطعمه كلبه، وثالث لم يرض بها ولم تسؤه، لم يرض أن تستغل لتجيير أعمال الأمة لحزب مفتون يجد من ذلك فرصة لخدمة مشروع الهلال الشيعي الصفوي وترويج مذهبه الباطل كما هو الجاري في سوريا ومصر ولبنان وغيره، لم يرض بها لأنها اجترار لحرب سياسية عسكرية لا تراعي المفاسد الكبرى في مقابل تحصيل مصلحتها الخاصة، ولم تسؤه الضربة التي تصيب اليهود بل يفرح بها حتى لو كانت من شجاع أقرع أو كلب مسعور، وهذا عندي أحض بالصواب، وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ.
وإذا ذكرت المجازر الدموية والجرائم النازية فاذكر مصاب أهل السنة في العراق الذين اجتمع عليهم الاحتلال الأمريكي المشترك والنفاق العميل والرافضة المارقون، ثلاثي موحش، إن نجا المسلم من أحدها نهشته الأخرى. ذبحٌ بالهوية وجرائم بربرية طالت العجائز والشيوخ والأطفال بل حتى الحمل الذي لم ير السكين والبندقية لحقته يد المجرم في بطن أمه. جرائم تجري تحت سمع العالم وبصره ولا مغيث, تواطؤ إعلامي عالمي على تعتيم الأخبار، في حين لا تقف كبيرات القنوات ولا يفتأ مراسلوها من متابعة خبر كلب جائع أو جرذ ضال.
قتل امرئ في غابة جريمة لا نغتفر وقتل شعب كاملٍ قضية فيها نظر
وإن ننسى فلن ننس فلسطين، فهي الجرح الغائر في الجسد وقضيتنا الأولى، مسرى نبيا ومصلى الأنبياء، نسمع كل يوم من أرضها فاجعة، فمن جنين إلى غزة إلى الخليل، إلا أن الأحداث في هذه السنة اختلف مسارها واشتد أوارها، فمذ وصلت حماس للسلطة بالطريقة التي سنوها هم قلبوا لها ظهر المجن ورموها عن قوس واحدة، وضعوا لها العراقيل فلم تجد، اتخذوا معها سياسة التجويع، لاَ تُنفِقُوا عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ اللهِ حَتَّى يَنفَضُّوا فلم يفلحوا، فكشروا عن أنياب السباع، وأعلنوا الكره الكامن في النفوس، وأصابع المكر اليهودي الأمريكي ترى بالليل، فلحق المسلمين هناك أزمة تشبه يوم الأحزاب، ولا ملجأ من الله إلا إليه عليه فليتوكل المتوكلون، فلا جيوش دوليه ولا قوى محايدة، إذا لا حياد في زمن الظلم والقوة، إنما الله العزيز الحكيم نِعمَ المولى ونعم النصير.
أين حقوق الإنسان المزعومة؟! لقد أثبتت الأحداث المتتالية في فلسطين أو في العراق أو في أفغانستان بما لا يدع مجالاً للشك أن الحقوق التي رسمتها القرارات ووقعتها الاتفاقيات هي لحفظ حقوق الإنسان الكافر المستعمر كي تحمي غروره, وما قصة أسرى غوانتانامو واعتقال حميدان التركي والأسرى من قبل ومن بعد إلا أكبر دليل على ذلك.
جناب الشريعة عظيم، لا يرميها بالهزء والتنقص إلا مغموص عليه بالنفاق والكفر، قُلْ أَبِاللهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لاَ تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ. والعلماء هم حملة الرسالة وأوعية العلم والنجوم التي يهتدي بها الساري، وتنقيصهم ورميهم بالشتيمة شنشنة منافق مأفون، "مَا رَأينا مثل قرائنا هؤلاء"، وهذا لا يعني العصمة فيهم، فكل يؤخذ من قوله ويرد, لكن هذا لا يصح أن يتخذ وسيلة للتجريح والإسقاط. إن رمي العلماء بالنقيصة في أعمدة الصحف والمجلات والولوغ في السلطات القضائية وهيئة الرقابة على السلوك والمؤسسات الخيرية والدعوية والأنشطة الطلابية ووصفها بالإرهاب والتطرف والهجمة على الحجاب والحشمة بحجة التمدن هو محاولة للتسلل لهدم الشريعة بتقويض رموزها الظاهرة وأعلامها العلية. لقد غص المنافق وشرق بريقه لما رأى اتساع الصحوة وسرعة انتشاره وقبول الناس له، وما ذنب المصلحين فيها إلا أن دعوتهم وافقت الفطرة السليمة، فشنوا حملة شعواء ورموا بكنانتهم في محاولة لإحراق المراحل ومسابقة الزمن.
إنه ومع الشدة التي يعيشها المسلمون في أصقاع المعمورة إلا أن فجر النصر قد انشق في الأفق ولمع بارقه، فأملوا وأحسنوا الظن والعمل، فعلى قدر الجهد والجهاد تعطى الأمة، والأمور معقودة بأسبابها، ولا تيأسوا من روح الله، ولا تقنطوا من رحمته، فمواكب النصر قد أقبلت، ورايات الفتح قد رفعت، والعاقبة للمتقين، والظلم مرتعه وخيم، والله لا يصلح عمل المفسدين. لا تقولوا: زرع الزارعُ والباغي حَصَدْ، ذهب الأقصى وضاعت قدسُنا منّا وحيفانا ويافا وصَفَدْ، لا تقولوا: حارس الثَّغْر رَقَدْ، أنا لا أُنكر أنَّ البَغْيَ في الدُّنيا ظَهَرْ والضَّميرَ الحيَّ في دوَّامة العصر انْصَهَرْ، أنا لا أُنكر أنَّ الوهمَ في عالمنا المسكون بالوهم انتشرْ، غيرَ أنّي لم أزلْ أحلف بالله الأحَدْ أنَّ نَصْرَ اللَّهِ آتٍ، وعدوَّ اللهِ لن يلقى من الله سَنَدْ، لن ينال المعتدي ما يبتغي في القدسِ ما دام لنا فيها وَلَدْ.
لم نعد قرية صغيرة يمكن أن تغلق أبوابها مع غروب الشمس، لقد انشق الفضاء باتصالات دكت الحدود وكسرت القيود وعَدَت على القيم العوادي, وانتثرت علينا أخلاق أمم لا خلاق لها، مما جعلنا مهددين بنوع تشوهات خُلُقية سلوكية مما يؤكد على ذوي العقل والبصيرة والتدبير وضع ضمانات وقائية ومدافعة للشر بالخير، وإني أرى أن من أعظم صمامات الأمان أمام هذا الغزو السلوكي والفكري إحياء عبادتي الخوف والحياء في الأمة، فالخوف من الله يبني الرقابة الذاتية، والحياء يمنع المسلم مما يشين.
انقطعت الأمطار وغارت الآبار وكثر الغبار، وفسد الهواء واختلف الطعام وانتشر الوباء، وعم الترف واشتد النزاع، وتسلط الكافر وانتفض المنافق، وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ [الشورى:30]، والنعمة لا تحفظ إلا بالتوبة ولا تعود إلا بالرجوع، ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الروم:41].
أمن المجتمع وسلامته مسؤولية الجميع، والعبث بالمصالح العامة وإهدار الثروات والاعتداء على الحرمات والتفجير والتكفير وقتل الأبرياء أمر لا يقبله عقل ولا نقل، والواجب تجفيف منابع الغلو والإفراط ونشر الوسطية والاعتدال التي تقوم على الوسط الحق لا على الرأي المعاكس، فالغلو لا يعارض بالتفريط, والتشدد لا يقابل بالتساهل، وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ، ولا يحملُ البريء جريرة غيره، وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِّزْرَ أُخْرَى.
على الزوج أن يتقي الله في زوجته، فيحسن إليها ولا يظلمها أو يضربها، عليه أن يحفظ لها قيمتها وقدرها خصوصًا عند أولادها.
أيها الزوج، إن رباط الزوجية وثيق، فهو رباط مصاحبة لا ينقطع بالموت، وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ. إنه عقد صحبة لا عقد رقّ وولاء، ففي الحديث عنه قال: ((كل نفس من بني آدم سيد، فالرجل سيد أهله، والمرأة سيدة بيتها)) رواه ابن السني وصححه الألباني. فالواجب احترام سيادة المرأة في بيتها، وأن لا تسقط خاصة عند أولادها. وحين يدوس الزوج كرامة الزوجة وتفعل الزوجة كذلك فهو أذان بسقوط البيت وتقويض خيامه وذهاب قيمته التربوية ودوره المرتقب. لا بد أن يبنى البيت على المودة والرحمة، وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَّرَحْمَةً، وعلى العفو والصفح، وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [التغابن:14]. وحين يرى أحد الزوجين من الآخر ما يسوؤه فليتذكر محاسنه وجوانب الكمال فيه، فقد صح عنه أنه قال: ((لا يفرك مؤمن مؤمنة؛ إن كره منها خلقًا رضي منها آخر)) رواه مسلم. تسامح ولا تستوفِ حقَّك كله، وأبقِ فلَم يستوفِ قطّ كريم.
أيها الرجال، إن المرأة خلقت من ضلع، وإن أعوج ما في الضلع أعلاه، فيها الغيرة والعاطفة والليونة، وهذا كمال في طبيعتها ومتمم لأنوثتها، فاستقامة المنجل في اعوجاجه، وَلَيِسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى.
الخطبة الثانية
معاشر النساء، أجبن نداء الله لكن حيث قال: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [الأحزاب: 33]. إن الأصل في المرأة قرارها في البيت، إذ هي نور أركانه وسكن أرجائه، والخروج من البيت أمر طارئ لا يكون إلا لحاجة. البيت هو وظيفة المرأة الأساس، فما بالنا نرى تهافت النساء على الخروج من البيت لحاجة ولغير حاجة؟! لقد اكتظت الأسواق وازدحمت المتنزهات في حين بقيت البيوت خلوًا من ساكن.
عليكِ بخدمة الزوج والقيام معه بالطاعة، أخرج ابن سعد قال: دخلت أيم العرب أم سلمة على سيد المسلمين أول العشاء عروسًا، وقامت من آخر الليل تطحن. وعليك برعاية أولاده وحفظ ماله ومتاعه، فلك بذلك عظيم الثواب، ففي الحديث عنه أنه قال: ((أيما امرأة ماتت وزوجها عنها راضٍ دخلت الجنة)) رواه الترمذي وقال: "حديث حسن"، وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((إذا صلّت المرأة خمسها وصامت فرضها وحصنت فرجها وأطاعت زوجها قيل لها: ادخلي من أي أبواب الجنة شئت)) رواه الخمسة وصححه الألباني، وروى الطبراني في معجمه وصححه الألباني أن النبي قال: ألا أخبركم بنسائكم في الجنة؟ يعني من نساء الدنيا، قلنا: بلى يا رسول الله، قال: ((الولود الودود التي إذا غضبت أو أسيء لها إليها أو غضب زوجها قالت: هذه يدي في يدك لا أكتحل بغمض حتى ترضى)). إنها النفس الطيبة والروح الزكية لا التثنّي الأعوج, وفي الحديث: ((اثنان لا تجاوز صلاتهما رؤسهما: عبد آبق من مواليه حتى يرجع, وامرأة عصت زوجها حتى ترجع)) وهو في صحيح الجامع الصغير.
لا تكلفي زوجك من النفقة ما لا يطيق، ولا ترهقيه من أمره عسرا، ففي الحديث عنه : ((إن أول ما هلك بنو إسرائيل أن امرأة الفقير كانت تكلِّفُهُ من الثياب أو الصيغ ـ أو قال: من الصبغة ـ ما تكلف امرأة الغني)) السلسلة الصحيحة (591).
احذري الخضوع في مخاطبة الرجال ومخالطتَهم وإبداء الزينة لهم، ابتعدي عن ذلك في أماكن العبادة كمكة وفي الأعياد والجمع فضلاً عن الأسواق والحدائق العامة, عن أبي أسيد الأنصاري أنه سمع النبي وهو خارج من المسجد فاختلط رجال مع نساء في الطريق فقال : ((يا معشر النساء، استأخرن فإنه ليس لكنّ أن تحققن الطريق، عليكن بحافات الطريق))، قال أبو أسيد: فقد رأيت المرأة تلتصق بالجدار حتى إن ثوبها يعلق بالجدار من شدة لصوقها به.
احذري مشابهة الكافرات والماجنات بحجة متابعة الموضة، فمن تشبه بقوم فهو منهم، وفي الحديث الصحيح: ((صنفان من أمتي لم أرهما قط: نساء كاسيات عاريات مائلات مميلات لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها)) الحديث.
حافظي على عفافك وحجابك وحيائك، يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا [الأحزاب:59]. وفي الحديث عنه أنه قال: ((أيما امرأة نزعت ثيابها في غير بيتها خرق الله عز وجل عنها ستره)) صححه الألباني.
احذري دعوات التغريب وسهام التضليل التي يقذف بها الأعداء. احذري تمييع الحجاب, فالحجاب عبادة وليس عادة، الحجاب ستر وليس زينة. ليست العباءة الضيقة ولا الشفافة ولا مطرزة الأكمام حجابًا شرعيًا، بل هي فتنة ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
أيتها المرأة المسلمة في هذه البلاد، لقد صمدتِ كثيرًا ودافعت التغريب طويلاً، فأنت آخر حصن لم يسقط بعدُ ولن يسقط بإذن الله. لقد ضاق العلمانيون المنافقون بك ذرعًا، فصاروا يحيكون المؤامرات لك ليلاً ونهارًا، فصمودًا وصبرًا وثباتًا واستعلاءً على كيد الشيطان وحزبه، إِنَّ كَيدَ الشَّيطَانِ كَانَ ضَعِيفًا، وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا. أسمعينا صرخة منك تقطع طمع المستغرب وتقيم الوزن بالقسط، أسْمِعيني ـ يا أخيَّه ـ صرخةَ النفس الأبيهْ، أسمِعيني منكِ لا لن أرتضي عيش الدَّنيَّهْ، أنا بالإيمان يُمنى في دمي نارُ الحميهْ، لا تبالي بالدَّعاوى والأباطيل الدعيّهْ، ليس حبًّا أنْ تكوني حيثما كانوا بغيَّهْ، ليس حبًَّا أن تكوني مثلما كانوا غبيهْ، أنت أعلى أنتِ أغلى أنتِ أنقى يا أُخيَّهْ.
أيتها المسلمة، الله لحكمته جعل القوامة بيد الرجل، الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النّسَاءِ، فكان ذلك تكليفًا له بهذه الأمانة، مِن أجل رعاية البيت وحمايته وحفظه والنفقة عليه. وإنّ التمرد على القوامة والنشوز دون حقّ شرعي يعتبر من أعظم الذنوب التي يعاقب الله عليها، ففي الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((إذا باتت المرأة هاجرة فراش زوجها لعنتها الملائكة حتى تصبح)).
حذار من إفساد أحد الزوجين على الآخر والمشي بينهم بالنميمة فإن ذلك من مكر الشيطان وفي الحديث الصحيح: ((من خبّب زوجة أو مملوكًا فليس منا))، و((لا يدخل الجنة نمام)). وكل فساد يقع بسبب الطلاق الناتج عن التحريش بين الزوجين فعلى الجاني إثم ذلك ولا يظلم ربك أحدا.
لا بأس أن يهنئ بعضكم بعضًا في العيد لورود ذلك عن الصحابة رضي الله عنهم.
وكان من هدي النبي مخالفة الطريق في العيد، فعودوا من غير الطريق التي قدمتم فيها اقتداءً بنبيكم محمد ، لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا [الأحزاب:21].
ــــــــــــــــــــ(67/297)
التدين والمقاييس الاختزالية
...
...
5046
...
الأسرة والمجتمع, الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
...
...
الآداب والحقوق العامة, الولاء والبراء, قضايا المجتمع
...
سامي بن عبد العزيز الماجد
...
...
الرياض
...
...
...
جامع الرائد
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- حرمة المسلم. 2- إنما المؤمنون إخوة. 3- الآفات المترتبة على تقسيم المسلمون وتفريقهم. 4- مفهوم التدين الصحيح.
الخطبة الأولى
أيها الأحبة في الله، يتفاوت المسلمون الموحدون فيما بينهم في مقدار الاستقامة والصلاح، وعلى ما بينهم من التفاوت إلا أنهم مشتركون في القاعدة الجامعة وهي التوحيد والإيمان، وهذا يمنحهم اشتراكًا في الحرمة والحقوق، ((فكل المسلم على المسلم حرامٌ: دمه وماله وعرضه))، فلم يفرِّق بين الصالح والفاسق، وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [التوبة:71]، ولم يفرق بين المؤمن التقي والمؤمن المسرفِ على نفسه، فكلهم إخوة ولو اقترف بعضُهم أكبرَ الكبائر عدا الشرك بالله.
فها هو ولاءُ الإسلام بدائرته الواسعة قد وسِع المسلمين جميعًا، محسنَهم ومسيئهم، ليفرض على كل مسلمٍ أن يوالي كلَّ مسلم مهما أسرف على نفسه، وأيًا كان مظهرُه، وأينَما كان بلدُه. ولم تَضِقْ دائرة الولاء هذه إلا عن المشركين والمنافقين، وليس للمسلم أن يوِّزع ولاءاته حسَبَ مصالحِه وأهوائه.
وإذا كان المسلمُ ممنوعًا من أن يسع ولاؤه غير المسلمين فمن الخطأ المنكر كذلك أن يحجِّمَ ولاءَه في دائرةٍ أضيقَ من دائرة الإسلام، فيجعله مخصوصًا بطائفةٍ أو بلدٍ أو عِرقٍ أو حزب.
إن أحدَنا ليس بأغيرَ من الله على دينه حتى يضيق ولاؤه عن بعض عصاة المؤمنين، فهذه غَيرةٌ لا تُحمد؛ فهي تحجِّرُ واسعًا وتنفِّر قريبًا، فلا تزيد هذا العاصي القريب إلا بُعدًا عن الطاعة وإسرافًا.
تأملوا قول الله تعالى: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ [فاطر:32]. فها هم المؤمنون كلُّهم بمُحسنِهم ومسيئهم ومسرفِهم ومقتصدِهم وأولهم وآخرِهم قد أشركهم الله جميعًا في وصفٍ تشريفيٍ يمتازون به على غيرهم، وهو الاصطفاء، فكيف لا يكونون كلُّهم في أصل المحبة والولاء مشتركين؟!
أيها المسلمون، لقد كانت مجتمعات المسلمين ولا تزالُ أمشاجًا مختلطةً، ففيها الظالمُ لنفسه، وفيها المقتصدُ، وفيها السابق بالخيرات بإذن الله، وستظلُ كذلك كما هي سنة الاختلاف. فالأَولى أن يكون هذا التفاوتُ في درجة الصلاح داعيًا إلى التناصحِ، لا إلى التنافرِ والتضاد؛ فإن هذه الأمشاجَ على تفاوتِها في الدرجات تلتقي في قاعدةٍ مشتركةٍ عريضةٍ هي خيرُ وأعظمُ ما يمكن أن يلتقيَ عليه المختلفون، ألا وهي قاعدة الإيمان والتوحيد.
ونحن معنيون أن نبحث عما يُجمِّع من الأصول، لا أنْ نُفرِّقَ بالفروع، فذلك يفقدنا خيرًا كثيرًا موجودًا بين الناس.
والقدْرُ المشترك الذي يلتقي فيه المسلمون كلُّهم في هذا المجتمع متمثِّل في دائرةِ التوحيد وأصول الإيمان العريضة التي لا يمكن أن يندّ عنها فرد من المسلمين مهما أسرفَ على نفسه بالمعاصي؛ لأن الخروج عنها يعني الخروج من دائرة الإيمان إلى دائرةِ الكفر.
وهذا القدر المشترك هو أعظم شيءٍ جاءت به الرسل والأنبياء، والتقت عليه رسالاتهم، وهو أعظمُ الأمور التي يمكن أن نلتقي عليها.
فلماذا لا نجعل هذا القدر المشترك هو الرابطةَ التي يجتمع حولها المسلمون ظالمُهم ومقتصدُهم وسابقُهم، يأتلفون عليها ويتحابون في ظِلالها، كما كان النبي يُذكِّرُ بهذا القدْرِ المشتركِ كلما بدتْ بين المسلمين نُفرةٌ أو ظهرت منهم على أحدٍ غِلظةٌ أو جفوةٌ.
أخرج البخاري ومسلم عن عِتبان بن مالك أنه أتى النبيَ فقال: يا رسول الله، قد أنكرت بصري وأنا أصلي لقومي، فإذا كانت الأمطار سال الوادي الذي بيني وبينهم، فلم أستطع أن آتي مسجدهم فأصليَ لهم، ووددت ـ يا رسول الله ـ أن تأتيَني فتصلي في بيتي فأتخذه مصلى، فأتى فقال: ((أين تحب أن أصلي من بيتك؟)) فأشرت إلى ناحية من البيت، فصلى ، وآب إلى البيت رجال من أهل الدار، فقال قائل منهم: أين مالك بن الدُّخْشُنِ؟ فقال بعضهم: ذلك منافقٌ لا يحب الله ورسوله، وود بعضُهم أن النبي دعا عليه فهلك، وودوا أنه أصابه شرٌ، فقال : ((أليس يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله؟!)) فقالوا: إنه يقول ذلك وما هو في قلبه، فقال : ((لا يشهد أحد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله فيدخلَ النار أو تطعمه)).
وفي صحيح البخاري عن عمر أن رجلاً على عهد رسول الله كان يشرب الخمر، فيؤتى به إلى النبي فيجلدُه، فأُتي به يومًا فأمر به فجُلد، فقال رجل من القوم: اللهم العنه، ما أكثر ما يؤتى به! فقال : ((لا تلعنوه؛ فوالله ما علمتُ إلا أنه يحب الله ورسوله)).
فهذا الذي ذكّر به النبيُ من حال ذلك الرجل لم يكن شيئًا متميِّزًا يبز به أقرانه، إنما ذكّر بذلك القدر المشترك الذي يجمعهم به في رباط واحد ووشيجة واحدة، إنه محبةُ الله ورسوله. فكأنه يقول: إنه مثلُكم يحبُّ الله ورسولَه.
على أننا نلحظ أن الرسول لم يَقُل هذا الكلام والرجلُ يقارف المعصية، فذلك مدعاةٌ إلى أن يحتقر تلك المعصية ويفرطَ في التوبة، ولكن قالها بعد أن كفر عن ذنبه بالحد؛ ليشعره ويشعرهم أن قلبه ما زال طيب الغراس حسن المنبت، وفي الإمكان أن يكون خيرًا مما كان.
إنَّ تحجيمَ الولاء في دائرة ضيقةٍ تحكمُها سماتُ الصلاح الظاهر يُفضي إلى تشطير المجتمع إلى فئاتٍ متنافرةٍ، أو على أقل تقدير غيرِ متعاونة، تتسع بينها الفجوةُ والجفوة، وتصبح كأنّها لا تلتقي على شيء.
فيجب أن توضع هذه السماتُ الظاهرة حيث وضعها الشرع بلا تهويل ولا استهانة، والذي يعني أنها شعيرة من الشعائر، لا شارةَ كمال تُضفي على صاحبها الصلاحَ المطلق، ولا أن تُجعلَ أصلاً من أصول الإسلام يُجعل فرقانًا بين الولاء والبراء والمحبة والبغض. وإذا أُعطيتْ أكثر من ذلك تواردتْ عليها اللوازمُ الباطلة، من إطلاق الصلاح بإطلاق، أو نفيِه بإطلاق.
يجب أن نفطنَ إلى أن وجود بعضِ سمات الصلاح الظاهر لا يدل على كمالِ صلاحِ الباطن بالضرورة، وعدمُ وجودها لا يدل بالضرورة على فساد الباطن، فلماذا يجعلها بعضُنا حَكَمًا يفرض عليه طريقةَ التعامل ويصرِّف العلاقات؟! وكيف يُعوِّل على أمرٍ لا يدل إلا على نفسه؟!
إنك قد تفتقدُ في بعض الناس بعضَ السمات الظاهرة للصلاح، لكنّك لا تفتقد فيه معالم أخرى للصلاح؛ كطيبة القلب وعِفَّة اللسان وسلامة الفكر ولين الجانب وسخاء اليد في المعروف والحرص على الصلاة والتذمُّمَ للناس وأداء حقوقِهم، فهل تلغى هذه المعالم العظيمة للصلاح لأجل افتقاد شيءٍ من السمات الظاهرة للصلاح؟!
يجب أن يصحح مفهوم التديّن لدى الناس، حتى يدركوا أن وصفَ التدين لا تحتكرُه سماتٌ خاصةٌ بالمظهر تمنحُ هذا اللقب كلَّ من قامت به وتخلعُه عن غيره، ولا يختص بطائفة تتميَّز بمظهرها.
إن مفهوم التدين الذي ينبغي أن ننصاع إليه وتتّزن بها النظرة هو غلبةُ خيرِ الإنسان مع تحقيق أصول الإسلام وأركانِه، فإذا تحقق فيه ذلك كان أهلاً أن يضفى عليه هذا الوصف الممدوح.
ونحن نقصد من تصحيح مفهوم التديّن إلى أن نزيلَ النفرة التي قد تبدو من بعض الناس تُجاه آخرين، ولأجل أن نبطلَ طريقة التمييزِ الخاطئة، والتي تعوِّل على أول نظرة للظاهر دون سبرٍ للأخلاق والفكر والمشاعر.
وتصحيح مفهوم التدين وتوسيع دائرته يجعلنا جميعًا مسؤولين أمام كل هجمة تُراد بها عقيدة بلادنا ومؤسساتُنا الدعوية وما يسمى بالثقافة السائدة.
لقد بدأت بعض الأقلام المسمومة في بعض وسائل الإعلام تساوم على بعض القيم التي ما زال المجتمع مقيمًا عليها، واجترأتْ على لمز مناهج الدعوة والنيل من أعلام الأمة، فتوجهت في خطابها إلى فئة مخصوصة قصدتهم قصدًا؛ لتجعل منهم مطيةً إلى تلك الغايات الدنيئة، وأطلقت عليهم وصفَ (الإسلاميين)، لتجعل باقي المجتمع في وضع الحياد معها، وكأننا في مجتمع يحتكم إلى مجالس تشريعية ونيابية تتصارع فيها تيارات سياسية من إسلامية وعلمانية وقومية.
فهم من خلال هذه التسميات ومن خلال توجُّهِ نقدها ولمزها إلى فئة مخصوصة يريدون أن يجعلوا باقي فئات المجتمع بمعزل عن المواجهة والمسؤولية في دفع هذه الحملة المغرِضة.
وهم يخطئون عن عمد وخبث بهذا الإطلاق، ويخطئ معهم من يفهم أن الإسلاميين فئةٌ لها سمات معينة هي المعنية بهذه الهجمة، ويظل غيرُهم في مأمن من الفتنة.
إن هذا القدر المشترك بيننا من أصول التوحيد وأركان الإيمان يحمِّلنا جميعًا مسؤولية الدفاعِ عن هذا الدين والذبِّ عن منهج المصطفى .
الخطبة الثانية
أما بعد: أيها الأحبة، وهذه مسألة تتصل بالمسألة السابقة اتصال الفرع بأصله، وهي أنه إذا كان ظاهر الإنسان لا يدل على باطنه ولا على فكره ولا أخلاقه بإطلاق، فمن باب أولى أن لا يدلَ على باطن غيره وفكره وأخلاقه، فلا تزر وازرة وزر أخرى، ولا يؤخذ أحد بجريرة غيره، إنما من عمل صالحًا فلنفسه ومن أساء فعليها.
وقد نرى شخصًا واقعًا في فاحشة أو مرتكبًا لكبيرة موبقة، وقد تفتقد فيه بعض سمات الصلاح الظاهر، فهل يعني هذا لزامًا أن يكون كل من شاكله في الظاهر مشاكلاً له في السلوك والفكر والباطن؟! كلا، ولا أظن عاقلاً يرى غير هذا. فإذا كان هذا فكذلك الأمر بالعكس، إذا رأينا شخصًا قد وقع في موبقة أو غلو وعليه شيء من سمات الصلاح الظاهر، فهذا لا يعني أن كل من شاكله في هذا الظاهر مشاكِلٌ له في الفكر والسلوك والباطن. وعلى هذا لا يجوز أن تُجعل بعضُ السمات ميسمًا يُعرف به الإرهاب والغلو، لا سيما إذا كانت سنةً ثابتةً عن المصطفى .
وأخيرًا، فكل شعيرة من شعائر الإسلام صغيرةً كانت أو كبيرةً هي جزء من هذا الدين لا يجوز الاستهزاء بها، ولا الاستهانة بقدرها، ولا السخرية من أصحابها، فإن الاستهزاء بشعيرة من شعائر الإسلام كفر مخرج من الملة، قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ [التوبة:65، 66].
وأما الاستهزاء بمن قامت فيه تلك الشعيرة فهو سخرية بإنسان محفوظ الكرامة والعرض في الإسلام، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ [الحجرات:11].
ــــــــــــــــــــ(67/298)
القوامة والحافظية
...
...
5064
...
الأسرة والمجتمع, العلم والدعوة والجهاد, فقه
...
...
النكاح, قضايا الأسرة, محاسن الشريعة
...
بن سالم باهشام
...
...
خنيفرة
...
...
...
مسجد أم الربيع
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- مقدمة حول حسن اختيار الزوج والزوجة. 2- معنى القوامة وأهميتها في حفظ الأسرة والزوجة من الانحراف. 3- من معاني قوامة الرجل في بيته. 4- متطلبات القوامة. 5- لكل من الرجل والمرأة وظيفة تناسبه. 6- الرجال والنساء بين القوامة والحافظية.
الخطبة الأولى
أيها الأحباب الكرام، إذا كان الإسلام قد حث على الزواج ورغب فيه صيانة للناس من الزنا وللمجتمع من الخراب، وأمر باختيار الزوج والزوجة، وبين أن الطيب هو الذي يتزوج الطيبة وأن الخبيث لا يتزوج إلا خبيثة فقال عز وجل في سورة النور: الخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ والْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ والطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ والطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُوْلَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ ورِزْقٌ كَرِيمٌ، وبيَّن أن من تضييع الوقت أن يدّعي أحد أنه سيتزوج غير ذات الدين وسيدعوها للدين، بعد هذا كله جاء ليصونَ لنا هذا البيت الذي دعا إلى تكوينه. فكما نظم سبحانه وتعالى العلاقات بين الذكور والإناث في عالم الحيوانات والحشرات أراد سبحانه وتعالى من الإنسان المكلف سيد هذا الكون رجلا وامرأة أن ينظّما علاقتهما في وسط الأسرة، فكلف الرجل بالقوامة، وحمَّل المرأة مسؤولية الحافظيّة، فموضوعنا اليوم هو: القوامة والحافظية.
لنتحدث عن معنى القوامة وأهميتها في حفظ الأسرة والزوجة من الانحراف:
قال سبحانه في محكم كتابه من سورة النساء: الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ به بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ. لقد أعطى الإسلام للزوج حق القوامة على المرأة ليكون رجلا حقا، يعرف كيف يقود سفينة الحياة في أسرته نحو شاطئ السلامة والهدى والرشاد، وحذّر الرجال قاطبة مِن أن تأخذهم الفتنة بالنساء، فتعشو أبصارهم وتخور عزائمهم ويرق دينهم، فيتغاضون عن انحراف النساء عن جادّة الشرع ثم يفلت من أيديهم الزمام، فإذا المرأة المنحرفة كل شيء في البيت، لا يُعصى لها أمر، ولا تُردّ لها كلمة، ولا تُرفض لها رغبة، وصدق رسول الله إذ جعل هذا آخر فتنة تصيب الرجال فيما روى البخاري ومسلم: ((ما تركت بعدي فتنة هي أضر على الرجال من النساء)).
إن الزوج المسلم ـ أيها الأحباب الكرام ـ هو الرجل الذي لا يضعف أمام فتنة زوجته المنحرفة مهما طغت تلك الفتنة، ويفهمها بكلّ لطف ولباقة أن فتنتها إذا كانت حبيبة إلى نفسه فإن مرضاة الله أحب، وأن مودة الرجل لزوجه مهما عظمت فهي دون حبّ الله ورسوله ، قال تعالى في سورة التوبة: قُلْ إن كَانَ آبَاؤُكُمْ وأَبْنَاؤُكُمْ وإخْوَانُكُمْ وأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا ومَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ ورَسُولِهِ وجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ واللَّهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الفَاسِقِينَ. ومن ثم تنتفي من حياة المسلم الحق الصادق هذه المخالفات النسائية التي نجدها في بيوت كثير ممن ينتسبون إلى الإسلام.
أيها الأحباب الكرام، إن الرجل الذي يرى بأم عينه ـ وهو القائم على شؤون البيت ـ زوجته تخرج إلى الشارع متبرجة كاسية عارية وقد أبدت شعرها وكشفت عن صدرها وساعديها ولا يبادر إلى تغيير هذا الواقع المنحرف عن هدي الله وأدب الإسلام إنما فقَدَ رجولته، وانحسر عن إسلامه، وباء بغضب من الله، ولن ينتشله من هذه الوَهدة التي ارتكس فيها إلا توبة نصوح توقظ ضميره وهزّة عنيفة تحرّك رجولته وتردّه إلى الطريق القويم والصراط المستقيم.
إن بيت الزوجية ـ أيها الأحباب الكرام ـ يكون مبنيا على المحبة بين الزوجين، وإذا كان ذلك كذلك فإن المرأة تبادر بالقيام بما يرضي زوجها في برّه، روى ابن هشام أن الطفيل بن عمرو الدوسي لما دخل في الإسلام وهو شيخ قبيلة أتته امرأته لكي تقترّب منه فمنعها وقال لها: لقد أصبحتِ عليّ حراما، قالت: ولم؟! قال: أسلمتُ، فكان ردّها: أنا منك وأنت مني وديني دينك، وأسلمت. إن هذه المرأة لم تحتجِب فقط كما نطالب الكثير من النساء المصليات، بل اعتنقت الإسلام والتزمت بكلّ تعاليمه بسبب محبّتها لزوجها واتخاذه قدوة لها حيث قالت: أنا منك وأنت مني.
إن من قوامة الرجل المسلم في بيته سعيه بكل الوسائل المجدية الإيجابية إلى توجيه زوجته وإرشادها إلى الحق بدل إهمالها وتركها عرضة لوسائل الإعلام الهدامة، ولنا في الجيل الأول من رجال الأنصار في سلوكهم مع نسائهم أسوة حسنة، روى أبو داود عن صفية بنت شيبة قالت: بينما نحن عند عائشة رضي الله عنها ذكرنا نساء قريش وفضلهن فقالت عائشة رضي الله عنها: إن لنساء قريش لفضلا، وإني والله ما رأيت أفضل من نساء الأنصار ولا أشد تصديقا لكتاب الله ولا إيمانا بالتنزيل، لقد أنزلت سورة النور: ولْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ، فانقلب رجالهن إليهن يتلون عليهن ما أنزل الله إليهم فيها، ويتلو الرجل على امرأته وابنته وأخته وعلى كل ذي قرابة، فما منهم امرأة إلا قامت إلى مِرْطِها المُرحّل ـ وهو كساء من صوف نقشت فيه تصاوير الرحال ـ فاعتجرت به ـ أي: تلفّفت به ـ تصديقا وإيمانا بما أنزل الله من كتابه، فأصبحن وراء رسول الله معتجرات كأن على رؤوسهن الغربان.
أيها الأحباب الكرام، إن كل مسلم مسؤول عن التزام زوجته بآداب الإسلام في الخروج من البيت بالإذن، ومسؤول عن ارتداء زوجته اللباس الشرعي الذي يصون عورتها، ويوم تغلب الزوجَة زوجها على أمره وتحمله على تخطّي هذا الحكم الشرعي ويقف عاجزا أمامها لا يبدئ ولا يعيد فسلام على دين هذا الرجل، وسلام على رجولته.
ثم إن مسؤولية الزوج عن زوجته لا تقتصر على مظهرها الخارجي المتمثل في اللباس، وإنما تتعداه إلى عبادتها وسلوكها في الحياة، فهو مسؤول عنها إن قصّرت في عبادة أو فرطت في جنب الله بتهاون أو معصية، ومسؤول عن حسن سيرتها واستقامة سلوكها وقيامها بواجباتها الشرعية، وأيّ تقصير منها في جانب من هذه الجوانب يكون سببا في الإخلال برجولة الزوج، ويقدَح في حسن إسلامه، ويخدش القوامة التي أكرمه الله بها.
اعلموا ـ أيها الرجال المؤمنون ـ أن الإسلام جعل المرأة أمانة في عنق الرجل، وليست مجرّد متاع يتمتع به الزوج، وغالبا ما تكون المرأة على دين زوجها يقودها معه، إما إلى الجنة وإمّا إلى النار، ومن ثمّ كان أمر الله للمؤمنين في وقاية أنفسهم وأهليهم من النار. وقد جاء مصوّرا العاقبة المخيفة المروّعة في مشهد رهيب تنخلع لشدّته القلوب، وتدار من هوله الرؤوس إن هم تهاونوا في أمر نسائهم وذويهم ولم يأطروهم على الحق أطرا، قال تعالى في سورة التحريم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وأَهْلِيكُمْ نَارًا وقُودُهَا النَّاسُ والْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ ويَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ.
وفي إطار أداء هذه القوامة على أحسن وجه والحفاظ عليها على الزوج أن يكون على اطلاع بحقيقة المرأة وحالتها النفسية، وليعلم أن حاجتها المادية قد تدفع بها إلى عدم صيانة عرضها، ففي حديث البخاري الذي يتحدّث عن النفر الثلاثة الذين سُدّ عليهم الغار نستخلص هذه الحقيقة، وهي أن المرأة التي تحدّث عنها الحديث لم يكن عندها أيّ رغبة في الانحراف بدليل أنها رفَضت في المرة الأولى أن تمكِّنه من نفسها، وذكَّرت ابن عمها في المرة الثانية بتقوى الله، وهذا معناه أن ذهابها إليه كان قهرًا بسبَب الاحتياج. إن من طبيعة المرأة أنها تخضع وتضعُف أمام احتياجِها المادّيّ، ومن أجل خطورة احتياج المرأة نجِد أن النبيَّ يجيز للمرأة أن تأخذ من مال زوجها دون علمِه وبقدر حاجتها إذا كان بخيلاً، فقد روى البخاري أن هندا زوجة أبي سفيان جاءته وقالت: إن أبا سفيان رجل مسيك فهل يجوز لي أن آخذ من ماله دون علمه؟ فأذن لها النبي بقدر حاجتها، هذه حقيقة.
الحقيقة الثانية أنه يجب على الزوج أن لا يستهين برغبة الزوجة النفسية، بل عليه الاستجابة ما دامت مشروعة، فهذا الرسول يترك عائشة رضي الله عنها مسنِدة وجهها إلى خده وتنظر من فوق منكبيه إلى الحبشة يلعبون حتى شبعت. نستخلص من هذا أن الاستجابة لرغبة الزوجة في المجال المادي يجب أن تتحقق بقدر الاحتياج لإذن الرسول لهند زوجة أبي سفيان أن تأخذ بقدر حاجتها، أما في المجال النفسي المشروع فيجب أن يكون التحقيق حتى الإشباع.
ومن أهم الأمور التي تحقّق للمرأة إحساسها مع زوجها ورضاها عن بيتها هو أن لا ترى زوجها يعيبها في تصرفاتها ووظيفهتا بصفتها زوجة، وعلى هذا يجب على الرجال القوامين أن يتخلقوا بأخلاق الرسول ، في هذه الناحية تقول عائشة رضي الله عتها عن الطعام: ما عاب رسول الله طعاما قط؛ إن اشتهاه أكله وإن كرهه تركه.
وكذلك لا ترى الزوجة زوجها يعيبها في شكلها ومظهرها، ولذلك نهى النبي عن أن يقبح الرجل زوجته فيقول لها: قبحك الله، كما يجب على الرجل أن يستجيب لطبيعة المرأة التي لا يمكن أن تتغير فيها، مثال ذلك طبيعة حب الحديث، لهذا يحتم عليه سماع حديث زوجته، وأن يظهر تجاوبا واهتماما لذلك، فهذا الرسول يسمع من عائشة رضي الله عنها حديث أم زرع الطويل كما روى البخاري في حسن المعاشرة، ويقول لها: ((كنت لك كأبي زرع لأم زرع)).
أيها الأحباب الكرام، إن قوامة الرجل على المرأة لا تتحقق كما أرادها الإسلام إلا إذا كان الزوج رجلا ناجحا في قيادته لبيته وأسرته، والزوج المسلم لا يكون رجلا بغلظته وفظاظته وقسوته وعنفه وبطشه وسلاطة لسانه، فهذه رجولة الجاهلية، والرجولة في الإسلام شيء آخر غير هذا كله.
الرجولة في الإسلام شخصية قوية جذابة محببة، وخلق عالٍ نبيل، وتسامح وإغضاء وعفو عن الهفوات الصغيرة، ووقوف حادّ جازم عند حدود الله، وتطبيق لأحكامه على أفراد الأسرة جميعا، وقيادة بارعة لبقة نحو الخير، وبذل وسخاء في غير إسراف ولا تبذير، ونباهة ووعي وشعور بالمسؤولية في الدنيا والآخرة، وإدراك للحالة المثلى التي ينبغي أن يكون عليها البيت المسلم الراشد. هذه هي القوامة التي أناط الإسلام بها الرجل، فما هي الحافظية؟
أيها الأحباب الكرام، تعالوا بنا لنرى صنع الله الذي أتقن كل شيء لتظهر لنا عظمته سبحانه وتعالى، وبالتالي نستجيب لهديه وتكون الثمرة سعادة الدارين.
لقد خلق الله سجانه وتعالى الناس من ذكر وأنثى، زوجين على أساس القاعدة الكلية في بناء هذا الكون، قال عز وجل في سورة الذاريات: ومِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، وجعل من وظائف المرأة أن تحمل وتضع وترضع وتكفل ثمرة الاتصال بينها وبين الرجل، وهذه الوظائف هي ضخمة أولا، وخطيرة ثانيا، هذه الوظائف ليست هينة ولا يسيرة يمكن أن تؤدّى بدون إعداد عضوي ونفسي وعقلي عميق غائر في كيان الأنثى. ونظرا لكون الرجل والمرأة من خلق الله وأنه سبحانه وتعالى لا يريد أن يظلم أحدا من خلقه وهو يهيئه ويعده لوظيفة خاصة ويمنحه الاستعدادات اللازمة لإحسان هذه الوظيفة فإنه زود المرأة فيما زودها به سبحانه وتعالى من الخصائص بالرقة والعطف وسرعة الانفعال والاستجابة العاجلة لمطالب الطفولة بغير وعي ولا سابق تفكير، بل جعلت الاستجابة لها غير إرادية لتسهل تلبيتها فورا، وجعل سبحانه وتعالى في ذلك لذة لتكون الاستجابة سريعة من جهة، ومريحة من جهة أخرى، وإن كان في ذلك مشقة وتضحية.
وفي إطار العدل الإلهي ونظامه المحكم الذي يتجلى في الكون كله وصنعه سبحانه وتعالى المتقن جعل من وظائف الرجل كي تتفرغ المرأة لوظيفتها الخطيرة توفير الحاجات الضرورية، وتوفير الحماية كذلك للأنثى بدل أن تحمل وتضع وترضع وتكفل ثم تعمل وتكد وتسهر لحماية طفلها في آن واحد.
وكان من العدل الإلهي أن يمنح سبحانه وتعالى الرجل من الخصائص في تكوينه العضوي والعصبي والعقلي والنفسي ما يعينه على أداء وظائفه هذه، وأن يمنح سبحانه وتعالى المرأة في تكوينها العضوي والعصبي والعقلي والنفسي ما يعينها على أداء وظيفتها تلك. وكان مما زود به سبحانه وتعالى الرجل من الخصائص الخشونة والصلابة وبطء الانفعال والاستجابة واستخدام الوعي والتفكير قبل الحركة والاستجابة؛ لأن وظائفه كلها تحتاج إلى قدر من التروي قبل الإقدام، وإعمال الفكر والبطء في الاستجابة بوجه عام، وكل هذه الأمور عميقة في تكوين الرجل مثل عمق خصائص المرأة في تكوينها.
رغم كل هذا لم يترك سبحانه وتعالى هذا الإنسان لهذه الخصائص تعمل عملها، فهناك الأهواء والشهوات والعادات التي قد تحرّف الفطرة عن مسارها الصحيح، لهذا أنزل سبحانه شرعة ومنهاجا يراعيان هذه الاستعدادات الموهوبة لأداء الوظائف المنوطة بكل من الرجل والمرأة وفق هذه الاستعدادات ويراعيان العدالة في توزيع الأعباء بين الرجل والمرأة، ويراعيان العدالة في اختصاص كل منهما بنوع الأعباء المهيأ لها، وأن الله عز وجل لا يريد أن يظلم أحدا من خلقه، بل إننا نجد في شرعة الله ومن منهاج رسوله الكريم صلوات الله وسلامه عليه خصائص الرجل وخصائص المرأة، كما نجد فيهما العقوبة المترتبة على كل مخالفة لهذا التشريع الإلهي والهدي النبوي، وهذه العقوبة تشمل ثلاثة أنواع: عقوبة فطرية تكون نتيجة مخالفة هذا القانون الإلهي الذي نظم سبحانه وتعالى عليه خلقه، وعقوبة شرعية بيَّن الإسلام مقدارها، وعقوبة أخروية وهي أشد أنواع العقوبات إن لم يتب الشخص من معصيته سواء كان ذكرا أو أنثى.
ومن المهام التي كلف بها سبحانه وتعالى الرجل والمرأة لتستقيم الأسرة التي هي المؤسسة الأولى في الحياة الإنسانية، الأولى من ناحية أنها نقطة البدء التي تؤثر في كل مراحل الطريق، والأولى من ناحية الأهمية؛ لأنها تزاول إنشاء وتنشئة العنصر الإنساني وهو أكرم عناصر هذا الكون في التصور الإسلامي. إن من هذه المهام التي كلف بها هذا الإنسان هي القوامة والحافظية، فمن هو الأهل للقوامة، ومن هو الأهل للحافظية حسب استعدادات كل واحد؟
إن القاعدة العلمية تقتضي منا أن نرد الصنعة إلى الصانع، فهو الأعلم بوظيفة كل واحد، ففي سورة النساء نجد قول الحق عز وجل: الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ.
إن الخصائص ـ أيها الأحباب ـ التي أودعها الحق عز وجل في الرجل تجعله أقدر على القوامة وأفضل في مجالها، كما أن تكليفه بالإنفاق وهو فرع من توزيع الاختصاصات يجعله بدوره أولى بالقوامة؛ لأن تدبير المعاش للمؤسسة ومن فيها داخل في هذه القوامة، والإشراف على تصريف المال فيها أقرب إلى طبيعة ووظيفة الرجل فيها. إن القوامة ـ أيها الأحباب الكرام ـ لا تقتصر على النفقة وحماية الجانب الدنيوي فقط، بل تشمل حتى الأخروي، ففيها حماية المرأة من أذى الدنيا والآخرة، فالرجل مسؤول عن رعيته يربيها ويطعمها ويكسوها ويحميها ويقيها نارا وقودها الناس والحجارة بتوجيهها إلى الإيمان، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وأَهْلِيكُمْ نَارًا وقُودُهَا النَّاسُ والْحِجَارَةُ.
أيها الأحباب الكرام، إن الإسلام وهو يقرّر قوامة الرّجال على النساء في المجتمع الإسلامي لا يقرّر ذلك تبعا للأهواء، وإنما لذلك أسباب من التكوين والاستعداد، وأسباب من توزيع الوظائف والاختصاصات، وأسباب من العدالة في التوزيع من ناحية، وتكليف كل شطر في هذا التوزيع بالجانب الميسر له والذي هو مُعان عليه من الفطرة.
أما الأفضلية الواردة في الآية القرآنية المتحدثة عن القوامة والحافظية فهي في مكانها في الاستعداد للقوامة والدربة عليها والنهوض بها بأسبابها؛ لأن المؤسسة لا تسير بلا قوامة كسائر المؤسسات الأقل شأنا والأرخص سعرا من مؤسسة الأسرة؛ ولأن أحد شطري النفس البشرية والذي هو الرجل مهيأ لها ومُعان عليها، مكلف بتكاليفها، في حين أن الشطر الآخر الذي هو المرأة غير مهيأ لها ولا مُعان عليها، ومن الظلم أن يحملها ويحمل تكاليفها إلى جانب أعبائه الأخرى.
وإذا حاولنا أن نهيئ المرأة للقوامة ودربناها عليها بالتدريب العلمي والعملي فإننا سنفسد لا محالة استعدادها للقيام بالوظيفة الأخرى التي هي وظيفة الأمومة والتي لها مقتضياتها واستعداداتها، وفي مقدمتها سرعة الانفعال وقرب الاستجابة، بالإضافة إلى الاستعدادات الغائرة في التكوين العضوي والعصبي وآثارها في السلوك والاستجابة، لهذا فالوظيفة اللائقة بالمرأة في إطار التكليف الإلهي هي الحافظية.
إننا ـ أيها الأحباب الكرام ـ نريد أن نعطي نماذج للأمة في الحياة الزوجية نبين من خلالها صلاحية الدين الإسلامي وأنه هو السبيل الوحيد دون غيره لسعادة الزوجين، لهذا نصحنا الشباب ونحن نريد تأسيس مؤسسات قوية ونريد بناء مجتمع سليم طاهر من البدء أولا بتخصيص الطيبين للطيبات بدل أن نبدأ البناء على أرض هشة وذلك بعدم تزوج المرأة الصالحة الطيبة، حتى إذا ما علا البنيان بعقد النكاح وولادة الأولاد تصدعت الجدران وبدأنا في الترميم والترقيع خشية سقوطه. وكلكم ـ أيها الأحباب الكرام ـ يلاحظ أن جل بنيان أسرنا هش ومتصدع الجدران؛ لأنه لم يبن على أرض صلبة وذلك باختيار الزوجة ذات الدين والتي هي من خير متاع الدنيا بل ومن أسباب السعادة، روى الإمام مسلم رحمه الله في صحيحه أن الرسول قال: ((الدنيا متاع، وخير متاعها المرأة الصالحة؛ إذا نظرت إليها سرتك، وإذا غبت عنها حفظتك في نفسها ومالك))، وفي رواية ابن ماجة من حديث أبي أمامة أن النبي قال: ((ما استفاد المؤمن بعد تقوى الله خيرا له من زوجة صالحة، إن أمرها أطاعته، وإن نظر إليها سرته، وإن أقسم عليها أبرته، وإن غاب عنها نصحته في نفسها وماله)).
فتقوى الله زاد المؤمن إلى الآخرة، والمرأة معينة له على ذلك بطاعتها له في المعروف طاعة محبة بدون إكراه، لهذا وصفها سبحانه وتعالى في القرآن بأنها قانتة، والقنوت هو الطاعة عن إرادة وتوجه ورغبة ومحبة لا عن قسر وإرغام، تطيعه إذا أمرها بعبادة ربها والمحافظة على صلواتها وفرائضها، تطيعه إذا أمرها بعدم الخلوة بالأجانب من عائلته أو عائلتها تفاديا للوقوع في الزنا واستجابة لمن لا ينطق عن الهوى سيدنا محمد الذي قال: ((ألا لا يخلون رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما)) رواه الترمذي. وتطيعه إذا أمرها بصيانة جوارحها وخصوصا لسانها وعينيها، وكيف لا تطيعه وهو قائد السفينة، وهو الربان في وسط أمواج بحار فتن الدنيا، إذ في طاعتها له محافظة على سلامة سير السفينة؟! كما أنها تسره إذا نظر إليها فلا ينظر منها إلا جميل اللباس وأنظفه، ولا يرى منها إلا حسن المنظر، كما تسره إذا نظر إليها بحسن خلقها الذي يزيدها جمالا في الخلقة، إذ لا تبدي زينتها لغيره من الأجانب حفاظا على عدم فتنتهم، كما أنها تحافظ على سير السفينة التي يقودها الربان والذي هو الزوج بمحافظتها على ماله، فلا تضيعه ولا تبذره، كما تحفظ نفسها وعرضها.
وعلينا أن نعلم ـ أيها الأحباب الكرام ـ أن ما لا يباح مما يجب حفظه لا تقرره هي ولا يقرره هو، إنما يقرره الله سبحانه وتعالى، لهذا قال الله عز وجل في محكم كتابه: بِمَا حَفِظَ اللَّهُ، فليس الأمر أمر رضاء الزوج عن أن تبيح زوجته من نفسها في غيبته أو في حضوره ما لا يغضب هو له، أو ما يمليه عليه وعليها المجتمع، وخصوصا إذا انحرف المجتمع عن منهج الله. إن هنالك حكما واحدا في حدود هذا الحفظ فعليها أن تحفظ نفسها بِمَا حَفِظَ اللَّهُ، والتعبير القرآني لا يقول هذا بصيغة الأمر، بل بما هو أعمق وأشد توكيدا من الأمر، إنه يقول: إن هذا الحفظ بما حفظ الله هو من طبيعة الصالحات ومن مقتضى صلاحهن، وعلى الرجل القوّام في إطار القوامة أن يساعد زوجته على هذه الحافظية، فينبغي أن تكون له غيرة على زوجته في حدود المشروع، وينبغي أن لا يدخل عليها من يحرّم الإسلام، ولنا في الرسول القدوة الحسنة إذ قال لما اتهم المنافقون أم المؤمنين عائشة الصديقة الصالحة الطاهرة القانتة رضي الله عنها في حادثة الإفك، قال عليه الصلاة والسلام في دفاعه عن عائشة رضي الله عنها فيما رواه البخاري ومسلم: ((يا معشر المسلمين، من يعذرني في رجل ـ ويقصد به عبد الله بن أبي بن سلول ـ بلغني أذاه في أهلي، فوالله ما علمت في أهلي إلا خيرا، وما كان يدخل على أهلي إلا معي))، ويقصد صفوان بن المعطّل الذي اتهموه إفكا مع عائشة رضي الله عنها وبرّأها الله عز وجل.
كما على الرجل القوام ـ وهو يساعد زوجته الحافظة لحدود الله على الحافظية ـ أن لا يصف لها الرجل كأنها تراه؛ إذ يفضي بها الشوق إلى رؤية الموصوف، لهذا روى الترمذي أن الرسول قال: ((لا يصف الرجل الرجل لزوجته كأنها تراه، ولا تصف المرأة المرأة لزوجها كأنه يراها))، وعندما يكون الوصف من الزوج نفسه لزوجته تشعر المرأة بأن لها حقّ الاستمتاع بصفات الرجل الذي يصفه زوجها والاهتمام بأمره والسؤال عنه باعتبار أن المتحدّث هو الزوج، وبعد ذلك تقارن بين زوجها والرجل الموصوف.
كما ينبغي على الزوج أن لا يدخل بيتَه إلا المؤمن، ولا يأكل طعامه إلا التقي، كما قال عليه الصلاة والسلام: ((لا تُصَاحِبْ إِلاّ مُؤمِنًا، وَلا يَأْكُلْ طَعَامَكَ إِلاّ تَقِيّ)) رواه الترمذي؛ إذ المؤاكلة تقرّب بين النفوس بالطبيعة الإنسانية، لهذا لا بد أن تتوفّر التقوى التي تجعل هذا التقارب النفسي طاهرا نقيا.
كما ينبغي على الرجل أن يعرف طبيعة المرأة، وأن الله عز وجل خلق لها مزاجا يوافق دورها في البيت، ولقد وصفها الرسول بالضِلَع الأعوج، وليس في هذا الوصف من عيب إذ اعوجاجها الضلعي هو استقامتها، وهو انحناء معنوي وحنو، وهو عاطفة ورحمة.
هذا هو نظام الأسرة أيها الأحباب الكرام؛ حقوق متبادلة بين الزوجين، لهذا يجب على كل واحد أن يعرف حقه وواجباته، وأن يعرف وظيفته.
ــــــــــــــــــــ(67/299)
الشفاعة والواسطة
...
...
5080
...
الأسرة والمجتمع
...
...
قضايا المجتمع
...
سعود بن إبراهيم الشريم
...
...
مكة المكرمة
...
19/10/1427
...
...
المسجد الحرام
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- داء الترف والكسل. 2- أهمية مبدأ العدل والمساواة 3- اهتمام الإسلام بمبدأ الأحقية والكفاءة. 4- اختلال هذه المبادئ في كثير من المجتمعات المسلمة. 5- آفة الواسطة وبيان أضرارها على الفرد والمجتمع. 6- الانحراف في مفهوم الشفاعة الحسنة. 7- الفرق بين الشفاعة الحسنة والواسطة السيئة. 8- التحذير من التكسب بالشفاعات. 9- النهي من الشفاعة في حدود الله تعالى.
الخطبة الأولى
أما بعد: فإنَّ أصدقَ الحديث كلامُ الله، وخيرَ الهدي هديُ محمّد ، وشرَّ الأمور محدثاتها، وكلَّ محدثة بدعةٌ، وكلَّ بدعة ضلالة، من يُطعِ الله ورسوله فقد رشَد، ومن يعصِ الله ورسوله فإنه لا يضرُّ إلا نفسه، ولا يضرُّ الله شيئًا.
أيّها الناس، إنَّ الأدواءَ في المجتمعاتِ المسلمةِ متنوِّعة على تكاثُر، تدبُّ بين صفوفِها كدبيب النمل وهي لا تشعر، وهي أدواء تتفاوَت تفاوتًا ظاهرًا في الفتك والإضعاف. وإنَّ من بين هذه الأدواء الفتّاكة داءَ التّرف والكسل والعجز، الذي يُهلك الأفراد والأممَ ويقوِّض بينان المجتمعاتِ بعد أن يذكِيَ فيهم روحَ الأنانيةِ والاتكالية المُفرِزَين للبطالة والضيَاع، فيَعمون حينَها عن مسالك التشييدِ والبناء والجِدِّ والعمل، فضلاً عن مسالك العدل والإخاءِ والمساواة.
ثم إنَّ النِتاج الإيجابيَّ للمجتمعات المسلمة التي تَنشُد الرقيَّ والسموَّ بطاقاتها وثروَاتها مرهونٌ بمدَى تحقيقها لمبدأ العدلِ والمساواة والأولويّة للتفوُّق والامتياز وعَدمِ إهدار الفرص عن ذوي الكفاءات، ناهيكم عن الاحتكار فيها والجثُوم على ثغراتِ النهوض ببُسَطاء الأهلية على حسابِ ذوي الكفاءاتِ والمواهب الظاهرة.
وإنَّ مِن سمات المجتمع المسلم الرشيدِ الواعي انتشارَ العدل والمساواة وخفوتَ الظلم والأنانيّة والأثرة وحبّ الذات. وقد راعى الإسلام مبدَأ الأحقّيَّة والكفاءَةِ والامتياز في المجتمعِ المسلم، وقدَّم ذويها على من دونهم تقديرًا لتفوُّقهم واعترافًا بأهليّتهم، فقد جاء في الصحيحِ أنَّ النبيَّ قال: ((يؤمُّ القوم أقرَؤُهم لكتابِ الله)) الحديث رواه مسلم، وصحَّ من حديث عبد الله بن زيد في قصّة مشروعيّة الأذان أن النبيَّ قال له: ((ألقِه على بلال؛ فإنّه أندى منك صوتًا))، وقد كانَ يمتحِن الصحابةَ في القوّةِ والرمي حالَ تجهيز الجيش للغزوِ، فيقدِّم الكفءَ القويَّ، ولذلك ردَّ رافع بن خديج يومَ بدر لعدم كمال الأهلية.
إذًا فالإسلام جعَل للكفاءةِ والأهلية من المحلِّ والعناية والاعتبار ما يكفل به لكلِّ مجتمع واعِي أن يحيَا حياةَ الجدِّ والاستقرار والتوازُن في الاحتياج والإنتاج؛ ولأجل ذا فإنَّ المجتمعَ الذي يسودُه احترامُ بعضه بعضًا وتقديرُ أصحابِ الكفاءات والاعتبار بالأولويّة للأهلية وذوي الامتياز ليُعَدّ مجتمعًا متكامِلَ الرؤى متحِدَ المضامين، قد بنَى أسُسَه على شِرعةٍ من الحقّ والعدل والالتزام بالقِيَم والمُثُل المرعية.
بَيدَ أنّ في كثيرٍ من المجتمَعاتِ المسلِمة خَللاً وفُتوقًا أخلاَّ بمَوازينِ العَدلِ والمساوَاة عندها، بَل قلَّ أن تجِدَ لاعتبارِ الكفاءةِ والأهليّة محَلاًّ في ميادينِ العمَل والعِلمِ عندَها، فنشَأت في ميادينِهم آفةٌ فتَكَت بعجَلةِ التقدّمِ والنموِّ والنّهوضِ للأفضل، آفةٌ برَزَ دَورُها جليًّا في إعاقةِ عَمَليّة البناءِ والتطويرِ وتشجيعِ المواهبِ وشَحذِ الهمَم. إنها آفةُ ما يُسمّيه عوَامّ الناسِ بالوَاسطة أو الوَساطة، التي صَارَ لها في كثيرٍ مِنَ المجتمعاتِ المسلمة انتشارٌ متزايدٌ وتأثيرٌ بالِغ في مناحِي الحياةِ العلمية والعمليّة، وقد اكتَنَفَها كثيرٌ من السَّلبيّات التي انعكسَت بالضرورة على الفردِ والمجتمع، وإن كان ثَمَّ إيجابياتٌ ما فستكون إيجابياتٍ محدودةً وقاصرة في الوقت نفسه.
والواسطة ـ عبادَ الله ـ ظاهرة التبس على كثير من الناس مفهومُها، فأصبحت بارزة الخطورة؛ حيث إنها [تؤدِّي] بالمجتمع إلى تفشِّي روح الانتهازية ليصبحَ التعامل مع الفردِ بمقدارِ ما يحمِله من معرفةٍ وصِلة ومصلحةٍ شخصيّة، لا بما يحمله من كفاءةٍ وقُدرة وأولوية، وكلُّ ذلك منتجٌ للتراجعِ الإيجابيّ ومولِّدٌ للغَبن والتردُّد في العمل والأداء وحاجبٌ للابتكارِ والإبداع والتطوّر الذي ينعَكس على المصلحةِ العامّة للمجتمع بالسلب والفشل دون أدنى شكٍّ أو مماراة.
بل لقد وصلتِ الحال ببعض المجتمعاتِ إلى أن يشعرَ الفرد أنه لن يحيا حياةً متكامِلة بدون الواسطة، فلن يستطيع العملَ إلاّ بها، ولا السفرَ إلا بها، ولا الدراسةَ إلا بها، ولاَ التجارةَ إلاّ بها، ولا العلاجَ إلا بها، ولا تخليصَ الأعمالِ إلا بها.
وإنَّ مما يزيد الأمرَ عِلّةً والطين بِلّة أن يراها البعض من الناس ببسَب تفشِّيها مبرِّرًا للّجوء إليها وممارستها في كلِّ نواحي الحياة كيفَما اتَّفق، في حِينِ إنَّ حقيقتَها حالةٌ منَ الإفلاسِ تعترِي أصحابَها، كما أنَّ الظّروفَ الاجتماعيّةَ ليست مبرِّرًا للّجوء إلى الواسطة التي [تُؤدِّي] بصاحبها إلى هضمِ حقوق الغير وحرمانهم ممّا هم أهلٌ له قبلَه.
وإنَّ مما لا شكَّ فيه أن تفشيَ مثلِ تِلكم الآفة في مجتمعٍ مَا لن يدعَ لها في نهوضِها حَلاًّ ولا عَقدًا ولا أثَرًا لكفَاءاتها في منافعها العامّة، وإنما تكون خاضعةً للمصالح الشخصيّة والعلاقات المنفعيّة؛ ليجلبَ المجتمع على نفسه غائلةَ الفاقةِ والتخلّف، ويذكيَ في أوساطه شررَ الحسد والتباغض والتغابن، وقَلبِ المعايير علَى مَبدأ المصالح الشخصيّة لا على مبدأ الصالح العام والقبول للأصلح.
وإذا كانتِ الواسطة هي مساعدةَ الغير في تحقيقِ رغبته نحوَ أمر مخصوص فإنّنا لا نقصد بذلكم ـ عبادَ الله ـ الشفاعةَ التي عدَّها الإسلام مبدأً إيجابيًّا يقوم على أساس الإرفاق بالغير ونفعِه عند الاستطاعة تحت قاعدةِ التعاون على البرّ والتقوى والسعي في قضاء حوائجِ الناس ومصالحهم عملاً بقوله تعالى: مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا [النساء:85]، وبقولِه : ((اشفَعوا تؤجَروا، ويقضي الله على لسانِ رسولِه ما يشاء)) رواه البخاري ومسلم.
غيرَ أنَّ كثيرًا من الناس قد توسَّعوا في استعمالِ هذا المبدأ وأَساؤوا فهمه، فأقحموه في غيرِ ما وضِعَ له حتى أصبحَ ظاهرة كثيرةَ التفشّي في المجتمعات المسلمة على نحو ما ذكرنا لكم آنفًا، فتحوَّل الأمر من كونِه محَلاً للإرفاقِ إلى كونه محلاًّ للمُضارَّة، والمضارّةُ لم تأتِ في كتاب الله إلا مذمومةً مَرفوضَة، كقوله تعالى: لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ [البقرة:233]، وكقوله تعالى: وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ [البقرة:282]، وكقوله: وَلا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ [الطلاق:6]، وفي الحديث الحسن الذي رواه أحمد والدّارقطني وابن ماجه وغيرهم أنَّ النبيَّ قال: ((لا ضررَ ولا ضرار)).
بارك الله لي ولكم في القرآن والسنّة، ونفعني وإياكم بما فيهما من الآيات والذّكر والحكمة، قد قلت ما قلت، إن صوابًا فمن الله، وإن خطأً فمن نفسي والشيطان، وأستغفر الله إنه كان غفارًا.
الخطبة الثانية
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
وبعد: فيا أيّها الناس، إنَّ من سوءِ استعمالات الشفاعة أو الواسطة لدى كثيرٍ من الناس أن جعلوها نوعًا من الفُتُوّة ونزعِ المرادِ بِقوّة المعرفةِ أو المصحلة المتبادَلَة أو الكذِب أحيانًا، بقطع النظر عن استحقاق المشفوعِ له أو لا، أو أولويّتِه بهذه الشفاعة أو لا، وبقطعِ النظر أيضًا عن الأمر المشفوعِ فيه أهو حقٌّ للغير أو لمن هو أولى وأميز أم لا.
بل بلَغ الانحراف في هذا المفهوم مبلغًا جعلَ فيه صاحبَ العدل والإنصاف والحرص على حقوقِ الآخرين وأولويّاتهم متشدِّدًا نشازًا، بخيلَ الجاه عاريَ النفعِ والبذل، وهذا ـ لعَمرُ الله ـ هو الفسادُ في الفهم والسوء في الظن والتفكير بعقلِ المصلحة الشخصيّة لا بمنطق العدل والإنصاف والمساواة.
ولذلك لم تُترَك هذه المسألة في شريعتِنا الغراء سبهلَلا دونَما تبيينٍ وتوضيح؛ ليكونَ الناس في ذلكم على بيّنة ووعيٍ تام بمرادِها ومآلاتها ومقاصدها، فجعل أهلُ العلم للواسطة أو الشفاعة وجهين اثنَين:
الأول منهما: الوجه المحمود، وهو ما كان لوجه الله تعالى، وكان من باب الإرفاق، ولم يكن فيه حرمانُ من هو أولى وأحقّ من جهة الكفاءة التي تتعلّق بها القدرة على تحمّل الأعباء أو النهوض بأعمال الأمر المشفوعِ فيه على أحسنِ وجه، فهذه شفاعة محمودةٌ حضَّ عليها الشارع الحكيم كما في قوله تعالى: مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا [النساء:85]، وكما في قولِه : ((اشفَعوا تؤجَروا))، وقوله : ((والله في عونِ العبد ما كان العبد في عون أخيه)) رواه مسلم.
وأمّا الوجهُ الثاني: فهو الوجهُ المذموم، وهو ما كان فيه تعدٍّ أو حِرمانٌ لمن هو أحقّ بذلك، فهي هنا محرَّمة لأنها بغيرِ حَقّ، إِضافةً إلى أن فيهَا ظُلمًا لأولي الأمرِ وذلك بحرمانهم مِن عملِ الأكفاءِ، واعتداءً على المجتَمع بحرمانه ممن ينجِز أعمالهم على أحسن وجه، وطمسًا لمعالم التفوُّق والإنجاز، وإهدارًا للمواهِبِ والقدرات التي ينشدُها كلُّ مجتمع سويّ، والله جلّ وعلا يقول: وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا [النساء:85].
وممّا ينبغ التأكيد على بيانِه والحذر منه في هذا الباب استغلالُ مبدأ الشفاعة في الحصول على مكاسبَ ماليةٍ أو نحو ذلك، مما يحيل مبدأ الشافعةِ أو الواسطة عن مقصودِها وهو الإرفاق وقضاءُ حاجات الآخرين إلى المعاوضاتِ وتبادل المنافع بها، فقد جاء من حديثِ أبي أمامةَ أن النبيَّ قال: ((من شفَع لأخيه شفاعةً فأهدَى له هديّة عليها فقبلها منه فقد أتى بابًا عظيمًا من أبواب الربا)) رواه أحمد وأبو داودَ وهو حديثٌ حسن.
وسبب ذلكم ـ عباد الله ـ أنَّ أخذَ الهدية على الشفاعة فيه نوع معاوضة، والمعاوضات في الشفاعاتِ قد توصِل إلى الشافعات الباطلة التي فيها هَضمٌ لحقوق الآخرين أو وقوعٌ في باطلٍ ما، فتتَطلَّع النفوسُ للشفاعةِ أو الواسِطة من أجل الحصولِ على عِوض أو عَرض دنيوي.
أما الشفاعة في حدود الله ـ عباد الله ـ فذلك أمرٌ قد حسَمه النبيّ بقوله لأسامة بن زيد رضي الله تعالى عنهما حينمَا كلَّمه في أمر المخزوميّة التي سرقت: ((أتشفع في حد من حدود الله؟!)) فقال أسامة: استغفر لي يا رسول الله، الحديث. رواه البخاري ومسلم.
هذا وصلّوا ـ رحمكم الله ـ على خير البريّة وأزكى البشرية محمّد بن عبد الله...
ــــــــــــــــــــ(67/300)
البلاء يشن
...
...
5082
...
الأسرة والمجتمع, العلم والدعوة والجهاد, موضوعات عامة
...
...
الأبناء, الإعلام, التربية والتزكية, الترفيه والرياضة, قضايا المجتمع
...
عبد الله بن محمد البصري
...
...
القويعية
...
3/11/1427
...
...
جامع الرويضة الجنوبي
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- نعمة الإسلام والإيمان. 2- حسد أعداء الإسلام للمسلمين. 3- حرب الأعداء وبغضهم للإسلام والمسلمين. 4- انتشار لعبة خطيرة من لعب البلاي ستيشن. 5- واجبنا تجاه هذا الأمر. 6- مفاسد القنوات الفضائية وأجهزة اللهو. 7- وجوب العناية بالأولاد وصيانتهم. 8- الغزو الفكري.
الخطبة الأولى
أَمَّا بَعدُ: فَأُوصِيكُم ـ أَيُّها النَّاسُ ـ ونَفسِي بِتَقوَى اللهِ عز وجل، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤتِكُم كِفلَينِ مِن رَحمَتِهِ وَيَجعَلْ لَكُم نُورًا تَمشُونَ بِهِ وَيَغفِرْ لَكُم وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ لِئَلاَّ يَعلَمَ أَهلُ الكِتَابِ أَلاَّ يَقدِرُونَ عَلَى شَيءٍ مِن فَضلِ اللهِ وَأَنَّ الفَضلَ بِيَدِ اللهِ يُؤتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الفَضلِ العَظِيمِ.
أَيُّهَا المُسلِمُونَ، نِعمَةُ الإِسلامِ أَجَلُّ نِعمَةٍ، وَمِنَّةُ إِرسَالِ محمدٍ أَعظَمُ مِنَّةٍ، وَلَو جُمِعَت كُلُّ نِعَمِ الدُّنيا في كِفَّةٍ وَنِعمَةُ الإِسلامِ في أُخرَى لَمَالَت كِفَّةُ الإِسلامِ وَلَرَجَحَت، ذَلِكَ أَنَّ الدُّنيا كُلَّهَا فَانِيَةٌ وَجميعَ نِعَمِهَا زَائِلَةٌ، أَمَّا نِعمَةُ الدِّينِ وَالإِيمانِ فَمُمتَدَّةٌ مَعَ صَاحِبِها مَا تمسَّكَ بها، وَأَثَرُهَا مُتَّصِلٌ بِدَارِ الآخِرَةِ دَارِ النَّعِيمِ المُقِيمِ، وَمَا الحَيَاةُ الدُّنيَا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهوٌ وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعقِلُونَ؛ وَلِهَذَا يُقَرِّرُ اللهُ جل وعلا تمامَ نِعمَتِهِ على عِبَادِهِ بِإِكمَالِ الدِّينِ وَرِضَاهُ الإِسلامَ لهم دِينًا، وَيَمتنُّ عَلَيهِم بِبِعثَةِ محمدٍ خَيرِ الأَنَامِ نَبِيًّا رَسُولاً، قال سبحانَه: اليَومَ أَكمَلْتُ لَكُم دِينَكُم وَأَتمَمْتُ عَلَيكُم نِعمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسلاَمَ دِينًا، وقال جَلَّ ذِكرُهُ: لَقَد مَنَّ اللهُ عَلَى المُؤمِنِينَ إِذ بَعَثَ فِيهِم رَسُولاً مِن أَنفُسِهِم يَتلُو عَلَيهِم آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِم وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالحِكمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ. وَإِذَا كَانَ الأَعدَاءُ مِنَ اليَهودِ وَالنَّصارَى وَالمُشرِكِينَ وَالمُنَافِقِيَن يحسدُونَنَا عَلى كُلِّ شَيءٍ ممَّا أَنعَمَ اللهُ بِهِ عَلَينَا، فَإِنهم لا يحسدُونَنَا عَلَى شَيءٍ مِثلِ تَمَسُّكِنَا بهذا الدِّينِ وَتَشَبُّثِنَا بِالعُروَةِ الوُثقَى، وَمَا ذَلِكَ إِلاَّ لأَنَّ هذا الدِّينَ القَوِيمَ جَعَلَ مِنَّا نحنُ المُسلِمِينَ قُوَّةً عَظِيمَةً عَظِيمَةً، رُوحُها وَلُبُّها الإِسلامُ، وَوَقُودُها وَمُشعِلُها العَقِيدَةُ، وَبَاعِثُها وَمُحَرِّكُها ابتِغَاءُ الأَجرِ وَالثَّوَابِ، وَحَادِيهَا الأَمَلُ في دُخُولِ الجَنَّةِ وَبُلُوغُ النَّعِيمِ المُقِيمِ. نَعَم أَيُّهَا الإِخوَةُ، لَقَد أَثبَتَ التَّأرِيخُ لهؤلاءِ وَغَيرِهِم أَنَّ المُسلِمِينَ مَهمَا تمسَّكُوا بِدِينِهِم وَعَضُّوا عَلَى عَقِيدتِهِم بِالنَّوَاجِذِ فَإِنهم قُوَّةٌ عَجِيبَةٌ عَجِيبَةٌ، لا تُقَاسُ بِمَقَايِيسِ البَشَرِ، وَلا تُوزَنُ بِمَوَازِينِ القُوَى، قُوَّةٌ لا تُهزَمُ بِكَثرَةِ عَدَدٍ وَلا تُقهَرُ بِاكتِمَالِ عُدَّةِ، وَلا يَقِفُ أَحَدٌ مَهمَا بَلَغَ في وَجهِها ولا يَستَطِيعُ إِيقَافَ مَدِّهَا.
وَمِن هُنَا فَإِنَّ هؤلاءِ الأَعدَاءَ لم تُتَحْ لهم فُرصَةٌ لِلنَّيلِ مِن هَذَا الدِّينِ إِلاَّ اغتَنَمُوها، ولا وَجَدُوا فُرجَةً لإِضعافِهِ إِلاَّ وَلَجُوهَا، وَلَن يَكسَلُوا وَلَن يَتَوَانَوا عَن حَربِ هَذَا الدِّينِ بِكُلِّ وَسِيلَةٍ وَالكَيدِ لَهُ بِكُلِّ أُسلُوبٍ، غَزوًا وَقِتَالاً، وَحَربًا فِكرِيَّةً وَتَضيِيقًا اقتِصَادِيًّا، وَشِرَاءً لِلعُقُولِ وَاستِمَالَةً لِلقُلُوبِ، وَقَصدًا لِلكِبَارِ وَالصِّغَارِ، وَعَمدًا لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، قال تعالى: وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُم حَتَّىَ يَرُدُّوكُم عَن دِينِكُم إِنِ استَطَاعُوا. نَعَمْ أَيُّها الأَحِبَّةُ، لا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَنَا لِيَصُدُّونَا عَن الدِّينِ الحَقِّ، وَلَن يَرضَوا دُونَ كُفرِنا وَاتِّبَاعِنا مِلَّتَهُم شَيئًا، قال جل وعلا: وَلَن تَرضَى عَنكَ اليَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُم.
وَلَقَد تَكَاثَرَتِ الآيَاتُ البَيِّنَاتُ وَتَظَاهَرَتِ النُّصُوصُ الوَاضِحَاتُ على ما تُخفِي صُدُورُ هَؤُلاءِ وَمَا تَحمِلُهُ قُلُوبُهُم مِن حَسَدٍ لَنَا وَغَيظٍ عَلَينَا وَابتِغَاءِ البَلاءِ لَنَا وَالفَسَادِ في مُجتَمَعَاتِنَا، قال سُبحانَهُ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوَا إِن تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعدَ إِيمَانِكُم كَافِرِينَ، وقال تعالى: وَدَّ كَثِيرٌ مِن أَهلِ الكِتَابِ لَو يَرُدُّونَكُم مِن بَعدِ إِيمَانِكُم كُفَّارًا حَسَدًا مِن عِندِ أَنفُسِهِم مِن بَعدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الحَقُّ، وقال جل وعلا: مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن أَهلِ الكِتَابِ وَلاَ المُشرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيكُم مِن خَيرٍ مِن رَبِّكُم، وقال جَلَّ ذِكرُهُ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِن دُونِكُم لاَ يَألُونَكُم خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّم قَد بَدَتِ البَغضَاء مِن أَفوَاهِهِم وَمَا تُخفِي صُدُورُهُم أَكبَرُ قَد بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُم تَعقِلُونَ، وقال تعالى: إِن يَثقَفُوكُم يَكُونُوا لَكُم أَعدَاء وَيَبسُطُوا إِلَيكُم أَيدِيَهُم وَأَلسِنَتَهُم بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَو تَكفُرُونَ، وقال سُبحانَهُ: فَمَا لَكُم في المُنَافِقِينَ فِئَتَينِ وَاللهُ أَركَسَهُم بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَن تَهدُوا مَن أَضَلَّ اللهُ وَمَن يُضلِلِ اللهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً وَدُّوا لَو تَكفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً.
وَلَكِنَّ هَؤُلاءِ المَخذُولِينَ مَهمَا يَفعَلُوا وَيُدَبِّرُوا وَيُخَطِّطُوا فَإِنَّ كَيدَهُم مُنتَهٍ بِالخَسَارِ، وَتَخطِيطَهُم آيِلٌ إِلى تَبَارٍ، إِلاَّ أَنَّ ذَلِكَ مَشرُوطٌ بِشَرطَينِ عَظِيمَينِ لا بُدَّ مِن تَحقِيقِهِما، قال رَبُّنَا سُبحَانَهُ: إِن تَمسَسْكُم حَسَنَةٌ تَسُؤْهُم وَإِن تُصِبْكُم سَيِّئَةٌ يَفرَحُوا بِهَا وَإِن تَصبِرُوا وَتَتَّقُوا لاَ يَضُرُّكُم كَيدُهُم شَيئًا إِنَّ اللهَ بِمَا يَعمَلُونَ مُحِيطٌ، فَصَبرٌ مِنَّا على مَكرِ هَؤُلاءِ وَتَقَوَى للهِ وَإِيمانٌ بِمَوعُودِهِ كَفِيلانِ بِإِذنِ اللهِ بِأَن لاَّ يَضُرَّنَا كَيدُهُم شَيئًا.
أَيُّهَا المُسلِمُونَ، نُشِرَ في إِحدَى صُحُفِنَا الجُمُعَةَ المَاضِيَةَ خَبرٌ مَفَادُهُ أَنَّهُ انتَشَرَت مُؤَخَّرًا لُعبَةٌ عَلَى الأَجهِزَةِ المُسَمَّاةِ بِالـ" بلاي ستيشن " تَدعُو إِلى تَطهِيرِ المُدُنِ مِنَ الإِرهَابِيِّينَ وَالمُلتَحِينَ وَالمَشَايَخِ وَعُلَمَاءِ الدِّينِ، وَتُجبِرُ هَذِهِ اللُّعبَةُ لاعبِيهَا عَلى فِعلِ ذَلِكَ لِلاستِمرَارِ في التَّقَدُّمِ مِن مَرحَلَةٍ إِلى أُخرَى وَتحقِيقِ الفَوزِ وَالنَّصرِ، بِرَميِ القَذَائِفِ عَلَى المَسَاجِدِ وَتَمزِيقِ القُرآنِ وَتَنثِيرِهِ، وَفي أَثنَاءِ قَصفِ المَسَاجِدِ تُوجَدُ أَصوَاتٌ لِلأَذَانِ وَتَكبِيرٌ وَتهلِيلٌ، تَتَلاشَى وَتَضعُفُ كُلَّمَا رَمَى اللاَّعِبُ المَسَاجِدَ وَاقتَحَمَهَا وَمَزَّقَ كِتَابَ اللهِ وَقَتَلَ جمِيعَ المُسلِمِين الذِينَ يَظهَرُونَ عَلَى شَخصِيَّةِ رِجَالٍ مُلتَحِينَ، وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُسَجِّلَ نُقَاطًا أَكبرَ فَعَلَيهِ تَدمِيرُ مَسَاجِدَ أَكثَرَ وَقَتلُ مُلتَحِينَ، كَمَا يَجِبُ أَن لاَّ يمنَعَهُ صَوتُ الأَذَانِ أَو دُخُولُ خَصمِهِ المَسجِدَ مِن مُلاحَقَتِهِ وَقَتلِهِ دَاخِلَ المَسجِدِ لِيُحَصِّلَ نُقَاطًا أَعلَى.
هَذَا مُلَخَّصُ الخَبرِ، وَلا نَدرِي ـ عِبَادَ اللهِ ـ أَنَعجَبُ أَم نَبكِي؟! أَمَّا العَجَبُ فَمِن غَفلَتِنَا نحنُ الآبَاءَ وَالأَولِيَاءَ وَالمُرَبِّينَ، إِذ نمنَحُ الثِّقَةَ المُطلَقَةَ لِعَدُوِّنَا لِيَصنَعَ أَلعَابَ أَبنَائِنَا، وَأَمَّا المُبكِي فَحَالُ الرَّقَابَةِ الرَّسمِيَّةِ لَدِينَا، إِذْ كَيفَ تَسمَحُ لِمِثلِ هَذِهِ الحَربِ الصَّرِيحَةِ أَن تُبَاعَ في أَسواقِنَا وَعَلَى فَلَذَاتِ أَكبَادِنَا؟! أَيُّ تَشوِيهٍ لِدِينِ الإِسلامِ هَذَا؟! وَأَيُّ حَربٍ لِلتَّسَامُحِ هَذِهِ؟! بَل وَأَيُّ مَسحٍ لِكَرَامَةِ الدِّينِ وَهَدمٍ لِعَقِيدَةِ المُسلِمِينَ يُرِيدُهُ هَؤُلاءِ؟! وَأَيَّ إِرهَابٍ يَصنَعُهُ أُولَئِكَ الحُسَّادُ؟! وَأَيَّ عَدَاءِ يَدعَونَ إِلَيهَ؟!
وقَبلَ أَن نُطَالِبَ الجِهَاتِ الرَّسمِيَّةَ بِمَنعِ دُخُولِ مِثلِ هَذِهِ الأَلعَابِ التي مِن شَأنِهَا أَن تُفسِدَ عَقَائِدَ أَطفَالِنَا وَتَهدِمَ أَخلاقَهُم، وَقَبلَ أَن نُفَكِّرَ في رَدٍّ مُنَاسِبٍ عَلى الشَّرِكَةِ المُصَنِّعَةِ لِهَذِهِ اللُّعبَةِ أَو نُدَبِّرَ أَمرَ مُقَاطَعَتِهَا، فَإِنَّنَا نَقُولُ: إِنَّ هَذَا الإِجرَاءَ المَهِينَ وَالغَزوَ الخَبِيثَ جُزءٌ مِن الحَربِ الصَّلِيبِيَّةِ المُوَجَّهَةِ ضِدَّ الإِسلامِ، وَالتي لا يَشُكُّ عَاقِلٌ في أَنَّ الأَعدَاءَ يُعَبِّئُونَ لها لَيلَ نَهَارَ، وَيَبذُلُونَ في سَبِيلِها الغَاليَ وَالنَّفِيسَ، وَيُعِدُّونَ لها الخِطَطَ العَسكَرِيَّةَ القَرِيبَةَ المَدَى وَالبَعِيدَةَ، وَيُقِيمُونَ مِن أَجلِها على مجتمعاتِنَا الدِّرَاسَاتِ النَّفسِيَّةَ وَالفِكرِيَّةَ وَالاقتِصَادِيَّةَ وَالاجتِمَاعِيَّةَ، فَنَسأَلُ اللهَ أَن يُبطِلَ كَيدَهُم وَيَجعَلَ تَدبِيرَهُم تَدمِيرًا عَلَيهِم.
في الخَبرِ الذي أَشَرتُ إِلَيهِ وَنَقَلتُ مُلَخَّصَهُ آنِفًا طَالَبَ مُواطِنُونَ الجِهَةَ المَسؤُولَةَ بِمَنعِ دُخُولِ هَذِهِ الأَلعَابِ، وَرَأَى آخَرُونَ أَنَّ عَلَينَا أَنَّ نُوَاجِهَ الإِعلامَ الغَربيَّ الذي صَوَّرَ لِلعَالمِ أَنَّ الإِسلامَ دِينٌ إِرهَابيٌّ بِأُسلُوبِ الحِكمَةِ، مِثلِ تَبنِّي أَلعَابٍ مُمَاثِلَةٍ تُبَيِّنُ الوَجهَ الحَقِيقِيَّ لِدِينِنَا الإِسلامِيِّ بِتَعَالِيمِهِ السَّمحَةِ، وَاكتَفَى بَعضٌ بِإِبدَاءِ حَنَقِهِ وَغَيظِهِ مِن هَذِهِ الأَلعَابِ، وَأَشَارَ بَعضٌ إِلى مَا يَعتَرِيهِ مِن غُصَّةٍ وَهُوَ يَرَى الأُمَّةَ الإِسلامِيَّةَ تَرَى وَتَسمَعُ وَلَكِنْ لا تَتَكَلَّمُ، أَمَّا أَنَا فَأَقُولُ:
يَا عِبَادَ اللهِ، وَيَا أُمَّةَ الإِسلامِ، قَبلَ أَن نُطَالِبَ الآخَرِينَ بِعَمَلِ شَيءٍ أَو تَبَنِّي رَدِّ فِعلِ مُعَيَّنٍ فَإِنَّ عَلَينَا أَنْ نَسأَلَ أَنفُسَنَا بِصِدقٍ وَصَرَاحَةٍ: مَاذَا عَمِلنَا نحنُ وَمَاذَا نحنُ فَاعِلُونَ؟! وَإِلى متى سَنَظَلُّ سُوقًا يُرَوِّجُ فِيهَا أُولَئِكَ الكَفَرَةُ ما يُنتِجُونَهُ مِن أَلعَابٍ مُوَجِّهَةٍ وَأَفلامٍ مُدَمِّرَةٍ وَغَزوٍ فِكرِيٍّ مَدرُوسٍ؟! بَلْ إِلى متى سَنَظَلُّ نَسمَحُ لأَجهِزَةِ الفَسَادِ أَن تَختَرِقَ الحُجُبَ في بُيُوتِنَا، فَتَقتُلَ كُلَّ مَا يَمُتُّ لِلدِّينِ وَالخَيرِ بِصِلَةٍ، تَهُزُّ عَقَائِدَنَا، وَتُزَعزِعُ إِيمَانَنَا، وَتُمِيتُ غَيرَتَنَا، وَتَئِدُ مِن قُلُوبِ نِسَائِنَا وَبَنَاتِنَا الحَيَاءَ وَالفَضِيلَةَ، وَتَبني في نُفُوسِهِنَّ الوَقَاحَةَ وَالرَّذِيلَةَ؟! إِلى متى يَظَلُّ أَحَدُنَا مُنَفِّذًا لِخِطَطِ أَعدَاءِ اللهِ وَأَذنَابِهم مِنَ المُنَافِقِينَ شَعُرَ أَو لم يَشعُرْ؟! أَوَكُلَّمَا جَاءَ هَؤُلاءِ بِفِتنَةٍ بَذَرنَاهَا في بُيُوتِنَا؟! أَوَكُلَّمَا أَشعَلُوا نَارًا لِحَربِ الدِّينِ وَالفَضِيلَةِ وَالأَخلاقِ تَكَفَّلنَا بِإِيقَادِهَا وَجَعَلنَا أَهلِينَا وَأَولادَنَا حَطَبًا لها؟! أَيَحفِرُونَ لَنَا الحُفَرَ المُظلِمَةَ فَنَقَعَ فِيهَا؟! أَيَسُوقُونَنَا إِلى المُستَنقَعَاتِ الآسِنَةِ فَنَنسَاقَ وَرَاءَهُم؟! عَجَبًا وَاللهِ ثم عَجَبًا عَجَبًا، نَعرِفُ الخَيرَ وَأَهلَهُ وَأَمَاكِنَهُ وَأَجهِزَتَهُ وَأَدَوَاتِهِ ثم نُعرِضُ عَنهُ وَعَنهُم وَعَنهَا، وَنَتَيَقَّنُ بِالبَاطِلِ وَأَهلِهِ وَتُبَيَّنُ لَنَا خِطَطَهُم وَيَظهَرُ لَنَا بَعضُ مَا يُبطِنُونَ ثم نَثِقَ فِيهِم وَنُسلِّمَهُم زِمَامَ أَنفُسِنَا وَعُقُولَ أَهلِينَا وَأَفئِدَةَ أَبنَائِنَا، وَنُدخِلَ أَجهِزَتَهُم بُيُوتَنَا، وَنُسقِطَ مَن تحتَ أَيدِينَا في حَمأَةِ فَسَادِهِم وَمُستَنقَعَاتِ بَاطِلِهِم!
حَدِّثُوني بِاللهِ عَلَيكُم عِبادَ اللهِ: كَم نِسبَةُ البُيُوتِ التي سَلِمَت مِن قَنَوَاتِ اللَّهوِ وَالبَاطِلِ؟! كَم عَدَدُ الذينَ مَا زَالُوا إِلى الآنَ لم يَرفَعُوا أَطبَاقَ الشَّرِّ فَوقَ أَسطُحِ مَنَازِلِهِم؟! إِنهم يُعَدُّونَ عَلَى الأَصَابِعِ وَلا حَولَ وَلا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللهِ العَلِيِّ العَظِيمِ، أَمَّا مَا يُسمَّى بِالبلاَي ستيشن، فَبَلاءٌ يُشَنُّ، بَلْ حَربٌ تُشَنُّ، وَدَعوَةٌ إِلى الضَّيَاعِ وَالعُهرِ وَالكُفرِ، كَانَت في بِدَايَاتِها قتلاً لِلوَقتِ وَتَضيِيعًا لأَعمَارِ أَطفَالِنَا فِيمَا لا فَائِدَةَ مِنهُ وَلا نَفعَ وَرَاءَهُ، وَتَعوِيدًا لهم على السَّهَرِ الطَّوِيلِ وَتَركِ الصَّلَوَاتِ وَهَجرِ المَسَاجِدِ وَالجَمَاعَاتِ، ثم لمَّا وَجَدُونَا غَافِلِينَ مُتَسَاهِلِينَ لم يَزَالُوا بها حتى أَدخَلُوا فِيهَا صُوَرًا لِعَارِيَاتٍ وَمَقَاطِعَ لِمُومِسَاتٍ تُؤَجِّجُ الغَرَائِزَ وَتُثِيرُ الشَّهَوَاتِ، وَضَمَّنُوهَا أَفعَالاً مَشِينَاتٍ وَتَصَرُّفَاتٍ طَائِشَاتٍ، تُعَلِّمُ أَطفَالَنَا التَّمَرُّدَ عَلَى الأَنظِمَةِ المُقَرَّرَةِ وَالآدَابِ المُتَّبَعَةِ، وَتُغَذِّيهِم بِالحِقدِ عَلَى رِجَالِ الأَمنِ وَالانتِقَامِ مِنهُم، حتى إِذَا وَثِقُوا مِن بَلادَتِنَا وَتَأَكَّدُوا مِن مَوتِ غَيرتِنَا جَعَلُوهَا تَعلِيمًا لِحَربِ الإِسلامِ، جَعَلُوهَا تَغذِيَةً لِكُرهِ الإِسلامِ، جَعَلُوهَا جُرعَةً لِلنَّيلِ مِن مَعَاقِلِ الإِسلامِ، جَعَلُوهَا تَحرِيضًا على رِجَالِ الإِسلامِ، يُعَلِّمُونَ أَطفَالَنَا حَربَ الدُّعَاةِ وَالمُلتَحِينَ، وَيَغرِسُونَ فِيهِمُ الاستِهَانَةَ بِالمَسَاجِدِ وَالمَصَاحِفِ، وَيَزرَعُونَ في عُقُولِهِم أَنها مَعَاقِلُ وَمَصَادِرُ لِلإِرهَابِ، يُوحُونَ لأَبنَائِنَا أَنَّ الانتِصَارَ هُوَ قَتلُ المُلتَحِينَ وَمُطَارَدَةُ أَهلِ الدِّينِ، وَأَنَّ الفَوزَ وَالظَّفَرَ هَدم المَسَاجِدِ وَإِخفَاتُ أَصوَاتِ المُؤَذِّنِينَ.
أَوَبَعدَ هَذَا يَشُكُّ عَاقِلٌ في حَسَدِ هَؤُلاءِ الكَفَرَةِ الفَجَرَةِ لَنَا وَحِقدِهِم عَلَينَا؟! أَوَبَعدَ هَذَا يُكَذِّبُ مُبصِرٌ بِبُغضِهِم لِلسَّلامِ وَحُبِّهِم لِلإِرهَابِ وَرَغبتِهِم في التَّدمِيرِ وَابتِغَائِهُمُ التَّخرِيبَ؟! إِنَّ المَاضِيَ الغَابِرَ وَالوَاقِعَ الحَاضِرَ لَيَشهَدُ بِعَدَاوَةِ الكُفَّارِ وَالمُشرِكِينَ وَحَسَدِ اليَهُودِ المُغتَصِبِينَ وَحِقدِ النَّصَارَى الصَّلِيبِيِّينَ، الحُرُوبُ الصَّلِيبِيَّةُ تَشهَدُ، وَالاستِعمَارُ الهَدَّامُ يُصَدِّقُ، وَاحتِلالُ المَسجِدِ الأَقصَى يُؤَيِّدُ، وَمَا يَحدُثُ الآنَ في العِرَاقِ وَأَفغَانِستَانَ وَالشِّيشَانِ وَغَيرِها مِن بِلادِ الإِسلامِ يُوَضِّحُ أَنْ لا سَلامَ يُرجَى مِن عُدُوٍّ كَاشِحٍ، وَلا نَقُولُ إِلاَّ حَسبُنا اللهُ وَنِعمَ الوَكِيلُ. تُغزَى أَفكَارُ أَبنَائِنَا في عُقرِ دِيَارِنَا، وَيُحَارَبُ دِينُنَا بِأَموَالِنَا، وَتُهدَمُ أَسوَارُنَا بِسَوَاعِدِنَا، وتُخرَبُ بُيُوتُنَا بِأَيدِينَا، فَاللَّهُمَّ إِنَّا نَشكُو إِلَيكَ ضَعفَ قُوَّتِنَا وَقِلَّةَ حِيلَتِنَا وَهَوَانَنَا على النَّاسِ.
أَيُّها المُسلِمُونَ، إِنَّ شَرَّ هَذِهِ الأَجهِزَةِ لم يَعُدْ خَافِيًا فَيُدفَنَ، وَلا ضَرَرُ هَذِهِ القَنَوَاتِ بِسِرٍّ فَيُكتَمَ، زَعزَعَتِ العَقَائِدَ وَأَفسَدَتِ التَّصَوُّرَاتِ، وَأَضعَفَتِ الدِّينَ وَقَضَت عَلَى المُرُوءَاتِ، وَأَفقَدَت كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ حَسَنَ السَّجَايَا وَكَرِيمَ الصِّفَاتِ، عَلَّمَت مُشَاهِدِيهَا المِرَاءَ بِالبَاطِلِ، وَعَوَّدَتهمُ الجَدَلَ العَقِيمَ لِرَدِّ الحَقِّ، وَجَرَّأَتهم على العُلَمَاءِ وَالوُلاةِ وَالمُرَبِّينَ، وَكَم نَسمَعُ وَنَقرَأُ في كُلِّ يَومٍ مِنَ القصصِ المُبكِيَةِ وَالمَوَاقِفِ المُحزِنَةِ التي سَبَّبَتهَا هَذِهِ القَنَوَاتُ، فَهَذَا أَبٌ وَقَعَ على ابنتِهِ، وَهَذَا وَلَدٌ زَنى بِأُمِّهِ، وَذَاكَ شَابٌّ مَارَسَ الجِنسَ معَ أُختِهِ، وَهَؤُلاءِ أَطفَالٌ يَفعَلُونَ الفَاحِشَةَ وَهُم في سِنٍّ لم يَبلُغُوا فِيهِ شَهوَةً، وَهُنَا شَبَابٌ يُمَارِسُونَ السَّرِقَةَ بِطُرُقٍ مُلتَوِيَةٍ لا تَخطُرُ على بَالٍ، وَآخَرُونَ يَقُودُونَ سَيَّارَاتِهِم بِسُرعَةٍ جُنُونِيَّةٍ وَتَهَوُّرٍ عَجِيبٍ، وَيَعتَدُونَ عَلى رِجَالِ الأَمنِ وَيَتَخَلَّصُونَ مِن مُطَارَدَاتِهِم بِطُرُقٍ احتِرَافِيَّةٍ، وَكُلُّهَا نَتَائِجُ وَاقِعِيَّةٌ وَتَطبِيقَاتٌ عَمَلِيَّةٌ لِمَا رَأَوهُ وَيَرونَهُ في هَذِهِ القَنَوَاتِ وَمَا يُمَارِسُونَهُ في تِلكَ الأَجهِزَةِ، فَلِمَاذَا ـ يَا أُمَّةَ الإِسلامِ ـ نَترُكُ هَذِهِ القَنَوَاتِ الهَابِطَةَ وَتِلكَ الأَجهِزَةَ المُدَمِّرَةَ تُرَبِّي أَبنَاءَنَا وَبَنَاتَنَا؟! هَل عَجَزنَا نحنُ عَن تَربِيَتِهِم، أَم أَنَّنَا رَاضُونَ بِهَذِهِ التَّربِيَةِ الغَربِيَّةِ البَهِيمِيَّةِ الحَيَوَانِيَّةِ؟!
لَقَد كَانَ التَّربَوِيُّونَ ـ مُعَلِّمِينَ وَمُدِيرِي مَدَارِسَ وَمُرشِدِينَ ـ يَطمَعُونَ في أَن يَتَعَاوَنَ الآبَاءُ مَعَهُم في تَربِيَةِ أَبنَائِهِمُ التَّربِيَةَ الصَّحِيحَةَ وَتَحلِيَتِهِم بِمَكَارِمِ الأَخلاقِ وَمحمُودِ الصِّفَاتِ، وَلَقَد أَصبَحُوا الآنَ يَرضَونَ مِن أُولَئِكَ الآبَاءِ بِأَنْ يُمسِكُوا الشَّرَّ عَن أَبنَائِهِم وَيَمتَنِعُوا عَن جَلبِ أَجهِزَةِ الفَسَادِ في مَنَازِلِهِم وَبِأَموَالِهِم.(67/301)
أَلا فَاتَّقُوا اللهَ ـ أَيُّها المُسلِمُونَ ـ فِيمَن تحتَ أَيدِيكُم، وَارعَوا أَمَانَاتِكُم وَلا تُضيعُوا وِلايَاتِكُم، لَقَد مَضَى العَصرُ الذِي يَتَلَقَّى فِيهِ النَّاسُ كُلَّ جَدِيدٍ بِالقَبُولِ دُونَ تَمحِيصٍ وَلا تَدقِيقٍ، وَآنَ الأَوَانُ لِتَفَحُّصِ كُلِّ مَا يَدخُلُ إلى البُيُوتِ مِن أَجهِزَةٍ وَأَدوَاتٍ وَمُختَرَعَاتٍ، وَإِذَا كُنَّا ـ وَلا سِيَّمَا الشُّيُوخُ مِنَّا وَالكُهُولُ ـ لا نَعِي مَا تحمِلُهُ هَذِهِ الأَجهِزَةُ مِنَ الآفَاتِ وَالشُّرُورِ وَلا نَعلَمُ كَيفَ تَعمَلُ وَلا نَتَصَوَّرُ مَخَاطِرَهَا المُحتَمَلَةَ فَلْنَعلَمْ أَنَّ دَرءَ المَفَاسِدِ مُقَدَّمٌ عَلى جَلبِ المَصَالحِ، وَالتَّخلِيَةَ أَولى مِنَ التَّحلِيَةِ، وَالوِقَايَةَ خَيرٌ مِنَ العِلاجِ، وَالسَّلامَةَ لا يَعدِلُهَا شَيءٌ، فَامتَنِعُوا عَن شِرَاءِ هَذِهِ الأَجهِزَةِ لأَبنَائِكُم، مِن دُشُوشٍ وَجَوَّالاتٍ وَمَا يُسَمَّى بِالبلاي ستيشن. نَعَمْ، امتَنِعُوا عَن شِرَائِهَا وَجَلبِهَا لأَطفَالِكُم وَإِدخَالِها بُيُوتَكُم؛ لِئلاَّ تَكُونُوا مَعَاوِلَ هَدمٍ في دِينِهِم وَأَخلاقِهِم وَقِيَمِهِم وَأَنتُم لا تَشعُرُونَ، فَتَندَمُوا يَومَ لا مَندَمَ، وَلا يَقُولَنَّ قَائِلٌ: إِني أَقدِرُ عَلَى تَقنِينِ استِعمَالِ أَبنَائِي أَو بَنَاتي أَو أَهلِي لِهَذِهِ الأَجهِزَةِ وَضَبطِ أُمُورِهِم حِيَالَهَا، فَوَاللهِ إِنَّ هَؤُلاءِ الشَّبَابَ وَالشَّابَّاتِ لَيَعلَمُونَ مِن أَسرَارِ هَذِهِ الأَجهِزَةِ مَا لا تَعلَمُونَ، وَيُحسِنُونَ مِن تِقنِيَاتِهَا مَا لا تُحسِنُونَ، وَيَستَخدِمُونها في الشَّرِّ بِمَا لا يَخطُرُ لأَحَدِكُم عَلى بَالٍ، يَظهَرُ أَحدُهُم أَمَامَكُم بِمَظهَرِ المُسَالِمِ الوَدِيعِ الذِي لا يَستَخدِمُ الجَوَّالَ إِلاَّ لِلمُهَاتَفَةِ النَّافِعَةِ وَالمُكَالَمَةِ المُفِيدَةِ، وَلا يَنظُرُ في القَنَوَاتِ إِلاَّ لِلأَخبَارِ وَالبرَامِجِ العَادِيَّةِ، فَإِذَا مَا غِبتُم عَنهُم أَو غَابُوا عَنكُم تَفَنَّنُوا في إِشبَاعِ شَهَوَاتِهِم بِهَذِهِ الأَجهِزَةِ، أَنتُم تُسلِمُونَ أَعيُنَكُم لِلنَّومِ مُتعَبِينَ مِن أَعمَالِكُم وَمَعَاشِكُم، وَهُم يَتَسَمَّرُونَ أَمَامَ هَذِهِ الأَجهِزَةِ مِن وَرَائِكُم، يُقَلِّبُونَ النَّظَرَ فِيمَا يُسخِطُ اللهَ ولا يُرضِيهِ، وَيَتَنَاقَلُونَ مَا يُمَزِّقُ لحمَ الوُجُوهِ، فَاتَّقُوا اللهَ ثم اتَّقُوا اللهَ ثم اتَّقُوا اللهَ، فَوَاللهِ إِنَّ جُزءًا كَبِيرًا بَل هُوَ الأَكبرُ مِنَ المَسؤُولِيَّةِ لَيَقَعُ عَلَى عَوَاتِقِكُم. صَحِيحٌ أَنَّكُم سَتُوَاجَهُونَ بِأُمَّهَاتٍ جاهِلاتٍ وَنِسَاءٍ نَاقِصَاتٍ، يَتَّهِمْنَكُم بِالتَّحجِيرِ وَالتَّضيِيقِ عَلَى أَبنَائِهِنَّ وَعَلَيهِنَّ، أَو يَلُمْنَكُم عَلَى أَنَّكُم لم تُوَاكِبُوا العَصرَ ولم تَفعَلُوا كَمَا يَفعَلُ النَّاسُ، وَقَد يَكُونُ أَبنَاؤُكُم هُم مَصدَرَ الضَّغطِ عَلَيكُم لِيَكُونُوا كَزُملائِهِم وَأَقرَانِهِم، أَلا فَلا يَكُونَنَّ كلُّ هَذَا عَائِقًا لَكُم دُونَ تَحَمُّلِ أَمَانَاتِكُم وَرِعَايَتِهَا، وَوِقَايَةِ مَن تحتَ أَيدِيكُم مِنَ النَّارِ، وَالعَمَلِ عَلى نجاتِكُم وَنجاتِهِم، وَتَذَكَّرُوا مَا صَحَّ عنه حَيثُ قال: ((مَن أَرضَى النَّاسَ بِسَخَطِ اللهِ وَكَلَهُ اللهُ إلى النَّاسِ، وَمَن أَسخَطَ النَّاسَ بِرِضَا اللهِ كَفَاهُ اللهُ مَؤُونَةَ النَّاسِ))، وَمَا صَحَّ عنه أَنَّهُ قال: ((مَا مِن عَبدٍ يَستَرعِيهِ اللهُ رَعِيَّةً يموتُ يَومَ يموتُ وَهُوَ غَاشٌّ لِرَعِيَّتِهِ إِلاَّ حَرَّمَ اللهُ عَلَيهِ الجَنَّةَ)). أَفَلَيسَ مِنَ الغِشِّ لِلرَّعِيَّةِ أَنْ يُوَفَّرَ الجَوَّالُ لِطِفلٍ لا يَتَجَاوَزُ خمسَ عَشرَةَ سَنَةً؟! أَلَيسَ مِنَ الغِشِّ إِدخَالُ القَنَوَاتِ الهَابِطَةِ في المنزِلِ؟! أَلَيسَ مِنَ الغِشِّ تَوفِيرُ أَجهِزَةِ البلاي ستيشن دُونَ رَقَابَةٍ وَفِيهَا مَا فِيهَا مِنَ الشَّرِّ وَالبَاطِلِ؟! يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُم وَأَنتُم تَعلَمُونَ وَاعلَمُوا أَنَّمَا أَموَالُكُم وَأَولاَدُكُم فِتنَةٌ وَأَنَّ اللهَ عِندَهُ أَجرٌ عَظِيمٌ.
الخطبة الثانية
أَمَّا بَعدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تعالى وَاعلَمُوا أَنَّكُم مُلاقُوهُ، فَقَدِّمُوا مَا يَسُرُّكُم وَيُنجِيكُم يَومَ تَلقَونَهُ.
أَيُّها المُسلِمُونَ، إِنَّ أَعدَاءَنَا لا يَمَلُّونَ مَا بَينَ آوِنَةٍ وَأُخرَى مِن تَوجِيهِ ضَرَبَاتٍ قَاسِيَةٍ إِلى مَقَاتِلَ في مجتَمَعِنَا عَامَّةً، وفي صُفُوفِ النِّسَاءِ وَالشَّبَابِ وَالأَطفَالِ خَاصَّةً، ضَرَبَاتٌ لَيسَ سِلاحُهَا الصَّوَارِيخَ وَلا المَدَافِعَ وَلا الطَّائِرَاتِ، فَتِلكَ جَرَّبُوهَا فَلَم يُفلِحُوا ولم يَنجَحُوا في إِخراجِ النَّاسِ بها مِن دِينِهِم وَلا صَدِّهِم عَن مُعتَقَدَاتِهِم، وَلَكِنَّهَا ضَرَبَاتٌ مَعنَوِيَّةٌ فِكرِيَّةٌ، قَصدُها إِبعَادُ المجتَمعِ المُسلِمِ عَن دِينِهِ وَهَدمُ عَقِيدَتِهِ، وَتَجهِيلُهُ بِحَقِيقَتِهِ وَتَضِييعُ هُوِيَّتِهِ، وَمَسحُ مَبَادِئِهِ وَإِلغَاءُ قِيَمِهِ، وَمَسخُهُ إِلى مجتَمَعٍ مَفتُوحٍ عَلى كُلِّ الثَّقَافَاتِ، دُونَ احتِفَاظٍ بِشَخصِيَّةٍ مُستَقِلَّةٍ وَلا تَمَيُّزٍ مُعَيَّنٍ، وَإِذَا كُنَّا نَظُنُّ أَنَّ الخَطرَ الغَربيَّ عَسكَرِيٌّ محضٌ وَنقصُرُ خَطرَهُ على مَا عِندَهُ مِن سِلاحٍ نَوَوِيٍّ أَو قَنَابِلَ عُنقُودِيَّةٍ أَوِ انشِطَارِيَّةٍ فَإِنَّنَا نَرتَكِبُ خَطَأً جَسِيمًا، وَنَستَجِيبُ لِغَفلَةٍ حَضَارِيَّةٍ خَطِيرَةٍ، ذَلِكُم أَنَّ التَّأثِيرَ في القِيَمِ أَو نَسفَهَا وَتَغييرَ المَبَادِئِ أَو وَأدَهَا أَكثرُ خُطُورَةً مِنَ التَّهدِيدِ العَسكَرِيِّ؛ لأَنَّ التَّهدِيدَ العَسكَرِيَّ لا يَلبَثُ أَن يَنهَارَ أَو يَسقُطَ يَومَ أَن تَنتَفِضَ عَلَيهِ الشُّعُوبُ الحُرَّةُ، وَلَكِنَّ الخُطُورَةَ كُلَّ الخُطُورَةِ في التَّأثِيرِ الذي يُلبَسُ أَثوَابَ التَّسلِيَةِ وَالتَّرفِيهِ وَهُو يَسرِي في العُقُولِ كَالسُّمِّ في العَسَلِ، فَالحَذرَ الحَذرَ، فَإِنَّ المُخطَّطَ كَبِيرٌ وَالغَزوَ مُستَمِرٌّ، وَالحِملَ كَبِيرٌ وَالمُسؤُولِيَّة عَظِيمَةٌ، وَالانتِبَاهَ وَاجِبٌ وَاليَقَظَةَ إِيمَانٌ، وَ((لا يُلدَغُ المُؤمِنُ مِن جُحرٍ مَرَّتَينِ))، وَمَن يَتَّقِ اللهَ يَجعَلْ لَهُ مَخرَجًا.
ــــــــــــــــــــ(67/302)
المرأة بين ظلم الجاهليّة والعدالة الإسلاميّة
...
...
5083
...
الأسرة والمجتمع
...
...
المرأة
...
صالح بن عبد الله بن حميد
...
...
مكة المكرمة
...
10/2/1427
...
...
المسجد الحرام
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- الحديث عن الإصلاح. 2- تحقيق الإسلام للسعادة. 3- كثرة الكلام عن حقوق المرأة. 4- ضرورة تبصير المرأة بحقوقها وواجباتها. 5- صور من الممارسات الظالمة في حق المرأة في المجتمعات الإسلامية. 6- عمل المرأة في ميزان الإسلام. 7- خطورة طغيان النظرة المادية. 8- وضع المرأة المزري في الوقت الحاضر. 9- ترشيد الطرح الإعلامي. 10- ما وراء المطالبة بحقوق المرأة. 11- الإشادة بجهود العلماء والمفكرين في هذا الشأن.
الخطبة الأولى
أمّا بعد: فأوصيكم ـ أيّها الناس ـ ونفسي بتقوَى الله عزّ وجلّ، فاتَّقوا الله ربَّكم، فأهل النجاةِ والخلاص هم أهل التقوى والوفاءِ والإخلاص، الذين يوفون مع الله المواثيقَ، ويخلِصون له في يقينٍ وتَصديق، فيَا ويحَ الغافلين، خَفَّ زادُهم، وقلَّ مَزادهم، فطال عليهم السبيلُ، وحار فيهم الدليل، قِصَر أجل مع طول أمل وتقصير في عمَل، فلا حول ولا قوّة إلا بالله، الأجدادُ أبلتهم الأجدَاث، والآباءُ أفنتهم الآباد، والأبناءُ عما قليلٍ نبأٌ من الأنباء، ففِيمَ الحرص على ظلٍّ زائل ومقيلٍ أنت عنه حائل؟! فاتقوا الله رحمكم الله، وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ [البقرة:281].
أيها المسلِمون، حديثُ الناس في هذهِ الأيّام عن الإصلاحِ والانفتاحِ والبِناءِ والتّسامُح والتعاوُن ونَبذ الخلافاتِ ومحاربةِ الظلمِ والعدوان والفسادِ والإقصاء وانتهاج منهَج الوسطيّة والاعتدال، وحديثُ الإصلاح هذا حديثٌ ذو شجون، لا يحصُرُه مثلُ هذا المقام، ولا تحيط به مثلُ هذه الكلمات، وإن كان لزامًا على أهلِ العلمِ والمصلحين وأصحابِ الرأي الحديثُ عنه وبيانُ أُسُسه ورسمُ مَعَالمه وانتهاجُ دروبه ومسالكه. ومِن المأساة أن بعضَ المتحدِّثين عن الإصلاحِ والانفتاحِ مِن أصحاب الرّأيِ والفكر والثقافةِ مِن المسلمين يسوء فهمُهم أو يسوء تفسيرُهم أو تسوء عبارَتُهم بقصدٍ أو بغير قَصد.
معاشِر المسلمين، إنَّ لدى كلِّ مسلمٍ ـ ولله الحمد ـ يقينًا صادقا وعقيدة راسخةً بأنّ الإسلام قد كفَل بأتباعهِ أفرادًا ومجتمعات وأمة، كفَل لهم السعادةَ والكرامةَ في الدنيا وحُسنَ الثواب في العقبى متى ما تمسَّكوا بدينهم والتزَموا هدي نبيِّهم محمّد ، كما أنَّ لدى المسلمين قاعدةً راسخة وأصلا ثابتًا، وهي أنَّ الحفاظ على الدينِ والاستمساكَ بالهويّة الإسلامية لن يتحقَّق إلا بانتماء المسلمين الصادق لدينهم المبنيِّ على صحّة المعتقد وحُسن الاتّباع وصدقِ الالتزام بأحكام الشّرع قولا وعملاً واعتقادا.
معاشرَ الأحبّة، أمام هذه الثوابتِ وأمام سَعَةِ الموضوع وتشعُّبه قد يكون من الملائِمِ اختيارُ نموذجٍ ذي دلالاتٍ وأبعاد يوضِّح المقصودَ يبيِّن المرادَ، فيه إشاراتٌ لمعالم الوسطيّة، إنّه نموذج الوسطيّة في شأنِ المرأة وحقوقِها ومشكلاتها؛ وسطيّةٌ بين تحكيمِ نصوص الشّرع المطهَّر وأحكامِه والخلاصِ مِن مذمومِ العادات وسيِّئ التقاليد، تحكيمٌ لحكم الشّرع في القديم وفي الجديد، وسطيّةٌ وإصلاح تميِّز الأصالةَ والثوابت ممّا ليس منها، وتنفِي عن المعاصِرِ والجديد ما ليس من لوازِمه.
أيّها المسلمون، حقوقُ المرأة كلِمةٌ ما أكثَرَ ما تحدَّث عنها المتحدِّثون والمتحدِّثات، وتَزَيَّنَت وتزيَّدت بها بعضُ المقالات والصفحات والدّعَوات والادِّعاءات، وما أكثر ما أفاضَت بها المحاضراتُ والمحاورات.
وأمّا مضمون هذه الحقوق فحدِّث عن هُلاميّتها وفضفاضيَّتها ولا حرج، بل إنَّ كثيرا من الطُّرُوحات والمعالجاتِ تراها ضائعةً مبعثَرَة بين دعاوَى المدَّعين وأهواءِ أصحاب الأهواء وميولِ أصحاب الانتماء وتصنيف ذوي التصنيفات، وقد لا تخلُو بعض الطّروحات من تمييعٍ ونفاقٍ والتفافٍ وغموض.
حقوقُ المرأة وحقوق الإنسان يصاحِبُها لدى بعض الكاتبين والكاتبات إمَّا عدَم وضوح في المراد، وإمّا عدَم وضوحٍ في الغاية، وبسبَب هذا صارَ الناصحون وغيرُ الناصحين يدورُون في حلقاتٍ مفرَغَة، وضاعت الحقيقة والحقوق، وضُيِّعت الأوقاتُ، وتبَعثَرت الجهود، وثارَتِ النزاعات والمناقشاتُ السُّفِسطائيّة.
أيها المسلمون، ما مِن شكٍّ أن للمرأة حقوقًا كما أنَّ للرجل حقوقا، وعليها واجبات كما على الرجل واجبات، كما أنَّ من اللازم المتعيِّن تبصيرَ المرأة بحقوقها ومساعدَتَها في تحصيلِها وحِفظها وحمايتها، بل إنَّ مِنَ تفقُّهِها في دينِها أن تعلَمَ أنَّه ليس من الحياءِ ولا من حُسن الأخلاق أن لا تطالبَ بحقوقها أمام أبيها وأخيها وزوجِها، فقَوامةُ الرجل حقٌّ ومسؤولية، ولكنّها ليست تسلُّطًا ولا ظلمًا ولا تعسُّفًا.
في ديارِ المسلمين ممارساتٌ ظالمة جائِرة، يجب النظرُ فيها وإعطاؤُها ما تستحقّ منَ الأهميّة والأولوية وجعلُها في صدرِ الاهتمامات والمعالجات. إنَّ المرأة تعاني صوَرًا من الظلم والقهر والإقصاءِ والتهميش وغمطِ الحقوق في معاشِها وتربيّتِها وبيت زوجيّتها والنفقةِ وحقِّ الحضانة والعدل في المعاملة، فضلاً عمّا يُطلَب لها من حقِّ الإحسانِ والتكريم والتبجيلِ. إنَّ هناك تسلُّطًا على ممتلكاتها، وسلبًا لحقِّها في اتِّخاذ القرار والمشاركةِ فيهِ في كثيرٍ من شؤونها وخاصَّتِها، من حقِّها العدلُ في القِسمة والعدلُ في توزيعِ الميراث والثروةِ والمِنَح والهِبات والعطايا حسَب ما تقضي به أحكام الشرع المطهَّر، ناهيكم فيما يقَع من بعض أحوالِ الضَّرب والقَهر والعَضل والشِّغار والحِرمان من الحضانَةِ والنفقة، وما يقع خلف جُدران البيوت وأسوار المنازِلِ من التعسُّف والتنكيلِ والحَسرَة والألم والممارساتِ الظالمة. يجب مساعدتُها وتشجيعُها وتبصيرُها ودَعمُها في أن ترفَعَ الظلمَ الواقع عليها، فترفع مظلمتَها لمن يُنصفها من أقاربها وعُقَلاء معارِفها وحكمائهم ومن القضاةِ والمسؤولين وولاةِ الأمور. إنَّ الإقصاءَ والتهميشَ وإنكارَ دَور المرأة في بيتِها ومجتمعِها ناهيكم باحتقارِها وتنقُّصها وظلمِها وهضمِ حقوقِها كلُّها مسائل وقضايَا لا يجوز السكوتُ عليها، فضلا عن إقرارِها والرِّضا بها.
معاشر الأحبّة، هذه جوانبُ من المشكلة أو القضيّة، وثَمّةَ جوانب أخرى لا بدَّ منَ النظر فيها.
إنَّ الذي يقال بكلِّ جلاء ووضوح: إنَّ الإسلام لم يوجِب ولم يفرِض ولم يحمِّل المرأةَ مسؤولية العمل خارجَ المنزل، لكنَّه لا يمنعُها مِن ممارَستِه بِضَوابطِه الشرعيّة. الإسلامُ حرَّرها من مسؤوليّة العمَل وحتميَّتِه خارجَ المنزِل، لكيْلا تقعَ تحتَ ضَروراتِ العمَل الذي يَستعبِدُها ويستَغلّها ويظلِمها.
أيّها المسلِمون، وهذا يحتاجُ إلى مزيدِ بسط.
تأملوا ـ وفقكم الله ـ ما يجري في هذا العالَم المعاصِر، إنَّ العنصرَ الطاغِي والعاملَ المؤثِّر هو العامل الاقتصاديّ، أمّا في الإسلام فالاقتصاد أو عامل الاقتصاد عامل من العوامل وعنصرٌ منَ العناصر له تأثيرُه الذي لا ينكَر، ولكنه بجانِب عوامِلَ أخرى ومعاييرَ أخرى.
العاملُ الاقتصاديّ في ميزان هذا العصرِ هو العامِل المقدَّم، وهو الأبرزُ عندَهم، وهو المعيارُ لإقامة حياة اجتماعيةٍ أفضل عندهم؛ ممّا دعا إلى إضعافِ وتهميشِ كثيرٍ من الحقوقِ والمعايير والعوامِل، والمرأةُ في هذا العصرِ وفي هذا الميزانِ المائل المجحِف الطاغي مكلَّفةٌ بإعالةِ نفسِها، سواء أكانت بنتًا في بيت أبيها أم زوجةً في بيت زوجِهَا. إنَّ هذه المنزلةَ لهذا المعيارِ بثَّت في روعِ امرأةِ هذا الزمن أن على الجميع نساءً ورجالا أن يركضُوا لاهثين ابتغاءَ جمع أكبر قدرٍ من المال لتحقيق أكبر قدرٍ من المتَعِ والكمالات. إن على كلِّ ذكر وأنثى في هذا الزِّحام أن يهتمَّ مستعجِلا بشأن نفسِه، وأن ينافسَ الآخرين لجمعِ المزيدِ منَ المال وتحصيلِ أكبر قدرٍ من الفرَص، فتحت هذا المسار المُهتاج والرّكض اللاهِث تضطرَ البنت وتُدفَع المرأة لتخرجَ في كلِّ صباح؛ لتبحثَ كأيِّ فرد من أفراد الأسرةِ والمجتمع في سبيل عيشها وتحقيقِ مُتَعِها، بل لقد ألقَوا في روعِ المرأة أن من العيبِ أن يحنُوَ عليها والدها أو يعطِفَ عليها ليغنِيَها منَ الخروج والكدِّ والكَدح، منَ العيب عندهم أن يكونَ الزوج مسؤولاً عنِ الإنفاق والرعاية.
وتحت سلطانِ هذه الفلسفةِ الضاغطة تُضطرّ الزوجة أو تحتاج إلى أن تقطعَ خيوطَ آمالها في مسؤولية الزوج عنها ورعايةِ أبيها لها.
وقد يقال: إنَّ هذا عند غير المسلمين، والواقع أنَّ الناظرَ والمتأمِّلَ في الكتابات والتوجُّهات يرى أن كثيرًا من كتابات بعض المثقفين ودعواتهم ونقاشاتهم تستحسِن هذا المسلك، وتريدُ أن تجعَلَه هو الأنموذَج والغايةَ المنشودة والأملَ المبتغَى، مَع الأسف وبكلِّ صراحة فإنَّ همَّ الاقتصاد ومتطلَّبات العمل هي مصدر كلِّ الواجبات والمسؤوليات في أفراد المجتمع كلِّه، رجاله ونسائِه، أيًّا كانوا وكيفما كانوا.
إنَّ غلبة عاملِ المال وطغيانَه يقضي ـ شاء العقلاء أو لم يشاؤوا ـ يقضي على الأسرةِ، ويدمِّر مقوِّماتها، ويهُزّ المجتمع المستقرَّ؛ لأنَّ السويَّ لا يكون سويًّا إلا بلحمة الأسرة، ولا وجودَ للأسرة في الحقيقة إلا بالتضامن والوِئام الذي يَشِيع في أفرادها من خلال وضوح المسؤولية لكلٍّ من الزوج والزوجة والأب والأم ورعاية الوالدين لأولادهما.
بهذه الفلسفة وبهذا التوجه تمَّ إقصاء المرأة عن رِعاية أولادها، بل إنّه عرَّض أنوثتَها للدَّمار وكرامتَها للامتهان وحياءها للذوبان.
يا قومنا، انظروا إلى الأمرِ بجِدِّيّة ومصداقيَّة وتجرُّد، المرأة في الوقت الحاضر أُخرِجت إلى العمل ودفِعَت إليه دفعًا، إنهم أخرجوها حينما جعلوا ذلك هو السَّبيل الوحيدَ للحصول على لقمةِ العيش وتحصيلِ الرزق، فهي تبحَثُ عن العمل، بل تقبَل أي عمل، وتستغلُّ أيَّ فرصة وإن لم تتَّفق مع طبيعتِها ما دام أنها تتعلَّق بضرورةِ مَعاشِها، ولا مناصَ لها أن ترضَى بأيِّ عَمل، فالخياراتُ محدودةٌ، وحكم المجتمَع صارم، بل إنّه ما مِن عملٍ قاس مجهِد يمارسه الرجال بل الطبقة الكادحةُ من الرجال إلاَّ وتجد نساءً كثيراتٍ يمارسنَه ويزاحمن فيه.
أيها الإخوة في الله، إن النظرَ بعينِ البصيرةِ والحِكمة والمصداقيَّة والنصحِ في بعضِ المجتمعات التي اقتَحمتِ الباب على مصراعيه واستسلمت لهذه الفلسفة يراها في سباقٍ محمومٍ ونَظرةٍ مادية صِرفة، ويرى نساءً يمارِسنَ أعمالا أذابَت أنوثتَهنّ وأحالَتهن إلى كُتَل متحرِّكة من قسوةِ العمل وقسوة المجتمع، في أعمالٍ قاسية وأوقاتٍ أشدّ قسوة، في الليلِ والنهار، بل في الهزيعِ المتأخِّر من الليل، في الأنفاق والمناجِم والمؤسَّسات والمشافِي وعلى نواصي الطرقات وأرصِفَة الشوارع، في أعمالٍ يشمئزّ منها العقلاء والأسوياءُ والرّحَماء والمخلِصون والناصحون، ناهيكم بالفُضَلاء المؤمنين.
أيها المسلمون، هذه بعضُ مَآلات هذه الصّورَةِ، وإذا كانَ ذلك كذَلك أو بعضَ ذلك فكم هو جميلٌ أن يرشَّدَ الطّرحُ الإعلاميّ حول هذه الحقوقِ والمشكلات، يجب الفَصلُ بين القناعاتِ الشخصيّة لبعض الكتاب والكاتبات وبعض القناعات الفكريّة وبين ما هو حقٌّ وشرع.
إنّنا نتحدَّث عن فكرٍ مسلم وإعلامٍ مسلم وثقافةٍ مسلمة متديِّنة تسعى لتنظيف مجتمعاتِ المسلمين من إسقاطاتِ مجتمَعاتٍ مادية، وهذا لا يكونُ ولن يكونَ إلاّ بالاعتزازِ الحقّ بكَمَال دينها عقيدةً وأحكامًا، عِلما وعملا ومنهجًا.
من الحقِّ والعدل والإنصافِ المطالبةُ بتوفيرِ الفَهم الواعي والناضِج، دينٌ وفِقه ووعيٌ لا يخشَى الوافد، ولا يخاف الجديدَ، ولكنّه قادرٌ على توفيرِ المناعةِ ضدِّ الابتذالاتِ، كما هو قادر على الاستفادةِ منَ الإيجابيّات والخيرات. إعلامٌ مستنيرٌ راشِد يعزِّز دورَ المرأة الإيجابيّ، ويؤكِّد حقَّها ودورَها في البناءِ والتنميةِ الشاملة في المجتمَع كلِّه، وحقَّها في التعليم والعمَل والوظيفةِ الملائمة. إعلامٌ مستنير راشِد يرفُض ويستنكِر ويقاوم جميع أشكال استغلالِ المرأة في أيِّ ميدانٍ لا يقيم للقِيَم والفضائل وزنًا؛ ممّا يفضي إلى تحقيرِ شخصية المرأة وامتهانِ كرامتها والمتاجرة بجسَدِها وعرضها، وكأنها بِضاعةٌ من سائرِ البضائع التي تسَوِّقها وسائل الإعلام.
حذارِ ثم حذارِ أن تُقذَفَ المرأة في بحار الضَّيَاع والهوان والحِرمان.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُّبِينًا [الأحزاب: 35، 36].
نَفَعني الله وإيَّاكم بالقرآنِ العظيم وبهديِ محمّد ، وأقول قولي هَذا، وأستَغفر الله لي ولَكم ولسائِر المسلمين من كلّ ذَنب وخطيئةٍ، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله وكَفى، لم يزل بِنعوتِ الكمال والجلال متَّصِفا، أحمده سبحانَه وأشكره أهل الحمد والشُّكرِ والوفَا، وأشهد أن لا إلهَ إلاّ الله وحدَه لا شريكَ له مقِرًّا بها إيمانا وتصديقا ومعتَرِفا، وأشهد أنَّ سيِّدَنا ونبيَّنا محمّدًا عبد الله ورسوله أزكى الأمَّة فضلا وأعلاها شرفا، صلّى الله وسلَّم وبارك عليه وعلى آلهِ وأصحابه الأطهار الحنفا، والتابعين ومن تبِعهم بإحسان وسارَ على نهجهم واقتفى.
أمّا بعد: فإن مطالبَةَ صاحبِ الحق بحقِّه ـ رجلاً كان أو امرَأة ـ أمرٌ مشروع ومطلبٌ صحيح، وإجابَتُه حقّ، وإعانتُه حقّ كذَلك، ولكن يجِب أن يكونَ بمعاييرَ صحيحةٍ وضوابط دقيقة، تعطِي كلَّ ذي حق حقَّه، وتوصل الحقَّ إلى مستحقِّه في عدل ووسطيّة، فيتحقَّق التوازُنُ في المجتمع والأسرة.
إنَّ مما يثير الريبةَ والتخوُّف ما يظهر من دعواتٍ في بعض وسائل إعلامِ المسلمين وكتاباتِ بعضِ كُتَّابهم وكاتِباتهم مِن دعواتٍ إلى الزجِّ بالمرأة المسلمة في كلِّ ميدان مِن غير احتياطٍ ولا تحفُّظ، بل بما يُوحي أنَّه انجِراف وتجاوبٌ مع ما يطالب به منحَرِفون ممَّن لا يقيم للشَّرع وزنا ولا للحِشمة والعفَّة مقامًا ولا مكانا.
ينبغي لأهل الإسلام دُوَلاً وأُمَما وأسَرا أن تتَّخِذ من التدابيرِ الضابِطة ما يرفَع الريبةَ ويبعث على الطمأنينةِ ويتيح فرَصَ العمل الآمن ويحفظ التوازنَ الأسريّ داخلَ البيت وخارجه وداخل المجتمع المسلِم كلِّه.
وبعد: أيها المسلمون، فمع ما يظهر من بعض صُورٍ قاتمة وألوانٍ ذات غبَش فإنَّ الجهدَ الذي يبذُلُه علماء الشرع وأهل العِلم والفقهِ والفتوى وأصحابُ الفكر السويِّ جهودٌ مباركة، تمكَّنت من توجيهِ المجتمع وبيان المنهَج الوسطِ المعتدِل، وهم بإذنِ الله خلَفٌ عدول يحمِلون مشاعِلَ الهدى، ينفون تحريفَ الغالين وانتحالَ المبطلين وتأويلَ الجاهلين، نجَحوا في كَبحِ كثيرٍ مِنَ التوجُّهات غير الوسطيّة غُلوًّا وجفاء. فليسيروا على بركة الله في منهجِهم العدل الخيار، ويَبذلوا مزيدًا من الجدِّ والجهد في ردِّ الرأي العامّ إلى مصادِرِ الشرعِ وأصولِه مِن الكتاب والسنّة والاستنباطِ الرشيد السديد، ولينفوا عن المسيرِ الترخُّصَ المذموم والتحلُّلَ الممقوت وغلوَّ الغالين، وتضييقَ المضيقين، يميلون مع الحقِّ، ويتحرَّون الوسط، ويُراعون مصالح العباد، رجالا ونساءً، ومجتمعا وأفرادًا، وقايةً من الفساد، وتأمِينَ مصادِر العيش الكريم. وإنَّ ضبطَ ذلك كله يكون بالنظر في المستجدّات وعرضها على ثوابتِ الشَّرع وضبط العادات والتقاليدِ والأعراف ورَبطها برِباط الشرع وتحديد مكانها وحكمها، فالجديدُ ليس مَرفوضا بإطلاقٍ، والتَّقاليد محكومَةٌ وليسَت حاكِمَة.
ألا فاتَّقوا الله رحمكم الله، ثم صلّوا وسلِّموا على نبيِّكم محمّدٍ المصطفى ورسولكم الخليلِ المجتبى، فقد أمَرَكم بذلك ربُّكم جلّ وعلا، فقال عزَّ قائلا عليمًا: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56].
اللّهمّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدِك ورسولك محمّد الأمين، وآله الطيِّبين الطاهِرين، وأزواجِه أمَّهات المؤمنين، وارضَ اللَّهمَّ عن الخلفاء الأربعةِ الراشدين؛ أبي بكر وعمَرَ وعثمان وعليّ، وعن الصحابةِ أجمعين، والتابعين ومَن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوِك وجودِك وإحسانك يا أكرمَ الأكرمين.
اللّهمّ أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذلَّ الشركَ والمشركين، واحمِ حوزةَ الدّين، وانصر عبادَك المؤمنين...
ــــــــــــــــــــ(67/303)
شبهات تثار حول المرأة
...
...
5143
...
الأسرة والمجتمع
...
...
المرأة, قضايا المجتمع
...
ناصر بن محمد الأحمد
...
...
الخبر
...
14/4/1427
...
...
النور
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- الرد على شبهة المساواة. 2- الرد على شبهة الاختلاط. 3- الرد على شبهة توظيف المرأة في محلات بيع المستلزمات النسائية.
الخطبة الأولى
أما بعد: أيها المسلمون، وإكمالاً لخطبة الجمعة الماضية، في مواجهة هذه الهجمة المعلنة اليوم على المرأة وقضاياها في مجتمعاتنا من قبل تيار العلمنة ورموزها، فإننا سنتحدث في هذه الجمعة ـ بحول الله وقوته ـ عن الشبه التي كثيرًا ما تثار في الصحف والمجلات ووسائل الإعلام الأخرى عن المرأة وما يتعلق بها من قضايا وأمور:
أولاً: يطالب العلمانيون بالمساواة بين الرجل والمرأة:
والجواب: أنَّ المرأة مساوية للرجل في الإنسانية وفي أغلب تكاليف الإسلام وفي جزاء الآخرة، كما قال تعالى: فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْض. وكذا في الموالاة والتناصر؛ ولذا قال النبي : ((النساء شقائق الرجال)) أخرجه أحمد وأبو داود.
ولكن الإسلام مع ذلك نظر في طبيعة المرأة ومدى تحملها لبعض العبادات وصعوبتها، كالجهاد في سبيل الله، أو لعدم ملاءمتها للمرأة كملابس الإحرام، فأسقطها عنها. ومن ذلك عدم جواز تولية المرأة للمناصب العامة كالخلافة والقضاء، لذا يقول رسول الهدى : ((لا يفلح قوم ولَّوا أمرهم امرأة)).
وأمَّا ما يورده بعضهم أنَّ الإسلام ظلم المرأة في إعطاء الذكر من الميراث ضعفيها فإنَّه يقال لهؤلاء: ما دام أنَّه تعالى قد شرع ذلك فينبغي على العبد المسلم أن يستسلم لشرعه ولا يعترض عليه، كما قال تعالى: وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيما. ثمَّ إنَّ الله ما دام قد خلقنا فلا اعتراض عليه؛ لقوله تعالى: لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُون، وقد قال تعالى: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْر، فما دام الشرع من عنده تعالى فينبغي على عبيده الاستسلام والخضوع لأمره. ويقال كذلك: إنَّ الشريعة الإسلامية لم تعط المرأة أقل من الرجل في جميع المورايث، فإنَّه في العصبات قد تستحقُّ المرأة نصف الميراث أو أكثر، فليست المواريث مطَّردة في إعطاء المرأة أقلَّ من الرجل، ومما يجاب على ذلك بأنَّ الشريعة فرضت للذكر مثل حظِّ الأنثيين؛ لأن الرجل هو القوَّام على المرأة والمتولي شؤونها فيما تحتاجه، فالقضية ليست للتفضيل الذي لا يستند إلى حكمة من ورائه بقدر ما هي للفرق بين المسؤوليات.
إنَّ المرأة خُلقت من نفس واحدة، إذ كان وجودها الأول مستندًا لوجود آدم عليه الصلاة والسلام، وقد بيَّن الله سبحانه وتعالى ذلك فقال: خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا. وهذا أمر كوني قدري من الله، أنشأ المرأة في إيجادها الأول عليه، وجاء الشرع الكريم المنزل من عند الله ليُعمل به في أرضه بمراعاة هذا الأمر الكوني القدري في حياة المرأة في جميع النواحي، فجعل الرجل قوَّامًا عليها، وجعلها مستندة إليه في جميع شؤونها، كما قال تعالى: الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء. فمحاولة مساواة المرأة مع الرجل في جميع نواحي الحياة غير متحققة؛ لأنَّ الفوارق بين النوعين كونًا وقدرًا أولاً وشرعًا منزَّلاً ثانيًا تمنع من ذلك منعًا باتًا، ولهذا يقول تعالى في محكم التنزيل: وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَة. يعني في الحقوق الزوجية، ولوضوح الفوارق الكونية والقدرية والشرعية بين الذكر والأنثى، وصحَّ عن النبي أنَّه لعن المتشبه من النوعين بالآخر. ولا شك أنَّ سبب هذا اللعن هو محاولة من أراد التشبه منهم بالآخر لتحطيم هذه الفوارق الفطرية والشرعية التي لا يمكن أن تتحطَّم.
كما نص القرآن على أن شهادة امرأتين بمنزلة شهادة رجل واحد في قوله تعالى: فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَان. فالله الذي خلقهما لا شك أنَّه أعلم بحقيقتهما، وقد صرح في كتابه بقيام الرجل مقام امرأتين في الشهادة، وقد بين سبحانه العلة فقال: أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى [البقرة: 282]. قال الله تعالى: وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ اللّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُواْ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُواْ اللّهَ مِن فَضْلِه.
ثانيًا: مما يثيره العلمانيون ويطالبون به الاختلاط، ويثيرون حول ذلك بعض الشبه، كقولهم: إن المرأة زمن النبي كانت تخرج للجهاد في سبيل الله، وهذا لا يمكن أن يكون إلا بالاختلاط، وأيضًا كانت تطوف مع الرجال في الحج والعمرة.
الجواب: قال الله تعالى: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى، قال مجاهد في تَفْسيرِهِ للآية: "كان النساءُ ـ أي: في الجاهِليّة ـ يَتَمَشَّيْنَ بين الرجال ـ أي: يخْتَلِطْنَ بِهم ـ فذلك التبرج".
وِحفاظًا على المرأةِ مِن الاخْتلاطِ بالرِّجال لم يُوجِبِ اللهُ عليها صلاةَ الجَماعةِ في المَسجد، وخَصَّ الرِّجالَ بها فقط، بل جَعلَ صلاتَها في بيْتِها خيرًا مِن خروجِها للصَّلاةِ في المَسْجَد، قال تعالى: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ رِجَالٌ، ولم يَقُلْ: رِجالٌ ونِساء، وقال : ((صَلاَةُ الْمَرْأَةِ فِي بَيْتِهَا خَيْرٌ مِنْ صَلاَتِهَا فِي حُجْرَتِهَا، وَصَلاَتُهَا فِي حُجْرَتِهَا خَيْرٌ مِنْ صَلاَتِهَا فِي دَارِهَا، وَصَلاَتُهَا فِي دَارِهَا خَيْرٌ مِنْ صَلاَتِهَا فِي مَسْجِدِ قَوْمِهَا)) رواه الطَّبرانيُّ وهو صحيح. كلُّ ذلكَ مِن أجْلِ سدِّ بابِ الفِتْنة والحِفاظِ على المرأةِ مِن التّبذُّلِ والاخْتِلاطِ بالرِّجال. والمرأةُ إذا خَرَجَتِ إلى المَسجِدِ فإنّما يجوزُ خُروجُها بِالشّرْطِ المَنصوصِ عليْهِ في حديثِ النّبيِّ ، وهو عدمُ التّزيُّنِ والتّطيُّبِ في قَوْلِه عليهِ الصلاةُ والسّلام: ((ولْيَخْرُجْنَ تَفِلات)). هذا هو الشّرط، وإلاّ انْقَلَبَ الجوازُ إلى التّحريم. ولِضَمانِ عدَمِ الاخْتِلاط جَعَلَ النّبيُّ بابًا خاصًّا للنِّساءِ يَدْخُلْنَ مِنه إلى المَسْجِد، ففي سُننِ أبي داود بإسنادٍ صحيحٍ قال لأحَدِ الصَّحابةِ: ((لو تركنا هذا البابَ لِلنِّساء)).
وأما احتجاج العلمانيين بالجهاد فيقولون: المرأة كانت تخْرُجُ للجِهادِ في عَهْدِ رسولِ الله ، وهذا فيهِ اخْتِلاط.
فيقال: حتّى الحالاتُ النّادرةُ الّتي شاركَتْ فيها المرأةُ في الجَهادِ في أوائلِ الغَزَواتِ لِظروفِ الحرب، وظروفُ الحربِ حالةٌ اسْتِثْنائيَّةٌ غيرُ طبيعيّة، والحالةُ الطّارئةُ الاسْتثْنائيَّةُ لا يُقاسُ عليها في الوَضْعِ الطّبيعي، نقول: حتّى الحالاتُ النّادرةُ الّتي شاركَتْ فيها المرأةُ في الجَهادِ في أوائلِ الغَزَواتِ ما كان خُروجُهُنّ أوَّلَ الأمْرِ أصْلاً إلاّ لِقِلَّةِ عَدَدِ المُسلمين آنَذاك، مِن أجْلِ السِّقايةِ وتضميدِ الجَرْحى، لا القِتال، فلمّا كَثُرَ عَددُ المسلمين لم يَعُدْ يخْرُج مِن النِّساءِ أحَدٌ في الغزو، هذا مع أنّهُنّ كُنّ لمّا خَرَجْنَ في السِّابِقِ خَرَجْنَ مع مَحارِمِهِنّ، بل كان فِعْلُهُنَّ ذلك مُخَصَّصًا لِمَحَارِمِهِنّ في المَقامِ الأوّل، ولم يُكنّ يُباشِرْنَ الجَرْحى الأجانِبَ إلاّ في أضْيَقِ الحدود. فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللّهِ يَغْزُو بِأُمِّ سُلَيْمٍ، وَنِسْوَةٌ مِنَ الأَنْصَارِ مَعَهُ إذَا غَزَا، فَيَسْقِينَ الْمَاءَ وَيُدَاوِينَ الْجَرْحَى. قال الإمامُ النّووي: "فيه خروجُ النساءِ في الغزوِ والانتفاعُ بِهِنّ في السَّقْيِ والمداواةِ ونحوِِهِما"، قال: "وهذه المداواةُ لمحارمِهِنّ وأزواجِهِنّ، وما كان منها لغيرِهِم لا يَكونُ فيهِ مَسُّ بَشَرةٍ إلاّ في موضعِ الحاجة". إذن كان خُروجُهُنّ في بدايَةِ الأمْر، وبأعدادٍ قليلةٍ لا تتجاوَزُ أصابعَ اليد، وكُنّ يخرُجْنَ مع أزواجِهِنَّ ومَحارِمِهنَّ كما يُسافِرُ اليومَ النّساءُ مع أزْواجِهِنِّ ومَحارِمِهِنّ السَّفَرَ العاديّ، ولا نَكارةَ في ذلك ولا غَرابةَ، ولا حُجَّةَ فيهِ لِدُعاةِ الاختلاطِ والسُّفور، ولكنّها حِيلةُ العاجِز، لا قامَ مِن عَجْزِه ولا بلَّغَهُ ما يُريد.
وأما عن احتجاج العلمانيين ودُعاة السُّفور وأرباب التَّغريب بالطّواف، فيقولون: انظروا إلى الطّواف، أليسَ فيهِ اخْتلاطٌ وهو عِبادة؟! فَلِماذا تَمْنَعونَه في غيرِه؟!
الجواب: أوّلاً: إنّ الوَاقِعَ ليسَ حُجَّةً على الشَّرْع، فلأجْلِ أنّنا نرى اخْتِلاطًا في الطَّوافِ اليوم أو نَراهُ في المُستَشْفَيات أو نَرى مُنكراتٍ ما هُنا أو هُناك هذا لا يُؤثِّرُ في الحُكْمِ الشَّرعيّ، ولا يَنْتَقِلُ حُكْمُ شيءٍ ما مِن الحُرْمة إلى الإباحةِ لِمُجَرَّدِ حُصولِ ذلكَ الشَّيءِ في الواقِع، فالوَاقِعُ ليسَ حُجَّةً على الشَّرْع.
وثانيًا: الطَّوافُ في الأصْلِ كان مَفصولاً، فقد ذكَرَ العُلماء أنّ الفَصْلَ بينَ الرِّجالِ والنِّساءِ في الطّوافِ فَصْلان، فصْلٌ مُطْلق، وفَصْلٌ جُزْئيّ، والفَصْلُ الجُزئيُّ كان حَاصْلاً في زَمَنِ الرَّسولِ ، الجميعُ يطوفون، ولكنّ النِّساءَ في حَلَقَةٍ واسِعةٍ خاصَّةٍ بهنّ بعيدًا عن الكعبة، في مَنأى عن الاخْتِلاطِ بالرِّجال، والرِّجالُ في حلْقَتِهِم قريبًا إلى الكعبة، بالرَّغْمِ مِن طَوافِهِم جميعًا في وقْتٍ واحِد، فالحاجَةُ إذن لم تَكُنْ داعِيةً إلى التّحذيرِ مِن الاخْتِلاطِ وأمْرِ النّاسِ بالفَصْلِ أوّلَ الأمْرِ؛ لأنّ النّاسَ كانوا يَحْذَرونَ مِنه أصْلاً لِحُسْنِ إسلامِهِم وحِرْصِهِم على عدَمِ الاخْتِلاط وتَعْظِيمِهِم لِرَبِّ البيْتِ وتَعظيمِهِم لِحُرُماتِه، هكذا كان واقِعُ حالِهِم، فالنِّساءُ كُنَّ يَطُفْنَ بَعِيداتٍ بِمَعْزِلٍ عن الرِّجال، ولذلك قال النّبيُّ لأمِّ سَلَمةَ في الطّواف: ((طُوفِي مِنْ وَرَاءِ النَّاسِ وَأَنْتِ رَاكِبَة))، لِماذا قال: ((مِن وراءِ النّاس))؟ أليسَ في هذا تأكيدٌ على عدَمِ الاخْتِلاطِ بالرِّجال حتّى لو كانت راكِبة؟! بلى. ولذلك نَرى أيضًا أنّه لَمّا اقْتَضى الحالُ التّأكيدَ على الفَصْلِ لِكَثرةِ الفِتَنِ وتَساهُلِ الرِّجالِ في الْتِزامِهِم بالفَصْلِ والابْتِعادِ عن النِّساءِ في الطَّواف منَعَ الخليفةُ الرِّاشِدُ عُمَرُ بنُ الخَطّاب الاخْتِلاطَ فيه، ونهى النّاسَ عن ذلك صَراحةً وعَلَنًا لِوجودِ الدَّاعي، فقدَ روَى الفاكِهِيّ مِن طريقِ زائدة عن إبراهيمَ النَّخَعي قال: نهى عُمَرُ أنْ يطوفَ الرجالُ مع النساء، قال: فرأى رجلاً معهُنّ فضربه بالدِّرَّة.
هذا هو الفَصْلُ الجُزئيّ، أمّا الفَصْلُ المُطْلَق بِمَعْنى أنّ الرِّجالَ يطوفون في وَقْتِ والنِّساء في وقِتٍ بِحَيثُ لا يجتَمِعون مُطْلَقًا فقدَ فصَلَ بعضُ الأمراءِ بين النِّساءِ والرِّجالِ في الطّوافِ مُطْلَقًا، كخالدِ القَسْري وإبراهيمَ بنِ هِشام الأَمَويّ كما صحّ في البُخاري، قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ إِذْ مَنَعَ ابْنُ هِشَامٍ النِّسَاءَ الطَّوَافَ مَعَ الرِّجَالِ.
وعلى أيّةِ حال نحن لا نَدْعو إلى فصْلِ الرِّجالِ عن النِّساءِ في الطَّوافِ فَصْلاً مُطْلقًا؛ لأنّه ليسَ مِن فِعْلِ النَّبيِّ ولا خُلَفائهِ مِن بَعْدِه، فإنّ هَدْيَهُ وهَدْيَ خُلَفائهِ الفَصْلُ الجُزْئيّ، وإنّما القَصْدُ أنّ واقِعَ الحالِ اليومَ والّذي شاعَ فيهِ التّساهُلُ بالاخْتِلاطِ في الطِّواف ليسَ حُجَّةً على الشَّرْعِ يُسْتَدِلُّ بهِ على الحلالِ والحرامِ وما يجوزُ وما لا يجوز، فليسَ بالضَّرورةِ أن يكونَ واقِعُ الحالِ مُوافِقًا لِلشَّرْعِ مِن كُلِّ وجْه، وإنّما الحُجّةُ في ذلك مقاصِدُ الشَّرعِ المأخوذةُ مِن النَّصوصِ الّتي طَالَما حذَّرَتْ مِن الاخْتِلاطِ ونَهَت عنه، وما أكْثَرَها مِن نصوص.
ولذلك يقال لمن يحتج بمثل هذه الحجج: أين أنتَ مِن النّصوصِ الأخْرى إن كُنتَ صادِقًا في نُصْحِك؟! لماذا لم تُورِدْها، أم هي أخلاقُ اليهودِ الّذين لا يأخذونَ مِن النُّصوصِ إلاّ ما وافَقَ أهواءَهُم؟! أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْض. أين أنت مِن وَضْعِ النِّساءِ في المَسْجِد؟! أين قرّر الشَّرْعُ لَهُنَّ أنْ يُصلِّين مُختَلِطين جَنْبًا إلى جَنبٍ مع الرِّجال، أم في الصّفوفِ الخَلْفِيّةِ بعيدًا عن الرِّجالِ آخِرَ المسجد؟! أيَدُلُّ هذا على النَّدْبِ إلى الاخْتِلاطِ أم العَكْس؟! بل زادَ مِن التّأكيدِ على عدَمِ الاخْتلاطِ مُنَفِّرًا حتّى مِن اقْترابِ أيٍّ مِن الطِّرَفيْنِ الرِّجالِ والنِّساء مِن صَفِّ الآخَرِ قائلاً: ((خَيْرُ صُفُوفِ الرِّجَالِ أَوَّلُهَا وَشَرُّهَا آخِرُهَا، وَخَيْرُ صُفُوفِ النِّسَاءِ آخِرُها وَشَرُّهَا أَوَّلُهَا)). أيَدُلُّ هذا على الحثِّ على الاخْتِلاطِ أم التّحذيرِ مِنه؟!
ثُمّ ألَمْ يكُن إذَا سَلَّمَ قامَ النِّسَاءُ حِينَ يَقْضِي تَسْلِيمَهُ ويَمْكُثُ هُوَ فِي مَقَامِهِ يَسِيرا قَبْلَ أنْ يَقُومَ كي يَنْصَرِفَ النِّسَاءُ قَبْلَ أنْ يُدْرِكَهُنَّ الرِّجَال؟! ثُمّ إذا أَخبَرتنا أُمُّ سلَمَةَ رضي الله عنها كما صح ذلك في البخاري: أنّ النِّساءَ كُنّ يَنْصَرِفْنَ مُباشَرةً بعدَ السَّلام وبِسُرْعة، ماذا يستنبطُ العاقل؟! على التّرحيبِ بالاختلاطِ وأنّه لا بأسَ بِه، أم على البُعْدِ عنه والحَذَرِ مِنه؟!
بل حتّى في الشّارِعِ أو الطّريق الّذي يَحْتَجُّ بهِ بعضُهُم في جَوازِ الاخْتِلاط، لمّا رأى النّبيُّ اخْتِلاطَ الرِّجالِ بالنِّساءِ في الطّريقِ لمّا خرجوا من المسجدِ قال لَهُنّ: ((اِستأخِرْن)) أي: تأخَّرْنَ عن وَسَطِ الطَّريق، ((عليكُنّ بِحَافَاتِ الطّريق)) أي: بأطْرافِه وجوانِبِه. يقول راوي الحديث أبو أُسيْد الأنصاري : فكانت المرأةُ تَلْصَقُ بالجِدار وتُبالِغُ في ذلك حتّى إن ثَوْبَها لَيَتعلَّقُ بالجِدار. رواهُ أبو داود وهو صحيح. كلُّ هذهِ النّصوصِ والرِّواياتِ الصّحيحة إذا جَمَعْناها فبماذا نَخرُج؟ نخرج بأنّ الاخْتلاط من الأمور المحرمة المنكرة والخطيرة على المجتمعات لو فتح بابها.
فالنّهيُ عن الاخْتلاطِ ليس مِن التّقاليد، بل هو مِن الثَّوابتِ الشّرعيَّةِ رَغْمًا عن أنْفِ كل أحد، والمُحاوَلاتُ اليائسةُ في حَجْبِ هذهِ الحقيقةِ لَن تُفْلِحَ بإذْنِ الله، واللهُ غالِبٌ على أمْرِه ولكنّ أكْثرَ النّاسِ لا يعلَمون.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما قلت، فإن كان صوابًا فمن الله وحده، وإن كان غير ذلك فمن نفسي ومن الشيطان، والله ورسوله منه بريئان، وأستغفر الله إنه كان غفارًا.
الخطبة الثانية
أما بعد: أيها المسلمون، ومن شبه العلمانيين أنهم ينادون بعمل وتوظيف المرأة في محلات بيع للمستلزمات النسائية، وأن هذا يحفظ خصوصيتها.
الجواب: إن الإسلام لم يوجب ولم يفرض ولم يحمّل المرأة مسئولية العمل خارج المنزل، لكنه لا يمنعها من ممارسته بضوابطه الشرعية، فالإسلام حررها من مسؤولية العمل وحتميته خارج المنزل لكي لا تقع تحت ضروريات العمل الذي يستعبدها ويستغلها ويظلمها. فالدعوة إلى نزول المرأة في الميادين التي تخص الرجال أمر خطير على المجتمع الإسلامي، ومن أعظم آثاره الاختلاط الذي يعتبر من أعظم وسائل الزنا الذي يفتك بالمجتمع ويهدم قيمه وأخلاقه.
إن بيع المرأة للمرأة ما يخصّها لا شك أن فيه خصوصية ومصلحة من جانب، لكن فيه مفاسد أعظم تتعلق بالمرأة البائعة.
ما حال البائعة وهي تدخل وتخرج صباح مساء مع العمالة في كل يوم وبشكل متكرّر على مدى العام وتجاورهم في المحلات وما يترتب على ذلك من علاقات؟! ألا يكون هذا مدعاة لأن يتطور ذلك إلى علاقات محرمة؟! ما حال البائعة في الصباح الباكر وفي المساء المتأخر؟! هل ستأمن المرأة على نفسها خاصة إذ علم بعض ضعفاء النفوس من العاملين أو المتسوقين أنه لا يوجد داخل المحل سوى امرأة؟! فمن يأمن أن يدخل عليها في تلك الفترات رجل أو أكثر متنكرين في لباس نساء لأغراض سيئة؟! ما حال البائعة حينما يأتي صاحب المحل في آخر الليل ويغلق المحل عليها ويجرد مبيعات اليوم معها؟! وما حال البائعة حينما يدخل الرجل وامرأته ويعرض الرجل الملابس الداخلية أمام زوجته وهي تشاهد ذلك المنظر وربما لم تكن متزوجة؟! فهل حافظنا على خصوصية المرأة؟! ما مصير آلاف الرجال الذين سيفصلون من وظائفهم في هذه المحلات لتأتي امرأة تعمل مكانه؟! وما أثر هذا على المجتمع الذي يعاني أصلاً من البطالة؟! ماذا لو جعلنا في كل سوق عام وفي كل مجمع تجاري قسم خاص بالنساء لبيع المستلزمات النسائية الخاصة بحيث يتكون من عدد من المحلات، وله مدخل خاص لا يدخله إلا النساء، سواءً كن عاملات أو متسوقات، كما هو حاصل في التعليم؟! لا شك أن هذا سيحافظ على خصوصية المرأة أكثر من هذا الطرح الموجود الآن.
فنسأل الله جل وتعالى أن يصلح أحوال المسلمين.
نذر وربك بالمصائب تنذر وخطى على درب الْهوى تتعثر
فتن كليل مظلم يندى لَها منا الْجبين فنارها تتسعر
ما كنت أحسبنِي أعيش لكي أرى بنت الجزيرة بالْمبادئ تسخر
جهلت بأنا أمة محكومة بالدين يَحرسها الإله وينصر
جهلت بأنا أهل دين ثابت في ظله لا يُستحل الْمنكر
أختاه يا بنت الْجزيرة هكذا وخنادق الباغين حولك تحفر
أو هكذا والملحدون تَجمعوا من حولنا والطامعين تَجمهروا
قد تهدم السد المشيد فأرةٌ ولقد يُحطم أمة متهوِّر
أخشى على الأخلاق كسرا بالغًا إن المبادئ كسرها لا يُجبَر
اللهم أعز الإسلام والمسلمين.
ــــــــــــــــــــ(67/304)
حرمة الزنا
...
...
5184
...
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
...
...
الفتن, الكبائر والمعاصي, قضايا المجتمع
...
عبد الله بن راضي المعيدي
...
...
حائل
...
...
...
جامع عمر بن الخطاب
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- صيانة العرب لأعراضهم في الجاهلية. 2- قبح وشناعة جريمة الزنا. 3- عقوبة الزناة في الدنيا والآخرة. 4- آثار الزنا على الفرد والمجتمع. 5- أسباب ودواعي الوقوع في جريمة الزنا.
الخطبة الأولى
أمّا بعد: فأوصيكم ـ أيها الناس ـ ونفسي بتقوى الله، فاتقوه ـ رحمكم الله ـ تقوى من أناب إليه، واحذروه حذر من يؤمن بيوم العرض عليه، واعبدوه مخلصين له الدين، وراقبوه مراقبة أهل اليقين، وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين. فلا شكّ أن ميزان العبد وقيمته يظهر في الإباء والعزيمة، ويكون قدره في نزاهته، وسمعتُه وشرفُه يكون في طهارة عرضه وبياض سمعته وجميل أفعاله وسلامة قلبه من الشهوة والشبهة.
ولقد كان الشرفاء الأحرار في كل الأمم حتى في عصور الجاهلية يعتزون بشرف سمعتهم وصيانة أعراضهم، ويقفون دونها أسودًا كاسرة ونمورًا مفترسة يغسلون إهانة أعراضهم بأسنة رماحهم وحد سيوفهم؛ ومع أنهم كانوا يُشركون بالله ويعبدون الأصنام ويأكلون الميتة إلا أن العِرض له شأنٌ عظيم عندهم، وتأمل في هذه القصة العجيبة: روى أهل السير أن النساء جِئن يبايعن رسول الله بعد فتح مكة، وكان ممن يبايع هند بنت عتبة وهي التي فعلت ما فعلت قبل إسلامها، وكان النبي يبايع النساء بالكلام دون مصافحة كالرجال، فلما جاءت النساء إليه ومعهن هند وكانت البيعة تتمّ على ما ورد في آية البيعة في قوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ الآية [الممتحنة: 12]، فلما سمعت هند بهذا قالت ـ وانظر ماذا قالت ـ قالت: "أوَتزني الحرة يا رسول الله؟!
ومع ذلك فإن الناظر اليوم لحال الكثير من المسلمين أو ممن يدعي الإسلام سواء كانوا أفرادًا أو دُولاً يجد أنا نعيش في زمن يوشك أن تسود فيه الإباحية إن لم تكن سادت، فصورٌ فاضحة ودعوات آثمة ومسلسلات فاتنة وأغانٍ ماجنة واختلاط رجال بنساء ونساء كاسيات عاريات، بل أصبحت جريمة الزنا ومعاقرة كؤوس الخمر أمرًا طبيعيا عند كثير من الناس.
من أجل هذا كله وتحذيرًا للمؤمنين وإبراءً للذمة كانت هذه الخطبة عن جريمة من أشهر الجرائم وفاحشةٍ من أكبر الفواحش وموبقة من أخطر الموبقات، إنها جريمة الزنا أعاذنا الله وإياكم منها وحمى أعراضنا وأعراضكم.
عباد الله، وإن المتأمل لحال الكثير يجد أن حرمة هذه الجريمة سقطت من عقولهم، وكم سقط في أوحالها من أناس، والذي يسأل مراكز الهيئات ويعرف حال كثير من الشباب يسمع ويرى ما يقضّ المضجع ويحزن القلب، بل انظر إلى حال كثير من الناس في الإجازة إلى أين يسافرون وماذا يريدون، والأدهى من ذلك إن صارت هذه الجريمة أمرًا طبيعيًا نسأل الله السلامة والعافية، بل وصارت في بعض البلدان مما يُصرَّح به ويُدعى إليه.
معاشر المومنين، إن جريمة الزنا من أخطر الجرائم وأقبحها؛ فجريمة الزنا تفقد الرجولة، وتُذهب الشهامة، وتضيع المروءة، وتُعدم الحياء، ويحل بها مكان العفاف الفجور، وتقوم فيها الخلاعة مقام الحشمة، إنها جريمة قبيحة وفعلة مشينة، كم جرعت من غصة، وكم أزالت من نعمة، وكم جلبت من نقمة، وكم خبّأت لأهلها من آلام منتظرة وغموم متوقعة وهموم مستقبلة، والقصص في هذا وعنه كثير ويطول المقام بذكره ولا يخفى لشهرته.
ويكفي في قبح الزنا أن الله تعالى قرن الزاني مع المشرك فقال: الزَّانِي لا يَنكِحُ إلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنكِحُهَا إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ [النور: 3].
والزنا يسلب من فاعله الاسم الحسن وهو العفة والطيب، والزاني يكتسب اسم الفجور، وفاعله خبيث، والله تعالى قد حرم الجنة على كل خبيث، فقال تعالى: وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ، فالجنة دار الطيبين، والنار دار أهل الخبث والعصاة.
وفي حديث المنام قال رسول الله : ((فانطلقنا فأتينا على مثل التنور، أعلاه ضيق وأسفلة واسع، فيه لغطٌ وأصوات، قال: فاطلعنا فيه فإذا فيه رجال ونساء عُراة، فإذا هم يأتيهم لهب من أسفل منهم، فإذا أتاهم ذلك ضوضوا ـ أي: صاحوا من شدة الحر ـ فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟! قال هؤلاء الزناة والزواني)).
وذكر بعض العلماء آثارًا منها: (المقيم على الزنا كعابد وثن)، بل وذكروا رحمهم الله أن الزاني يحرم من الحور العين في الجنة وإن دخلها بعد أن يعفوَ الله عنه، إما مباشرة أو بعد تعذيب بالنار. يقول الإمام أحمد: "ليس بعد قتل النفس أعظم من الزنا"، بل يكفي في قبحه أن الله فطر الحيوانات البهيمة على بغضه؛ حتى الحيوانات التي لا عقل لها فكيف عبدٌ له عقل؟!
واسمع لهذه القصة الجميلة: روى البخاري في صحيحه عن عمرو بن ميمون الأدوي قال: رأيت في الجاهلية قردًا زنى بقردة، فاجتمع عليهما القرود، فرجموهما حتى ماتا. ومع ذلك تجد أن العاقل ـ إن جاز له تسميته بذلك وإلا فهو مسلوب العقل وإلا لو كان عاقلا ما فعل ذلك ـ تجد الواحد اليوم يحرص على فعل الزنا ويتربّص بنساء المسلمين ويبحث ويحاول، وبعضهم يدفع نَعَم يدفع ماله من أجل ذلك، فيسافر إلى تلك البلاد التي عرفَت بهذا؛ فيعصي ربه ويدسّ بعرضه ولا شيء من الناس، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
معاشر المومنين، أما آثار الزنا فكثيرة جدًا يصعب حصرها، ويطول المقام بذكرها؛ فالزنا جريمة عظيمة الآثار شديدة الوقع، ومن أعظم آثاره غضب رب العالمين واختلاط الأنساب وضياع الحقوق، ومن آثاره العظيمة الفضيحة في الدنيا والآخرة نسأل الله السلامة والعافية، ومن أشد آثاره تلك الأمراض المدمرة كالزهري والسيلان، وذلك المرض العضال المسمى بالإيدز الذي سلّطه الله على الزناة الزواني وجعله عقوبة لهم، أفما يخشى أولئك الذي يتجرّؤون على محاربة الله بهذه المعصية أن يسلّط الله عليهم ما سلّطه على غيرهم فتذهب حياتهم من أجل شهوة ولذة عابرة وينالون ألم الدنيا والآخرة والعار والشنار؟!
الخطبة الثانية
أما أسباب الزنا ـ يا عباد الله ـ فمن المعلوم أنه ما من خطأٍ أو معصية إلاً ولها سبب، ونحن سنضع أيدينا على تلك الأسباب التي أدّت أو تؤدي إلى الوقوع في تلك الفاحشة، ومن ثمّ فيجب علينا السعي في الابتعاد عنها والتحذير منها وتقليلها، ولهذا فتأمل ما في قول الله تعالى: وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً [الإسراء: 32]، لماذا قال الله تعالى: وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى ولم يقل: "لا تزنوا"، قال أهل التفسير: لأن قوله تعالى: وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى أبلغ من قوله: "لا تزنوا"؛ لأن قوله: وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى أي: لا تقربوا الزنا ودواعيه ومقدماته وأسبابه، فيجب أن تعرف أسباب الزنا أعاذنا الله وإياكم منه، ثم تبتعد عنها وتذَرها وتحذر منها.
وكثير من الناس اليوم يتحدّثون عن الأخطاء ويعيبون على من يقع فيها؛ ولكنهم لا يتحدثون عن أسبابها وذلك لأمرين: أولاً: الجهل بتلك الأسباب، ثانيًا: أن الكثير يعلم بذلك ولكنه يعلم أنه شريك في تلك الأسباب وشريك في الوقوع فيها.
وإن من أعظم دواعي الزنا وأسبابه ما يلي:
أولاً: ضعف التوحيد والإيمان بالله تعالى، إن توحيد الله والإيمان به هو صمام الأمان، وهو الضامن للعبد أن يقع في المعاصي ومنها هذا الفعل القبيح، ودعني أضرب لك مثالاً على ذلك؛ لأن بعض الناس يظن أن التوحيد والإيمان لا علاقة له بذلك.
انتبه معي، أليس من التوحيد في الربوبية والأسماء والصفات أن تعلم أن الله قادر وبيده كل شيء وأنه شديد العقاب وأنه سميع يسمعك ويراك؟! هل نؤمن بهذا؟ الجواب: نعم؛ لكن الواقع يقول: إن عند الكثير منا ضعفًا شديدًا في هذا الجانب، وإلا كيف يؤمن الواحد بهذا ثم يتحرّى أن يعصي الله وهو يسمعه ويراه ويقدر على أخذه والبطش به لأنه أغضبه؟! بل كيف يتحرّى البعض أن يفعل هذه الفعلة أو غيرها من القبائح وهو يعلم أن الله يراه وهو لا يستطيع أن يفعلها أمام طفل لا يعقل أو أمام بهيمة تنظر إليه؟! فلا إله إلا الله.
إذا ما خلوت الدهر يومًا فلا تقل: خلوتُ ولكن قل: عليّ رقيبُ
ولا تَحسبنّ الله يغفلُ ساعةً ولا أنّ ما تُخفي عليه يغيبُ
ولهذا فتأمل في قصة أصحاب النار الثلاثة حينما اشتد عليهم الحر، فقال أحدهم: اللهم إنه كانت لي ابنة عم... إلى أن قال: فلما قدرت عليها، وفي رواية: فلما قعدت بين رجليها قالت: اتق الله ولا تفضَّ الخاتم إلا بحقه. ماذا حصل؟ هنا تحرك الإيمان فقال: فانصرفت عنها وهي من أحب الناس إليّ. والحديث في الصحيحين.
إذًا فاحرص على تعلم التوحيد ودراسته، واحرص على زيادة الإيمان عن طريق مجالس أهل الإيمان والدروس والمحاضرات وقراءة القرآن، وإلا فأنت على خطرٍ عظيم، ولا يتعظ بعقوبة إلا هالك؛ لأن بعض الناس إذا قلت له: تُب إلى الله، حافظ على الصلوات، جدِّد إيمانك، قال لك: ليش أنت تراني أسكر؟! أنا أفضل من فلان، وهكذا يجيبك بتزكية نفسه وثقته بها، يقول النبي : ((إن الإيمان ليَخْلَق في جوف أحدكم كما يخلق الثوب، فاسألوا الله أن يجدد الإيمان في قلوبكم))، فالله اللهَ بالتوبة والاستغفار والرجوع إلى الله، فإنه غفار لمن تاب ثم اهتدى.
ثانيًا: من الأسباب أيضًا الغفلة عن العقوبة، وهذه المصيبة بحدّ ذاتها كما يقول ابن القيم رحمه الله أن يكون قلب العبد غافلا عن عقوبة الله؛ فترى الواحد يعصي الله؛ لا يصلي ويعقّ الوالدين، وربما وقع في هذه المعصية الشنيعة، ومع ذلك هو لا يخشى من أن يعاقبه الله أو يأخذه أخذ عزيز مقتدر، وهو مع ذلك يسمع ويرى تلك القصص التي أُخذ أصحابها وأتاهم ملك الموت وهم في حالة لا ترضِي الله تعالى، فمنهم من أُخذ وهو يغني أو وهو في مرقص أو بيده كأس خمر نسأل الله السلامة والعافية .
ثالثًا: من أعظم الأسباب النظر المحرم، وهذا من أعظم أسباب الوقوع في الزنا حمانا الله جميعًا، ولهذا يقول تعالى: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ [النور: 30]، فتأمل كيف قدّم حفظ البصر على حفظ الفرج؛ لأن النظر سبب للوقوع في المحرم، وأصل معظم المعاصي هو النظر.
كل الْحوادث مبداها من النظر ومعظم النار من مستصغر الشرر
كم نظرة بلغت من قلب صاحبها كمبلغ السهم بيْن القوس والوتر
ومن ذلك ما ابتلي به كثير من الناس من التساهل بالنظر إلى وسائل الإعلام المرئية، ومن أشدها النظر إلى شاشات الفضائيات، أو ما يسمى بالدش. وخذها مني صريحة يا عبد الله: إن من أعظم أسباب الزنا واللواط والجرائم هي تلك الدشوش، إن واقع كثير من الشباب والفتيات وأنا أقول هذا من واقع معرفة وسؤال وزيارات، إن الشباب والفتيات يعيشون في جحيم لا يطاق من جرّاء تلك المناظر التي تعرض عبر تلك القنوات الفضائية، سبحان الله! بعض الناس ما زال يجادل عنها، وما زال يصرّ على بقائها في بيته وينظر إليها الأولاد والبنات، وما هي النتيجة حينما يرى الشباب تلك المرأة التي ظهرت بأجمل صورة بل ربما ظهرت عارية أو شبهها ماذا يفعل؟! وماذا تفعل البنت حينما ترى شابًا في مسلسل أو شاشة وقد ظهر بأجمل صورة؟! ألا تتحرك الشهوات؟! ألا تقع المنكرات؟!
عجيب أيها الناس! هل غادرت من النفوس الغيرة؟! إعلان للفحشاء بوقاحة، وإغراق في المجون بتبجح، أغانٍ ساقطة وأفلام آثمة وسهرات فاضحة وقصص داعرة وملابس خالعة وعبارات مثيرة وحركات فاجرة، ما بين مسموع ومقروء ومشاهد في صور وأوضاع يندى لها الجبين في كثير من البلاد والأصقاع إلا من رحم الله، على الشواطئ والمنتزهات وفي الأسواق والطرقات، فلا حول ولا قوة إلا بالله، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
حسبنا الله من أناس يهشّون للمنكر، ويودون لو نبت الجيل كله في حمأة الرذيلة، وحسبنا الله من فئات تودّ لو انهال التراب على الفطرة المستقيمة والحشمة الرفيعة، ما هذا البلاء؟؟! كيف يستسيغ ذوو الشهامة من الرجال والعفة من النساء لأنفسهم ولأطفالهم لفتيانهم ولفتياتهم هذا الغثاء المدمّر من ابتكارات البثّ المباشر وقنوات الفضاء الواسع؟! ومن المسؤول عن هذا كله؟! ولهذا قال رسول الله عليه الصلاة والسلام: ((ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنّة))، وأي غش أعظم من هذا؟! ولكن إلى متى الغفلة؟! نسأل الله السلامة.
رابعًا: ومن الأسباب أيضًا المعاكسات الهاتفية، إنّ من أعظم أسباب الزنا والوقوع في الفواحش مكالمة عبر الهاتف، إن هناك ذئابًا بشرية تتصيّد بنات المسلمين، وتحاول النيل من أعراضهن باسم الحب والعشق العفيف، وكذبوا والله. ومما زاد الأمر سوءًا والشر بلية غفلة كثير من الأولياء عن الفتيات، فتجد أن كلّ فتاة تحمل معها جوالها، ووالله لو قدر لك أن تتطلّع على بعض رسائل جوالات الشباب أو الفتيات لرأيت أمرًا خطيرًا، وأنا لا أدعو إلى نزع الثقة، لكن أقول: لماذا لا نحذر ونراقب؟! ثم لماذا وما الحاجة أن تتّخذ كل فتاة جوالاً يخصها؟! ثم نزع هذه الأشياء لا يعني عدم الثقة أبدًا، بل هو من أسباب الوقاية، وقد صدق من قال: "نظرة ثم مكالمة ثم موعد ثم لقاء ثم جريمة"، نسأل الله السلامة.
خامسًا: ومن أسباب الوقوع في هذه الفاحشة السفر إلى بلاد الكفر، إنه باب من الأبواب الكبرى للوقوع في هذه الجريمة، وكل من يسافر إلى تلك البلاد الكافرة أو البلاد التي تدّعي أنها إسلامية بلا هدف بيّن لا بد أنه يقع في الفاحشة إن لم يكن يقصدها إلا من رحم الله، وإلا ما معنى أن يأتي الواحد إلى بلده وأهله وعشيرته ثم يجلس بكل وقاحة وصفاقة وجه ويقصُّ قصصه ومخازيه في المجالس دونما حياء؟!
سادسًا: التبرج والسفور، ومن نظر في الأسواق والمستشفيات والأماكن العامة يعرف هذا، ولكن المصيبة أن بعض الناس لا يعرف من التبرج إلا أن تمشي المرأة عارية، أما أن تُظهِر يديها أو قدميها أو تلبس نقابا أو تتعطر أو عباءة كتافية أو مخصّرة فهذا لا شيء فيه، وكل من سمح لامرأته سواء كانت زوجة أو ابنةً أو أختًا أن تظهر أشياء من مفاتنها ساهم في ذلك سواء اقتنع أم لم يقتنع.
سابعًا: الاختلاط، والذي يهمنا هنا هو تساهل البعض في أشياء وهي شديدة الخطر، ومن ذلك كشف المرأة وجهها لأقارب زوجها كابن أخيه أو أخته أو نحو ذلك، ومنه دخول الحمو على الزوجة، ولعظم هذا قال الرسول : ((الحمو الموت)). وكذلك مصافحة المرأة للرجل الأجنبي، ويزعمون أنه لا شهوة في ذلك، سبحان الله! ولا يعني هذا أني أشك أو أنزع الثقة من الأخ أو الزوجة، وإنما المسألة حرام وحلال.
ثامنًا: الغناء بريد الزنا ورسوله، قال يزيد بن الوليد: "إياكم والغناء؛ فانه ينقص الحياء ويزيد الشهوة".
تاسعًا: المجلات الخليعة والشهرية، فالحذر الحذر من شرائها وتداولها، بل ويجب علينا أن ننكرها على من باعها لأنه يفسد أولادنا وبناتنا، والعجب ممن يحملها إلى بنته وفيها صور النساء والشباب، فأين الغيرة على المحارم؟!
عاشرًا: وهو عندي من أهم الأسباب، ويجب أن ننتبه له ونهتم له، بل نبحث الحلول في الكلام عنه، ولو سألنا الشباب والفتيات عن أعظم الأسباب لقالوا جميعا وبصوت واحد: غلاء المهور، فكيف ننشر المنكر من الفضائيات وتبرج نساء وصور عارية ونزيد في مهور النساء ثم نطالب الشباب بالعفاف؟! هذا أمر لا يقبله عقل.
الحادي عشر: ضعف الأمن، وهذا من أعظم الأسباب؛ فإن الواجب علينا أن لا نتساهل في مثل هذه القضايا، وأن نبترها ونقطع دابر من يفعلها عن طريق الأحكام الشرعية، أما إذا قمنا كما يفعله البعض بالتستر لا بالستر، فإن هناك فرقا بين التستر والستر، فإذا وصلت القضية إلى السلطان أو من ينيبه كالمراكز فإن هناك من يخون الأمانة فيشفع في مثل هذه القضايا، أو يتستر على أصحابها لمصلحة دنيوية ومكانة، وهذا ملعون كما في الحديث، وهو داء بني إسرائيل، وهو سبب للعقوبة الإلهية، فلينتبه لهذا المسؤولون، وليعلموا أنهم مسؤولون أمام الله أشد المسؤولية. والأسباب كثيرة، ولكن خشية الإطالة أكتفي بما ذكرت سائلاً الله أن ينفع بذلك المسلمين، إنه سميع مجيب. ومن اعتصم بالله عصمه، وإذا تعاونّا جميعا على تقوى الله وتقليل الأسباب سلمنا من هذا الشر بإذن الله.
اللهم صلِّ على محمد وعلى أزواجه وذريته كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى أزواجه وذريته كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد...
ــــــــــــــــــــ(67/305)
السحر وآثاره
...
...
5208
...
الأسرة والمجتمع, التوحيد, الرقاق والأخلاق والآداب
...
...
الشرك ووسائله, الكبائر والمعاصي, قضايا المجتمع
...
محمد بن سعد الشهراني
...
...
خميس مشيط
...
...
...
جامع النور
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- خطر السحر وعِظم شرّه. 2- بعثة محمد أبطلت مسالك الجاهلية وقضت على معالم الأوهام والخزعبلات. 3- انتشار السحر حتى عبر القنوات الفضائية. 4- حكم عمل السحر. 5- حكم من أتى ساحرا أو كاهنا. 6- أسباب العلاج من السحر.
الخطبة الأولى
عباد الله، فإن الكثير من الناس يشكون داءً عظُم انتشاره واتّسع شره، داءً خطيرا وشرّا كبيرا يصادم الفطر ويصادر العقل، لغز من الألغاز الفتاكة، وسرّ كبير من الأسرار الهدامة، إنّه كهف مظلم بظلام آثاره، ومستنقع قذر بقذارة أهله، فشا بين الرجال والنساء، والفقراء والأغنياء، والأميين والمتعلمين، والمرضى والأصحاء، والبؤساء والوجهاء، والعالة والرؤساء، تجده في أوساط المجتمع كله؛ السياسي والاقتصادي والثقافي والرياضي، فشا بين الناس عامة وخاصة إلا من رحم ربي، إنه مزيل البسمات، وهادم البيوتات، فكم من أسرة فرق شملها وشتت جمعها، وكم من نساء طلقن وأطفال شردوا، وكم من صحة ذبلت وسعادة سلبت، وكم من فرحة قتلت، وكم من تجارة كسدت، إنه خطر على المجتمع بأسره.
أعرفتموه أيها الإخوة؟ إنه السحر، تلكم العزائم والرقى والعقد والطلاسم التي تؤثر في الأبدان والقلوب، فيُمرض ويقتل، ويفرق ويهدم، ويفسد ويدمر، ويرى المسحور النافع ضارًا والضار نافعًا. إنه السحر قرين الكفر، عالم عجيب، ظاهره فاتن خلاب، وباطنه قذر عفن، هذه هي أعمال الشعوذة والسحر، ما حلت في قلوب إلا أظلمتها، ولا في مجتمعات إلا دمرتها، تجلب الأوهام والخيالات الباطلة والوساوس الرديئة.
أيها الإخوة المؤمنون، لما بعث الله نبيه محمدًا بعثه بالهدى ودين الحق الذي أبطل مسالك الجاهلية، وقضى على معالم الشرك والوثنية، من الأوهام والخزعبلات والتخرصات والشعوذات التي وأدت التفكير وسلبت العقول، كان الناس يعمدون إلى نُصُبٍ وحجارة فيعلقون بها آمالهم وآلامهم، وآخرون يتعلقون بحروز وتمائم وخيوط وطلاسم، علها تدفع أو تنفع، فلما جاءت العقيدة الخالصة لله حررت القلوب ورفعت النفوس وسمت بالعقول، فأقامت سدًا منيعًا ودرعًا مكينًا أمام زحف الشعوذة والضلالات وغزو السحرة والخرافات، إذ كيف تزكو النفوس وتصلح القلوب وتُعمر الحياة وتُشاد الحضارات بأوهام السحرة الكاذبين ودجل المشعوذين السارقين النفعيين الذين لا يرعون للإنسان كرامة ولا للعقول حصانة وصيانة؟!
ومع أن العالم اليوم ـ أيها الإخوة ـ يعيش عصر التطور والآليات والتقدم والتقنيات التي يُفترض أنها تُناوئ الخرافة وتناقض الشعوذة وتحارب الدجل والسحرة، إلا أنك تجد فئة من الناس لا زالوا بأعمال السحرة مصدقين، عاكفين ركبهم عندهم، يسألونهم في خوف وذل عمّا هم عنه عاجزون، من دفع ضر أو جلب نفع، فلْيرِنا أهل السحر وأربابه إن كانوا صادقين قدرتهم في دفع مرض يصيبهم أو مصيبة تأتيهم أو رد مَلَك الموت إذا داهمهم.
السحرة ـ إخوة الإيمان ـ وقعوا في سخط الله وغضبه، واستحقوا عقاب الله ونقمته، إذ إن السحر يفسد أعمال الساحر ويبطلها؛ لأنه يتضمن الشرك بالله تعالى، فلا يكون الساحر ساحرًا إلا إذا تقرب إلى الشياطين بطاعتهم والانصياع لأوامرهم، بالذبح لهم والسجود لهم والاستغاثة والاستعاذة بهم ودعائهم من دون الله أو البول على المصحف ودهسه والدخول به إلى الخلاء أو كتابة آيات الله بالقذارة أو بدم الحيض أو أكل النجاسات والخبائث وفعل الفاحشة بأمه أو ابنته، وغير ذلك من الموبقات والمهلكات.
هذه الفعال الكفرية التي يفعلها الساحر هي دليل صدقه في استجابته للشياطين، وعنوان ارتباطه بهم. حينئذٍ يوقن الشيطان أن تلميذه من السحرة قد جاوز المرحلة، فيبدأ يسخر له من شياطين الجن من يعينه على إحداث الفتن والجرائم، هذا سرّ قصة تعلم الساحر الكاذب للسحر.
قال عز وجل: هَلْ أُنَبِئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزّلُ الشَّيَاطِينُ تَنَزّلُ عَلَى كُلْ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يُلْقُونَ السّمْعَ وَأَكّثَرَهُمْ كَاذِبُونَ [الشعراء: 221-223]. وكلما كان الساحر أشد كفرًا كان الشيطان أكثر طاعة وأسرع في تنفيذ أمره، وعلى هذا فالسحر يمثل طعنة في صميم العقيدة، وشرخا خطيرا في صرح التوحيد الشامخ، ولذا فهو من نواقض الإسلام الكبرى، يقول تعالى: وَمَا يُعَلّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ [البقرة: 102]، وفي الحديث عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه : ((مَنْ عَقَدَ عُقْدَةً ثُمَّ نَفَثَ فِيهَا فَقَدْ سَحَرَ، وَمَنْ سَحَرَ فَقَدْ أَشْرَك،َ وَمَنْ تَعَلَّقَ شَيْئًا وُكِلَ إِلَيْهِ)) أخرجه النسائي، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي قال: ((ليس منا من تَطير أو تُطير له، أو تَكهن أو تُكهن له، أو سَحر أو سُحر له)) رواه الطبراني بسند حسن.
وعدّ المصطفى السحر من السبع الموبقات أي: المهلكات، كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة عن النبي قال: ((اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ))، قالوا: يا رسول اللَّه، وما هن؟ قال: ((الشِّرْكُ بِاللَّهِ، وَالسِّحْرُ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ، وَأَكْلُ الرِّبَا، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ، وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ، وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ الْغَافِلاتِ)).
أيها المؤمنون، إن الذين يقصدون السحرة قوم ضعف إيمانهم بالله، وضعف توكلهم على الله، هم بإتيانهم للسحرة قد اشتروا الغضب والخسران بالرضا والغفران، واستحقوا الوعيد والتهديد، روى مسلم في صحيحه عن بعض أزواج النبي : ((من أتى عرافًا فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين يومًا، فإن صدقه فقد كفر بما أنزل على محمد))، وعن أبي هريرة عن النبي قال: ((من أتى كاهنًا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد ))، وفي الحديث: ((لا يدخل الجنة مدمن خمر، ولا مؤمن بسحر، ولا قاطع رحم)) حسنه الألباني.
إخوة الإيمان، في عمل السحر وإتيان السحرة جمعٌ بين الكفر بالله والإضرار بالناس والإفساد في الأرض، فالسحرة يعملون للإفساد والفساد مُقابل مبالغ يتقاضونها من ضعاف النفوس وعديمي الضمائر، الذين امتلأت قلوبهم حسدا وحنقا وغيظا على إخوانهم المسلمين، لا يبالون بإخوانهم الذين يُعانون آثار السحر الوخيمة، فلا براحةٍ يهنؤون، ولا باستقرار يسعدون، ضيق وشدة وحزن وكدر يجدونه، خلافات وشقاق ونزاع وقتال يحصل بين الأسرة الواحدة والبيت الواحد.
ألا فليتق الله هؤلاء الذين يقصدون السحرة ليفسدوا في الأرض، ألا يخافون سخطَ الله ونقمته؟! ألا يخشون عاقِبة إيذاء المؤمنين الآمنين والمؤمنات العفيفات؟! يقول الله عز في علاه: وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا [الأحزاب: 58]، وعن ابن عمر قال: صعد رسول الله المنبر فنادى بصوت رفيع فقال: ((يا معشر من قد أسلم بلسانه ولم يُفْضِ الإيمانُ إلى قلبِه، لا تُؤذُوا المسلمين، ولا تُعيِّروهم، ولا تتبعوا عوراتهم؛ فإنه من تتبع عورة أخيه المسلم تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته يَفْضَحْهُ ولو في جوف رحله)) أخرجه الترمذي وصححه الألباني.
أيها الإخوة المؤمنون، إننا اليوم في زمنٍ كثر فيه هؤلاء الأدعياء الدجاجلة من السحرة والمشعوذين، ووجدوا لهم مكانًا وعزًا وانتشارًا، فهذه بعض وسائل الإعلام وبعض القنوات الفضائية تجعل من برامجها ما تبث من خلالها أعمال السحرة والمشعوذين والدجالين، بل قنوات تفتح من أجل الترويج للسحر والسحرة؛ فتراهم يأتون الناس من باب العلاج الشعبي والتداوي والتطبيب، أو من باب التأليف والمحبة بين الزوجين، أو من باب سداد ديون المديونين، وهم في الحقيقة يحملون السم الزعاف والشر المستطير، فهم الذين يفرقون ويفسدون، ويزرعون الفتن ويخلقون الشرور، بل حدا ببعضهم أن يعملوا السحر بالأولاد والفتيات من أجل فعل فاحشة اللواط والزنا بالمسحورين. من هنا ـ أيها الإخوة ـ يأتي الواجب العظيم في القضاء على هذه الفئة الكافرة؛ لما تُمثله من خطر على الأمة وإخلال بأمن المجتمع وإفساد لعقائد الناس واستهانة بعقولهم وابتزاز لأموالهم.
ومن أعمال السحر ما يسمى بالعلم بالنجوم وتأثيراتها النفسية، والتنبؤ عن طريقها بالمستقبل. عن ابن عباس قال: قال رسول اللَّه : ((مَنْ اقْتَبَسَ عِلْمًا مِنْ النُّجُومِ اقْتَبَسَ شُعْبَةً مِنْ السِّحْرِ زَادَ مَا زَادَ)) حسنه الألباني. ومن ذلك التعلق بالنجوم والمطالع والأبراج والكواكب، والتنبؤ من خلاله بالمستقبل، فمن وُلِدَ في برج كذا فهو السعيد في حياته، وسيحصل على ما يريد من مال أو جاهٍ أو حظوظ، ومن وُلِدَ في برج كذا فهو التعيس المنحوس، وسيحصل له كذا وكذا من الشرور والبلايا. اللهم إنا نسألك السلامة في الدين وصحة الاعتقاد.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنْ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ [البقرة: 102].
الخطبة الثانية
عباد الله، لم تكن أعمال الشعوذة والسحرة لتروج في المجتمع لولا ضعف الإيمان لدى الكثير وانتشار المعاصي في كثير من البيوت وهجر قراءة القرآن والحرص على الأذكار، فعلينا أن نحصن أنفسنا وأهلينا بالإيمان بالله والتوكل عليه، ثم بالرقى المشروعة والأوراد المأثورة، كأذكار الصباح والمساء وأدعية دخول المنزل والخروج منه وأذكار النوم والأذكار دبر الصلوات وغيرها من الأذكار المأثورة؛ فإنها حصن حصين وحرز أمين لصاحبها بإذن الله من كل داء وبلاء.
ومن ابتلي بشيء من السحر فليصبر ويحتسب، ويعمد إلى الطرق الشرعية التي جعل الله فيها شفاء ورحمة للمؤمنين من الأمراض الحسية والمعنوية، فإن الله سبحانه بمنه وفضله جعل لكل داء دواء، وأنفع العلاج ما كان بالرقية من القرآن الكريم والعلاج بالأدعية الشرعية النبوية.
يقول الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله رحمة واسعة: "ومن الأدعية الثابتة عنه في علاج الأمراض من السحر وغيره وكان يرقي بها أصحابه: ((اللهم رب الناس، أذهب البأس، واشف أنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك، شفاء لا يغادر سقما)) أخرجه البخاري.
ومن ذلك الرقية التي رقى بها جبرائيل النبي وهي قوله: ((بسم الله أرقيك، من كل شيء يؤذيك، ومن شر كل نفس أو عين حاسد، الله يشفيك، بسم الله أرقيك)) أخرجه مسلم.
ومن علاج السحر بعد وقوعه أيضًا، وهو علاج نافع للرجل إذا حبس من جماع أهله، أن يأخذ سبع ورقات من السدر الأخضر، فيدقها بحجرٍ أو نحوه، ويجعلها في إناءٍ ويصب عليه من الماء ما يكفيه للغسل، ويقرأ فيه آية الكرسي، وقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [سورة الإخلاص]، وقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ [سورة الفلق]، وقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ [سورة الناس]، وآيات السحر التي في سورة الأعراف، من قوله سبحانه: وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ [آية: 117]، إلى قوله تعالى: رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ [آية: 122]، والآيات في سورة يونس من قوله سبحانه: وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ [آية: 79]، إلى قوله تعالى: وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ [آية: 82]، والآيات في سورة طه: قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى [آية: 65]، إلى قوله تعالى: وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى [آية: 69]. وبعد قراءة ما ذكر في الماء يشرب منه بعض الشيء ويغتسل بالباقي، وبذلك يزول الداء إن شاء الله، وإذا دعت الحاجة لاستعماله أكثر من مرةٍ فلا بأس، حتى يزول الداء بإذن الله تعالى.
ومن علاجه أيضًا إتلاف ما فعله الساحر من عقَدٍ أو غيرهما، فيما يعتقد أنه من أعمال الساحر.
أما علاجه بعمل السحرة ونحوهم مما يتقربون إلى الجن بالذبح أو غيره من القربات فهذا لا يجوز؛ لأنه من عمل الشيطان، بل من الشرك الأكبر، كما لا يجوز علاجه بسؤال الكهنة والعرافين والمشعوذين واستعمال ما يقولون؛ لأنهم لا يؤمنون، ولأنهم كذبة فجرة يدّعون علم الغيب ويلبّسون على الناس، وقد حذر الرسول من إتيانهم وسؤالهم وتصديقهم" اتنهى كلامه رحمه الله.
ــــــــــــــــــــ(67/306)
الحجاب والجلباب
...
...
24
...
الأسرة والمجتمع
...
...
المرأة
...
صالح بن عبد الله بن حميد
...
...
مكة المكرمة
...
...
...
المسجد الحرام
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
من أعظم مقاصد الدين إقامة مجتمع طاهر عفيف – عفة المؤمنة نابعة من دينها ظاهرة في سلوكها – الأمر بالحجاب وآدابه وأهميته – معنى الجلباب وإدنائه , ومعنى ( إلا ما ظهر منها ) وحكم ستر وجه المرأة – شبهات حول الحجاب – وظيفة المرأة ودورها
الخطبة الأولى
أما بعد:
أيها المؤمنون، أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل؛ فمن اتقى الله حفظه، ويسر له أمره، وهداه إلى رشده.
عباد الله، لقد بعث الله نبيه محمداً بالهدى ودين الحق، لا خير إلا دل الأمة عليه، ولا شر إلا حذرها منه. فشمل دينه أحكاماً ووصايا، وأوامر وتوجيهات في نظام متكامل مربوط برباط الفضيلة بجميع أنواعها وشتى كمالاتها ووسائلها.
وإن من أعظم مقاصد هذا الدين؛ إقامة مجتمع طاهر، الخلق سياجه، والعفة طابعه، والحشمة شعاره، والوقار دثاره، مجتمع لا تهاج فيه الشهوات، ولا تثار فيه عوامل الفتنة، تضيق فيه فرص الغواية، وتقطع فيه أسباب التهييج والإثارة.
ولقد خُصَّت المؤمنات بتوجيهات في هذا ظاهرة، ووصايا جليلة.
فعفة المؤمنة نابعة من دينها، ظاهرة في سلوكها، ومن هنا كانت التربية تفرض الانضباط في اللباس سترة واحتشاماً، ورفضاً للسيرة المتهتكة والعبث الماجن.
فشرع الحجاب ليحفظ هذه العفة ويحافظ عليها، شرع ليصونها من أن تخدشها أبصار الذين في قلوبهم مرض.
وأحكام الحجاب في كتاب الله، وفي سنة رسوله صريحة في دعوتها، واضحة في دلالته، ليست مقصورة على عصر دون عصر، ولا مخصوصة بفئة دون فئة.
ياأَيُّهَا النَّبِىُّ قُل لاِزْواجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذالِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً [الأحزاب:59].
تقول أم سلمة وعائشة رضي الله عنهما: ((لما نزلت هذه الآية خرج نساء الأنصار كأن على رءوسهن الغربان من الأكسية))[1].
والجلباب: كل ساتر من أعلى الرأس إلى أسفل القدم، من ملاءة وعباءة، وكل ما تلتحف به المرأة فوق درعها وخمارها.
وإدناء الجلباب يعني: سدله وإرخاؤه على جميع بدنها، بما في ذلك وجهها. وفي تفسير ابن عباس رضي الله عنهما: هوتغطية الوجه من فوق رأسها، فلا يبدو إلا عين واحدة.
وما خوطب به أمهات المؤمنين أزواج النبي مطالب به جميع نساء المؤمنين.
يانِسَاء النَّبِىّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مّنَ النّسَاء إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلاَ تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِى فِى قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفاً وَقَرْنَ فِى بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الاْولَى [الأحزاب:32، 33].
فنهى عن الخضوع بالقول والتبرج؛ تبرج الجاهلية الأولى، وأمر بالمعروف من القول، ولزوم القرار في البيوت.
نساء المؤمنين في ذلك كنساء النبي ، بل هو في حق نساء المؤمنين آكد وأولى كما لا يخفى.
وما قوله سبحانه: لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مّنَ النّسَاء [الأحزاب:32]. إلا تأكيداً لهذا؛ إذ المقصود بيان أنهن محل الأسوة والامتثال الأول، ومن بعدهن أسوتهن.
وفي هذا يقول أبو بكر الجصاص: وهذا الحكم وإن نزل خاصاً في النبي وأزواجه، فالمعنى فيه عام فيه وفي غيره.
وفي مقام آخر ـ أيها المؤمنون والمؤمنات ـ يقول الله عز وجل: وَقُل لّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ ءابَائِهِنَّ أَوْ ءابَاء بُعُولَتِهِنَّ [النور:31].
ولقد ذكر في الآية زينتان: إحداهما لا يمكن إخفاؤها وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا ولم يقل إلا ما أظهرن منها، فعُلم بهذا: أن المراد بالزينة الأولى زينة الثياب، أما الزينة الثانية، فزينة باطنة يباح إظهارها لمن ذكرتهم الآية: وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ ءابَائِهِنَّ... إلخ الآية، وأنت خبير أيها المؤمن- وخبيرة أيتها المؤمنة- بأن ممن رخص في إبداء الزينة أمامهم: الأطفال، وغير أولي الإربة من الرجال. والوجه مجمع الحسن ومحط الفتنة، فهل يرخص كشفه للبالغين وأولي الإربة من الرجال. الأمر في هذا جلي.
وفي نفس الآية الكريمة: وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ [النور:31].
وهو ما يتحلى به في الأرجل من خلخال وغيره، فإذا كان صوت الخلخال بريداً إلى الفتنة، فكيف بالوجه الذي يحكي الجمال والشباب والنضارة؟! وصوت الخلخال يصدر من فتاة وعجوز، ومن الجميلة والدميمة.
أما الوجه فلا يحتمل إلا صورة واحدة.
يقول صاحب الدر المختار في فقه أبي حنيفة رحمه الله: وتُمنع المرأة الشابة من كشف الوجه بين الرجال لخوف الفتنة كمسِّه، وإن أُمن الفتنة. ويقول عليه الشارح ابن عابدين رحمه الله: المعنى أنها تُمنع من الكشف لخوف أن يرى الرجال وجهها فتقع الفتنة؛ لأنه مع الكشف قد يقع النظر إليها بشهوة، وأما قوله: (كمسه) أي: كما يمنع من مس وجهها وكفيها، وإن أمن الشهوة؛ لأنه سبيل إلى الشهوة والفتنة، فكذلك يُغطى الوجه؛ لأنه طريق إلى الفتنة.
وقبله قال أبو بكر الجصاص: والمرأة الشابة مأمورة بستر وجهها، وإظهار الستر والعفاف عند الخروج؛ لئلا يطمع فيها أهل الريب.
وفي السنة أيها المؤمنون والمؤمنات حين أبيح للخاطب النظر من أجل الخطبة، فغير الخاطب ممنوع من النظر. والمقصود الأعظم من النظر هو الوجه؛ ففيه يتمثل جمال الصورة.
وحينما قال عليه الصلاة والسلام: ((من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة))، قالت أم سلمة رضي الله عنها: فكيف يصنع الناس بذيولهن؟ - أي: الأطراف السفلى من الجلباب والرداء- قال: ((يرخين شبراً)) قالت: إذن تنكشف أقدامهن. قال: ((فيرخينه ذراعاً، ولا يزدن عليه))[2].
فإذا كان هذا في القدم فالوجه أكثر فتنة فلا يعدو أن يكون تنبيهاً بالأدنى على الأعلى. والحكمة والنظر تأبيان ستر ما هو أقل فتنة، والترخيص في كشف ما هو أعظم فتنة.
أيها الإخوة والأخوات:
ومهما قيل في الحجاب، في كيفيته وصفته، فما كان يوماً عثرة تمنع من واجب، أو تحول دون الوصول إلى حق، بل كان ولا يزال سبيلاً قويماً يمكِّن المرأة من أداء وظيفتها بعفةٍ وحشمةٍ وطهرٍ ونزاهةٍ على خير وجهٍ وأتم حال.
وتاريخ الأمة شاهد صدق لنساء فُضْلَيات جمعن في الإسلام أدباً وحشمةً وستراً ووقاراً وعملاً مبروراً، دون أن يتعثرن بفضول حجابهن، أو سابغ ثيابهن.
وإن في شواهد عصرنا من فتياتنا المؤمنات، متحجبات بحجاب الإسلام، متمسكات بهدي السنة والكتاب قائمات بمسؤولياتهن، خيرٌ ثم خيرٌ ثم خير من قرينات لهن، شاردات كاسيات، عاريات مائلات مميلات، لا يدخلن الجنة، ولا يجدن ريحها، متبرجات بزينتهن تبرج الجاهلية الأولى.
وليعلم دعاة السفور، ومن وراءهم أن التقدم والتخلف له عوامله وأسبابه، وإقحام الستر والاحتشام والخلق والالتزام عاملاً من عوامل التخلف، خدعة مكشوفة، لا تنطلي إلا على غُفُلٍ ساذج، في فكره دخل، أو في قلبه مرض.
ودعاة السفور ليسوا قدوة كريمة في الدين والأخلاق، وليسوا أسوة في الترفع عن دروب الفتن، ومواقع الريب إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ ءامَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصلاةَ وَيُؤْتُونَ الزكاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ وَمَن يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ ءامَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ [المائدة:55، 56].
أيها الإخوة، إن وظيفة المرأة الكبرى، ومهمتها العظمى في بيتها وأسرتها وأولادها، وكل ما تتحلى به من علم ووعي يجب أن يكون موجهاً لهذه المهمة وتأهيلاً لهذه الوظيفة.
الرجل هو الكادح في الأسواق والمسؤول عن الإنفاق، والمرأة هي المربي الحاني، والظل الوارف للحياة، كلما اشتد لفحها، وقسا هجيرها.
وإن انسلاخ أحد الجنسين عن فطرته من أجل أن يلحق بجنس ليس منه؛ تمرد على سنة الله، واعوجاج عن الطريق المستقيم. ولن يفيد العالم من ذلك إلا الخلل والاضطراب، ثم الفساد والدمار. وما لُعن المتشبهون من الرجال بالنساء ولا المتشبهات من النساء بالرجال، إلا من أجل هذا.
وسوف تحيق اللعنة، ويتحقق الإبعاد عن مواقع الرحمة في كل من خالف أمر الله، وتمرد على فطرة الله.
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه، وبسنة نبيه محمد . أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] صحيح، أخرجه أبو داود في: اللباس، باب: في قوله تعالى: يدنين عليهن من جلابيبهن (4101)، وصححه الألباني في: صحيح أبي داود (3456).
[2] صحيح، أخرجه أوله البخاري في: المناقب – باب: قول النبي : ((لو كنت متخذاً خليلاً)) (3665)، ومسلم في: اللباس والزينة، باب: تحريم جر الثوب خيلاء وبيان حد ما يجوز (2085)، وتمامه عند الترمذي في: اللباس – باب: ما جاء في جر ذيول النساء (1731) وقال: حديث حسن صحيح، وكذا عند النسائي في: الزينة، باب: ذيول النساء (5336)، وصححه المناوي في: فيض القدير (6-113).
الخطبة الثانية
الحمد لله على جزيل النعماء، والشكر له على ترادف الآلاء، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، إمام المتقين، وسيد الأولياء، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله الأصفياء، وأصحابه الأتقياء، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها المؤمنون، كما أُمرت المؤمنة بلزوم الحجاب عند خروجها ومقابلة غير المحارم فقد أمرت أن تقر في بيتها فبيتها خيرٌ لها، ووظيفتها في بيتها من أشرف الوظائف في الوجود، وما يُحسنها ولا يتأهل لها إلا من استكمل أزكى الأخلاق، وأنقى الأفكار.
إن من الخطأ في الرأي والفساد في التصور، الزعم بأن المرأة في بيتها قعيدة لا عمل لها، فما هذا إلا جهل مركب، وسوء فهم غليظ، سوء فهم بمعنى الأسرة، وجهلٌ بطبيعة المجتمع الإنساني، والتركيب البشري.
والأشد والأنكى: الظن بأن هذه الوظيفة قاصرة على الطهي والخدمة... إنها تربية الأجيال والقيام عليها؛ حتى تنبت نباتاً حسناً ذكوراً وإناثاً، إنها في الإسلام تعدل شهود الجُمَع والجماعات في حق الرجال، وتعدل حج التطوع والجهاد.
جاءت أسماء بنت السكن الأنصارية الأشهلية رضي الله عنها الملقبة بخطيبة النساء. جاءت إلى رسول الله فقالت: يا رسول الله، بأبي أنت وأمي، إن الله بعثك للرجال وللنساء كافة فآمنا بك وبإلهك، وإنا معشر النساء محصورات، مقصورات مخدورات، قواعد بيوتكم، وحاملات أولادكم، وإنكم معشر الرجال فضلتم علينا بالجُمَع والجماعات، وفضلتم علينا بشهود الجنائز، وعيادة المرضى، وفضلتم علينا بالحج بعد الحج، وأعظم من ذلك الجهاد في سبيل الله. وإن الرجل منكم إذا خرج لحجٍ أو عمرةٍ أو جهادٍ؛ جلسنا في بيوتكم نحفظ أموالكم، ونربي أولادكم، ونغزل ثيابكم، فهل نشارككم فيما أعطاكم الله من الخير والأجر؟ فالتفت النبي بجملته[1] وقال: ((هل تعلمون امرأة أحسن سؤالاً عن أمور دينها من هذه المرأة؟)) قالوا: يا رسول الله، ما ظننا أن امرأة تسأل سؤالها. فقال النبي : ((يا أسماء، افهمي عني، أخبري من وراءك من النساء أن حسن تبعل المرأة لزوجها، وطلبها لمرضاته، واتباعها لرغباته يعدل ذلك كله)) فأدبرت المرأة وهي تهلل وتكبر وتردد: يعدل ذلك كله، يعدل ذلك كله[2].
فهل يفقه هذا نساء المؤمنين؟!
[1] أي: بجسده كله.
[2] أخرجه ابن عبد البر في: الاستيعاب (4-1788)، والبيهقي في: شعب الإيمان (8743)، وفي إسناده مسلم بن عبيد الراوي عن أسماء لم أجد له ترجمة.
ــــــــــــــــــــ(67/307)
صلوا أرحامكم
...
...
34
...
الأسرة والمجتمع
...
...
الأرحام
...
صالح بن عبد الله بن حميد
...
...
مكة المكرمة
...
...
...
المسجد الحرام
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
أهمية صلة الرحم وأثره – كيف تتحقق صلة الرحم – من هم أولو الأرحام ؟ - فضل صلة الرحم وعاقبة القطيعة
الخطبة الأولى
أما بعد:
فيا أيها الناس اتقوا الله ربكم، اتقوه تقوى من خاف ورجا فاستقام، وأدوا حقوقه التي افترضها عليكم في دين الإسلام، واشكروا المولى على ما أولى من الأفضال وجزيل الإنعام.
أيها الإخوة: صلاح الأسرة طريق أمان الجماعة، وصلة الرحم سبيل حفظ الأمة. فالزوجان وما بينهما من وطيد العلاقة، والوالدان وما يترعرع في أحضانهما من الولدان، والأقربون وأولو الأرحام وما ينتشر بينهم من وئام، كل أولئك يمثل الجماعة المجتمعة والأمة المؤتلفة في طبيعتها وبنائها وحاضرها ومستقبلها، من خلال هذا البناء تمتد وشائج القربى، وتتقوى أواصر التكافل، ترتبط النفوس بالنفوس، وتتعانق القلوب، في هذه الروابط المتماسكة والرحم الموصولة تنموا الخصال الكريمة وتنشأ الأجيال الوفية: ياأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِى خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِى تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً [النساء:1].
لقد شاء المولى تعالى وتبارك بلطفه وتدبيره وحكمته وتقديره أن يكون بناء الإنسانية على وشيجة الرحم وقاعدة الأسرة من ذكر وأنثى من نفس واحدة وطبيعة واحدة. رحم وقربى تتوثق عراها، ويتجدر نباتها ليقوم على سوقه بإذن ربه، فيحمي من المؤثرات ويحفظ من العاديات.
وفي كتاب الله اقترن حق الله وحق الوالدين وحق الأقربين في أكثر من آية ووصية: وَاعْبُدُواْ اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِى الْقُرْبَى [النساء:36]، وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا [الإسراء:23] ثم قال سبحانه: وَءاتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذّرْ تَبْذِيرًا [الإسراء:26].
وفي مقام آخر قرنت الرحم بحق الله في التقوى وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِى تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً [النساء:1] اتقوها أن تقطعوها، واعرفوا حقها أن تهضموها.
يقول بعض أهل العلم: ما بعث أنبياء الله في أواسط البيوت من أقوامهم إلا لما يقدر الناس من أمر الرحم، ويعرفون من شأن القرابة: قُل لاَّ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِى الْقُرْبَى [الشورى:23].
وحينما قلت عشيرة نبي الله لوط عليه السلام وضعف ركن قرابته أعذر نفسه بقوله: قَالَ لَوْ أَنَّ لِى بِكُمْ قُوَّةً أَوْ اوِى إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ [هود:80]. ومن ثم قال نبينا محمد : ((يغفر الله للوط إن كان ليأوي إلى ركن شديد ولكنه عنى عشيرته، فما بعث الله نبيا بعده إلا في ثروة من قومه))[1].
ومن بعد لوط قال قوم شعيب لشعيب عليه السلام: وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ [هود:91] وامتن الله على نبيه محمد بقوله: أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَاوَى [الضحى:6].
أيها الإخوة، ما سميت الرحم رحما إلا لما فيه من داعية التراحم وأسباب التواصل ودوافع التضامن.
وقد قال علي رضي الله عنه: (عشيرتك هم جناحك الذي بهم تحلق، وأصلك الذي به تتعلق، ويدك التي بها تصول، ولسانك الذي به تقول، هم العدة عند الشدة، أكرم كريمهم، وعُد سقيمهم، ويسر على معسرهم، ولا يكن أهلك أشقى الخلق بك).
وما المرء ولا المروءة إلا رحم موصولة، وحسنات مبذولة، وهفوات محتملة، وأعذار مقبولة.
بصلة الرحم تقوى المودة وتزيد المحبة وتشتد عرى القرابة وتضمحل البغضاء ويحن ذو الرحم إلى أهله.
وفي الخبر عنه : ((إن صلة الرحم محبة في الأهل، ومثراة في المال، ومنسأة في الأثر))[2]. بصلة الرحم تزيد الأعمار، وتعمر الديار وتبارك الأرزاق، وتستجلب السعادة، وتتقى مصارع السوء.
أيها الأحبة، إذا كتب الله لعبده التوفيق فكان ألفا مألوفا محبا لأهله،رفيقا بأقربائه، حفيا بعشيرته، انتصر بالألفة على أعاديه، وامتنع بالإحسان من حاسديه، فسلمت له نعمته، وصفت له معيشته فيجتمع عليه الشمل،ويمتنع عنه الذل، وخير الناس أنفعهم للناس.
ولقد علم العقلاء والحكماء وأصحاب المروءات أن تعاطف ذوي الأرحام وتواد أهل القربى يبعث على التناصر والألفة ويجنب التخاذل والفرقة.
النفس الرحيمة الواصلة، الكريمة الباذلة، يورث الله لها ذكرا حسنا في الحياة وبعد الممات، الألسن تلهج بالثناء والأيدي تمتد بالدعاء. تعيش بين الناس بذكرها وذكراها أمداً طويلا.يبارك لها في الحياة فتكون حافلة بجليل الأعمال وجميل الفعال وعظيم المنجزات وكثرة الآثار. من وصل أقاربه أحبه الله وأحبه الناس ووضع له الذكر والقبول. وجبلت النفوس على حب من أحسن إليها، ألم تقل الرحمُ وهي متعلقة بعرش الرحمنِ: ((من وصلني وصله الله ومن قطعني قطعه الله))[3]؟؟.
وقال لها رب العزة في الحديث القدسي: ((من وصلك وصلته ومن قطعك قطعته))[4]. وإنكم لتعلمون أن من وصلة الله فلن ينقطع أبدا.
((فمن سره أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره فليصل رحمه))[5].
أيها المسلم، من حق أهلك وأرحامك أن تعود مريضهم وتواسي فقيرهم، وتتفقد محتاجهم، وترحم صغيرهم، وتكفل يتيمهم، تبشُّ بهم عند اللقاء وتلين لهم في القول، وتحسن لهم في المعاملة، ما بين زيارة وصلة، وتفقدٍ واستفسارٍ، ومهاتفة ومراسلة، تبذل المعروف، وتبادل الهدايا والتحيات. في حب وعدل وإحسان وفضل، وخفض جناح ودعاء.
أيها الأخ الفاضل: ولا يقف الأمر عند هذا الحد، بل إن عليك أن تصلهم وإن جفوا، وتحلم عليهم وإن جهلوا، وتحسن إليهم ولو أساءوا، فقد قال نبيك محمد : ((ليس الواصل بالمكافئ ولكن الواصل من إذا قَطعتْ رحمهُ وصلها))[6].
نعم ـ حفظك الله ـ إن من صلة الرحم أن تغفر الهفوة، وتستر الزلة ؛ فأي صارم لا ينبو؟ وأي جواد لا يكبوا؟ وما العقل والفضل والنبل إلا إن تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتعفو عمن ظلمك، وتحلم على من جهل عليك. ويزداد النبل ويعظم الفضل وتسمو النفس حين تحسن الظن بهم وتحمل أخطاءهم على المحمل الحسن. وتنظر في عثراتهم نظر العاذر الكريم.
اسمع ـ رعاك الله ـ إلى هذه القصة التي تنضح نبلا وشرفاً:
حكي عن بنت عبد الله بن مطيع أنها قالت لزوجها طلحة بن عبدالرحمن بن عوف – وكان أجود قريش في زمانه- قالت: يا طلحة ما رأيت قوما ألأمَ من اخوانك؟؟؟ قال: ولم ذاك ؟ قالت: أراهم إذا أيسرتَ وكثر مالك زاروك ولزموك، واذا أعسرت تركوك ؟؟؟ قال: هذا والله من كرمهم ؛ يأتوننا في حال القوة بنا عليهم، ويتركوننا في حال الضعف بنا عنهم.
فانظروا – كيف تأوَّل بكرمه هذا التأويل، وفسر بنبيل أخلاقه هذا التفسير، حتى جعل قبيح فعلهم حسنا وظاهر غدرهم وفاءا. وهذا محض الكرم ولباب الفضل وبمثل هذا يلزم ذوي الفضل أن يتأولوا الهفوات ويمحوا الزلات من إخوانهم وأرحامهم وأصهارهم، انه تغافل مع فطنه، وتآلف صادر عن وفاء. وعلاقات الرحم ووشائج القربى لا تستقيم ولا تتوثق إلا بالتغافل، فمن شدد نفَّر، ومن تغاضى تآلف، والشرف في التغافل، وسيد قومه المتغابي.
أين هذا – أيها الناس – من أناس ماتت عواطفهم، وغلب عليهم لؤمهم؟؟ فلا يلتفت إلى أهل، ولا يسأل عن قريب، ولا يود عشيرة، إن قربوا أقصاهم، وإن بعدوا تناساهم، بل يبلغ به اللؤم أن يقرب أصحابه وزملاءه، ويجفوا أهله وأقرباءه، يحسن للأبعدين، ويتنكر للأقربين، بطون ذوي رحمه جائعة، وأمواله في الأصدقاء والصِحاب ضائعة. تراه يحاسب لهفوة صغيرة، ويقطع رحمه لزلة عابرة، إما بسبب كلمة سمعها، أو وشايه صدقها، أو حركة أساء تفسيرها.
معاذ الله عباد الله ربما كان بين الإخوة والأقارب من القطيعة ما يستحقون به لعنة الله من فوق سماواته إقرؤا إن شئتم: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ فِى الأَرْضِ وَتُقَطّعُواْ أَرْحَامَكُمْ أَوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ [محمد:22، 23]. نعم يستحقون اللعنة، وتحل بهم النقمة وتزول عنهم النعمة. والجنة تبلغ ريحها خمسمائة عام ولا يجد ريحها عاق ولا قاطع رحمٍ.
من لم يصل رحمه ويتعاهد بخيره أقاربه فلا خير فيه ولا نفع منه. من ذا الذي قد فاض ماله يأكل ويشرب ويكتسي ويتمتع وأقاربه الضعفاء عراة جائعون، ورحمه البؤساء مهملون ضائعون؟؟؟.
ولقد قال علي بن الحسين رضي الله عنه وعن آبائه: (يا بني لا تصحبن قاطع رحم فإني رأيته ملعونا في كتاب الله في ثلاثة مواضع، ومن لم يصلح لأهله لم يصلح لك ومن لم يذب عنهم لم يذبَّ عنك).
ألا فاتقوا الله رحمكم الله واحذروا سخط ربكم وصلوا أرحامكم وَأُوْلُو الاْرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِى كِتَابِ اللَّهِ [الأحزاب:6].
[1] حسن بهذا اللفظ، أخرجه أحمد (2/533)، وأخرجه الترمذي: كتاب تفسير القرآن – سورة يوسف، حديث (3116) بنحوه وحسنه . وذكره الحافظ في الفتح (6/415-416)، والحديث أخرجه البخاري: كتاب أحاديث الأنبياء – باب لوطاً إذ قال لقومه... حديث (3375)، ومسلم: كتاب الفضائل – باب من فضائل إبراهيم الخليل حديث (151) كلاهما دون قوله: ((ولكنه عنى قومه...)).
[2] صحيح، أخرجه أحمد (2/374)، والترمذي: كتاب البر والصلة – باب ما جاء في تعليم النسب، حديث (1979)، والطبراني في الأوسط بنحوه (7810)، وصححه الحاكم (4/161). وقال المنذري في الترغيب: رواه الطبراني من حديث العلاء بن خارجة كلفظ الترمذي بإسناد لا بأس به (3/227)، وذكره الحافظ في الفتح (10/415). ورمز له السيوطي بالحسن في الجامع الصغير (5003)، وصححه الألباني في الصحيحة (276).
[3] صحيح، أخرجه مسلم: كتاب البر والصلة والآداب – باب صلة الرحم وتحريم قطعها، حديث (2555).
[4] صحيح، أخرجه البخاري: كتاب الأدب – من وصله وصله الله، حديث (5988).
[5] صحيح، أخرجه البخاري: كتاب البيوع – باب من أحب البسط في الرزق، حديث (2067)، ومسلم: كتاب البر والصلة والآداب – باب صلة الرحم وتحريم قطعها، حديث (2557).
[6] صحيح، أخرجه البخاري: كتاب الأدب – باب ليس الواصل بالمكافئ، حديث (5991).
الخطبة الثانية
الحمد لله خلق من الماء بشرا فجعله نسبا وصهرا، أحمده سبحانه على كل فضل وأشكره على كل نعمة، وأتوب إليه وأستغفره إعلانا وسرا، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له أحاط بكل شيء خبرا، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله أعلى الناس منزلة وقدرا، وأوصلهم رحما وبرا، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد فيا أيها الناس: صلة الرحم حق لكل من تربطك به صلة نسب أو قرابة، وكل من كان من كان أقرب كان حقه أولى وألزم ((أمك وأباك ثم أدناك أدناك))[1]. وأسرع الخير ثوابا البر وصلة الرحم، وأسرع الشر عقوبة البغي وقطيعة الرحم. ألم تعرفوا أن شريف خصال نبيكم محمد ؟ - وخصاله كلها شريفه – ألم تقرأوا نعت خديجة لحبيبها محمد ؟: ((كلا والله لا يخزيك الله أبدا، إنك لتحمل الكل وتصل الرحم وتقري الضعيف وتكسب المعدوم وتعين على نوائب الحق))[2]. صلة كريمة تحوطها السماحة، ويظللها الحلم، ويحيط بها العفو، ويحكمها ضبط النفس. حسن معاملة تعلو بها المراتب ويكثر بها الأحباب، وتستجلب بها المودات، وتحسن بها العواقب.
فحذار حذار رحمكم الله من التساهل مع أحق الناس بحسن صحبتكم. وإياكم إياكم أن تتظارفوا[3] وتتكايسوا[4] مع الأبعدين وتنسوا الأقربين فإنكم إن فعلتم غبنتم أنفسكم وظلمتم الحق الذي عليكم، وقد علمتم أن تقطيع الأرحام يهدم كيان الأسرة، ويزلزل أركان العشيرة ويجعل أفرادها مرتعا للفتن ونهبا للأحقاد وفريسة للتمزق. وقد قيل في مأثور الحِكَم: لا تقطع القريب وإن أساء فإن المرء لا يأكل لحمَه وإن جاع.
فاتقوا الله ـ رحمكم الله ـ واستعينوا بالله على مرضاته واستمسكوا بآداب شريعته تولانا الله جميعا في أنفسنا وذوينا ومحبينا، وأعاننا على امتثال أمره وطاعته واتباع نبيه بمنه وكرمه.
[1] صحيح، أخرجه مسلم: كتاب البر والصلة والآداب – باب بر الوالدين وأنهما أحق به ... حديث (2548)، وأحمد (2/226)، والنسائي: كتاب الزكاة – باب أيتهما اليد العليا، حديث (2532) واللفظ لهما.
[2] صحيح، أخرجه البخاري: كتاب بدء الوحي – باب بدء الوحي، حديث (4)، ومسلم: كتاب الإيمان – باب بدء الوحي إلى رسول الله ، حديث (160).
[3] تتظارفوا: مأخوذ من الطُرف وسماحة النفس.
[4] تتكايسوا: مأخوذ من الكيس وحسن التعامل.
ــــــــــــــــــــ(67/308)
لا... يا مؤتمر السكان
...
...
37
...
الأسرة والمجتمع
...
...
المرأة, قضايا المجتمع
...
صالح بن عبد الله بن حميد
...
...
مكة المكرمة
...
...
...
المسجد الحرام
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
سر تكريم الله , وجوهر الإنسانية , العقل والإرادة وقبول الشرع – حضارة اليوم في طريقها إلى الهاوية – أهداف مؤتمر السكان الحقيقية – نظرة الإسلام إلى الرزق والتكاثر – أسباب الأزمات في الدول الفقيرة , ونظرة القوى الكبرى إليها
الخطبة الأولى
أما بعد:
فيا أيها الناس اتقوا الله حق التقوى، واستمسكوا من دينكم بالعروة الوثقى.
أيها المسلمون: كرم الله بني آدم وحملهم في البر والبحر والجو، ورزقهم من الطيبات، وفضلهم على كثير ممن خلق تفضيلاً. بشر مكرم جعله الله أهلاً لهدايته، ومحلاً لتكاليفه، هو الوحيد بين المخلوقات عاقل ذو إرادة، متحكم في رغباته، قادر على كبح جماح شهواته. نعم إن سر التكريم وجوهر الإنسانية العقل والإرادة وقبول التشريع. بغير كبح جماح النفس، والتقدير الصحيح للمضار والمنافع، والسير على هدى الله ـ يكون الإنسان وحشًا كاسرًا في غابة مخيفة.
كم من أمة ابتعدت عن نور الله، واستسلمت لنزواتها، وانطلقت لاهثة وراء مشتهياتها فزلت بها القدم، ثم زالت إلى العدم، زلت ثم زالت: فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَاىَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِى فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً [طه :123،124].
وحضارة اليوم بملاحدتها وماديِّيْها على هذا الطريق المنحرف تنجرف، كفار بالله و كفار بالغيب، لا يرجون لله وقارًا، استسلموا لعقولهم واستعبدتهم آلاتهم وحاسباتهم، يخططون للدنيا ويدبرون في الكون بعيدًا عن الله وذكره وشكره. لسان حالهم ومقالهم يقول: (ربنا لقد أخطأت التقدير وأسأت التدبير؛ فالأقوات غير كافية، والموارد عندنا متناقصة، والأرض لنا غير متسعة)، تعالى الله عما يقول الظالمون الكافرون الجاحدون علواً كبيراً. لَخَلْقُ السَّمَاواتِ وَالأرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ [الحجر:21].
يد ربنا ملأى، لا تغيضها نفقة، سحَّاء الليل والنهار، سوق الرزق بإذن الله، وتوزيعه بحكمة الله. خلق الأرض وبارك فيها وقدر فيها أقواتها... فَابْتَغُواْ عِندَ اللَّهِ الرّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُواْ لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [العنكبوت:17].
يقال ذلك أيها الإخوة: وفي الأيام القريبة سوف يعقد مؤتمر[1] يتظاهر أصحابه بالحب للبشرية والخوف عليهم. وهو ينضح بالكفر ويطفح بالإلحاد ويناوئ في الله حكمه وأحكامه. وَقَدْ كَفَرُواْ بِمَا جَاءكُمْ مّنَ الْحَقّ [الممتحنة:1]. وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَاء فَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ أَوْلِيَاء [النساء:89].
مؤتمر يهدد – فيما يزعمون – بالانفجار السكاني، ويخوف بنقص خزائن الله، مؤتمر يزعم أن الحل لمشكلات البشر بنشر الإباحية المطلقة، وإقرار اللواط، وزواج الشواذ، وفوضى الجنس بين المراهقين والأحداث والعزاب والمتزوجين، وشرعية الإنجاب من غير زواج، وتمرد الأبناء على ولاية الآباء، والتنفير من الزواج المبكر، وإباحة الإجهاض كله.
تمرد على كل الشرائع السماوية، والقوانين الشريفة، والأخلاق السامية، والفطر السليمة، وإلحاد صارخ وكفر بواح.
لقد أجلبوا بخيلهم ورجلهم وعدتهم وعتادهم، وكتبوا واستكتبوا، تنادوا من كل جانب، لقد زعموا أن قلة السكان تؤدي إلى زيادة التنمية. وهذا ميزان معكوس، ومعالجة سلبية. إن الانسان هو الوحيد من بين المخلوقات على هذه الأرض الذي يتعامل – بإذن الله وهدايته – بالتنمية والزيادة والمزج والخلط والتركيب والتوليد والجمع والتفريق.
الصين أكثر الدول سكانًا، وهي أرفعها في التنمية معدلاً... هذا هو الحديث إليهم حسب مقاييسهم.
أما أهل الإسلام فينظرون إلى القضية بمقياس أكبر وأدق؛ إن استدرار الأرزاق، واستجلاب الخيرات، ورفع معدلات التنمية، لا يكون ولن يكون إلا بالإيمان بالله ربًا مدبرًا، خالقًا حكيمًا، عليه توكلنا و إليه أنبنا و إليه المصير. ومن مقتضيات هذا الإيمان اتباع الأوامر واجتناب النواهي، نؤكد الميثاق مع ربنا ولا ننقضه، ومن ثم يكون الخضوع لله وتحكيم شرعه، والبعد عن الظلم والتظالم، وأكل أموال الناس بالباطل، وأكل الربا، ومنع الزكاة وحقوق المال، وتقطيع الأرحام، وبخس الناس أشياءهم، وتضييع الموارد والثروات، وتبديدها فيما لا يرضي الله، والحذر من ارتكاب الفواحش ما ظهر منها وما بطن، والإثم والبغي بغير الحق، والشرك بالله، وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون.
هذه مقتضيات الإيمان ثم يكون الأخذ بسنن الله في العلم والعمل وحسن الاستثمار، ومراجعة السياسات الاقتصادية والخطط التنموية وبرامج التعليم والإعلام والاستفادة الكاملة من الفرد والجماعة على نور من الله وهدي الإسلام.
إن البلاء في سياساتهم وليس في أناسيهم، خزائن الله لا تنفد، وإنما شحت أنظمتهم الجائرة وحاقت بهم خططهم الماكرة. ليس الحل بمعاقبة الإنسان، وإهلاك الشعوب، والتعامل مع البشر كما يتعامل مع النفايات ليلقى الفائض منها في الزبالات... ألا ساء ما يحكمون!!!
أيها المسلمون أيها العقلاء: إن الأعداد البشرية وزيادتها ونقصها وتوازنها كل ذلك خاضع لسنة الله وحكمته، وقدره وعلمه: اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الاْرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ [الرعد:11]. وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِى كِتَابٍ [فاطر:11].
وخضوعًا لهذه السنن الإلهية والحكم الربانية جعل نبينا محمد : ((من أعظم الذنوب وأكبرها أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك))[2]. إن حق الحياة محفوظ لكل نسمة، ولما أذن النبي بالعزل لمن سأله قال عليه الصلاة والسلام: ((ما من نسمة كائنة إلى يوم القيامة إلا وهي كائنة))[3]، وفي رواية: ((اعزل عنها إن شئت فإنه سيأتيها ما قدر لها))[4]. هذه هي العقيدة والواقع.
أيها الإخوة: هذا جانب من القضية، وثمت جانب آخر: إنه حكم الظالم على المظلوم والقوي على الضعيف، فلقد صبوا جام غضبهم على الدول الضعيفة والفقيرة، واستبدوا بالثروات واحتكروا الصادرات، ثم اتهموا الدول الفقيرة بأن فقرها وعوزها لكثرة سكانها؛ أليسوا هم الذين يتلفون فائض الإنتاج حتى لا تنخفض الأسعار؟! أليس أسعار ما يرد منهم في تزايد وأسعار ما يصدر إليهم في تناقص؟! اتفاقيات ومعاهدات جائرة يبرمونها مع هؤلاء الضعاف الفقراء منحازة مع دول الشمال وما يرد من الشمال وما ينتجه الشمال، مساعداتهم التي يمنون بها لا تصل إلا مخنوقة بالديون، ومثقلة بفوائد الربا، ومكبلة بالشروط ومحدودية الصرف بما لا يرفع رأسًا أو يورث تنمية. أما الستار الحديدي الغليظ فمضروب على التقنيات ووسائل تحسين الإنتاج وتطوير وجوه الاستثمار، ناهيك بسياساتهم المسعورة في التسلح وإنفاق البلايين في إنتاج السلاح وترويجه، وافتعال الحروب ونشرها، وزعزعة الاستقرار السياسي، والمذابح الجماعية والفتن الطائفية. لقد ربينا أبناءنا صغارًا فقتلتموهم كبارًا قتلاً حسيًا ومعنويًا.
إن عندهم من مخزون السلاح ما يكفي لتدمير الأرض وإهلاك الحرث والنسل عشرات المرات، ولو أنهم اكتفوا بمخزون يكفي لتدمير العالم مرة واحدة لفاض في ميزانياتهم ما يغطي مشروعات الإنتاج والخدمات في العالم أجمع. ولكنه الإجرام الغليظ، والأنانية المستحكمة والجور في التوزيع، والاستئثار المقيت بما يملكون من صادر وما يقدرون عليه من وارد. ومع ذلك يتبجحون ويأمرون ويوصون ويقررون، ثم ينحون باللائمة في المشكلة الإنمائية والسكانية على هذه الدول الضعيفة، ولكنه الثور يضرب لما عافت البقر.
وإن أردتم شيئًا من الحقيقة – أيها الأحبة – فلتعلموا أن تكاثر الدول الضعيفة والفقيرة وبخاصة دول الإسلام يخيفهم ويفزعهم، طفحت بذلك وثائقهم وملفاتهم. لقد قررت تلك الوثائق والملفات أن تزايد السكان يهدد مصالحهم ويزعزع أمنهم، ولقد قالوا فيما قالوا: إن أقطارهم أصبحت تذوب كالجليد تحت الشمس أمام تزايد الشعوب الأخرى، ولقد كان بعضهم أكثر صراحة حين قال: إنهم يواجهون في المستقبل خطر الأسلمة (أي الدخول في الإسلام). لقد تعالت نداءات كتابهم ومنظِّريهم في التحذير من اختلال ميزان القوى بين الشرق والغرب، حتى صرحوا بأن لدى مناطق المسلمين خصوبة ما لديهم بأضعاف، مما سوف ينقل السلطة والقوة في مدة لا تتجاوز بضعة عقود، هذا ما حفلت به حساباتهم ونسبهم المئوية.
نعم – أيها الإخوة – لقد تناقصت أعدادهم، وقلت نسب المواليد فيهم، فأصبحوا يدفعون الإعانات للأسر لزيادة الإنجاب، ولن تزداد أعدادهم وقد استباحوا ما حرم الله على ألسنة رسله ومانزلت به كتبه، فأحلوا السفاح، واكتفى الرجال بالرجال والنساء بالنساء، فصار حالهم مترددًا بين شذوذ وسحاقٍ.
ألا فاشكروا الله أيها المسلمون إذ كثركم، وانظروا كيف كان عاقبة المفسدين؟
ثم ألا فليخسأ الماديون: وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الأرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِى كِتَابٍ مُّبِينٍ [هود:6].
ليُثْبر الملاحدةُ: وَكَأَيّن مّن دَابَّةٍ لاَّ تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [العنكبوت:60]. وليندحر الكافرون بالغيب وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا [الإسراء:31].
والصَّغار والذلة للإباحيين؛ فلقد بايع المؤمنات رسول الله على: ألا يزنين، ولا يقتلن أولادهن، ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن.
ولنهنأ بديننا ولنتمسك بالحق من عند ربنا: وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاواتُ وَالاْرْضُ وَمَن فِيهِنَّ [المؤمنون:71]. قُل لَّوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبّى إِذًا لأمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإِنفَاقِ وَكَانَ الإنْسَانُ قَتُورًا [الإسراء:100]. أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَبّكَ أَمْ هُمُ الْمُسَيْطِرُونَ [الطور:37].
كلا خابوا وعزَّتِك ياربنا وخسروا.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، واخذل الكفرة والملاحدة وكل من خذل الدين. اللهم أصلح أحوال المسلمين، وبارك لهم في أرزاقهم وذرياتهم، واجعلهم شاكرين لنعمك قابليها.
[1] هو مؤتمر السكان، انعقد في القاهرة في الفترة من 29/3/1415هـ الموافق 5/9/1994م حتى 8/4/1415هـ الموافق 13/9/1994م.
[2] صحيح، أخرجه البخاري: كتاب تفسير القرآن – باب قوله تعالى: فلا تجعلوا لله أنداداً... حديث (4477). ومسلم: كتاب الإيمان – باب كون الشرك أقبح الذنوب... حديث (86).
[3] صحيح، أخرجه البخاري: كتاب العتق – باب من ملك العرب رقيقاً... حديث (2542)، ومسلم: كتاب النكاح – باب حكم العزل، حديث (1438).
[4] صحيح، أخرجه مسلم: كتاب النكاح – باب حكم العزل، حديث (1439).
ــــــــــــــــــــ(67/309)
التحذير من بعض الألبسة
...
...
403
...
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
...
...
اللباس والزينة, المرأة
...
محمد بن صالح العثيمين
...
...
عنيزة
...
...
...
الجامع الكبير
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
قوله تعالى : ( قوا أنفسكم وأهليكم ناراً ) والأمر بتقوى الله في النساء وتأديبهن- قوامة الرجل على المرأة ولوازمها ، وضرورة تفقد حال الأهل- خطورة خروج النساء إلى الأسواق مع تبرجهن - مسؤولية الرجل عن أهل بيته وسؤاله عن ذلك- من صفات نساء أهل النار أنهن عليهن كسوة لا تستر (كاسيات عاريات)- خطورة الألبسة القصيرة على المرأة ، وكذلك التساهل في لباس البنات الصغار- وجوب القضاء على هذه الألبسة ودور الرجال في ذلك.
الخطبة الأولى
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله تعالى قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة عليها
ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون [التحريم:6].
واتقوا الله في النساء، أدوا حقوقهن، قوموا بواجبهن، أدبوهن تأديبا شرعيا يكفل لهن مصالح الدنيا والآخرة، وجهوهن إلى سلوك ما كان عليه السلف الصالح من لزوم الشيمة والحياء فإن الحياء شعبة من الإيمان ومن لم يستح فليصنع ما يشاء.
أيها الرجال: لقد جعلكم الله قوامين على النساء فقوموا بهذه الوظيفة دبروا شؤونهن وأدبوهن ولا يكن أحدكم بين أهله كالمفقود لا يأمرهم بالخير والرشاد ولا ينهاهم عن الشر والفساد، فإن ذلك مفسدة من وجهين، أحدهما: إهدار كرامته وإبطال رجولته بين أهله، والثاني: إضاعة ما أوجب الله عليه من القيام عليهم فإن الله تعالى لم يجعله قواما على النساء إلا سيسأله عن هذه المسؤولية التي حمله إياها.
أيها الناس: لو أن راعي غنم أهملها ولم يسلك بها مواضع الخصب ألستم تعدونه مفرطا؟ ولو أن راعي غنم سلك بها أودية مهلكة ورعاها في مراعي ضارة ألستم تعدونه ظالما معتديا؟
إذن فلماذا يرضى أحدكم يا رجال أن يرى أهله مقصرين فيما وجب عليهم أو منهمكين فيما حرم الله عليهم، ثم لا يأمرهم بالواجب ولا ينهاهم عن المحَّرم مع أنه هو راعيهم الذي استرعاه عليهم نبيه وهو القائم عليهم بما فضله الله به عليهم.
أيها الناس: أيها الرعاة على أهليهم: إن في عوائلنا مشاكل عديدة يؤسفنا أن توجد فيهم ثم لا نجد تعاونا جديا لحلها، وإنما هو كلام في المجالس، وتلوم وتضجر لا عمل معه حتى نفس المتلومين المتضجرين تجدهم ينظرون إلى أهلهم واقعين في شيء من هذه المشاكل والله أعلم بما كانوا عاملين، هل حاولوا حلها أو كانوا عنها معرضين.
وإن من المشاكل لدينا وأعظمها خطرا ما وقع فيه بعض النساء من الخروج إلى الأسواق ومكان البيع والشراء متطيبات متبرجات يخرجن أيديا محلاة بالذهب، ويلبسن ثيابا قصيرة تنكشف بأدنى سبب، وربما وقفن على صاحب الدكان وضحكن معه، وهذا من أعظم الفتنة والشر.
وليس هذا أيها المسلمون واقعا في نساء كبيرات السن فقط بل من شواب لا يبلغن العشرين من العمر، وهذا أمر عجيب.
لقد كانت الشواب عندنا منذ زمن قريب لا يحدثن أنفسهن بالخروج إلى الأسواق أبدا، وإذا احتجن إلى الخروج لم يخرجن إلا في أطرف النهار في غاية من التحفظ والتستر ثم انقلبت الحال إلى ما ترى بهذه السرعة كأنما نقفز إلى التبرج والسفور قفزا، فإنا لله وإنا إليه راجعون ولا حول ولا قوة إلا بالله .
أيها المسلمون :لقد ثبت عن النبي أنه قال: ((صنفان من أهل النار لم أرهما بعد، قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات مائلات مميلات رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا)).
هذه صفات نساء أهل النار كاسيات عاريات أي عليهن كسوة لا تفيد ولا تستر إما لقصرها أو خفتها أو ضيقها، مائلات مميلات مائلات عن الحق وعن الصراط المستقيم مميلات لغيرهن، وذلك بسبب ما يفعلنه من الملابس والهيئات الفاتنة التي ضلت بها بنفسها وأضلت غيرها.
أيها المؤمنون بالله ورسوله: أيها المصدقون بما أخبر به محمد أيها القابلون لنصيحته: لقد أخبركم الناصح الأمين بصفة لباس أهل النار من النساء لأجل أن تحذروا من هذا اللباس وتمنعوا منه نساءكم، فهل تجدون أحدا من المخلوقين أنصح لكم من رسول الله ؟ هل تجدون هديًا أكمل من هديه؟ هل تجدون طريقا لإصلاح المجتمع ومحاربة ما يهدم دينه وشرفه أتم من طريقه وأحسن؟
كلا والله لا تجدون ذلك أبدا، وإن كل مؤمن بالله ورسوله ليعلم أنه لا أحد أتم نصحا ولا أكمل هديا ولا أحسن طريقا من محمد ، ولكن الغفلة والتقليد الأعمى أوجبا أن نقع فيما وقعنا فيه .
أيها الناس: إن هذه الألبسة القصيرة التي تلبسها بناتكم فتقرونهن عليها وربما ألبستموهن إياها أنتم، ليست والله خيرا لهن، بل هي شر لهن، تُذهب الحياء عنهن وتجلب إليهن الفتنة، وتوجب هجر اللباس الشرعي الساتر لباس الحشمة والحياء والسلف الصالح.
إننا نشاهد بنات في الثامنة من العمر أو أكثر عليهن شلحة أو كرته تبلغ نصف الفخذ فقط وعليها سراويل لا أفخاذ له، إنك لترى القريب من السوأة خصوصا إذا كانت الشلحة مقمطة من فوق فإنها ترتفع أطرافها من أسفل فيبين من العورة.
يا إخواني ما الفائدة من هذا اللباس للمجتمع هل فيه تهذيب لأخلاقه أو تتميم لإيمانه أو إصلاح لعمله أو تقدم ورقي لشأنه أو صحة لبدن لابسه؟
كلا ففيه المفاسد وزوال الحياء واعتياد هذا اللباس عند الكبر كما هو مشاهد، فإن هذا اللباس لم يقتصر شره على الصغار جدا من البنات بل سرى إلى شابات في سن الزواج كما تراه أحيانا إذا كشفت الريح عباءتها.
أيها المسلمون: إن الواجب الديني والخلقي يحتم علينا القضاء على هذه الألبسة والتناهي عنها وأن نحفظ نساءنا عن التبرج وأن نكون قوامين عليهن كما جعلنا الله كذلك نقوم عليهن ونلزمهن بما يجب ونمنعهن ما يحرم، وإذا أمكن أن نأتي إليهن بما يحتجن من السوق أتينا به فإن لم يمكن فلتأت به أعقلهن وأبعدهن من الفتنة.
إن الواجب علينا أن نتناصح ونتعاون. ينصح القريب قريبه والجار جاره، فإن لم نفعل هلكنا جميعاً ووصل الشر إلى من لا يريده.
أيها المسلمون: إن هذه الألبسة لا تنكر لأنها غريبة وجديدة من نوعها فليس كل جديد ينكر إلا إذا تبين ضرره ومخالفته لما يجب السير عليه، ولقد شاهدتم بأنفسكم وسمعتم من غيركم ما يترتب عليها من أضرار، فلذلك أنكرناها وحذرنا عنها.
أسأل الله تعالى أن يعيننا جميعا على الخير وأن يمنعنا من الشر وأن يرزقنا العافية في الدنيا والآخرة وأن يجعلنا ممن قال فيهم: فبشر عبادالذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب [الزمر:17-18].
ــــــــــــــــــــ(67/310)
خطبة عيد الفطر
...
...
406
...
الأسرة والمجتمع, فقه
...
...
الصوم, المرأة
...
محمد بن صالح العثيمين
...
...
عنيزة
...
...
...
الجامع الكبير
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
وجوب تقوى الله وشكره على نعمة الصيام والقيام ، وفضل صيام ست من شوال وبعض الاعتقادات الخاطئة المتعلقة بصيامها- التذكير بيوم الجمع الأكبر وما فيه من الأهوال ، والآيات في ذلك- وجوب الاستعداد ليوم القيامة- السنة في العيد- زيارة القبور في الأعياد لا أصل لها- نصيحة وتوجيه للنساء بتقوى الله والقيام بحقوق الزوج والأولاد ، والتحذير من التبرج والسفور والخروج على هذا النحو إلى الأسواق.
الخطبة الأولى
أما بعد:
أيها الناس، اتقوا الله تعالى واشكروه على ما أنعم به عليكم من إتمام الصيام والقيام، فإن ذلك من أكبر النعم، واسألوه أن يتقبل ذلك منكم ويتجاوز عما حصل من التفريط والإهمال، فإنه تعالى أكرم الأكرمين وأجود الأجودين.
واعلموا أن النبي قال: ((من صام رمضان وأتبعه بست من شوال كان كصيام الدهر))[1]، وتفسير ذلك أن صيام رمضان يقابل عشرة أشهر، وصيام ست من شوال يقابل شهرين فذلك تمام العام.
وأما صيام يوم واحد بعد العيد وتسميته يوم الصبر فهذا غير صحيح، ويوم الصبر كل يوم تصوم فيه فهو يوم صبر، لأنك تصبر نفسك وتمنعها مما يمتنع في الصيام، وقد اعتقد بعض العوام أن من صام الست في سنة لزمه أن يصومها كل سنة وهذا غير صحيح، فصيام الست سُنَّة، فيها ما سمعتم من الفضل ولا بأس أن يصومها الإنسان سنة ويتركها أخرى، ولكن الأفضل أن يصومها كل سنة ولا يحرم نفسه من ثوابها.
أيها الناس: تذكروا بجمعكم هذا يوم الجمع الأكبر حين تقومون يوم القيامة من قبوركم لرب العالمين، حافية أقدامكم، عارية أجسامكم، شاخصة أبصاركم، يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَاكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ [الحج:2]. يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْء مِنْ أَخِيهِ وَأُمّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهُ وَبَنِيهِ لِكُلّ امْرِئ مّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ [عبس:34-37].
يوم تفرق الصحف ذات اليمين وذات الشمال، فَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُوراً وَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كِتَابَهُ وَرَاء ظَهْرِهِ فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُوراً وَيَصْلَى سَعِيراً [الانشقاق:7-12]. يوم توضع الموازين، فَمَن ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ فِى جَهَنَّمَ خَالِدُونَ تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ أَلَمْ تَكُنْ ءايَاتِى تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذّبُونَ [المؤمنون:102-105].
يوم ينصب الصراط على جهنم فتمرون عليه على قدر أعمالكم ومسابقتكم في الخيرات، فمن كان سريعا في الدنيا في مرضاة الله كان سريعا في مروره على الصراط، ومن كان بطيئا في الدنيا في مرضاة الله ومتثاقلا فيها كان مروره على الصراط كذلك، جزاءً وفاقا.
فاستبقوا الخيرات أيها المسلمون، وأعدوا لهذا اليوم عدته لعلكم تفلحون، واعلموا أن السنة لمن خرج إلى مصلى العيد من طريق أن يرجع من طريق[2].
ولقد جرت عادة الناس أن يتصافحوا ويهنئ بعضهم بعضا في العيد، وهذه عادة حسنة تجلب المودة وتزيل البغضاء.
أما زيارة القبور في هذا اليوم بالذات فلم أعلم لها أصلا من الشرع، فزيارة القبور مشروعة في كل وقت ولم يرد تخصيص يوم العيد بزيارتها.
أيها الناس - قبل انتهاء خطبتنا هذه - أحب أن أوجه موعظة للنساء كما كان النبي يعظهن في صلاة العيد بعد الرجال[3].
فأقول: أيتها النساء، إن عليكن أن تتقين الله في أنفسكن، وأن تحفظن حدوده، وترعين حقوق الأزواج والأولاد، فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَفِظَاتٌ لّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ [النساء:34].
أيتها النساء، لا يغرنكن ما يفعله بعض النساء من الخروج إلى الأسواق بالتبرج والطيب وكشف الوجه واليدين أو وضع ستر رقيق لا يستر فلقد قال النبي : ((صنفان من أهل النار لم أرهما بعد))، وذكر: ((نساء كاسيات عاريات مائلات مميلات، رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها)) [4].
وإذا مشيتن في الأسواق فعليكن بالسكينة ولا تزاحمن الرجال ولا ترفعن أصواتكن، ولا تلُبسن بناتكن ألبسة مكروهة، ولا تتشبهن بالرجال فإن النبي لعن المتشبهات من النساء بالرجال وقال للنساء: ((رأيتكن أكثر أهل النار لأنكن تكثرن اللعن وتكفرن العشير)) [5].
اللهم إن عبادك خرجوا إلى هذا المكان يرجون ثوابك وفضلك ويخافون عذابك، اللهم حقق لنا ما نرجو وأمِّنا مما نخاف، اللهم تقبل منا واغفر لنا وارحمنا، اللهم انصرنا على عدونا واجمع كلمتنا على الحق، ويسرنا لليسرى، وجنبنا العسرى، واغفر لنا في الآخرة والأولى إنك جواد كريم.
[1] أخرجه مسلم في: الصيام، باب: استحباب صوم ستة أيام من شوال (1164) من حديث أبي أيوب رضي الله عنه.
[2] أخرج البخاري في: الجمعة، باب: من خالف الطريق إذا رجع يوم العيد (986) من حديث جابر رضي الله عنهما قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان يوم عيدٍ خالف الطريق.
[3] وعظه عليه السلام للنساء بعد الرجال يوم العيد، أخرجه البخاري في الجمعة، باب: خروج الصبيان إلى المصلى (975)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، ومسلم في: صلاة العيدين، باب (885) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.
[4] أخرجه مسلم في: اللباس والزينة، باب: النساء الكاسيات العاريات (2128) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بنحوه.
[5] أخرجه البخاري في: الزكاة، باب: الزكاة على الأقارب (1462) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه بنحوه، ومسلم في: الإيمان، باب: بيان نقصان الإيمان بنقص الطاعات (80) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
ــــــــــــــــــــ(67/311)
في التجمل المشروع والتشويه الممنوع
...
...
94
...
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
...
...
اللباس والزينة, المرأة
...
صالح بن فوزان الفوزان
...
...
الرياض
...
...
...
البساتين
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- سنن الفطرة 2- إعفاء اللحى 3- صبغ الشعر 4- المحرم من التجمل في اللباس والحُلي 5- التجمل بين سُنّة النبي واتباع التغريب
الخطبة الأولى
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله تعالى، واشكروه على ما أولاكم من النعم، ودفع عنكم من النقم،فقد خلق الله الانسان في أحسن تقويم، فإنْ شَكَرَه وأطاعه واصل له التكريم، وإن عصاه وخالف أمره فإن عقابه أليم.
أيها المسلمون: إن التجمل في حدود المشروع أمر مطلوب،فإن الله تعالى جميل يحب الجمال، والتجمل يكون في إصلاح الجسم بأخذ ما شرع أخذه، وإبقاء ما يشرع إبقاؤه.
فاما ما يشرع أخذه فقد بينه رسول الله – - في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة – - عن النبي – - أنه قال: ((خمس من الفطرة الاستحداد والختان وقص الشارب ونتف الإبط وتقليم الأظافر )) فأخبر – - إن أخذ هذه الأشياء من الفطرة، أي من السنة القديمة التي اختارها الأنبياء واتفقت عليها الشرائع، لأن في ترك هذه الأشياء تشويها للجسم وتشبها بالحيوانات والسباع والكفار. وبقاؤها أيضا يسبب تجمع الأوساخ ووجود الروائح الكريهة.
والاستحداد معناه: حلق العانة، والختان معناه: قطع جميع الجلدة التي تغطي الحشفة لأن بقاء القلفة يسبب بقاء النجاسة المحتقنة فيها. وذلك يُخل بالعبادة ويسبب أضرارا صحية.
قص الشارب معناه: جزه وانهاكه.
ونتف الإبط يراد به: إزالة الشعر النابت فيه بنتف أو حلق ونحوه، وتقليم الاظافر قصها لئلا تطول.
وأما ما يشرع إبقاؤه فهو شعر اللحية، كما في (الصحيحين) أن النبي – - قال: ((خالفوا المشركين وفروا اللحى ))، وفي روية: ((أعفوا اللحى ))، وفي رواية: ((أوفوا اللحى ))، وفي رواية: (( وأرخوا اللحى )). وكل هذه الروايات تدل على وجوب توفير اللحية وإبقائها، وتحريم حلقها أو قصها، كما تدل الأحاديث على وجوب إحفاء الشارب، والنهي عن توفيره وإطالته، ولكن الشيطان زين لكثير من الناس مخالفة سنة النبي – - في ذلك وتقليد الكفار، فصاروا يحلقون لحاهم أو يقصونها، ويوفرون شواربهم ويطيلونها!!.
كما أن هناك فريقا من الناس يرتكبون ما نهى عنه النبي – - في صبغ اللحية فقد نهى عن صبغ اللحية بالسواد وأمر بتغيير الشيب بغير السواد من الحنّاء والصفرة، فخالف هؤلاء سنة الرسول – - وصاروا يصبغون بالسواد، وقد روى أبو دأود والنسائي وابن حبان والحاكم وصححه عن أبي هريرة – - قال: قال رسول الله – -: ((قوم يخضبون في آخر الزمان بالسواد كحواصل الحمام لا يروحون رائحة الجنة )). وهذا وعيد شديد لمن فعل ذلك. وبعضهم يجمع بين المعصيتين فيقص لحيته ويصبغ الباقي منها بالسواد.
كما زين الشيطان لبعض النساء أخذ حواجبهن، وهو النمص، الذي لعن النبي – - من فعلته بنفسها أو بغيرها، فقد لعن النبي – - النامصة والمتنمصة، كما في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم وغيرهما، والنمص: هو أخذ شعر الحاجب وترفيعه، تزعم من فعلته أنه تجمل وهو في الواقع تغيير لخلق الله، وهو مما يأمر به الشيطان كما قال الله تعالى: ولآمرنهم فليغيرن خلق الله [النساء:119]، كما زين الشيطان لبعض النساء وبعض الشباب إطالة أظافرهم مخالفة لسنة الرسول – - حيث أمر بتقليم الأظافر، فصاروا يطيلونها تشبها بالكفار ومخالفة للسنة.
وكل هذه الأمور التي يفعلونها من حلق اللحى أو صبغها بالسواد وإطالة الشوارب والاظافر وازالة النساء لشعر الحواجب يظنون أنها من التجمل. وهي في الواقع تشويه وتقبيح للصورة الآدمية ومخالفة للفطرة، ولكن الشيطان زينها لهم فاستحسنوها كما قال الله تعالى: أفمن زُين له سوء عمله فرآه حسناً [فاطر:8].
ومن التجمل الذي شرعه الله ورسوله التجمل في اللباس، قال الله تعالى: يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباساً يواري سوءاتكم وريشاً ولباس التقوى ذلك خير . فقد امتن الله سبحانه على عباده بأن لهم لباسا يسترون به عوراتهم، ويُجمّلون به هيئاتهم الظاهرة، وذكر لهم لباسا احسن منه وهو لباس التقوى الذي يجمّل ظاهرهم وباطنهم فقال: ولباس التقوى ذلك خير [الأعراف:26]، وقال تعالى: يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد [الأعراف:31]، والزينة: هي اللباس، والمراد بالمسجد الصلاة، فقد أمر الله سبحانه العباد أن يلبسوا احسن ثيابهم وأجملها في الصلاة للوقوف بين يدي الرب سبحانه وتعالى. والتجمل في اللباس مطلوب من المسلم بما أباح الله ومن غير اسراف ولا تكبر، فقد نهى النبي – - الرجال عن إسبال الثياب وهو إرسالها تحت الكعبين، وأخبر أن من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه، وأن المسبل من الثلاثة الذين لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب اليم، وان الله لا يقبل صلاة رجل مسبل، وهذا من اعظم الوعيد، وهو يدل على أن الإسبال من أكبر الكبائر، سواء كان في الثوب أو الإزار أو البشت، وشرع للنساء تطويل الثياب لستر ارجلهن. لما رواه الامام أحمد والنسائي وابو داود والترمذي قال: يا رسول الله ! كيف تصنع النساء بذيولهن؟ قال: ((يرخين شبرا. قلت: اذن تبدو أقدامهن يا رسول الله، قال: فذراع ولا يزدن عليه)). وقد خالف كثير من الرجال والنساء ما شرع الله لهم في اللباس وعكسوا الأمر، فصار الرجال يسبلون ثيابهم ويجرونها، وصار النساء يقصرن ثيابهن حتى تبدو سيقانهن، وتشبّه الرجال بالنساء وتشبهت النساء بالرجال. ولقد لعن النبي – - المتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال، رواه البخاري. ولعن الرجل الذي يلبس لبس المراة، والمراة التي تلبس لبس الرجل، رواه الإمام أحمد وأبو دأود.
ويحرم على الرجال لبس الحرير والتحلي بالذهب، وقال رسول الله – -: ((حرم لباس الحرير والذهب على ذكور أمتي، وأحل لإناثهم ))، رواه الخمسة، وصححه الترمذي، وفي (الصحيحين) من حديث أبي هريرة والبراء – رضي الله عنهما – ان رسول الله – - رأى خاتما من ذهب في يد رجل، فنزعه فطرحه وقال: ((يعمد أحدكم إلى حجرة من نار جهنم فيجعلها في يده ))، فقيل للرجل بعد أن ذهب رسول الله – -: خذ خاتمك انتفع به، فقال لا والله لا آخذه أبدا وقد طرحه رسول الله – -.
وبعض الرجال اليوم يلبسون خواتيم الذهب تمشيا مع العادات السيئة والتقاليد الفاسدة من غير مبالاة بالوعيد، مع أنهم يسمعون ويقرؤون الأحاديث التي تنهي عن ذلك ويعلمون أنهم يحملون في أيديهم جمرا من جهنم، لكنهم لا يبالون لأن الشيطان زين لهم ذلك،كما زين الشيطان لكثير من النساء لبس الثياب القصيرة أو الثياب الضيقة أو الثياب الشفافة التي لا تستر الجسم أو تبدي مقاطع الاعضاء. وأخريات يكشفن عن وجوههن ونحورهن وأيديهن وأرجلهن أمام الرجال في الاسواق أو في البيوت عند أقارب الزوج أو غيرهم.
وفي حديث ابي هريرة – - قال: قال رسول الله – -: ((صنفان من أهل النار لم أرهما: قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس. ونساء كاسيات عاريات مائلات مميلات رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا )) رواه أحمد ومسلم.
قال شيخ الاسلام ابن تيمية – رحمه الله – في معنى ((كاسيات عاريات)): أي كاسيات بلباس يصف البشرة، أو يبدي بعض تقاطيع أبدانهن كالعضد والعجيزة. فهن كاسيات بلباس، عاريات حقيقة، وهذا ينطبق على كثير من لباس النساء اليوم، فهن يلبسن لباسا رقيقا أو ضيقا يبدي تقاطيع الجسم، لباسا شفافا يري من ورائه لون الوجه والنحر وغير ذلك.
فاتقوا الله – ايها الرجال – في نسائكم، فإن الله سيسألكم عنهن بما جعل لكم من القوامة عليهن والرعاية لشؤونهن ((وكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته )) رواه البخاري.
واتقين الله – أيتها النساء- فإنكن مسؤولات. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالاً مبيناً [الأحزاب:36].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ...
الخطبة الثانية
الحمد لله على فضله وإحسانه، أحل لنا الطيبات، وحرم علينا الخبائث قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه، وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا ... أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله تعالى: إن الله كان عليكم رقيباً [النساء:1].
عباد الله: إن التنظيف والتجمل في البدن والثياب أمران مطلوبان شرعا. وقد رسم النبي – - الطريقة المطلوبة فيهما بقوله وفعله، وقد قال الله تعالى: لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة ، فلا يجوز لنا أن نرسم لأنفسنا أو نستورد من أعدائنا عادات وتقاليد تخالف هدي رسول الله – - كما يفعل كثير من المتشبهين بالكفار في عاداتهم وعباداتهم وتقاليدهم. وقد كان هدي النبي – - في شعر الرأس تركه كله أو أخذه كله، ولم يكن يحلق بعضه ويدع بعضه، وكان يقص شاربه، يقول: ((من لم يأخذ من شاربه فليس منا ))، رواه الترمذي وقال حديث صحيح.
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة – - قال: قال رسول الله – -: ((قصوا الشوارب وارخوا اللحى خالفوا المجوس ))، وفي صحيح مسلم عن أنس قال: ((وقت لنا رسول الله – - في قص الشارب وتقليم الاظافر ألا نترك أكثر من أربعين يوما وليلة ))، وكان النبي – - يحب السواك، وكان يستاك مفطرًا وصائما. ويستاك عند الانتباه من النوم، وعند والوضوء، وعند الصلاة، وعند الخروج من المنزل، وكان – - يكثر التطيب ويحب الطيب، ونهى – - عن اكل ماله رائحة كريهة كالبصل والكراث والثوم، ولا سيما عند دخول المساجد.
وشرع الاغتسال يوم الجمعة؛ لازالة الروائح الكريهة، والناشئة عن العرق وغيره. وكان غالب ما يلبس النبي- - هو وأصحابه ما نسج من القطن وربما لبسوا ما نسج من الصوف والكتان، وكان هديه في اللباس أن يلبس ما تيسر من اللباس، من الصوف تارة، والقطن تارة، والكتان تارة. قال الامام ابن القيم – رحمه الله -: فالذين يمتنعون عما أباح الله من الملابس والمطاعم والمناكح تزهدا وتعبدا، بإزائهم طائفة قابلوهم لا يلبسون إلا أشرف الثياب، ولا ياكلون الا الين الطعام، فلا يرون لبس الخشن، ولا أكله تكبرًا وتجبرًا، وكلا الطائفتين هديه مخالف لهدي النبي – -. ولهذا قال بعض السلف: كانوا يكرهون الشهرتين من الثياب: العالي والمنخفض. وفي السنن عن ابن عمر يرفعه إلى النبي – -: ((من لبس ثوب شهرة ألبسه الله يوم القيامة ثوب مذلة، ثم تلهب فيه النار))، وهذا لأنه قصد به الاختيال والفخر، فعاقبه الله بنقيض ذلك، كما عاقب من أطال ثوبه خيلاء، بأن خسف به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة. وكذلك لبس الدنيء من الثياب يذم في موضع ويحمد في موضع، فيذم إذا كان شهرة وخيلاء، ويمدح إذا كان تواضعا واستكانة، كما أن لبس الرفيع من الثياب يذم إذا كان تكبرا وخيلاء، ويمدح إذا كان تجملا وإظهارا لنعمة الله. وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود قال: قال رسول الله – -: ((لا يدخل الجنة من كان كان في قلبه مثقال حبة من خردل من كبر، ولا يدخل النار من كان في قبله مثقال حبة خردل من إيمان )). فقال رجل: يا رسول الله، اني أحب أن يكون ثوبي حسنا، ونعلي حسنة، أفمن الكبر ذلك؟ قال: ((لا، إن الله جميل يحب الجمال. الكبر: بطر الحق وغمط الناس )). وبطر الحق: دفعه، وغمط الناس: تنقصهم.
عباد الله: إن الشيطان تلاعب ببني آدم في شأن اللباس، فأوقعهم في المتناقضات المخالفة لشرع الله، فطائفة زين لهم التعري باسم المدنية والحضارة. كما زين للمشركين الطواف بالبيت وهم عراة. وأن ذلك عبادة يؤجرون عليها، وأن الله أمرهم بذلك كما قال الله عنهم: وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها قل إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون .
فرد الله عليهم، واخبر ان كشف العورة فاحشة، ينزه الله عن الأمر بها، وتشريعها للناس. وطائفة من الناس زين لهم الشيطان كشف عوراتهم عن الألعاب الرياضية والمباريات، واعتبروه فنا من الفنون، فصاروا يكشفون أفخاذهم ولا يغطون الا العورة المغلظة، كما عليه كثير من الفرق الرياضية من كشف عوراتهم امام المشاهدين. وتؤخذ لهم صور سيئة تنشر في الجرائد والمجلات وتبث في التلفاز ليشاهدها من لم يحضرها.
وطائفة أخرى من الناس على العكس من ذلك زين لهم الشيطان الإسبال في اللباس وجرَّه تكبرا وتعاظما، دون مبالاة بالوعيد الشديد والاثم العظيم، وغرض الشيطان أن يخرج هؤلاء عن الاعتدال والاستقامة في اللباس واتباع سنة الرسول- -.
كما أغرى الشيطان كثيرا من النساء بالسفور، ومحاربة الحجاب الشرعي؛ ليعرضن أجسامهن ومفاتنهن رخيصة أمام الانظار المسمومة.
فاتقوا الله – أيها المسلمون – وتمسكوا بكتاب ربكم وسنة نبيكم ولا تنساقوا وراء التيارات الهدامة والتقاليد المحرمة. واعلموا أن خير الحديث كتاب الله ...
ــــــــــــــــــــ(67/312)
أحكام المولود
...
...
158
...
الأسرة والمجتمع, فقه
...
...
الأبناء, الذبائح والأطعمة
...
علي بن يحيى الحدادي
...
...
الرياض
...
...
...
جامع عائشة بنت أبي بكر
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- هبة الله علينا في أولادنا 2- عدم البشارة بالأنثى من صنيع الجاهلية 3- أحام الرضاع 4- أحكام العقيقه
الخطبة الأولى
أما بعد:
فإن المولود نعمة من الله يمن بها على من يشاء من عباده ... وإنما يقدرها قدرها من فقدها، كغيرها من النعم ...
يقول المولى – عز وجل -: والله جعل لكم من أنفسكم أزواجاً وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة ورزقكم من الطيبات أفبالباطل يؤمنون وبنعمة الله هم يكفرون.
وهذه المنة تشمل الهبة بالذكر والأنثى قال سبحانه وتعالى: يهب لمن يشاء إناثاً ويهب لمن يشاء الذكور.
وقد اعتنى الإسلام بأمر المولود اعتناء عظيما .. ورعاه رعاية فائقة .. تضمن له مصالحه فقرر الأحكام العظيمة .. وشرع الشرائع المبينة .. التي جاءت شاملة كاملة خالية عن الظلم والحيف.. منزهة عن التلطخ بأنجاس الشرك والوثنية التي كان قد ابتلى بها العرب قبل الإسلام.
وسنعرض لبعضها بشيء من الاختصار.
إخوة الإسلام: إن الفرحة بالمولود أمر فطري؛ لأن الأب والأم يشعران بأنه امتداد لهما، وحفظ لذكرهما، ولكن من عادات الجاهلية تخصيص الذكر بالفرحة وأما يوم البشارة بالأنثى فهو يوم بؤس وتعس، فترى الرجل إذا بُشِّرَ بالأنثى اسود وجهه ... وعلاه العرق ... وطأطأ رأسه إذا كان في ملأ .. وتحين الفرصة للفرار من المجلس .. وإن لم يكن في نادي قومه .. توارى عنهم ولم يطق الخروج إليهم ... ثم أخذ يفكر هل يبقيها مع الذلة والهوان .. أم يقتلها ويودعها التراب كما قال الله عنهم: وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسوداً وهو كظيم يتوارى من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب، ألا ساء ما يحكمون . بل كانوا في الجاهلية يهنئون بولادة الذكر وبموت الأنثى – والعياذ بالله – فمحى الإسلام هذه العادة الجاهلية، وقرر أن كلا من الذكر والأنثى هبة وعطية من الله سبحانه .. وأن الأنثى قد يكون فيها من الخير والبركة ما ليس في الذكر .. بل خص الله أكثر الأنبياء بالبنات، حتى قال الإمام أحمد: ((الأنبياء آباء لعلات)).
وقال سبحانه وتعالى في النساء: فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً .
فعلى العبد أن يتقي الله ... ويرضى بما كتب الله .. وأن يطهر قلبه من أدران الجاهلية وأوساخها.
وإذا ولد المولود فقد أرشد الإسلام إلى ضرورة رضاع أمه له ... فقال سبحانه وتعالى: والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة ، وظاهر أن الحولين يبدءان من يوم الولادة، بل قال الفقهاء: إن الأم إذا كان قد وجب عليها القتل في حد أو قصاص فإنها لا تقتل حتى ترضع ولدها اللبأ وهو أول الحليب الذي يخرج من ثديها بعد الوضع، ثم إن وجد من ترضعه سلم لها، وإن لم يوجد أخر عنها القتل حتى تتم الرضاعة.
وقد دلت الأبحاث المعاصرة على أهميته جسديا ونفسيا في طفولة المولود وفي مستقبله بعد ذلك.
ومع دلالة النصوص الشرعية والدراسات الطبية على ضرورته نرى عزوف كثير من الأمهات عن الرضاعة الطبيعية استغناءا بالرضاعة الصناعية التي أثبتت الدراسات خطرها يوما بعد يوم حتى اعتبرها بعض الباحثين قتلا بطيئا للمواليد ...
فإذا كان يوم سابعه من غير يوم الولادة فلا يعتد به إلا أن يولد قبل الفجر، شرعت العقيقة، لحديث سمرة: ((الغلام مرتهن بعقيقته تذبح عنه يوم السابع ويسمى)).
ولا ينبغي لمن قدر عليها أن يتركها ... لقوله – -: ((الغلام مرتهن بعقيقته)).
وقد عق النبي – - عن الحسن وعن الحسين .. فثبتت سنيتها بقول النبي – - وفعله .. وقال يحيى بن سعيد الأنصاري وهو من صغار التابعين: ((أدركت الناس وما يدعون العقيقة عن الغلام والجارية )).
وأما عن وقت العقيقة فقد تقدم أن الأفضل في اليوم السابع للحديث في ذلك .. وما بعد ذلك فليس فيه توقيت عن النبي – - فيما أعلم .. وإنما يروي عن بعض الصحابة كعائشة – رضي الله عنها – أنها قالت: ((سبعة أيام وأربعة عشر ولأحد وعشرين)).
يقول ابن القيم – رحمه الله -: ((والظاهر أن التقييد بذلك استحباب وإلا فلو ذبح عنه في الرابع أو الثامن أو العاشر أو ما بعده أجزأت)).
أيها الإخوة في الله: والذبح عن المولود أفضل من التصدق بثمن العقيقة لما فيها من الاقتداء وإحياء سنة المصطفى .
سأل صالح أباه الإمام أحمد: عن الرجل يولد له ولد وليس لديه مال، أيقترض؟ فقال: ((إني لأرجوا إن استقرض أن يعجل الله الخلف .. لأنه أحيا سنة من سنن رسول الله – - واتبع ما جاء عنه )).
وأما مقدارها: فعن أم كرز – رضي الله عنها – أنها سألت رسول الله – - عن العقيقة. فقال: ((عن الغلام شاتان، وعن الجارية شاة . لا يضركم أذكرانا كن أم اناثا ))، رواه الترمذي وصححه .
وعن عائشة – رضي الله عنها – قالت: أمرنا عليه الصلاة والسلام: ((أن نَعُقَّ عن الغلام بشاتين وعن الجارية شاة ))، رواه أحمد وغيره.
وهذه قاعدة من قواعد الشريعة، فإن الله سبحانه فاضل بين الذكر والأنثى، وجعل الأنثى على النصف من الذكر في المواريث والديات والشهادات والعتق والعقيقة ..
وذلك لفضل جنس الذكور على الإناث، كما قال سبحانه وتعالى: وليس الذكر كالانثى .
فقبح الله الذين يدعون إلى المساواة المطلقة بين الذكر والأنثى.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم ،أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
أما بعد:
ومن أحكام العقيقة: جواز كسر عظامها بعد ذبحها ،فإنه لم يصح في المنع من ذلك ولا في كراهته سنة يجب العمل بمقتضاها. وقد جرت العادة بكسر عظام اللحم .. وفي ذلك مصلحة أكله، وتمام الانتفاع به . وأما السن المعتبرة في العقيقة فقد أجمع العلماء أنه لا يجزي فيها إلا ما يجزي في الاضاحي .
وقرر ابن القيم – رحمه الله – أنه لا يجوز الاشتراك في العقيقة، فلو ذبح جزور عن سبع لم يصح ؛لأن العقيقة نفس فداء نفس.
ويجوز أن تذبح العقيقة من الإبل والبقر والغنم.
ويجوز في العقيقة الاأل والاهداء، ولا بأس باجتماع الناس فيها، لعدم النهي عن ذلك.
ونختم الحديث عن العقيقة بذكر بعض حكمها وفوائدها مما ذكره الإمام ابن القيم – رحمه الله تعالى:
أولا: في ذبحها إحياء للسنة وإظهارا لها، وكفى بها فائدة وفضيلة.
ثانيا: أنه قربان يقرب به عن المولود في أول أوقات خروجه إلى الدنيا، والمولود ينتفع بذلك غاية الإنتفاع كما ينتفع بالدعاء له.
ثالثا: أنها فدية يفدي بها المولود، كما فدى الله سبحانه إسماعيل الذبيح بالكبش.
رابعا: غير مستبعد في حكمة الله في شرعه وقدره أن تكون سببا لحسن إثبات الولد، ودوام سلامته وطول حياته في حفظه من ضرر الشيطان.
خامسا: فيها معنى القربان والشكران والفداء والصدقة وإطعام الطعام عند حوادث السرور العظام؛ شكرا لله، وإظهارا لنعمته التي هي غاية المقصود من النكاح.
فلا أحسن ولا أحلى في القلوب من مثل هذه الشريعة في المولود، فإنها إظهار للفرح والسرور بإقامة شرائع الإسلام، وخروج نسمة يكاثر بها رسول الله – - الأمم يوم القيامة تعبدا لله، وإرغاما لعدوه.
معاشر المؤمنين: صلوا وسلموا. . .
ــــــــــــــــــــ(67/313)
...
زينة المرأة المسلمة بين الطب والشرع
...
...
256
...
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
...
...
اللباس والزينة, المرأة
...
منصور الغامدي
...
...
الطائف
...
27/2/1420
...
...
أبو بكر الصديق
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
- طبيعة المرأة ومَيلها إلى التزيّن – ضرورة التوازن بين زينة الباطن والظاهر – مظاهر الإسراف في زينة الظاهر – حكم صبغ المرأة شعر رأسها – بعض المخالفات في زينة المرأة ( في الأظفار – في الحاجب )
الخطبة الأولى
أما بعد:
فيا أيها الاخوة المسلمون:أوصيكم ونفسي بتقوى الله ومراقبته، فما قل ولا ذل عبد اتقى الله وحفظ جوارحه عن الحرام .
أيها المسلمون: ومع آخر حلقة في سلسلة المرأة التي خضنا غمارها في أسابيع ماضية مضت، وهي عن زينة المرأة المسلمة ما تأتي فيها وما تذر .
أيها الاخوة الكرام: إن المرأة بطبيعتها تميل إلى حب التزين والتجمل وهذا من أصل فطرتها وتكوينها، قال تعالى: أومن ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين [الزخرف 18]وفي قراءة (أومن يَنشأ) وفي هذا العصر الذي كثرت فيه السهام الموجهة إلى صلاح المرة المسلمة وجمالها الباطن لكلي تعيش همّا جديدا في حياتها اسمه الموضة، فتضيع وقتا كبيرا وثمينا من أجل زينة الظاهر، وتبذر أموالا كثيرة، لمواكبة آخر ما أحدثته دور الموضة، وهكذا يراد للمسلمة أن تعيش مشغولة بتوافه الأمور متناسية العظيم منها:
يا خادم الجسم كم تسعى لخدمته أتطلب الربح فيما فيه خسران
أقبل على النفس واستكمل فضائلها فأنت بالروح لا بالجسم إنسان
أيها الاخوة الكرام: إن المرأة لا تلام على حب الزينة والتزين، بل إن ذلك مطلوب منها شرعا، وهي مأمورة به بمثل قول النبي : ((إن ينظر إليها سرته))، ولو لا الزينة لما رغب رجل في امرأته، ولكن المطلوب في الزينة هو عدم المبالغة، والتوازن بين الاهتمام بالظاهر والاهتمام بالباطن، إلا أن كثيرا من نساء اليوم غلبن جانب الاهتمام بالمظهر على سواه .
أيها الاخوة الكرام: وإليكم أرقام مهولة لاستعمال أدوات الزينة الخاصة بالمرأة، ففي عام 1997م، أنفقت نساء الخليج حوالي ثلاث مليارات ريال على العطور فقط، وخمسة عشر مليون ريال على صبغات الشعر، وبلغت مبيعات أحمر الشفاه أكثر من ستمائة طن، فيما بلغت مبيعات طلاء الأظافر أكثر من خمسين طنا .
وإن الدارسين في معاهد وكليات الإعلام يعرفون جيدا أن نظريات الإعلام تركز على المرأة في إقناع المستهلك على شراء المنتج الجديد حتى في السلع التي لا تتعلق بالمرأة، ولا تجد حملات الإعلان الموجهة للمرأة صعوبة كبيرة في إقناع النساء باتخاذ قرار الشراء، فهذا المنتج يحقق التميز، وذاك يوفر التجاعيد، وهذا يمنع تقصف الشعر، وذاك يفتح البشرة إلى غير ذلك، وآخر تقاليع هذا التقليد إطلاق أسماء الفنانات وعارضات الأزياء على الماركات الجديدة .
أيها الأخ الموفق : ألم يأتك نبأ مساحيق التجميل، وما مكوناتها، إن أشهر ماركات مساحيق التجميل العالمية تصنع من أنسجة أجنة الإنسان الحية، وفي الولايات المتحدة الأمريكية يدخلها سنويا أربعة آلاف جنين عن طريق ما في الأجنة، لهذا الغرض ولغيره، وقد أثبتت بعض الأبحاث الحديثة التي أجرتها شركات مساحيق التجميل الكبرى في الغرب الفائدة القصوى لأنسجة أجنة الإنسان في صناعة مساحيق التجميل، ومن هنا بدأ الجريمة المقننة التي يتعاون في صناعة مساحيق مع الأطباء في إجهاض النساء، وسحب الجنين، وحفظه في أوعية خاصة تمهيدا لبيعه لشركات إنتاج الصابون الخاص بجمال البشرة، وشركات إنتاج المساحيق والكريمات التي تغذي البشرة .
وقد أعد الدكتور فلاديمير سكرتير عام اللجنة الدولية لحماية الطفل قبل الولادة بأمريكا، أعد تقريرا سريا عن تلك القضية، وقد أشار ضجة كبرى عرض شريط سينمائي بعنوان (الصيحة الصامتة)، أو بدأ الفيلم بعرض جنين سليم، ثم تصوير بالأشعة فوق الصوتية وهو لم يولد بعد، وينتهي بتقطيع أوصاله، وفصل رأسه عن جسده، وهو يسبح في السائل المحيط داخل الرحم بفعل آلة الإجهاض الحديثة (الجيلوتين) التي تعمل على تهشيمه تماما، وأوضح الشريط أن الجنين قد تعرض لآلام رهيبة حتى تمت عملية الإجهاض، كما أنه يعيش حالات الشعور بالألم حيث يتحرك بعيدا عن آلة الإجهاض التي تجلب له الموت، كما زادت ضربات القلب الصغير زيادة كبيرة عندما واجهه خطر الموت، ويصرخ بشدة مثل صرخة الغريق تحت الماء، لقد تحول الإنسان إلى وحش يقتل نفسه بنفسه لغرض المتاجرة والاحتيال .
ولم تكتف بعض الشركات بقتل الأجنة وعمل مساحيق التجميل منها، بل فكرت في الاستفادة من الحشرات لتصنيع مساحيق التجميل، وقد اعترفت شركة هندية باستعمالها الصراصير المطحونة لإضافة البروتين إلى كريمات الوجه.
هذه بعض الحقائق المثيرة المخجلة، التي تكشف القناع الذي يلبسه مُدعو المدنية والموضة.
أيها الفضلاء: لقد أطلق الأطباء صيحات التحذير من هذه المساحيق لأنها مجلبة لبعض الأمراض كحب الشباب، والشيخوخة المبكرة، ولها تأثير على الدم والكبد والكلى، ولها تأثير على البشرة عموما.
يقول الدكتور وهبه أحمد حسن أستاذ الأمراض الجلدية إن مكياج الجلد له تأثيره الضار، لأنه يتكون من مركبات معادن ثقيلة كالرصاص والزئبق، تذاب في مركبات دهنية كما أن بعض المواد الملونة تدخل فيها بعض المشتقات البترولية، وكلها أكسيدات تضر بالجلد، وإن امتصاص المسام الجلدية لهذه المواد يحدث التهابات وحساسية، أما لو استمر استخدام الماكياجات فإن لها تأثيرا ضارا على الأنسجة المكونة للدم والكبد والكلى.
وقد سئل سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله، عن حكم مساحيق التجميل فأجاب: المساحيق فيها تفصيل: إن كانت يحصل بها جمال و لكن لا تضر الوجه ولا تسبب شيئا فلا بأس، أما إن كانت تسبب شيئا فيه ضرر فإنها تمنع من أجل الضرر .
وفي الوقت الذي نرى فيه تزايد اوتهافتا في استخدام مستحضرات التجميل من نساء المسلمين، فإن الإحصاءات في الغرب تشير إلى انخفاض في مبيعات مستحضرات التجميل.
ورب قائلة تقول : إننا نستعمل هذه الأدوات والمساحيق منذ زمن ولم نصب بأذى، فالجواب على ذلك: أن الأضرار البدنية لهذه المواد قد لا يظهر أثرها في يوم وليلة أو شهر وشهرين، ولكن على المدى البعيد، وقد يطول وقد يقصر .
ومن مستحضرات التجميل إلى مستحضرات صبغ الشعر والإستشوار إذ أكد الأخصائيون والأطباء أن متاعب شعر المرأة له أكثر من سبب، أكثرها شيوعا: استخدام صبغة الشعر، وتمشيط الشرع بالاستشوار، واستخدام مثبتات الشعر، فهذه تؤدي إلى تدمير بصيلات الشعر، لما تحتويه هذه الأصباغ من مواد كيميائية ضارة بالشعر، وقد ذكر صبغ الشعر وبين أنه ربما تكون هناك علاقة بين استخدام مستحضرات صبغ الشعر وبين الإصابة ببعض أنواع السرطان، قام بهذه الدراسة الباحثون في المعهد القومي الأمريكي للسرطان .
أما حكم مثل هذه المستحضرات فقد قال فضيلة الشيخ صالح الفوزان أما صبغ المرأة شعر رأسها، فإن كان شيبا فإنها تصبغه بغير السواد لعموم نهيه عن الصبغ بالسواد، وأما صبغ المرأة بشعر رأسها ليتحول إلى لون آخر، فالذي أرى أنه لا يجوز.
ويرى الشيخ ابن عثيمين أن هذه الأصباغ إن كانت متلقاة من الكفار والغرض منها التشبه بنسائهم فإنها محرمة لأن التشبه بالكفار محرم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم. وبعد:
أيها الاخوة الفضلاء: ومما يخالف الفطرة في زينة النساء ما يفعله بعضهن من إطالة الأظافر، أو تركيب أظافر صناعية، وفي بحث علمي قامت به إحدى الجامعات، تمّ أخذ البقايا الموجودة، تحت أظفار الطلبة ووزعت هذه البقايا في أطباق خاصة في درجة حرارة الجسم، وفحصت الأطباق مجهريا، فكانت النتيجة وجود مئات من الأنواع المختلفة من الجراثيم الضارة الفتاكة في هذه البقايا كامنة منتظرة الدخول إلى جسم الإنسان وبخاصة عند تناول الطعام .
وقد يحتج البعض بأنه يعتني بأظفاره ويغسلها يوميا، وحجته مردودة بأن الشرع قد نهى عن إطالة الأظافر، وأيضا : فإن غسل الأظافر لا يفيد في تنظيفها من الجراثيم والأوساخ، لأن الماء لا يصل إلى ما تحت الأظافر، أما طلاء الأظفار فإن الأطباء يحذرون منه يقول أحد استشاري الأمراض الجلدية والتناسلية، إن طلاء الأظفار بالمادة الكيميائية لها تأثيرها الضار على الأظفار، حيث إن هذه المدة تعزل الهواء وتمنع تبادل الرطوبة بين الظفر والجو وربما يؤدي كثرة استعمالها إلى أن تصاب الأظفار بالاصفرار، وتصبح هشة سهلة الكسر .
وقد أفتى سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله، بأن تطويل الأظفار خلاف السنة، وقد ثبت عن النبي أنه قال: ((الفطرة خمس: الختان، والإستحداد، وقص الشارب، ونتف الإبط، وتقلم الأظافر))، ولا يجوز أن تترك أكثر من أربعين ليلة لما ثبت عن النبي أنه قال : (وقت لنا رسول الله في قص الشارب وقلم الظفر، ونتف الإبط وحلق العانة، أن لا نترك شيئا من ذلك أكثر من أربعين ليلة ) ولأن تطويلها فيه تشبه بالبهائم وبعض الكفرة .
وسئل الشيخ محمد ابن عثيمين عن حكم استعمال المناكير فقال: لا يجوز للمرأة أن تستعمل هذه الأصباغ إذا كانت تصلي، لأنها تمنع وصول الماء في الوضوء، وكل شيء يمنع وصول الماء فإنه لا يجوز استعماله للمتوضئ، أما إذا كانت لا تصلي لوجود مانع فلا حرج عليها إذا فعلته، إلا أن يكون هذا الفعل من خصائص نساء الكفار فإنه لا يجوز لما فيه من التشبه بهم .
أيها المسلمون: ومن الزينة التي فعلها بعض الناس هداهن الله نتف الحاجب واسمه في الشرع: النمص، يقول أحد الأطباء في ضرره إن إزالة شعر الحواجب ينشط الحلمات الجلدية، فتتكاثر خلايا الجلد وفي حالة توقف الإزالة، ينمو شعر الحواجب بكثافة ملحوظة .
يقول الشيخ عبد الله بن جبرين عن حكم النمص : لا يجوز القص من شعر الحواجب ولا حلقه ولا التخفيف منه ولا نتفه، ولو رضي الزوج فليس فيه جمال، بل تغيير لخلق الله وهو أحسن الخالقين، وقد ورد الوعيد في ذلك ولعن من فعله، وذلك يقتضي التحريم .
أيها المؤمنون : إن ربنا سبحانه رحيم بنا، فهو الذي كتب على نفسه الرحمة، ولم يأمر عباده إلا بما نفعهم، ولم ينههم ألا بما يضرهم فمتى سار الناس منضبطين بأوامر ربهم ساروا بخير وعاشوا بخير، كما أن المسلمين ينبغي عليهم أن يكونوا على مستوى من الوعي والفهم والتأكد من كل شيء يتعاملون به في حياتهم أو يستعمل لئلا يقعوا في المحاذير، والموفق من وفقه الله لإصلاح أهله وحفظهم من كل ما يؤذيهم في الظاهر والباطن .
اللهم اجعل حياتنا ومماتنا ونومنا ويقظتنا، وحركتنا وسكوننا لله رب العالمين لا شريك له .
ألا وصلوا وسلموا على من أمركم الله .
ــــــــــــــــــــ(67/314)
تكريم الإسلام للمرأة
...
...
260
...
الأسرة والمجتمع
...
...
المرأة
...
منصور الغامدي
...
...
الطائف
...
21/1/1420
...
...
أبو بكر الصديق
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
- مكانة المرأة في الإسلام والوصية بها – المراحل التي تمر بها المرأة وعناية الإسلام بها ( البنت – الزوجة – الأم )
الخطبة الأولى
أما بعد:
أيها الأحبة الكرام : كان الحديث في الخطبة الماضية عن حال المرأة في ظل الجاهليات القديمة لها والحديثة ، وكيف أنها تعيش تحت الذل والاستعباد ، والكيد والقهر والتسلط ، فكأني بها تحادث نفسها وهي تعيش مأساة حقيقية تقول لِمَ خلقت أنثى ولم تخلق ذكرا ، قويا جبارا متسلطا ، إن كانت هذه هي الحياة ، فبطن الأرض خير من ظهرها.
ولكن الله الرحيم اللطيف بعباده ، العليم بما هو خير لهم ، لم يشأ أن يطول الظلام ، وتستمر الظلامة على المرأة فجاء الله بالإسلام وأرسل محمدا فأشرق وجه الفجر، وبدا ثغر الشمس ضاحكا، وانطلقت أشعة الشمس في سباق محموم لتطرق على المرأة باب خدرها، تطرق عليها الباب لتقول: أبشري بخير يوم طلعت فيه الشمس عليك ، ولتأخذها إلى عالم أكثر هدوءا ، وأعظم رحمة، وأهدى سبيلا، إنه موعد طالما انتظرته المرأة موعد مع السعادة، موعد مع التكريم والعزة ، موعد مع الحرية الحقيقية.
أيها الأحبة الكرام: أنى لي أن آتي على كل مظاهر إعزاز وتكريم الإسلام للمرأة، في هذه الخطبة القصيرة، بل من أين أبدأ ، ماذا عسى أن أقول ، ولكن يكفي من القلادة ما أحاط بالعنق.
أيها الاخوة الكرام: لقد ساوى القرآن في أغلب تكاليف الإيمان بين النساء والرجال قال تعالى: يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار . وقال تعالى: والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتاناً وإثماً مبيناً .
وقال : (( من استغفر للمؤمنين والمؤمنات كتب الله له لكل مؤمن ومؤمنة حسنة )).
أما ثوابها على أعمالها الصالحة في الدنيا والآخرة فعظيم قال تعالى : من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون . وقال سبحانه: وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيبة في جنات عدن ورضوان من الله أكبر ذلك هو الفوز العظيم .
وقال : (( إذا صلت المرأة خمسها وصامت شهرها ، وحفظت فرجها ، وأطاعت زوجها ، قيل لها: ادخلي من أي أبواب الجنة شئت )) ، فإذا احتمل الرجل نارا الهجير واصطلى جمرة الحرب ، وتناثرت أوصاله تحت ظلال السيوف ، فليس ذلك بزائد مثقال حبة على المرأة إذا وفت لبيتها ، وأخلصت لزوجها ، وأحسنت القيام إلى بنيها .
ومن فضائل النساء ما روت أم سلمة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله : ((أيما امرأة ماتت وزوجها عنها راض دخلت الجنة)) ، ومن عظيم أجر المرأة عند ربها ، ((أن رسول الله عاد عبد الله ابن رواحة ، فلما تحوز له عن فراشه ، تنحى ، فقال : أتدري من شهداء أمتي؟ قال : قتل المسلم، قال : إن شهداء أمتي إذاً لقليل ، قتل المسلم شهادة ، والطاعون شهادة، والمرأة يقتلها ولدها جمعاء ، تموت وفي بطنها ولد شهادة ، يجرها ولدها بسرره إلى الجنة )).
وقد يظن ظان أن أجور الرجال أكثر عند الله لما يقومون به من شهود الجماعات ، والجنائز ، والجهاد وغيرها ، والصحيح أن أجر المرأة كأجر الرجل متى قامت بأعمال يسيرة: ((أتت أسماء بنت يزيد بن السكن رضي الله عنها النبي فقالت : إني رسول الله ورائي من جماعة نساء المسلمين كلهن يقلن بقولي وعلى مثل رأيي : إن الله بعثك إلى الرجال والنساء ، فآمنا بك واتبعناك، ونحن معشر النساء مقصورات مخدرات ، قواعد بيوت ، وإن الرجال فضلوا بالجمعات، وشهود الجنائز والجهاد ، وإذا خرجوا للجهاد حفظنا لهم أموالهم ، وربينا أولادهم، أفنشاركهم في الأجر يا رسول الله ؟ فالتفت رسول الله بوجهه إلى أصحابه فقال: هل سمعتم مقالة امرأة أحسن سؤالا عن دينها من هذه ؟ فقالوا : بلى يا رسول الله فقال رسول الله انصرفي يا أسماء ، وأعلمي من وراءك من النساء أن حسن تبعل أحداكن لزوجها ، وطلبها لمرضاته ، واتباعها لموافقته يعدل كل ما ذكرت للرجال )) فانصرفت أسماء وهي تهلل وتكبر استبشارا بمقالة النبي ، إنه عمل قليل وأجر عظيم.
وكان يوصي أمته بالنساء خيرا وأن يرفقوا بهن قال عليه الصلاة والسلام: ((ألا واستوصوا بالنساء خيرا ، فإنهن عوان عندكم ، ليس تملكون منهن شيئا غير ذلك ، إلا أن يأتين بفاحشة مبينة ))، وقال عليه الصلاة والسلام: ((واستوصوا بالنساء خيرا ، فإن المرأة خلقت من ضلع وإن أعوج ما في الضلع أعلاه ، فإن ذهبت تقيمه كسرته ، وإن تركته لم يزل أعوج ، فاستوصوا بالنساء ))، وقال عليه الصلاة والسلام: ((إن أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا ، وخياركم خياركم لنسائكم )).
أيها الاخوة الكرام : إن المرأة تمر بمراحل ثلاث: تكون بنتا ثم تكون زوجا ثم تغدوا أمّا ، ولكل مرحلة من المراحل الثلاث التي تمر عليها تعيش المرأة أسمى مظاهر العطف والرحمة والعزة والرفعة .
فإذا كانت المرأة بنتا: فإن الإسلام اعتنى بها أيما عناية وصانها وحفظها وفرض لها حقوقا ، فمن ذلك العدل بين الأولاد في الهبة فعن ابن عباس رضي الله عنها مرفوعا : ((سووا بين أولادكم في العطية ، فلو كنت مفضلا أحدا لفضلت النساء)) ، ومن الناس من إذا رزق إناثا ولم يرزق الذكور تبرم وتضجر ، وتشاؤم وحزن وقد نهى الله تعالى عن كل ذلك ، قال تعالى وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسوداً وهو كظيم قال واثلة بن الأسقع إن من يمن المرأة تبكيرها بالأنثى ، قبل الذكر لقوله تعالى: يهب لمن يشاء إناثاً ويهب لمن يشاء الذكور فبدأ بالإناث.
ورعاية البنت وتربيتها تربية صحيحة يدخل وليها الجنة قال : (( من عال جارتين حتى تبلغا جاء يوم القيامة أنا وهو . وضم أصابعه، أي معا ))، وعن عقبة بن عامر الجهني قال: سمعت رسول الله يقول: ((من كان له ثلاث بنات فصبر عليهن وسقاهن وكساهن من جرته، يعني ماله ، كن له حجابا من النار )) إن من يسمع هذا الثناء والإطراء ليجتهد ويجهد في الإحسان إليهن ، والعمل على إحسان تربيتهن تربية صالحة .
كتب أحد الأدباء رسالة إلى صديق له يهنئه بالبنت يقول : أهلا وسهلا بعقيلة النساء ، وأم الأبناء ، وجالبة الأصهار ، والأولاد الأطهار والمبشرة بإخوة يتناسقون ، ونجباء يتلاحقون :
فلو كان النساء كمن ذكرنا لفضلت النساء على الرجال
وما التأنيث لاسم الشمس عيب وما التذكير فخر للهلال
فها هي البنت تعيش جوهرة مصونة ودرة مكنونة في كنف أسرتها ، تلقى كل الحب والرعاية، وتتعلم التربية السوية الصالحة من أبويها لتكون غدا زوجا صالحة مصلحة .
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي هدانا للإسلام وأكرمنا به ، والصلاة والسلام على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه أجمعين .
وبعد :
أيها الاخوة الكرام: فإذا غدت المرأة زوجة فإنها لا تكون في ظل شريعة الإسلام كما كانت عند الآخرين ودنساً يجب التنزه عنه، ولكن سما بها إلى العلياء ، وجعل رباط الزواج من نعمه سبحانه على عباده قال تعالى: ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون وقد أوجب الإسلام هدية تكريم للمرأة حين إقبالها على بيت الزوجية قال تعالى: وآتوا النساء صدقاتهن نحلة فلا يجوز لأحد أكل مهرها أو التصرف منه بغير إذنها الكامل ورضاها الحقيقي ، فإذا ما تزوجت فإن على الزوج أن ينفق عليها والنفقة تشمل الطعام والشراب والملبس ، وما تحتاج إليه الزوجة لقوام بدنها لقوله تعالى لينفق ذو سعة من سعته ، وعن معاوية بن حيرة قال : قلت يا رسول الله ، ما حق زوجة أحدنا عليه؟ قال: ((أن تطعمها إذا طعمت ، وتكسوها إذا اكتسيت، ولا تقبح الوجه ، ولا تضرب )) وقال عليه الصلاة والسلام: ((كفى بالمرء إثما أن يضيع من يقوت)) وعن أبي هريرة قال : ((دينار أنفقته في سبيل الله ، ودينار أنفقته في رقبة، ودينار تصدقت به على مسكين، ودينار أنفقته على أهلك، أعظمها أجر الذي أنفقته على أهلك ))، ولا تكلف المرأة بشيء من الإنفاق ، أماً كانت أو أختا، أو كانت زوجة، قادرة على العمل أو عاجزة عنه ، غنية كانت الزوجة أو فقيرة ، وسواء كان زوجها قادرا على العمل أو عاجزا عنه ، غنيا كان أو فقيرا ، فالرجل المسؤول عن النفقة البيتية ، وليس من حقه أن يلزمها إلا إذا تبرعت مساهمة في تحمل بعض العبء.
ومن حقوق المرأة المتزوجة أن يكون لها مسكن تستظل بظلاله ، وتنعم بالقرار فيه ، وتحس أنها مديرة شؤونه ، ومسؤولة عن كل صغيرة وكبيرة فيه ، قال الله تعالى: أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم فإذا وجبت السكنى للمطلقة ، فالتي في صلب النكاح أولى ، قال تعالى وعاشروهن بالمعروف ومن المعروف أن يسكنها في مسكن .
ومن حقوق الزوجة التي كفلها الإسلام أن يعلمها زوجها أمور دينها فيعلمها أركان الإيمان وأحكام الطهارة والعبادات خاصة الصلاة ويحثها على أدائها في أول وقتها وشروطها وأركانها مفسداتها ، لقوله تعالى يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً . ومن وقايتها من النار تعلمها أمر دينها ، وقد أثنى الله على نبيه إسماعيل عليه السلام بقوله : وكان يأمر أهله بالصلاة والزكاة وكان عند ربه مرضياً ومنها : المعاشرة بالمعروف ، وقد أمر الله بها، كيف لا ، وقد اجتمعت الأبدان والأرواح في مكان واحد ، وأصبح المصير واحدا ، والهم هم واحد قال تعالى : وعاشروهن في بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً وقيل في المعروف : أن لا يضربها ، ولا يسيء الكلام معها ، ويكون منبسط الوجه معها ، ومن المعاشرة بالمعروف أن يناديها بأحب الأسماء ، وأن يكرمها في أهلها عن طريق الثناء عليهم .
ما من حسن المعاشرة ما جاء عنه أنه قال لعائشة رضي الله عنها: ((إني لأعلم إذا كنت عني راضية وإذا كنت علي غضبى، قالت : ومن أين تعرف ذلك، فقال: أما إذا كنت راضية فإنك تقولين لا ورب محمد ، وإذا كنت غضبى لا ورب إبراهيم ، قالت: أجل والله يا رسول الله ما أهجر إلا اسمك)). وبعد حياة السعادة الزوجية تغدوا الزوجة أما وتحمل مسؤولية كبيرة في تربية ليوث المستقبل ، ورجالات الأمة ، فهي المحضن الخصب الذي يخرج منه إلى الحياة أولئك الأبطال ، والذي لولاها بعد الله لخرجن نماذج كرتونية ضعيفة هزيلة .
ومما أوجب الله في حق الأم برها والإحسان إليها قال تعالى واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً قال ابن عباس رضي الله عنهما : يريد البر بهما مع اللطف ولين الجانب، فلا يغلظ في الجواب ، ولا يحد النظر إليهما ، ولا يرفع صوته عليهما ، بل يكون بين يديهما مثل العبد بين يدي السيد كلا لهما . وقال تعالى فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما فقد نهى الله أن يقول الابن لأمه : أف وهي أقل كلمة فكيف بما هو أعظم منها؟ ((جاء رجل إلى رسول الله فقال : يا رسول الله من أحق الناس بحسن صحابتي، قال: أمك قال ثم من قال أمك قال ثم من قال أمك قال ثم من قال أبوك )) .
فالأم من أعظم الناس فضلا وأحق الناس بالإكرام والإحسان ، ومن لا خير له في أمه فلا خير له فيمن هم دونها: عن عائشة رضي الله عنها عن النبي أنه قال: ((دخلت الجنة فسمعت قراءة فقلت من هذا ؟ فقيل : حارثة بن النعمان . فقال رسول الله وكذلكم البر .كذلكم البر)). وزاد عبد الرزاق في روايته ، وكان أبر الناس بأمه ، وجاء في الأدب المفرد أن رجلا يمانيا حمل أمه وراء ظهره يطوف بالبيت فرأى ابن عمر فقال : إني لها بعيرها المذلل إن أذعرت ركابها لم أذعر ، الله ربي ذي الجلال الأكبر ، حملت أكثر مما حملت ، فهل ترى جازيتها يا ابن عمر ؟ ثم قال : يا ابن عمر أتراني جزيتها؟ قال: لا ولا بزفرة واحدة .
أيها المسلمون: هاهي المرأة المسلمة التي رضيت بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيا ، هاهي قد حفت بسياج عظيم من التكريم ، وأمطرت عليها سحب الرسالة فيضا من الحفظ والصون ، والاهتمام والرعاية حتى عدت مشاركة قوية وفعالة في الحياة ، لا تصلح الحياة إذا فسدت.
وارجع قليلا بذاكرتك إلى الإحصاءات المخيفة في الخطبة الماضية لترى البون الشاسع بين المرأتين ، والفرق الكبير بين الحياتين ، حياة في ظل الإسلام وحياة في ظل الجاهلية النتنة، إلا أنه لم يرق لأعداء دينك هذا الاستقرار الذي تعيشه المرأة المسلمة، فبدأوا بالمؤامرات تلو المؤامرات لإفسادها ، وهذا هو موضوع الخطبة القادمة بمشيئة الله
بر الوالدين
...
...
297
...
الأسرة والمجتمع
...
...
الوالدان
...
عثمان بن جمعة ضميرية
...
...
الطائف
...
...
...
غير محدد
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- بناء الإسلام المجتمع على أسس ثابتة راسخة. 2- عناية الوالدين بأولادهما فطرية. 3- النصوص تذكر بحق الوالدين وتأمر برهما. 4- التحذير من عقوق الوالدين.
الخطبة الأولى
أما بعد :
أيها الاخوة المؤمنون: يقيم الإسلام دعائم مجتمعه على أسس راسخة وقواعد ثابتة تمتد في أعماق النفس البشرية وتمتزج بمشاعرها وعواطفها الأصيلة متأثرة في ذلك كله بعقيدة راسخة تستقر في قلب المسلم، ليكون بناء الأمة الإسلامية بناء قويا متينا .
وأقرب العواطف وأشدها تأثيرا في النفس هي عاطفة الأبوة والأمومة، فإنها العاطفة التي تضم بين حنانها الوليد في مراحل نموه، فيشعر بدفء عواطف الحب والرحمة والشفقة حتى يشب ويترعرع، وتواصل سيرها معه يافعا ورجلا وشيخا، ومن روابط هذه العواطف يكون بناء الأسرة المسلمة القوية الصالحة .
وإذا كان شعور الإنسان يتطلع دائما إلى المستقبل، ويتدفق حيوية، وطموحا نحو الجديد من الزوج والذرية، ويجد دافعا قويا إلى ذلك بعامل الفطرة، فإن الإسلام لا يشدد في أن يوصي الوالدين بالأولاد، لأن ذلك أمر مركوز في فطرة الإنسان، فالوالدان يندفعان بالفطرة إلى رعاية الأولاد، إلى التضحية بكل شي في سبيلهم حتى بالذات، وكما تمتص النبتة الخضراء كل غذاء في الحبة فإذا هي فتات، وكما يمتص الفرخ كل غذاء في البيضة فإذا هي قشرة خاوية ، كذلك يمتص الأولاد كل رحيق وكل عافية وكل جهد وكل اهتمام من الوالدين ، فإذا هم شيخوخة فانية إن أمهلهما الأجل للشيخوخة ، ولكنهما مع كل ذلك سعيدان كل السعادة .
ولا عجب بعد ذلك ، أن تأتي كلمات الله تعالى في كتابه توصي الأبناء بالأباء وتحرك عندهم مشاعر الرحمة في القلوب لتنظر قليلا إلى الوراء ، إلى أيام سلفت لها مع آبائها وأمهاتها وهي تشقى وتتعب وتمرض من أجل هذا الوليد ، ومن ثم يقرن الله سبحانه وتعالى هذه الوصية ببر الوالدين بعبادة الله سبحانه ويعتبرها قضاء مبرما وأمرا لازما يمتثله المسلم ، لأنه أمر من الله سبحانه العليم الخبير ، وشأن المسلم دائما وأبدا أن يقوم بكل عمل أو تصرف ، عبادة لله تعالى وامتثالا لأمره .
قال الله سبحانه: وقضى ربك ألا تعبد إلا إياه وبالوالدين إحساناً إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولاً كريماً واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيراً .
ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهناً على وهن وفصاله في عامين أن اشكر لي ولوالديك وإلي المصير وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفاً واتبع سبيل من أنابإلي ثم إلي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون .
واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً ، قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً .
ومن ثم أوجب الإسلام على الأبناء جملة حقوق لآبائهم وأمهاتهم: أولهما الإحسان إليهما وبرهما عرفانا بحقهما عليه ، ثم المعاملة الحسنة والكلمة الطيبة الرقيقة وعدم الضجر والتأفف ]فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولاً كريماً ويتتبع ذلك ، التواضع ولين الجانب: واخفض لهما جناح الذل من الرحمة والدعاء لهما: وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيراً ، والوفاء لهما وصلة أهل ودهما ،فمن أبر البر أن يصل الرجل أهل ود أبيه .
وجاءت أحاديث نبي الرحمة والهدى تفصل ذلك البر وتبين أهم الحقوق: ((فقال لمن سأله يا رسول الله من أحق الناس بحسن صحبتي ؟ قال: أمك . قال: ثم من ؟ قال: أمك . قال: ثم من؟ قال: أمك . قال: ثم من ؟ قال: أبوك )). ومهما فعل هذا الوالد من البر والطاعة فإنه لن يكافئ أمه ولن يؤدي حقها كاملا : فقد رأى ابن عمر رجلا يمانيا يطوف بالبيت وهو يحمل أمه وراء ظهره ويقول :
إني لها بعيرُها المذللُ إن أذعرت ركابُها لم أذعر
ثم قال : يا بن عمر : أترى أني جزيتها ، قال : لا ، ولا بزفرة واحدة .
وعقوق الوالدين سبب العقوبة العاجلة في الدنيا ، فعن أبي بكر قال : قال رسول الله يقول: ((كل الذنوب يؤخر الله منها ما شاء إلى يوم القيامة إلا عقوق الوالدين فإن الله يعجله لصاحبه في الحياة قبل الممات)).
وعنه : ((ما من ذنب أجدر من أن يعجل لصاحبه العقوبة مع ما يدخر له من البغي وقطيعة الرحم)).
وبين النبي أن دعوة الوالدين مستجابة فقال: (( ثلاث دعوات مستجابات لهن لا شك فيهن : دعوة المظلوم ، ودعوة المسافر ، ودعوة الوالدين على ولدهما )).
وعقوق الوالدين من أكبر الكبائر والذنوب: قال : (( ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ثلاث : قال الإشراك بالله وعقوق الوالدين وشهادة الزور )).
وقال : (( ثلاثة لا ينظر إليهم يوم القيامة : العاق لوالدين ، ومدمن الخمر ، والمنان في عطائه ، وثلاثة لا يدخلون الجنة : العاق والديه ، والديوث ، والرجلة من النساء ))، وقال : (( إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه ، قيل يا رسول الله كيف يلعن الرجل والديه ؟ قال بسب أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه )) .
فيا أيها المؤمنون: لا تنسوا فضل آبائكم وأمهاتكم عليكم ، انظروا إلى أمهاتكم حين يلدن كم يتألمن ويصرخن، ثم انظروا إليهن بعد ذلك : كم يسهرن وكم يجزعن ، وانظروا إلى آبائكم كيف يكدحون في الحياة ويتعبون من أجل تربية الصغار ويعلمهم ورعاية شؤونهم وكونوا على ثقة بأن الحياة جزاء ومكافأة فمن أحسن منكم إلى أبويه وحنا عليهما وبرهما رزقه الله أولاد يحنون عليه ويبرونه ، ومن عق والديه عوقب بأولاد يعقونه وينكرون فضله ويسيئون إليه وقد قال : (( بروا آبائكم تبركم أبناؤكم )).
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه أقول قولي هذا واستغفر الله العظيم . .
ــــــــــــــــــــ(67/315)
الحث على التناكح والتناسل
...
...
317
...
الأسرة والمجتمع, فقه
...
...
الأبناء, النكاح
...
عبد الحميد بن جعفر داغستاني
...
...
مكة المكرمة
...
11/10/1408
...
...
ابن حسن
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- الحكمة من مشروعية النكاح. 2- صفات في المرأة التي ينبغي أن تخطب. 3- الحث على كثرة الانجاب. 4- أمور تعين على صلاح الذرية.
الخطبة الأولى
أما بعد:
يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء واتقوا الله الذي تسآءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيباً [النساء:1].
خلق الله العباد وأودع في كل من الجنسين ميلا للآخر، فشرع علاقة الزواج وارتضاها لأمته، وحث نبيه على التحري من ذوات الأرحام أعلاها وأطيبها وأنقاها حفظاً لجنس البشرية وسمواً به نحو استعمار الأرض بشرع الله وحكمها به، وهي المهمة التي من أجلها خلق الخلق وبسطت لهم دواوين الأجل والرزق، قال : (( تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم ))(4) رواه أبو داود و النسائي.
فالمرء إذا أراد التزوج فينبغي أن يبحث عن زوجة لطيفة المعشر تحتمل أخلاقها عشرته وتربية أولاده منها، وهي الودود.
ولا تنفع لطيفة المعشر إذا كانت عقيما، ولذلك قال (الولود) ولأهمية التناسل وإكثاره في الإسلام ولما له من آثار عظيمة جدا في الدارين فقد وصف النبي للرجال وصفة بديعة فقال: (( تزوجوا الأبكار فإنهن أعذب أفواها وأنقى أرحاما وأرضى باليسير ))(1) رواه الطبراني .
وفي الزواج تناسل، وفي التناسل تكاثر، وفي تكاثر الأمة تحقيق لمباهاة نبيها وقائدها يوم القيامة ومخالفة لحال الرهبان من النصارى ، قال رسول الله : ((تزوجوا فإني مكاثر بكم الأمم ولا تكونوا كرهبانية النصارى ))(2) رواه البيهقي.
وفي كثرة النسل من الفوائد غير ما تقدم كثير إذ فيه بقاء لعنصر الإنسان وخلود لاسمه ونسبه في الدنيا لاسيما إن صلحت تلك الذرية .
وكثرة النسل مصدر للتفاخر والعزة في الحياة ، إذ الأولاد زينة في الرخاء ، وعدة في الشدائد والملمات يحملون نعشه ويبقون ينشرون فضله ، ويوفون بعهده ، ويصلون أهل وده، فيخلد اسمه ويحفظ ذكره .
وفي الإكثار من الذرية استجلاب للرزق من رب البرية قال تعالى: ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم [الإسراء:31].
فإن النسل قوة للأمة الإسلامية ومصدر عزة لها، فالأمة التي تملك أفراداً أكثر أقدر على الغلبة في الحروب والجهاد في سبيل الله وأصبر على شدة اللقاء مع الأعداء و أهيب جانباً لدى أعدائها.
وفي عظيم عدد الذرية حفظ لمال الإنسان وميراثه بعد حياته وبقاء لملكه بعد وفاته، ولذا نرى الملوك على مر الدهور وكر العصور تحرص على تكثير نسلها وتزويج أولادها وبناتها في سن مبكر .
إن في الإكثار من الأولاد ذكوراً وإناثاً أمانا من نائبات الدهر وحوادث الزمن، فلو أصيب الوالدان ببعض أولادهما يبقى لهما آخرون، وتظهر أهمية ذلك عند تقدم الوالدين أو أحدهما في السن فيعجزان أو أحدهما عن الإنجاب .
إن من كان عنده عشرة من الأولاد فاحتمال الصلاح فيهم أكبر ممن كان عنده اثنان أو أربعة، وهذه منفعة عظيمة أخرى للتكاثر .
إن ولد الإنسان ونسله من كسبه في الدنيا والآخرة . وقد تقدم الكلام عن ذلك في الدنيا، وأما الكسب الآخر من الولد فيوضح ذلك قوله : ((إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له))(1)، رواه مسلم.
ويجمع بقية الخصال الثلاث الولد ذكرا أو أنثى إذا رباه أبواه على الصلاح فهو يتصدق من ميراث أبيه ويهدي ثوابه إليه، وهو يعلم الناس ما علمه أبوه فينتفعون به، بل إن العبد من المسلمين إذا نوى عند جماع أهله تحصيل الولد الصالح فإن له بكل ركعة يركعها ابنه أو ابنته ، وبكل سجدة يسجدها، وبكل حسنة يفعلها ، حسنة تضاف في موازين عمل أبويه.
فأكثروا يا عباد الله من الذرية الصالحة فالله أكثر وأطيب، ويقول : ((من كان له ثلاث بنات فصبر عليهن وأطعمهن وسقاهن وكساهن من جدته(2) كن له حجابا من النار يوم القيامة))(3) رواه الإمام أحمد ، وقال : (( من عال جاريتين حتى تبلغا دخلت أنا وهو الجنة كهاتين وأشار بأصبعيه ))(4) رواه مسلم والترمذي .
ألا فلنحسن اختيار أزواجنا كما علمنا رسول الله : ((إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه)(5) (تنكح النساء لأربع لمالها وجمالها وحسبها ودينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك) (6)
ولتكن النية عند الجماع تحصيل الولد الصالح ، ولا ينسى المسلم ذكر الله عند جماع أهله فيقول: (( اللهم جنبني الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا )) متفق عليه .
وأسأل الله أن يبلغني وإياكم السعادة العظمى في الجنة مع أولادنا وأهلينا: والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء [الطور:21].
عباد الله :
لقد وعى أعداء الأمة أن مصدر قوة الأمة يكمن في ثقتها بدينها والتزامها به ثم في كثرة عددها، ولذا كانت حرباً فكرية وغزواً ثقافياً على أمة الإسلام ثم حرباً لنسلهم فيما قدموه للأمة من داء فتاك أسموه بتحديد النسل ولبسوا على المسلمين فقالوا: تنظيم النسل ، وشجعوا على ذلك وعلى الزنا فصنعوا ثم نشروا ما يعرف اليوم بحبوب منع الحمل.
(4) سنن أبي داود كتاب النكاح باب النهي عن تزويج من لم يلد من النساء 2/220
(1) المعجم الكبير 10/ 10244 .
(2) السنن الكبرى : كتاب النكاح باب الرغبة في النكاح 7/78 .
(1) صحيح مسلم : كتاب الوصية باب ما يلحق الإنسان من الثواب بعد وفاته 11/ 85 .
(2) جدته : غناه .
(3) المسند 4/154 .
(4) صحيح مسلم : كتاب البر والصلة باب الإحسان إلى البنات 16/ 180
(5) صحيح البخاري : كتاب النكاح باب ما يقول الرجل إذا أتى أهله 6/ 141
(6) سورة الطور آية 21 .
ــــــــــــــــــــ(67/316)
الرزق
...
...
319
...
الأسرة والمجتمع, الإيمان
...
...
القضاء والقدر, قضايا المجتمع
...
عبد الحميد بن جعفر داغستاني
...
...
مكة المكرمة
...
3/6/1405
...
...
ابن حسن
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- الله خير الرازقين. 2- الرزق مكتوب فلا تستبطئوه. 3- الله ضامن لكل مخلوق رزقه فإن شاءه العبد بالحلال بلغه وإلا فبالحرام. 4- الأسباب لا تهب الرزق. 5-الاقتصاد في طلب الرزق. 6- تفاوت الأرزاق حكمة لا يعلمها إلا الله.
الخطبة الأولى
أما بعد :
فإن الله سمى نفسه الرزاق: أي كثير الرزق فقال: إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين [الذاريات:58]. بل هو سبحانه وتعالى خير الرازقين: وإن الله لهو خير الرازقين [الحج:58].
كيف لا يكون خير الرازقين وهو الذي يرسل الملك بعد مضي أربعة أشهر وبضعة أيام إلى رحم المرأة فينفخ في الجنين الروح ويؤمر بكتب أربع: يكتب: رزقه ، وأجله ، وعمله ، وشقي أو سعيد.
فالرزق مقدر معلوم، والإنسان في بطن أمه لم يكتمل بناء أو تشكيلاً، فلا يزيد رزقه عند خروجه على ما كتب ولا ينقص. روي عن عبد الله بن مسعود عن النبي قال: (( إن روح القدس (4) نفث (5)في روعي (1) أن نفساً لن تموت حتى تستكمل رزقها، ألا فاتقوا الله وأجملوا في الطلب ، ولا يحملنكم استبطاء الرزق أن تطلبوه بمعاصي الله ، فإنه لا يدرك ما عند الله إلا بطاعته ))(2).
نعم لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها، فلماذا إذا يسرق السارق ، ويرتشي المرتشي ، ويختلس المختلس ، ويرابي المرابي ويتقاضى الفائدة طالما أن رزقه آتيه لا محالة ، إنه لو استقرت هذه الحقيقة في ذهنه لما عصى الله وتجرأ على محارمه فالمولى جل وعلا ضمن حتى للبهيمة العاجزة الضعيفة قوتها: وكأين من دابة لا تحمل رزقها الله يرزقها وإياكم [العنكبوت:60].
فكم من الطير والبهائم ما يدب على الأرض تأكل لوقتها ولا تدخر لغد فالله يرزقها أينما توجهت ، وعندما يقول لنا سبحانه: الله يرزقها وإياكم فإنه يسوي بين الحريص والمتوكل في رزقه ، وبين الراغب والقانع ، وبين القوي والضعيف فلا يغتر جلد قوي أنه مرزوق بقوته ، ولا يتصور العاجز أنه ممنوع من رزقه بعجزه، وعندما يخاطبنا الله في محكم آياته فيقول: وما من دابة فى الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين [هود:6]. فإنه يضمن للخليقة جمعاء رزقها فضلا منه لا وجوبا عليه، ووعداً منه حقاً، فهو لم يخلق الخلق ليضيعهم .
ولربما يخيل للبعض أنه بعلمه وقوته وفطنته يتحصل على الرزق، وليس الأمر كذلك، فالله أضاف الرزق إلى نفسه إذ يقول: كلوا واشربوا من رزق الله [البقرة:60].
فإذا تحصل الإنسان على رزقه بوسيلة أو بسبب ما فليعلم أن الله هو واهبه هذه الوسيلة، وهذا السبب وهما كذلك من رزق الله.
نعم قد يغفل الإنسان في وقت ما فيصرف بصره تلقاء الأسباب الأرضية في الحصول على الرزق. هنا تأتي الإجابة سريعا لترد الأمور إلى نصابها ولتوقظ هذه الغفلة: وفي السماء رزقكم وما توعدون فورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون [الذاريات:22-23].
فعندئذ يتعلق القلب بالله أولاً وآخرا لا بالسبب الأرضي الحقير، ومن يهتم بالرزق اهتماماً يجاوز الحد المشروع فإننا نقدم له حديث رسول الله الذي يرويه الطبراني وفيه يقول: (( إن الرزق ليطلب العبد أكثر مما يطلبه أجله ))(2).
فالاهتمام الزائد بشأن الرزق فيه شغل للقلوب عن علام الغيوب وعن القيام بحق المعبود. وقد قال بعضهم لآخر: (اجتهادك فيما ضمن لك وتقصيرك فيما طلب منك دليل على انطماس بصيرتك).
ويقول لرجل: من أين تأكل؟ فقال: الذي خلق الرحى يأتيها بالطحين والذي شدق الأشداق هو خالق الأرزاق .
ذكر الحكيم الترمذي في نوادر الأصول بإسناده : أن الأشعريين أبا موسى وأبا عامر وأبا مالك في نفر منهم لما هاجروا وقدموا على رسول الله ... وقد أرملوا (3) من الزاد، فأرسلوا رجلاً منهم إلى رسول الله يسأله، فلما انتهى إلى باب رسول الله سمعه يقرأ هذه الآية: وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين [هود:6]. فقال الرجل: ما الأشعريون بأهون الدواب على الله.
فرجع ولم يدخل على رسول الله ، فقال لأصحابه: أبشروا أتاكم الغوث ولا يظنون إلا أنه قد كلم رسول الله فوعده، فبينما هم كذلك إذ أتاهم رجلان يحملان قصعة لبن لو أنا رددنا هذا الطعام إلى رسول الله ليقضي به حاجته فقالوا للرجلين: اذهبا بهذا الطعام إلى رسول الله فإنا قد قضينا منه حاجتنا.
ثم إنهم أتوا رسول الله فقالوا: يا رسول الله ما رأينا طعاماً أكثر ولا أطيب من طعام أرسلت به قال : ما أرسلت إليكم طعاماً، فأخبروه أنهم أرسلوا صاحبهم، فسأله رسول الله فأخبره ما صنع وما قال له ، فقال : )) ذلك شيء رزقكموه الله ((.
(4) روح القدس هو جبريل عليه السلام .
(5) نفث : أوحى وألقى ، من النفث بالفور ، وهو أقل من التفل لأن التفل لا يكون إلا ومعه شيء من الريق ، النهاية في غريب الحديث والأثر 5 / 88 .
(1) روعي : نفسي وخلدي ، المرجع السابق 2 / 277 .
(2) أخرجه البغوى في شرح السنة 14 / 304 . وقال: رجاله ثقات لكنه مرسل، وله شواهد كثيرة يتقوى بها الحديث ويصح روى بنحوه الحاكم 2 / 4 على شرط مسلم ، وصححه ابن حبان << 1084 >> .
(2) وأخرجه ابن أبي عاصم عن أبي الدرداء رضي الله عنه ، السنة 1 / 116 .
(3) أرملوا : إذا نفذ زادهم ، وأصله من الرمل كأنهم لصقوا بالرمل ، النهاية في غريب الحديث والأثر 2 / 265 .
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين الذي ضمن الرزق للمؤمن والكافر ، الحمد لله الذي يعطي الدنيا من يحب ومن يكره، ولا يعطي الدين إلا من يحب، بسط رزقنا وجمع فرقتنا ولم شملنا، فله الحمد حمدا كثيرا طيباً.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له أثنى على عباده الشاكرين ووصفهم بأنهم الأقلون فقال: وقليل من عبادي الشكور [سبأ:13].
وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله وإمام المتقين ، فصلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد :
فإن العبد إذا أيقن أن الرزق بيد الله وأنه آتية لا محالة تفرغ لأداء المهمة التي خلقه الله من أجلها، وهي العبادة بمفهومها الشامل (2) ... وعند ذلك يمكنه أن يقول الحق ولا يخشى في الله لومة لائم ، فلا يخشى فصلاً من عمل ، أو طرداً من وظيفة ، أو حرمانا من تجارة فرزقه فيه لا محالة .
وهو عندما يبذل سبباً للحصول على الرزق يبذله وهو عزيز النفس رافع الرأس، فليس لأحد منة عليه، بل المنة والفضل لله جميعاً.
وهناك حقيقة أخرى يجب أن تعلمها وهي أن الله عندما قسم الأرزاق جعل بينها تفاوتا: إن ربك يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إنه كان بعباده خبيراً بصيراً [الإسراء:30].
ولو أعطى الله الخلق فوق حاجتهم من الرزق لحملهم ذلك على البغي والطغيان: ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض ولكن ينزل بقدر ما يشاء إنه بعباده خبير بصير [الشورى:27].
إنه سبحانه وتعالى يرزق عباده بالقدر الذي فيه صلاحهم، فيغني من يستحق الغنى ويفقر من يستحق الفقر. جاء في الحديث القدسي: (( إن من عبادي من لا يصلحه إلا الغنى ولو أفقرته لافسدت عليه دينه، وإن من عبادي من لا يصلحه إلا الفقر، ولو أغنيته لأفسدت عليه دينه ))(1).
عباد الله إن للرزق جوالباً منها صلة الرحم ، فمن أحب أن ينسأ له في عمره ويوسع له في رزقه فليصل رحمه .
ومنها الاستغفار والتوبة وطاعة الله ، قال رسول الله : (( من لازم الاستغفار جعل الله له من كل ضيق مخرجاً ، ومن كل هم فرجاً ، ورزقه من حيث لا يحتسب ))(2)رواه أبو داود.
ومنها كذلك صدق اليقين والتوكل على الله مع بذل الأسباب قال : (( لو أنكم كنتم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصاً (3) وتروح بطاناً ))(4) رواه الترمذي.
(2) فهي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة .
(1) أخرجه البيهقي في كتاب الأسماء والصفات .
(2) سنن أبي داود : كتاب الصلاة ، باب في الاستغفار 2/ 85 .
(3) أي تذهب في الصباح جياعا ، وترجع مساء وهي ممتلئة الجوف ، النهاية في غريب الحديث والأثر 2/8.
(4) سنن الترمذي : كتاب الزهد ، باب في التوكل على الله 4/ 573 .
ــــــــــــــــــــ(67/317)
الدين أساس التربية والتعليم
...
...
1048
...
الأسرة والمجتمع
...
...
قضايا الأسرة
...
مصطفى بن حلوش
...
...
الجزائر
...
19/6/1354
...
...
غير محدد
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- تفشّي الجهل في نساء المسلمين 2- الغربة التي يصنعها الغرب لدى أبناءنا تجاه أمّتهم حين دراستهم لعلومه 3- الانفصام الموجود بين الآباء والأبناء وذلك بسبب انعدام التعليم الديني العربي , وتوجّه الأبناء إلى التعليم المدني الإفرنجي 4- الدعوة إلى إقامة التعليم الديني للرجال والنساء
الخطبة الأولى
إن الذي يدخّن وينهى ولده عن التدخين ما أنصفه، وإن الذي يقامر ويضرب ولده على القمار أشهد أنه ظلمه، وإن الذي يكذب ويقول لولده لا تكذب فليعلم أنه غشه وما نصحه، وإن الذي لا يرغب في مطالعة الكتب واكتساب المعرفة لا يرغب أبناؤه في ذلك.
إلا لبواعث من غير جهته، وإن الذي يقضي أوقاته كلها في اللهو والمجون لا يأمن على أولاده أن يكونوا أمعن منه في اللهو والمجون.
إذا كان رب الدار بالطبل ضاربا فلا تلم الصبيان فيها على الرقص
[ثم اعلموا أيها المسلمون] قد يكون الرجل عفّا اليد، طاهر القلب، كريم الخلق، محبا في الخير، وغاباً عن الشر، ثم تشغله الشواغل فيترك أولاده لأنفسهم تعمل فيهم الظروف عملها، ولو كانت المرأة في مثل صلاح هذا الرجل، لما بقي الأولاد لأنفسهم بل لوجدوا من أمهم التي تجمع بين متانة الخلق، وصحة العقل، وحسن التربية، وبين الحنان والعطف خير كفيل يكفل، ومشير يشير.
ومن المؤسف المحزن [أيها المسلمون] أن تكون الأم وهي المدرسة الأولى جاهلة لا تعلم، وناقصة لا تكمل، وآسف من ذلك وأحزن أن يضاف إلى جهلها ونقصانها جهل الرجل ونقصانه، فتبقى مدرسة الأسرة عاطلة، لا من ناحية الرجل، ولا من ناحية المرأة.
وهذا هو السبب في الفرق الكبير الذي نراه بين الأبناء وآبائهم والأمهات وبناتهن، في الخلق والعمل وفهم الحياة.
فالابن الذي يتعلم تعلّماً إفرنجيا محضاً، يفنى في علمه، وينكر أكثر أو كل ما يتصل بقومه وأسرته، وتصير كل صفة خلقية أو عملية من صفاتهم نقصانا في حقه، فلا يجمل به وهو المتعلّم أن يتحلّى بها، أو يبدوَ منه حنانٌ إليها، وغايته الانسلاخ من قوميته، والاندماج في قومية غيره، وذلك شر ما نستعيذ بالله منه.
وإذا حنّ حنينه لقومه، وأراد أن ينفعهم بعلمه تعذّر عليه الوصول إلى قلوبهم، لأنه لا يعرف طريقها، وإلى مشاعرهم لأنه لا يُحسن سلوك السبيل إليها، إذ ليس عنده من دين القوم وآدابهم ولغتهم إلا الانتساب إليهم، ولهذا يندفع للعمل ثم لا يثبت إلا قليلا حتى يستولي عليه القنوط، ويستحوذ عليه الضجر، فيهجر العمل، ويتّهم الأمة ويستنقصها، وما كانت – والله- الأمة ناقصة بل هو الناقص الذي لم يدرك أن الأمة تسلسُ قيادُها لمن يقودها [بشعورها] لا بشعوره، ومن زمام قلبها لا من زمام قلبه.
وهذه هي الصفة التي نشكوها من قادتنا [أيها المسلمون] وهي التي لم يستطيعوا معها أن ينفعوا إلا قليلاً.
وذلك حال الابن الذي لم يجد في الأسرة مربياً ولا في المدرسة من ينشئه تنشئة خُلقية قومية، وفرقٌ بينه وبين من يتعلم تعلّماً عربيا قوميا صحيحا، فأخص مميزات هذا عن الأول أنه نشأ على خلق الصبر، واحتمال المكاره، وبُعد الأمل، وعظيم الرجاء، لأن دراسته العربية لا تخلو من اتصال بالدين، والدين [أيها المسلمون] لا يغني عنه كبر العقل، ولا سعة الفكر، ولا عظيم الخلُق.
لهذا يجب [علينا معاشر المسلمين] إن أردنا حياة هنيئة، وسعاد رضية، أن يكون الدين أساسا للتعليم، وأن يشمل الرجل والمرأة على السواء، وأن يكون التطبيق فيه أكثر من النظر.
[حتى ننقذ] شبابنا من براثن التفرنج والاندماج، و[حتى يفهموا] أن حاجة الحياة لا ينافيها الدين بل هو عليها أعظم معين
ــــــــــــــــــــ(67/318)
لا لمؤتمر بكين
...
...
55
...
الأسرة والمجتمع
...
...
المرأة
...
صالح بن عبد الله بن حميد
...
...
مكة المكرمة
...
...
...
المسجد الحرام
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
الأمم المتحدة , وهم كاذب وشعار خادع – المؤامرة على الأسرة والمرأة – العلاقة بين الرجل والمرأة قائمة على المودة , ولا يضرها خطأ البعض في الفهم , وليس الحل كما يريده دعاة الفجور – واقع الأسرة والمرأة الغربية المرير – دور المرأة الحقيقي , والمرأة العاملة في الغرب – الهدف من هذه الدعاوى والمؤتمرات – الدور المطلوب من الحكومات الإسلامية وشعوبها
الخطبة الأولى
أما بعد:
فأوصيكم أيها الناس ونفسي بتقوى الله عز وجل فنعم اللباس التقوى، ونعم الزاد التقوى.
أيها المسلمون، إن أهل العقل والعلم والنظر المتوازن ليسوا بمغرمين ولا بمبالغين في تصوير أن وراء كل حدثٍ مؤامرة، ولا من المتوهمين أن خلف كل حديث تآمراً. ولكنهم في ذات الوقت لن يكونوا من أولئك الذين يسلمون القياد، ويُرخون الزمام لتقودهم أفكارٌ فاسدةٌ، أو تضلهم دعواتٌ ماكرة، أو يسيروا خلف كل ناعقة.
إننا بين يدي مؤتمرٍ[1] سوف ينعقد قريباً هذه الأيام ليتحدث ويوصي ويقرر عن المرأة والأسرة والبيت وشؤونه، يتحدث عن التنمية والسلام والمساواة. مؤتمرٌ ينسب إلى الأمم المتحدة.
كم تحدثوا وائتمروا عن التنمية والأمية، والتعليم والصحة، ورفع الفقر وأعباء المديونية، وحقوق الإنسان وكرامة الإنسان وهذه كلها كلماتٌ جميلة ودعوات براقة كل يحبها، وكلٌ يتمنى تحقيقها.
لقد مرَّ على قيام هذه المنظمة خمسون عاماً فأي فقرٍ مدقعٍ؟ وأي سلام رسخ؟ وأي كرامةٍ للإنسان حفظت؟.
إن سيطرة القرار الغربي على مجريات الأمور أصبحت واضحةً بيِّنةً. إنه وحده الذي يستصدر قرارات لها أثرها ونفاذها إذا شاء الله، وتكون الأخرى حبراً على ورق إذا شاء.
من هذه المسلمات يكون الحديث عن مؤتمر المرأة هذا، ومن هذه المنطلقات يكون النظر إلى هذا المؤتمر.
إنه مؤتمر لا يعلو فيه إلا صوت الجمعيات المتطرفة التي أعلنت الحرب منذ زمنٍ على الأسرة والحياة الكريمة، والبيت الكريم، التطرف الذي دعا بغلوه إلى الحرية الجنسية، والتفسخ الخلقي، والدعارة المعلنة المقننة. دعواتٌ ومقرراتٌ تصادم الفطرة وتنابذ كل القيم الإيمانية المستقرة في ضمائر الأسوياء من البشر.
وحينما يُقال: إن المتطرف هو الذي يُعِدُّ أوراق عمل هذا المؤتمر وهو الذي يصوغ وثائقه وتوصياته ليس هذا من جُزاف القول، ولا من دعاوى الباطل.
إن جماعات التطرف النسائية لها دورٌ فعالٌ، في الإعداد، وإن أعضاء تلك الجمعيات نساءٌ شاذات متعاطيات للسحاق.
تطرفٌ ينظر إلى مصطلح الأسرة والبيت العائلي نظر ازدراءٍ وتنقص، ونظر رجعية، ومخلفات القرون البائدة.
إن هذا المؤتمر في أنبائه يتحدث عن القهر والعنف الذي تتعرض له المرأة.
بلى لقد حفل التاريخ ولا يزال يحفل بألوانٍ من الأذى وقع على المرأة فقد حملت من القيود والمظالم بسبب التعسف المكروه في التقاليد والعادات الموروثة الجائرة في مختلف الحضارات والنظم.
ولكن ما هو الحل؟ هل الحل ـ كما يريد المؤتمر ـ في تصوير العلاقة بين الرجل والمرأة علاقة صراع واستعباد واستذلال؟ علاقة تنافس غير شريف؟ سبحان الله كل عالمهم صراعٌ في صراع، وحروب شتى في ميادين شتى، البارد منها والساخن، حتى أدخلوها على الرجل وأهل بيته.
أما علموا أن العلاقة عندنا ـ أهل الإسلام ـ علاقة مودة ورحمة وطمأنينة وسكن: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ ءَاتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ [الأعراف:189]. وَمِنْ ءَايَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الروم:21].
وإن كنا نستنكر الممارسات الخاطئة من بعض المسلمين وخلطهم بين التقاليد الموروثة المخالفة لآداب الإسلام وأخلاقه وبين تعاليم الإسلام الحقة الصحيحة.
هذه المرأة المقهورة أفلا يكون الخلاص لها إلا بالإباحية الجنسية، والشذوذ الجنسي، والتفسخ الأسري، وتقويض بنيان البيوت الكريمة ومحاربة الزواج المبكر، وفتح أبواب الإجهاض بسبب صحيح وبغير سبب؟؟.
هل خلاصها أن تكون غانيةً في سوق الملذات والشهوات يستمتع بها الرجل ويستبد من طلوع الشمس إلى غروبها ومن غروبها إلى طلوعها؟ في دور الأزياء، وقاعات السينما، وشاشات التلفاز، وصالات المسارح، وشواطئ البحار والأنهار، وبيوت اللهو والدعارة، وأغلفة المجلات والصحف السيارة؟؟ بل أقول ولا أخشى لائماً حتى في ردهات مستشفياتهم وملاحاتهم الجوية وأستحي أن أقول في دور التعليم ومحاضن التربية؟؟.
هل هذا هو سبيل الخلاص من القهر الذي ينشدون؟ والعنف الذي يقولون؟.
إنها البيوت الخربة والمسؤولية الضائعة حين ألقاها الرجل الغربي عن كاهله فوقعت نساؤهم حيث وقعت، إهمالٌ وتنصلٌ من مسؤولية الإنجاب والتربية. فأصبح ذكرهم وأنثاهم لنفسه لا لأمته، للذاته لا لكرامته، فالفساد في مجتمعاتهم يستشري، والخراب إلى ديارهم يسري.
لم يتحدثوا عن المرأة المقهورة المعذبة، المرأة المشردة، المرأة المغتصبة من إفرازات حروب أنشؤوها، وكوارث أثاروها، من الظلم العالمي، والفقر المتدني في شعوب تنتسب إلى الأمم المتحدة. ما حال أمهاتنا وأخواتنا وبناتنا في فلسطين وكشمير والبوسنة والشيشان وبورما والصومال؟؟.
إن وثائق المؤتمر لا تكاد تعير هذا اهتماماً في مقابل احتفائها واحتضانها للشاذات والبغايا والمومسات. والمصابين والمصابات بكل ألوان أمراض الجنس الفتاكة.
هذا نبأ من أنباء المؤتمر.
ونبأ آخر وهو يتحدث عن التنمية النسوية. إنه حديث كله أو جله عن ما أسماه بالمرأة العاملة!! العمل شيء محمود، ومبتغى مقصود، مادام منضبطاً بضابط الدين والخلق، والله لا يضيع عمل عاملٍ من ذكر أو أنثى بعضهم من بعض.
ولكن المرأة العاملة في عرفهم هي المترددة على بيتها وأطفالها وشؤون منزلها.
لا يقال ذلك إفكاً أو افتياتاً. إنهم يقولون: إن عمل ربة الأسرة داخل بيتها عمل ليس له أجر إنهم يقولون: ذاك عملٌ لا مردود له. إنهم يقولون: هذه خدمة مجانية، وعملٌ غير منتج.
هذه هي نظرتهم وهذا هو مقياسهم وميزانهم. تربية النشء والحفاظ على الكرامة والاستقرار العائلي والنفسي ليس بعمل، وليس له أجر ولا مردود، وغير منتج. هكذا قاس قائسهم وقدَّر مقدِّرُهم. ألا قُتِل كيف قدر، ثم قتل كيف قدر؟.
إنهم لا يعرفون الرحم ولا التراحم، ولا يعرفون البر ولا الفطرة؟؟ أي خيانة أكبر من خيانة إهمال النشء وإهلاك النسل؟؟.
إنهم يعلمون ـ ولكنهم قومٌ بهت ـ إنهم يعلمون أن السكينة والطمأنينة لا تكون إلا في بيوت مستقرة، في ظلال أسرة حانية بنسائها ورجالها وأطفالها وصباياها. أما الهمل والضياع في الأزقة والأرصفة وزوايا الوجبات السريعة فلا تبني أمة، ولا تجلب طمأنينة. بل إن حياة الطيور في أعشاشها، والسباع في أكنتها خير وأصلح من هذا الهمل الضائع. أي امرأة عاملة تعنون؟ ما قهر الرجل ولا أذل المرأة ولا استعبدهما جميعاً إلا مثل هذه المبادئ المهلكة، والمقاييس الفاسدة، والحضارة المنتنة.
ومن أنباء هذا المؤتمر نبأ الإباحية، ودعوة التحلل والتفسخ وفتح الأبواب مشرعة أمام التفسخ الخلقي، ثم يذهبون يتباكون على أمراض الجنس المتفشية من الإيدز، والنسبة الغالبة في الإصابات بين المراهقين والمراهقات، وهي في النساء أعلى منها في الرجال.
إذا كان هذا هو الإيدز بأرقامه المخيفة ـ وحُق لها أن تخيف وتُرعب ـ إن كنتم مخلصين لماذا لا تطالبون بالقضاء على الأسباب؟؟ وعندكم علم اليقين أن معدل هذه الأمراض يزداد!!!. عجبٌ وعجبٌ يعالجون ظواهر العرض ويدعون أصل المرض؟؟ ينظرون إلى الأثر ويغفلون عن المؤثر؟؟ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ [المائدة:103]. ومع هذا ينادون بالسلوك الجنسي المأمون. ولقد جاء في الخبر عن نبينا محمد : ((ما ظهرت الفاحشة في قوم حتى يعلنوا بها إلا فشت فيهم الأمراض التي لم تكن في أسلافهم))[2].
أيها الإخوة، هلا رجعت الأمم المتحدة وراجعت مع خبرائها وباحثيها!! هل ما يعاني منه الغرب من مشكلاتٍ أخلاقية وآثار فساد جسمي وخلقي وتفكك اجتماعي؟ هل هو موجود بالضرورة في بقاع العالم الأخرى. أم أنه نظرٌ إلى الناس بعيون مريضة ومقاييس جائرة؟؟. إن هذه الطروحات والمعالجات هي جالبات الأمراض ومفسدات الأعراض وناشرات الحرام. هكذا تقول الأرقام والإحصائيات والدراسات والملفات.
إننا نقول بكل فخر وبكل ثقة إن أهل الإسلام هم المستهدف الأول من هذه المبادئ الفاجرة لأنهم أكثر المجتمعات محافظةً، فلا وجود يذكر للمشكلات والمصائب التي يئن منها أهل الغرب ومن انزلق في مستنقعهم، لا مكان في بلاد الإسلام يذكر للأمراض الخبيثة التي تجرها الممارسات الشاذة، ولا الحمل الحرام في بنات المسلمين.
ولكنهم لا يحبون الطهر ولا التطهر، القاعدة القرآنية بينة شاهدة: الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ [النور:26].
إن الغرب وأبواقه لن يرضوا إلا أن يروا مجتمعاتنا الطاهرة الطيبة وقد انزلقت في وبائه ورجسه.
إنه إصرار من المؤتمرين على فرض النظرة الغربية الملحدة الفاجرة بكل ألوانها وشُعَبِها على جميع الشعوب.
بلى؛ إن هناك إصراراً من الغرب ورجاله ومؤتمراته ولجانه ليصهر الشعوب في عاداته وتقاليده. احتكارٌ وقهرٌ ليجعل هذا السلوك الممقوت مقياس التقدم ورمز الحضارة.
إنهم وبكل جرأة يربطون دعمهم المادي بالالتزام بهذه التوصيات الآثمة والقرارات الهادمة.
إن التوجه إلى فرض أنماط وسلوك على شعوب العالم ودوله يمثل هذه الطرق، وهذا الاستغلال ومن خلال هذه المنظمات والمؤتمرات ما هو إلا استخفاف بالشعوب واحتقار للأمم وتنكر للخصوصيات الثقافية والدينية والتقاليد والأعراف الصحيحة المرعية. وتدخلٌ في حريات الشعوب وخصوصيات الناس ومخالفٌ لما سموه في وثيقة حقوق الإنسان باحترام العقيدة ومنهج التفكير.
إننا نطالب الأمم المتحدة ـ إن كانت مخلصة منصفة ـ أن تكبح هذه النزعات الاستعمارية والهيمنة الغربية التي سببت وتُسبب كلَّ ألوان هذا العناء والشقاء.
أما نحن ـ أهل الإسلام ـ فنأرز إلى إيماننا ونطمئن إلى كتاب ربنا فقد خاطبنا رجالنا ونساءنا في التكاليف والمسؤولية: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة:71-72].
إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا [الأحزاب:35].
[1] مؤتمر عُد في بكين في سبتمبر 1995م.
[2] حسن، قطعة من حديث أخرجه ابن ماجه : كتاب الفتن – باب العقوبات ، حديث (4019)، والحاكم (4/540-541) والطبراني في الأوسط (4671)، وقوّاه البوصيري في الزوائد بشواهد. مصباح الزجاجة (4/186)، وذكره الحافظ في الفتح (10/193) وقواه بشواهد. وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة (106).
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله المبعوث رحمةً للعالمين، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وأصحابه أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد فيا أيها الناس اتقوا ربكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين.
أيها الإخوة: إننا نهيب بالدول الإسلامية وشعوبها، كما نهيب بجمعياتها ومنظماتها الرسمية والشعبية أن تُظهر الحق وتعلنه، وأن تفضح تلك الوثيقة ومن وراءها.
على علماء الإسلام بارك الله فيهم أن يقوموا بمسؤوليتهم نحو توجيه الأمة، والذب عن حياض الدين، وكرامة الإنسانية، وتفضيل الله لبني آدم وكرامته على ربه. عليهم أن يعلنوا رفض كل قرارات أو مقررات تخالف عقيدة الأمة وتفسد أخلاقها وتبارز ربها بالمحاربة، وليرتفع صوت الفضيلة على أصوات دعاة الإباحية الساقطة.
وإن تنظيم الجهود في ذلك وتنسيقها بين هذه المؤسسات والمنظمات وكل الجهات العاملة لمما يجب التنبيه له والعناية به.
أيها الإخوة، إذا كانوا مصرين على حنثهم العظيم فإننا مصرون على الاستمساك بديننا مؤمنون حق اليقين وعينه وعلمه بأن الخلاص الحقيقي والأمن المنشود والحياة الطيبة الطاهرة والسعادة المبتغاة لا تكون إلا في ظل الإسلام عقيدة ومنهجاً، عبادة وسلوكاً، والتحلي الصادق المخلص بالدين والأخلاق في معاملة المرأة والطفل والرجل، وتكثيف توجه الأمة نحو إسلامها من خلال ولاة الأمر فيها وعلمائها، ومراكز البحوث العلمية والمؤسسات التربوية وتطبيق أحكام الشرع التي بها وحدها لا غيرها يسعد المجتمع.
أما اللهاث وراء سراب المشاريع والخطط التي يرتب لها هؤلاء الذين يزينون الفساد، ويختلقون له الأسماء البراقة وأغلفةً من المتعْلُم خادعةً، هذا اللهاث هو الذي سيبقي الأمة مهددةً في دينها وأخلاقها وفي شأنها كله.
وإنكم لمبصرون أنه كلما ارتفعت راية للحق وعلت مناداة مخلصة لتطبيق شرع الله والالتزام به إلا وانبرت أقلام الملاحدة والمنظمات المشبوهة لتتهم هذه الدعوات والتوجهات بالوحشية والهمجية والقسوة والرجعية وإن من أحدثها وأقربها ما يثار حول هذه البلاد الطيبة المباركة بلاد الحرمين الشريفين في تطبيقها لشرع الله والالتزام بحدوده، وضربها على الإجرام وأهله ودعاته بيد الشرع الطاهر المطهر، ولكن قافلة الحق سائرة بإذن الله ولن يوقفها نبحٌ ولا عواءٌ
ــــــــــــــــــــ(67/319)
بر الوالدين
...
مراد بن أحمد القدسي
... ...
774
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية اضف إلى رف الخطب
ملخص المادة العلمية
1- الدعاء للوالدين. 2- لين الجانب. 3- إمضاء وصيتهما. 4- الحج عنهما. 5- صلة أصدقائهما. 6- التأدب معهما.
لوازم بر الوالدين:
أ- الدعاء للوالدين: وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيراً، وقال نوح: رب اغفر لي ولوالدي ولمن دخل بيتي مؤمناً وللمؤمنين والمؤمنات ولا تزد الظالمين إلا تباراً، إبراهيم: سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفياً.
ب- لين الجانب: واخفض لهما جناح الذل من الرحمة عروة: ((تلين لهما حتى لا يمتنعا من شيء أحباه)).
ج- أن لا يوقظهما وهما نائمين: حديث الثلاثة الذين دخلوا الغار: ((فكرهت أن أوقظهما)).
د- الاستئذان عليهما: عن ابن مسعود: (يستأذن الرجل على أبيه وأمه وأخيه وأخته) [رواه البخاري بالأدب المفرد بإسناد ضعيف].
هـ- القيام للوالدين: روى أبو داود والنسائي عن عائشة: ((ما رأيت أحدا أشبه سمتاً ولا هديا برسول الله من فاطمة بنت رسول الله قالت: وكانت إذا دخلت على النبي قام إليها فقبلها وأجلسها في مجلسه، وكان النبي إذا دخل عليها قامت فقبلته وأجلسته في مجلسها)).
و- إمضاء وصية الوالدين والدعاء والاستغفار:
رواه أحمد وأبو داود عن أبي أسيد مالك الساعدي: ((بينما نحن جلوس عند رسول الله إذ جاء رجل من بني سلمة فقال: يا رسول الله هل بقي من بر أبوي شيء أبرهما بعد موتهما؟ قال: نعم، الصلاة عليهما والاستغفار لهما وإنفاذ عهدهما من بعدهما؟ وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما وإكرام صديقهما)).
ز- الحج عنهما: رواه البخاري عن ابن عباس: ((جاءت امرأة من خثعم فقالت: يا رسول الله إن فريضة الله على عباده في الحج، أدركت أبي شيخا كبيرا لا يثبت على الراحلة، أفأحج عنه؟ قال: نعم)).
وفي رواية رواها البخاري عن ابن عباس: ((إن امرأة من جهينة جاءت إلى النبي فقالت: إن أمي نذرت أن تحج فماتت قبل أن تحج أفأحج عنها؟ قال: نعم حجي عنها أفرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته؟ قالت: نعم، قال: فاقضوا الذي له فإن الله أحق بالوفاء)).
ح- صلة أصدقاء الوالدين: روى مسلم عن عبد الله بن دينار: أن رجلا من الأعراب لقي عبد الله بن عمر، بطريق مكة فسلم عليه عبد الله وحمله على حمار كان يركبه وأعطاه عمامة كانت على رأسه قال ابن دينار: أصلحك الله إنهم الأعراب وهم يرضون باليسير فقال عبد الله: إن أبا هذا كان وداً لعمر بن الخطاب، وإني سمعت رسول الله يقول: ((إن أبر البر صلة الولد أهل ود أبيه)). وفي رواية: ((إن من أبر البر صلة الرجل أهل ود أبيه من بعد أن يولي)).
عن ابن عمر: ((من أحب أن يصل أباه في قبره فليصل إخوان أبيه من بعده)) [رواه أبو يعلى وابن حبان].
الأمر ببر الوالدين:
وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناص إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولاً كريماً واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب أرحمهما كما ربياني صغيراً، ووصينا الإنسان بوالديه إحسانا، وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفاً. روى مسلم أن سعد لما آمن أرادته أمه على الكفر فأبى فامتنعت عن الطعام والشراب رجاء أن يعود إلى الكفر فقال لها: ((لو كانت لك مائة نفس فخرجت نفساً نفساً ما تركت ديني، إن شئت فكلي أو لا تأكلي)) [متفق عليه]. عن أبي هريرة: ((من أحق الناس بحسن صحابتي قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أبوك)).
فضل بر الوالدين:
وفي الحديث المتفق عليه عن ابن مسعود: ((سألت رسول الله أي العمل أحب إلى الله؟ قال: الصلاة على وقتها قلت: ثم أي؟ قال: بر الوالدين، قلت ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله)). وفي الحديث المتفق عليه عن عبد الله بن عمرو: ((جاء رجل إلى النبي يستأذنه في الجهاد فقال: أحي والداك؟ قال: نعم، قال: ففيهما فجاهد)).
روى أحمد والنسائي عن معاوية بن جاهمة السلمي: ((أن أباه قال: يا رسول الله أردت أن أغزو وقد جئت أستشيرك فقال: هل لك من أم؟ قال: نعم، قال: فالزمها فإن الجنة تحت رجليها)). وعن أنس: ((أتى رجل رسول الله فقال: إنني اشتهي الجهاد ولا أقدر عليه، قال: هل بقي من والديك أحد؟ قال: أمي، قال :قابل الله في برها فإذا فعلت ذلك فأنت حاج ومعتمر ومجاهد)).
وروى الطبراني في الكبير عن ابن عمر مرفوعاً: ((رضا الرب في رضا الوالدين وسخطه في سخطهما)).
وروى الطبراني في الأوسط عن ابن عمر مرفوعاً: ((رضا الرب في رضا الوالد وسخط الرب في سخط الوالد)).
موجب الدخول الجنة:
وفي حديث أحمد عن عائشة: ((دخلت الجنة فسمعت قراءة فقلت: من هذا؟ فقيل: حارثة بن النعمان فقال: كذلكم البر)) وكان برا بأمه يزيد من العمر والرزق.
روى أحمد والبيهقي عن أنس مرفوعاً: ((من سره أن يمد له في عمره ويزاد له في رزقه فليبر والديه وليصل رحمه)).
يبرك ابنك:
روى الطبراني عن عبد الله بن عمر مرفوعاً: ((بروا آباءكم تبركم أبناؤكم وعفوا تعف نساؤكم)).
باب في الجنة:
روى أحمد عن أبي الدرداء مرفوعاً: ((الوالد أوسط أبواب الجنة)).
تفرج الكروب: متفق عليه عن ابن عمر: ((بينما ثلاثة نفر. . . فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج لنا فرجة نرى منها السماء ففرج الله منها فرجة فرأوا منها السماء)).
الإنفاق على الوالدين كالجهاد:
روى الطبراني عن كعب بن حجرة: ((مر على النبي رجل فرأى أصحاب النبي جلده ونشاطه فقالوا يا رسول الله لو كان هذا في سبيل الله فقال: إن كان خرج يسعى على ولده صغارا فهو في سبيل الله، وإن كان خرجعلى أبوين شيخين كبيرين فهو في سبيل الله، وإن كان خرج على نفسه يعفها فهو في سبيل الله، وإن كان رياء ومفاخرة فهو في سبيل الشيطان)).
الحرص على نصحهما وهدايتهما:
واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقاً نبياً إذ قال لأبيه يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فأتبعني أهدك صراطاً سوياً يا أبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمن عصياً يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان ولياً.
رواه مسلم عن أبي هريرة: قصة إسلام أمه وفيها أنه دعاها للإسلام فأسمعته في رسول الله ما يكره فأتى النبي وهو يبكي وقال: فادع الله أن يهدي أم أبي هريرة ، فقال رسول الله : ((اللهم اهد أم أبي هريرة)) فرجع إليها فوجدها قد أسلمت.
لا يسب الرجل فيسب أباه، روى البخاري ومسلم عن ابن عمرو: ((إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه قيل: يا رسول الله وكيف يلعن الرجل والديه؟ قال: يسب أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه)).
عقوق الوالدين:
من الكبائر، رواه أبو داود والنسائي مرفوعاً: ((الكبائر تسع أعظمهن الإشراك بالله وقتل النفس بغير حق وأكل الربا وأكل مال اليتيم وقذف المحصنة والفرار يوم الزحف وعقوق الوالدين واستحلال البيت الحرام قبلتكم أحياءً وأمواتا)).
الهلاك لعاق الوالدين: روى الطبراني عن جابر بن سمرة: ((أتاني جبريل فقال: يا محمد من أدرك أحد والديه فمات فدخل النار فأبعده الله قل: آمين، فقلت: آمين، قال: يا محمد من أدرك شهر رمضان فمات فلم يغفر له فأدخل النار فأبعده الله قل: آمين، فقلت: آمين، قال: ومن ذكرت عنده فلم يصل عليك فمات فدخل النار فأبعده الله قل: آمين: فقلت: آمين)).
الذل والعجز: روى أحمد ومسلم عن أبي هريرة مرفوعاً: ((رغم أنفه ثم رغم أنفه ثم رغم أنفه من أدرك أبويه عنده الكبر أحدهما أو كلاهما ثم لم يدخل الجنة)).
له عقوبة من الله في الدنيا: روى الحاكم عن أنس: ((بابان معجلان عقوبتهما في الدنيا البغي والعقوق))، وعن أبي بكرة مرفوعاً: ((اثنان يعجلهما الله في الدنيا البغي وعقوق الوالدين)) [رواه الطبراني].
لا تقبل منه الأعمال:
روى الطبراني عن أبي أمامة مرفوعاً: ((ثلاثة لا يقبل الله منهم يوم القيامة صرفا ولا عدلا: عاق ومنان ومكذب بالقدر)).
لا ينظر الله إليه:
روى أحمد والنسائي والحاكم عن ابن عمرو مرفوعاً: ((ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة: العاق لوالديه والمرأة المترجلة المتشبهة بالرجال والديوث)).
لا يدخل الجنة:
روى أحمد وابن عمر مرفوعاً: ((ثلاثة قد حرم الله عليهم الجنة: مدمن الخمر والعاق والديوث الذي أقر في أهله الخبث)).
روى الحاكم عن ابن عمر مرفوعاً: ((ثلاثة لا يدخلون الجنة العاق لوالديه والديوث ورجلة النساء)).
ــــــــــــــــــــ(67/320)
عشرة النساء
...
...
1735
...
الأسرة والمجتمع
...
...
المرأة
...
مرزوق بن سالم الغامدي
...
...
مكة المكرمة
...
...
...
الرحمة
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- أهمية النكاح وفوائده. 2- هدي السلف في المهور. 3- الوصاة النبوية بحسن عشرة النساء. 4- العدل بين الزوجات وهدي النبي في ذلك. 5- مواقف من عشرة النبي صلى الله عليه وسلم لأزواجه. 6- دعوة لتخفيف مؤونة النكاح وتسهيله.
الخطبة الأولى
قال الله تعالى: فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألا تعولوا.
وقال تعالى: ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودةً ورحمةً إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((حبب إلي من دنياكم النساء والطيب، وجعلت قرة عيني في الصلاة)). وقال صلى الله عليه وسلم: ((الدنيا كلها متاع، وخير متاع الدنيا المرأة الصالحة))، وقال صلى الله عليه وسلم: ((قلب شاكر ولسان ذاكر وزوجة صالحة تعينك على أمر دنياك ودينك خير ما اكتنز الناس)) وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((النكاح سنتي فمن لم يعمل بسنتي فليس مني، وتزوجوا فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة))، وقال صلى الله عليه وسلم: ((تنكح المرأة لأربع: لمالها ولحسبها ولجمالها ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك)).
فالزواج أيها الإخوة سنة من السنن التي حض عليها الشرع، وقد كان السلف يرغبون في الزواج ويسهلونه بينهم، وربما عُرضت المرأة على الرجل الصالح ... وهذا معروف ومشتهر في القرآن والسنة ولم يكن المهر هو المقصد ولم تكن الحفلات المرهقة هي الهدف، فهذا عبد الرحمن بن عوف أحد المبشرين بالجنة تزوج ولم يكن يعلم به رسول الله لولا أن رأى عليه صفرة فسأله .. فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأنه تزوج فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((أولم ولو بشاة)) وما أولم رسول الله صلى الله عليه وسلم على نسائه فإقامة الحفلات، فبعضهن أولم لها بمدين من الشعير، وأخرى بحيس على نطع (وهو طعام من إقط وسمن وغيره على جلد شاة مدبوغ) ولم يولم بشاة إلا على زينب رضي الله عنها وعن جميع أمهات المؤمنين.
وهذه فاطمة سيدة نساء أهل الجنة رضي الله عنها قدم علي لها مهراً درعاً – درعٌ مهرٌ لفتاةٍ هي سيدة نساء أهل الجنة - وهذا صحابي تزوج بامرأة بما معه من القرآن، ولم يذكر لنا أن المهور والولائم بلغت ما بلغت من البذخ بعد ذلك والتفاخر والإسراف مع الأسف الشديد حتى أصبحت هي الهدف من الزواج.
وهذا الذي يطلبه بعض الناس من الزوجين، بينما المطلوب هو الصلاح والتقوى وإنشاء أسرة مسلمة تنجب أولاداً صالحين مجاهدين يقومون بأمر الله ويتبعون رسوله صلى الله عليه وسلم .. وكل من الزوجين راع، وكل منهما مسؤول عن رعيته.
وقد حض الإسلام الزوجين على حسن العشرة وأداء الحقوق بينهما. فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((استوصوا بالنساء خيراً)). وقال صلى الله عليه وسلم: ((لا تصوم المرأة وبعلها شاهد إلا بإذنه)) أي صوم التطوع.
وقال صلى الله عليه وسلم: ((إذا باتت المرأة مهاجرة فراش زوجها لعنتها الملائكة حتى ترجع)).
فعلينا أيها الإخوة التمسك بشرعنا وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم في أمر الزواج والعشرة حتى يبارك لنا في حياتنا ونفوز في آخرتنا.
وإنني أود أنقل إليكم شيئاً من حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم مع زوجاته، وكيف كانت معاشرته لهن، نبينا محمد صلى الله عليه وسلم سيد ولد آدم مات والتحق بالرفيق الأعلى عن تسع من النساء، كان يقسم لهن ويعدل بينهن رغم جهاده وكفاحه في سبيل الدعوة إلى الله في مدة بضع سنوات، هي التي قضاها في المدينة حيث هاجر وهو متزوج سودة رضي الله عنها، وقد عقد على عائشة رضي الله عنها ثم دخل عليها بعد هجرته، ثم تزوج بقية نسائه، وكان عنده من الجوارِ أيضاً ملك يمين (مارية) فلم تشغله الغزوات والدعوة والتعليم والحج والعمرة في هذه السنوات القليلة من أن يؤدي حقوق نسائه من رعاية وحسن عشرة وتأديبهن وتعليمهن ومساعدتهن والقسمة بينهن والعدل بينهن فيما يملك ... لأن عدم العدل فيما لا يملك الإنسان من حب وميل قلبي لإحدى النساء معذور فيه كما قال تعالى: ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة وإن تصلحوا وتتقوا فإن الله كان غفوراً رحيماً. هذا في الميل القلبي أما في المبيت والنفقة فعلى الزوج أن يعدل بين نسائه لأنه كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((من كان له امرأتان يميل لإحداهما على الأخرى جاء يوم القيامة أحد شقيه مائل )).
أقول إن في معاملة النبي صلى الله عليه وسلم لأزواجه منهاجاً وطريقاً للمسلمين، يسلكونه في حياتهم الزوجية. فكيف كانت حياة النبي صلى الله عليه وسلم مع نسائه، وكيف كانت عشرته لهن وكيف كانت نساؤه، أمهاتنا رضي الله عنهن يتعاملن معه؟ وكيف كن يتعاملن مع بعضهن؟ حتى نتخذ من ذلك نبراساَ ومرشداً للطريق الصحيح في التعامل. فالنبي صلى الله عليه وسلم بالرغم من أن عنده تسع نساء كلهن ذات خلق ودين وجمال وحسب ونسب، لكن حينما سئل أي الناس أحب إليك؟ قال: ((عائشة)) رضي الله عنها قالوا: ومن الرجال؟ قال: ((أبوها)).
وقد اجتمع النساء كلهن وأرسلن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبيها رسول الله حتى تتوسط لديه في أن يعدل في حبه، حتى ينلن من حبه، لهن مثل ما لعائشة رضي الله عنها، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أي بنية ألست تحبين ما أحب؟)) قالت: بلى، قال: ((فأحبي هذه)) وأشار إلى عائشة.
فجاءت زينب بنت جحش رضي الله عنها وهي التي تفتخر بأن الله هو الذي تولى زواجها من النبي صلى الله عليه وسلم تقول عائشة عنها: لم أر امرأة قط خيراً في الدين من زينب وأتقى لله وأصدق حديثاً وأوصل للرحم وأعظم صدقة، وقالت عنها: وكان تساميني عند رسول الله، قالت: فوقعت بي فاستطالت فلم تبرح زينب حتى عرفت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يكره أن أنتصر فلما وقعتُ بها لم أنشبها حتى أفحمتها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إنها ابنة أبي بكر)).
لاحظوا أيها الإخوة العدل في وصف عائشة لضرتها زينب رغم ما بينهما من تنافس وغيرة، وحق لهن أن يفعلن ذلك مع حبيبهن وزوجهن النبي صلى الله عليه وسلم.
ولاحظوا أيضاً كيف تعامل النبي صلى الله عليه وسلم مع هذه الغيرة من زينب رضي الله عنها لأن ذلك أمر طبيعي موجود عند النساء وأيضاً عند الرجال، ولكن دون أن يحملها على الظلم أو الفحش، ولذلك أذن النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة أن ترد عليها وتدافع عن نفسها، فحينما غلبتها عائشة في النقاش والحوار ... قال: ((إنها ابنة أبي بكر)) فهي الحبيبة ابنة الحبيب.
وقال صلى الله عليه وسلم عن عائشة: ((فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام)). ولكنه صلى الله عليه وسلم مع حبه لها، يعدل بين نسائه في المبيت، حتى في مرض وفاته كان ينتقل بين الحجر حتى أذن له بالبقاء في بيت عائشة ولم يرض منها أو من غيرها أن تتجاوز الواحدة منهن حدها أو تفعل ما يغضب الله عز وجل.
لو استعرضنا أيها الإخوة تعامل النبي صلى الله عليه وسلم مع أهله لوجدناه كريماً مبتسماً بشوشاً رياضياً .. لقد سابق عائشة في سفره مرتين فسبقها مرة وسبقته مرة، ولم يقبح ولم يضرب وكان ينهى عن ذلك ويقول: ((خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي)). وتقول عائشة رضي الله عنها: (والله ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده امرأة له قط ولا خادماً له قط، ولا ضرب بيده شيئاً قط إلا أن يجاهد في سبيل الله. وكان يأتي صلى الله عليه وسلم إلى إحدى نسائه ويقول: ((هل عندكم طعام؟)) فتقول: لا فيقول: ((إني صائم)).
وكان صلى الله عليه وسلم يسامر زوجاته ويمازحهن ويضع فخذه الشريف لترتقي عليه إحداهن إذا أرادت ركوب الدابة. وكانت الواحدة منهن تزوره في معتكفه في المسجد وتحادثه قليلاً فإذا أرادت الرجوع قام معها يودعها حتى باب المسجد ويقف يراقبها حتى تعود إلى بيتها. وكان يستاك إذا دخل بيته ودخل عند زوجاته فهو الطاهر الطيب الذي يتخذ من عرقه الطيب يفعل ذلك، فكيف بغيره؟.
ولننظر إلى الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم ما فعل مع حبيبته حينما ارتكبت خطأًً غير مقصود فاشترت نمرقه عليها تصاوير فغضب وأمرها أن تمزقها على الفور، أو حينما تكلمت على إحدى زوجاته الأخريات فقالت له: حسبك من صفية أنها قصيرة. فقال: ((يا عائشة، لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجتها))، فهذا القول غيبة من عائشة لصفية رضي الله عنهما أخبرها النبي صلى الله عليه وسلم بمقدار الإثم الواقع عليها من جرائها حتى تتوب وتستغفر.
وكان يهجر صلى الله عليه وسلم تأديباً. وقد لكز عائشة في صدرها حتى أوجعها حينما تبعته ليلاً سراً إلى البقيع وعادت بسرعة وقد حفزها النفس فسألها عن ذلك فأخبرته بأنها تبعته غيرة عليه فقال: ((أكنت تخشين أن يحيف الله ورسوله عليك؟)) فلكزها في صدرها تأديباً.
وأخيراً: هل منع حب النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة من أن يطبق شرع الله عز وجل، أو أن يتأخر في واجب، في صلاة أو جهاد أو دعوة.
الخطبة الثانية
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
لقد أمر الله عز وجل المؤمنين بالاستقامة على أمره وبالوقاية من كل ما يؤدي إلى عذاب جهنم، قال تعالى: يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون وهذه الأمانة التي تحملها الإنسان إذا أداها بأن حرص على ما ينفعه هو ومن تحت رعايته في دينهم ودنياهم وتعليمهم الخير والابتعاد بهم عن مواطن الزلل فقد ربح في الدنيا والآخرة، وإلا فهو مضيع للأمانة، عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يعول)). وإن من الأمانة على عاتق من تولى أمر المسلمين أن يعينهم على الزواج وييسر لهم سبله ويهيئ لهم كل فرصة مناسبة لذلك.
وإنني أتعجب من ولاة أمر المسلمين اليوم سواء من كانت ولايته خاصة أو ولا يته عامة كيف يضعون العراقيل والصعوبات أمام الزواج بينما هناك من ييسر سبل الزنا واللواط والعياذ بالله.
انظروا إلى بعض وسائل الإعلام ومكاتب السياحة وما تنشره من دعوة للسياحة والسفر بأرخص الأسعار وبأسهل السبل حتى يذهب الناس إلى بلاد الكفر والفسوق والفجور حيث ترتكب الفواحش علناً ومجاهرة دون حسيب ولا رقيب. فيذهب السياح كما يقال وكثير منهم لا يريد إلا ممارسة المنكرات هناك.
أما إذا أراد شاب أن يعف نفسه بالحلال فإنه يجد الصعوبات الكثيرة. المادية وأحياناً النظامية.
أيها الإخوة: لقد ذهلت حينما اطلعت على مقدار ما أنفقه الذين سافروا للسياحة في العام الماضي من مئات الملايين من الريالات ... بل قل بالمليارات. فيا ترى فيم أنفقت؟ ألم يسمع هؤلاء حديث النبي صلى الله عليه وسلم لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع عن شبابه فيما أبلاه وعن عمره فيما أفناه وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه وعن علمه ماذا عمل به ؟. لماذا لا يسعى المسلمون إلى التعاون والتساهل في أمور الزواج؟ لماذا لا يقوم المسؤولون عن الشباب والتعليم بمساهمة فعالة في سبيل تيسير الزواج؟ لماذا لا يكون هناك سكن بأجر رمزي لكل شاب مسلم يريد أن يتزوج وهو ما زال في دور التعليم وهو طالب؟
اسأل الله أن يهيئ لنا من أمرنا رشداً. قال الله تعالى: لقد أنزلنا آيات مبينات ٍ والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله بل أولئك هم الظالمون إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون.
ــــــــــــــــــــ(67/321)
دعائم البيت المسلم 1
...
...
1765
...
الأسرة والمجتمع
...
...
قضايا الأسرة
...
سعيد بن يوسف شعلان
...
...
جدة
...
...
...
عمار بن ياسر
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- دور المسجد والبيت والمدرسة في عملية الإصلاح. 2- فساد نظرة الناس في مسألة الزواج وآدابه. 3- حكمة الزواج وحث الإسلام عليه. 4- مبنى الشريعة الإسلامية على التيسير والاقتصاد. 5- جواز استعمال الطيبات والاستمتاع بها. 6- صفات المرأة التي ينبغي أن يخطبها المؤمن لنفسه.
الخطبة الأولى
أما بعد:
فإن للمسجد والبيت والمدرسة أثراً عظيماً في صلاح المجتمع الإسلامي واستقامة أفراده وانتشار الفضائل واختفاء الرذائل وحب فعل الخيرات وترك المنكرات، هذا إذا قام المسجد بدوره في الدعوة إلى الله وبيان الحق ونشر العلم النافع وتعريف الناس بحق الخالق عليهم وحق الخلق، وكذلك إذا قام البيت بدوره والمدرسة.
والكلام هنا أيها الأخوة الكرام على البيت بصفة خاصة، فإن كثيراً من بيوت المسلمين قد تخلفت عن دورها المنوط بها لما أقيمت على دعائم غير راسخة وأسس غير متينة، فدعائم البيت المسلم وأسسه زوجان صالحان تقيان يعرفان ما لله عليهما وما للناس، ويعرف كل منهما ما للآخر عليه، ويعرفان ما لأولادهما عليهما من الحقوق، ويعرفان كيف يربيانهم وينشآنهم ويغرسان فيهم حب الله وحب رسوله وحب الطاعات والإقبال عليها والتأدب بالآداب الإسلامية من حسن خلق وبر وصدق وتوقير للكبير ورحمة للصغير وإكرام للضيف وحياء وتواضع وغير ذلك من الآداب الإسلامية الكبيرة.
ونظراً لما دب في المسلمين من الضعف والهوان والذل في العصور الأخيرة فقد تغيرت نظرة كثير من أولياء الزوجين إلى ما ينبغي مراعاته في أمور الزواج وتغيرت نظرة الزوجين أنفسهما كذلك، فصار قاصرو النظر من المسلمين يقلدون ويحاكون في الزواج من يرونهم أهلاً للتقليد من وجهة نظرهم من غير المسلمين في الغرب والشرق على حد سواء، فلم يعد الزواج أصلاً يبادر إليه الشباب إذا بلغوا النكاح، فتراهم مؤثرين لما يزعمونه من الحرية، وهو التحلل في الحقيقة من كل قيد، هاربين من الزواج الذين يظنونه بل يصفونه بأنه رق وحبس.
وليس الزواج كذلك بل هو رابطة كريمة بين المسلم والمسلمة تحت راية من رضى الله تبارك وتعالى ومباركته على الزوجين. هكذا أصبحت النظرة إلى الزواج.
وساعد على احترام آراء غير المسلمين وعدم احترام هذه الرابطة الكريمة التي يرضاها الله تبارك وتعالى ما أصبح يشترط في الزواج من شروط لا دليل عليها من كتاب أو سنة كاشتراط المركز الاجتماعي والحسب والنسب، ولو تخلف الدين والخلق، وكاشتراط مهور باهظة مبالغ فيها وكاشتراط تزويج الكبرى قبل الصغرى وغير ذلك من الشروط السائدة في هذه الأيام التي أبعد بها أصحابها عن إرادة وجه الله والدار الآخرة.
ورحم الله الإمام الصنعاني إذ قال: وللناس في هذه المسألة عجائب لا تدور على دليل غير الكبرياء والترفع، ولا إله إلا الله كم حرمت المؤمنات النكاح لكبرياء الأولياء واستعظامهم لأنفسهم. ثم قال: اللهم إنا نبرأ إليك من شر ولده الهوى وسباه الكبرياء.
ومن هنا فإن على كل مسلم أن يرجع في أمور الزواج وغيرها إلى الكتاب والسنة، فتعالوا أيها الإخوة الكرام نتعرف على ما أرشد إليه الكتاب والسنة في أمور الزواج لنعرف ما السبب في تحول بيوت المسلمين عن دورها إلى مباءة فساد وتنشئة أجيال تعيث في الأرض فساداً ولا تطلِع بالمسؤوليات الملقاة على عاتقها للتقدم بالإسلام والمسلمين نحو ما يحب الله تبارك وتعالى ويرضاه وأرشد إليه رسوله من نشر الحق في ربوع الأرض والقيام بأمر الله تبارك وتعالى.
لقد حث الإسلام أيها الأخوة الكرام على الزواج وكره تركه لمن يقدر عليه، حض عليه وكره تركه لمن يقدر عليه قال الله تعالى في سورة النساء: فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع وقال في سورة الروم جاعلاً الزواج آية من الآيات التي يتفكر فيها: ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون. والسكن هو الاطمئنان بالقلب والبدن.
وقال في سورة النحل ممتناً على عباده بنعمة الزواج والأولاد والرزق من الطيبات والله جعل لكم من أنفسكم أزواجاً وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة ورزقكم من الطيبات وعن ابن مسعود قال: قال رسول الله : ((يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء)) [متفق عليه].
((يا معشر الشباب)) المعشر جماعة يشملهم وصف ما، والشباب اسم لمن بلغ النكاح إلى أن يكمل الثلاثين على الصحيح، ووقع خطابه للشباب خاصة لأنهم مظنة الشهوة للنساء فأرشدهم أنه من كان منهم قادراً على الوطء مستطيعاً لمؤنة الزواج فليتزوج فإنه أغض للبصر أي أشد غضاً للبصر وأحصن للفرج أي أشد إحصاناً للفرج ومنعاً له من الوقوع في الفاحشة، ومن لم يستطع فعليه بالصوم، ذلك لما فيه من الجوع ومنع مثيرات الشهوة ومستدعيات طغيانها، وشبه رسول الله الصوم بالوجاء، وهو الاختصاء كما وقع تفسيره مدرجاً عند ابن حبان، شبه الصوم بالوجاء لأن الصوم يضعف شهوة النكاح.
وعن أنس بن مالك قال: جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي يسألون عن عبادته فلما أخبروا كأنهم تقالوها أي عدوها قليلة، فقالوا: أين نحن من رسول الله ؟ قد غفر الله ما تقدم من ذنبه وما تأخر أي أنه قليل القدر في العبادة لأنه قد سبقت له المغفرة ولكنا لسنا كذلك، فقال أحدهم: أما أنا فأصلي الليل أبدا،ً وقال الآخر: فأصوم الدهر ولا أفطر، وقال الثالث: فأعتزل النساء فلا أتزوج.
فجاء رسول الله إليهم فقال: ((أنت قلتم كذا وكذا، أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، ولكني أصلي وأنام، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني)).
أرشد صلى الله عليه وآله وسلم أن المشروع هو الاقتصاد في العبادات دون الإنهاك والإضرار بالنفس وهجر المألوفات كلها، وأن هذه الملة المحمدية مبنية شريعتها على الاقتصاد والتسهيل والتيسير وعدم التعسير يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر.
قال الطبري: في الحديث الرد على من منع استعمال الحلال من الطيبات مأكلاً وملبساً، وأما قوله تعالى في سورة الأحقاف: أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها فالحق أن هذه الآية في الكفار كما قال القاضي عياض، وأول الآية يدل على ذلك قال الله تعالى: ويوم يعرض الذين كفروا على النار أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها.
وقد أخذ النبي بالأمرين فلم يترك استعمال الحلال من الطيبات ولم يسرف في ملازمتها، والأولى التوسط في الأمور وعدم الإفراط في ملازمة الطيبات، فإنه يؤدي إلى الترفه والبطر ولا يؤمن من الوقوع في الشبهات، فمن اعتاد ذلك فلا يجده أحياناً فلا يستطيع الصبر عنه فيقع في المحذور، كما أن من منع من تناول ذلك أحيانا قد يفضي به إلى التنطع وهو التكلف المؤدي إلى الخروج عن السنة، وخيار الأمور أوسطها.
وأراد بقوله: ((فمن رغب عن سنتي فليس مني)) أي ليس من أهل طريقتي، ليس من أهل الحنيفية السهلة، فإن الأخذ بالتشديد في العبادات يؤدي إلى الملل القاطع لأصلها، والملازمة على الاقتصار على الفرائض مثلاً يفضي إلى عدم النشاط إلى العبادة ويفضي إلى البطالة، وخيار الأمور كما سبق أوسطها، بل الذي يتعين على المسلم أن يفطر ليقوي على الصيام، وينام ليقوي على القيام، وينكح النساء ليعف نظره وفرجه.
وقيل: إن أراد من خالف هديه وطريقته أن ما أتى به من العبادة أرجح مما كان عليه فالمعنى ليس مني أي: ليس من أهل ملتي.
إن اعتقاد ذلك يؤدي إلى الكفر والعياذ بالله، وفي أحاديث النبي الكثير مما يحث على الزواج وكراهية تركه لمن يقدر عليه اكتفيت منها بهذا القدر، وأسأل الله أن يجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله فأولئك هم أولو الألباب.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله خاتم الأنبياء وإمام المرسلين، اللهم صل وسلم وبارك على إمامنا وقدوتنا وسيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد:
أيها الأخوة: بيّن النبي الصفة التي لأجلها تنكح المرأة والتي لأجلها يقبل الرجل زوجاً فقال في صفة المرأة ما أخرجه الإمام أحمد وصححه ابن حبان عن أنس قال: كان رسول الله يأمرنا بالباءة وينهى عن التبتل، وينهانا عن التبتل نهيا شديداً ويقول: ((تزوجوا الولود الودود فإني مكاثر بكم الأنبياء يوم القيامة)).
والتبتل هو الانقطاع عن النساء وترك النكاح انقطاعاً إلى عبادة الله، هذا قد نهى النبي وقال فيما أخرجه الطبراني عن سعد بن أبي وقاص: ((لقد أبدلنا الله بالرهبانية الحنيفية السمحة)).
ثم الصفة التي قالها النبي للمرأة ورغب في الزواج منها هي المرأة الولود، معناها: كثيرة الولادة، ويعرف ذلك في الأبكار بحال قرابتها، والودود هي المحبوبة بكثرة ما هي عليه من خصال الخير وحسن الخلق والتحبب إلى زوجها.
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((تنكح المرأة لأربع: لمالها ولحسبها ولجمالها ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك)) [متفق عليه مع بقية الجماعة].
هذا الحديث بيّن فيه النبي أن الذي يدعو الرجال إلى التزوج إحدى أربع: إما الحسب وإما الجمال وإما المال وآخرها عند الرجال ذات الدين.
فأمرهم أنهم إذا وجدوا ذات الدين ألا يعدلوا عنها، ولهذا قال لمن لم يظفر بذات الدين: تربت يداك أي التصقت بالتراب من الفقر.
وفي الحديث دليل على أن مصاحبة أهل الدين في كل شيء هي الأولى لأن مصاحبهم يستفيد من أخلاقهم وبركتهم وطرائقهم، والزوجة هي أولى من يعتبر دينه لأنها ضجيعته وأم أولاده وأمينته على ماله وعلى منزله وعلى نفسه، فينبغي أن ينظر إلى دينها قبل النظر إلى ما سواه.
ثم إنه قد نهى عن نكاح المرأة لغير الدين فقال فيما رواه عنه عبد الله بن عمر رضي الله عنهما وأخرجه ابن ماجه وغيره: ((لا تنكحوا النساء لحسنهن فلعله يرديهن)) لعل الحسن يكون سبباً في الردى والسقوط والدلال ((ولا لمالهن فلعله يطغيهن)) لعل المال يكون سبباً في الطغيان ((وانكحوهن للدين، ولأَمَة سوداء خرقاء ذات دين أفضل)).
أما إذا انضم إلى الدين صفات أخرى مرضية، فذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، ثم بين النبي كذلك الصفة التي يقبل الرجل لأجلها زوجاً فقال: فيما أخرجه الترمذي بسند حسن عن أبي حاتم المزني قال رسول الله : ((إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه قالوا: يا رسول الله وإن كان فيه؟ قال: إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير. قال ذلك ثلاث مرات)).
وعد أولياء الزوجات إذا ردوا من كان ذا دين وخلق أنهم سيتسببون في فتنة وفسادً كبير في الأرض، وهنا ينبغي أن يقال أن اعتبار الدين في الرجل أكثر أهمية من اعتباره في المرأة لأن الرجل يمكنه مفارقة الزوجة غير ذات الدين بالطلاق، ولكن الزوجة لا يمكنها مفارقة الزوج غير ذي الدين إلا بمشقة، فينبغي إذاً أن يتريث وأن يتأمل في الخاطب وأن يعتبر فيه الدين قبل كل شيء.
ولقد انصب نظر الكثيرين من الرجال عند التقدم للنساء إلى اشتراط المظهر الخارجي دون النظر إلى الجوهر والمخبر، ولهذا ما تلبث البيوت أن تقام حتى تهدم من جديد كأنها لم تكن بالأمس قائمة، والسبب في ذلك أن هذا المظهر الذي يعتني به أهل الخطاب ما يلبث أن يزول أثره وتبقى الحاجة إلى الرحمة والمودة والرعاية والأمانة وغير ذلك من الصفات التي لا يأتي بها ولا يؤدي إليها ولا يوجدها إلا الدين والالتزام بالدين.
هذا وسيأتي مزيد لبيان ذا في الخطب القادمة إن شاء الله وقدر.
ــــــــــــــــــــ(67/322)
...
حق الزوج على زوجته
...
...
1792
...
الأسرة والمجتمع
...
...
قضايا الأسرة
...
عبد الله الشرقاوي
...
...
الدار البيضاء
...
...
...
الصفا
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- حقوق الزوج على زوجته: الطاعة – مراعاة شعوره – حفظ ماله وعرضه – تدبير شؤون المنزل – عدم الإذن بدخول غريب في منزله. 2- فضل حسن تبعل المرأة.
الخطبة الأولى
أما بعد:
عباد الله: أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل وذلك بأداء طاعته، وترك معصيته، فلا يمكن أن يكون الإنسان مؤمناً حتى يكون متقياً، لأن التقوى هي التي تؤهله للإيمان الصحيح قال تعالى: واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون.
معشر الأخوة والأخوات في الإسلام: ها نحن نعود مرة أخرى للذكرى، والذكرى تنفع المؤمنين، نعود لنذكر بعضنا بعضاً بهذه الحقوق التي لابد لنا من أدائها لأهلها، فقد عرفنا في الخطبة السابقة حقوق الزوجة على زوجها، وهي حقوق مادية ومعنوية وهي تقديم الصداق، والنفقة، وإعطاؤها حقها في المبيت، ومعاشرتها بالمعروف، ووقايتها من النار، وذلك بتعليمها وإرشادها إلى ما ينفعها في دينها.
تلكم أخوتي المسلمين وأخواتي المسلمات هي حقوق المرأة على زوجها.
واليوم نتعرف بحمد الله وتوفيقه على حقوق الزوج على زوجته، ذلك أن الإسلام فرض لكل من الزوجين حقه على الآخر، فمن أخل بها أو أعرض عنها أو تهاون في أدائها وهو يعلم، فقد عرض نفسه للعنة الله وغضبه والعياذ بالله من ذلك.
أ- إن أهم حق من حقوق الزوج على زوجته هو الطاعة، نعم فقد ولى الله تعالى الرجل القوامة على الأسرة وأوجب له الطاعة حتى يستطيع أن ينفذ ما أمره الله به من القوامة في سهولة ويسر لا يعتريها غضب أو عناء. وللرجل أن يمنع زوجته من العمل خارج المنزل ما لم يكن قد شرط لها حقها في ذلك عند العقد، فإذا كان شرط لها ذلك فعليه الوفاء لقول رسول الله : ((إن أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج)). فوجب على المرأة أن تطيع زوجها إذا أمرها بشيء يهمه أو يهمها في الدين أو الدنيا كتربية الأولاد، والجلوس في البيت لتدبير شؤون المنزل، أما إذا أمرها بشيء لا يرضي الله ورسوله فلا تطعه كارتكاب معصية من شرب خمر أو تبرج أو مجالسة الفساق والذين لا دين لهم ولا خلاق، لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وإنما الطاعة في المعروف كما قال عليه السلام، وفي حديثه الصحيح قال عليه السلام: ((إذا صلت المرأة خمسها، وصامت شهرها، وحفظت فرجها، وأطاعت بعلها، قيل لها يوم القيامة: ادخلي الجنة من أي أبوابها الثمانية شئت)).
فكما أن المرأة إذا أطاعت زوجها حينما يأمرها بطاعة الله تعالى يكون لها الأجر مرتين فكذلك إذا خالفته في طاعة الله يكون عليها الوزر مرتين، ولا شك أيها المسلمون أن طاعة المرأة لزوجها يحفظ الأسرة من الانشقاق ويحفظ قلب الزوج من النفور منها، فعلى الزوجة المؤمنة أن لا تغتر بأولئك الذين يدعونها إلى الخروج عن طاعة الزوج ويجرونها إلى المهالك والمحرمات.
أيها المسلمون: قدم معاذ بن جبل من الشام مع رسول الله فسجد بين يديه فقال : ((ما هذا؟ قال: يا رسول الله قدمت الشام فرأيتهم يسجدون لبطارقتهم وأساقفتهم فأردت أن أفعل ذلك لك فقال : فلا تفعل فإني لو أمرت أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها، والذي نفسي بيده لا تؤدي المرأة حقها حتى تؤدي حق زوجها)). وقال : ((اثنان لا تجاوز صلاتهما رؤوسهما: عبد أبق عن مواليه حتى يرجع، وامرأة عصت زوجها حتى ترجع)) رواه الطبراني. وروى الحاكم عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت سألت رسول الله : أي الناس أعظم حقاً على المرأة؟ قال: ((زوجها، قالت: فأي الناس أعظم حقاً على الرجل؟ قال: أمه)).
ب- رعاية كرامته وشعوره فلا يرى منها في البيت إلا ما يحب، ولا يسمع منها إلا ما يرضى، ولا يقابل منها بمكروه لأن الرجل المؤمن لا يجد السكينة إلا في بيته ولا يشعر بالراحة إلا مع زوجته، فقد تتعبه الأعمال والخدمات التي يقوم بها خارج البيت، فإذا جاء إلى البيت ليستريح فوجد الزوجة قد أعدت له مشاكل أكثر مما كان يقوم به وذلك بأن تكثر من الشكايات والخصومات مع الجيران أو مع أهله كأمه أو إهمال بيته من فراش أو نظافة أو إعداد طعام في وقته، فسوف يشعر الزوج أنه أشقى الناس، ولذلك نجد بعض الرجال يفضلون الجلوس في المقاهي على البيوت، لما يجدون من راحة في المقهى أحسن مما يجدونها في البيت مع الزوجة الشريرة على هذا الشكل.
ولذلك جاء في الحديث الذي رواه الترمذي أن النبي قال: ((لا تؤذين امرأة زوجها في الدنيا إلا قالت له زوجه من الحور العين: لا تؤذيه، قاتلك الله هو عندك دخيل يوشك أن يفارقك إلينا)). أيرضيك أيتها المرأة المسلمة أن تنفري زوجك منك، فتؤذيه بلسانك وعصيانك، فإن فعلت ذلك فاعلمي أنه سينتقل إلى الجنة ويكون زوجاً للحور العين في الجنة، تلكم الزوجات التي قال الله عنهن: حور مقصورات في الخيام. وقال فيهن: لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان.
ج- حفظ ماله وعرضه:ومن حق الزوج على زوجته أن تحفظ له ماله وعرضه، فتكون مدبرة في نفقتها ملتزمة بطاعته، فلا تنفق شيئاً أو تعطي أحداً من ماله إلا بإذنه وبعد أن تستوثق من رضاه قال رسول الله : ((لا تنفق امرأة شيئاً من بيت زوجها إلا بإذنه. قيل: يا رسول الله ولا الطعام؟ قال: ذلك هو أفضل أموالنا)) رواه الترمذي بسند جيد.
وعليها أن تحفظه في عرضه وذلك بأن لا تخونه في إبداء زينتها أمام غيره من الرجال، وأن تبتعد عن التبرج والتعرض للأجانب في البيت وخارجه كالنظر من الباب والشرفة وفي الطريق والمحلات التجارية كما هو حال نسائنا اليوم. فإنك لا تكاد تمر على دار إلا وتجد النساء واقفات بالأبواب أو ينظرن من النوافذ والشرفات فضلاً عن أنهن يخرجن إلى الشوارع والطرقات، فإن هذه تعتبر خيانة عظمى، ولو رضي الزوج لكان كلا منهما خان الله ورسوله.
د- تدبير شؤون المنزل: يجب على الزوجة أن تقوم بتدبير شؤون منزلها وتربية أولادها وهو العمل الذي يبقي لها صحتها ويحفظ قوتها، فإن العمل ينفي عن صاحبه الأمراض والأسقام، وليكون للمرأة المسلمة في ابنة رسول الله فاطمة الزهراء الأسوة الحسنة، فقد جاءت فاطمة إلى أبيها تشكو يبس يديها من كثرة إدارة الرحى ومشقة القيام بشؤون منزل زوجها علي ، وطلبت خادماً فقال لها : ((ألا أدلك على ما هو خير لك من الخادم؟ تسبحين الله إذا آويت إلى فراشك ثلاثاً وثلاثين، وتحمدينه ثلاثاً وثلاثين، وتكبرين أربعاً وثلاثين، فذلك خير لك من الخادم))، الله أكبر وصلى الله عليك يا رسول الله، ورضي الله عنك يا فاطمة. جاءت تطلب خادماً فأرشدها إلى ذكر الله تعالى وتسبيحه وحمده وتكبيره.
نعم أيها المسلمون لأن ذكر الله يزيل الهم ويكشف الغم قال تعالى: الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب.
نفعني الله. .
الخطبة الثانية
أما بعد:
عباد الله: ما زلنا مع حقوق الرجل على زوجته.
هـ- ومن حقوقه عليها أن لا تأذن لأحد بدخول بيته من رجل قريب أو امرأة قريبة أو أجنبية إلا بإذنه، ولا يدخل عليها هو أيضاً من لا يخاف الله تعالى، فقد يخون بنظرة وكلمة ويرمي في البيت شرارة فتنة قال رسول الله : ((إياكم والدخول على النساء، قالوا: يا رسول الله أرأيت الحمو؟ قال: الحمو الموت)). والحمو أقارب الزوج أو الزوجة كأبناء العم والخال والعمات والخالات وقال : ((ثلاثة لا يدخلون الجنة: مدمن الخمر والعاق والديوث)) وهو الذي يقر الخبث في أهله ولا يبالي من دخل على أهله.
ولقد أصبحت أكثر أسر المسلمين تأذن فيها الزوجة للرجال في الدخول عليهن، والزوج غائب عن البيت، ومن الرجال من صار لا يبالي بمن دخل على زوجته، فصرنا نسمع بما يسمى بصديق العائلة، حيث يدخل هذا الذئب المفترس البيوت بدون استئذان، وكم من بيوت خربت، وكم من نساء طلقت، وكم أطفال شردوا، وقد تجد بيت ذلك الزوجة أو الزوج أو هما معاً. والسبب الرئيسي هو عدم امتثالنا لهذا الحديث وأمثاله وصدق الله العظيم إذ يقول: فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم.
أيها المسلمون: مازال في الكلام بقية، وسنعرف بقية الحقوق الواجبة على المرأة إلى زوجها وحتى لا أطيل عليكم، وأختم خطبتي هذه بهذا الحديث الذي رواه البزار والطبراني عن ابن عباس قال جاءت امرأة إلى النبي فقالت: يا رسول الله أنا وافدة النساء إليك، هذا الجهاد كتبه الله على الرجال، فإن أصيبوا أجروا، وإن قتلوا كانوا أحياء عند ربهم يرزقون، ونحن معاشر النساء نقوم عليهم فما لنا من ذلك؟ فقال رسول الله : ((أبلغي من لقيت من النساء أن طاعة المرأة الزوج واعترافها بحقه يعدل ذلك، وقليل منكن من يفعله ثم قال : لا ينظر الله سبحانه وتعالى إلى امرأة لا تشكر لزوجها وهي لا تستغني عنه)).
فاتقوا الله عباد الله واتقين الله معشر النساء، واعرفن هذه الحقوق وأدينها في الدنيا لأزواجكن فإنكن مسؤولات أمام الله تعالى عنها، لأن كل حق لابد له من طالب، والله تعالى حرم الظلم على نفسه وجعله بيننا محرماً. عن حصين بن محصن قال حدثتني عمتي قالت أتيت رسول الله في بعض الحاجة فقال لي: ((أي هذه أذات بعل؟ قالت: نعم قال: كيف أنت له؟ قالت: لا آلوه إلا ما عجزت عنه، قال: فانظري أين أنت منه. فإنه هو جنتك ونارك)) رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح. وموعدنا في الجمعة المقبلة مع تتمة الحقوق.
ــــــــــــــــــــ(67/323)
حق المرأة على زوجها
...
...
1793
...
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
...
...
الآداب والحقوق العامة, المرأة
...
عبد الله الشرقاوي
...
...
الدار البيضاء
...
...
...
الصفا
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- التأكيد على وضعية المرأة واحترامها في شريعة الإسلام. 2- الحقوق المادية للمرأة على زوجها (المهر – النفقة – الحماية – العشرة بالمعروف – العدل مع ضرتها). 3-نصائح للزوج.
الخطبة الأولى
أما بعد:
فيقول الله تعالى: ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة والله عزيز حكيم ويقول عز من قائل: هن لباس لكم وأنتم لباس لهن ويقول سبحانه: فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض.
معشر الأخوة والأخوة في الإسلام، أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل، فرضاه وجنته سبحانه طاعته وتقواه، وسخطه وغضبه في معصيته قال سبحانه: فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى.
أيها المسلمون: أرى لزاماً علي وقد كلفت بمهمة الخطابة والوعظ فيكم، أن أفتح معكم هذا الموضوع الهام، موضوع حقوق الزوج مع زوجته، وحقوق الزوجة على زوجها، ذلك لأن كثيراً منا نحن المتزوجون يجهل هذه الحقوق، يجهلها الرجال قبل النساء.
ثم إنني أقصد بكلمتي هذه نصيحة أخوتي المسلمين وأخواتي المسلمات خصوصاً من تزوج في هذه السنوات الحاضرة ومن هو مقبل على الزواج.
وأقول لي ولكم: أيها المسلمون إن كثيراً من البيوت في مجتمعاتنا الإسلامية مخزية، لأن الأزواج والزوجات لم يعرف كل منهما الحقوق والواجبات عليه، وبالتالي فكيف يستطيع أن يؤديها لشريك حياته. لذلك أرجوكم أن تفهموا هذا الموضوع وأن تستمعوا إليه بقلوبكم قبل آذانكم وأن تعملوا به وتبلغونه إلى أهليكم وأقاربكم فيكون لي ولكم إن شاء الله أجر الاستماع والفهم والعمل والتبليغ، ورحم الله امرء سمع فوعى فبلغ، فرب مبلغ أوعى من سامع، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه.
أيها المسلمون: الإسلام دين الواقع لا يلقي بأهله في مثاليات لا تعيش على أرض الواقع، ولا يرتفع بأهله إلى بروج عالية، طالما أن أصلهم وحياتهم ملتصقة بالأرض والواقع، ومعنى هذا أن الإسلام يقيم كل شيء على أساس من التقابل الزرع بالحصاد، والإيمان يقابل بالثواب، والكفر يقابل بالعقاب، والحقوق بين الزوجين تقابل بالواجبات.
وهذه الواجبات تنقسم إلى ثلاثة أقسام: 1- واجبات الزوج لزوجته. 2 – واجبات الزوجة لزوجها. 3 – واجبات مشتركة بينهما.
فنبدأ أولاً بواجبات الزوج لزوجته:أي الحقوق التي أمرت شريعة الإسلام الزوج بإعطائها للزوجة وهي كما يلي:
1- تقديم المهر المتفق عليه بينهما في الوقت الذي تطلبه الزوجة قبل الدخول أو بعده، ولها الحق أن تمتنع عن تسليم نفسها له حتى يعطيها صداقها، ولا تعد بذلك عاصية لله ولا خارجة على أمر زوجها، فلا تسمى حينئذ ناشزة ولا تحرم من النفقة، لأن الله تعالى يقول: وآتوا النساء صدقاتهن نحلة، ويقول سبحانه: فآتوهن أجورهن فريضة. وبهذا أعطى الإسلام للمرأة حق التملك، لأن العرب في الجاهلية كانوا يمنعونها من هذا الحق ولم تحدد الشريعة الإسلامية قيمة المهر، ولا يشترط فيه إلا أن يكون شيئاً له قيمة، فيجوز أن يكون خاتماً من حديد، أو تعليماً لكتاب الله وما شابه ذلك إذا تراضى عليه المتعاقدان، فعن عامر بن ربيعة أن امرأة من بني فزارة تزوجت على نعلين فقال رسول الله : ((أرضيت عن نفسك ومالك بنعلين؟ فقالت: نعم فأجازه)) [رواه أحمد وابن ماجة والترمذي وصححه]. وعن أنس أن أبا طلحة خطب أم سليم فقالت: والله ما مثلك يرد، ولكنك كافر وأنا مسلمة، ولا يحل لي أن أتزوجك فإن تسلم فذلك مهري ولا أسألك غيره، فأسلم، فكان ذلك مهرها. وقال : ((يُمن المرأة في قلة مهرها ويسر نكاحها وحسن خلقها، وشؤمها غلاء مهرها وعسر نكاحها وسوء خلقها)).
2- الإنفاق عليها على قدر حالته المادية، والنفقة هي الطعام والشراب والملبس والمسكن وأن يكون ذلك كله من حلال، لا إثم فيه ولا شبهة، وليس من المروءة أن يتلذذ الزوج بما يشتهي في المقاهي والنوادي والرحلات. ثم يبخل بشيء من ذلك على زوجته، ومن فعل شيئاً من ذلك وترك زوجته بغير أكل ولا شراب أو يأكل أفضل مما تركه لها، فقد ارتكب إثماً كبيراً إذا لم تسمح له بذلك.وكم يقبح بالزوج أن ينفق على أهله المشبوه والحرام فيفسد بذلك حياتهما معاً، قال الله عز وجل: ولينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله لا يكلف الله نفساً إلا ما آتاها.
وسأل رجل رسول الله قائلاً: ما حق زوجة أحدنا عليه؟ قال: ((أن تطعمها إذا طعمت، وتكسوها إذا اكتسيت، ولا تضرب الوجه ولا تقبح ولا تهجر إلا في البيت)). وقال : ((كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يقوت)). وكل هذا حفظ ورعاية للزوجة ووقاية لها.
أيها المسلمون: إن الذي ينفق على نفسه بسخاء ثم يبخل على زوجته وأولاده ببعض ذلك قد يدفع بزوجته ثم بأولاده إلى طريق الفساد والانحراف، وهذا هو ما حرمه الإسلام ونهى عنه.
وأعظم الإسلام الأجر والثواب لمن أنفق على أهله وكفاهم ذل المهانة والافتقار عن الناس قال : ((إذا أنفق الرجل على أهله نفقة يحتسبها فهي صدقة)) وقال : ((دينار أنفقته في سبيل الله، ودينار أنفقته في رقبة أي في إعتاقها، ودينار تصدقت به على مسكين، ودينار أنفقته على أهلك، أعظمها أجراً الذي أنفقته على أهلك)).
وروى البخاري ومسلم عن عائشة أن هنداً بنت عتبة قالت: يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل شحيح، وليس يعطيني وولدي إلا ما أخذت منه وهو لا يعلم، قال : ((خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف)).
نفعني الله وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم. .
الخطبة الثانية
أما بعد:
عباد الله: ومن الحقوق للزوجة على زوجها غير المادية:
- وقايتها من النار وذلك بأن يعلمها دينها، كيف تؤمن بالله تعالى الإيمان الحق بأسمائه وصفاته على وجه التنزيه والتعظيم، وأن يعلمها أحكام العبادات من صلاة وطهارة وحيض ونفاس وصيام وزكاة وحج، وأن يبعدها كل البعد عما تعيشه النساء في عصرنا من شرك وشعوذة وذهاب إلى الكهان والسحرة والشوافين والأولياء والصالحين والقبور والأشجار والأحجار لقصد الشفاء والمال وغير ذلك، وأن يعلمها مكارم الأخلاق من تطهير القلب من أمراض الحسد والبغضاء والرياء، وتطهير اللسان من الغيبة والنميمة والكذب والسب والفحش واللعن، وأن لا يأذن لها في التبرج وإظهار مفاتنها أمام الرجال سواء بالبيت أو خارجه لئلا يكون شريكاً لها في الإثم والمعصية بل ويراقبها في ذلك كله ما استطاع إليه سبيلاً، لأن الرجل مكلف ومسؤول أمام الله عن وقاية زوجته وأولاده من النار وهو أمر من أمر الله تعالى حيث يقول عز من قائل في كتابه الكريم: يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة قال علي : (أدبوهم وعلموهم). وروى عن ابن عمر قال: حين نزلت هذه الآية: يا رسول الله نقي أنفسنا فكيف لنا بأهلنا؟ فقال : ((تنهونهم عما نهاكم الله عنه وتأمرونهم بما أمركم الله به فيكون بذلك وقاية)).
- معاشرتها بالمعروف حتى في حالة الكراهية لقوله تعالى: وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً وقال : ((لا يفرك مؤمن مؤمنة إن كره منها خلقاً رضي منها آخر)). ومن حقوقه عليها أن لا تأذن لأحد بدخول بيته من رجل قريب أو امرأة قريبة أو أجنبية إلا بإذنه، ولا يدخل هو عليها من لا يخاف الله تعالى فقد يخون بنظرة أو كلمة فيرمي في البيت شرارة فتنة فقد قال رسول الله : ((إياكم والدخول على النساء قالوا: يا رسول الله أرأيت الحمو؟ قال: الحمو الموت)) والحمو قريب الزوج أو قريب الزوجة كأبناء العم وأبناء الخال وأبناء العمات وأبناء الخالات أو أخ الزوج وقال : ((ثلاثة لا يدخلون الجنة: مدمن الخمر والعاق لوالديه والديوث الذي يقر الخبث في أهله ولا يبالي من دخل على أهله)).
- أن لا تخرج من بيته إلى طريق الجهلة من الرجال الذين لا يرضون إلا بإذلال زوجاتهن واستضعافهن فإن ذلك لا ينتج عنه إلا دفعها إلى التخلق بصفات الكذب والخيانة والنفاق وغير ذلك من أرذل الصفات فإن فعلت كان على الأسرة السلام.
- ألا يعرضها للفتن فيطيل غيابه عنها ويدفعها بذلك إلى الفسوق بقراءة القصص المثيرة أو يأخذها إلى دور الملاهي والخلاعة أو يسمعها أغاني الخنا والفسوق والفحش أو يجمعها مع الرجال الأجانب فإن المرأة تشتهي ما يشتهي الرجل، والحرام يشتهى أكثر من الحلال، ولقد كان عمر لا يسمح للمجاهد أن يتأخر عن أهله أكثر من أربعة أشهر. لما علم من ابنته سيدتنا حفصة رضي الله عنها أن المرأة لا تصبر على زوجها أكثر من ذلك خشية الفتنة، وما أحسن ما قالت فاطمة الزهراء بنت رسول الله حينما سألها أبوها : ((ما خير للمرأة؟ فقالت أن لا ترى رجلاً ولا يراها رجل، فضمها إلى صدره وقال: ذرية بعضها من بعض)) [رواه البزار والدارقطني].
- إعطاؤها حقها في المبيت أي الفراش وأن لا يميل عنها إلى غيرها بدون عذر شرعي خصوصاً إذا كانت معها زوجة أخرى، فالواجب على الزوج أن يعدل بينهما فإن لم يستطع العدل فليكتفي بزوجة واحدة لقوله تعالى: فإن لم تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم. ويقول تعالى: ولا تمسكوهن ضراراً لتعتدوا ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه. ويقول سبحانه: فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة وإن تصلحوا وتتقوا فإن الله كان غفوراً رحيماً. وقال في حديث السنن: ((من كانت له امرأتان فلم يعدل بينهما بعث يوم القيامة وشقه مائل)) وقال عمر : (ينبغي للرجل أن يكون في بيته كالصبي) أي في الإنس والبشر وسهولة الخلق.
- وأخيراً هذه نصائح أقدمها للرجل حتى يتحقق في حياته الزوجية ما ذكره الله في كتابه العزيز: ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة.
- فكن عادلاً أيها الرجل في كل تصرفاتك مع زوجتك.
- وكن عادلاً في التوفيق بين محبتك لزوجتك ومحبتك لوالديك وأهلك، فلا يطغى جانب على جانب، ولا يسيطر محبة على محبة، فأعط كل ذي حق حقه بالحسنى والقسطاط المستقيم.
- لا تذكر محاسن امرأة أخرى أمامها ولو كانت عمتك أو خالتك بل حتى أمك.
- أشعرها بأنها كل شيء في حياتك، والكذب في هذا المقام حلال بنص الشرع لإصلاح ذات البين، وبين الزوجين، وعلى العدو.
- كن لها كما تحب أن تكون هي لك في كل ميادين الحياة وجوانب الحياة الزوجية، فإنها تحب منك ما تحب منها.
- شاركها وجدانياً فيما تحب أن تشاركك فيه فزُر أهلها زيارات أسرية، ولك رسول الله أسوة حسنة فقد كان يهش للقاء بعض الصحابيات ويقول: ((إنها كانت صاحبة خديجة)) رضي الله عنها حتى أن عائشة رضي الله عنها تقول: (ما غرت على أحد ما غرت على خديجة من كثرة ما كان يذكرها بخير).
- لا تجعلها تغار من عملك بانشغالك به أكثر من اللازم، ولا تجعله يستأثر بكل وقتك وبخاصة إجازة الأسبوع، فلا تحرمها منك فيها، إما في البيت أو خارجه حتى لا تشعر بالملل وال سآمة خاصة إذا كانت زوجة محجبة وملتزمة بالإسلام لا تخرج إلا لحاجة.
- لا تكن مستبداً برأيك فاستشرها وخذ برأيها إن كان صواباً وإن خالفتها الرأي فاصرفها إلى رأيك برفق ولباقة، ولك في رسولك العظيم أسوة حسنة، فقد استشار أم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها في صلح الحديبية وكان رأيها خيراً وبركة. فقد خرج مغضباً قائلاً: هلك أصحابي فقالت: وكيف يا رسول الله؟ فقال: إنهم امتنعوا عن التحلل من الإحرام فقالت: يا رسول الله، اخرج عليهم وتحلل وانحر هديك وهم سيفعلون، وما أن فعل حتى لم يتأخر واحد منهم عن التأسي برسول الله .
- إذا دخلت بيتك فسلم على زوجتك وأولادك فلا تفاجئها، حتى تكون متأهبة للقائك ولئلا تكون على حال لا تحب أن تراها عليها خاصة إذا كنت قادماً من سفر.
- انظر معها إلى الحياة بمنظار إسلامي واحد، ولا تنس أنك المسؤول وأنك قائد السفينة ووصاك حبيبك وحبيبنا جميعاً .
فقال: ((رفقاً بالقوارير))، ((إنما النساء شقائق الرجال))، ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره واستوصوا بالنساء خيراً فإنهن خلقن من ضلع أعوج، وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه، إذا ذهبت تقيمه كسرته، وإن تركته لم يزل أعوج)).
هذه أيها المؤمنون هي حقوق الزوجة على زوجها، فوجب على الرجال الأزواج أن يفهموها ويعملوا بها ويبلغوها ما أمكن، وموعدنا في الجمعة المقبلة مع حقوق الزوج على زوجته، وهي الحقوق المشتركة فيما بينهما.
ــــــــــــــــــــ(67/324)
الطلاق
...
...
1865
...
الأسرة والمجتمع
...
...
قضايا الأسرة
...
صالح الجبري
...
...
الطائف
...
...
...
جامع الحمودي
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- أهمية عقد النكاح ، والتحذير من التفريط فيه. 2- وسائل تحفظ الزواج رغم الخلاف. 3- أحكام الطلاق. 4- أسباب حدوث الطلاق.
الخطبة الأولى
أما بعد:
إن استقرار الحياة الزوجية غاية من الغايات التي يحرص عليها الإسلام.
وعقد الزواج إنما يعقد للدوام وحتى تنتهي الحياة، لهذا وصفه الله سبحانه وتعالى بأنه ميثاق غليظ فقال: وَأَخَذْنَ مِنكُم مّيثَاقاً غَلِيظاً [النساء:21].
وإذا كان هذا العقد ميثاقاً غليظاً كما وصفه الله فإنه لا ينبغي الإخلال به، أو التهاون به، بل إن أي إنسان يحاول أن يفسد ما بين الزوجين من علاقة، فهو في نظر الإسلام حرام وإثم، كما أخبر بقوله: ((ليس منا من خبَّب امرأة على زوجها)).
وحذر الإسلام من أن الزوجة التي تفرط في هذه العلاقة، وتطلب الطلاق من زوجها، من غير سبب أو بأس، فإنها لن تدخل الجنة لقوله : ((أيما امرأة سألت زوجها طلاقاً من غير بأسٍ فحرام عليها رائحة الجنة)).
لكن الزواج قد يكون في حالات نعمة من نعم الله، وفي حالات أخرى كارثة من الكوارث، خاصة إذا كان الزوجان لا يقيمان حدود الله، ولا يقفان عندها.
ولكم أن تتصوروا مثلاً زوجاً فاسقاً شريراً، زانياً سكيراً، سيء العشرة لا يكف عن إهانة زوجته وضربها، ولا يقوم بالإنفاق على أولادها، إن الزواج من إنسان كهذا كارثة على الزوجة وأهلها.
ولكم أن تتصوروا أيضاً زوجة فاسقة شريرة، متبرجة، مبذرة، مؤذية لزوجها، لا تقوم بواجب الخدمة والرعاية، ولا هم لها إلا الزينة والمظاهر، إن الزواج من امرأة كهذه كارثة على الرجل وحياته، لهذا أليس الخلاص من زواج تعس كهذا نعمة جليلة من نعم الله، من هنا كان الطلاق نعمة عظمى إن كان الزواج كارثة كما ذكرنا.
لكن إذا كان الإسلام قد شرع الطلاق فإنه أيضاً قد حث على التروي والصبر وعدم الاستعجال فعند حصول طلاق بين الزوجين فالحل الصحيح هو محاولة إزالة هذا الخلاف بين الزوجين وبدون أن يشعر أحد بوجوده كما قال : ((استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان، وإن كل ذي نعمة محسود)).
فإذا لم تمكن السيطرة على هذا الخلاف يمكن إعلام أقرب المقربين إلى الأسرة لعله يستطيع إنهاءه، ولنا في بيت رسول الله أسوة حسنة فقد جاء إلى بيت فاطمة فلم يجد علياً.فسأل عنه فقالت، كان بينه وبينه شيء فغاضبني وخرج. فقال لرجل: ((أنظر أين هو؟)) فقال: هو في المسجد راقد. فجاءه وهو مضطجع، وقد سقط رداؤه عن شقه فأصابه تراب، فجعل يقول: ((قم يا أبا تراب، قم أبا تراب)). وما كان له اسم أحب إليه منه، [رواه البخاري عن سهل من سعد]. ونلاحظ هنا أن المشكلة قد انتهت بتوسط النبي بين الزوجين الصالحين.
وهنا قد يقول قائل:ربما استمر التوتر من جانب أحد الطرفين، فما هو العلاج؟ والعلاج موجود.
لو كان التوتر والإعراض من جانب الزوج وخافت الزوجة من ذلك فإن العلاج هو في قوله تعالى: وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الأنفُسُ الشُّحَّ وَإِن تُحْسِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً [النساء:128].
أي أن على الزوجين أن يعملا معاً وبهدوء للقضاء على التوتر بينهما.ولا مانع من أن تقوم الزوجة بعملية استرضاء لزوجها مالياً أو معنوياً حتى لا تفقده، وعلى الزوجين أن يستجيبا لدواعي الصلح والخير حتى تستمر الحياة بينهما.
أما إذا كان الإعراض من جانب الزوجة، وهو الذي سماه العلماء النشوز، والنشوز هو ترك المرأة التزين لزوجها، أو تعصيه في الفراش، أو تخرج من البيت بدون إذنه، أو تترك الصلاة أو الغسل، فإن العلاج هو في قوله تعالى: وَاللَّاتِى تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِى الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً [النساء:34].
إن علاج الزوجة الناشر، يبدأ بالوعظ بالعلم والقرآن، فإذا لم يغير فيهجرها في الفراش، فإذا لم يغير: فتضرب ضرباً لا يسيل دماً ولا يكسر عظماً ولا يكون في الوجه، فإن استجابت بعد ذلك ينبغي على الزوج أن يتوقف عن عمل أي شيء يغضبها، فإذا لم يفد فيها الوعظ والهجر والضرب لابد من اتخاذ إجراء آخر، وهذا الإجراء هو الإصلاح من خارج الأسرة، لأن الإصلاح من داخل الأسرة، قد أصبح غير مثمر، فلابد إذن من التحكيم.قال تعالى: وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ حَكَماً مّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مّنْ أَهْلِهَا. [النساء:35]. لماذا؟ حتى يقوما بدراسة الأحوال وأسباب النزاع بكل جد وإخلاص، فقد يوفقهما الله في إنهاء المشكلة كما قال تعالى: إِن يُرِيدَا إِصْلَاحاً يُوَفّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً خَبِيراً [النساء:35].
فإذا لم تنجح كل هذه المحاولات وأراد الرجل طلاق امرأته وهو الذي بيده الطلاق، لأنه أقدر من المرأة على ضبط أعصابه وانفعالاته وعلى معرفة المصالح والمفاسد. فإذا أراد أن يطلق فليطلق الطلاق الشرعي. بمعنى أنه إذا كان لابد من الطلاق فليطلقها على الوجه الشرعي، وهو أن يطلقها واحدة وهي غير حامل أو في طهر لم يجامعها فيه. ولا يحل له أن يطلقها وهي حائض ولا في طهر جامعها فيه، إلا إن تبين حملها، أو تحيض بعد ذلك فيطلقها بعد الحيض قبل أن يطأها. وإذا أراد رجل الطلاق فليطلق مرة واحدة فقط، ليكون ذلك توسيعاً على نفسه إن أراد أن يراجع. وإذا حدث ذلك فعلى الزوجة أن تبقى في بيت زوجها، وما يفعله الناس اليوم من إخراج الزوجة من بيت زوجها، إذا طلقت طلاقاً رجعياً فهذا خطأ وحرام لقوله تعالى: لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلاَ يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيّنَةٍ [الطلاق:1]. ثم قال بعد ذلك: وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ [الطلاق:1]. ثم بين الله الحكمة من وجوب بقاء الزوجة في بيت زوجها بقوله: لاَ تَدْرِى لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً [الطلاق:1].
وننبه إلى أنه يجوز للمطلقة الرجعية حال بقائها في المنزل، يجوز لها أن تكشف لزوجها وأن تتزين له وأن تكلمه.
ثم إن هذه الطلقة التي أوقعها الزوج إذا كانت واحدة أو اثنتان فإنها تعتبر طلقة رجعية، مادامت المرأة في العدة ويستطيع أن يراجعها كما قلنا سابقاً بالقول أو الفعل.
أما إذا انتهت العدة ولم يراجع الزوج زوجته، أصبحت الطلقة بائنة بمعنى أن الزوجة لا تعود إليه إلا بمهر وعقد جديدين مع رغبتها في ذلك قال تعالى: وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوء وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِى أَرْحَامِهِنَّ إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاْخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدّهِنَّ فِي ذالِكَ إِنْ أَرَادُواْ إِصْلَاحاً [البقرة:228].
فإن كان الطلاق أكثر من اثنتين فإنه لا يحل للزوج إرجاعها حتى تنكح زوجاً آخر، نكاحاً لا يقصد به التحليل قال تعالى: فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ [البقرة:230].
ولا يجوز للرجل أن يعلق طلاق زوجته بقصد الانتقام منها فيتركها معلقة، لا يجوز أن يستمر ذلك أكثر من فترة أربعة أشهر كما قال تعالى: لّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نّسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِن فَآءوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ وَإِنْ عَزَمُواْ الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [البقرة:226-227].
أما إذا كان طلب الطلاق من جانب المرأة، فقد أباح لها الإسلام أن تتخلص من الزوجية بطريق الخلع، وذلك بأن تعطي الزوج ما كانت أخذت منه باسم النكاح لينهي علاقته بها وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّا ءاتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلاَّ أَن يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ [البقرة:229]. لأنه مادام أنه هو الذي بذل المهر والتكاليف والنفقة، وهي قابلت هذا بالجحود وطلبت الفراق، فمن العدل أن ترد عليه ما أنفقه عليها، لهذا لما جاءت امرأة ثابت بن قيس إلى الرسول فقالت: يا رسول الله ما أعتب عليه في خلق ولا دين، ولكني أكره الكفر في الإسلام، كفران المعشر. فقال : ((أتردين حديقته؟ قالت: نعم، فقال رسول الله: اقبل الحديقة وطلقها طلقة)) [البخاري ومسلم عن ابن عباس].
أما بالنسبة للعدة، فإن كانت حاملاً فإلى وضع الحمل، سواءً طالت المدة أو قصرت، لقوله تعالى: وَأُوْلَاتُ الاْحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ [الطلاق:4]. أما إذا كانت غير حامل وهي من ذوات الحيض فعدتها ثلاث حيض كاملة، بغض النظر عن المدة. قال تعالى: وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوء [البقرة:228].
أما التي لا تحيض لكبرها أو صغرها، فعدتها ثلاثة أشهر، لقوله تعالى: وَاللاَّئِى يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِن نّسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّاتِي لَمْ يَحِضْنَ [الطلاق:4].
عباد الله: اتقوا الله واحذروا الطلاق بما شرعه الله فيه وفي غيره، فإنه خير لكم في العاجل والآجل.
وقد يقول سائل: إننا نلاحظ زيادة في حالات الطلاق في السنوات الأخيرة، فما هو السبب؟ والجواب:أن أسباب الطلاق كثيرة لعل من أهمها التهور والاندفاع من الرجل الجاهل بالدين الذي يستخدم حقه في الطلاق كسلاح يلوح ويهدد به دائماً. بل ويستخدمه في كثير من الأحيان عبثاً دون وعي بخطورته، ودون حاجة إليه ثم يندم على ذلك لا ويكون أول المتضررين بوقوعه. فتراه يردد كلمة الطلاق، في مناقشاته وكلامه وهازلاً أو غاضباً، قائماً أو قاعدا، ويتخذه لهواً ولعباً، وصدق الله: وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ [الطلاق:1]. ليس هذا فقط بل إنه يصل به الحال إلى أنه قد يحرم زوجته على نفسه بالظهار مرة، ومرة يحلف ألا يقربها طوال مدة معينة ظلماً، ومدة يعرض عنها ويهجرها بدون سبب، هضماً لحقوقها، وتقصيراً في واجباته نحوها نتيجة لأنه ملَّ منها أو لأنه تزوج عليها.
بل يستعمله بدلاً من اليمين فإذا أراد أن يحلف على نفسه أو على غيره قال: عليّ الطلاق.
ومن الأسباب العامة لحدوث الطلاق: عدم اختيار الزوج الصالح. فرغم أن الرسول قال: ((إذا أتاكم من ترضون دينه وأمانته فزوجوه)) إلا أن الكثير لا يزوجون إلا من يرضون ماله ووظيفته ومركزه الاجتماعي، أما الدين فالأمر لديهم مختلف.
ومن الأسباب:عدم التزام الزوج بحقوق الزوجة كأن يكون دائم الخروج من المنزل، وعدم الاستقرار فيه، كمثل أحدهم الذي كان يسهر مع أصدقائه إلى آخر الليل، تاركاً زوجته لوحدها وبعض الأحيان كان يتركها وحيدة ويسافر إلى الخارج ليمتع نفسه بالحرام والعياذ بالله.فماذا كانت النتيجة. النتيجة أن المشاكل كثرت بينهما حتى وصلت بها الحال إلى الطلاق.
ومن الأسباب:زواج المرأة بمن تكره أما لكبر سنه أو لعيب فيه.وسبب هذا هو طمع الأولياء في الحصول على المال الكثير، وهذا لا يجوز في الشرع أبداً. ويكفي أن نعلم في هذا قول النبي : ((لا تنكح الأيم حتى تستأمر، ولا البكر حتى تستأذن)).
وجاءت امرأة إلى النبي فذكرت أن أباها زوجها وهي كارهة، فخيرها ، فأي زواجَ بني على عدم الرضا نهايته الفشل والطلاق، وقد يتسبب في انحراف المرأة أخلاقياً.
ومن الأسباب: أن الرجل قد يتزوج الفتاة بالنظر إلى جمالها أو أسرتها. وقد تكون من أسرة ثرية وقد تعودت على النعمة ورغد العيش في منزل أهلها. وعندما تأتي إلى بيت زوجها لا تقدر ظروفه المادية، ولا يهمها إلا الحصول على رغباتها وطلباتها.
والحاصل: أن الزواج الذي يتم دون مراعاة للفروق الاقتصادية والاجتماعية، قد ينتهي دائماً بالطلاق كما هو مشاهد وملموس. وشاهد على هذا ما رواه أحد الشباب من دولة عربية كان يعيش في المملكة. قال: إن زوجته عاشت معه هنا عدة أعوام في هناء وحبور، ولكنها في النهاية تقدمت إلى المحكمة بطلب الطلاق منه، عندما علمت بانتهاء عقد عمله بالمملكة.
ومن الأسباب:تدخل الأهل في مشاكل الزوجين دون طلب منهما، مما يزيد مشاكل كل الزوجين حدة وعناداً.
تقول إحدى المطلقات:أنها كانت في غاية السعادة مع زوجها إلى أن سكنت والدة الزوج معها في بيت واحد. وهذه ليست المشكلة ولكن المشكلة هي أن هذه الوالدة قد أكثرت من تدخلاتها في حياتهما الخاصة. حتى انتهى الأمر بهما إلى الطلاق. فأين أمثال هؤلاء عن قوله : ((ليس منا من أفسد امرأة على زوجها)).
قد يطلق الرجل المرأة انتقاماً منها أو استجابة لطلب الزوجة الجديدة، ورغبتها في ذلك. وقد نهى من ذلك بقوله: ((لا تسأل المرأة طلاق أختها لتستفرغ صحفتها ولتنكح فإنما لها ما قدر لها)).
وأهم الأسباب على الإطلاق:هو ضعف الوازع والإيمان في قلوب الكثير من الناس. الأمر الذي أدى بهم إلى الوقوع في المعاصي، والتي انتهت بهم إلى الطلاق: وإليكم أمثلة على ذلك.
المثال الأول: زوج يشرب الخمر ويتحدى الله ويتحدى زوجته بشره حتى ضاق بها الأمر فتقدمت إلى المحكمة بطلب الطلاق منه، ولكنه أمام القاضي أنكر ما نسبته إليه وتحداها أن تثبت ذلك عليه، وفعلاً عجزت الزوجة عن الإثبات وتحداها. لكن الله أراد أن يفضحه أمام زوجته وأمام الناس فألقي القبض عليه داخل بيته، وحكم على نفسه وعلى زوجته بالضياع.
مثال آخر: زوجة ذكرت أن سبب طلاقها يعود إلى أن زوجها طلب منها أن تكشف أمام إخوته وأبناء عمومته وأخواله فرفضت في حياء، فكان مصيرها الطلاق.
وأخرى: ذكرت أن سبب طلاقها يعود لرفضها السماح لابن أخ زوجها الذي يبلغ 22 عاماً السكن معها في بيت الزوجية.
وأخرى: تقول أنه لا ذنب لها في الطلاق سوى أنها أنجبت أربع بنات ولم تنجب الذكور فطلقها ولكن إرادة الله شاءت أن تتزوج من رجل آخر وأن تنجب منه مولوداً ذكراً.
لهذا يا أخوة علينا أن نرجع إلى الله ونتوب إليه ولتكن حياتنا الزوجية منذ اللحظة الأولى على ما يحبه الله ويرضاه. وليكن اختيارنا للزوج كما قال : ((إذا جاءكم من ترضون دينه وأمانته فزوجوه)) وليكن اختيارنا للزوجة كما قال : ((تنكح المرأة لأربع، لمالها ولحسبها ولجمالها ولدينها، فاظفر بذات الذين تربت يداك)) الدين أولاً ثم يأتي بعده الأمور الأخرى.
وعلى الأزواج أن يعرفوا أن المرأة لا تكون خالية من العيوب والنقص. إذ لابد أن يوجد فيها نقص أو خلل، كما قال : ((إن المرأة خلقت من ضلع أعوج، وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه.فإن ذهبت تقيمه كسرته، وأن استمتعت به استمتعت به وبه عوج)) وفي رواية: ((كسرها طلاقها)).
لهذا فالزوج العاقل يصبر ويتصبر ويتحمل ما يراه من نقص. كما أن على الزوجة أن تعرف أن زوجها هو جنتها ونارها كما أخبر الرسول . لهذا عليها أن تتحمل ما تراه من مساوئ زوجها. وأن ترضى بما قسم الله لها وتجاهد في ذلك، فإن عملها هذا، وهو حسن تبعلها لزوجها، يعدل الجهاد في سبيل الله كما أخبر ، وذلك أسهل وأهون من الطلاق الذي يدمر الأسر ويشتت الأولاد ويجلب التعاسة، فالحذر الحذر من الطلاق وما يؤدي إليه.
فهل نحن فاعلون؟ نرجو ذلك ونتمناه.
ــــــــــــــــــــ(67/325)
الأسرة في الإسلام ـ تربية الأولاد ـ
...
...
1901
...
الأسرة والمجتمع, العلم والدعوة والجهاد
...
...
الأبناء, التربية والتزكية
...
سعيد بن يوسف شعلان
...
...
جدة
...
...
...
عمار بن ياسر
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1 ـ ينشأ الطفل على ما رباه أبوه عليه. 2 ـ أمور ينبغي أن يتنبه لها الوالدان في تربيتهما للأبناء. 3 ـ عامة فساد الأبناء بسبب الآباء. 4 ـ إبعاد الأبناء عن الخنوثة. 5 ـ مراعاة رغبات الأبناء ومصالحهم. 6 ـ تربية الأبناء واجب شرعي ومسئولية أمام الله. 7 ـ العدل بين الأبناء في العطية.
الخطبة الأولى
أما بعد: فإن أصدق الحديث كلام الله تبارك وتعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، أما بعد:
فهذا آخر ما أتكلم عليه من الأحكام المتعلقة بالأولاد في الإسلام، ألا وهو حكم تربيتهم وتأديبهم وتعليمهم والعدل بينهم؛ لأنهي هذه السلسلة من الخطب، والذي كان موضوعها الأسرة في الإسلام.
أما عن تربية الأطفال فإن مما يحتاج إليه الطفل غاية الاحتياج الاعتناء بأمر خلقه، فإنه ينشأ على ما عوده المربي في صغره من حرص وغضب ولجاج وعجلة وخفة مع هواه وطيش وحِدهَ وجشع، فيصعب عليه في كبره تلافي ذلك، وتصير هذه الأخلاق صفات وهيئات راسخة له، فلو تحرز منها غاية التحرز فضحته ولا بد يومًا ما، ولذلك تجد أكثر الناس منحرفة أخلاقهم، وذلك من قِبَل التربية التي نشؤوا عليها ولقنهم أثناءها المربي ما لا يجوز تلقينه ولا تعليمه من الأخلاق والعادات الرذيلة، وكذلك يجب أن يُجنب الصبي إذا عقل مجالس اللهو والباطل والغناء وسماع الفحش والبدع ومنطق السوء فإنه إذا علق بسمعه عَسُر عليه مفارقته في الكبر، وعزَّ على وليه استنقاذه منه، فتغيير العوائد من أصعب الأمور [التي] يحتاج صاحبها لإستجداد طبيعة ثانية والخروج عن حكم الطبيعة عسير جدًا، وينبغي لوليه أن يجنبه الأخذ من غيره غاية التجنب، فإنه متى اعتاد الأخذ صار له طبيعة، ونشأ بأن يأخذ لا بأن يُعطي، وعوده البذل والإعطاء، وإذا أراده أن يعطي شيئًا فليعطه إياه على يده، وليأمره بأن يتولى هو بنفسه إعطاءه لغيره ليذوق حلاوة الإعطاء. على ولي الطفل أن يعطيه الشيء ويقول: يا بني أعطي هذا لفلان ليذوق الولد الصغير حلاوة الإعطاء، وليعتاد على ذلك.
وعلى وليه أن يجنبه الكذب والخيانة أعظم مما يجنبه السُم الناقع، فمتى سهل له سبيل الكذب والخيانة أفسد عليه سعادة الدنيا والآخرة، وحرمه كل خير، هذا أمر في غاية الأهمية، ما ينشأ الطفل الصغير على الكذب والخيانة إلا بعد أن يرى أحد أبويه يفعله ويأتيه، يكذب إما على أقاربه أو ضيفانه أو يكذب أحدهما على الآخر، والولد يراقب ذلك فيعتاده، وينشأ على أن هذا الأسلوب مُنج ومُفلت من العقاب ومن الحرج، ينبغي على ولي الطفل أن يجنبه ذلك أعظم من حرصه على تجنيبه السُم الناقع الذي يهلكه ويميته.
ويجنبه الكسل والبطالة والدعة والراحة، بل يأخذه بأضدادها ولا يريحه، إلا بما يجم نفسه وبدنه للشغل فإن للكسل والبطالة عواقب سوء ومغبة ندم وللجد والتعب عواقب حميدة إما في الدنيا وإما في العقبى وإما فيهما فأروح الناس أتعب الناس، وأتعب الناس أروح الناس، والسيادة في الدنيا والسعادة في العُقبى لا يوصل إليها إلا على جسر من التعب، قال يحيى بن أبي كثير رحمه الله: لا يُنال العلم براحة الجسم.
وقال الشافعي رحمه الله في أبيات نُسبت إليه وفي شطر منها مخاطبًا طالب العلم، يقول:
"وتنام الليلَ وأسهرُ وتبغي لحاقي"
أنت تنام الليل وأسهرٌ طالبًا له وتبغي لحاقي هيهات.
وعلى ولي الأمر أن يعود صبيه الانتباه آخر الليل، فإنّه وقت قسم الغنائم وتفريق الجوائز من الله عز وجل على خلقه فمستقل ومستكثر ومحروم. فمن الناس من يكون نصيبه قليلاً إذا استيقظ شيئًا قليلاً من آخر الليل، ومنهم من يكون نصيبه كبيرًا إذا استيقظ قبل نهاية الليل بوقت أطول، ومنهم من هو محروم ذلك الذي لا يستيقظ البتة.
فمتى اعتاد الصبي ذلك صغيرًا سهل عليه ذلك كبيرًا. ولم يشكو في كبره الحرمان من قيام الليل والانتباه آخر هذه الأوقات، وينبغي على ولي الصبي أن يجنبه فضول الطعام والكلام والمنام ومخالطة الأنام يجنبه الفضول من هذه الأمور ما لا حاجة إليه من الطعام والمنام والطعام ومخالطة الأنام التي لا حاجة إليه منها. يعود الولي ابنه على أن يتجنبها فإن الخسارة في هذه الفضلات، وهي تفوت على العبد خير دنياه وآخره، وينبغي عليه أن يجنبه مضار الشهوات المتعلقة بالبطن والفرج غاية التجنب. فإن تمكينه من أسبابها والفتح له فيها يفسده فسادًا يعز عليه بعدها صلاحه، وكم من والد أشقى ولده وفلذة كبده في الدنيا والآخرة بإهماله وترك تأديبه وإعانته له على شهوته، وبزعم أنه يُكرمه وقد أهانه، وأنه يرحمه وقد ظلمه وحرمه، ففاته انتفاعه بولده، وفوت عليه حظه في الدنيا والآخرة.
وإذا اعتبرت الفساد في الأولاد رأيت عامته من الآباء، يجيبون أولادهم إلى كل ما يطلبون، ويمكنونهم الأموال الطائلة ومن العكوف على الشهوات مادام فيها سعادتهم، وهذا من أعظم الأخطاء في التربية، بل ينبغي أن يُعود الولي ابنه على ألا يجيبه أحيانًا إلى ما يطلب وأن يمنعه أحيانًا مما يطلب فإن ذلك في صالحه.
والحذر كل الحذر من تمكينه مما يزيل عقله من مسكر وغيره، أو عِشْرة من يُخشى فساده أو كلامه له أو الأخذ منه ينبغي عليه أن يجنبه ذلك، وأن يحرص على متابعته حتى لا يتعود هذه الأمور فتفسده، بل وتهلكه، وينبغي عليه أن يجنبه من يخشى فساده أو كلامه له، يكون ذا كلام سيئ، أو الأخذ منه فإن ذلك الهلاك كله.
فمتى سهل على الصبي ذلك فقد سهلت عليه الدياثة، ولا يدخل الجنة ديوث.
فما أفسد الأبناء مثل تفريط الآباء واهمالهم واستسهالهم شرر النار بين الثياب، فأكثر الآباء يعتمدون مع أبناءهم أعظم ما يعتمده العدو الشديد العداوة مع عدوه وهم لا يشعرون، فكم من والد حرم ولده خير الدنيا والآخرة وعرضه لهلاك الدنيا والآخرة، وكل هذا عواقب تفريط الآباء في حقوق الله وإضاعتهم لها وإعراضهم عما أوجب الله عليهم من العلم النافع والعمل الصالح، حرموا أنفسهم الانتفاع بأولادهم وحرموا أولادهم خيرهم ونفعهم لهم، وهذا من عقوبة الآباء حتى إنهم ليحكون أن بعض الأبناء قال لأبيه لما عاتبه أبوه بسبب عقوقه له. قال: يا أبت عققتني صغيرًا فعققتك كبيرًا، وليس في ذلك دعوة إلى مبادلة سوء تربية الآباء بالعقوق في الكبر فمهما كان من الوالدين فإنهما يُبران ويطاعان إلا في معصية الله عز وجل، وهذا أمر إنما هو نتيجة لسوء تربيتهم لهم. حرمهم الانتفاع بأولادهم في الكبر وحرم أولادهم خيرهم ونفعهم لهم.
وينبغي لولي الأمر أن يجنب الولد دون البنت لبس الحرير والذهب؛ فإنه مفسد له ومخنث لطبيعته كما يخنثه اللواط وشرب الخمر والسرقة والكذب.
وقد قال : ((حُرم الحرير والذهب على ذكور أمُتي وأُحل لإناثهم)).
والصبي وإن لم يكن مكلفًا فوليه مكلف، لا يحل له تمكينه من المحرم فإنه يعتاده ويعسر فطامه عنه، وهذا أصح قولي العلماء، منع الأطفال (الذكور) من لبس الحرير والذهب، هذا أصح قولهم.
ومما ينبغي أن يعتمده الولي في تربية ابنه حال الصبا وما هو مستعد له من الأعمال ومهيأ له منها، فيعلم أنه مخلوق له، فلا يحمله على غيره مادام مأذونًا فيه شرعًا، فإنه إن حُمل على غير ما هو مُستعد له لم يفلح فيه وفاته ما هو مهيأ له. ومعنى ذلك ببساطه: أن على الولي أن يلاحظ ابنه وما هو نابغ فيه متطلع إليه، فلا يحمله إلى غيره مادام هذا الذي تطلع إليه الصبي ليس حرامًا شرعًا، فإن الولي إذا حمل ابنه على غير ما هو مستعد له لم يُفلح فيه، لأنه مخلوق لهذا الأمر الذي تطلع إليه ونبغ فيه مثلاً كأن يكون مهيأ لدراسة العلم الشرعي فيُجبر على أن يطلب علم الكيمياء والرياضيات والعلوم مثلاً، فلا يُفلح في ذلك لأنه أبدى استعدادًا لحفظ القرآن والحديث وعنده ذاكرة وحافظة جيدة، لكنه لما أجبر على ما هو غير مستعد له لم يُفلح فيه، أو أن يجبر ولده على تعلم الرياضيات وهو متفوق في العلوم ونحو ذلك وهَلم جرا.
فإذا رآه حسن الفهم، صحيح الإدراك، جيد الحفظ واعيًا فهذه من علامات قبوله وتهيؤه للعلم فلينقشه إذن في لوح قلبه ما دام خاليًا، فإنه يتمكن منه ويستقر ويزكو معه.
وإن رآه بخلاف ذلك من كل وجه وهو مستعد للفروسية وأسبابها من الركوب والرمي واللعب بالرمح، وأنه لا نفاذ له في العلم ولم يُخلق له، فليمكنه من أسباب الفروسية والتمرن عليها، فإنه أنفع له وللمسلمين، وإن رآه بخلاف ذلك وأنه لم يخلق لذلك ورأى عينه مفتحة لصنعة من الصنائع مستعدًا لها وهي صناعة مباحة نافعة للناس فليمكنه منها.
هذا كله بعد تعليمه له ما يحتاجه في دينه؛ فإن ذلك ميسر على كل أحد، لتقوم حجة الله على العبد فإن له على عباده الحجة البالغة، كما له عليهم النعمة السابغة. والله أعلم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله وصفيه من خلقه وخليله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا، أمّا بعد:
فإنه ينبغي تأديب الأولاد وتعليمهم لقوله تعالى في سورة التحريم:
يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً [التحريم: 6]، قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "علموهم وأدبوهم"، وقال الحسن البصري رحمه الله: "مروهم بطاعة الله وعلموهم الخير".
وفي المسند وسنن أبي داود من حديث عمر وابن شعيب عن أبيه عن جده قال رسول الله : ((مروا أبناءكم بالصلاة لسبع واضربهم عليها، لعشر وفرقوا بينهم في المضاجع))، ففي هذا الحديث ثلاثة آداب: أمرهم بالصلاة وضربهم عليها، والتفريق بينهم في المضاجع.
وفي معجم الطبراني عن جابر ابن سمرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((لأن يؤدب أحدكم ولده خير له من أن يتصدق كل يوم بنصف صاع على المساكين)).
وقال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أدّب ابنك فإنك مسؤول عنه، ماذا أدّبته؟ وماذا علمته؟ وهو مسؤول عن برك وطواعيته لك.
وقال سعيد بن منصور: حدثنا حزم قال: سمعت الحسن البصري رحمه الله وسأله كثير ابن زياد عن تفسير قوله تعالى: رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْواجِنَا وَذُرّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ [الفرقان:74].
فقال يا أبا سعيد: أفي الدنيا أم في الآخرة؟ هذا المسؤول في الآية ربنا هب لنا يكون في الدنيا أم في الآخرة؟ قال الحسن: "لا والله بل في الدنيا أن يُري العبد من زوجته من أخيه من حميمه طاعة الله" لا والله ما شيء أحب إلى المرء المسلم من أن يرى ولدًا أو والدًا أو حميمًا أو أخًا مطيعًا لله عز وجل!!.
وفي صحيح البخاري من حديث نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((كلكم راعٍ ومسئول عن رعيته، فالأمير راع على الناس ومسؤول عن رعيته، والرجل راع على أهل بيته وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة راعية على بيت بعلها وولده وهي مسؤولة عنهم، والعبد راع على مال سيده وهو مسؤول عنه)) ألا فكلكم راع ومسؤول عن رعيته، وحسبكم بذلك تنبيهًا وإيقاظًا وإرشادًا إلى ما أنتم بصدده من سؤال الله عز وجل عما استرعاكم إياه.
ومن حقوق الأولاد العدل بينهم في العطاء والمنع، ففي السنن والمسند وصحيح ابن حبان من حديث النعمان ابن بشير رضي الله عنهما قال قال رسول الله : ((اعدلوا بين أبناءكم، اعدلوا بين أبناءكم، اعدلوا بين أبناءكم)).
وفي الصحيح من حديث النعمان بن بشير أيضًا رضي الله عنهما أن أباه أتى به النبي , (بشير بن سعد أتى بابنه النعمان النبي ) فقال: إني نحلت ابني هذا غلامًا كان لي ـ نحلته أي أعطيته ومنحته ـ غلامًا أي عبدًا ليكون ملكًا له. فقال عليه الصلاة والسلام: ((أكل ولدك نحلت مثل هذا؟)) (أعطيت كل واحد من أولادك غلامًا كما أعطيت النعمان). قال: لا. فقال: ((أرجعه)). وفي رواية لمسلم ((فعلت هذا بولدك كلهم؟)) قال: لا. قال: ((اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم)) قال النعمان بن بشير: فرجع أبي في تلك الصدقة.
وفي الصحيح أنه قال لبشير أيضًا ـ في رواية أخرى ـ : ((أشهد على هذا غيري)) وهذا أمر تهديد لا للإباحة. النبي يهدد لا يبيح له أن يُمضي هذه العطية ولكن بشهادة غيره، فإن تلك العطية كانت جورًا بنص الحديث في روايات أخرى، قال عليه الصلاة والسلام: ((هذا جَور)) كانت جورًا بنص الحديث، والرسول لا يأذن لأحد أن يشهد على صحة الظلم، ومن ذا الذي كان يشهد على عطية أبى رسول الله أن يشهد عليها، وأخبر أنها لا تصلح، وأنها جورًا، وأنها خلاف العدل.
وإلى هذا الحد أصِل إلى آخر ما أمكنني أن أذكره حول موضوع الأسرة في الإسلام زوجًا وزوجة وأولادًا. سائلاً ربي عز وجل أن يجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
ــــــــــــــــــــ(67/326)
تكملة عن النكاح ونفقاته (2)
...
...
1975
...
الأسرة والمجتمع, فقه
...
...
النكاح, قضايا المجتمع
...
سعد بن عبد الله العجمة الغامدي
...
...
الطائف
...
...
...
سعيد الجندول
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- ظاهرة غلاء المهور. 2- صور صحية في محاربة هذه الظاهرة. 3- دعوة لتخفيف نفقات النكاح. 4- الإسراف والتبذير في نفقات النكاح.
الخطبة الأولى
أما بعد: فلقد كان الحديث في الخطبة السابقة عن النكاح والعقبات التي تحول دونه، ومنها: عزوف كثير من الشباب ذكورهم وإناثهم عن الزواج، وكذلك عضل النساء وعدم تزويجهن بالأكفاء في الدين والخلق، والحديث الآن إن شاء الله عن معوِّق وعقبة كؤود عظيمة انتشرت في المجتمع بين الغني والفقير والرفيع والوضيع على حد سواء إلا من رحم الله، وأصبح من الصعب التخلي عنها إلا ممن وفقه الله، وهذه العقبة هي نفقات الزواج وتكاليفه ابتداءً من المهر ومروراً بوليمة العرس وما يتبعها وانتهاءً بتجهيز بيت الزوجية وما يلحقه.
فهذه المعوقات والتكاليف ابتدعها الناس وتمادوا فيها حتى صار الزواج من الأمور الشاقة الثقيلة البالغة حدّاً لا يطاق لدى كثير من الراغبين فيه، إلى درجة أنهم لا يستطيعون أن يصلوا إلى الحلال إلا بديون تشغلهم وتأسر ذممهم لدائنيهم، وعندما تكون هذه حال المجتمع فكيف نأمن الفساد وهتك الأعراض من الجنسين لأن الطريق إلى الحلال مسدودة أمامهم وتحول دونه العراقيل والعقبات الشاقة التي لا يستطيعها كثير من الناس، وعندما تكون الطريق إلى الحرام ودواعيه سهلة وميسورة على النقيض من الحلال فماذا نتوقع؟ وماذا ننتظر؟ إن طرح السؤال والجواب عنه ينبغي أن يفكر كل فرد منا فيه ويتأمل عواقبه وليس بخافٍ على أحد، ولكن التأمل والتفكير وإيجاد الحلول مطلوب من الجميع، ومن تأمل الواقع وسمع ورأى وعلم عما يدور حوله وتحركت غيرته وخاف على مستقبل أمته وحرص على أمن مجتمعه وصون أعراض أفراده لم يهدأ له بال حتى يرجع المسلمون إلى الطريق السوي ويسلكوا نهج السلف الصالح من أمتهم في هذا المجال وغيره، ومع هذا فهم على خوف ووجل لأن الفتنة والمصيبة عامة كما قال تعالى: وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً [الأنفال:25]. إن غلاء المهور أصبح ظاهرة ومرضاً اجتماعياً لا يسلم منه إلا القليل ممن وفقهم الله وسنوا سنة حسنة في ذلك في هذا العصر، علموا وعرفوا أنه ليس المقصود بالنكاح المال، وليست المرأة سلعة تباع وتشترى أو تمنع بحسب ما يبذل فيها من المال، ليس المقصود من الزواج المال، وإنما المال وسيلة إليه، وليست المرأة سلعة من السلع بل هي أكرم وأرفع من ذلك، هي أمانة عظيمة وجزء من الأهل، والمال لا قيمة له، والمغالاة في المهور ونفقات الزواج لا يبالغ فيه إلا من قل حظّه من الفقه ومن تطبيق تعاليم الإسلام في جميع شئون الحياة.
والسنة الثابتة في المهور هو تخفيفها وتسهيلها حتى تحل البركة في الزواج والوئام والألفة بين الزوجين، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أعظم النكاح بركة أيسره مؤونة)). وقد تزوج رجل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم امرأة بنعلين وأجاز النبي صلى الله عليه وسلم نكاحه، وقال لرجل: ((التمس ولو خاتماً من حديد)) فلم يجد شيئاً فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((هل معك شيء من القرآن؟ قال نعم: سورة كذا وكذا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: زوجتكها أو قال: ملكتكها بما معك من القرآن)). وقال صلى الله عليه وسلم لرجل عندما قال له: يا رسول الله إني تزوجت امرأة على أربع أواقٍ يعني مائة وستين درهماً، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((على أربع أواقٍ !! كأنما تنحتون الفضة من عرض هذا الجبل)) يشير بذلك عليه الصلاة والسلام إلى مغالاة هذا الصحابي في المهر وسوء فعله وصنيعه ذلك. فلو كان ارتفاع المهور والمغالاة فيها مكرمة وخيراً في الدنيا أو تقوى عند الله تعالى لكان أولى الناس بها رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لا تغالوا في صُدق النساء - يعني مهورهن - فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا أو تقوى في الآخرة كان أولاكم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فيا أيها المسلمون: إذا كانت المغالاة في المهور مرضاً منتشراً في المجتمع فإن من المسلمين من هم قدوة حسنة في الخير قد سنوا سنة حسنة وخرجوا عن العادات السيئة المنتشرة بين الناس وسلكوا طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وعلموا أن الخير كله في اتباع ما جاء به رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم، وإنه لمما يثلج الصدر عندما يسمع المسلم أن شخصاً أو أشخاصاً خطبت منهم بناتهم فاشترط كل واحد على الخاطب أن لا يدفع مهراً سوى كذا من المال، أي أنه سمى مهراً قليلاً جداً، وهذا نوع وصنف من الناس الموجودين في المجتمع، وصنف آخر يدفع الخاطب المهر ويكون مهراً متوسطاً فيأخذ أبو الزوجة منه ألف ريال أو أقل من ذلك ويردّ الباقي على الخاطب، ومثل هؤلاء سمعنا عنهم كثيراً، ورجل ضرب مثلاً رائعاً وذلك بأنه رأى رجلاً صالحاً غير متزوج وسأله عن سبب عدم زواجه، فأخبره بأنه لا يستطيع تكاليف الزواج من مهر وخلافه، فقال له هل ترغب الزواج إذا زوجك أحدٌ ابنته؟ قال الرجل: نعم ولِمَ أمتنع عن ذلك؟ فقال له هذا القدوة الحسنة: أعدّ نفسك للزواج من ابنتي، فجهز ابنته بما تحتاجه مثيلاتها وقام بجميع تكاليف الوليمة وإعداد بيت الزوجية، وتم الزواج السعيد بين الزوجين، واستغرب الناس هذا الصنيع من هذا الرجل وفي مقدمتهم الزوج الذي لم يكد يصدق أن هذا النوع من الناس موجود في المجتمع.
والحقيقة إن المسلمين لا يزالون بخير متى حُرِّكَت فيهم دوافع الخير وأقدم أحدهم على فعل الخير مهما كان من عقبات في طريقه، ولكن هذه الأمثلة هي قلة بالنسبة للملايين الذين هم على نقيض ذلك، وإن كنا نستبشر خيراً بانتشار الوعي ومعرفة الواقع المؤلم الذي مرّ به كثير من الشباب ولا يزال يعانيه الكثير إلى الآن، وفي إحدى البلاد المجاورة اتفق أهلها على أن يجعلوا المهر مائة ريال فقط فأقبل الشباب على الزواج ولم يبق أحد من الشباب والشابات دون زوج، فحصل أن تزوج شابان صالحان كل منهما بمهر قدره مائة ريال وعقد لهما في المسجد وصنع كل منهما وليمة مبسطة وميسرة وسافر أحدهما مع زوجته إلى المدينة للعمل هناك، والآخر إلى مدينة أخرى، فأرسل أحدهما إلى صاحبه رسالة يذكر له عن مدى السعادة التي يعيشها مع زوجته بسبب بركة قلة المهر والتكاليف إلى غير ذلك، وقال: إنني لا أرى أحداً أسعد مني على وجه الأرض، فعندما قرأ صاحبه الرسالة رد عليه إلى أن ذكر عن السعادة فقال لا ترى أحداً أسعد منك إلا أنا، أي أنه هو الآخر يحس بسعادة غامرة بسبب قلة المهر وتكاليف الزواج، وهذا الواقع يصدقه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قال فيه: ((أعظم النكاح بركة أيسره مؤونة)).
فكلما قلت التكاليف والديون عن ظهر الزوج حلت البركة وظهر أثرها على الزوجين، لأن المغالاة في ذلك ينعكس أثرها على الحياة الزوجية، فعندما يكون الزوج مثقلاً بالديون يكون أسيراً لدائنيه ويحمل همّ الدين، وعند أقل شجار مع زوجته يعيّرها ويسبّها بأن أهلها لم يرحموه في دفع مهرها والطلبات الأخرى، وعندما يريد أن يوسّع عليها في النفقة لا يستطيع ذلك لأن تكاليف الزواج أثقلت كاهله حيث تمر السنوات الطوال وتتعدى عشر سنوات وهو لا يزال يسدد الديون، فهو على كل حال على حساب الزوجة سواءً قل أو كثر، وهي التي سوف تصلى جحيمه وناره عند ارتفاعه أو تحيا حياة كريمة مع قلته، هذا بالنسبة للغالبية العظمى في المجتمع، علماً بأن المهر في الشرع هو للزوجة وليس كما يتصوره ويفعله بعض الناس من تقسيم مهر الزوجة على الأقارب من الرجال وما يسمونه بكسوة النساء وتفريقه بينهن، حتى أصبحت أي امرأة تزوج تؤخذ عليها ضريبة بهذا الفعل، وهذا لا يحلّ بل يجب التنبه له، فالمهر للزوجة تتصرف فيه في المباح كيف تشاء، وبعضهم يقوم بتأثيث بيت الزوجية من المهر المفروض للزوجة، وهذا أمر مخالف أيضاً للمشروع في الإسلام.
فيا أيها المسلمون: علينا أن نقابل المغالاة في المهور وغيرها من نفقات الزواج بالقوة والعزيمة الصادقة وحب الخير والتصميم إلى الوصول إلى الغاية المطلوبة ونقضي عليها بالتدريج ونضرب الأمثلة في ذلك ليقتدي بنا غيرنا وليتزوج الشباب والشابات ويحيوا حياة سعيدة بعد تسهيل أسباب الزواج وعدم وضع العراقيل والعقبات في طريقهم، وعلينا أن نبحث لبناتنا عن الأكفاء من الرجال، لأن صاحب الدين والخلق والرجولة والشهامة يُشْتَرى بالمال ولا يُنْتظر منه دفع المال خاصة في هذا الزمن الذي نعيشه، وما بعده أشّر منه، ولا نشجع المائعين والمنحلين من أشباه الرجال ولا رجال، الذين ما إن يتزوج أحدهم حتى يسافر بزوجته إلى بلاد الكفر ليخلعا هناك جلباب الحياء ويكفر نعمة الله التي أنعم عليه بهذا الزواج، ويهتك عرض هذه المرأة المسكينة ويجردها من كل فضيلة، فعلينا أن نجعل شراء الرجال بأموالنا نصب أعيننا لا أن يشتروا بناتنا ويرموا بهن بعد أشهر قلائل، وعلينا امتثال حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير)).
الخطبة الثانية
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه أحمده تعالى وأشكره وأؤمن به وأتوكل عليه وأثني عليه الخير كله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمداً عبد الله ورسوله، اللهم صلّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه.
أما بعد:
فمن معوقات الزواج الإسراف والتبذير في وليمة العرس، وهذه سيئة تضاف إلى سيئة المغالاة في المهور التي تثقل كاهل الزوج وتنفّر الشباب عن الزواج وطلب الحلال، لأن كل شيء إذا جاوز حده ينقلب إلى ضده لا محالة.
وعلينا أن نتساءل من هم المستفيدون من هذه الأموال التي تذهب هدراً وتضاع سدىً وتسدّ طريق المسلمين إلى الزواج الذي هو من ضرورياتهم ومن صلاح دينهم ودنياهم ومن دواعي حصول الأمن والاستقرار؟ ومن هم الذين يخسرون هذه الأموال وتقع عليهم المشاكل والتبعات؟ إن الذين تقع عليهم التبعات وتثقل الديون كواهلهم هم الأزواج وهم الذين يحيون ويعيشون عيشة البؤس والفقر والتعاسة نتيجة الإسراف والتبذير، وأما المستفيدون فإنهم أصحاب الدكاكين والمعارض والسلع الأخرى والفنادق وما أشبه ذلك، وقد تذهب كثير من هذه الأموال إلى الخارج للأماكن المستورد منها تلك البضائع والصناعات، وأما بقية الأقارب ومن حضر الولائم فهم المتفرجون عن قرب وعن بعد ولا يهمّهم ما وقع على صاحبهم المتورط في تلك الديون وتلك الزوجة المسكينة التي وقعت عليها المصيبة هي وزوجها.
عباد الله: لقد أحيطت نعمة الزواج بالإسراف البالغ نهايته في الولائم من أهل الزوجة والزوج مشتركين أو منفردين، حيث يدعون جمعاً كبيراً من الناس يحضر منهم من يحضر ويتخلف من يتخلف، ويحصل فيها من السمعة والرياء والمفاخرة ما الله بها عليم!! ولو وقف على أحدهم فقير لما تصدّق عليه بمائة ريال ولكنه ينفق عشرات الألوف مفاخرة وسمعة ورياء، وبئس طعام الوليمة يدعى إليها الأغنياء ويترك الفقراء أو قد يُرَدُّون عنها، ولا يعلمون أنهم يعرِّضون أنفسهم لكراهة الله لهم وأنهم أصبحوا إخوان الشياطين وأنهم بذلك عدلوا عن طريق عباد الرحمن الذي هو الطريق الوسط في الإنفاق. قال تعالى: وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ [الأعراف:31]. وَلاَ تُبَذّرْ تَبْذِيرًا إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبّهِ كَفُورًا [الإسراء:26-27]. وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُوراً [الإسراء:29]. وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً [الفرقان:67].
إن هذا الإسراف كما أنه محظور شرعاً فهو ممقوت عادةً فإن الناس يلومون من يسرف ويتصرف ذلك التصرف، وينظرون إليه النظرة إلى الساخر الناقص الذي يحاول تغطية وإكمال نقصه بمثل هذه الولائم التي تجاوزت الحد، إن الإسراف سفه في العقول لما فيه من إتلاف المال وإضاعة الوقت وشغل البال وإتعاب الأبدان وامتهان النعمة، حيث نرى ونسمع الكثير عن هذه النعم من الأطعمة والأشربة واللحوم التي تبقى ولا يأكلها أحد وتلقى في الزبالات والطرق، والمتورع من الناس من يحملها إلى البر ويرمي بها هناك، فهل هذا من الرشد؟ وهل هذا من شكر النعمة؟ وهل تفكر أحد فيما كان عليه الآباء والأجداد؟ وهل تفكر من لم يعش ويحيا حياة الفقر هل تفكر وتدبر حال الأمم والشعوب التي يراها أو يسمع أو يقرأ عنها كل يوم في وسائل الإعلام المختلفة؟ وهل أَمِنَّا مكر الله؟ وهل لدينا ضمان بدوام هذه النعم مع كفرانها؟ لا والله لئن لم نشكر النعمة ليحل بنا ما حل بغيرنا من الأمم السابقة والحاضرة سُنَّةَ اللَّهِ فِى الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً [الأحزاب:62]. قال تعالى: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لازِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِى لَشَدِيدٌ [إبراهيم:7]. وقال تعالى: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ ءامِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مّن كُلّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ [النحل:112]. وقال عن سبأ وما كانوا فيه: لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِى مَسْكَنِهِمْ ءايَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُواْ مِن رّزْقِ رَبّكُمْ وَاشْكُرُواْ لَهُ بَلْدَةٌ طَيّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ فَأَعْرَضُواْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّاتِهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَىْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَىْء مّن سِدْرٍ قَلِيلٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُواْ وَهَلْ نُجْزِى إِلاَّ الْكَفُورَ [سبأ:15-17]. ذالِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيّراً نّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [الأنفال:53]. ومما يثقل كاهل الزوج ويعيق الزواج اشتراط أهل الزوجة تأثيثاً معيناً لبيت الزوجة أو غرفة النوم، وأحياناً نوع السيارة أو إقامة الحفلة في فندق أو قصر معين أو إحضار المطربين والمطربات وأنواع رقاع الدعوة المسماة بالكروت التي تصل إلى آلاف الريالات وإدخال بعض السفهاء لمن يلتقط صوراً للزوجين وقد يحصل حتى للنساء الحاضرات، وتسجيل أصواتهن في الأشرطة وتداولها وسماعها وانتشارها بين قليلي المروءات، وهذا تدهور وانحدار إلى الهاوية، وهذه الأخيرة أمور منكرة يجب على كل مسلم أن يسعى لإزالتها بما يستطيع، ومتى أدرك كل منا دوره وقام بالواجب عليه صلح المجتمع بإذن الله، ومتى تهاونّا فسوف تكون العواقب السيئة التي لا تحمد عقباها.
هذا موجز للعقبات والتكاليف الباهظة التي أَسَرَ بها كثير من المسلمين أنفسهم ووضعوا بها الأغلال والقيود في أعناقهم وأيديهم وأرجلهم حتى صاروا لا يستطيعون الفكاك منها بل تزداد أحوال كثير منهم سوءاً يوماً بعد يوم، فهل يفيق المسلمون من غفلتهم؟ وهل يرجعون إلى كتاب ربهم وسنة نبيهم ويدركون الحكمة من وراء النكاح؟ وهل يتركون المفاخرة والمظاهر الكاذبة والإسراف في الولائم ويحافظون على النعم؟ وهل يكتفون ويرضون بالاقتصاد والاختصار في التكاليف القليلة التي ترجع على الزوجين بالخير والبركة؟ وهل يكتفون بالاقتصار على أقرباء الزوجين ويختصرون في طعام الوليمة؟ هل يقتصدون في أمورهم كلها؟.
إنا لنرجو أن يسلكوا طريق عباد الرحمن في الاقتصاد وعدم الإسراف عموماً وفي الزواج خصوصاً ابتداءً بالخِطبة التي هي عقبة أيضاً لدى كثير من الناس وسوف يكون لها خطبة مستقلة نظراً لأهمية ذلك الآن، وما يلحق بالخِطبة من مهر وغيره ومروراً بوليمة العرس وما يتبعها وانتهاءً ببيت الزوجية الذي أنهك قوى كثير من الأزواج من حيث الإعداد والنفقات، والذي هو مقر الخصام أو الوئام، إما أن يؤسس على البر والتقوى أو على العكس، وعندها يعرف كل منهما ما كسبت يداه وما قدم في أيام خلت هي البداية للطريق الطويل أو القصير، إما أن يُدخل السجن أو يعيش سنوات طوالاً أسير الهمّ بالليل والمذلة بالنهار لأصحاب الدين حتى يوفيهم حقوقهم أو يماطلهم.
ويوجد بوادر طيبة في بعض الأماكن نسأل الله أن يتمها بخير ويعم بنفعها مجتمعات المسلمين، تلك البدايات المتمثلة في الحد من الإسراف والتكاليف الباهظة في الزواج ولكنها محصورة في بعض القرى والقبائل، أما الغالبية العظمى فهي على العكس من ذلك، وأما من ناحية المبادرات الخيرية المنتشرة في بعض المدن والتي تعنى بتيسير الزواج فهي بداية الحلول للمشاكل والعقبات التي أشغلت وأهمت معظم الناس، والحلول كثيرة وميسورة في الوقت نفسه لو وحّدنا الجهد والوقت والمال، وأما إذا بقيت الجهود مبعثرة وتعددت الاتجاهات والمؤسسات فإن خيرها محدود ومجالها مقصور على فئات معلومة تبعاً لتصورات القائمين عليها في كل مدينة ومنطقة، وفكرة إنشائها وعملها فكرة طيبة وخيرة، ولكن تلك المساعدات زهيدة جداً سواء ما كان منها على سبيل القرض أو الهبة التي هي أساساً من الزكاة، تلك الزكاة التي لا بد أن تدفع لمن هو غير مستطيع للزواج من ماله لابد أن تؤدّى في الوقت المناسب غير متأخرة لعدة سنوات، وعلى العكس من ذلك وجد من دفعت لهم لانتظارهم أكثر من عشر سنوات ضمن قائمة الانتظار بعد أن تزوج الزوجان وأنجبا أولاداً وصل الأكبر منهم المرحلة المتوسطة، فهذا غالباً قد أغناه الله بالوظيفة والعمل والكسب خلال السنوات، فاستحقاقه السابق في ذلك الوقت ليس معناه أن يأخذه الآن زكاة مدفوعة في هذه السنة، وهذا أمر ليس بالهين، لأنه من الزكاة، وأما لو كان قرضاً أو هبة فهذا أمر مختلف تماماً، فليتنبه المسلمون لذلك ويقفوا عند شرع الله وأوامره ونواهيه، وكما أشرت فإن الحلول المتمثلة في صناديق الإقراض العامة البعيدة عن الربا والشبهات، المبنية على مصادر التكافل الاجتماعي لعامة الشباب في جميع أنحاء المملكة هي الحل الأمثل لواقع الناس اليوم، ولعلنا نستعرضها إن شاء الله.
أما الواجب على شباب المسلمين فهو امتثال أمر الله وأمر رسوله عند عدم الاستطاعة على تكاليف الزواج حتى يغنيهم الله من فضله ويجدوا الحلول الطيبة المباركة لهم ولأمثالهم من المسلمين، ففي الآية الكريمة والحديث الشريف التالي ذكرهما الحل الإلهي والدواء الشافي بإذن الله عز وجل. قال تعالى: وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ [النور:33].
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أَغَضُّ للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء)). وجاء أي وقاية وحصانة بإذن الله من الوقوع في الحرام.
ــــــــــــــــــــ(67/327)
عن شكر النعمة وكفرها وعن الإنفاق
...
...
2003
...
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
...
...
الكبائر والمعاصي, قضايا المجتمع
...
سعد بن عبد الله العجمة الغامدي
...
...
الطائف
...
...
...
سعيد الجندول
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1 ـ العظة والعبرة من قصة قارون. 2 ـ قصة سد مأرب. 3 ـ التحذير من بعض مظاهر كفر النعمة. 4 ـ دعوة للإنفاق في سبيل الله.
الخطبة الأولى
أما بعد:
فإن الأشر والبطر مظهر لجحود النعمة وبادرة لسوء المصير، ولقد كان فيما قص الله في كتابه عن قارون وقد آتاه الله من كنوز المال ما قابلة بالأشر والبطر كان له سوء العاقبة والمصير. قال تعالى: إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَءاتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُوْلِى الْقُوَّةِ [القصص:76]. أي أعطيناه من كنوز المال العظيمة التي مفاتيحها تثقل في حملها الجماعة والعصبة من الناس وذلك لكثرتها. إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لاَ تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْفَرِحِينَ [القصص:76]. أي أن الله لا يحب الأشرين الذين أبطرتهم النعمة وَابْتَغِ فِيمَا ءاتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الاْخِرَةَ [القصص:77]. أي اطلب بما أعطاك الله من الأموال الجنة وبذل الأموال في رضا الله وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا [القصص:77]. أي خذ من متع الدنيا ما أباحه الله لك بقدر وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ [القصص:77]. أي أحسن إلى عباد الله كما أحسن الله إليك وَلاَ تَبْغِ الْفَسَادَ فِى الأرْضِ [القصص:77]. أي لا تكن همتك بما أنت فيه أن تفسد في الأرض بالمعاصي إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ [القصص:77]. وكل ذلك توجيه من صالحي قومه ليرعوي عن غيه، ويسلك سبيل السداد والرشاد، وهو أيضاً توجيه للناس جميعاً إلى الأبد، ولا يعني قارون وحده، فكم في أعقاب الزمن من أمثال قارون من تبطره النعمة، ويستعملها في المعصية والإفساد في الأرض، والتعالي على الخلق، فيكون خطراً على نفسه وعرضة لأن يناله من غضب الله ما يعكر عيشه بل قد تطوى صفحته إن لم يكن بالخسف الذي حل بقارون فبقارعة تأتي عليه وإذا به صفر اليدين، وهذه نتيجة لظلمه وأشره وبطره وكم من هذه الأنماط والألوان موجودة الآن.
وكانت خاتمة قصة قارون ما ذكره الله في قوله تعالى: فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنتَصِرِينَ وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْاْ مَكَانَهُ بِالاْمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرّزْقَ لِمَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَن مَّنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ تِلْكَ الدَّارُ الاْخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِى الأرْضِ وَلاَ فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [القصص:81-83].
وقصة أخرى وردت في القرآن الكريم تتحدث عن بطر سبأ بالنعمة، وزوالها عنهم وتفرقهم بعد ذلك وتمزقهم كل ممزق، وهم كانوا على عهد الملكة التي جاء نَبَأهَا في سورة النمل مع سليمان عليه السلام حيث كانت في ملك عظيم وخير عميم، حيث يقص الهدهد خبرها على سليمان كما ورد في القرآن الكريم: إِنّى وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلّ شَىْء وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ [النحل:23-24]. وقد أعقب ذلك إسلام الملكة مع سليمان لله رب العالمين، فقصة سبأ في الآيات التالية تقع أحداثها بعد إسلام الملكة لله، وتبدأ القصة بوصف ما كانوا فيه من رزق ورغد ونعيم، وما طلب إليهم من شكر المنعم عز وجل بقدر ما يطيقون. قال الله تعالى: لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِى مَسْكَنِهِمْ ءايَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُواْ مِن رّزْقِ رَبّكُمْ وَاشْكُرُواْ لَهُ بَلْدَةٌ طَيّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ [سبأ:15].
وسبأ اسم لقوم كانوا يسكنون جنوب اليمن وكانوا في أرض مخصبة ما تزال منهم بقية إلى اليوم، وقد ارتقوا في سلم الحضارة حتى تحكموا في مياه الأمطار الغزيرة، فأقاموا خزاناً يتألف جانباه من جبلين، وجعلوا على فم الوادي بين الجبلين سداً به عيون تفتح وتغلق، وخزّنوا الماء بكميات عظيمة وراء السد، وتحكموا فيها وفق حاجتهم فكان لهم من هذا سور مائي عظيم، عرف باسم ((سد مأرب)) عملوا ذلك مع صعوبة الإمكانات وقلة الموارد والآلات قياساً مع هذا الزمن الذي توفر فيه ما لم يكن في العصور الأولى، وما يعمل الآن من سدود ما هو إلا نتاج تفكير الأقدمين وحدّ علمهم الذي علمهم الله إياه، فأهل هذا العصر مسبوقون في السدود وتخزين المياه خلفها وطريقة تصريفها واستخدامها من آلاف السنين. فلم يأتوا بجديد مع أن الآلات الحديثة والإمكانات الهائلة المتوفرة الآن كان من المفترض استغلالها لتخزين المياه بدلاً من هدرها خاصة مياه الأمطار التي تذهب في الصحراء والبحر ولا يستفاد منها كما ينبغي، فما أعجز بني البشر الموجودين الآن وما أقوى وأصبر الأقدمين مع الفارق في الإمكانات والموارد واختلافها بين القديم والحديث.
وتلك الجنان عن اليمين وعن الشمال دلالة على الخصب والوفرة والرخاء والمتاع الجميل، وفي تلك النعم آية تذكر بالمنعم الوهاب سبحانه، وقد أمروا أن يستمتعوا برزق الله شاكرين كُلُواْ مِن رّزْقِ رَبّكُمْ وَاشْكُرُواْ لَهُ بَلْدَةٌ طَيّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ [سبأ:15]. وذكروا بالنعمة _ نعمة البلد _ وفوقها نعمة الغفران على القصور عن الشكر والتجاوز عن السيئات، وإنها لمنة عظمى حيث تمثلت في حياتهم الدنيا إن هم استجابوا لذلك بالنعمة والرخاء، وفي الآخرة بالعفو والغفران، ولكنهم لم يشكروا ولم يذكروا الله فماذا كانت نهاية الكفران للنعمة؟
قال تعالى: فَأَعْرَضُواْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّاتِهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَىْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَىْء مّن سِدْرٍ قَلِيلٍ [سبأ:16]. لما أعرضوا عن شكر الله وعن العمل الصالح والتصرف الحميد فيما أنعم الله عليهم، سلبهم ذلك الرخاء الجميل الذي عاشوا فيه وأرسل السيل الجارف العرم الذي يحمل الحجارة لشدة تدفقه، فحطم السد وانساحت المياه وانسابت فطغت وأغرقت، ثم لم يعد الماء يخزن بعد ذلك فجفّت واحترقت وتبدلت تلك الجنان الفيح صحراء تتناثر فيها الأشجار البرية الخشنة. قال تعالى: وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّاتِهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَىْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَىْء مّن سِدْرٍ قَلِيلٍ [سبأ:16]. والخمط هو شجر الأراك أو هو كل شجر ذي شوك، والأثل شجر يشبه الطرفاء، والسدر: شجر النبق المعروف وهو أجود ما صار لهم ولم يَعُدْ لهم منه إلا القليل.
ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُواْ وَهَلْ نُجْزِى إِلاَّ الْكَفُورَ [سبأ:17]. لقد كفروا بنعم الله ولم يشكروها ولكنهم إلى ذلك الوقت ما يزالون في قراهم وبيوتهم حيث ضيق الله عليهم الرزق وبدلهم من الرفاهية والنعماء خشونة وشدة، ولكنه لم يمزقهم ولم يغرقهم، وكان العمران ما يزال متصلاً بينهم وبين القرى المباركة، مكة في الجزيرة العربية، وبيت المقدس في الشام، وكانت اليمن عامرة في شمال بلاد سبأ ومتصلة بالقرى المباركة، والطريق بينهما عامر مطروق مسلوك ومأمون، قال تعالى: وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِى بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُواْ فِيهَا لَيَالِىَ وَأَيَّاماً ءامِنِينَ [سبأ:18]. وغلبت عليهم الشقوة فلم ينفعهم النذير الأول فدعو الله على أنفسهم فاستجيبت الدعوة دعوة الأشر والبطر. قال تعالى مخبراً عنهم: فَقَالُواْ رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِى ذَلِكَ لاَيَاتٍ لّكُلّ صَبَّارٍ شَكُورٍ [سبأ:19].
أيها المسلمون: إن القرآن مليء بالعبر والعظات لمن يريد الاعتبار والتذكر ويرجع إلى الله، والآيات كثيرة في هذا المعنى، فعلينا أن نرجع إلى الله ونفيق من غفلتنا ونتذكر نعم الله علينا ونشكره سبحانه وتعالى على نعمه، فبالشكر تدوم النعم، ويجب عند قراءتنا لهذه الآيات وغيرها أن نعتبر ونقر ونعترف بنعم المنعم سبحانه علينا، لا نعترف بها لأحد غير الله، سواء بقول الإنسان إنها بقدرته ومعرفته وعمله وتصرفه الحكيم أو بإرجاعها لأحد من الخلق، فالبشر كلهم جميعاً لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً، وإنما هم أسباب ومظهر من مظاهر المنع أو العطاء ضعفاء فقراء إلى الله، ونسمع ونقرأ عن بعض الأشخاص الذين تصدر منهم العبارات الشركية أو الجحودية لنعم الله عز وجل ويرجعون عبارات الثناء والمدح والشكر إلى المخلوقين وينسبون ويسندون ذلك إلى البشر ويتفوهون بالعبارات والألفاظ التي يندى لها الجبين وتصدر من متعلمين مثقفين على حد زعمهم هم، حتى في بلد التوحيد حيث يرجعون ذلك إلى فضل فلان وحكمة علان ولولاه لما حصل ما نحن فيه، ولا يرجعونها إلى الواحد الديان رب السماوات والأرض ولا ينزهون ألسنتهم عما يقدح في عقيدتهم فهم يعظمون المخلوقين وينسبون الأسباب والنعم إليهم مع أنهم عباد فقراء إلى الله مهما أوتوا ومهما رزقهم الله، فعلى المسلمين أن ينسبوا النعم إلى الله عز وجل لأنه هو المنعم والمتفضل بها سبحانه على عباده وعليهم أن يقدروا الله حق قدره ويعلموا أن البشر إنما هم أسباب ومظهر من مظاهر المنع أو العطاء فقراء إلى الله كما قال تعالى: ياأَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِىُّ الْحَمِيدُ [فاطر:15]. وعليهم أن ينسبوا النعم إليه سبحانه قال تعالى: وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ [الزمر:67]. وقال تعالى: وَمَا بِكُم مّن نّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ [النحل:53]. فيجب علينا أن نشكر الله على نعمه بالاعتقاد بالقلب والقول باللسان والعمل بالجوارح وليس ذكراً وشكراً باللسان فقط، ولكن لابد من التطبيق العملي لهذا الشكر الذي يسري على اللسان ولا يكون ذلك إلا إذا كان نابعاً من القلب، فعند ذلك نجازى من الله بالزيادة في النعم، وإن لم نفعل فعقاب الله شديد قال تعالى: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لازِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِى لَشَدِيدٌ [إبراهيم:7].
- إن من كفران النعم الذي هو حاصل بيننا في هذه الأيام هو ما يفعله بعض الناس في حفلات الزواج من ولائم وغيرها وفي المناسبات الأخرى أيضاً، وذلك شيء يندى له الجبين وهو كفران للنعمة وتعريضها للزوال حين ترمى في النفايات بالسيارات أو في العربات بقايا الموائد كما هي مع وجود المحتاجين الذين يبيتون جياعاً لا أحد يعلم عنهم، تلك الولائم التي يدعى إليها الأغنياء ولا يحضرها الفقراء بل قد يطردون لو حضروا أو قاربوا الأبواب، تلك الولائم التي يصدق عليها الحديث: ((شر الوليمة التي يدعى إليها الأغنياء ويترك الفقراء)) كما ورد في الخبر عن سيد البشر محمد صلى الله عليه وسلم، وإنها لأعمال لا ترضي الله، وتصرفات مؤلمة ومحزنة لكل مؤمن غيور على دينه، تلك الولائم التي يحصل فيها الإسراف والتبذير والمظاهر الزائفة والمفاخرة الكاذبة التي يتحمل معها كثير ممن عملها الديون التي يستددونها على مر السنين حباً في الرياء والسمعة.
_ وإن وعد الله وتوعده لحاصل، فمن شكر فسوف يجزيه بالزيادة، ومن كفر النعمة فسوف يجد العذاب إن عاجلاً أو آجلاً، ومن مظاهر الأشر والبطر وكفران النعمة أيضاً ما يقوم به بعض الآباء من إعطاء أبنائهم سيارات فخمة ومراكب فارهة بعشرات الآلاف من الريالات، يعطونهم ذلك ليستعملوها في معصية الله، وأول معصية هي تركهم للصلوات، وإلا فأين الشباب طوال أيام الأسبوع والمساجد منهم خالية، وقد لا ترى بعضاً منهم إلا أيام الاختبارات حيث يأتون إلى المساجد، فأين هم بعدها؟ يعقب ترك الصلوات إهدار الأموال المنفقة في هذه السيارات وإتلافها في الحوادث وإزهاق أرواح الأبرياء بالدعس أو التكسير وما يحصل في الحوادث المؤلمة، وكذلك تضييع الأوقات والساعات الطويلة في اللهو والعبث.
أيها الآباء: إن أولادكم ذكورهم وإناثهم أمانة في أعناقكم وخاصة الأبناء سوف تسألون عنهم يوم القيامة وعن الأموال التي دفعتموها لهم وفيم استعملوها، ولا يعتقد أو يظن أحد أنه ناج من هذه الأسئلة وهذه الأمانة فليعد الجواب من الآن أو ليحاسب نفسه وليرجع إلى ربه. قال تعالى: يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ [التحريم:6]. وقال أيضاً: وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوالَكُمُ الَّتِى جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً [النساء:5]. وقال عليه الصلاة والسلام: ((لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: وذكر منها: عن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه)).
فلنتق الله ولنتناصح فيما بيننا ونحمد الله ونشكره على نعمه ولنتذكر قول الله تعالى: وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [الأنفال:25]. ولنعتبر بالدول المجاورة وغيرها من دول العالم والتي كانت تعيش في رغد من العيش وما هي عليه الآن ولنتذكر دائماً أننا نتقلب في نعم الله العظيمة والتي لم تتوفر في أي قطر من أقطار هذه الأرض بهذه الكميات الكبيرة والانفتاح العجيب حيث تفرض كثير من الدول قيوداً على منتجات بعض الدول الأخرى حفاظاً على اقتصادها وتأتينا نحن من جميع الأقطار والدول بهذه الكميات الهائلة والجودة التي قد لا تكون في البلد المنتج ولا يأكله أهلها بل نتمتع به نحن ومن يعيش في هذه البلاد المباركة.
ولنشكر الله في كل حين ونقابل النعم بالشكر للمنعم سبحانه ونتذكر قول الله تعالى: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ ءامِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مّن كُلّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ [النحل:112].
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي هدانا للإسلام، وجعلنا من أهله وما كنا لنهتدي لو لا أن هدانا الله، أحمده سبحانه على نعمه التي لا تعد ولا تحصى حيث قال تعالى: وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا. [إبراهيم:34]. وأشكره عز وجل وقد تأذن بالزيادة للشاكرين فقال سبحانه: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لازِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِى لَشَدِيدٌ [إبراهيم:7]. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أرسله الله بالهدى ودين الحق، فهدى الناس إلى الخير، ودعاهم إلى الحق. اللهم صل على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فقد قال الله تعالى: وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِ وَالتَّقْوَى [المائدة:2]. وقال سبحانه: يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طَيّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مّنَ الأرْضِ وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِأَخِذِيهِ إِلا أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ [البقرة:267-268]. وقال تعالى: وَأَنفِقُواْ مِن مَّا رَزَقْنَاكُمْ مّن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولُ رَبّ لَوْلا أَخَّرْتَنِى إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مّنَ الصَّالِحِينَ [المنافقون:10].
وتعلمون ما حل بالكثير من إخوانكم المسلمين في جميع أنحاء المعمورة وقد رأيتم بأعينكم وقرأتم بأنفسكم ما يقال عن هذه المحن القاسية والمجاعة الأليمة التي يتعرض لها إخوانكم المسلمون، فتصدقوا عليهم مما أنعم الله به عليكم اقتداءً برسول الله صلى الله عليه وسلم في حبه للخير ودعوته للتصدق وإنفاقه في سبيل الله، واقتداءً بأصحابه رضي الله عنهم في مسارعتهم للإنفاق قي وجوه الخير، واعلموا أن الصدقة تدفع ميتة السوء وتذهب البلاء وتطفئ الخطيئة، كما ورد ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم. قال تعالى: مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللَّهِ بَاقٍ [النحل:96]. وَمَا تُقَدّمُواْ لاِنفُسِكُمْ مّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً [المزمل:20].
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يحقره، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة)).
ولنعلم أن هذا المال الذي بين أيدينا إنما هو مال الله عز وجل، ونحن مستخلفون فيه، ولقد أمرنا الله بالإنفاق منه ووعدنا بالخلف قال تعالى: ءامِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُواْ مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ ءامَنُواْ مِنكُمْ وَأَنفَقُواْ لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ [الحديد:7]. وقال سبحانه: وَءاتُوهُمْ مّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِى ءاتَاكُمْ [النور:33]. وقال تعالى: وَمَا أَنفَقْتُمْ مّن شَىْء فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [سبأ:39].
فيا أيها المسلمون: استجيبوا لنداء ربكم وابذلوا من أموالكم في سبيله واشكروا نعم الله عليكم بأداء حقها، ومن حقها إنقاذ الأنفس المؤمنة، وبذلها كذلك في سبيل الله، واعلموا أن الحسنة تضاعف إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، فلا تبخلوا بأموالكم ولا تستغنوا عن الأجر من ربكم فلسنا بمأمن من عقاب الله وقد يحل بنا ما حل بغيرنا إذا لم نحافظ على هذه النعم بالشكر المستمر والمتمثل في القول والعمل والاعتقاد وعدم الكفران للنعمة.
وقد سمعتم قوله تعالى: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ ءامِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مّن كُلّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ [النحل:112]. وأخرجوا هذه الصدقات وأنفقوها في سبيل الله طيبة بها نفوسكم سراً وعلناً ولا تتبعوها بالمن والأذى حتى يضاعف الله لكم الأجر ويجزيكم أحسن الجزاء
ــــــــــــــــــــ(67/328)
حقوق الأولاد في الإسلام
...
...
2143
...
الأسرة والمجتمع
...
...
الأبناء
...
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
...
...
الرياض
...
20/5/1422
...
...
جامع الإمام تركي بن عبد الله
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- الوصية بتربية الأبناء.2- الرفق في التعامل معهم.3- القدوة الحسنة لهم.4- جمع كلمتهم ، وربط شملهم ، وإن كانوا من أمهات شتى.5- تعويدهم على كل خير ، وتحذيرهم من كل شر.
الخطبة الأولى
أما بعد: يا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عباد الله، إن وجود الولد للعبد نعمة من الله عليه، قال تعالى: وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبّ لاَ تَذَرْنِى فَرْداً وَأَنتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ [الأنبياء:89]، قال الله: فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ [الأنبياء:90]، وقال تعالى في ثنائه على إبراهيم: وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلاًّ جَعَلْنَا صَالِحِينَ [الأنبياء:72]، وقال تعالى: الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحياةِ الدُّنْيَا [الكهف:46]، وقال جل وعلا: لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاواتِ وَالأرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاء يَهَبُ لِمَن يَشَاء إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَن يَشَاء الذُّكُورَ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثاً [الشورى:49،50].
أيها المسلم، فالولد نعمة من الله عليك، فهو امتداد لحياتك، حياة لك بعد موتك، هذا الولد حياة لك أخرى، دائماً تُذكر به، تمتد حياتك بعدك بالذكر الحسن والثناء الطيب، قال تعالى: وَالَّذِينَ ءامَنُواْ وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مّنْ عَمَلِهِم مّن شَىْء [الطور:21].
أيها المسلم، والله جل وعلا قد بين لنا حقوق الأولاد علينا، بيَّن لنا حقوق أولادنا علينا، وأن لأولادنا حقاً علينا واجباً لا بد من أدائه؛ فإن نعمة الولد تحتاج إلى شكر الله، وشكر الله القيام بحقوق الأولاد على الوجه المرضي، قال تعالى: ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَّ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6].
يخاطب الله عباده المؤمنين بقوله: ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً، قوا أنفسكم النار بطاعتكم لله، بقيامكم بما أوجب الله، ببعدكم عما حرم الله عليكم، وقوا أهليكم ناراً بأن تأمروهم بالخير، وتحثوهم عليه، وتنهوهم عن الشر، وترغبوهم في تركه، قوا أنفسكم وأهليكم ناراً، قوهم النار، فمروهم بالمعروف، وانهوهم عن المنكر، وربوهم التربية الصالحة التي يظهر أثرها عليهم بتوفيقٍ من الله.
أيها الأب الكريم، إن لأولادك عليك حقاً عظيماً كما أن لك على ولدك حقاً، فكما يطالَب الابن بالبر والإحسان للأبوين فالأب مطالب أيضاً بحقوق الأولاد، فعلى الأب القيام بتلكم الحقوق التي أوجبها الشارع عليه.
فأعظم حق لهم عليك أن تربيهم التربية الصالحة، في الحديث: ((ما نحل والدٌ ولده خيرا من أدب حسن))[1]، فربّهم على الخير، ربِّهم على الفضائل، ربهم على مكارم الأخلاق وفضائل الأعمال، واعلم أن أولئك النشء يقتدون بك، ويتأثرون بك، ويعكسهم صورة لأخلاقك، صورة تعكس أخلاقك وأعمالك؛ إذاً فاتق الله فيهم، اتق الله فيهم أن يصابوا من قبلك بالتفريط والإهمال أو ارتكاب الأعمال السيئة التي يشاهدها الأولاد منك، من ترك واجباتٍ أو فعل محذورات، ينشؤون على حبها وأُلفها.
أيها الأب الكريم، إن نبينا محمداً يقول: ((ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه))[2]، فاحذر ـ أيها الأب الكريم ـ أن تكون قدوةً لأبنائك في الشر، وقدوة لهم في الانحراف، وقدوةً لهم في البعد عن الهدى، كن قدوةً صالحاً لهم يقتفون أثرك، ويتأسون بك، ويعملون مثل عملك.
أيها الأب الكريم، لا تأمر أولادك بالصلاة وأنت متكاسل عنها، لا تأمرهم بها وأنت مفرط فيها ومتهاون بها، لا تأمرهم ببرِّك والإحسان إليك وإلى أمهم وهم يشاهدونك تعق أباك وأمك، كيف تأمرهم بالبعد عن مجالسة أهل الرذيلة وأنت تسهر ليلك مع كل من لا خير في السهر معهم؟! كيف تنكر عليهم شيئاً من سفاسف الأخلاق والأعمال والواقع أنك ترتكبها؟!
أيها الأب الكريم، كن صادقاً في تربيتهم، كن صادقاً في توجيههم، كن صادقاً في أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر.
أيها الأب الكريم، كن معهم بالتوجيه والتعليم، استعمل معهم الرفق في كل الأحوال، فما وضع الرفق في شيء إلا زانه، وما نزع الرفق من شيء إلا شانه، وإن الله يعطي على الرفق ما لا يعطي على سواه.
كن ـ أيها الأب الكريم ـ متخلقاً بالحلم والأناءة في أمورك، فإنهم إذا شاهدوا ذلك منك فإنهم يكتسبون ذلك الخلق الكريم منك.
كن ـ أيها الأب الكريم ـ مهذباً في قولك، بعيداً عن الفحش وسيئات الأقوال، فلا يسمعونك لعَّاناً، ولا يسمعونك سبَّاباً، ولا يسمعونك منتهكاً لأعراض الناس، ولا متبعاً لعوراتهم، يسمعون منك الكلمة الطيبة، والمقولة الحسنة، والألفاظ المهذبة.
أيها الأب الكريم، كن معهم صادقاً في التعامل، فإذا عاملت الناس فليروا منك معاملة حسنة مع الآخرين، حتى يأخذوا تلك السيرة الفاضلة منك، كن معهم صادقاً في اكتساب الحلال، فإن رأوك حريصاً على المكسب الطيب والنفقة الطيبة والحرص على الحلال اقتدوا بك وتأسوا بك، وإن رأوك إنساناً لا تبالي بمكاسبك، أمن حلال هي أم من حرام؟ المهم الوصول إلى المال، فإنهم يقتدون بك.
أيها الأب الكريم، كن صادقاً معهم في الوفاء بالعهد وصدق الحديث؛ فإنهم يقتدون بك، فإن سمعوك تحدثهم حديث الصدق غير الكذب ألِفوا الصدق منك ونقلوه وتحلوا بالصدق، وإن رأوك كذاباً تخبرهم بغير الواقع وتحدثهم بما لا يكون، وتحاول أن تخبرهم بالأخبار التي لا أصل لها ولا أساس فإنهم يقتدون بك.
أيها الأب الكريم، كن صادقاً في تعاملك مع الآخرين، فإن رأى الأبناء منك صدقاً في المعاملة وأداء الناس حقوقهم فإنهم يحرصون على هذا الخلق الكريم.
أيها الأب الكريم، برَّ بالأبوين حتى يشاهد الأبناء منك برك بأبيك وبرك بأمك، فينقلون تلك الصفة الحميدة عنك، كن واصلاً لرحمك فإنهم يقتدون بك حينما يرونك تزور قريبك وتواسي محتاجهم وتقوم بحقهم.
أيها الأب الكريم، عاملهم بالعدل فيما بينك وبينهم، فلا تظهر لهم ميولك مع فئة دون أخرى، ولكن ليشاهدوا منك عدلاً بينهم، تعدل بينهم في الخطاب، وتعدل بينهم في الحديث، وتعدل بينهم في الأمر والنهي، وتعدل بينهم في النفقة، فلا ينقمون منك ميولاً لأحدٍ دون أحد. كن حريصاً على ربط كلمتهم، وجمع صفهم ووحدتهم، وإن تعددت الأمهات، أنت الركيزة وأنت الأصل، حاول جمع الكلمة، حاول وحدة الصف، حاول استئصال كل ما تظن أنه سبب لفرقتهم، تستأصله من نفوسهم بالقول الطيب وحسن الأخلاق، حاول أن تشعرهم أنهم سواء، وأنهم إخوة يجب أن يتعاونوا، حاول ربط صغيرهم بكبيرهم، وحث صغيرهم على احترام كبيرهم، وحث الكبير على رحمة الصغير، في المجلس حاول تقديم الأكبر، حتى يشعروا أن هذا هو الخلق الذي ينبغي أن يكونوا عليه. لا يخدعك ميولك لامرأة دون أخرى، فكونك مع النسوة قد تظهر شيئا دون الأخرى وإن كان خطأ، لكن الأولاد والبنات حاول أن تشعرهم أنهم منك سواء، وأن نظرتك إليهم نظرة عادلة لا تفضِّل بعضاً على بعض، ولا تقدم هذا على هذا، حاول أن تستشيرهم جميعاً ليشعروا منك أنك الأب الحنون الشفيق عليهم.
إن المسلم وهو يستعمل آداب الإسلام مع ولده لا بد أن تظهر تلك الآثار عليهم، لكن المصيبة الجنوح مع بعض دون بعض، وإهمال بعضٍ والاعتناء ببعض، وإثراء أحدٍ وإفقار أحد، كل هذه الأمور حاول اجتنابها ما وجدت لذلك سبيلاً.
أيها الأب الكريم، اختر لهم الأسماء الحسنة، وابتعد عن الأسماء التي فيها جفاء أو فيها غلو، وحاول أن تنشئهم النشأة الطيبة ليكون البيت معموراً بالخير والهدى، هذه شريعة الله التي أوجبت تلك الحقوق على الأبوين.
أيها الأب الكريم، قد يخطئ بعض الأولاد، وقد يسيء بعض الأولاد، فكيف تربي؟ هل بالغلظة والكلام السيئ؟ وهل بتخجيله أمام إخوته؟ لا، عالج أخطاءه فيما بينك وبينه، ولا تظهر لإخوانه خطأه وزلله، ولا تخجِّله أمام إخوته، فربما انصرف عنك وعن موعظتك. لا، حاول بكل إمكان أن تصلح الخلل، وأن تسدد الأمر، وأن تبذل الجهد في التحام الصف ووحدة الكلمة، فأولئك أبناؤك، فإن سعيت بالخير بينهم نلت الخير عند الله، وإن كنت ضد ذلك شقوت في حياتك وآخرتك.
فاتق الله في أولادك، فإنك راعٍ عليهم، والله سائل كل امرئ عما استرعاه: حفظ ذلك أم ضيعه؟ وفي الحديث: ((كلكم راعٍ، وكلكم مسئول عن رعيته))[3].
ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَّ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6].
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه أحمد (16269)، والترمذي في البر (1952) من طريق عامر بن أبي عامر الخزاز، عن أيوب بن موسى، عن أبيه، عن جده بنحوه مرفوعا، وقال: "هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث عامر بن أبي عامر الخزاز، وهو عامر بن صالح بن رستم الخزاز، وأيوب بن موسى هو ابن عمرو بن سعيد بن العاص، وهذا عندي حديث مرسل"، وضعفه الألباني في الضعيفة (1121).
[2] أخرجه البخاري في الجنائز (1358)، ومسلم في القدر (2658) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[3] أخرجه البخاري في الجمعة (893)، ومسلم في الإمارة (1829) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
الخطبة الثانية
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عباد الله، إن أثر تربية الأولاد على الخير تظهر نتائجها وآثارها للعبد في دنياه وآخرته، يقول نبينا : ((إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولدٍ صالح يدعو له))[1]، فالولد الصالح ينفع أباه في حياته بالبر، وينفعه بعد موته بدعاء الله له وسؤال الله له، ولذا أرشد الله الأولاد أن يقولوا: وَقُل رَّبّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِى صَغِيرًا [الإسراء:24].
فيا أيها الأب، إن ذكرياتك الحميدة لدى أبنائك لا تزال موجودة إن كنت قمت بالواجب نحوهم، فهم يحبونك ويقدرونك ويشفقون عليك، ويسألون الله لك الرحمة والمغفرة. أما إن كنت ـ أيها الأب ـ على خلاف ذلك مع الأولاد جافياً قاسياً غليظاً، تفرق بينهم، وتبخل عليهم، وتقتر عليهم، وتقدم عليهم رأي امرأة ما؛ فإن ذلك سبب لتفريق الكلمة وتشتيت الشمل، ونعوذ بالله من القطيعة.
فاتقوا الله ـ أيها الآباء ـ في أبنائكم، واتقوا الله ـ أيها الأبناء ـ في آبائكم وأمهاتكم، وليسلك الجميع طريق السلامة بتطبيق آداب الشريعة.
أسأل الله لي ولكم التوفيق والهداية لما يحبه الله ويرضاه، إنه على كل شيء قدير.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذ شذ في النار.
وصلوا ـ رحمكم الله ـ على محمد...
[1] أخرجه مسلم في الوصية (1631) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
ــــــــــــــــــــ(67/329)
أخطاء الزوجات (2)
...
...
2144
...
الأسرة والمجتمع
...
...
المرأة
...
حمد بن إبراهيم الحريقي
...
...
الرياض
...
23/5/1420
...
...
البساتين
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- امتناع المرأة عن فراش زوجها. 2- تقصير المرأة في واجبات بيتها. 3- إدخال البيت من لا يأذن زوجها بدخوله. 4- الخروج من المنزل بغير إذن. 5- سوء التصرف إذا عدد زوجها. 6- تقصير بعض النساء في تربية أبنائهن. 7- إفشاء أسرار الزوجية.
الخطبة الأولى
أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله: ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران:102].
ونستكمل معكم عباد الله ما ذكرناه في الخطبة الماضية من أخطاء الزوجات تجاه أزواجهن، فمن الأخطاء الامتناع على الزوج إذا دعاها للفراش إما بحجة أنها مرهقة أو أنها تريد إغضابه أو لجهلها، وما علمت أنها قد حرمت زوجها من أعظم حقوقه وعرضت نفسها للوعيد الشديد لأن من أعظم غايات النكاح أن يعف الرجل نفسه ويقيها مهالك الشهوة يقول : ((إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فأبت أن تجئ لعنتها الملائكة حتى تصبح)) [رواه البخاري ومسلم].
يقول الشوكاني -رحمه الله- وظاهر الحديث اختصاص اللعن بما إذا وقع منها ليلاً لقوله حتى تصبح، وكأن السر فيه تأكيد ذلك لأنه لا يجوز لها الامتناع في النهار، وإنما خص الليل بالذكر لأنه المظنة لذلك ويقول أيضًا عليه الصلاة والسلام: ((والذي نفسي بيده ما من رجل يدعو امرأته إلى فراشها فتأبى عليه إلا كان الذي في السماء ساخطًا عليها حتى يرضى عنها)) [رواه مسلم].
ومن الأخطاء التقصير في خدمة زوجها فلا تقوم بقضاء حاجاته من نحو صناعة المأكل والمشرب وغسيل الثياب ولا تقوم برعاية المنزل والعناية بالنظافة وغير ذلك من الأعمال، والسبب هو تكاسلها لا غير، ولا شك أن هذا أمر خطير وهذا حق واجب على الزوجة تجاه زوجها وفي حديث عمة حصين بن محصن حين سألها النبي : ((أذات بعل أنت؟)) قالت: نعم، قال: ((فأين أنت منه؟)) قالت: ما آلوا إلا ما عجزت عنه، قال: ((فانظري أي أنت منه إنما هو جنتك ونارك)) [رواه الإمام أحمد].
فعلى المرأة المسلمة العاقلة أن تقوم برعاية زوجها وخدمته والعناية بمنزله فهذا مما يفرح الزوج وينشر السعادة بين الزوجين.
ومن الأخطاء إدخال من لا يأذن الزوج بدخوله إلى البيت، فللزوج الحق في ألا يدخل بيته إلا من أحب، وفرض على الزوجة أن تطيعه في ذلك، فليس لها أن تدخل في بيته من يكرهه حتى ولو كان ذلك من أقاربها، وبعض النساء هداهن الله تتهاون في هذا الحق فتدخل في بيت زوجها من لا يأذن بدخوله، وهذا لا يجوز لقول النبي صلى الله عليه وسلم كما في حجة الوداع ((ولكم عليهن ألا يوطئن فرشكم أحدًا تكرهونه فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربًا غير مبرح)) [رواه مسلم].
وروى البخاري في صحيحه قول النبي : ((لا يحل للمرأة أن تصوم وزوجها شاهد إلا بإذنه ولا تأذن في بيته إلا بإذنه)).
ومن الأخطاء الخروج من المنزل بدون إذن الزوج، فبعض النساء لا تبالي بإذن زوجها من عدمه فتخرج بصورة معتادة إلى جيرانها وأقاربها وتخرج إلى مناسبات الأفراح والأسواق وغير ذك دون إذن الزوج، فلا يجوز للمرأة أن تخرج من البيت إلا بإذن زوجها، وعلى المرأة المسلمة أن تتذكر أمر الله تعالى لها بالقرار في البيت يقول سبحانه: وَقَرْنَ فِى بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الاْولَى [الأحزاب:33].
يقول ابن الجوزي رحمه الله تعالى: "ينبغي للمرأة أن تحذر من الخروج مهما أمكنها إن سلمت من الفتنة في نفسها لم يسلم الناس منها، فإذا اضطرت إلى الخروج خرجت بإذن زوجها في هيئة رثة وجعلت طريقها في المواضع الخالية دون الشوارع والأسواق ومشت في جانب الطريق لا في وسطه" اهـ.
ويقول الإمام أحمد في امرأة لها زوج وأم مريضة طاعة زوجها أوجب عليها من أمها إلا أن يأذن لها.
ولو أدركت المرأة المسلمة ما في مكثها وقرارها في بيتها من السعادة والأنس والراحة لآثرت البقاء على الخروج.
ومن الأخطاء طاعة الزوج في معصية الله فكما أن طاعة الزوج واجبة ولكن لا يعني ذلك أن تطيع الزوجة زوجها طاعة مطلقة فتطيعه بكل شيء ولو كان في معصية، فالطاعة إنما هي بالمعروف وفي غير المعصية، فلا يجوز للمرأة طاعة زوجها إذا أمرها بمعصية يقول : ((لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق)) وقد عقد الإمام البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه بابًا قال فيه: لا تطيع المرأة زوجها في معصية الله.
ومن الأخطاء سوء تصرف المرأة إذا عدد زوجها، فمن النساء من إذا تزوج عليها زوجها بالغت في الغيرة عليه وتصرفت بجهل وحمق وقد تعترض على حكمة التعدد وتدعو بالويل والثبور، وقد تلطم وجهها وتشق جيبها وتهجر منزلها وتهمل أولادها، ومنهن من تشرع في ذم زوجها وتعداد معايبه، بل ومنهم والعياذ بالله من يبلغ بها الجهل والسفه مبلغه فتبيع دينها بالذهاب للسحرة والمشعوذين رغبة في عطف قلب زوجها إليها وصرفه عن زوجته الجديدة.
إلى غير ذلك من التصرفات، وما النتيجة من هذه التصرفات الرعناء فإنها لن تجدي نفعًا ولن تطفئ لوعة بل قد تكون سببًا في خسران الدنيا والآخرة، فعلى الزوجة أن تصبر وأن تحتسب، والزوجة العاقلة لا تفكر بما يغضب الله تعالى، وعليها أن تحمد الله على نعمه الظاهرة والباطنة.
ومن الأخطاء التقصير في تربية الأولاد، فالأم هي المدرسة الأولى للأولاد، والبيت هو اللبنة التي يتكون من أمثالها بناء المجتمع، والولد قبل أن تربيه المدرسة مدين لأبويه في سلوكه المستقيم كما أن أبويه مسؤولان إلى حد كبير عن انحرافه. وعلى المرأة الاهتمام بتربية أولادها لاسيما وأنها هي التي تقف معظم الوقت معهم ويتعلقون بها أكثر.
ومن الأخطاء إفشاء سر الفراش؛ فمن النساء من تجلس إلى زميلاتها وتحدثهن عما جرى بينها وزوجها، وهذا أمر منكر، وسوء أدب، وقلة حياء، والمرأة العاقلة تأبى هذا الطابع عقلاً وفطرة وديانة، وعليها أن تتذكر قول الرسول عن ذلك ((فإنما مثل ذلك مثل شيطان لقى شيطانه فغشيها والناس ينظرون)) إلى غير ذلك من الأخطاء. رزقنا الله وإياكم الفقه في الدين وجعلنا من أتباع سنة سيد المرسلين.
أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم...
ــــــــــــــــــــ(67/330)
الطلاق
...
...
2159
...
الأسرة والمجتمع, فقه
...
...
الطلاق, قضايا الأسرة
...
خميس بن سعد الغامدي
...
...
الرياض
...
...
...
ذات النطاقين
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- اهتمام الإسلام ببناء الأسرة. 2- الطلاق يهدم الأسرة. 3- تحريم طلب الطلاق من غير سبب ولاذع. 4- كيف نحمي أسرنا من الطلاق. 5- معالجة المشاكل العائلية. 6- أسباب الطلاق. 7- كيفية الوقاية من الطلاق.
الخطبة الأولى
أما بعد:
إن الأسرة مما اهتم به الإسلام، اهتم بإنشائها على أسس ثابتة راسخة وأمر بالمحافظة عليها وعلى استقرارها ومنع كل ما من شأنه خلخلة كيانها وزلزلة أركانها. وما ذاك إلا لأن الأسرة هي النواة الأولى للمجتمع الإسلامي، وهي مصنع الرجال وحصانة المجتمع، وهي منتجة أمهات الأجيال، وأبطال الأمة. ولقد امتن الله على عباده بهذه الأسرة فقال تعالى: وَمِنْ ءايَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْواجاً لّتَسْكُنُواْ إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِى ذَلِكَ لايَاتٍ لّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الروم:21].
أيها المسلمون: إن بناء الأسرة أمر عظيم، ولعظمته اهتم به الإسلام وحرص على توجيه المؤمن بما يكون سبباً لبنائها بناءً حصيفاً غير قابل للهدم أو للتصدع، فأمر باختيار الزوجة الصالحة والزوج الصالح، واهتم بشأن المولود منذ ساعته الأولى فشرع الأذان في أذنه اليمنى والإقامة في أذنه اليسرى وتسميته بأحسن الأسماء وتربيته بأحسن أساليب التربية لأن صلاح النشأ هو صلاح الأسرة، وصلاح الأسرة بذاتها هو في الحقيقة صلاح للمجتمع كله وفلاح للأمة بأسرها.
ألا إن من أهم ما يدمر قواعد الأسرة ويشتت شملها ويصدع جمعها ويمزق كيانها وينسف جذورها الطلاق. الطلاق .. وما أدراك ما الطلاق .. وما يخلفه من دمار وتشريد، وما ينتج عنه من سلبيات.
ونظراً لما للطلاق من أثر مباشر على الأسرة وتدمير بنياتها وتمزيق كيانها فقد حدد الله له حدوداً وأوجد له ضوابطاً ،ولم يتركه لعبث العابثين ولهو اللاهين، بل إنه سبحانه الحكيم شدد فيه أيما تشديد أخرج أبو داود والترمذي عَنْ ثَوْبَانَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: ((أَيُّمَا امْرَأَةٍ سَأَلَتْ زَوْجَهَا طَلَاقًا مِنْ غَيْرِ بَأْسٍ فَحَرَامٌ عَلَيْهَا رَائِحَةُ)).
وأخرج أبو داود بسند عَنْ مُحَارِبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : ((مَا أَحَلَّ اللَّهُ شَيْئًا أَبْغَضَ إِلَيْهِ مِنْ الطَّلَاق)).
ولست أقف أمامكم لأستعرض أحكام الطلاق وحدوده وضوابطه، ولكنني أعرض معكم الجوانب التربوية والآثار السلبية والأسباب المباشرة للطلاق.
أيها المؤمنون: حتى لا نقع في أزمة الطلاق وسلبياته لابد أن نتخير الزوجة الصالحة المناسبة الزوجة ذات الدين، الزوجة التي تعرف حق ربها عليها وحق زوجها عليها وحق أبنائها عليها وحقوقها هي على الآخرين، وحتى تستمر الحياة ويغلق باب الطلاق لابد من الاعتناء باختيار الزوجة، فليس الجمال وحده ميزان التناسب، وليس النسب وحده سبب الملائمة، ولكن ابحث دائماً عن ذات الدين لتسر عينك ويطمئن فؤادك وتعيش أسرتك في هناء، في الحديث المتفق عليه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ قَالَ: ((تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لِأَرْبَعٍ: لِمَالِهَا وَلِحَسَبِهَا وَجَمَالِهَا وَلِدِينِهَا، فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ)).
وكما أن الدين في المرأة مطلوب فكذا في الزوج. والعناية بذلك في الزوج أشد، إذ أن عقدة النكاح في يده، ومن المعلوم أن من أسباب الطلاق ذلك الشاب غير ذي الدين الذي هدفه المتعة واللذة، والمرأة عنده سلعة متى استغنى عنها أبدلها بغيرها.
ومع أهمية نقطة الدين في الزواج إلا أننا نرى أن بعض الأباء يزوج ابنته لغير ذي دين فما يجنى من وراء ذلك إلا الخسران. وقد حذر رسول الله من ترك هذا المقياس، في الحديث الذي عند ابن ماجه والترمذي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: ((إِذَا أَتَاكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ خُلُقَهُ وَدِينَهُ فَزَوِّجُوه، إِلَّا تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ عَرِيض)). قال السندي: أَيْ إِنْ لَمْ تُزَوِّجُوا مَنْ تَرْضَوْنَ دِينه وَخُلُقه وَتَرْغَبُوا فِي ذِي الْحَسَب وَالْمَال تَكُنْ فِتْنَة وَفَسَاد، لِأَنَّ الْحَسَب وَالْمَال يَجْلُبَانِ إِلَى الْفِتْنَة وَالْفَسَاد عَادَة، وَقِيلَ: إِذَا نَظَرْتُمْ إِلَى صَاحِب الْمَال وَالْجَاه يَبْقَى اُكْثُرْ الرِّجَال وَالنِّسَاء بِلَا تَزَوُّج فَيَكْثُر الزِّنَا، وَيَلْحَق الْعَار وَالْغَيْرَة بِالْأَوْلِيَاءِ فَيَقَع الْقَتْل وَتَهِيج الْفِتْنَة، وَيُمْكِن أَنْ يُقَال: إِنَّ تَعْظِيم الْجَاه وَالْمَال وَإِيثَاره عَلَى الدِّين يُؤَدِّي إِلَى الْفِتْنَة[1].
وسبب العناية بالدين هو أن كلاً من الزوجين يراعي حقوق الآخر ديانة، ورغبة فيما عند الله، فتستمر الحياة الأسرية ويعيش الجميع في سعادة والتئام.
إذن من أسباب الطلاق الزوج أو الزوجة التي لم يراع الواحد منهما ربه ولم يعلم أن له عليه حقاً، حينئذ تنقلب الحياة إلى جحيم.
أيها المسلمون: ألا وإن من أسباب الطلاق أيضاً عدم تفهم الزوج لزوجته وطباعها وأخلاقها وظنه أنه بمجرد الزواج سيجد امرأة على مقاييسه ومواصفاته، فإذا لم تكن كذلك فكر في الطلاق والاستبدال، وربما لم يجتمعا في الأسرة إلا خلال مدة قصيرة، ومن ذلك عدم مراعاة كل منهما للآخر حال غضبه أو تعبه أو همه وغمه، عند مسلم وأحمد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ : ((لَا يَفْرَكُ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَة،ً إِنْ كَرِهَ مِنْهَا خُلُقًا رَضِيَ مِنْهَا آخَر)).
ألا إن من أسباب الطلاق الأهل، نعم الأهل، سواء أهل الزوج أو أهل الزوجة، إذ أن الكثير من الأزواج أو الزوجات يسمح لأهله بالتدخل في حياته الزوجية، وهذا خطأ فادح، ومكمن مزلة أقدام ليس بالهين. فكم من زوجة طُلقت بسبب تحكم أهل الزوج، وتدخلهم في خصوصيات لا علاقة لهم بها، وكم من زوجة طلقت بسبب تدخل أهلها، وخاصة أمِها أو إخوانها وأخواتها، وما يملونه عليها من إملاءات كان فيها خسرانها.
والواجب على الزوج والزوجة ألا يخرجوا ما في البيت إلى خارجه، وأن لا يمكنوا أي أحد كائناً من كان من التدخل في الحياة الزوجية. وعلى ذوي الزوجين أن يتقوا الله في أبنائهم ويكفوا أيدهم عنهم، ويتركونهم يعيشون في سعادة. ولكن المصيبة أن الكثير من أهالي الزوجين لهم تصرفات تدمر كيان الزوجين. فالله المستعان.
من الأسباب أيضاً المهور الغالية والتكاليف الباهظة التي تنقلب معها الحياة إلى بؤس وسداد ديون، فيحس الزوج أن زوجته هذه كانت سبب بؤسه ومكمن إفلاسه فتسوء المعاشرة وتقل البركة وتكثر المشاكل. والبركة إنما تكون مع قلة المهر والكلفة، عند أحمد عَنْ عَائِشَةَ عَنْ النَّبِيِّ قَال: ((أَعْظَمُ النِّسَاءِ بَرَكَةً أَيْسَرُهُنَّ مَئُونَةً)).
والناس في المهر بين مفرَّط ومُفْرِط. بين من يقول: مهر ابنتي ريال، ومن يقول مهر ابنتي مائة ألف ريال. فالأول أهمل ابنته وسهل اللعب بها وبأمرها وخاصة عندما لا يكون الزوج صاحب تقوى وخوف من الله يثمن العواقب، والثاني دمر حياة ابنته وجعلها تعيش مع زوجها في بؤس وديون وضيق حال . فينظر الزوج إلى زوجته في كل حين أنها سبب إفلاسه ومكمن فقره، ومنشأ همه وغمه، فربما لا يجد حلاً لذلك وعقوبة لها إلا طلاقها.
أيها الناس: ألا وإن من أعظم أسباب الطلاق الزوجة الثانية. نعم الزوجة الثانية. ولست أتعرض لحكم التعداد فإن رب العزة والجلال قد حكم أمره فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مّنَ النّسَاء مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ [النساء:3]. ولكنني أقصد ما يفعله بعض الرجال، إذا تزوج الثانية نسي الأولى وأبناءها وجميل صنيعها معه وكأنه لم يتزوج قط، فهو راغ وزاغ مع الثانية حتى أصبح العدل ليس معروفاً في قاموسه، فالدلال والحب والنزه والرعاية والبسمة والوجه المتهلل للثانية أما الأولى فليس لها إلا الوجه العبوس والإهمال والتهميش ثم الطلاق وربما التشريد لها وللأبناء. تذكر فقط فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مّنَ النّسَاء ونسي فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَواحِدَةً [النساء:3] نسي. فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ [النساء:129].
أيها المسلمون: الأسباب كثيرة .. كثيرة .. ولكن أهم ما يطرح في موضوع الطلاق هو من الضحية؟ من الخاسر؟ من الذي تقع عليه كل سلبيات الطلاق؟
إذا أردتم الإجابة فادخلوا دور الأحداث. المجرمين الصغار واسألوهم كيف أصبحتم مجرمين؟؟ اسألوه: أين والدك؟ وأين والدتك؟ ألم يربيانك؟.
إذا أردتم الإجابة اسألوا الأرصفة، اسألوا أصدقاء السوء كيف يجدون فرائسهم؟ اسألوا دور رعاية الأيتام، اسألوا المستشفيات النفسية، اسألوا الراسبين في الدراسة والراسبات، اسألوا مرتادي الليالي المظلمة، اسألوا مستنقعات المخدرات وغياهب السجون، اسألوا التشرد والضياع والهم والغم والفاقة والحاجة والقلق، كلهم سيقولون: إن الخاسر الوحيد في عملية الطلاق هم الأبناء.
إذا رأيتم طفلاً مهموماً لا يملك إلا إخفاء حزنه بكفه ليضعه على خده فاعلموا أن الأب جنى عليه بكلمة الطلاق . إذا رأيتم طفلاً أخذ يبحث عن الحنان والعطف بين أحضان أصدقاء السوء وأهل اللهو والفجور فاعلموا أن الأب جنى عليه بكلمة الطلاق.إذا رأيتم طفلاً ملت منه كراسي الدراسة لبلادة ذهنه وعدم فهمه فاعلموا أن والده جنى عليه بالطلاق. إذا رأيتم شاباً ضاع هدفه وتاه أمله ولم يجد بُداً من الهرب من واقعه إلا بالمخدرات فاعلموا أن والده جنى عليه بالطلاق.
لست أقول: إن الشاب إذا وقع في المخدرات والضياع والفشل الدراسي والتشرد لا سبب لذلك إلا الطلاق، ولكني أقول: إن من الأسباب الرئيسة لكل ذلك هو الطلاق.
الأب هو الجاني نعم: لأن العصمة بيده والعقدة بيده. لم يصبر واختار سعادته على سعادة أبنائه، واختار راحته على راحة أبنائه، واختار فراق الأم في ساعةٍ الأبناء أحوج ما يكونون فيها إلى لمّ شمل الأسرة، أصبح الطفل في هذه الأسرة الممزقة غريباً مهموماً شريداً، إذا دخل المنزل جالت عيناه في أرجاء البيت بحثاً عن أمه، وتلكأت كلماته لنداء أمه، فلم يجد بداً من السماح لدموعه أن تعبر عن ألم نفسه. ألا فاتقوا الله في الأبناء، ألا فاتقوا الله في الأبناء.
نحن في مجتمع تحيط به السلبيات من جانب فكيف هي حال من تدمرت أسرته وانهارت أركانها وتدمرت مراكز الحصانة والحماية لديه. لا أعتقد إلا أنه سيكون واحداً ممن يغوص في غياهب ظلمة ومستنقعات الضياع والرذيلة، والسبب هو الطلاق.
[1] في الحديث حُجَّة لِمَالِك عَلَى الْجُمْهُور فَإِنَّهُ يُرَاعِي الْكَفَاءَة فِي الدِّين فَقَطْ، وَالْحَدِيث قَدْ أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيّ وَرَجَّحَ إِرْسَاله ثُمَّ أَخْرَجَهُ مِنْ حَدِيث أَبِي حَاتِم الْمُزَنِيِّ وَقَالَ فِيهِ : حَسَن.
الخطبة الثانية
أما بعد:
إليك أخي المسلم الطرق التي تبعدك عن الوقوع في الطلاق:
- أخرج من المنزل عند اشتداد الخلاف ولا تترك للشيطان فرصة للوصول لمبتغاه.
- لا تتصلب في رأيك ولا تعتقد أن الرجولة تظهر في ذلك.
- لا تستثر من الزوجة عند طلبها للطلاق ولا تمكن أهل السوء والغباء وأهل الجهل وعدم الحكمة من أهل الزوجة أن يستثيروك فتطلق.
- احترم والدتك ووالدك، وبرهما، وتذلل لهما، ولكن لا تسمح لهما أو لغيرهما أن يدمروا حياتك الزوجية بالتدخلات في الحياة الخاصة .
- إذا قررت الطلاق فلا تنفذ وقت القرار بل أرجئ التنفيذ إلى أسبوع أو أكثر.
- استشر أهل الصلاح والحكمة .
- وأخيراً تذكر الأطفال، تذكر الأبناء، ما مصيرهم، تذكر غربتهم في بيتك وغربتهم في بيت أمهم، تذكر عدم استقرارهم
- اعلم أن حالة اليتيم النفسية أخف بكثير من حال من افترق والداه بالطلاق.
- اعلم أن الضحية الوحيدة هم الأبناء، ربما تجد خيراً منها وتجد هي خيراً منك، ولكن الأبناء لن بجدوا....!
ــــــــــــــــــــ(67/331)
دائرة معارف الأسرة المسلمة
بحوث ومقالات وخطب منوعة 2
جمع وإعداد الباحث في القرآن والسنة
علي بن نايف الشحود
المرأة بين الجاهلية والإسلام
...
...
2118
...
الأسرة والمجتمع
...
...
المرأة
...
سعيد بن عبد الباري بن عوض
...
...
جدة
...
...
...
سعد بن أبي وقاص
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- الغزو الفكري بديل عن الغزو العسكري. 2- اتهام الإسلام بظلم المرأة هو سباب لله عز وجل. 3- أحوال المرأة في الجاهلية. 4- تكريم الإسلام المرأة زوجة وأما وابنة.
الخطبة الأولى
ثم أما بعد:
فقد تحدثنا فيما سبق عما يريده أعداء هذا الدين من كيد للإسلام والمسلمين وأنهم لما عجزوا عن مواجهة هذا الدين بالسلاح، واجهوه بالغزو الفكري الثقافي يشوهون بذلك صورة الإسلام عند غير المسلمين ويشككون المسلمين في دينهم.
وذكرنا أن من أكبر وسائلهم التي حاولوا ضرب المسلمين من خلالها هي المرأة. فأشاعوا ونشروا حول مكانة المرأة في الإسلام الأباطيل والشبهات.
ومن أكبر أباطيلهم التي حاولوا نشرها والترويج لها بين المسلمين مقولتهم الباطلة بأن الإسلام قد ظلم المرأة وأهانها. فنقف مع هذه التهمة الباطلة و المقولة الآثمة لنتبين بطلانها ونرد على قائليها ومروجيها من أعداء الله وأعداء رسوله رداً إجماليا أولاً، ثم رداً تفصيلياً بعد ذلك بعون الله.
أولاً: يقولون قد ظلم الإسلام المرأة وأهانها. فنقول محذرين ومنبهين أن هذه المقولة كفر ويجب الحذر منها، وذلك لأن الإسلام هو دين الله عز وجل، وهو الذي أنزله وشرعه لنا قال تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ الأسْلاَمَ دِيناً [المائدة:3]. ومن هنا نقول بأن من قال بأن الإسلام قد ظلم المرأة أو أهانها فإنه إنما يقول أن الله عز وجل قد ظلم المرأة وأهانها, تعالى الله عما يقول الجاهلون الظالمون علواً كبيراً, يقول الله تعالى: وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [الكهف:49]. وقال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ [النساء:40]. وقال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا [يونس:44].
فالقول بأن الله قد ظلم المرأة بعد ذلك هو تكذيب للقرآن وتكذيب القرآن كفر. هذا هو الرد الإجمالي الذي يجب على كل مسلم أن يفهمه ويعيه ويفهمه للعالم كله.. هو أننا مؤمنون بأن الله عز وجل لا يظلم أحداً.
ثم تعال أخي المؤمن الموحد ننظر في حال المرأة قبل الإسلام ثم في حالها بعد الإسلام لنرى هل ظلم الإسلام المرأة أو أهانها؟ وهو الرد التفصيلي.
كان العرب في الجاهلية قبل الإسلام ينظرون إلى المرأة على أنها متاع من الأمتعة التي يمتلكونها مثل الأموال والبهائم ويتصرفون فيها كيفما شاءوا. وكان العرب لا يورثون المرأة ويرون أن ليس لها حق في الإرث وكانوا يقولون: لا يرثنا إلا من يحمل السيف ويحمي البيضة.
وكذلك لم يكن للمرأة على زوجها أي حق، وليس للطلاق عدد محدود، وليس لتعدد الزوجات عدد معين.
وكان العرب إذا مات الرجل وله زوجة وأولاد من غيرها كان الولد الأكبر أحق بزوجة أبيه من غيره, فهو يعتبرها إرثاً كبقية أموال أبيه. فعن ابن عباس رضي الله عنه قال: (كان الرجل إذا مات أبوه أو حموه, فهو أحق بامرأته إن شاء أمسكها, أو يحبسها حتى تفتدي بصداقها أو تموت فيذهب بمالها).
وقد كانت العدة للمرأة إذا مات زوجها سنة كاملة. وكانت المرأة تحد على زوجها أشد حداد وأقبحه, فتلبس شر ملابسها وتسكن شر الغرف، وتترك الزينة والطيب والطهارة، فلا تمس ماء، ولا تقلم ظفراً، ولا تزيل شعراً، ولا تبدو للناس في مجتمعهم، فإذا انتهى العام خرجت بأقبح منظر وأنتن رائحة.
وكان عند العرب أنواع من الزيجات الفاسدة. منها اشتراك مجموعة من الرجال بالدخول على امرأة واحدة ثم إعطاءها حق الولد تلحقه بمن شاءت منهم. فتقول: إذا ولدت هو ولدك يا فلان، فيلحق به ويكون ولده.
ومنها نكاح الاستبضاع، وهو أن يرسل الرجل زوجته لرجل آخر من كبار القوم لكي تأتي بولد منه يتصف بصفات ذلك الكبير في قومه.
ومنها نكاح المتعة وهو المؤقت.
ومنها نكاح الشغار، وهو أن يزوج الرجل ابنته أو أخته أو موليته لرجل آخر على أن يزوجه هو موليته بدون مهر، وذلك لأنهم يتعاملون على أن المرأة يمتلكونها كما يمتلكون السلعة.
كما كان العرب يكرهون البنات فيدفنونهن أحياء خشية العار كما يزعمون، وقد ذمهم الله وأنكر عليهم فقال: وَإِذَا الْمَوْءودَةُ سُئِلَتْ بِأَىّ ذَنبٍ قُتِلَتْ [التكوير:8-9].
هكذا كان حال المرأة في الجاهلية قبل الإسلام عند العرب وكان حالها مثله عند غير العرب كذلك. فكان اليهود مثلاً إذا حاضت المرأة لا يؤاكلونها ولا يجالسونها، وينصبون لها خيمة في وسط البيت، وكأنها نجاسة أو قذارة.
وكذلك كان حالها عند الشعوب الأخرى.
ولما جاء الإسلام ونزل القرآن رفع الله مكانة المرأة وأعزها وأكرمها، يقول أمير المؤمنين عمر ابن الخطاب رضي الله عنه: (كنا في الجاهلية لا نعد النساء شيئاً، فلما جاء الإسلام, وذكرهن الله، رأينا لهن بذلك علينا حقاً).
وتأمل يا عبد الله، لما جاء الإسلام لم يعتبر الإسلام المرأة مكروهة أو مهانة، كما كانت في الجاهلية، ولكنه قرر حقيقة تزيل عنها هذا الهوان، وهي أن المرأة قسيمة الرجل، لها ما له من الحقوق، وعليها أيضاً من الواجبات ما يلائم تكوينها وفطرتها. وعلى الرجل أن يكون وليها، يحوطها ويذود عنها بدمه، وينفق عليها من كسبه.
ومن مظاهر تكريم المرأة في الإسلام أن ساواها بالرجل في أهلية الوجوب الأداء، وأثبت لها حقها في التصرف ومباشرة جميع الحقوق، كحق البيع والشراء والتملك وغير ذلك.
ولقد كرم الله المرأة حينما أخبر أنه خلقنا من ذكر وأنثى، وجعل ميزان التفاضل بيننا هو تقوى الله قال تعالى: ياأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مّن ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُواْ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [الحجرات:13]. وكذلك ذكرها الله مع الرجل فقال تعالى: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدّقِينَ وَالْمُتَصَدّقَاتِ والصَّائِمِينَ والصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذكِراتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً [الأحزاب:35].
ومن مظاهر تكريم الإسلام للمرأة أن اعتنى بشؤونها، ونبه على أمرها في القرآن والأحاديث، وقد أنزل الله سورة كاملة من السور الطوال باسم النساء (وهي سورة النساء) وقد تحدثت السورة عن أمور هامة تتعلق بالمرأة والأسرة والدولة والمجتمع.
الخطبة الثانية
الحمد لله حمداً لا ينفد، أفضل ما ينبغي أن يحمد. والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء محمد، وعلى آله وصحبه ومن تعبد.
وبعد:
فكذلك من مظاهر التكريم للمرأة تكريم الأم، فقد عظم الإسلام شأن الأم قال تعالى: وَاعْبُدُواْ اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَاناً [النساء:36]. وقال تعالى: وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَاناً [الإسراء:23].
وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أحق الناس بحسن صحابتي؟ فقال: ((أمك. قال ثم من؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أمك. قال ثم من؟ قال: أبوك)).
ومن مظاهر تكريم الإسلام للمرأة عنايته بحقوق الزوجات، فلقد كان ما قاله في خطبته في حجة الوداع: ((فاتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمان الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله)).
بالإضافة إلى تلك المظاهر إعطاها الحرية في اختيار الزوج بالقيود الشرعية. فعن عائشة رضي الله عنها قالت سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجارية ينكحها أهلها ـ يعني يزوجونها ـ أتستأمر أم لا؟ ـ يعني: هل تستأذن ـ فقال: ((نعم تستأمر، قالت فقلت له: إنها تستحي فقال صلى الله عليه وسلم: فذلك إذنها إذا هي سكتت)).
ومن مظاهر تكريم المرأة في الإسلام أن الإسلام حث على تربية البنات ورتب عليها أجراً عظيماً. قال صلى الله عليه وسلم: ((من عال جاريتين حتى تبلغا جاء يوم القيامة أنا وهو، وضم أصابعه)) [رواه مسلم].
ولم يرد مثل هذا الحديث في تربية الذكور من الأولاد.
عباد الله، ولو أردنا تتبع مظاهر تكريم المرأة في الإسلام لطال بنا المقام، ولكن فيما ذكر كفاية، ولعل من أراد الاستزادة أن يرجع إلى كثير من الكتب التي ألفت في هذا الباب ليرى بعين بصيرته مدى التكريم الذي وصلت إليه المرأة في الإسلام.
وهنا إخوتي لا بد من وقفة وهي: أننا مع الأسف أصبحنا اليوم في وضع المدافع، ندافع عن ديننا، نريد أن ندفع عنه التهم التي يلصقها به أعداؤه، وهذا والله ضعف وخور حدث في الأمة بسبب ترك ما أمر الله به وهو الدعوة إلى الله. ولو أننا قمنا بواجب الدعوة إلى الله، وغزونا هؤلاء الكفار في عقر دارهم بدعوتنا وبينّا محاسن ديننا. وقمنا كذلك ببيان فساد دينهم الذي هم عليه. وأنهم قد ظلموا المرأة والرجل والطفل في تعاملهم، لو قمنا إخوة الإيمان بذلك، لما احتجنا أن ندافع عن ديننا لأننا أصحاب حق وصاحب الحق قوي بحقه. ولكن نحن اليوم بحاجة إلى إصلاح داخلي في ذواتنا وأنفسنا قبل أن نقوم بالإصلاح في الخارج والله المستعان.
ـــــــــــــــــــ(68/1)
مقدمة خطب عن المرأة
...
...
2134
...
الأسرة والمجتمع, العلم والدعوة والجهاد
...
...
القتال والجهاد, المرأة
...
سعيد بن عبد الباري بن عوض
...
...
جدة
...
...
...
سعد بن أبي وقاص
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- عجز الأعداء عن هزيمتنا عسكرياً فهزمونا بالغزو الفكري. 2- الحرب موجهة لكل أصناف المجتمع المسلم. 3- لابد للأمة المسلمة من أن تنهض من كبوتها وتستيقظ من غفلتها. 4- اهتمام الأعداء بحرب المرأة المسلمة.
الخطبة الأولى
أما بعد:
فمنذ أن بعث الله نبي هذه الأمة محمداً صلى الله عليه وسلم للعالمين قامت طائفة من المناوئين لدعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم بمحاربة هذا الدين, بداية بكفار قريش وعلى رأسهم أبو جهل وأبو لهب وأمية بن خلف وغيرهم، ومروراً بعد ذلك بالمنافقين الذين أظهروا الإسلام وأبطنوا الكفر والنفاق، وكذلك كل من لم يكرمه الله بإتباع هذا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، كل أولئك قد نذروا أوقاتهم وجهدهم ومالهم لمحاربة هذا النبي صلى الله عليه وسلم وهذا الدين الذي جاء به. ودارت المعارك الكثيرة ونصر الله دينه وأعز جنده وأعلى كلمته، وهزم أعداء الله وأعداء رسوله وظهر دين الله ودخل الناس في دين الله أفواجاً.
وعرف أعداء هذا الدين أنهم غير قادرين على مواجهة هذا الدين مواجهة عسكرية ولا محاربته بالسيف والرمح فلجؤوا إلى الحرب الفكرية العقائدية، وذلك عن طريق نشر الأفكار المنحرفة والعقائد الفاسدة بين المسلمين حتى يفسدوا على المسلمين دينهم. فأخذوا ينشرون الفتن بين المسلمين ويؤلفون الأحاديث المكذوبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانت الحرب العسكرية بالسيف والرمح أقل خطراً، وكانت الحرب الفكرية العقائدية أشد خطراً وأعظم أثراً في المسلمين.
وحصل أعداء الدين على بعض ما كانوا يريدون من خلال الحرب الفكرية، وذلك ما لم يحلموا بالحصول عليه من خلال السيف.
نعم عباد الله، إن أعداء الدين اليوم يعلمون ذلك تماماً ويعونه، بل ويعملون على استمرار تلك الحرب وتطويرها، حيث أصبحت اليوم مدروسة مبحوثة يخطط لها وتبذل من أجلها الأموال الطائلة، كل ذلك حرباً لهذا الدين الذي جاء به رسول الهدى صلى الله عليه وسلم. وقد جعلوا نصيباً لكل مسلم من هذه الحرب، فهناك خطط موجهة لكل فرد في المجتمع المسلم فهناك مثلاً حرب موجهة:
1- للشاب المسلم.
2- للطفل المسلم.
3- للمسلم المثقف.
4- للمسلم العامي غير المتعلم.
5- للمرأة المسلمة.
6- للمسلم العربي.
7- للمسلم غير العربي.
8- للمسلم الغني.
9- للمسلم الفقير.
فلم يتركوا طبقة من طبقات المجتمع إلا وكان لها نصيب من هذه الحرب الفكرية. وقد استخدموا في هذه الحرب كل الوسائل المتوفرة، فاستخدموا:
1- الوسيلة المقروءة.
2- الوسيلة المسموعة.
3- الوسيلة المرئية.
وأنفقوا أموالاً لا تعد ولا تحصى من أجل حرب هذا الدين، ومع علمنا بأن أعداء الله قد نجحوا في بعض الأمور التي يريدونها إلا أننا نؤمن أنهم لن ينالوا ما يحلمون به، وهو القضاء على الإسلام والمسلمين، ونؤمن يقيناً أن الله ناصر دينه ومعل كلمته، وأن الدائرة ستكون على أعداء هذا الدين، وهذا ما أخبرنا به ربنا ولا نشك فيه أبداً، وأن هذه الأموال التي ينفقونها للصد عن سبيل الله ستضيع ويخسرونها وتكون هباء منثوراً قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ [الأنفال:36].
نعم هكذا يخبرنا ربنا تبارك وتعالى أنهم سينفقون الأموال للصد عن سبيل الله والتشكيك في دين الله وقلب المفاهيم والطعن في الأحكام، لكن النتيجة لن تكون كما يريد أعداء الله، بل ستكون هذه الأموال عليهم حسرة لأنهم أنفقوها بلا فائدة بل وسيغلبون ويهزمون ثم يحشرهم الله عز وجل إلى جهنم وساءت مصيراً.
فليعلم أعداء هذا الدين أنهم لا يحاربون طائفة من الناس أو فكرة من الأفكار البشرية بل يحاربون ديناً سماوياً نزل به الأمين جبريل عليه السلام على خير البشر صلى الله عليه وسلم. وأن أمة الإسلام تمرض وتضعف لكنها لا تموت. وليعلموا أنهم يحاربون رب السماوات والأرض وما بينهما، الذي لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء. وليعلم المسلمون أن حفظ هذا الدين قد أوكله الله إلى نفسه ولم يكله إلى أحد من البشر قال تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9]. ولو كان حفظ هذا الدين موكولاً إلى غير الله لضاع منذ زمن طويل، لكنه لما كان الحافظ له هو الله لا زال حتى يومنا هذا صامداً أمام الهجمات الشرسة من أعداء الدين مع ضعف أهله وقلة حيلتهم، وذلك أن الله عز وجل قد تكفل بحفظه. وذلك ليطمئن كل مسلم غيور على دينه ولا يقنط من رحمة الله ولا يظنن أن النصر لأعداء الله، فإن دولة الباطل ساعة، ودولة الحق إلى قيام الساعة.
وإن مما ينبغي أن يعلم مع علمنا بأن النصر لهذا الدين، أنه لا بد من أن يقوم أهل هذا الدين بالدفاع عنه قياماً بالأسباب ولا يتكلوا على ما ذكرنا من حفظ الله لدينه ونصرته لعباده المؤمنين، فإن النصرة لا تكون إلا لمن قام بأسبابها، وإن لم نقم بأسبابها فإن الله قادر على الإتيان بقوم آخرين يؤمنون بذلك ويعملون لتحقيقه قال تعالى: أُوْلَائكَ الَّذِينَ ءاتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاء فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ [الأنعام:89]. وقال تعالى: ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحياةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِى الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلّ شَىْء قَدِيرٌ إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِى الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِىَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [التوبة:38-40]. وهكذا نعلم أننا مطالبون بنصرة دين الله والعمل به ولا يجوز لنا التواكل وترك العمل.
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، والحمد لله على ما قدره بحكمته من دقيق الأمر وجله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك كله، وله الحمد كله، وبيده الخير كله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان وسلم تسليماً.
عباد الله: إن أعداء هذا الدين قد جعلوا من أهدافهم الرئيسة لحرب هذا الدين المرأة المسلمة، وقد علموا أن المرأة لها دور كبير وتأثير عظيم على المجتمع, فبصلاحها يصلح المجتمع، وبفسادها يفسد المجتمع، فهي مربية الأجيال وصانعة الرجال ومهد الحضارات. فصبوا الهجمات تلو الهجمات على الإسلام من جانب المرأة فقالوا: إن الإسلام قد ظلم المرأة في كثير من حقوقها، وقالوا: إن الإسلام قد حبس المرأة وسلط الرجل عليها، وقالوا: إن الإسلام ينظر للمرأة نظرة احتقار, وقالوا: إن المرأة والرجل متساويان، والإسلام قد فضل الرجل على المرأة. وحاربوا حجاب المرأة المسلمة وشككوا فيه، كما حاربوا تعدد الزوجات وشككوا فيه. وشككوا في أحكام المواريث بالنسبة للمرأة، والدية، وغير تلك الشبه الكثيرة التي أثاروها حول قضايا المرأة في الإسلام.
وهذه الخطبة عباد الله مقدمة للحديث عن المرأة في الإسلام وبيان مكانتها والرد على تلك الشبه التي يثيرها أعداء الله من الكافرين والمنافقين الذين يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر ويحاربون الله ورسوله ويستهزئون ويلمزون. وإننا إن شاء الله سنتحدث عن قضايا المرأة وكيف أن الإسلام كرمها وأعزها وحفظها من كل ما يشينها أو يسيء إليها، وكيف أن أعداء الإسلام استطاعوا أن يقلبوا مفاهيم بعض النساء بل والرجال أيضاً ويجعلوهم يقولون مثلهم بأن الإسلام قد قيد حرية المرأة.
وستكون سلسلة خطب إن شاء الله عامة، وليس معنى أنها عن المرأة يعني أنها لا تصلح إلا للنساء بل ربما نقول أن المعني بها أولاً هو الرجل لأنه هو المسؤول عن تغيير تلك المفاهيم وإصلاح النساء من بنات وزوجات وأخوات. لذلك فمن المهم جداً أن نفهم ذلك وأن نعلم نساءنا، فإننا مسؤولون عنهن أمام الله عز وجل. وفقنا الله وإياكم لما فيه الخير والسداد.
ـــــــــــــــــــ(68/2)
الأسرة في الإسلام (1)
...
...
2180
...
الأسرة والمجتمع
...
...
قضايا الأسرة
...
سعيد بن يوسف شعلان
...
...
جدة
...
...
...
عمار بن ياسر
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- عناية الإسلام بالأسرة. 2- تأثير الأسرة على الأطفال. 3- إخفاق المحاضن في تربية الأطفال. 4- كيفية معالجة الكتاب والسنة لقضايا الأسرة. 5- مقاربة بين السلف والخلف في هذا المجال.
الخطبة الأولى
فإن الأسرة هي القاعدة الركينة التي تقوم عليها الجماعة المسلمة، ويقوم عليها المجتمع الإسلامي، هذه القاعدة التي أحاطها الإسلام برعاية ملحوظة، واستغرق تنظيمها وحمايتها وتطهيرها من فوضى الجاهلية جهدًا كبيرًا. نراه متناثرًا في سور شتى من القرآن، محيطًا بكل المقومات اللازمة لإقامة هذه القاعدة الأساسية الكبرى. إن النظام الاجتماعي الإسلامي نظام أسرة، بما أنه نظام رباني للإنسان، هذا النظام ملحوظ فيه كل خصائص الفطرة الإنسانية وحاجاتها ومقوماتها، وينبثق نظام الأسرة في الإسلام من معين الفطرة وأصل الخلق وقاعدة التكوين الأولى للأحياء جميعًا والمخلوقات كافة، تبدو هذه النظرة واضحة في قوله تعالى من سورة الذاريات: وَمِن كُلّ شَىْء خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [الذاريات:49].
وفي قوله تعالى من سورة يس: سُبْحَانَ الَّذِى خَلَق الاْزْواجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ الاْرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لاَ يَعْلَمُونَ [يس:36].
ثم تتدرج النظرة الإسلامية للإنسان فتذكر النفس الأولى التي كان منها الزوجان ثم الذرية ثم البشرية جميعًا، وذلك في قوله تعالى من سورة النساء: ياأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِى خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِى تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً [النساء:1].
وفي قوله تعالى من سورة الحجرات: ياأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مّن ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُواْ [الحجرات:13].
ثم تكشف عن جاذبية الفطرة بين الجنسين لا تجمع بين مطلق الذكران ومطلق الإناث، ولكن تتجه إلى إقامة الأسُر والبيوت، وذلك كما في قوله تعالى في سورة الروم: وَمِنْ ءايَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْواجاً لّتَسْكُنُواْ إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً [الروم:21]. وفي قوله تعالى في سورة البقرة: هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ [البقرة:187]. وكذلك في سورة البقرة: نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدّمُواْ لاِنفُسِكُمْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّكُم مُّلَاقُوهُ وَبَشّرِ الْمُؤْمِنِينَ [البقرة:223].
وفي قوله تعالى من سورة النحل: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مّن بُيُوتِكُمْ سَكَنًا [النحل:80]. فهي الطفرة تعمل وهي الأسرة تلبي هذه الفطرة في إطارها الذي أذن الله فيه وأنعم به على بني آدم وجعله آية حَريّة بالتفكر، وبه أمر رسول الله وحثَّ عليه ورغَّب فيه.
والأسرة هي المحضن الطبيعي الذي يتولى حماية الأفراخ الناشئة ورعايتها وتنمية أجسادها وعقولها وأرواحها، وفي ظله تُتلقى مشاعر الحب والرحمة والتكافل، وتنطبع بالطابع الذي يلازمها مدى الحياة، وعلى هديه ونوره تتفتح للحياة وتُفسر الحياة وتتعامل مع الحياة.
المحضن الطبيعي هو الأسرة، يخرج منها الأفراخ، وقد تطبعوا بما طبعهم عليه المسؤولان الأساسيان الكبيران عن هذه الأسرة الأب والأم.
وفي ظل هذه الأسرة تتفتح هذه الأفراخ للحياة، أي الأطفال، وتفسر الحياة وتتعامل مع الحياة. بناءًا على ما تربوا عليه بين الداعيين الأساسين الأب والأم.
والطفل الإنساني هو أطول الأحياء طفولة، لأن طفولته تمتد أكثر من أي طفل آخر للأحياء الأخرى. ذلك أن مرحلة الطفولة هي فترة إعداد وتهيؤ وتدريب للدور المطلوب من كل حي باقي حياته، ولما كانت وظيفة الإنسان هي أكبر وظيفة، ودوره في الأرض هو أضخم دور، امتدت طفولته فترة أطول ليحسُن إعداده وتدريبه للمستقبل. ومن ثَمَ كانت حاجته لملازمة أبويه أشد من حاجة أي طفل لحيوان آخر. وكانت الأسرة المستقرة الهادئة ألزم للنظام الإنساني، وألصق لفطرة الإنسان وتكوينه في هذه الحياة.
وقد أثبتت التجربة العملية أن جهاز الأسرة وحده هو الذي يصلح لهذا الدور، وأن أي جهاز غير جهاز الأسرة لا يعوضه عنها ولا يقوم مقامها؛ بل لا يخلو من أضرار مفسدة لتكوين الطفل وتربيته، وبخاصة نظام المحاضن الجماعية التي أرادت بعض المذاهب المصطنعة المتعسفة أن تستعيض بها عن نظام الأسرة في ثورتها الجامحة. أي في ثورة هذه المذاهب الشاردة المتعسفة ضد النظام الفطري الصالح القويم الذي جعله الله للإنسان.
ويزعم أناس حرموا أنفسهم نعمة السلام الذي أراده الله لهم؛ أن التقدم والحضارة والرقي أن تخرج المرأة إلى العمل دافعة بأطفالها إلى هذه المحاضن، بينما كان من أول ما أثبتته تجربة المحاضن أن الطفل في العامين الأولين من عمره يحتاج حاجة نفسية فطرية إلى الاستقلال بوالدين له خاصة. وبخاصة الاستقلال بأم لا يشاركه فيها طفل آخر. وفيما بعد هذه السن يحتاج حاجة فطرية إلى الشعور بأن له أبًا وأمًا مميزين يُنسب إليهما. والأمر الأول متعذر في المحاضن، والأمر الثاني متعذر في غير نظام الأسرة. ما هو الأمر الأول والأمر الثاني؟
الأمر الأول: الذي يلبي حاجة الطفل النفسية الفطرية إلى والدين له خاصة متعذر في المحاضن، والأمر الثاني الذي يلبي حاجة الطفل إلى أن له أبوين مميزين يُنسب إليهما متعذر في غير نظام الأسرة.
واي طفل يفقد أيهما ينشأ منحرفًا شاذًا مريضًا مرضًا نفسيًا على نحو من الأنحاء، وحين تكون هناك حادثة تحرم الطفل إحدى هاتين الحاجتين تكون لا شك كارثة في حياته.
فما بال الجاهلية الشاردة تريد أن تُعمم الكوارث في حياة الأطفال جميعًا. ومن ثم نجد النظام الاجتماعي الإسلامي الذي أراد به الله أن يدخل المسلمون في السلم وأن يستمتعوا في ظله بالسلام الشامل يقوم على ماذا؟ يقوم على أساس الأسرة ويبذل لها من الغاية ما يتفق مع دورها الخطير، ولهذا فإن الأحكام المتعلقة بالأسرة من زواج وعشرة وإيلاء وعدة ونفقة ومتعة ورضاعة وحضانة، لا تذكر مجردة في كتاب الله عز وجل وسنة رسوله لا تُذكر مجردة:
لا يُقال النفقة قدرها كذا، والمتعة قدرها كذا، والطلاق والزواج, لا. بل تجئ في جو يشعر القلب البشري بأن يواجه قاعدة كبيرة من قواعد المنهج الإلهي للحياة البشرية، وأصلاً كبيرًا من أصول العقيدة التي ينبثق منها النظام الإسلامي، ومن ثم فإن هذا الأصل موكول بغضب الله تعالى ورضاه وعقابه وثوابه، فما من صغيرة ولا كبيرة في أمر الأسرة إلا وتلقى من الله سبحانه وتعالى عناية ورقابة.
وتجئ التعقيبات في نهاية الآيات المتعلقة بالأسرة، وأحيانًا بين ثناياها لتنبأ عن ضخامة هذا الأمر، فاقرأ آيات الله تعالى في أحكام الأسرة، وانظر وتأمل كيف يختم الله هذه الآيات؟، وكيف يُعقب عليها؟. وبماذا يأتي به في ثناياها يقول الله تعالى كما سمعتم في الآية السابقة؟.
نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدّمُواْ لاِنفُسِكُمْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ [البقرة:223].الأمر بتقوى الله في أثناء الحديث عن حل النساء لأزواجهن على الوجه الذي عينه الله تبارك وتعالى وحدده لهم وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّكُم مُّلَاقُوهُ وَبَشّرِ الْمُؤْمِنِينَ [البقرة:223].
يقول الله تبارك وتعالى في الإيلاء: فَإِن فَآءوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [البقرة:226]. التعقيب على أمر الإيلاء والرحمة بالفاء.
ويقول الله تبارك وتعالى في التعقيب على آيات أخرى متعلقة بالطلاق: وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ بِكُلّ شَىْء عَلِيمٌ [البقرة:231]. وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [البقرة:233]. ويقول في نهاية الحديث عن العدة: وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [البقرة:234]. ويقول في جواز التعريض بخطبة النساء اللاتي مات عنهن أزواجهن وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِى أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ [البقرة:235].
ويقول كذلك في نهاية بعض آيات الطلاق وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ [البقرة:237]. ويقول قبلها: وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [البقرة:237].
ويقول في سورة النساء: وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً [النساء:19].
وكرر الشرط والجزاء في سورة الطلاق فيقول: وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلّ شَىْء قَدْراً وَاللاَّئِى يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِن نّسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّاتِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُوْلَاتُ الاْحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفّرْ عَنْهُ سَيّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً [الطلاق:2-5]. ويقول رسول الله في بعض الوصايا والأحاديث التي جاءت فيها بعض أحكام الأسرة ((استوصوا بالنساء خيرًا)) كما في الصحيحين[1].
ويقول في حق المرأة: ((لا تؤدي المرأة حق ربها حتى تؤدي حق زوجها، ولو كنت آمرًا أحدًا بالسجود لأحد لأمرت المرأة بالسجود لزوجها ـ أن تسجد لزوجها ـ من عظم حقه عليها))[2].
ويقول عليه الصلاة والسلام: ((خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي))[3].
إلى غير ذلك من كلامه الشريف وإلى غير ذلك من كلام الله تعالى في كتابه العزيز، فهي أحكام يناط تنفيذها بتقوى القلب، وحساسية الضمير؛ لأنّ الاحتيال على النصوص والأحكام ممكن في غير هذا الوازع الحارس المستيقظ.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
[1] البخاري (3331) ، ومسلم (1468).
[2] صحيح ابن حبان (ترتيب ابن بلبان 9/470).
[3] صحيح ابن حبان (ترتيب ابن بلبان 9/484).
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله خاتم الأنبياء وإمام المرسلين اللهم صل وسلم وبارك على نبينا وإمامنا وسيدنا محمدًا بن عبد الله وعلى آله وأصحابه.
أما بعد:
فإننا عندما نقرأ قول الله تعالى في سورة النساء: وَيَسْتَفْتُونَكَ فِى النّسَاء قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ [النساء:127].
نرى أن ظاهرة سؤال المسلمين الأوائل واستفتائهم في بعض الأحكام ظاهرة لها دلالتها من اليقظة والرغبة في مرضاة الله وهي العناصر البارزة في هذه الفترة على الرغم من بقاء بعض رواسب الجاهلين قبل أن يقبض رسول الله من بين أظهرهم، على الرغم من ذلك فالمهم هو رغبتهم الحقيقية القوية في مطابقة أحوالهم لأحكام الإسلام والاستفسار عن بعض الأحكام بهذه الروح، لا لمجرد المعرفة والعلم والثقافة كمعظم ما يوجه للمفتين في هذه الأيام من الاستفتاءات، لا. لقد كانت بالقوم حاجة إلى معرفة أحكام دينهم لأنها هي التي تكون نظام حياتهم الجديدة، وكانت بهم حرارة لهذه المعرفة؛ لأنّ الغرض منها إيجاد التطابق بين واقع حياتهم وبين أحكام دينهم، وكان بهم انخلاع من الجاهلية وإشفاق من كل ما كان فيها من تقاليد وأحوال وأوضاع وأحكام، مع شدة إحساسهم بقيمة هذا التغير الكامل الذي أنشأه الإسلام في حياتهم، أو بتعبير أدق بقيمة هذا الميلاد الجديد الذي ولدوه على يد الإسلام.
ونجد جزاء هذا كله، جزاء حرارتهم وجزاء صدق عزيمتهم على الإتباع وجزاء تطلعهم لله، نجد جزاء هذا كله عناية من الله ورعاية؛ لأنّه سبحانه بذاته العلية يتولى بنفسه افتاءهم فيما يفتونهم فيه وَيَسْتَفْتُونَكَ فِى النّسَاء قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ [النساء:127].
وتدرجت الأمور وساءت الأحوال بمرور القرون والأزمان بعد أن كان الأوائل يسألون ويستفتون حتى تطابق أحوالهم أحكامهم، أصبحت الأحكام تعرض على المسلمين غضة طرية جلية فيأبون الامتثال والخضوع والإذعان لها والتسليم، لم يعد أحد إلا قليل ممن رحم الله يسأل عن أحكام دينه ليطابق حاله أحكام الإسلام، وعاد الكثير إذا ما عرضت عليهم الأحكام تبرموا وتنصلوا منها. فمن كان قبل الأوائل في السؤال عن أحكام الدين للانخلاع من الجاهلية وعاداتها وأوضاعها وأحكامها، ومطابقة حاله لأحكام دينه فليحمد الله، ومن كان غير ذلك فليحاول أن يكون كالأوائل.
فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم إن التشبه بالكرام فلاح
وهه هي الخطبة الأولى في سجل خطب اعتزمت أن أجعلها خاصة بالأسرة المسلمة ونظامها والأعمدة التي تقوم عليها.
أسأل الله تبارك وتعالى أن يجعلنا وإياكم حيثما كنا من أرض الله من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
ـــــــــــــــــــ(68/3)
الأسرة في الإسلام (3)
...
...
2181
...
الأسرة والمجتمع
...
...
المرأة
...
سعيد بن يوسف شعلان
...
...
جدة
...
...
...
عمار بن ياسر
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- الصفات التي ينبغي توفرها في المخطوبة. 2- ذات الدين. 3- فتنة النساء. 4- ضعف المرأة. 5- دور المرأة في الحياة. 6- إصلاح المرأة. 7- المحرمات التي تقع فيها النساء.
الخطبة الأولى
أما بعد:
فقد تقدم الكلام في الجمعة الماضية عن الصفات التي يجب أن يتحلى بها المسؤول الأول عن الأسرة المسلمة ألا وهو الرجل، تلك الصفات التي تجعله جديرًا بأن تُسند إليه تلك المهمة، فتعالوا اليوم نتحدث عن الصفات التي يجب أن تتحلى بها المسؤولة والمشاركة الثانية في هذه المهمة مهمة الرعاية والحماية والعناية بالأسرة المسلمة وتنمية عقول أفرادها وأرواحها وأجسادها، تعالوا نتكلم عن صفات المرأة التي تجعلها جديرة بأن تُسند إليها هذه المهمة وكما ذكرنا قوله تعالى في سورة البقرة في الآية الحادية والعشرين بعد المائتين لنستدل به على أن العبد المؤمن خير من المشرك ولو أعجبنا، فنستدل بنفس الآية على ما يقابل نفس الأمر من الرجال وعلى أنه مرعي كذلك في النساء، فالله تبارك وتعالى يقول في آخر هذه الآية: وَلامَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ [البقرة:221].
فمردّ الأمور دائمًا إلى الإيمان بالله تبارك وتعالى وبما أوجب علينا الإيمان به، فمن كان متحليًا من الرجال والنساء بالإيمان والرضى بالله تعالى ربًا وبرسوله نبينا وبالإسلام دينًا ومن كان موصولاً بجميع حياته وشؤونها بدينه فهو المُقدم عند النظر في هذه المسألة، مسألة إسناد مهمة الأسرة المسلمة.
وَلامَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ [البقرة:221].
وفي هذا يقول رسول الله فيما أخرجه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، يقول محددًا الأمور التي من أجلها يرغب الرجل في نكاح المرأة، فيُبين عليه الصلاة والسلام أنها أربعة أمور وذلك في قوله: ((تُنكح المرأة لأربع، لمالها ولجمالها وحسبها ودينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك))[1].
بين عليه الصلاة والسلام أنَّ الأمور التي تدعو الرجل لنكاح المرأة هي المال، أو الجمال، أو الحسب، والنسب أيضًا، والدين يدعو الرجل لنكاح المرأة، وقد يكون طلاب الدين قليلين خاصة إذا لم ينضم إلى الدين صفة أخرى، لا سيما صفة الجمال، وهنا بيَّن رسول الله أن ذات الدين تُغتنم ويُظفر بها، وذات الدين قد أصبحت في أعصارنا وأيامنا هذه بصفة خاصة، قليلة الوجود، نادرة إلى حد بعيد، وذلك لأن الشيطان وأعوانه منذ زمن ومنذ أمد يتعاهدون المسلمون بالإفساد، وبالكيد، ومن ضمن الأدوات التي استخدموها في بلوغ غايتهم؛ النساء، ويصدق ذلك ويشهد له قوله في الصحيحين عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال عليه الصلاة والسلام: ((ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء))[2].
ويقول سعيد بن المسيب رحمه الله تعالى: (ما آيس الشيطان من شيء إلا أتاه من قبل النساء)[3] يعني إذا أراد الشيطان أن يفسد على المؤمنين أمرًا من أمورهم فعزّ عليه وصعب وتعسر طرقه من باب النساء، فإذا هو سهل يسير، ومن هنا سُلطت النساء منذ زمن بعيد على الرجال، وأُلقىَ في أذهانهن الأفكار الخبيثة الخاطئة لكي يطلب الاختلاط والتبرج والسفور والعمل والمساواة بالرجال في جميع الأحكام والميادين.
ومن هنا فلتعلم النساء اللاتي يحاولن المساواة بالرجال في جميع الأحكام والميادين أنهن مترجلات متشبهات بالرجال، وأنهن بناء على ذلك ملعونات في كتاب الله على لسان رسوله ، وكذلك المخنثون المتشبهون من الرجال بالنساء ملعونون في كتاب الله على لسان رسوله .
أمّا النساء فقد طلبن التساوي بالرجال في كثير من الأمور والأحكام والميادين، وهن يطمعن بسبب ما أُلقيَ إليهن من هذه الأفكار الخبيثة الخاطئة يطمعن إلى مساواة الرجال في كل شيء لو أمكن ذلك.
وما وقع ذلك إلاَّ عندما فُصل بينهن وبين الدين تمامًا، وقيل لهن ولغيرهن من الرجال الذين شُوِّش عليهم: الدين دين عبادة فحسب، وأمور الحياة مرجعها إلى العادات والأقيسة العقلية وطرق الكفار في تناول هذه الأمور، ومن ثم غاب عن النساء قوله تعالى في الآية الثامنة والعشرين بعد المائة من سورة البقرة: وَلِلرّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ [البقرة:228].
وبين الله هذه الدرجة في الآية الرابعة والثلاثين من سورة النساء، فقال: الرّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوالِهِمْ [النساء:34].
صادمت النساء هذه الآيات فخرجن وتبرجن مدعيات أنَّ المجتمع له رئتان إحداهما معطلة بسبب جلوس النساء، وقبوعهن في بيوتهن، استجابة منهن لما ألُقي إليهن من هذه الأفكار الخبيثة الكافرة، وخرجن وتركن البيوت وعطلن أعمالهن التي لا يصلح لها سواهن، لقد حدثنا الله تعالى في الآية الثامنة عشرة من سورة الزخرف عن النقص والضعف الخلقي الذي جبل الله تعالى عليهما النساء فقال: أَوَمَن يُنَشَّأُ فِى الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِى الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ [الزخرف:18].
يُنكر على الكفار نسبة البنات إليه سبحانه ويُبَين أنّ النساء ينشأن في الحلي والزينة لجبر النقص وتغطيته. لزمها جبره وتغطيته ولهذا يقول الشاعر:
وما الحُلي إلا زينة من نقيصة
يتمم من حُسن إذا الحُسن قصّرًا
وأما إذا كان الجمال موفرًا
كحسنك لم يحتج إلى أن يزوّرا
ولهذا لم يشرع الحُلي والزينة للرجال لأن جمال الذكورة يكفيهم، وشرع الحلي والزينة للنساء لجبر النقص وتغطيته، ثم إنّ النساء إذا ظُلمن وبُغي عليهن واعتدُى عليهن لم يستطعن أن يُبن، ولم يستطعن رد الظلم عن أنفسهن لأنهن مع النقص في الخلقة ضعيفات، ولا عبرة بالنوادر من النساء، فإن النادر لا حكم له. يعني لو علم أن هناك من النساء من تستطيع أن تبغي على الرجال فإنه من النادر، والنادر لا حُكم له.
أما الشيء الثابت المعروف الدائم المنتشر في النساء. فهو ضعفهنّ، ومن هنا أوصى القرآن الكريم بهن، وشدد في الوصية، وأوصى رسول الله ، وكرر وشدد في الوصية.
أما القرآن الكريم فقال: وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ [النساء:19].
وفي الأمور المتعلقة بالإيلاء أي الحلف، والطلاق والرضاع ونحو ذلك من الأمور المتعلقة بالأسرة المسلمة فقد مرت الإشارة إلى الوصية القرآنية فيها، وتشديده، وإناطة الأمر في هذه المسائل بتقوى الله، وحساسية الضمير حتى يتقي الرجال ربهم في النساء.
وأما رسول الله فإنه يقول موصيًا الرجال: ((استوصوا بالنساء خيرًا فإنهن خلقن من ضلع، وإن أعوج ما في الضلع أعلاه فإن ذهبت تقيمه كسرته، وإن تركته لم يزل أعوج فاستوصوا بالنساء خيرًا))[4].
وكنت قد تكلمت على ذلك بشيء من التفصيل أثناء الحديث عن أمور الزواج في الخطب الخاصة به. أَوَمَن يُنَشَّأُ فِى الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِى الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ [الزخرف:18].
لكن الذين حرّضوا النساء على الخروج والتبذل عندما ملأ الشيطان رؤوسهنّ بهذه الأفكار الكافرة الخاطئة قالوا: إن المرأة إذا تبرجت وخرجت وتركت الحجاب، إنّ الامساس يذهب الإحساس.
يعني إذا مُسّت المرأة وتلاقت أبدان الرجال بأبدان النساء، وتكرر ذلك كثيرًا فإنه سيذهب الإحساس، ومن هنا فلا بأس أن تخرج مبدية رأسها وعنقها ومعصمها وذارعها وساقها وغير ذلك، فإن كثرة تعود رؤية الرجال لهذه العورات سيذهب إحساسهم، ولو تركنا الاستشهاد بما يصادم ذلك ويمنعه من كتاب الله وسنة رسوله وجادلناهم بالأقيسة العقلية التي يحتجون بها دائمًا لقُلنا أنتم مخطئون غاية الخطأ، وقولكم في غاية السقوط والخسة؛ لأنّ المنصف يعلم علم اليقين أن الرجل يعيش مع امرأته سنين كثيرة، ويُنجب منها الأولاد، كلما سمع صوتها، أو رأى شيئًا من جسدها حصلت عنده الشهوة إليها، ودفعته نفسه إليها، ظل دائمًا مشدودًا إليها مهما عاش معها من السنين. فكيف يذهب المساس الإحساس.
هذا كلام ساقط خسيس.
ثم إن الرجل والمرأة إذا خرجوا إلى العمل واستأجروا شخصًا يقوم بدور المرأة لحفظ الصغار والقيام على إرضاع من يحتاج إلى الرضاع منهم، وتهيئة الأكل والشرب للرجل إذا عاد إلى بيته، فإن هذا الإنسان الذي استؤجر سيُعطل ليقوم بدور غيره، وقد جعل الله تبارك وتعالى للمرأة القدرة على المشاركة في أنواع من البناء الإنساني كالحمل والوضع والرضاعة وتربية النشأ وخدمة البيت والقيام على شؤونه، هذه أمور لا يُستهان بها لأنه لا يصلح لها غيرها، وتكلمت عن ذلك في الخطبة الأولى المتعلقة بخطب الأسرة المسلمة، وعرفنا أن الطفل في العامين الأولين يحتاج حاجة نفسية إلى أم لا يشاركه فيها أحد، ويحتاج فيما بعد ذلك من السنين إلى أبوين مميزين يُنسب إليهما، هكذا فقدنا ذوات الدين، وقلَّ وجودهن، وندر عددهن لما استعدى علينا أعداؤنا باستخدام النساء في تحقيق مآربهم، ولهذا فإن كثيرًا من النساء يحاججن ويُجادلن في أمور هي من أبين الأمور البينة، صريحة في كتاب الله عز وجل، صحيحة في سنة رسول الله لكنهن لما اتبعن أعداء الإسلام في المجادلة بالأقيسة العقلية والعادات والتقاليد، وطرقهم في تناول الأمور.
عزَّ جذبهم إلى الأحكام، وإلى أنها لا تُستمد إلا من كتاب الله وسنة رسوله وعلى المسلمين ألا ييأسوا أبدًا من دعوتهن، ومحاولة إفهامهن وطرح الأباطيل ووضعها جانبًا عن أذهانهن، والحيلولة بينهن وبين هذه المؤثرات التي تأتيهن من شرق ومن غرب.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
[1] البخاري (5090) ، ومسلم (1466).
[2] البخاري (5096) ، ومسلم (2740).
[3] شعب الإيمان (4/373).
[4] البخاري (3331) ، ومسلم (1468).
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله وصفيه من خلقه وخليله، اللهم صل وسلم وبارك على إمامنا وقدوتنا وسيدنا محمد بن عبد الله وعلى آله وصحابته أجمعين.
أما بعد:
وأما القسم الثاني من النساء:
وهن ذوات الدين القليلات النادرات، فإنّ فيهن من لا يرى في الدين إلاَّ أنَّه أحكام خاصة بالعبادات متعلقة بها، فبالرغم من تحليهن بالمظهر الإسلامي من حيث التستر والتصون والتعفف، والمحافظة على الشرف والقيم النبيلة، بالرغم من ذلك، وبالرغم من بعدهن عن السفور والاختلاط وغير ذلك من الأمور التي لا تليق بالمسلمة، إلاَّ أنهن في كثير من الأمور لا يرتبطن بدينهن ولا يستقين الأحكام من دينهن، يصلين نعم. يؤدين الزكاة إن حال عليها الحول نعم، يصمن إذا جاء شهر رمضان نعم. لكنهن يقعن في كثير من الأمور التي هي من المآثم والمعاظم والمحارم التي لا تليق بمن ارتبط بدينه، ورضي بأحكامه، كالوقوع في أعراض الناس، والاشتغال بما لا داعي له من أمور الآخرين.
والوقوع في الظنون السيئة، وصرف الوقت فيما لا يعود عليهن بالحسنات، وبرضى ربهم تبارك وتعالى، والتكلم بما يوقعهن في سخط الله عز وجل، وفي التعرض لما جاء فيه حديث رسول الله .
((وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً. فيهوي بها في النار سبعين خريفًا))[1] إلى غير ذلك من الأمور التي ما نتجت إلا عن التهاون في طلب العلم الذي يُرقق القلوب، ويُخليها من حظ الشيطان، فيملأها بمحبة الرحمن ونتجت أيضًا عن التهاون في تعلم الآداب الشرعية التي ينبغي أن تصطبغ بها النفوس، فمن هنا رأينا المصلين والمصليات والمزكين والمزكيات والصائمين والصائمات فيما عدا الصلاة والزكاة والصوم والحج فيما عدا ذلك يُفاضلون الدين مفاضلة تامة في كثير من الأمور.
فينبغي أن يقرّ في الأذهان أن ديننا هذا ليس دين أحكام عبادات، فحسب، بل هو دين متخلل متصل بجميع الشؤون ومناحي الحياة، وينبغي أن يكون مهيمنًا على كل أمر من أمور الحياة، ومن أراد ذلك وجده في كتاب الله وسنة رسوله ، لكنا متهاونون في طلب ذلك العلم الذي يحول بيننا وبين وسوسة ونزغات الشياطين، متهاونون في طلبه، مقصرون في سؤال أهل العلم عما يُحبنا الله تبارك وتعالى ويرضيه عنا، ويبعدنا عما يُسخطه تبارك وتعالى عنا.
فالرجوع الرجوع الكامل إلى الدين أيها الرجال وأيتها النساء، والعلم اليقيني الجازم أن ديننا ليس كما يفهم الكثير دين أحكام عبادات، يتحدث عن كيفية دخول الخلاء والخروج منه والوضوء والصلاة بما في ذلك الشروط والسنن والهيئات ونصاب الزكاة وأحكام الصوم إذا شرب الإنسان أو أكل ناسيًا أو جامع أو نحو ذلك وأحكام الحج. نعم أحكام هذه العبادات في ديننا مفصلة كتابًا وسنة، لكن الكتاب والسنة والأحكام التي فيهما لم تقتصر على العبادات. بل في كتاب الله وسنة رسوله أحكام كل شيء يعن لنا، ونحتاج إليه، من كيفية التعامل مع الكفرة والمُلحدين، ومن طُرق البيوع ومن المعاملات والحدود ونحو ذلك من أمور كثيرة موجودة في كتاب الله وسنة رسوله .
وكتب العلماء في ذلك ألوف المصنفات التي ذخرت بها المكتبات الإسلامية.
فارجعوا رحمكم الله تبارك وتعالى إلى الدين الذي ارتضاه الله تعالى لكم وهداكم له، وأرسل إليكم خاتم رسله، ليبين لكم أحكامه ، ودعوكم من الأفكار الكافرة الخبيثة الخاطئة التي يشوش بها أعداؤكم عليكم، فالفلاح كل الفلاح في التدين تدينًا حقيقيًا، ليس موقوفًا على أداء العبادات فحسب, ولهذا إذا توجه الخاطب ليخطب امرأة ذات دين قد تنشأ بينهما الخلافات في ماذا؟ في كيفية الأثاث، في نوعيته، في طريقة إقامة العرس، هل نأتي بعلب الحلوى أو لا نأتي بها؟ هل نأت بالعربة التي تُزين بالأقمشة ونحو ذلك، أو لا نأتي بها؟ فإن لم يُتَفَقْ على ذلك ربما تُرجع في إتمامه لأجل هذه الأشياء التوافه، وهو مُصل وهي مُصلية، وكلاهما لا يفرط في عبادته، لكنهم عندما يفاصلون العبادات، ويأتون إلى أمور لا تتعرض ولا تتعلق بصلاة ولا صيام ولا زكاة ولا حج، تظهر أفكارهم المشوشة غير السليمة التي ألقاها أعداء الإسلام في أذهان المسلمين، إذن فذات الدين ينبغي أن تكون مرتبطة بدينها في كل شيء، محكمة لدينها في كل أمر.
هذه هي ذات الدين التي ينبغي أن يظفر بها الرجل، وهي التي ينبغي أن تسند لها مهمة الأسرة المسلمة، هي المرأة التي تسأل عما يرضي ربها فتعمل بها، وتسأل عما يُسخط ربها عنها فتتقيه.
[1] البخاري (6478) من حديث أبي هريرة.
ـــــــــــــــــــ(68/4)
رعاية الوالدين بعد كبرهما
...
...
2100
...
الأسرة والمجتمع
...
...
الوالدان
...
عبد المجيد بن عبد العزيز الدهيشي
...
...
المجمعة
...
30/12/1419
...
...
الجامع القديم
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- الوالدان يقومان بواجبك عليهما حال حاجتك وضعفك. 2-ضعف والداك فقم بالواجب لهما. 3- أنواع الأبناء في التعامل مع الأبوين حال كبرهما. 4- صور لعقوق الوالدين. 5- الأمر الشرعي ببر الوالدين. 6- وصايا في آداب وكيفية التعامل مع كبار السن.
الخطبة الأولى
أما بعد:
فمن حكمة الله سبحانه أن خلق الإنسان فسواه، وجعله يمر بمراحل تتفاوت فيها قدراته وإمكاناته، ولكل مرحلة من عمره خصائصها وميزاتها التي تميزها عن غيرها من المراحل، يقول سبحانه مذكراً بهذه المراحل: ياأَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ مّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لّنُبَيّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِى الاْرْحَامِ مَا نَشَاء إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُواْ أَشُدَّكُمْ وَمِنكُمْ مَّن يُتَوَفَّى وَمِنكُمْ مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلاَ يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً [الحج:5].
ويقول سبحانه: هُوَ الَّذِى خَلَقَكُمْ مّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُواْ أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُواْ شُيُوخاً وَمِنكُمْ مَّن يُتَوَفَّى مِن قَبْلُ وَلِتَبْلُغُواْ أَجَلاً مُّسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [غافر:67]. ويقول سبحانه: اللَّهُ الَّذِى خَلَقَكُمْ مّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ [الروم:54].
وفي كل طور من هذه الأطوار التي يمر بها الإنسان سخر الله له من يكلؤه ويعتني به بدافع الفطرة والرحمة صغيراً، وبدافع المودة والاحتساب كبيراً. فمنذ وضعته أمه وهي تحوطه برعايتها وتغدق عليه من حنانها، بذلت مهجتها، وفرغت وقتها، واستعذبت انشغالها بوليدها، وأبوه قد شمر عن ساعد الجد في تأمين معيشة أسرته التي يعولها، قد وفر الغذاء البدني والروحي لوليده، وجعله يشعر بالأمان والاستقرار النفسي، إلى أن شب وليدهما عن الطوق واعتمد على نفسه في شئون حياته، واستغنى عن غيره وبدأ يشق طريق عشه، وينشئ له عشاً، فكون له أسرة صغيرة يحوطها ويرعاها ويؤمن لها العيش الكريم.
أما الوالدان فبعد أن أديا واجبهما وأنفقا زهرة عمرهما في رعاية أولادهما، إذا بالسنوات تزدلف بهما وتمضي تباعاً على عجل فيعلو الشيب مفارقهما، ويدب الضعف إلى بدنيهما وقد كبرت ذريتهما، فاستقل كل ابن وبنت بحياته الخاصة مع شريك حياته، فتلفت الوالد ينظر من حوله، فلا يرى عنده إلا زوجه العجوز التي لا تكاد تخدم نفسها، فضلاً عن القيام بشئون زوجها الذي أنهكت قواه وضعفت حركته وعجز عن خدمة نفسه في كثير من حاجاته، وأصبح في حال يحتاج فيها إلى من حوله ولا سيما أبناؤه وبناته ليردوا إليه الجميل أو بعضه مما بذله في سبيلهم، وليتقربوا إلى الله تعالى بخدمة والديهم اللذين طالما تعبا ليستريحوا، واهتما واغتما لينعموا، وبذلا الكثير لينعموا بالعيشة الهنية، فما موقف الأولاد من بنين وبنات من والديهم وهما في هذه الحال؟
لقد انقسم الأولاد إلى قسمين حيال هذه القضية، وبينهما قسم ثالث يتجاذبه الطرفان . أما القسم الأول من الأولاد فهو من هش لوالديه وبش، وسارع إلى خدمتهما بما يستطيع، مفرغاً وقته وجهده لوالديه، مستشعراً التقرب إلى الله تعالى في خدمتهما، وهو يعلم أن الله تعالى خاطبه وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوالِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً [الأحقاف:15]. ويدرك أن نبيه صلى الله عليه وسلم أوصى بذي الشيبة المسلم خيراً ((إن من إجلال الله تعالى إكرام ذي الشيبة المسلم)) فما بالك إذا كان ذو الشيبة أحد والديه، إنه يتلمس حاجة والده ،أو والدته، ويبدأه بالسؤال عما يريد ويشتهي، ولا يتبرم من أي جواب يصدر عن أحدهما حتى وإن كان قاسياً في بعض الأحيان، فبعض كبار السن أو غالبهم ربما أغلظ في الجواب حيناً، وربما سارع بالتذمر والشكوى، ولكن مدى الشكوى قريب، ولعلها رد فعل مباشر للمعاناة من الهجران أو القطيعة.
وقسم آخر من الأولاد ضرب بالواجب عرض الحائط، فلم يبال بأمر والديه وقد كبرا في السن وضعفت قواهما، وأصبحا مخدومين بعد أن كانا هما الخادمين، فهو لا يزورهما إلا لماماً، وعند الجلوس معهما يشعر بالضيق وكأنه في سجن ينتظر أن يفرج عنه لينعم بالخروج من هذا الهم الذي ركبه، ليأنس مع زوجه وصديقه، إنه لم يجعل لوالديه إلا الفضول من وقته ،و في الأوقات الضيقة التي سرعان ما تنتهي بحضور وقت صلاة أو وجبة ونحو ذلك، إن طلبا منه شيئاً تثاقل، وإن اشتكيا إليه أمراً تمهل، يبحث عن المعاذير التي تحول دون تلبية رغبتهما، يستكثر ما يبذله لهما من وقت أو مال، يرى أن خدمة زوجه وبنيه في الدرجة الأولى، وللوالدين ما يفضل من الاهتمام والوقت.
وبعض الأبناء هداهم الله يستخف بكبير السن ويعتقد أن دوره في الحياة قد انتهى، ويرى أنه لا فائدة في إشراك والده الشيخ في اتخاذ رأي أو طلب مشورة لأنه لم يعد له الدور السابق مما يسبب له الإحباط نفسياً ويجعل كبير السن عرضة للإصابة بضيق الصدر والشعور بالعقوق، بل ويعرضه للأمراض النفسية والعضوية، وحجة من يفعل هذا الصنيع أن التعامل مع كبار السن صعب، وأنهم يحتاجون إلى زمن طويل للتفاهم معهم، ولذا آثروا البعد عن النقاش معهم، بل تجد البعض من الأفراد إذا جلسوا في مجلس لتبادل الأحاديث، وكان معهم كبير سن خفتوا من أصواتهم لئلا يسألهم عن هذا الموضوع أو ذاك فيشغلوا أنفسهم بالجواب الذي يحتاج إلى تكرار ليفهم المراد. فلله كم دمعة ذرفها والد أو والدة على ما يلاقيان من الجحود والاستكبار من أولادهما، كم زفرة حرى انطلقت من أب مكلوم، أو أم رؤوم، يشتكيان الهجر والقطيعة ومن أقرب الناس إليهما، ويا لله كم من أب وأم تمنى أن لم يرزق بأولاد شقي معهم أول عمره، وها هو يشقى بهم في آخره، كم حسرة دفنت مع والد في قبره، وكم غصة ضاق بها جوف أم لم تحتمل ما ترى، كم من والد تمثل مع الشاعر قائلاً:
غذوتك مولوداً وعلتك يافعاً تعل بما أجني عليك وتنهل
إذا ليلة ضافتك بالسقم لم أبت لسقمك إلا ساهراً أتململ
كأني أنا المطروق دونك بالذي طرقت به دوني فعيناي تهمل
تخاف الردى نفسي عليك وإنها لتعلم أن الموت وقت مؤجل
فلما بلغت السن والغاية التي إليها مدى ما فيك كنت أؤمل
جعلت جزائي غلظة وفظاظة كأنك أنت المنعم المتفضل
فليتك إذ لم ترع حق أبوتي فعلت كما الجار المجاور يفعل
تراه معداً للخلاف كأنه برد على أهل الصواب موكل
اللهم إنا نعوذ بك يا رحمن يا رحيم أن نعق والدينا أو أن نُعق كباراً، اللهم ارزقنا بر آبائنا وأمهاتنا، واجمعنا وإياهم في جناتك جنات النعيم إنك على كل شيء قدير.
الخطبة الثانية
الحمد لله حمد الشاكرين والصلاة والسلام على النبي الأمين، خير من صلى وصام وعبد ربه حتى أتاه اليقين.
أما بعد:
فيا أيها المؤمنون اعلموا أن بر الوالدين من خير ما تقرب به المتقربون، وهو من أجل العبادات والقربات، سئل النبي: أي العمل أحب إلى الله؟ قال: ((الصلاة على وقتها، قيل ثم أي؟ قال: بر الوالدين، قيل ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله)) [متفق عليه]. فانظروا كيف سبق بر الوالدين الجهاد في سبيل الله على أهميته ومكانته في الدين. ومن أدرك والديه أو أحدهما فلم يدخل بهما الجنة فهو ممن تشمله دعوة النبي ((رغم أنف ثم رغم أنف ثم رغم أنف من أدرك أبويه عند الكبر أحدهما أو كلاهما فلم يدخل الجنة)) [مسلم].
ولو لم يرد في بيان عظم حق الوالدين إلا قول الله تعالى: وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِى صَغِيرًا [الإسراء:23-24]. لكان كافياً، قال ابن كثير رحمه الله : لا تسمعهما قولاً سيئاً حتى ولا التأفيف الذي هو أدنى مراتب القول السيء، ولا يصدر منك إليهما فعل قبيح.
عباد الله: يحسن التنبيه إلى أمور قد يغفل عنها البعض في التعامل مع كبار السن لا سيما الوالدان، وقد أوصى بها أطباء علم النفس، ومنها: أن المسن يحتاج إلى الحنان والرعاية والعطف مثل الصغير تماماً، فلا نبخل عليه بذلك.
وثانيها: أنه يجب عدم الإلحاح على الكبير في رأي معين ومطالبته بما نحن به مقتنعون مباشرة، حيث إنه لا يتحمل الإلحاح، ولكن يطرح الأمر معه شيئاً فشيئاً ليمكن إقناعه، حيث إن طبيعة هذه المرحلة من العمر تفرض بطئاً في الاستجابة.
وثالثها: أن لا يؤاخذ كبير السن في برودته، وعدم التفاعل السريع مع ما يدور حوله ؛ لأنه يحتاج إلى وقت أطول للتفاعل مع الأحداث.
ورابعها: أن قصور السمع والبصر لدى المسن يجعله يبتعد شيئاً فشيئاً عن أحداث الواقع، وذلك يوجب علينا التحدث بصوت مسموع، مع محاولة جذب المسن للواقع، بإخباره عما يدور حوله، وبأخذ رأيه، ومداعبته ما أمكن، ليكون قريباً من مجتمعه، مدركاً لما حوله.
وخامسها: أن ندرك أن المسن يستمتع بالحديث عن الماضي الذي عاش أحداثه، وشهد صولاته وجولاته، فعلينا أن لا نحرمه من ذلك، بل نظهر التفاعل معه والإعجاب.
وسادسها: أن نحرص على إشغال المسن بما ينفعه عند ربه، بإسماعه القرآن الكريم في الأوقات المناسبة، والقراءة عليه في الكتب الملائمة لمستواه العلمي، وترغيبه في ذكر الله تعالى قدر الاستطاعة، وإشعاره بضرورة الاحتساب والصبر على ما يعانيه من أمراض أو عوارض، فلهذه من الفائدة ما لا يخفى، وأهم من ذلك كله أن يشعر الوالد بقرب أولاده منه، ومحبتهم للجلوس معه والأنس به، وتسابقهم في خدمته.
فلنكن على علم بهذا يا عبد الله، ولنحرص على بر آبائنا وأمهاتنا، ففي ذلك الأجر من الله تعالى، والأثر الطيب في الدنيا فمن وصل رحمه وبر والديه بارك الله له في المال والولد وأبقى له الذكر الحسن، ومن أراد أن يبره أولاده فليبر والديه، ومن عق والديه فلينتظر العقوق من أبنائه، ولا يأمن العقوبة العاجلة من الله تعالى، فالجزاء من جنس العمل. اللهم اجعلنا من البارين لوالديهم الفائزين بالأجر والبر، وارزقنا بر أولادنا، وأعنا وإياهم على ما يرضي
ـــــــــــــــــــ(68/5)
عناية الإسلام باليتامى
...
...
2307
...
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
...
...
الآداب والحقوق العامة, قضايا المجتمع
...
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
...
...
الرياض
...
17/2/1422
...
...
جامع الإمام تركي بن عبد الله
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- نعمة الولد والوالد. 2- المصيبة بفقد الأب. 3- فضل الإحسان إلى اليتيم والنفقة عليه. 4- اليتم ليس عيباً. 5- رعاية الأيتام واجب كفائي. 6- رعاية النبي وإحسانه إلى الأيتام. 7- سوء عاقبة من ضيّع حق الضعيفين: المرأة واليتيم. 8- الحث على تعليم اليتامى وحسن تربيتهم.
الخطبة الأولى
أما بعد:
فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
إن الولد نعمةٌ من الله على أبيه، الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحياةِ الدُّنْيَا [الكهف:46]، وقال: لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاواتِ وَالأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاء يَهَبُ لِمَن يَشَاء إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَن يَشَاء الذُّكُورَ أَوْ يُزَوّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَن يَشَاء عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ [الشورى:49، 50]، فالولد نعمة من الله على أبيه، والوالد منة من الله على الولد الضعيف في منشئه، يرى في أبيه الحنان والشفقة والمودة والحرص على مصالحه، ولهذا أمر الله الولد بالقيام بحق أبيه، وعظَّم هذا الحق، حتى جعله مقروناً مع حقه، وَاعْبُدُواْ اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَاناً [النساء:36]. وعندما يفقد الولد أباه، يفقد شيئاً عظيماً، يفقد ذلك الحنان، يفقد تلكم المودة، يفقد ذلك الحرص على المصالح والمنافع، ففي فقد الأب مصيبة على الولد عظمى، ولذا يسمى هذا يتيماً. واليتم قدرٌ قدره الله قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، وقد اعتنى الإسلام باليتيم أيما عناية، واهتم به اهتماماً عظيماً كاملاً، اهتم باليتيم اهتماماً عظيماً كاملاً، فأمر بالإحسان إليه ورعايته قال الله تعالى: وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِى الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِى الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ [النساء:36]، ومن الإحسان إلى اليتيم كفالته ورعايته والإحسان إليه وتربيته وحفظ ماله وصيانة ماله، هذا من كفالة اليتيم، ونبينا يقول: ((أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين)) وأشار بالسبابة والوسطى، وفرج بين أصابعه[1].
أيها المسلمون، وقد جعل الله الإحسان إلى اليتيم سبيلاً للنجاة من عذابه يوم القيامة، فَلاَ اقتَحَمَ الْعَقَبَةَ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعَامٌ فِى يَوْمٍ ذِى مَسْغَبَةٍ يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ [البلد:11-16]، وجعل إهانته سبيل غير المتقين، كَلاَّ بَل لاَّ تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ وَلاَ تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ [الفجر:17، 18]، ونهى عن قهر اليتيم وإهانته، فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلاَ تَقْهَرْ [الضحى:9]، وقال: أَرَءيْتَ الَّذِى يُكَذّبُ بِالدّينِ فَذَلِكَ الَّذِى يَدُعُّ الْيَتِيمَ وَلاَ يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ [الماعون:1-3]، وأمر تعالى بالإنفاق على اليتيم، وجعل ذلك من وجوه الإنفاق فقال: يَسْئَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُم مّنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنِ السَّبِيلِ [البقرة:215]، وقال: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِن تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ [البقرة:220]، وأمر بحفظ أموال الأيتام، فقال: وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ [الأنعام:152]، وأمر باختباره عند دفع ماله إليه، حتى يكون الولي على ثقة من أن هذا اليتيم عرف وميز: وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُواْ النّكَاحَ فَإِنْ ءانَسْتُمْ مّنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ وَلاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَن يَكْبَرُواْ [النساء:6]، وأخبر أن أكل مال اليتيم سبب للعذاب يوم القيامة، إذاً فهو من كبائر الذنوب يقول الله جل وعلا: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِى بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً [النساء:10]، وفي السبع الموبقات يقول : ((اجتنبوا السبع الموبقات)) قالوا: ما هن يا رسول الله؟ قال: ((الإشراك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات))[2].
وأمر جل وعلا بالإنفاق عليهم، وجعل ذلك من خصال البر والتقوى، لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَاكِنَّ الْبِرَّ مَنْ ءامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلَئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيّينَ وَءاتَى الْمَالَ عَلَى حُبّهِ ذَوِى الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ [البقرة:177]، وجعل لهم تعالى سهماً في فيء المسلمين فقال: وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مّن شَىْء فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِى الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ [الأنفال:41]، وقال جل وعلا: مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِى الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ [الحشر:7].
أيها المسلمون، إن اليتم ليس عيباً في الإنسان، وليس يتمُه مسبباً لتأخره، وليس يتمه قاضيا على نهضته وتقدمه، فكم من يتيم عاش بخير، ونال ما نال من الخير بفضل الله، فهذا سيد الأولين والآخرين، خير من وطئت قدمه الثرى، يقول الله له مذكراً نعمه عليه: أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فآوَى وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَى وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى [الضحى:6-8]، ذلك أن محمداً توفي أبوه عبد الله وهو حمل في بطن أمه، وتوفيت أمه وهو في السابعة من عمره، وتوفي جده وهو في الثامنة من عمره، وكفله عمه أبو طالب، وما زال ينشأ حتى إذا بلغ أشده أوحى الله إليه، وكلفه بهذه الرسالة العظمى، التي أشرقت بها الأرض بعد ظلماتها، وتآلفت القلوب بعد شتاتها، وأنار الله به البصائر، وأخرج به الأمة من الظلمات إلى النور، فصلوات الله وسلامه عليه. ثم إن الله جل وعلا أمره أن يشكر هذه النعم، فيقابلها بالشكر فقال: فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلاَ تَقْهَرْ وَأَمَّا السَّائِلَ فَلاَ تَنْهَرْ وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبّكَ فَحَدّثْ [الضحى:9-11]، فنهاه عن قهر اليتيم وإهانته: فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلاَ تَقْهَرْ، لا تقهر اليتيم، وتذكَّر يتمك مثله، فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلاَ تَقْهَرْ وَأَمَّا السَّائِلَ فَلاَ تَنْهَرْ، فأعطِ السائل وتذكَّر فقرك وإغناء الله لك، وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبّكَ فَحَدّثْ، تحدث بها شكراً لله، وثناء عليه، إن الله يحب من عباده أن يقابلوا نعمه بشكرها والثناء عليه.
أخي المسلم، اذكر قول الله: وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرّيَّةً ضِعَافاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُواّ اللَّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً [النساء:9]، فإذا رأيت أطفالاً أيتاماً فذكِّر نفسك لو كان أولادك مثلهم، ماذا تتمنى لهم؟ إذاً فأحسن إليهم يحسن الله إليك.
إن المجتمع المسلم مطالبٌ بالقيام بهذا الواجب، حتى لا يفقد اليتيم حنان الأب فيجد من إخوانه المسلمين آباءً يعطفون عليه، ويحسنون إليه، ويضمِّدون جراحه، ويمسحون دموعه، ويحسنون إليه، ويجد من المسلمات، من هي تحنّ على اليتيم وتحسن إليه، وتتلطف به، وتكرمه، وتعامله كما تعامل أطفالها، رجاء المثوبة من رب العالمين.
أخي المسلم، تلطف باليتيم، وأحسن إليه، وخاطبه بالقول [اللين]، وامسح على رأسه، وذكِّره بأن له عوضاً عن أبيه من إخوانه المسلمين.
أخي المسلم، أموال اليتيم عندك أمانة، فإن اتقيت الله فيها كنت من المتقين، وإن ضيعتها كنت من الخائنين: وَءاتُواْ الْيَتَامَى أَمْوالَهُمْ وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الْخَبِيثَ بِالطَّيّبِ وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوالَهُمْ إِلَى أَمْوالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً [النساء:2].
أخي المسلم، انظر إليه نظرة الرحمة والإحسان، وانظر إليه نظرة الشفقة والرحمة والإحسان، ومحبة الخير له، فذاك قربة تتقرب بها إلى الله.
إن رعاية الأيتام كان خلقاً لأهل الإسلام، أخذوها من خلق سيد الأولين والآخرين محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه، قتل جعفر بن أبي طالب يوم مؤتة وكان وراءه صبية صغار، فجاءت أمه تشكو إلى رسول الله يُتم أطفالها وحالتهم فقال: ((أتخافين عليهم وأنا وليهم في الدنيا والآخرة؟!))[3]، ولما قدم الوفد بعد الغزوة بحث عن أولاد جعفر فأركبهم معه إكراماً وتضميداً لجراحهم، صلوات الله وسلامه عليه.
وكانت أم المؤمنين رضي الله عنها ترعى أيتاماً تكرمهم وتحسن إليهم، هكذا كان أخلاق أهل الإسلام، تنافسٌ في الخير، وتعاونٌ على البر والتقوى، وأن يقدموا لآخرتهم عملاً يجدونه أحوج ما يكونون إليه، يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا [آل عمران:30].
إن هذه الخصال لا يعدم صاحبها خيراً في الدنيا والآخرة، فتلقى الله وفي صحيفة عملِك يتيم أحسنت إليه وواسيته، ومسكين أعنته، فذاك خير لك يوم قدومك على ربك، وأما أن تلقى الله ويتيم أكلت ماله، استوليت على ماله، واستغللت ضعفه وعجزه، فأكلت ماله وضيعت حقه، فمن المخاصم لك؟ إنه رب العالمين، يقول : ((إني أحرِّج الضعيفين: المرأة واليتيم))[4] أحرِّجُ حقهما، لأن المرأة لا تستطيع الدفاع عن نفسها، فربما تسلّط عليها من أكل مالها، استغلالاً لضعفها وعجزها، وكذلك اليتيم، ربما استغل وصيٌّ ماله، فأكله وتلاعب بذلك، ولم يراقب الله في سره وعلانيته، والله يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.
فالمسلم حقاً من يخاف الله ويتقيه، ويراعي هذه الأمور، يحفظ الأمانة التي ائتمنه الله عليها، ليلقى الله وهو من المتقين الصادقين في أماناتهم.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في الأدب (6005) من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه بنحوه.
[2] أخرجه البخاري في الوصايا (2767)، ومسلم في الإيمان (89) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[3] أخرجه أحمد (1/204)، والطبراني في الكبير (2/105)، وابن عبد البر في التمهيد (22/139) من حديث عبد الله بن جعفر، وصححه ابن الجارود (9/162)، وقال الهيثمي في المجمع (6/157): "رواه أحمد والطبراني ورجالهما رجال الصحيح".
[4] أخرجه أحمد (2/439)، والنسائي في الكبرى (9149، 9150)، وابن ماجه في الأدب (3678)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وصححه ابن حبان (5565)، والحاكم (1/63)، وأقره الذهبي، ورمز له السيوطي بالصحة، وقال البوصيري في الزوائد: "إسناده صحيح، رجاله ثقات"، وحسنه الألباني في الصحيحة (1015).
الخطبة الثانية
أما بعد:
فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عباد الله، من أعظم رعاية اليتيم أن يعلَّم، ويوجّه، ويربّى على الخير والصلاح، ليكون عضواً صالحاً في مجتمعه، وأن تربى الفتاة على الخير والصيانة، ولذا مُنع تزويج اليتيمة إلا بعد استئذانها، رفقاً بها، وإحساناً إليها، وأن تُعطى حقها كاملاً من الصداق إن أراد وليها أن يتزوجها، لأجل أن لا يستغل ضعفها لمصلحته.
وجاء في الحديث حث المسلم على ملاطفة اليتيم ففي الحديث: ((من مسح رأس يتيم بيده جعل الله له بكل شعرة مسحتها يده حسنة))[1]، كل ذلك حثٌ على الإكرام والإحسان، ونهي عن الظلم والبغي والعدوان، فالمسلمون كالجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر.
ولئن كانت رعاية الأيتام قد هيئت لها جهات مختصة بها، لكن المجتمع المسلم مأمور بالتعاون على البر والتقوى، والعون على المصالح، وإذا علم المسلم أيتاماً، وعلم حالهم خصّهم بزكاته، وخصهم بصدقته وإحسانه، لأن هذا من التعاون على البر والتقوى، والمؤمنون بعضهم أولياء بعض.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور...
[1] أخرجه ابن المبارك في الزهد (655)، ومن طريقة أحمد (5/250)، والطبراني في الكبير (8/202)، من حديث أبي أمامة رضي الله عنه، وقال الهيثمي في المجمع (8/160): "فيه علي بن يزيد الألهاني وهو ضعيف"، وضعف إسناده أيضاً الحافظ في الفتح (11/151)، وذكره الألباني في ضعيف الترغيب (1513).
ـــــــــــــــــــ(68/6)
تربية الأولاد
...
...
2341
...
الأسرة والمجتمع
...
...
الأبناء
...
عبد الله الهذيل
...
...
الرياض
...
29/1/1415
...
...
فيحان
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- الأمر بتأديب الأبناء وتربيتهم. 2- الأبناء نعمة من الله. 3- مسؤولية الوالدين في التربية. 4- أول الاهتمام بالأولاد حسن اختيار الأم. 5- حقوق المولود بعد ولادته. 6- التربية الخاطئة لبعض الآباء. 7- حسن تربية السلف لأبنائهم. 8- أسباب ضياع الأبناء في مجتمعنا.
الخطبة الأولى
أما بعد:
قال تعالى: ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَّ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6].
قال علي بن أبي طالب : (أي أدبوهم وعلموهم).
وعن ابن عباس رضي الله عنهما: (أي اعملوا بطاعة الله واتقوا معاصي الله، وأمروا أهليكم بالذكر ينجيكم الله من النار).
أيها المسلمون، وإن من أعظم النعم التي يعيشها المرء أن يرى ذرية له في هذه الحياة هبة من رب العالمين، لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاواتِ وَالأرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاء يَهَبُ لِمَن يَشَاء إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَن يَشَاء الذُّكُورَ أَوْ يُزَوّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَن يَشَاء عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ [الشورى:49، 50].
تلك الذرية أكبادٌ لآبائهم تمشي على الأرض، إن تألموا تَأَلَّمَ آباؤهم لذلك أشد، وكما قيل:
وإنما أولادنا بيننا أكبادنا تمشي على الأرض
إن هبت الريح على بعضهم لامْتَنَعَتْ عيني عن الغمض
وتتم النعمة للآباء بصلاح أبنائهم وسبقهم إلى طاعة ربهم عز وجل، لذلك كان من دعاء المؤمنين: رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْواجِنَا وَذُرّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً [الفرقان:74].
أيها الأحبة في الله، وحديث اليوم عن فلذات الأكباد، وتلك المسؤولية العظمى الملقاة على عواتق الآباء بشأنهم، ثم ذلك القصور الذي يسبب إخفاقاً في أداء تلك الأمانة، وما يجر من حسرة وندامة، إنْ في الدنيا أو الآخرة.
أيها المسلمون، وإن من حق النعم الشكرَ عليها.
وأعظم بنعمة الأولاد من نعمة! فواجب على المسلم شكرُها، وذلك بأن يتقي الله عز وجل فيها، ويقيم الحقوق التي أمر بها تجاهَها.
وقد حمل الأبوان المسؤولية الكبرى من تنشئة أبنائهم وتربيتهم التربية الصالحة، فإن صلحت التربية كان الصلاح في الأبناء بإذن الله تعالى، وإن كانت التربية إلى السوء أقرب فإن النبات سيكون نبات سوء إلا ما شاء الله.
لذا جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال: ((كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما تُنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء)) ثم يقول أبو هريرة رضي الله عنه: فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِى فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدّينُ الْقَيّمُ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ [الروم:30][1].
إذاً، فالنشأة الصالحة من صلاح المنشأ، وعلى الأبوين تقع تلك الأمانة العظمى، فإن أدّيا وكان الأمر خلاف ما سعيا له فقد برأت منهم الذمة، والله عز وجل يهدي من يشاء ويضل من يشاء.
ولكن السذاجة فيمن هيأ لأبنائه سبل الغواية والضلال ثم هو يتعلل بالقدر.
أيها المسلمون، أيها الآباء، لقد اهتم الإسلام بالنشء أبلغ الاهتمام، وذلك من بدايات الأمر، حيث حث على الزواج بالمرأة الصالحة، وحث ولي المرأة على أن يختار لها الرجل الصالح، ليكوّنا بيتاً وجيلاً يبنى على أساس ثابت على تقوى من الله ورضوان.
ثم أمر بعد الزواج أن يتبع الأبوان كل ما من شأنه حفظ الولد من نزغات الشياطين، فعند الجماع أن يقولا: ((باسم الله اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا))[2]، وكذلك عند ولادته أن يؤذن في أذنه، وأن يختار له من الأسماء أحسنها، ثم التدرج في تربيته كأمره بالصلاة لسبع وضربه عليها لعشر[3]، وترسيخ العقيدة وكلمة الشهادة في نفسه.
وهكذا جعلها مسؤولية وأمانة سيسأل الأبوان عنها، كما جاء في الحديث المتفق عليه عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي قال: ((كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته: الإمام راع ومسؤول عن رعيته، والرجل راع في أهله ومسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها، والخادم راع في مال سيده ومسؤول عن رعيته، وكلكم راع ومسؤول عن رعيته))[4].
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: "قال بعض أهل العلم: إن الله سبحانه يسأل الوالد عن ولده يوم القيامة قبل أن يسأل الولد عن والده، فإنه كما أن للأب على ابنه حقاً فللابن على أبيه حق".
ثم يقول رحمه الله تعالى: "فمن أهمل تعليم ولده ما ينفعه، وتركه سدى، فقد أساء غاية الإساءة، وأكثر الأولاد إنما جاء فسادهم من قبل الآباء وإهمالهم لهم، وترك تعليمهم فرائض الدين وسننه، فأضاعوهم صغاراً، فلم ينتفعوا بأنفسهم، ولم ينفعوا آباءهم كباراً، كما عاتب بعضهم ولده على العقوق، فقال: يا أبت إنك عققتني صغيراً فعققتك كبيراً، وأضعتني وليداً فأضعتك شيخاً".
أيها الأحبة في الله، ولنا في أسلافنا خير مثل في تربيتهم أبناءهم وتنشئتهم النشأة الصالحة بترسيخ العقيدة الصحيحة في نفوسهم وتعليم أمور الدين وتصحيح العبادات عندهم.
وخير مثال لذلك ما رواه الترمذي وغيره عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كنت خلف النبي فقال: ((يا غلام إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف))[5].
هكذا يرسخ النبي صلى الله عليه وسلم تلك المعاني العظام في نفس ابن عباس رضي الله عنهما وهو إذ ذاك غلام.
فمن من الآباء في هذا الوقت يرسّخ في نفس ابنه أمثال تلك المعاني؟
بل إن منهم من إذا عُلِّم ابنُه أمور الحلال والحرام، قال: لا تعقدوه فإنه صغير ولا يحتمل هذا.
فيقال له: يكفي أن يحتمل ذلك الغزو الجارف عن طريق التلفاز وأمثاله.
أيها الأحبة في الله، ويمر ابن عمر رضي الله عنهما في سفر له على غلام يرعى غنماً، فيقول له: تبيع من هذه الغنم واحدةً؟ فقال: إنها ليست لي، فقال ابن عمر ـ مختبراً له ـ قل لصاحبها: إن الذئب أخذ منها واحدة. فقال الغلام: فأين الله؟! فكان ابن عمر رضي الله عنهما يقول بعد ذلك إلى مدة مقالة ذلك الغلام: فأين الله؟!
وكان صغار الصحابة رضوان الله عليهم يتسابقون إلى الخير، فكانوا يتوارون ويبكون حتى يخرجوا للجهاد في سبيل الله عز وجل.
ومن ذلك أن عمير بن أبي وقاص كان يتوارى قبل أن يعرض النبي الصفوف، فرآه أخوه سعد، فقال له: مالك يا أخي؟ فقال: إني أخاف أن يراني رسول الله فيستصغرني فيردني، وأنا أحب الخروج لعل الله أن يرزقني الشهادة، فكان سعد يقول: فكنت أعقد حمائل سيفه.
أيها الأحبة في الله، فلذات أكبادنا أمانة حُمّلتموها، فاسعوا لإرضاء ربكم فيها، عسى أن يكونوا قرة عين لكم في الدنيا والآخرة، فإن الإنسان إن مات وكان له أولاد صالحون فإنه ليرتفع في درجات النعيم بدعواتهم، وذلك كما جاء عند مسلم أن النبي قال: ((إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو ولد صالح يدعو له، أو علم ينتفع به من بعده))[6].
[1] صحيح، صحيح البخاري: كتاب الجنائز – باب إذا أسلم الصبي فمات ... حديث (1358-1359)، صحيح مسلم: كتاب القدر – باب معنى: ((كل مولود يولد على الفطرة)) ... حديث (2658).
[2] صحيح، أخرجه البخاري: كتاب الوضوء – باب التسمية على كل حال وعند الوقاع (141)، ومسلم: كتاب النكاح – باب ما يستحب أن يقوله عند الجماع، حديث (1434).
[3] صحيح، أخرجه أحمد (2/187)، وأبو داود: كتاب الصلاة – باب متى يؤمر الغلام بالصلاة، حديث (495)، والترمذي بنحوه: كتاب الصلاة – باب ما جاء متى يؤمر الصبي بالصلاة، حديث (407)، وقال: حديث حسن صحيح. وصححه الحاكم (1/197)، والألباني بشواهده. إرواء الغليل (247).
[4] صحيح، أخرجه البخاري: كتاب الجمعة – باب الجمعة في القرى والمدن، حديث (893)، ومسلم: كتاب الإمارة – باب فضيلة الإمام العادل ... حديث (1829).
[5] صحيح، سنن الترمذي: كتاب صفة القيامة والرقائق والورع – باب حدثنا أحمد بن محمد بن موسى ... حديث (2516)، وأخرجه أيضاً أحمد (1/293)، والطبراني في الكبير (11243) وصححه الحاكم (3/541) والضياء في المختارة (10/22)، وقواه ابن رجب في جامع العلوم والحكم (1/185) الحديث التاسع عشر، وصحح إسناده أحمد شاكر في تعليقه على المسند (2804).
[6] صحيح، أخرجه مسلم: كتاب الوصية – باب ما يحلق الإنسان من الثواب... حديث (1631).
الخطبة الثانية
أما بعد:
كم يتألم المرء عندما يرى من أبناء المسلمين مَن لم يحظ من أبويه بالبناء الراسخ والتربية الصالحة، وإنما كان حظه منهم الغفلة عنه، بل وتهيئته للضلال والغواية، حتى نشأ على ذلك فصار يتأذى الناس منه، ويرسلون الدعوات عليه.
وتراهم شباباً سبهللاً، لا في أمر دين ولا دنيا، وتعرف آثارهم على أبواب دورات المياه ـ أعزكم الله ـ وعلى جُدُر المدارس، وسيلهم جارف، كل يوم يرصدون فريسة فتسعى معهم إن لم تجد مربين ناصحين، وحصناً منيعاً تربوا عليه.
ولا يقف الأمر عند حدود الشباب فحسب، بل الأمر في الفتيات أشنع.. والحوادث في المدارس تشهد، وفي الأسواق أدهى.
وإن سألت عن سبب ذلك فبم تجيب؟
إن قلت التلفاز والبث المباشر فقد صدقت.
وإن قلت تلك المجلات التي تحكي المجون فقد صدقت.
وإن قلت تلك الأشرطة التي تسري سريان السم القاتل فقد صدقت.
ولكن أهذا هو الأصل؟
لا، ولكن الأصل التربية، تلك الغفلة التي يعيشها من يعيشها من الأبناء من قبل آبائهم، لتجرفهم إلى تلك المواقع، وذئاب البشر تسعى ولا تكِلّ، حتى يرى الأب أن ابنه وقع في الضرر، من مخدرات وفواحش وغيرها، فإذا هو يتنبه لابنه، ويعض أيادي الندم، ولات حين مندم.
نعق الغراب بما كرهت ولا إزالة للقدر
تبكي وأنت قتلتها وطرقت أسباب الضرر
وتنوح من هول المصاب وأنت هيأت الخطر
فاليوم لا يجدي العويل ولا البكاء ولا الضرر
ذق إنما كسبت يداك فلا مناص ولا مفر
عبرٌ يلوح بها الزمان وليس تجديك العبر
فأيها الأب، ستسأل عن ابنك وسوف يتعلق برقبتك فما أنت قائل؟!
ـــــــــــــــــــ(68/7)
الحث على الزواج والتحذير من عوائقه
...
...
2347
...
الأسرة والمجتمع
...
...
قضايا المجتمع
...
حسين بن غنام الفريدي
...
...
حائل
...
16/2/1416
...
...
غير محدد
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- لماذا شرع الله النكاح؟ 2- غلاء المهور. 3- منكرات الأفراح. 4- رفض الأكفاء بحجة الدراسة أو غيرها. 5- عضل الفتيات عن النكاح طمعاً في راتبهن.
الخطبة الأولى
أما بعد:
فاتقوا الله ـ عباد الله ـ حق التقوى، واشكروه على نعمه التي لا تعد ولا تحصى، فالحمد لله خلق بقدرته الذكر والأنثى وشرع الزواج لهدف أسمى، وقال تبارك وتعالى: وَمِنْ ءايَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْواجاً لّتَسْكُنُواْ إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِى ذَلِكَ لايَاتٍ لّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الروم:21].
عباد الله، إن شريعة الإسلام من أسمى الشرائع، تسعى إلى تحقيق ما فطر الله الناس عليه بضوابط تضمن لهم السلامة من المصائب وتجنبهم الوقوع في المعايب.
وإن النكاح من الأمور التي رغبت فيه الشريعة ودعت إلى تسهيله وإزالة موانعه والعراقيل التي تحول دون تحققه، فمن المصالح العظيمة التي شرع الزواج من أجلها:
أنه يصون النظر عن التطلع إلى ما لا يحل ويحصن الفرج ويحفظه، قال صلى الله عليه وسلم: ((يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج...))[1].
ومنها أنه يبعث الطمأنينة في النفس ويحصل به الاستقرار والأنس، قال الله تعالى: وَمِنْ ءايَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْواجاً لّتَسْكُنُواْ إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً [الروم:21].
ومنها أنه سبب لحصول الذرية الصالحة التي ينفع الله بها الزوجين وينفع بها مجتمع المسلمين، قال صلى الله عليه وسلم: ((تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة))[2].
ومن مصالح الزواج قيام الزوج بكفالة المرأة ونفقتها وتوفير الراحة لها وصيانتها ورفعتها عن التبذل والامتهان في طلب مؤنتها، وإعزازها من الذلة والعنوسة والكساد في بيت أهلها.
عباد الله، لما كان الزواج بهذه الأهمية في الكتاب والسنة وفيه هذه الفوائد العظيمة، فإنه يجب على المسلمين أن يهتموا بشأنه ويسهلوا طريقه ويتعاونوا على تحقيقه، ويمنعوا من يريد تعويقه من العابثين والسفهاء والحسدة والمخذلين الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون.
لذلك جعل الله أمر التزويج بأيدي الرجال الراشدين والأولياء الصالحين، قال تعالى: وَأَنْكِحُواْ الايَامَى مِنْكُمْ [النور:32].
وهذا خطاب للرجال العقلاء كما خاطبهم النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: ((إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير)) رواه الترمذي[3].
عباد الله، إن هناك كثيراً من العراقيل وقفتْ حجر عثرة أمام إتمام مشروع الزواج، وما أوتينا إلا من قبل أنفسنا نحن الذين صنعناها وألِفناها ولم نسعَ إلى تغييرها والحد منها.
فمن هذه العوائق: تلك التكاليف الباهظة من غلاء المهور والمباهاة في إقامة الحفلات مما لا مُسَوِّغ له إلا إرضاء النساء والسفهاء ومجاراة المبذرين والسخفاء.
يجب علينا ـ أيها الأولياء، أيها الآباء، أيها العقلاء ـ يجب علينا التكاتف للقضاء على هذه العادات السيئة، والقيام بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في تيسير مؤنة الزواج وتخفيف المهور.
يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (لا تغلوا في صُدُق النساء، فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا أو تقوى في الآخرة كان أولاكم بها النبي صلى الله عليه وسلم، ما أصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة من نسائه، ولا أصدقت امرأة من بناته أكثر من ثنتي عشرة أوقية)[4].
والاثنتا عشرة أوقية تساوي مائة وعشرين ريالاً سعودياً بريال الفضة.
ولقد استنكر المصطفى صلى الله عليه وسلم المغالاة في المهور كما رُوي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل: ((على كم تزوجت؟)) قال: على أربع أواق، فقال له: ((على أربع أواق؟ كأنما تنحتون الفضة من عرض هذا الجبل))[5].
قال العلماء: أنكر عليه صلى الله عليه وسلم هذا المبلغ؛ لأنه كان فقيراً، فالفقير يكره له تحمل الصداق الكثير، بل يحرم عليه إذا لم يتوصل إليه إلا بمسألة أو غيرها من الوجوه المحرمة.
أما الغني فيكره له دفع المبلغ الكثير في الصداق إذا كان من باب المباهاة؛ لأنه يسن سنة لغيره.
والوليمة بمناسبة الزواج مستحبة، قال النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن بن عوف لما تزوج: ((أولم ولو بشاة))[6]، وهي على قدر حال الزوج، فلا ينبغي تركها ولا يجوز الإسراف فيها، ولا ينبغي الاقتصار على دعوة الأغنياء وذوي الجاه وترك الفقراء، يقول صلى الله عليه وسلم: ((شر الطعام الوليمة يدعى إليها الأغنياء ويمنعها المساكين، ومن لم يجب الدعوة فقد عصى الله ورسوله)) رواه مسلم والبيهقي[7].
ويجب الحذر من اختلاط النساء بالرجال في هذه الحفلات أو جلب المطربين والمطربات واستعمال المزامير المحرمة شرعاً.
وإنما المأذون فيه استعمال الدف للنساء، بشرط عدم سماع الرجال لأصواتهن، وينبغي عليهم تجنب ألفاظ الخلاعة والميوعة والمجون.
وينبغي الحذر من التصوير والسفور، فلقد وصل الحال ببعض من ذهبت غَيْرَتُهم وقلّ حياؤهم أن يضعوا العروسين أمام النساء فتلتقط لهم الصور، ويشاهد الرجل النساء وهن يتمايلن أمامه بكل ميوعة وخلاعة ومجون.
إن مثل هذا الزواج حري أن لا يوفق، إذ أنه بدأ بمعصية الله واشتمل على منكرات عظيمة.
أيها الرجال، أيها العقلاء، إلى متى تصرف النساء أمور الرجال؟ إلى متى يأمرن وينهين فيطعن؟ إلى متى ونحن نرى الكثير منا يقلد المرأة تصريف الأمور؟
إن المرأة مهما بلغت فهي ناقصة عقل ولا تكاد تعرف عواقب الأمور، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: ((لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة))[8].
إن العار والشنار إذا لحق إنما يلحق بالرجال.
صار بيد المرأة الموافقة على الزواج، وبيدها تحديد المهر، وبيدها شؤون الوليمة، فكثر العوانس وقلت المهور وأسرف في الولائم.
لنحذر ـ بارك الله فيكم ـ مَغَبَّةَ هذه الأمور فالقوامة للرجال، أما أن يقول الواحد منا: هذا شأن النساء فلا يخرجه ذلك من المسؤولية ولا يعفيه من تبعاتها.
عباد الله، ومن عوائق الزواج ما يتعلل به كثير من الفتيات أو من يتولى أمورَهن من أنه لابد أن تكمل الفتاة دراستها الجامعية حتى فوّت ذلك على الكثير منهن زهرة عمرها وصرف عنها الخُطّاب الأكفاء مع أن الدراسة ليست ضرورية في حين أن الزواج لا غنى بها عنه، ثم ماذا بعد الحصول على الشهادات، فوات الزوج المناسب في الوقت المناسب.
إنها تخسر بذلك حياتها الزوجية التي لا عوض عنها، فإن سعادة المرأة في حصول الزوج الصالح لا في حصول المؤهل العالي، ولقد تعالت الصيحات من صاحبات الشهادات العالية، يبكين على زهرة الشباب، يبكين على تأخرهن في الزواج، تقول إحداهن:
لقد كنت أرجو أن يقال طبيبة فقد قيل ماذا نالني من مقالها
فقل للتي كانت ترى فيّ قدوة هي اليوم بين الناس يرثى لحالها
وكلّ مناها بعض طفل تضمه فهل ممكن أن تشتريه بمالها
إن هذا يصور المأساة حقيقة بسبب تقديم الدراسة وتأخير الزواج.
فاتقوا الله ـ أيها المسلمون ـ في مَوْلِيّاتِكم، خذوا على أيديهن وأطروهن على الحق أطراً، فهن قاصرات نظر، جاهلات بالعواقب، فأقنعوهن وألحوا عليهن بما هو أصلح لهن.
وأخطر من ذلك وأدهى أن بعض الفتيات قد تكون موظفة فتترك الزواج ولا تحرص عليه من أجل البقاء في وظيفتها، وقد يكون بعض الأولياء من أهل الخسة والدناءة لا يريد تزويج مَوْلِيّتِهِ خشية انقطاع الراتب عنه، غير مبالٍ بما تتعرض له من الفتنة وما يفوت عليها من المصالح العظيمة في ترك الزواج، وما علم الشحيح أن المال يدفع لصون الأعراض:
أصون عرضي بمالي لا أدنسه لا بارك الله بعد العرض بالمال
وإن مثل هذا الفعل إنما هو من العضل الذي حرمه الله، قال شيخ الإسلام رحمه الله: "إذا خطبها كفء وآخر وآخر فمنِعِ، صار ذلك كبيرة، يُمنع الولايةَ؛ لأنه إضرار وفسق".
وقد ذكر العلماء أنه إذا عَضَل الولي الأقرب فإن الولاية تنتقل عنه إلى الولي الأبعد، فإن لم يكن لها ولي غير العاضل أو كان لها أولياء ورفضوا تزويجها، فإن القاضي يتولى تزويجها لقوله صلى الله عليه وسلم: ((فإن اشتجروا فإن السلطان ولي من لا ولي له))[9].
فاتقوا الله ـ أيها الأولياء ـ لا تمتنعوا من تزويج مولياتكم من أجل أهوائكم ورغباتكم وأطماعكم أو عدم مبالاتكم، فإنهن أمانة في أعناقكم وقد استرعاكم الله عليهن، واخشوا أن يسبب ذلكم لكم عاراً وخزياً لا تغسله مياه البحار، خاصة في هذا الزمان التي عظمت فيه المنكرات وجُلبت فيه دواعي الفتنة والانحرافات، كل بيت يغص بالمصائب مليء بما يثير الغرائز، والإنسان مُهَيَّأ بفطرته لذلك إلا أن يتداركه الله برحمته ويعصمه بقدرته.
نساء متبرجات وشباب متفرغون وقنوات تقدح زند الشهوة، وأولياء غافلون، بل مغفلون، وسائق وخادمة ومكالمات ولقاءات وأمن من الرقابة السماوية والأرضية، فلا إيمان يمنع من وقوع المحذور، ولا خوف من عواقب الأمور، ومن أمن العقوبة أساء الأدب.
أيها الأولياء، اجعلوا الله أمام أعينكم، احرصوا على تزويج بناتكم ومن تحت أيديكم، إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، اتقوا الله فيهن، اتقوا الله فيهن، هل تريدون أن تسمعوا عنهن ما لا يسركم؟ هل تريدون أن تروا منهن ما يحزنكم؟ هل تريدون أن تخونوا الأمانة؟ هل تريدون أن تحرموا الجنة بسببهن؟ هل تريدون أن تدخلوا النار بدعائهن.
جعلني الله وإياكم ممن يستمعون القول ويتبعون أحسنه.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم:
وَأَنْكِحُواْ الايَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِن يَكُونُواْ فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [النور:32].
[1] صحيح، أخرجه البخاري: كتاب الصوم – باب الصوم لمن خاف على نفسه العزبة، حديث (1905)، كتاب النكاح – باب استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه ... حديث (1400).
[2] صحيح، أخرجه أحمد (3/158)، وأبو داود: كتاب النكاح – باب النهي عن تزويج من لم يلد من النساء، حديث (2050)، والنسائي: كتاب النكاح – باب كراهية تزويج العقيم، حديث (3227) من حديث أنس ومعقل بن يسار. وصححه ابن حبان (4028)، والحاكم (2/162)، وذكره الضياء في المختارة (1889، 1890)، وحسّن إسناده الهيثمي في المجمع (4/258). وصححه الحافظ في الفتح (9/111)، والألباني في إرواء الغليل (1784).
[3] حسن، أخرجه الترمذي: كتاب النكاح – باب ما جاء إذا جاءكم من ترضون... حديث (1084)، وقال: قد خُولف عبد الحميد بن سليمان في هذا الحديث، ورواه الليث بن سعد عن ابن عجلان عن أبي هريرة عن النبي مرسلاً، قال أبو عيسى قال محمد (يعني البخاري): وحديث الليث أشبه، ولم يعدّ حديث عبد الحميد محفوظاً. وقد أخرجه أيضاً ابن ماجه: كتاب النكاح – باب الأكفاء، حديث (1967). والحاكم (2/164-165) وصححه، والبيهقي (7/82) ورمز له السيوطي بالصحة. الجامع الصغير (347)، وحسّنه الألباني. السلسلة الصحيحة (1022)، وإرواء الغليل (1868).
[4] صحيح، أخرجه أحمد (1/40، 48)، وأبو داود :كتاب النكاح – باب الصداق، حديث (2106). والترمذي: كتاب النكاح - باب حدثنا ابن أبي عمر ... حديث (1114)، وقال: حديث حسن صحيح. وابن ماجه: كتاب النكاح – باب صداق النساء، حديث (1887). وصححه ابن حبان (4620)، والحاكم (2/175). وذكره الضياء في المختارة (291-293). وصححه الألباني. صحيح سنن الترمذي (889).
[5] صحيح، أخرجه مسلم: كتاب النكاح – باب ندب النظر إلى وجه المرأة ... حديث (1424).
[6] صحيح، أخرجه البخاري: كتاب البيوع – باب ما جاء في قول الله تعالى: فإذا قضيت الصلاة... حديث (2048)، ومسلم: كتاب النكاح – باب الصداق وجواز كونه تعليم قرآن... حديث (1427).
[7] صحيح، صحيح مسلم: كتاب النكاح – باب الأمر بإجابة الداعي، حديث (1432)، سنن البيهقي الكبرى، كتاب الصداق – باب إتيان دعوة الوليمة حق (7/261)، وأخرجه أيضاً البخاري: كتاب النكاح – باب من ترك الدعوة فقد عصى الله ورسوله، حديث (5177).
[8] صحيح، أخرجه البخاري: كتاب المغازي – باب كتاب النبي إلى كسرى، حديث (4425).
[9] صحيح، أخرجه أحمد (6/47)، وأبو داود: كتاب النكاح – باب في الولي، حديث (2083)، والترمذي: كتاب النكاح – باب ما جاء لا نكاح إلا بوليّ، حديث (1102)، وقال: حديث حسن. وأخرجه أيضاً ابن ماجه: كتاب النكاح – باب لا نكاح إلا بولي، حديث (1879). وصححه ابن الجارود (700)، وابن حبان (4074، 4075)، والحاكم (2/168). وقوّاه البوصيري في الزوائد (2/103). وذكره الحافظ في الفتح (9/191)، وصححه الألباني. إرواء الغليل (1840).
الخطبة الثانية
أما بعد:
فاتقوا الله ـ عباد الله ـ واحذروا أسباب الفتنة ودواعي انتشار الجريمة، فإن هذه المعوقات من أعظم تلك الأسباب والدواعي، واعلموا أن من الأولياء من يخاف الله ويرجو ما عند الله بطلب الستر والعفاف، ويسأل الله العيش الكفاف، يريد لبناته الأكفاء، ويسأل الله ذلك ويلح بالدعاء، ويشكو من بقاء بناته بلا زواج، وهو لم يقصر في شيء، ولم يطمع في مال، فهذا لا تثريب عليه، وإنما المؤاخذة على الشباب ممن عزفوا عن الحلال فوقعوا في الحرام، فهؤلاء هم المقصرون مهما كانت أعذارهم.
ولعل المقام لا يتسع للحديث عن ذلك فنرجئه إلى الجمعة اللاحقة ـ إن شاء الله ـ مع الحديث عن معوقات أخرى للزواج، نرجو من الله أن يأخذ بأيدي الأولياء إلى حلها وبأيدي الشباب للتغلب عليها، وأن يوفق أهل العلم والإصلاح لبث الوعي بين عامة الناس، والأخذ بأيديهم إلى ما فيه سعادتهم في الدنيا والآخرة، إنه ولي ذلك والقادر عليه
ـــــــــــــــــــ(68/8)
صلة الرحم
...
...
2376
...
الأسرة والمجتمع
...
...
الأرحام
...
زيد بن عبد الكريم الزيد
...
...
الرياض
...
27/10/1422
...
...
جامع مطار الملك خالد
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- تقطع أواصر العلاقات الأسرية في المجتمعات الكافرة وسريان ذلك إلى مجتمعنا الإسلامي. 2- الوعيد الشديد لقطع الأرحام. 3- فضل صلة الرحم. 4- بعض حقوق الأقارب. 5- فرق بين المواصلة والمكافأة.
الخطبة الأولى
أما بعد:
إننا ـ أيها المسلمون ـ نعيش في عصر اهتم كل فرد بمصلحته الخاصة، تقطعت فيه الروابط والصلات، انشغل فيه الابن عن أبيه، وقاطع القريب قريبه، وكل همه نفسه، ولم يكن هذا هو شأن المجتمع المسلم في عهد من سلف.
وهذا يا عباد الله إن وقع في مجتمعات الذين لا يرجون لله وقاراً، فكيف يمكن أن يسوغ ذلك في المجتمعات المؤمنة، وبين المسلمين الذي يخشون الله ويرجون ما عنده رزقاً في الدنيا وفلاحاً وصلاحاً في الآخرة.
يا عباد الله، ألسنا نرى ـ والاعتراف بالواقع طريق الوصول إلى الحل ـ ألسنا نرى كثرة التقاطع في مجتمعاتنا بين الأقارب إخواناً، أو أبناء عمومة؟
ما هذا يا عباد الله؟ كل يشكو أقاربه؟ هذا يشكو؟ وهذا يشكو؟. كأننا لا نتلو كتاب الله ولا نقرأ سنة نبينه صلى الله عليه وسلم.
قبل أن أتحدث عن صلة الأرحام. أقول المراد بالأرحام ليس كما يظن بعض الناس أنهم أهل زوجتك، الأرحام جميع أقاربك من جهة الأب أو من جهة الأم. هؤلاء هم الذين يسمون الأقارب.
وبالتواصل بين الأقارب يصلح المجتمع، وبتواصلهم تصلح الأمم، من لم يك نافعاً
لأقاربه فمع غيرهم من باب أولى لا ينفع. ولذلك رفع الله جل شأنه من فضيلة صلة الرحم وهذه بعض النصوص :-
1- روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((قال الله جل شأنه: عن الرحم أما ترضين أن أصل من وصلك)) وأنتم تعلمون يا عباد الله أن من وصله الله فلن ينقطع أبداً.
2- الإمام أحمد والترمذي عن أبي هريرة رضي لله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن صلة الرحم محبة في الأهل مثراة في المال منسأة في الأثر)) صححه الحاكم ووافقه الذهبي.
فهذه ثلاث فوائد لصلة الرحم: المحبة بين الأهل، والزيادة في المال، والتأخير في الأجل. فما رأيكم بهذه الصفة: محبوب بين أهله، مبارك له في ماله، مؤخر له في أجله. إنها أمور كلنا نطلبها وطريق طلبها الصحيح هو صلة الرحم.
3- وعن ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعاً: ((صلة الرحم تزيد في العمر، وصدقة السر تطفئ غضب الرب)).
4- روى البخاري عن أبي هريرة مرفوعاً: ((من سره أن يبسط له في رزقه وأن ينسأ له في أثره فليصل رحمه)).
5- وفي صحيح البخاري عن أبي أيوب رضي الله عنه أن رجلاً قال: أخبرني عن عمل يدخلني الجنة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((تعبد الله لا تشرك به شيئاً وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصل الأرحام)) فصلة الرحم هنا جاءت مع الصلاة والزكاة.
عباد الله، التواصل مع الأقارب موعود بأن يصله الله جل شأنه، ومن وصله الله وصله كل خير، المتواصل مع أقاربه موعود بالجنة، المتواصل مع أقاربه موعود، بنمو ماله، المتواصل مع أقاربه بموعود بمد أجله. ولو كانت هذه على رأس جبل وعر شاق لا يرتقى، لسابق إليها العاقل!! كيف وهي ميسورة لك. موعود أنت عليها عندما تتواصل مع أقاربك.
عباد الله، هذا وعيد لواصلي أرحامهم، وهناك وعيد شديد من الله جل شأنه لمن قطع رحمه :
1- يقول الله تعالى: ياأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِى خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِى تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً [النساء:1]، اتقوا الله الذي تساءلون به واتقوا الأرحام لا تقطعوها إن الله كان عليكم رقيباً.
2- لا تجد شيئاً يذكر في القرآن مع النهي عن الشرك مثل ذكر قطيعة الرحم وَاعْبُدُواْ اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِى الْقُرْبَى [النساء:36].
3- في الحديث المتفق عليه من حديث أبي هريرة مرفوعاً عن الرحم: ((وأقطع من قطعك)) وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: ((اقرؤوا إن شئتم فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ فِى الأَرْضِ وَتُقَطّعُواْ أَرْحَامَكُمْ أَوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ [محمد:22، 23])). فقاطع الرحم ملعون أعمى أصم، وماذا بقي له بعد ذلك؟ وأي خير يرجو؟ وأي فلاح ينتظر في دنياه وآخرته؟.
4- روى البخاري عن جبير بن مطعم رضي الله عنه مرفوعاً: ((لا يدخل الجنة قاطع)) أي قاطع رحم.
5- روى الطبراني عن ابن مسعود مرفوعاً: ((إن أبواب السماء مغلقة دون قاطع الرحم)).
عباد الله، لعلكم لاحظتم شدة الوعيد في قطيعة الرحم كيف أنه يرد في القرآن قرين الشرك بالله، إن قاطع الرحم ملعون أعمى أصم، لا يدخل الجنة إلا أن يرحمه الله، وإن أبواب السماء مغلقة دونه. هل بعد هذا يجرؤ مؤمن بالله مرتقب للموت والحساب على التهاون في حقوق أقاربه ويقطع رحمه ويمتنع من زيارتهم والتواصل معهم.
أيها المسلمون، إن صلة الرحم ميسورة سهلة تحتاج فقط إلى أن يعرف الشخص فضلها وثوابها ووعيد الله للمفرط بها لينتصر على نفسه ويتنازل عن بعض ما في نفسه وأن يعرف خصوصية صلته بأقاربه ولذلك أذكر شيئاً من حقوق الأقارب :
1- من حقوق الأقارب الزيارة، والزيارة نوع من التقدير تذهب ما في النفس وتقوي التواصل ولا تكلف الشخص مالاً ولا جهداً.
2- من حقوق الأقارب الدعاء لهم بظهر الغيب. فهل رفعت يديك يوماً من الأيام تدعو لأقاربك، عندما دعوت لنفسك؟ .
3- الأقارب أيها المسلمون من كان منهم فقيراً فيوصل بالمال، والله جل شأنه بدأ الأقارب قبل المساكين والفقراء يَسْئَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُم مّنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالاْقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ [البقرة:215]، فالفقير قبل اليتيم والمسكين. أما إن كان القريب غنياً فلا تنس الهدية فإنها تشعر بالاحترام والتقدير، وتنمي الود، وتبقى الهدية تذكر بصاحبها أبداً .
4- الأقارب لهم حق الإكرام إذا قدموا من سفر، والتهنئة إذا نالوا خيراً، ولهم الحق في الدعوة في المناسبات، وكلها تفيد في التواصل بين الأقارب .
5- الأقارب لهم حق خاص في التغاضي عن أخطائهم، ويتحمل منهم ما لا يتحمل من غيرهم. فلو حاسبت الناس وأقاربك وغض الطرف وتحمل من أقاربك ما لا تحتمله من الناس، وإياك أن تحاسب أقاربك وتقاطعهم لخلاف وقع .
6- من حقوق الأقارب النصيحة لهم ودعوتهم، نافعاً لهم، كافاً شرّك عنهم .
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول هذا القول وأستغفر الله .
الخطبة الثانية
أما بعد:
أيها المسلمون، اتقوا الله وصلوا أرحامكم، وإن بعض الناس لم يفهم معنى صلة الرحم وإذا قيل له عن صلة الرحم قال: هم الذي قطعوني ولا يزورونني .
نعم ـ أيها المسلم ـ حتى ولو لم يزوروك فزرهم، حتى وإن كانوا لا يدعون الله لك فادع الله لهم، حتى لو كانوا لا يستضيفونك إذا قدمت من سفر فكن خيراً منهم ادعهم وأكرمهم. فأنت تعمل لله وليس لهم .
هل أنت لا تزور إلا من زارك، ولا تصل الرحم إلا من وصلك، أين أمر الله لك بصلة الرحم. هل أنت تكافئ أم تطلب الأجر. واسمع حديثين في الموضوع نفسه :
روى البخاري عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما مرفوعاً: ((ليس الواصل بالمكافئ، ولكن الواصل إذا قطعت رحمه وصلها)).
وروى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنهما مرفوعاً: أن رجلاً قال: إن لي قرابة أصلهم ويقطعونني وأحسن إليهم ويسيئون إلي، وأحلم عنهم ويجهلون علي. فقال: ((لئن كنت كما قلت: فكأنما تسفهم المل. ولا يزال معك من الله ظهير عليهم)) [المل: الرماد].
الشكوى نفسها في عهد الصحابة وأجاب عنها الرسول صلى الله عليه وسلم، وهي شكوى نسمعها كثيراً من بعض الناس، يقولون: هم الذين يقطعونني. فاتق الله أيها المسلم لوصل رحمك وأقاربك واحذر القطيعة وتذكر عاقبتها القريبة في الدنيا وعقوبتها في الآخرة.
-ـــــــــــــــــــ(68/9)
المرأة وصور مضيئة
...
...
2385
...
الأسرة والمجتمع, سيرة وتاريخ, قضايا في الاعتقاد
...
...
آل البيت, السيرة النبوية, المرأة
...
عاصم بن لقمان يونس الحكيم
...
...
جدة
...
6/8/1421
...
...
جامع جعفر الطيار
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- كثرة مآثر النساء الفاضلات وبطولاتهن في تاريخنا. 2- دور خديجة في تثبيت النبي بعد غار حراء. 3- فضل خديجة رضي الله عنها. 4- وفاء النبي لخديجة بعد موتها. 5- التحذير من الاقتداء بالساقطات وغيرهن من يركز عليهن الإعلام.
الخطبة الأولى
أما بعد:
لقد سطر التاريخ صوراً مضيئة لدور المرأة في نصرة الإسلام، فـ((النساء شقائق الرجال)) كما قال نبينا صلى الله عليه وسلم، ولا شك أن مقولة وراء كل عظيم امرأة لها وجه من الصحة، فالمرأة هي مصنع الرجال ومربية الأجيال، هي الأم والزوجة والأخت والابنة.
ونحن لو ذهبنا نُحصي بطولات النساء في الإسلام لوجدنا صوراً وقصصاً كثيرة، إلا أنها لا تعدل شيئاً بجانب قصص الرجال، فما السبب يا تُرى؟ إن ما وصلنا من قصص النساء أقل بكثير مما وصلنا من قصص الرجال، لأن الأصل في المرأة التستر والخفاء، فالمرأة يظهر أثر بطولاتها وتضحياتها على أبنائها وزوجها، والرجال الذين في بيئتها وأسرتها، لأن المرأة لم تُخلق لكي تكون بارزة للمجتمع، إنما خلقها الله تعالى لكي تكون سكناً لزوجها ومربية لأولادها.
ورضي الله عن الصحابيات الجليلات أمثال أم المؤمنين خديجة بنت خويلد، فخديجة رضي الله عنها شدت من عزم النبي صلى الله عليه وسلم عندما رجع خائفاً مضطرباً مما جرى في غار حراء مع جبريل عليه السلام، فأخبرها كيف غطه ثلاث مرات آمراً إياه أن يقرأ، وأخبرها بالقرآن الذي سمعه منه، وعندما أخبرها أنه خشي على نفسه قالت له بكل ثقة: (كلا والله ما يُخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم وتحمل الكل وتكسب المعدوم وتَقري الضيف وتُعين على نوائب الدهر)، فكانت لكلماتها أفضل أثر على قلب نبينا صلى الله عليه وسلم، فهدأ وسكن رَوْعُه، وواست النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك بمالها ونفسها وهيئت للنبي صلى الله عليه وسلم البيت المريح الذي يجد فيه السكينة بعد المشقة والأذى الَّلذَيْن كان يجدهما من دعوة المشركين، فكانت خير معين على نشر الإسلام، ومناقبها كثيرة وعظيمة، فهي المرأة الوحيدة التي ما تزوج النبي صلى الله عليه وسلم عليها حتى ماتت، وهي التي رزقه الله منها الولد، وهي التي بشرها الله بالجنة كما قال نبينا صلى الله عليه وسلم: ((أتاني جبريل فقال يا رسول الله هذه خديجة قد أتتك ومعها إناء فيه إدام أو طعام أو شراب، فإذا هي قد أتتك فاقرأ عليها السلام من ربها ومني، وبشرها ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيها ولا نصب))، لذا قالت عائشة والحديث في صحيح مسلم: (ما غِرْتُ للنبي صلى الله عليه وسلم على امرأة من نسائه ما غرت على خديجة لكثرة ذكره إياها، وما رأيتها قط)، وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا ذَبَحَ الشّاةَ يَقُولُ: ((أَرْسِلُوا بِهَا إِلَىَ أَصْدِقَاءِ خَدِيجَةَ)) قَالَتْ: فَأَغْضَبْتُهُ يَوْماً فَقُلْتُ: خَدِيجَةَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: ((إِنّي قَدْ رُزِقْتُ حُبّها))، واسْتَأْذَنَتْ هَالَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ، أُخْتُ خَدِيجَةَ، عَلَىَ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم. فَعَرَفَ اسْتِئْذَانَ خَدِيجَةَ فَارْتَاحَ لِذَلِكَ. فَقَالَ: ((اللّهُمّ هَالَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ)) فَغِرْتُ فَقُلْتُ: وَمَا تَذْكُرُ مِنْ عَجُوزٍ مِنْ عَجَائِزِ قُرَيْشٍ، حَمْرَاءَ الشّدْقَيْنِ، هَلَكَتْ فِي الدّهْرِ، فَأَبْدَلَكَ اللّهُ خَيْراً مِنْهَا، زاد الإمام أحمد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أبدلني الله خيراً منها؟! قد آمنت بي إذ كفر بي الناس، وصدقتني إذ كذبني الناس، وواستني بمالها إذ حرمني الناس، ورزقني الله أولادها وحرمني أولاد النساء)).
هذا الوفاء العظيم عباد الله، ما كان إلا لمكانتها في قلب النبي صلى الله عليه وسلم وما بذلته للدعوة والإسلام، لذا استحقت أن تكون خير نساء العالمين وسيدة الجنة، قال نبينا صلى الله عليه وسلم: ((سيدات نساء أهل الجنة)) وفي رواية ((خير نساء العالمين أربع:مريم وفاطمة وخديجة وآسية))، ولذلك عندما توفاها الله أُطلق على العام الذي ماتت فيه عام الحزن.
أقول قولي واستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد، إن نساءنا وبناتنا في أمس الحاجة إلى القدوة الصالحة التي تكون لهن نبراساً يضيء لهن الظلمات ويقشع غمام الفتن التي أحاطت بهن من كل جانب، ولا أجمل ولا أكمل من قصص الصحابيات والنساء الصالحات من سلف هذه الأمة، ففي هذه القصص تجد الفتاة المسلمة ضالتها في امرأة كاملةَ الإيمان صحيحةَ العقيدة، لا تُقلد غرباً ولا شرقاً، شعارها الحجاب ومبدأها الإسلام فلا تحيد عنه قيد أنملة، والمرأة عباد الله إن لم يكن لها قدوة صالحة فإنها تبحث عن أي قدوة ولو غير صالحة، وكذا النفس إن لم تشغلها بالحق شغلتك بالباطل، ولا شك أن وسائل الإعلام الهدامة تقوم بدور فعال في هذا الجانب، فهم يزينون للمرأة أن تكون ممرضة أو مضيفة أو قائدة طائرة، وينشرون المقابلات تلو المقابلات، حتى إنه ليخيل للمرأة التي لم تتربى على الدين والقيم الإسلامية أن هذه هي القدوة التي ينبغي تقليدها، وكم رفعت الصحف والمجلات صوراً ومقالات لنساء سافرات متبرجات مسترجلات، قد تبوءوا المناصب السياسية والاقتصادية واختلطن بالرجال حتى صرن منهم، ولو أن الأمر اقتصر على حالات شاذة يشير لها الإعلام إشارة عابرة ويمر علها مرور الكرام لهان الخطب والمصيبة، إلا أن طامة الطوام أن يخرج علينا كتاب ومفكرون يمدحون ويبجلون ويصفقون ويهللون لهذا الفتح العظيم، ويجعلونه نصراً للإسلام والمسلمين، ووالله إنها لأحدى الكُبَر، يُعصى الله عز وجل وتُكشف العورات وتُحَكَّمُ قوانين الطاغوت بتحديد النسل وإباحة الزنا والشذوذ وحرية الردة عن الدين وبمنع التعدد وكل ما هو معروف عن مؤتمر السكان الذي ترعاه الأمم المتحدة، ومع ذلك يعده أولئك نصراً للإسلام والمسلمين، فأين عقولهم بل قل فأين دينهم؟ لقد قال الله تعالى في المنافقين: وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِى لَحْنِ الْقَوْلِ [محمد:30]، أي أن ما يقولونه بالمعنى يفضح سريرتهم ويكشف خبيئتهم وإن لم يُظهروا ذلك صراحة، وكم من الكتاب من هم من هذا النوع، فرجل يطالب بقيادة المرأة للسيارة، وآخر يطالب أن تعمل بجانب الرجل، وثالث يطالب بنبذ الحجاب لأنه يعطل المرأة عن عملها، ورابع وخامس وسادس، هم في واد، والدين والشريعة والعلماء في واد آخر، ولا نستبعد أن يأتي يوم يشيد فيه أحد هؤلاء بالإسلام وكيف أن الإسلام دخل معقلاً من معاقل الكفر، لأن مغنيٍ فاسق أو راقصةً خبيثة غنى أو رقصت في البيت الأبيض، فاقرؤوا عباد الله بين السطور كي يتبين لكم من يريد نصرة الإسلام حقيقة ممن يريد هدم الدين وإشاعة الفاحشة والرذيلة، ونشئوا بناتكم على الفضيلة والأخلاق الكريمة والعفاف والطهر والحياء، علموهن قصص الصحابيات الجليلات ونساء السلف الصالح كي يقتدين بهن، وحذروهن من مكايد الشيطان وأعوانه وبصروهن بما يُراد بالإسلام والمسلمين، نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم.
ـــــــــــــــــــ(68/10)
بر الوالدين وثمراته
...
...
2402
...
الأسرة والمجتمع
...
...
الوالدان
...
بهجت بن يحيى العمودي
...
...
الطائف
...
1/3/1416
...
...
الأمير أحمد
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- بعض فضل الوالدين على الابن. 2- وصية الله ورسوله بر الوالدين. 3- بر إبراهيم عليه السلام. 4- صور من بر السلف. 5- التحذير من عقوق الوالدين. 6- دعوة الوالد على ولده العاق مستجابة. 7- ثمرات بر الوالدين.
الخطبة الأولى
أما بعد:
عباد الله، إن للوالدين حقاً عظيماً وفضلاً ـ بعد فضل الله ـ جليلاً كريماً، وصى الله عز وجل به وتنزل به الروح الأمين من فوق السماوات السبع العلا.
اثنان إذا ذكرتهما ذكرت البر والإحسان، اثنان إذا ذكرتهما أسعفتك بالدموع العينان ... مضت أيامهما وانقضى شبابهما وبدا لك مشيبهما، وقفا على عتبة الدنيا وهما ينتظران منك قلباً رقيقاً وبراً عظيماً، وقفا ينتظران منك وفاء وبراً، والجنة أو النار لمن برّهما أو عقهما، فطوبى لمن أحسن إليهما ولم يسئ لهما، طوبى لمن أضحكهما ولم يبكهما، طوبى لمن أعزهما ولم يذلهما، طوبى لمن أكرمهما ولم يهنهما، طوبى لمن نظر إليهما نظر رحمة وودّ وإحسان، وتذكر معها ما كان منهما من برّ وعطف وحنان، طوبى لمن أسهر ليله ونصب في نهاره وضنى جسده في حبهما، طوبى لمن شمر عن ساعد الجد في برهما، فما خرجا من الدنيا إلاّ وقد كتب الله له رضاهما.
أيها الأحبة في الله، إننا في زمان قد عظمة غربته واشتدّت كربته، فلم يرحم الأبناء دموع الآباء ولم يرحم البنات شفقة الأمهات، في هذا الزمان الذي قلّ فيه البر وازداد فيه العقوق والشر، نحتاج إلى من يذكرنا فيه بحق الوالدين وعظيم الأجر لمن برهما.
لذا كله كانت هذه الموعظة، فلنصغ بأسماعنا إلى كتاب ربنا الذي دلنا على عظيم حقهما قال تعالى: وَاعْبُدُواْ اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَاناً [النساء:36]، وقوله سبحانه: قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَاناً [الأنعام:151]، وقوله جل شأنه: وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِى صَغِيرًا [الإسراء:23، 24].
أخي الحبيب، تأمّل صغرك وضعفك حال طفولتك تذكّر معاناة أمّك منك، وذلك حينما جعلت بطنها لك وعاءً، ودمها لك غذاءً، تأمل حملها لك في بطنها تسعة أشهر، تحمل معها الآلام والأنّات والزفرات، فإذا قرب وقت وضعك وحانت ساعة خروجك إلى الدنيا اختلطت مشاعرها، فرح وحزن ... خوف واستبشار ... فتفرح وتستبشر بمقدمك .. وتخاف وتحزن من هول أمر وضعك، وما قد يحدث من أثر ذلك، ولكن يغلب فرحها واستبشارها بمقدمك على خوفها وحزنها، فكل شيء لديها يهون إذا رأتك صحيحاً سليماً، ووالله إنها لترى الموت بعينيها وتذوق من الآلام ما يود المرء أن يكون معه نسياً منسياً، ولكنها بعاطفتها الجياشة آثرت صحتك على صحتها ونجاتك بهلاكها، إنها عند رؤيتها لك تنسى جميع الهموم والآلام وتعلق عليك بعد الله آمالها.
وتبدأ الرحلة الشاقة لأمك فهاهي ترضعك حولين كاملين، تسهر لسهرك وتتألم لألمك وتحزن لحزنك وتزيل الأذى عنك بيديها دون تردد أو تأفّف، وصدق الله إذ قال: حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ [لقمان:14]، حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً [الأحقاف:15].
أمّا أبوك، فأنت له مجبنة مبخلة محزنة، يكد ويسعى ليوفر لك لقمة عيش سائغة، ويذود عنك صنوف الأذى لتعيش بين الناس بسلام، إذا غبت عنه أصيب بالحيرة والحزن، وإذا مرضت اهتم لك وقلق، يجتهد في تربيتك و إصلاحك، إذا دخلت عليه هشّ في وجهك، وإذا أقبلت عليه بش في وجهك، وإذا خرج تعلقت به رغبةً وحباً، وإذا حضر التزمت حجره واحتضنت صدره حناناً وودّاً.
أخي الكريم، هذان هما والداك وتلك هي طفولتك وصباك، وبقي الواجب عليك تجاههما، والذي نستلهمه من توجيه نبيك عليه الصلاة والسلام عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: سألت النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: أيّ العمل أحب إلى الله؟ قال: ((الصلاة على وقتها، قلت: ثمّ أيّ؟ قال: بر الوالدين، قلت: ثمّ أيّ. قال: الجهاد في سبيل الله)) رواه البخاري ومسلم.
وروى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: ((رغم أنفه، رغم أنفه، رغم أنفه. قيل: من يا رسول الله؟ قال: من أدرك والديه، أحدهما أو كلاهما ثمّ لم يدخل الجنة)). وفي الصحيحين أن رجلاً جاء إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم يستأذنه في الجهاد فقال: ((أحيّ والداك؟ قال: نعم، قال: ففيهما فجاهد)).
وهكذا عباد الله تتعاضد التوجيهات النبوية على تقديم بر الوالدين على غيرهما، بل إن من عظم حقهما أن تتواصل مع كل من يسرهما وصاله، والذي فيه إبقاء لروابط المودة التي كانت بين الوالدين وأهل ودّه ، بل وانتقالها إلى أولاده .
ولنا مع قصص البارّين بآبائهم وقفة، ومن أعظمهم الأنبياء عليهم صلاة الله وسلامه.
مثال ذلك إبراهيم عليه السلام الذي بر أباه في دعوته إلى عبادة الله وحده وترك ما كان يعبد من الأصنام التي لا تضر ولا تنفع، ومخاطبته بأجمل وألطف خطاب ياأَبَتِ إِنّى أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مّنَ الرَّحْمَانِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ الِهَتِى ياإِبْراهِيمُ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لارْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِى مَلِيّاً قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِي إِنَّهُ كَانَ بِى حَفِيّاً [مريم:45-47].
وموقف آخر ذكر عن أحد التابعين فقيل له: إنك من أبر الناس بأمك، ولا نراك تؤاكل أمك؟ فقال: أخاف أن تسبق يدي إلى ما قد سبقت عينها إليه، فأكون قد عققتها .
وعن ابن عون المزني أن أمه نادته فأجابها فعلا صوته صوتها، فأعتق رقبتين.
وقيل لعمر بن ذر: كيف كان بر ابنك بك؟ قال: ما مشيت نهاراً قط إلاّ مشى خلفي، ولا ليلاً إلاّ مشى أمامي، ولا رقى سطحاً وأنا تحته..
قيل في حق الأم:
لأمك حق لو علمت كبير عظيمك يا هذا لديه يسير
فكم ليلة باتت بثقلك تشتكي لها من جواها أنّة وزفير
وفي الوضع لو تدري عليك مشقة فكم غصص منها الفؤاد يطير
وكم غسلت عنك الأذى بيمينها ومن ثديها شرب لديك نمير
وقيل في حق الأب :
غذوتك مولوداً وعلتك يافعاً تكل بما أجني عليك وتنهل
إذاً ليلة ضافتك بالسقم لم أبت لسقمك إلاّ ساهراً أتململ
كأني أنا الطروق دونك بالذي طرقت به دوني فعيني تهمل
تخاف الردى نفسي عليك وإنني لأعلم أن الموت دين مؤجل
عباد الله، لئن كان البر بالوالدين بهذه المنزلة العظيمة فاعلموا أن عقوقهما من أكبر الكبائر. فعن أبي بكرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كلّ الذنوب يغفر الله منها ما شاء إلاّ عقوق الوالدين فإنه يعجل لصاحبه في الحياة قبل الممات))، وروى الترمذي بإسناد صحيح عن أبي بكرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما من ذنب أحرى أن يعجل لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدخر له في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم))، وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إن الله حرّم عليكم عقوق الأمهات)) وقال صلى الله عليه وسلم: ((ألا أنبئكم بأكبر الكبائر)) ـ وكررها ثلاثاً ـ قلنا: بلى يا رسول الله قال: ((الإشراك بالله وعقوق الوالدين)).
وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة: العاق لوالديه ومدمن خمر والمنان بعطائه، وثلاثة لا يدخلون الجنة: العاق لوالديه والديوث والرجلة)).
وقال صلى الله عليه وسلم: ((ملعون من عق والديه))، واعلم أيها العاق أن دعوة الوالد على ولده مستجابة، وإليك هذه القصة التي تظهر لنا خطر العقوق للوالدين، ذكر أن شاباً كان كثيراً ما يلهو ويلعب ويشتغل بالمنكرات والمعاصي وكان له والد صاحب دين وتقوى، فنهاه وزجره.
فذات مرّة أكثر عليه بالنصح وألح عليه، فما كان من الولد إلاّ أن رفع يده ولطم أباه على خده. فأقسم بالله ليخرجن إلى البيت الحرام ويدعو عليه، فأنشأ يقول :
يا من إليه أتى الحجاج قد قطعوا عرض المهامة من قرب ومن بعد
إني أتيتك يا من لا يخيب من يدعوه مبتهلاً بالواحد الصمد
هذا منازل لا يرتد من عققي فخذ بحقي يا رحمن من ولدي
وشل منه بحول منك جانبه يا من تقدس لم يولد ولم يلد
فقيل ما أتم كلامه حتى يبس شق ولده الأيمن.
فاحذروا العقوق قليله وكثيره نجانا الله وإياكم من عذابه وأليم عقابه.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين وبعد :
فإن لبر الوالدين ثمرات عظيمة بشر بها النبي صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه، فاعلموا أنه سبب في زيادة العمر وسعة الرزق وتفريج الكربات وإجابة الدعوات وانشراح الصدر وطيب الحياة.
وهو سبب في بر الأبناء بالآباء كما أنه دليل على صدق الإيمان وكرم النفس وحسن الوفاء، عن معاوية بن جاهمة أن جاهمة جاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أردت أن أغزو، وقد جئت أستشيرك، فقال: ((هل لك من أمّ؟)) قال: نعم. قال: ((فالزمها فإن الجنة عند رجليها)).
وعن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الرجل ليحرم الرزق بذنب يصيبه ولا يرد القدر إلاّ الدعاء ولا يزيد في العمر إلاّ البر)) وعن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((بروا آباءكم تبركم أبناؤكم...)) الحديث.
وفي قصة أصحاب الغار الثلاثة عبرة، فمن بينهم رجلاً كان باراً بوالديه فذكر ما كان منه معهما من البر ثم قال: ((فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج لنا فرجة نرى منها السماء. ففرّج الله عز وجل لهم حتى رأوا منها السماء...)).
وعن عمر رضي الله عنه قال سمعت الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ((يأتي عليكم أويس بن عامر مع أمداد أهل اليمن من مراد ثم من قرن، كان به برص، فبرأ منه إلاّ موضع درهم، له والدة هو بها برّ، لو أقسم على الله لأبره. فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل)).
وعن عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى عليه وسلم: ((دخلت الجنة فسمعت فيها قراءة، فقلت: من هذا؟)) قالوا: حارثة بن النعمان. فقال صلى الله عليه وسلم: ((كذلكم البر، كذلكم البر)) وكان أبر الناس بأمه.
ـــــــــــــــــــ(68/11)
الحقوق الزوجية
...
...
2434
...
الأسرة والمجتمع, فقه
...
...
البيوع, قضايا الأسرة
...
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
...
...
الرياض
...
18/11/1422
...
...
جامع الإمام تركي بن عبد الله
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- من أسباب السعادة الزوجية معرفة الحقوق والواجبات. 2- حقوق الزوجة على زوجها. 3- وجوب المعاشرة بالمعروف وتحريم الإضرار. 4- الصبر والتحمل مطلوب من الزوج. 5- نبينا خير الناس لأهله. 6- مراعاة ضعف المرأة. 7- حقوق الزوج على زوجته. 8- التحذير من معصية الزوج وبيان وجوب طاعته. 9- فضل المرأة الصالحة. 10- فضل المرأة التي تجمع وتؤلّف. 11- مصيبة المرأة التي تفرّق وتتلّف. 12- الحكمة في معالجة المشاكل.
الخطبة الأولى
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عباد الله، إن من أسباب سعادة الزوجين قيام كل منهما بما يجب عليه نحو صاحبه، فقيام الزوج بالواجب عليه، وقيام المرأة بالواجب عليها، يكفل للبيت السعادة والهناء بتوفيق من الله. والله جل وعلا في كتابه العزيز قد بين للزوجين الواجب على كل منهما فقال: وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِى عَلَيْهِنَّ بالْمَعْرُوفِ [البقرة:228]، فأخبر تعالى أن للزوجة حقاً كما أن عليها واجباً، وللزوج حق كما أن عليه واجباً.
فالحق الواجب على الزوج نحو امرأته الإنفاق عليها، كسوتها، التعامل معها بالمعروف، كفُّ الأذى، حسن العشرة، وقد سأل رجل النبي : ما حق امرأة الرجل عليه؟ قال: ((أن تطعمها إذا طمعت، وتكسوها إذا اكتسيت، ولا تضرب الوجه، ولا تقبِّح، ولا تهجر إلا في الفراش))[1]، فهذه خمس خصال:
أولاً: أمره أن يطعمها إذا طعم، فيوفر لها الطعام، وأمره أن يوفِّر لها الكسوة، ثم نهاه عن ضربها في الوجه، لأن الضرب في الوجه فيه إهانة وإذلال، ووجه الإنسان أشرف أعضائه الظاهرة، فلا يجوز تشويهه بضربه، ويمكن الأدب في غير ذلك، ونهاه أن يقبِّح أي: أن يقول كلمة قبيحة، نحو: قبَّحكِ الله أو غيره من الألفاظ البذيئة، فإن الألفاظ السيئة تجرح القلب أعظم من الضرب، ولذا يقول الله جل وعلا: وَقُل لّعِبَادِى يَقُولُواْ الَّتِى هِىَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوّا مُّبِينًا [الإسراء:53]، ونهاه عن الهجران إلا في الفراش، بمعنى: إذا أراد هجْرها هجَرها بترك المبيت معها، وأما هجرٌ بترك الكلام والمحادثة فهذا نهى عنه النبي ، فبقاؤها معه من دون حديث صاحبهما للآخر يزيد في الجفاء، ويبعد كلاً منهما عن الآخر، فإن الأحاديث الودية مما يُكسب القلب محبة ومودة من كل منهما لصاحبه، وأما إذا دخل وخرج، لا يكلمها ولا يلتفت إليها، لا يسمع منها قولاً، ولا يُسمعها قولاً، فهذا أمر نهى عنه النبي ، لأنه يحدث تصدُّعاً في الحياة الزوجية، وبعد كلٍ منهما عن الآخر، والله تعالى يقول أيضاً: وَعَاشِرُوهُنَّ بالْمَعْرُوفِ [النساء:19]، وقال: وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لّتَعْتَدُواْ وَمَن يَفْعَلْ ذالِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلاَ تَتَّخِذُواْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوً [البقرة:231]، فانظر إلى أن ربنا جل وعلا أرشد الزوج إذا طلق المرأة، وأراد العود إليها، فليكن بقصد الإصلاح، فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ، وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ أي: قاربن انقطاع العدة، فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ بمعنى: استرجعوها لتكون الرجعة بالمعروف أي: ناوياً العشرة بالمعروف، لا جاعلاً الرجعة سبباً للعذاب والألم، أَوْ سَرّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ فدعها تنقضي عدتها، ولعل الله أن يعوضها خيراً ويعوضك خيراً، وأما إمساك لأجل الإضرار والظلم والعدوان، فهذا نهى الله عنه بقوله: وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لّتَعْتَدُواْ أي: لا تمسكوهن وتراجعوا المرأة ضراراً لأجل أن تعتدي عليها، أو أن تظلمها وتسيء إليها، فذاك محرم في شريعة الإسلام، والعدوان قد نهى الله عنه، ولا يحلّ للرجل أن يعتدي عليها بالإيذاء والإضرار، فذاك أمر لا يليق بالمسلم السامع والمطيع لله ورسوله.
ونبينا قد أرشد الأزواج أيضاً، أرشد الزوج إلى المعاملة الحسنة مع المرأة، فأخبرهم أن من كمال الإيمان حسن الخلق، فقال: ((أكمل المؤمنين إيمان أحسنهم خلقاً، وخيركم خيركم لنسائه))[2]، ((أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً)) فإن حسن الخلق وحسن التعامل يدلّ على كمال الإيمان وقوته، وسوء العشرة وسوء المعاملة وعدم الوفاء يدل على نقص في الإيمان، ولذا قال نبينا : ((أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً))، ثم قال: ((وخيركم خيركم لنسائه))، وخير الناس من كان خيره لنسائه، التعامل الحسن، والقيام بالواجب، والبعد عن كل ما يكدّر صفو العشرة وينغصها.
ويبين في موضع آخر أن الرجل يجب أن يكون المستحمل للأخطاء، ويجب أن يكون الصبر والتحمل من أخلاقه، فهو أقوى من المرأة تحملاً، والمرأة ضعيفة، وقد يكون منها الخطأ، لكن تحمّلُ الرجل وصبره هو المطلوب منه، فإنه القيّم عليها، وما دام القيم فلا بد من صبر وتحمل، فيقول : ((لا يفرك مؤمن مؤمنة، إن كره منها خلقاً رضي منها آخر))[3]، لا يبغضها ويكرهها فإن أخلاقها قد يكون فيها خلق غير مناسب، ولكنها تشتمل على خلق طيب أيضاً، وهكذا حال الإنسان، فالكمال في المخلوق غير ممكن، لا من الرجل ولا من المرأة، فإن كرهت منها خلقا من الأخلاق فلا بد أن ترتضي منها خلقا غيره، وأما إذا كنت تعاتب على كل نقص، وتريد الكمال في كل الأحوال، فذاك طلب المستحيل، ومن كثر عتابه قلّ أصحابه.
ويبين أيضاً ذلك بوضوح جلي فيقول فيما ترويه عائشة رضي الله عنها: ((خيركم خيركم لأهله)) ثم قال: ((وأنا خيركم لأهلي))[4]، فمحمد خير الناس لأهله، صبراً وتحملا وإكراماً ومعاملة بالحسنى، آلى شهراً منهن لما حصل منهن ما حصل، ومع هذا كان يعاملهن بالحسنى ، وتخبر عائشة لما سئلت: ماذا كان يفعل في بيته؟ قالت: كان في حاجة أهله[5]، فهو من أحسن الناس خلقاً، وأحسنهم تعاملاً صلوات الله وسلامه عليه أبداً دائماً إلى يوم الدين.
وهو أرشد الأزواج إلى أمر عظيم، وهو أن المرأة من طبيعتها الضعف وقلة القيام بالواجب المطلوب، إن من طبيعتها الضعف فقال : ((استوصوا بالنساء خيراً، فإن المرأة خلقت من ضلع، وإن أعوج ما في الضلع أعلاه، فإن ذهبت تقيمه كسرته، وإن تركته فلا يزال به عوج، فاستوصوا بالنساء))[6]، فهذا توجيه للرجل أنه لُفِت نظره إلى تركيبة المرأة الضعيفة، وربما يكون منها سوءٌ في شيء من الأخلاق، أو قلة قيام بواجب، فلا تنظر إليها إلا نظر من يعرف وضعها وحالها، وأنك إذا أردت أن تقيم الاعوجاج فإن ذلك يستحيل عليك.
وأخبر أيضاً أن المرأة خلقت من ضلع، وأنها لا تستقيم لك على طريقة واحدة، إذا تعوِّد نفسك على الصبر والتحمل وعدم الضجر مما عسى أن تجده من بعض أخلاقها، لتنتظم الحياة الزوجية، ويتربى الأطفال في حضن الأبوين، في محبة ومودة وقيام بالواجب.
أيها المسلمون، ونبينا إذ وجّه الأزواج إلى هذه الأخلاق العالية والصفات الطيبة، أرشد أيضاً النساء الزوجات إلى ما يجب عليهن نحو الأزواج، فأخبر المرأة المسلمة أن رضا زوجها عنها بموته، أن ذلك من أسباب دخولها الجنة، فيقول : ((إذا مات الزوج وهو راض عن امرأته دخلت الجنة))[7]، فرضا زوجها عنها إذا مات سبب لدخولها الجنة، إذاً فعليها أن تسعى في إرضاء زوجها عنها حتى تفوز بهذا الثواب العظيم.
ويخبر خبراً آخر فيقول مبينا أن المرأة إذا قامت بحق زوجها نالت الثواب العظيم، فيقول : ((إذا صلت المرأة خمسها، وصامت شهرها، وحفظت فرجها، وأطاعت بعلها، قيل لها: ادخلي الجنة من أي أبواب الجنة شئت))[8]. هذا وعد من رسول الله لتلكم المرأة المؤمنة المصلية الصائمة الحافظة فرجها المطيعة زوجها أنها تخيّر أي باب من أبواب الجنة تدخل منه، فضلاً من الله وكرماً وجوداً.
أيتها المرأة المسلمة، ولكن رسول الله حذرك من العصيان والتمرد على الزوج، ورتب على هذا وعيداً شديداً ترتعد منه فرائص المرأة المؤمنة التي تخاف الله وتتقيه، فيقول : ((إذا دعا الرجل امرأته للفراش فلم تجبه، فبات ساخطاً عليها لعنتها الملائكة حتى تصبح))[9]، هذا وعيد شديد للمرأة إذا عصت زوجها، وخالفت أمره، فإنها متوعَّدة بأن تلعنها ملائكة الرحمن حتى تصبح، وعيد شديد في غاية القسوة والشدة، مما يدعو المرأة المؤمنة إلى السمع والطاعة وبذل المعروف لزوجها والقيام بحقه.
ويوجه المرأة المسلمة إلى الطاعة للزوج فيقول : ((لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها لعظم حقه عليها))[10].
أيتها المرأة المسلمة، إنك راعية في بيت زوجك، يقول : ((كلكم راعٍ، وكلكم مسؤول عن رعيته، الإمام راع ومسؤول عن رعيته، الرجل راع في أهله ومسؤول عن رعيته، المرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها، الخادم راع في مال سيده ومسؤول عن رعيته))[11]، ويقول مبيناً فضل المرأة المستقيمة على الخلق الكريم: ((خير مال المرء المسلم المرأة الصالحة، إن نظر إليها أسرته، وإن أمرها أطاعته، وإن غاب عنها حفظته في نفسها وماله))[12]، فتحفظ عرضها، وتصون فراش زوجها، وتحفظه في ماله فلا تتعدى على ماله بغير حق؛ لأنها راعية ومؤتمنة، فمن لازم ذلك حفظ حقوق الزوج بكل المعنى.
فلنتق الله في أنفسنا، ولنطبق شرع الله علينا، لننال السعادة والخير، أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لّقَوْمٍ يُوقِنُون ]المائدة:50]، يَأَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيّنُ لَكُمْ كَثِيراً مّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ قَدْ جَاءكُمْ مّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ يَهْدِى بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ [المائدة:15، 16]، إِنَّ هَاذَا الْقُرْءانَ يِهْدِى لِلَّتِى هِىَ أَقْوَمُ [الإسراء:9].
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه أحمد (4/447)، وأبو داود في النكاح، باب: حق المرأة على زوجها، وابن ماجه في النكاح (1850)، والنسائي في الكبرى (9171) من حديث معاوية القشيري رضي الله عنه، وصححه ابن حبان (4175)، والحاكم (2/187-188)، والدارقطني كما في التلخيص الحبير (4/7)، وصححه الألباني في الإرواء (2033).
[2] أخرجه أحمد (2/250)، والترمذي في الرضاع، باب: ما جاء في حق المرأة على زوجها (1162)، وأبو داود في السنة، باب: الدليل على زيادة الإيمان ونقصانه (4682)، دون الشطر الأخير من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. قال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وصححه ابن حبان (4176)، والحاكم (1/3)، والألباني في الصحيحة (284).
[3] أخرجه مسلم في الرضاع، باب: الوصية بالنساء (1469) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[4] أخرجه الترمذي في المناقب، باب: فضل أزواج النبي (3895)، والدارمي في النكاح (2360) دون الشطر الثاني، والبيهقي في السنن (7/468) من حديث عائشة رضي الله عنها. قال الترمذي: "حديث حسن صحيح، غريب من هذا الوجه". وصححه ابن حبان (4177)، والألباني في الصحيحة (285)، وله شواهد، انظر الصحيحة.
[5] أخرجه البخاري في الأذان، باب: من كان في حاجة أهله... (676) بلفظ: (كان يكون في مهنة أهله).
[6] أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء، باب: خلق آدم صلوات الله عليه وذريته... (3331) واللفظ له، ومسلم في الرضاع، باب: الوصية بالنساء (1468) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[7] أخرجه الترمذي في الرضاع، باب: ما جاء في حق الزوج على المرأة (1161)، وابن ماجه في النكاح، باب: حق الزوج على المرأة (1854)، وأبو يعلى (6603)، والطبراني في الكبير (23/374)، كلهم بلفظ: ((أيما امرأة ماتت وزوجها عنها راض دخلت الجنة)). والحاكم (4/173) من طريق مساور الحميري عن أمه عن أم سلمة رضي الله عنها. ومساور هذا وأمه مجهولان. قال الذهبي في الميزان (4/95): "مساور الحميري، عن أمه، عن أم سلمة. فيه جهالة. والخبر منكر". ولذا ضعفه الألباني في الضعيفة (1426).
[8] أخرجه أحمد (1/191) من حديث عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه، وفيه ابن لهيعة، وله شاهد من حديث أبي هريرة عند ابن حبان (4163)، وآخر من حديث أنيس عند البزار (1463)و(1473)، وأبي نعيم في الحليلة (6/308)، وثالث من حديث عبد الرحمن بن حسنة عزاه الهيثمي في المجمع (4/306) إلى الطبراني، ، ولذا حسنه الألباني في آداب الرفاف (ص286).
[9] أخرجه البخاري في بدء الخلق، باب: ذكر الملائكة (3237)، ومسلم في النكاح، باب: تحريم امتناعها من فراش زوجها (1736) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بنحوه.
[10] أخرجه أحمد (4/381) من حديث عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه، والترمذي في الرضاع، باب: ما جاء في حق الزوج على المرأة (1159)، والبيهقي (7/291) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وصححه ابن حبان (4162)، والألباني في الإرواء (1998)، وذكر له شواهد عدّة.
[11] أخرجه البخاري في الجمعة، باب: الجمعة في القرى والمدن (893)، ومسلم في الإمارة، باب: فضيلة الإمام العادل، وعقوبة الجائر... (1829) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما بنحوه.
[12] أخرجه أبو داود في الزكاة، باب: في حقوق المال (1664)، والحاكم (1/408-409)، والبيهقي في السنن (4/83) من طريق غيلان عن جعفر بن إياس عن مجاهد عن ابن عباس، وفيه انقطاع بين غيلان وجعفر، وقد بينه الألباني في الضعيفة (1319).
الخطبة الثانية
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
أيتها المرأة المسلمة، إن من أسباب مودة الزوج لك أيضاً أن تكوني امرأة صالحة مصلحة، تسعين في جمع الكلمة، ولَمِّ الشعث، وجمع شتات الأسرة، فلا تكوني امرأة مسيئة، وامرأة سيئة الخلق، لا تكوني امرأة ساعية بالشر بين الزوج وأهله، ومفرقة بينه وبين أولاده، أو مفرقة بينه وبين أبويه، فبعض النساء الصالحات هي خير على البيت وبركة عليه، تراعي من هو أكبر سنا من أب وأم، وتراعي حق الأولاد للزوج من غيرها، وتسعى في جمع الكلمة، وأن يكون البيت بيتا فيه ارتباط وتعاون وصلة بعضهم ببعض، فهي ليست نمامة، ولا مغتابة، ولا شريرة، ولكنها المرأة المؤمنة، هي بركة على زوجها وعلى البيت الذي تحل فيه، فأم الزوج لها احترام، وأبو الزوج له احترام، والزوج له احترام، والأولاد من غيرها لهم احترام، فهي إذاً مصدر خير وصلاح، ونعمة ورحمة، تلك المرأة الصالحة التي إن فُقِدت ذكرت، وإن ماتت تُرحِّم عليها، وذُكرت بالخير في كل خصالها.
ولكن المصيبة كل المصيبة المرأة سيئة الخلق، قليلة الأدب، لم تُربَّ التربية الصالحة، شؤم على البيت وأهله، فمنذ أن تحل فالأم لا يُصغى إليها، والأب لا يُلتفت إليه، والأولاد من غيرها يهانون، وهي دائما مع زوجها تملي عليه كل سوء، وتحسّن له كل قبيح، تدعوه إلى القطيعة للأبوين، وإلى ظلم الأولاد، وإلى وإلى ... فكلما أتى الزوج فإنها تحمل إليه غيبة ونميمة، تنمّ بالكلام السيئ، وتغتاب عنده من تغتاب، حتى تملأ قلبه حقداً على الأبوين وعلى الأولاد من غيرها، بل قد يتعدى شرها إلى القطيعة بين الرجل وأهل بيته ورحمه.
هكذا تكون المرأة سيئة الخلق، فكوني ـ أختي المسلمة ـ على خلاف ذلك، اتقي الله وأحسني لمن هو عندك، فإن الإحسان والمعروف لن يُنسى ولن يُعدم، وستجدين غِبَّ ذلك في زوجات الأولاد وتعاملهن معك، وأما إن قدمت الشر والبلاء فإن العواقب السيئة ستلحق بك شئت أم أبيت.
ويا أيها الزوج، حيال تلك المشاكل التي قد تحدث في البيوت أحياناً يجب أن تتحلى بالصبر والحلم والأناة، لا تنقاد لوساوس المرأة، ولا تنقاد أيضاً إلى ما قد يُفترى عليها من غيرها، فكن متوازنا، للأبوين حق البر والإحسان، وللزوجة حق القيام بالواجب، فكن في اتزان في الأمور، وعالج القضايا بحكمة وبصيرة، وحلم وأناة، وتروٍّ في الأمور، وصبر على الأشياء، وحاول تضميد الجراح، وحاول تناسي كل الأمور، وحاول الربط بين الجميع بحكمة وبصيرة، فإن ذلك واجبك، والمسلم إذا ابتلي تحلى بالصبر، والصبر طريق للخير.
أسأل الله أن يوفق الجميع لما يرضيه، وأن يعيننا وإياكم على القيام بما أوجب علينا، إنه على كل شيء قدير.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد...
ـــــــــــــــــــ(68/12)
حاجة المجتمع إلى الزواج
...
...
2419
...
الأسرة والمجتمع, فقه
...
...
النكاح, قضايا المجتمع
...
ماجد بن عبد الرحمن الفريان
...
...
الرياض
...
...
...
سليمان بن مقيرن
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1 ـ كثرة الفساد وانتشاره في الأرض. 2 ـ عزوف الشباب والفتيات عن الزواج وأسبابه وآثاره السلبية. 3 ـ فوائد النكاح. 4 ـ عوائق المجتمع في وجه النكاح.
الخطبة الأولى
أما بعد : فيا عباد الله اتقوا الله حق التقوى
معاشر المسلمين : لقد كتب المصلحون ونادوا، بأعلى صوت وأوضح بيان، داعين إلى تقويم الأخلاق، ومحو الفساد، وقهر الشهوات؛ حتى كلت منهم الأقلام، وملت الألسنة، ومع ذلك لم يصنعوا شيئاً، ولم يستأصلوا منكراً ،بل إن المنكرات لتزداد، وإن الفساد لينتشر، والسفور والحسور والتكشف تقوى شرته، وتتسع دائرته، ويمتد من بلد إلى بلد ، حتى لم يبق بلد إسلامي في نجوة منه ، حتى هذه البلاد التي كانت تبالغ في حفظ الأعراض، وستر العورات؛ انتشر فيها كثير من اللمم، وخرج البعض من النساء حاسرات سافرات كاشفات السواعد والنحور.
ما نجحنا أيها الإخوة ، وما أظن أننا سننجح إذا لم نهتد إلى بوابة الإصلاح وطريقه، وباب الإصلاح أمامَنا، ومفتاحه بأيدينا، فإذا آمنا بوجوده ، وعملنا على دخوله، صلحت حالنا، وتحسنت مسيرتنا.
إن بوابة الإصلاح هي في علاج مشكلة من أعقد المشاكل وأعمقها أثراً في حياة الأمة.
ولعلي أبادر فأقول: إن نتائج هذه المشكلة هي هذا الفساد الأخلاقي الذي يشتكي منه كل بلد من البلدان، وهذا التفسخ الخلقي الذي يعج منه هذا الزمان.
إن المشكلة تتلخص في جملة واحدة مفادها، أن فينا فئاماً من البنات يملأن البيوت وينتظرن الزواج، وفئاماً من الشباب يجوبون الطرقات ويطلبون الزواج .
ولكنَّ.. بين الفريقين سداً منيعاً يمنعهما من الاتصال ،وهذا السد المنيع هو: عادات المجتمع وتقاليده، وشريحة من المجتمع لم تدرك إلى الآن، أن في المجتمع وباء فتاكاً، يدمر الأخلاق، ويبدد الأعراض، وأنه لا دواء له، ولا منجى منه، إلا بعلاج المشكلة وهو الزواج .
ولست أدري من سيتولى علاج المشكلة غيرَنا ؟؟؟ ، هل ستحلها مراكز الدراسات الغربية ؟؟؟ أو منظمات حقوق الإنسان ؟؟؟؟ أو هواة الثرثرة والتشدق من المتاجرين بالكلمة والمسترزقين بالأقلام ؟؟؟.... فمن غيرنا يعنى بأمرنا؟؟؟ ومن للشباب غير آبائهم وإخوانهم ؟؟؟؟؟.
لا بد أن نسعى جميعاً في علاج المشكلة، ونعلم علم اليقين أن كل من يمنع الزواج، أو يضع في طريقه العراقيل، أو لا يسهله وهو قادر على تسهيله أنه يكون عاملاً على زيادة هذا الوباء ونشره .
وإن خطر عرقلة الزواج على الجنسين جميعاً ولكنه على البنات أشد ، ذلك أن الشاب يجني جنايته ويمضي، والبنت هي التي تحمل العواقب .
ولأن المجتمع يغتفر للشاب ويقول : ولد أثم وتاب، ولكنه لا يغفر للمرأة أبداً ، ولا يقبل لها توبة ،وإن والد البنت لو عقل لسعى هو في زواجها.
إخوة الإسلام، ولقد شرع الزواج لمصالح عظيمة زيادة على كونه عصمة للمجتمع من الانحلال والتفسخ والمجون.
فالزواج : يصون النظر عن التطلع إلى ما لا يحل ويحصن الفرج ويحفظه كما قال : ((يا معشر الشباب من استطاع منك الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء)) متفق عليه .
كما أن الزواج يبعث الطمأنينة في النفس ويحصل به الاستقرار والأنس.
وبالزواج تحصل الذرية الصالحة التي ينفع الله بها الزوجين وينفع بها مجتمع المسلمين قال : ((تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة)) رواه أبو داود والنسائي والحاكم.
ولما كان الزواج بهذه الأهمية في الكتاب والسنة وفيه هذه الفوائد العظيمة وجب على المسلمين أن يهتموا بشأنه ويسهلوا طريقته ويتعاونوا على تحقيقه ويمنعوا من أراد تعويقه من العابثين والسفهاء والمخذلين الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون .
وأنتم يا شباب الإسلام من استطاع منكم الزواج فليعجل به، فإنكم لا تطيعون الله بعد إتيان الفرائض وترك المحرمات بأفضل من الزواج تصونون به أخلاقكم وتحفظون به دينكم .
معاشر المسلمين، ولقد تحمل الشاب الراغب في النكاح آصاراً وأثقالاً بسبب إعراض المسلمين عن سنة سيد المرسلين، قيود فوق قيود، وآصار فوق آصار .
في مجتمعنا في هذه البلاد يحاط بستان الزواج بحيطان شاهقة ثم بأسلاك شائكة ووضعه الناس فوق جبل وعر بعدما صيره غثاً ، وألقوا العثرات في طريق ارتقائه والتمتع بأفيائه ، حتى ليظن الظان أن سبيل الحرام أسهل من سبيل الحلال لما يرى من هذه العراقيل التي ما أنزل الله بها من سلطان .
فهذه التكاليف الباهظة من ارتفاع المهور والمباهاة في إقامة الحفلات واستئجار القصور مما لا مبرر له إلا إرضاء السفهاء ومجاراة المبذرين والسخفاء : إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبّهِ كَفُورًا [الإسراء: 27].
ولقد استنكر النبي المغالاة في المهور كما روى أبو هريرة أن النبي قال لرجل: ((على كم تزوجت ؟)) قال : على أربع إواق ، فقال : ((على أربع إواق؟! كأنما تنحتون الفضة من عرض هذا الجبل)).
قال عمر بن الخطاب : (لا تغلوا في ُصُدق النساء ، فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا أو تقوى في الآخرة كان أولاكم بها النبي ما أصدق عليه الصلاة والسلام امرأة من نسائه، ولا أُصْدقت امرأة من بناته أكثر من اثنتا عشرة أوقية) أي مائة وعشرين ريالا . رواه الخمسة وصححه الترمذي .
أيها المسلمون، وفي الشباب اليوم رغبة في الزواج ولكن من يستطيع أن يتكلم قبل أن يتخرج ويتعين؟!
لقد وضع الله الغريزة في نفس الشاب والشابة ، وقدر لظهورها سن الخامسة عشرة أو نحوها، فإذا بلغها الولد أو البنت تنبه في نفسه ما كان غافلاً وتيقظ ما كان نائماً .
ونظام التعليم يوجب على الشاب أن يبقى في الدراسة إلى سن الثالثةَ والعشرينَ وما بعدها ........ وهو مضطر بحكم هذا النظام أن يبقى بلا كسب ولا مورد، ويبقى عالة على والده حتى يبلغ هذه السن ، ثم بطبيعة الحال يبقى بعد ذلك بضع سنين لكي يجمع تكاليف الزواج الباهظة ؛ فيتأخر زواجه جداً .
ويا ليت شعري، ما هي حال الشباب فيما بين الخامسة عشرة والخامسة والعشرين؟
الشباب منهم الصالحون ومنهم دون ذلك ...... فمنهم من يعمل بالوصية النبوية من الصوم وغض البصر مع التقوى والعفة والصلاح .
ومنهم من لا يفعل شيئاً من ذلك ..... بل زيادة على العزوبة يقرؤون الروايات ويشاهدون الفضائيات وليس لهم همٌ إلا أن يتطيبوا ويتعطروا ويتبختروا في عشيات الصيف ، في الأسواق ونواصي الطرقات، يراقبون المارين والمارات .
منعهم المجتمع بعوائده المقيتة من الزواج ، ثم لم يترك وسيلة لزيادة نار الشهوة فيهم إلا عمد إليها ....... يغريهم بالرذيلة بالصور العارية والعورات البادية والفضائيات والمقاهي المنتشرة.
ونحن نوجب عليهم أن يتحملوا ذلك العبء عشر سنواتٍ أو تزيد ونقول لهم بعد ذلك : انصرفوا إلى دروسكم وإلى مطالعاتكم ، وإياكم أن تفكروا في الفاحشة أو تقربوا منها.
والحق أن هذا أمر مقارب للمستحيل، فلا شك أن كثيراً منهم سيقع في غائلة الرذائل ، وسنكون جميعاً بتواطئنا المقيت على هذه العوائد سببًا في فساد المجتمع وإفساده .......
وليست الملامة على الشباب وإنما اللوم علينا جميعاً إذا لم نتدارك الوضع ونبدأ في العلاج .
ألا إن العلاج يكمن في الاقتناع بتبكير الزواج في وقت الحاجة إليه ،،،،،،، ثم التعاون على تسهيل تكاليفه التي جَعلتْ كثيراً من المقدمين عليه لا يستطيعه إلا بمساعدة أهل الخير ومال الزكاة ،،،،،، أو الدَّيْن وإثقال الكاهل ، وانتشرت مشاريع مساعدة الشباب الراغب في الزواج، ومع ذلك لم يتفهم المجتمع قضيته ،ولم يعرف مصلحته .
حق على أصحاب القدوة من الوجهاء والعلماء، والرموز والأغنياء، أن ينشروا في الناس خلق القناعة بما يسر الله ورزق، ويرسموا ذلك بفعالهم قبل أقوالهم فإن تأثيرهم عظيم، والناس لهم تبع ، بدل أن يكونوا مصدر فتنة وكسر لقلوب الفقراء الذين يتطاولون بدورهم حفظاً لماء وجوههم من هذا المجتمع الذي لا يرحم ، والدين مقض لمضاجعهم هماً، وفي نهارهم مورثهم ذلاً .
أيها المسلمون، وبعضل بعض الآباء حرم الكثير من الفتيات من الزواج ؛ فإذا تقدم لها خاطب كفءٌٌٌ منعت منه ، وتمحل الأب شتى الحيل لرده ......
فهذا ضيق ذات اليد، وذاك جاهل، والآخر من أسرة مجهولة ،وهذا مقطوع ليس له أحد، وهذا كثير الأهل له أم وأخت وامرأة أخ ، فهو يخشى أن يظلمن ابنته، وإذا جاء خاطب لم يجد له علة أغلى عليه المهر وأرهقه بالتكاليف حتى يهرب ويفر.
والرسول يقول : ((إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير)) رواه الترمذي وقال: حسن غريب.
ولربما كان العضل بسبب دريهمات يتقاضاها الأب من مرتب ابنته غير مبال بمستقبل هذه الفتاة وما تتعرض له من الفتنة وما يفوت عليها من المصالح العظيمة.
يا أيها الأب :ليس من مؤهلات القبول للشاب الخاطب أن يكون (ابن حمولة)، أو أبوه رفيقًا لك، أو أمه إحدى محارمك فابنتك لن تتزوج الحمولة، أو الأب أو الأم، إنما ستعاشر الشاب، وإن غنى النفس مقدم على غنى المال ، والعبرة كل العبرة في كريم الخصال، لا في زين الأجسام وكثرة الأموال .
ألا فاتقوا الله أيها المسلمون، واعلموا أنه لا يَصْلُح ما نشكو من الفساد إلا بتسهيل الزواج والتبكير به .
وإن من يسعى في زواج ويعمل على إتمامه يكون ساعياً في خير وبر وعاملاً لمكرمة وفضيلة ، وقائماً بطاعة الله وخدمة مجتمعه.
فيا من عندهم بنات، لا تردوا الخاطب الصالح إذا جاءكم ولا ترهقوه بالمطالب.
ويا أيها الشباب، عجلوا بالزواج .
ويا أيها الآباء : أعينوا أبناءكم .
ويا عقلاء الحي ويا دعاة الإصلاح ويا أصحاب النفوذ، اجعلوا الزواج من أول ما تعملون له وتسعون لتيسيره، واللهَ أسأل أن يوفقكم ويجزل ثوابكم .
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم : وَمِنْ ءايَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْواجاً لّتَسْكُنُواْ إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِى ذَلِكَ لايَاتٍ لّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الروم: 21].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب وخطيئة وعصيان فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم
ـــــــــــــــــــ(68/13)
تذكير الأولياء برعاية الأبناء
...
...
2509
...
الأسرة والمجتمع
...
...
الأبناء
...
علي بن عبد الرحمن الحذيفي
...
...
المدينة المنورة
...
19/3/1423
...
...
المسجد النبوي
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- نعمة الذرية. 2- فضل الذرية. 3- عظم أمانة الأولاد. 4- تعويد الأطفال على التكاليف الشرعية. 5- وجوب العناية بالدين والخلق. 6- وجوب إعطاء القدوة الحسنة للأولاد. 7- ضرورة العناية بتعليم الأولاد. 8- وقاية الأبناء من المؤثرات الضارة. 9- وجوب العدل بين الأولاد. 10- وصية الأولياء بالصبر والاحتمال. 11- التحذير من الدعاء على الأولاد. 12- نصائح وتوجيهات.
الخطبة الأولى
أما بعد: فاتقوا الله أيها المسلمون، والزموا طاعته، فإن طاعته أقوم وأقوى، وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى [البقرة:197].
عباد الله، إن نعمَ الله على الناس لا تُعدّ ولا تحصى، قال الله تعالى: وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ [النحل:18]. ومن أعظمها نعمةُ الذرية، قال الله تعالى: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مّنْ أَزْواجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُم مّنَ الطَّيّبَاتِ [النحل:72]. والمنة من الله في الذرية من أنها امتدادٌ للبشرية وعُمْرٌ آخرُ للوالدين، قال الله تعالى: هُوَ الَّذِى جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِى الأرْضِ [فاطر:39].
والأولاد يحملون خصائصَ وصفاتِ الآباء والأمهات، وتتحقق بهم عبادةُ الله تعالى ما بقيت الدنيا، وتُعمَر بهم الأرض، ويتم بهم التعاون والتناصر والتراحم ووشائج القربى ووصائل البر، قال الله تعالى: ياأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِى خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِى تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً [النساء:1]، وقال تعالى: وَهُوَ الَّذِى خَلَقَ مِنَ الْمَاء بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيراً [الفرقان:54].
وكما أن الأولاد نعمة من الله تعالى، فهم أمانة عظيمة لدى الآباء والأمهات والأولياء، وحق الأمانة أن تُحفظ فلا تضيَّع، وأن تُصان فلا تهمل، وأن تُراعى فلا تُغفل، قال الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا [النساء:58].
فالأولاد أمانة عند الآباء والأمهات والأولياء، في دينهم وتزكية أخلاقهم وتربيتهم على النهج السليم، قال الله تعالى: ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَّ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6]، أي: اجعلوا بينكم وبين النار وقايةً بطاعة الله تعالى وترك معصيته، وروى أبو داود من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن رسول الله قال: ((مروا أولادكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر، وفرقوا بينهم في المضاجع))[1]. فالطفل وإن لم يكن مكلَّفاً يُؤمر بالصلاة لهذه السنن؛ لسبع سنين، ليكون تمريناً له على العبادة، لكي يبلغ وهو مستمرّ على العبادة، آلفٌ لها، معتاد عليها، فالمكلف هم الآباء والأولياء. ومجانبة المعصية كذلك مما يُعوَّد عليه الطفل، فالمكلَّف بهذا الأمر هو الولي، فإذا لم يأمره في هذه السنن كان الإثم على الولي. وكذلك الصوم ينبغي أن يُعوَّد عليه قبل البلوغ.
فالعناية بالدين والخلق أهمّ واجب على الآباء والأمهات؛ لأن الصغير إذا نشأ محافظاً على دينه شبّ مراعياً للحقوق كلها، قائماً بواجبات والديه وأقربائه ومجتمعه، وإذا ضيّع حقوق الله فهو لحقوق العباد أضيع. وتعوُّد الخلق الحسن يكون ملكةً راسخة في النفس، لا تزول بالمؤثرات، كما أن تعوُّد الصفات المذمومة يجرّ إلى كل هوان وشر وخسران ووبال؛ لأن من شبَّ على شيء شاب عليه، ومن شاب على شيء مات عليه، ومن مات على شيء بُعث عليه بإذن الله.
فالقيام بالجانب الديني تجاه الأولاد أعظمُ واجب شرعي في حقهم، ولذلك كانت وصية الله لعباده أولا وآخراً بالتمسك بالدين القومي، قال الله تعالى: ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران:102]. وكانت هذه الوصية وصية الأنبياء والصالحين بالإسلام، قال الله تعالى: وَوَصَّى بِهَا إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَابَنِىَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِى قَالُواْ نَعْبُدُ الهكَ وَاله آبَائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ الها وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [البقرة132، 133].
وقال الله تعالى عن لقمان: يابُنَىَّ أَقِمِ الصلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ [لقمان:17]، وروى الترمذي من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال النبي : ((يا غلام، إني أعملك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله))[2].
والآباء والأمهات والأولياء القدوةُ الحسنة متأكِّدةٌ عليهم لتنفع النصائح ويجدي التوجيه، فإن القدوة من الأبوين أعظم مؤثر في سلوك الطفل، وتثمر ثمرات حسنة أو سيئة، فليتق الله المسلم في الأمانات التي طوّق الله بها عنقَه، فإن الله تعالى يقول عن المؤمنين: وَالَّذِينَ هُمْ لأَِمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ [المعارج:32].
وتعليم الأولاد أمانة الآباء والأمهات والأولياء، وأوجب علم هو العلم الشرعي الذي لا يُعذر أحد بجهله، ثم يُوجَّه بعد ذلك إلى العلوم التي تناسب مواهبه وقدراته وميولَه، فإن كلاً ميسَّر لما خُلق له، ويُرشَد الناشئ إلى ما فيه الأصلح له في دنياه وآخرته.
ومما أُمر به الآباء والأمهات والأولياء الحيلولةُ بين الأولاد والمؤثرات الضارة، بإبعادهم عن جلساء السوء وقرناء الشر، فإن قرين السوء الهلاك المحقق والعار الشنيع، وأن يحيطهم بقرناء الخير والجو التربوي النظيف، وقد قال : ((مثل الجليس الصالح كمثل حامل المسك، إن لم يعطك منه شيئاً أصابك من ريحه، ومثل جليس السوء كنافخ الكير، إن لم يحرق ثيابك أصابتك منه رائحة كريهة))[3]، وأن يجنبهم الكتب الضارة ذات المبادئ الهدامة والمجلات الفاسدة والأفلام الخليعة، فإن هذه المؤثرات تفسد القلوب، وتهدم الأخلاق، وتجعل الشبان أرِقَّاء الشهوات، منحرفي الأخلاق والصفات، ولا حول ولا قوة إلا بالله. وأن يحاط الأولاد بالرعاية والتوجيه ولو كانوا كباراً، فإن هذا دأب الصالحين.
ومما يراعى شرعاً من الآباء والأمهات العدل بين الأولاد حتى في القُبلة، وأن لا يفضل بعض الأولاد على بعض، وأن لا يفضل الذكور على الإناث، لقوله : ((اتقوا الله، واعدلوا بين أولادكم))[4].
وعلى الآباء والأمهات الصبر والاحتمال لأولادهم والعفو عنهم والموافقة لهم فيما لم يكن فيه محرم، فإن ذلك أدعى لبِرهم، وسببٌ لمغفرة الله، فمن عفا عفا الله عنه، قال الله تعالى: ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِن تَعْفُواْ وَتَصْفَحُواْ وَتَغْفِرُواْ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [التغابن:14]، والعداوة هنا هي ما يلحق الإنسان بسببهم من التقصير في الدين، فأمر الله بالعفو عنهم والصفح، ووعد الله أن يغفر لمن يعفو ويصفح.
وليحذر الوالدان من الدعاء على الأولاد فقد يكون ذلك سبباً للشقاء الدائم، روى مسلم من حديث جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((لا تدعوا على أنفسكم ولا على أولادكم ولا على خدمكم ولا على أموالكم))[5].
فمن راعى التعليمات الشرعية وقام بالأوامر الإلهية وأسعف توفيقُ الله وعنايته كان الأولاد له قرةَ أعين، قائمين بحق الله وحقوق العباد، ونالت والديهم بركةُ استقامتهم في الحياة وبعد الممات، قال الله تعالى عن الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون ميثاقه: جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ ءابَائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرّيَّاتِهِمْ وَالمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مّن كُلّ بَابٍ سَلَامٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ [الرعد:23، 24]، وَالَّذِينَ ءامَنُواْ وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مّنْ عَمَلِهِم مّن شَىْء كُلُّ امْرِئ بِمَا كَسَبَ رَهَينٌ [الطور:21]، وفي صحيح مسلم: ((إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: علم نافع بعده، وصدقة جارية، وولد صالح يدعو له))[6].
وإذا فرّط المرء في التعليمات الشرعية كان الولد شراً عليه، ولحقه من وبال انحرافه، وناله من شؤم معصيته.
فاتقوا الله أيها المسلمون، وأدوا ما عليكم من واجبات الذرية، قال الله تعالى: رَبّ اجْعَلْنِى مُقِيمَ الصلاةِ وَمِن ذُرّيَتِى رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاء رَبَّنَا اغْفِرْ لِى وَلِوَالِدَىَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ [إبراهيم:40، 41].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، ونفعنا بهدي سيد المرسلين وبقوله القويم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه أحمد (2/187)، وأبو داود في الصلاة (495)، والدارقطني (1/230)، والحاكم (1/311)، والبيهقي (2/228، 229) من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنه، وصححه الألباني في الإرواء (247).
[2] أخرجه الترمذي في صفة القيامة (2516) وقال: "حديث حسن صحيح"، وهو عند أحمد أيضاً (1/293)، قال ابن رجب في جامع العلوم والحكم (1/460-461): "روي هذا الحديث عن ابن عباس من طرق كثيرة... وأصح الطرق الطريق التي خرجها الترمذي"، وصححه الضياء المقدسي في المخارة (10/25)، والألباني في صحيح السنن (2043).
[3] أخرجه البخاري في البيوع (2101)، ومسلم في البر والصلة (2648) من حديث أبي موسى رضي الله عنه بنحوه.
[4] أخرجه البخاري في الهبة (2587)، ومسلم في الهبات (1623) من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه.
[5] أخرجه مسلم في الزهد (3014) عن جابر رضي الله عنهما في حديث طويل، وليس فيه: ((ولا على خدمكم)).
[6] أخرجه مسلم في الوصية (1631) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بنحوه.
الخطبة الثانية
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا وسيدنا محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فاتقوا الله أيها المسلمون وأطيعوه، واجتنبوا سخطه ولا تعصوه.
واعلموا أن أولادكم ومن ولاكم الله أمره أمانة في أعناقكم، ومسؤولية عليكم، بأن تحملوهم على أصلح الأمور، وتدلوهم على كل خلق قويم ونهج مستقيم، واحذروا عليهم من الانفلات وقرناء السوء ومضار الفراغ والسفر بلا رقيب ولا حسيب. أعينوهم على تنظيم حياتهم في نومهم ويقظتهم، وعودوهم على ما يصلحهم، وجنبوهم السهر، ولاسيما في الشوارع، فإن ذلك قد يجرّ الشاب إلى أمور لا يقدر على التخلص منها مستقبلاً، فيندم على ما اكتسب من الأخلاق المنحرفة حيث لا ينفع الندم، وأخطر شيء على الشباب المخدرات والانحرافات الخلُقية، فحذِّروا من ذلك دائماً، وهيِّئوا لأولادكم الوسائل المباحة النافعة، ووجِّهوهم إلى ما يفيد من الأعمال، لأنكم تُسألون عنهم، ففي الصحيحين من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، فالرجل راع في أهل بيته ومسؤول عنهم، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عنه، والخادم راع في مال سيده ومسؤول عنه، وكلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته))[1].
ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب:70، 71].
وصلوا وسلموا على سيد الأولين والآخرين وإمام المرسلين، فقد أمركم الله بالصلاة والسلام عليه في قوله تبارك وتعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىّ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56]، وقد قال : ((من صلى عليَّ صلاة واحدة، صلى الله عليه بها عشراً)).
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد...
[1] أخرجه البخاري في الجمعة (893)، ومسلم في الإمارة (1829).
ـــــــــــــــــــ(68/14)
عقبات في طريق العفة
...
...
2522
...
الأسرة والمجتمع, فقه
...
...
النكاح, قضايا المجتمع
...
أمين بن نور الدين بتقة
...
...
بوزريعة
...
...
...
عثمان بن عفان
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- العلاقة الزوجية منة من الله وفضل. 2- الزوجة الصالحة الودود من يُمن الحياة وسعادتها. 3- العزوبة والتحذير منها. 4- دعوة لتيسير النكاح وإزالة عقباته. 5- منكرات الأفراح.
الخطبة الأولى
أما بعد:
أيها المسلمون، أوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى، ياأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِى خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِى تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً [النساء:1]، فكما أنكم تعظمونه بالإقسام به فكذلك اتقوه عند الأمر والنهي، واتقوا الأرحام أن تقطعوها، واتقوه فهو ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وهي آدم، ثم خلق منها زوجها وهي حواء، خلقت من ضلع آدم، ((إن المرأة خلقت من ضلع)) رواه مسلم[1].
خلق الله المرأة الأولى من الرجل فهي جزء منه يحن إليها حنين الشيء إلى جزء من أجزائه، كما أنها من أعظم أسباب سعادته متى حصل الوئام بينهما، لذلك امتن الله على عباده فقال: وَمِنْ ءايَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْواجاً لّتَسْكُنُواْ إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَاتٍ لّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الروم:21]، من آياته الدالة على رحمته وعنايته بعباده وحكمته العظيمة وعلمه المحيط أن جعل لكم من أنفسكم أزواجا يناسبنكم وتناسبونهن، وتحنون إليهن وتحن إليكم حنين الذات إلى أصلها، لتسكنوا إليها سكن النفس والجسم بالحلال هداية إلى فطرة الله، وجعل بينكم مودّة ومحبة تربط فيما بينكم، كما جعل الرحمة التي يعطف بها أحدهم على الآخر خاصة عند غياب المودة.
ومن تمام تكريم الله لابن آدم أن ربط العلاقة بين الرجال والنساء بالزواج، خلافا لسائر المخلوقات التي لا تغيب فيها الزوجية لكن تغيب هذه الرابطة رابطة الزواج التي أمر الله بها فقال: فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مّنَ النّسَاء [النساء:3]، بل وجعله من سنن خيرة خلق الله فقال: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرّيَّةً [الردع:38]، وقال النبي : ((وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني))[2]، وفي الصحيحين أنه قال: ((يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم؛ فإنه له وجاء))[3]، وفي الحديث عند الإمام أحمد وغيره بإسناد صحيح أن رسول الله قال: ((أربع من السعادة)) وعدّ منها: ((الزوجة الصالحة))، وروى مسلم عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله قال: ((الدنيا متاع، وخير متاعها المرأة الصالحة)) بل قد قال النبي : ((إذا تزوج العبد فقد استكمل نصف الدين فليتق الله في النصف الباقي)) [الصحيحة625]، وقال النبي : ((ثلاثة حق على الله عونهم: المكاتب يريد الأداء، والناكح يريد العفاف، والمجاهد في سبيل الله)) أخرجه الترمذي.
لهذا جاء عن عمر قوله لقبيصة رضي الله عنهما: (ما يمنعك عن الزواج إلا عجز أو فجور) [أخرجاه في مصنفيهما وفيه انقطاع]، ويقول ابن مسعود رضي الله عنه: (لو لم يبق من أجلي إلا عشرة أيام، ولي طول على النكاح لتزوجت، كراهية أن ألقى الله عزبًا) [أخرجه عبد الرزاق وهو ثابت بمجموع الطرق]، ويقول الإمام أحمد رحمه الله: "ليست العزوبة من الإسلام في شيء، ومن دعاك إلى غير الزواج دعاك إلى غير الإسلام" [انظر: المغني]، وقال أيضا: "النبي تزوج أربع عشرة، وتوفي عن تسع، ولو ترك الناس الزواج لم يكن غزو ولا حج، وقد كان النبي يصبح وليس عندهم شيء، ومات عن تسع، وكان يختار النكاح ويحث عليه، وينهى عن التبتل، فمن رغب عن السنة فليس على حق، ويعقوب في حزنه تزوج وولد له، والنبي قال: ((حبب إليّ النساء))"، فقيل له: إبراهيم بن أدهم يحكى عنه أنه قال: لروعة صاحب العيال... فما تركه يكمل الكلام حتى صاح به: "وقعت في بنيات الطريق، انظر إلى ما كان عليه محمد وصحبه" ثم قال: "بكاء الصبي بين يدي أبيه يطلب منه الخبز أفضل من كذا وكذا، أين يلحق المتعبد الأعزب؟!"[4].
ومع هذا كله يشهد مجتمعنا اليوم معضلةَ تأخرِ الزواج، وكثرة المشاكل فيه، مما يحتم على الجميع الاعتناء بالموضوع سواء الإخوة أو الأولياء أو المرشدون والمصلحون أو الأغنياء والأعيان من الصالحين.
أيها المؤمنون، لقد يسر الله أمر الزواج غاية التسهيل، وقال فيما رواه أبو داود: ((خير النكاح أيسره))، وقال: ((إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض)) رواه الترمذي وابن ماجه.
أما حال الناس اليوم فعقبات وجبال في طريق العفة.
منها تأخير الكثير من المستطيعين الزواج إلى أن يتوفر له عمل ثابت! ومن يملك هذا؟! أمضى أناس أعمارهم في شركات ثم طردوا من مناصبهم، ثمّ أليس الرزق بيد الله؟! أو تؤخر البنت زواجها إلى أن تنهي دراستها، وماذا تنفعها الدراسة إذا ضيعت وصف الأمومة؟!
أيها الشباب القادر توكل على الله، وحصن نفسك، ولا تتعلق بأمور مثالية وهمية متذرعا بما يسمونه تأمين المستقبل! فالله عز وجل يقول: وَأَنْكِحُواْ الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِن يَكُونُواْ فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ [النور:32]، وصديق هذه الأمة رضي الله عنه يقول: (أطيعوا الله فيما أمركم من النكاح ينجز لكم ما وعدكم من الغنى)، ويقول ابن مسعود رضي الله عنه: (التمسوا الغنى في النكاح).
ومن عقبات الزواج عضل النساء ومنعهن من الزواج بالمتدينين ظلما، لأعذار واهية أو شكليات ساقطة، يسألون الخاطب: كم عنده؟ وما عمله؟ ومن أين دَشْرَتُه وقبيلته؟ فتتأخر البنت عن الزواج قهرا، إذ حكم عليها أبوها بالسجن المؤبد في بيته إلى أن يشاء الله، والنبي قال: ((إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض)).
ومن عوائق الزواج غلاء المهور، فمن المؤسف أن أصبحت النساء سلعا تباع في المزاد لأكثر معط. إن المهر في الزواج ـ يا عباد الله ـ وسيلة لا غاية، يقول الفاروق رضي الله عنه: (ألا لا تغالوا في صداق النساء، فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا، أو تقوى في الآخرة، لكان النبي أولاكم بها؛ لم يصدق امرأة من نسائه ولم تُصدق امرأة من بناته بأكثر من ثنتي عشرة أوقية)، ولعله لا يزيد في عملتنا المعاصرة على ثلاثة آلاف دينار، لو فعل هذا أحدهم اليوم لقيل له: تصدّقَ بابنته، وقد زوج المصطفى رجلاً بما معه من القرآن [أخرجه البخاري]، وقال لآخر: ((التمس ولو خاتمًا من حديد)) [أخرجه البخاري].
ومما عطل الكثير من القادرين على الزواج عنه تكاليف الأعراس والشكليات التي أحيطت به تبذيرا وفخرا، قال النبي : ((إن أناسًا يتخوّضون في مال الله بغير حقه لهم النار يوم القيامة)) [أخرجه البخاري].
ألا يتذكر أولئك إخوانا لهم لا يجدون لقمة العيش؟!
المقصود من وليمة العرس ـ يا عباد الله ـ الاجتماع لإعلان الفرح بالحلال، أما (الزُّوخ والفُّوخ) فإن النبي نهى عن طعام المتباريين أن يؤكل، والمتباريان هما المتعارضان بفعلهما ليعجز أحدهما الآخر بصنيعه، وإنما كره لما فيه من المباهاة والرياء.
وفي البخاري أن النبي أولم على بعض نسائه بمدَّين من شعير، وفيه أيضا عن أنس في وليمة النبي بصفية: فما كان فيها من خبز ولا لحم، وما كان فيها إلا أن أمر بالأنطاع فبسطت، فألقي عليها التمر والأقط والسمن.
[1] أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء [3331]، ومسلم في الرضاع [1468] من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[2] جزء من حديث أخرجه البخاري في النكاح [5063]، ومسلم في النكاح [1401] من حديث أنس رضي الله عنه.
[3] أخرجه البخاري في النكاح [5065]، ومسلم في النكاح [1400] من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.
[4] انظر: روضة المحبين بتصرف.
ـــــــــــــــــــ(68/15)
الشباب بين الواقع والمأمول
...
...
2526
...
الأسرة والمجتمع
...
...
قضايا المجتمع
...
فهد بن حسن الغراب
...
...
الرياض
...
10/2/1422
...
...
جامع شيخ الإسلام ابن تيمية
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- سؤال الإنسان يوم القيامة عن عمره فيما أفناه. 2- الشباب أهم مراحل العمر. 3- ضياع القدوة الحقيقية لشباب الإسلام. 4- نماذج من شباب الصحابة. 5- صور من ضياع شبابنا. 6- بيعة العقبة الثانية.
الخطبة الأولى
أما بعد:
فأخرج الطبراني عن معاذ رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((لن تزوج قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع خصال: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وعن علمه ماذا عمل فيه)) ولما كانت مرحلة الشباب هي المرحلة الأكثر أهمية في حياة الإنسان، لما تتميز به من الحيوية والنشاط، وحدة الذكاء، والقدرة على الاستيعاب، والصبر والتحمل، ولما ابتلي به المسلمون من التأثر بالمصطلحات الغربية في الحكم على المراهق كما يقولون بأنه طائش، ولا يعرف عنه إلا الانحراف، وكلما قارف ذنباً عذروه بأنه مراهق، ومما تتميز به مرحلة الشباب الميل إلى التقليد، واتخاذ قدوات يجعلها الشاب نصب عينه ويحاول الوصول إلى مستواها. ولذلك فقد حرص الأعداء على إبراز أبطال الفن والرياضة ليتأثر بهم شباب المسلمين ـ وهذا ما حدث وللأسف ـ ولأن من خير من يتخذ قدوة، ومن أفضل من يغرس حبه في نفوس الشباب هم صحابة رسول لقول ابن عمر رضي الله عنهما: (من كان مستنا فليستن بمن قد مات، أولئك أصحاب محمد كانوا خير هذه الأمة، أبرها قلوباً، وأعمقها علماً، وأقلها تكلفاً، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه ونقل دينه، فتشبهوا بأخلاقهم وطرائقهم، فهم أصحاب محمد كانوا على الهدى المستقيم والله رب الكعبة) وإليك أمثلة من هؤلاء في مرحلة الشباب لتعلم أن الفتى إذا ربي تربى، وإذا علم تعلم، وإذا وجد يداً حانية، وقلباً رحيماً، وموجهاً حاذقاً، ومجتمعا صالحاً صدرت منه الأعاجيب، وتصرف كتصرف أشجع الرجال، وأعقل العقلاء. وإليك هذا المثال لتتبين حرص شباب الصحابة على طلب العلم وحفظ القرآن، فقد روى الإمام أحمد أن قوم زيد بن ثابت رضي الله عنه أتوا ِإلى النبي مفاخرين بما حصل صاحبهم، فقالوا: هذا غلام من بني النجار معه مما أنزل الله عليك بضع عشرة سورة فأعجب ذلك النبي وقال: ((يا زيد، تعلم لي كتاب يهود فإني والله ما آمن يهودي على كتابي))، قال زيد: فتعلمت كتابهم ما مرت بي خمس عشرة ليلة حتى حذقته، وكنت أقرأ له كتبهم إليه، وأجيب عنه إذا كتب.
وقد شهد رسول الله لاثنين من شباب الصحابة بالعلم فقال: ((وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، وأفرضهم زيد بن ثابت)) رواه الترمذي، وهذا ابن عباس رضي الله عنهما يقول: (لما توفي رسول الله قلت لرجل من الأنصار: هلم نسأل أصحاب رسول الله فإنهم اليوم كثير، فقال: واعجباً لك يا ابن عباس ! أترى الناس يحتاجون إليك وفيهم من أصحاب النبي من ترى؟ فترك ذلك وأقبلت على المسألة، فإن كان ليبلغني الحديث عن الرجل فآتيه وهو قائل، فأتوسد ردائي على بابه، فتسفي الريح علي التراب، فيخرج فيراني، فيقول: يا ابن عم رسول الله، ألا أرسلت إلي فآتيك؟ فأقول: أنا أحق أن أتيك فأسألك، قال: فبقي الرجل حتى رآني وقد اجتمع الناس علي، فقال: هذا الفتى أعقل مني. ولهم رضي الله عنهم مواقف تذكر فتشكر في العبادة والزهد والورع والدعوة إلى الله والجهاد في سبيل الله ومن ذلك ما رواه البخاري عن أنس رضي الله عنه قال: (أصيب حارثة يوم بدر وهو غلام فجاءت أمه إلى النبي فقالت: يا رسول الله قد عرفت منزلة حارثة مني، فإن يكن في الجنة أصبر وأحتسب، وإن تك الأخرى ترى ما أصنع؟ فقال: ((ويحك أَوَ هبلت؟ أو جنة واحدة هي؟ إنها جنان كثيرة، وإنه في جنة الفردوس)) وأخرجه ابن سعد عن سعد بن أبي وقاص قال: رأيت أخي عمير قبل أن يعرضنا رسول الله يوم بدر يتوارى، فقلت: مالك يا أخي؟ قال: إني أخاف أن يراني رسول الله فيستصغرني فيردني وأنا أحب الخروج لعل الله أن يرزقني الشهادة، قال: فعرض على رسول الله فاستصغره فرده، فبكى فأجازه، فكان سعد يقول: فكنت أعقد حمائل سيفه من صغره فقتل وهو ابن ست عشرة سنة. فانظر إلى علو الهمة، وبعد النظر، ونفاسة المطلب. فيا شباب الإسلام، لمثل هذا فأعدوا، وبمثل هؤلاء فاقتدوا، وليسعد بذلك المجتمع، ولتهنا بذلك الأمة، ولتأمن بذلك الديار، ولا تقل ذاك زمن ولى، وجيل لا يتكرر، فما عدمت الأمة مخلصيها، ولا عقمت الديار عن إنجاب نجبائها، ولا تزال طائفة على الحق منصورة، فكم نرى اليوم من حافظ لكتاب الله ما بلغ الثامنة، ومن حافظ لمتن ما بلغ العاشرة، أخلص النية، وأصدق في الدعاء، وأسلك الجادة، توفق للخير، وترى من الله ما يسرك.
اللهم أصلح شباب المسلمين، واجعلهم هداة مهتدين، لا ضالين ولا مضلين.
الخطبة الثانية
أما بعد:
فاتقوا الله تعالى وراقبوه، وأطيعوا أمره ولا تعصوه.
أيها الناس، وتتوالى السنون، وتمر الأعوام، وتطوى الأيام، إِلى وقت قريب، عندما كان الفتى ينشأ في قرية صغيرة، وفي مجتمع مغلق، يتلقى التربية من والديه، فالأب هو القدوة والقائد، والموجه والرائد، الحسن ما استحسن، والقبيح ما استقبح، فنشأ جيل الرجولة والشهامة، جيل تحمل المسؤولية منذ نعومة الأظفار، إلى أن جاء عصرنا هذا، عصر ثورة المعلومات، عصر الانفتاح على الثقافات الخارجية بقضها وقضيضها، بغثها وسمينها، بحسنها وقبيحها، فأخذ الفتى يتلقى التربية من عدة مصادر، الإعلام رائدها، وهو أبوها وأمها، وغير خاف عليك ما لأعداء الملة من سيطرة على الإعلام، وبدأ اليوم يؤتي ثماره، التي سقيت بماء الحقد والكراهية للإسلام وأهله، فنشأ عندنا جيل المقاهي الليلية، والشابات العنكبوتية، والقنوات الفضائية، والمعاكسات الهاتفية، جيل التفحيط والسرقة، جيل التخنث والميوعة، جيل الخضوع في الكلام، جيل التكسر في المشية، جيل القصات الغربية، والرقصات الهستيرية، جيل الغناء والطرب، جيل الأفلام والجريمة، جيل القيعات والبدلات، جيل الأندية والتشجيع، جيل التفريط والتضييع، جيل الخروج على القيم، جيل تضييع الأخلاق، جيل تقليد الأعداء، والسخرية من الأصدقاء، استبدلوا القرآن بالغناء، والمساجد بالمقاهي، والسواك بالسيجارة، جيل ابتلاه الله بأب غافل، بجمع ماله متشاغل، وعن متابعة ولده متكاسل، وفر له الدراهم والسيارة، وفر له شاشة عاهرة، ومجلة داعرة، لا يأمره بصلاة، ولا ينهاه عن هواه، لا يأمره بمعروف، ولا ينهاه عن منكر، لا يدري إلى أين ذهب، ولا مع من ركب، وإذا نصحه ناصح، أو أغلظ عليه محب، نفض يديه في وجهه وقال: وماذا أفعل؟ وهذا ولد فلان، وذاك ولد فلان، كلهم على هذا الطريق، وهؤلاء شباب هذا الزمان، حتى يستدعى في مركز هيئة، أو في مخفر شرطة، عندها يفاجأ بما جنته يداه، ويحصد ثمرة تفريطه ولا ينفعه بكاه، ثم بعد ذلك يشكو عقوقه، ويبحث عن الصالحين لإصلاحه آلآن وقد أعرضت فيما سبق، آلآن وقد فرطت فيما مضى، حلقات تحفيظ القرآن في المساجد تفتح ذراعيها، وأنت عنها معرض، دروس العلم تشرح صدرها، وأنت عنها تصد، وتزعم أن في ذلك تشييع لدروسه، وتأثير على مستواه، أما الملاعب والملاهي، والمقاهي والسهرات فهي من الضروريات، ولا بد للمراهق من المجاراة.
يا مسلمون يا مسلمون، الشباب أمانة في الأعناق، يا معشر الآباء خذوا على أيدي السفهاء، وأطروهم على الحق أطرا، يا من انبرى للتربية والتعليم، اتق الله في من تحت يدك من أبناء المسلمين، عليك بجادة السلف الصالح، عظم في نفوسهم الكتاب والسنة، ازرع في قلوبهم القدوة الصالحة من النبيين والصحابة والتابعين، والعلماء الربانيين، والأئمة المهديين، عليك بغرس جميل القيم، وقيم الأخلاق، نسأل الله للجميع صلاح النية والذرية، وحسن القصد، وسلامة المنهج
ـــــــــــــــــــ(68/16)
من عوائق الزواج
...
...
2540
...
الأسرة والمجتمع
...
...
قضايا المجتمع
...
حسين بن غنام الفريدي
...
...
حائل
...
16/2/1416
...
...
غير محدد
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- لماذا شرع الله النكاح؟ 2- غلاء المهور. 3- منكرات الأفراح. 4- رفض الأكفاء بحجة الدراسة أو غيرها. 5- عضل الفتيات عن النكاح طمعاً في راتبهن.
الخطبة الأولى
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، وأطيعوه واجتنبوا نهيه ولا تعصوه.
عباد الله، تحدثت في الخطبة الماضية عن الزواج وعظم أمره والأمر بتيسيره والترغيب في تعجيله، وذكرت بعض عوائقه، وأذكر في هذه الخطبة بقية ما أعلم من العوائق لنسعى جادين للقضاء عليها، نحث بذلك أهل النخوة والعفة والرجولة والغيرة أن يسارعوا إلى نبذها وازدراء أهلها والتشنيع عليهم، والأخذ على أيدي سفهاء القوم حتى لا يخرقوا سفينة المجتمع فنغرق فيها جميعاً، فليس في الأمر حريات شخصية أو خصوصيات ذاتية بل هو أمر يهم الجميع ممن يقدرون الأمور قدرها ويحسبون لها حسابها.
عباد الله، من هذه العوائق تأخر كثير من الشباب عن الزواج بحجة أنه لم يكوّن نفسه على حد تعبيرهم، فنقول لهؤلاء: إن البركة إنما تأتي مع الزواج، لأنه طاعة لله ورسوله وطلبٌ للعفة، والله تبارك وتعالى يقول: وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الأرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا [هود:6]، فالذي ييسر لك الزواج سييسر لك الرزق لك ولأولادك نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ [الأنعام:151]، وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطلاق:2، 3]، وجاء في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ثلاث حق على الله عونهم: المجاهد في سبيل الله، والمكاتب الذي يريد الأداء، والناكح الذي يريد العفاف)) أخرجه أحمد والترمذي[1].
ويقول الله تبارك وتعالى: وَأَنْكِحُواْ الايَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِن يَكُونُواْ فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ [النور:32]، ويقول الصديق رضي الله عنه: (ابتغوا الغنى بالزواج).
أيها الأخوة، وإني لأعرف جملة من الشباب تزوجوا قبل إتمام دراستهم وقبل أن يتوظفوا وهم ـ بحمد الله ـ ناجحون في زواجاتهم، فالأرزاق ليست محصورة في الوظائف، بل إنها في غير الوظائف مهيأة بلا حدود، ولكنها تحتاج إلى سعي واجتهاد وحسن تفكير وتدبير، ويبعد أن يحصل عليها شعب أَلِفَ البطالة وركن إلى الخمول، شعب خيراته بيد غيره من خارج بلاده، بل ممن ليسوا على دينه هُوَ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُواْ فِى مَنَاكِبِهَا وَكُلُواْ مِن رّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ [الملك:15].
ومن العوائق أن يشترط بعض الرجال مميزاتٍ لا تكاد تجدها إلا في نساء الجنة، يجنح إلى المثاليات ويرسم في ذهنه صوراً من التخيلات، ونحن لا نلوم من يطلب مطالب معقولة ويكون نسبياً في رغباته، فالمرأة تنكح لأربع: لمالها ولحسبها ولجمالها ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك[2].
فعليك أن تجعل جل اهتمامك بالمتدينة فهي خير لك لو كنت تعلم، واحذر من خضراء الدِّمَن وهي المرأة الحسناء في مَنْبِتِ السُّوء[3]، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تتزوجوا النساء لحسنهن فعسى حسنهن أن يرديهن، ولا تتزوجوهن لأموالهن فعسى أموالهن أن تطغيهن، ولكن تزوجوهن على الدين، ولأمة خرماء مثقوبة الأذن سوداء ذات دين أفضل)) رواه ابن ماجه[4].
ثم تأتي من بعد ذلك المميزات الأخرى، فعناية الإسلام إنما هي بذات الدين، لأنها سوف تكون حاضنة أبنائك.
فالأم أستاذ الأساتذة الأُلى شغلت مآثرهم مدى الآفاق
ومن العوائق لجوء كثير من الرجال للزواج من خارج البلاد من نساء لا يعلم عن أسرهن ولا عن نشأتهن شيئاً، وربما يكن في بيئات بالغة الأسون والعفن، وهم بذلك يتذرعون بكثرة مهور بنات البلد، وهذا أمر صحيح ولكنه لا يُسَوّغ أن يضحي الإنسان بنفسه ويتزوج امرأة تكون أماً لأولاده لا يتحقق منها على الوجه المطلوب، ولأن الزواج من بنات بلدك ممن عرفت عاداتهن وأخلاقهن وأسرهن أقرب للوئام والاتفاق، أما الزواج من الخارج ففيه بعض المضار التي تعود على الزوجين معاً، ولعله لا يخفى عليكم كثرة مشكلات تلك الزواجات، وإني لأعجب أشد العجب من الذين يشددون في مسألة الحسب والنسب، والذين يقيمون الدنيا ولا يقعدونها إذا تزوج واحد منهم بمن تكون دونه في النسب ولا يلومونه إذا تزوج من خارج البلاد ممن لا يعرف لها نسب أصلاً.
أليس في ذلك تناقض عجيب، وأعوذ بالله أن أدعو بذلك إلى عصبية مذمومة، ولكن السعي إلى أن يكون الزواج موفقاً مطلب سديد، ونحن نبحث عن الوسائل المعينة على ديمومة الزواج وبعده عن المشكلات والمعوقات.
ومن معوقات الزواج: تأخير زواج الكبيرة من البنات، هو في الغالب مؤثر على زواج أخواتها، وهذا مما لا ينبغي. فمن أتى نصيبها وجب تزويجها وعدم تأخيرها لأجل أختها، فليتق الله الأولياء وليعلموا أن هذا ليس من الدين في شيء، فلا يكونوا سبباً في حرمان جميع بناتهم من الزواج لأجل واحدة منهن لأن في ذلك ظلماً عظيماً.
ومن المعوقات من قبل النساء: ترك العِنان لهن في فرض ما يشأن من الطلبات على الزوج من ذهب ومبالغ نقدية باهظة، مما يثقل كاهل الزوج المسكين، فاتقوا الله في ذلك وخذوا على أيدي سفهائكم حتى لا يكن سبباً لانتشار الفاحشة في مجتمعاتنا، لأن ذلك مما يسر سبيل الحرام وانتشار الزنا خاصة في هذا الزمان الذي سود الناس صحائفهم بشرورهم وفسادهم إلا من رحم ربك.
ومن المعوقات ما يبتجح به كثير من الناس من إكمال الدراسة بالنسبة للمرأة أو الرجل، وهو عذر غير مقبول خصوصاً بالنسبة للمرأة كما سبق بيانه، أما بالنسبة للرجل فنقول له إنك تستطيع أن تكمل دراستك وأنت متزوج، وقد يكون الزواج سبباً في تفوقك لحصول السكون والطمأنينة والاستقرار وراحة البال وقرة العين، وهذا مما يساعد الطالب على استجماع الفكر والتحصيل في الطلب لأنه إذا صفا ذهنه من الشواغل والقلاقل ساعده ذلك على مواصلة سيره، أما غير المتزوج فيكون مشوش الفكر مضطرب الضمير، لا يتمكن من التحصيل العلمي خاصة في هذا العصر الذي كثرت ملهياته ومغرياته ومثيراته، وجل تفكير الشباب إنما هو في قضاء الشهوة، والزواج يلبي لهم هذا المطلب.
وتصور الكثير أن الزواج عائق عن الدراسة إنما هو من تزيين الشيطان وتوهيمه، والتجربة خير برهان واسألوا أصحاب هذه التجربة فلا ينبئك مثل خبير، وإن كان الخوف من النفقة الزوجية والمطالب المالية فإن لذلك حلولاً كبيرة أشرت إلى بعضها في مقدمة الخطبة ومن يتق الله يجعل له مخرجاً، والزواج لا يزيد الجاد إلا نجاحاً وجدية، وهو كذلك لا يجعل من الغبي ذكياً.
وأما العراقيل التي تكون من قِبَل الأسرة فهي تعنت الكثير من الناس في عدم تزويج بناته إلا من أبناء عمومتهن وأقربائهن وربما أنه بذلك يرغمها على من لا ترغب فيه ولا تنسجم معه وفي ذلك ظلم وعضل.
فحجر البنت على ابن عمها قد يكون إضراراً بها، وربما أن القريب ليس كفئاً لها من حيث الدين والخلق، ولا كفاءة إلا بهما ولا اعتبار لغير ذلك من أمور الجاهلية، فلا يجوز إرغامها عليه، وقد جاء في الحديث عن عائشة رضي الله عنه عنها: (أن فتاة قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: إن أبي زوجني من ابن أخيه، ليرفع بي.. وأنا كارهة، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى أبيها فجاءه فجعل الأمر إليها فقالت: يا رسول الله إني قد أجزت ما صنع أبي، ولكني أردت أن أعلم النساء أن ليس للآباء من الأمر شيء) أخرجه النسائي[5].
ومعلوم أن التزاوج بين القبائل مما يؤلف بينهم ويبعد عنهم نعرات الجاهلية، ولاشك أنه قد ثبت طبياً أن الزواج من القريبات مظنة للأمراض وعدم اكتساب صفات جديدة وجيدة وهو كذلك مظنة لقطع الأرحام فيما لو حصل طلاق بين الزوجين.
وعمر بن الخطاب رضي الله عنه رأى أن السائب قد ضعفت أجسامهم، فقال: مالكم؟ قالوا: نحن قوم لا نتزوج إلا من بعضنا، فقال: (يا آل السائب اغتربوا لا تضووا)[6].
وكما قال الشاعر في مدح رجل:
رُبَّ فتى نال العلا بهمة ليس أبوه بابن عم أمه
ومن الظلم العظيم الواقع على النساء زواج الشَّغَار أو البدل، فهو نكاح باطل بإجماع أهل العلم لنهي الرسول صلى الله عليه وسلم عنه[7].
فاتقوا الله ـ أيها الأولياء ـ وزوجوا بناتكم من الأكفاء، وأنتم أيها المقتدرون زوجوا أبناءكم واسعوا في زواجهم فلا خير في أموالكم إن لم ينتفع بها أولادكم في حياتكم.
وأنتم أيها الشباب يا من تجاوزتم العشرين بل منكم من أشرف على الثلاثين ومنكم من تجاوزها إلى متى وأنتم في حسرات العزوبة ومصارع الشهوات، جدوا في الأمر واعلموا أن مركب أول كل أمر عسير ثم يتيسر.
تبدو الأمور على الثواني صعبة وإذا ولجت وجدت أمراً هيناً
اعلموا أن هناك من الأولياء من ينتظرونكم بفارغ الصبر لتعفوا بناتهم، ابحثوا عنهم تجدوهم ولا تسوفوا فإن العمر يذهب وزهرة الشباب تذبل، وإياكم وأن يعرف اليأس إلى قلوبكم طريقاً، فاتقوا الله، ومن يتق الله يجعل له من أمره يسراً.
بارك الله لي ولكم ...
[1] حسن، مسند أحمد (2/437)، سنن الترمذي: كتاب فضائل الجهاد – باب ما جاء في المجاهد والناكح ... حديث (1655)، وأخرجه أيضاً النسائي: كتاب النكاح – باب معونة الله الناكح ... حديث (3218)، وصححه ابن حبان (4030)، والحاكم (2/161)، والسيوطي: الجامع الصغير (3497)، وحسّنه الألباني، صحيح سنن الترمذي (1352).
[2] صحيح، أخرجه البخاري: كتاب النكاح – باب الأكفاء في الدين، حديث (5090)، ومسلم: كتاب الرضاع – باب استحباب نكاح ذات الدين، حديث (1466).
[3] ضعيف، أخرجه القضاعي في مسند الشهاب (957)، والرامهرمزي في (أمثال الحديث) في (أمثال الحديث) رقم (84)، قال العراقي في (تخريج الإحياء) : رواه الدارقطني في الأفراد، والرامهرمزي في الأمثال من حديث أبي سعيد الخدري، قال الدارقطني: تفرد به الواقدي وهو ضعيف، تخريج إحياء علوم الدين، رقم (1342). وقال الحافظ ابن حجر فيه: متروك. كما في التقريب، وانظر السلسلة الضعيفة للألباني (14).
[4] ضعيف، أخرجه ابن ماجه: كتاب النكاح – باب تزويج ذوات الدين، حديث (1859)، وفيه عبد الرحمن بن زياد الإفريقي، وهو ضعيف في حفظه، كما ذكر الحافظ في التقريب. وانظر: مصباح الزجاجة للبوصيري (2/97)، والسلسلة الضعيفة للألباني (1060).
[5] إسناده صحيح، أخرجه أحمد (6/136)، وابن ماجه: كتاب النكاح – باب من زوج ابنته وهي كارهة، حديث (1874) واللفظ لهما، وأخرجه أيضاً النسائي: كتاب النكاح – باب البكر يزوجها أبوها وهي كارهة، إلا أن عنده : ((ولكني أردت أن أعلم أللنساء من الأمر شيء؟)). وحكم عليه الألباني بالضعف لشذوذه. انظر غاية المرام في تخريج أحاديث الحلال والحرام، رقم (217)، ضعيف سنن النسائي (208).
[6] الاغتراب: افتعال من الغربة، وأراد : تزوجوا إلى الغرائب من النساء غير الأقارب فإنه أنجب. (النهاية لابن الأثير، مادة غرب).
[7] صحيح، أخرجه البخاري: كتاب النكاح – باب الشغار، حديث (5112)، ومسلم: كتاب النكاح – باب تحريم نكاح الشغار وبطلانه، حديث (1415): عن ابن عمر رضي الله عنهما: (أن رسول الله نهى عن الشغار، والشغار أن يزوج الرجل ابنته على أن يزوجه الآخر ابنته، ليس بينهما صداق)
ـــــــــــــــــــ(68/17)
المرأة وكيد الأعداء
...
...
2562
...
الأسرة والمجتمع
...
...
المرأة
...
خالد بن محمد الشارخ
...
...
الرياض
...
19/10/1419
...
...
اللحيدان
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- كيد الأعداء تمحور حول قضيتين العقيدة والمرأة. 2- تشويه صورة المرأة في شرائع الإسلام. 3- حراسة شرائع الإسلام المرأة وصيانتها. 4- دعاة المساواة بين الرجل والمرأة. 5- دعاوي البعض إلى إعطاء المرأة حريتها. 6- الهجوم على الحجاب الشرعي. 7- انتشار التبرج وما يترتب عنه من آثار ومضار. 8- دعوى ونصيحة برذل وإهمال هذه الدعاوى وتحصين النساء منها.
الخطبة الأولى
أما بعد:
فيا أيها الأخوة في الله, إن أعداء الإسلام منذ بزوغ شمسه وظهوره، وانتشار ضيائه وجماله وسنائه، وهيمنته على الأديان كلها إبان ظهوره ووقت بزوغه, ما فتؤوا يكيدون الإسلام وأهله، ويتربصون بهم الدوائر وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَاء [النساء:89].
وإن أعداء الإسلام سلكوا مسالك شتى لضرب الإسلام وعرقلة انتشاره وظهوره, ولكن لعمر الله من يرد السيل إذا هدر؟ أم لعمر الله من يرد على الله القدر؟
جرب هؤلاء الأعداء أبواباً كثيرة ومسالك خطيرة في تشويه الإسلام, وتقويض حصونه من الداخل
لكن ـ أيها الإخوة ـ ليس العجيب أنهم يخططون لضرب الإسلام وشل حركته، ولكن العجب العجاب أن تنطلي دعواتهم ودعايتهم وكلامهم المعسول المسموم على السذج والبسطاء من أبناء المسلمين، فيصبحون من أنصار هذه الدعوة ومن الداعين إليها، والمنافحين عنها، والناشدين لأمرها من حيث شاءوا أو لا يشاءون.
أيها الأخوة الأحبة, ولقد تمكن أعداء الإسلام من هز كيان هذه الأمة وزعزعة حصونها وأن ينفذوا مخططًا مجرماً لتدمير الأمة الإسلامية، وذلك من خلال بابين خطيرين:
ألا وهما باب العقيدة وباب الأسرة وإن شئت فقل باب المرأة المسلمة.
أما الباب الأول, فقد استطاع الأعداء أن ينشئوا مذاهب منحرفة وعقائد باطلة ويدسوها في أصل ديننا، حتى أفسدت عقائد الكثيرين من أبناء المسلمين فافترقوا فرقاً، وصاروا شيعًا وأحزابًا يكفر بعضهم بعضًا، ويضرب بعضهم رقاب بعض، وسلط هؤلاء الأعداءُ على نصوص الوحيين التأويلاتِ الباطلة حتى فسد الدين فسادًا, لولا أن الله سبحانه تكفل بحفظه وأقام له حرسًا ووكّلهم بحمايته من تأويل الجاهلين وانتحال المبطلين, لجرى عليه ما جرى على الأديان السالفة, ولكن الله برحمته وعنايته بهذه الأمة يبعث لها عند دروس السُّنَّة وظهور البدعة من يجدد دينها، ولا يزال الله يغرس في دينه غرسًا يستعملهم فيه علمًا وعملاً.
وإن الكلام عن هذا الباب وما دسّ فيه الملحدون وأذنابهم من الشبه والتشبيه والضلالات والجهالات يطول جدًا، فسنرجئه إلى خطبة أخرى.
ولكن مقصودنا هو الباب الثاني، الذي نفذ إليه أعداء الملة، وأصبحوا لا يأتون بضلالة إلا فعل الناس أكبر منها, ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ألا وهو تدمير الأسرة، وذلك من خلال ركنها الركين، وجانبها القوي المتين، ألا وهو المرأة، والواقع أكبر شاهد يمكن الاستدلال به على ما نقول.
أيها المسلمون, لقد شوه هؤلاء الكافرون موقف الإسلام من المرأة, حتى صار الدين عند الكثيرين متهمًا, يحتاج إلى من يدافع عنه؛ ولكنهم كذبوا في ذلك، وافتروا على دين الله.
فلم يوجد ولن يوجد دين أكرم المرأة واحترمها وأعلى شأنها, كما في شريعة محمد . فالمرأة في الإسلام هي تلك المخلوقة التي أكرمها الله بهذا الدين، وحفظها بهذه الرسالة، وشرفها بهذه الشريعة الغراء، إنها في أعلى مقامات التكريم, أمّاً كانت أو بنتاً أو زوجة ًأو امرأةً من سائر أفراد المجتمع.
فهي إن كانت أمًّا فقد قرن الله حقها بحقه فقال: وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَاناً [الإسراء: 23]. وأي تكريم أعظم من أن يُقرن الله حقها بحقه!
وهي وإن كانت بنتاً، فحقها كحق أخيها في المعاملة الرحيمة والعطف الأبوي، تحقيقاً لمبدأ العدالة. إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإْحْسَانِ [النحل:90].
وفي حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((اعدلوا بين أبنائكم، اعدلوا بين أبنائكم، اعدلوا بين أبنائكم))[1] متفق عليه.
ولولا أن العدل فريضة لازمة وأمر محكم، لكان النساء أحقَّ بالتفضيل والتكريم من الأبناء، وذلك فيما رواه ابن عباس مرفوعًا: ((سووا بين أولادكم في العطية، فلو كنت مفضلاً أحدًا لفضلت النساء))[2] أخرجه البيهقي في سننه.
ولقد شنّع القرآن على أناس أصحاب عقائد منحرفة، الذين يبغضون الأنثى ويستنكفون عنها عند ولادتها، فقال تعالى: وَإِذَا بُشّرَ أَحَدُهُمْ بِالاْنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّا وَهُوَ كَظِيمٌ [النحل:58].
ولقد أثر هذا الأدب العظيم من الفرح بالبنت كما يفرح بالولد أو أشد على أدباء الإسلام, حتى كتبوا فيه صيغ التهنئة المشهورة، حيث يهنئ الأديب من رزق بنتاً من أصحابه فيقول له: أهلاً وسهلاً لعقيلة النساء، وأمّ الأبناء، وجالبة الأصهار، والأولاد الأطهار، والمبشرة بأخوة يتناسقون، ونجباء يتلاحقون.
ولو كن النساء كمن ذكرنا لفضلت النساء على الرجال
وما التأنيث لاسم الشمس عيب وما التذكير فخر للهلال
ثم يقول الأديب لصاحبه: والله تعالى يعرّفك البركة في مطلعها، والسعادة بموقعها، فادَّرع اغتباطًا واستأنف نشاطًا، فالدنيا مؤنثة، والرجال يخدمونها، والأرض مؤنثة، ومنها خلقت البرية، ومنها كثرت الذرية، والسماء مؤنثة، وقد زينت بالكواكب، وحليت بالنجم الثاقب، والنفس مؤنثة، وهو قوام الأبدان، وملاك الحيوان، والجنة مؤنثة، وبها وعد المتقون، وفيها ينعم المرسلون، فهنيئًا لك بما أوتيت، وأوزعك الله شكر ما أعطيت.
أيها الأخوة, وهي إن كانت زوجًا فقد ذكرها الله في كتابه فقال: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا [الرعد:38].
وهي مسألة عباد الله الصالحين: وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْواجِنَا [الفرقان:74].
كما لا ننسى أن الشرع قد أعطاها حقها من المهر والنفقة والمسكن والملبس، وجعل لها حريتها في اختيار زوجها، وأمر زوجها بمعاشرتها بالمعروف، وأمره أن يترفع عن تلمس عثراتها وإحصاء سقطاتها.
وهي إن لم تكن أمًا ولا بنتًا ولا زوجةً فهي من عموم المسلمين، يبذل لها من المعروف والإحسان ما يبذل لكل مؤمن، ولها على المسلمين من الحقوق ما يجب للرجال.
أيها الأخوة في الله, وعلى الرغم من أن الإسلام احترم المرأة وأعلى مكانتها وأعطاها من الحقوق ما يليق بخلقتها وبقدرتها ـ كيف لا والمشرع هو خالقها, أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك:14]، ـ لكن أعداء الإسلام من اليهود وأذنابهم, والنصارى ومقلديهم ومحبيهم، والعلمانيين الحاقدين، لا يروق لهم وضعُ المرأة في الإسلام، فهم لمّا علموا وأيقنوا أنهم لن يستطيعوا ضرب الإسلام وتقويض حصونه من الداخل إلا بإخراج المرأة من بيتها بل إخراجها عن طبيعتها وأصل خلقتها ـ أَوَمَن يُنَشَّأُ فِى الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِى الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ [الزخرف:18] ـ أرادوها أن تزاحم الرجل في كل ميادين الحياة ولا بد, فلا بد أن تزاحم الرجل في تجارته، وفي عمله، وفي صناعته، وفي وظيفته، بل حتى في سيارته، وتنقله.
أيها الأخوة, ما كان لهؤلاء الحاقدين أن يدخلوا على الناس في بيوتهم ويخرجوا بناتهم ونساءهم, ولكنهم بمخططهم الماكر، افتعلوا قضية وأسموها بمصطلح جديد، منهم من يسمون مساعيَهم لإفساد المرأة وللذهاب بحيائها ودينها [تحرير المرأة], ليوحوا للمرأة أن لها قضيةً تحتاج إلى نقاش، وتستدعي الانتصار لها أو الدفاع عن حقها المسلوب.
ولذلك يكثرون الطنطنة في وسائل كثيرة ومختلفة على هذا الوتر, بأن المرأة في مجتمعاتنا تعاني ما تعاني، وأنها مظلومة وشقٌّ معطل، ورئة مهملة، ولا تنال حقوقها كاملة، وأن الرجل قد استأثر دونها بكل شيء.
وهكذا, ليشعروا الناس بوجود قضيةٍ للمرأة في مجتمعنا, هي عند التأمل لا وجود لها.
ونحن نقول لهؤلاء الناعقين: أي حريّة للمرأة تريدون؟!
أتريدونها أن تكون ألعوبة في يد القاصي والداني؟!
أم تريدونها أن تكون ورقةً مبذولةً تطؤها الأقدام وتمزقها الأيدي, بعد أن كانت جوهرةً مصونةً لا يكاد يرى أحد منها شيئًا من غير محرمها إلا بعقد صحيح؟
أيّ حرية في أن تكون المرأة مع الرجل جنبًا إلى جنب في كل شيء حتى في مصنعه وهندسته؟!
عجبًا! ثم عجبًا!
تقول إحدى الكاتبات العربيات ـ وكانت إحدى داعيات الحرية والمساواة بين الرجل والمرأة في كل شيء, وهي حينما تتكلم تتكلم عن تجربة ومعاناة، وبعد زمن طويل في درب هذه الحرية والمساواة المزعومة ـ تقول:
سأعترف اليوم بأنني أقف في كثير من الأشياء ضد ما يسمى [حرية المرأة] تلك الحرية التي تكون على حساب أنوثتها, وعلى حساب كرامتها, وعلى حساب بيتها وأولادها, سأقول ـ وما زال الكلام لها ـ: إنني أُحمل نفسي كما تفعل كثيرات مشقة رفع شعار المساواة بينها وبين الرجل.
ثم ذكرت: أنها قد تتعرض لبعض الأذى والظلم من الرجل, لكنها تعقّب على ذلك فتقول: هل يعني هذا أن أَرْفُض نعومةً وهبها الله لي، لأصبح امرأة تعلق شاربًا، وتتحدى أقوى الرجال؟ وهل يعني هذا أن أنظر إلى البيت، جنة المرأة التي تحلمُ بها, على أنها السجن المؤبد؟ وأن الأولاد ما هم إلا حبل من مسد يُشدُّ على عنقي؟ وأن الزوج ما هو إلا السجان القاهر الذي يكبل قدمي, خشية أن تسبقه خطوتي؟
لا, أنا أنثى، أعتز بأنوثتي، وأنا امرأة أعتز بما وهبني الله، وأنا ربة بيتي.
ثم تقول: ويا ربِّ اشهد, بيتي أولاً, ثم بيتي, ثم بيتي.
بارك الله لي ولكم بما سمعنا..
[1] صحيح، أخرجه أحمد (4/275)، وأبو داود في: البيوع، باب: في الرجل يفضل بعض ولده في النحل (3544)، والنسائي في: النحل (3687). وأصله البخاري في: الهبة للولد (2586)، ومسلم كتاب: الهبات، باب: كراهة تفصيل بعض الأولاد في الهبة (1623).
[2] ضعيف، سنن البيهقي: كتاب الهبات – باب ما يستدل به على أن أمره بالتسوية .. (6/177)، وأخرجه أيضاً الطبراني في الكبير (1197) واستنكره ابن عدي في الكامل (3/380) وضعفه الحافظ في التلخيص الحبير (3/72) والألباني في إرواء الغليل (1628).
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه والشكر له...
أيها الأخوة في الله, إن أول فتيلٍ أشعله أعداء هذه الأمة المحمدية، هو الحجاب والسخرية منه والنيل من لابِسَتِه بالسب والشتم أو بالسخرية والذمّ.
تقول إحدى الهالكات: إنني ضد الحجاب، لأن البنات المحجّبات يُخِفْن الأطفال بمظهرهن الشاذ، وقد قررت بصفتي مدرسة بالجامعة، أن أطرد أي طالبة محجبة في محاضرتي، فسوف آخذها من يدها وأقول لها: مكانك في الخارج.
أيها الأخوة, إن مسالة الحجاب ما هي إلا بوابةٌ يدلُف منها هؤلاء إلى الانحلال من الإسلام بالكلية، فهم لا يكتفون أبدًا بأن تلبس المرأة زيًّا فاضحًا دونما حجاب؛ بل لا يكتفون حتى يعلموا أنهم مسخوا بحق حقيقة الإسلام من قلب المرأة المسلمة.
أيها الأخوة, وإن المرأة متى ما ألقت مُلاءَتَها عن وجهها وظهرت سافرة الوجه لا يغطيها حجاب, فإنها قد فتحت بابًا من الشر لا يقفل أبدًا, ولذلك لما علم رسول الله ضرر النساء على الرجال قال: ((ما تركت بعدي في الناس فتنةً أضرّ على الرجال من النساء))[1].
فإن المسلمة إن تبرجت بلباسها وألقت حجابها, إنها إن فعلت ذلك, فقد فاز الأعداء في مخططاتهم، وكسبوا مكسبًا عظيمًا. وإن المرأة متى ما تبرجت فقد هدمت المجتمع ونشرت الرذيلة، وأشاعت الفاحشة.
يقول سماحة الوالد الشيخ عبد العزيز بن باز ـ رحمه الله ومتعنا بعلمه وعمله ـ في رسالة له اسمها [التبرج], أنصح الجميع بقراءتها, فقد بين فيها الشيخ رحمه الله البيان الشافي في حكم الحجاب وحرمة السفور، يقول رحمه الله:
"فلا يخفى على كل من له معرفةٌ ما عمت به البلوى في كثير من البلدان من تبرج الكثير من النساء وسفورهن، وعدم تحجبهم من الرجال، وإبداء الكثير من زينتهن التي حرم الله عليهن إبداءها، ولا شك أن ذلك من المنكرات العظيمة والمعاصي الظاهرة، ومن أسباب حلول العقوبات ونزول النقمات، لما يترتب على التبرج والسفور من ظهور الفواحش وارتكاب الجرائم وقلة الحياء وعموم الفساد".
ثم يقول رحمه الله: "فاتقوا الله أيها المسلمون، وخذوا على أيدي سفهائكم وامنعوا نساءكم مما حرم الله عليهن، وألزموهن التحجب والتستر واحذروا غضب الله سبحانه، وعظيم عقوبته، فقد صح عن النبي أنه قال: ((إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه، أوشك أن يعمهم الله بعقابه))"[2].
ويقول رحمه الله رادًّا على دعاة الاختلاط ونزع الحجاب: "إن ثمرات الاختلاط مُرة, وعواقبه وخيمة, رغم مصادمته للنصوص الشرعية التي تأمر المرأة بالقرار في بيتها، والقيام بالأعمال التي تخصها في بيتها ونحوه، ومن أراد أن يعرف عن كثب ما جناه الاختلاط من المفاسد التي لا تحصى؛ فلينظر إلى تلك المجتمعات التي وقعت في هذا البلاء العظيم بإنصافٍ من نفسه وتجرد للحق عما عداه، فسيجد التحسر على انفلات المرأة من بيتها وتفكك الأسر" ا.هـ
وأخيرًا, بعد هذه الرحلة الطويلة من تبيين مخطط الأعداء وهتك أستارهم, انتبه ـ أيها الولي ـ من أن تكون ممن يشارك في إنجاح مخططات الأعداء.
وأنتِ أيضًا ـ أيتها المرأة المسلمة ـ احذري ثم احذري أن تستسلمي لهم أو تتنازلي, حتى وإن أبدوا لكِ النصيحة أو الشفقة عليك.
فوالله ما أرادوا حرّيّتك, وإنما أرادوا أن تكوني رقيقاً وألعوبة في أيديهم.
وأنت أيها الولي, راقب من هم تحت ولايتك من البنات الشابات ومن زوجاتك, انظر ما يلبسن عند خروجهن من البيت, سواء ذهبن للسوق هنا أم لوليمة هناك.
فكم سمعنا وسمعتم عن بنات يلبسن الفاضح التي تستحي المرأة أن تلبسه أمام زوجها أحيانًا.
ثم لا تستنكف هذه المرأة وربما تكون ما زالت تنتظر الزوج الذي يخطبها ومع ذلك تلبس هذا الزي الفاضح، بل من النساء من لبست عباءة في السوق وعلى مرأى من الناس, قد أظهرت يديها وربما ساعديها، وتغطت بغطوة خفيفة لا تغطي شيئًا من وجهها، أو لبست نقاباً وأخرجت معظم وجهها أو أخرجت عينيها؛ لتقتل بنظرتها المسمومة ضعافَ القلوب، وإلى الله المشتكى.
وإنك لتعجب حينما تعلم أن هذا الرجل الذي تركب معه في سيارته وهي على هذه الهيئة زوجها الذي نزع من قلبه الحياء والغيرة، فلا غيرة منه ولا حياء منها، وأصبحت الغيرة التي كنا نسمع عنها في ذلك الجيل الأول كأنها أسطورة أو قصة خيالية.
فها هو رسول الله يقول يومًا لأصحابه: ((إن دخل أحدكم على أهله ووجد ما يريبه أشهد أربعًا)). فقام سعد بن عبادة متأثرًا، فقال: يا رسول الله، أأدخل على أهلي فأجد ما يريبني, أنتظر حتى أشهد أربعًا؟ لا والذي بعثك بالحق، إن رأيت ما يريبني في أهلي لأطيحن بالرأس عن الجسد ولأضربن بالسيف غير مصفح، وليفعل الله بي بعد ذلك ما يشاء.
فقال عليه الصلاة والسلام: ((أتعجبون من غيرة سعد، والله لأنا أغير منه، والله أغير مني، ومن أجل غيرة الله حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن))[3]. الحديث وأصله في الصحيحين.
[1] صحيح البخاري في: النكاح، باب: ما يتقي من شؤم المرأة (5096)، وكذا مسلم في: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب: أكثر أهل الجنة الفقراء وأكثر أهل النار (2740).
[2] صحيح، أخرجه أحمد (1/2)، وابن ماجه في: الفتن، باب: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (4005)، وأبو يعلى (1-119/304)، وكذا الضياء في: المختارة (1/147).
[3] صحيح، لم أجده بهذا اللفظ وفي الصحيحين القسم الثاني منه: صحيح البخاري: كتاب الحدود – باب من رأى مع امرأته رجلاً فقتله، حديث (6846)، وكتاب التوحيد – باب قول النبي لا شخص ... حديث (7416)، ومسلم: كتاب اللعان – باب: حدثني عبيد الله بن عمر القواريري ... حديث (1499).
ـــــــــــــــــــ(68/18)
ظاهرة الحزن والاكتئاب
...
...
2581
...
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
...
...
آثار الذنوب والمعاصي, قضايا المجتمع
...
سعود بن إبراهيم الشريم
...
...
مكة المكرمة
...
17/4/1423
...
...
المسجد الحرام
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- قصور الحضارة المادية في هذا العصر. 2- ظاهرة الحزن والاكتئاب. 3- إحصاءات مروّعة. 4- تفاوت هذه الظاهرة في المجتمعات بتفاوت الإيمان. 5- اهتمام الباحثين بهذه الظاهرة. 6- معنى الحزن والاكتئاب. 7- العلاج الشرعي الروحاني لهذه الظاهرة. 8- أسباب هذه الأزمة. 9- علاج هذه الظاهرة (الجهاد – الإيمان بالقضاء والقدر – الرضا عن الله تعالى – الذكر والعبادة – التلبينة – الدعاء).
الخطبة الأولى
أما بعد: فأوصيكم ـ أيها الناس ـ ونفسي بتقوى الله سبحانه، فإن فيها العزَّ بعد الذل، وبها الأمن بعد الخوف، والنجاة يوم الورود، وَإِن مّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً ثُمَّ نُنَجّى الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً [مريم:71، 72].
عباد الله، إن من يتحسَّسُ واقع الناس بعامة وواقع المسلمين على وجه الخصوص في زمنٍ كثُرت فيه المعارك وقلّ فيه العَارف، زمنٍ بلغت فيه آلياتُه أوْجَ تقدّمِها، ونالت الحضارة المادية فيه شأوًا بالغاً، زمنٍ هو غايةٌ في السرعة المهولة، سرعةٍ اقتصادية، وأخرى طبيّةٍ، وثالثةٍ عسكرية ومعرفية، إن من يتحسَّس هذا الواقع على وجه الإنصاف والوضوح فسيمْثُل أمامه أن هذه المسارعة بقضِّها وقضيضها لم تكن كفيلةً في إيجاد الإنسان الواعي، الإنسان المدرك لحقيقة وجوده على هذه البسيطة.
نعم عباد الله، هذه هي الحقيقة مهما امتدّت حبال هذا التقدم العصري، وإلا فمن يخبرنا عن سرِّ انتشار الجهل وتضلُّعِه في عصر تقدم المعلومات؟ وما هو سر شيوع الفقر والمسكنة في عصر الكنوز والغنى؟ وما سر سيطرة البطالة في عصر الإنتاج والصناعة؟ وقولوا مثل ذلك متسائلين: ما هو سر وصف بعض الباحثين في الشؤون الاجتماعية على المستوى العالمي هذا العصر بعصر الحزن والاكتئاب، بعد أن أُطلق على فترةٍ قريبة منه سابقة عصرَ القلق؟
إننا في الحقيقة لسنا بحاجة إلى مزيد أدلة تؤكّد ما يكابده هذا العصر من تغلغُل هذه الظاهرة واستشرائها.
الحزن والاكتئاب ـ عباد الله ـ هما آفة العصر المدمرة، وهما أوسع الآفات النفسية انتشاراً في العالم، وأكثرها لدى الناس إلا ما شاء الله، وهي لا تزال في ازدياد ملحوظ كلما ازدادت الإصابة بها.
ثم إن المترقب لآخر الإحصائيات الصحية العالمية ليجد أن ما يقارب عشرةً بالمئة من سكان العالم يعانون من آفة الحزن والاكتئاب، بما في ذلكم بلاد المسلمين، وهذا يعني بداهة وجود مئات الملايين من البشر في معاناة مع هذا الواقع المرير، وقد أسفرت هذه الإحصاءات أيضاً عن أن الأجيال التي وُلدت في هذه العقود الأخيرة يبدأ عندها هذا الحزن والاكتئاب في سنٍّ أصغر وبمعدلات أكبر، نظراً للعوامل الاجتماعية التي تخلَّلت تلك الجسوم بسبب تهلهُلِها وضياع الأثر البيئي الناضج فيها، كما وُجد أن هذا الداء ينتشر بشكل عام بين الإناث أكثر من انتشاره بين الذكور بنسبةٍ تصل إلى الضعف تقريباً، وذلك بسبب فقدان الوظيفة الحقيقية للمرأة، وتحميلها ما لا تطيق من أعباءٍ حياتية أودت بها إلى ترك بيتها، والزجّ بطفلها بين أحضان الخادمات وعقول المربِّيات الأجنبيات. بل لقد بلغت حالات الانتحار بسبب الحزن والاكتئاب الشديد ما يزيد على ثمانمائة ألف شخص في العالم كل عام، ناهيكم عن كون ثمانين بالمئة من المصابين به لا يذهبون إلى الأطباء، ولا يكشفون عن حقيقة حالهم، وهما مكمَن العجب.
إن هذه الظاهرة ـ عباد الله ـ ليست وليدةَ هذا العصر، ولا هي من الأدواء التي لا يُعرف لها ما يقاومها، أو يزيل عُمقَ وجودها في المجتمعات، كلاَّ، بل هي ظاهرة مرهونة بمدى انغماس الكثرة الكاثرة في متاع الحياة الدنيا وسيطرة النظرة المادية الصِّرفة.
ثم إن تفاوت المجتمعات في درجات هذه الظاهرة ليكمن في مدى إيمانها بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره، ثم في استقامة السلوك الاجتماعي بأمنه وإعلامه وتعليمه، واستقرار العدل والمساواة والمحبة، والبعد عن الأثرة وحب الذات وهلمَّ جرا.
لقد سيطرت هذه الظاهرة سيطرةً مزدوجةً على اهتمامات وأبحاث الكاتبين عنها، من بحاثة شرعيين وأطباء نفسيين، وآخرين من صحفيين نقلة، ولربما تناولتها الأقلام باللَّتِّ والعجن بين الحين والآخر، غير أن هذه المطارحات على تنوّعها واختلاف منطلقاتها لم تُوفَّق في أن تجتمع تحت مظلَّة واحدة تجمع في علاج هذه الظاهرة بين الأصالة والمعاصرة، بين الطب الشرعي الروحاني وبين الطب النفسي الإكلينيكي الموثَّق، والذي يقوم عليه متخصِّصون من ذوي الأمانة والغيرة، ممّن يُخضعون دراساتهم في الطب النفسي للشريعة الغراء، بعيداً عن النظريات المادية البحتة المتجرّدة عن معاني الروح والسمو.
عباد الله، الحزنُ في لغة العرب مأخوذ من الحَزَن وهو الاغتمام، يقولون: حَزِن الرجل إذا اغتمّ واشتد همُّه، وهذا الحزن يُعدّ أحدَ صور العاطفة والمشاعر الإنسانية الفطرية التي تسيطر على الإنسان، فإذا ما اشتدت عليه اشتداداً تتغيّر به نفسه وتنكسر فإنه حينئذ يُسمَّى اكتئاباً، وهو أيضاً إحساس عاطفي يُعد قمةَ الحزن وغايته، حيث يجعل الفرد نهباً لشعوره الداخلي الذي يورث الفشل وخيبةَ الأمل واختفاء الهشاشة والبشاشة والحبور والانشراح، مع انفعالات مزدوجة بالآهات والزفرات، حتى تعزِف النفس بسبب ذلك عن بذل أي نشاط حيوي، بل ولربما عزفت عن الحياة بالكلية ليكون الانتحار هو الحل الوحيد للمصاب بهذه الأزمة والعياذ بالله. في حين إنه لو سلم من قتل نفسه والقضاء عليها، فلا أقل من أن تصيبه لوثة بعض الأمراض المصاحبة لها، كأمثال القرحة وآلام المفاصل والأرق والصداع وغير ذلك، وقد قال ابن القيم رحمه الله: "أربعة تهدم البدن: الهم والحزن والجوع والسهر".
إن أهمية التطبُّب النفسي من خلال عرض الفرص العلاجية عبر جوانب إيمانية من كتاب الله وسنة نبيه لِعِلَّة الحزن والاكتئاب لتكمن في كونهما البديل الأفضل والأكمل والأسلم لمئات من أنواع الأدوية والعقاقير المهدِّئة والكيوفات المؤقَّتة التي قد يتعوَّد عليها الجسم فتتحوَّل مرضا أفتك من الحزن والاكتئاب ذاته.
ثم إن العلاج الشرعي الروحاني على وجه العموم قد يفوق العلاج السريري لهذه الظاهرة الفتاكة بمرات كثيرة. وإذا كان هناك برامج في الطب النفسي تشير إلى أن في السباحة المائية ومزاولة الأعمال المنزلية بصفة متكررة علاجاً لهذه الأزمة، فإننا ـ معاشر المسلمين ـ لا يمكن أن نتصور كون الفرد سابحاً عاملاً في منزله ليلا ونهاراً، ولكن يمكن لنا أن نتصور هذا الفرد متعبِّداً مسبِّحا مستغفرا ليله ونهاره قيامَه وقعوده وعلى جنبه، ولا جرم فقد وصف الله أولي الألباب بقوله: الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ [آل عمران:191]. ومن هنا يأتي تفاضل الأدوية الشرعية الروحانية على المادية السريرية رغم أهميتها وعدم إغفال دورها الفعال في بعض الأحايين.
وبعدُ ـ يا رعاكم الله ـ فلسائل أن يسأل ويقول: قد عرفنا صورة هذه الأزمة، ولكن ما أسبابها الظاهرة؟ وما علاجها المرجو؟
فنقول: إن هناك مسبباتٍ طبيةً بحتة، لا يمكن تجاهلها، ومن أشهر هذه الأسباب كثرة تعاطي الأدوية والعقاقير التي تؤدي بدورها إلى تغيّرات كيميائية في الدماغ الناتج عنها الإصابةُ بالاكتئاب نفسه. ومن ذلك أيضاً تعاطي المخدرات والمسكرات المؤدية إلى الإدمان المروِّع والإحساس بأن الحياة لا شيء بدون معاقرتها. ومن ذلك العوامل الوراثية وبعض الأمراض العضوية. ولكن الذي يعنينا هنا من على هذا المنبر هي تلكم الأسباب التي تناولتها الشريعة الغراء من خلال ذمها والتحذير منها في غير ما آية أو حديث لكافة شؤون الدين والدنيا.
فقد جاء في القرآن الكريم ما يدل على أن خواء القلب من ذكر الله ويُبس اللسان منه أمارة من أمارات الضيق والنكد والحزن وكسْف البال، فقد قال الله تعالى: وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِى فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمَى [طه:124]. وقد جاء في السنة ما يدل على أن مواقعة المعاصي والاستهانة بها سبب رئيس من أسباب حلول هذا البلاء، فقد قال النبي : ((إذا كثرت ذنوب العبد ولم يكن له ما يكفِّرها من العمل ابتلاه الله عز وجل بالحزن ليكفرها عنه)) رواه أحمد[1].
ومن أسباب ذلك أيضاً قلق كثير من الناس وخواء أفئدتهم من الإيمان بالله وبقضائه وقدره، وفزعهم من المستقبل المجهول، والشعور بالوهن عن حمل المصائب وتحمل المشاقِ، فتجدون أمثال هؤلاء قوماً يفرقون، لو يجدون ملجأ أو مغارات أو مُدَّخلا لولَّوا إليه وهم يجمحون.
ومن أسباب ذلك ـ عباد الله ـ إجلابُ الشيطان بخيله ورجله على ابن آدم فيوسوس إليه ليخنس، ويقذف في قلبه الحزن والكآبة من خلال تشويشه بكمّ هائل من الأحلام والرؤى الشيطانية في المنام، حتى تصبح في حياة الفرد هاجساً مقلقاً عند كل غمضة عين. ولذلك يُصاب المكتئب بالأرق المزمن وقلة النوم، وقد صح عند مسلم أن النبي ذكر نوعاً من الرؤى وهي التي تكون تحزينا من الشيطان يحزن بها ابنَ آدم[2].
وسبب آخر من أسباب هذه الأزمة يبرز من خلال كثرة الديون والحمالات المالية مع العجز والكسل على إيفائها، أو الجبن والبخل الذي يصيب المرء حينما يُبتلى بالفرق وسَعَار الكانز. ومما يدل على أن هذا الأمر يُعدُّ أساسا في حدوث مثل هذه الظاهرة ما رواه أبو داود في سننه أن النبي دخل المسجد ذات يوم فإذا هو برجل من الأنصار يقال له أبو أمامة، فقال: ((يا أبا أمامة، ما لي أراك جالساً في المسجد في غير وقت الصلاة؟!)) قال: همومٌ لزمتني وديون يا رسول الله، قال: ((أفلا أعلمك كلاما إذا قلته أذهب الله همك وقضى عنك دينك؟!)) قال: بلى يا رسول الله، قال: ((قل إذا أصبحت وإذا أمسيت: اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، وأعوذ بك من العجز والكسل، وأعوذ بك من الجبن والبخل، وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال))، قال أبو أمامة: ففعلت ذلك، فأذهب الله همي، وقضى عني ديني[3].
هذه بعض الأسباب لا كلها، وقد رأينا صلتَها الوثيقة بما جاء التحذير عنه في ملتنا السمحة ومنهاجنا الأغر. في حين إن جماع هذه الأسباب هو البعد عن هداية الله والاستقامةِ على طريقة والتعلقُ بالأسباب الدنيوية بعيداً عن مسببها سبحانه، ومن تعلق شيئا فقد وُكل إليه، ومن وُكل إلى غير الله فقد وُكل إلى ضيعة وخراب، فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلَامِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِى السَّمَاء كَذالِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ [الأنعام:125].
قد قلت ما قلت، إن صوابا فمن الله، وإن خطأً فمن نفسي والشيطان، وأستغفر الله إنه كان غفاراً.
[1] أخرجه أحمد (6/157)، وابن حيان في طبقات المحدثين بأصبهان (558) من طريق ليث بن أبي سليم عن مجاهد عن عائشة رضي الله عنها، قال المنذري في الترغيب (4/146): "رواته ثقات إلا ليث بن أبي سليم"، وقال الهيثمي في المجمع (2/291): "فيه ليث بن أبي سليم وهو مدلس، وبقية رجاله ثقات"، وقال في موضع آخر (10/192): "أخرجه أحمد والبزار وإسناده حسن"، وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة (2695).
[2] أخرجه مسلم في الرؤيا (2263) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[3] أخرجه أبو داود في الصلاة (1555) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال المنذري: "في إسناده غسان بن عوف وهو بصري وقد ضعف"، وضعفه الألباني في ضعيف الترغيب (1141).
الخطبة الثانية
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد:
فيا أيها الناس، من باب أن نُوجد شيئا من التكامل ولو كان مقتضبًا حول الحديث عن ظاهرة الحزن والاكتئاب، فإنه من اللازم لنا أن نشير بلمحة سريعة إلى أنجع الأدوية الشرعية الروحانية، والتي لها أثر فعال من خلال نصوص الشارع والواقع المجرَّب، حتى من أخصائيِّي الطب النفسي أنفسهم، ناهيكم عما بسطه أطباء القلوب وصيارفته من علماء إسلاميين هم قطب الرحى والقِدح المعلّى في هذا المضمار.
فأول هذه الأدوية مكانة هو قيام الأمة في مجموعها بما فرض الله عليها من الجهاد في سبيل الله والدعوة إليه، والحذر من متاع الدنيا وزينتها؛ إذ بمثل ذلك يكون الانشراح والطمأنينة، ويزول الضيق والضنك، يقول الرسول : ((إذا ضنّ الناس بالدينار والدرهم، وتبايعوا بالعينة، وتبعوا أذناب البقر، وتركوا الجهاد في سبيل الله، أنزل الله بهم ذلاً، فلم يرفعه عنهم حتى يراجعوا دينهم)) رواه أحمد[1]. وأخرج الطبراني مرفوعاً إلى النبي أنه قال: ((عليكم بالجهاد فإنه باب من أبواب الجنة، يدفع الله به عن النفوس الهمَّ والغم))[2]، ولقد صدق الله إذ يقول: قَاتِلُوهُمْ يُعَذّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ [التوبة:14].
ودواء آخر للحزن والاكتئاب ـ عباد الله ـ يكمن في الموقف الصحيح مع القضاء والقدر، وبلوغ منزلة إيمان العبد بأن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، وأن الأمور بيد الله مقاديرها، فليس يأتيه منهيُّها، ولا قاصرٌ عنه مأمورُها، وأن الأرزاق مقسومة والآجال محتومة، وأن نفساً لن تموت حتى تستكمل رزقها وأجلها، فالمرء يتوكل على ربه دون توتُّر ولا ريبة ولا قلق؛ إذ بمثل هذا يستقبل الدنيا بشجاعة ويقين، ولسان حاله يقول كما قال علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه:
أيُّ يوميَّ من الموت أفِرّ يوم لا يُقدَر أو يومَ قُدِر
يومَ لا يُقدر لا أحذرُه ومن المقدور لا ينجو الحذِر
ومن الأدوية ـ عباد الله ـ تحقيق الرضا عن الله سبحانه، إذ هو المحكّ أمام العبد، فمن قل رضاه عن الله صار مرتعاً للأوهام والأحزان والأدواء، وقد سئل الحسن البصري رحمه الله: من أين أُتي هذا الخلق؟ فقال: من قلة الرضا عن الله. ونقل أبو حاتم البستي عن بعض السلف قوله: لا أعلم درجةً أشرف ولا أرفع من الرضا، وهو رأس المحبة، ولذلك دعا به زكريا لولده فقال: وَاجْعَلْهُ رَبّ رَضِيّاً [مريم:6].
والرضا عن الله لا يكون إلا باستحضار العبد لحكمة الله في الأقدار، وأنه لا يعطي ولا يمنع إلا لحكمة بالغة مما يهوّن على المرء ما يلاقيه من المصائب والأقدار المؤلمة، بل حتى في حال الفرح كما قال سليمان عليه السلام: هَاذَا مِن فَضْلِ رَبّى لِيَبْلُوَنِى أَءشْكُرُ أَمْ أَكْفُر [النمل:40].
ويدل لذلك قول النبي حين وفاة ابنه إبراهيم: ((تدمع العين، ويحزن القلب، ولا نقول ما يسخط الرب، ولولا أنه وعدٌ صادق وموعود جامع وأن الآخر منا يتبع الأول لوجدنا عليك ـ يا إبراهيم ـ وجداً، وإنا بك ـ يا إبراهيم ـ لمحزونون)) رواه البيهقي وابن ماجه[3]. فهو يعني بذلك: لولا أنه يعلم حكمةَ الله في قبضه إليه لحزن عليه حزنا شديداً.
ومن الأدوية أيضاً كثرة التسبيح والسجود والعبادة عملاً بقوله تعالى: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ فَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ وَكُنْ مّنَ السَّاجِدِينَ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الحجر:97-99].
وقد كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة، وكان يقول صلوات الله وسلامه عليه: ((من لزم الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجا، ورزقه من حيث لا يحتسب))[4].
ومن الأدوية كذلك ما يسمّى بالتلبينة، وهي طعام يُصنع من حساء، من دقيق أو نخالة، ويُجعل فيه عسل أو لبن أو كلاهما، لما رواه البخاري ومسلم من حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي قال: ((إن التلبينة تُجمُّ فؤاد المريض وتذهب ببعض الحزن))[5]، وقوله : ((تجم فؤاد المريض)) أي: تريحه.
ثم نختم ـ أيها المسلمون ـ هذه الأدوية بوصية النبي فيما رواه أحمد في مسنده أن النبي قال: ((ما قال عبد قط إذا أصابه همٌّ وحزن: اللهم إني عبدك وابن عبدك وابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماضٍ فيّ حكمك، عدلٌ في قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني، وذهاب همي، إلا أذهب الله عز وجل همه، وأبدله مكان حزنه فرحاً))، قالوا: يا رسول الله، ينبغي لنا أن نتعلم هؤلاء الكلمات، قال: ((أجل، ينبغي لمن سمعهن أن يتعلمهن))[6].
هذه بعض الأدوية الناجعة، وهي شذرات وقطرات، مفادها تشخيص هذه الظاهرة، والتذكير بها، فالجزء دليل على الكل، ولا حول ولا قوة لنا إلا بالله.
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد...
[1] أخرجه أحمد (2263) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، وهو أيضا عند الروياني (1422)، وأبي يعلى (5659)، والطبراني في الكبير (10/432)، وصححه ابن القطان كما في التلخيص الحبير (3/19)، وحسن إسناده ابن القيم في تعليقه على سنن أبي داود (9/245)، وهو في صحيح الجامع (675)، وانظر: السلسلة الصحيحة (11).
[2] أخرجه الطبراني في الأوسط (5660) من حديث عبادة رضي الله عنه، وهو أيضا عند أحمد (5/319)، والبيهقي (9/103)، والضياء في المختارة (335)، قال الهيثمي في المجمع (5/272): "رواه أحمد والطبراني في الكبير والأوسط أطول من هذا وأحد أسانيد أحمد وغيره ثقات"، وهو في السلسلة الصحيحة (1941).
[3] أخرجه ابن ماجه في الجنائز (1589) من حديث أسماء بنت يزيد رضي الله عنها، وهو أيضا عند الطبراني في الأوسط (8829)، وحسنه الألباني في صحيح ابن ماجه (1292)، وأصل الحديث في الصحيح.
[4] أخرجه أحمد (2234)، وأبو داود في الصلاة (1518)، وابن ماجه في الأدب (3819) من طريق الحكم بن مصعب عن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس عن أبيه عن ابن عباس رضي الله عنها، وليس عند ابن ماجه: "عن أبيه"، وصححه الحاكم (4/291)، وتعقبه الذهبي بقوله: "الحكم فيه جهالة"، وهو مخرج في السلسلة الضعيفة (705).
[5] أخرجه البخاري في الطب (5689)، ومسلم في السلام (2216).
[6] أخرجه أحمد (1/398، 452)، والبزار (1994)، وأبو يعلى (5297)، والطبراني في الكبير (10/169)، والحاكم (1877) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه، وصححه ابن حبان (972)، وهو في السلسلة الصحيحة (199).
ـــــــــــــــــــ(68/19)
التحذير من التبرج والاختلاط
...
...
2587
...
الأسرة والمجتمع
...
...
المرأة
...
أسامة بن عبد الله خياط
...
...
مكة المكرمة
...
2/5/1423
...
...
المسجد الحرام
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- نعمة الإسلام. 2- مبدأ سدّ الذرائع. 3- إيجاب الحجاب وحظر الاختلاط. 4- الأدلة على ذلك. 5- وجوب التسليم لأمر الله تعالى وتحكيم شرعه. 6- خطورة القول على الله بغير علم. 7- شرع الله تعالى صالح لكل الأفراد والأزمنة والأمكنة.
الخطبة الأولى
أما بعد: فيا عباد الله، اتقوا الله فتقوى الله يقظة وحياة للقلب، وسعادة للروح، وسمو للنفس، ونور في القبر، ونجاة وسرور يوم البعث والجزاء والنشور.
أيها المسلمون، في غمرة الاغترار بزخرف الحياة الدنيا وزينتها، وبين لهوها ولغوها، ووسط هجير مطامعها ومطامحها، يطول الأمد على فريق من الناس، فيعقبه ذلك نسياناً أو تناسياً لعظم ما امتنَّ الله به عليه من نعمه السابغة وآلائه الجليلة، وفي الطليعة منها هذا الدين الحنيف وهذه الشريعة المكرمة التي تضمنها التنزيلُ العزيز والهدي النبوي الكريم، فجاءت كما أراد الله محقِّقة لمصالح العباد في المعاشِ والمعاد.
وإن من مكارم هذه الشريعة ما حفلت به نصوصُها وقواعدها من بيان الوسائل التي تُدرَأ بها المفاسد، وتسَدُّ بها منافذ الشرور، وتوصَد أبواب النكر والبلاء والرذائل، وتُحرسُ بها ساحة الحق، وتُحمى بها حِمى الفضائل. وإن الحِكم التشريعية في سدِّ الذرائع التي يُتوصَّل بها إلى المحظور تتجلى في أبواب شتى من أبواب العقائد والعبادات والمعاملات وغيرها، غيرَ أن من أوضح صور ذلك ما شرعه سبحانه لنساء المؤمنين، وما حدَّه لهن من حدود، وما وضعه لهن من معالم، وما خطّ لهن من مسالك أصابت بها المرأةُ المسلمة حظًّا موفوراً في تفرُّدِ وتميز الشخصية، وطهارة وسلامة السيرة، ونقاء المسلك، وحُسن الأُحدوثة.
وإن في طليعة ما شرعه الله في حق المؤمنات إيجابَ الحجاب وحظر الاختلاط بالرجال، وإنهما ـ أيها الأخوة ـ تشريعان مقترنان متلازمان، فكما يجب الإذعان لما أوجبه الله من حجابٍ كاملٍ سابغ ساتر يصُون العفاف ويحفظ الطهر، ويستبقي الحياء ويدفع الإيذاء، وذلك بقوله سبحانه: ياأَيُّهَا النَّبِىُّ قُل لأَزْواجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذالِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً [الأحزاب:59]، وبقوله في حق أمهات المؤمنين رضوان الله عليهن، وهن أتقى نساء الأمة وأبعدُهن عن كلِّ مقبوح من الفعال وكل منكور من الخلال بما أكرمهن الله به من شرف الزوجية، وبما يُتلى في بيوتهن من آيات الله والحكمة، بقوله سبحانه في حقهن: وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْئَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ ذالِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ [الأحزاب:54]، فكذلك يجب الإذعان أيضاً لما حظره الله من اختلاط النساء بالرجال، وهو الحظر الذي نصَّت عليه جمهرة من الأدلة الصحيحة الصريحة الواضحة البيِّنة، منها ما أخرجه الإمام أحمد في مسنده والترمذي في جامعه بإسناد صحيح عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((لا يخلونَّ رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما))[1]، وهو خبر تضمَّن نهيا صريحاً عن الاختلاط في حق الأفراد معلَّلاً بعلته الواضحة التي لا تحتمل غير ما دلت عليه من صحة المعنى وحكمة المغزى. ومنها ما أخرجه الشيخان في صحيحيهما عن عقبة بن عامر رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((إياكم والدخول على النساء))، فقال رجل من الأنصار: أفرأيت الحمو؟ يريد أقارب الزوج من الإخوة وأبنائهم وأبناء الأعمام وأمثالهم، فقال النبي : ((الحمو الموت))[2]، أي: هو في شدة ضرره على المرأة بدخوله عليها كالموت المجهز على الحياة، وهو نهي صحيح صريح أيضاً عن المخالطة للنساء لا لبس فيه ولا خفاء ولا احتمال.
وكلا النهيين ـ يا عباد الله ـ جاء على لسان الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى صلوات الله وسلامه عليه، فهل يصح أن يقدَّم على قوله قولُ أحد سواه وهو الناصح الشفيق الرؤوف الرحيم بأمته، كما وصفه سبحانه بقوله: لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءوفٌ رَّحِيمٌ [التوبة:128]؟!! بل هل يجوز ردُّ قوله والمخالفة عن أمره بعدما حذَّرنا الله من ذلك أبلغ وأقوى تحذير بقوله سبحانه: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور:63]؟!! ثم لماذا وصف رسول الله صفوف الرجال وصفوف النساء عند الصلاة في المساجد بقوله فيما أخرجه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه صلوات الله وسلامه عليه قال: ((خير صفوف الرجال أوَّلها، وشرُّها آخرها، وخير صفوف النساء آخرها، وشرّها أولها))[3]؟!! لماذا جاء هذا الوصف النبوي يا أولي الألباب؟! أليس ذلك للتأكيد القوي على لزوم المفاصلة وضرورة المباعدة وذلك بطريق البيان لحال ومآل أوَّل الصفوف وآخرها في كل من الفريقين؟! وإذا كان هذا التشريع وارداً في حق المؤمنين والمؤمنات عند اجتماعهم لعبادة ربهم في المساجد التي وصفها سبحانه ووصف عُمَّارها بقوله: فِى بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوّ وَالآصَالِ رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصلاةِ وَإِيتَاء الزكاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ [النور:36، 37]، فكيف بغيرها من المجامع التي قد تضمّ أشتاتاً من خيار الخلق وشرارهم ومن أبرارهم وفجَّارهم؟! أفلا يجدُر بالأمة أن تُمضي هذا التشريعَ النبوي الكريم عليها بطريق الأولى لاتحاد العلة في الحالين، ولوجود المقتضى وانتفاء المانع؟! وإذا كان المخاطبون بهذه النصوص النبوية الكريمة الصحيحة الصريحة زمنَ تنزُّل الوحي هم أفضل الأمة قاطبةً وخيرُ قرونها كما شهد لهم بذلك رسول الله في الحديث المتفق على صحته[4]، فهل انتفت حاجة الأمة في أعقاب الزمن إلى ما في هذه النصوص من تشريع وأمر ونهي، أم أن الحاجة إليها أشد، والافتقار إليها أظهر، لا سيما مع غلبة الشرور وتنوعها واتساع مداها وعموم خطرها؟! وإذا كان البشر يحتفون بكل تنظيم يرون فيه نفعاً، ويستدفعون به شراً يحيط بهم أو يحدق بهم، ولا يرون ضيرا في قيوده وضوابطه التي قد تحدُّ من حريتهم، وتضعهم تحت طائلة العقاب عند المخالفة عنه أو تعدِّي حدوده، فما بال من آمن بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمدٍ رسولاً نبياً، ما باله ينظر إلى هذه التشريعات الربانية الواردة في نصوص محكمة وأدلة صحيحة صريحة، ينظر إليها نظرة ريب؟! بل يصفها بالقيود التي لا حاجة إليها، ويدعو إلى رفعها أو الخلاص منها، مع ما فيها من تحقيقِ المصالح وتكميلها، وتعطيلٍ للمفاسد وتقليلها، شأنَ كل الشرائع التي جاء بها الرسل وأُنزل بها الكتب.
عباد الله، إنه لا يجوز لمؤمن بالله مصدِّق برسوله أن يخوض غمار هذه القضية بمجرد الرأي الذي لا تسنده حجة، ولا بالزعم الذي لا يعضده برهان، ولا باتباع الظن وما تهوى الأنفس، بل يتعين في الخائض غمارَ ذلك من محكماتِ الدين وقضاياه ومسائله ضرورةُ الاتصاف بكمال الإخلاص لله تعالى وتقواه، وتمامِ التجرد من الأهواء والنزعات التي تنزع به بعيداً عن الحق، مع إحسان القصد بإرادة النصح للأمة والشفقة على الخلق، مقروناً بسعة علم بصحيح الأدلة من ضعيفها، مع حسن فقه للنصوص، وسلامة استنباط يُبتَنى على طول دُربةٍ وصبر وجلد، يجمع ذلك كلَّه أهليةٌ كاملة، ورسوخٌ في العلم.
ثم ليعلم أن حصائد الألسنة والأقلام هي من أعظم ما يُخشى ضرره وتحذر عاقبته، كما بين ذلك رسول الهدى صلوات الله وسلامه عليه بقوله لمعاذ بن جبل رضي الله عنه حين سأله متعجباً: وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟! فقال : ((ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكب الناسَ في النار على وجوههم ـ أو قال: ـ على مناخرهم إلا حصائدُ ألسنتهم؟!)) أخرجه الإمام أحمد في مسنده وأبو داود والترمذي في سننهما بإسناد حسن[5].
أعاذنا الله وإياكم من ذلك، وحفظنا جميعاً من الشرور، وألهمنا النظر الثاقب والرأي الصائب في عواقب الأمور.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولائِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً [الإسراء:36].
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه، وبسنة نبيه ، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه أحمد (1/18)، والترمذي في الفتن (2165)، والنسائي في الكبرى (9219)، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه"، وصححه ابن حبان (5586)، والحاكم (387)، والضياء في المختارة (98)، والذهبي في السير (7/102، 103)، وهو في صحيح الترمذي (1758).
[2] أخرجه البخاري في النكاح (5232)، ومسلم في السلام (2172).
[3] أخرجه مسلم في الصلاة (440).
[4] أخرجه البخاري في الشهادات (2652)، ومسلم في فضائل الصحابة (2533) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.
[5] أخرجه أحمد (5/231)، والترمذي في الإيمان، باب: ما جاء في حرمة الصلاة (2616)، والنسائي في الكبرى (11394) وابن ماجه في الفتن، باب: كف اللسان في الفتنة (3973) من حديث معاذ رضي الله عنه. قال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وصححه الحاكم (2/447)، وهو في صحيح الترمذي (2110). تنبيه: هذا الحديث لم يخرجه أبو داود والله أعلم.
الخطبة الثانية
الحمد لله الحكَم العدل اللطيف الخبير، أحمده سبحانه له الدنيا والآخرة وإليه المصير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله البشير النذير، والسراج والمنير، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه.
أما بعد: فيا عباد الله، إن ما شرعه الله تعالى في كتابه وما ورد مُبيّناً في سنة نبيه مما يتَّصل بأمر الحجاب وحظر الاختلاط بين الرجال والنساء لا يرتبط بزمان من الأزمنة، ولا يختصُّ بمكان من الأمكنة، ولا يقتصر على أفراد بأعيانهم دون غيرهم، بل هو عام لكل ذلك، زماناً ومكاناً وأفراداً؛ لأن مَن شرعه هو خالق الزمان والمكان والإنسان، وهو عليم بخلقه، حكيم في تدبيره، منزَّه سبحانه عن العبث في قضائه وحكمه وأمره ونهيه، ولا يكون إيمانٌ به عز اسمه إلا بالإذعان لحكمه، والتحكيم لشرعه، والتسليم له دون حرج في النفوس، أو ريب في القلوب.
فكونوا ـ عباد الله ـ من العاملين بالوحيين، المتمسكين بالتنزيلين، وحذارِ أن تفرَّق بكم السبل عن سبيله.
ألا واتقوا الله عباد الله، وصلوا وسلموا على خير خلق الله محمد بن عبد الله، فقد أمرتم بذلك في كتاب الله حيث قال سبحانه: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىّ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك سيدنا محمد، وارض...
ـــــــــــــــــــ(68/20)
أوضاعنا الأسرية عندما نبتعد عن الإسلام
...
...
2599
...
الأسرة والمجتمع
...
...
قضايا الأسرة
...
يوسف بن عبد الوهاب أبو سنينه
...
...
القدس
...
23/5/1423
...
...
المسجد الأقصى
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- انتشار بعض الأنكحة الفاسدة. 2- صور غير مرضية في العلاقات الأسرية. 3- كثرة الحلف بالطلاق. 4- قوامة الرجل على البيت. 5- كيف تحل الخلافات الزوجية. 6- واقع المسلمين حين بعدوا عن الإسلام. 7- مؤامرة جديدة على المسلمين. 8- الأمم المتحدة تبرئ اليهود من جريمتهم في جنين.
الخطبة الأولى
أما بعد:
اتقوا الله ـ يا عباد الله ـ واعملوا جاهدين لنيل رضاه، وتذكروا أنكم بين يديه موقوفون، وسوف تحاسبون، فالكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني، واتقوا يوم ترجون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يُظلمون.
عباد الله، أصبحنا في زمان طغت فيه الماديات على الروحانيات. ونحن في عصور تفشت فيها الأنانية والحقد، أخبر عنها الصادق الصدوق، نحن نعيش في زمان يصدق فيه الكذوب، ويكذب فيه الصدوق، ويؤتمن فيه الخائن، ويخون فيه الأمين، ويكون أسعد الناس بالدنيا لكع ابن لكع، لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر.
فانظروا كيف علمنا نبينا صلى الله عليه وسلم حسن المعاملة، كان عليه الصلاة والسلام يمر ذات يوم بالسوق فوجد رجلاً يضع الطعام الحسن فوق طعامه ويضع الطعام البذيء في أسفله، فقال صلى الله عليه وسلم (من غشنا فليس منا)[1].
شريعتنا تقوم على الصدق وحسن المعاملة، لماذا أصبحنا في زمن انتشر فيه الفساد في كل موقع، لماذا فقدنا التربية الإسلامية في حياتنا ومعاملاتنا، لماذا أصبحنا لا نحسن تربية أولادنا وبناتنا؟
غضبت إحدى الزوجات من زوجها، فذهبت إلى بيت أبيها، وبينما كان زوجها يبحث في أوراقها الخاصة وجد عقد زواج عرفي، كتب عند محامي، تتزوج من زوج آخر، وهي على ذمة الزوج الأول، وأنتم تعرفون أن الدخول بها زنا، والعقد عليها باطل والعيشة معها حرام، ومن هنا نتوجه لمن يقوم بهذه المعاملات من الدجالين الذين لا يتقون الله، ونقول لهم: اتقوا الله تعالى، غداً ستقفون بين يديه، فماذا ستقولون إذا سألكم عن هذه العقود الفاسدة؟
بنت فرّت مع عشيقها لأن أباها رفض الزواج، ونفس الشيء، عقدت عند دجال من الدجاجلة عقد زواج عرفي، وتزوجت من دون علم أبيها ولا أهلها.
أهكذا يا عباد الله علمنا الإسلام؟ هل أمر الإسلام بتزويج البنت رغماً عنها؟
أيها الأولياء، أيها الآباء، لا يجوز شرعاً أن تجبروا البنات على الزواج، وللأسف، لما تزوجت إحدى النساء من ابن عمها وقد أجبرت على ذلك من قبل أبيها وإخوتها، فقد فرت من بيت الزوجية بعد أيام قليلة، ولما تم البحث عنها عادت لبيتها، وبعد ذلك فرَّت مرة ثانية قبل أيام، ولا يُعلم أين هي حتى الآن.
لماذا هذا الفساد، من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم، ومن مشى في تزويج رجل من امرأة من غير رضى وليها ومعرفته، فقد وقع في الحرام، وكان شريكاً في الإثم. وبنفس الوقت: ما جزاء من مشى في تفريق رجل من زوجته، إن كان يريد أن يفرق بينهما ليتزوجها فزواجه باطل، ودخوله بها زنا.
ومن أفسد بين امرأة وزوجها فليس منا، وسوف يفضحه الله تعالى يوم القيامة على رؤوس الأشهاد، أصبحنا في زمان إذا وقع الخلاف فيه بين الزوج وزوجته تذهب إلى مكاتب الشرطة تشتكي زوجها ثم تقوم بحبسه. كم يوجد من الأزواج في السجون في هذه الأيام، لماذا لا تحل المشكلات بالإسلام أو بالإصلاح في دائرة الأسرة، لماذا لا يجتمع أهل الزوجة مع الزوج وأقاربه وتحل المشكلات على أساس إسلامي.
والإسلام أعطى كلاً من الزوجين حقه بالعدل، والزوج عليه حقوقه وعليه واجباته، والزوجة كذلك، فلا يجوز شرعاً الاحتكام لغير شريعة الإسلام في هذه المسائل.
أيها المسلمون، لماذا كثر على ألسنة الناس الحلف بالطلاق، ولو لأتفه الأسباب، إن أبغض الحلال عند الله الطلاق، لا تطلقوا أيها الرجال، فإن الطلاق يهتز له عرش الرحمن[2]، ملعون من حلف بالطلاق أو حلف به بغير حق، والطلاق يمين الفسّاق، وقد جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله قلت لزوجتي: أنتِ طالق مائة مرة فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: ((تكون زوجتك طالقاً ثلاثاً، وتسأل عن سبع وتسعين أمام الله يوم القيامة))[3].
والطلاق يهتز له عرش الرحمن، سلاح ولكنه لا يستعمل إلا في المهمات، ولا يجوز أن يلعب به أشباه الرجال، فيجني به على نفسه وعلى غيره، فيهدم الأسرة ويشرد الأولاد، فاتقوا الله أيها الرجال وتوبوا إلى الله لعلكم تفلحون.
عباد الله، فما بال العلاقات بين المسلمين قد اهتزّت، وما بال البنيان قد تصدّع، وما بال السقف قد خرّ علينا من فوقنا، وما بال القلوب تناثرت، وما بال الصِلات تقطّعت. كل ذلك يحدث بيننا، وربنا تبارك وتعالى ينادي علينا ويقول في الحديث القدسي: ((وجبت محبتي للمتزاورين فيّ والمتجالسين فيّ. والمتحابين فيّ، والمتبادلين فيّ، اليوم أظلهم بظلي يوم لا ظل إلا ظلي))[4].
عباد الله، شاءت السنة الكونية وظروف الحياة الاجتماعية أن يكون في الأسرة قيِّم يدير شؤونها ويتعهد أحوالها وينفق من ماله عليها، لتؤدي رسالتها على أكمل الوجوه ولتكون نواة للمجتمع الذي ينشده الإسلام، إذ في صلاح الأسرة صلاح المجتمع، وفي فسادها وخرابها خراب المجتمع.
ولمّا كان الرجل أقدر على تحمل المسؤولية من المرأة بما وهبه الله تعالى من العقل وقوة العزيمة والإرادة وبما كلفه من السعي والإنفاق على المرأة والأولاد كان هو الأحق بهذه القوامة التي هي في الحقيقة درجة مسؤولية وتكليف لا درجة تفضيل وتشريف، إذ هي مساهمة في تحمل الأعباء وليست للسيطرة والاستعلاء، إذ لا بد لكل أمر هامٍ من رئيس يتولى شؤون التدبير والقيادة، وقد جعل الله تبارك وتعالى للرجال حق القيام على النساء بالتأديب والتدبير والحفظ والصيانة، قال الله تبارك وتعالى: الرّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَفِظَاتٌ لّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِى تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِى الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ حَكَماً مّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلَاحاً يُوَفّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً خَبِيراً [النساء:34، 35].
فانظروا أيها المؤمنون في هذه الآية المباركة كيف عالجت مشكلات الأسرة، ومن لطائف ما يذكر في هذه الآية أن الله سبحانه وتعالى ذكر فيها الإصلاح، ولم يذكر ما يقابله، وهو التفريق بين الزوجين وفي ذلك لطيفة دقيقة وإرشاد من الله تبارك وتعالى للحكمين إلى أنه لا ينبغي أن يدخرا وسعاً في الإصلاح، فإن التفريق خراب البيوت، وبالتوفيق الألفة والمودة والرحمة وغرض الإسلام جمع القلوب على المحبة والوئام وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ [المائدة:2].
اللهم ارحمنا فإنك بنا راحم، ولا تعذبنا فأنت علينا قادر، والطف بنا في ما جرت به المقادير إنك يا مولانا على كل شيء قدير، يا نعم المولى ويا نعم النصير، غفرانك ربنا وإليك المصير.
عباد الله، ورد في الحديث الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((تفتح أبواب الجنة يوم الاثنين ويوم الخميس فيغفر الله لكل عبد مؤمن لا يشرك بالله شيئاً، إلا رجل كان بينه وبين أخيه شحناء فيقال: اتركوا أو ذروا هذين حتى يفيئا، أنظِروا هذين حتى يصطلحا)) [5].
فيا فوز المستغفرين استغفروا الله.
[1] صحيح رواه مسلم في صحيحه (102) كتاب الإيمان، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم من غشنا..
[2] لم يصح في ذلك شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وقد ورد في حديث موضوع، انظر السلسلة الضعيفة (147).
[3] لم نجده مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ونحوه في مسند الشافعي موقوفاً على ابن عباس (ص192)، ونحوه في موطأ مالك موقوفاً عليه (1146)، كما روى ابن أبي شيبة في مصنفه بنحوه موقوفاً على ابن مسعود (4/61).
[4] رواه أحمد في مسنده (21525)، ومالك في الموطأ (1779)، من حديث معاذ بن جبل من غير ذكر (اليوم أظلهم...) وهي في مسلم (2566) كتاب البر ، باب : فضل الحب في الله.
[5] صحيح، رواه مسلم في صحيحه (2565)، كتاب البر، باب: النهي عن الشحناء.
الخطبة الثانية
لك الحمد اللهم، جزيل الثواب، جميل المآب، سريع الحساب، منحت أهل الطاعةِ الطاعةَ، ورغبتهم فيها، وأوجدت فيهم الاستطاعة وأثبتهم عليها، خلقت لهم الجنان وسقتهم فضلاً إليها، والرحمة وموجباتها منك، والطاعة وثوابها صدرا عنك، ومقاليد الأمور كلها بيديك، والمبدأ منك والمصير إليك، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، صدق وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده، لا شيء قبله، ولا شيء بعده، وصل الله أتم الصلاة وأكملها وأشرفها وأفضلها وأعمها وأشملها على الدليل إليك والمرّغب فيما لديك، محمد أفضل خلقك أجمعين، وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين، صلاة لا يحصيها عدد، ولا يقطعها أمد، وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد، أيها المؤمنون، إن غياب دولة الإسلام وعدم تطبيق الشريعة الإسلامية كدستور ونظام حياة جعل من الشعوب الإسلامية والعربية فريسة سهلة لقوى الظلم والعدوان، وجعل هذه الشعوب تعيش واقعاً مُراً مُزريا أسوأ من واقع العرب في الجاهلية قبل الإسلام، هذا الواقع المزري أعطى دول الكفر والإلحاد الفرصة للتحكم بثروات عالمنا الإسلامي والسيطرة على زمام الحكم فيها، وإن لم يكن استعماراً عسكرياً فإنه استعمار اقتصادي وعلمي وحضاري، ها هي أمريكا الحاقدة تعيد تهديداتها المكررة بضرب العراق، سواء عاد المفتشون إلى العراق أو لم يعودوا، وسواء نفذت بغداد شروط وقرارات ما يسمى مجلس الأمن، فالأمر سيان بالنسبة لأمريكا، لكن المحزن والمؤلم أن نسمع نغمة التهديدات مصحوبة بالحقد والشماتة من دول عربية.
عجبا أيها المؤمنون، أين أمثال هذه العبارات من أعداء الإسلام الذين يستبيحون الأرض والعرض، ويهدمون المنازل ويحاصرون المدن ويفرضون نظام منع التجول ويمنعون الناس من إيجاد لقمة العيش؟ لماذا لا ترفع هذه الدول صوتها عالياً وتدعو أمريكا لوقف انحيازها لإسرائيل؟
الإدارة الأمريكية وبعد مناقشات مستفيضة بما يسمى مجلس الأمن تخرج على العالم بإدانة الفلسطينية وتبرر المجازر الإسرائيلية ضد الأطفال والنساء والمواطنين الآمنين، أمريكا التي تتغاضى عن بشاعة الاحتلال وتحمل الفلسطينيين مسؤولية معاناتهم وقهرهم، وترى أن كل ما تقوم به إسرائيل هو مجرد دفاع عن النفس.
ومن المضحك المبكي أن الدول العربية تفتقت قريحتها، وطالبت بعدم تصدير الأسلحة لإسرائيل كرد حازم على اعتداءاتها ضد الفلسطينيين، ألا يعلمون أن إسرائيل تصدر الأسلحة للعديد من دول العالم.
أمريكا التي ترهب العالم الإسلامي بتهديداتها المتكررة، إنما تسعى من وراء ذلك لبسط سيطرتها ونفوذها على عالمنا الإسلامي، فالقضية ليست قضية بترول أو قضية مياه، القضية أعم وأشمل، قضية صراع عقدي بين الإسلام وأعداء الإسلام.
وها هي ما يسمى منظمة الأمم المتحدة قد خضعت لإملاءات الإدارة الأمريكية والصهيونية العالمية، وبرّأت إسرائيل من مسؤوليتها عن مذبحة جنين واتهمت الفلسطينيين بأنهم جعلوا من المخيم مكاناً يأوون إليه بأسلحتهم، وقد ساوت هذه المنظمة ـ التي تتباكى على السلام ـ بين المعتدي والمعتدى عليه، وبين المجرم والضحية.
أيها المسلمون، لماذا تحولت قضيتنا من قضية إسلامية إلى قضية وطنية إقليمية ضيقة، انظروا إلى الأفكار والآراء الهزيلة التي تتقدم بها الدول العربية لحل قضيتنا أو وقف العدوان علينا، إن الواجب يدعونا إلى توحيد الصفوف على أساس العقيدة وتجنيد الطاقات لخدمة ومصلحة الأمة وما يتعرض له شعبنا من هجمات مدروسة ومخططات ترمي إلى إضعافه والقضاء عليه، ولكن أنّى لهم ذلك، فالله سبحانه وتعالى قد تعهد بنصر المؤمنين فقال سبحانه وتعالى: إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ ءامَنُواْ فِى الْحياةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ [غافر:51]، وقال عز من قائل: هُوَ الَّذِى أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدّينِ كُلّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ [الصف:9].
ونبينا عليه الصلاة والسلام ربّى رجالاً يقومون بحراسة الدين ويحافظون على العقيدة، لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الاْخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً [الأحزاب:21].
فسبحان من حباه مولاه بأنواع الإكرام وأرسله رحمة لجميع الأنام، وجعله سيد ولد آدم وخاتم النبيين وأفضلهم، ونسخ بشرعه الشرائع، وملأ بذكره المسامع، وقرن ذكرَه بذكرهِ في لسان كل ذاكر.
ـــــــــــــــــــ(68/21)
وقل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم
...
...
2620
...
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
...
...
الآداب والحقوق العامة, المرأة
...
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
...
...
الرياض
...
14/6/1423
...
...
جامع الإمام تركي بن عبد الله
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- سد الذرائع المؤدية إلى الحرام. 2- منع الوسائل المفضية إلى الزنا. 3- أمْر الله تعالى المؤمنين والمؤمنات بالغض من أبصارهم. 4- من فوائد غض البصر. 5- النظر زنا العينين. 6- التحذير من التبرج والسفور. 7- الحث على التمسك بآداب القرآن.
الخطبة الأولى
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عباد الله، إنَّ من مقاصد شريعة الإسلام منعَ كلِّ وسيلةٍِ تفضي إلى الحرام وتقرّب منه، فالإسلام منع المسلمَ؛ ليكون على بعدٍ من معاصي الله، فمن حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه. فعلى المسلم اتِّقاءُ تلك الوسائل والحذر من الوقوع فيها.
ألا ترى الشرعَ منع المسلم من أداء الصلاة، أعني: المكتوبة أو النافلة، ما عدا الصلاة على الجنازة، منعَ المسلم أن يصلي في المقبرة. لماذا؟! خوفاً عليه من أن يخدعه الشيطان فيجعل تلك الصلاة لصاحب القبر. ألا ترى منع المزكّي والمتصدِّق من شراء صدقته خوفاًُ من أن يكون في ذلك محاباة له ممن دفعها إليه، فيكون ساعياً في ردِّ صدقاته إليه. وهكذا الوسائل المفضية للربا منعها الإسلام خوفاً على المسلم من الوقوع في الحرام. فكل الذرائع والوسائل المفضية للحرام فالشارع الحكيم أبعد المسلمَ عنها ونأى به عنها.
ولما كانت جريمة الزنا من أعظم الجرائم، ومن كبائر الذنوب، ومن الأمور الشنيعة التي قال الله فيها: وَلاَ تَقْرَبُواْ الزّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً [الإسراء:32] منع المسلم من كل وسيلة يمكن أن توقعه في هذه الجريمة، فحرَّم عليه أن يخلوَ بامرأة ليست من محارمه، ((إياكم والدخول على النساء))[1]، وقال: ((لا يخلوَنَّ رجل بامرأة إلاَّ مع ذي محرم))[2]، ((ولا يدخل عليها رجل إلا ومعها محرم))[3]، وحرَّم على المرأة السفرَ بدونَ محرم حمايةً لعرضها وصيانة لكرامتها وخوفاً عليها من الوقوع فيما حرم الله.
ومن ذلكم أنه أمر المسلم بغضّ بصره، ونهاه أن ينظر إلى ما لا يحلّ له النظرُ إليه خوفاً من أن يؤدِّيَ ذلك النظر إلى الوقوع في الحرام، قال تعالى: قُلْ لّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ [النور:30].
تأمل ـ أخي المسلم ـ هذه الآية: قُلْ لّلْمُؤْمِنِينَ، أمرٌ من الله لنبيِّه أن يخاطب أهل الإيمان المستجيبين لله ورسوله السامعين المطيعين القابلين لأوامر الله المنفذين لها، قُلْ لّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ، أمرهم بالغض من أبصارهم، لم يقل: غضوها، وإنما قال: غضوا من أبصاركم، أي: غضوا من أبصاركم فلا تنظروا إلى ما حرُم عليكم النظر إليه، واجعلوا النظرَ فيما ينفعكم، لا فيما يضرُّكم، وسخِّروا تلك الجارحةَ فيما ينفعكم، إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولائِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً [الإسراء:36].
يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ، فكان غضّ البصر سبباً لحفظ الفرج، لأن البصر ينفذ إلى القلب، وما تزال تلك اللحظات والنظرات تَتَتابع حتى توقِع في القلب مرضَ الشهوة، فيتحرَّك القلب لذلك الأمر، والقلب هو الحاكم على الجوارح، إذا صلح صلح الجسد كلُّه، وإذا فسد القلبُ فسد الجسد كلُّه، كما قال: ((ألا إن في الجسد مضغةً إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب))[4]. فالبصر منفَذ إلى القلب، فما تزال تلك النظرات تلك اللحظات تتتابع حتى تحرِّك شهواتِ القلب، فيقع العبد في المحذور من حيث لا يشعر، ولذا قال الله: يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ، فإن حفظ الفرج إنما يكون نتيجةً لغض البصر والبعد عن كل وسيلة تفضي إليه، ذالِكَ أَزْكَى لَهُمْ [النور:30]، ذلك أزكى لقلوبهم، أزكى لنفوسهم، أزكى لأخلاقهم، ذلك أزكى لهم من الوقوع في الرذائل، فالأوامر الشرعية هي سببٌ لزكاة القلوب وصلاح القلوب واستقامتها، إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ [النور:30]، خبير بأعمال العباد، عالمٌ بسِّرهم وعلانيتهم، لا يخفى عليه شيء من أحوالهم، أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك:14].
ثم قال: وَقُل لّلْمُؤْمِنَاتِ أراد جل وعلا أن يبيِّن أن الأمر عامّ للجميع، وإن كان يكفي [الخطاب] الأول، لكن ذكر النساء بعد ذكر الرجال ليكون الأمر عاماً ولينتبه كلٌّ من الجنسين: وَقُل لّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ [النور:31].
أيتها المسلمة، أيها المسلم، كلٌّ منَّا مخاطبٌ بهذا، فالمرأة المسلمة مأمورة بغض بصرها وأن لا تتطلع إلى النظر إلى الرجال، وكذلك الرجل مأمور بغضِّ بصره وأن لا يتطلع بالنظر إلى النساء. فغضّ البصر سبب لزكاة القلب واستقامة الأحوال. النبي قال لأصحابه: ((إياكم والجلوسَ في الطرقات))، قالوا: يا رسول الله، مجالسنا ما لنا منها بدّ، قال: ((إن كنتم لا بد فاعلين فأعطوا الطريق حقَّه))، قالوا: وما حق الطريق؟ قال: ((كف الأذى، وغض البصر، وإفشاء السلام، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر))[5]. فمن حقّ الطريق ومن الحقّ الواجب على الجالس في الطريق أن يكون غاضاً لبصره، لا يؤذي المؤمنات بنظره إليهن، فإن ذلك من الأذى لا من حقّ الطريق. فحق الطريق أن تغضَّ بصرك عن النظر إلى ما حرّم الله عليك. والنبي يقول لعلي : ((لا تُتْبع النظرَةَ النظرة؛ فإن لك الأولى وليست لك الثانية))[6]، قد تكون نظرةَ فجأة لكن النبي قال له: ((لا تتبع النظرةَ النظرة؛ فلك الأولى ـ أي: عفوٌ ـ وليست لك الثانية))، وقال جرير بن عبد الله: سألت النبي وعن نظرة الفجأة، فقال: ((اصرفْ بصرك))[7]، فأمره بصرف بصره، وفي صرف البصر كفّ وتحصين للنفس من الإقدام على الحرام.
أيها المسلم، إن غضّك بصرَك عندما تطَّلع إلى ما لا يحل لك النظر إليه يعقبك خيراً وفضلاً، ففي الحديث: ((من نظر إلى محاسن امرأة ثم غضّ بصره أورثه الله إيماناً في قلبه يجد حلاوة ذلك))[8].
أيها المسلم، فاتق الله في نفسك، واتق الله في محارم المسلمين، واعلم أن أيّ إساءةٍ منك لعورات المسلمين قد يعود الأمر عليك عكسَ ما تريد، فعُفَّ عن نساء الغير، تعفّ نساؤك، وابتعد عن النظر إلى عورات الآخرين لتحمي بذلك عرضَك، وتصون بذلك كرامتك.
أيهاالمسلم، إن هذا النظر قد يوقعك في المهالك، فتنظر إلى ما لا قدرةَ لك عليه، ولا صبر لك عنه، فيمرض قلبك مرضاً تتمنَّى العافيةَ من بلائه، فإن أمراض الشهوات لا تزال بالقلب حتى توقعه في الحرام، ولذا قال الله مؤدباً لنساء نبيه : فَلاَ تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِى فِى قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفاً [الأحزاب:32]، فنهاهن عن خضوع القول للرجال؛ لأن إخضاع المرأة قولَها ومحاولة ترقيق كلامها أمامَ رجل أجنبي عنها قد يؤدي إلى حدوث أمور لا تحمد عقباها.
أيها المسلم، إن النبي جعل إطلاق النظر من زنا العينين، يقول: ((كتب الله الزنا على ابن آدم، فهو مدرك ذلك لا محالة، فزنا اللسان النطق، وزنا الأذنين الاستماع، وزنا العينين النظر، وزنا اليدين البطش، وزنا الرجلين الخطى، والنفس تتمنى وتشتهي، والفرج يصدِّق ذلك أو يكذِّبه))[9].
فليتَّق المسلم ربه، وليحافظ على سلامة دينه، وليغضّ بصره عما حرَّم الله عليه، وليكن حريصاً على صيانة عورات المسلمين، بعيدا عن كل ما يثير الفتنة. وعلى النساء المسلمات تقوى الله في أنفسهن، والبعد عما يثير غرائز الرجال.
إن البعض من المسلمات ـ هدانا الله وإياهن ـ كثير منهن حصل عليهن نقص في اللباس، فتخرج المرأة إلى السوق أو إلى أي ملتقى سافرةً وجهَها، متعطرةً، متجمِّلةً، في أعلى زينتها، ذلك من أسباب إثارة غرائز الرجال، وتعلُّق الفسّاق والأراذل بها. فلتتق المرأة ربها، ولتصن عرضَها، ولتبتعد عما يثير الفتنة، ولتكن المرأة المسلمة بعيدة عما عسى أن يكون سبباً للإثارة، فتحفظ دينها، ولا تحمل الرجال على النظر إليها. وعلى الجميع تقوى الله في أحوالهم كلها، ففي الوقوف عند تعاليم الشريعة سببٌ للاستقامة والثبات على الحق.
أسأل الله أن يوفقني وإياكم لما يحبه ويرضاه.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في النكاح (5232)، ومسلم في السلام (2172) من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه.
[2] أخرجه البخاري في النكاح (5233)، ومسلم في الحج (1341) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
[3] أخرجه البخاري في الحج (1862) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وهو لفظ من ألفاظ الحديث السابق.
[4] أخرجه البخاري في الإيمان (52)، ومسلم في المساقاة (1599) من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه.
[5] أخرجه البخاري في المظالم (2465)، ومسلم في اللباس (2121) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
[6] أخرجه أحمد (5/353)، وأبو داود في النكاح (2149)، والترمذي في الأدب (2777) من حديث بريدة رضي الله عنه، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب، لا نعرفه إلا من حديث شريك"، وصححه الحاكم (2788)، وحسنه الألباني في غاية المرام (183).
[7] أخرجه مسلم في الآداب (2159) بمعناه، وهذا لفظ أبي داود في النكاح (2148).
[8] أخرجه أحمد (5/264)، والبيهقي في الشعب (5431) من حديث أبي أمامة رضي الله عنه بنحوه، وأشار المنذري في الترغيب (3/23) إلى ضعفه، وقال ابن كثير في تفسيره (3/283): "وروي هذا مرفوعا عن ابن عمر وحذيفة وعائشة رضي الله عنهم، ولكن في أسانيدها ضعف إلا أنها في الترغيب، ومثله يتسامح فيه"، وقال الهيثمي في المجمع (8/63): "رواه أحمد والطبراني وفيه علي بن يزيد الألهاني وهو متروك"، وأورده الألباني في ضعيف الترغيب (1195).
[9] أخرجه البخاري في الاستئذان (6243)، ومسلم في القدر (2657) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بنحوه.
الخطبة الثانية
الحمد لله حمداً كثيرًا طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
اقبلوا أوامرَ ربكم، وابتعدوا عن نواهيه، وتأدَّبوا بما أدّبكم به ربكم في كتابه العزيز، فإن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم، هذا القرآن يهدي لكلِّ خير، هذا القرآن منهجٌ للمسلم في حياته، يتأدَّبُ بآدابه، ويتخلَّق بأخلاقه، يقف المسلم عند أوامره فيمتثلها، وعند نواهيه فينزجر عنها، ليكُن هذا القرآن منهجاً في حياتنا، فلو تدبَّرنا كلامَ ربنا وتعقَّلنا معانيَه لنلنا السعادة في الدنيا والآخرة، فالسعادة في الدنيا والآخرة إنما هي تحت ظلال القرآن وبالعمل بآداب هذا القرآن. فهذا منهج القرآن في تنظيم سلوك المسلم، ورسم الطريق السليم الذي يسير عليه، ووضعه على صراط مستقيم، يؤول به إلى الخير والسلامة. وسائل المحرمات مُنع منها وحُذِّر منها وأُبعد عنها ليكون نائياً عنها، آخذاً بالحذر، مبتعدًا عن الشر، يعلم أن عدو الله إبليس يتربَّص به الدوائر، يجري منه مجرى الدم، يحاول في كل لحظة من لحظاته أن يقلب قلبه ويضله عن الطريق المستقيم، ولكن المؤمن يبتعد عنه ملتجئاً إلى الله، آخذا بآداب هذا القرآن ليكون حِصناً له حصيناً من مكائد عدو الله، وإذا تخلف المسلم عن تلك الآداب أعان عدوَّه عليه، وأصبح عوناً لعدوه عليه، ذلك العدوّ الذي هو عدو أبينا وعدونا إلى يوم القيامة، فلنأخذ حِذرنا، ولنتأدب بآداب ربنا، ليكون سبباً لاستقامة حالنا وصلاح أحوالنا.
نسأل الله أن يوفقنا جميعاً للعمل بهذا الكتاب العزيز، والتأدب بآدابه، والأخذ بتعاليمه، والثبات على ذلك، إنه على كل شيء قدير.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله على الجماعة، ومن شذَّ شذَّ في النار.
وصلوا ـ رحمكم الله ـ على عبد الله ورسوله محمد امتثالا لأمرحيث يقول: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىّ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين...
ـــــــــــــــــــ(68/22)
رسالة المعلمين
...
...
2709
...
الأسرة والمجتمع, العلم والدعوة والجهاد
...
...
التربية والتزكية, قضايا المجتمع
...
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
...
...
الرياض
...
6/7/1423
...
...
جامع الإمام تركي بن عبد الله
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- شرف العلم وأهله. 2- عظم أمانة التعليم. 3- واجب المعلم والمعلمة. 4- التحذير من التيارات الفاسدة والقنوات المنحرفة. 5- تحصين الشباب من أعداء الإسلام. 6- خطر المنافقين. 7- ضرورة تعاون المدارس والأولياء في رعاية البنات والأبناء. 8- حث الشباب والفتيات على الجد والمثابرة.
الخطبة الأولى
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
أيها الإخوة، العلم شرفٌ لأهله، وقد رفع الله قدرَ العلماء وأثنى عليهم فقال: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ ءامَنُواْ مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ [المجادلة:11]، واستشهد بهم على أعظم مشهود عليه وهو توحيده وإخلاص الدين له: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا اله إِلاَّ هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَائِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ اله إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [آل عمران:18]، وأخبرنا تعالى أن لأهل العلم تميزاً عن غيرهم: قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُو الألْبَابِ [الزمر:9]، وأخبرنا تعالى أن أهل العلم هم أهل خشية الله ومخافته: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء [فاطر:28]، وأثنى جل وعلا على الدعاة إليه والمبلغين لشرعه: الَّذِينَ يُبَلّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً [الأحزاب:39]، وبيّن لنا نبينا أن العلم عملٌ صالح يصلُ ثوابه إلى العبد في لحده، فيقول : ((إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له))[1]، فالعلم الذي علَّمه والعلم الذي نشره والأمة التي رباها على الخير ودعاها إلى الهدى ورسم لها الطريق المستقيم، فانتفع بعلمه من انتفع، هذا العلم يجري عليه ثوابه في لحده؛ لأنه ترك عملاً صالحاً لا يزال ثوابه يصل إليه، ومن دعا إلى خير وهدى كان له من الأجر مثلُ أجور من تبعه إلى يوم القيامة لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا.
أيها المعلم الكريم، أيتها المعلمة الكريمة، بين أيديكم شباب الإسلام، بين أيديكم أولاد المسلمين ذكورا وإناثاً، بين يديك ـ أيها المعلم ـ أبناء المسلمين، وبين يديك ـ أيتها المعلمة ـ بنات المسلمين، فالحرص كل الحرص على هداية الجميع، والأخذ بأيديهم لما فيه خيرهم في العاجل والآجل.
أمانة التعليم أمانةٌ عظيمة ومسؤولية كبيرة لمن عقلها وأدَّى حقها وأخلص لله فيها فقام بها خير قيام. المعلم والمعلمة ذو الصلاح والتقى يحرص كلٌّ منهم على غرس الفضائل في قلوب أبنائنا وبناتنا، غرس العقيدة السليمة، والأخلاق الكريمة، والسيرة النبيلة.
أيها المعلم، أيتها المعلمة، الحرص على أن نقوي صلةَ أبنائنا وبناتنا بربهم وبدينهم ونبيهم، ليعظموا الله في قلوبهم، فتقوى ثقتُهم بربهم وتوكّلُهم عليه واعتمادهم عليه، نحبِّب إليهم فعلَ الخير من إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والصوم والحج، والاستقامة على الخير، بر الوالدين، وصلة الرحم، والآداب الحسنة والأخلاق الكريمة.
أيها المعلم المسلم، إن التعليم أمانة في أعناق المعلمين، والله سائلهم عن تكلم الأمانة.
أيها المعلمون الكرام، إن هناك تياراتٍ تموج بالأمة، وتعصف بها بكل جانب، هناك دعاياتٌ مضلِّلة، هناك قنواتٌ منحرفة بعيدة عن الهدى والخير، آخذة على عاتقها السعي في تفريق الأمة وتشكيكها في قيَمها وفضائلها، بل تشكيكها في عقيدتها وثوابت دينها.
أيها المعلم الكريم، إن أعظم واجب عليك أن توجِّه هذا النشء إلى الخير والصلاح، وأن تتحسَّس مشاكلَهم، وأن تعالج قضاياهم، وأن تكون عيناً ساهرةً على اتجاههم وسلوكهم ما وجدتَ لذلك سبيلا.
أيها المعلم، في هذا العصر نهضةٌ إعلامية عظيمة، ولكن كثيرا منها أو جلَّها تعادي الإسلام وعقيدتَه، وأخلاقه وقيَمه وفضائله، وللأسف الشديد قد تكون من بعض المحسوبين على الأمة والإسلام، ولكن هذه القنوات المنحرفة تسعى جاهدةً في بذل الشقاق والفرقة بين أبناء المسلمين.
أيها المعلم، إن شبابَ الإسلام اليوم يتعرَّض لحملاتٍ شرسة، ودعايات مضلِّلة، كلٌّ منها يقصد إبعادَ شبابنا عن دينه، إبعادَه عن قيمه وفضائله، بأي وسيلة تمكنهم، إما بغلوٍّ يبعدهم عن طريق الله المستقيم، فيفهمون الإسلام على غير فهمه، وعلى غير ما أريد منه، يلبسونهم ثوبَ الإسلام وقصدُهم وغايتهم إبعادُ شبابنا عن الطريق المستقيم، وإما انحراف ينأى بهم عن الطريق المستقيم، فيوقعهم في الحضيض، فينأى بهم عن الخير والصلاح.
إذاً فالمعلم المسلم يرصد هذه الأشياء، ويحاول توجيهَ الشباب، وامتصاصَ ما علق بنفوسهم من هذه الشرور والشبهات الضالة والآراء الباطلة والدعايات المضللة، يبصرهم في دينهم، يوجِّههم إلى الخير، يرسم لهم الطريق المستقيم، يحذِّرهم من الغلوّ الذي يبعدهم عن الخير، ومن الانحراف الذي يبعدهم عن الخير، وَأَنَّ هَاذَا صِراطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ [الأنعام:153].
إن أعظم ما نواجه به هذه القنوات المنحرفة أن نربيَ شبابنا، وأن نحصِّنهم من هذه الشرور، ونبَيِّن لهم الحقَّ، ونحذرهم من الباطل، ونعلمهم أن أولئك لم يقصدوا خيراً، ولم يريدوا خيراً، وإنما هم ينفذون مخططات الأعداء، ويخدمون أعداء الأمة بما يبثونه وينشرونه من الآراء المضلِّلة، بدعوة شبابنا إلى أمور تبعدهم عن الحق وتنأى بهم عن الطريق المستقيم، ليلقوا في نفوسهم أمورا ينسبونها إلى الإسلام، والإسلام بريء منها.
إن دين الإسلام دين الخير والرحمة والعدالة، ليس دينَ إجرام وظلم للعباد، ولكن أولئك يدعون شبابنا إلى أمور لا تليق بهم، وإلى أمور يريدون منها زعزعةَ كيان الأمة وتفريق كلمتها وإحداثَ الفرقة بين صفوفها.
فالواجب على رجال التعليم والواجب على المعلمات جميعاً أن تتضافر الجهود في تصحيح المفاهيم، والنأي بالأمة عن هذه القنوات الضالة، وتبصيرهم بعيوبها وأخطارها وأضرارها؛ ليكون أبناؤنا على وعي صحيح وفهم جيد، فلا ينخدعوا ولا يغترّوا.
إن المنافقين من هذه الأمة هم أضرُّ على الإسلام من كافر أظهر صراحةً كفره وضلاله، فالكافر العدو المعلن لعداوته الأمةُ على حذرٍ منه، ولكن المنافق الذي يظهر الخير والصلاح، ويتظاهر بالنصيحة والتوجيه، والله يعلم أنه خلاف ذلك، وَإِذَِا قيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِى الأرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَاكِن لاَّ يَشْعُرُونَ [البقرة:11، 12]. إن فرعون يقول عن موسى: إِنّى أَخَافُ أَن يُبَدّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِى الأرْضِ الْفَسَادَ [غافر:26]، فوصف موسى بأنه يظهر في الأرض الفساد، وفرعون مع طغيانه وكفره يرى أنه المصلح، وأن موسى هو المفسد، كرَّم الله نبيه عما يقول الضال المضل.
إذًا أيتها الأمة، فالحذر من أولئك المنافقين، من أولئك المنحرفين الضالين، الذين لا تزال أبواقهم توجَّه ضدَّ الأمة المسلمة من أمةٍ تُحسب على الأمة وهم أعداؤهم بالأخص، وهم أعدائهم الألدَّاء.
إن المعلم المسلم يحذّر شبابَنا وينصحهم ويأخذ بأيديهم لما فيه خيرهم وصلاحهم، كلما سمع مقالة أو فكرًا يحملونه من هذه القنوات الضالة حاول التصحيح، وحاول أن يقيم الاعوجاج، وحاول أن يبصِّرهم بأن ما سمعوا أمر باطل لا حقيقة له؛ لتستقيم الأمة على منهج الله.
تحصين شبابنا بالتوعية الصادقة والنصيحة الهادفة والدعوة الصالحة لننقذهم من الانخداع بكل ما يقال ويعرض. إن هذا الزمن زمن ثورة إعلامٍ عظيم، لكن الأمة يجب أن تواجه بأن تقارع الحجة بالحجة، وأن تحصِّن أبناءها بالوعي الصحيح، بالعقيدة السليمة، بارتباطها بدينها، لتكون على حذر من مكائد أعدائها الذين يتربصون بالأمة الدوائر، ويسعون في إفساد الأخلاق والقيَم والفضائل، ونسبةِ أمورٍ الإسلامُ منها بريء، ينسبونه إلى الإسلام ليروِّجوا الباطلَ والضلال، فالمعلم المسلم والمعلمة المسلمة الغيورون على الأمة وعلى شبابهم وفتياتهم يحاول المعلم وتحاول المعلمة من خلال منهج الدراسة توعيةَ الشباب وإنقاذهم من الانخراط في هذه الأمور الباطلة التي لا حقيقة لها.
فليتق المعلمون ربهم، وليحرصوا على تحصين شبابنا بالوعي السليم، بالنصيحة بالارتباط بالعقيدة السليمة، لننجو من هذه الضلالات والدعايات المضللة التي يحاول أربابها إبعادَ الأمة عن منهجها القويم، وإيقاعها في الضلالات والغوايات.
أسأل الله أن يرزق الجميع الاستقامة على طاعته، وأن يحفظ بلادنا وشبابنا من كل سوء، وأن يكفيهم شر الأشرار وكيد الفجار، إنه على كل شيء قدير.
أقول قولي هذا، أستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه مسلم في الوصية (1631) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
الخطبة الثانية
الحمد لله حمداً كثيرًا طيباً مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.
أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
أيها الآباء، وأيتها الأمهات، الحرص كل الحرص على توجيه أبنائنا وبناتنا، وحثِّهم على استقبال هذا العام الدراسي بكل جدٍّ ونشاط، أن نحرص ونهتمَّ بهم، ونرعى أمورهم، ونسأل عنهم، وهل لازموا الحضور أم لا؟
إننا إذا أهملنا هذا النشء وألقينا بالمسؤولية على المدرسة دون أن يكون منا نظرٌ وتأمّل فإن ذلك من الخطأ منا، لا بد من رعاية شبابنا وفتياتنا، لا بد من السؤال عنهم، لا بد من ارتباطٍ بمدارسهم، لا بد من سؤالٍ عنهم وعن ارتباطهم وعن مواظبتهم، وهل هذا الوقت قضي في محيط المدرسة أم كان في تسكّع في الطرقات؟ لا بد من اهتمام وتعاون بين الآباء والأمهات وبين المسؤولين من إدارات المدارس، حتى نضمن أن شبابنا استقاموا واستفادوا، وأما إهمالُهم ونسيانهم واشتغال الأب والأم بأمورهم الخاصة ونسيان ذلك النشء، هل مضى هذا اليوم وهم في أروقة التعليم أم كانوا متسكعين في الأسواق؟ لا بد من رعايةٍ، لا بد من جد ونشاط، لا بد من تعاون؛ لنضمن استقامةَ أبنائنا بتوفيقٍ من الله، وارتباطهم بتعليمهم، وأن أوقاتهم لم تذهب بشيء لا فائدة لهم فيه. وعلى المسؤولين من إدارات المدارس أن يتقوا الله، ويتصلوا بالآباء، ويُبينوا لهم قصورَ أبنائهم وتخلفَهم عن التعليم، حتى يتعاون الجميع على البر والتقوى. فالقضية لا بد فيها من تعاون، فإن التعاون سبب لتحقيق الخير بتوفيق من الله.
وعلى أبنائنا وبناتنا الجدُّ والاجتهاد، والحرص على ما ينفعهم، وأن يستغلوا أيام الدراسة بالجد والنشاط، ليقدّموا نجاحاً جيداً، فإن الأمة بأمس الحاجة إلى أبنائها المخلصين، إلى أبنائها الصادقين، إلى الذين تزوَّدوا بالعلم والمعرفة؛ ليكونوا غدا في الميدان، يعملون وينفعون، وتستفيد منهم أمتهم، أما الضياع والانفلات وعدم المبلاة فذاك ضياعٌ للشباب ومضيُّ أعمار بلا فائدة.
فيا أيها الشاب المسلم، أيتها الفتاة المسلمة، هل يرضى أحدٌ منكم أن يكرر العام الدراسي لتتحول المراحل من ست إلى اثنتي عشرة سنة، ومن اثنتي عشرة سنة إلى أكثر من ذلك، فيمضي العمر بلا فائدة؟! لا بد من جد ونشاط، لا بد لرجال التعليم والمسؤولين من حثِّ الأبناء على الصلوات الخمس، وربطهم بذلك، وتعليمهم ما ينفعهم، والتحسس من أخلاقهم، وكلما شاهدوا من بعض أبنائنا شيئاً من المخالفة تداركوا ذلك الخطأ، وحاولوا الإصلاح والتوجيه، فإنهم أمانة بيد المعلمين والمسؤولين عن إدارات المدارس، هم أمانة في أعناقهم، فيجب أن نتقي الله فيهم، وأن نحرص على استقامة أحوالهم، وصلاح أخلاقهم وأعمالهم.
أيها المعلم الكريم، عندما تشعر من بعض أبنائنا شيئاً من الأمور المخالفة للشرع فلا بد أن [تستميل] هذا الشباب، وتناقشه عن تلك الأخطاء التي ربما أوحى بها إليه من ليس عنده علم ولا بصيرة ولا روية في الأمور، من أناس يحبّون أن يزجّوا بشبابنا في أودية الهلاك، فلا بد أن نتدارك تلك الأخطاء، وأن نحرص على أن نرسم لهم خطًّا مستقيماً ومنهجاً قويماً، نبعدهم عن كل ما ينأى بهم عن الخير بكلِّ صوره؛ حتى نضمن شبابنا، حتى لا يكون للعدو علينا سبيل. الواجب أن نتقي الله فيهم، وأن نحرص على استقامتهم واحتوائهم وإبعادهم عن كل الأمور التي لا ترتبط بدينهم؛ لأن أعداءنا لا يبالون بفساد أبنائنا، إما غلوٌّ يفسدونهم [به]، وإما انحراف وبعدٌ عن الهدى، وشرعُ الله بين الإفراط وبين التفريط، بين من غلا وبين من جفا. فلا بد من حرص على هذه الأمور؛ لنحتوي شبابنا، وننأى بهم عن دعاة الشر والفساد.
وصلوا ـ رحمكم الله ـ على نبيكم محمد كما أمركم بذلك ربكم قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىّ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين...
ـــــــــــــــــــ(68/23)
نصيحة الآباء بحسن تربية البنات والأبناء
...
...
2744
...
الأسرة والمجتمع, العلم والدعوة والجهاد
...
...
الأبناء, التربية والتزكية
...
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
...
...
الرياض
...
22/1/1423
...
...
جامع الإمام تركي بن عبد الله
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- خلق الله لآدم وتكريمه إياه. 2- فضل اتخاذ الولد. 3- التحذير من فتنة الأولاد. 4- الحث على اختيار المرأة الصالحة. 5- اختيار أحسن الأسماء للأولاد. 6- عظم مسؤولية الأب. 7- وجوب الاعتناء بالتربية منذ الصغر. 8- مزيد الرعاية بالبنت. 9- سوء عاقبة التفريط في التربية. 10- المبادرة إلى علاج الانحرافات السلوكية.
الخطبة الأولى
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عباد الله، خلق الله أبانا آدم أبا البشر من تراب، خلقه بيده، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، وخلق منه زوجته، هُوَ الَّذِى خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا [الأعراف:189]، وجعله وزوجتَه مصدراً لتكوين بني الإنسان، ياأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِى خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء [النساء:1]، ياأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مّن ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُواْ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [الحجرات:13]، فمن هنا تكوّنت البشرية بإرادة الله جل وعلا.
أيها المسلمون، وشرع الله النكاح، وكان من أهدافه حصولُ الولد لامتداد بني الإنسان، واستمرارِ وجودهم إلى آخر نسمة من نسمات بني آدم، فعند ذلك تقوم الساعة.
أيها المسلم، فالولدُ امتدادٌ لحياة الإنسان، حياةٌ له بعد موته، يُكنَّى به في الدنيا، ويذكَر بعد موته بانتساب ولده إليه، ولا يزال اسمه باقياً ما بقي ذلك الولد، وتلك من نعمة الله على العباد، ولهذا نهى الله عن قتل الولد، وجعل قتلَهم من العظائم: وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا [الإسراء:31].
وكان أهل الجاهلية يقتلون الأولاد، يئدون البنات خوفاً من العار بالنسبة للبنت، وخوفاً من الفقر بالنسبة للولد، وأخبر تعالى أن رزقهم ورزقَ أبنائهم قد تكفل به جل وعلا، نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم، فالرزق بيد الله، لم يكل الله الولدَ إلى أبيه ولا الأبَ إلى ابنه، بل تكفَّل الله برزق الجميع، ولهذا يأتي الملَك للجنين بعدما يمضي عليه مائة وعشرون يوماً يكتبُ رزقَه، ويكتب أجله، ويكتب عمله أشقيٌ أو سعيد.
أيها المسلمون، فحصول الولد نعمةٌ من نعم الله على عبده، ولهذا أثنى الخليل على ربه بقوله: الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِى وَهَبَ لِى عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبّى لَسَمِيعُ الدُّعَاء [إبراهيم:39].
أيها المسلم، يفرح المسلم بالولد، وفرحُه به ليكون ذلك الولد طائعاً لله، ومؤدِّياً لما افترض الله عليه، يفرح به للانتفاع به في الدنيا، والانتفاع به بعد موته، فإن العبد بعد موته تنقطع أعماله إلا من أمور ثلاثة: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو لد صالح يدعو له.
وحذرنا الله جل وعلا أن نغترَّ بالأولاد، ونُخدع بهم، ونظنَّ أن مجرّد وجودهم هو النعمة من غير نظر للعواقب: أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِى الْخَيْراتِ بَل لاَّ يَشْعُرُونَ [المؤمنون:55، 56]، وأخبر أن الولد قد يكون عدواً لأبيه وفتنة لأبيه: ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ [التغابن:14]، وقال: إِنَّمَا أَمْوالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ [التغابن:15].
وسنة رسول الله جاءت بإرشاد الرجل إلى أن يختار شريكتَه في الدنيا من ذوات الدين والتقى، ففي الحديث: ((تنكح المرأة لأربع: لمالها، ولحسبها، ولجمالها، ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك))[1].
فالمرأة الصالحة المستقيمةُ على الخير يُرجى منها ـ بتوفيق الله ـ أن تربِّي الأولادَ بنين وبنات تربيةً صالحة وتنشئة خيِّرة بما جُبلت عليه من الفضائل والأخلاق الكريمة.
وأرشدنا إلى اختيار الأسماء الحسنة للأولاد بنينَ وبنات، فالأسماءُ الحسنة خيرٌ، ونتجنبَ كلَّ اسم فيه تزكية أو كلَّ اسم يشتمل على جفاء وغلظة، فأصدق الأسماء: حارث وهمام، وأبغضها إلى الله: حرب ومرّة، فكلُّ اسم مستحسَن فإنه يُرجى أن يكون له أثر حسن، وكلُّ اسم سيئ يُخشى أن يكون له أثر سيئ.
ثم أيها الأب الكريم، اعلم ـ أيها الأب الكريم ـ أنك مسؤول عن هذا الولد مسؤوليةً عظمى، فأنت راعٍ ومسؤول عن رعيتك، راعٍ في بيتك ومسؤول عن رعيتك، مسؤول عن الأولاد بنين وبنات، مسؤول عن التربية والتوجيه، مسؤول عن أخلاقهم وأعمالهم، فعليك بتقوى الله فيما تأتي وتذر، لتقوم بحق تلك الأمانة، ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ [التحريم:6]، ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ [الأنفال:27].
فأنت ـ أيها الأب الكريم ـ مسؤول عن هذا النشء، مسؤول عنه أمام الله، وفي الحديث: ((ما من مولود إلا ويولد على الفطرة، فأبواه يهوِّدانه أو ينصِّرانه أو يمجِّسانه))[2].
أيها الأب الكريم، تربية الأولاد تبدأ من صغرهم، تبدأ من سنينهم الأولى، التربية بإسماعهم القولَ الحسن، وإبعاد الأقوال الفاحشة والبذيئة عن مسامعهم، بأن يسمعوا منك قولاً طيباً، ويروا منك فعلاً حسناً، يسمعون من الأم الكلام الطيب، ويرون من الأم العمل الحسن، وكذلك من أبيهم قولاً حسنا وعملاً حسنا.
أيها المسلم، إن الله جل وعلا أرشدنا إلى أن نسأل ربنا صلاحَ ذرياتنا، قال تعالى في الرجل الصالح: حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبّ أَوْزِعْنِى أَنْ أَشكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِى أَنْعَمْتَ عَلَىَّ وَعَلَى والِدَىَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِى فِى ذُرّيَّتِى إِنّى تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنّى مِنَ الْمُسْلِمِينَ [الأحقاف:15]، وقال في دعاء المؤمنين: وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْواجِنَا وَذُرّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً [الفرقان:74]، ومع سؤال الله الصلاحَ والهداية لهم لا بد من سببٍ من الأبوين ليتحقَّق لهم دعاءُ الله جل وعلا، وفي الحديث: ((ما نحل والدٌ ولدَه خيراً من أدبٍ حسن))[3].
أيها الأب الكريم، الابن يتربَّى في حجرك، فاتق الله فيه، وراعِ الأخلاقَ والسلوك من الصغر، عوِّده فعلَ الخير، وأسمعه كلمةَ الخير، وتعاهده في كلِّ عام من أعوامه، وكل مرحلة انتقل إليها فلا بد لك من تعامل، فتعاملُك معه في طفولته غير التعامل بعد المراهقة، والتعامل بعد المراقبة غير التعامل في المرحلة التي بعدها، فلا بد للأب في تربيته أن يراعيَ مراحل الابن والبنت في التوجيه والتربية والإعداد الحسن، لينقل هذا الابن وتلك الفتاةُ عن الأبوين كلَّ خير وصلاح.
أيها الأب الكريم، فاتق الله في نفسك أولاً، وأصلح ما بينك وبين الله، واتق الله في ما تأتي وتذر، فإن هذا النشء يقتدون بك، ويتأسَّون بك، وينقلون أخلاقَك، فيبقى أثرها في نفوسهم، فاتق الله فيهم، وقمْ بما أوجب الله عليك.
في طفولة الطفل لا بد من الاهتمام به، وإسماعه القول الحسن، ثم بعد دخوله التعليم لا بد من رعايته، ولا بد من سؤالٍ عنه، وعن حاله وأعماله ودراسته، وعن من يجالس ومن يخالط إلى غير ذلك. فكونُ الأب يهتمُّ بالابن والبنت، هذا الابن مَن زميله؟ ومَن يجالسه؟ ومن يكون معه؟ ومَن يخالطه؟ حتى تعلمَ حاله، فتصلح الأخطاء بحكمة وبصيرة، وإقناعٍ لهذا الابن عن تلكم الأمور المخالفة للشرع، وإقناع الفتاة بذلك.
لا بد ـ يا أيها الأب الكريم ـ أن تهتمَّ بالبنت اهتماماً عظيماً، تهتمُّ بشأنها، وتهتم بسترها، وتهتمُّ بعفافها، وترعاها الرعاية المطلوبة، ثم إذا تقدَّم ذو الدين والخلق المكافئ فتحمد الله على هذه النعمة، وتزوِّجها من ترى فيه خيراً لها، ويغلب على ظنك أنه ذو صلاح وتقى، بعد استشارة الفتاة وأخذ رأيها، حتى يكون الأمر موافقاً لشرع الله.
ولا بد من عناية بالابن، وأيّ عناية؟ تعتني بأخلاقه، تحثُّه على الخير، ترغِّبه في الصلاة عندما يبلغ سبع سنين، وقبل ذلك من باب الترغيب، تأمره بها بعد السبع، وتغلظ عليه في تركها بعد العشر، ((مروا أبناءكم بالصلاة وهم أبناء سبع، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر، وفرِّقوا بينهم في المضاجع))[4] حفاظاً على أخلاقهم، لينشؤوا وقد رُبُّوا تربية صالحة طيبة.
أيها الأب الكريم، يندم البعضُ من الآباء بعد كبر الأبناء والبنات، يندمون إذا رأوا من بعض أبنائهم جفاءً وإعراضاً وسوءَ قول ومخاطبة سيئة، يندمون على ما حصل من أبنائهم، ويشكون حالَ الأبناء، وأنهم تمرَّدوا عليهم، لا يصغون لقولهم، ولا يستجيبون لأمرهم، ولا يلبُّون مطالبَهم، ولو رجع الأبُ إلى نفسه لعلم أنه مصدر الخطأ والتقصير والإساءة، أهمل التربية، ضيَّع الأخلاق، شغلته دنياهُ عن أبنائه، شغله جلساؤه عن أبنائه، سهرٌ في معظم الليل، وبعدٌ عن المنزل، وتركُ الأبناء والبنات والزوجة، ماذا يفعلون؟ وماذا يعملون؟ رقيبٌ غاب عنهم، وشُغِل عنهم بما شُغل به، ثم يندم على سوء الأخلاق وقلة الوفاء!! إنك مصدرُ الخطأ لو عدت لنفسك، فلو عدنا إلى أنفسنا وعرفنا أننا مصدر الخطأ، لأصلحنا من خطئنا، وعُدنا إلى رشدنا، فربَّينا الأبناء والبنات تربيةً إسلامية جيِّدة، وحملناهم على الخير، وكنَّا عيوناً ساهرة على أخلاقهم وأفعالهم.
أيها الأب الكريم، قد يُبتلى بعضُ الأبناء بأخلاق سيئة، إما يُبتلى بخلُق السرقة والعياذ بالله، أو يبتلى بخلق الانحراف السلوكي، أو يُبتلى بما يبتلى به، فاعلم ـ أيها الأب الكريم ـ أنك مسؤول أمام الله، أيُّ خطأ تشعر به من ابنك في أوَّل الأمر فحاول العلاج مبكراً، ولا تترك الخطأ يتمكَّن من النفس، ثم يتعذر العلاج، فالبدار البدار بمعالجة الأخطاء من الصغر، ولا تدَع غيرَك يتحكَّم فيهم، ولا تدع جلساءَ السوء يقودونهم للرذيلة، ويبعدونهم عن الفضيلة، ويعلِّمونهم طرق الشر ومسالكها.
أيها الأب الكريم، لا بد من اهتمامٍ وعناية، إن الأخطاءَ التي تقع من الأبناء الغالبُ أنها تقصيرٌ من الآباء، وإهمال من الآباء، وعدم يقظة من الآباء، هذا الولد خرج، مع من خرج؟ ومع من أتى؟ ومن صحب؟ فإن هناك فئةً ـ هدانا الله وإياهم ـ مجالستُهم بلاء، وصحبتهم شر، ومخالطتُهم سوء، فلا بد من حماية الأولاد عن تلك المجتمعات والسبل الفاسدة الهابطة، إن الحفاظ على الأخلاق والقيم من الصغر ـ بتوفيق من الله ـ ينشئ الابن على الفضائل والأعمال الطيبة.
أيها الأب الكريم، لا بد في المنزل أحياناً من اختلاف الزوجين، وسوء وجهة نظر بعضهم لبعض، فإياك أن تُشعر الأبناء بما بينك وبين أمِّهم، وإياك أن تعاتبَها أمامهم أو تضربَها كحال من لا يقدِّر قدرها أمام أبنائها وبناتها، فتلك مصيبة عظيمة، ينشؤون مبغضين لك، وموقفهم مع أمهم ضدّك والعياذ بالله، وهذا من تصرفاتك السيئة، فحاول النقاشَ بينك وبين الأم بعيداً عن الأطفال بنين وبنات، حتى لا تنعكس عليهم تلك الأمور في أنفسهم والعياذ بالله.
حاول الاتصال بالأبناء، والاختلاطَ بهم دائماً حتى تكون معهم وهم معك، يشاركونك في أكلك، يشاركونك في جلوسك، تعلم حالهم وتطمئن إليهم، [لابد أن] يظهر منك الرحمةُ والشفقة عليهم، مع العناية بالتربية، عدلٌ فيما بينهم، ثقة بهم في الحدود، عدم سوء ظنٍّ بهم في الحدود، حتى تكون التربية تربيةً طيبة، إن أحسّوا منك بالقسوة الشديدة ربما نفروا، وإن شعروا منك بعدم المبالاة ربما وقعوا في الخطأ، فلا بد أن يشعروا منك بشفقة وحنان، ثم يشعروا منك بأنك الأب المراقب عليهم، المهتمُّ بشأنهم، المعتني بأخلاقهم وفضائلهم، فتلك ـ يا أخي المسلم ـ من أسباب الصلاح بتوفيق من الله، والله جل وعلا قد رتَّب الأسباب على مسبباتها، فمن تعاطى الأسباب النافعة تحقَّق له الخير بتوفيق من الله.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في النكاح (5090)، ومسلم في الرضاع (1466) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[2] أخرجه البخاري في الجنائز (1358)، ومسلم في القدر (2658) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[3] أخرجه أحمد (4/78)، والبخاري في التاريخ الكبير (1/422)، والترمذي في البر والصلة (1952)، وعبد بن حميد في المنتخب من المسند (362)، والعقيلي في الضعفاء (3/308)، وابن حبان في المجروحين (2/188)، وابن عدي في الكامل (5/86)، والقضاعي في مسند الشهاب (1295، 1296، 1297)، والبيهقي في الكبرى (2/18) من طريق عامر بن أبي عامر الخزاز عن أيوب بن موسى عن أبيه عن جده، وأعله البخاري والترمذي والبيهقي بالإرسال، وصححه الحاكم (7679)، وتعقبه الذهبي بقوله: "بل هو مرسل ضعيف، ففي إسناده عامر بن صالح الخزاز واه"، وذكر له الألباني في السلسلة الضعيفة (1121) علة ثالثة.
[4] أخرجه أحمد (2/187)، وأبو داود في الصلاة (495)، والدارقطني (1/230)، والحاكم (1/311)، والبيهقي (2/228، 229) من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنه، وصححه الألباني في الإرواء (247).
الخطبة الثانية
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عباد الله، يقول الله جل وعلا: وَالَّذِينَ ءامَنُواْ وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مّنْ عَمَلِهِم مّن شَىْء كُلُّ امْرِىء بِمَا كَسَبَ رَهَينٌ [الطور:21].
فأخبر تعالى أن المؤمنين تتبعهم ذريتهم المؤمنة، قال جل وعلا: أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مّنْ عَمَلِهِم مّن شَىْء، فالله جل وعلا يُكرم الآباءَ فيرفع منازل الأبناء وإن قصرت بهم أعمالُهم إذا كانوا من المؤمنين، يرفعهم في درجات آبائهم إكراماً لهم، وقد يرفع درجةَ الآباء بمنزلة الأبناء إذا كان الآباء مؤمنين لكن قصرت درجتُهم عن أن يلحقوا بدرجات أولادهم، وهذا من فضل الله، وَالَّذِينَ ءامَنُواْ وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرّيَّتَهُمْ.
أيها الأب الكريم، بُلي الناس بالقنوات الفضائية المتعدِّدة التي تحمل في طياتها شروراً كثيرة، وبعض القنوات الفضائية متمحّضة لإفساد الأخلاق وتدمير القيم والفضائل، فيا أخي المسلم، حذّر البنين والبنات من النظر إلى تلك القنوات المنحرفة، القنوات المنحلَّة، القنوات التي تعرض مسلسلاتٍ إجرامية، وبرامجَ هابطة، تحارب الأخلاقَ والفضائل، وتهدم المعتقدات، وتنشر كلَّ بلاء.
بصّر الأولاد بنين وبنات بالآثار السيئة لتلكم القنوات الفاجرة التي هي دعوة للفجور والعياذ بالله، يقوم عليها شياطين الإنس ليضلوا الناس عن سواء السبيل، قنوات تحكي أخلاق المجتمعات الهابطة والمجتمعات المنحرفة، ينقلونها عبرَ الشاشات ليفسدوا بها أخلاق أبنائنا وبناتنا.
تُبالغ بعضُ هذه المحطَّات إلى أن ينقلوا العلاقات الجنسية أمام الجميع بلا خجل ولا حياء والعياذ بالله، قومٌ لا دين لهم، ولا حياء عندهم، ((إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستحِ فاصنع ما شئت))[1]. فهم لا حياء عندهم، يصنعون ما يشاؤون، وينشرون ما يهوون، ولو كان فيه إفساد للأخلاق والقيم، فحذّر النشء، حذر بناتك وأبناءك من تلكم المحطات الهابطة، واحرصْ أن تسأل وتفتِّش فإنها قنوات تنشر البلاء، تنشر هدم الأخلاق والفضائل، فلا بد أن نحصِّن أبناءنا وبناتنا من هذه القنوات بالتوعية والتوجيه، وتبيين الأخطار والأضرار لكي يقتنعوا فيتركوها عن قناعة ومعرفة بأضرارها ومفاسدها. وفق الله الجميع لما يرضيه.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله على الجماعة، ومن شذ شذ في النار.
وصلوا ـ رحمكم الله ـ على محمد امتثالاً لأمر ربكم إذ يقول: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىّ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين...
[1] أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء (3484) من حديث أبي مسعود رضي الله عنه.
ـــــــــــــــــــ(68/24)
حقوق الزوج على زوجته
...
...
2755
...
الأسرة والمجتمع
...
...
المرأة, قضايا الأسرة
...
عبد العزيز بن الطاهر بن غيث
...
...
طرابلس
...
8/1/1423
...
...
بلال بن رباح
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- بعض حِكم الزواج. 2- مما اختص به الرجال دون النساء القوامة والرسالة. 3- القوامة مسئولية توجيه وإرشاد. 4- من حقوق الزوج على زوجته (الطاعة – الاستئذان في الخروج – الأمانة). 5- ثواب القيام بهذه الحقوق وعقوبة الإخلال بها. 6- نصيحة في تربية البنات.
الخطبة الأولى
وبعد:
يقول الله تعالى في كتابه العزيز: وَمِنْ ءايَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْواجاً لّتَسْكُنُواْ إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِى ذَلِكَ لايَاتٍ لّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الروم:21].
الزواج نعمة من الله أنعم بها على عباده رحمة منه وفضلاً، وقد خلق سبحانه الكون كل الكون وفق هذه الحكمة، حكمة التزاوج يقول سبحانه: وَمِن كُلّ شَىْء خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [الذاريات:49].
وذلك لإعمار الأرض وتكاثر المخلوقات، وقد جعل الله الرجل سكناً للمرأة، والمرأة سكناً للرجل، يتعاشران في مودة ورحمة، بل جعل الرجل لباساً للمرأة، والمرأة لباساً للرجل، فقال عز من قائل: هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ [البقرة:187]، فإذا ما قامت هذه العلاقة الزوجية على ما يحب الله ورسوله من حكم وغايات دامت واستقرت وارتاح فيها الطرفان، ونتج عنها نسل طيب يفيد البلاد والعباد ويرضى عنه رب الأرض والسماوات، وإذا قامت على أسس واهية وأهواء أرضية وتعدَّى كل طرف على حقوق الطرف الآخر كانت هذه العلاقة وبالاً على الطرفين وأصبح عش الزوجية جحيماً لا يطاق وكانت الزوجة بالنسبة للزوج، والزوج بالنسبة للزوجة عدواً لدوداً بدل أن يكون سكناً في ظل المودة والرحمة، ونتج عن هذا نسل حائر بين الطرفين، ضائع هائم على وجه.
إخوة الإيمان، وحتى تكون العلاقة القائمة بين الزوجين علاقة صحيحة، وحتى لا يشوب هذه العلاقة شائبة فإن لكل طرف من الطرفين حقوقاً لابد أن يؤديها الطرف الآخر، فللزوج حقوق لابد للزوجة أن تؤديها، وللزوجة حقوق لابد للزوج أن يؤديها، نتكلم في هذه الخطبة عن حقوق الزوج.
فمن حقوق الزوج ـ عباد الله ـ حق القوامة وهو أول الحقوق، فهذا حق للزوج لا يمكن أن تقوم البيوت إلا به، والرجل بمميزاته هو الأقدر على هذا الأمر، هذه المميزات أعطاها الله للرجل لحكمة يعلمها سبحانه كما أعطى حرارة العاطفة للمرأة لحكمة يعلمها، فالرجل أقدر على أمر القوامة والقيادة.
وأهم وظيفة في الحياة: الرسالة، لا تكون إلا للرجل، فلم يجعل الله سبحانه من النساء رسولاً إلى الناس لأنه يعلم سبحانه من يصلح لهذه المهمة أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك:14]، فلا بد أن يقوم الرجل بأمر البيت ولابد أن يدير شئونه، وإذا صار الرجل في البيت تبعاً للمرأة ضاع البيت واختلت الموازين يقول سبحانه: الرّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوالِهِمْ [النساء:34].
وحق القوامة هذا لا مجال فيه للظلم والتجبر والاستعباد، يقول العلماء: إن حق القوامة حق توجيه وإرشاد وتعليم، وليس حق استبداد واستعباد وقهر وأذيَّة، فإذا اعتدت المرأة على هذا الحق وتدخلت في كل الأمور وتصرفت برعونة تنكد العيش وفسد الأبناء، وإذا تعودت على هذا استرجلت وحقَّت عليها اللعنة، روى الترمذي والبخاري في الأدب المفرد عن ابن عباس أن رسول الله قال: ((لعن الله المخنثين من الرجال والمترجلات من النساء)).
ويتفرع عن حق القوامة حق الطاعة، فعلى المرأة طاعة زوجها في كل ما يأمرها به إلا أن يكون حراماً، فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، ومن الأمور التي يجب أن تطيع فيها الزوجة زوجها، أن تطيع أوامره لها بطاعة الله ورسوله، لأن هذه من أهم مسؤوليات الرجل يقول سبحانه: ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ [التحريم:6]، فإذا دعا الرجل زوجته إلى طاعة الله سبحانه فلا يجوز لها عصيانه.
وعلى المرأة أيضاً أن تطيع زوجها في إعفاف نفسه إذا دعاها إلى ذلك، وإلا حقت عليها اللعنة يقول في الحديث المتفق عليه من حديث أبي هريرة: ((إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فأبت عليه فبات غضبان عليها لعنتها الملائكة حتى تصبح)).
وعلى المرأة أيضا عدم الخروج من البيت إلا بإذن زوجها يقول فيما اتفق عليه الشيخان من حديث ابن عمر: ((إذا استأذنت أحدكم امرأته إلى المسجد فلا يمنعها))، قال أهل العلم: إذا كان الزوج يُستأذن في الخروج إلى أهم أمر في الحياة وهو العبادة، فمن باب أولى أن يُستأّن فيما دون ذلك، لذلك لا يجوز للمرأة أن تخرج من بيتها إلا بإذن زوجها، فإذا تعوَّدت على الخروج بدون إذنه عُدّ ذلك من النشوز والتمرد.
وعلى المرأة أن تكون أمينةً على أمور زوجها، ومن هذه الأمانة أن لا تأذن لأحد أن يدخل بيت زوجها إلا برضا زوجها، روى الترمذي والنسائي عن عمرو بن الأحوص قوله : ((فأما حقكم على نسائكم فلا يوطئن فرشكم من تكرهون، ولا يأذنَّ في بيوتكم لمن تكرهون))، فإذا أخلت المرأة بهذا عرَّضت بيتها للدمار وعرَّضت نفسها للطلاق وعرضت أبناءها للضياع.
ومن لوازم الأمانة أيضاً حفظ مال زوجها، صح عنه من حديت عائشة رضي الله عنها أنه قال لهند بنت عتبة حين استأذنته في الأخذ من مال زوجها الذي يُقصِّر في الإنفاق، قال لها : ((خذي من ماله بالمعروف ما يكفيك ويكفي بنيك)). متفق عليه، فيجب إذاً أن تنفق المرأة من مال زوجها بالمعروف، ومن الأمانة حفظ زوجها في عرضه، فلا تتبذل ولا تتبرج ولا تخون زوجها في فراشه لأن في هذا غضب الله، وفساد الذرية واختلاط الأنساب، يقول تعالى في ثنائه على المؤمنات الحافظات لأزواجهن: أَمْوالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَفِظَاتٌ لّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ [النساء:34].
ومن الأمانة أيضا حفظ أسرار الزوج وأموره الخاصة وما يكون بينها وبينه، فلا تبوح بهذا حتى على سبيل المزاح لأن إفشاءها لأسراره وأموره الخاصة من خيانة الأمانة.
ومن حقوق الزوج أيضاً خدمته في البيت، فمن خصائص المرأة قدرتها على القيام بشئون البيت وما يتبعها يقول فيما رواه الشيخان عن ابن عمر: ((والمرأة راعية في بيت زوجها وهي مسئولة عن رعيتها))، وروى مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: ((كنا نُعدُّ لرسول الله صلى الله عليه وسلم سواكه وطهوره)).
وعلى الزوجة وهي تؤدي هذه الحقوق أن تستحضر أموراً منها: أن تستعين بالله في القيام بما عليها نحو زوجها، فلولا إعانة الله سبحانه لَمَا قام إنسان بطاعة، وهذا مما ييسر على المرأة القيام بواجبها، ومن ذلك أن تهيء نفسها للاستجابة فتعلم أنها مأمورة من الله سبحانه بطاعة زوجها ومعاملته بالمعروف، يقول فيما صح عنه: ((لو أمرت أحداً بأن يسجد لأحد لأمرت الزوجة أن تسجد لزوجها)). رواه ابن ماجه، والحديث في صحيح الجامع.
ومما يعينها أيضاً أن تعلم أن قيامها بهذه الحقوق الزوجية لا مكافأة له إلا مرضاة الله سبحانه، وهذا مما يزيدها في طاعة زوجها وأداء حقوقه، ومن ذلك أيضاً اتباع المرأة للأسباب التي تعينها على أداء حقوق زوجها مثل: قراءة سِيَر الصحابيات ونساء السلف الصالح وأزواج رسول الله ، فهؤلاء هن قدوة المرأة المسلمة، وليس بطلات المسلسلات والأفلام اللاتي ما فسدت البيوت إلا بتقليدهن.
ومما يعين المرأة أيضاً على قيامها بهذه الحقوق حسن النظر في العواقب الحميدة في الدنيا والآخرة من قيامها بهذه الحقوق والعواقب السيئة المخيفة إذا أخلت بها يقول : ((يا معشر النساء تصدقن وأكثرن من الاستغفار، فإني رأيتكن أكثر أهل النار، إنكن تكثرن اللعن وتكفرن العشير))، وكفران العشير هو جحد نعمة الزوج وإنكارها.
هذه عباد الله نبذة عن حقوق الزوج على زوجته، أسال الله أن ينفعنا بما سمعنا، أقول قولي هذا وأستغفر الله.
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي وفق الطائعين إلى طاعته وزادهم هدى، وجعل الجنة مأواهم ومنزلهم، وأضل من زاغ وطغى، وجعل النار له مأوى وبئس المأوى.
والصلاة والسلام على خير خلق الله المبعوث رحمة لكل الثقلين وهادياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً.
إخوة الإيمان، ذكرنا في ما سبق من الخطبة حقوق الزوج، والحقيقة أن نساءنا في أمس الحاجة إلى معرفة هذه الحقوق بعد أن أضعنها، وأصبح الزوج لا مكان لكلامه في البيت (مع العلم أنه أول المسئولين عن هذا).
فلا بد عباد الله أن نُنشىء بناتنا على هذا ونعلِّمهن هذه الأمور ونوصيهن بها، حتى تسعد الأسر وتستقر المجتمعات، وأُورد هذه الوصية رغم طولها من أم لابنتها عند زفافها لعلها تكون عبرة للسامعين، وردت هذه الوصية في كتب الأدب: قالت أم إياس بنت عوف بن محلِّم الشيباني لابنتها لما حان زفافها: "أي بنية، إن الوصية لو تُركت لفضل أدب لتركتُ ذلك لك، ولكنها تذكرة للغافل ومعونة للعاقل، ولو أن امرأة استغنت عن الزوج لِغنى أبويها وشدة حاجتهما إليها ـ كنت أغنى الناس عنه، ولكن ـ النساء للرجال خُلقن، ولهن خُلق الرجال، أي بنية إنك فارقت الجو الذي منه خرجت، وخلفت العش الذي فيه درجت، إلى وكر لم تعرفيه وقرين لم تألفيه، فأصبح بملكه عليك رقيباً ومليكاً، فكوني له أَمَةً يكن لك عبداً شكوراً، واحفظي له خصالاً عشراً يكن لك ذخراً.
أما الأولى والثانية فالخشوع له بالقناعة وحسن السمع له والطاعة.
وأما الثالثة والرابعة فالتفقد لمواضع عينه وأنفه، فلا تقع عينه منك على قبيح، ولا يشم منك إلا أطيب ريح، وأما الخامسة والسادسة فالتفقد لوقت منامه وطعامه فإن تواتر الجوع ملهبة وتنغيص النوم مغضبة.
وأما السابعة والثامنة فالاحتراس بماله والإرعاء (أي الرعاية)على حشمه وعياله، ومِلاك الأمر في المال حسن التقدير، وفي العيال حسن التدبير.
وأما التاسعة والعاشرة فلا تعصين له أمراً ولا تُفشين له سراً، فإنك إن خالفت أمره أوغرت صدره، وإن أفشيت سره لم تأمني غدره.
ثم إياك والفرح بين يديه إن كان مهتماً والكآبة بين يديه إن كان فرحاً" انتهت الوصية.
ولاحظوا ـ عباد الله ـ أمرين: أولاً: أن الوصية أتت على معظم ما ذكرنا في الآيات والأحاديث السابقة، والأمر الثاني والأغرب أن هذه المرأة التي توصي ابنتها من نساء الجاهلية فهل تكون نساء الجاهلية أحكم وأعلم من نساء الإسلام؟
أسال الله أن يردنا إليه رداً جميلاً
ـــــــــــــــــــ(68/25)
حقوق الزوجة على زوجها
...
...
2756
...
الأسرة والمجتمع
...
...
المرأة, قضايا الأسرة
...
عبد العزيز بن الطاهر بن غيث
...
...
طرابلس
...
15/1/1423
...
...
بلال بن رباح
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- تبادل الحقوق والواجبات بين الزوجين. 2- تقرير حق الزوجة على زوجها. 3- حسن العشرة أول حقوق الزوجة. 4- من حقوق الزوجة على زوجها (التوجيه والنصح والنفقة والغيرة). 5- صور من معاملة النبي لأهل بيته.
الخطبة الأولى
وبعد:
نتكلم اليوم كما سبق وأشرنا في موضوع حقوق الزوجة على زوجها، والله سبحانه جعل هذه الحقوق الزوجية متبادلة، إذا تحققت من الطرفين استقامت الحياة واعتدلت الأمور، وإذا تحققت من طرف واحد كانت الأمور مختلة وكان الظلم واقعاً على هذا الطرف، لأنه يؤدي حق غيره ولا يحصل على حقه، وإذا غابت من الطرفين فسدت الحياة الزوجية وانهارت الأسرة، ولو كنا نراها أمامنا قائمة.
والعجيب أن كلاً من الطرفين لا يرى إلا حقوقه هو، ولا يرى حقوق الطرف الآخر، فالرجل لا يشعر بحقوق زوجته ولكنه يطالب بحقوقه كاملة، والمرأة أيضاً لا تشعر بحقوق زوجها وواجبها نحوه، ولكنها تطالب بحقوقها فقط، وهذا عباد الله ليس من العدل في شيء، بل العدل أن تؤدي ما عليك وتطلب ما لك.
كلامنا اليوم موجه إلى الأزواج، نُذكِّر فيه أنفسنا وإخواننا بحقوق أهلنا، فيا أيها الزوج، إن عليك حقوقاً نحو كثير من الأطراف أنت ملزم بأدائها، ومن بين هذه الأطراف وأهمها زوجتك، وقد أقر رسول الله سلمان عندما قال لأبي الدرداء: (إن لربك عليك حقاً، ولنفسك عليك حقاً، ولأهلك عليك حقاً، فأعط كل ذي حق حقه). وقال : ((صدق سلمان)) رواه البخاري.
إن للزوجة حقوق عظيمة لأنها أقرب الناس إلى الزوج، فهي قرينته والمطلعة على أسراره وشريكته في فراشه وأم أبنائه ورفيقته في درب الحياة، فلابد أن يعرف لها حقوقها ويؤديها على أتم وجه.
إن كثيراً منا ـ عباد الله ـ يظن أنه لا حقوق لهذه المخلوقة التي كتب الله عليها أن تكون زوجة له، بل هو صاحب الحقوقٌ والتي يجب أن تؤديها له زوجته بل ويعاملها، وكأنه اشتراها بماله، فيدخل بيته فيملؤه بالصراخ والغضب حتى ولو لم يكن غاضباً، لأنه يظن أنه بذلك يفرض سيطرته، بل إن كثيراً من الرجال يكون منبسطاً بشوشاً رقيقاً مع الناس خارج البيت، فإذا دخل البيت انقلب إلى وحش كاسر، ليس لديه إلا الصراخ والأوامر والشجار لأتفه الأسباب، وهذا النوع عباد الله من شر الناس، لأن أولى الناس بحسن معاملتك وأولى الناس برحابة صدرك ولطف معشرك أهلُك وعلى رأسهم زوجتك، يقول : ((خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي)) رواه الترمذي عن عائشة، وفي صحيح الجامع من حديث ابن عباس: ((خيركم خيركم للنساء)).
وأول حقوق الزوجة على زوجها حق التوجيه، وهذا تطرقنا إليه في خطبة ماضية، فمن حقوق الزوجة على زوجها أن يوجهها إلى عبادة الله سبحانه، وقد أمر الله سبحانه رسوله عليه الصلاة والسلام بهذا، فقال عز من قائل: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا [طه:132]، فإذا لم يعط الزوج لزوجته حق النصح والتوجيه، لم تعطه هي حق الطاعة والامتثال، فهو إذاً أول المستفيدين حين يقوم بهذا الحق، وما عناء أكثر الرجال في بيوتهم إلا بسبب تضييعهم لهذا الأمر.
ومن حقوق الزوجة على زوجها حق النفقة، فلا بد للزوج أن ينفق على زوجته ولا يُقتِّر عليها، لأن حق النفقة ليس حقاً اختيارياً كما يظن الكثير من الناس، بل هو حق واجب بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم يقول سبحانه: لِيُنفِقْ ذُوسَعَةٍ مّن سَعَتِهِ [الطلاق:7]، ويقول صلى الله عليه وسلم فيما رواه الترمذي والنسائي عن عمرو بن الأحوص: ((ألا وإن حقهن عليكم أن تحسنوا إليهن في كسوتهن وطعامهن)). ويقول : ((حق المرأة على الزوج أن يطعمها إذا طعِم، ويكسوها إذا اكتسى، ولا يضرب الوجه ولا يُقبِّح، ولا يهجر إلا في البيت)) رواه الطبراني والحاكم عن معاوية بن حيدة.
ونلاحظ من هذين الحديثين أن من أهم وجوه الإنفاق والتي لا يمكن أن يُسمح فيها بالتقصير: الطعام والكسوة، فلا يحق للرجل أن يبخل على أهله في هذين الأمرين بالذات.
ومن حقوق الزوجة أيضا أن يغار عليها زوجها ويبعدها عن مواطن الزيغ والانحلال، فعدم الغيرة على الأهل تقصير في حقهن، وعدم الغيرة على الأهل من الدياثة يقول : ((ثلاثة قد حرَّم الله عليهم الجنة: مدمن الخمر والعاق والديوث، الذي يقرُّ الخبث في أهله)).
ومن حقوق الزوجة أيضاً حق المبيت، حق إعفافها وإتيانها من حيت أمر الله، فلا يجوز للزوج أن يقصر في هذا الجانب حتى لا يعرِّض زوجته للفتنة، حتى ولو كان هذا التقصير بسبب العبادة لأن لكل ذي حق حقاً يجب أن يأخذه، ولا يصح أن نؤدي حقاً على حساب حقوق أخرى، فللعبادة نصيب، وللعمل نصيب، وللزوجة نصيب، وللأبناء نصيب، يقول لعبد الله بن عمر رضي الله عنهما حين رآه يبالغ في العبادة ويجهد نفسه، يقول: ((فإن لجسدك عليك حقاً، وان لعينيك عليك حقاً، وإن لزوجك عليك حقاً)) رواه أحمد.
فانظروا إلى هذا الدين الذي ليس فيه رهبانية ولا انقطاع عن ملذات الدنيا، لا يسمح بالتقصير في إعفاف المرأة ومتعتها، حتى ولو كان ذلك بسبب العبادة، فما أرحب هذا الدين وما أيسره!
ومن حقوق المرأة حق العشرة بالمعروف يقول سبحانه وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ [النساء:19]، ويقول جل في علاه: فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَو فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ ]الطلاق:2]، والعشرة بالمعروف تقوم على النية الحسنة والمعاملة الطيبة، فلا معاشرة بالمعروف إلا بنية طيبة، فليست العبرة في أن تُبقي المرأة في بيتك أو تفارقها، فقد تبقيها في البيت وأنت لا تنوي لها خيراً، يقول سبحانه وتعالى: وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لّتَعْتَدُواْ [البقرة:231].
فأول جوانب العشرة بالمعروف النية الطيبة أي أن تكون النية مخلصة في العشرة بالمعروف، وثاني جوانب العشرة بالمعروف المعاملة الطيبة بلا ظلم أو إجحاف وقد أوردنا قوله : ((ولا يضرب الوجه ولا يُقبِّح ولا يهجر إلا في البيت)).
وجوانب العشرة بالمعروف والمعاملة الطيبة كثيرة منها: القول الطيب والملاطفة وخدمة الأهل ومساعدتهم والمزاح والتزين للأهل، إلى غير ذلك من أمور هي من أساسات العشرة بالمعروف، فلا عشرة بالمعروف بدون قول معروف يقول سبحانه: وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْنًا [البقرة:83]، وأولى الناس بهذا القول الحسن زوجتك، فما فائدة أن توزع الأقوال الحسنة على كل الناس، فإذا تكلمت مع شريكتك في هذه الحياة لم تقل إلا هَجْراً، ولم تنطق إلا كفراً.
ومن جوانب المعاملة الطيبة أن تتهيأ لزوجتك كما تتزين هي لك، فليس من العدل أن تطلب منها أن تتهيأ لك بالزينة ثم تأتيها أنت برائحة العرق ورائحة الدخان والملابس المتسخة، فإنها بشر مثلك تتأذى مما تتأذى أنت منه، وقد كان رسول الله علبه السلام يبتدئ بالسواك إذا دخل بيته حتى لا يُشم منه إلا طيّب، عن عائشة رضي الله عنها أنه ((كان صلى الله عليه وسلم إذا دخل بيته بدأ بالسواك )) رواه مسلم وأبو داود.
ومن جوانب المعاشرة الطيبة أن تعذرها إذا قصَّرت في شيء بسبب كثرة مشاغلها أو لخطأٍ بشري، وقد كان أكمل الناس في هذا، وهو قدوتنا ، فمن ذلك تقول عائشة رضي الله عنها فيما رواه البخاري: ((ما عاب رسول الله طعاماً قط، إن اشتهى شيئاً أكله، وإلا تركه))، أما عندنا ـ عباد الله ـ فكم من حالة طلاق كان سببها أن الزوجة تأخرت في إعداد الطعام أو أن الطعام لم يعجب الزوج.
أليس من المؤسف ـ عباد الله ـ أن تنهار بيوت على رؤوس أصحابها من أجل أمور بسيطة يسيرة تحتاج
منا إلى صبر وسعة صدر وخوف من الله الذي لا يحب الظلم ولا يرضاه فاحذروا عاقبة الظلم والتسرع.
أقول قولي هذا وأستغفر إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله يسر لليسرى من اتقاه، ويسر للعسرى من عصاه، والصلاة والسلام على النبي الأوَّاه محمد رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه.
وبعد:
نكمل الكلام عن جوانب المعاملة الطيبة، فمن هذه الجوانب أيضاً الملاطفة، لأن المرأة شديدة الحساسية، ملتهبة العاطفة يقول صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه من حديث أبي هريرة: ((استوصوا بالنساء خيراً، فإن المرأة خلقت من ضِلَع، وإن أعوج ما في الضلع أعلاه، فإن ذهبت تقيمه كسرته، وإن تركته لم يزل أعوج، فاستوصوا بالنساء خيراً)) متفق عليه.
فلا بد إذاً من المساعدة والملاطفة، والقدوة المثلى في هذا رسول الله عليه الصلاة والسلام، فرغم أعباء الرسالة والقيادة والوحي إلا أنه كان خير الناس مع أهله ـ بأبي هو وأمي ـ فهل تعجبون مثلاً أن يقوم بمسابقة أهله؟ عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت مع النبي في سفر قالت فسابقته (أي أجريت معه سباقا) فسبقته على رجلي فلما حملت اللحم (أي سمنت) سابقته فسبقني فقال: ((هذه بتلك السبقة)) رواه أبو داود.
بل إنه يُطيِّب خاطر زوجته حتى في أكله وشربه، عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كنت أتعرق العظم وأنا حائض (آي تأكل اللحم اللاصق بالعظم) فيأخذه رسول الله فيضع فمه حيث كان فمي، وأشرب من الإناء فيأخذه رسول الله فيضع فمه حيث كان فمي)، أخرجه ابن ماجه، وليس مقصوده من تتبع موضع فمها إلا تطييب خاطرها والتعبير عن محبته لها.
هذه ـ إخوة الإيمان ـ بعض آداب وتوجيهات رسول الله في هذا الشأن، ونحن لا نطمع أن نصل إلى هذا المستوى النبوي الرفيع في التعامل مع أهلنا، ولكن على الأقل علينا أن نبتعد عن ظلم الزوجات وأن نقيم هذه العلاقة على الاحترام المتبادل، وعلى مخافة الله ورسوله حتى نكون عادلين في تعاملنا صادقين مع أنفسنا ومع الله.
إخوة الإيمان، إخوانكم في فلسطين وفي أكناف بيت المقدس يتعرضون هذه الأيام إلى أعنف وأشد عدوان ويُشردون نساء وأطفالاً وشيوخاً، وإن مما لا نعذر فيه على أسوأ الأحوال أن يكونوا حاضرين في قلوبنا وأن ندعو لهم بظهر الغيب فلا تنسوهم من دعواتك
ـــــــــــــــــــ(68/26)
صلة الأرحام
...
...
2790
...
الأسرة والمجتمع
...
...
الأرحام
...
عادل بن عدنان النجار
...
...
الكويت
...
24/10/1421
...
...
العثمان
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- من هم الأرحام؟ 2- صور صلة الرحم. 3- فضل صلة الرحم. 4- الفرق بين المواصلة والمكافأة. 5- التحذير من القطيعة.
الخطبة الأولى
أما بعد:
عباد الله، اتقوا الله تعالى وصلوا ما أمر الله به أن يوصل من حقوقه وحقوق عباده، صلوا أرحامكم، والأرحام والأنساب هم أقارب الإنسان، كأمه وأبيه وابنه وابنته، وكل من كان بينه وبينه صلة من قبل أبيه أو من قبل أمه أو من قبل ابنه أو من قبل ابنته.
صلوا أرحامكم بالزيارات والهدايا والنفقات، صلوهم بالعطف والحنان ولين الجانب وبشاشة الوجه والإكرام والاحترام وكل ما يتعارف الناس من صلة.
إن صلة الرحم ذكرى حسنة وأجر كبير، إنها سبب لدخول الجنة وصلة الله للعبد في الدنيا والآخرة، واقرؤوا إن شئتم قول الله تعالى: إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الالْبَابِ الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلاَ يِنقُضُونَ الْمِيثَاقَ وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوء الحِسَابِ وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبّهِمْ وَأَقَامُواْ الصلاةَ وَأَنْفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّا وَعَلاَنِيَةً وَيَدْرَءونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيّئَةَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ [الرعد:19-22].
وفي الصحيحين عن أبي أيوب الأنصاري أن رجلاً قال: يا رسول الله أخبرني بما يدخلني الجنة ويباعدني من النار فقال النبي : ((تعبد الله لا تشرك به شيئاً وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصل رحمك))، فلما أدبر قال النبي : ((إن تمسك بما أمرته به دخل الجنة)).
صلة الرحم سبب لطول العمر وكثرة الرزق قال النبي : ((مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ أَوْ يُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ))، وقال النبي : ((إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْخَلْقَ حَتَّى إِذَا فَرَغَ مِنْهُمْ قَامَتْ الرَّحِمُ فَقَالَتْ: هَذَا مَقَامُ الْعَائِذِ مِنْ الْقَطِيعَةِ قَالَ: نَعَمْ أَمَا تَرْضَيْنَ أَنْ أَصِلَ مَنْ وَصَلَكِ وَأَقْطَعَ مَنْ قَطَعَكِ؟ قَالَتْ: بَلَى. قَالَ: فَذَاكِ لَكِ ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : اقْرَؤوُوا إِنْ شِئْتُمْ فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ فِى الأَرْضِ وَتُقَطّعُواْ أَرْحَامَكُمْ أَوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءانَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا [محمد:22-24])). وقال النبي :((الرَّحِمُ مُعَلَّقَةٌ بِالْعَرْشِ تَقُولُ: مَنْ وَصَلَنِي وَصَلَهُ اللَّهُ، وَمَنْ قَطَعَنِي قَطَعَهُ اللَّهُ)).
أيها الناس، إن بعض الناس لا يصل أقاربه إلا إذا وصلوه، وهذا في الحقيقة ليس بصلة فإنه مكافأة، إذ أن المروءة والفطرة السليمة تقتضي مكافأة من أحسن إليك، قريباً كان أو بعيداً، يقول النبي : ((لَيْسَ الْوَاصِلُ بِالْمُكَافِئِ، وَلَكِنْ الْوَاصِلُ الَّذِي إِذَا قُطِعَتْ رَحِمُهُ وَصَلَهَا))، فصلوا أرحامكم وإن قطعوكم، وستكون العاقبة لكم عليهم فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ لِي قَرَابَةً أَصِلُهُمْ وَيَقْطَعُونِي، وَأُحْسِنُ إِلَيْهِمْ وَيُسِيئُونَ إِلَيَّ، وَأَحْلُمُ عَنْهُمْ وَيَجْهَلُونَ عَلَيَّ؟ فَقَالَ : ((لَئِنْ كُنْتَ كَمَا قُلْتَ فَكَأَنَّمَا تُسِفُّهُمْ الْمَلَّ، وَلَا يَزَالُ مَعَكَ مِنْ اللَّهِ ظَهِيرٌ عَلَيْهِمْ مَا دُمْتَ عَلَى ذَلِكَ)).
واحذروا أيها المؤمنون من قطيعة الرحم فإنها سبب للعنة الله وعقابه كما قال الله تعالى: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ فِى الأَرْضِ وَتُقَطّعُواْ أَرْحَامَكُمْ أَوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ [محمد:22، 23]. وقد تكفل الله سبحانه للرحم بأن يقطع من قطعها حتى رضيت بذلك وأعلنته، فهي متعلقة بالعرش تقول: ((من قطعني قطعه الله)). وعن جبير بن مطعم أن النبي قال: ((لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَاطِعٌ)) قَالَ سُفْيَانُ يَعْنِي: قَاطِعَ رَحِم، وأعظم القطيعة قطيعة الوالدين ثم الأقرب فالأقرب من القرابة، ولهذا قال النبي : ((أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ؟ قُلْنَا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: الْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ)).
سبحان الله ما أعظم عقوق الوالدين وما أشد إثمه، إنه يلي الإشراك بالله، إن عقوق الوالدين قطع برهما والإحسان إليهما وأعظم من ذلك أو يتبع قطع البر والإحسان بالإساءة والعدوان.
فاتقوا الله ـ عباد الله ـ وصلوا أرحامكم، فمن كان بينه وبين رحم له عداوة فليبادر بالصلة وليعفُ وليصفح، قال تعالى: فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ [الشورى:40] وقال أيضاً: وَلْيَعْفُواْ وَلْيَصْفَحُواْ أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [النور:22].
فيا عباد الله، يا من آمنوا بالله ورسوله، انظروا في حالكم، انظروا في أقاربكم، هل قمتم بما يجب لهم عليكم من صلة؟ هل ألنتم لهم الجانب؟ هل أطلقتم الوجوه لهم؟ وهل شرحتم الصدور عند لقائهم؟ هل قمتم بما يجب لهم من محبة وتكريم واحترام؟ هل زرتموهم في صحتهم؟ وهل عدتموهم في مرضهم؟ هل بذلتم ما يجب بذله لهم من نفقة وسداد حاجة؟ فلننظر.
إن من الناس من ينظر إلى والديه اللذين أنجباه وربياه نظرة احتقار وسخرية وازدراء، يكرم امرأته ويهين أمه، ويقرب صديقه ويبعد أباه، إذا جلس عند والديه فكأنه على جمر، يستثقل الجلوس ويستطيل الزمن، اللحظة عندهما كالساعة أو أكثر، لا يخاطبهم إلا ببطء وتثاقل ولا يفضي إليهما بسر ولا أمر مهم، قد حرم نفسه لذة البر وعاقبته الحميدة، ومن الناس من لا ينظر إلى أقاربه إلا نظرة إزدراء، فيخاصمهم في أقل الأمور ويعاديهم في أتفه الأسباب.
عباد الله، اتقوا الله وصلوا أرحامكم واحذروا من قطيعتهم واستحضروا دائما ما أعد الله تعالى للواصلين من الثواب والقاطعين من العقاب.
ـــــــــــــــــــ(68/27)
الحث على صلة الرحم والتحذير من قطعها
...
...
2830
...
الأسرة والمجتمع
...
...
الأرحام
...
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
...
...
الرياض
...
26/3/1423
...
...
جامع الإمام تركي بن عبد الله
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- صلة الأرحام من أخلاق الإسلام. 2- بماذا تتحقق صلة الرحم؟ 3- صلة الرحم من الإيمان. 4- عوائق صلة الرحم. 5- الصدقة على الأرحام. 6- ثواب صلة الرحم. 7- وعيد قطيعة الرحم. 8- مظاهر القطيعة. 9- الإصلاح بين الأرحام.
الخطبة الأولى
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عباد الله، صلة الرحم خُلُق دعا الإسلام إليه، أمر بصلة الأرحام، رغّب في ذلك، بيَّن الآثار المترتِّبة على الصلة في الدنيا والآخرة، حذَّر من قطيعة الرحم، وبيَّن العقوبة المترتبة على قاطع الرحم في الدنيا والآخرة.
أيها المسلم، ففي كتاب الله وسنة نبيه أمرٌ بصلة الرحم، وترغيب في ذلك، يقول الله جل وعلا: وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِى تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ [النساء:1]، أي: اتقوا الأرحامَ بصلتكم لها، وقال جل وعلا: وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوء الحِسَابِ [الرعد:21]، وقال تعالى: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِى إِسْرءيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِى الْقُرْبَى الآية [البقرة:83].
أيها المسلم، صلة الرحم وأعني بالرحم أقاربَك من جهة أبيك وأمك، إخوانَك وأخواتِك، أعمامَك وعماتِك، أبناءَ أخيك وأبناءَ أخواتك، أبناءَ عمك، وأقاربَك من حيث الأب، أخوالَك وخالاتِك، أقرباءَ أمك، كلُّ أولئك رحم، أنت مدعوٌّ لصلة تلك الرحم.
صلتُك للرحم ـ يا أخي المسلم ـ تتمثل في أمور، فمن ذلك الإحسان إلى فقيرهم ومحتاجهم، والوقوف معه في شدائد الأمور، زيارتُك لرحمك، تحسُّسك لمشاكلهم، سؤالك عنهم، عنايتك بهم، اهتمامك بشأنهم، إظهار المحبة والشفقة والرحمة بهم، تلك أمورٌ رغَّب الشارع فيها، وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظّ عَظِيمٍ [فصلت:35].
إنها صلةٌ تجعل صلتَك بأقاربك قويةً متينة، يشعرون منك بالرحمة والشفقة والعطف عليهم، فأغنياؤهم بزيارتك لهم، سؤالك عنهم، فقراؤهم بإحسانك إليهم، فرض زكاة مالك وصدقاتك ومعروفك إليهم. وأعظم من ذلك دعوتُهم إلى الخير، وإرشادهم إلى الهدى، والأخذ بأيديهم من الانزلاق في الرذائل الأخلاقية.
أيها المسلم، هذه الصلة للرحم من واجبات الإيمان، يقول : ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليصل رحمه))[1]، فجعل صلةَ الرحم من علامات الإيمان بالله واليوم الآخر، فأكملُ الناس إيماناً من كان واصلاً لرحمه. وأخبرنا عن مكانة الرحم فقال: ((خلق الله الخلق، فلما فرغ منهم قامت الرحم فقالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة، قال: نعم، أما ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك؟! قالت: بلى، قال: فذلك لك))[2]، وفي لفظ: ((إن الرحم قالت: يا رب، أنت الرحمن وأنا الرحم، قال: أما ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك؟! قالت: بلى، قال فذلك لك))[3]. وتقول عائشة أم المؤمنين رضي الله عنهما: عن رسول الله قال: ((من وصل رحمه وصله الله، ومن قطع رحمه قطعه الله))[4].
أيها المسلم، إن صلةَ الرحم قد يحول [دونها] بعضُ العوائق، إما شحناء في النفوس أحياناً، واختلاف في وجهات النظر أحياناً، فتحمِل بعضَ الناس إلى الحقد على رحمه، وكراهية رحمه، واستثقاله لرحمه، وبعده عنه. وقد تكون المؤثرات أحياناً إما من قبل الزوجة، فتحمل زوجَها على البعد عن أرحامه وقطيعة رحمه، وتحسِّن له السوءَ، وتنقل كلَّ خطأ قاله الرحم أو فعله، لتبعد زوجَها عن رحمه، وتحول بينه وبين رحمه، فتقول: رحمُك وأقاربك قالوا: كذا، قالوا: كذا، فعلوا كذا، قالوا: كذا، لماذا؟ تريد أن تجعلها وسيلةً للحيلولة بين الإنسان وبين رحمه، ولكن المؤمن الذي يخاف الله ويتقيه يتغلَّب على تلك النزعات الشرِّيرة، ولا يُصغي إليها، ولا يقيم لها وزناً، ويتحمَّل كلَّ المشاق؛ لأن صلته لرحمه لا يريد بها جزاءً منهم، ولا ثناءً منهم، ولا كونَه فوقهم مرتبةً، ولا أن يتسلَّط عليهم بنفوذ الأمر والكلمة، كلُّ تلك لا تخطر بباله، إنما يريد من صلة رحمه قربةً يتقرَّب بها إلى الله، طاعةً يطيع الله بها، عملاً صالحاً يرجو من الله المثوبة عليه في الدنيا والآخرة، ولذا يقول : ((ليس الواصل بالمكافئ، إنما الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها))[5]، ليس الواصل الذي يقول: رحمي زارني سأزوره، رحمي دعاني سأدعوه، رحمي أهدى إلي سأهدي إليه، رحمي... لا، ولكن [الأصل] أن هذه الأمور والمكافأة بجنس ما أعطي يكون مع الرحم وغيره، فالنفوس مجبولة على حب من أحسن إليها، وعلى الإحسان إلى من أحسن، ولكن قضية الرحم تأخذ مسارا فوق هذا كلِّه، وهو أن الواصل يصل من قطعه ليدلَّ على أن تلك الصلة نابعة من إيمان صحيح، ((ليس الواصل بالمكافئ، ولكن الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها))، فإذا قطعت الرحم وأبعدت الرحم لم يرض بهذا، بل يصل من قطعه منهم، ويحسن إلى من أساء إليه منهم، ويتحمَّل كلَّ المشاقّ في سبيل إرضاء ربه جل وعلا.
جاء رجل للنبي فقال: يا رسول الله، إن لي رحماً أصلهم ويقطعونني، وأحسنُ إليهم ويسيئون إليَّ، وأحلم عليهم ويجهلون عليَّ، انظر ـ أخي ـ: أصلهم ويقطعونني، الشيطان حريص يقول: هذا القاطع لرحمك، ما بالك تصله؟! عامله كما تعامل غيرَه، هذا الذي أحسنتَ إليه وأساء إليك وجهل وسفه عليك، أعرضْ عنه وابتغ غيره، فقال له النبي : ((إن كنت كما قلتَ فكأنَّما تسفّهم الملّ ـ وهو الرماد المحترق ـ، ولا يزال معك من الله عليهم ظهير ما دمت على ذلك))[6]، أي: لا يزال معك عونٌ وتأييد من الله لك على فعلك الطيب، حيث قابلتَ القطيعة بالصلة، والإساءةَ بالإحسان، والجهلَ بالحلم.
أيها المسلم، وإن صلةَ الرحم تتمثل أيضاً في صرف الصدقات والزكوات إلى الرحم، وكون المسلم يبحث عن أقاربه: رحمُه هل فيهم مستحق للزكاة؟ هل فيهم مستحق للصدقة والإحسان؟ فهم أولى به من غيرهم، فهم أولى بإحسانك وبرك من غيرهم، وإن كان المطلوب الإحسان للجميع، لكن عند العجز فالرحم أولى بذلك.
أنزل الله قوله جل وعلا: لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَىْء فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ [آل عمران:92]، أبو طلحة الأنصاري رضي الله عنه فهم من هذه الآية ما دلت عليه، وأن الله جل وعلا أخبرنا أنَّنا لا ننال البر حتى ننفق مما نحب لله جل وعلا، فأتى النبي قائلاً: يا رسول الله، إن الله يقول: لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ، وإن أحب أموالي إلي بيرحاء، وكان حائطا قربَ مسجد النبي ، يأتيه النبي ويشرب من ماءٍ طيب فيه، فقال له رسول الله : ((سمعتُ ما قلتَ، فأرى أن تضعها في الأقربين))، فقسمها في أقاربه رضي الله عنه وأرضاه[7].
أيها المسلم، وفوق هذا أن النبي رأى المعروف العام للرحم أولى من غيرهم، ميمونة أم المؤمنين زوج النبي عندها جارية وليدة تملكها، فأعتقتها ولم تخبر النبي إلا بعدما أعتقتها، قالت: يا رسول الله، أعتقتُ وليدتي، أما علمتَ أني أعتقتُ وليدتي؟! قال: ((لو أعطيتها لأخوالك كان أفضل))[8]، فانظر: العتق الذي ثوابه أن من أعتق مملوكاً له أعتق الله بكل جزء من أجزائه جزءاً من النار، النبي رأى أن صلةَ الرحم أفضل من العتق المترتِّب عليه الثواب العظيم.
أيها المسلم، ونبينا يجعل الصدقةَ على ذي الرحم جامعةً بين أمرين، بين صدقة وصلة، فعنه أنه قال: ((إذا أفطر أحدكم فليفطر على تمر فإن فيه بركة، فإن لم يكن تمر فالماء فإنه طهور، وصدقتك على المسكين صدقة، وعلى ذي الرحم اثنتان: صدقة وصلة))[9] أي: تجمع إذا أعطيتَ الرحم الفقيرَ، أعطيتَه لكونه رحمَك ولكونه مسكيناً، فجمع لك بين أجر الصدقتين: أجر صلة الرحم وأجر الصدقة العام.
ونبينا يحثنا على صلة الرحم مبيناً لنا نوعاً من ثواب الله جل وعلا وجزائه للواصل في الدنيا والآخرة، فيقول : ((من أحب أن يبسط له في رزقه وينسَأ له في أثره فليصل ذا رحمه))[10]، إذاً فصلة الرحم سبب لبركة الرزق، وسبب لبركة العمر، إما زيادةً فيه، أو بركة في لياليه وأيامه وتوفيقاً لعمل صالح.
أيها المسلم، وإن صلة الرحم ثوابُها عاجل في الدنيا والآخرة، يقول : ((ما من طاعة يعجَّل ثوابها مثل صلة الرحم، وإن القوم ليكونون فجاراً فيصلون أرحامهم فتثرُو أموالهم ويكثر عددهم بصلتهم، وما تواصل رحمٌ فاحتاجوا))[11] يعني: أن صلةَ الرحم بركة في المال، بركةٌ في الولد، وأن المتواصلين يغنيهم الله، ويمدّهم بتوفيقه، فلا يحتاجون إلى غيرهم؛ لأن هذه الصلة جلبت لهم البركةَ في الدنيا، وما عند الله خير وأبقى لأهل الإيمان المخلصين لله في أعمالهم.
أيها المسلم، إن في الصلة ـ لا شك ـ مشقةً وكلفة وتعباً، لكن المؤمن يتغلَّب على هذه كلها بتوفيقٍ من الله له، وأما أن يسترخي العبد، ويقول: الأمر متعب، من أتاني أكرمته، ومن بعد عني فلست مسؤولاً عنه، نقول: لا، هذا أمر مخالف للشرع، فالسنة للمسلم أن يبحث عن رحمه، أن يصل رحمَه الصلةَ الإيمانية التي يرجو بها ما عند الله من الثواب، صلةً يرجو بها ما عند الله من الثواب مع الصبر والتحمل لما عسى أن يلقاه، لكن كل شيء يهون على المؤمن إذا كان سعيه في سبيل الله، فيهون التعب والمشقة، ويتحمل كل الأذى؛ لأنه يرجو بما عمله ما عند الله من الثواب للواصلين، يرجو بما عمله ثوابَ الله للواصلين، والله جل وعلا لا يضيع أجرَ من أحسن عملاً، فمن صدق اللهَ في تعامله فإن الله يوفّقه ويعينه، والله يقول: فَلَوْ صَدَقُواْ اللَّهَ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ [محمد:21].
فعلى المسلمين أن يتواصوا بصلة الرحم فيما بينهم، وأن يتقوا الله في ذلك، ويخلصوا لله في العمل، ويتعاونوا جميعا على البر والتقوى، أسأل الله أن يوفقني وإياكم لصالح القول والعمل.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] جزء من حديث أخرجه البخاري في الأدب (6138) عن أبي هريرة رضي الله عنه، وأخرج مسلم أصله في الإيمان (48) وليس فيه هذا الجزء.
[2] أخرجه البخاري في الأدب (5987)، ومسلم في البر (2554) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[3] أخرج أحمد هذا الحديث (2/498)، وفي بعض ألفاظه: ((قال الله عز وجل: أنا الرحمن، وهي الرحم، شققت لها من اسمي، من يصلها أصله، ومن يقطعها أقطعه فأبته)).
[4] أخرجه البخاري في الأدب (5989)، ومسلم في البر (2555) بمعناه.
[5] أخرجه البخاري في الأدب (5991) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
[6] أخرجه مسلم في البر (2558) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[7] أخرجه البخاري في الوصايا (2769)، ومسلم في الزكاة (998) من حديث أنس رضي الله عنه بنحوه.
[8] أخرجه البخاري في الهبة (2592)، ومسلم في الزكاة (999) من حديث ميمونة رضي الله عنها بنحوه.
[9] أخرجه أحمد (4/214)، والترمذي في الزكاة (658)، والنسائي في الزكاة (2582)، وابن ماجه في الزكاة (1844) من حديث سلمان بن عامر رضي الله عنه، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وصححه ابن حبان (3514)، والحاكم (1/431-432)، ووافقه الذهبي، لكن في السند الرباب بنت صليع الضبية الراوية عن سلمان، قال الذهبي في الميزان (7/468): "لا تعرف إلا برواية حفصة بنت سيرين عنها"، وقال ابن حجر في التقريب (8582): "مقبولة".
[10] أخرجه البخاري في الأدب (5986)، ومسلم في البر (2557) من حديث أنس رضي الله عنه.
[11] أخرجه الطبراني في الأوسط (1092) من طريق محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه بنحوه، وقال: "لم يرو هذا الحديث عن محمد بن عمرو إلا أبو الدهماء، تفرد به النفيلي"، وأبو الدهماء هذا ذكره ابن حبان في المجروحين (3/149) وقال: "شيخ من أهل البصرة، يروي عن محمد بن عمرو، روى عنه أبو جعفر النفيلي، كان ممن يروي المقلوبات، ويأتي عن الثقات بما لا يشبه حديث الأثبات، فبطل الاحتجاج به إذا انفرد"، وقال الهيثمي في المجمع (8/152): "فيه أبو الدهماء البصري، وهو ضعيف جدا".
الخطبة الثانية
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عباد الله، حذرنا الله من قطيعة الرحم، وبيَّن الوعيدَ الشديد المترتِّبَ على القطيعة في الدنيا والآخرة، يقول الله جل وعلا: وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِى الأرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوء الدَّارِ [الرعد:15]، ويقول جل وعلا: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ فِى الأَرْضِ وَتُقَطّعُواْ أَرْحَامَكُمْ أَوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ [محمد:22، 23].
يا أخي المسلم، هذا وعيدٌ شديد، أيرضاه المسلم لنفسه؟! أن يكون معرّضاً نفسه للعنة الله وغضبه وسخطه؟!
قطيعةُ الرحم تتمثل في أمور، أولاً: البعد عن الرحم، كراهيتهم، بغضُهم، عداوتهم، البحث عن عيوبهم، محاولة مخاصمتهم ومجادلتهم، إيذاؤهم بأنواع الأذى. قد ذكر الله لنا عن ابني آدم وكيف آل الأمر إلى أن قتل أخاه والعياذ بالله، ولهذا ينبغي للمسلم الحذر، وأن لا يسترسل مع وساوس عدو الله وشياطين الإنس الذين يحاولون التفريق بين الأرحام، وإحداث الشقاق والعداوة والقطيعة بينهم، لغرضٍ ما من الأغراض، فليحذر المسلم ذلك، وليعلم أن هذه القطيعة سببٌ للعذاب في الدنيا والآخرة، في الدنيا عقوبة القاطع عاجلة والعياذ بالله، في الحديث: ((ما من ذنب أحرى أن يعجِّل الله لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما ادَّخر له في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم))[1]. فالباغي على الناس الظالمُ لهم يعجِّل الله عقوبتَه في الدنيا مع ما أعدّ له في الآخرة من العذاب، القاطعُ لرحمه يعجِّل الله له العقوبة في الدنيا، فيُذهب بركةَ عمره وبركة ماله وبركةَ ولده، وينزع محبته من قلوب الناس، فيصبح شقياً بين رَحِمِه، لا يؤلّف لا يَألف ولا يُحِبُ ولا يُحبّ، إن مرض ما حزنوا عليه، وإن مات لم يندموا عليه؛ لأنهم لو يروا منه إحساناً ولا شفقة، قد يكون ماله كثيراً وخيرُه عميماً لكن الله يجعلها ثقيلة عليه، ربما أنفق الملايين في الباطل، ولكن درهم على رحمٍ يراه ثقيلا وشاقاً عليه، وتلك من أنواع العقوبة والعياذ بالله.
فعلى المسلم أن يحذر من ذلك ويتقي القطيعة قدرَ ما يستطيع، فعسى الله أن يوفقه للخير.
نبينا من أعظم الخلق صلةً لرحمه ومواساةً لهم وصبراً عليهم، أُسِر عمّه العباس يوم بدر، أسره المسلمون يوم بدر، فكان في قيده، فكان في ليله يئنّ مما هو فيه، فلما سمع المصطفى صوتَ عمه وما هو فيه من الأنين، أنه مأسور من جملة المأسورين، ما ذاق نوماً تلك الليلة، وما ارتاح في تلك الليلة، فلما أصبح عرض على الصحابة أن يفكّوا أسر عمه؛ لأنه عمه ، ففكّه الصحابة وفداه النبي [2]. وكان أرحمَ الخلق للخلق وأحسنهم، ولا سيما لرحمه، كان محسناً إليهم رفيقاً بهم حليماً عليهم رغم ما أصابه منهم، إلا أن حِلمه وسعهم صلوات الله وسلامه عليه أبداً دائماً إلى يوم الدين.
إن صلةَ الرحم خلقٌ حميد، خُلق دعا الإسلام إليه ورغَّب المسلمين فيه، سنَّة كاد الناس أن يهجروها إلا من عصم الله، وكادت أن تختفي من كثير من الناس، حبُّ الدنيا والتنافس فيها هو الذي أوصلَ الناس إلى ما أوصلهم إليه.
كان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه ينهى عن فصل الخصومة بين الأرحام، ويقول: (إن في الفصل بين خصومة الرحم سبباً للقطيعة)[3]، فيرجئ الخصومةَ عسى أن يصطلح الأرحام.
إن المشاكلَ المادية يمكن التغلبُ عليها بالصدق والأمانة وعدمِ الطمع فيما بأيدي الغير، ولكن الشيطانَ ينزغ بين الناس؛ فاختلافٌ على وصايا، واختلافٌ على أوقاف، واختلافٌ في الميراث، يكون أحياناً سبباً للنزاع مع أن كلاً لن يأخذ إلا ما يستحق، لكن الشيطان ووساوسه وقاصرو النظر ومن لا إيمان عندهم يشعِلون نارَ الفتنة بين الأرحام في سبيل النزاع على أمور مادية، لو عقل الجميع وتفكروا لانحلَّت المشاكل بدون هذه الخصومات والنزاعات، نسأل الله أن يجمع قلوبَ الجميع على طاعته، وأن يعيذنا جميعا من نزغات الشيطان إنه على كل شيء قدير.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله على الجماعة، ومن شذ شذ في النار.
وصلوا ـ رحمكم الله ـ على نبيكم محمد امتثالاً لأمر ربكم، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىّ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين...
[1] أخرجه أحمد (5/36)، وأبو داود في الأدب (4902)، والترمذي في صفة القيامة (2511)، وابن ماجه في الزهد (4211) من حديث أبي بكرة رضي الله عنه، وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وصححه ابن حبان (455، 456)، والحاكم (2/356)، ووافقه الذهبي، وهو في السلسلة الصحيحة (918).
[2] أخرجه بنحوه ابن عائذ في المغازي من طريق مرسل كما في فتح الباري (7/322).
[3] أخرجه عبد الرزاق في المصنف (8/303)، وابن أبي شيبة (4/534) بلفظ: (ردوا الخصوم حتى يصطلحوا)، وضعفه ابن حزم في المحلى (8/164).
ـــــــــــــــــــ(68/28)
الحرص على تعليم الأهل
...
...
2850
...
الأسرة والمجتمع, العلم والدعوة والجهاد
...
...
الأبناء, التربية والتزكية
...
عبد المجيد بن عبد العزيز الدهيشي
...
...
المجمعة
...
2/5/1420
...
...
الجامع القديم
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- مسئولية رب الأسرة في تربية أسرته. 2- النجاة يوم القيامة مقرونة بالطاعة والإنابة. 3- أهمية تعليم الأبناء ما يلزمهم في دينهم. 4- التحذير من التقصير في مسئولية الأبناء.
الخطبة الأولى
أما بعد: فقد جبلت النفوس على حب الخير والسعي إليه، كما جبلت على التجافي عما فيه مضرة أو أذى، وهذه فطرة إلهية وغريزة إنسانية لا ينفك عنها ابن آدم، بل كل دابة في الأرض كذلك، وما ظنكم يا عباد الله لو وقع حريق في طرف بيت أحد من الناس وفيه أهله وعياله، أيقف مكتوف اليدين يتأمل في هذا الحريق ويعجب من سرعة التهام النار لما أمامها، ويدع أهله وعياله وشأنهم، أم أنه سيهرع مذعوراً مرعوباً محاولاً إطفاء النار إن استطاع، باذلاً جهده في إنقاذ أهله مشفقاً على عياله أن تمسهم النار فتصيبهم بأذى أو تلحق بهم عاهة تدوم، بل قد يضحي بالمال والغالي والنفيس في سبيل نجاة نفسه وإنجاء أهله وعياله، إن الجواب معلوم بلا شك، هذا في نار الدنيا التي قد لا تدوم، وقد يشفى من ألمت به، فما ظنكم بنار عظيمة موقدة وقودها الناس والحجارة قال الله تعالى عنها: ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَّ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6].
إن تبعة المسلم في نفسه وفي أهله تبعة ثقيلة رهيبة، فالنار هناك وهو متعرض لها هو وأهله، وعليه أن يحول دون نفسه وأهله ودون هذه النار التي تنتظر هناك، إنها نار فظيعة مستعرة وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ الناس فيها كالحجارة سواء، في مهانة الحجارة، وفي رخص الحجارة وفي قذف الحجارة، دون اعتبار ولا عناية. وما أفظعها ناراً هذه التي توقد بالحجارة، وما أشده عذاباً هذا الذي يجمع إلى شدة اللذع المهانة والحقارة، وكل ما بهذه النار فظيع رهيب عَلَيْهَا مَلَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ تتناسب طبيعتهم مع طبيعة العذاب الذي هم به موكلون لاَّ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ، وعلى المسلم أن يقي نفسه وأن يقي أهله من هذه النار، وعليه أن يحول بينها وبينهم قبل أن تضيع الفرصة ولا ينفع الاعتذار، فها هم أولاء الذين كفروا يعتذرون وهم عليها وقوف، فلا يؤبه لاعتذارهم، بل يواجهون بالتيئيس ياأَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُواْ لاَ تَعْتَذِرُواْ الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [التحريم:7]، فكيف يقي المؤمنون أنفسهم وأهليهم من هذه النار؟
إن الله سبحانه يبين هذا الطريق ويطمع عباده فيما عنده من المغفرة والتوبة فيقول بعد هذه الآية مباشرة: ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ تُوبُواْ إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفّرَ عَنكُمْ سَيّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ يَوْمَ لاَ يُخْزِى اللَّهُ النَّبِىَّ وَالَّذِينَ ءامَنُواْ مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلّ شَىْء قَدِيرٌ [التحريم:8]، وبين هذين المصيرين مصير أهل النار ومصير أهل الجنة يقف المسلم بنفسه وأهله، فمن أراد الجنة فليعمل لأجلها، وليسلك طريقها، وإلا فالنار، هناك نار مستعرة وقودها الناس والحجارة، وما أسعد المؤمن حين يصطحب معه أهله في جنات النعيم إن هم صلحوا وأطاعوا جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ ءابَائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرّيَّاتِهِمْ [الرعد:23].
إن نجاة العبد من هذه النار تحصل بطاعة الله سبحانه والبعد عن مناهيه، وإن إنجاء الأهل ووقايتهم من هذه النار العظيمة تكون بتعليمهم ما يلزمهم من طاعة الله سبحانه وتحذيرهم من معاصيه، وبالحرص الدائب على إبعاد وسائل الشر والإفساد عنهم، وما أكثرها في هذا الزمان.
ألا وإن من أهم ما ينبغي تعليمه للأهل والعيال إيضاح حدود الله تعالى التي لا يجوز تعديها، وتبيين أحكام الله تعالى التي تهمهم وتتعلق بهم لا سيما النساء والبنات، فقد يمنعهن الحياء عن السؤال وطلب الفهم، أو لا تجد من يعينها على معرفة أحكام الله تعالى، في ظل غفلة الأب والزوج الذي يظن عدم الحاجة إلى ذلك، أو أن هذه الأمور مما لا يخفى على أحد، وتكمن الخطورة فيما لو تعلق الجهل بأحكام العقيدة، ونواقض الإسلام، فلربما خرج مسلم من الدين من حيث لا يشعر لارتكابه ما يناقضه مما لا يعذر فيه المسلم بالجهل.
فاتقوا الله أيها المؤمنون، وتفقدوا من حولكم من الأهل والعيال، فإنكم مسؤولون عنهم، ((كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته، الإمام راع ومسؤول عن رعيته، والرجل راع في أهله ومسؤول عن رعيته)) متفق عليه، بل إنه يقول محذراً عاقبة الإهمال والتساهل: ((ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة)) متفق عليه.
فكونوا على حذر من ذلك يا عباد الله وأدوا الأمانة التي حملتم إياها، ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أَمْوالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ [الأنفال:27، 28].
اللهم أعنا على ذكرك...
رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْواجِنَا وَذُرّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ [الفرقان:74].
الخطبة الثانية
أما بعد: فاتقوا الله ربكم وأطيعوه تفلحوا وتسعدوا.
أيها المؤمنون، إن الحاجة ماسة إلى تعليم الأهل والعيال ما يمكنهم من أداء ما أوجب الله عليهم، ولا سيما ما قد يخفى على الكثير منهم، ومن ذلك ما يتعلق بالبلوغ، وكيف أن المسلم والمسلمة مسؤول عن نفسه متى ما وصل سن البلوغ.
وإن أهم ما تحتاج إليه الفتاة في بداية بلوغها أن تدرك أحكام البلوغ وتعرف العلامات الشرعية له، وأن تعلم أحكام الطهارة والغسل من الجنابة، وأن تفقه الأحكام المتعلقة بالحيض من وجوب ترك الصلاة والصوم، وأنها تقضي الصوم لا الصلاة، ونحو ذلك من المسائل المتعلقة بأمور النساء، فقد يمنعهن الحياء عن السؤال، وهذا واجب الأب والأم أن يقوما بتعليم أولادهما ما يهمهم، وإن وسائل تعليم هذه الأمور كثيرة متيسرة بحمد الله، فمن ذلك إحضار الأشرطة والكتيبات المناسبة التي تتعرض لهذه الموضوعات بأسلوب واضح مناسب، ومن ذلك الحرص على البرنامج الإذاعي المهم.. نور على الدرب، ولو صارحت الأم ابنتها في مثل هذه الأمور لكان حسناً، ولا حياء في الدين.
ـــــــــــــــــــ(68/29)
الطلاق (1)
...
...
2854
...
الأسرة والمجتمع, فقه
...
...
الطلاق, قضايا الأسرة
...
عبد المجيد بن عبد العزيز الدهيشي
...
...
المجمعة
...
24/6/1421
...
...
الجامع القديم
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- قسوة الطلاق على المرأة. 2- الطلاق آخر حلول المشاكل الأسرية. 3- معالجة الإسلام لنشوز المرأة ومشاكل البيت. 4- الطلاق لأسباب تافهة.
الخطبة الأولى
أما بعد: فإن لكل منزل يألفه الإنسان موقعاً في النفس لا يمحى مع الزمن، وكلما كانت الذكريات السابقة المرتبطة بهذا المنزل جميلة كان التعلق به كبيراً، فمن يكره تذكر أيامه الخوالي في مراتع صباه وأماكن لهوه أيام الطفولة، ألا يستلذ أحدنا بسماع الحديث عن تاريخ أسرته وأيام والديه ومعاناتهما في الحياة؟ ألا يشتاق بعضنا إلى رؤية منزل الآباء والأجداد؟ ومهما تنقل القلب بين المنازل والمرابع فإن للمنزل الأول مكاناً في القلب لا يزاحمه موضع آخر.
ولرب منزل يألفه الفتى وحنينه أبداً لأول منزل
ولو كان لأحدنا رفقة صحبهم منذ أيام الصغر وكان له معهم أيام وليال ملاح، تشاركوا في الحديث والأنس أوقاتاً طويلة، ألف بعضهم بعضاً، واستعذبوا لقاءاتهم المتكررة وجلساتهم الدورية في الأسبوع مرة أو مرتين، وفجأة ينقطع حبل الوداد ويتصرم رباط الصداقة والزمالة بفعل فاعل أو تدبير حاقد أو تصرف أرعن، ألا يكون لهذا الفراق لوعته، وتبقى الذكريات محفورة في النفس؟
هذه صورة ربما شعر بها بعضنا، وهناك صورة أخرى نحتاج إلى تصورها واستشعار مقدار المعاناة فيها.
هذه امرأة عاشت في بيتها آمنة مطمئنة، سعيدة في منزلها حامدة لربها، قائمة بحق زوجها، تأنس بأولادها، تداعب هذا وتضاحك ذاك، تطعم صغيرها وترعى بيتها، وتتفقد حال زوجها، تطيعه إذا أمر، تفقده إن أطال السهر، وإن غاب عن البيت توجس قلبها، وخافت على زوجها الخطر، يسرها مرأى صغارها وهم يذرعون البيت مشياً ولعباً، تشعر وكأن بيتها قطعة من قلبها، امتزجت مشاعرها حباً لأطفالها وامتناناً لزوجها وتعلقاً ببيتها، وفجأة يتكلم الزوج بكلمة واحدة تقلب البيت رأساً على عقب، كلمة واحدة كانت كفيلة بإزالة جبال من المودة والحب، كلمة واحدة مكونة من أربعة أحرف تنطلق من لسان الزوج، فتصيب المقاتل في الزوجة والأولاد، فإذا بالزوجة تعد حقائبها، وتودع أولادها وتلقي النظرة الأخيرة على بيتها، بل عشها الذي امتزج بعرقها وعمل يدها وتشربت في نفسها رائحة بيتها المميزة، تتأمل في وجوه صغارها الذين أسكتتهم الصدمة، وتقرأ في أعينهم عبارات الحسرة والخوف من المستقبل القادم، تتمنى أن لم تخلق فترى وتعاين هذه اللحظات العصيبة على كل أم رؤوم، يتقطع قلبها أسى وحسرة على فلذات أكباد تودعهم اليوم، ولا تدري عن القلب الذي سيعوض أولادها حنانها وعطفها، وهل هناك قلب يتدفق شفقة ورقة أكثر من قلب الأم.
بالله عليكم أي شعور يكنه الأولاد وهم يرون أمهم تغادر عشهم، فتدعهم مع أبيهم الذي استعجل بالفراق وأقدم على أخطر قرار يتخذه رب أسرة وذو عيال، أي شعور يحس به الأولاد نحو أبيهم الذي حرمهم لذة العيش مع الأم وجعلهم في موقف لا يتمناه عاقل، فضلاً عن أن يفكر فيه قلب غض طري لم يذق بعد معاناة الحياة، ولم يمسه شيء من نكد الدنيا وكبدها الذي لا يستغرب لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِى كَبَدٍ [البلد:4]، أي مستقبل ينتظر هذه الأم التي أفنت شبابها وقضت زهرة عمرها مع زوجها، فلما تقدم بها العمر وكثر عيالها، واحتاجت إلى وقفة زوجها، إذا بها تتلقى هذا القرار الصارم بالخروج من هذه العيشة وانتقال إلى دار أخرى وعيشة مختلفة مع لقب جديد ربما عيرت به، أو ظن بها التقصير والعجلة وإهمال الحقوق، فهي مطلقة وكفى، وما أقسى نظرة المجتمع إلى هذا اللقب؟
عباد الله، الطلاق حل شرعي يلجأ إليه الزوجان عند استحالة العيش سوياً، ولكنه ليس أول خطوة في علاج المشاكل الزوجية، فالله تعالى يقول: الرّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَفِظَاتٌ لّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِى تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِى الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ حَكَماً مّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلَاحاً يُوَفّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً خَبِيراً [النساء:34، 35]، فهاتان الآيتان تشيران إلى قوامة الرجل وأنه حاكم البيت وقائده، إذ لا بد لكل تجمع من قائد يسوسه ويحوطه وينطق باسمه، وقد استحق الرجال هذه الصفة لما ميزهم الله تعالى من القدرة البدنية والنفسية والمالية، ودور المرأة حفظ نفسها ومراعاة منزلها وصون حرماته، ومتى خيف من المرأة النشوز والنفور من زوجها أو ظهرت معالمه، فأول علاج هو الوعظ والتذكير بحق الزوج، أخرج الإمام أحمد رحمه الله عن الحصين بن محصن أن عمة له أتت النبي في حاجة ففرغت من حاجتها فقال لها النبي : ((أذات زوج أنت؟)) قالت: نعم قال: ((كيف أنت له؟)) قالت: ما آلوه إلا ما عجزت عنه قال: (( فانظري أين أنت منه فإنما هو جنتك ونارك)).
كما تُذكر الزوجة الناشز بخطورة الشقاق وأثره السيئ على الزوجين والأولاد، فإن لم يُجْدِ معها هذا العلاج المبدئي استعمل الزوج علاجاً ثانياُ وهو الهجر في الفراش عند النوم، فإن لم ينفع هذا الأسلوب معها لجأ الزوج إلى الضرب الخفيف غير المبرح، فليس ضرب تشف أو حقد أو تصفية حسابات، بل هو ضرب لطيف يشعر بشيء من القسوة والجدية في الموضوع، وليس المقصود منه الإيلام، ومع ذلك فإن للضرب نطاقاً ضيقاً لا ينبغي تجاوزه فقد أخرج أبو داود (1834)، عَنْ إِيَاسِ ابْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي ذُبَابٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : ((لَا تَضْرِبُوا إِمَاءَ اللَّهِ)) فَجَاءَ عُمَرُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ فَقَالَ: ذَئِرْنَ النِّسَاءُ عَلَى أَزْوَاجِهِنَّ، فَرَخَّصَ فِي ضَرْبِهِنَّ، فَأَطَافَ بِآلِ رَسُولِ اللَّهِ نِسَاءٌ كَثِيرٌ يَشْكُونَ أَزْوَاجَهُنَّ فَقَالَ النَّبِيُّ : ((لَقَدْ طَافَ بِآلِ مُحَمَّدٍ نِسَاءٌ كَثِيرٌ يَشْكُونَ أَزْوَاجَهُنَّ، لَيْسَ أُولَئِكَ بِخِيَارِكُمْ)).
فإذا استعمل الزوج هذه الأساليب في العلاج ولم يُجْد شيئاً جاء دور التدخل الخارجي هنا، أما الأساليب الثلاثة الماضية فهي تتم داخل بيت الزوجية وبين الزوجين وحدهما دون تدخل طرف آخر، لا والدي الزوجين ولا قريباتهما، والتدخل الخارجي يتمثل في اختيار حكمين صالحين قريبين من الزوجين، يهمهما الإصلاح بينهما وتلمس سبب النزاع والشقاق وبذل الجهد في ذلك، وفي ذلك يقول سبحانه: وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ حَكَماً مّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلَاحاً يُوَفّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً خَبِيراً [النساء:35].
والصلح بين الزوجين مرغب فيه شرعاً، فلأحدهما أن يقدم مالاً أو يتنازل عن بعض حقوقه في سبيل المحافظة على رباط الزوجية، وفي ذلك يقول سبحانه: وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ [النساء:128]، ويقول: وَإِن تُصْلِحُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً [النساء:129]، ومتى استحكم النزاع والخلاف وانسد باب الإصلاح وتعذر الوفاق يأتي العلاج الأخير لهذه المعضلة، وهو الطلاق والفراق، فهو علاج ناجع، ولكن يسبقه مراحل علاجية وجرعات متفاوتة، ومتى وقع الطلاق بهذه الطريقة كان الزوجان حريين بأن يتحقق لهما الوعد الكريم وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلاًّ مّن سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ واسِعاً حَكِيماً [النساء:130]، فأرزاق الله متوافرة ونعمه متواصلة، وهو سبحانه قادر على أن ييسر للزوج المطلِّق زوجاً أخرى يأنس بها ويرتاح لعشرتها، كما أنه سبحانه قادر على أن يرزق المطلقة زوجاً كريماً يحفظها ويوفر لها عيشة كريمة تنسيها ما سبق من العلاقة المتعثرة. والله تعالى حكيم بعباده عليم بما يصلحهم، وفي التزام ما شرعه الخير والفلاح للجميع، فلله الحمد أولاً وآخراً.
الخطبة الثانية
أما بعد: فما أشد حاجة الأزواج الذين يعانون من زوجاتهم إلى معرفة العلاج الشرعي للنشوز والشقاق بين الزوجين، والحاجة ماسة للتقيد بما شرعه الله تعالى، لما في ذلك من حفظ المودة ورد الجميل، والرفق بالأولاد، فحين يتم الطلاق بعد استنفاد تلك الوسائل العلاجية، يكون قد اتخذ قراره بهدوء وترو، أما إذا كان الطلاق لأدنى مشكلة وأدنى تقصير فهنا الطامة، فنعجب إن سمعنا خبر زوج طلق زوجته بسبب وجبة أو عناد في أمر حقير.
أيها الناس، للطلاق أحكام شرعية وآداب لا بد من مراعاتها، تمس الحاجة إلى معرفتها والتقيد بها، ومتى غفل الناس عنها فقدوا ما في تشريع الطلاق من الحكمة والرحمة بالزوجين والأسرة والمجتمع قاطبة، ولي عودة إليها بإذن الله تعالى.
ـــــــــــــــــــ(68/30)
الطلاق (2)
...
...
2855
...
الأسرة والمجتمع, فقه
...
...
الطلاق, قضايا الأسرة
...
عبد المجيد بن عبد العزيز الدهيشي
...
...
المجمعة
...
2/7/1421
...
...
الجامع القديم
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- الوفاء خلق كريم. 2- الوفاء بشروط عقد النكاح. 3- الصفة الشرعية للطلاق. 4- طلاق الثلاث بلفظ واحد. 5- حق المطلقة الرجعية.
الخطبة الأولى
أما بعد: فاتقوا الله ربكم، واجعلوا تقوى الله مطيتكم، فما خاب من اتقى الله لا في الدنيا ولا في الآخرة، وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ [الطلاق:2، 3]، يِاأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفّرْ عَنكُمْ سَيّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ [الأنفال:29].
وفي تقوى الله ضمان للذرية وتأمين لمستقبلهم، يقول سبحانه: وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرّيَّةً ضِعَافاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُواّ اللَّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً [النساء9]، وجزاء المتقين عند الله عظيم فقد أعد لهم داراً لم تر العيون مثلها ولم تسمع الآذان بنظيرها وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مّن رَّبّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاواتُ وَالاْرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِى السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمران:133، 134].
معشر المؤمنين، الوفاء خلق حميد، تفاخر به العرب قديماً وأكده الإسلام أيما تأكيد، يقول سبحانه: وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُواْ الاْيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً [النحل:91]، ويقول سبحانه وتعالى: وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً [الإسراء:34]، وفي السنة النبوية وصايا كريمة تحض على الوفاء وتأمر به وتعيب من اتصف بضده، ففي صحيح البخاري يقول : ((أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا اؤتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر)).
وقد تمادح العرب بالوفاء وتفاخروا به قديماً، بل شرف بالوفاء كل متمسك به حتى الكلاب، فقد ضرب بها المثل في الوفاء.
والعقود والعهود التي يجب الوفاء بها كثيرة متنوعة، من أهمها عقد الزوجية الذي يجمع الزوجين في بيت واحد ويبيح لهما ما كان حراماً قبل عقد النكاح، فللعقد حرمته ومكانته، وفي ذلك يقول : ((أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج)) أخرجه البخاري. وعن سليمان بن عمرو بن الأحوص قال حدثني أبي أنه شهد حجة الوداع مع رسول الله فحمد الله وأثنى عليه وذكر ووعظ فقال: ((ألا واستوصوا بالنساء خيراً فإنما هن عوان عندكم ليس تملكون منهن شيئاً غير ذلك إلا أن يأتين بفاحشة مبينة، فإن فعلن فاهجروهن في المضاجع واضربوهن ضرباً غير مبرح، فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلاً، ألا إن لكم على نسائكم حقاً ولنسائكم عليكم حقاً، فأما حقكم على نسائكم فلا يوطئن فرشكم من تكرهون ولا يأذنّ في بيوتكم لمن تكرهون، ألا وحقهن عليكم أن تحسنوا إليهن في كسوتهن وطعامهن )) أخرجه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح. ومعنى قوله: ((عوان عندكم)) يعني أسرى في أيديكم.
فالمرأة أسيرة بيد زوجها، فقد جاءت إلى زوجها بكلمة وإيجاب من وليها، وربما خرجت من منزل زوجها بكلمة أيضاً، ولكنها من زوجها، فعقد الزواج عقد وثيق وحبل متين لا ينبغي التساهل فيه أو تعريضه للعبث، فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((ثلاث جدهن جد وهزلهن جد: النكاح والطلاق والرجعة)) أخرجه الترمذي وقال: حديث حسن غريب والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي وغيرهم.
فالوفاء الوفاء ـ يا معشر الرجال ـ، وليكن لعقد الزوجية حظه الوافر من الوفاء وحفظ الجميل ورد المعروف، ولا يكن عقد الزوجية أسهل العقود نقضاً، ففي ذلك إخلال بالمجتمع ولبناته الصالحة.
عباد الله، من عزم على الطلاق وأراد فراق زوجته فليعلم أن هناك أحكاماً شرعية وحدوداً مرعية لا بد من معرفتها، فالأمر الأول أن للطلاق صفة شرعية معتبرة وما عداها فهو طلاق بدعي يأثم صاحبه، فطلاق السنة ما أخبر به النبي فيما أخرجه البخاري عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه طلق امرأته وهي حائض على عهد رسول الله فسأل عمر بن الخطاب رسول الله عن ذلك فقال رسول الله : ((مره فليراجعها ثم ليمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر، ثم إن شاء أمسك بعدُ، وإن شاء طلق قبل أن يمس، فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء)).
وعن عبد الله بن مسعود قال: طلاق السنة أن يطلقها طاهراً في غير جماع. أخرجه النسائي، فطلاق السنة أن يطلق الزوج زوجته في حال طهر لم يجامعها فيه، أو تكون حاملاً وتبين حملها، ويكون الطلاق بطلقة واحدة فقط.
أيها الناس، من منكم يرضى أن يأتي أمراً يغضب النبي ، أخرج النسائي عن محمود بن لبيد قال أخبر رسول الله : عن رجل طلق امرأته ثلاث تطليقات جميعاً فقام غضبان ثم قال: ((أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم)) حتى قام رجل وقال: يا رسول الله ألا أقتله، وعند مسلم (2678) حين سئل ابن عمر رضي الله عنهما عن رجل طلق زوجته وهي حائض فقال: (وأما أنت طلقتها ثلاثاً فقد عصيت ربك فيما أمرك به من طلاق امرأتك وبانت منك). وعند أبي داود (1878) عن مجاهد قال: كنت عند ابن عباس فجاءه رجل فقال: إنه طلق امرأته ثلاثاً قال فسكت حتى ظننت أنه رادها إليه ثم قال: ينطلق أحدكم فيركب الحموقة ثم يقول: يا ابن عباس، يا ابن عباس، وإن الله قال: وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجا، وإنك لم تتق الله فلم أجد لك مخرجاً، عصيت ربك وبانت منك امرأتك، وإن الله قال: يأيُّهَا النَّبِىُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النّسَاء فَطَلّقُوهُنَّ [الطلاق:1]، في قبل عدتهن.
فانظر يا عبد الله إلى ما أمرك الله تعالى به من الطلاق في الوقت المعتبر وبالعدد المعتبر وهو الواحدة فقط، فمن خالف في ذلك أثم ووقع الطلاق عند جمهور العلماء، ولو تأملنا في هذا الوقت المعتبر للطلاق، وهو أن تكون المرأة في حال طهر لم تجامع فيه، لبانت لنا حكمة عظيمة يرعاها الشرع ويحض عليها، وهي التأني في إيقاع الطلاق، فلا يكون قراراً مرتجلاً يقدم عليه الزوج لأدنى سبب، وإن كان تافهاً، بل يكون قراراً قد اتخذ على هدوء وفي حال تروٍ وتفكر، وتكون نفس الزوج قد طابت من زوجته وعزمت على الفراق بدليل عدم قربانها في حال طهر كامل، ولو راعى الأزواج هذه الحكمة والتزموا بما شرع الله لقل المطلقون الذين نراهم ونسمعهم يطرقون أبواب العلماء ويستفتون هذا وذاك، يسألونهم عن طلاق بدعي وقع بالثلاث أو في حال غضب أو في حال حيض، وكلهم نادم على ما حصل ويسأل العودة.
وهذه شكوى قديمة أشار إليها ابن عباس حين قال: ينطلق أحدكم فيركب الحموقة ثم يقول: يا ابن عباس، يا ابن عباس، وإن الله قال: وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجا وإنك لم تتق الله فلم أجد لك مخرجاً، عصيت ربك وبانت منك امرأتك، وإن الله قال: يأيُّهَا النَّبِىُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النّسَاء فَطَلّقُوهُنَّ في قبل عدتهن.
والأمر الثاني الذي يجب العلم به: أن الطلاق إذا وقع بطلقة واحدة وهو المطلوب فإن الزوجة تعتد حسب حالها، وللزوج مراجعتها ما دامت في عدتها، والرجعة تحصل القول وبالفعل، فيبقى مع الزوج وقت آخر للتروي والنظر وإمكان المراجعة في ذلك القرار المتخذ، وهو وقت ليس بالقليل، لعل الزوج أن يراجع نفسه ويتذكر عشرته مع زوجه التي طلقها، وعساه أن يدرك معاناة أولاده وصغاره.
وثالث هذه الأحكام أن نعلم أن المطلقة تعتد في بيت زوجها، ولا يجوز إخراجها منه، استمعوا إلى هذه الآية الكريمة واعتبروا بما فيها من الحكمة والرحمة بالزوجين والشفقة بهما وبما يجره عليهما الطلاق من الأثر، وتأملوا ما فيها من النهي عن تعدي حدود الله لا سيما في الطلاق يأيُّهَا النَّبِىُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النّسَاء فَطَلّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُواْ الْعِدَّةَ وَاتَّقُواْ اللَّهَ رَبَّكُمْ لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلاَ يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لاَ تَدْرِى لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً [الطلاق:1]، يقول الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية: عن ابن عباس في قوله تعالى: فَطَلّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ قال: لا يطلقها وهي حائض، ولا في طهر قد جامعها فيه، ولكن يتركها حتى إذا حاضت وطهرت طلقها تطليقة، وقوله تعالى: لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلاَ يَخْرُجْنَ أي في مدة العدة لها حق السكنى على الزوج ما دامت معتدة منه، فليس للرجل أن يخرجها، ولا يجوز لها أيضاً الخروج لأنها معتقلة لحق الزوج أيضاً، إلى أن قال رحمه الله: وقوله تعالى: لاَ تَدْرِى لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً أي إنما أبقينا المطلقة في منزل الزوج في مدة العدة لعل الزوج يندم على طلاقها ويخلق الله في قلبه رجعتها، فيكون ذلك أيسر وأسهل. انتهى كلامه رحمه الله.
أما في حال الطلاق الثلاث فلا تبقى المطلقة في بيت زوجها لكونها لا تحل له إلا بعد زوج. أخرج النسائي عن فاطمة بنت قيس قالت أتيت النبي فقلت: أنا بنت آل خالد، وإن زوجي فلاناً أرسل إلي بطلاقي، وإني سألت أهله النفقة والسكنى، فأبوا علي، فقالوا: يا رسول الله إنه قد أرسل إليها بثلاث تطليقات فقال رسول الله : ((إنما النفقة والسكنى للمرأة إذا كان لزوجها عليها الرجعة)).
أرأيتم يا عباد الله ما في تشريع الطلاق من الرحمة والحكمة إن هو وقع كما شرع الله تعالى، ومن تعدى حدود الله فيه ندم وأثم وتعرض للوعيد وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ.
فالوفاء الوفاء يا معشر الرجال، ومن الوفاء أن يكون الطلاق في حال إيقاعه طلاقاً شرعياً وفق السنة، فربنا سبحانه يقول بعد آية الطلاق السابقة: فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ ـ أي قاربت العدة على الانقضاء ـ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ ـ أي بحسن صحبة ـ أو فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ ـ أي من غير مقابحة ولا مشاتمة ولا تعنيف، بل يطلقها على وجه جميل وسبيل حسن، كما قال ابن كثير رحمه الله تعالى.
نسأل الله تعالى الفقه في الدين والحسن في الخلق والمعاشرة، والحمد لله رب العالمين.
ـــــــــــــــــــ(68/31)
المرأة والفتنة بها
...
...
2858
...
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
...
...
الفتن, المرأة
...
عبد المجيد بن عبد العزيز الدهيشي
...
...
المجمعة
...
21/1/1420
...
...
الجامع القديم
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- الخير كله الخير في مراعاة حدود الله والتزامها. 2- اهتمام الاستسلام بشأن المرأة. 3- تحذير النبي من فتنة المرأة. 4- تنظيم العلاقة بين الرجال والنساء يحفظ المجتمع.
الخطبة الأولى
أما بعد: فيا عباد الله اتقوا الله تعالى حق تقواه، فما فاز إلا المتقون، ولا ربح إلا المؤمنون الموصوفون في كتاب الله العزيز إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ ءايَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [الأنفال:2].
عباد الله، شريعة الله تعالى كاملة لا نقص فيها ولا عيب، وما من خير إلا ودلت عليه، وما من شر إلا وقد بين من أمره، ليكون العباد على بصيرة، الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ الأسْلاَمَ دِيناً [المائدة:3]، لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ ءايَاتِهِ وَيُزَكّيهِمْ وَيُعَلّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِى ضَلَالٍ مُّبِينٍ [آل عمران:164].
ولله تعالى حدود شرعها لا يجوز تعديها نقصاً ولا زيادة تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنْهَرُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذالِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ [النساء:13، 14].
ومراعاة هذه الحدود يكفل للنفس والمجتمع الخير والسداد، وينشر الأمن والسلامة الفكرية والنفسية، ويضبط العلاقة الاجتماعية بين أفراد المجتمع، وقد نظم الشرع العلاقات الاجتماعية بين أفراد المجتمع من رجال ونساء، ولكل وظيفته ومسؤليته، ومتى طغى أحدهما على الآخر واقتحم الحدود؛ فإن المجتمع يجني آثارها، ويقطف ثماراً مرة لا يستسيغها إلا أرباب الشهوات، ممن حذرنا الله تعالى من مسالكهم فقال: وَاللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيماً [النساء:27].
ومما لا يخفى على مسلم أن المرأة لقيت من الإسلام عناية فائقة، بما يصون عفتها ويجعلها عزيزة الجانب، سامية المكانة، طاهرة القلب والجسد، وإن الضوابط التي فرضها الإسلام عليها في ملبسها وزينتها وعلاقتها بالرجال لم تكن إلا لحفظ مكانتها وسداً لذريعة الفساد، وتجفيفاً لمنابع الافتتان بها، وقد أشار القرآن الكريم إلى خطر الافتتان بالمرأة فقال سبحانه: زُيّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالانْعَامِ وَالْحَرْثِ ذالِكَ مَتَاعُ الْحياةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَأَبِ [آل عمران:14]، فقدم سبحانه النساء لأن أكثر الرجال إنما دخل عليهم الخلل من قبل هذه الشهوة، ويؤكد هذا المعنى قوله ناصحاً ومحذراً: ((ما تركت بعدي فتنة هي أضر على الرجال من النساء)) البخاري، وعن ابن مسعود: ((المرأة عورة، فإذا خرجت استشرفها الشيطان)) الترمذي وحسنه، والمعنى أنها ما دامت في بيتها لم يطمع الشيطان فيها وفي إغواء الناس بها فإذا خرجت طمع وأطمع فيها؛ لأنها أعظم حبائله وأقوى أسلحته، بل إن نبينا صلى الله عليه وسلم يحذرنا من هذه الفتنة، ويعلمنا أن فتنة النساء من أعظم الفتن وأخطرها فيقول: ((إن الدنيا حلوة خضرة وإن الله مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون فاتقوا الدنيا واتقوا النساء؛ فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء)) مسلم، ولذا فإن فتنة النساء وكيدهن تؤثر في قلوب الرجال ذوي الحزم والعقل فما بالكم بالسفهاء وضعفاء العزم، يقول : ((ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن)) يعني النساء، رواه البخاري.
وهذا الشاعر يقول:
يصرعن ذا اللب حتى لا حراك به وهن أضعف خلق الله أركانا
والله سبحانه خلق الخلق وهو أعلم بما يصلح لهم، وما يصلحهم أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك:14]، ولما كان من طبع البشر ميل الرجال إلى النساء، وتعلق النساء بالرجال، وهذه فطرة إلهية لحكم جليلة ليبقى الخلق وتعمر الدنيا، فإن الشريعة الإسلامية لم تدع الناس لأهوائهم ورغباتهم في إشباع هذه الشهوات، ففي ذلك خراب الأديان وهلاك المجتمعات، واختلاط القيم، وتشبه بالبهائم، بل جاء الشرع منظماً لهذه العلاقة بين الطرفين لتكون في مأمن من الفوضى، ولتحاط بسياج رفيع من الطهر والعفة، وقد حذرنا ربنا عز وجل من كيد الشيطان وأخبرنا أنه حريص على إيقاع الناس في حضيض الفحشاء الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاء [البقرة:268]، ولكن الشيطان يسلك في سبيل تزيين الفاحشة مسلك التدرج عن طريق خطوات قليلة يقود بعضها إلى بعض، وفي هذا يقول سبحانه: ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَتَّبِعُواْ خُطُواتِ الشَّيْطَانِ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء وَالْمُنْكَرِ [النور:21]، ومن هنا حفلت الشريعة الإسلامية بالعديد من وسائل حماية المجتمع من خطر هذه الفتنة، تمنع وقوعها، وتسد المنافذ الموصلة إليها، متى ما رعاها المجتمع المسلم بقي محافظاً على نظافته الخلقية وطهارته الحسية والمعنوية، فنهى الشرع عن الفحش في الكلام والرمي بالفاحشة بغير برهان، ونهى عن ظن السوء بالمسلم، وشرع الحجاب ونهى عن التبرج والسفور، وجعل قرار المرأة في بيتها هو الأصل وَقَرْنَ فِى بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الاْولَى [الأحزاب:33]، وأمر بالاستئذان، ونهى عن إطلاق البصر في المحرمات، وأمر بغض البصر، ونهى عن الخلوة بالمرأة الأجنبية، وعن سفر المرأة لوحدها بلا محرم، أو اختلاطها بالرجال، كما نهى المرأة عن الخروج من منزلها متعطرة، وعن الخضوع في القول في مخاطبة الرجال الأجانب، إلى غير ذلك من الآداب والحدود التي ورد الأمر بمراعاتها. وأدلة ذلك مبسوطة في القرآن الكريم والسنة النبوية. فلنكن على علم بذلك يا عباد الله، ولنتعاهد أنفسنا وأهلينا به، ففيه الخير والصلاح، والبعد عن طرق الشيطان وغوايته. ولنحذر ممن حذرنا الله تعالى منهم فقال: وَاللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيماً يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً [النساء:27، 28].
اللهم أرنا الحق حقا..
ـــــــــــــــــــ(68/32)
بطاقة المرأة
...
...
2863
...
الأسرة والمجتمع
...
...
المرأة
...
عبد المجيد بن عبد العزيز الدهيشي
...
...
المجمعة
...
18/11/1422
...
...
الجامع القديم
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- تكريم المرأة في الشريعة الإسلامية. 2- الحديث في الإعلام عن إصدار بطاقة خاصة للمرأة. 3- مسوغات المطالبين بإصدار البطاقة. 4- المسوغ الحقيقي تحرير المرأة. 5- إبطال مسوغات الداعين لإصدار البطاقة وبيان مفاسدها. 6- بدائل للبطاقة.
الخطبة الأولى
أما بعد: فإن مما حفلت به شريعة الإسلام تكريم المرأة والوصية بها وبيان حقوقها وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِى عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة:228]، كما جاءت النصوص القطعية في الكتاب والسنة بضرورة المحافظة على زكاة المجتمع المسلم وطهارته من أمراض القلوب والشهوات، كما قال سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِى الَّذِينَ ءامَنُواْ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِى الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ [النور:19]، كما جاء الشرع بسد منافذ الفتنة ومنع الذرائع التي توصل إلى الفساد مهما كان مصدرها أو حجمها، كما قال تعالى: ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَتَّبِعُواْ خُطُواتِ الشَّيْطَانِ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء وَالْمُنْكَرِ [النور:21]، بل قرر الشرع أن منع المفاسد مقدم على جلب المصالح إذا تعارض الأمران، فالله تعالى نهى عن سب آلهة المشركين مع أن ذلك محمود شرعاً، لما يترتب على سب آلهتهم من تجرؤ المشركين على سب الله تعالى، كما قال سبحانه: وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّواْ اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ [الأنعام:108].
عباد الله، مما يدور الآن في ساحة النقاش وحلبات الصحافة الحديث عن الحاجة إلى إصدار بطاقة شخصية للمرأة، وقد انقسم الناس حيالها إلى فريقين، فريق يرى أن الحاجة ماسة إلى إصدار البطاقة وأسباب ذلك في نظرهم كثيرة متنوعة منها: أولاً ـ التوثيق ومراعاة الجوانب الأمنية، حتى لا تستغل شخصية المرأة من قبل غيرها فتبرم عقود أو تفرغ ممتلكات بحضور غير صاحبة الشأن، وثانياً ـ أن في حيازة المرأة بطاقة هوية جزءً من تحقيق كرامتها واسترداد شيء من حقوقها المسلوبة، وأن من حقوقها المسلوبة حقها في امتلاك بطاقة لتستقل عن سيطرة الرجل وتصبح حرة طليقة في الذهاب والسفر، ففي إحدى المقابلات مع عدد من النساء المؤيدات للبطاقة، قالت معدة التقرير كما في صحيفة المدينة [10/8/1420هـ]: إن أقوال أكثرهن مبنية على كون البطاقة تخلصاً من تسلط الأزواج، ويقول أصحاب هذا الرأي إن المرأة السعودية هي الوحيدة المحرومة من البطاقة من بين نساء العالم، وفريق آخر يعارض في ذلك الأمر ويرى أن في إصدار بطاقة للنساء باب شر وفتنة لا تدرى عاقبتها، وأن بلادنا بحمد الله لها تميزها واختصاصها في كثير من النواحي، ومن صور التميز ما عليه نساء المجتمع عموماً من الحشمة والستر وانتشار الحجاب، ولم تتعارض هذه الحشمة والحجاب مع تعلم الفتاة وتلقيها العلم العالي المتخصص فرأينا من بنات مجتمعنا الكثيرات المتخصصات في تخصصات علمية وطبية ونحو ذلك.
ويذهب الفريق المعارض إلى أن مراعاة الجوانب الأمنية وحفظها يتم بغير هذا الأسلوب، كنظام بطاقة [البصمة] التي تعد بالفعل أسلوباً توثيقياً مميزاً ودقيقاً، وتكاليفها سهلة، وقد أخذت بها كثير من الدول المتقدمة واكتفت بها عن البطاقة ذات الصورة، لكون البصمة أوثق وأدق ولا تقبل الالتباس، بينما يسهل انتحال البطاقة ذات الصورة من قبل شبيه لصاحبها، كما يلحظ الناس اختلاف صورة البطاقة عن صورة صاحبها أحياناً لطول المدة أو تغير صاحبها، وأصحاب هذا الرأي يجيبون عما يردده البعض من وجود جرائم ترتكبها بعض النساء مستغلات الحجاب وعدم وجود ما يثبت الهوية، فيقولون: إن ما ينسب إلى بعض النساء من جنح أو جرائم يسيرة جداً في عددها ونوعيتها، ولا يبلغ أن يصنف في عداد الجرائم الكبرى، وأكثرها لا علاقة لها بعدم البطاقة، ولعل من أهم أسباب ذلك التزامها بالحجاب الشرعي، وفي المقابل يقال: إن المرأة في الدول الشرقية والغربية لم تكن صورتها في البطاقة حائلاً دون ضلوعها في جرائم كبرى، لذا فليس من الحكمة استغلال ما قد يقع من مخالفات فردية يمكن علاجها والسيطرة عليها لإلزام النساء ببطاقة فيها من المفاسد والمحاذير ما الله به عليم. وعما يظنه البعض من أن في منع المرأة من البطاقة يعتبر إهانة لها وتعدياً على كرامتها يقال: إن عدم حيازة المرأة لبطاقة ليس من الإهانة في شيء، بل إن من الفهم المغلوط، أن يعتقد أن كرامة المرأة كامنة في هذا الإجراء ونحوه، إن كرامة المرأة تكمن في تمسكها بأمر ربها وحكمه واعتزازها به، وكرامتها في حيائها وعفتها ومحافظتها على أنوثتها من غير إفراط ولا تفريط، وما سوى ذلك فمن ترّهات مرضى القلوب الذين يريدون المرأة كلأً مباحاً للجميع يراه الغادي والرائح، وما أصدق كلام ربنا وَاللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيماً [النساء:27].
أيها المسلمون، إن في إصدار بطاقة خاصة للمرأة مفاسد لا تغيب عن نظر العاقل المتبصر الحريص على سلامة المجتمع وطهارته، فمن تلك المفاسد:
المفسدة الأولى: إضعاف قوامة الرجل على أهله، حيث ترى المرأة أنه صار عندها من الاستقلالية ما يمكنها من الاستغناء عن الرجل، فتذهب كيف شاءت وتسافر متى شاءت، وتسكن في الفندق لوحدها متى أرادت، ما دام معها ما يثبت هويتها، وإن لم يسمح لها بذلك فما قيمة البطاقة إذن؟ ومفاسد سفرها وسكناها بلا محرم لا تأتي تحت حصر، وإذا كانت الجرائم الأخلاقية وغير الأخلاقية تتم بمقربة من ولي الأمر فكيف بالأمر وبينها وبينه المجاهل، وفي إضعاف قوامة الرجل من الشرور والمفاسد وتوسيع فرص الفساد ما لا يخفى، ومعلوم ما عليه الحال من تمرد بعض النساء على أزواجهن وما ترتب على ذلك من مفاسد.
والمفسدة الثانية: في وجود صورة المرأة في البطاقة حصول مفاسد أخر: منها: تردد الأمر فيمن يتولى مطابقة صورة البطاقة مع حاملتها، أيتولاه رجال أم نساء، فإن تولاه الرجال كان فيه المخالفة الصريحة لأمر الله تعالى ورسوله من نظر الرجال إلى غير محارمهم، وإن تولى ذلك النساء فهو فتح باب لعمل المرأة في القطاع العسكري الذي يقحمها في ميادين الرجال ويخلطها بهم، وفي ذلك شرور لا تخفى، ولا زالت المرأة الغربية العاملة بين الرجال تشتكي من تحرش الرجال بها وإيذائهم لها، ثم ما الحال في الطرق السريعة؟! هل سيكنّ هناك؟ وهل سيقمن بالعمل على مدى أربع وعشرين ساعة إلى جانب زملائهن الرجال بصحبة محارمهن؟ وهل الظروف الاقتصادية الحالية تسمح بتوظيف هذا العدد من النساء ومحارمهن؟
ومنها: أن الأمر الذي تمس الحاجة إليه في استخدام البطاقة ليس خاصاً برجال الأمن فحسب، بل هو عام في المستشفيات والبنوك والدوائر.. فمن سينظر للصورة في البطاقة للمطابقة؟
ومن المفاسد: انتشار صورة المرأة وتسربها إلى أيدي الرجال من خلال البطاقة. ومنها بل من أعظمها أن هذه الصور هي بداية لخلع الحجاب، وإذا خُلع الحجاب عن الوجه فلا تسأل عن انكسار عيون أهل الغيرة، وتقلص ظلِّ الفضيلة وانتشار الرذيلة، والتحلل من الدين، وشيوع التبرج والسفور والتهتك والإباحية.
والمفسدة الثالثة المترتبة على إصدار البطاقة: أن استصدار البطاقة باب لغيرها من الشرور مما قد أوصدت أبوابه مثل قيادة المرأة للسيارة وعضويتها في مجالس الرجال الرسمية بحجة أنه أصبح لديها من الاستقلالية والكرامة ما يمنحها حق اقتحام هذه الميادين.
عباد الله، هذه جملة مختصرة من المفاسد التي يخشى وقوعها من جراء استصدار هذه البطاقة، ولا يسع كل غيور على محارمه وعرضه إلا أن يحرص أشد الحرص على سد باب الفتنة والشر حتى لا تقع الشرور والمصائب التي عمت وطمت في كثير من بلاد المسلمين حين تساهلوا بخطوات الشيطان وألاعيب شياطين الإنس، ومعظم النار من مستصغر الشرر، وكم يفخر ابن هذا البلد بما عليه نساؤنا ومحارمنا من الحشمة والستر ولزوم الحجاب في الجملة، فأصبح الستر هو الأصل، أما العري والتهتك فهو الشاذ المنبوذ، وإن واجبنا أن نتمسك بهذا الخير، وأن ندرأ عن محارمنا كل شر، قبل أن تزول عنا هذه النعمة كما زالت عن غيرنا.
وقد حدثني أحد الدعاة أنه كان في ضيافة شيخ جليل وعالم كبير في إحدى الدول الإسلامية، فشاهد فتاتين تلجان المنزل وهما في قمة التعري والميوعة، فساءه الأمر وكيف تدخل هاتان بيت الشيخ وهما على هذا الحال، يقول: فسألت الشيخ عنهما فدمعت عيناه وقال: هاتان ابنتي وأختي، ولو قلت لهما كلمة واحدة منكراً عليهما لجاءت الشرطة واعتقلتني.
اللهم احفظ علينا ديننا وأمننا واستر اللهم عوراتنا، واكفنا شر الأشرار وكيد الفجار يا عزيز يا جبار.
أقول ...
الخطبة الثانية
أما بعد: أيها المسلمون، فاتقوا الله ربكم وأطيعوه، فمن اتقى ربه فاز ونجا.
أيها المسلمون، إن الحاجة إلى التثبت من شخصية المرأة قائمة، ووسائلها كثيرة بحمد الله تعالى، ومنذ عشرات السنين ومجتمعنا لم يشتك من هذا الأمر ولم تتعطل مصالح المرأة، ومع هذا فإن هناك وسيلة جديدة كافية في التثبت وهي أدق وأوثق من البطاقة ذات الصورة، وهي ما يسمى ببطاقة البصمة، وكلفتها قليلة ولا محظور فيها إطلاقاً، وقد عملت بها دول متقدمة كافرة كاليابان وغيرها، فهل يضير مجتمعنا لو استعمل هذا الأسلوب، أم أن الإصرار على البطاقة هدفه كسر الحاجز وفتح باب الشر، والله المستعان.
وما أجمل ما ذكرته اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء برئاسة سماحة الشيخ الوالد عبد العزيز ابن باز رحمه الله وعضوية سماحة المفتي العام الشيخ عبد العزيز آل الشيخ حفظه الله تعالى في فتوى رسمية بينوا فيها أننا في نعمة يجب علينا المحافظة عليها، إلا أن هناك فئة من الناس ممن تلوثت ثقافتهم بأفكار الغرب لا يرضيهم هذا الوضع المشرف الذي تعيشه المرأة في بلادنا من حياء وستر وصيانة، ويريدون أن تكون مثل المرأة في البلاد الكافرة والبلاد العلمانية، فصاروا يكتبون في الصحف، ويطالبون باسم المرأة بأشياء، ذكروا منها: مطالبتهم بتصوير وجه المرأة ووضع صورتها في بطاقة خاصة بها تتداولها الأيدي، ويطمع فيها كل من في قلبه مرض، ولاشك أن ذلك وسيلة إلى كشف الحجاب.. ثم ختموا البيان بقولهم: "فالواجب على المسلمين أن يحافظوا على كرامة نسائهم وأن لا يلتفتوا إلى تلك الدعايات المضللة، وأن يعتبروا بما وصلت إليه المرأة في المجتمعات التي قبلت مثل تلك الدعايات، وانخدعت بها من عواقب وخيمة، فالسعيد من وعظ بغيره، كما يجب على ولاة الأمور في هذه البلاد أن يأخذوا على أيدي هؤلاء السفهاء، ويمنعوا من نشر أفكارهم السيئة، حماية للمجتمع من آثارها السيئة، وعواقبها الوخيمة، فقد قال النبي : ((ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء))، وقال عليه الصلاة والسلام: ((واستوصوا بالنساء خيراً))، ومن الخير لهن المحافظة على كرامتهن وعفتهن وإبعادهن عن أسباب الفتنة. انتهى كلامهم رحم الله من مات منهم وحفظ الباقين.
نسأل الله بأسمائه الحسنى أن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، والباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه. اللهم استر على نساء المسلمين واحفظهن من التبرج والسفور يا رب العالمين.
ـــــــــــــــــــ(68/33)
سن التكليف
...
...
2868
...
الأسرة والمجتمع, فقه
...
...
الأبناء, الصلاة
...
عبد المجيد بن عبد العزيز الدهيشي
...
...
المجمعة
...
10/4/1420
...
...
الجامع القديم
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- البلوغ ووداع عالم الطفولة. 2- الأثر التشريعي لوصول المرء إلى البلوغ. 3- علامات البلوغ. 4- البلوغ والجهاد. 5- وصية إلى من بلغ سن التكليف.
الخطبة الأولى
أما بعد: فيا أيها المؤمنون كنا فيما مضى أطفالاً نعيش عالم الأطفال وهمومهم، وكنا نتساءل حينها متى ننتقل إلى عالم الرجال؟ وما النقطة الفاصلة بين عالم الرجال وعالم الأطفال؟ ومتى يعد المرء طفلاً ومتى يعتبر رجلاً؟
وقد علمنا الآن هذه النقطة والعلامة الفارقة، ألا وهي مرحلة البلوغ وسن التكليف، فحين يصل المرء إليها ينتقل إلى عالم آخر بكل ما تحمله هذه الكلمة من معان، فيلقي نظرة الوداع على عالم الطفولة، ويوقن أن لا رجعة إلى هذه المرحلة، وتصبح حياة الطفولة مجرد ذكريات يتذكرها المرء بين الحين والآخر، ولحكمة يريدها الله سبحانه تشهد هذه المرحلة تحولات جسدية وتغيرات نفسية، فيخشن الصوت ويزيد نمو الجسم، وتتغير طريقة التفكير ومعالجة الأمور، وهذه التغيرات والتحولات تهيئة للمرء وإعداد لدخول مرحلة جديدة من العمر، بل إنها بدء حياته الحقيقية، فقد خلقه الله لعبادته، وقد آن وقت التكليف في حقه وأصبح مسؤلاً ومحاسباً على أدائه لهذا الواجب، وقبل هذه المرحلة لم يك مخاطباً بالتكاليف الشرعية، وكان قلم التكليف مرفوعاً عنه، أما بعد بلوغ سن التكليف فإن العبد يكون مطالباً بالفرائض التي تجب على الرجال، من طهارة وصلاة وصيام وحج وجهاد في سبيل الله، وغير ذلك من الواجبات الشرعية، كما تسجل عليه الخطايا التي يقترفها من كذب وخيانة ونظر إلى الحرام وغير ذلك مما حرم الله سبحانه، ويستحق الجزاء على ذلك يوم القيامة من خير وشر فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ [الزلزلة:7، 8].
وحين يبلغ الفتى سن التكليف فله جميع أحكام الرجال: فلو كان يتيماً ثم بلغ الرشد وأحسن التصرف في المال فإنه يستحق أن يستلم ماله ليتصرف فيه بما يشاء كما قال سبحانه: وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُواْ النّكَاحَ فَإِنْ ءانَسْتُمْ مّنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ [النساء:6]، وإذا ارتكب البالغ جريمة توجب الحد كالسرقة والقتل والزنا ونحو ذلك فإنه يقام عليه الحد بخلاف الصغير الذي لم يبلغ، والبالغ تقبل شهادته في الحقوق والحدود ويبنى عليها، شأنه شأن الرجال، فلو شهد برؤية هلال رمضان عمل بشهادته وصام الناس بها، بل إنه يتحمل المسؤلية الكاملة عن نفسه فلا والده ولا غيره سيحمل عنه شيئاً من وزره.
أما الصبي الذي لم يبلغ فلا عبرة بشهادته، ولا يؤاخذ بجريرته، فلو قتل نفساً لم يقتل، ولا يسلم ماله إليه، ولا ينفذ تصرفه في حقوقه، لأنه لم يبلغ بعد سن التكليف.
فما دام الأمر بهذه المثابة، وما دام التكليف معلقا بالبلوغ؛ فإن الحاجة ماسة إلى إيضاح هذا الأمر وبيانه للناشئة لا سيما من قارب سن البلوغ.
ومن رحمة الله تعالى أن للبلوغ علامات واضحة يسهل الاطلاع عليها ومعرفتها، فبلوغ الفتى يحصل بواحدة من ثلاث علامات: الأولى: إنزال المني، سواء كان ذلك يقظة أم مناماً، والثانية: إنبات شعر العانة، وهو الشعر الذي ينبت حول الذكر، والثالثة: بلوغ سن الخامسة عشرة بالسنين القمرية. فمتى حصلت واحدة من هذه العلامات فإن التكليف قد حصل، وبدأت مسؤلية الإنسان عما يعمل.
وقد كان النبي وهو خير الناس تربية وتعليماً يعامل الشباب البالغين كما يعامل سائر الرجال، ففي الجهاد الذي يكون فيه القتل وإراقة الدماء، مما لا يحتمله إلا الأشداء من الرجال، كان يأذن للشباب الذين تأهلوا له بالمشاركة فيه مع المسلمين باعتبارهم رجالاً، وكان حين يخرج للغزو يتفقد الجيش فمن رآه صغيراً أعاده، ومن كان غير ذلك أذن له، والمقياس الذي يفرق فيه بين الصغير والكبير هو البلوغ، يقول عبد الله بن عمر: (عرضني رسول الله يوم أحد في القتال وأنا ابن أربع عشرة سنة فلم يجزني، وعرضني يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة سنة فأجازني) رواه البخاري ومسلم.
قال الإمام الشافعي رحمه الله: "رد النبي سبعة عشر من الصحابة وهم أبناء أربع عشرة سنة؛ لأنه لم يرهم بلغوا، ثم عرضوا عليه وهم أبناء خمس عشرة فأجازهم منهم زيد بن ثابت ورافع بن خديج وابن عمر".
فانظروا ـ رحمكم الله ـ كيف كان النبي يعامل صحابته ممن بلغ سن الخامسة عشرة، ويا ترى ما حالنا مع من هم في مثل هذه السن؟ إن الكثير منا ليعاملهم كالأطفال، بل ربما استمر هذه النوع من التعامل مع الأبناء حتى يبلغوا سن العشرين أو قريباً من ذلك، وفي هذا خلل تربوي وتقصير جلي، وجناية على الابن من حيث لا يشعر الأب، وكم تخسر الأمة من جراء هذا التعامل، والله تعالى هو الخالق العليم أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك:14]، فهو سبحانه أعلم بالسن التي يطيق العبد فيها أداء الواجبات وتحمل المسؤليات.
اللهم أعنا على ذكرك...
الخطبة الثانية
أما بعد: فهذه وصية لمن بلغ سن التكليف، فيا أخي إن الانتقال إلى هذه المرحلة يستوجب منك أن تفكر كثيراً في نفسك، وأن تستعد لما أمامك فلم يعد يقبل منك اليوم ما كان يقبل فيما سبق، فابدأ بعبادة ربك التي أمرك الله بها، وأهم شيء في ذلك الصلاة، فهي عمود الدين وعلامة الإيمان، ثم انظر في حالك مع والديك ومدى عنايتك ببرهما، فقد قرن الله تعالى حقهما بحقه، وتفقد لسانك ونظرك وسائر جوارحك، ثم انظر في أصدقائك، واعلم أن المرء يحشر يوم القيامة مع من يحب، وأنه على دين خليله.
ثم ما شأن اهتماماتك؟ هل أنت لا تزال تعيش آمال الأطفال، وتفكر تفكيرهم، أم أن همتك قد علت، وهامتك إلى الخير قد شمخت؟
واعلم يا أخي أن المرء حيث يضع نفسه، فاختر لنفسك اليوم ما يسرك غداً عاقبته.
ـــــــــــــــــــ(68/34)
...
مظالم المرأة
...
...
2886
...
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
...
...
الكبائر والمعاصي, المرأة
...
عبد المجيد بن عبد العزيز الدهيشي
...
...
المجمعة
...
5/6/1422
...
...
الجامع القديم
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- انتحار فتاة بسبب ظلم والدها. 2- تكريم الإسلام للمرأة ورعايته لها. 3- بعض صور الإساءة للمرأة. 4- أجر رعاية البنات وتربيتهن. 5- عضل البنات والأخوات عن النكاح. 6- التسرع في تزويج غير الكفؤ.
الخطبة الأولى
أما بعد: فاتقوا الله ربكم حق التقوى واستمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى، فمن اتقى ربه فاز، وعلى الصراط جاز.
عباد الله، نشرت إحدى صحفنا المحلية هذا المقال: أقدمت فتاة تبلغ من العمر ستة عشر عاماً على الانتحار في محاولة لوضع نهاية لحياتها المأساوية والتخلص مما تعانيه من مشاكل حياتية واضطرابات نفسية.
وفي التفاصيل، أن الفتاة زوّجها والدها على عجوز يبلغ من العمر تسعين عاماً وبعد محاولات عديدة باءت بالفشل أمام رفضها لهذا الزواج حيث لم يجد والدها بُداً من زواجها من هذا العجوز قسراً. وازداد الأمر سوءاً، وازدادت الفتاة إحباطاً عندما علمت بعد الزواج أن زوجها عقيم ولا ينجب وقد طلّق ثلاث زوجات قبلها، وفي هذه الظروف العصيبة على الفتاة المكلومة لم تمكث سوى شهور حتى طلبت الطلاق الذي ظفرت به بعد محاولات عديدة، ثم عادت لمنزل والدها وهي تحمل اللقب المؤلم (مطلقة).
ولم تجد سوى موجة قوية من الغضب من والدها الذي كان لا يريد طلاقها من هذا الرجل، عند ذلك حاولت الفتاة وضع نهاية لحياتها ولمشاكلها عندما اتجهت صوب أحد الآبار الملاصقة لمنزلهم في مساء أحد الأيام بعدما خرج الجميع من المزرعة وقبل أن تقذف بنفسها في قاع تلك البئر التي وقعت على حافتها استطاعت والدتها الإمساك بها ومنعها من البئر قبل الوقوع فيها، انتهى الخبر.
ولكن المعاني التي حفل بها لا تنتهي، وما هذه إلا ضحية واحدة وقد نشر أمرها، وإلا فكم في البيوت من أنثى مظلومة تبكي حقوقها المهضومة وتشتكي إلى ربها، والله تعالى سامع لكل شكوى، وهو سبحانه رافع الضر وكاشف البلوى، وكفى به حسيباً وكفى به وكيلاً.
وقصة أخرى أفظع من هذه وأخطر، هذه امرأة في العقد الثالث من عمرها تعمد إلى ابنتيها الصغيرتين فتذبحهما كما تذبح الشاة حتى فارقتا الحياة، وهي في كامل قواها العقلية، وحين سئلت عن سبب فعلها أجابت بأنها لا تريد أن تلقى ابنتاها مثل ما لقيت من العذاب والمعاناة، حيث إنها ابتليت بزوج ووالد وكلاهما من مدمني المخدرات، وقد بالغا في إيذائها وظلمها بما لا مزيد عليه، وكلما اشتد بها الأمر مع زوجها لجأت إلى والدها تنشد العطف والرحمة، ولكن قلب الأب القاسي وعقله المغلوب يرفضان ذلك فيعيدها إلى زوجها راغمة كما تقاد الشاة إلى مذبحها.
عباد الله، لقد جاء الإسلام وأعلى مكانة المرأة، وأحاطها بسياج منيع من المكرمات والفضائل، فهي البنت المرحومة والأخت العطوفة والزوجة الحنون والأم الرؤوم، والمرأة شقيقة الرجل وهي نصف المجتمع وتلد النصف الآخر، ولكن بعض المسلمين هداهم الله رجعوا إلى جاهلية مقيتة وصفات قبيحة، ووقعوا في مظالم شنيعة يكون ضحيتها أنثى لا تملك من أمرها شيئاً، أليس من الجاهلية يا عباد الله أن يتمعر وجه أحدنا إذا بشر بقدوم مولودة أنثى، أليس من الجاهلية أن ينقم بعض الذكور على زوجاتهم أنهن لا يلدن إلا الإنات ؟ وكأن الزوجة بيدها الأمر ولها حق اختيار جنس المولود؟ وَإِذَا بُشّرَ أَحَدُهُمْ بِالاْنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّا وَهُوَ كَظِيمٌ يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوء مَا بُشّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِى التُّرَابِ أَلاَ سَآء مَا يَحْكُمُونَ [النحل:58، 59]، وما أشبه الليلة بالبارحة.
هذه امرأة مبتلاة بزوج جاهل نقم عليها أنها تلد البنات دون البنين، ولما ولدت البنت الأخيرة هجرها زوجها ولم يأتها وكنيته أبو حمزة، فقالت هذه الكلمات معاتبة زوجها الجاهل:
ما لأبي حمزة لا يأتينا غضبان ألا نلد البنينا
تالله ماذاك في أيدينا إن نحن إلا أرض الزارعينا
فبلغت أبا حمزة هذه الكلمات فآب إلى رشده وعاد إلى زوجه.
واسمع أيها المسلم ما قال ربك تعالى: لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاواتِ وَالأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاء يَهَبُ لِمَن يَشَاء إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَن يَشَاء الذُّكُورَ أَوْ يُزَوّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَن يَشَاء عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ [الشورى:49، 50]، فانظر رحمك الله كيف أعاد سبحانه العطاء له وحده سبحانه وكيف فرق عطاياه على عباده، وانظر رعاك الله كيف بدأ بالإناث قبل الذكور، وما نعمة البنين والبنات إلا فتنة، وما كون الإنسان عقيماً إلا فتنة وابتلاء ،وربنا سبحانه ينظر من يشكر ومن يصبر، ومن يكفر بما أنعم الله عليه.
أيها المسلمون، ومن حق المولود أن يختار له الاسم الطيب سواء كان ذكراً أم أنثى، فقد روي في الحديث: ((إنكم تدعون يوم القيامة بأسمائكم وأسماء آبائكم فحسنوا أسماءكم)) أخرجه أحمد، ومن فعل الجاهلية ما اعتاده البعض حين يذكر المرأة أن يقول معقباً: أكرمك الله، أو عبارة نحوها، وكأنها قد نطق بقبيح أو ذكر خبيثاً، وقد تكون هذه المرأة التي تكرم جليسك عن ذكرها هي أمك أو أختك أو زوجتك، وما عرف المسلمون في سالف عهدهم هذا الترفع عن ذكر النساء والتحرج من ذلك، أخرج البخاري عن صفية بنت حيي أم المؤمنين رضي الله عنها قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم معتكفاً فأتيته أزوره ليلاً فحدثته، ثم قمت فانقلبت فقام معي ليقلبني، فمر رجلان من الأنصار فلما رأيا النبي صلى الله عليه وسلم أسرعا فقال النبي : ((على رسلكما إنها صفية بنت حيي)) فهل قال: وأنتم بكرامة؟ لا والله وحاشاه أن يفعل ذلك .
عباد الله، ومن أراد الأجر من الله والوقاية من نار الله فليتق الله ربه في أولاده وليحسن تربيتهم ذكوراً وإناثاً، ففي ذلك أجر عظيم، فقد قال النبي : ((من ابتلي من البنات بشيء فأحسن إليهن كن له ستراً من النار)) رواه مسلم، وعند الترمذي: ((لا يكون لأحدكم ثلاث بنات أو ثلاث أخوات فيحسن إليهن إلا دخل الجنة)) فللبنت حظها من التعليم والرعاية، وصلاح البنت صلاح البيت بإذن الله تعالى، واحمدوا ربكم أن تيسرت وسائل تعليم الفتيات في المدارس وفي دور تحفيظ القرآن الكريم الخاصة بالنساء، ولا تحرموا بناتكن من هذا الخير.
ألا وإن من واجبنا نحو بناتنا تربيتهن على الحشمة والستر منذ الصغر، فمن شب على شيء شاب عليه، والمرأة ضعيفة ناقصة العقل بنص الخبر النبوي، ولا بد للرجل من القيام بقوامته على من تحت يده من البنات والزوجات، والوالد الذي يلبس بناته العاري الفاتن من الملابس قد أخل بالأمانة وتعرض للوعيد.
عباد الله، وإذا قاربت المرأة سن الزواج فإن بعضهن يتعرضن إلى الظلم من أقرب الناس إليهن، فمن ذلك أن يعمد الوالد إلى رد الخُطّاب عن ابنته طمعاً في خدمة ابنته أو مالها أو مرتبها، وقد ورد التحذير من ذلك، أخرج البخاري أن أخت معقل بن يسار رضي الله عنه طلقها زوجها فتركها حتى انقضت عدتها، فخطبها فأبى معقل فنزلت: فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ [البقرة:232]، فامتثل معقل لهذا الأمر فزوجها، وأخرج البخاري أيضاً عن عائشة رضي الله عنها في قول الله تعالى: وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِى الْكِتَابِ فِى يَتَامَى النّسَاء الَّلَاتِى لاَ تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ [النساء:127]، قالت: هذا في اليتيمة التي تكون عند الرجل لعلها أن تكون شريكته في ماله وهو أولى بها، فيرغب عنها أن ينكحها فيعضلها لمالها ولا ينكحها غيره كراهية أن يشركه أحد في مالها. وأي ظلم للأنثى من هذا الظلم حين تمنع من حقها الشرعي في إعفاف نفسها والعيش مع رفيق دربها وطلب الذرية، فتبقى حبيسة لدى هذا الأب أو الأخ القاسي القلب الذي لا يشعر بمعاناتها ولا يأبه بحاجتها، ولا تملك إلا الحسرات تطلقها والدعوات ترفعها إلى عالم السر والنجوى سبحانه: وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [الكهف:49].
وصورة أخرى قريبة من هذا الظلم والخطأ حين يسارع الوالد بتزويج كريمته لأول طارق للباب دون التحري عن خلقه ودينه، وربما كان هذا الطارق غنياً فأعمى المال بصيرة الوالد فلم يتحر عن هذا الزوج القادم ولم يسأل عنه، وربما لم يستشر صاحبة الشأن والقرار وهي المرأة، فمن حقها الشرعي أن تأذن في تزويجها بمن ترغب فيه إذا كان كفؤاً لها، ويحرم على وليها إجبارها على الزواج بمن لا ترغب فيه، وهذا حق شرعي للمرأة طبقه الحبيب ، ففي مسند أحمد فيما يروى عن النبي عن عائشة قالت: (كان رسول الله إذا أراد أن يزوج شيئاً من بناته جلس إلى خدرها فقال: إن فلانا يذكر فلانة يسميها ويسمي الرجل الذي يذكرها، فإن هي سكتت زوجها، وإن كرهت نقرت الستر فإذا نقرته لم يزوجها).
ويخطئ الولي بعدم التأكد من خلق ودين الخاطب، إذ إن المرأة ستأخذ برأي والدها، فلا بد من الاحتياط في السؤال. وبعض الآباء يكتفي بكون والد الخاطب وأسرته من كرام الناس دون النظر في خلق الخاطب نفسه ودينه، فلا يكفي كون الرجل من أسرة معروفة أو كون والده من خيار الناس، بل لا بد من السؤال عن الخاطب نفسه فهو الذي ستتزوجه المرأة، ومظلمة أخرى تقع على المرأة حين يؤكل صداقها من اقاربها ولا تعطى إياه وهو حق لها خالص لا سبيل لوالد ولا لأخ عليه، ألم يقل الله تعالى: وَءاتُواْ النّسَاء صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَىْء مّنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً [النساء:4]، وحرام على والد وزوج وأخ أن يتناول من صداقها شيئاً إلا بطيب نفسها، فعلام يتساهل البعض في هذا الأمر ويرى أن ابنته سلعة يبيعها بالثمن الذي يقبضه؟ فلنتق الله يا عباد الله وليحذر كل واحد منا أن تكون ابنته وفلذة كبده خصماً له يوم القيامة وأمام أحكم الحاكمين سبحانه. وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ [الأنبياء:47].
الخطبة الثانية
أما بعد: فيقول النبي : ((أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج)) أخرجه البخاري، فمن حق المرأة أن تشترط على زوجها ما تراه في مصلحتها مما هو مباح، ولذا فعلى الولي ألا يغفل هذا الأمر، بل يسأل موليته إن كان لها شروط ثم يعرضها على زوجها ويدون ذلك في وثيقة عقد النكاح حفظاً لحقها واحتياطاً في الأمر.
هذه أيها المسلمون بعض المظالم التي تقع على الأنثى وهي في دار والدها، أما إذا انتقلت إلى دار زوجها فهناك مظالم أخرى ليس المقام مقام ذكرها الآن، وبعد أيها المؤمنون، ليس الناس كلهم يقعون في هذه المظالم، ولكنها مظالم موجودة ووقائعها ثابتة، وما كل ما يعلم يقال، وإلا ففي الناس رجال كرام أخيار عرفوا الحق فلزموه، وقاموا بالواجب مع كرائمهم وزوجاتهم، فربحوا السعادة وظفروا بالأجر وأدوا الأمانة التي حملوا إياها، فلله درهم ولله ما قدموا وبذلوا، اللهم أصلح نياتنا وذرياتنا..
ـــــــــــــــــــ(68/35)
يتيم العلم والأدب
...
...
2899
...
الأسرة والمجتمع, العلم والدعوة والجهاد
...
...
الأبناء, التربية والتزكية
...
عبد المجيد بن عبد العزيز الدهيشي
...
...
المجمعة
...
10/6/1421
...
...
الجامع القديم
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- اليتم ومسئولية المجتمع في كفالة اليتيم. 2- يتيم العلم والأدب في عدم نصح أبيه وتربية أمه. 3- الأبناء ومسئولية الوالدين في التربية والتهذيب. 4- حرص السلف على تربية أبنائهم. 5- دور المعلم في تهذيب النشئ وتربيته.
الخطبة الأولى
أما بعد: فإن لليتيم حقاً على أهله وذويه، حقاً كفله الشرع الكريم ونادى إليه، وبين لنا القرآن الكريم حق اليتيم وخطورة التعدي على حقوقه، وأوضح لنا النبي شرف كافل اليتيم، وما يجنيه المسلم من أجور وحسنات إن هو اعتنى باليتيم ووفر له عيشة كريمة، فكفالته من أسباب دخول الجنة.
واليتيم هو من فقد أباه أو أمه وهو صغير، وكم لفقد الوالدين أو أحدهما من لوعة في النفس، ووحشة في الحياة، لا يطيقها الصغير، فلا زال قلبه طرياً يتأثر لهذا الفقد، ولا زال جسمه صغيراً لا يتحمل مشاق الحياة ومعاناتها، ومن هنا كان لزاماً على المجتمع المسلم القيام بالواجب نحو هذا اليتيم وإيفاؤه حقه من الرعاية والتربية والحفظ، وتوفير الحنان له والرفق بحاله.
وهذا بحمد الله ما تشهده مجتمعاتنا الإسلامية، فلليتيم مكانه، وله حظ وافر في العطف والرعاية غالباً، وعذر الجميع في تقديم هذه الرعاية والتواصي بها واضح، فهو يتيم وكفى.
ولكن أيها المؤمنون ما ظنكم بمن يصدق عليه مسمى اليتيم وهو يعيش بين والديه، هو يتيم مع أنه يرى والده كل يوم، هو يتيم ولازالت أمه تعيش معه، هو يتيم في منزل أبويه، يتيم وإن أكل من كسب والده، هو يتيم وإن تناول من طبخ والدته، يتيم لا يلقي له الناس بالاً ولا يرونه محلاً للشفقة والحنان، يتيم لا يؤبه له ولا يرفع له رأس، فالناس يرونه بين والديه فلا ينطبق عليه مفهوم اليتيم في عرفهم، فمن يا ترى هذا اليتيم؟ وكيف استحق هذا الوصف المخصوص بمن فقد والديه؟
عباد الله، إن الجواب عن هذا التساؤل قد تولاه الشاعر حين قال:
ليس اليتيم الذي قد مات والده إن اليتيم يتيم العلم والأدب
وهو الذي عناه الآخر بقوله:
ليس اليتيم من انتهى أبواه من همّ الحياة وخلفاه ذليلا
إن اليتيم لمن تلقى له أماً تخلت أو أباً مشغولا
كم طفل نشأ بين والديه، لم يستفد منهما غير الطعام والشراب؟ كم طفل تربى في غير أحضان والديه، كم طفل تولى تربيته الشارع بخيره وشره،كم طفل أهمله والداه فشب على العقوق والقطيعة، كم صغير عقه والداه صغيراً فجنيا النتيجة منه وهو كبير، كم ولد عاق سبقه أبوه بالعقوق في حقه حين لم يتول تربيته وتعليمه وحفظه، كم والد لا يدري أين يدرس ابنه، كم والد لا يعرف أحداً من معلمي ولده، كم والد لا يبالي مع من ذهب ابنه، كم والد كان همه منصباً على تغذية أولاده بالطعام والشراب وتأمين الملبس والترفيه، وغفل عن تغذية الروح وسلامة القلب، كم أم انشغلت بوظيفتها وزياراتها عن تربية أولادها، كم من والدة وكلت أمر التربية للعاملة المنزلية، فتحولت بقدرة قادر من خادمة إلى أم بالوكالة.
أيها المؤمنون، لا ريب ولا جدال في أن الأسرة أهم مؤسسة تربوية وأخطرها مسؤولية، وأن الوالد يقوم على هذه المؤسسة، فمتى فسد القوام عم الفساد جميع الأقوام، يقول علي رضي الله عنه: علموا أنفسكم وأهليكم الخير وأدبوهم. ويقول عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أدب ابنك فإنك مسئول عنه ماذا أدبته وماذا علمته، وهو مسئول عن برك وطواعيته لك. وقبل ذلك وفوقه كلام رب العالمين ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ [التحريم:60]، فيا من يرحم صغيره أن يمسه شيء من الأذى هذا اليوم ألا تخاف عليه ناراً حامية تحرق الناس والحجارة يوم القيامة، وما شعورك حينذاك حين تتذكر أنك سبب في دخوله النار والعياذ بالله تعالى.
عباد الله، الأمر ليس بالهين، فالأولاد أمانة، وزماننا يشهد من الفتن والمغريات ما يشيب لهوله الولدان، ويا سعادة من أكرمه الله بصلاح أولاده فهو في سعادة وحبور لا يوصف، وهو محل للغبطة من الآخرين، سئل الحسن البصري رحمه الله تعالى عن قوله تعالى: رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْواجِنَا وَذُرّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ [الفرقان:74]، ما هذه القرة الأعين أفي الدنيا أم في الآخرة؟ فقال: لا بل والله في الدنيا، قيل ما هي؟ قال: والله أن يري الله العبد من زوجته، من أخيه، من حميمه طاعة الله، لا والله ما شيء أحب إلى المرء المسلم من أن يرى ولداً أو والداً أو حميماً أو أخاً مطيعاً لله عز وجل.
وقد كان سلفنا الكرام يحرصون على تأديب أولادهم ورعايتهم وتلقينهم معالي الأمور، يذكر أن المنصور بعث إلى من في الحبس من بني أمية وسألهم عن أشد ما مر بهم في هذا الحبس؟ فقالوا: ما فقدنا من تربية أولادنا، وكانوا يعتنون بالأدب والتربية السليمة أكثر من اهتمامهم بطلب العلم، هذا الإمام مالك رحمه الله إمام دار الهجرة يقول: كانت أمي تعممني ـ أي تلبسه العمامة ـ وتقول لي: اذهب إلى ربيعة فتعلم من أدبه قبل علمه.
وسأل رجل مالكاً رحمه الله عن طلب العلم فقال له: إن طلب العلم يحسن، لكن انظر الذي يلزمك من حين تصبح حتى تمسي ومن حين تمسي حتى تصبح فالزمه ولا تؤثرن عليه شيئاً.
وهذا إبراهيم بن حبيب رحمه الله يقول: قال لي أبي: يا بني إيت الفقهاء والعلماء وتعلم منهم، وخذ من أدبهم وأخلاقهم وهديهم؛ فإن ذاك أحب إلي من كثير من الحديث.
هذا كلامهم وهذه وصاياهم رحمهم الله مع الفارق الكبير بين زمانهم وزماننا من حيث تنوع المغريات وكثرة الصوارف والملهيات، فإلى الله نشكو حالنا وتقصيرنا مع أنفسنا وأولادنا، اللهم قنا وأهالينا وذرياتنا من النار، اللهم أصلح لنا ذرياتنا واجعلهم نشأً مباركاً صالحاً مصلحاً يا كريم، ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين. برحمتك يا أرحم الراحمين، وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية
أما بعد: فيا معشر المؤمنين، اتقوا الله ربكم وقوموا بواجبكم واحرصوا على تربية أولادكم كحرصكم على طعامهم وشرابهم.
وعوداً على بدء، هذه رسالة مفتوحة مقروءة أبعثها إلى فئة من مجتمعنا، لها بصمة واضحة في التعامل مع الأولاد، ولها دور لا ينكر في تقويم أولادنا وتوجيههم، وعليهم المعول بعد الله عز وجل في تكميل دور الوالدين، بل وفي التعويض عنه أحياناً عند فقده، فإليكم يا معشر المعلمين هذه الكلمات:
أيها المعلم، ما ظنك بنفسك لو طبقنا عليك تلك المعايير التي كان أسلافنا يراعونها في المعلمين حين كانوا يفتشون عمن يأخذون عنه العلم وينقبون عن سمته وهديه قبل الجثو بين يديه والتلقي منه. يقول إبراهيم النخعي رحمه الله: كانوا إذا أتوا الرجل ليأخذوا عنه نظروا إلى سمته وإلى صلاته وإلى حاله ثم يأخذون عنه. ويقول أيضاً: كنا إذا أردنا أن نأخذ عن شيخ سألنا عن مطعمه ومشربه ومدخله ومخرجه، فإن كان على استواء أخذنا عنه وإلا لم نأته. وقد كان السلف يحرصون على أخذ الأدب والخلق من المعلم أكثر من حرصهم على أخذ العلم، هذا الحسين بن إسماعيل يحكي عن والده قائلاً: كنا نجتمع في مجلس الإمام أحمد زهاء على خمسة آلاف أو يزيدون، أقل من خمسمائة يكتبون والباقي يتعلمون منه حسن الأدب وحسن السمت.
وروى الإمام مالك عن ابن سيرين رحمه الله أنه قال واصفاً حال كبار التابعين: كانوا يتعلمون الهدي كما يتعلمون العلم. وكان أصحاب عبد الله بن مسعود يرحلون إليه فينظرون إلى سمته وهديه ودلِّه فيتشبهون به. وذكر الخطيب البغدادي رحمه الله تعالى في ترجمة الإمام علي بن المديني رحمه الله أن الناس كانوا يكتبون قيامه وقعوده ولباسه وكل شيء يقول ويفعل.
وقال ابن وهب رحمه الله: ما نقلنا من أدب مالك أكثر مما تعلمنا من علمه.
وما منا أحد جلس في مقاعد الدراسة وتقلب في جنبات المدارس والجامعات إلا ويذكر بعض معلميه بالخير ممن كان لهم أثر عليه في علم أو سلوك أو حسن خلق، فيا معشر المعلمين تذكروا ما أنتم عليه من المسئولية العظيمة والأمانة الثقيلة حين يقبل عليكم أولاد المسلمين فينهلون من أخلاقكم وتعاملكم أكثر من علمكم شئتم أم أبيتم، ومن شك في شيء من هذا فليسل ابنه الصغير قبل الكبير فسيرى ويسمع عجباً.
عار عليك أيها المعلم أن تكون أخلاقك وتصرفاتك مخالفة لما تقوله لطلابك، عار عليك أيها المعلم حين تعامل طلابك وكأنهم خشب مسندة لا تشعر ولا تحس، أي أثر يسري في طلابك أيها المعلم وهم يرون منك همة ضعيفة وتعاملاً سيئاً، أخي المعلم تذكر أن من طلابك من هو يتيم العلم والأدب فلا تزد الطين بللاً ولا الإهمال إهمالاً.
ووالله إن لك أيها المعلم من الأثر في طلابك ما قد لا تتصوره، فاحتسب الأجر وأحسن العمل، وإياك أن يشغلك عن مهمتك الأساسية الحديث عن مميزات المعلم وإجازاته وعن تعامل المسئولين مع المعلم، فكم سمعنا من المعلمين من يندب حظه في هذه الوظيفة ويتمنى أن لو كان موظفاً ذا كرسي ثابت أو دوار يبقى ساكناً في مكانه لا يشغله طالب ولا يدعوه مدير ولا يواجه ولي أمر، ولكن لو استشعر المعلمون ما هم عليه من أبواب الخير والأجر لأدركوا نعمة الله عليهم حين يورثون أبناء المسلمين علماً نافعاً وأدباً يبقى صدقة جارية لا ينضب معينها، يكفيكم يا معشر المعلمين قول المعلم الحبيب : ((إن الله وملائكته وأهل السموات والأرضين حتى النملة في جحرها وحتى الحوت ليصلون على معلم الناس الخير)) أخرجه الترمذي وقال حديث حسن غريب صحيح، ونقل الترمذي أيضاً قول الفضيل بن عياض: عالم عامل معلم يدعى كبيراً في ملكوت السموات. فهنيئاً لمن كان معلماً للخير داعياً إلى الله مرشداً وموجهاً وبالخير سابقاً، وهنيئاً ثم هنيئاً لمن كان قدوة لأولاده وطلابه في حسن الخلق ولزوم الطاعة والبعد عن سفاسف الأمور.
دعوة للإصلاح
...
...
3058
...
الأسرة والمجتمع
...
...
قضايا المجتمع
...
يوسف بن عبد الوهاب أبو سنينه
...
...
القدس
...
14/12/1423
...
...
المسجد الأقصى
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- الأعياد لإقامة ذكر الله والاتعاظ للمعاد. 2- الإصلاح مسئولية الجميع. 3- فساد البيوت ونماذج كيفية إصلاحها. 4- كلمة لإصلاح حال العلم والمدارس في مجتمعاتنا. 5- دور المسجد في نشر العلم. 6- وسائل الإعلام أضحى دورها الإفساد والتخريب. 7- مظاهر سلبية في القدس المحتلة. 8- لماذا يراد حرب العراق.
الخطبة الأولى
أما بعد: أيها المؤمنون، اتقوا الله تبارك وتعالى، وأوفوا بالعهود، أفردوه بالعبادة، فهو الواحد المعبود، واشكروه على ما أنعم عليكم من نعمة الإسلام والإيمان وما جمع لكم في هذا اليوم العظيم.
إنه يوم كريم وفيه موسمان عظيمان، يوم الجمعة، وهو اليوم الأزهر، ويوم العيد من أيام عيد الأضحى، وتذكروا أيها المؤمنون أن الله تعالى جعل هذه الأعياد إقامة لذكره وتذكاراً للمعاد، فأكثروا فيها من ذكر الله، وسارعوا بذلك إلى جنته ورضاه قبل أن يرى المسيء ما قدمت يداه ويقل المفرط: يا حسرتى على ما فطرت في جنب الله.
جعلني الله وإياكم من الذاكرين الشاكرين، وغفر لنا جميعاً بمنه وكرمه، إنه خير الغافرين.
أخرج البخاري ومسم عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته، فالإمام راع، وهو مسؤول عن رعيته، والرجل راع في أهله وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها وهي مسؤولة عن رعيتها، والخادم راع وهو مسؤول عن رعيته، والرجل راع وهو مسؤول عن رعيته)).
عباد الله، متى تصلح التربية؟ ومتى نكون جادين في إصلاح المجتمع؟ إن المجتمع الذي نعيشه ما من يوم ينشق فجر إلا ويزداد انحداراً، فمتى نكون على خط مستقيم؟ يوم نعنى بالمنزل والمدرسة والمسجد والإعلام، هذه المؤسسات لا بد أن توضع أمام عيوننا وضعاً صحيحاً، فكيف أصبح حال المنزل وحال المدرسة وحال المسجد وحال الإعلام؟
أما المنزل فقد امتدت إليه يد الإعلام المفسدة المدمرة المهلكة فماذا كانت النتيجة؟ فساد في الأسرة على جميع المستويات، تحطمت وضاعت وأصبحت في مرحلة صعبة، العلاقة بين أفراد الأسرة الواحدة أصبحت سيئة، أتدرون لماذا يا عباد الله؟ لأننا لم نلتزم بتطبيق أحكام الإسلام ولم نلتزم بسنة المصطفى عليه الصلاة والسلام، فالنتائج كما ترون تزداد سوءاً يوماً بعد يوم.
أيها المسلمون، إن الإسلام بلغ من حرصه على تماسك الأسرة أنه وصى الآباء عند زفاف بناتهم أن يوصوهن بحس المعاشرة لأزواجهن، فهذا عبد الله جعفر رضي الله عنه يقول لابنته ليلة زفافها: يا ابنتي إياك والغيرة فإن الغيرة مفتاح الطلاق، وإياك وكثرة العتاب فإنه يفسد المودة، واعلمي يا ابنتي أن أطيب الطيب الماء.
وهذه سيدة من سيدات العرب عندما زفت إلى بيت الزوجية أوصتها أمها وصية غالية فقالت: يا ابنتي، الوصية تذكرة للغافل ومعونة للعاقل، اعلمي بأن النساء خلقن للرجال، ولهن خلق الرجل يا ابنتي، إذا أردت أن تدوم المعاشرة بينك وبين زوجك، فكوني له أمة يكون لك عبداً، وكوني له أرضاً يكن لك سماءً، واحفظي له خصالاً عشراً يكون لك بها ذخراً.
اسمعوا أيها المؤمنون هذه الوصايا العشر، اسمعوها جيداً، وبعد ذلك اعملوا بما فيها، فإن الحكمة ضالة المؤمنين أين وجدها اتزموها، قالت الأم لابنتها:
أما الوصية الأولى والثانية: فعليك بالخشوع له بالقناعة وحسن السمع له والطاعة.
وأما الثالثة والرابعة: فتفقدي مواضع عينه وأنفه، فلا تقع عينه منك على قبيح ولا يشم منك إلا أطيب ريح.
وأما الخامسة والسادسة: فتفقدي أوقات طعامه ومنامه، فإن شدة الجوع ملهبة، وتنغيص المنام مغضبة.
وأما السابعة والثامنة: فالاحتراس لماله وحسن الرعاية لحشمه وعياله، وملاك الأمر في المال حسن التدبير، وفي العيال حسن التقدير.
وأما التاسعة والعاشرة: فلا تفش له سراً، ولا تعص له أمراً، إنك إن أفشيت سره أوغرت صدره، وإن خالفت أمره لم تأمني مكره.
ثم ختمت وصيتها الغالية قائلة: إياك والفرح بين يديه إن كان حزيناً، وإياك والحزن بين يديه إن كان فرحاً. هكذا يبين لنا الإسلام مدى ما للوصية من أثر طيب.
ورسولنا الأكرم صلى الله عليه وسلم يقول للرجال: ((استوصوا بالنساء خيراً، فإنهن خلقن من ضلع أعوج))[1].
أيها المؤمنون، وبلغ من حكمة الإسلام في حسن معاشرة النساء أن رجلاً جاء إلى أمير المؤمنين عمر يشكو له سوء معاملة زوجته، فلما جلس في مجلس عمر وجد أن عمر غضبان من زوجته، وقام الرجل دون أن يتكلم، ونادى عليه أمير المؤمنين: يا أيها الرجل فيم جئتنا؟ فقال له الرجل بلسان صريح: جئت أشكو إليك سوء معاملة زوجتي فرأيتك يا أمير المؤمنين تشكو مما منه أشكو، جئت أشكو إليك، فلقيتك أنت في حاجة إلى من تشكو إليه. فماذا قال له عمر صاحب الخلافة والإمارة؟ قال له: يا أخي، إن زوجتي طاهية طعامي وغاسلة ثيابي وقاضية حاجتي ومرضعة أولادي، فإذا أساءت مرة فليس لنا أن نذكر سيئاتها وننسى حسناتها. هكذا كانت المعاملة في الأسرة، حسن في المعاشرة الزوجية، دخل الرجل على أمير المؤمنين وبين أضلاعه نار تتأجج، وخرج من عنده وبين أضلاعه نور يهدي إلى صراط مستقيم.
أيها المؤمنون، لماذا ضاعت الأخلاق؟ لماذا ضاعت التربية؟ لماذا ساءت المعاشرة الزوجية؟ اسمعوا قول الباري جل في علاه: وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً [النساء:19].
أما عن المدرسة فحدِّث ولا حرج، خلت من الدين، وخلت من القرآن، بل خلت من العلم ذاته، فقدت الأمانة عند بعض المعلمين والمعلمات، وأصبحت النية فاسدة، لا أحد ينوي طلب العلم لله، بل للوظيفة والمركز والمستوى في وسط المجتمع.
ورحمه الله الإمام الغزالي عندما قال: طلبنا العلم لغير الله فأبى العلم أن يكون إلا لله.
فيا أيها المسؤولون في المدارس والمؤسسات التعليمية في بلادنا، اتقوا الله واعملوا لله، فعملكم من أشرف الأعمال عند الله، هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون، فقوموا بعملكم على أحسن ما يكون، وأخلصوا نياتكم لله، فمقامكم عظيم، وعملكم جسيم.
وأنتم أيها الطلاب، ادرسوا العلم لله، ادرسوه لرفعة أمتكم، فأمتنا سادت العالم وحمت الدنيا عندما كان همها العلم.
وأنتم أيها الآباء، شجعوا أولادكم على مدارسة العلم، وراقبوا أحوالهم، وتفقدوهم ليل نهار، فمسؤولياتكم كثيرة، وسوف تسألون أمام الله، وقوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة.
وتذكروا أيها المؤمنون، أن طلب العلم يحتاج إلى تقوى، فالله سبحانه وتعالى يقول: وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَيُعَلّمُكُمُ اللَّهُ [البقرة:282]. والإمام الشافعي رضي الله عنه يقول:
شكوت إلى وكيع سوء حفظي فأرشدني إلى ترك المعاصي
وأخبرني بأن العلم نور ونور الله لا يهدي لعاصي
أما عن المساجد، فهي تشكو حالها إلى الله، هجرها أهل العلم، وأصبحوا لا يصلون فيها إلا في المناسبات أو عند حضور بعض الجنازات! أين حلقات العلم في المساجد؟ أين عمار المساجد؟ أين العباد والزهاد من أبناء هذه الأمة، من أهل الصلاح؟ أين حلقات العلم في بيت المقدس.
رحم الله أحد العلماء ويروي أنه الإمام حجة الإسلام الغزالي، عندما دخل المسجد الأقصى ورأى حلقات العلم لم تتجاوز الثلاثمائة قال: لقد ضاع العلم في بيت المقدس، فكيف لو حضرت اليوم بيت المقدس؟! أيها الإمام كيف لو زرت المسجد الأقصى ورأيت تقاعس المسؤولين وضعف الموظفين وقلة الدين وانحسار المعلمين وعدم وجود طلبة العلم، ما لنا لا نجد للعلم حملة. سبحان الله!
اعلموا ـ يا عباد الله ـ أن الأمم لا ترقى إلا بالعلم، الأمم لا ترقى إلا بالتعلم.
أما عن وسائل الإعلام، فليتها تسكت وتنام، وسائل الإعلام ليست هادفة بل أصبحت وللأسف الشديد مدمرة، لا تبث ولا تنشر ما هو مفيد للأمة، بل تبث برامج في بعض الأحيان مهلكة للإنسان.
فيا أيها المسؤولون عن وسائل الإعلام، انشروا ما هو مفيد لأبنائنا، فكفانا شر الأعداء، كفانا هزالاً، كفانا هدماً بالأخلاق، كفانا سباتاً وضعفاً أمام الأعداء، انشروا البرامج التي تظهر رقي الأمة، فأمتنا حضارتها عريقة، يشهد لها الأعداء قبل الأصدقاء، فأنتم ترون أجيال اليوم، فهم في بعد عن الله، أجهزة الإعلام اليوم تستطيع أن تخلق من الحبة قُبة، ومن النملة فيلاً، ومن ذرة الرمال كوكباً أقوى من الشمس، أجهزة الإعلام اليوم تستطيع أن تصنع من الفأر جملاً.
عباد الله، علاجنا الصلح مع الله، أركان الصلح مع الله في قوله تعالى: الَّذِينَ إِنْ مَّكَّنَّاهُمْ فِى الأرْضِ أَقَامُواْ الصلاةَ وَاتَوُاْ الزكاةَ وَأَمَرُواْ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْاْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الاْمُورِ [الحج:41].
اللهم رد كيد الأعداء إلى نحورهم، ونعوذ بك من شرورهم، اللهم شتت جمعهم وفرق تحالفهم، اللهم عليك بأعداء المسلمين فإنهم لا يعجزونك، اللهم احصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً.
عباد الله، توجهوا إلى المولى الكريم، وادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، فيا فوز المستغفرين، استغفروا الله.
[1] رواه البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة (3331)، كناب أحاديث الأنبياء، باب خلق آدم، ورواه مسلم في صحيحه (1468) كتاب الرضاع، باب الوصية بالنساء.
الخطبة الثانية
الحمد لله وكفى والصلاة والسلام على عباده الذي اصطفى، وخصوصاً نبينا وسيدنا الحبيب المصطفى.
ونشهد أن لا إله إلا الله، صاحب الفضل والوفا، ونشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله المجتبى، صلى الله عليه وعلى آله الأطهار الشرفا، وأصحابه الكرام الحنفا.
أما بعد: أيها المسلمون، إن إلقاء نظرة إلى واقع مجتمعنا الفلسطيني تري الناظر من خلالها العجب العجاب، فإن فئات كثيرة من أبناء شعبنا الفلسطيني المسلم سيما في بيت المقدس، بالذات أرض الرباط لم يتعظوا من الاحتلال الإسرائيلي وممارساته القمعية، وشعبنا الفلسطيني وبدلاً من أن يصطلحوا مع الله سبحانه وتعالى ويتجملوا بتعاليم الإسلام السمحة القائمة على الصدق والشرف والفضيلة والإيمان والإخاء والاستقامة والأخلاق الحميدة، تراهم يرتعون في الفساد والرعونة، في غياب دولة الإسلام، في غياب سلطة القانون، في غياب النظام العام.
أيها المصلون، لقد تحدثت في خطبة سابقة عن ظواهر سلبية كثيرة منتشرة في مجتمعنا الفلسطيني زادت معاناة شعبنا زيادة عما يعانيه من ظلم وقهر واستبداد المحتل، تحدثت عن استفحال ظاهرة المخدرات وعمليات إسقاط العديد من شبابنا وشاباتنا فيها، تحدثت عن جريمة القتل والنصب والاحتيال، تحدثت عن تزوير الوثائق الرسمية وسرقة الأراضي بغير حق مشروع، تحدثت عن المواد الغذائية الفاسدة.(68/36)
أيها المصلون، أتحدث إليكم اليوم عن ظاهرة لا تقل خطورة عن الظواهر السابقة، إنها ظاهرة إذلال شعبنا الفلسطيني. فالصفوف المتراصة أمام مبنى الداخلية ومبنى التأمين الوطني تقضّ مضاجعنا، وتؤرق جفوننا، هذه الصفوف الطويلة التي تتلظى بحرقة الشمس صيفاً وتنكوي بلسعات البرد شتاءً، تريد أن تنهي معاملات ضرورية لها للاستمرار في الثبات والبقاء والعيش في أرضهم ومساكنهم، هذه الصفوف تعكس عنت وظلم المحتل أولاً، ثم تعكس وللأسف استغلال هذه الظروف الصعبة من قبل فئات ضالة من أبناء شعبنا الفلسطيني، فكثير من الشباب ينامون ليل نهار أمام مكاتب الداخلية وأمام مكاتب التأمين الوطني لحجز أدوار لهم، ثم يقومون ببيعها لمن هم بحاجة ماسة لإنهاء معاملاتهم هؤلاء لا يتورعون عن رؤية امرأة تحمل طفلاً رضيعاً، ولا كهلاً يتكأ على عصاه، ولا عجوزاً تجر أذيالها، صور مأساوية في الداخل، تباطؤ وحرق أعصاب وتحقيق، وفي الخارج بلطجة وزعرنة، وليت الأمر يقف عند هذا الحد، بل يتعدى الأمر إلى تبادل السباب والشتائم بأفظع الألفاظ على مسمع الجميع وعلى مرأى من قوات الاحتلال، يا للعجب ويا للعار! ألم تدرك هذه الفئات المارقة الضالة أبعاد وآثار الاحتلال المدمر والتي تستهدف بالدرجة الأولى إبعادنا عن روح الإسلام واستمرار العدوان وقتل الأبرياء وهدم المنازل على ساكنيها وهم أحياء واحتلال الأرض وطمس الهوية الإسلامية والعربية والفلسطينية كلها عامة ولبيت المقدس خاصة، لتزيد من معاناة شعبنا دون وازع من دين أو أخلاق.
أيها المصلون، هذه الظواهر تستعدي انتباهنا وتستدعي الوقوف بحزم أمام هذه الفئات التي تمعن في رعونتها وتزيد من تفاقم معاناة شعبنا.
أيها المسلمون، إذا كانت أوضاعنا الداخلية تستأثر باهتمامنا كشعب يتطلع إلى الحرية والعيش بكرامة، فإنه لا يغيب عن بالنا ما يخطط لشعب العراق المسلم من عدوان ودمار وتقسيم، فالأوراق كل الأوراق أصبحت اليوم مكشوفة، أمريكا الحاقدة، وبريطانيا الماكرة أنهوا استعداداتهم العسكرية ونشروا قواتهم البرية وطائراتهم الحربية ومدمراتهم البحرية وحاملات الطائرات. أمريكا وبريطانيا حصلتا على الموافقة المبطنة من بعض زعماء عالمنا الإسلامي والعربي لضرب العراق. تركيا التي احتضنت الشهر الماضي مؤتمر وزراء خارجية عدد من الدول العربية والإسلامية أعلنت أنها لا يمكنها أن تتخلى عن مساعدة أمريكا حليفتها الاستراتيجية. الدول العربية المحيطة بالعراق منحت أراضيها ومطاراتها لاستقبال طائرات وجنود الأعداء.
أيها المسلمون، فقد أعلن وزير الخارجية الأمريكي صراحة أن العراق يشكل خطراً على إسرائيل، وكرر طويلاً وقوف العراق إلى جانب نضال الشعب الفلسطيني، إنه لا يريد أحداً أن يدعم نضال شعبنا أو يساعده، يريد من الجميع أن يعقدوا معاهدات سلام مع إسرائيل رغم احتلالها للأراضي الفلسطينية.
وأعلن وزير الخارجية الأمريكي في بيانه صراحة، أن أمريكا تسعى إلى تغيير خارطة المنطقة بعد سقوط النظام العراقي. إنها المؤامرة المزدوجة ضد شعبنا الفلسطيني الصامد وضد الشعب العراقي المحاصر. فماذا بعد؟
أيها المسلمون، عالمنا العربي والإسلامي ينتظران انقضاض الأعداء على الشعب العراقي، فهل من صحوة إسلامية عربية جريئة ترد المعتدين خائبين أم كما قالت حكام العرب: لقد فات الأوان
ـــــــــــــــــــ(68/37)
...
برّ الوالدين
...
...
3190
...
الأسرة والمجتمع
...
...
الوالدان
...
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
...
...
الرياض
...
16/2/1424
...
...
جامع الإمام تركي بن عبد الله
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- عظم فضل الوالدين. 2- فضل بر الوالدين. 3- الأمر ببر الوالدين. 4- بر الأبوين غير المسلمين. 5- بر الوالدين بعد وفاتهما. 6- البر بالأبوين سبب لبر الأبناء. 7- شأن أويس القرني البار. 8- التحذير من العقوق. 9- دعوة للتدارك.
الخطبة الأولى
أما بعد: فيا أيّها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
أخي المسلم، إنَّ لأبويك عليك حقًّا عظيمًا وواجبًا أكيدًا، فهما السّبب بعدَ الله في إيجادك، وهما اللذان قاما بتربيتِك وإصلاح حالِك، وهما اللذان أنفقا عليك، وهما اللذان تولَّيا التربيةَ لك منذ نشأتِك إلى أن بلغتَ رشدَك.
أخي المسلم، فتذكَّر الأمَّ وفعلَها الجميل ومعروفها السابِق، تذكَّر أيّام كنتَ تتعِبها في الحمل وعند الولادة، وأيّامَ كانت تعاني من حضانتِك ورضاعك وتربيتِك والقيام بحقّك وسهر الليالي الطويلة في سبيل راحتِك وطمأنينتِك، كم ترضَى بالسهر لنومِك، وكم ترضى بجوعٍ لشِبعك، وكم ترتاح بالتّعب لراحتِك، وكم تؤمِّل فيك وتؤمِّل، وكم ترجو من الله على يدَيك الخيرَ لها، كم تفرَح بك، وكم يؤنِسها صحَّتك وسلامتُك، وكم يسيؤُها مرضك وتعبُك، إن أصابك مرضٌ مرضت قبلك، وإن أصابَك خير فرِحت قبلك، فهي ترعَاك حقَّ الرعاية، وتحنو عليك حقَّ الحنان، وهي ترقُب كبرَك، وتترقّب ساعة بلوغك ورشدِك، وهي دائمًا ترعاك، ودائمًا رقَّة قلبها لك، فرحمتُها لك عظيمة، وبرُّها بك قديم، وشفقتُها وإحسانها إليك.
أخي المسلم، هل تنسى تلك المواقف لها؟! وهل تتجاهلُ تلك المكارمَ لها؟! وهل تنسى جميلها وبرَّها وإحسانها؟! وكيف تعامِلها بالجفاء والقسوة والغِلظة مع ما بذلت مِن رحمةٍ وحنانٍ وشَفقة؟!
تذكَّر الأبَ وفرحَه بمقدمك وسرورَه بوجودك، تذكَّر الأبَ وكم يكدَح وكم يسعى في سبيل توفير الحياةِ السعيدة لك، وكم يشفِق عليك، وكم يترقَّب كبرك، وكم ينتظِر منك الجميلَ والإحسان.
أيّها المسلم، هكذا فِعلُ الأبوين بك، فعلى أيِّ شيء نويتَ وقصدتَ؟! هل تكون برًّا كريمًا، تعرف للمعروف سابقتَه ولأهل الجميل جميلَهم؟! هل عزمتَ أن تردَّ شيئًا من المعروف لهما؟! هل عزمتَ أن تبرَّ بهما؟! هل عزمتَ أن تقصِد رضاهما؟! فإنَّ ذلك خلقٌ إيمانيّ كريم.
أيّها المسلم، إنَّ ربَّنا جلَّ وعلا في كتابه العزيز قد حثَّنا على البرِّ بالأبوين والإحسان إليهما في آيٍ كثير من كتابه العزيز، فبِرّ الوالدين أمرٌ عظيم، وحقُّهما كبير عالٍ، برُّهما قرينُ التّوحيد في كتاب الله: وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَاناً [الإسراء:23]. هو سببٌ لدخول الجنّة، بل برّهما أوسطُ أبواب الجنة. برُّهما خلُق الأنبياء وآدابُ الصالحين الفضلاء. برُّهما من أفضل الأعمال التي يتقرَّب بها العبد، فبرُّهما رضًا للربِّ المتعال. برُّهما سببٌ في زيادة الرّزق، وبرّهما سبب في بركة العمر، وبرُّهما سببٌ في برِّ الأبناء لك بعد ذلك، وبرُّهما سببٌ لصلاح الذريّة، وبرّهما خير كثيرٌ وعمل صالحٌ لمن وفَّقه الله وهداه وأعانَه على نفسِه.
أخي المسلم، إنَّ مَن صَنَع إليك معروفًا من الخلق ترى ضرورةً لك أن تقابِل إحسانَه بالإحسان وفعلَه بالفعل الطيّب، أفأحدٌ بذَل معك معروفًا بعد فضل الله عليك مثلُ الأبوين؟! لا أحدَ برَّ بك وأحسَن بعد الله من أبويك، فقابِل المعروفَ بالمعروف، وقابِل الإحسانَ بالإحسان، هَلْ جَزَاء الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ [الرحمن:60].
أيّها المسلم، إنَّ الله جلّ وعلا قال لنا في كتابه العزيز: وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِى صَغِيرًا [الإسراء:23، 24].
هكذا توجيهُ القرآن الكريم، يبيِّن تعالى أنَّه قضى ووصَّى وأمَر بعبادته وحدَه لا شريك له، فهو المستحقُّ أن يُعبَد دون سواه، وقضى بالإحسان إلى الوالدين، والإحسانُ إليهما طاعتُهما، النفقةُ عليهما، برّهما، الإحسان إليهما، مخاطبتُهما بكلِّ خطابٍ ليّن، تفريجُ همومِهما، تنفيسُ كلِّ ضائقَة حلَّت بهما، القيامُ بذلك خيرَ قيام.
إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا، فإنَّ البرَّ إنّما يحتاج الأبوانِ إليه عند كِبر سنِّهما ورقَّة عظمهما وضعفِ قوَّتهما واحتياجهما إلى من يقِف معهما في أحوالهما، مَن كان قويًّا فإنّه يخدِم نفسَه بنفسه، ولكن عندما يبلغ الأبوانِ الكبر، كلاهما أو أحدهما، فعند ذلك يأتي دورُ الأبناء البرَرَة ودورُ البنات البرَرَة.
إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا، ماذا؟ فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفّ، تأدَّب في الخِطاب معهما، فهما قد بَلغَا مِن السنِّ مبلغًا، كلُّ كلامٍ قاسٍ يؤثِّر على نفسيهما ويسيء إليهما، فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفّ، ولو أدنى كلام [ينمّ] عن جفاءٍ وغِلظة، قال بعض السلف: "لو علِم الله أقلَّ من الأفِّ لنهى عنه".
فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا، لا ترفَع الصوتَ عليهما، لا تخاطِبهما بخطابِ جفاء وغِلظة وعدمِ احترام، وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا، قولاً ليِّنًا سهلاً ينمي عن محبَّة وبرٍّ ورفق وحنان عليهما.
وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلّ مِنَ الرَّحْمَةِ، تواضَع لهما ولا تتكبَّر عليهما، فلا يغرنّك مال ولا جاهٌ ولا رِفعة في الدنيا، لا تصرفنَّك تلك الأمور عن حقوقهما، فالحقُّ واجب مهما كان حالك، وقُل لهما قولاً كريمًا ليِّنا سهلاً، وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلّ مِنَ الرَّحْمَةِ.
ثم قال: وَقُل رَّبّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِى صَغِيرًا، هكذا البارُّ المحسِن المؤدِّي للواجب، إذا قابل بين فعلِ الأبوين وبين فعلِه علِم أنَّ فعلَ الأبوين سابقٌ وعظيم، ومهما بذل الأبناءُ لن يستطيعوا أن يصِيروا إلى ما كان عليه الأبوان، الأبوان فعلُهما أعظمُ وأجلّ، لا يستطيع البارّ أن يقابلَ الفعلَ الجميل، ولا أن يقابِل المعروفَ السابق، إذًا فيقول: رَّبّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِى صَغِيرًا، أي: يقول: يا ربّ هذه قدرتي على البرِّ وهذا مستطاعي، يا ربِّ لم أقدِر أن أكافئ الأبوين، يا ربِّ لم أستطعْ أن أقابلَ معروفَهما، يا ربِّ لا أستطيع أن أوفِّيَ حقَّهما، يا ربّ أنا عاجز عن ذلك، فارحمهما كما ربَّياني صغيرًا، ارحمهما برحمتِك، وجازِهما عنّي خيرًا، فإنّي مهما بذلتُ من برٍّ ومهما بذلت من قيام بالإحسان فللأبوين سابقُ الفضلِ وسابق الجميل وسابقُ المعروف، تلك الليالي من الأمّ وتلك الأيّام من الأب أفعالٌ عظيمة، ربِّ ارحمهما كما ربَّياني صغيرًا، هكذا الابن البارّ والبنت البارَّة بأمِّها.
أيّها المسلم، إنَّ البرَّ عملٌ صالح، إنّه سببٌ لتفريج الكربات، وسبب لإجابة الدّعاء، وسبب لطمأنينة النّفس، وسبب لزكاء القلب، وسببٌ لانشراح الصّدر، وسبب لاطمئنان البيت، وسبب لكلِّ خيرٍ ونعمة من الله.
فاحرِص ـ أخي المسلم ـ على أن تتقرَّب إلى الله ببرِّهما عسى أن تنالَ رضا الله، وإنَّ رضا الله في رضا الأبوين، وسخط الله في سخط الوالدين، فتقرَّب إلى الله ببرِّهما، واغتنِم حياتَهما، ولا سيَّما عند كبَر سنِّهما وضعف قوَّتِهما، فاحمَدِ الله أن جعلك قويًّا تستطيع أن توفِّيَهما شيئًا من حقِّهما، وإلاّ فلن تستطيعَ القيامَ بكلِّ الواجب.
أيّها المسلم، إنَّ نبيَّنا جعل برَّ الأبوين من أفضل الأعمال وأحبّها إلى الله، سئل : أيُّ الأعمال أحبُّ إلى الله؟ قال: ((الصلاة على وقتها))، قال السائل: ثم أيّ؟ قال: ((برّ الوالدين))، قال: ثم أيّ؟ قال: ((الجهاد في سبيل الله))[1]. فجعل برَّ الوالدين من أفضل الأعمال، جعل برَّهما بعد فريضة الصلاة.
أتى رجلٌ النّبيّ يستأذنه في الجهاد، فقال له: ((أحيٌّ والداك؟)) قال: نعم، قال: ((ارجِع، ففيهما فجاهِد))[2]، فجعل برَّهما جهادًا في سبيل الله وعملا صالحًا يُتقرَّب به إلى الله.
أيّها المسلم، فعليك ببرِّهما مهما يَكُن الحال، واعلم أنَّ برّهما يستوي فيه من كان منهما مؤمنًا ومن ليس بمؤمن، حتّى ولو كانا على خلاف دينك، فالبرّ بهما مطلوب، يقول جلّ وعلا: وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِى مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا [العنكبوت:8]، وفي الآية الأخرى: وَصَاحِبْهُمَا فِى الدُّنْيَا مَعْرُوفاً [لقمان:15]، فالبرّ بالأبوين مطلوبٌ ولو كانا غيرَ مؤمنين، فكيف بالأبوين المسلمين الطائعَين لله ورسوله؟! إذًا فالبرّ متعيِّن.
أيّها المسلم، برَّ بهما خدمةً ونفقةً، برَّ بهما قيامًا بالواجب، برّ بهما بالخطاب الطيِّب والكلام الحَسَن، وتقرَّب إلى الله بذلك.
أيّها المسلم، إنَّ من الصّدقة الجاريَة للعبد ولدًا صالحًا يدعو له بعد موتِه، ولهذا في الحديث: ((إذا مات ابنُ آدم انقطع عملُه إلا من ثلاثٍ: صدقةٍ جارية، أو علم يُنتفَع به، أو ولدٍ صالح يدعو له))[3].
برَّك بالأبوين شاملٌ لبرِّهما في حياتِهما وبرّك بهما بعدَ موتِهما، أتى رجلٌ النبيَّ فقال: يا رسول الله، ماذا بقي من برِّ أبويَّ؟ كيف أبرّ بهما بعد موتهما؟ هل بقِي من برِّ أبويَّ شيء أبرّهما به بعد موتهما؟ قال: ((نعم، الصلاةُ عليهما ـ أي: الدعاء ـ، والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدِهما، وإكرامُ صديقهما، وصلةُ الرحِم التي لا توصَل إلا بهما))[4]. فبعدَ موتِ الأبوين تدعو لهما، تستغفرُ لهما، تنفِّذ عهدَهما، تبرّ صديقَهما، تنفِّذ وصاياهما، تصِل الرحمَ التي ترتبِط بالأبوين صلةً لله جلّ وعلا، تصلها طاعةً لله جلّ وعلا.
عبدُ الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه صاحبُ رسول الله كان في طريقِه إلى مكّة، وكان معه حمارٌ يرتاح عليه بعد التّعَب من الراحلةِ، فجاءه أعرابيّ، فأعطاه حمارَه وعمامتَه، فقيل له: يا أبا عبد الرحمن، ما هذا؟ قال: إنَّ أبا هذا كان صديقًا لعمر، وإنّي سمعت رسولَ الله يقول: ((إنَّ من أبرّ البرِّ إكرامَ الرّجل أهلَ ودّ أبيه))[5].
فيا أخي المسلم، أكرِم الأبوين في الحياة، إيّاك وأن يبعِدَك عنهما قيلٌ وقال، إيّاك أن تقدّم عليهما غيرَهما، اجعَل حقّهما مؤكَّدًا، واستعِن بالله وأحسِن القصدَ ولو ابتُليتَ بما ابتليتَ به من بعض الأمور التي قد تعوق ذلك، فوطّد نفسَك وروّضها على أنَّ برّهما حقّ، وأنَّ واجِبَهما أكيد، وأنَّ حقَّهما عظيم، فعند ذلك ييسّر الله أمرَك، وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ [الطلاق:2، 3].
فاتّق الله في الأبوين، اتّق الله فيهما، أحسِن مجالستَهما ومصاحبتَهما. كم من إنسانٍ إذا كان مع الغير تراه بشوشَ الوجه حسنَ القول لطيفًا مع الغير، وإن رأى الأبوين [كشّر] وجهَه في وجوههما واستثقلهما وكرهَهما واستبطأ أجلَهما، كلّ ذلك من الجهل العظيم.
أيّها المسلم، هل ترضى لأبوَيك أن يتولّى خدمتَهما غيرُك، أو تخرجهما من دارك سآمةً ومللاً منهما، وتلقيهما عند من يُحسن إليهما وأنت في صحّةٍ وسلامة وعافية؟! إنّ هذا لهو الحرمانُ العظيم.
فليتَّق المسلمون ربَّهم في أبوَيهم، وليقوموا بهذا الواجب خيرَ قيام، وليتربَّ النشءُ على ما يرَون من آبائهم، فكونُك تبرّ بأمّك وتبرّ بأبيك زوجتُك تفعلُ ذلك، وبنوك وبناتك يفعلون ذلك، فيتواصل البرّ ويحصل الخير، أمّا إذا شاهد الأبناءُ منك عقوقًا وسوءَ خطاب انقَدح ذلك في النفوس، فعاملوك بمثل ما عاملتَ به الأبوين، وفي الأثر: "برّوا بآبائكم تبرّكم أبناؤكم".
فلنتَّقِ الله في الآباء والأمّهات، لنقدّم الخدمةَ لهما، لنرعَ كبرَهما وثقلهما، لنكونَ متقرِّبين إلى الله بهذا العمل الصالح، فعسى الله أن يعينَ الجميع على كلِّ خير، وأن يوفِّق الجميعَ لما يحبّ الله ويرضى.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كلِّ ذنب، فاستغفروه إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في المواقيت (527)، ومسلم في الإيمان (85) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.
[2] أخرجه البخاري في الجهاد (3004)، ومسلم في البر (2549) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
[3] أخرجه مسلم في الوصية (1631) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[4] أخرجه أحمد (3/497)، والبخاري في الأدب المفرد (35)، وأبو داود في الأدب (5142)، وابن ماجه في الأدب (3664)، والبيهقي (4/28) من حديث أبي أسيد مالك بن ربيعة رضي الله عنه، وصححه ابن حبان (418)، والحاكم (7260)، لكن في سنده علي بن عبيد مولى أبي أسيد والراوي عنه، قال الذهبي في الميزان (5/174): "لا يعرف"، وقال الحافظ في التقريب: "مقبول"، والحديث أورده الألباني في ضعيف الأدب (5).
[5] أخرجه مسلم في البر (2552).
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربّنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمّدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتّقوا الله تعالى حقَّ التّقوى.
عبادَ الله، نبيُّنا قال لعمرَ بن الخطاب رضي الله عنه مخبِرًا له أنّه يأتيه رجلٌ يقال له: أويس القرني، من قرن ثمّ من مُراد مِن اليمن، كان بارًّا بأمِّه، كان بِه شيءٌ من برَص، فشُفي إلا موضع دِرهم منه، وقال النبيّ لعمر: ((إن رأيتَه فمُره يستغفر لك، فإنّه مجابُ الدّعوة))، وذلك ببرّه بأمّه. فلمّا قدِم وفدُ اليمن على عمرَ سألهم عن أويس وكان قد خلّفوه في الرّكب، فجيء به، فسلّم على عمَر، وسأله عمَر أن يستغفرَ له، فاستغَفَر لعمرَ رضي الله عنه، فلمّا حجّ ذهَب إلى الكوفة، ولمّا سأل عمرُ عنه بعضَ النّاس قالوا: تركناه في غبراءِ الناس، فقيرًا رثَّ الهيئة رثّ المسكن، فقال عمر: إنّ هذا رجلٌ مجابُ الدعوة بإخبار النبيّ ، فغدا الناس إليه، فلمّا شعر بهم انطلق منطلَقًا بعيدًا، فلم يُعرَف حالُه[1].
المقصودُ أنّ برّه بأمّه كان سببًا لقبول إجابة دعوته؛ لأنّ البارّ قلبُه رقيق، قلبه مطمئنّ، إيمانُه قويّ، يُرجى له بتوفيق الله أن يجيب الله دعاءَه، ويفرّج همّه وغمَّه، كلّما حلّت به المضائق جعَل الله له مخرجًا وفرجًا، وأمّا من لم يكن بارًّا فقد عرّض نفسَه لإثمٍ عظيم.
أيّها المسلم، إنّ عقوقَ الأبوين من كبائِر الذنوب، قرينُ الشرك بالله، في الحديث يقول : ((أكبرُ الكبائر الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وقتل النّفس، واليمين الغموس))[2]، فجعل عقوقَ الوالدين قرينًا للشّرك، يدلّ على دناءة النّفس وخسّة الخلُق وضعفِ المروءة وقلّة الحياء وانعدامِ الوفاء، فأين يُرجى من العاقّ خير؟! لا يُرجى من عاقٍّ خير، لا يُرجى من عاقّ وفاء، لا يُرجى من عاقّ معاملة حسنة، لا يُرجى منه وفاء بعهدٍ ولا صِدق في الحديث، إذ لو كان فيه مسكة من خيرٍ لكان أولى النّاس بذلك أبواه، فالعاقّ ـ والعياذ بالله ـ مرتكبٌ كبيرةً من كبائرِ الذنوب، معرّض نفسَه لسوء الخاتمةِ والعياذ بالله.
يُروَى أنَّ في عهدِ النبيّ رجلاً شابًّا كان عاقًّا لأمّه مقدِّمًا عليها زوجتَه، وأنّه حضرته الوفاة، وأنّه عُرض عليه "لا إله إلا الله"، فانغلق لسانُه عن النطق بها، فأخبِر النبيّ بحاله، فجاء وقال: ((هل له من أمّ؟)) قالوا: نعم، امرأة كبيرة، فجاءت تتّكئ على عكّازة لها، فقال: ((يا هذه، لو أوقدتُ نارًا وأدخلتُ ابنَك فيها ما تودّين؟)) قالت: يا رسول الله، لا، ولدي لا أريد له ذلك، قال: ((إنّ عقوقَه بك منَعه أن ينطِق بكلمة التّوحيد))، فقالت: أشهِد اللهَ وأشهِدك أنّي قد أبَحتُه من حقّي كلّه، وأنّه نطَق بالتوحيد[3].
هكذا يُروَى وليس ذلك بالمستحيل، فإنَّ عقوقَ الوالدين قسوةٌ في القلب وغِلظة في الطّبع وعمل سيّئ.
أيّها المسلم، إن يكن صدَر منك للأبوين عقوقٌ وسوء معاملة فتدارَك عمرَك، تدارَك وقتَك واغتنِم حياتهما، واسألهما الإباحةَ والتجاوزَ قبل أن تلقى اللهَ بهذه السيئة العظيمة.
أسأل الله أن يعيننا وإياكم على كلّ خير، وأن يصلحَ ذرياتِنا ويوفّقنا لصالح الأعمال، وأن يرحمَ آباءنا وأمّهاتنا، وأن يجزيهما عنّا خيرًا، إنّه على كلّ شيء قدير.
واعلموا ـ رحمَكم الله ـ أنّ أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلّ بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإنّ يد الله على الجماعة، ومن شذّ شذّ في النار.
وصلّوا ـ رحمكم الله ـ على محمّد امتثالاً لأمر ربّكم كما أمركم في قوله: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىّ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
اللهمَّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمّد, ارضَ اللهمَّ على خلفائه الراشدين...
[1] أخرجه مسلم في فضائل الصحابة (2542) بنحوه.
[2] أخرجه البخاري في الأيمان (6675) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما بنحوه.
[3] أخرجه البيهقي في الشعب (7892) من حديث عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه بنحوه وقال: "تفرد به فائد أبو الورقاء وليس بالقوي"، وأشار المنذري في الترغيب (3/226) لضعفه، وعزاه الهيثمي في المجمع (8/148) للطبراني وقال: "فيه فائد أبو الورقاء وهو متروك"، وقال الألباني في ضعيف الترغيب (1487): "ضعيف جدا".
ـــــــــــــــــــ(68/38)
نعمة الأمن
...
...
3192
...
الأسرة والمجتمع
...
...
قضايا المجتمع
...
علي بن عبد الرحمن الحذيفي
...
...
المدينة المنورة
...
23/2/1424
...
...
المسجد النبوي
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- فضل تذكّر النعم وشكرها. 2- أعظم النعم الإيمان. 3- فضل الأمن. 4- مفاسد الخوف. 5-لا أمن إلا بالإسلام. 6- وجوب شكر النعم. 7- لا تنفع النعم بلا إيمان.
الخطبة الأولى
أمّا بعد: فاتَّقوا اللهَ ـ عبادَ الله ـ بامتثال ما أمَر والبُعد عمَّا نهى عنه وزجَر، فتقوى الله خيرُ زادٍ ليوم المعاد، وحصنٌ للعباد في الدّنيا من كلّ ما يخافون، ورجاءٌ لهم في كلِّ ما يحبّون.
أيّها المسلمون، إنَّ ممَّا يصلِح القلوبَ ويزكِّي الأعمالَ ويوجب الحياءَ من ربِّ العزة والجلال ويُثمر التوبةَ والإنابة إلى الله تذكّرَ نعم الله العباد والخلقِ عامّة، ونعمَ الله على الفردِ خاصّة. وقد أمَر الله بتذكّر النّعم في كلّ وقتٍ ليشكرَها الخلق ويوفّوا بحقوقِها لتدومَ عليهم ويزدادوا من خزائن جودِ ربّهم، قال الله تعالى: ياأَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مّنَ السَّمَاء وَالأرْضِ لاَ اله إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ [فاطر:3]، وقال تعالى: ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [المائدة:11]، وقال تعالى: وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِى وَاثَقَكُم بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ [المائدة:7]، وقال عزّ وجلّ: إِذْ قَالَ اللَّهُ ياعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِى عَلَيْكَ وَعَلَى والِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلّمُ النَّاسَ فِى الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإنجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِى فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِى وَتُبْرِىء الأكْمَهَ وَالأبْرَصَ بِإِذْنِى وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوتَى بِإِذْنِى وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِى إِسْراءيلَ عَنكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ إِنْ هَاذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ [المائدة:110]. وقد وعَد الله تعالى بالزيادة للشاكرين فقال تعالى: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِى لَشَدِيدٌ [إبراهيم:7].
وأعظمُ النّعم وأجلُّها الإيمانُ بالله عزّ وجلّ الذي يكرِّم الله به الإنسانَ في الدنيا والآخرة، قال الله تعالى: أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً لاَّ يَسْتَوُونَ أَمَّا الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلاً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُواْ فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُواْ أَن يَخْرُجُواُ مِنْهَا أُعِيدُواْ فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُواْ عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذّبُونَ [السجدة:18-20].
الإيمانُ الذي يثبِّت في العبد كلَّ خلُق كريم، الإيمان الذي يثبِّت في العبد الرحمةَ والعطفَ والعدلَ والصِّدق والإيثار والحِلم والصّبر والشّكر والتّواضعَ لله والاعتزازَ بالدّين والشجاعة الكرَم والوفاءَ بالوعد والعهود والمواثيق والبرَّ والصلاحَ وحبّ الخير والأمر به وبغضَ الشرِّ والنهيَ عنه، وغيرَ ذلك من كلِّ ما أمر الله به أو أمر به رسولُه .
الإيمانُ الذي يطهِّر العبدَ ويمنعه من الشّرك والقتلِ والظلم والعدوان والبغيِ والقسوةِ والغفلة والمكر والخداع والكذبِ وأكلِ الحرام والربا والزّنا والمسكراتِ والمخدِّرات والموبقات والغلِّ والحسد والكِبر والفسوق، وغيرِ ذلك ممَّا نهى الله عنه أو نهى عنه رسولُه .
قال الله تعالى: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُواْ السَّيّئَاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَوَاء مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاواتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ الههُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ [الجاثية:21-23].
ومن أعظمِ نعمِ الله بعدَ الإيمان بالله عزّ وجلّ الأمنُ والطمأنينة، الأمنُ على الدّين فلا يخاف المسلم الفتنةَ على دينه، يعبُد الله لا يشرك به شيئا، لا يُصَدّ عن ذلك، والأمنُ على عرضه فلا يخاف اعتداءً عليه ولا على دمِه، الأمنُ على مالِه فلا يخاف ضياعَه، الأمنُ في حلّه وترحالِه. ذلك الأمنُ لله علينا فيه شكرُه وعبادته سبحانه ومجانبةُ معاصيه، قال الله تعالى: فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هَاذَا الْبَيْتِ الَّذِى أَطْعَمَهُم مّن جُوعٍ وَءامَنَهُم مّنْ خوْفٍ [قريش:3، 4]، وعن عبيد الله بن محصن الأنصاري رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((من أصبَح منكم آمنًا في سِربِه، معافًى في جسدِه، عنده قوتُ يومِه، فكأنّما حيزَت له الدّنيا بحذافيرها)) رواه الترمذي وقال: "حديث حسن"[1].
الأمنُ تصلح به الحياة وتزدهِر، الأمنُ ينبسط معه الآمال وتتيسَّر معه الأرزاقُ وتزيد معه التجارات، الأمنُ تفشو معه الماشية وتكثر الأمّة، الأمن تتقدَّم معه التنمية، الأمن ينتشر فيه العلمُ والتّعليم، الأمن يعزّ فيه الدين والعدل ويظهَر فيه الأخيارُ على الأشرار، الأمن يستتبّ به الاستقرار، الأمن توظَّف فيه الأموال في كلِّ مشروع نافعٍ للفرد والمجتمع، الأمن تحقَن فيه الدّماء وتصَان الأموال والأعراض، الأمن تنام فيه العيون وتطمئنّ المضاجع، الأمن يتنعَّم به الكبير والصغيرُ والإنسان والحيوان، الأمن مِن نعم الله العظمى وآلائه الكبرى، لا تصلُح الحياة إلا به، ولا يطيب العيش إلا باستتبابِه، ولذلك جعَله الله من نَعيم أهلِ الجنّة الدائم، قال الله تعالى: ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ ءامِنِينَ [الحجر:46].
وضدّ الأمنِ الخوفُ الذي تضيع به الدّماء والأموال، ويضعُف الدين، وتتقطَّع في الخوف السُّبُل والتّجارات، وتتعطَّل المصالح، وتتعطَّل التّنمية، ويسطو الأشرار، وتنتشر الفوضى، ويختفي الأمرُ بالمعروف والنهي عن المنكر، وتتراجع الأموال، وتقسو الحياة، الخوف الذي يشلُّ الحياةَ كلَّها ويدمّرها.
عبادَ الله، إنَّ الأمن لا يكون إلا في ظلِّ الإسلام والإيمان، قال الله تعالى: الَّذِينَ ءامَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأمْنُ وَهُمْ مُّهْتَدُونَ [الأنعام:82].
والمؤمنُ بتعاليم دينِه يحافظ على الأمنِ ورعايةِ المصالح العامّة، قال : ((لا يزني الزّاني حين يزني وهو مؤمِن، ولا يسرق السارق حين يسرِق وهو مؤمِن، ولا يشرَب الخمرَ حين يشربها وهو مؤمِن))[2].
ولا يقوِّض أركانَ الأمنِ إلا الكفّار والفجرةُ الأشرار، ولا تعمّ الفوضى ولا ينتشِر السلبُ والنّهب والقتل ولا تتكاثر المآسي ولا تنزِل الكوارث والطّامات بالبلدان إلاّ في ظلّ صولة الباطِل وغياب العدل والعقل، والتاريخُ شاهدٌ بذلك، قال الله تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِى بَحْرٍ لُّجّىّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ [النور:39، 40]، وقال تعالى: الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُواْ يُفْسِدُونَ [النحل:88].
معشرَ المسلمين، حافِظوا على تعاليمِ دينِكم، فهي ملاذُكم من كلِّ بلاء، وأمنُكم من كلِّ خوف، وعزّكم من كلّ ذلّ، وقوَّتكم أمام كلِّ قوة، وعصمتُكم من الضّلال، وعدَّتكم لكلّ شدّة، واشكروا نعمَ ربّكم عليكم التي أسبغها ظاهرةً وباطنة بالدَّوام على طاعاته والبُعد عن محرَّماته، قال الله تعالى: فَاذْكُرُونِى أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ [البقرة:152].
بارَك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإيّاكم بما فيه من الآياتِ والذّكر الحكيم، ونفعنا بهديِ سيّد المرسلين وبقولِه القويم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] سنن الترمذي: كتاب الزهد، باب: التوكل على الله (2346)، وأخرجه أيضا البخاري في الأدب المفرد (300)، وابن ماجه في الزهد، باب: القناعة (4141)، والحميدي في مسنده (439)، وله شواهد من حديث أبي الدرداء وابن عمر وعلي رضي الله عنهم، ولذا حسنه الألباني السلسلة الصحيحة (2318).
[2] أخرجه البخاري في المظالم (2475)، ومسلم في الإيمان (57) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
الخطبة الثانية
الحمدُ لله ذي المجدِ والكرم، الذي خلق الإنسان وعلمه القلَم، أحمده سبحانه على عظيم نعمائِه، وأشكره على عطائِه، وأشهد أن لا إله إلا الله الأعزّ الأكرم، وأشهَد أن نبيّنا وسيّدنا محمّدًا عبده ورسوله المبعوث رحمة للعالمين، اللهمّ صلّ وسلّم وبارك على عبدك ورسولك محمّد، وعلى آله وصحبِه أجمعين.
أمّا بعد: فاتّقوا الله حقَّ التقوى، وتمسَّكوا من الإسلام بالعُروة الوثقى.
أيّها المسلمون، اشكُروا نعمَ الله عليكم الظاهرةَ والباطنة التي أسبغها، فقد أنعَم عليكم لتعبدوه، وأعطاكم لتسلِموا له الوجوه، ومنَّ عليكم لتطلبوا مرضاته وتبتعِدوا عن محرَّماته، قال الله تعالى: كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ [النحل:81].
حاسِبوا أنفسَكم قبلَ أن تحاسَبوا، ولا تحتقِروا أيَّ نعمة من نعمِ ربّكم، فليس في نِعم الله حقير، وليس في آلائه صغِير، فالنّعم تحتاج إلى شكر، وتحتاج إلى صبر.
واعلَموا أنَّ عليكم من الله حافظًا، لا يخفى عليه شيء من أعمالكم ونيَّاتكم ومقاصدِكم وإراداتكم، يُحصي الله ذلك في كتاب، ويومَ القيامة يقول الله لكلِّ إنسان: اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا [الإسراء:14]، ويقول الله تعالى في الحديثِ القدسي: ((يا عبادي، إنّما هي أعمالُكم أحصيها لكم ثم أوفّيكم إيّاها، فمن وجد خيرا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنّ إلا نفسَه))[1].
واعلَموا أنّه لا ينفع أحدًا دخل النار نعمٌ تمتَّع بها في الدنيا، ولا يضرّ أحدًا بؤس وشدّة جرت عليه في الدنيا، قال الله تعالى: أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ ثُمَّ جَاءهُم مَّا كَانُواْ يُوعَدُونَ مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يُمَتَّعُونَ [الشعراء:205-207]، وفي الحديث عن النبيّ : ((يُؤتى بأنعمِ أهل الدنيا في النار، فيغمَس في النّار ويقال له: يا ابنَ آدم، هل مرّ عليك نعيم قطّ؟ فيقول: لا والله، ما مرّ عليَّ نعيم قط. ويؤتَى بأشدِّ النّاس بؤسًا من أهلِ الجنّة، فيغمَس في الجنّة ويقال له: هل مرّ بك بؤسٌ قطّ في الدّنيا؟ فيقول: والله، ما مرّ بي بؤس قط))[2].
فاحذَروا النارَ وخافوها واترُكوا سبلَها، فإنَّ حرَّها شديد، وقعرها بعيد، وطعام أهلِها الزّقّوم والضّريع، وشرابهم المهل والصّديد، ولباسهم القطران والحديد، وعذابهم أبدًا في مزيد، واطلبوا جنّةً عرضُها السماوات والأرض، لا يفنى نعيمُها ولا يبيد، يجدِّد الله النعيمَ المقيم لأهلِها، قال الله تعالى: لَهُم مَّا يَشَاءونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ [ق:35].
عبادَ الله، إنّ الله أمرَكم بأمر بدأ فيه بنفسه، فقال تعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىّ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56]، وقد قال : ((من صلّى عليَّ صلاة واحدةً صلّى الله عليه بها عشرًا)).
فصلّوا وسلّموا على سيّد الأوّلين والآخرين وإمام المرسلين.
اللهمّ صلّ على محمّد وعلى آل محمّد كما صلّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنّك حميد مجيد، وبارك على محمّد وعلى آل محمّد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنّك حميد مجيد، وسلّم تسليماً كثيراً.
اللهمَّ وارضَ عن الصّحابة أجمعين...
[1] أخرجه مسلم في البر (2577) عن أبي ذر رضي الله عنه في حديث طويل.
[2] أخرجه مسلم في صفة القيامة (2807) من حديث أنس رضي الله عنه بنحوه.
ـــــــــــــــــــ(68/39)
فضل التوحيد وأهمّيّة الأمن
...
...
3207
...
الأسرة والمجتمع, التوحيد
...
...
أهمية التوحيد, قضايا المجتمع
...
حسين بن عبد العزيز آل الشيخ
...
...
المدينة المنورة
...
22/3/1424
...
...
المسجد النبوي
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- تطلّع النفوس لتحقيق السعادة. 2- لا سعادة إلا في ظل الإسلام. 3- الإيمان هو أساس السلامة والأمن في الدنيا والآخرة. 4- تحقيق التوحيد هو سبب حفظ الله تعالى. 5- مفاسد فقدان التوحيد. 6- من فضائل التوحيد. 7- أهمية الأمن. 8- تحريم العدوان والإفساد في الأرض. 9- مفهوم الأمن في الإسلام. 10- نظام الإسلام في التعامل مع غير المسلمين. 11- مسؤولية تحقيق الأمن.
الخطبة الأولى
أمّا بعد: فيا أيّها المسلمون، أوصيكم ونفسي بتقوى الله عزّ وجلّ؛ فذلكم سببُ الأمن والاستقرار والسّعادة والرخاء.
معاشرَ المسلمين، تتطلَّع النفوس إلى ما تنشرح له وتطمئنّ به، وتتوق القلوبُ إلى ما ترتاح به وتأنَس إليه، وتتشوَّق الأبدان إلى ما تسعَد به وتهنأ في محيطه، وقد تكلِّم المفكِّرون قديمًا وحديثًا عن أسباب تحسين تلك المطالب وكيفيّة تحقيق تلك المقاصد، وإنّ الأمّة الإسلاميةَ اليوم على مستوى الأفراد والمجتمعات وهي تعيش حياةَ الاضطراب والقلَق وعدم الاطمئنان والاستقرار في ضرورةٍ إلى تحقيق ما تحصِّل به حياةً طيّبة وعيشة راضية وعاقبة حميدة، في حاجةٍ هي أشدُّ من كلّ حاجة إلى حياةٍ تنشرح فيها القلوب وتطمئنّ معها النفوس ويرتاح فيها البال وتأنَس معها الأبدان، بل البشريّة اليومَ في ضرورة إلى أن تعِي حكمةَ إيجادها وأن تعلمَ أنّه مهما أوتِيَت مِن أسباب التقدّم وعناصر الرّقيِّ فلن تجدَ للسعادة سُلَّمًا ولا للحياة الطيّبة سببًا إلا فيما ارتضاه للبشريّة خالقُها، وفيما جاءت به رسالة ربّها على خاتَم النبيّين وسيّد المرسلين نبيّنا محمّد .
معاشرَ المسلمين، إنّ الإيمان الكاملَ بالله ربًّا وبالإسلام دينًا وبمحمّد نبيًّا ورسولاً هو الأساس لتحصيل ولاية الله التي هي سُلَّم السلامَة والأمن في الدنيا والآخرة كما قال ربّنا جلّ وعلا: إِنَّ الَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُواْ تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ وَأَبْشِرُواْ بِالْجَنَّةِ الَّتِى كُنتُمْ تُوعَدُونَ [فصلت: 30]، وكما قال سبحانه: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ [يونس: 62، 63]. ولهذا فمَن حقَّق ذلك تولاَّه الله جلّ وعلا وأخرجَه من الظّلمات بصرفِه عنها أو صرفِها عنه كما قال سبحانه: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ ءامَنُواْ يُخْرِجُهُم مّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ [البقرة: 257]. فالظلمات هي ظلمات الكفر وأسبابها، والنّور هو نورُ الإيمان وأسبابه ومقتضياته، كما حكى ذلك الرازيّ إجماعًا للمفسّرين.
معاشرَ المؤمنين، إنَّ تحقيقَ التوحيد وقصد الله جلّ وعلا بالعبادة والالتجاء إليه وحدَه وتعلّق القلوب به وحدَه وكمال التوكّل عليه وعدم الالتفات إلى غيره واليأس من جميع المخلوقين وقَطع الطّمع في حصول النفع أو دفع الضرّ منهم يتحقَّق به حفظُ الله بأنواعه الثلاثة: حفظه للعبد في مصالح دنياه مِن حِفظِ بدنه وولده وأهله وماله ومجتمعه ومقدَّراته، حفظه للعَبد في دينه وإيمانِه بحفظه من الشّبهات المضِلّة ومِن الشّهوات المحرَّمة وحفظ دينِه عند موتِه فيتوفّاه الله على الإيمان، وثالِث ذلك حفظُه لعبده بعد موتِه فيثبّته عند سؤال القبر ويقيه عذابَه ويؤمِّنُه عند الفَزَع الأكبر مِن أهوالِ يوم القيامة وكُرَبها ويُدخله الجنَّة وينجيه من النّار، كما قال في ذلك كلِّه: ((يا غلام، إنّي أعلِّمك كلمات: احفَظ الله يحفظْك، احفَظِ الله تجِده تجاهَك، إذا سألتَ فاسألِ الله، وإذا استعنتَ فاستعِن بالله، واعلَم أنّ الأمّة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمَعوا على أن يضرّوك بشيء لم يضرّوك إلا بشيء قد كتَبه الله عليك، رُفعَت الأقلام وجفَّت الصّحف)) رواه الترمذي وهو حديث حسن[1].
أمّة الإسلام، إنّ فقدانَ التّوحيد وعدمَ تحصيل حقائق الإيمان يهوي بصاحبه في مقامات الظّلم والحَيرة والشّرور ويُبعده عن ولاية الله وعنايته ونصره، فَاجْتَنِبُواْ الرّجْسَ مِنَ الأوْثَانِ وَاجْتَنِبُواْ قَوْلَ الزُّورِ حُنَفَاء للَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِى بِهِ الرّيحُ فِى مَكَانٍ سَحِيقٍ [الحج: 30، 31].
إخوةَ الإيمان، إنّ صاحبَ الإيمان الحقيقيّ والعقيدة الصحيحة والتوحيد السّالم من الشّرك والبِدع يجعل الله له مخرجًا أي: فرَجًا وخلاصًا ممّا وقع أو يَقع فيه من الشّدائد والمِحن والشرور والفِتن، فييسِّر الله له طريقًا للسلامة والنجاة، ويزرقه من حيث لا يحتسِب، ويقدّر له ما يحتاج إليه وما يصلح شأنَه من أوجه كثيرةٍ لا تخطر له على بال ولا تكون في حسبان، قال تعالى: وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطلاق: 2، 3].
بتحقيق التّوحيد وتحقيق مقتضياتِه تكمُل الأسباب التي ترتفِع بها عن الأمّة الشرور وتزول بها عنها الأضرارُ التي تأتي من شياطين الإنس والجنّ، فمن طبيعة الشرّ أنه جامح مسلَّح، يبطش ولا يتحرَّج، ويضرب ولا يتورّع، قد يملك من أسباب الفتنة ما يصدُّ به عن الحق، وقد يملك من القوّة الماديّة والمغريات ما قد يزلزل القلوبَ ويستهوي النفوسَ ويزيغ الفطر، ولهذا فأهل التّوحيد الخالص والإيمان الصّحيح والطاعة الحقَّة لله ولرسوله يفوزون بدفاع الله عنهم، إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ ءامَنُواْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ [الحج: 38].
معاشرَ المسلمين، إنَّ القرآن يبيِّن الحقيقة الغائبةَ عن كثيرين بأنّه لا طريقَ لطمأنينة القلوب وسعادتها وأنسِها وبهجتها إلا بذكر الله جلّ وعلا لا بغيره، أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد: 28].
نعم، تطمئنّ بإحساسها بالصّلة بالله والأنس بجواره والأمن في جنانه، وبإدارك الحكمة في الخلق والمبدأ والمصير، تطمئنّ بذلك من حَيرة الطريق، وتطمئنّ بالشعور بالحماية من كلّ اعتداء ومن كلّ ضرّ وشرّ إلا بما شاء الله، مع الرضا بالابتلاء والصّبر على البلاء، يقول ابن القيم رحمه الله: "ففي القلب شَعَث لا يلمّه إلا الإقبال على الله، وفيه وحشةٌ لا يزيلها إلا الأنسُ به في خلوتِه، وفيه حُزن لا يذهِبه إلا السرور بمعرفته جلّ وعلا وصدق معاملته، وفيه قلَق لا يسكنه إلا الاجتماع عليه والفرار منه إليه، وفيه نيرانُ حسرات لا يطفِئها إلا الرضا بأمره ونهيِه وقضائه ومعانقة الصبر على ذلك إلى وقت لقائه، وفيه طلب شديدٌ لا يقِف دون أن يكون وحدَه سبحانه مطلوبَه، وفيه فاقة لا يسدّها إلا محبّته والإنابة إليه ودوام ذكره وصدق الإخلاص له، ولو أعطِيَ الدنيا وما فيها لن تسدّ تلك الفاقة منه أبدًا" انتهى[2].
ولهذا ـ معاشر المسلمين ـ مَن أعرض عن التوحيد وحقائقِ الإيمان ومَن انصرفَ عن طاعة الرحمن والاستقامة على السنّة والقرآن فإنّ حياتَه ومعيشته لا تكون إلا مضيّقةً عليه منكّرةً معذّبًا فيها، فالغموم والهموم والأحزان والضّيق عقوباتٌ عاجلة ونار دنيويّة وجهنّم حاضرة لمن أساء مع ربّه، بخلاف من كان موحِّدًا طائعًا لله ولرسوله فهو في ثواب عاجلٍ من الفرح والسّرور واللذة وانشراح الصّدر وانفتاحه ولذّته بمعاملة ربّه وطاعته وذكره ونعيم روحه بمحبّته وذكره، وفرحُه بربّه أعظم ممّا يفرح القريب من السّلطان الكريم عليه بسلطانه، بل هو في عيش وحياةٍ طيّبة كما ذكر ذلك العلامة ابن القيم رحمه الله، قال جلّ وعلا: فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلَامِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِى السَّمَاء كَذالِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ [الأنعام: 125]، ويقول جل وعلا: وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِى فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمَى [طه: 124].
معاشرَ المسلمين، إنّنا ونحن نتكلّم عن حقائق التّوحيد والإيمان، وأنّها هي الأسباب الحقيقيّة لتحقيق السّعادة والأمن، فلا شكّ أنّ الأمن أهمّ مطالب الحياة، وهو ضرورةٌ لكلّ جهد بشريّ لتحقيق مصالح الأفراد والمجتمعات وأهدافها وتطلّعاتها، ولا تزدهر حياةٌ وتسعَد نفوس ويهنأ عيش إلا بالأمن والاستقرار، وهو بإذن الله جلّ وعلا متحقِّق لأهل التوحيد والإيمان والطاعة والاستقامة كما قال جلّ وعلا: الَّذِينَ ءامَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأمْنُ وَهُمْ مُّهْتَدُونَ [الأنعام: 82].
ومِن هذا جاءت تحذيراتُ الشريعة القاطعة [وأصولها] الجامعةُ بالنهي الأكيدِ والتحريم الشديد عن كلّ عدوان وإفسادٍ يخلّ بالأمن أو يؤثّر على الاستقرار، قال جلّ وعلا: وَلاَ تُفْسِدُواْ فِى الأرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا [الأعراف: 65]، وقال جل وعلا: وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ [المائدة: 64].
ومِن قواعد الشريعة المحكَمة ومقاصدِه العامّة الحفاظُ على الضروريات الخمس: الدين والنفس والعقل والعِرض والمال، لذا شرعت الشريعة الأحكامَ الوقائيّة والدفاعية للحفاظ على سلامة تلك المقاصد من جهة الوجود والعَدم بما لم يأتِ له مثيل ولم يسبق له نظير، بل بالغَت التوجيهات الشرعيّة في الأمر بالحفاظ على الأمن وعدمِ المساس به بتوجيهاتٍ عديدة وأوامر ملزِمة قال : ((لا يحلّ لمسلم أن يروِّع مسلمًا)) رواه أحمد وأبو داود[3]، ونهى أن يُشهَر السلاح في أرض المسلمين فقال عليه الصلاة والسلام: ((لا يشير أحدكم إلى أخيه بالسلاح؛ فإنّه لا يدري أحدكم لعلّ الشيطانَ ينزع في يده فيقع في حفرة من النار)) متفق عليه[4].
والأمنُ في الإسلام ينبثِق من المبادئ التي جاء الإسلام بتحقيقها للبشَر ككُلّ، فهو مفهوم إسلاميّ لا يقتصر على المسلمين فحسب، بل الدّين الإسلاميّ وهو دين كلّ المبادئ المثلى والمحاسن العظمى والأخلاق الفضلى، فهو دينٌ لا تقتصر توجيهاته اللازمةُ وتعليماته الجازمة على تحقيق الأمنِ في بلاد المسلمين فحسب أو على المسلمين فقط، بل لقد ألزَم الإسلام أتباعَه بتحقيق الأمن حتى لغير المسلمين من المعاهَدين والمستأمَنين، فمن عاش في بلاد المسلمين ومجتمعاتِ المؤمنين مِن معاهَد ومستأمَن فأحكام الإسلام ضامنة له أمنَه على نفسه وماله وعِرضه ومقدَّراته كما هو مقرَّر مبحوث بالتفصيل في أحكام الفقه الإسلاميّ، وهي أحكام يلتزم بها المسلمون لا مِن منطلق المصالِح المتبادلة أو المنافع المرجوَّة، بل هي من جوانب الشّريعة التي يجب على الدولة الإسلامية أفرادًا ومجتمعات رعايتُها حقَّ رعايتِها والالتزام بها؛ إذ هي واجبٌ دينيّ قبل أن تكونَ مصلحة سياسيّةً أو التزامًا دوليًّا.
الإسلام دين محمّد نبيّ الرحمة والإحسان، فهو يقيم مجتمعًا إنسانيًّا راقيًا، تحكمه شريعة إلهيّة على أسُس وطيدةٍ من العدل والبرّ والرحمة، لا تريد للبشرية فناء ودمارًا، بل تريد بها هداية وصلاحًا وخيرًا، لذا فالإسلام يحيط التعاملَ مع غير المسلمين بنظام أخلاقيّ يتميّز بالسماحة واليُسر وحفظ النفوس والحقوق وتجنُّب الظلم والعدوان. وحينئذ فالتشريع الإسلاميّ يضمَن العيشَ الآمن لغير المسلمين في الجتمعات الإسلاميّة، فيوجب على المجتمعات الإسلاميّة دفعَ الاعتداء عن المعاهَدين والمستأمَنين الذين يحضُرون إلى بلدان الإسلام للعمَل أو لشأنٍ من الشؤون المباحَة أو المصالح العامّة التي تعود للمسلمين بإذنٍ من وليّ الأمر، قال : ((من قتل معاهدًا لم يرَح رائحة الجنة، وإنَّ ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عامًا)) رواه البخاري[5]، وعن رفاعة بن شدّاد رضي الله عنه قال: كنتُ أقوم على رأس المختار بن أبي عبيد الكذّاب مدَّعي النبوّة، فلمّا تبيّنت كذبَه هممت ـ والله ـ أن أسلّ سيفي فأضرب به عنقَه، حتّى ذكرتُ حديثًا حدّثنا به عمرو بن الحمِق قال: سمعت النبيّ يقول: ((من أمَّن رَجلاً على نفسه فقتله أُعطيَ لواءَ الغدر يوم القيامة)) رواه أحمد والنسائي والطحاوي بسند صحيح[6]، وفي لفظ عند أحمد والطحاوي بسند حسن: ((من ائتمَنه رجلٌ على دمِه فقتله فأنا منه بريء وإن كان المقتول كافرًا))[7]، وفي لفظ عند عبد الرزاق في المصنف: ((أيّما رجل أمّن رجلاً على دمه فقتله فقد برِئت من القاتل ذمّة الله وإن كان المقتول كافرًا))[8].
وإنّنا نطالب عقلاءَ العالم أن ينظروا إلى هذا الحديث بكلِّ عين باصرةٍ عادلة؛ لينظروا عدلَ الإسلام ورحمتَه وإحسانه.
يقول القرطبيّ في تفسيره عند قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ ءامَنُواْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ [الحج: 38] قال: "رُوي أنّها نزلت بسبب المؤمنين لمّا كثروا بمكّة وآذاهم الكفّار وهاجر من هاجر إلى أرض الحبشة، وأراد بعضُ مؤمنِي مكّة أن يقتلَ من أمكنَه مِن الكفّار ويغتال ويغدِر ويحتال، فنزلت هذه الآية، فوعد فيها سبحانه بالمدافعة، ونهى أفصحَ نهي عن الخيانة والغدر" انتهى[9].
فاتَّقوا الله عبادَ الله، وكونوا على حقيقةٍ صحيحة من أمر دينِكم، والحذر الحذر من التنفير عنه من حيثُ لا تشعرون، أو مِن الإساءة إليه من حيث لا تعلمون قال نبيّنا : ((بشِّروا ولا تنفِّروا، ويسِّروا ولا تعسِّروا))[10].
بارك الله لنا في الوحيَين، ونفعنا بما فيهما من الهدي والبيان، أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم من كلّ ذنب، فاستغفروه إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه الترمذي في صفة القيامة (2516) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما وقال: "حديث حسن صحيح"، وهو عند أحمد أيضًا (1/293)، قال ابن رجب في جامع العلوم والحكم (1/460-461): "روي هذا الحديث عن ابن عباس من طرق كثيرة... وأصحّ الطّرق الطريق التي خرجها الترمذي"، وصحّحه الضياء المقدسي في المخارة (10/25)، والألباني في صحيح السنن (2043).
[2] مدارج السالكين (3/164).
[3] أخرجه أحمد (5/362)، وأبو داود في الأدب (5004)، والقضاعي في مسنده (878)، والبيهقي في الكبرى (10/249) من طريق عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: حدثنا أصحاب محمد أنهم كانوا يسيرون مع النبي صلى الله عليه وسلم فنام رجل منهم، فانطلق بعضهم إلى حبل معه فأخذه ففزع فقال رسول الله وذكر الحديث، قال الشوكاني في النيل (6/63): "إسناده لا بأس به"، وصححه الألباني في صحيح السنن (4184). وفي الباب عن ابن عمر عند البزار، وعن النعمان بن بشير وعن سليمان بن صرد عند الطبراني، وعن أبي هريرة في مسند الشهاب، وعن غيرهم من الصحابة، انظر: الترغيب والترهيب (3/318-319)، ومجمع الزوائد (6/253-254).
[4] أخرجه البخاري في الفتن (7072)، ومسلم في البر (2617) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[5] أخرجه البخاري في الجزية (3166) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
[6] أخرجه أحمد (5/223، 224، 436)، والنسائي في الكبرى (5/225)، والطحاوي في شرح المشكل (1/77)، وهو أيضا عند ابن ماجه في الديات (2688)، وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (2345)، والبزار (2306)، وقال البوصيري في الزوائد (3/136): "إسناده صحيح، رجاله ثقات"، وهو مخرج في السلسلة الصحيحة (440).
[7] أخرجه أحمد (5/224، 437)، والبزار (2308)، وابن قانع في معجم الصحابة (2/202)، والطبراني في الأوسط (4252، 6655، 7781)، وأبو نعيم في الحلية (9/24)، والقضاعي في مسنده (164)، قال العقيلي في الضعفاء (2/215): "أسانيده صالحة"، وقال الهيثمي في المجمع (6/285): "رواه الطبراني بأسانيد كثيرة، وأحدها رجاله ثقات"، وهو في صحيح الجامع (6103).
[8] مصنف عبد الرزاق (9679).
[9] الجامع لأحكام القرآن (12/67).
[10] أخرجه البخاري في المغازي (4345)، ومسلم في الجهاد (1732) واللفظ له من حديث أبي موسى رضي الله عنه.
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن سيّدنا ونبيّنا محمّدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوان، اللهمّ صلِّ وسلِّم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه.
أمّا بعد: فيا أيّها المسلمون، أوصيكم ونفسي بتقوى الله عزّ وجلّ، فهي وصيّة الله جلّ وعلا للأوّلين والآخرين.
معاشرَ المسلمين، لن تطيبَ حياة المسلمين ما لم تستقِم على أمر الله جلّ وعلا، ولن يرتفعَ شقاء ويحلّ رخاءٌ إلا بالاستجابة لأمر الله جلّ وعلا ولأمر رسوله في كلّ شأن من شؤون الحياة على هدي ومنهَج سلف هذه الأمة، ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ [الأنفال: 24].
وإنّ ممّا دعا إليه الله ورسوله تحقيقَ الأمن في هذه الحياة، فتحقيقُه في المجتمع مسؤوليّة عظيمة وأمانة كبرى يتحمَّلها كلّ فرد يعيش على هذه الأرض، فمِن قواعد الإسلام الكبرى التي يجِب أن نفعِّلها في حياتنا قولُه جل وعلا: وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ [المائدة: 2].
ثم إنّ الله جلّ وعلا أمرنا بأمرٍ عظيم ألا وهو الصلاة والسلام على النبيّ الكريم.
اللهمّ صلِّ وسلِّم وبارك على سيّدنا ونبيّنا محمّد، وارضَ اللهمّ عن الخلفاء الراشدين...
ـــــــــــــــــــ(68/40)
مفهوم الأمن
...
...
3215
...
الأسرة والمجتمع
...
...
قضايا المجتمع
...
سعود بن إبراهيم الشريم
...
...
مكة المكرمة
...
6/4/1424
...
...
المسجد الحرام
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- مطلب الأمن. 2- خطورة الإخلال بالأمن. 3- فضل بيئة الثقة والأمان والتفاهم. 4- سدّ ذرائع الإخلال بالأمن. 5- المفهوم الصحيح للأمن. 6- ضرورة تحقيق الأمن التعليمي التربوي والأمن الإعلامي الثقافي. 7- موقف الإسلام من حرية النقد والحوار. 8- التحذير من الخوض في الفتن. 9- مسلَّمات وثوابت.
الخطبة الأولى
أمّا بعد: فاتّقوا الله أيّها المسلمون، واعلموا أنّ أحسن الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمّد ، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلّ محدثة بدعة، وكلّ بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإنّ يدَ الله على الجماعة، ومن شذّ عنهم شذّ في النار.
أيّها الناس، إنّ من يسبُر التاريخ الغابرَ والحاضر ببداهةِ فهمه واتزان نظرِه ويتعرّف على واقع الأمم السالفة والمجتمعاتِ الحاضرة فلن يتطرّق إليه شكّ ألبتّة في وجود حقيقةٍ ثابتة ومبتغًى ينشدُه كلّ مجتمع، وأسٍّ لا يتغيّر ولا يتبدّل مهما توالت عليه العصور وعصفت به رياح الأيّام التي يداولها الله بين الناس، ألا وهو مطلب الأمن والأمان. الأمن الذي يهنأ فيه الطعام ويسوغ فيه الشراب ويكون فيه النهار معاشًا والنّوم سباتًا والليل لباسًا.
عبادَ الله، إنّه متى اختلّ إيجادُ الضمانات الواقعيةِ والإعدادات الشّمولية ضدّ ما يعكِّر الصفوَ في أجواء الحياة اليوميّة للمجتمعات المسلمة، إنه متى اختلّ ذلكم يومًا ما فاحكموا على أمان النّاس واستقرارهم بالغَيبة والتّيه المفرِزَين للممارسات اللاّمسؤولة والإخلال المرفوض بداهةً بكلّ ما له مساس بالأمن، والذي يهدِّد رسوّ سفينة المجتمع المسلم الماخرة، في حين إنّه لا قبولَ له بأيّ صفة كانت، مهما وُضِعت له المبرِّرات والحيثيّات التي يرفضها كلُّ ذي عقل حيّ وفؤاد ليس هواء، وإن استُعمل في نفاذ مثل تلكم الممارسات بعضُ بني أمّتنا وممّن يتكلّمون بلغتنا، ليجعلوا نتيجة الممارسات النشاز في المجتمع المسلم عرضةً لحتفِهم قبل حتفِ من سواهم. ومتى دبَّ في الأمة داءُ التسلًّل أو الافتيات الأمني من قِبل بعض أفرادِها فإنّما هم بذلك يهيلون الترابَ على مفهوم الاستقرار ويقطعون شرايينَ الحياة عن الأجيال الحاضرة والآمال المرتَقبة. هذا إن لم تكن تلك الممارسات تكأةً يتّكئ عليها أعداء الإسلام من الكفرة الحاقدين، ومبرِّرا سائغًا لهم في تنفيذ ما مِن شأنه إيجاد المسوِّغات المشروعة ـ بمفهومهم ـ في الضغوط المتتالية على حياض المسلمين، فتأتيهم مثلُ هذه الإخلالات على طبقٍ مِن ذهب ليجتاحوا بلادَ المسلمين بأدنى الحِيل.
إنّ الجوّ العامِر بالثقة والأمان والتّفاهم البنّاء الخاضع لشِرعة الله لهو الجوّ الذي يستطيع أن يحيى فيه دين الله وينتعِش؛ لتحلّ الأولويّات والقضايا الواضحات محلَّها الذي ينبغي أن يوجدَ مكانه لكافّة أفراد المجتمع المسلم، ولذا فقد جاءت شريعة الإسلام بحَسم مادّة الأمن، وأنّها غيرُ قابلة للتّردّد أو النزاع أو المساومة، فقد قال : ((إذا مرّ أحدكم في مسجدنا أو في سوقنا ومعه نبلٌ فليمسِك على نصالحها ـ أو قال: ـ فليقبض بكفّه أن يصيبَ أحدًا من المسلمين منها بشيء)) رواه البخاري[1]، وفي الصحيحين أنّ النبيّ قال: ((من حمل علينا السّلاح فليس منّا))[2]، وفي الصحيحين أيضًا قوله : ((سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر))[3]، وفي الحديث الصحيح: ((المسلم من سلِم المسلمون من لسانه ويده))[4].
أيّها المسلمون، بقِي معنا هنا أن ندركَ مفهومَ الأمن بمعناه الشموليّ والواقعيّ، وأن لا يكونَ محلاّ لضيق العطنِ أو الفهم المقلوب لأبعاده وصُوَره أو لهما معًا، وذلكم من خلال قَصر مفهوم الأمن على نطاق ضيِّق متمثِّلٍ في مجرّد حماية المجتمع من السّرقة أو النّهب أو القتل وأمثال ذلك، كلاّ، فالأمن له مفهوم أعمّ من ذلكم وأجلّ، بل إنّ أوّلَ وأعظم مفهومٍ للأمن هو في أن ينطلقَ المجتمع المسلم على تقرير أنّ عقيدةَ المجتمع ارتباطه الوثيق بربّه والبعد عن كلّ ما مِن شأنِه أن يخدشَ تلكم العقيدةَ الغرّاء أو يثلمَها أو ينقضَ بعضَ عراها، هذا هو أوّل الواجبات الأمنيّة التي بها يتحقّق الوازع الدينيّ المانعُ من كلّ ممارسةٍ تخالف دينَ الله وشِرعته، متمثِّلاً ذلكم الوازع في البعد عن الشرك بالله في ألوهيته وربوبيّته وأسمائه وصفاتِه، والبعد عن الشرك به في حُكمِه، أو الكفر بملّة الإسلام والإلحاد فيها، أو تنحية شِرعة الباري جلّ شأنه عن واقع الحياة، أو مزاحمة شرعةٍ غير شِرعة الله مع شرعتِه، صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً [البقرة:138]، أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِى السَّمَاواتِ وَالأرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ [آل عمران:83].
ألا إنّ الأمنَ بصورته المطلقة الواسِعة لا يمكن أن يتحقَّق بدون ذلكم، ولا أن يقرّ قرار المجتمعات المسلمة في الرضا عن النّفس وعن الدين وعن الواقع والحال إلاّ من خلال ما ذكر الله بقوله: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءامَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِى الأرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِى ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدّلَنَّهُمْ مّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِى لاَ يُشْرِكُونَ بِى شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذالِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [النور:55].
كما أنّ مفهومَ الأمن ـ عباد الله ـ ينبغي أن لا يُنحّى عن مراكز القوى في المجتمعات المسلمة، أو يدبَّ التجاهل فيه لينسيَنا أثرَ هذه المراكز الملموسة في أمن المجتمعات سلبًا وإيجابًا. فهناك ما يسمّى: مفهوم الأمن الغذائي والأمن الصحيّ الوقائي، وهناك ما يتعلّق بالضوابط الأمنيّة في مجال التكافل الاجتماعي وتهيئة فُرص العمل والإنتاج والقضاء على البطالة، والعناية بالنشء في كلّ ما يفيد ولا يضرّ، وحسم مادّة البطالة الفكريّة والفراغ الرّوحي أيًّا كان نوع ذلكم؛ لكونِه مثمِرًا الخللَ والفوضى في الشّبه والشهوات، إضافةً إلى فهم النواحي الأمنيّة المنبثِقة من دراسة الظواهر الأسريّة، وما يعتريها من ثقوبٍ واهتزاز في بنيتها التّحتيّة، كما أنّه يجب أن لا نغفلَ عمّا يُعدّ هاجسًا أمنيًّا لكلّ مجتمع وصمَّاما للفتح أو الإغلاق لمادّة الإخلال بالأمن، ألا وهو الأمن الفكريّ الذي يحمي عقولَ المجتمعات ويحفظها من الوقوع في الشّبهات بغفلةٍ أو العبِّ من الشّهوات بنَهم.
ومِثل هذا النّوع من الأمن لا يتسنّى له التّمام إلا مِن خلال مراعاة محورين أساسين، أولهما: محور الفكر التعليميّ التربويّ، وثانيهما: محوَر الأمن الإعلامي الثقافيّ، إذ يجب على الأمّة أن لا تقعَ في مزالقِ الانحدار والتغريب أو التبعيّة والإخلال عبرَ هذين المحورين، حيث إنّ الأمن على العقول لا يقلّ هاجسًا عن أمن الأرواح والأموال، فقد نرى للعقول لصوصًا ومختلسين كما نرى للبيوت لصوصًا ومختلسين، فينبغي أن يُحمَى التعليم بين المسلمين عن أن يتسلّل لِواذًا عن هويّته، بل ويُحمى من خلال إيجاد الآلية الفعّالة التي توفِّر سبلَ العِلم النافع الداعي إلى العمل الصالح، والبُعد عن التبعيّة المقيتة أو التقليل من شأن العلوم الدينيّة النافعة أو استثقالها على النّفوس، أو الاعتراف بها على الاستحياء والتخوّف المفرزَين الفتونَ الذي يتردّد بين الحدث والآخر عن مدى جَدوى الأخذ بها والإبقاء لها على مضَضٍ مُقلِق.
وأمّا محوَر الفكر الإعلاميّ فهو مِقبض رحى المجتمعات المعاصرة وأقنوم تأثيرها الأسّ؛ إذ به يبصَّر الناس ويرشَدون، وبه يخدَع النّاس ويغرَّبون، به تُخدم قضايا المسلمين وتنصَر، وبه تُطمس الحقائق وتهدَر. بالفكر الإعلاميّ تُعرف المجتمعات الجادّة من المجتمعات المستهتِرة، فما يكون فيه من اعتدالٍ وكمال يكون كمالا في بنية الأمن الإعلاميّ واعتدالا، ولذا فإنّه يجب على كلّ صاحب لسان فصيح مسموع أو قلم سيّال مقروء أن يتحدّثوا عن شؤون المسلمين بكلّ مصداقيّة وواقعيّة وعدلٍ وإنصاف، وأن لا تستهجِنَهم الحوادث وردود الأفعال ويستهوِيهم الشيطان، فينطلقون من خلال الحديث المشنّج والسِّباب المسترسِل والخصام الحاجب للقضيّة الأمّ الذي قد يفقأ العين ولا يقتُل العدو، فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِى الأرْضِ [الرعد:17].
إنّ عزوَ الأمور إلى مسبِّباتها الحقيقيّة ووضع النقاط على الحروف ينبغي أن يكونَ هو أوَّل طرق معالجة المعضِلات والقضايا المزعِجات، وإنّ تجاهلَ الأسباب والبواعث أو عزوَها إلى غير مصادرها لا يزيد الأمورَ إلا تعقيدًا والشرورَ إلا اتِّساعًا، وإنّ العقولَ السليمة لتستخفّ بالطّبيب يعزو سببَ الطاعون إلى شرب الماء أو استنشاق الهواء؛ لأنّ نتيجة التشخيص أيًّا كانت فعاقبتها ستطالُ نفسي ونفسَك أيها المسلم، أو ولدي وولدك وبنتي وبنتَك وأسرتي وأسرتَك. كما أنّه ينبغي أن تكونَ هذه المعالجة من قِبل ذوي الاختصاص من العلماء الأفذاذ والحكماء الموثوقين في دينهم وأمانتهم، دون تشويش أو تهويشٍ أو قيل وقال وظنٍّ وخرص، فالله يقول: قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ الَّذِينَ هُمْ فِى غَمْرَةٍ سَاهُونَ [الذاريات:10، 11]، يقول قتادة رحمه الله : "الخرّاصون هم أهل الغِرّة والظنون"[5].
إنّ إطلاقَ اللسان وسيَلان الأقلام خائضة في المدلهِمّات ولاتَّةً في النوازلِ دونَ زِمام ولا خِطام لمِن شأنِه أن يُحدِث البلبلة ويوغِر الصدورَ، وأن يُخرج المجتمعَ المسلم من تشخيص النّازلة الواقعة إلى التراشق والاختلافِ وتصفيةِ الحسابات الكامنة في النفوس، ولا تسألوا بعدَ ذلك عن محاولاتِ الفكّ لرموز اللّمز والغمز والهمز بنميم من قِبل مشكِّكين في تديّن المجتمع المسلم وسلامة المنهَل الإسلامي العذب فيه من كلّ تهمةٍ تصيبه أو تحلّ قريبا من داره، فيكثر اللّغط ويقلّ استحضارُ العلم، فتضمحلّ العافية والسّلامة من الخطأ، فضلا عن عدم القدرة في تقديم حلٍّ عاجِل سِوى الخلط والجَهل والتضليل، ومن ثمَّ تُزال المشكلة بأشكَل منها، وعلى سبيل المثال: لو سرَق إنسان في المسجد لعلَت صيحاتُ بعضِ اللّهازم أو المبغضين مناديةً بإغلاق المساجد أو هدمِها قطعًا لدابر السّرقة، ولو أنّ امرأةً محجّبة غشّت وخدعت لسُمِع رجعُ الصدى للمناداة بنزع الحجاب حسمًا لمادّة الغشّ والخداع زعموا، فلا هم في الحقيقة قطعوا يدَ السّارق ولا عزّروا تلك التي غشّت وخدعت، وإنّما دعَوا إلى هدم المسجدِ ونزع الحِجاب، وهذا هو سِرّ العجب، وهو ما يثير الدّهشةَ وينشئ الغلوّ وردودَ الأفعال، فيتصارع الإفراط والتّفريط على حِساب الاعتدال المنشود في المجتمعات المسلمة.
والإسلام ـ عباد الله ـ يكرَه الثرثرةَ الفارغة التي قد تخلو من ضرر ملحوظ في الباطن، فكيف بالضّرر المتحقِّق في الظاهر والتناوشِ المفرِّق، ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلاَ تَتَنَاجَوْاْ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْاْ بِالْبِرّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِى إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [المجادلة:9].
إنّ الإسلامَ شديد الوضوح في تحديد موقفِه من حريَّة النّقد والحوار، فهو لا يرى أنّ ذلك حقّ مباح لكلّ إنسان، ولا أنّه يكتب ويقول ما شاء بما شاء كيف شاء، غيرَ منضبطٍ بضوابط الشّرع وحدوده. وإنّ من المؤسِف أن يكونَ مفهوم حريّة التعبير وحريّة الحوار قد شاع مقلوبًا في أذهان الأغرار من حمَلة الأقلام وعليمي اللسان، فظنّوه لا يعدو إرسالَ الكلام على عواهنه وتسويدَ الصفحات بضروبٍ من الهَرّ يضرّ ولا ينفع.
إنّ الأمنَ الإعلاميّ في المجتمعات لهو أحوج ما يكون إلى دراساتٍ موسّعة تقتنص الهدفَ الواعي من خلال دراسةِ أوساط المجتمعات المسلمة والرّبط بينها وبين الخلفيّات الشرعيّة والاجتماعية للطبقة الممارسة لمثل هذه الأنشطة الإعلاميّة الفعّالة. كما ينبغي تحليلُ الأفعال وردود الأفعال بين معطيات المتطلّبات الشرعيّة والاجتماعيّة وبين متطلّبات الرّغبات الشخصيّة المحفوفة بالشّبهات أو الشّهوات، وأثر تلك المشاركات في إذكاء الحِسِّ الأمنيّ الإعلاميّ والكفاية الإنتاجيّة لاستقرار المجتمع العائد للأسَر والأفراد بالنّفع العامّ والهدوء اللاّمحدود في الدّارين.
فالواجب علينا جميعًا ـ أيّها المسلمون ـ أن ننظرَ إلى الحقيقة الأمنيّة من أوسع أبوابها وأقربِ الطّرق الموصلة إليها، وأن ننزّل الأمورَ منازلَها في كلّ المستجدّات، وأن لا نقحمَ أنفسَنا في القضايا الكِبار التي لا يصلح لها إلا الكِبار، كلٌّ بما أوكل الله إليه من مصالحِ المسلمين ورعايتِهم وإقامةِ الحق والقسط فيمن استرعاهم الله، فاللهَ اللهَ أن نزاحمَ بفضول الكلام والقيل والقال، وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولائِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولا [الإسراء:36].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، قد قلت ما قلت، إن صوابًا فمِن الله، وإن خطأ فمن نفسي والشيطان، وأستغفر الله إنّه كان غفّارًا.
[1] أخرجه البخاري في الفتن (7075) من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.
[2] أخرجه البخاري في الفتن (7070)، ومسلم في الإيمان (98) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
[3] أخرجه البخاري في الفتن (7076)، ومسلم في الإيمان (64) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.
[4] أخرجه البخاري في الإيمان (10، 11)، ومسلم في الإيمان (40، 42) من حديث عبد الله بن عمرو ومن حديث أبي موسى رضي الله عنهما، وأخرجه مسلم أيضا في الإيمان (41) من حديث جابر رضي الله عنه.
[5] أخرجه الطبري في تفسيره (26/192)، وانظر: تفسير ابن كثير (4/234).
الخطبة الثانية
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبيّ بعده.
وبعد: فاتَّقوا الله أيّها المسلمون، واعلموا أن ثمَّة مسلَّماتٍ وثوابت، ينبغي أن تدركَها المجتمعات المسلمة بعامّة، نعني بذلك المجتمعاتِ التي جعلت شرعة الله غايتَها وبغيتها، وهذا التّأكيد ينبغي أن يتكرّر كلّما سنَحَت فرصة وادلهمّت خطوب.
فمِن تلك الثوابِت ـ عبادَ الله ـ أنّ عقيدةَ المسلمين أساسُها التّوحيد لله والانقياد له بالطاعة والخلوص من الشرك، وهيهات هيهاتَ أن يُفلِح أيّ تجسيد عقديّ سواه، حُنَفَاء للَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِى بِهِ الرّيحُ فِى مَكَانٍ سَحِيقٍ [الحج:31].
وثابتٌ آخر يؤكّد أنّ الشريعة الإسلاميّة شريعة ثابتةٌ مستقرّة، تصلح لكلّ زمان ومكان، ويخضع لها كلّ شيء، وليس تخضع هي لكلّ شيء، منذ بعثة النبيّ إلى يومِنا هذا، وقد كان المسلمون عبرَ هذه القرون يعيشون بينَ انتصارات يتواضعون عندها، وبينَ هزائمَ وخسائر يسترجعون فيها ويحوقِلون، وهم صابرون على ذلك حتّى يأتيَ الله بالفتح أو أمرٍ من عنده، وشريعتُهم باقية لا تتبدّل ولا تتغيّر.
ومِن الثوابتِ أيضًا أنّ الأمّة الإسلاميّة مهما بلغت من أوجِ التسلّح العسكريّ والثورة الصناعيّة والعولمة الحضاريّة فإنّها لا غِنى لها عن العلماء الربانيّين والدعاة الصادقين الذين تجتمع عليهم القلوبُ وتتألّف حولهم النفوس، ينطلقون من فهمٍ صحيح ثابتٍ لكتاب الله وسنة رسوله ، فهم النجوم الثواقبُ والبدور المضيئة، ولولاهمُ بعد الله لمادت الأرض بأهلِها، ولكن هُمُ فيها أوتادٌ ورواسي، فهُم عدّة الأمّة في مكافحة الفِكر الإلحادي المنحرِف والدعواتِ المضلِّلة المسعورة، وهم عُدّتها في كَبح جِماح الغلوّ وتنشيط المفرّطين، والعلماء والدعاةُ لن يتمكّنوا مِن القيام بهذه المهمّة في ظلّ غِياب الثقة أو الاعتزاز بهم وسطَ مجتمعاتِهم.
ومِن الثوابتِ ـ عبادَ الله ـ أنّه لا يمكِن إدراك أيّ تلاحم وترابطٍ أو تمازج مبذول في المصالح الشرعيّة أو في درء المفاسد الطارئة دونَ أن تكونَ الوسيلة أو الغاية المتّفق عليها وفقَ الحقّ والشريعة، وإنّ أيَّ تصحيح مطروحٍ فإنّه يُعدّ وهمًا مع هذا الخروج على المقرَّرات الإسلاميّة والثوابت الشرعيّة، بل إن مثلَ هذا الخروج يُعدّ خيانة عظمى وجنونًا لا عقلَ معه وإغماءً لا إفاقة فيه، إذ شرفُ المرء وشرف المجتمع إنّما هو في الانتساب إلى الإسلام لا في الصدّ عنه، وَجَاهِدُوا فِى اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِى الدّينِ مِنْ حَرَجٍ مّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِى هَاذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُواْ الصلاةَ وَءاتُواْ الزكاةَ وَاعْتَصِمُواْ بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ [الحج:78].
هذا وصلّوا ـ رحمكم الله ـ على خير البريّة وأزكى البشريّة محمّد بن عبد الله بن عبد المطلب، صاحبِ الحوض والشفاعة، فقد أمركم الله بأمر بدأ فيه بنفسه، وثنّى بملائكته المسبّحة بقدسه، وأيّه بكم ـ أيها المسلمون ـ فقال: ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمَّ صلِّ على محمّد وعلى آل محمّد، كما صلّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنّك حميد مجيد...
ـــــــــــــــــــ(68/41)
الحثّ على الزواج
...
...
3222
...
الأسرة والمجتمع, فقه
...
...
النكاح, قضايا المجتمع
...
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
...
...
الرياض
...
13/4/1424
...
...
جامع الإمام تركي بن عبد الله
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- الأمر بالتزويج. 2- من فوائد النكاح. 3- العمل على إشاعة النكاح. 4- وساوس وأوهام في طريق الزواج. 5- حسن الاختيار. 6- التحذير من عضل النساء. 7- التحذير من الاتصالات الهاتفية قبل عقد النكاح.
الخطبة الأولى
أما بعد: فيا أيّها النّاس، اتَّقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عباد الله، يقول الله جلّ جلاله في كتابة العزيز وهو أصدق القائلين: وَأَنْكِحُواْ الأيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِن يَكُونُواْ فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ [النور:32، 33].
فأيّها المسلمون، خطابٌ من ربِّ العالمين موجَّه إلى الأمة جمعًا، يقول الله لهم آمِرًا: وَأَنْكِحُواْ الأيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمائِكُمْ، يأمرنا جميعًا أن نحقِّق هذا الجانبَ العظيم، أعني جانبَ النّكاح، وأن نسعى في تزويج الأبناء والبَنات؛ لأنّ هذا فطرةُ الله التي فطر عليها العباد، قال تعالى: وَمِنْ ءايَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْواجًا لّتَسْكُنُواْ إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَاتٍ لّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الروم:21]. فالنكاح ضرورةٌ للشابّ وللشابّة، ضرورة للرّجل وللمرأة معًا، فبها يحصُل الأنسُ والطمأنينة، هُوَ الَّذِى خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا [الأعراف:189]، فبالنّكاح سكونُ النفوس وطمأنينتها وراحتُها، مع ما يشتمِل عليه من الفوائد العظيمة وما يدفع الله به من البلاء العظيم، فهو يحقِّق الفوائدَ العظيمة، ويدفع المضارَّ الجسيمة، هذا النّكاح الشرعيّ يحصل به غضّ البصر وتحصين الفرج، وهما مطلوبان شرعًا: قُلْ لّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ ذالِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ وَقُل لّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ [النور:30، 31].
أيّها الإخوة، وبهذا العقد عقدِ النّكاح تدوم الأسرةُ الصالحة، وبهذا العقدِ عقد النّكاح يكثر النّسل، ويمتدّ بنو الإنسان، وتتحقّق أمنيّة النبيّ القائل: ((تزوّجوا الودودَ الولود فإنّي مكاثرٌ بكمُ الأممَ يوم القيامة))[1]. وبهذا العقدِ أيضًا تُحفَظ الأنساب، فلولا النّكاح لم يحصُل توارث ولا نفقةٌ ولا معرفة فرع مِن أصل، بل تكون الأمّة فوضى في كلّ أحوالها، فمن رحمة الله بالمسلمين وفضله عليهم أن شرَع هذا النكاح وفطر النفوسَ على ذلك، فطر البشريّةَ على هذا النكاح ليحقِّق به لكلٍّ من الذكر والأنثى الراحةَ والطمأنينة.
أيّها المسلم، والله إذ يقول: وَأَنْكِحُواْ الأيَامَى مِنْكُمْ هو أمرٌ للجميع أن يسعَوا في تحقيق ذلك، ويقوموا بالواجب خيرَ قيام، وَأَنْكِحُواْ الأيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمائِكُمْ. ولمّا كان الزواج قد يكون من عوائقه قلّةُ المادّة قال الله: إِن يَكُونُواْ فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ المعنى: لا تجعلوا قلَّةَ المال سببًا لزهدِكم في النّكاح وبعدكم عنه، اسعَوا إليه جهدَكم، وابذلوا طاقتَكم، والله جلّ وعلا ميسِّر الأمور وفاتحٌ أبوابَ الرزق، إِن يَكُونُواْ فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ، فهو وعدٌ من الله لمَن تزوَّج أن يعينَه وييسِّر أمرَه ويفتحَ له من أبواب الرزق ما لا يخطر بباله، وربُّك حكيم عليم، ولهذا أخبرَ نبيّنا أنَّ من الثلاثة الذين حقٌّ على الله عونُهم، ذكر منهم الرجلَ يتزوَّج تريد العفاف[2]، فمن تزوَّج يريد العفافَ فحقّ على الله أن يعينَه في تلك المهمّة، فتُذلَّل الصِّعابَ أمامَه، ويفتَح له من أبواب الرزق ما لا يخطر بباله، وربّكَ يرزق من يشاء بغير حساب، إذًا فلا بدَّ من نيّة صادقة، ولا بدّ من اهتمام بهذا الأمر، ولا بدّ من عناية، وكلُّ المجتمع مسلم مطالبٌ بالتّعاون فيما بينه لإشاعةِ هذا الأمر وتكثيره والترغيب فيه.
أخي المسلم، قد يُوسْوِس لك الشيطان، ويزيِّن لك الباطل، ويزهّدك في النكاح الشرعي، فأوّل وساوسه أن يقول لك: كيفَ تُقدم على أمرٍ لا تستطيعه، أنت قليلُ ذاتِ اليد، وسوف لا تجد من يقرضُك ولا من يعينك، والأمور شاقَّة أمامَك، والطريق صَعب، إذًا فاصرف النظرَ عن الزّواج، وانتظِر به السنينَ تِلوَ السنين، وانغمِس في الشهوات والملذّات إلى أن يتحقّق لك ما تريد، هذه وساوسُ إبليس ليصرفَ المسلمَ عن الخير، ويصرفه عن الهدى، ويوقعَه في البلاء، فإنّ الشيطان لنا عدوّ، إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُواْ مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ [فاطر:6].
أخي المسلم، إنَّ الله يقول: وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ [النور:33]، أمرٌ من الله للمسلم بأن يكونَ ذا عفّة عن محارم الله، يحفَظ فرجَه، يغضّ بصرَه، يُعرض عن الحرام رجاءً من الله أن يفتَح له بابَ الحلال، فإذا عفَّ عن محارم الله وزهد في الحرام وعلم الله منه صدقَ النيّة فالله سييسِّر له الأمور، والله على كلّ شيء قدير، إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ [يس:82]، فهو يقول جلّ وعلا: وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ نِكَاحًا، ليتعفَّفوا عن محارم الله، وتلك العفّة تكون وسيلةً إلى الحصول على الحلال بتوفيقٍ من الله، تيسَّر الأمور، وتُزال العقبات، والله على كلّ شيء قدير.
أيّها المسلم، إنَّ الزواج نعمةٌ عظيمة من الله للعبد، إذا وفَّقه له فسيحصل له به الخير العظيم والفضل الكبير، راحةُ النفس، طمأنينة القلب، طيبُ الحياة.
أيّها المسلم، الزواج سنّة نبيّنا وخُلُق الصالحين المقتدين به، فهو يقول : ((حُبِّب إليّ من دنياكم النّساء والطّيب، وجُعلت قرةُ عيني في الصّلاة))[3]، وقال: ((النّكاح سنّتي، فمن رغِب عن سنّتي فليس منّي))[4]. طافَ ببيوت النبيّ ثلاثة نفر من أصحاب النبي يسألون عن عبادة النبي ، فأُخبروا فكأنّهم تقالّوا ذلك، قال أحدهم: أمّا أنا فأصوم ولا أفطِر، وقال الآخر: أمّا أنا فأقوم ولا أنام، وقال الآخر: أمّا أنا فلا أتزوّج النساء، تركوا تلك المباحات زهدًا فيها ورغبةً في الخير في تصوُّرِهم رضي الله عنهم، بلغ النبيَّ خبرُهم فقال: ((أما إنّي أتقاكم لله وأخشاكم له، لكنّي أصوم وأفطر، وأقوم وأنام، وأتزوّج النساء، فمن رغِب عن سنّتي فليس منّي))[5]. وحقًّا إنّ من يزهد في النكاح أو لا يريده أو يُضعِّف من شأنه أو يدعو الشبابَ إلى أن يتركوا النكاحَ حتى يمضِي دورُ الشّباب ويدخل في عهد الكهولة فهذا مخالفٌ لسنّة محمّد .
أيّها المسلم، الزّواجُ عبادَة لله وقربةٌ يتقرّبَ بها العبد إلى الله، فهو أفضل من نوافل العبادة؛ لأنّه يعين على تحصين الفرج وغضِّ البصر وسلامة العبد من الوقوع فيما حرَّم الله عليه.
أيّها الشابّ المسلم، إنّ الزواجَ خير كثير، متى ما توفّرت أسبابُه فعليك بالسعي في ذلك، والنبيّ يقول: ((يا معشرَ الشّباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوّج، فإنّه أغضّ للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصّوم، فإنّه له وجاء))[6]، فهذا خطابٌ مِن محمّد موجَّه لشباب الأمّة المسلِمة: ((من استطاع منكم الباءة فليتزوّج))، من كانت عندَه القدرة الماليّة والبدنيّة فليتزوّج وليبادِر، فإنّ ذلك أغضّ للبصر وأحصن للفرج، ثمّ قال: ((ومَن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنّه له وجاء)) يقتل حدّة الشخص.
ردّ النبيّ على عثمان بن مظعون تبتُّلَه؛ لأنّ عثمان أراد أن ينقطع عن الدنيا فيزهد في الزواج، فردّ النبيّ عليه تبتُّله ومنعه من ذلك؛ لأنَّ الزواج من هديِ المرسلين، كما قال جلّ وعلا: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلا مّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرّيَّةً [الرعد:38].
أيّها الشابّ المسلم، إيّاك والزهدَ في الزّواج، وإيّاك والنظرَ إلى الأمور البعيدة المدَى التي ربّما حالت بينك وبين الزواج، يأتيك عدوّ الله ويقول: أنت تتزوّج في هذا السنِّ المبكّر، لماذا تتحمّل المسؤولية ولا تزال في عهد شبابك، تتحمّل التّبِعات مِن نفقة ورعايةٍ وتقيّد وعدم انطلاق؟! دَع عنك النكاح، انطلِق في شبابك وأرضِ نفسك وأعطِها مُناها، وبعدَ الأربعين تزوّج فتلك السّعادة.
هذه مِن وساوس عدوِّ الله، يزهِّد الشّباب المسلمَ في الزواج قائلا له: إنّه يقيِّد حريّتَك، ويحمّلك المسؤولية والتّبعة، ويجعلك راعيًا، وتلتزم النّفقات، وتلتزم وتلتزم، وتكون مسؤولا، وربّما جاءك ولدٌ في السنّ المبكّر فتبقى شقيًّا مع زوجةٍ وأولاد، وأمامَك زمنٌ طويل، أعطِ نفسَك مناها، وأرضِ نفسَك وتمتَّع بشهواتك، والزّواج مُمكنٌ بعد حين. هذه الفكرةُ الخاطئة ارفُضها أيّها المسلم، وإيّاك أن تعوِّل عليها.
قد يأتي عدوّ الله ويقول: تزوّجتَ أيّها الشاب، فأين النّفقة؟ أين السّكن؟ أين وأين؟ حتى يجعلَ الأمورَ كلَّها أمامك شاقّة تتصوّرها عقباتٍ لا تستطيع تخطّيها، هذه المقالةُ لا تصغِ لها، وتذكّر قولَه جلّ وعلا: إِن يَكُونُواْ فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ.
أيّها الشابّ المسلم، قد يأتي عدوّ الله لك بصورةٍ أخرى أيضًا يزهّدك في الزّواج، ويبعدك عنه، ويجعلك لا ترغَب فيه، يقول لك: هذه المرأة التي خطبتَها هل أنتَ ضامن أن تستمرّ معك أو تبقى معك؟ ربّما فسَد الزواج، وعُدتَ وذهبَت أموالك هباءً منثورًا.
يا أخي، هذه خطواتُ عدوِّ الله، لقد أمرك نبيّك عندما تريد خطبَة امرأةٍ أن تستخير الله، فتسأله جلّ وعلا: إن تكن تلك المرأة خيرًا لك في دينك ودنياك فاسأل ربَّك أن ييسِّرها لك، وإن يكن في عِلم الله أنّها ليست تناسبك فاسألِ الله أن يصرفَك عنها ويصرفَها عنك.
أيّها المسلم، إنّ عدوَّ الله يزهِّد في كلِّ خير، فإيّاك أن تصغيَ لوساوسه أو تصغيَ لأهدافه السيّئة، بل استمرَّ على الخير، وحقِّق أمرَ الله ،وثِقْ بوعد الله، فالله لا يخلِف الميعاد.
أيّها المسلم، نبيّك رغَّبك في اختيار ذاتِ الدّين والخلُق القويم، فإنّها عونٌ لك في أمور دينِك ودنياك، يقول : ((تُنكَح المرأة لأربع: لمالها وجمالِها ودينها ونسبها، فاظفَر بذات الدين ترِبت يداك))[7]، يقول الله: فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَفِظَاتٌ لّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ [النساء:34].
أيّها المسلم، إذا تقدَّم لفتاتِك من ترضى دينَه وخلقه وأمانتَه فكن عونًا لابنتِك على الزواج، حريصًا على صيانتِها وعفَّتها، ((إذا أتاكم من ترضَون دينَه وأمانتَه فزوِّجوه، إلاّ تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفسادٌ كبير))[8]، فلا يحول بينك وبين زواج الفتيات الأمورُ المادّية والمطامع المادّية، كلُّ هذه ينبغي أن لا تكون عائقًا، المهمّ أهليّةُ ذلك الرجل، صلاحيته فيما يغلِب على الظنّ وأهليته لحمل تلك الأمانة، فإذا تحقَّق ذلك فاحمد الله، وتذكّر قوله: وَأَنْكِحُواْ الأيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِن يَكُونُواْ فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ.
كلّما شاعَ النكاح في مجتمعٍ وكثُر في المجتمع دلَّ على خيريّة ذلك المجتمع وكثرةِ الخير والصلاح فيه، وكلّما قلّ هذا النكاح وضعُف شأنه إنّما هو عنوان عدم الاستقامةِ والعياذ بالله، فالحرص على إشاعة هذا النّكاح والإعانة عليه من الأمّهات والآباء أمرٌ مطلوب شرعًا؛ ليقوم الجميع بما أوجب الله عليهم، فتسعد البشريّة بتقلُّص الجرائمِ وقلَّتها، نسأل الله للجميع الثباتَ على الحقِّ والاستقامةَ على الهدى.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه أبو داود في كتاب النكاح (2050)، والنسائي في كتاب النكاح (3227) من حديث معقل بن يسار رضي الله عنه، وصححه ابن حبان (4056، 4057 ـ الإحسان ـ)، والحاكم (2/162)، ووافقه الذهبي، وصححه الحافظ في الفتح (9/ 111)، والألباني في صحيح سنن أبي داود (1805).
[2] أخرجه أحمد (2/251، 437)، والترمذي في فضائل الجهاد (1655)، والنسائي في الجهاد (3120)، وابن ماجه في الأحكام (2518) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن"، وصححه ابن الجارود (979)، وابن حبان (4030)، والحاكم (2678)، وحسنه الألباني في غاية المرام (210).
[3] أخرجه أحمد (3/128)، والنسائي في عشرة النساء، باب: حب النساء (3939)، وأبو يعلى (3482) من حديث أنس رضي الله عنه، وصححه الحاكم (2/174)، والمقدسي في المختارة (4/367)، وجوّد إسناده العراقي، وقواه الذهبي في الميزان (2/177)، وحسنه الحافظ في التلخيص الحبير (3/116)، وصححه في الفتح (3/15)، وهو في صحيح الجامع (3124).
[4] أخرجه ابن ماجه في النكاح (1846) من حديث عائشة رضي الله عنها بنحوه، قال البوصيري في مصباح الزجاجة (2/94): "هذا إسناد ضعيف لضعف عيسى بن ميمون المديني، لكن له شاهد صحيح، وله شاهد في الصحيحين وغيرهما من حديث عبد الله بن مسعود، ورواه البزار في مسنده من حديث أنس"، والحديث صححه الألباني في صحيح الجامع (6807).
[5] أخرجه البخاري في النكاح (5063)، ومسلم في النكاح (1401) من حديث أنس رضي الله عنه.
[6] أخرجه البخاري في النكاح (5065)، ومسلم في النكاح (1400) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.
[7] أخرجه البخاري في النكاح (5090)، ومسلم في كتاب الرضاع (1466) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[8] أخرجه الترمذي في كتاب النكاح (1084)، وابن ماجه في كتاب النكاح (1967) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وصححه الحاكم (2/164- 165)، وتعقبه الذهبي بأن فيه عبد الحميد بن سليمان قال فيه أبو داود: "كان غير ثقة"، وفيه أيضًا ابن وثيمة لا يعرف. ثم اختلف في إسناده، فنقل الترمذي عن البخاري أنه يرجح انقطاعه. ولكن للحديث شواهد يتقوى بها، ولذا حسنه الألباني في السلسلة الصحيحة (1022)
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمّدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
أيّها الأب الكريم، إنّ الفتاة أمانةٌ في عنقِك، والله سائلك عنها يومَ لقائه، هذه الفتاةُ إيّاك أن تمنعَها من الزواج وأن تحولَ بينها وبين الزواج، فهناك فِئة من الناس ربّما سعَوا في جعل البنات عوانس، ومنعوهنَّ من الزواج، لماذا؟ لا لقلّة من يتقدّم ولا لعَدم أهليّة من يتقدّم، ولكن الأغراض والمطامِع المادّيّة تحمل ذلك الرجلَ إلى أن يضعَ عقباتٍ أمام فتاتِه يريد منعَها عن الزواج، لماذا؟ لأنّه يستفيد من مرتَّبها ومن أموالها، فهو لا يريد زواجَها خوفًا من أنَّ مرتَّبها ينقطع عنه، ولا يحصل له ذلك بعد الزواج والتحامِها بالزوج، فالطمعُ المادّي يمنعه من زواج ابنتِه، ولا يعلم أنّه ارتكب خطأً عظيمًا، وأنَّ الله سيُحاسبه يومَ الوقوف بين يدَيه.
أيّها الرّجل المسلم، أيّها الأب الكريم، اتِّق الله في هذه الفتاة، فإذا تقدّم لها خاطبٌ فانظر حالَ ذلك الخاطب، واعرِض عليها الأمرَ عرضًا واضحًا، اعرض عليها أحوالَ ذلك الرجل: سيرتَه، أعماله، أخلاقه، ما قيل عنه، حيث ينبغي التقصّي في هذا الرّجل، لا أقول: الكمال المطلق، فالكمال ليس بمقصود، ولكن المقصود الحِرص على أن تكونَ المرأة لدَيها تصوّر عن ذلك الرّجل الذي سيكون شريكًا لحياتِها. وعليك تقوى الله في أن تعلم هل هذا المتقدِّم أهلٌ لهذه الأمانة أم لا؟ تسأل عن دينِه، عن استقامته، عن أعماله، عن أخلاقه؛ لأنّ هذا هو المطلوب، وما أمكن إصلاحه فاستصلِحه، وما أمكن أن تنصَح ذلك المتقدّم أو تحذّره من أمور ترى أنّ بقاءه عليها عائق بينه وبين استمرار الحياة الزوجية فلا مانع مِن نصيحةٍ وتوجيه، المهمّ أن لا تَعقد الفتاة إلا على من يغلِب [على] ظنّك أنّه أهلٌ لتلك الأمانة، بعد استخارة الله والاستشارة، والأمرُ بيد الله، والغيب عِلمه عند الله.
أيّها المسلم، إنّ نبيَّنا أرشدَ المسلمَ أيضًا إلى أن ينظرَ إلى الفتاة التي يريد خطبتَها، نعم أرشدَه إلى أن ينظرَ إليها وقال: ((عسى أن يؤدَم بينكما))[1]، ويكون هذا النّظر بحضور محرمِها لأنّه لا يحلّ له الخلوةُ بامرأةٍ لم يعقِد عليها، وإنّما هي نظرة، ليلقي نظرة عليها، فإن قدَّر الله ذلك، وإلا فينبغي لذلك المتقدِّم أن يكتُم ذلك السرَّ ولا يفشيَ ويقول: نظرتُ لابنة فلان فلم تعجِبني، فيها من العيوب ما فيها، هي لم تعجِبك أنتَ وقد تعجب غيرَك، لم تكن حسناءَ في نظرك وقد تكون حسناءَ في نظرِ غيرك، فكتمانُ السّرِّ والمحافظة على الأمانة أمر مطلوب شرعًا.
أيّها الشابّ المسلم، وعندما تتقدّم لخطبَة امرأة وتنظر إليها فإني احذّرك من الاتّصالات الهاتفيّة قبل عقدِ النكاح، فإنّ كثيرًا من هذه الاتّصالات الهاتفيّة ربّما أبطأت أمرَ الزواج، وحصل قيل وقال وفضولُ كلام، لا طائلَ تحته، وإنّما هو سببٌ في إبعاد الزّوجين بعضهما من بعض.
أيّها الشاب المسلم، عندما تحصُل هذه الاتصالات الهاتفيّة غالبًا قبلَ العقد ربّما تكون سببًا في إفساد العَقد، ربَما يسألها عن تاريخها وحياتها السّابقة، وتفتح له كلامَ القيل والقال، وربّما سألته عن حياته الماضية، فقال عن نفسه ما قال، فيكون ذلك سببًا لانفصام الخطبة وعدم استمرارها. العَبدُ لا يخلو من خطأ، والمسلم لا يخلو من خطأ، قلّ أو كثر، لا الرّجل ولا المرأة، والتّوبة إلى الله والاستغفار والنّدم والإقلاع عن الخطأ هذا هو المطلوب من المسلم، وأمّا تتبّع الماضي وجعلُ الماضي منهجًا لكي يُصَدّ عن الزواج فإنّ هذه الأمور [إذا تبت منها] لن يسألك الله عنها، وإنّما عليك في حياتك المستقبليّة، هذا هو المطلوب، أمّا الاتصالات قبل العقد فلا خير فيها؛ لأنّه يخشى أن تجرَّ إلى لقاءٍ قبل العقد، وهذا أمرٌ محرَّم شرعًا، وإذا أردتَ التخلّصَ من هذه التبِعات فاعقِد العقدَ الشرعيّ الذي يقول فيه النبيّ : ((أخذتموهنَّ بأمانة الله، واستحللتم فروجهنّ بكلمة الله))[2].
وعلى الجميع تقوى الله والتّعاون على البرّ والتقوى في سبيل إشاعة عقد النكاح وتكثيره، فهو علامةُ خير في الأمّة، أسأل الله للجميع التوفيق والعونَ على كلّ خير، إنه على كل شيء قدير.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أنّ أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمّد ، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلّ بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإنّ يد الله على الجماعة، ومن شذّ شذّ في النار.
وصلّوا ـ رحمكم الله ـ على عبد الله ورسوله محمّد كما أمركم بذلك ربّكم قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىّ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمَّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمّد، وارض اللهمَّ عن خلفائه الراشدين ...
[1] أخرجه أحمد (4/244)، والترمذي في النكاح (1087)، والنسائي في النكاح (3235)، وابن ماجه في النكاح (1688) من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه نحوه، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن"، وصححه ابن الجارود (675)، وابن حبان (4043)، وهو مخرج في السلسلة الصحيحة (96).
[2] أخرجه مسلم في الحج، باب: حجة النبي (1218) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما الطويل.
ـــــــــــــــــــ(68/42)
من مخالفات الأفراح
...
...
2139
...
الأسرة والمجتمع, فقه
...
...
النكاح, قضايا المجتمع
...
سعيد بن عبد الباري بن عوض
...
...
جدة
...
...
...
سعد بن أبي وقاص
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- الإجازة موسم الحفلات والأفراح. 2- ذكر بعض مخالفات الأفراح ومنها: الإسراف - الغناء – النمص – الاختلاط
الخطبة الأولى
أما بعد: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد. وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد.
إن مما يكثر في الإجازات أي في مثل هذه الأيام حفلات الزفاف حيث إن الكثير من الناس يفضل أن يكون عرسه في أيام الإجازة، وهذه ظاهرة جيدة نسأل الله عز وجل أن يحصن كل شاب وشابة وأن يعفهم وأن يجمع بين كل عروسين وزوجين على خير وأن يبارك لهما زواجهما.
ولا شك أن المسلم يجب عليه أن يقصد بزواجه هذا إعفاف نفسه عن الحرام والإكثار من الذرية الصالحة المؤمنة التي تعبد الله عز وجل وتقيم دين الله تعالى على الأرض. ومن قصد ذلك ونواه كان له أجر حتى في إتيانه أهله. وينبغي على الآباء والأمهات أن يساعدوا الشباب على إعفاف أنفسهم بالحلال وذلك بأن ييسروا ويخففوا عليهم في مطالب الزواج وتكاليفه. فإنه قد أصبحت اليوم تكاليف الزواج من أكبر العوائق أمام الشباب التي تصدهم عنه أو تؤخرهم لسنوات طويلة.
وعموماً إخوتي الكرام وفقني الله وإياكم لكل خير، فليس حديثي عن ذلك الموضوع، وإنما بمناسبة كثرة حفلات الزفاف في هذه الأيام أحببت أن أنبه على بعض المخالفات الشرعية التي تحدث في كثير من هذه الحفلات إما جهلاً من بعض الناس بأنها لا تجوز أو اتباعاً من البعض الآخر لما رأوه في الحفلات الأخرى بغض النظر عن حكم هذه الأفعال إن كانت جائزة أو غير جائزة. ونسأل الله عز وجل أن يوفق الجميع لمعرفة الحق والعمل به.
ثم اعلموا رحمكم الله أن من منكرات الأفراح ما يلي:
الإسراف والتبذير الذي يحصل في كثير منها حيث تنفق الآلاف المؤلفة على تلك الحفلات، وكان بالإمكان أن يكون الحفل متواضعاً، نعم لقد أمرنا رسولنا صلى الله عليه وسلم بالوليمة للعرس فقال عليه الصلاة والسلام: ((أولم ولو بشاة)) [رواه البخاري ومسلم]. ولكن هل يعني ذلك أن نصل إلى ما وصل إليه الحال اليوم، بذخ وإسراف، وضياع للأموال، كلا، فإن الله عز وجل نهى عن الإسراف فقال: يَابَنِى ءادَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ [الأعراف:31]. وقال: وَلاَ تُبَذّرْ تَبْذِيرًا إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبّهِ كَفُورًا [الإسراء:26-27].
وإنه والله من المصائب التي بلينا بها في هذه الأفراح تقليد الآخرين ومحاولة الظهور على شاكلتهم وأننا قادرين مثلهم ولسنا أقل منهم في شيء، وتلك في الغالب مقولات النساء ورغباتهن، من أمهات الأزواج وأمهات الزوجات، والكثير من الرجال يسمع ويطيع ولا يستطيع أن يرفض طلباً. وأصبحت الكلمة للنساء. فلنعلم عباد الله ولنعلم نساءنا أن هذه النعمة التي نعيش فيها ولله الحمد إن لم نقم بشكرها والحفاظ عليها فإنها توشك أن تزول، وإن من شكر النعمة عدم الإسراف فيها.
ثم لنتذكر جميعاً إخوة لنا في الإسلام في بقاع كثيرة من العالم الإسلامي لا يجدون كسرة الخبز ولا شربة الماء إلا بالجهد الجهيد، قد تلقفتهم أيدي المنصرين تمد يد العون لهم بالطعام والشراب والدواء، واليد الأخرى بالصليب والإنجيل، فأين أموالنا هذه عنهم. أم أنه يهون علينا أن ننفقها في سبيل المظاهر الكاذبة ومجاراة الآخرين بينما لا يهون أن ننفقها في سبيل الله. فكم والله أنفقت الآلاف في إيجارات الفنادق ليلتين أو ثلاث أو قد تكون ليلة واحدة عند البعض ثم تنفق الآلاف أيضاً في أنواع من الأطعمة لا تعد ولا تحصى يكون مصير الجزء الأكبر منها في صندوق النفايات. وإذا ما طلب من بعض هؤلاء التبرع في باب من أبواب الخير تعذر لك بألف عذر، حتى يعفي نفسه من الإنفاق في سبيل الله، وإذا أنفق أنفق بعد تردد، وأخرج بضعة ريالات بعد صراع مرير مع النفس، ولكن إذا جاءت الشهوات وحب المباهاة فإذا بالآلاف تنفق بغير حساب.
فلنتق الله عباد الله ولنصن هذه النعمة بشكرها قال تعالى: لَئِن شَكَرْتُمْ لازِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِى لَشَدِيدٌ [إبراهيم:7]. وهذا البذخ والإسراف من كفران النعمة هدانا الله وإياكم للصواب.
ولقد ثبت عن النبي عن منصور بن صفية عن أمه صفية بنت شيبة قالت: (أولم النبي صلى الله عليه وسلم على بعض نسائه بمدين من شعير) [رواه البخاري]. وأفضل وليمة صنعها الرسول كما روى البخاري ومسلم من حديث أنس رضي الله عنه قال: (ما أولم النبي صلى الله عليه وسلم على شيء من نسائه ما أولم على زينب، أولم بشاة).
ومن منكرات الأفراح أيضاً إحياء تلك الليلة كما يسمونها بالغناء المحرم، وهي والله إماتة لتلك الليلة وليس إحياء، فكيف يمكن لتلك الليلة أن تحيا بمعصية الله أو كيف يمكن أن تحيا بالحرام!
إنه والله البلاء والشقاء أن تبدأ أول ليلة في حياة الزوجين بمعصية الله عز وجل ومخالفة أمر رسوله صلى الله عليه وسلم، فماذا نتوقع بعد ذلك لزواج كانت أول لياليه محادة لله ولرسوله ومعصية من المعاصي.
وهذه المعصية كذلك مما تصر عليها مع الأسف كثير من النساء، وترفض أن يكون زواج ابنتها أو ابنها بغير غناء محرم!! لماذا؟ لأن كثيراً من الناس يفعلون ذلك، وابنتها أو ابنها ليس أقل من غيره!
هذا هو المبدأ الذي يحكم حفلات الزفاف عند كثير من الناس، بل هذا المبدأ يكاد أن يكون أسلوب حياة عند البعض، فتراه في كل شيء يقول: لست أقل من غيري ويفعل مثلما فعلوا، ولو كان مخالفاً لأمر الله وأمر رسوله. وإذا نصحت الزوج وأهله قالوا: تلك رغبة الزوجة وأهلها، وإذا نصحت الزوجة وأهلها، قالوا: تلك رغبة الزوج وأهله.
فيا أيها الآباء والأمهات ويا أيها الأزواج و الزوجات كيف رضيتم أن تكون أول ليلة في حياتكم الزوجية مخالفة لأمر الله؟ وكيف دفعتم أموالكم لمطرب أو مطربة تكسبون بذلك الإثم وتخسرون المال؟! نسأل الله الهداية للجميع.
الخطبة الثانية
ومن مخالفات الأفراح ذهاب النساء إلى مصففات الشعر أو ما يسمى اليوم ب"الكوافيرات" وارتكاب عدة مخالفات هناك حيث تكشف العورة ويزال شعر الوجه عند كثير من النساء، وذلك هو النمص الذي نهى عنه صلى الله عليه وسلم ولعن من فعله أو فعل به..قال صلى الله عليه وسلم: ((لعن الله النامصة والمتنمصة)) ومع ذلك لا يمكن أن تزف عروس إلى زوجها إلا بعد الذهاب إلى الكوافيرات إلا من رحم الله، فالحذر الحذر عباد الله من ذلك. وقد أفتى الشيخ محمد ابن عثيمين ـ رحمه الله ـ بتحريم الذهاب إلى الكوافيرات.
ومن المنكرات الجسيمة التي تحدث في كثير من هذه الحفلات اليوم دخول العريس على النساء والجلوس أمامهن فيما يسمى بالمنصة، فيشاهد النساء ويشاهدنه وكل في أبهى زينته فأي فتنة بعد ذلك؟؟ و أين الغيرة؟ أين غيرة أزواج النساء اللاتي يحضرن مثل هذه الحفلات؟أما يغار هذا الرجل على نساء المسلمين؟ وكيف يجيز لنفسه النظر إلى نساء أجنبيات عنه لا يجوز له النظر إليهن في الأحوال العادية فكيف وهن قد تزين لحضور هذا الحفل؟ وأتساءل كيف يسمح رجل لزوجته بالذهاب إلى حفل زفاف يعلم أنه سوف يحصل فيه ما لا يرضاه الله.
أيها المسلمون، إنها عادة غير إسلامية مخالفة لديننا وعاداتنا وتقاليدنا، فمن أين جاءتنا؟ وكيف حدث هذا ؟ أسئلة كثيرة مريرة تطرح نفسها، ولعل إجابتها أمر منها. فالله المستعان وعليه التكلان.
وكذلك من مخالفات الأفراح ما يحدث من بعض المدعوات من لبس ملابس غير ساترة لكثير من أجزاء الجسد، وذلك بحجة أنها وسط نساء أو قد تلبس ملابس فيها تشبه بالرجال بالإضافة إلى قصات الشعر المشابهة بالكافرات.
وكذلك من المخالفات رقص بعض النساء على هيئة تشبه الفاسقات، وهذا غير جائز بل قد أفتى فيه علماؤنا بالتحريم.
وكذلك من المنكرات العظيمة التي تحدث في بعض هذه الأفراح التصوير إما الصور الفوتوغرافية أو بالفيديو، فيصور الحفل وتصور الحاضرات ويحتفظ أهل الحفل بالفيلم أو بالصور، وفيه صور النساء اللاتي حضرن الزفاف، وهن في أبهى زينة وكم حصلت من مصائب بسبب هذا التصوير، فشاهد رجل زوجته في فيلم يتناقله الشباب بينهم يتفرجون عليه. فأي مصيبة بعد ذلك؟!
ومن منكرات الأفراح كذلك تقليد عباد النار بحمل الشموع خلف العروس ولبس اللباس الأبيض ذو الذيل الطويل تماماً كما يفعله الكفار وذلك تشبه بهم والتشبه قال فيه رسولنا : ((من تشبه بقوم فهو منهم)) [رواه أبو داود]. وعند الترمذي من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ليس منا من تشبه بغيرنا، لا تشبهوا باليهود ولا بالنصارى، فإن تسليم اليهود الإشارة بالأصابع، وتسليم النصارى الإشارة بالأكف)).
معاشر المؤمنين، هذه بعض المخالفات والمنكرات التي تحدث في مناسبة شرعية قد أمرنا الشارع بها وهي وليمة العرس التي قال فيها : ((أولم ولو بشاة)) رواه البخاري ومسلم. فبدل البعض أمر الله وأمر رسوله وعصوا ربهم، وكان حالهم كحال من قال الله فيهم فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ [البقرة:59]. أفلا يخشى هؤلاء عقوبة مثل عقوبة أولئك. نسأل الله الهداية للجميع.
اللهم اهدنا فيمن هديت وعافنا فيمن عافيت وتولنا فيمن توليت وبارك لنا فيما رزقت وأعطيت، وقنا شر ما قضيت.
اللهم اغفر لنا ذنوبنا كلها دقها وجلها أولها وآخرها، ما علمنا منها وما لم نعلم. اللهم ارحم موتانا، واهد ضالنا، ورد غائبنا، واشف مرضانا، واقض عنا ديننا، ولا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا. اللهم آمنا في أوطاننا ودورنا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا أرحم الراحمين.
وصل اللهم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
ـــــــــــــــــــ(68/43)
نصائح للزوجين
...
...
3235
...
الأسرة والمجتمع, فقه
...
...
النكاح, قضايا الأسرة
...
صلاح بن محمد البدير
...
...
المدينة المنورة
...
11/5/1424
...
...
المسجد النبوي
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- فطرة الميل إلى السكون والاستقرار. 2- عظم الرابطة الزوجية. 3- أهمية الأسرة في المجتمع. 4- أسباب المشكلات الأسرية. 5- نصائح للزوجين. 6- كلمات للزوجة المسلمة. 7- كلمات للزوج المسلم. 8- التحذير من المعاصي والمخالفات في البيوت. 9- نصائح للمعدِّدين.
الخطبة الأولى
أمّا بعد: فيا أيّها المسلمون، اتّقوا الله وأطيعوه، فإنَّ تقواه أفضل مكتسَب، وطاعته أعلى نسب، ياأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِى خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِى تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً [النساء:1].
أيّها المسلمون، إنَّ الله تعالى بلطيفِ حكمتِه وما أودَعَه في إبداع العالَم من عجائبِ قدرتِه خلق الإنسانَ مجبولاً إلى السّكَن والاستقرار، وطبَعَه في أصلِ خِلقته على الحاجة لذلك والاضطرار، ويسَّر له برحمتِه وفضلِه زوجًا من نفسِه ليسكنَ إليها ويرتبطَ بها؛ إذِ الإنسان لجنسِه أميَل وعليه أقبل، وَمِنْ ءايَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْواجاً لّتَسْكُنُواْ إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَاتٍ لّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الروم:21].
أيّها المسلمون، الرّابطة الزوجيّة رابطةٌ عظمى، صدرت عَن رغبةٍ واختِيار، وانعقدَت عن خِبرة وسؤال وإيثار، عقدُها مأمورٌ بِه شرعًا، مستحسَن وضعًا وطبعًا، والأسرةُ هي اللبِنة الأولى لبناء المجتمعات، وبصلاحِها تصلح الأوضاع، وبفسادِها تفسد الأخلاقُ والطّباع، ركناها وقائداها زوجٌ وزوجَة، يجمَع بينهما ولاءٌ ووفاء ومودّة وصفاء وتعاطف وتلاطف ووفاق واتّفاق وآدابٌ وحُسن أخلاق، تحت سقفٍ واحد، في عِيشة هنيّة ومعاشرة مرضيّة. وفي كتاب الله وسنّة رسوله من الإصلاح التامّ والعدل العامّ ما يؤيِّد قواعدَ هذه الرابطة فلا تنثلِم، ويؤكّد عقائدَها فلا تنخَرِم.
أيّها المسلمون، إنَّ سببَ كثرةِ المشكلات وتفاقُم الخلافات وظهور المنازَعات وشُيوع الطلاق والفِراق لأسبابٍ تافهة إنّما هو التقصير في معرفة الأحكام الشرعية وآداب الحياة الزوجيّة وما تقتضِيه المسؤوليّة الأسريّة؛ إذ كيف تكون الأسرَة في هناءٍ وصفاء والزّوج ذو بذاءٍ وجفاء، إذا غضِب نفخ ونَفَث، واكفهرّ وازمجرّ، فيه حبّ الأنى والذّات، خيرُه مُقفَل وشرُه مرسل، كفٌّ يابِس ووجه عابس، ومعاملة فاسدة وأقوالٌ سافلة، تُورِث كَلْمًا لا يندمِل وصدعًا لا ينشعِب، وتترك المرأةَ حسيرةً كسيرة، حائرةً بين مُرَّين: طلبِ تطليقها أو الصبرِ على تعليقِها. وإنّ مَن الأزواج مَن إذا أبغضَ المرأةَ كدَّها وهَدَّها، وكهَرَها وظلمَها، وأكلَ مالَها ومنعَها حقَّها، وقطع نفقتَها، وربّما أخَذ ولدَها وهو تحتَ حضانتِها ورعايتِها، وتركها أسيرةَ الأحزان، تعاني كُرَب الأشجان، فأين الإحسان؟! أين الإحسانُ يا أهلَ القرآن؟!
أيّها المسلمون، وكيف يكون للأسرةِ هناءٌ وصفاء والزّوجة ولاّجة خرّاجة، ثرثارةٌ مِهذارة، طعَّانة لعّانة، لا تُجيب إلى إنصاف، ولا ترضَى بعَيش كفاف، تئنُّ عند طلبِها كسلاً تمارضًا، ولا ترضى لأمرِها مُعارضًا، مقصِّرة مفرِّطة، ومسرفة مفرِطة، كثيرة النّوم واللّوم، مَرهاء ملداء، لا كحلٌ ولا حنّاء، شَوهاء فَوهاء، تبطِل الحقَّ بالبكاء، تنسى الفضلَ وتُنكر الجميل، وتُكثِر على ذلك التّعليل والتّدليل، يقول النبي : ((اطَّلعتُ في النار فإذا أكثر أهلها النساء))، فقيل: لِم يا رسول الله؟ قال: ((يكفُرن العشير ـ يعني: الزوج ـ ويكفُرن الإحسان، لو أحسنتَ إلى إحداهن الدّهرَ ثمّ رأت مِنك شيئًا قالت: ما رأيتُ منك خيرًا قطّ)) أخرجه البخاري[1].
أيّها الزّوجان الكريمان، اتَّقيا الله في حياتِكما الزوجيّة، بُلاَّها بالحقوق، ولا تدمِّراها بالعُقوق، وليقُم كلّ واحدٍ منكما بما أوجبَ الله عليه تِجاه رفيق عمُره وشريك حياته، واخضعا لنصوص النّقل ومَنْطِق العقل قبل أن يستبدَّ بكما الشّقاق ويحصلَ الطلاق والفراق ويأكلَ أحدكما مِن النّدم كفَّيه ويعضَّ على يديه ويقُدَّ شعرَه ويمضغَ شفتَيه، واحتكِما لقول المولى جلّ وعلا: وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِى عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ [البقرة:228]، وقولِ النبيِّ : ((ألا إن لكم مِن نسائكم حقًّا، ولنسائكم عليكم حقًّا)) أخرجه الترمذي[2].
أيّها المسلمون، إنَّ من رام شريكًا للحياة بريئًا من الهفوات سليمًا من الزّلاّت فقد رام أمرًا مُعوِزًا، وطلب وصفًا معجِزًا، يقول النبيّ : ((لا يفرك مؤمنٌ مؤمنةً، إن كرِه منها خُلقًا رضيَ منها آخر)) أخرجه مسلم[3]، ويقول عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام: ((أيّما امرأةٍ سألت زوجَها الطلاق من غير بأسٍ فحرامٌ عليها رائحة الجنة)) أخرجه أحمد[4].
أيّتها المرأة المسلمة والزّوجة المؤمنة، كوني لبعلك أرضًا يكن لكِ سماء، وكوني له مِهادًا يكُن لك عمادًا، وكوني له أمَة يكن لك عَبدًا، تعهَّدي وقتَ طعامِه، والزَمي الهدوءَ عند منامِه، فإنّ مرارة الجوع ملهَبَة، وتنغيصَ النوم مغضَبَة، اصحبيه بالقناعة، وعاشريه بحُسن السّمع والطّاعة، ولا تُفشي له سرًّا، ولا تعصي له أمرًا، واحذري أنواعَ التقصير، واجتنبي أسبابَ التّكدير، ولا تصومي صيامَ تطوّعٍ وزوجُك شاهد إلاّ بإذنه، ولا تأذني في بيتِه لمن يكرَه إلا بإذنِه، واعلمي أنّك أشدّ ما تكونين له إعظامًا أشدّ ما يكون لك إكرامًا، ولا تلحِفي به فيقلاك، ولا تتباعدِي عنه فينساك، واجتهدي على نفسك بما هو أدعى لرغبته وأملأ لعينِه، وليكُن ذلك وفقَ القيود الشرعيّة والآداب المرعيّة، وإذا دعاك لحاجتِه فحقِّقي رغبتَه وأجيبي دعوتَه، يقول رسول الهدى : ((إذا دعا الرجل امرأتَه إلى فراشه فأبت أن تجيبَ فبات غضبانَ عليها لعنتها الملائكة حتّى تصبح)) متفق عليه[5].
قومي بخدمتِه بنفسٍ راضية؛ فإنّ في خدمته تقويةَ مودَّة وإرساءَ محبّة، ولتكن أسماء بنتُ أبي بكر الصّدّيق رضي الله عنها وعن أبيها لكِ في ذلك أسوةٌ وقدوة، تقول رضي الله عنها: تزوَّجني الزبير وما له في الأرض من مال ولا مملوك ولا شيء غير ناضحٍ وغير فرسه، فكنت أعلفُ فرسَه وأستقي الماءَ وأخرز غَربَه، وأعجن ولم أكن أحسِن أخبز، فكان يخبز لي جارات لي من الأنصار، وكنَّ نسوةَ صدق، وكنت أنقل النّوى من أرض الزبير التي أقطعه رسول الله على رأسي، وهي منّي على ثلثَي فرسخ. أخرجه البخاري[6].
ويقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه في وصفِ ما قامت به زوجه فاطمة بنتُ رسول الله ورضي عنها: إنّها جرّت بالرّحى حتى أثّرت بيدها، واستقت بالقربة حتّى أثّرت في نحرها، وقمّت البيتَ حتّى اغبرّت ثيابها، وأوقدت القِدر حتّى دكِنت ثيابُها. أخرجه أبو داود[7].
وحسبُ المرأةِ طوبَى وبشرَى قولُ الصّادق المصدوق : ((أيّما امرأةٍ ماتت وزوجُها راضٍ عنها دخلت الجنّة)) أخرجه الترمذي[8]، وقوله عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام: ((إذا صلّت المرأة خمسَها وصامت شهرَها وحفظت فرجَها وأطاعت زوجَها قيل لها: ادخلي الجنةَ من أيّ أبواب الجنّة شئتِ)) أخرجه ابن حبان[9].
أيّها الزوج الكريم، اتّق الله في زوجك، لا تكلِّفها ما لا تطيق، وأعِنها عند الضِّيق، وأشفِق عليها إذا تعِبت، ودارِها إذا مرِضت، وراعِها عندَ ظرفِ حملِها ونفاسها ورضاعها، وأجزِل لها الشّكر، وتلقّاها ببرٍّ وبِشر، واعلَم أنَّ قوامتَك لا تعني القهرَ والغلبةَ والاستبداد والاحتقار، بل هي قوامة تحفَظ لها كرامتَها، وتستوجب تعليمَها وتأديبها وإعفافها، ولا يكن جلَّ همِّك مراقبة أخطائها وإحصاءُ زلاّتها، ولا تبالِغ في إساءة ظنٍّ بلا ريبَة، ولا تتغاضَ عمَّا يُخلُّ بالدّين والمروءة، واحذَر شكًّا قاتِلاً وظنًّا مدمِّرًا، يقول النبيّ : ((غَيرتان: إحداهما يحبُّها الله، والأخرى يبغِضها الله. الغيرةُ في الرّيبة يحبّها الله، والغيرة في غيره يبغضها الله)) أخرجه أحمد[10].
أيّها الزوجُ الكريم، إيّاك والمعاتبةَ الكثيرة، فإنّها تورث الضّغينة، ولا تمنَع أهلَك رِفدَك فيملّوا قربَك، ويكرَهوا حياتَك، ويستبطِئوا وفاتَك، يقول النبي: ((كفى بالمرء إثمًا أن يضيِّع من يقوت)) أخرجه أبو داود[11].
كُن جوادًا كريمًا، فمَن جاد ساد، ومن أضعَف ازدَاد، ولا خيرَ في السّرف، ولا سَرَف في الخير، وعاشروهن بالمعروف، أطعموهنّ واكسوهنّ، أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم مّن وُجْدِكُمْ وَلاَ تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيّقُواْ عَلَيْهِنَّ [الطلاق:6]، لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا ءاتَاهُ اللَّهُ لاَ يُكَلّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ مَا ءاتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا [الطلاق:7]، يقول رسول الله : ((اتَّقوا اللهَ في النّساء، فإنّكم أخذتموهنّ بأمانةِ الله، واستحللتم فروجهنَّ بكلمةِ الله، ولهنّ عليكم رزقهنّ وكسوَتهنّ بالمعروف)) أخرجه مسلم[12]، ويقول عليه الصلاة والسلام: ((إذا أنفقَ الرجل على أهله نفقةً يحتسبُها فهي له صدقة)) متفق عليه[13].
أيّها المسلمون، لقد كان سيّدُ الأنام عليه أفضل الصلاة والسلام جميلَ العشرة، دائمَ البِشر مع أهله، يتلطَّف معهنّ، ويضاحكهنّ ويداعبهنّ، ويقول بأبي هو وأمّي صلوات الله وسلامه عليه: ((خيركم خيرُكم لأهله، وأنا خيركم لأهلي))[14]، ويقول : ((أكملُ المؤمنين إيمانًا أحسنُهم خُلَقًا، وخياركم خيارُكم لنسائهم)) أخرجه البخاري[15]، ويقول عليه الصلاة والسلام حاثًّا وآمرًا: ((استوصوا بالنّساء خيرًا)) أخرجه البخاري[16].
أيّها الأزواج، لا تتجاوَزوا ما شرَع الله لكم من الضّرب غيرِ المبرِّح حالَ النشوز إلى ما حرّم عليكم من الضّرب المفظع والاعتداءِ الموجِع والجَلد المروِّع، فإنّ عواقبَه وخيمة وأضراره جسيمة، وفي البخاريّ أنّ النبيَّ قال: ((لا يجلِد أحدكم امرأتَه جلدَ العبد، ثم يجامعها في آخر اليوم))[17].
لقد تجاوَز رجالٌ على عهدِ رسول الله ، فطاف النّساء بآلِ رسول الله يشتكين الضربَ من أزواجهنّ، فقال رسول الله : ((لقد طاف بآل محمّدٍ نساء كثير يشتكين مِن أزواجهن، ليس أولئك بخياركم)) أخرجه أبو داود[18]، وعن معاوية بن حيدة رضي الله عنه أنَّ رسول الله قال: ((ولا تضربِ الوجهَ ولا تقبِّح)) أخرجه أحمد[19]، فويل للظالم، ويل للظالم يوم اقتصاصِ المظالم.
أيّها الأزواج، إنَّ السهرَ والسمَر خارجَ المنزل من مثيرات القلق والأرق، ينغِّص على الزّوجة حياتَها، ويزعزع ويزلزل استقرارَها، ويَضيع بسببه الأولاد فلذةُ الأكباد وثمرة الفؤاد، حتّى يصيروا فريسةً لوحوش الظلام وفتنِ هذا الزّمان، فاحذروا هذا السهرَ واجتنبوه ولا تقربوه.
أيّها المسلمون، إنّ ظهورَ المعاصي والمخالفات وانتشارَ المنكرات في كثير من البيوتات من أعظم أسباب خرابِها ودمارها، ولقد دبَّ الشّقاء والشقاق وثارَت ثائرة الغيرة واشتعلت نيران الشكّ والحيرة بين كثير من الأزواج بسبب طبَق القنوات الخطرِ المحدِق والشرّ المطبق، فحين رأى غيرَها ورأت غيرَه رغِب عنها وزهدت فيه، وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَاكِنْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [آل عمران:117]، نعوذ بالله من الخزيِ والعار ومن فعل يقرِّب إلى النار.
فاتّقوا الله عبادَ الله، وطهِّروا بيوتكم ممّا يستوجب اللعنةَ والطرد والإبعاد، قُل إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِى إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ [الرعد:27].
أيّها المسلمون، ألا فلتذهبِ المرأةُ مربيةَ أجيال برقِّة طَبع ولطافة حسّ وذكاءِ عاطفة، وليذهَبِ الرجل قوّامًا وقائدًا بقوّةِ بأس وجلالة فِكر وسلامة تقدير وتدبير، وليذهبِ الاثنان إلى حياةٍ كريمة في ظلِّ تمسّك بالدين وفعلٍ للواجبات واجتنابٍ للمحرمات وتعاونٍ على البر والتقوى، و((رحم الله رجلاً قام من الليل فصلّى، ثمّ أيقظ امرأته فصلّت، فإن أبت نضح في وجهها الماء، ورحِم الله امرأةً قامت من الليل فصلّت، ثمّ أيقظت زوجها فصلّى، فإن أبى نضحت في وجهه الماء))[20].
وَالَّذِينَ ءامَنُواْ وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مّنْ عَمَلِهِم مّن شَىْء كُلُّ امْرِىء بِمَا كَسَبَ رَهَينٌ [الطور:21].
بارك الله لي ولكم في القرآن والسنّة، ونفعني وإياكم بما فيهما من الآيات والحكمة، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] صحيح البخاري: كتاب الإيمان (29) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما بنحوه، وأخرجه أيضا مسلم في الكسوف (907).
[2] سنن الترمذي: كتاب الرضاع (1163) من حديث عمرو بن الأحوص رضي الله عنه، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وأخرجه أيضا النسائي في الكبرى (9169)، وابن ماجه في النكاح (1851)، وحسنه الألباني في صحيح سنن الترمذي (929، 2464).
[3] صحيح مسلم: كتاب الرضاع، باب: الوصية بالنساء (1469) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[4] مسند أحمد (5/277، 283) عن ثوبان رضي الله عنه، وأخرجه أيضا أبو داود في الطلاق (2226)، والترمذي في الطلاق (1187)، وابن ماجه في الطلاق (2055)، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن"، وصححه ابن الجارود (748)، وابن خزيمة كما في الفتح (9/410)، وابن حبان (4184)، وانظر تخريجه في الإرواء (2035).
[5] صحيح البخاري: كتاب بدء الخلق (3237)، صحيح مسلم: كتاب النكاح (1436) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[6] صحيح البخاري: كتاب النكاح (5224)، وأخرجه أيضا مسلم في السلام (2182).
[7] سنن أبي داود: كتاب الأدب (5062)، وأخرجه أيضا أبو نعيم في الحلية (1/70، 2/41)، وأورده الألباني في ضعيف سنن أبي داود (1075).
[8] سنن الترمذي: كتاب الرضاع، باب: ما جاء في حق الزوج على المرأة (1161)، وأخرجه أيضا ابن ماجه في النكاح، باب: حق الزوج على المرأة (1854)، وأبو يعلى (6603)، والطبراني في الكبير (23/374)، والحاكم (4/173) من طريق مساور الحميري عن أمه عن أم سلمة رضي الله عنها، ومساور هذا وأمّه مجهولان، قال الذهبي في الميزان (4/95): "مساور الحميري عن أمه عن أم سلمة فيه جهالة، والخبر منكر"، ولذا ضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة (1426).
[9] صحيح ابن حبان (4163) من طريق هدبة عن عبد الملك بن عمير عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه، وأخرجه أيضا الطبراني في الأوسط (4598)، وقال ابن حبان: "تفرد بهذا الحديث عبد الملك بن عمير من حديث أبي سلمة، وما رواه عن عبد الملك إلا هدبة بن المنهال وهو شيخ أهوازي". وله شاهد من حديث عبد الرحمن بن عوف، أخرجه أحمد (1/191)، والطبراني في الأوسط (8805)، قال المنذري في الترغيب (2/671): "رواته رواة الصحيح خلا ابن لهيعة، وحديثه حسن في المتابعات". وفي الباب عن أنس عند أبي نعيم في الحليلة (6/308)، و عن عبد الرحمن بن حسنة عزاه الهيثمي في المجمع (4/306) إلى الطبراني، وقد حسنه الألباني في آداب الرفاف (ص286).
[10] مسند أحمد (4/154) من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه، وأخرجه أيضا معمر في جامعه (10/409 ـ المصنف ـ)، والروياني (186)، والطبراني في الكبير (17/340)، وصححه ابن خزيمة (2478)، والحاكم (1525)، وقال الهيثمي في المجمع (4/329): "رجاله ثقات"، وأعله الألباني في السلسلة الضعيفة (3962) بجهالة أحد رواته.
[11] سنن أبي داود: كتاب الزكاة (1692) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، وأخرجه أيضا أحمد (2/160، 193، 194، 195)، والنسائي في الكبرى (9177)، والبزار (2415)، والطبراني في الأوسط (4354، 5155)، والبيهقي في الكبرى (7/467، 9/25)، وصححه ابن حبان (4240)، والحاكم (1515)، والنووي في رياض الصالحين (ص94)، وانظر تخريجه في الإرواء (989). وهو عند مسلم في الزكاة (996) بلفظ: ((كفى بالمرء إثما أن يحبس عمّن يملِك قوته)).
[12] صحيح مسلم: كتاب الحج (1218) من حديث جابر رضي الله عنه في صفة حج النبي .
[13] صحيح البخاري: كتاب الإيمان (55)، صحيح مسلم: كتاب الزكاة (1002) من حديث أبي مسعود رضي الله عنه.
[14] أخرجه الترمذي في المناقب، باب: فضل أزواج النبي (3895)، والدارمي في النكاح (2360) دون الشطر الثاني، والبيهقي في السنن الكبرى (7/468) من حديث عائشة رضي الله عنها، قال الترمذي: "حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه"، وصححه ابن حبان (4177)، وله شواهد، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (285).
[15] أخرجه أحمد (2/250)، والترمذي في الرضاع، باب: ما جاء في حق المرأة على زوجها (1162)، وأبو داود في السنة، باب: الدليل على زيادة الإيمان ونقصانه (4682) دون الشطر الأخير من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وصححه ابن حبان (4176)، والحاكم (1/3)، والألباني في السلسلة الصحيحة (284). ولم يخرجه البخاري بهذا السياق.
[16] صحيح البخاري: كتاب النكاح (5186) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وأخرجه أيضا مسلم في كتاب الرضاع (1468).
[17] صحيح البخاري: كتاب النكاح (5204) من حديث عبد الله بن زمعة رضي الله عنه، وأخرجه أيضا مسلم في كتاب الجنة (2855) بنحوه.
[18] سنن أبي داود: كتاب النكاح (2146) من حديث إياس بن عبد الله رضي الله عنه، وأخرجه أيضا النسائي في الكبرى (9167)، وابن ماجه في النكاح (1985)، والدارمي في النكاح (2219)، والبيهقي في الكبرى (7/304، 305)، وصححه ابن حبان (4189)، والحاكم (2765)، وقال الحافظ في الفتح (9/303-304): "له شاهد من حديث ابن عباس في صحيح بن حبان، وآخر مرسل من حديث أم كلثوم بنت أبي بكر عند البيهقي"، وأورده الألباني في صحيح سنن أبي داود (1879).
[19] مسند أحمد (4/447)، ووأخرجه أيضا أبو داود في النكاح، باب: حق المرأة على زوجها، وابن ماجه في النكاح (1850)، والنسائي في الكبرى (9171)، وصححه ابن حبان (4175)، والحاكم (2/187-188)، والدارقطني كما في التلخيص الحبير (4/7)، وصححه الألباني في الإرواء (2033).
[20] أخرجه أحمد (2/250)، وأبو داود في الصلاة، باب: قيام الليل (1113)، والنسائي في قيام الليل وتطوع النهار، باب: الترغيب في قيام الليل (1592)، وابن ماجه في إقامة الصلاة والسنة فيها، باب: ما جاء فيمن أيقظ أهله من الليل (1326) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وصححه ابن خزيمة (3/183-1148)، وابن حبان (6/307-3567)، والحاكم (1/309)، وهو في صحيح سنن أبي داود (1287).
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أنَّ محمَّدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وإخوانه، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فيا أيّها المسلمون اتّقوا الله وراقبوه، وأطيعوه ولا تعصوه، يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ [التوبة:119].
أيّها المسلمون، العدلُ يدعو إلى الألفَة ويبعَث على الطّاعة، وبالعدل والإنصاف يدوم الحبّ والائتلاف، وليس للجائر جار، ولن تُعمَر له دار.
أيّها المعدِّدون، اتقوا الله واعدلوا بين أزواجكم، اعدِلوا بينهنّ في مسكنهنّ وملبسهنّ ومأكلهنّ ونفقةٍ عليهنّ والمبيتِ عندهنّ، واحذَروا الجورَ والحيف، فإنّه من أسباب العذاب وموجبات العقاب، يقول النبيّ : ((إذا كانت عندَ الرجل امرأتان فلم يعدِل بينهما جاءَ يوم القيامة وشقُّه ساقط)) أخرجه أحمد[1]، وكان رسول الله إذا أراد سفرًا أقرع بين نسائِه، فأيتهنّ خرج سهمُها خرج بها معه. متفق عليه[2]. وكان يقسِم بين نسائه ويعدِل بينهن، ويقول : ((اللهمَّ هذا قسمي فيما أملك، فلا تلُمني فيما تملك ولا أملك)) يعني القلب، أخرجه أبو داود[3].
اعدِلوا بينهن، وراعوا ما يحصل بينهن من الغيرة التي لا يقدرن على دفعها، ولا سبيل لهن إلى رفعها ومنعها، غيرةٌ تغيّر القلبَ والطبع، وتهيّج الغضب وتقلِب الوضع، فعن جسرةَ عن عائشة رضي الله عنها قالت: ما رأيتُ صانعةَ طعام مثل صفية، أهدت إلى النبي إناءً فيه طعام، فما ملكتُ نفسي أن كسرتُه، فقلت: يا رسول الله، ما كفارته؟ قال: ((إناءٌ كإناء، وطعام كطعام)) أخرجه أحمد[4]، وعن عائشة مرفوعًا: ((إنَّ الغيرى لا تبصِر أسفلَ الوادي من أعلاه)) أخرجه أبو يعلى[5].
فتعاملوا بالعقل والحِكمة، واحذَروا قالةَ السوء وصاحبَ السوء وعملَ السوء، وَتُوبُواْ إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور:31].
واعلموا أنّ الله أمركم بأمرٍ بدأ فيه بنفسه، وثنّى بملائكته المسبّحة بقدسه، وثلّث بكم ـ أيّها المؤمنون ـ من جنّه وإنسه، فقال قولاً كريمًا: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىّ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب: 56].
اللهمَّ صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمّد، وارضَ اللهمَّ عن الخلفاء الراشدين...
[1] مسند أحمد (2/347، 471)، وأخرجه أيضا أبو داود في النكاح (2133)، والترمذي في النكاح (1141)، والنسائي في عشرة النساء (3942)، وابن ماجه في النكاح (1969) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وصححه ابن الجارود (722)، وابن حبان (4207)، والحاكم (2/186)، ووافقه الذهبي، وقال الحافظ في البلوغ (1085): "إسناده صحيح"، وهو في صحيح سنن الترمذي (912).
[2] صحيح البخاري: كتاب الهبة (2594)، صحيح مسلم: كتاب التوبة (2770) عن عائشة رضي الله عنها.
[3] سنن أبي داود: كتاب النكاح (2134) من حديث عائشة رضي الله عنها، وأخرجه أيضا أحمد (6/144)، والترمذي في النكاح (1140)، والنسائي في عشرة النساء (3943)، وابن ماجه في النكاح (1971)، وقد اختلف في إرساله ووصله، ورجح الترمذي وغيره من الحفاظ إرساله، وصحح الموصول ابن حبان (4205)، والحاكم (2761)، وقال ابن كثير في تفسيره (3/502): "إسناده صحيح، ورجاله كلهم ثقات"، وانظر تخريجه في الإرواء (2018، 2024).
[(68/44)
4] مسند أحمد (6/148)، وأخرجه أيضا أبو داود في البيوع (3568)، والنسائي في عشرة النساء (3957)، والبيهقي في الكبرى (6/96)، كلهم من طريق فليت عن جسرة عن عائشة، قال البيهقي: "فليت العامري وجسرة بنت دجاجة فيهما نظر"، أما الحفظ فحسن إسناده في الفتح (5/125)، وأورده الألباني في ضعيف أبي داود (762).
[5] مسند أبي يعلى (4670)، قال الحافظ في الفتح (9/325): "سنده لا بأس به"، وقال الهيثمي في المجمع (4/322): "فيه محمد بن إسحاق وهو مدلس، وسلمة بن الفضل وقد وثقه جماعة ابن معين وابن حبان وأبو حاتم، وضعفه جماعة، وبقية رجاله رجال الصحيح"، وبهاتين العلتين أعله الألباني في السلسلة الضعيفة (2985).
ـــــــــــــــــــ(68/45)
التعاون على تيسير الزواج
...
...
3236
...
الأسرة والمجتمع, فقه
...
...
النكاح, قضايا المجتمع
...
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
...
...
الرياض
...
4/5/1424
...
...
جامع الإمام تركي بن عبد الله
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- خلق التعاون بين المسلمين. 2- حاجة المجتمع المسلم إلى تيسير أمر الزواج. 3- خطأ اشتراط الغِنى في الخاطب. 4- خطأ المغالاة في المهور. 5- المعيار الصحيح في الخاطب والمخطوبة. 6- السنة النبوية في المهر. 7- مشروعية وليمة الزواج. 8- خطأ التباهي بالولائم والإسراف والتبذير فيها.
الخطبة الأولى
أما بعد: فيا أيّها النّاس، اتّقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادّ الله، يقول ربّنا جلّ جلاله وهو أصدق القائلين آمرًا عبادًه المؤمنين بهذا الخُلُق الكريم: وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ آلْعِقَابِ [المائدة:2]. فيأمرُنا ربّنا جلّ جلاله أن نكونَ جميعًا أعوانًا على البرّ، أعوانًا على التقوى، أعوانًا على كلِّ أمر يحبّه ربّنا ويرضاه، ونهانا أن نتعاونَ على الإثم والعدوان، عن كلِّ أمر يبغضه الله من شرٍّ خاصّ أو عامّ، ثم يقول: وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ آلْعِقَابِ [المائدة:2].
هذه الآية ـ أيّها الإخوة ـ أصلٌ عظيم في التّعاون بين المسلمين، أصلٌ عظيم في وجوب التعاون بين أمّةِ الإسلام على الخير والهدى، وأصلٌ عظيم في تحذيرهم من أن يكونوا أعوانًا على الشرّ والبلاء.
أيّها المسلم، إنَّ مِن التعاون على البرّ والتقوى أن يتعاونَ المجتمع المسلمُ في الدّعوة إلى تسهيل أمر الزواج، وإلى بثِّ روح التعاون بين الجميع في إظهار شعيرةِ الزواج بالتعاون على ذلك لنسهِّل أمرَ الزواج لأبنائنا وبناتِنا.
أيّها الإخوة الكرام، كلُّ مسلمٍ منّا محتاجٌ إلى هذا الأمر العظيم، فمَن له أولادٌ يحتاج إلى تزويجهم، ومَن له بنات فهو يتمنّى لهنّ الزواجَ والعفاف، إذًا فهي مصلحة مشتركَةٌ بين الجميع للذّكور والإناث، والمجتمع المسلم إذا تعاون في تيسير أمرِ الزواج وتعاونَ الجميع في تذليل العقبات التي تعوق كثيرًا من أبنائنا عن الزواج، أو تعوق أيضًا بناتنا عن الزواج، فيبقى الذّكور عُزَّبًا، وتبقى الفتيات عوانسَ في البيوت، ليس هذا من مصلحةِ الجميع، ليس هذا من البرّ ولا من التقوى، ليس هذا من الخلُق الكريم، المطْلوبُ منّا جميعًا أن نتعاونَ في إفشاء الزّواج، في إشاعته وتكثيره وتيسير أمورِه وتذليلِ كلِّ الصِّعاب ما وجدنا لذلك سبيلاً.
أيّها المسلم، هذا الأمر لا تستطيع أن تفرضَه السّلطة، ولا أن تُلزم به النّاس، فلو أُلزم النّاس لاتَّخذوا حِيَلاً ووسائلَ يتخلّصون بها من كلِّ ما ألزِموا به، لكن إذا انبعَث الأمر من قلوب المجتمع المسلم، انبعث الأمرُ من روح التعاونِ والتساعد فإنّ هذا ممّا يعين على الخير والتقوى.
أيّها المسلمون، هناك عقباتٌ كأداء تحول بين شبابنا وبين فتياتنا من الزّواج، لو أنّ المجتمع المسلمَ تعاون في حلّها وتذليلها لصار خيرًا كثيرًا لمجتمعنا المسلم.
مِن تلكم العقبات أولاً: نظرُ بعض الآباء والأمّهات إلى مَن يتقدّم لخطبة الفتات، فنرى أحيانًا خطأ من أمّهات الفتيات، يتمثّل هذا الخطأ الذي تقع فيه الأمُّ أحيانًا من أنّها تنظر إلى خطيبِ ابنها بنظرٍ خاصّ، وتريد مواصفاتٍ معيّنةً، والأمر في ذلك أيضًا مادّي، فهي لا تريد لفتاتِها إلا من يكون ذا كذا وذا كذا، ذا مال أو ذا جاه أو ذا عملٍ كبير أو إلى غير ذلك، فهناك مِن الأمّ خطأٌ في أنّها لا ترغَب في زواج فتاتِها إلا بأمور معيّنة لو فكّرت حقًّا لرأت أنَّ كثيرًا ممّا تريد ليس من مصلحةِ الفتات في مستقبلها، فالأمرُ بيد الله، والفقر والغنى بيد الله، ويقول الله جلّ وعلا: إِن يَكُونُواْ فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ [النور:32]. لا شكّ أنّه مطلوبٌ من الزوج القيامُ بالنفقة، لكن لا يُجعل الغنى وحدَه أو كثرة المال وحده هي الوسيلة، وإنّما يُسلَك الأمر الوسَط في ذلك.
قد يخطئ الأب أحيانًا إذا خُطِبت منه فتاته، فإمّا أن يطلبَ مهرًا زائدًا وتكلفاتٍ هائلة قد تثقل كاهلَ ذلك الشابّ الخاطب، تثقل كاهلَه، وتحمّله ما لا يطيق.
أيّها الإخوة، إنّ الآباءَ والأمهاتِ مسؤولون جميعًا عن هذه المهمّة الكبرى، والمطلوب منهم التعاون على البرّ والتقوى.
أيّها المسلمون، إنّ صداقَ المرأة أمر مطلوبٌ شرعًا، وَءاتُواْ النّسَاء صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً [النساء:4]، هذا أمر لا شكّ فيه، ولكن ـ أيّها الأخ المسلم ـ ماذا تريد من صداقٍ تثقل به كاهلَ ذلك الخاطب؟! وقد لا يجد كثيرًا منه، وقد يتحمّل ديونًا ويأخذ قروضًا بفوائد متعدِّدة، يشتري سيّارات أو غيرها، ويحمِّل ذمَّتَه أمرًا لو فكّر فيه لرأى صعوبةَ الأمر وعسرَه عليه، ومتى يقضي ذلك الدّين، فيعيش في همٍّ وغمّ وثُقلِ الدَّين الذين يقلِق مضجعَه ويجعله في همّ وغمٍّ ملازم.
أيّها الأب الكريم، إنّه إذا تقدّم لفتاتِك خاطبٌ فانظر الدّينَ أوّلاً، ثمّ انظر عقلَه ورجاحة فكره وأهليّته لتلك الفتات، فإذا توسّمتَ فيه الخيرَ واستخرتَ الله واستشَرت غيرَك ممّن تظنّ أنّه يشيرك بالخير، فإيّاك أن تردَّ ذلك الزوجَ لأجل مطامعَ ماديّة، لا تجعل المادّةَ هي المعيار في القبول أو الردّ، ولكن اجعل الأخلاق والعقل وحسنَ التّصرّف هي الغاية المقصودة. أمّا المهر فلا تكلِّفه ما لا يطيق، لا تطلب ما لا يُستطاع، فما أوتيت من مهرٍ فسيجعل الله فيه بركة، فأنفقه قدرَ استطاعتك، والله سييسّر الأمور، وسيجعل الله بعدَ عسرٍ يُسرًا.
أيّتها الأمّ الكريمة، أعيني فتاتك على الزواج، وإذا كانت ترفُض الزواجَ لأجل المطامع الماديّة فكوني خيرَ عَون في إقناعها وتوجيهها وتبيينِ أنَّ هذا المطلبَ ليس مطلبًا شريفًا، وإنّما المطلب الشّريف دينُ ذلك الرّجل، خلقُه ورجاحة عقله، أهليتُه لتسلّم تلك الأمانة، فهي ـ والله ـ الغايةُ العظيمة التي يسعى لها العقلاء ذوو العقول الراجحة والآراء السديدة.
أيّها المسلمون، إنّ توسُّعنا في كثيرٍ من مهور النّساء أثقَلَ كواهلَ شبابنا وأتعَبَهم وفتح للطّامعين أبوابَ الطّمع المختلِفة، فتحمّلوا ديونًا أثقلت كواهلَهم، وعجزوا عن تسديدها، وأصبحوا في قلقٍ وهمّ من تلك الديون العظيمة.
أيّها المسلم، إنّ سنّةَ نبيّنا كانت تيسيرَ أمر الزواج، وكانت سنّته تهوينَ أمر الزواج وعدم المبالغة في ذلك، فكانت سنّته في مهور نِسائه التي يدفعها مهورًا لهنّ أو قبوله مهورَ بناته، كانت في غايةِ التواضع ليكون مثلاً يُقتَدى به، وإن يكن ذلك الأمر قد لا يكون يتطابِق مع الوضع، لكنّه بالنسبة إلى زمانِه كان يسيرًا، وكان مضرَب المثل في التيسير والتّسهيل، فما دفع لامرأةٍ من نسائه فوقَ أربعة مائة درهم، وما قبل لبناته أكثرَ من أربعة مائة درهم[1]، هذا بلا شكّ في زمانِه كان مضرَبَ المثل في التواضع، وأنا لا أقول: تقيَّد بهذا، لكن المهمّ أن لا تكلِّف الخاطبَ ما لا يستطيع، لا تثقِل كاهلَه، ولا تحمِّله ما لا يطيق، ولا تجعل الزواجَ وقفًا على ذلك المهر الزائد، بل يسِّر الأمور، وأعِن على الزّواج، ولا تكلِّف ما لا يُطاق، وسيجعل الله في الأمر إن شاء الله بركةً في الحاضر والمستقبل.
أيّها المسلمون، نبيّنا شرع لنا وليمةَ الزواج، وحثَّنا عليها، فقال لعبد الرحمن بن عوف: ((أولم ولو بشاة))[2]. فحثّ على الوليمة، وحثّ على حضورها، ورغّبَ في ذلك، لكن ـ أيّها الإخوة ـ للأسف الشّديد أنّ هذه الولائم أخذت مسارًا غيرَ صحيح، وسلكت مسلكًا غيرَ مناسب، وتباهى المجتمع في حفلات الزواج تباهيًا عظيمًا، وأصبح كلٌّ يُحدِث لنفسه نوعًا من المباهاة، عسى أن يكون سابقًا لغيره، وعسى أن يكونَ متقّدِّمًا على غيره، وعسى أن يُذكَر بأنّ حفلات الزواج عند فلان بلغت كيت وكيت، وأُنفِق عليها من الأموال ما أنفق عليها، فأصبح التّباهي بذلك مظهرًا، وهذا المظهر مظهرٌ خاطئ بلا شكّ.
أيّها الإخوة، إنّ نعمَ الله عظيمة علينا، وإنّ النّعم لا تدوم إلا بشكر الله عليها واستعمالِها فيما يُرضي الله، وإنَّ إضاعةَ المال في كثير من الولائم العظيمة التي ينفَق عليها في الليلة الواحدة مئاتُ الآلاف لا شكّ أنَّ هذا خطأ عظيم وخطرٌ كبير، وإنَّ المسلمَ ينبغي أن يحافظَ على نعم الله، ويتذكّر أقوامًا يتمنَّون لقمةَ العيش فلا يصلون إليها. فلنحمدِ الله على نعمه، ولنعرف قدرَ هذه النعمة، ولنقُم بحقِّها، ومِن حقِّها أن لا نجاوزَ الحدَّ فيها.
إنَّ بعضَ حفلاتِ زواجنا وللأسف خرجت من دور الإسراف إلى دورِ التبذير والإنفاق فيما حرّم الله، فهناك الإسراف عند بعضنا تكثيرُ المباحات، وهناك التبذير والإنفاق في الأمور المحرَّمة التي حرَّمها الشّرع، فالواجب على المسلمين تقوى الله والتعاونُ على البرّ والتقوى فيما بينهم والتناصحُ فيما بينهم؛ لأنّ هذه الأشياءَ لا يحلّها ولا يقضي عليها إلا التعاون بين المسلمين وتذكيرُ بعضهم بعضًا، عسى أن يفهمَ المجتمعُ تلك الأخطاءَ فيبتعد عنها، ويتيسّر أمرُ الزواج.
إنّ شبابَنا ذكورًا وإناثًا كلّهم محتاجون إلى الزواج، فلا بدّ من عملٍ عظيم يسبِّب تسهيلَ هذه المهمّات؛ التعاون بين المجتمع المسلم على الخير والتقوى، وتشجيعُ من رأينَا منه تعاونًا وتيسيرًا، حتى يكون الناس يقتدي بعضهم ببعض، ويتأسّى بعضهم ببعض، ويعين بعضهم بعضًا. أمّا إذا كان أهل الغِنى والثراء ينفقون الأموالَ الطائلة في الحفلات، وغيرهم يتمنّى أن يكونَ مثلَهم ويحاول الاقتداءَ بهم ولو تحمَّل من الديون ما لا طاقة له به فهذا هو الخطأ، فالقدوة الصالحةُ خيرٌ للمجتمع المسلم، وكلّ من سعى في خيرٍ وأعان على خير فإنّ له أجرًا عظيمًا.
فاتّقوا الله في أنفسكم، وقوموا بما أوجب الله عليكم، وابتعِدوا عن مظاهر الإسراف، وعن التبذير في الإنفاق في المحرّمات، أسأل الله أن يعينَنا جميعًا على كلّ خير، وأن يهديَنا سبلَ السلام، وأن يرزقَ الجميعَ التعاون على البرّ والتقوى، إنّه على كلّ شيء قدير.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرج أحمد (1/40-41، 48)، وأبو داود في كتاب النكاح (2106)، والترمذي في كتاب النكاح (1114)، والنسائي في كتاب النكاح (3349)، وابن ماجه في كتاب النكاح (1887) عن عمر رضي الله عنه قال: ألا لا تغالوا بصدق النساء، فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا أو تقوى عند الله لكان أولاكم بها النبي ، ما أصدق رسول الله امرأةً من نسائه ولا أصدقت امرأة من بناته أكثر من ثنتي عشرة أوقية. وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وصححه ابن حبان (4620 ـ الإحسان ـ)، والحاكم (2/175-176)، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (1852).
قال الترمذي: "الأوقية عند أهل العلم أربعون درهما، وثنتا عشرة أوقية أربع مائة وثمانون درهما".
[2] أخرجه البخاري في النكاح (5072، 5153، 5155، 5167)، ومسلم في النكاح (1427) من حديث أنس رضي الله عنه.
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربّنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمَّدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أمّا بعد: فيا أيّها النّاس، اتّقوا الله تعالى حقّ التقوى.
عبادَ الله، رحِم الله امرأً فتح للنّاس أبوابَ الخير، رحم الله امرأً كان قدوةً لمجتمعه في التّعاون على الخير، رحم الله عبدًا كان أسوةً حسنة في الاقتصاد في هذه الأمور، رحم الله عبدًا كان أسوةً حسنة في البُعد عن مظاهرِ الإسراف وبعدٍ عن التبذير.
أيّها الإخوة، وليمةُ الزواج مطلوبة، ولكن هل المطلوب أن أدعوَ المئاتِ من الناس، وأكلّف نفسي بما لا أستطيع، أم المطلوب وليمةٌ قدرَ العائلة وأهل البيت؟
إنَّ هذه الولائمَ اليومَ أصبحت مظهرًا سيّئًا، يُوضَح فيها من أنواعِ المأكولات ما لا يُؤكل ولا عُشره، وكثيرٌ منها يُلقى في المزابل. نِعَمٌ عظيمة وخيرات كثيرة النّاس لا يتناولون منها إلا جزءًا، ومعظم أجزائها فإلى المزابلِ والعياذ بالله.
هذا ـ يا إخواني ـ مظهرُ سوء، الواجب على المسلمين التعاونُ على الخير، والتبصُّر في هذه النّعم، ومعرفة قدرها، وأن الله جلّ وعلا سائلنا عنها: ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ [التكاثر:8]، الله سائلنا عن هذه النّعم، في أيِّ شيء استعملناها؟ هل هذه النعم التي توضَع تؤكَل وتستهلك أم لا؟
بعضُ أولئك لو طُلِب منه إعانةٌ لفقير ومحتاج لما بذل درهمًا واحدًا، ولكن عند مظاهر السّرف والتّباهي تجود الأيدي بالأموال الطائلة في أمور هو يرتكِب فيها الخطأ من حيث لا يشعر.
فلنكن جميعًا أعوانًا على الخير، ولنتعاون في القضاء على مظاهر الإسراف والتبذير ووضع الولائم التي لا داعي لها، فلا بدّ من علاجِها بين المجتمع المسلم؛ لأنّ المجتمع المسلمَ مجتمعٌ يجب أن يتعاونَ على الخير بقدر ما يمكن.
أسأل الله أن يرزقنا وإيّاكم العملَ بما علمنا، وأن يجعلَنا ممّن يستمعون القول فيتّبعون أحسنه، أولئك الذين هداهم الله، وأولئك هم ألو الألباب.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أنّ أحسن الحديث كتاب الله، وخيرَ الهدي هدي محمد ، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلّ بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإنّ يد الله على الجماعة، ومن شذّ شذّ في النار.
وصلّوا ـ رحمكم الله ـ على محمّد كما أمركم بذلك ربّكم قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىّ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمَّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمّد...
ـــــــــــــــــــ(68/46)
خلُق الإصلاح
...
...
3238
...
الأسرة والمجتمع
...
...
قضايا المجتمع
...
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
...
...
الرياض
...
11/5/1424
...
...
جامع الإمام تركي بن عبد الله
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- حبّ الخير للمسلمين. 2- الحثّ على الإصلاح بين الناس. 3- الاختلاف من طبيعة البشر. 4- النجوى المحمودة. 5- فضل الإصلاح بين المتنازعين. 6- إعطاء الزكاة للغارم لأجل الإصلاح. 7- الإصلاح بين الزوجين وبين الأقارب وبين المسلمين. 8- جواز الكذب لغرض الإصلاح. 9- حثّ القضاة على الإصلاح. 10- الإصلاح بين المتخاصمين يوم القيامة.
الخطبة الأولى
أمّا بعد: فيا أيّها النّاس، اتّقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، إنَّ مِن خُلُق المسلم حبَّ الخير لإخوانِه المسلمين؛ لذا تراه يسعى في الإصلاحِ بينهم والتوفيق فيما بينهم وتضييقِ هُوّةِ النزاع والاختلاف، يُمليه عليه إيمانُه الحقيقيّ الذي يدعوه لأن يحبَّ لإخوانِه المؤمنين ما يحبُّ لنفسه، ويكره لهم ما يكرهه لنفسه.
أيّها المسلم، فالإصلاح بين المسلمين خُلُق كريم، يسعى فيه ذوو التُّقى والمروءة الذين يحبُّون الخيرَ، ويصبرون على فعلِ الخير، ويتقرَّبون بذلك لربّهم.
أيّها المسلم، لقد أمرنا الله جميعًا بأن نصلِحَ بين إخواننا: فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ [الأنفال:1]، فأمرنا ربُّنا أن نصلحَ ذاتَ بينِنا، وأن نوفِّقَ بين إخواننا، وأن نسعى في رَأب الصّدع ما وجدنا لذلك سبيلاً.
أيّها المسلم، لا يخلو المجتمع المسلمُ من اختلافٍ في وجهة النظر، سواء كان هذا الاختلافُ بين الأفراد كنزاعٍ بين رجل وأبيه، وبينه وبين أخيه، وبينه وبين جاره، وبينه وبين زوجته، وبينه وبين شريكه، وبينَه وبين أيِّ فردٍ من أفراد الأمّة المسلمة، أو كان هذا الاختلافُ بين جماعةِ المسلمين عمومًا. إذًا فموقفُ المسلم من هذا الاختلافِ العامّ والخاصّ أنّه يسعى في الإصلاح والتّوفيق ما وجد لذلك سبيلاً، فيصلح بين الأفراد إن استطاع، وبين الجماعةِ إن قدر على ذلك، المهمّ أن يؤدِّيَ واجبَه، وأن يقومَ بهذه المسؤوليّة، امتثالاً لقوله تعالى: فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ.
أيّها المسلم، هذا الخُلُق الكريم يسعى فيه ذوو التّقى والمروءة والأخلاق الكريمة الذين يبتغون بسعيِهم مرضاةَ الله، فهم يخلِصون لله في هذا العمل؛ لذا قال الله: لاَّ خَيْرَ فِى كَثِيرٍ مّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذالِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء:114].
أخي المسلم، تأمَّل معي هذه الآيةَ تأمُّلاً صحيحًا، فقد أخبر الله أنَّ نجوى العباد فيما بينهم ليس كلُّ نجوى خيرًا، فلا خيرَ في كثير من النّجوى إلا نجوى من يأمر في نجواه بالصدقة أو يأمر بالمعروف أو يسعى في الإصلاح بين المتنازعَين، فالتّناجي إذا كان حقيقتُه أمرًا بصدقة، أمرًا بمعروف، سعيًا في الإصلاح بين الناس، فذلك النّجوى النافعة والنّجوى المباركة، وإلاّ فالتّناجي على الإثم والعدوان عملٌ مذموم، قال تعالى: ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلاَ تَتَنَاجَوْاْ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْاْ بِالْبِرّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِى إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [المجادلة:9]. إذًا فالتّناجي بين الاثنين أو أكثر إذا كان هدفُ هذا التناجي أن يأمرَ بالصدقة والإحسان لعباد الله ويأمرَ بمعروفٍ وينهى عن منكر أو إصلاحٍ بين الناس فذاك النّجوى المباركة، ثم قال جلّ وعلا: وَمَن يَفْعَلْ ذالِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا، مَن يفعل هذه الأعمالَ يبتغي بها وجهَ الله لا يريد بها جاهًا في الدنيا ومكانًا في المجتمع، وأن يُنظَرَ إليه بأنّه رجل الإصلاح والتوفيق، لا يريد ثناءَ النّاس، إنّما يبتغي بعمله وجهَ الله جلّ جلاله، فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا.
أيّها المسلم، إصلاحُك بين المتنازعَين صدقةٌ مِنك على نفسك، يقول : ((يُصبح على كلِّ سُلامى من الناس صدقة كلّ يوم تطلع فيه الشمس، تعدِل بين اثنين صدقة، وتُعين الرجلَ في دابّته فتحمِله عليها أو ترفع له عليها متاعَه صدقةٌ، وأمرٌ بمعروف صدقة، ونهيٌ عن منكر صدقة))[1]. إذًا فإصلاحُك بين النّاس صدقةٌ منك على نفسك، فاحرِص عليها وفَّقك الله للخير.
أيّها المسلم، كما سبق فالنّزاع يقع بين الأفرادِ وبين الجماعة، والنّزاع بين الجماعة يسعى ذوو التّقى في الإصلاح بينهم، ولذا قال الله: وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُواْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُواْ الَّتِى تَبْغِى حَتَّى تَفِىء إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُواْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الحجرات:9، 10]، فأمر اللهُ بالإصلاح بين جماعة المسلمين، وأرشدنا إلى أن يكونَ صلحُنا صلحَ عدلٍ لا ظلمَ ولا جور، فلا يقصِد المصلحُ بصلحه نفعَ فئة والإضرارَ بالأخرى، وإنّما يعدل في إصلاحه، فيوفِّق بينَ وجهات النّظر، ويحاول التقريبَ والتَّسديد ما وجد لذلك سبيلا، ولأجل هذا جازَ أن يُعطى من تحمَّل في ذمّته دُيونًا لأجل الإصلاح، أن يُعطى جُزءًا من الزّكاة، ففي تفسير قول الله جلّ وعلا في المستحقِّين لها ـ أي: الزكاة ـ: وَالْغَارِمِينَ [التوبة:60]، قال العلماء: "الغارمون على قسمين: غارمٌ لمصلحة نفسه، وهو من تحمَّل ديونًا لمصلحةِ نفسه، فعجز عن تسديدها، فيُباح أن يُعطى من الزكاة، ثانيًا: غارمٌ تحمَّل لمصلحة الآخرين، للإصلاح بين الآخرين، فيُعطَى مِن الزّكاة قدرَ ما تحمّل ولو كان غنيًّا؛ لأنّ تلك مصلحةٌ عامّة للمسلمين، أن يصلحَ بين القبائل والفئات المتعدِّدة، فإذا تحمَّل حَمَالة في ذمّته جاز أن يأخذَ من الزكاة مقدارَ ما دفع لأجلِ الإصلاح والتّوفيق.
أيّها المسلم، وقد أمرنا ربّنا أن نُصلحَ بين الزّوجين إذا تنازعا: وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ [النساء:128]، وقال: وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ حَكَمًا مّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا [النساء:35]. إذًا فالإصلاحُ بين الزوجين يقوم به الأهلون أهلُ المرأة وأهلُ الرّجل، يسعَون في الإصلاح بين الزوجين، وينظرون في أسباب الخلاف والنّزاع، فيسعَون في الإصلاح بينهما ما أمكن ذلك، فهو خيرٌ من وقوفِ كلٍّ مع صاحبه، وتعصّبه لرأيِه، هذا غيرُ مطلوب، المطلوب الإصلاحُ بين الزوجين والتوفيق بينهما ومحاولةُ إزالةِ أسباب النزاع ووعظهما، وتذكيرهما حتى يرجعا إلى الحقّ ويعودا إلى الصواب.
أيّها المسلم، نزاعٌ يقع أحيانًا بين الرَّحم، إذا استمرَّ ذلك النزاع أدّى إلى قطيعةِ الأرحام وبُعد بعضهم عن بعض، والشيطان حريصٌ على هذا الأمر العظيم؛ لأنّ قطيعةَ الرحم أمرٌ يسخطه الله، فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ فِى الأَرْضِ وَتُقَطّعُواْ أَرْحَامَكُمْ أَوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ [محمد:22، 23].
إذًا فالمسلمُ يسعى بين أفرادِ الرّحم عندها يبدو ظاهرةُ النّزاع والشّقاق، فيصلح بين الرّحم، ويوفِّق بينهم، ويذكِّرهم صلةَ الرّحم وما لها عند الله من الثواب، ويأمر الجميعَ بالصّبر والتّحمُّل وعدم اللّجوج في النّزاع ولا سيّما في الأمور المادّية التافهة، فيحذِّرهم من قطيعة الرّحم، ويسعى بالتوفيق، ويقرِّب بينهم ما استطاع لذلك سبيلاً.
أخي المسلم، فقد يكون بين الإخوة أشقّاء أو نحوه نزاع، وقد يكون بين الأب وأبنائه إلى غير ذلك، فذو التّقى يصلح ويوفِّق ويرشِدُ إلى صِلة الرحم، ويحذِّر من القطيعة ونتائجها السيّئة في الدنيا والآخرة.
أيّها المسلم، والأخوان المسلمان قد يختصمان ولو كانا بعيدَي الرحم، لكن أخوّة الإسلام تجمعهما، فالمسلم يسعى في الإصلاح ما استطاع لذلك، فإنّ هذا خلُقٌ حميد، ونبيّنا كان يصلِح بين الجماعات وبين الأفراد، ويحثُّ كلاًّ على الخير والصبر والتحمُّل.
أيّها المسلم، إنَّ سعيك في الإصلاح بين المتخاصمَين ولا سيّما الرحم خُلُق كريم وصدقةٌ وعملٌ صالح، في حديث أبي الدّرداء يقول : ((ألا أنبِّئكم بما هو أفضل من درجة الصوم والصّدقة والصّلاة؟)) قالوا: بلى يا رسول الله، قال: ((إصلاحُ ذاتِ البين، فإنّ فسادَ ذاتِ البَين هي الحالقة، لا أقول: تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين))[2]. إذًا فالساعون في الإصلاح هم في صدقةٍ وعمَل صلاح في أقوالهم وأعمالهم إن علِم الله منهم حسنَ النية وإخلاصَ العمل لله.
أيّها المسلم، ولمّا كان الإصلاح عملاً صالحًا يحبّه الله أباح لنا نبيّنا أن نتوسَّل بالكذب لأجل الإصلاحِ بين الناس، فيقول فيما صحَّ عنه: ((ليس الكذّابُ الذي يُصلح بين الناس فينمِي خيرًا أو يقول خيرا))[3]، فليس هذا بكذّاب إذا كذب كِذبةً يريد بها الإصلاحَ بين المتنازعَين ولا سيما الرّحم، ويذكر لهذا حبَّ هذا له وموالاته له، وكراهيته لذلك النّزاع، ويُلقي على الآخر كذلك، فتلك كِذبة في مصلحةٍ ولأجل عملٍ طيّب، فأبيح الكذبُ في ذلك، وفي لفظٍ تقول الصحابيّة: لم أسمع النبيَّ يرخِّص في شيء ممّا يقوله النّاس إلا في ثلاثةٍ: في الحرب، والإصلاح بين الناس، وحديثِ الرجل امرأتَه والمرأة زوجَها[4]. إذًا ـ أخي ـ فلو كذبتَ لمصلحةٍ تريد بها لمَّ الشّعث، تريد بها تقريبَ وجهة النظر، تريد بها استئصالَ دَاء النّزاع، فإنّه مباحٌ لك الكذِب في ذلك لأجلِ الوصول إلى الغاية وهي إصلاح ذات البَين والتوفيق بين المتخاصمين.
أخي المسلم، إنّ شريعةَ الإسلام جاءت بالحثِّ على الإصلاح ولا سيّما في جانب القضاء، فالقضاءُ بين ذوي الرّحم يَسلك فيه القاضي الموفَّق الطريقةَ السليمة، فيجعل الرحمَ متواصلين ولا يجعلهم متقاطعين، يجعلهم متحابِّين ولا يجعلهم متباغضين، يسعى في رأبِ الصّدع، يسعى في جمع الكلِمة، يسعى في وحدةِ الصفّ، يسعى في التّوفيق ما وجد لذلك سبيلاً، ولذا كتب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى أبي موسى الأشعريّ يقول له: (أرجِئوا فصلَ النزاع بين المتخاصمَين؛ فإنّ فصلَ القضاء يوجب الضغائنَ بينهما)[5]، فإذا حكمتَ لقريبٍ على قريبه، وأدَنتَ هذا ورجّحتَ جانبَ هذا، اتَّخذ موقفًا قاسيًا من أخيه، واستمرّت العداوة والبغضاءُ والقطيعة، لكن إذا أرجأتَ الفصلَ بينهما وحاولتَ مرّةً بعد مرّة عسى أن يسأمَا النّزاع، ويعودا إلى الرّشد والمحبّة، فذاك المقصدُ الأسمى من هذه المهمّة.
أيّها المسلم، فلا تعجَز عن الإصلاح، ولا تقُل: النّاس وشأنهم، وكلٌّ يُصلح نفسَه، وكلٌّ يدافع عن حقّه. لا، بل المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدّ بعضُهم إزرَ بعض، ويواسي بعضهم بعضًا، ويتألّم بعضهم لألم البعض.
أسأل الله أن يصلحَ القلوبَ والأعمال، وأن يجعلنا وإيّاكم ممَّن وُفِّق للخير وهُدي سبيلَ الرشاد.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في الجهاد (2891، 2989)، ومسلم في الزكاة (1009) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وليس فيه ((وأمرٌ بمعروف صدقة، ونهيٌ عن منكر صدقة))، وهذا الجزء أخرجه مسلم في صلاة المسافرين (720) من حديث أبي ذر رضي الله عنه.
[2] أخرجه أحمد (6/444)، وأبو داود في الأدب، باب: في إصلاح ذات البين (4919)، والترمذي في صفة القيامة (2509) من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه، وقال الترمذي: "حديث صحيح"، وصححه ابن حبان (5092)، والبزار كما في نصب الراية (4/354)، وابن حجر كما في فيض القدير (3/106)، ورمز له السيوطي بالصحة، وصححه الألباني على شرط الشيخين، انظر: غاية المرام (414).
[3] أخرجه البخاري في كتاب الصلح، باب: ليس الكاذب الذي يصلح بين الناس (2692)، ومسلم في كتاب البر والصلة والآداب، باب: تحريم الكذب وبيان المباح منه (2605) من حديث أم كلثوم بنت عقبة رضي الله عنها.
[4] أخرجه مسلم في كتاب البر والصلة والآداب، باب: تحريم الكذب وبيان المباح منه (2605) عن أم كلثوم بنت عقبة رضي الله عنها.
[5] أخرجه عبد الرزاق في المصنف (8/303)، وابن أبي شيبة (4/534) بلفظ: (ردوا الخصوم حتى يصطلحوا)، وضعفه ابن حزم في المحلى (8/164).
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربّنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتّقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عباد الله، في يومِ القيامة تكونُ الخصومةُ بين الغرماء بين يدَي ربِّ العالمين، في الحديث: ((مَن كان لهُ عند أخيه مظلمة فليتحلَّل منه اليومَ قبل أن لا يكونَ دينار ولا دِرهم، إن يكن له حسنات أخِذ من حسناتِه، وإن لم يكن له حسناتٌ أخِذ من سيّئات مَن ظلمه، فطُرحت عليه ثمّ طرِح في النّار))[1].
ومِن كمال كَرم ربِّنا وفضلِه وإحسانه أنّه تعالى يصلِح بين المتخاصمَين في ذلك اليوم العظيم، فيرضي المظلومَ حتّى يعفوَ عن ظالمه كرَمًا منه وجودًا.
بينما النبيّ جالسٌ بين أصحابه إذ ضحِك، فسأله عمر عن ذلك، فقال: ((في يومِ القيامةِ يجثو اثنان بين يدَي الله: ظالمٌ ومظلوم، فيقول المظلوم: يا ربِّ، خُذ مظلمَتي من هذا الظالِم، فيقول الظّالم: يا ربِّ، وأين هو وقد ذهبت الدنيا بأسرها؟! ـ أين أعطيه؟ ليس عندي ما أرضيه اليوم، الدّنيا انقضت ونحن في ذلك الموقف العظيم ـ، فيُصرُّ المظلوم على طلبه، فيقول الله له: ارفع رأسَك، فيرفع رأسَه، فإذا قصرٌ من ذهَب موشَّح باللؤلؤ، فيقول: يا ربّ، لمن هذا القصر؟ قال: تملِك ثمنَه، قال: وما ثمنُه؟ قال: تعفو عن ظالمِك، قال: يا ربّ، قد عفوتُ عنه، قال: خُذ بيده فادخُلا الجنّة))[2]، فضلاً من ربّنا وكرمًا.
إذًا فيا أخي، اسعَ في الإصلاح، ويا أيّها المسلم، لِن في يدِ إخوانِك، وتداركِ الأمور، ولا تستقصِِ كلَّ الأشياء، ففي الإصلاحِ خير، وكَفٌّ للنزاع، وحَسمٌ لاستمرار القطيعة بين المسلمين، هكذا فليكن المسلمون.
أسأل الله للجميع التوفيق والسدادَ لكلِّ ما يحبّه الله ويرضاه.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أنّ أحسنَ الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمّد ، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلّ بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإنّ يد الله على الجماعة، ومن شذّ شذّ في النار.
وصلّوا ـ رحمكم الله ـ على محمّد كما أمركم بذلك ربّكم قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىّ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمَّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمّد، وارضَ اللهمّ عن خلفائه الرّاشدين...
[1] أخرجه البخاري في المظالم (2449) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بنحوه.
[2] أخرجه الحاكم (8718) من حديث أنس رضي الله عنه بنحوه، وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه"، وقال الذهبي: "عباد ضعيف، وشيخه لا يعرف"، وضعفه الألباني في ضعيف الترغيب والترهيب (1469).
ـــــــــــــــــــ(68/47)
هل من عودة لديننا?
...
...
3249
...
الأسرة والمجتمع
...
...
قضايا الأسرة
...
يوسف بن عبد الوهاب أبو سنينه
...
...
القدس
...
3/6/1424
...
...
المسجد الأقصى
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- بعدنا عن ديننا أساس ما يصيبنا من الشقاء والبلاء. 2- خطوات الإصلاح بين الزوجين. 3- الوصاة بالمرأة في الإسلام. 4- قصة امرأة صالحة أدركتها الوفاة. 5- بعض بدع الجنائز المنتشرة بين المسلمين. 6- أثر غياب الخلافة في ذلة المسلمين وهوانهم. 7- المؤامرة على فلسطين وبعض صور معاناة شعبها المسلم.
الخطبة الأولى
أما بعد: فيا عباد الله، ما من يوم يمر إلا ويزداد الإسلام عظمة على عظمة، ونوراً على نور، كيف لا وهو دين الله تبارك وتعالى للناس أجمعين.
ولكن وللأسف الشديد ما نعانيه من الشقاء والمفاتن في هذه الأيام هو بسبب بعدنا عن دين الله وأخلاق الإسلام.
حياتنا الزوجية مشاكلها كثيرة، فهل كان عندنا إيمان بالله تعالى واقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم، أيحدث مثل هذا في الحياة الزوجية؟
والجواب: لا، لماذا؟ لأن الزواج في الإسلام عبارة عن شركة رأس مالها المودة والرحمة، والإسلام جعل للزوجة حقوقاً، وعليها واجبات، وجعل للزوج حقوقاً، وعليه واجبات، وعلى كل واحد منهما القيام بما عليه، والإسلام يسوس الأمور على طاعة الله ورضوانه، ويحيط الأسرة من جميع جوانبها بسياج منيع.
اسمع أيها المسلم إلى قول الله تبارك وتعالى عندما يريد أن يعالج مشكلات المرأة، ولا يعالجها بعد وقوعها، إنما يعالجها قبل أن تندلع المشكلات، قال الله تعالى: وَاللَّاتِى تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِى الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً [النساء:34].
هذا هو العلاج الرباني، وبدلاً من الذهاب إلى المحاكم ونشر أسرار البيوت ورفع الدعاوى ضد الأزواج والحكم عليهم بالسجن، فبالله عليكم كيف سيعيش الرجل مع زوجته بعد أن رفعت عليه قضية في المحاكم الإسرائيلية؟ ثم سجنته سنة أو أكثر من ذلك؟ كيف ستكون مصير الأسرة؟ كيف سيكون مصير الأولاد والبنات؟
عباد الله، أمتنا تحتاج إلى تربية إسلامية تقوم على تطبيق منهج الإسلام، وإذا حصل خلاف أو خصام أو شجار يجب أن تحل المشكلات على أسس وأحكام إسلامية فقط، ويجب أن يتدخل من يحكم بينهما لقول الله تبارك وتعالى: وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ حَكَماً مّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مّنْ أَهْلِهَا [النساء:35].
ولقد وقعت أيام عمر رضي الله عنه خلافات بين زوجين، فأرسل حكمين، حكماً من أهل الزوج، وحكماً من أهل الزوجة، وأمرهما أن يصلحا بين الزوجين، فعاد الحكمان فسألهما عمر رضي الله عنه: هل أصلحتما؟ قالا: لم يصطلحا يا أمير المؤمنين، فضربهما عمر بعصاه، فقال الحكمان: ما ذنبنا يا أمير المؤمنين؟ فقال الفاروق: لو كان في نيتكما أن تصلحا بينهما، لأصلح الله بينهما، أوما قرأتما قول الله تبارك وتعالى: إِن يُرِيدَا إِصْلَاحاً يُوَفّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً خَبِيراً [النساء:35]، عليماً بنية الحكمين.
فهناك حكم إذا ذهب إلى الصلح دعا الله أن يوفقه على عدل وخير ومحبة ووفاق، وهناك حكم ـ والعياذ بالله ـ يزيد المشاكل ويعقدها.
عباد الله، إن من أسباب المشاكل الزوجية أن لا تلتزم المرأة المسلمة بواجبها، قد لا تصلي، وقد تخرج متبرجة، اسمعوا أيها المؤمنون قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا صلت المرأة خمسها، وصامت شهرها، وحفظت فرجها، وأطاعت زوجها، قيل لها يوم القيامة: ادخلي الجنة من أي أبوابها الثمانية شئت))[1].
وأنتم أيها الرجال، اتقوا الله في النساء، واستمعوا لقول رسولنا الأكرم صلى الله عليه وسلم: ((استوصوا بالنساء خيراً، فإنهن خلقن من ضلع، وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه، فإن ذهبت تقيمه كسرته، وإن تركته لم يزل أعوج، فاستوصوا بالنساء خيراً))[2].
عباد الله، إذا التزمنا منهج الله واتبعنا سنة المصطفى، ترى هل يحل بنا هذا الشقاء الذي نحن فيه الآن؟
والجواب: لا، وألف لا، لماذا نخالف سنّة الرسول صلى الله عليه وسلم في أقوالنا وأعمالنا ورسولنا الأكرم صلى الله عليه وسلم يقول: ((ومن أحيا سنتي عند فساد أمتي فله أجر مائة شهيد))[3].
تعالوا ـ أيها المؤمنون ـ لنعيش وإياكم مع امرأة مؤمنة صادقة عارفة بالله، كانت لا تفوتها صلاة الجمعة في المسجد، وكرست حياتها لله تعالى، كان أخوها من الأولياء وكتب من ماله لها الشيء الكثير، كتبت وصيتها قبل أن تموت.
اسمعوا ـ أيها المؤمنون ـ هذه الوصية: لا تقيموا مأتماً، ولا تصرخوا علي، ولا تولولوا، وتقيموا خريفاً ولا أربعين، ولا سنة، فإذا أنا متُّ ودخلت قبري، فلا تسمحوا لأحد أن يدخل معي قبري حتى لا يمسني، ولا يطلع علي، إنما الذي يقوم بدفني رجل محرم علي.
عباد الله، كيف ماتت هذه الفتاة المسلمة، حكمة بالغة في اليوم الذي دعي فيه الناس، ليحضروا عقد قرانها، وقبل أن يحضر المأذون بقليل، دخلت لتتوضأ، وتصلي لله تعالى ركعتي شكر، فماتت بعد كمال وضوئها، وتحول المهنئون إلى معزين، سبحان الله.
أيها المسلم:
تزود من التقوى فإنك لا تدري إذا جن ليل هل تعيش إلى الفجر
وكم من فتى أمسى وأصبح ضاحكا وقد نسجت أكفانه وهو لا يدري
وكم من صغار يرتجى طول عمرهم وقد أدخلت أجسادهم ظلمة القبر
وكم من عروس زينوها لزوجها وقد قبضت أرواحهم ليلة القدر
وبدلاً من أن تلبس الفتاة ثياب زفافها لبست أكفانها، وبدلاً من أن تدخل الحمام لتغسل نفسها بنفسها، حُملت على خشبة عرجاء، وبدلاً من أن تخلع ثيابها بيديها، نامت على خشبة الغسل لتخلع ثيابها، أقسمت المغسلة التي غسلتها، أنها وهي تقعدها لتوضئها ـ فمن سنة غسل الميت الوضوء ـ أقسمت المغّسلة وهي تغسلها، ابتسمت كأنها على قيد الحياة، كأنها تقول لها: لماذا توضئونني، وقد توضأت قبل الموت، وقد مت على الوضوء.
فلو كان النساء كمثل هذه لفضلت النساء على الرجال
فما التأنيث لاسم الشمس عيب ولا التذكير فخر للهلال
وحملت على أعناق الرجال، وذهب بها إلى قبرها مدرجة في أكفانها، وجاء وقت الدفن، وجيئ بالأمانة، وفتح باب القبر، لا باب غرفة الزفاف، ونزل أبوها ـ تصوروا يا عباد الله ـ الأب بنفسه ينزل ويفك الأربطة عن كفنها، ووضع الخد على التراب، وأنامها على شقها الأيمن وقال لها: سلام عليك، إلى اللقاء يوم يجمع الله الأولين والآخرين.
هذه هي سُنة الدنيا ـ يا عباد الله ـ، ولما قرأوا وصيتها وجدوها أوصت بثلث مالها للفقراء والمساكين، سألوا عن مصاغها وجواهرها، فعلموا أنها تصدقت بها جميعاً على زميلاتها الفقيرات، فسألوا عن مكتبتها كم تحوي من الكتب، لم يجدوا فيها كتاباً تافهاً من الكتب التي يحملها شباب اليوم، لم يجدوا فيها مجلة خليعة، لم يجدوا إلا كتاب الله تبارك وتعالى، وجدوا فيها كتباً تفسيراً وسيرة للرسول صلى الله عليه وسلم.
هذه فتاة مسلمة، عرفت ربها، فإلى رضوان الله ورحمته وجنته سارت ـ كما نحسبها والله حسيبها ـ، خاطبتها الملائكة بقوله تبارك وتعالى: يأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِى إِلَى رَبّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً فَادْخُلِى فِى عِبَادِى وَادْخُلِى جَنَّتِى [الفجر:27-30].
هذه الفتاة، أوصت أن لا يكون هناك ذكرى للأربعين، لماذا؟ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا عزاء بعد ثلاثة أيام))، وكل ما يجري في موتنا وأفراحنا أو أكثره بدع ما أنزل الله بها من سلطان، ذكرى الخميس لماذا؟ لا أصل له، ذكرى الأربعين لماذا ؟ إذا سألتهم لماذا تحتفلون بمرور أربعين يوماً على الميت فلا تجد إجابة، إلا أن بعض الجهلة يقولون لك: إن الدود يبدأ بأكل أنف الميت بعد أربعين يوماً، أتحتفلون بأكل أنفه؟ لماذا لا تحتفلون بأكل لسانه المُر الذي كان يسيل أذى، لماذا؟ إنها ليست سُنّة من سنن الإسلام، إنها بدعة من بدع الفراعنة القدامى، كانوا يحتفلون بذكرى الأربعين، ويقولون بأن الروح بعد الموت تحاسب أربعين يوماً في السماء، ثم تنزل إلى الجسد بعد الأربعين، هذا هو كلام الفراعنة الوثنيين، وليس من كلام سيد المرسلين.
فاتقوا الله، ـ يا عباد الله ـ وحافظوا على فروجكم، وحافظوا على نسائكم وبناتكم، علموهم أحكام الإسلام، فهن بحاجة إلى العلم والمعرفة أكثر من الرجال، وذلك لغلبة الهوى عليهن في الصِبى، فإن الصبية في الغالب تنشئ في بيتها لا تلقن القرآن، ولا تعرف الطهارة من الحيض، ولا تعلم أركان الصلاة، ولا تحدَث قبل الزواج بحقوق الزوج، وربما رأت أمها تؤخر الغسل من الحيض إلى حين غسل الثياب، وتدخل الحمام بغير مئزر، وتقول: ما معي إلا أختي، وتأخذ من مال الزوج بغير إذنه، وربما تعمل له عمل الشياطين، تبغي أن تعطفه عليها، وهذا كله حرام شرعاً، وتصلي ـ ربما مع القدرة على القيام ـ قاعدة، وتحتال في إخفاء الحمل إذا حملت، إلى غير ذلك من الآثام.
وتذكروا ـ يا عباد الله ـ أن الزمان لا يخلو من الصالحات، والله سبحانه وتعالى يقول: فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَفِظَاتٌ لّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ [النساء:34].
اللهم أصلح أبناءنا وبناتنا ونساءنا، واجعلهم في طاعتك يا رب العالمين، اللهم ارزقنا الصبر على البلاء، وارزقنا الرضا بالقضاء، وارزقنا الشكر عند العطاء.
عباد الله، توجهوا إلى الله تبارك وتعالى بالدعاء والاستغفار.
وادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، فيا فوز المستغفرين، استغفروا الله.
[1] أخرجه أحمد في مسنده برقم (1664)، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (661).
[2] أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة في كتاب: أحاديث الأنبياء، باب: خلق آدم صلوات الله عليه وذريته (3331)، ومسلم في كتاب الرضاع، باب: الوصية بالنساء (1468) واللفظ للبخاري.
[3] أخرجه البيهقي في الزهد الكبير برقم (207)، وقال الألباني: ضعيف جداً، انظر: السلسلة الضعيفة (326).
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي لا تدركه الأبصار، ولا تحويه الأفكار، ولا يكفيه الليل والنهار، ونشهد
أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في سلطانه، ولا مناوئ له في علو شانه، العزيز الذي لا يظلِم ولا يذل، والقوي فكل ما سواه زائل مضمحل، يقبل تائباً، ويعطي محروماً، ويغيث ملهوفاً، ويفقر غنياً، ويغني فقيراً، ويقصم جباراً، ويهلك ظالماً، ويرفع أقواماً، ويهلك آخرين.
ونشهد أن نبينا وحبيبنا وقدوتنا ومخرجنا من الظلمات إلى النور محمد رسول الله، صلاة ربي وتسليماته عليك أيها النبي الأمي، الذي إذا علّم فهو أستاذ المعلمين، والذي بعث الأمل في قلوب البائسين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه إلى يوم الدين.
أما بعد: أيها المسلمون، إن تخبط العالم الإسلامي اليوم وهوان الأمة وتفرقها وضعفها يعود أساساً إلى غياب دولة الإسلام وغياب تطبيق منهج الله تبارك وتعالى كدستور ونظام حياة.
وبدأت عوامل الهزيمة والفرقة تسرى بعد المؤامرة الاستعمارية الحاقدة على دولة الخلافة وإسقاطها سنة 1924م، ومن المؤلم أن بعض العرب كانوا أول المساهمين في القضاء عليها، في وقت كانت فيه الدول الاستعمارية تتآمر فيما بينها لاقتسام عالمنا العربي، من خلال معاهدة سايكس بيكو التي أطلقت كل من فرنسا وبريطانيا يديها لاستعمار العالم العربي الإسلامي، وأعقب ذلك وفي غياب دولة الإسلام البدأ في تنفيذ وعد بلفور المشؤوم، الذي أعطى ـ من لا يملك ـ حق التصرف في أرض المسلمين، لمن لا يستحق هذا الحق.
وبدأت الهجرة اليهودية إلى فلسطين لاستعمارها وإقامة الوجود الصهيوني، وفي غياب دولة الإسلام أيضاً طرح مشروع تقسيم دولة فلسطين، وكان طبيعياً أن يرفض شعبنا هذا التقسيم الجائر الظالم، بل كان من الواجب رفض هذا التقسيم باعتبار فلسطين أرضاً إسلامية غير قابلة للتقسيم والتجزئة.
واستمرت المؤامرة من خلال الأنظمة العربية آنذاك، والتي رفعت شعارات القومية العربية، وغلّفتها بغلاف ديني لاستنهاض الهمم، ليس إلا، وقامت تحت ذرائع تحرير فلسطين الثورات والانقلابات العسكرية في أكثر من بلد عربي.
وتحت هذه الشعارات الرنانة والطنانة كانت الطامة الكبرى في سنة سبع وستين، حيث احتلت كل فلسطين، إضافة إلى أراضٍ عربية أخرى.
واستمر العجز العربي يتفاقم في ظل غياب دولة الإسلام، وأمام هذا الضعف بدأ الإحساس الديني يتنامى في الأمة الإسلامية، وبدأت الصحوة الإسلامية تدعو إلى العودة إلى تعاليم الإسلام، بعد أن تأكد للجميع أن لا عزة إلا بالإسلام وبقيام دولة الإسلام.
وتنبه المستعمرون والمحتلون لهذه الصحوة، وتنبه دعاة العلمانية إلى أن عودة الأمة للإسلام هي الخطر الحقيقي على مصالحهم ونفوذهم وسطوتهم، فكثف أعداء الأمة نار حقدهم ضد الجماعات الإسلامية وألصقوا بهم تُهم الإرهاب.
أيها المسلمون، إن المأساة الفلسطينية تندرج في إطار هذا التصور، فها هو شعبنا الفلسطيني الذي وقف وحيداً، يواجه أعتى وأقوى دولة، وأطول احتلال عرفه التاريخ البشري، فقدم آلاف الشهداء، وتم اعتقال الآلاف من خيرة أبنائه، وهدمت آلاف المنازل وصودرت، وجرِّفت الأراضي، ولم يحرك أحد من قادة الأمة ساكناً، ولم تعد قضيتنا قضية إسلامية، وما التغني بأمجاد الماضي إلا للبرهنة على العجز القائم اليوم.
أيها المسلمون، وإذ نشهد اليوم هدنة مصطنعة ومفروضة، فإن إسرائيل وعبر تاريخها الاستيطاني وسياستها التوسعية تستغل هذه الهدنة لتكريس احتلالها عبر تشكيل المستوطنات، حتى غدا سكان المستوطنات ـ وحسب الإحصاءات الإسرائيلية ـ في الضفة وقطاع غزة يشكلون ثلثي سكان إسرائيل.
وفي الوقت الذي ترفض فيه إسرائيل بحث قضية القدس وقضية اللاجئين نجد أنها تجُس نبض المسلمين من خلال تسريب معلومات خاطئة، ومفادها أن ثمة اتفاقاً على ما يسمونه حرية العبادة لسائر الأديان في المسجد الأقصى المبارك، وهذا بحد ذاته توطئة لتقسيم المسجد والنيل من قدسيته لا قدر الله.
أيها المسلمون، لقد أصبحت ـ وللأسف الشديد ـ قضية فلسطين قضيةً جزئية، تتعلق بإزالة الحواجز العسكرية، وأصبحت قضية فلسطين قضيةَ ما يسمى الجدار الآمن، هل ستتوقف إسرائيل عن بنائه أم ستواصل البناء؟
واليوم أصبحت قضية الأسرى هي القضية الأكثر احتداماً، لأن إسرائيل تريد أن تميز بينهم، ومن هنا نشدد على أهمية ضرورة إطلاق سراح الأسرى جميعاً دون تمييز، ودون مساومة، فذلك من حقهم.
ولكن إسرائيل تضرب عرض الحائط بكل المواثيق والأعراف التي تحافظ على حق السجين في حياة مطمئنة، فها هي تقوم بالتنكيل بالأسرى، بدلاً من إطلاق سراحهم، وما جرى في سجن عسقلان أكبر دليل على غطرستها وسياستها القمعية ضد شعبنا الفلسطيني داخل السجون وخارجها.
ومن على هذا المنبر الشريف نستنكر هذه الاعتداءات وهذه الممارسات الظالمة، ومن هنا نكرر أيضاً مطالبتنا بإطلاق سراحهم جميعاً دون قيد أو شرط.
اللهم أطلق سراح جميع الأسرى المسلمين، اللهم ارحم ضعفهم، واجبر كسرهم، وتولَ أمرهم، وشُد أزرهم، وكن معهم يا رب العالمين، اللهم أعدهم إلينا سالمين غانمين آمنين مطمئنين.
عباد الله، متى يدرك المسلمون أن قضيتنا هي قضية صراع عقدي بين الحق والباطل؟ وصدق الله تبارك وتعالى وهو يقول: وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ [البقرة:217].
ومِن هنا، فالواجب على أمتنا في كل مكان أن تعمل لإقامة دولة الإسلام حتى تعود لها الكرمة والعزة والمقدسات، وصدق الله تبارك وتعالى وهو يقول: وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ [التوبة:105].
وفقنا الله وإياكم للعمل بكتابه وتطبيق سنة نبيه صلى الله على وسلم.
ـــــــــــــــــــ(68/48)
التحذير من تضييع الأولاد
...
...
3277
...
الأسرة والمجتمع
...
...
الأبناء, قضايا المجتمع
...
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
...
...
الرياض
...
22/7/1424
...
...
جامع الإمام تركي بن عبد الله
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- قتل الأولاد من أخلاق الجاهلية. 2- نعمة الأولاد. 3- وجوب العناية بالأولاد. 4- هدي النبي مع الصغار. 5- فضل النفقة على الأولاد. 6- ظاهرة إهمال الأولاد وتضييعهم. 7- الأولاد أمانة.
الخطبة الأولى
أمّا بعد: فيا أيّها النّاس، اتّقوا الله تعالى حقَّ التّقوى.
عبادَ الله، إنّ الله جلّ وعلا عاب على أهل الجاهليّة أعمالاً عمِلوها هي سوء وفسادٌ وظلم وقَسوة في القلب، عابَ عليهم هذه الأخلاقَ محذِّرًا للأمّة مِن شرّها وضررها، فمِن تلكم الأخلاق السيّئة ما كانوا عليه في جاهليّتهم من وأد البنات أي: قلتهنّ، خوفَ العار مرّة وخوفَ الفقر أخرى، وَإِذَا الْمَوْءودَةُ سُئِلَتْ بِأَىّ ذَنبٍ قُتِلَتْ [التكوير:8، 9]، وَإِذَا بُشّرَ أَحَدُهُمْ بِالأنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّا وَهُوَ كَظِيمٌ يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوء مَا بُشّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِى التُّرَابِ أَلاَ سَآء مَا يَحْكُمُونَ [النحل:58، 59]. وكانوا يقتلون الأولاد عمومًا خوفًا من ضيق المعيشة، قال تعالى: وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلَادَكُمْ مّنْ إمْلَاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ [الأنعام:51]، وقال: وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا [الإسراء:31]، وقال جلّ وعلا: قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُواْ أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُواْ مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاء عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّواْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ [الأنعام:140]، وفي الحديث لمّا عدّ كبائرَ الذنوب قال: ((وأن تقتلَ ولدَك خشيةَ أن يطعمَ معك))[1].
جاء الإسلامُ فعدم هذا الخلقَ الرّذيل، وأقام على أنقاضِه خلقًا كريمًا هو رحمة وعطفٌ وإحسان. فبيّن تعالى أنّ الولدَ هِبة من الله للعبد: لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاواتِ وَالأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاء يَهَبُ لِمَن يَشَاء إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَن يَشَاء الذُّكُورَ أَوْ يُزَوّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً [الشورى:49، 50]. وبيّن تعالى أنّ الأولادَ زينةٌ في هذه الحياة الدّنيا: الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحياةِ الدُّنْيَا [الكهف:46]، زُيّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذالِكَ مَتَاعُ الْحياةِ الدُّنْيَا [آل عمران:14]. وامتنَّ الله على عباده بهذه النعمة، وبيّن تعالى في معرض ذمّه لمن خالف شرعَه ممتنًّا عليه بنِعمه قال: وَبَنِينَ شُهُودًا [المدثر:13]، فذكّره بنعمته أنّ أبناءه يشاهدُهم ويراهم.
أيّها المسلم، فالولد نعمةٌ من الله على العبد، يشكر الله عليها ويثنِي بها عليه خيرًا.
أيّها المسلم، وجاء الإسلامُ يدعو إلى العنايةِ بالأولاد تربيةً وأدَبًا، فهديُ محمّد رحمةُ الصّغار والإحسان إليهم ومداعبتُهم وإدخال السّرور والأنسِ عليهم. قبّل النبيّ بعضَ أولادِه وعنده رجل من الأعراب، قال: تقبّلون الصغار؟! إنَّ عندي عشرةَ ولدٍ ما قبّلتُ واحدًا منهم، قال: ((ما آلو أن نزعَ الله الرحمةَ مِن قلبك؟!))[2]. وكان يداعِب الصغارَ، مرّ بطفلٍ فقدَ طائرًا معه فقال: ((يا أبا عمير، ما فعل النغير؟))[3]. وكان يصلّي وهو حاملٌ أمامةَ بنت ابنتِه، إذا قام رفَعها، وإذا سجَد وضعَها[4]. ودخل الحسن أو الحسَين عليه وهو يخطب النّاس، فنزل من المنبر وحمله وقال: ((صدَق الله: الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحياةِ الدُّنْيَا))[5]. وأمَر بتربيتِهم وتأديبِهم: ((مُروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع، واضربوهم عليها وهم أبناءُ عشر، وفرّقوا بينهم في المضاجع))[6]، وقال: ((ما نَحلَ والدٌ ولدَه خيرًا مِن أدبٍ حسن))[7]، والله يقول: ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ [التحريم:6]. والولدُ الصّالح نعمة للأبِ بعد موته، فهو امتدادٌ لحياته، وأعمالٌ صالحة تجري على الأبِ في قبره، في الحديث الصّحيح: ((إذا مات ابنُ آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقةٍ جارية، أو عِلم يُنتفع به، أو ولدٍ صالح يدعو له))[8]. ومِن دعاءِ الصّلحاء من المسلمين: رَبّ أَوْزِعْنِى أَنْ أَشكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِى أَنْعَمْتَ عَلَىَّ وَعَلَى والِدَىَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِى فِى ذُرّيَّتِى إِنّى تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنّى مِنَ الْمُسْلِمِينَ [الأحقاف:15].
أيّها المسلم، والنّفقة على الأولادِ عمل صالحٌ وقربة تتقرّب بها إلى الله، عدَّ النبيّ أوجهَ النّفقة في الخير فقال: ((الدنانيرُ أربعة: دينار تصدّقتَ به، ودينار أعتقتَ به رقبة، ودينار أنفقتَه على يتيم، ودينارٌ [أنفقته] على ولدِك، أعظمُها أجرًا دينارٌ أنفقتَه على ولدك))[9]، وقال لسعد بن أبي وقّاص: ((إنّك لن تنفقَ نفقةً تبتغي بها وجهَ الله إلا أُجرتَ عليها، حتّى ما تضع في في امرأتِك))[10]، وقال له أيضًا: ((إنّك أن تذرَ ورَثتك أغنياء خيرٌ من أن تذرَهم عالةً يتكفّفون النّاس))[11].
أيّها المسلم، إذا تأمّل المسلمُ كلَّ ما ذُكر حقَّ التأمُّل يأسَف أحيانًا لتفريط بعضِ النّاس في أولادِهم ذكورًا وإناثًا، تفريطٌ في الرّعاية، تفريط في النّفقة، تفريط في العنايَة، لماذا هذا التصرّف الخاطئ؟ لأنّ الأبَ بعيدٌ كلَّ البعدِ عن أولادِه من بنينَ وبنات. متى يكون هذا البُعد؟ يكون ـ أيّها الإخوة ـ في تصرّف بعضِ النّاس شهوةٍ جامحةٍ تدعوه إلى أن يذهبَ هنا وهناك إلى أماكنَ بعيدة عن بلده ليضعَ شهوتَه في امرأةٍ ثمّ يعود ولا يدري ما النتائج؛ ولا هل حصل له ولدٌ أم لا؟ وقد يعلَم بوجودِ أولاد أو بناتٍ له، لكن لضعف الإيمان وقلّة الخوف من الله وعدم المبالاة أضاع تلك الذرّيّة وأهمَلهم وجنَى عليهم جنايةً هو يتحمّل وزرَهم يومَ لقاء الله.
أيّها المسلم، تدبّر وتعقّل في أمرك، تدبّر واقعَك، ليس الهدفُ أن ترضيَ غريزتَك الجنسيّة على أيّ سبيل كان.
تأمَّل ـ أخي ـ وتدبّر واحترِم أيّ نظامٍ وُضع لك مقصودٌ به خيرٌ لك في الحاضر والمستقبل، وضبطٌ للأحوالِ كلّها، أمّا مجاوزة ذلك وعدَم المبالاة والآمالُ والأماني الكاذِبة فتلك ـ والله ـ أمور تخالِف شرعَ الله. كم من إنسانٍ وضع شهوتَه في أيّ مكان كان ثمّ أضاع تلك الذرّيّة وتناساهم وأهملهم وضيّعهم، إمّا لعجزه، وإمّا لعدَم مبالاته وعدمِ اهتمامه وقيامه بالواجب.
أيّها المسلم، إنّ هذا أمرٌ يخالف شرعَ الله، بل هو معصيةٌ لله ورسوله. كم طفلٍ رضيع أضعتَه في حجر أمّه، وكم فتاةٍ أضعتَها وتجاهلتها، تتخطّفها أيدِي العابثين وأنتَ المسؤول عنها يومَ القيامة. لا تُلقِ بالمسؤوليّة على غيرك، ولا تجعَل الأمرَ معلّقًا بيدِ غيرك. انظر نفسَك، فأنتَ السّبب في كلّ ما يجري، أنتَ السّبب في كلّ ما حصل، أنتَ السّبب فيما وقع، فتدارك الأمرَ وتُب إلى الله.
أيّها المسلم، إنّ المؤمنَ حقًا من يتصوّر الأشياء، ويحاول جاهدًا وضعَ الأمور موضعها، وأمّا التجاوزات والتعدّيات والضربُ بكلِّ نظام وأمرٍ فيه مصلحةٌ عرضَ الحائِط بلا مبالاة، وإنّما تقوده شهوتُه إلى أمر يندَم عليه بعدَ حين، فتلك أمور لا تليق بالمسلم.
هذا النشءُ من بنين وبناتٍ تركتَهم لمن؟ تركتَهم في بلادٍ لا قريبَ لهم، لا أخَ ولا عمَّ ولا غير ذلك. من يتولّى تربيتَهم؟ من يعتني بأحوالِهم؟ من ينفق عليهم؟ من المسؤول عنهم ذكورًا وإناثًا؟ أتدعُهم يشحتون النّاس ويستعطون النّاس؟! أتدعُهم لشياطين الجنّ والإنس يتخطّفونهم ويفسِدون قيَمَهم وأخلاقهم؟! أتتركهم لتتلقّاهم الأيدي العابِثة بالقيَم والفضائل؟! وأنتَ المسؤول أوّلاً وقبلَ كلّ شيء، ولا عذرَ لك، ولا تُلقِ بالمسؤولية على غيرك، وأنتَ السّبب الأوّل والآخر في ذلك.
فاتّقوا الله عبادَ الله، واعتنوا بأبنائكم وبناتِكم، وتدبّروا في أمورِكم كلّها، والله جل وعلا أباح التعدّد بلا شكّ ولا ريب، ولكن في حقّ من؟ في حقّ مَن يقيم للأمور وزنَها، ومَن يقدّر الأمورَ قدرها، أمّا أولئك الذين لا يبالون ولا يهتمّون ولا يراعون فهؤلاء ظالمون لأنفسهم، مفسِدون وساعون في الفساد، هؤلاء لا يبالون ولا يهتمّون، إن هي إلا الشهوات فقط، وما وراء ذلك لا يتصوّرونه، وقد يتصوّرونه لكن يتجاهلون الأمرَ، ويتناسَون الأمر، ويُلقون باللّوم واللائمة على غيرهم، فيقولون: مُنِعنا وما مُكِّنّا وما أُذِن لنا، إلى غير ذلك. هذه أعذارٌ واهية، هذه أعذار غير مقبولة، ولا عذرَ لك أمام الله في تضييع أولادِك وبناتك.
فاهتمَّ بالأمر، وأقِم لهذا الأمرِ شأنَه، وإيّاك والمماطلة، وإيّاك والإهمالَ والإضاعة، فإنّك بهذا تكون عاصيًا وآثمًا، وأيّ وزر فإنّك تتحمّله؛ لأنّك السّبب في كلّ ما جرى.
أسأل الله للجميع التوفيقَ والهداية والعونَ على كلّ خير، إنه على كل شيء قدير.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا لاَ تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذالِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تَسْتَرْضِعُواْ أَوْلَادَكُمْ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُم مَّا ءاتَيْتُم بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [البقرة:233].
بارك الله لي ولكم في القرآن الكريم، ونفعني وإياكم لما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في التفسير (4761)، ومسلم في الإيمان (86) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.
[2] أخرجه البخاري في الأدب (5998)، ومسلم في الفضائل (2317) عن عائشة رضي الله عنها قالت: جاء أعرابي إلى النبي فقال: تقبلون الصبيان؟! فما نقبلهم، فقال النبي : ((أوَأملك لك أن نزع الله من قلبك الرحمة؟!)).
[3] أخرجه البخاري في الأدب (6129، 6203)، ومسلم في الآداب (2150) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
[4] أخرجه البخاري في الصلاة (516)، ومسلم في المساجد ومواضع الصلاة (543) عن أبي قتادة رضي الله عنه.
[5] أخرج أحمد (5/354)، وأبو داود في الصلاة (1109)، والترمذي في المناقب (3774) والنسائي في الجمعة (1413)، وابن ماجه في اللباس (3600) عن بريدة رضي الله عنه قال: خطبنا رسول الله ، فأقبل الحسن والحسين رضي الله عنهما عليهما قميصان أحمران يعثران ويقومان، فنزل فأخذهما فصعد بهما المنبر ثم قال: ((صدق الله: إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ. رأيت هذين فلم أصبر))، ثم أخذ في الخطبة. قال الترمذي: "حسن غريب"، وصححه ابن خزيمة (1456، 1801)، وابن حبان (6038)، والحاكم (1059)، وهو في صحيح سنن أبي داود (981).
[6] أخرجه أحمد (2/187)، وأبو داود في الصلاة (495)، والدارقطني (1/230)، والحاكم (1/311)، والبيهقي (2/228، 229) من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنه، وصححه الألباني في الإرواء (247).
[7] أخرجه أحمد (4/78)، والبخاري في التاريخ الكبير (1/422)، والترمذي في البر والصلة (1952)، وعبد بن حميد في المنتخب من المسند (362)، والعقيلي في الضعفاء (3/308)، وابن حبان في المجروحين (2/188)، وابن عدي في الكامل (5/86)، والقضاعي في مسند الشهاب (1295، 1296، 1297)، والبيهقي في الكبرى (2/18) من طريق عامر بن أبي عامر الخزاز عن أيوب بن موسى عن أبيه عن جده، وأعله البخاري والترمذي والبيهقي بالإرسال، وصححه الحاكم (7679)، وتعقبه الذهبي بقوله: "بل هو مرسل ضعيف، ففي إسناده عامر بن صالح الخزاز واه"، وذكر له الألباني في السلسلة الضعيفة (1121) علّة ثالثة.
[8] أخرجه مسلم في الوصية (1631) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[9] أخرجه مسلم في الزكاة (995) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بنحوه.
[10] أخرجه البخاري في الجنائز (1296)، ومسلم في الوصية (1628) عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه.
[11] هو جزء من الحديث السابق.
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربّنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمَّدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتّقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
أخي المسلم، أولادُك بنين وبنات أمانةٌ في عنقِك، والله سائلٌ كلاًّ عمّا استرعاه، فيقول : ((كلّكم راعٍ، وكلّكم مسؤول عن رعيّته، الرّجل راعٍ في بيته ومسؤول عن رعيّته))[1]، راعٍ على أولادِه، والله سائله عن رعيّته، سيكون أبناؤك وبناتك خصماءَ لك أمامَ الله يوم القيامة، سيخاصِمك الأبناء والبناتُ بين يدي الله في ذلك اليومِ العظيم، عن تقصيرك، عن إساءَتك، عن إهمالك، عن تضييعِك، عن عدمِ مبالاتك، عن نسيانِك، عن هذه التصرّفات الباطلة اللاأخلاقيّة، ولكنّها تصرّفات الحمقى، تصرّفات من لا مسؤولية [له]، تصرّفات مَن لا يبالي ولا يرعوي.
أيّها المسلم، كيف ترضى وتعلم أنّ فتاةً لك في بلادٍ لا تَرى أبًا ولا عمًّا وابن عمٍّ ولا قريبًا، تنادي: أين أبوها؟ أين ذلك الأبُ الذي تسبّب في وجودها؟ أين هو؟ أين الرّعاية؟ أين النّفقة؟ أين الحِفظ؟ أين العِناية؟ فكم من فتاةٍ تمسَح دموعَ الحزن دائمًا وأبدًا، وكم شابّ يعلم أنّ له أبًا، لكن هذا الأبُ غاب وأهمَل ونسِي وتجاهل.
فاتّقوا الله في أنفسكم، واعلموا أنّ هذه التصرّفات الواقعة من بعض أفرادِ المسلمين تصرّفات خاطئة، لا ينبغي أن يُعانَ عليها ولا أن يسهَّل أمرُه فيها، بل ينبغي للمسلمين أن يتواصَوا بالحق، ويتعاونوا على الهدى. ومَن يعلمُ أنّ له أقرباء في بلادٍ لا ناصرَ ولا مؤويَ لهم فالواجب عليه أن يهبَّ ليسترجعَهم، فإنّ هذه مسؤوليّة الأب، فإن أهملَ الأب وضيّع وصار من الخائنين لأمانتِهم فمسؤوليّة الإخوان والأعمام والأقارب أن ينقِذوا هذا النسلَ من الضّياع والفساد والانحراف، لأنّ هذا من الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، ومِن التعاون على البرّ والتّقوى، ومن صلةِ الرحم الواجبة، أمّا أن يقال: الأب ضيّع والأبُ أهمل فلا نبالي، فهذا خطأ بلا شكّ، بل الواجب الإنقاذ والسعيُ في إيجاد حلٍّ لهؤلاء الذين ضيّعهم أولئك الآباء المهمِلون الخائِنون لأماناتِهم.
أسأل الله للجميع التوفيقَ والعون على كلّ خير.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أنّ أحسن الحديث كتاب الله، وخيرَ الهدي هدي محمد ، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلّ بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإنّ يد الله على الجماعة، ومن شذّ شذّ في النار.
وصلّوا ـ رحمكم الله ـ على محمّد امتثالا لأمر ربّكم، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىّ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمَّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمّد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين...
[1] أخرجه البخاري في الجمعة (893)، ومسلم في الإمارة (1829) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
ـــــــــــــــــــ(68/49)
شكر النعم ونعمة الأمن
...
...
3329
...
الأسرة والمجتمع, الإيمان
...
...
خصال الإيمان, قضايا الأسرة
...
علي بن عبد الرحمن الحذيفي
...
...
المدينة المنورة
...
4/10/1424
...
...
المسجد النبوي
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- وجوب شكر الله تعالى. 2- أعظمُ الشكر. 3- ثوابُ الشكر وأجر الشاكرين. 4- الشكر صفة الأنبياء والصالحين. 5- حقيقة الشكر. 6- لا يبلغ العبد تمام شكر الله تعالى. 7- شكر الله تعالى على نعمة الطاعة. 8- فضل نوافل العبادات. 9- نعمة الأمن وضرورة المحافظة عليها.
الخطبة الأولى
أمّا بعد: فاتّقوا الله عبادَ الله، فتقوى الله خيرُ ما عمِلتم وأفضل ما اكتسبتم.
أيّها المسلمون، إنَّ شكرَ الله على نعمِه التي لا تعَدّ ولا تُحصَى أوجبُ الواجبات وآكَد المفروضات، قال الله تعالى: وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِى عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِى وَلِوالِدَيْكَ إِلَىَّ الْمَصِيرُ [لقمان:14]، وقالَ تعالى: فَاذْكُرُونِى أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ [البقرة:152]، وقال تعالى: وَاشْكُرُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ إِن كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ [النحل:114].
والشّكرُ لله تعالى يقابِل الكفرَ بالله تعالى، قال الله عز وجل: إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا [الإنسان:2، 3].
وأعظمُ الشّكرِ الإيمانُ بالله تعالى وأداء فرائضه وواجباته والبعدُ عن محرّماته، ثمَّ شكر بقيّة النّعم إجمالاً وتفصيلاً. كما أنّ أعظمَ كفرانِ النّعم الكفرُ بالرسالةِ بالإعراض عن الإيمانِ بالله وحده وتركِ فرائضِ الله وواجباتِه وفِعل المعاصي، ثمّ كفرانُ بقيّة النّعم.
والشّكرُ لله تعالى ثوابُه عظيم وأجره كريم، ينجي الله به من العقوبات، ويدفَع الله به المكروهاتِ، قال الله عزّ وجلّ: مَّا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَءامَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا [النساء:147]، وقال عزّ وجلّ: كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلاَّ آلَ لُوطٍ نَّجَّيْنَاهُم بِسَحَرٍ نّعْمَةً مّنْ عِندِنَا كَذَلِكَ نَجْزِى مَن شَكَرَ [القمر:33-35].
والشّكرُ تَزيد به النّعم وتدوم به البرَكات ويندفع به كلّ مكروه، قال الله عزّ وجلّ: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِى لَشَدِيدٌ [إبراهيم:7].
وإذا عايَن الشّاكرون بهجةَ الجنّة ونعيمَها ولذّةَ عَيشها قالوا: الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِى صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاء فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ [الزمر:74].
والشّكرُ صِفة الأنبياءِ والمرسلين وعبادِ الله الصّالحين، قال الله تعالى عن نوحٍ عليه السلام: إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا [الإسراء:3]، وقال عن إبراهيم الخليل عليه السّلام: إِنَّ إِبْراهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ شَاكِرًا لأنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِراطٍ مُّسْتَقِيمٍ [النحل:120، 121]، وقال عزّ وجلّ: وَقَلِيلٌ مّنْ عِبَادِىَ الشَّكُورُ [سبأ:13].
وحقيقةُ الشّكر ومعناه الثّناءُ على المنعِم جلّ وعلا بنعمِه وذكرُها والتحدّث بها باللسان، قال الله تعالى: فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الأعراف:69]، وقال تعالى: وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبّكَ فَحَدّثْ [الضحى:11].
والشّكرُ أيضًا محبّةُ المنعِم جلّ وعلا بالقلبِ والعملُ بما يرضيه، قال عزّ وجلّ: اعْمَلُواْ ءالَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مّنْ عِبَادِىَ الشَّكُورُ [سبأ:13]، وقال : ((أحبّوا الله مِن كلِّ قلوبكم لما يغذوكم به من النّعَم))[1]، وعن عائشةَ رضي الله عنها قالت: كان رسول الله يقوم من الليل حتى تتفطّر قدَماه، فقلتُ: يا رسولَ الله، تفعل هذا وقد غفَر الله لك ما تقدّم من ذنبِك وما تأخّر؟! فقال: ((أفَلا أكون عبدًا شكورًا؟!)) رواه البخاري[2]. فدلَّ على أنَّ العملَ بالطّاعة شكرٌ لله عزّ وجلّ.
والشّكرُ أيضًا استعمالُ النِّعمة فيما يحبّ الله تعالى، فأعضاءُ البَدَن إذا استعمَلها المسلمُ في طاعةِ الله واستخدَمَها العبدُ فيما أحلّ الله له فقَد شكَر اللهَ على أعضاءِ بدنه، وإذا استخدم العبدُ أعضاءَ بدنِه في معاصي الله فقد فاتَه شكرُ الله وحارَب ربَّه بنِعم الله تعالى عليه. والمالُ إذا أنفَقه المسلمُ في الواجبِ والمستحَبّ أو المباح يبتغي بذلك ثوابَ الله فقد شَكر الله على نعمَة المال، وإذا أنفقه العبدُ في معاصِي الله أو المكروهات أو في فضول المباحَات المضِرّة فقد فاتَه شكرُ الله عزّ وجلّ، واستعان بالمال على ما يُغضِب ربَّه، ويكون وبالاً عليه في الدّنيا والآخرة. وإذا تمتَّع العبدُ بالطيّبات والمباحات وشكرَ الله عليها وعلِم من قلبِه أنها نعمُ الله عليه تفضَّل بها على عبادِه فقد أدّى ما عليه في هذه النّعم، وإذا نسِي المنعِمَ جلّ وعلا فقَد عرّض النّعمَ للتغيُّر، قال الله تعالى: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ ءامِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مّن كُلّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ [النّحل:112].
ومَهما اجتهَد المسلم وشَكر فلن يستطيعَ أن يقومَ بشكرِ نعَم الله على التّمام لقول الله تعالى: وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ [النحل:18]، ولقولِ النبيّ : ((لن يدخلَ الجنةَ أحدٌ منكم بعمَله))، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ((ولا أنا إلاّ أن يتغمّدنيَ الله برحمتِه))[3]. ولكن حسبُ المسلمِ أن يعلمَ بأنّه عاجزٌ عن شكرِ نعمِ ربِّه، وأنّه لو شكَر على التّمام فالشّكر يحتاج إلى شكر، وحسبُه أن يمتثلَ أمرَ ربّه، ويبتعدَ عن معصيتِه، وأن يسدّد ويقارب.
وأعظمُ نعمةٍ على المكلّفين طاعة الله عزّ وجلّ، فإذا وُفِّق المسلم لطاعةٍ فعليه أن لا يبطلَها بمعصيةٍ مضادّة بعدها، وأن لا يأتيَ بما ينقِصها، وأن يتبِعها طاعةً أخرى، فإنّ الحسناتِ بعدَ الحسنة شكرٌ للحسَنة وزيادةُ ثواب الله عزّ وجلّ، وما مِن طاعةٍ فرضها الله تعالى إلاّ شرع من جِنسها من الطاعات ما يزداد به المسلم إلى الله قربى وما يُدخِل الله به عبدَه الجنّاتِ العلا، فالصلاة والزكاة والصيام والحجُّ وغيرُها شرع الله نوافلَ مثلَها، تجبر نقصَها، وتكمِّل ما فات منها، ويتسابَق فيها المتسابِقون في الخيرات، فمَن صامَ رمضانَ وأتبعه سِتًّا من شوّال كان كصيام الدّهر، كما في صحيح مسلم من حديث أبي الدّرداء رضي الله عنه[4]. ونوافلُ الصّيام المستحبّة الأخرى يرفع الله بها الدرجاتِ ويكفِّر بها السيّئات. ونوافل الصّلاة المعلومة والنّفقات التي تأتي بعدَ الزّكاة ونوافل الحجّ والعمرة والنّوافل الأخرى شكرٌ عمليّ لله تعالى، يزكّي الله بها العباد، ويجزي الله بها أعظمَ الثّواب في يومِ المعاد.
عبادَ الله، ما أحسنَ الطاعاتِ بعدَ الطاعات؛ لأنّ في ذلك رضوانَ الله تعالى وزيادةَ ثوابِه والحرزَ مِن عقابِه، وما أجمل الحسنات بعد سيئة تُعمَل، قال الله تعالى: وَأَقِمْ الصَّلاةَ طَرَفِي النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنْ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ [هود:114]، وما أقبَحَ السيّئات بعدَ الحسنات؛ لأنّ في ذلك غضَبَ الله تعالى ونَقص ثوابِه أو حِرمان الثّواب بالكلّيّة وإبطال العمل، قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ [محمد:33].
فدومُوا على طاعةِ ربّكم ـ معشرَ المسلمين ـ في الشّهور والأيّام، فربُّ رمضان هو ربُّ الشّهور والأعوام، وهو أحقّ أن يعبَد ويوحَّد في كلِّ زمان ومكان، قيل لبشر الحافي رحمه الله: إنّ قومًا يجتهدون ويعبدون الله في رمضان، فإذا ولّى تركوا، فقال: "بئس القوم لا يعرفون الله إلاّ في رمضان". فليس للمؤمن راحةٌ قبلَ لقاءِ ربّه، والله يقول: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الحجر:99] يعني الموت.
فيا فوزَ من قدّم لأهوال القيامةِ الأعمالَ الصالحات، ويا ندامةَ من نسيَ آخرتَه ووجد في قبره السيئاتِ والموبقات.
عبادَ الله، استقيموا على صراط الله المستقيم، وتمسّكوا بسنّة نبيّكم الموصوفِ بالخلُق العظيم، واحذَروا الشيطان والهوى فإنّه كان في شهرِ رمضان مأسورًا، ويريد أن يأخذَ منكم بثأره فيجعلَ الأعمال الصالحةَ هباءً منثورًا، فاستعينوا عليه بربِّكم، وردّوه خائبًا مدحورًا، بالمدامة على طاعةِ ربّكم، ليكونَ سعيكم مشكورًا، ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ نَسُواْ اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ لاَ يَسْتَوِى أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ [الحشر:18-20].
بارَك الله لي ولكم في القرآنِ العظيم، ونفَعني وإيّاكم بما فيهِ مِن الآياتِ والذّكر الحكيم، ونفعنا بهديِ سيّد المرسَلين وبقولِه القويم، أقول قولي هذَا، وأستغفر الله العظيمَ لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفِروه إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه الترمذي في المناقب (3789)، والطبراني في الكبير (3/46، 10/281)، وأبو نعيم في الحلية (3/211)، والبيهقي في الشعب (408، 1378) من طريق هشام بن يوسف، عن عبد الله بن سليمان النوفلي، عن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، عن أبيه، عن ابن عباس رضي الله عنهما وليس فيه: ((من كل قلوبكم))، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب، إنما نعرفه من هذا الوجه"، وصححه الحاكم (4716)، وقال الذهبي في السير (9/582): "هذا حديث غريب فرد، ما رواه عن ابن عباس إلا ولده علي، ولا عن علي إلا ابنه محمد أبو الخلفاء، تفرد به عنه قاضي صنعاء عبد الله بن سليمان، ولم يروه عنه إلا هشام... وليس النوفلي بمعروف"، وضعفه الألباني في ضعيف سنن الترمذي (792).
[2] صحيح البخاري: كتاب التفسير (4837)، وأخرجه أيضا مسلم في صفة القيامة (2820).
[3] أخرجه البخاري في الرقاق (6463، 6467)، ومسلم في صفة القيامة (2816، 2818) من حديث أبي هريرة ومن حديث عائشة رضي الله عنهما.
[4] أخرجه مسلم في الصيام (1164) من حديث أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه.
الخطبة الثانية
الحمد لله ذي الجلالِ والإكرام، ذِي المُلك الذي لا يُرام والعزِّ الذي لا يُضام، أحمَد ربّي وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك القدّوس السلام، وأشهد أنّ نبيَّنا وسيّدنا محمّدًا عبده ورسوله، بعثَه الله بالهدَى والرّحمة والسّلام، اللهمَّ صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدِك ورسولِك محمّد، وعلى آلِه وصحبِه الكِرام.
أمّا بعد: فاتّقوا الله حقَّ تقاته، والزموا طاعاتِه، وجانِبوا محرَّماته.
واعلموا ـ عبادَ الله ـ أنّ نعمةَ الأمنِ مِن تمام الإسلام وجزءٌ لا يتجزَّأ منه، قال الله تعالى: فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْىِ [البقرة:196]، وقال تعالى: فَإِذَا أَمِنتُمْ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ [البقرة:239]، وقال عزّ وجلّ: فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُواْ الصلاةَ إِنَّ الصلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا [النساء:103].
وجعل الله تعالى الأمنَ ظِلاًّ ظليلاً ليعبدَه فيه العابِدون، ويأمنَ فيه الخائِفون، ويطمئنَّ الوجِلون، قال الله عزّ وجلّ: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءامَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِى الأرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِى ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدّلَنَّهُمْ مّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِى لاَ يُشْرِكُونَ بِى شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذالِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [النور:55]. وقرَن النبيّ بين الأمنِ والإيمان، فكان يقول إذا رَأى الهلالَ: ((اللهمَّ أهِلَّه علينا بالأمنِ والإيمان والسّلامةِ والإسلام، هلالَ خيرٍ ورشدٍ، ربيِّ وربُّك الله))[1].
ومَن كفَّ يدَه ولسانَه عن أذيّة المسلمين والإضرارِ بهم ولم يعتدِ على الخلقِ وعزَّز الأمنَ وقوّاه ونصرَه وشكَر الله على نعمةِ الأمن فقد قام بشكرِ هذه النّعمة، ومن لم يفعل ذلك فقد كفر بنعمةِ الأمن.
وإنّ شبابًا غُرِّر بهم ودُفِعوا بمكرٍ خادِع إلى ظلماتِ فتنةٍ مهلِكة، قد ركِبوا جرمًا كبيرًا، واقترفوا إثمًا عظيمًا وفسادًا عريضًا، يُهلِك الحرثَ والنّسلَ، ويورث الدَّمارَ والعارَ والعياذ بالله.
وإنّ عمليّة تخريبٍ واحدة جمعت بين جرائمَ عِدّة، جمعت بين قتل النفس، فمنفِّذها قاتِل لنفسه، وقد قال الله تعالى: وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا وَمَن يَفْعَلْ ذالِكَ عُدْوانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذالِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا [النساء:29، 30]، وعصوا اللهَ ورسولَه، وجمَعت بينَ قتل النّفوس المحرَّمة مِن مسلمين وغير مسلمين، وجمَعت بين إتلافِ أموال معصومةٍ وروَّعت الآمنين، وجمعت بين عِصيان وُلاة الأمر الذين أمَر الله بطاعتِهم، وجمعت بين عصيانِ الوالدين لمن له والدان، وجمَعت بين مخالفةِ المؤمنين والإفسادِ في الأرض، قال الله تعالى: وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا [النساء:115].
يا شبابًا غُرِّر بِهم فحمَلوا السّلاحَ، كيف توجِّهون السّلاحَ إلى إخوانِكم في الإيمان رجالِ الأمن الذين يسهَرون على مصالحكم؟! كيف تدمِّرون بيوتَكم بأيديكم؟! كيفَ تخرجُون على ولاةِ أمركم وتفارقون جماعةَ المسلمين وتقتلون فيهم؟! كيف تنقادون مع كلِّ فاتِنٍ مَفتون؟! كيف تقدِمون على نارِ جهنّم والعياذ بالله ولا تخافون عاقبةَ أفعالِكم؟! الخطأ في هذهِ الأمور غيرُ مغفور، والعذرُ غيرُ مقبول؛ لأنّها حقوقُ الله وحقوق العباد.
إنّ إبليس لا يريد منكم أكثرَ مِن هذه الأفعالِ الإرهابيّة التخريبيّة، اللهَ اللهَ في المسلمين وفي بلادكم بلادِ الإسلام وفي أنفسكم، سلِّموا أنفسَكم، واكشفوا لولاةِ أمركم الحال وخبايا أهلِ الفتنةِ لتنطفئ نارُ التخريب والتّدمير والإفساد، فالرجوع في الدنيا خيرٌ من الندَم في الآخرة.
أناشِد مَن يبلغه كلامي ويصِل إليه ويسمَع هذه الخطبةَ أن يتّقي الله في الإسلامِ والمسلمين، ومَن لديه شبهاتٌ فليبحَث في أمرِها مع هيئةِ كبارِ العلماء، قال الله تعالى: فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذّكْرِ إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ [النحل:43].
إنّ أعداءَ الإسلام لا يتمنَّون للمسلمين أكثرَ مِن هذه الأفعالِ الآثمة الظالمةِ المفسدة المدمِّرة.
عبادَ الله، إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىّ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56]، وقد قال : ((من صلّى عليّ صلاةً واحدة صلّى الله عليه بها عشرًا)).
فصلّوا وسلّموا على سيّد الأوّلين والآخرين وإمامِ المرسلين.
اللهمّ صلّ على محمّد وعلى آل محمّد كما صلّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنّك حميد مجيد، وبارك على محمّد وعلى آل محمّد كما باركتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنّك حميد مجيد، وسلّم تسليمًا كثيرًا. اللهمّ وارضَ عن الصّحابة أجمعين...
[1] أخرجه أحمد (1/162)، والترمذي في الدعوات، باب: ما يقول عند رؤية الهلال (3451)، والدارمي في الصوم (1688)، والحاكم (7767) من حديث طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه، وليس فيه: ((هلال خير ورشد))، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب"، وصححه الألباني لشواهده في السلسلة الصحيحة (1816).
ـــــــــــــــــــ(68/50)
اعدلوا بين أولادكم
...
...
3392
...
الأسرة والمجتمع
...
...
الأبناء
...
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
...
...
الرياض
...
10/11/1424
...
...
جامع الإمام تركي بن عبد الله
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- فضل العدل. 2- نعمة الأولاد. 3- التفريق بين الأولاد ظلم. 4- مفاسد التفريق بين الأولاد. 5- من صور التفريق بين الأولاد. 6- حرص السلف على العدل بين الأولاد. 7- التحذير من حرمان البنات من حقهن. 8- لا مصلحة في التفضيل بين الأولاد.
الخطبة الأولى
أمّا بعد: فيا أيّها النّاس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
أيّها المسلمون، لقد صحّ عن النبيّ أنّه قال: ((المقسِطون يومَ القيامة على منابرَ من نور عن يمين الرّحمن عزّ وجلّ وكلتا يديه يمين؛ الذين يعدِلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا))[1].
أيّها المسلم، العدلُ خلُق المؤمن، والمؤمِن متّصفٌ بالعدل، متخلِّق بالعدل، بعيدٌ كلَّ البُعد عن الظّلم، سواء في الأحكامِ التي يصدِرها، أو في تعامُله في ولايتِه، أو في تعامُله مع أولاده. فالعدلُ مطلوبٌ منه في كلّ أحواله، إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ [النحل:90]. فقد أمَر الله بالعدل ونهى عن الظّلم، فخلُق المؤمِن عدلٌ في كلّ أحوالِه، قليلِها وكثيرها، فلا ظلمَ ولا تعدِّي، ولكن عدلٌ وقِسط. وانظر مآلَ أهلِ العدلِ يومَ القيامة وأنّهم على منابرَ من نورٍ عن يمين الرّحمن، لماذا؟ لأنّهم عدَلوا في أحكامِهم، وعدلوا في ولاياتِهم، وعدَلوا في أهليهم.
أيّها المسلم، فالعدلُ مطلوبٌ منك بَين أولادِك، فأحقّ النّاس بالعدل أولادُك الذين هم فلذةُ كبِدك، والذين أنعَم الله عليك بِهم، فإنّ الأولادَ نعمةٌ مِن نِعَم الله على العَبد، فهم بتوفيقٍ من الله امتدادٌ لحياته، يذكرون اسمَه، ويبقى اسمُه موجودًا ما دام الأولادُ موجودين، فهم ذِكرٌ له بعد موتِه، وحياةٌ ثانية له بعدَ مفارقتِه الدّنيا، فلذا أمِر بالعنايةِ بهم؛ بتربيّتِهم وتوجيهِهم وتأديبِهم بالآداب الحَسَنة حتى يكونوا عونًا له على كلّ خير وسببًا لسعادتِه في دنياه وآخرته.
أيّها المسلم، الولدُ إذا أُحسِنَت تربيتُه وأُحسِن أدبه انتفَع في نفسِه، وانتفع به والداه، وانتفع به مجتمعُه، ولكن إذا أسيئَت التربيّة وأُسيءَ الأدَب فعند ذلك يشقَى الأبوان بهذا المولود، كما يشقى في نفسِه، ويشقى به مجتمعُه.
أيّها المسلم، إنّ الله جلّ وعلا أخبرنا عن أنبيائِه المرسَلين وأنّهم طلبوا من ربِّهم العقِبَ الصالح، ها هو إبراهيم يقول: رَبّ هَبْ لِى مِنَ الصَّالِحِينِ [الصافات:100]، وهذا زكريا يقول: رَبّ لاَ تَذَرْنِى فَرْدًا وَأَنتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ [الأنبياء:89]، ويقول: فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ [مريم:5، 6]، وهذا أيضًا إبراهيم عليه السلام يقول: رَبّ اجْعَلْنِى مُقِيمَ الصلاةِ وَمِن ذُرّيَتِى [إبراهيم:40].
أيّها المسلم، إنّ الولدَ نعمة من الله على العَبد، يشكر اللهَ عليها، ويؤدّي حقَّ الأولاد عليه.
أيّها المسلم، إنّ من ظلمِ الأولاد أن يفرّق الأبُ بينهم، وأن يبتعِد عن العَدل فيما بينَهم، فيظهر لهم محبّتَه لبعضهم وكراهيتَه لبعضهم، يميل مع هذا دونَ هذا، هذا يقرّبه ويدنيه ويهَب له الهباتِ ويذلِّل أمامَه الصِّعاب ويلبّي طلباتِه ويعطيه مِن أمر الدّنيا ما يعطيه، وأولئك أولادٌ قد أُبعِدوا وأُقصُوا وجُفوا وحُرِموا ولم يُعطَوا مثلَما أُعطِي إخوانهم، لماذا؟! ألستَ أبَ الجميع أيّها الأب؟! أليسوا جميعًا أولادَك؟! فلِمَ هذه التّفرِقة؟! ولم هذا التجنّي؟! ولِمَ هذا الظّلم والعدوان؟!
أيّها الأب الكريم، فكِّر قليلاً في هذا التصرّف الخاطِئ، لتعلم أنّ النتائجَ نتائجُ سيّئة، عليك أوّلاً ثمّ عليهم.
فعليك أوّلاً لأنّك عصيتَ الله فحابيتَ بعضَهم دونَ بعض، فارتكبتَ معصيةَ الله بظلمِك لهم وحرمانِك البعضَ وتفضيلِك للبعض، فأنتَ بهذا عاصٍ لله قبل كلّ شيء، ويومَ القيامة ترى مصيرَك السّيّئ، تلقى الله وأنت من الظّالمين.
ثانيًا: تشقَى أيضًا في دنياك، فيعقّك أولئك الأولاد، ويجفونك، وتكون سببًا في عقوقِهم لك وقطيعتِهم لك ومعصيتهم لك وعدم رأفتهم بك؛ لأنّهم يرونَ منك القسوةَ والجفاء والغِلظة وسوءَ التصرّف.
ثالثًا: ثمّ أولئك الأولاد الذين فضَّلتَ بعضَهم على بعض أوقدتَ بينهم نارَ العداوةِ، أشعلتَ بينهم الفِتنة، فرّقت قلوبَهم، مزّقتَ شملَهم، أحدثتَ بينهم القطيعةَ، تركتَهم متناحرين متقاطعين متباعدين، يبغِض بعضهم بعضًا، ويكرَه بعضهم بعضًا، فمَنِ المتسبِّب؟ ومَن الجانِي؟ إنّ الجاني أنتَ أيّها الأب، إذا لم تتَّق الله فيهم، إذا لم تعدِل بينهم، فإنّ النتائجَ السيّئة أنت تحمِل أوزارَهم؛ أوزارَ قطيعتِهم وتناحُرهم وشِقاقهم.
أيّها الأب الكريم، إنّ مِن توفيق الله لك أن تعدِل بين أولادِك، وأن تُظهِر لهم جميعًا أنّ منزلتَهم منك منزلةٌ واحدة، ولا فضلَ لبعضِهم على بعض، لا تُظهر لهم تفضيلَ بعضِهم بأيّ سبب.
أيّها الأب الكريم، قد تتعلَّل وتقول: هذا ابنٌ يسمَعُ ويطيع، هذا بارّ بي، وأولئك بعيدون عنّي، وأولئك لم أنتفِع بهم، وأولئك وأولئك... نعَم قد يكون مِن بعض الأولاد شيءٌ مِن هذا، وهذا ليسَ بمستبعَد، لكن هل الخطأ يُعالجَ بالخطأ؟! وهل القطيعة تُعالَج بالقطيعة؟! لأنّك إذا فضّلت بعضَهم فقد زِدتَ في القطيعة والبغضاء، أمّا إذا عدلتَ بينهم فإنّ عدلَك بينهم بتوفيقٍ من الله يقرّب قلوبَهم، ويجمَع شتاتَهم، ويحبّب بعضَهم إلى بعض، ثمّ هم ينظُرون إليك في المآل نظرَ الاحترام والتّقدير والإكرام، ويبرّون بك ويحسِنون إليك، وإن حصل ما حصَل فالمآل إلى خيرٍ بتوفيقٍ منَ الله.
أيّها المسلم، إنّ نبيّنا نبيّ الرحمة الذي قال الله في حقّه: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لّلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107]. نبيّ الرّحمة أرشدَ الآباءَ إلى الطريق السَّويّ، وحذّرهم من الظلم والعدوان.
أتاه بشير بنُ سعد أبو النّعمان بن بشير يقول: يا رسولَ الله، إنّ أمَّ هذا طلبَت منّي أن أنحلَ ابنَها نحلة وأشهدُك عليها، فماذا قال ؟ وجّه السؤالَ إلى هذا الأب قائلاً: ((أكلّ ولدِك أعطيتَهم مثله؟)) هل هذه العطيّة شملت كلَّ الأولاد؟ قال: لا، قال: ((أُتحبُّ أن يكونوا لك في البرّ سواء؟!)) قال: نعم، قال: ((فلا إذًا))[2]، فإذا كنتَ ترجو أن يكونَ برُّهم جميعًا لك سواءً فلماذا تفضِّل بعضهم على بعض؟! وفي لفظٍ أنه قال له: ((ألَه إخوة؟)) قال: نعم، قال: ((أكلاًّ أعطيتَ؟)) قال: لا، قال: ((فاسترجِعها))[3]، وفي لفظٍ قال له: ((لا تشهِدني على جَور))[4]، وفي لفظ قال له: ((إنّي لا أشهَد إلا على حقّ))[5]، وفي لفظ قال له: ((أشهد على هذا غيري))[6]، يعني: إذا كان الرسولُ امتنَع عن الشهادةِ وطلبَ أن يكونَ غيره الشهيدَ ممّا يدلّ على قُبح ذلك التصرّفِ وقُبح ذلك العَطاء، وأنّ النبيَّ امتنع عن الشهادة عليه لفسادِه وظلمِه وجوره، وهو أبعدُ الخَلق عن الظلمِ والجور، وأحرصُهم على العَدل والإحسان.
أيّها الأب الكريم، إنّ هناك خطأً من بعضِ النّاس؛ إمّا تفضيل بعض الأولاد بأيّ صورةٍ كان هذا التفضيل، حينًا يعطيه عطيّةً، وحينًا يجعلها في صورةِ بيعٍ ونحو ذلك، والله يعلم أنّه ما قصد البيعَ، ولكن قصدَ الهِبةَ، لكن يُخرجها مخرجَ البيع لأجل التّغطية على البقيّة، وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ [البقرة:220].
أيّها الأب الكريم، قد يحمِلك على التفضيل أحيانًا جفاءُ بعضهم كما سبق، وقد يحمِلك أحيانًا حبُّك لأمّ بعضِهم وكراهيتك لأمِّ بعضهم، فتجعل حبَّك لإحدى الزوجات مسوِّغًا لأن تُغدِق على أولئك وتحجب أولئك، فإن أردتَ العدلَ فاتّق الله فيهم، وما في نفسِك من ميولٍ إلى بعضِهم لا تجعل هذا الميولَ ظاهرًا، اكتُمه في نفسك، وأمّا في الظاهر فأظهِر لهم أنّهم منك سواء، ولا فضلَ لبعضهم على بعض، لا في المجالِس، ولا في إصدارِ الكلام، ولا في التّخاطب، ولا في الزّيارة، ولا في كلّ شيء، اجعَل الجميعَ يشعرون أنّك الأب الحَنون الرّحيم الشفيق عليهم، كلٌّ يجِد في نفسِه أنّك كذلك.
وإذا أردتَ وصيّةً أيضًا بعد الموت فانظر العدلَ في الوصيّة، ولا تجعلها لأحدٍ لمصلحةٍ ما، ولكن اجعَل الأمر لمَن يصلح لها وهو أهلٌ لها، مع إبراءِ ذمّتك وتوضيحِ تلك الوصيّة وما فيها حتّى لا يكونَ أحدٌ أفضلَ مِن أحد.
أيّها الأب الكريم، إنّ سلفنا الصّالحَ التزموا هذا الأدبَ النبويّ في العدل بين أولادهم، حتّى قال بعض التابعين: كانوا يعدِلون بين الأبناء الصّغار في القُبَل، يعني: إذا قبّل الابنَ الصغير قبّل الآخرَ مثلَه حتّى لا يشعرَ هذا بأنّ هذا أفضلُ منه.
إنّ غرسَ الفضائل في النفوس وتدريبَ الأبناء على الأخلاق وتنشئَتهم على الصلةِ والمحبّة أمرٌ بيَد الله ثمّ بيدِك أيّها الأب، فإمّا أن تفارقَ الدنيا والأولادُ كلّهم يقولون: رحمَ الله أبانا، غفر الله لأبينا، جزَى الله أبانا خيرًا، لقد ربّانا وأحسَن إلينا، وخلّف لنا من الخير ما ننعَم به، فكلٌّ يدعو لك ويترحّم عليك. و إمّا أن ترحلَ من الدنيا وذا يقول: لعَن الله ذلك الأب، وقطع الله ذلك الأب، وأراحَنا الله من ذلك الأب؛ لأنّ حبَّ الدّنيا متمكِّن في النّفوس، حبّ الدنيا بليّة والله يقول: وَلاَ يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ ؤإِن يَسْئَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُواْ وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ [محمد:36، 37]. فالدّنيا تحدِث البغضاءَ والقطيعة؛ لأنّ الدنيا وسيلة من وسائِل إبليس ليُغويَ بها من يشاء مِنَ الخلق.
فيا أخي المسلم، اتّق الله في أبنائك تقوًى تحمِلك على العدلِ والبُعد عن الظلم.
أيّها المسلم، إنّ الله جلّ وعلا أعدلُ العادلين قسَم المواريثَ بين العباد، فقال: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِى أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِ الأنْثَيَيْنِ [النساء:11]، ثم قال: ءابَاؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا [النساء:11].
بعضُ الآباء أحيانًا قد ينظر إلى البناتِ نظرَ الاحتقار، لماذا؟ يحاوِل أنّ البنات لا نصيبَ لهنّ، الأولاد يزوّج هذا ويعطِي هذا مسكَنًا وهذا كذا وهذا كذا، والبنات قد لا يَنلنَ من نصيب أبيهنّ إلاّ القليل، يحاول في حياته توزيعَ التّركةِ وتخصيصَ الذكور، والإناث يقول: هؤلاء مع أزواجٍ آخرين، ينتقِل مالي إلى أولادِ الناس؟! فتراه يحاول جاهدًا حجبَ البنات، وإن لم يستطِع حجبهنّ ميراثًا، لكن في التصرّفاتِ في الحياة ما يدلّ على إرادةِ حرمانهنّ كثيرًا من الحقوق، وهذه معصيةٌ لله؛ لأنّ اللهَ قسَم الميراثَ بين الذكور والإناث، ثمّ ختمها بقوله: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنْهَرُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذالِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ [النساء:13، 14].
فالبناتُ لهنّ حقٌّ في الميراث، ومَن حاول حرمانَهنّ أو تجزئةَ الأموال بالوقف والوصايا لأجل أن لا ينال البنتَ شيء ويعلم الله ذلك من نيّته فإنّه ظالمٌ ومسيء ومخطئٌ وعاصٍ لله ورسوله. لا يجوز للمسلم أن يتصرّف تصرُّفًا يعلَم الله من نيّته أنّ إرادتَه حرمان البناتِ وتقليل أنصبتهنّ والحيلولة بين أن يأخذنَ حقَّهنّ المشروع.
فليتّق المسلم ربَّه، وليعلم أنَّ البرَّ والصّلةَ أسبابُ خيرٍ، من بدأ بها وسنّها في أولادِه اقتدَوا به وتخلَّقوا بأخلاقِه، وإن أحدَث بينهم القطيعةَ والعداوةَ وأشعل نارَ الفتنة بينهم فإنّه المتحمِّل لتلك الأوزار.
أسأل الله لي ولكم الثباتَ على الحقّ والاستقامةَ عليه.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء للَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقَيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا [النساء:135].
بارك الله ولكم في القرآن العظيم، ونفعَني وإيّاكم بما فيه من الآياتِ والذّكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه مسلم في الإمارة (1827) عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
[2] هذه الرواية أخرجها مسلم في الهبات (1623) عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما.
[3] هذه الرواية أخرجها البخاري في الهبة (2586)، ومسلم في الهبات (1623) عن النعمان رضي الله عنه نحوه.
[4] هذه الرواية أخرجها البخاري في الشهادات (2650)، ومسلم في الهبات (1623) عن النعمان رضي الله عنه.
[5] هذه الرواية أخرجها مسلم في الهبات (1624) عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.
[6] هذه الرواية أخرجها مسلم في الهبات (1623) عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما.
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربّنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتّقوا الله تعالى حقَّ التقوى، والزَموا العدلَ فإنّ في العدلِ بركةً ورحمة.
أيّها المسلم، لا تظنَّ التفضيلَ سيزيد مالَ المفضَّل، فربَّما فضَّلتَ بعضَهم فأنزل الله المحقَ في مكسَبه، ونزعَ البركة ممّا نال، فعاد فقيرًا بعدَ غِناه. إخوانُه يدعون عليه ويبغِضونه ويمقتونه ويدعون عليك وعليه، كلّما نظروا إلى أموالِه وهي كثيرةٌ ولأنفسهم ولم يُعطَوا شيئًا فإنّهم يدعون عليه ويَرَونَه ظالمًا لهم ويرونَك ظالمًا لهم، فكم من دعوةِ مظلوم تصيبُ ذلك الظالمَ، وتمحَق بركة رزقه.
فاتّق الله يا أخي، واعدِل في أولادك، والله جلّ وعلا هو الغنيّ الحميد، وكلّ الخلقِ فقراء لله، إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقَيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا [النساء:135]. فالرّزق بيد الله، والبركةُ فيما بارك الله فيه، لا في ظلمِك وجورِك وسوءِ تصرّفِك.
فاتقوا الله عبادَ الله، والزَموا آدابَ الإسلام، ففيها الخيرُ لكم في الدّنيا والآخرة.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أنَّ أحسنَ الحديثِ كتاب الله، وخير الهدي هدي محمّد ، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلّ بدعةٍ ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإنّ يد الله على الجماعة، ومن شذّ شذّ في النّار.
وصلّوا ـ رحمكم الله ـ على عبد الله ورسوله كما أمركم بذلك ربّكم، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىّ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمّ صلِّ وسلّم وبارك على عبدك ورسولك محمّد، اللهمّ ارضَ عن خلفائه الراشدين...
ـــــــــــــــــــ(68/51)
الطلاق وأحكامه
...
...
3438
...
الأسرة والمجتمع, فقه
...
...
الطلاق, قضايا الأسرة
...
ناصر بن محمد الأحمد
...
...
الخبر
...
...
...
النور
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- حرص الإسلام على دوام العلاقة الاجتماعية. 2- سبل نزع الخلاف والشقاق بين الزوجين. 3- الطلاق هو الحل الأخير. 4- الطلاق السني. 5- أخطاء يقع بها الناس في مسألة الطلاق. 6- أسباب وقوع الطلاق. 7- الرجعة عن الطلاق وأحكامها.
الخطبة الأولى
أما بعد: إن الاتصال بين الرجل والمرأة عن طريق الزواج الشرعي والارتباط الأسري من أعظم نعم الله على بني آدم، لما يترتب على هذه العلاقة الشريفة من مصالح عظيمة منها: أنه سبب لغض البصر، وحفظ الفرج عمّا حرم الله كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج)) رواه البخاري ومسلم.
ومنها: حصول الراحة النفسية والسكن والأنس كما قال تعالى: وَمِنْ ءايَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْواجاً لّتَسْكُنُواْ إِلَيْهَا [الروم:21]. ومن مصالح الزواج: الذرية التي بها بقاء النسل الإنساني وتكثير عدد المسلمين. فلهذه المصالح وغيرها في الزواج أمر الله به ووعد بترتب الخير عليه فقال عز وجل: وَأَنْكِحُواْ الايَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِن يَكُونُواْ فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ [النور:32].
ورغب سبحانه بالإبقاء على الزوجية ونهى عن كل ما يعرّضها للزوال، فأمر بالمعاشرة بالمعروف ولو مع كراهة أحدهما للآخر فقال سبحانه: وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً [النساء:19]. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن المرأة خلقت من ضِلَع، وإن أعوج ما في الضلع أعلاه، فإن ذهبت تقيمه كسرته، وإن تركته لم يزل أعوج، فاستوصوا بالنساء)) رواه البخاري ومسلم. وفي رواية لمسلم: ((وكسرها طلاقها)) وإذا شعر الزوج بنفرة زوجته منه وبعدم انقيادها لحقه، فقد أمره الله أن يعالج ذلك بالحكمة واتخاذ الخطوات المناسبة فقال تعالى: وَاللَّاتِى تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِى الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً [النساء:34]. كل هذه الإجراءات يتخذها الزوج مع زوجته دون تدخل من أحد خارجي فإن استمر الشقاق فقد أمر الله تعالى بالتدخل بينهما لإصلاح الأمر، فقال جل شأنه: وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ حَكَماً مّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلَاحاً يُوَفّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا [النساء:35]، فأمر سبحانه عند تطور الخلاف بين الزوجين بتشكيل هيئة للنظر في إزالته، تتكون من عضوين يتحليان بالإنصاف والعدل، أحدهما من أسرة الزوج، والثاني من أسرة الزوجة، يدرسان ملابسات الخلاف ويأخذان على يد المعتدي، وينصفان المعتدى عليه ويسويان النزاع. كل هذه الإجراءات لإبقاء عقد النكاح واستمرار البيت المسلم. فإن لم يُجدِ كل ما سبق وكان بقاء الزوجية ضرر على أحدهما بدون مصلحة راجحة، فقد شرع الله الفراق بينهما بالطلاق. فالطلاق هو آخر المراحل، وهو في مثل هذه الحالة رحمة من الله يتخلص به المتضرر ويتيح له الفرصة للحصول على بديل أحسن قال الله تعالى: وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلاًّ مّن سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ واسِعاً حَكِيماً [النساء:130].
أيها المسلمون، إن الله شرع الطلاق حلاً أخيراً بعدما تفشل كل الحلول لحسم النزاع وبقاء بيت الزوجية، فهو كالدواء الذي يستعمل عند الحاجة ووفق طريقة خاصة رسمها الشارع، فإذا استعمل من غير حاجة أو استعمل على غير الطريقة المرسومة فإنه يضر كما يضر الدواء المستعمل على غير أصوله.
أيها الأحبة، كم تعاني المجتمعات التي تمنع الطلاق من الويلات والمفاسد والانتحارات وفساد الأسر، فالإسلام العظيم أباح الطلاق ووضع له ضوابط تحقق بها المصلحة وتندفع بها المفسدة، شأنه في كل تشريعاته العظيمة المشتملة على المصالح العاجلة والآجلة فالحمد لله على فضله وإحسانه.
لقد رسم الله للطلاق خطة حكيمة تقلل من وقوعه، المتمشي على تلك السنة الإلهية لا يتضرر به ولا يندم عليه، ويتجنب الآثار السيئة التي يقع فيها من أخل بها، فجعل للرجل أن يطلق المرأة عند الحاجة طلقة واحدة في طهر لم يجامعها فيه ويتركها حتى تنقضي عدتها، ثم إن بدا له في تلك الفترة أن يراجهعا فله ذلك وإن انقضت عدتها قبل أن يراجعها بانت منه، ولم تحل له إلا بعقد جديد قال الله تعالى: الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ [النساء:229]، أي إذا طلقتها واحدة أو اثنتين فأنت مخير فيها ما دامت في عدتها فلك أن تردها إليك ناوياً الإصلاح والإحسان إليها، ولك أن تتركها حتى تنقضي عدتها وتطلق سراحها محسناً إليها.
وقال تعالى: يأيُّهَا النَّبِىُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النّسَاء فَطَلّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ [الطلاق:1]، يعني طلقوهن وهن طاهرات من الحيض من غير أن يحصل جماع في هذا الطهر. فبين سبحانه في الآية الأولى العدد المشروع في الطلاق وهو طلقة واحدة. وبين في الآية الثانية الوقت الذي يجوز فيه الطلاق، وهو وقت الطهارة من الحيض بشرط أن لا يكون قد جامعها في هذا الطهر. فتبين بهذا أنه يحرم على الزوج أن يطلق زوجته ثلاثاً، لأن هذا يسد عليه باب الرجعة، وأنه يحرم عليه أن يطلقها وهي حائض، لأن هذا يطيل العدة على الزوجة، ويحرم كذلك تطليقها في طهر جامعها فيه، لأنها ربما تكون قد حملت فيشتد ندمه ويكثر الضرر. وبهذا يتبين أن الشارع أباح الطلاق في حال الحاجة إليه ووضع له نظاماً يجعله لا يقع إلا في أضيق الحدود، بحيث لا يحصل منه ضرر على أحد الطرفين.
وبهذا تعلم أن الطلاق الذي يقع على الوجه المشروع الذي شرعه الله ورسوله والذي يسميه العلماء الطلاق السني يكون بأن يطلقا طلقة واحدة في طهر لم يجامعها فيه ويتركها حتى تنقضي عدتها.
والطلاق المحرم، يقع فيه كثير من المسلمين بسبب جهلهم بأحكام الطلاق، و يكون بأن يطلقها ثلاثاً بلفظ واحد أو يطلقها وهي حائض أو نفساء، أو يطلقها في طهر وطئها فيه ولم يتبين حملها. كل هذا يعد من الطلاق المحرم الذي يأثم فيه صاحبه لو فعله.
أيها المسلمون، إن الشيطان قد تلاعب ببعض العباد في مسألة الطلاق، وهم على أصناف: فبعضهم يطلق عند أدنى سبب، وعند أول إشكال فيضر بنفسه وبأهله وبأولاده، والبعض الآخر يجري الطلاق على لسانه بسهولة وبأدنى مناسبة فيستعمله بدلاً من اليمين ـ عليّ الطلاق كذا وكذا ـ فإذا انتقضت يمينه وقع في الحرج وصار يسأل عن الحلول التي تنقذه من هذا الطلاق الذي حلف به. وبعضهم لا يتورع عن الطلاق المحرم فيطلق زوجته بالثلاث دفعة واحدة، ثم يندم ويصير يبحث عمن يفتيه ويخلصه من هذا المأزق. وكل هذا بسبب تلاعب الشيطان ببني آدم.
أيها المسلمون، وألفاظ الطلاق تنقسم إلى قسمين:
القسم الأول: ألفاظ صريحة: وهي الألفاظ التي لا تحتمل غير الطلاق كـ: طلقتك، أوأنتِ طالق، أوأنت مطلقة، أوتطلقين، ونحو هذه الألفاظ.
القسم الثاني: ألفاظ كنائية: وهي الألفاظ التي تحتمل الطلاق وغيره كأن يقول لها: أنت بائن، أو أنت حرة، أو إلحقي بأهلك، وما أشبه ذلك.
والفرق بين الألفاظ الصريحة وألفاظ الكناية في الطلاق: أن الصريحة يقع بها الطلاق ولو لم ينوه سواء كان جاداً أو هازلاً أو مازحاً لقوله صلى الله عليه وسلم: ((ثلاث جدهن جد وهزلهن جد: النكاح والطلاق والرجعة)) رواه الخمسة. وأما ألفاظ الكناية فلا يقع بها طلاق إلا إذا نواه نية مقارنة للفظه، فإذا لم ينو بها الطلاق لم يقع إلا في ثلاث حالات:
الأولى: إذا تلفظ بالكناية في حال خصومة بينه وبين زوجته.
الثانية: إذا تلفظ بها في حال غضب.
الثالثة: إذا تلفظ بها في جواب سؤالها له الطلاق.
ففي هذه الأحوال يقع الطلاق بالكناية ولو قال: لم أنوه، لأن القرينة تدل على أنه نواه، فلا يصدّق بقوله: لم لأنوه، والله أعلم.
عباد الله، إن لوقوع الطلاق أسباب كثيرة: منها: سوء اختيار الزوجين لبعضهما الآخر، وبعد فترة من الزواج تنكشف أمور وحقائق، لا حل ولا طريقة ولا مخرج إلا بالطلاق.
ومن الأسباب: إثقال كاهل الزوج بالتكاليف مما يجعله لا يتحمل أدنى زلة، وهذا من حكم الإسلام في تيسير المهور قال صلى الله عليه وسلم: ((إن أعظم النساء بركة أيسرهن مؤنة)) رواه الإمام أحمد.
ومن الأسباب: سوء العشرة بين الزوجين، وعدم قيام كل منهما بما أوجبه الله عليه للآخر، قال الله تعالى: وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ.
ومن أعظم أسباب الطلاق ما تبثه وسائل الإعلام من مخالفات شرعية ومغالطات واضحة من خلال تمثيليات ساقطة ومسرحيات هابطة تصور مشاكل مفتعلة حول تعدد الزوجات وحول تزويج كبير السن من الصغيرة وحول تزويج المتعلمات من غير المتعلمين، فمن سمع أو رأى هذه التمثيليات من النساء، وهن ناقصات عقل ودين زهدت إحداهن في زوجها الذي ترى أن هذه التمثيلية تنطبق عليها وعليه. ناهيك عن رؤية الرجال لنساء جميلات متزينات يظهرن على الشاشة بأبهى المفاتن مما يقلل شأن الزوجة في عين زوجها وهو طوال الليل ينظر إلى أجمل منها، فكل هذا من أعظم أسباب الطلاق، والسعيد من وعظ بغيره. ولا شك أن هذا العمل الذي تقوم به وسائل الإعلام يكون من التخبيب الذي حرمه الرسول صلى الله عليه وسلم وتوعد من فعله، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ليس منا من خبب امرأة على زوجها)) رواه أبو داود والنسائي.
ومن أسباب كثرة الطلاق في أوقاتنا الراهنة، هذه الحملة المسعورة التي يوقد سعارها العلمانيون بشكل كتابات في الصحف والمجلات في موضوع المرأة، جل كتاباتهم يدور حول عمل المرأة ووظيفة المرأة وأن نصف المجتمع معطل وأنها مسلوبة الحقوق ومظلومة تحت وطأة التقاليد والأعراف البالية ونحو هذه الترهات التي أزكموا بها أنوفنا، وهم يرددون ما يقوله أسيادهم من علماني الغرب وديار الكفر حتى صاروت ذنباً لغيرهم ويظنون أن التقدم والتحضر يكون بهذه الطريقة، والذي يظن هذا هم البله منهم، أما الأذكياء فيعلمون كساد بضاعتهم لكنهم أصحاب شهوات جنسية وما زالوا يعيشون فترة المراهقة والواحد منهم قد جاوز الخمسين.
فنسال الله تعالى أن يكفينا شرهم، وأن يرد كيدهم في نحورهم..
نفعني الله وإياكم...
الخطبة الثانية
أما بعد: كما أن الله شرع الطلاق رحمة بالعباد فقد شرع جل وتعالى الرجعة رحمة بعباده أيضاً. قال الله تعالى: وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدّهِنَّ فِي ذالِكَ إِنْ أَرَادُواْ إِصْلَاحاً [البقرة:228]، وقال صلى الله عليه وسلم في قضية ابن عمر مع زوجته: ((مره فليراجعها)). وكما أن للطلاق شروطاً وقيوداً فكذلك الرجعة لا تصح إلا بشروط:
أولاً: أن يكون الطلاق دون ما يملك من العدد، فإن استوفى ما يملك من الطلاق لم تحل له حتى تنكح زوجاً غيره.
ثانياً: أن تكون المطلقة مدخولاً بها، فإن طلقها قبل الدخول فليس له رجعة، لأنها لا عدة عليها لقوله تعالى: ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا [الأحزاب:49].
ثالثاً: أن يكون الطلاق بلا عوض، فإن كان على عوض لم تحل له إلا بعقد جديد برضاها، لأنها لم تبذل العوض إلا لتفتدي نفسها منه ولا يحصل مقصودها مع ثبوت الرجعة.
رابعاً: أن يكون النكاح صحيحاً، أما إن طلق في نكاح فاسد فليس له رجعة لأنها تَبِيْن بالطلاق.
خامساً: أن تكون الرجعة في العدة، لقوله تعالى: وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدّهِنَّ فِي ذالِكَ [البقرة:228]، أي في حالة العدة.
سادساً: أن تكون الرجعة منجزة، فلا تصح معلقة، كما لو قال: إذا حصل كذا فقد راجعتك.
هذه ستة شروط لا بد من توافرها حتى تكون الرجعة شرعية وقد اشترط بعض العلماء شرطاً سابعاً: وهو أن يقصد الزوجان بالرجعة الإصلاح لأن الله تعالى يقول: إِنْ أَرَادُواْ إِصْلَاحاً [البقرة:228]، وهذا مذهب شيخ الاسلام قال رحمه الله: "لا يمكّن من الرجعة إلا من أراد إصلاحاً وإمساكاً بمعروف".
أيها المسلمون، وتحصل الرجعة بلفظ: راجعت امرأتي، ونحو ذلك مثل: رددتها أو أمسكتها أو أعدتها وما أشبه ذلك. وتحصل الرجعة أيضاً بوطئها إذا نوى به الرجعة على الصحيح، ويسن أن يشهد على ذلك، لأن المرء عرضة للنسيان مع طول الوقت والزمان قال الله تعالى: وَأَشْهِدُواْ ذَوَى عَدْلٍ مّنكُمْ [الطلاق:2].
والمطلقة الرجعية زوجة ما دامت في العدة، لها ما للزوجات من نفقة وكسوة ومسكن، وعليها ما على الزوجات من لزوم المسكن والطاعة، ويرث كل منهما الأخر إذا مات في العدة، وله السفر والخلوة بها.
وتنتهي وقت الرجعة بانتهاء العدة، فإذا طهرت الرجعية من الحيضة الثالثة لم تحل له إلا بنكاح جديد بولي وشاهدين عدول. وإذا استوفى ما يملك من الطلاق حرمت عليه حتى يطأها زوج غيره بنكاح صحيح قال الله تعالى: فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يَتَرَاجَعَا إِن ظَنَّا أَن يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ [البقرة:230].
ـــــــــــــــــــ(68/52)
علاقة المسلم بوالديه
...
...
3487
...
الأسرة والمجتمع
...
...
الوالدان
...
ناصر بن محمد الأحمد
...
...
الخبر
...
14/3/1413
...
...
النور
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- قرن الله الإحسان إلى الوالدين بتوحيده وشكرهما بشكره. 2- الإحسان إلى الوالدين من أبواب الوفاء والجزاء بالمثل. 3- بر الأم مقدم على بر الأب لزيادة الفضل منها والمشقة. 4- بر الوالدين بعد موتهما. 5- آثار بر الوالدين في الدنيا.
الخطبة الأولى
أما بعد: سبق أن تحدثنا معكم في مناسبات سالفة عن علاقة المسلم بربه، ثم عن علاقة المسلم بنفسه، وهذا هو الجزء الثالث، عن علاقة المسلم بوالديه. وذلك لأهمية هذا الموضوع، مما نشاهده ونسمعه في واقعنا، من جفوة كثير من الأبناء مع والديهم، فأحببت أن يكون هذا الموضوع تذكيراً لنفسي أولاً ثم لكم، عسى أن تحرك قلوبنا وتهز مشاعرنا وتوقظ غفلتنا لما يجب علينا من حقوق تجاه والدينا.
قضى الله أن لا تعبدوا غيره حتما فيا ويح شخص غير خالقه أمّا
وأوصاكموا بالوالدين فبالغوا ببرهما فالأجر في ذاك والرَّحما
فكم بذلا من رأفةٍ ولطافةٍ وكم منحا وقت احتياجك من نُعما
وأمك كم باتت بثقلك تشتكي تواصلُ مما شقها البؤس والغما
وفي الوضع كم قاست وعند ولادها مُشقّا يذيب الجلد واللحم والعظما
وكم سهرت وَجداً عليك جفونها وأكبادها لهفاً بجمر الأسى تَحمى
وكم غسلت عنك الأذى بيمينها حُنُوّاً واشفاقاً وأكثرت الضمّا
فضيعتها لما أسنت جهالة وضقت بها ذرعاً وذوقتها سمّا
وبت قرير العين ريّان ناعماً مكباً على اللذات لا تسمع اللوما
وأمك في جوع شديد وغربةٍ تلين لها مما بها الصخرة الصّما
أهذا جَزاها بعد طول عنائها لأنت لذو جهلٍ وأنت إذاً أعمى
أيها المسلمون، يقول الله سبحانه وتعالى: وَاعْبُدُواْ اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَاناً [النساء:36].
أيها المسلمون، لقد خلق الله الثقلين لعبادته وحده، وأمرهم سبحانه بتحقيق ما خُلقوا له وما أُمروا به، ليحقق لهم تعالى ما وعدوا به، وَاعْبُدُواْ اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وبعد أن أمرهم تعالى بعبادته أمرهم أمر إيجاب وإلزام بالإحسان إلى الوالدين بقوله: وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَاناً وقوله عز وجل: وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِى صَغِيرًا [الإسراء:23، 24]، يروى عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (ثلاث آيات نزلت مقرونة بثلاث لا تقبل منها واحدة، بغير قرينتها. إحداها: قوله تعالى: وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ [التغابن:12]، فمن أطاع الله ولم يطع الرسول لم يقبل منه، والثانية: قوله تعالى وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة، فمن صلى ولم يزك لم يقبل منه، والثالثة: قوله تعالى: أَنِ اشْكُرْ لِى وَلِوالِدَيْكَ [لقمان:14]، فمن شكر الله ولم يشكر لوالديه لم يقبل منه).
أيها المسلمون، إن من تمام الوفاء وكرم الأخلاق التي جاء بها الإسلام أن تحسن محتسباً إلى من أحسن إليك، وفي هذا قول الله جل وعز: هَلْ جَزَاء الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ [الرحمن:60]، وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((من صنع إليكم معروفاً فكافئوه، فإن لم تجدوا فادعوا له حتى تعلموا أنكم قد كافأتموه)) وليس في الوجود أحد بعد الله سبحانه أسدى إليك أيها الإنسان معروفاً أكثر مما أسدى إليك أبوك وأمك، فقد ربياك صغيراً، وآثراك على أنفسهما كبيراً، وكانا قبل ذلك السبب في وجودك وبروزك في الحياة شخصاً سوياً، فقد بذلا مهجهما وراحتهما وما لهما لإنعاشك وإشعارك. إن مرضت مرضا معك، وإن سهرت سهرا معك، إن حضرت خافا عليك، وإن غبت بكيا عليك.
فمن أجل هذا، ومن أجل هذا، ومن أجل أن توفق لما أُمرت به من طاعة الله وبر الوالدين، فتسعد في دنياك وتنعم في أخراك. أمرك الله جل جلاله ببرهما والإحسان إليهما والعطف عليهما، وخفض الجناح لهما، والترحم عليهما ومخاطبتهما باللين والرفق واليسر والحسنى، ووصاك بهما تعالى، توصية تستجيش المشاعر، وتهز القلوب: وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوالِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً [الأحقاف:15]، وقوله: وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِى عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِى وَلِوالِدَيْكَ إِلَىَّ الْمَصِيرُ [لقمان:14].
فاتقوا الله أيها المسلمون، اتقوا الله تعالى وأطيعوه فيما أمركم من بر الوالدين وطاعتهما، فإن برهما وطاعتهما من أكبر القربات المقربة إلى الله، وعقوقهما وعصيانهما من أكبر السيئات المبعدة عن الله. روى البخاري ومسلم رحمهما الله عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي الأعمال أحب إلى الله؟ قال: ((الصلاة على وقتها))، قلت: ثم أي؟ قال: ((بر الوالدين)) قلت: ثم أي؟ قال: ((الجهاد في سبيل الله)) وعن أبي بكرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ ـ ثلاثاً ـ)). قلنا: بلى. قال: ((الإشراك بالله وعقوق الوالدين وكان متكئاً فجلس فقال: ألا وقول الزور، ألا وشهادة الزور)) فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت رواه البخاري ومسلم.
فاتقوا الله عباد الله، بِروا، تبّروا، وأحسنوا يحسن الله إليكم، وأطيعوا الله في والديكم، يطع الله فيكم أولادكم.
واعلموا كذلك رحمكم الله، إن بر الأم مقدم على بر الأب، وذلك لأنها تنفرد عن الأب بأشياء، منها مشقة الحمل وصعوبة الوضع، وصعوبة الرضاع، وكثرة الشفقة وقلة النوم وعظيم الخدمة والحنو.
روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: ((أمك)). قال: ثم من؟ قال: ((أمك))، قال: ثم من؟ قال: ((أمك))، قال: ثم من؟ قال: ((أبوك)).
وروى البخاري ومسلم عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت، قدمت عليّ أمي وهي مشركة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستفتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلت: قدمت على أمي وهي راغبة، أفأصل أمي، قال: ((نعم صِلي أُمَّكِ)).
لئن كان بر الوالدين مقدّماً فما يستوي في بِرَّه الأبُ والأمُّ
وهل يستوي الوضعان وضع مشقة ووضع التذاذ ذاك بُرءٌ وذا سُقْمُ
إذا التفتت نحو السماء بطرفها فكن حذراً من أن يصب قلبك السّهم
وفي آية التأفيف للحر مقنعٌ ولكنه ما كل عبدٍ له فَهْم
أيها المسلمون، وليس بر الوالدين مقصوراً على الحياة فقط، فإن من تمام البر وكماله، أن يبر الولد والديه حتى بعد موتهما.
فعن أبي أسيد مالك بن ربيعة الساعدي رضي الله عنه قال: بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاء رجل من بني سلمة فقال: يا رسول الله، هل بقي من بر أبوي شيء أبُرَّهما به بعد موتهما؟ قال: ((نعم، الصلاة عليهما، والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما من بعدهما، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما وإكرام صديقهما)). وروى مسلم في صحيحه، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رجلاً من الأعراب لقيه بطريق مكة فسلم عليه عبد الله بن عمر، وحمله على حمارٍ كان يركبه وأعطاه عمامة كانت على رأسه، قال ابن دينار: فقلنا له: أصلحك الله إنهم الأعراب، وهم يرضون باليسير فقال عبد الله بن عمر: "إن أبا هذا كان وداً لعمر، وإن في البر أن يبر الرجل وُدَّ أبيه" وقيل لعلي بن الحسين: إنك من أبر الناس ولا تأكل مع أمك في صفحةٍ فقال: أخاف أن تسبق يدي يدها إلى ما تسبق إليه عيناها فأكون قد عققتها.
فأين نحن أيها الأخوة، في هذا الزمان من هذه النصوص، التي تحثنا أن نبرَّ بأصدقاء آبائنا، ونحن والعياذ بالله مقصرون حتى في حقهما الشرعي الواجب علينا.
ويا للأسف إننا في زمن أكثر أهله لا يرى للوالدين حقاً، بل يستهين بهما، وينتقصهما، وربما شتمهما أو ما هو أعظم من ذلك، فلهذا ومع الأسف إنك تشاهد في هذا الزمان أن الوالدين هم الذين يخدمون، والولد هو المخدوم.
والأم، حالها يدمي القلب ويقطع الفؤاد إلا من رحم الله عز وجل.
فاتقوا الله عباد الله وأحسنوا إلى الوالدين ما أمكن لكم الإحسان. وإن حسبتم أنكم كافأتموهم، أخطأتم في ذلك الحسبان، وكونوا معهما في غاية الأدب والاحترام، واحذروا سوء الأدب عندهما، وإلا هويتم في هوة شقاء مالها من قرار خصوصاً الأم، فإن حقها أعظم، وما بذلته لك أكثر وأكثر.
لأمك حق لو علمت كبير كثيرك يا هذا لديه يسيرُ
فكم ليلة باتت بثقلك تشتكي لها من جَواها أنّةٌ وزفير
وفي الوضع لو تدري عليك مشقةٌ فكم غُصصٍ منها الفؤاد يطير
وكم غلت عنك الأذى بيمينها ومن ثديها شُرب لديك نَمِير
وكم مرةٍ جاعت وأعطتك قوتها حُنُواً وإشفاقاً وأنت صغير
فضيعتها لمّا أسنَت جهالة وطال عليك الأمر وهو قصير
فآهاً لِذي عقلٍ ويتّبع الهوى وواهاً لأعمى القلب وهو بصير
فدونك فارغب في عميم دُعائها فأنت لما تدعو إليه فقير
اللهم فاغفر لنا ولوالدينا..
اللهم اغفر لهم وارحمهم وعافهم واعف عنهم، وأكرم نزلهم وأوسع مدخلهم، اللهم لا تفتنا بعدهم.
اللهم اجعلنا وإياهم ممن قلت فيهم: وَالَّذِينَ ءامَنُواْ وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مّنْ عَمَلِهِم مّن شَىْء [الطور:21].
اللهم إنا نستغفرك ونتوب إليك...
الخطبة الثانية
أما بعد: أيها المسلمون، فإن منزلة بر الوالدين في الإسلام عظيمة ومرتبتها عالية، وآثارها كثيرة، ففيها الثواب الجزيل في الآخرة، أما في الدنيا فالجزاء بمثله من الأبناء.
وكذلك من آثار بر الوالدين، تفريج الكربات. فمن كان في كربة يا عباد الله فليبر والديه، ولعل حديث ابن عمر في الصحيحين معروفة في قصة الثلاثة الذين آواهم المبيت إلى غار فدخلوه فانطبقت عليهم الصخرة، فتوسلوا إلى الله تعالى بصالح أعمالهم أن يفرج عنهم. فقال أحدهم: ((اللهم إنه كان لي أبوان شيخان كبيران، وكنت لا أغبق قبلهما أهلاً ولا مالاً، أي لا أشرب ما أحلبه في المساء ولا أُشرب أهلي قبلهم، فجئت مرة وقد ناما، فلبثت والقدح في يدي أنتظر استيقاظهما حتى برق الفجر، فاستيقظا فشربا. اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت قليلاً)) وتوسل صاحباه بصالح أعمالهما فانفرجت الصخرة فخرجوا يمشون.
وكذلك يا عباد الله، فإن من آثار بر الوالدين سعة الرزق، وطول العمر، وحسن الخاتمة. وماذا يريد الإنسان، وماذا يتمنى المرء بعد هذا، سعةٌ في الرزق وطول في العمر وحسن الخاتمة. عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من سره أن يُمد له في عمره ويوسع له في رزقه ويدفع عنه ميتة السوء فليتق الله وليصل رحمه)).
وبر الوالدين يا عباد الله، أعلى صلة الرحم لأنهم أقرب الناس إليك رحماً.
وبعد كل هذا، وغيرها من الآثار الطيبة في الدنيا والآخرة، نجد والعياذ بالله، من يقدم زوجته على أمه، بل ويحب زوجته أكثر من أمه، وإنني والعياذ بالله التقيت مرةً رجلاً، يرضى أن تسب أمه، ولا يرضى أن تسب زوجته، فإنا لله وإنا إليه راجعون، من أنكاس الفطرة وقلة الحياء ورقة الدين.
أيها المسلمون، يا عبد الله:
فلا تطع زوجةً في قطع والدةٍ عليك يا ابن أخي قد أفنت العُمّرا
فكيف تُنكر أمّاً ثقُلكَ احتملت وقد تمرَّغت في أحشائها شُهُرا
وعالجت بك أوجاع النفاس وكم سُرّت لمّا ولدت مولودها ذكَرا
وأرضعتك إلى حولين مُكملةٍ في حجرها تستقي من ثديها الدُّررا
ومنك يُنجسَّها ما أنت راضعه منها ولا تشتكي نتناً ولا قذرا
وقل هو الله بالآلاف تقرؤها خوفاً عليك وترضى دونك السترا
وعاملتك بإحسان وتربية حتى استويت وحتى صرت كيف ترى
فلا تُفضّل عليها زوجةً أبداً ولا تدع قلبها بالقهر منكسرا
والوالد الأصلُ لا تنكر لتربيةٍ واحفظه لا سيما إن أدرك الكبرا
فما تؤدى له حقاً عليك ولو على عيونك صبحّ البيت واعتمرا
فاتق الله يا عبد الله، يا من أبكى والديه، يا من أبكى أبويه، وأحزنهما وأسهر ليلهما، وحمّلهما أعباء الهموم، وجرعهما غصص الفراق ووحشة البعاد، هلا أحسنت إليهما وأرضيتهما واضحكتهما، يبكيان عليك وأنت صغير إشفاقاً وحذراً، ويبكيان منك وأنت كبير، خوفاً وفرقاً، فهما أليفا حزن وحليفا هم وغم، فلما بلغت موضع الأمل، ومحل الرجاء قلتَ: أسيحُ في الأرض أطلب كذا وكذا، ففارقتهما على رغمها باكيين، وتركتهما في وكرهما محزونين، فإن غاب شخصك عن عيونهما لم يغب خيالك عن قلوبهما، ولئن ذهب حديثك عن أسماعهما، لم يسقط ذكرك عن أفواههما، ولطالما بكيا ولم يذوقا غمضاً إن تأخرت عن الرواح في المساء، فكيف إذا أغلقا بابهما دونك، وأبصرا خلواً مكانك ففقدا أُنسك، ولم يجدا رائحتك، فكان ملاذهما سح الدموع، فصار الولد خبراً، وكل غريب ولدهما، وكل ميت هو لهما، وسل عن حديثهما إذا لقيا إخوانك، وأبصرا أقرانك ولم يبصراك معهم، فهنالك تسكب العبرات، وتتضاعف الحسرات.
فنسأل الله عز وجل أن يطيل في أعمارهما بالبر والعمل الصالح، وأن يتوفاهما مسلمين.
اللهم اغفر لأمهاتنا..
ـــــــــــــــــــ(68/53)
إنهم يعبثون بالأخلاق.. ستار أكاديمي
...
...
3564
...
الأسرة والمجتمع, العلم والدعوة والجهاد
...
...
الإعلام, قضايا المجتمع
...
عبد المحسن بن مريسي الحارثي
...
...
جدة
...
...
...
جامع الحربي
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- خطر التغريب. 2- الحرب الإعلامية. 3- ترويج الإعلام للبرامج الفاسدة. 4- سفول الهمم. 5- برنامج: "العار أكاديمي". 6- رواج هذا البرنامج في جميع الأوساط. 7- برنامج: "بيق براذر". 8- مفاسد هذه البرامج الخبيثة. 9- الواجب تجاه هذه البرامج الغازية.
الخطبة الأولى
عباد الله، تعلمون جميعًا أن أخطر ما يواجه الأسرة المسلمة تلك المحاولات التغريبية الخبيثة التي تعمل وتجنّد كلّ طاقاتها لهدم الأسرة المسلمة، وإبعادها عن طريق الإسلام وتعاليمه ومعتقداته، تريد أن ترميَ بها في مستنقعات الرذيلة والفساد.
فأصبح قادة ذلك الفكر الهدام يركزون جهدهم من خلال وسائل الإعلام المختلفة المسموعة والمرئية وخاصة التلفاز، فذاك أكثر تأثيرًا في النفوس، وأكثر هيمنة على العقول، وهو الضيف الذي يقتحم البيوت بدون استئذان، فاستطاعوا أن يصلوا إلى مبتغاهم، فأصبحت وسائل الإعلام في كثير من الأقطار الإسلامية والعربية في حال لا يرضي الله عز وجل، وذلك من خلال ما يقدمه مِن نشر ألوان الفساد والانحلال من المسلسلات الماجنة والأغاني والمشاهد الساقطة، وعرض الأزياء الفاضحة، إلى غير ذلك مما تعلمون وتشاهدون وتقرؤون عنه.
ولكن في الوقت الذي تعاني فيه الأمة انتكاسةً في القيَم والمُثل وتتجرع مرارة الانحراف والتفكك، في الوقت الذي تتذوّق فيه الأمة كافة أنواع الهزائم النفسية والاقتصادية والسياسية، في الوقت الذي يُشن على الأمة حربٌ لا هوادة فيها، في هذا الوقت الذي تحتاج فيه الأمة إلى إعلام موجه، فإذا بوسائل الإعلام موجَّهة لا موجِّهة، فأصبحت أجهزة الإعلام تشنّ على الأمة حربًا تهدف إلى هزيمة الأمة أخلاقيًا، تريد أن تقضي على ما تبقّى من أخلاق أبناء الأمة، فظهرت قنوات فضائية تبثّ على الهواء فضائح أخلاقية، جاءت هذه القنوات للطعن في ذلك الجسد الجريح، جاءت تجهز على ذلك الجرح النازف الدامي، جاءت تلك القنوات الفاجرة لتعزف وترقص على جراحات الأمة ومآسيها التي نراها في أقطار الإسلام.
فما أن تخرج الأمة من محنة حتى يشعل لها أعداؤها فتنة ومحنة أخرى، ولقد ظهر مؤخرًا ما يسمى بـ"سوبر ستار"، وهو برنامج خبيث يتنافس فيه شبان وشابات، يتنافسون على الرقص والغناء، يتنافسون على التخنث والبغاء، يتنافسون على إسقاط الفضيلة والحياء ونشر الرذيلة، ثم يصوَّت لساقط أو ساقطة من المتنافسين من كافة أقطار العالم العربي والإسلامي، يصوّت له ليفوز بالجائزة.
ذلك البرنامج الفاسد الذي باركه أعداء الأمة، ورأوا أنه برنامج يحفز على التعايش مع العرب، رأوا فيه الأمل في إيجاد جيل مسلم متسامح مع أعدائه، رأوا أنه يساعد على نسيان قضية مقدَّساتهم وأراضيهم المغتصبة، وقد أظهر هذا البرنامج أمورًا خطيرة جدًّا، من ذلك سفاهة وسذاجة الإعلام العربي في كثير من البلاد العربية، وذلك من خلال اهتمامة بذلك الحدث من خلال إعلاناته ودعايته وترويجه لذلك البرنامج من خلال وسائل الإعلام، والاهتمام بذلك البرنامج الفاضح من خلال مطالبته للشعوب بالتصويت لصالح الشباب أو الشابات، والاتصال من أقطار شتى للإدلاء بالأصوات، وترشيح أحد الساقطين أو الساقطات، متناسيًا ذلك الإعلام دوره في رقي الأمة والنهوض بها من كبوتها التي طالت، نسي أو تناسى دوره في الاهتمام بقضايا الأمة وقضايا الشعوب، فألغت بعض أجهزة الإعلام برامجها العامة والهامة لتقييم المهرجانات في الحدائق العامة وفي الشوارع والميادين والمنتزهات وفي المدن والمحافظات. واستحدثت شاشات عرض كبيرة في الميادين والمنتزهات، وذلك لحشد التأييد والمساندة لرمز وطنهم كما يزعمون، لتلك الساقطة أو لتأييد ذلك الساقط.
تناسى الإعلام أزمات الشعوب وقضايا الأمة المصيرية، تناسوا هموم الأمة وما تعانيه من أزمات ونكبات، فأصبح الهمّ هو حشد الأصوات لترشيح ذلك الصوت الذي يحرك الأوساط رقصًا ويهزّ الرؤوس طربًا لاختيار ذلك القوام الرشيق والقدّ الفاتن. فبدلاً من أن يكون الإعلام أداة بناءةً للأمة أصبح معولَ هدم لها.
لقد أظهر ذلك البرنامج والذي لاقى رواجًا كبيرًا في بلاد الإسلام، أظهر وبيّن دناءة الهمم وسخافة العقول ووضاعة الاهتمامات عند كثير من أبناء الأمة، حتى تناسى أبناؤها همومها وقضاياها، وظهر في إحصائيات عديدة أن المشاركين في التصويت للترشيح في هذا البرنامج فاق عشرات الملايين أكثر من ثمانين مليون اتصال، من مختلف الأقطار العربية تصوّت للساقطين والساقطات، تصوّت لنشر الرذيلة وقتل الفضيلة.
إحصائيات مبكية، والمبكي المحزن والذي يُبكي القلوب قبل العيون أن قضايا الأمة المصيرية التي تواجهها والتي فيها إبادة شعوبها واغتصاب أراضيها واستباحة مقدساتها وانتهاك أعراضها وسلب أموالها لا نرى من أجهزة الإعلام ذلك الاهتمام وذلك الزخم الإعلامي الذي وجده ذلك البرنامج، هل تصدّقون أن التصويت على قضية مصيرية للأمة على وثيقة الاعتراض على الحرب على أفغانستان في مجلس الأمن لم يتجاوز أربعة ملايين صوت من جميع الأقطار العربية مقابل أكثر من 80 مليون صوت يرشحون أهل العهر والفساد؟!
برنامج ساقط يبثّ التفاهة والسفاهة، وينشر الرذيلة، ويصوّت عليه أكثر من ثمانين مليونا، وقضية مصيرية للأمة لا يتجاوز التصويت على الاعتراض على إبادة ذلك الشعب المسلم لا يتجاوز أربعة ملايين.
ذلك البرنامج أظهر سخافة وانحطاط أجهزة الإعلام وانحرافها ودناءتها في كثير من البلدان.
أصبح يحاكي ما يراه في الغرب، وينقل ما لديهم من تخلّف وخبث وخلاعة وفجور إلى شعوبه المسلمة. أصبح الجهاز الإعلامي المتفتّح لا يميز بين الفضيلة والرذيلة أو بالأصح لا يفرق بينهما، أصبح موجَّها من أساتذته في الغرب، و صدق : ((لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه)).
والعجيب أن هناك من المسؤولين الكبار في بعض تلك الدول التي شاركت في ذلك البرنامج وفي تلك المهزلة، من المسؤولين من يتحمّس لذلك البرنامج، بل ويحمّس مواطنية للتصويت لصالح مواطنيهم المشاركين، ثم بعد فوز تلك الساقطة يشاركون شعوبهم، ولكن ليس في معاناتهم أو قضاياهم الهامة، فقد تناسوا ذلك وضيّعوا تلك الأمانة، بل يشاركونهم في أفراحهم، فيتصلون بتلك الساقطة مباركين ومهنئين، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
وجدير إذا الليوث تولّت أن يليَ ساحها جموع الثعالب
وليتَ الأمر توقّف عند هذا الحد، بل إنه ازداد سوءًا، فظهر ما يسمّى بعد ذلك بـ"ستار أكاديمي" أو "عار أكاديمي"، إنه عارٌ ودمار، وهي قناة مستقلة تعلن الحربَ على الأخلاق، إنهم يعبثون بالأخلاق، قناة ساقطة على شاكلة تلك القنوات الأخرى، فكرتها فرنسية، تقوم بجمع مجموعة من الشبان والشابات، نساء ساقطات وأشباه رجال، يجتمعون في بيت واحد، لا يحكمهم قيم أو أخلاق، ولا يردعهم دين ولا حياء.
تبثّ هذه القناة على مدار أربع وعشرين ساعة وتنقل كل ما يحدث في أرجاء ذلك البيت، حيث تنتشر الكاميرات في كلّ أنحاء البيت، تصوّر إقامتهم المختلطة المحرمة، وتنقل صوتًا وصورة حياتهم وهم يأكلون وهم يشربون، وهم يرقصون ويغنون، وهم يتحادثون ويتهامسون، تصورهم على الهواء مباشرة وهم يتبادلون أنواع اللهو غير البريء من القبَل والاحتضان، ثم إذا جاء وقت السحر ركزت الكاميرات على غرف نومهم، وحقيقة فإن نومهم غير مختلط، فأشباه الرجال في غرف نومهم، تراهم شبه عراة بلباس داخلي سفلي فاضح، والبنات في غرف نومهن، تراهن يتقلبن ذات اليمين وذات الشمال، وتراهن يتبطحن تارة ويستلقين تارة أخرى...
ويا للعار، إنهم يعبثون بالأخلاق، يعبثون بأخلاق أبناء الأمة، يعبثون بأخلاق بنات الأمة، ويستمر اعتكافهم على ذلك المجون في ذلك المكان والتصوير مستمر كذلك طيلة مكوثهم اعتكافهم لمدة ثلاثة أشهر، إنّ شريعة الإسلام لا تعرف من الاعتكاف إلا ما عرفته عن نبيها حيث كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان، وفعل ذلك الصحابة رضي الله عنهم، ثم تبعهم الصالحون إلى هذا اليوم، وهو انقطاع العبد عن الدنيا وشواغلها في بيت من بيوت الله، ويتفرغ لعبادة ربه تبارك وتعالى، أما ما يشاهد من خلال هذه القناة الخبيثة فهو اعتكاف على حرام، اعتكاف على عبث أخلاقي، عبث من أبناء الأمة وبنات الأمة، يعتكفون أشهرًا في مثل هذا المستنقع، والذين لا يشاركون يعكفون على مشاهدة هذه المهزلة بالساعات والساعات.
لقد انتشر هذا البلاء، فأصبح همّ الكثيرين مشاهدة ما يحدث كل يوم لفلان أو فلانة، كيف كانت حركاته وحركاتها، كيف كانت رقصاتهم وسهرتهم وغنائهم، ولا يقتصر الأمر كما تظنون في مشاهدته على الشباب فقط أو الشابات، بل إنه لمختلف المراحل العمرية، تحرص على مشاهدة هذا الدمار وهذا العار، فأصبح الكثير من الشابات يتابعن بلهفة عجيبة ما يحدث يوميًا في تلك القناة، ويتمنين أن يكنّ مثل تلك الفتاة، ويتمنين أن تتاح لهن الفرصة للمشاركة وللغناء والرقص وإقامة العلاقات المحرمة مع أشباه الرجال، مع الحرص على التصويت للشبان، وكذلك الحال بالنسبة للشباب.
لقد أصبح هذا العبث وهذا العار حديثَ المجالس بين الطالبات في مختلف المراحل الدراسية الابتدائية والثانوية والجامعية حتى بين المعلمات وبين كثير من الأمهات، فأصبح الحديث في اجتماعهن ومجالسهن هو ذلك العبث وعن حلقة البارحة وما حدث فيها، لقد انتشر في هذه الأوساط حتى بين الشباب الذكور، انتشر في هذه الأوساط وفي طبقات المجتمع كلها، انتشر كانتشار النار في الهشيم.
تحدثت إحدى المعلمات الفاضلات فتقول: دخلت على طالبات في الصف الرابع الابتدائي بدلاً من معلمة أخرى، قالت: فسألت إحداهن عن أمنتيتها في المستقبل، فقالت تلك الصغيرة: أتمنى أن أكون مثل فلانة، قالت المعلمة: ومن تكون هذه؟ قالت الطالبة: هذه فتاة تظهر في قناة "ستار أكاديمي"، قالت: ثم سألت زميلتها التي بجانبها نفس السؤال، فأجابت بنفس الإجابة أنها تتمنى أن تكون مثل فلانة.
فأين أنتم أيها الآباء والأمهات؟ اتقوا الله عز وجل ولا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم.
إن ما يبث عبر هذه القنوات الفضائية أمرٌ خطير، حرب على العقيدة وعلى الأخلاق. إنهم يعبثون بالأخلاق ويدمرون العقيدة.
وذكر أحد الكتاب الخليجين في إحدى الصحف أن إحدى الفضائيات العربية كانت تبث على الهواء مباشرة مشهدًا يسجد فيه مطرب خليجي شاب لمطربة عربية، وذلك فرحًا بدخولها لقاعة الاحتفال، يقدم لها ولاء السجود على طريقة الديانات الوثنية الشرقية في مد يديه إلى الأمام والانحناء لمولاته، أولئك هم عبدة الجسد، إنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
لقد سقط كثير من الشباب أمام الإغراءات وأمام الشهوات، فأي شرع وأي دين يقر ذلك الفعل؟! بل أي قيم وأعراف تقر ذلك السعار الجسدي؟!
أتريدون أبناءكم وبناتكم يشاهدون تلك المشاهد؟! !ترضون أن يشاهدوا ذلك العبث الأخلاقي؟!
ثم يزداد العبث بأخلاق أبناء الأمة فتظهر قناة أخرى على شاكلة ذلك العار والدمار، ومكانها في إحدى دول الخليج، وتسمى باسم "الرئيس" أو "بيق برذر" Big Brother، وهي على نفس النمط، ويحمل نفس الفكرة، وتسعى لنفس الأهداف الساقطة والأغراض الخبيثة، ثم استمعوا لاستهزائهم ولخبثهم، ذكرت إذاعة البي بي سي البريطانية نبأ افتتاح هذه القناة، ثم ذكرت أنه تمشيًا مع الأعراف والتقاليد والآداب الإسلامية والعربية فإنه يوجد في ذلك البيت مكان التصوير مكان العهر والفجور يوجد مصلّى للصلاة، فأي آداب في ذلك المكان؟! وأي أعراف وتقاليد في ذلك المكان؟! فكيف يجتمع المصلى مكان الصلاة بجانب مكان الدعارة والبغاء أكرمكم الله؟! وصل الأمر إلى أن يستهزأ بعقولنا، إنه استهزاء واستخفاف بعقول المسلمين.
ولا عجب فما حصل هذا إلا بعد سكوت الفضلاء من المسلمين عن هذه التفاهات من بدايتها بعد أن رأوا سخافة الشعوب التي تحرص على مشاهدة هذا العبث، والسذج من النساء والرجال الذين يحرصون على المشاهدة والمشاركة في التصويت، يتحدثون في مجالسهم عن تدين فلان وهو أحد المشاركين في البرنامج، يقولون: فلان متديّن رأيته يصلي بالأمس، فهو يحافظ على الصلاة وإنه متديّن.
وأي صلاة تلك الصلاة التي لا تنهاهم عن فحشاء ولا منكر؟! أي صلاة تلك الصلاة التي لا تخرجه من ذلك المرتع الوخيم وذلك المستنقع القدر؟! ولا تعجبوا من ذلك فالأمور مدروسة وقد خطط لها ولكنها بالتدريج.
فعندما يتقبل المشاهد مثل هذه اللقطات والضمّات والغمزات واللمزات واللمسات غير البريئة، ويشاهد ويتقبل القبلات الساخنة واللهو الفاضح، فلا تستغربوا بعد ذلك إذا ظهرت قنوات للإباحية وممارسة الجنس والشذوذ، ووالله إن الأمر ليس ببعيد.
إن ما يحدث ـ أيها الفضلاء ـ عبث بأخلاق الأمة، يعلّمون الفتيات أصول العهر والفجور والبغاء بالمجّان وعلى الهواء مباشرة، والشباب يتعلمون كيف يتخنّثون نزّه الله أسماعكم، إنها الحقيقة المرة.
إنها حرب على العفاف وهدم للحياء وسحق للفضيلة والقيم الطيبة، إنها إبادة للمعتقدات وهدم للأخلاق والشمائل الحميدة، إنها حرب على الطيبين والطيبات، حرب على المسلمين والمسلمات، إنهم يهدفون لذلك كلة، والأمر ليس للتهوين من أمر الاختلاط فحسب، بل إنهم يريدون أن يجعلوا من الاختلاط المحرم أمرًا طبيعيًا يجب أن يعيشه الشبان والشابات فيزرعونه في قلوبهم ونفوسهم.
يريدون أن يصوروا أن الاختلاط هو الوضع المألوف الذي يجب أن تقر به الأديان والمعتقدات، ويجب أن ترضى به التقاليد والأعراف والعادات، ويجب أن نسلم به كأحد الموروثات، وأن يتقبله ويتعايش معه الآباء والأمهات، بعدها تصبح الفضيلة رذيلة والرذيلة فضيلة، والحياء عقدة نفسية وغباء، والطهر والعفاف رجعيه، فينسلخ المجتمع عن كل قيمه وعاداته ومعتقداته، ويصبح بلا هوية ولا حول ولا قوة إلا بالله.
أسأل الله عز وجل أن يحفظنا وأعراضنا والمسلمين، ويردنا جميعًا إليه ردًا جميلاً.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين، وفاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أنّ محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين، وسلّم تسليمًا كثيرًا.
يجب على كلّ محب للفضيلة وكل غيور وكلّ صاحب خلق كريم أن ينكر بقدر استطاعته، ينكر مثل هذه التصرفات السخيفة، وأن يحاربها بقدر استطاعته.
وذلك من خلال إخراجه من بيته لمثل هذه القنوات وإزالتها، ويجب على صاحب كل قلم أن يتقي الله عز وجل فيبين الحقيقة، وأن يحذر أبناء الأمة مما يحاك بهم وما يخطط لهم.
يجب أن يحاربوا مثل هذه البرامج، ويحذروا الناس من خلال كتاباتهم عن مثل هذه المستنقعات الخبيثة، إننا نطالب صاحب كل سلطة بمنع هذه التفاهات وبإيقاف هذا العبث الأخلاقي، والدولة ـ وفقها الله ـ حريصة على الحفاظ على دينها وعقيدتها وتقاليدها، وكذلك حريصة على أخلاقيات أبنائها، فكما كنا نطالب بإلغاء تلك القناة الخبيثة التي تسمّي نفسها بالإصلاح وهي أساس الفساد والإفساد، وتم بحمد الله منعها وإزالتها وإيقاف بثها، وذلك حفاظًا على أمن البلاد وحفاظًا على عقيدتها وعلى شبابها، فإننا نطالب بإلغاء هذه القنوات الخبيثة وإيقافها حفاظًا على عقيدة أبنائنا وبناتنا، حفاظًا على أخلاقياتهم، حفاظًا على أسرنا ومجتمعاتنا، حفاظًا على أمننا الأخلاقي، والمسؤولون حريصون على ذلك بإذن الله عز وجل، أسأل الله عز وجل أن يوفقهم لإزالة كل منكر.
ومن خلال هذا المنبر أوجه رسالة إلى كلّ من يقوم بدعم وتمويل هذه القنوات الساقطة، إلى كل من يساهم في نشر هذا العبث الأخلاقي، إلى صانعي هذا الإعلام، إلى عملاء التغريب، إلى عملاء الشيطان، إلى من يروّجون العهر والمنكر والفساد، ليتقوا الله عز وجل، إنكم بصنيعكم هذا تقعون في أمر عظيم، فعليكم الوزر وكذلك أوزار من وقع وسقط في مثل هذه المستنقعات القذرة.
فاتقوا الله عز وجل، إن الأمة في أشد الحاجة لمن يوجّه أبناءها وبناتها إلى الطريق الصحيح، إلى طريق النور في هذه الظلمات المدلهمة. إن الأمة في أشد الحاجة إلى إعلام يحمل همّ الأمة، يدافع عن عقيدتها وعن قيما وأعرافها وتقاليدها، الأمة في أشد الحاجة إلى إعلام هادف يوضح الحقائق ويكشف الشبهات والملابسات، إعلام يدافع عن قضاياها وعن مقدساتها وأراضيها، نحتاج إلى إعلام يكون أداة بِناء للأمة، لا معول هدم لها.
إني أذكّركم وأحذركم بقوله تبارك وتعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ [الأنفال:36].
يكفي الأمة ما فيها من جرحات وآلام، يكفيها ما تعانيه من فتن وبلاء، يكفيها أعداؤها من الخارج الذين لا يرقبون في مؤمن إلاًّ ولا ذمّة، كفاكم عبثًا بأخلاق أبناء أمتكم، كفاكم تدميرا للناشئة من أبناء الأمة، والمصيبة أن يأتي هذا الطعن في هذا الجسد الجريح في جسد الأمة المكلوم من قبل أبنائها وبأموال أبنائها.
وظلم ذوي القربى أشد مضاضة على النفس من وقع الحسام المهند
وأحذركم أنكم بصنيعكم هذا تتعرضون لعقاب الله عز وجل في الدنيا والآخرة، فالله عز وجل يقول: إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النور:19].
أسأل الله عز وجل أن يصلح فساد قلوبنا وقلوبكم.
وأنتم معاشر الأباء والأمهات، كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، اتقوا الله عز وجل فيمن تحت أيديكم، اعلموا أنها أمانة عظيمة، اعلموا أنكم ستقفون بين يدي الله عز وجل في موقف عظيم، في موقف مهول، يشيب فيه الصغير، يوم لا يجزي والدٌ عن ولده ولا مولود هو جازٍ عن والده شيئًا، يوم تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد، يوم تكونون في أمس الحاجة إلى مثقال ذرة من حسنة وأنت على تلك الحال، فإذا بك تسأل عن أسباب فساد أبنائك وبناتك، يوم يتعلقون بك يوم القيامة ويأخذون بتلابيبك يقولون: يا رب لقد أضاع الأمانة، يا رب كان سببًا في انحرافنا، يا رب كان سببًا في ضياعنا، وذلك كله بسبب ما جلبته لهم من وسائل ترفيه وتسلية محرمة.
وأنت ـ أيها المسكين الضعيف ـ لا تستطيع أن تدافع عن نفسك، فأقرب الناس لك هم خصماؤك، هم الذين يبحثون عن مثقال ذرة من حسنة ليأخذوها منك كي ينجوا من عذاب الله، فتلتفت يمينك فلا ترى إلا النار، وتلتفت شمالك فلا ترى إلا النار، يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْويهِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنجِيهِ كَلاَّ إِنَّهَا لَظَى نَزَّاعَةً لِلشَّوَى [المعارج:11-16].
فاعلموا ـ أيها الآباء ـ أنكم موقوفون، وأنكم ستسألون، فأخرجوا تلك المنكرات من بيوتكم حفاظًا على أبنائكم وبناتكم فالأمر جد خطير.
يا من جلبت الدشّ رفقًا إنما أفسدتَ ما في البيت من غلمان
خنت الأمانة في الشباب وفي النسا وجعلت بيتك منتدى الشيطان
خنت الأمانة في البنات ولن ترى منهن برًا إنهن عواني
ترضى لنفسك أن تكون مفرطًا في الدين والأخلاق والإيمان
ترضى لنفسك أن تكون مزعزعا لقواعد الإسلام والإيمان
ترضى لنفسك أن تكون مروجا لبضاعة الكفران والخسران
أفسدت ما في البيت من أخلاقه أذهبت ما في البيت من إحسان
أدخلت في البيت الضلال مع الخنا والفسق بعد تلاوة القرآن
وأنتم أيها الشباب والشابات، اتقو الله تبارك وتعالى واعتصموا بكتابه وبسنة نبيه ، واعلموا أنكم مستهدفون من أعداء الأمة، وأن هدفكم في هذه الحياة أسمى مما يراد بكم، وإياكم ثم إياكم أن يكون قدوتكم الفسقه وأشباه الرجال وليسوا برجال، ولا تكن قدوتكنّ تلك الساقطة فقدوتنا جميعا محمّد ، والمرءُ يحشر مع من أحب، حشرنا الله وإياكم في زمرته وتحت لوائه.
واعلموا ان هذه القنوات فتنة عظيمة وبلاء عظيم، وأذكركم بكلمة عظيمة لطلق بن حبيب رحمه الله، قال: "إذا عُرضت عليكم الفتنة فأاطفئوها بتقوى الله عز وجل"، واعلموا أنها مؤامرة كبرى، مؤامرة تدور على الشباب ليعرض عن معانقة الحراب، مؤامرة تقول لهم: تعالوا إلى الشهوات في ظل الشراب، مؤامرة مراميها عظام تدبرها شياطين الخراب. فالحذر الحذر من ذلك كله.
أسأل الله عز وجل أن يحفظنا وأن يحفظ أبنائنا وبناتنا وأبناء المسلمين وبناتهم، وأن يردنا إليه جميعا ردًا جميلا.
هذا وصلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة عليه فقال عز وجل: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
ـــــــــــــــــــ(68/54)