صلة الرحم
...
...
3387
...
الأسرة والمجتمع
...
...
الأرحام
...
عبد المحسن بن محمد القاسم
...
...
المدينة المنورة
...
3/11/1424
...
...
المسجد النبوي
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- عناية الإسلام ببناء المجتمع المتلاحم. 2- الأمر بصلة الرحم. 3- تقديم حق الأرحام. 4- فضل صلة الأرحام. 5- سبل صلة الرحم. 6- ضرورة الصبر على ذي الرحم. 7- التحذير من القطيعة.
الخطبة الأولى
أمّا بعد: فاتّقوا الله ـ عبادَ الله ـ حقّ التقوى، فبتقوى الله تُستجلَبُ النّعم، وبالبُعد عنها تحلّ النقَم.
أيّها المسلمون، يهدِف الإسلام إلى بناءِ مجتمعٍ إسلاميّ متراحمٍ متعاطِف، تسودُه المحبّةُ والإخاء، ويهيمِن عليه حبّ الخيرِ والعَطاء.
والأسرةُ وحدة المجتمع، تسعَد بتقوى الله ورعايةِ الرّحِم، اهتمّ الإسلامُ بتوثيق عُراها وتثبيتِ بنيانها، فجاء الأمر برعايةِ حقّها بعدَ توحيد الله وبرّ الوالدين، قال جلّ وعلا: وَاعْبُدُواْ اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِى الْقُرْبَى [النساء:36]. وقُرِنَت مع إفراد الله بالعبادةِ والصّلاة والزّكاة، عن أبي أيّوب الأنصاريّ رضي الله عنه قال: جاء رجلٌ إلى النبيّ فقال: أخبِرني بعملٍ يدخلني الجنّة، قال: ((تعبد الله ولا تشرِك به شيئًا، وتقيمُ الصلاة، وتؤتي الزكاةَ، وتصِلُ الرّحم)) متفق عليه[1].
أُمِرَت الأمم قبلَنا بصِلة أرحامِها، قال سبحانه: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِى إِسْرءيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِى الْقُرْبَى [البقرة:83]، ودَعا إلى صِلتها نبيّنا محمّد في مَطلع نبوّته، قال عمرو بن عبَسَة: قدمتُ مكّةَ أوّلَ بعثةِ النبيّ ، فدخلتُ عليه فقلت: ما أنت؟ قال: ((نبيّ))، قلت: وما نبيّ؟ قال: ((أرسَلَني الله))، قلت: بِمَ أرسلك؟ قال: ((بصلةِ الأرحام وكسرِ الأوثان وأن يُوحَّد الله)) رواه الحاكم[2]، وسأل هرقل أبا سفيان عن النبيّ : ما يقول لكم؟ قال: يقول: ((اعبُدوا الله وحدَه ولا تشركوا به شيئًا))، ويأمرنا بالصّلاة والصِّدق والعَفاف والصّلَة. متفق عليه[3].
وأمَر بها عليه الصلاة والسلام أوّلَ مقدمِه إلى المدينة، قال عبد الله بن سلام: لمّا قدم النبيّ المدينةَ انجفلَ الناس إليه ـ أي: ذهَبوا إليه ـ فكان أوّل شيء سمعتُه تكلَّم به أن قال: ((يا أيّها الناس، أفشوا السّلام، وأطعِموا الطّعام، وصِلوا الأرحامَ، وصَلّوا بالليل والنّاس نِيام، تدخلوا الجنّة بسلام)) رواه الترمذيّ وابن ماجه[4]. وهي وصيّة النبيّ ، قال أبو ذر: أوصاني خليلِي بصِلة الرّحم وإن أدبَرت. رواه الطبراني[5].
صِلة ذوي القربَى أمارةٌ على الإيمان، ((من كان يؤمِن بالله واليومِ الآخر فليصِل رحِمَه)) متفق عليه[6]. وقد ذمّ الله كفّارَ قريش على قطيعةِ رحمِهم فقال عنهم: لاَ يَرْقُبُونَ فِى مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً [التوبة:10].
القيامُ بها برٌّ بالوالدَين وإن كانوا أمواتًا، جاء رجل إلى النبيّ فقال: يا رسول الله، هل بقيَ من برّ أبويَّ شيءٌ أبرّهما به بعد موتهما؟ قال: ((نعم، الدعاءُ لهما، والاستغفار لهما، وإنفاذُ عهدِهما مِن بعدهما، وصِلة رحمِك التي لا رحمَ لك إلاّ من قِبَلهما)) رواه أبو داود[7].
خلق الله الرحمَ، وشقَقَ لها اسمًا من اسمِه، ووعَد ربُّنا جلّ وعلا بوصلِ مَن وصلَها، ومَن وصَله الرحيمُ وصلَه كلُّ خير ولم يقطَعه أحد، ومن بَتَره الجبّار لم يُعلِه بشرٌ وعاشَ في كَمَد، وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ [الحج:18].
والله يُبقي أثرَ واصلِ الرّحم طويلاً، فلا يضمحِلّ سريعًا كما يضمحِلّ أثر قاطعِ الرّحم، قال النبيّ : ((قال الله للرّحم: أما ترضينَ أن أصلَ من وصلك وأن أقطعَ من قطعك؟ قالت: بلى، قال: فذاك لك)) متفق عليه[8]، ((والرحمُ معلّقة بالعرش تقول: مَن وصلني [وصله الله]، ومن قطعني [قطعه الله]))[9].
صلةُ الرّحم تدفَع بإذن الله نوائبَ الدّهر، وترفع بأمرِ الله عن المرء البَلايا، لمّا نزل على المصطفى اقْرَأْ بِاسْمِ رَبّكَ الَّذِى خَلَقَ [العلق:1] رجع بها ترجِف بوادرُه حتّى دخل على خديجةَ فقال: ((زمِّلوني))، فأخبرَها الخبَر، وقال: ((قد خشيتُ على نفسِي))، فقالت له: كلاّ والله، لا يخزيكَ الله أبدًا؛ إنّك لتصلُ الرّحم، وتحمِل الكَلّ، وتكسِب المعدومَ، وتَقري الضّيف. رواه البخاري[10].
أمَرَ الله بالرّأفة بهم كما نرأَف بالمِسكين، قال عزّ وجلّ: وَءاتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ [الإسراء:26]. حقُّهم في البذلِ والعطاء مقدّمٌ على اليتامَى والفقراء، قال سبحانَه: يَسْئَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُم مّنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنِ السَّبِيلِ [البقرة:215]. السخاءُ عليهم ثوابٌ مضاعفٌ من ربِّ العالمين، قال عليه الصّلاة والسّلام: ((الصدقةُ على المسكين صدقة، وعلى القريب صدقةٌ وصِلة)) رواه الترمذي[11]. وأوّلُ مَن يُعطَى مِن الصدقة هم الأقربون مِن ذوي المَسكنَة، تصدّق أبو طلحة رضي الله عنه ببستانِه، فقال له النبيّ : ((أرَى أن تجعلَها في الأقربين))، فقسمَها أبو طلحة على أقاربِه وبني عمّه. متفق عليه[12]. يقول عليّ رضي الله عنه: (لأن أصِل أخًا مِن إخواني بدِرهم أحبّ إليّ من أن أتصدّق بعشرين درهمًا)[13].
الباذلُ لها سخيُّ النّفس كريم الشّيَم، يقول الشعبيّ رحمه الله: "ما ماتَ ذو قرابةٍ لي وعليه دينٌ إلاّ وقضيتُ عنه دينه"[14].
الجارُ من ذوي الأرحام أخصُّ بالرّعاية والعنايةِ مِن غيره، قال سبحانه: وَالْجَارِ ذِى الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنْبِ [النساء:36].
دعوتُهم وتوجيهُهم وإرشادهم ونُصحهم ألزمُ من غيرِهم، قال جلّ وعلا: وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ [الشعراء:214]. وإكرامُ ذوي القراباتِ مأمور به على أن لا يكونَ في التّقديم بخسٌ لأحدٍ أو هضمٌ لآخرين، قال سبحانه: وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى [الأنعام:152].
في صلةِ الرّحم ثمراتٌ هي أسُسٌ في بِناء الحياة؛ محبّة الأهل، بَسط الرّزق، بركةُ العُمر، يقول : ((صِلة الرّحم محبّةٌ في الأهل، مثراة في المالِ، منسَأَة في الأثر)) رواه أحمد[15]، وعند البخاريّ ومسلم: ((من أحبَّ أن يُبسَط له في رزقه ويُنسَأ له في أثَره فليصِل رحمَه))[16]، قال ابن التّين: "صلةُ الرّحم تكون سببًا للتوفيقِ والطاعة والصيانة عن المعصيةِ، فيبقى بعدَه الذكرُ الجميل فكأنّه لم يمُت"[17].
صِلتُها عبادةٌ جليلة مِن أخصِّ العبادات، يقول عمرو بن دينار: "ما مِن خطوة بعد الفريضةِ أعظمُ أجرًا من خطوةٍ إلى ذي الرّحم"[18]. ثوابُها معجَّل في الدنيا ونعيمٌ مدَّخرَ في الآخرة، قال : ((ليس شيء أُطِيع الله فيه أعْجَل ثوابًا من صِلةِ الرحم)) رواه البيهقيّ[19].
والقائمُ بحقوقِ ذوي القربَى موعودٌ بالجنّة، يقول عليه الصلاة والسلام: ((أهلُ الجنة ثلاثة: ذو سلطانٍ مُقسط، ورجلٌ رحيم رقيقُ القلب بكلّ ذي قُربى ومسلم، ورجلٌ غنيّ عفيف متصدِّق)) رواه مسلم[20].
بصلتِهم تقوَى المودَّة وتزيدُ المحبَّة وتتوثَّق عُرى القرابةِ وتزول العداوة والشّحناء، فيها التعارفُ والتواصلُ والشعور بالسّعادة.
صِلة الرّحم والإحسان للأقربين طرقُها ميسَّرة وأبوابها متعدِّدة، فمِن بشاشةٍ عند اللّقاء ولينٍ في المُعاملة، إلى طيبٍ في القول وطلاقةٍ في الوجه، زياراتٌ وصِلات، مشاركةٌ في الأفراح ومواساةٌ في الأتراح، وإحسان إلى المحتاج، وبذل للمعروف، نصحُهم والنّصح لهم، مساندةُ مكروبِهم وعيادة مريضهم، الصفحُ عن عثراتهم، وترك مضارّتهم. ولا يكن أهلُك أشقى الخلقِ بك، والمعنى الجامِع لذلك كلّه إيصالُ ما أمكَن من الخير، ودفعُ ما أمكنَ منَ الشرّ.
صلةُ الرّحم أمارةٌ على كَرَم النّفس وسَعَة الأفُق وطيبِ المنبَتِ وحُسن الوَفاء، ولهذا قيل: مَن لم يصلح لأهلِه لم يصلح لك، ومَن لم يذبّ عنهم لم يذبَّ عنك. يقدِم عليها أولو التّذكرة وأصحاب البصيرة، أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الألْبَابِ [الرعد:19].
أيّها المسلمون، إنّ ذوي الرّحِم غيرُ معصومين، يتعرّضون للزّلَل، ويقَعون في الخَلل، وتصدُر منهم الهَفوة، ويقَعون في الكبيرة، فإن بَدَر منهم شيءٌ من ذلك فالزَم جانبَ العفوِ معهم، فإنَّ العفوَ من شِيَم المحسنين، وما زادَ الله عبدًا بعفو إلاّ عِزًّا، وقابِل إساءَتهم بالإحسان، واقبل عُذرَهم إذا أخطؤوا، لقد فعل إخوة يوسفَ مع يوسفَ ما فعلوا، وعندما اعتذروا قبِل عذرهم وصفَح عنهم الصفحَ الجميل، ولم يوبِّخهم، بل دعا لهم وسأل الله المغفرةَ لهم، قال: لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرحِمِينَ [يوسف:92].
غُضَّ عن الهفواتِ، واعفُ عن الزّلاّت، وأقِلِ العثرات، تجنِ الودَّ والإخاء واللينَ والصفاء، وتتحقَّق فيك الشهامةُ والوفاء. داوِم على صِلة الرّحم ولو قطعوا، وبادِر بالمغفرة وإن أخطؤوا، وأحسِن إليهم وإن أساؤوا، ودَع عنك محاسبةَ الأقربين، ولا تجعَل عِتابَك لهم في قطعِ رحمِك منهم، وكُن جوادَ النّفس كريمَ العطاء، وجانب الشحَّ فإنّه من أسباب القطيعة، قال عليه الصلاة والسلام: ((إيّاكم والشّحَّ؛ فإنّ الشحّ أهلك من كان قبلكم؛ أمرهم بالبُخل فبخلوا، وأمرهم بالظّلم فظلموا، وأمرهم بالقطيعةِ فقطعوا)) متفق عليه[21].
إنّ مقابلةَ الإحسانِ بالإحسان مكافأةٌ ومجازاة، ولكن الواصلَ من يَتفضَّل على صاحبِه، ولا يُتَفضّل عليه، قال عليه الصلاة والسلام: ((ليسَ الواصل بالمكافئ، ولكنّ الواصلَ مَن إذا قطعَت رحمُه وصَلها)) رواه البخاري[22]. قيل لعبد الله بن مُحَيريز: ما حقّ الرّحم؟ قال: "تُستَقبَل إذا أقبَلت، وتُتْبَع إذا أدبَرت"[23]، وجاء رجلٌ إلى النبيّ فقال: يا رسولَ الله، إنّ لي قرابةً أصِلهم ويقطعونني، وأُحسِن إليهم ويسيؤون إليّ، وأحلم عليهم ويجهَلون عليّ، فقال عليه الصلاة والسلام: ((لئن كان كما تقول فكأنّما تسِفُّهم المَلّ، ولا يزال معك من الله ظهير ما دمتَ على ذلك)) رواه مسلم[24].
وكلّ رحِم آتيةٌ يومَ القيامةِ أمامَ صاحبها، تشهَد له بصلةٍ إن كانَ وصلها، وعليه بقطيعةٍ إن كان قطعَها.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَأُوْلُواْ الأرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلّ شَىْء عَلِيمٌ [الأنفال:75].
بارَك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني الله وإيّاكم بما فيه من الآيات والذّكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر اللهَ لي ولكم ولجميع المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه إنّه غفور رحيم.
[1] صحيح البخاري: كتاب الزكاة (1396)، صحيح مسلم: كتاب الإيمان (13).
[2] أخرجه مسلم في صلاة المسافرين (832).
[3] صحيح البخاري: كتاب بدء الوحي (7)، صحيح مسلم: كتاب الجهاد (1773) عن ابن عباس رضي الله عنهما.
[4] سنن الترمذي: كتاب صفة القيامة والرقائق والورع (2485)، سنن ابن ماجه: كتاب إقامة الصلاة والسنة فيهما، باب: ما جاء في قيام الليل (1334)، وأخرجه أيضا أحمد (5/451)، وصححه الحاكم (3/14)، والمقدسي في الأحاديث المختارة (6/431)، وهو في صحيح سنن الترمذي (2019).
[5] المعجم الأوسط (7739)، وأخرجه أيضا أحمد (5/159، 173)، وصححه ابن حبان (449)، وقال الهيثمي في المجمع (10/263): "أحد إسنادي أحمد ثقات"، وقال في موضع آخر (8/154): "رجال الطبراني رجال الصحيح غير سلام بن المنذر وهو ثقة"، وحسن إسناده الألباني في تخريج أحاديث المشكاة (5187).
[6] أخرجه البخاري في كتاب الأدب (6138) عن أبي هريرة رضي الله عنه، وأخرج مسلم في الإيمان (48) أصله وليس فيه هذا الجزء.
[7] سنن أبي داود: كتاب الأدب (5142) عن أبي أسيد مالك بن ربيعة الساعدي رضي الله عنه، وأخرجه أيضا أحمد (3/497)، والبخاري في الأدب المفرد (35)، وابن ماجه في الأدب (3664)، والبيهقي (4/28)، وصححه ابن حبان (418)، والحاكم (7260)، لكن في سنده علي بن عبيد مولى أبي أسيد والراوي عنه، قال الذهبي في الميزان (5/174): "لا يعرف"، وقال الحافظ في التقريب: "مقبول"، والحديث أورده الألباني في ضعيف الأدب المفرد (5).
[8] صحيح البخاري: كتاب الأدب (5987)، صحيح مسلم: كتاب البر (2554) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[9] أخرجه مسلم في البر (2555) عن عائشة رضي الله عنها.
[10] صحيح البخاري: كتاب التفسير (4954) عن عائشة رضي الله عنها، وأخرجه أيضا مسلم في الإيمان (160).
[11] سنن الترمذي: كتاب الزكاة (658) من حديث سلمان بن عامر رضي الله عنه، وأخرجه أيضا أحمد (4/214)، والنسائي في الزكاة (2582)، وابن ماجه في الزكاة (1844)، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وصححه ابن خزيمة (2385)، وابن حبان (3514)، والحاكم (1/431-432)، ووافقه الذهبي، وهو في صحيح الترغيب (892).
[12] صحيح البخاري: كتاب الزكاة (1461)، صحيح مسلم: كتاب الزكاة (998) عن أنس بن مالك رضي الله عنه.
[13] انظر: إحياء علوم الدين (1/220).
[14] انظر: سير أعلام النبلاء (4/298-299).
[15] مسند أحمد (2/374) عن أبي هريرة رضي الله عنه، وأخرجه أيضا الترمذي في البر (1979)، وصححه الحاكم (7284)، وهو مخرج في السلسلة الصحيحة (276).
[16] أخرجه البخاري في الأدب (5986)، ومسلم في البر (2557) من حديث أنس رضي الله عنه.
[17] انظر: فتح الباري (10/416).
[18] أخرجه ابن أبي الدنيا في مكارم الأخلاق (245).
[19] السنن الكبرى (10/35) عن أبي هريرة رضي الله عنه، وأخرجه أيضا الخطيب في تاريخه (5/183)، وفي سنده اختلاف، فقد رواه معمر في جامعه (11/170 ـ مصنف عبد الرزاق ـ) عن يحيى بن أبي كثير مرسلا، قال البيهقي: "الحديث مشهور بالإرسال"، وانظر: السلسلة الصحيحة (978).
[20] صحيح مسلم: كتاب الجنة (2865) عن عياض المجاشعي رضي الله عنه نحوه.
[21] أخرجه أحمد (2/159، 191، 195)، وأبو داود في الزكاة (1698)، والنسائي في الكبرى (6/486) عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، وصححه ابن حبان (5176)، والحاكم (1516)، وهو في صحيح سنن أبي داود (1489).
[22] صحيح البخاري: كتاب الأدب (5991) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
[23] أخرجه ابن أبي الدنيا في مكارم الأخلاق (256).
[24] صحيح مسلم: كتاب البر (2558) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانِه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أنّ نبيّنا محمّدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه.
أمّا بعد: أيّها المسلمون، الروابطُ تزداد وُثوقًا بالرّحم، وقريبُك لا يَمَلّك على القرب ولا ينسَاك في البُعد، عِزّهُ عزٌّ لك، وذلّه ذلٌّ لك، ومعاداة الأقاربِ شرّ وبلاء، الرّابح فيها خاسِر، والمنتصِر مهزوم.
وقطيعة الرّحم مِن كبائر الذّنوب، متوَعَّد صاحبُها باللّعنةِ والثبور، قال تعالى: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ فِى الأَرْضِ وَتُقَطّعُواْ أَرْحَامَكُمْ أَوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ [محمد:22، 23]. التدابرُ بين ذوِي القربَى مؤذِنٌ بزوالِ النِّعمة وسوءِ العاقبةِ وتعجيل العقوبة، قال عليه الصلاة والسلام: ((لا يدخل الجنّةَ قاطع)) رواه البخاري[1]، قال ابن حجَر: "القاطعُ للرّحم منقطِعٌ مِن رحمة الله"[2].
عقوبتُها معجَّلة في الدّنيا قبلَ الآخرة، يقول النبيّ : ((ما مِن ذنبٍ أجدر أن يعجِّل الله لصاحبِه العقوبةَ في الدّنيا مع ما يدَّخره له في الآخرة من البغي ـ أي: الظلم ـ وقطيعة الرحم)) رواه الترمذي[3]. وهي سببٌ للذلّة والصّغار والضّعفِ والتفرّق، مجلبة للهمّ والغمّ.
قاطعُ الرّحم لا يثبُت على مؤاخاة، ولا يُرجَى منه وفاء، ولا صدقٌ في الإخاء، يشعر بقطيعةِ الله له، ملاحَقٌ بنظرات الاحتِقار مهما تلقَّى من مظاهِر التبجيل. لقد كان الصحابة رضي الله عنهم يستوحِشون مِن الجلوس مع قاطِع الرّحم، يقول أبو هريرة رضي الله عنه: (أحرِّج على كلِّ قاطعِ رحمٍ لَمَا قام من عندنا)[4]، وكان ابن مسعود رضي الله عنه جالسًا في حلقةٍ بعدَ الصبح فقال: (أنشد الله قاطعَ رحمٍ لَمَا قام عنَّا فإنّا نريدُ أن ندعوَ ربَّنا؛ وإنّ أبوابَ السماء مُرتَجَة ـ أي: مغلقة ـ دونَ قاطِع الرّحم)[5]. ومن كان بينه وبين رحمٍ له عداوة فليبادِر بالصّلة، وليعفُ وليصفح، فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ [الشورى:40].
وإنّ لحسنِ الخُلُق تأثيرًا في الصّلة، والزَم جانبَ الأدَب مع ذوي القربَى، فإنّ مَن حفظ لسانَه أراح نفسَه. وللهديّة أثر في اجتلابِ المحبّة وإثباتِ المودّة وإذهاب الضغائن وتأليف القلوب، والرأيُ الذي يجمَع القلوبَ على المودّة كَفٌّ مبذول وبرّ جميل، وإذا أحسنتَ القولَ فأحسِن الفعل ليجتمعَ معك فصاحةُ اللّسان وثَمَرةُ الإحسان.
ثمّ اعلموا أنّ الله أمركم بالصّلاة والسّلام على نبيّه، فقال في محكم التنزيل: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىّ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمّ صلِّ وسلِّم وزِد وبارك على نبيّنا محمّد، وارضَ اللهمّ عن خلفائه الراشدين...
[1] صحيح البخاري: كتاب الأدب (5984) عن جبير بن مطعم رضي الله عنه، وأخرجه أيضا مسلم في البر (2556).
[2] فتح الباري (10/418).
[3] سنن الترمذي: كتاب صفة القيامة (2511) من حديث أبي بكرة رضي الله عنه، وأخرجه أيضا أحمد (5/36)، وأبو داود في الأدب (4902)، وابن ماجه في الزهد (4211)، وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وصححه ابن حبان (455، 456)، والحاكم (2/356)، ووافقه الذهبي، وهو في السلسلة الصحيحة (918).
[4] أخرجه البخاري في الأدب المفرد (61)، والبيهقي في الشعب (6/224).
[5] أخرجه البيهقي في الشعب (6/224).
ــــــــــــــــــــ(67/188)
الكسب الطيب والكسب الخبيث
...
...
3246
...
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
...
...
البيوع, الكبائر والمعاصي, قضايا المجتمع
...
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
...
...
الرياض
...
25/5/1424
...
...
جامع الإمام تركي بن عبد الله
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- تكفّلُ الله تعالى برزق عباده. 2- التوكّل على الله تعالى في طلب الرزق. 3- الحكمة في تفضيل بعض الخلق على بعض في الرزق. 4- فضل القناعة وأهميتها. 5- الأمر باتخاذ الأسباب المباحة في طلب الرزق. 6- التحذير من المكاسب الخبيثة والحثّ على الكسب الطيب. 7- أسباب البركة في الرزق. 8- النهي عن التناجي بالإثم والعدوان. 9- التحذير من الأعداء المندسّين في الأمة.
الخطبة الأولى
أمّا بعد: فيا أيّها النّاس, اتّقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، يقول الله جلَّ جلاله: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُم مّن رّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [الذاريات:56-58]. فأخبرَنا تعالى أنّه الرزّاق لعباده، المتكفِّل برزقهم، فرزقُ العبادِ جميعًا بيد ربِّهم تعالى وتقدّس، لا بحولهم ولا بقوّتهم، فهو جلّ وعلا خلق الخلقَ وتكفَّل بأرزاقهم: وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الأرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِى كِتَابٍ مُّبِينٍ [هود:6]، وَكَأَيّن مّن دَابَّةٍ لاَّ تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ [العنكبوت:60].
وقد أمَرَنا تعالى أن نطلبَ الرزقَ منه: فَابْتَغُواْ عِندَ اللَّهِ الرّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُواْ لَهُ [العنكبوت:17].
والعبدُ يعلّق بالله أملَه، وثقتُه فيما عند الله أعظمُ من ثقتِه فيما بيده، فهو لا يؤمِّل في المخلوق، مهما علت منزلته وعظُمت قدرته، لا يعلِّق أملَه بأحدٍ من الخلق, وإنما يعلِّق أملَه بربّه، ويعلم أنّه لا مانعَ لما أعطى الله، ولا معطيَ لما منع الله، ولِذا في الأثرِ عن ابن عباس: (إنّ من ضعفِ اليقين أن تُرضيَ الناسَ بسخطِ الله، وأن تحمَدَهم على رزقِ الله، وأن تذمَّهم على ما لم يؤتك الله، إنّ رزقَ الله لا يجرّه حرصُ حريص، ولا يردّه كراهيةُ كاره)[1].
فما قدّر الله لك من الرّزق فإنّه حاصلٌ لك، وما صرفه عنك فلن تنالَه، والخلقُ لو اجتمَعوا على أن يوصِلوا إليك نفعًا ما أراد الله حصولَه لك لم يمكِن ذلك، ولو أرادوا أن يضرّوك بشيء ما قدّر الله ذلك فلن يستطيعوا لذلك سبيلاً.
أيّها المسلم، تفكّر في حِكمة الله أن جعَل البعضَ أغنياء والبعضَ فقراء وما بين ذلك، وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ في الْرّزْقِ [النحل:71]، قُلْ إِنَّ رَبّى يَبْسُطُ الرّزْقَ لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ [سبأ:36].
وهذا مِن كمالِ حكمتِه جلّ وعلا، فهو العليمُ بمصالح عبادِه، المقدِّر لهم كيفَما شاء بكمال حكمته وكمال رحمتِه وكمال عدله، فأيّ أمرٍ صرِف عنك فاعلم أنّ لله حكمةً في ذلك، وأيّ شيء قدِّر لك فاعلم أنّ لله حكمة في ذلك.
أخي المسلم، فكن راضيًا بما قسَم الله لك، ولا تكن جزِعًا، ولا تكن طامعًا فيما بأيدي الناس، وإنما تكون ثقتُك بربّك جلّ وعلا، وقناعتك بما أعطاكَ الله.
أخي المسلم، والله حكيمٌ عليم في توسيع الرّزق وتضييقِه على بعض العباد، وفي الأثر: ((إنّ من عبادي من لو أغنيتُه لأفسدتُ عليه دينَه، وإنّ من عبادي من لو أفقرتُه لأفسدتُ عليه دينَه))[2]، قال جلّ وعلا: وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْاْ في الأَرْضِ وَلَاكِن يُنَزّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَاء [الشورى:27].
أخي المسلم، ليسَ المهمّ أن يكثرَ المال ويتّسِع الغنى، المهمّ أن يجعلَ الله في قلبك قناعةً ورضًا بِقَسْم الله, وأن تطمئنَّ نفسك بذلك، فكم من مالٍ أشغل أهلَه عمّا يجِب عليهم، وصدَّهم حتى عن مصالحِ أنفسهم ومصالح أولادهم، وكم من مالٍ أشقى أهلَه، فحملهم على الطغيان والأشَر والبطر، وأفقدهم قوّة الإيمان, وجعلهم يشتغلون بالحطام الفاني عمّا فيه خيرُهم وصلاحهم في دينهم ودنياهم.
أيّها المسلم، تأمّل قولَ النبيّ : ((ليسَ الغِنى عن كثرةِ العَرَض، إنما الغِنى غِنى النّفس))[3]. فمن أغنى الله قلبَه, ورزقه الطمأنينةَ والرضا بما قسَم الله له, وبذل الأسبابَ النافعة، فإنّه يعيش مطمئنًّا قريرَ العين مرتاحَ البال, ومن فقَد ذلك عاشَ في همّ وغمّ ولو اجتمعَت له الدنيا بأسرها.
أخي المسلم، لا تلهيَنَّك الدنيا بزخارفها، ولا تشغلنَّك ملذّاتها. وكن ـ يا أخي المسلم ـ متبصّرًا في أمرك، ناظرًا إلى من هو دونك في الرّزق والعافية، فإنّ نظرَك إلى من هو دونك يعطيك قناعةً بقسْم الله، وإن نظرتَ إلى مَن هو أعلى مِنك ازدريتَ نعمةَ الله عليك، كما أخبر بذلك النبيّ [4].
أخي المسلم، ليكن عندَك ميزانُ صدقٍ تعرف به الحلالَ من الحرام، وتميّز به الخبيثَ من الطيّب، فلا يهولنَّك الحرام وإن كثر، قُل لاَّ يستوي الْخَبِيثُ وَالطَّيّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ [المائدة:100].
أخي المسلم، الله جلّ وعلا أمرك بطلبِ الرّزق, وأمرك بالأخذ بالأسبابِ التي تحصِّل لك المقصود: فَامْشُواْ فِى مَنَاكِبِهَا وَكُلُواْ مِن رّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ [الملك:15]، ويقول جلّ وعلا: وَءاخَرُونَ يَضْرِبُونَ في الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ وَءاخَرُونَ يُقَاتِلُونَ في سَبِيلِ اللَّهِ [المزمل:20]، فقرن بينَ الأمرين، بين الضاربين ابتغاءَ فضلِ الله، وبين الساعين في الجهادِ في سبيل الله. فطلبُ الرزق وابتغاؤه والأخذ بالأسباب أمرٌ مطلوب شرعًا، ولكنّ المسلم أسبابُ طلب الرزق عنده بالطّرق التي أباحها الشرع له، أمّا الأسباب المحرّمة فإنّه يبتعِد كلَّ البعد عنها. المسلم يطلب الرزقَ لكن بالطّرق المأذونة شرعًا، ويبتعِد عن الطرق المحرّمة شرعًا.
أخي المسلم، مِن المكاسِب المحرّمة مكاسبُ الربا، فالمؤمن يتّقي الربا بكلّ أحواله، ولا يغرّنَّه أن يكونَ الربا فيه المكاسب العظيمة، فهو يتّقي الله قبلَ كلّ شيء, ويتذكّر قول الله: ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِىَ مِنَ الرّبَوااْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [البقرة:278، 279].
أيّها المسلم، المسلم يتّقي المكاسبَ الخبيثةَ كأكل أموالِ النّاس بالباطل من غشّ وتدليسٍ وخداع وأخذِ مالٍ بغير حقّ من سرقة جحودِ حقوق واجبة عليه مماطلةٍ بالحقّ الواجب عليه أداؤه، ولذا يقول الله: وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقًا مّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:188]، ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ [النساء:29].
ومِن أكل الباطل أخذُ الرشوة، وقد لعن رسول الله الراشي والمرتشي[5]، باذلها وآخذها.
ومن أكلِ الحرام والمكاسبِ الخبيثة الاتّجار بالمحرّمات التي حرّمها الشارع, من خمور ومخدّراتٍ وغير ذلك من كلّ ما حرّم الشارع التعاملَ به، فالمسلم يتّقي التجارةَ المحرمة، ويبتعِد كلّ البعد عنها لتكون مكاسبه طيبة، ((إنّ الله طيب لا يقبَل إلا طيبًا، وإنّ الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال تعالى: ياأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُواْ مِنَ الطَّيّبَاتِ [المؤمنون:51]، وقال: ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ كُلُواْ مِن طَيّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ [البقرة:172]، ثم ذكر رسول الله الرجلَ يطيل السّفرَ أشعث أغبرَ رافعا يديه إلى السماء: يا رب يا رب، ومطعمه حرام, وملبسُه حرام، ومشربه حرام، وغُذِي بالحرام: ((فأنى يستجاب لذلك؟!))[6].
فاتّق الله في مكاسبك, وابتعِد عن كلّ مكسب خبيث، واسلُك الطرقَ التي أذِن الله لك فيها، واطلبِ الرزقَ من الأبواب التي شرع الله لك.
ولهذا المكاسبُ الطيّبة تتمثّل في أمور, فمنها: عملُ الرجل بيدِه، ولذا قال : ((أفضلُ الكسبِ عمل الرّجل بيده، وكلّ بيع مبرور))[7]، وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرّبَوااْ [البقرة:275]. فعمل الإنسانِ وما يحصُل له من خيرات من عمله بيده هو أفضل المكاسب وأعلاها، ثم البيعُ المبرور الذي صدَق فيه البائع فلم يكذِب ولم يكتُم.
أيّها المسلم، عملُك بيدك خيرٌ لك من سؤال الناس أعطَوك أم منعوك.
ومن المكاسب الخبيثة أيضًا السؤال من غير حاجة، فلا تزال المسألة بالعبدِ حتى يلقى اللهَ وليسَ في وجهِه مزعةُ لحم[8].
فيا أخي المسلم، اسلك الطرقَ المشروعة والطرقَ النافعة، وابتعِد عن المكاسب الخبيثة, واطلب الرزقَ من أبوابه, وكن قانعًا بما قسم الله لك راضيًا بذلك، واحذَر أن تكونَ كلاًّ وعالة على غيرك، وقد يسّر الله لك الأمر, وهيَّأ لك من قوّة البدَن والفِكر ما تطلُب به الرزق, فإنّ طلبَ الرزق عزّة وكرامة، وسلوك الطريق المشروع عون لك على كلّ خير.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإيّاكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب, فاستغفروه وتوبوا إليه، إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] لم أقف عليه من كلام ابن عباس، وأخرجه عن أبي سعيد الخدري مرفوعًا البيهقي في شعب الإيمان (1/221) وأعلّه بمحمد بن مروان السدي، وأبو نعيم في الحلية (5/106) وقال: "غريب", وضعّفه المناوي في فيض القدير (2/539)، وأخرجه بنحوه من حديث ابن مسعود مرفوعًا وموقوفًا البيهقي في شعب الإيمان (1/221-222).
[2] جزء من حديث قدسي، أخرجه من حديث أنس بن مالك ابن أبي الدنيا في الأولياء (9)، وأبو نعيم في الحلية (8/318) وقال: "غريب من حديث أنس"، وابن الجوزي في العلل المتناهية (1/44) وضعفه، وأعلّه ابن رجب في جامع العلوم والحكم (359). وأخرجه من حديث عمر بن الخطاب الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد (6/14)، وابن الجوزي في العلل المتناهية (1/44) وضعفه.
[3] أخرجه البخاري في الرقاق، باب: الغنى غنى النفس (5965)، ومسلم في الزكاة، باب: ليس الغنى عن كثرة العرض (1741) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[4] أخرجه مسلم في الزهد والرقاق، باب: حدثني زهير بن حرب (2963) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وهو عند البخاري في الرقاق (6490) بمعناه.
[5] أخرجه أحمد (2/164)، وأبو داود في الأقضية، باب: في كراهية الرشوة (3580)، والترمذي في الأحكام، باب: ما جاء في الراشي والمرتشي (1337)، وقال: حسن صحيح، وابن ماجه في الأحكام، باب: التغليظ في الحيف والرشوة (2313)، وابن الجارود في المنتقى (586)، وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وصححه ابن حبان (5077)، والحاكم (4/102-103)، ووافقه الذهبي، وصححه الحافظ في الفتح (5/221)، والألباني في تخريج أحاديث المشكاة (3753).
[6] أخرجه مسلم في الزكاة، باب: قبول الصدقة من الكسب (1686) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[7] مدار هذا الحديث على وائل بن داود واختلف عليه فيه: فأخرجه أحمد (3/466)، والطبراني في الكبير (22/197)، والحاكم (2158)، والبيهقي في الكبرى (5/236) وفي الشعب (1226) عن شريك عن وائل عن جميع بن عمير عن خاله أبي بردة، قال البيهقي: "هكذا رواه شريك بن عبد الله القاضي وغلط فيه في موضعين، أحدهما: في قوله: جميع بن عمير وإنما هو سعيد بن عمير، والآخر: في وصله وإنما رواه غيره عن وائل مرسلا". وأخرجه أحمد (4/141)، والبزار (3731)، والطبراني في الكبير (4/276)، والحاكم (2160)، والبيهقي في الشعب (1229) عن المسعودي عن وائل عن عباية عن رافع بن خديج، ونقل البيهقي عن الإمام أحمد قوله: "رواه المسعودي عن وائل فغلط في إسناده". وأخرجه البزار (3798) عن شريك عن وائل عن جميع بن عمير عن عمه البراء، والمحفوظ عن شريك ما تقدم. وأخرجه البيهقي في الشعب (1226) وفي الكبرى (5/263) عن الثوري عن وائل عن سعيد بن عمير عن عمه البراء، وصححه الحاكم (2159)، لكن المحفوظ عن الثوري الإرسال كما سيأتي. وأخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (4/554) عن أبي معاوية، والبيهقي في الشعب (1225) عن الثوري كلاهما عن سعيد بن عمير مرسلا، قال البيهقي في الكبرى (5/263): "هذا هو المحفوظ مرسلا"، ونقل في الشعب عن البخاري قوله: "أسنده بعضهم وهو خطأ"، وقال أبو حاتم كما في العلل لابنه (2/443): "المرسل أشبه". وللحديث شاهد عن ابن عمر، أخرجه الطبراني في الأوسط (2140)، قال أبو حاتم كما في العلل لابنه (1/391): "هذا حديث باطل، وقدامة ليس بقوي"، وقال المنذري في الترغيب (2/334): "رواه الطبراني في الكبير والأوسط، ورجاله ثقات"، وقال الحافظ في التلخيص (3/3): "رجاله لا بأس بهم". وفي الباب أيضا عن علي، أخرجه ابن عدي في الكامل (2/65)، قال أبو حاتم كما في العلل لابنه (1/390): "هذا الحديث بهذا الإسناد باطل، بهلول ذاهب الحديث".
[8] كما أخبر بذلك النبي فيما أخرجه البخاري في الزكاة، باب: من سأل الناس تكثرًا (1475)، ومسلم في الزكاة، باب: كراهة المسألة للناس (1040) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربّنا ويرضى, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله, صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، بركةُ الرزق ليست بكثرتِه، ولكن بركةُ الرزق أمرٌ يجعله الله في قلبِ العبد، فيرضَى بما قسَم الله له، ((قد أفلح من أسلم, ورزِق كفافا,ً وقنّعه الله بما آتاه))[1].
أيّها المسلم، جاء في الكتابِ والسنّة بيانُ أسبابِ بركةِ الرزق، فالرّزق قد يبارك للعبد فيه، وقد لا يبارَك للعبد فيه، قد يعطَى مالاً كثيرًا، ولكن ينزع الله البركةَ منه، فلا ينفعه ولا يفيده، يَمْحَقُ اللَّهُ الْرّبَوااْ وَيُرْبِى الصَّدَقَاتِ [البقرة:276].
أيّها المسلم، إنّ من أسباب بركةِ الرّزق تقوَى الله جلّ وعلا في كلّ الأحوال، وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ [الطلاق:2، 3]، وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى ءامَنُواْ وَاتَّقَوْاْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مّنَ السَّمَاء وَالأرْضِ [الأعراف:96]، ويقول موسى عليه السلام في دعائه: رَبّ إني لِمَا أَنزَلْتَ إِلَىَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ [القصص:24].
ومِن أسبابِ بركة الرزق صلةُ الرحم، ففي الحديث: ((من أحبَّ أن يُنسَأ في أثره ويبسَط له في رزقه فليصِل ذا رحمِه))[2].
ومن أسباب بركة الرزق الإنفاق في وجوه الخير والصدقةُ على المساكين والمُعوِزين، قال تعالى: وَمَا أَنفَقْتُمْ مّن شَىْء فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [سبأ:39].
وأحسِن إلى عبادِ الله يحسِن الله إليك، قال تعالى: وَأَحْسِنُواْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [البقرة:195]، ((ومن فرّج عن مسلم كربةً من كرَب الدنيا فرّج الله عنه كربة من كرَب يوم القيامة، ومن يسّر على معسر يسّر الله عليه في الدنيا والآخرة))[3].
فبركة الرزق في الدنيا أن يخلفَ الله عليك عوضَه، وبركته في الآخر ما ينالك من الثواب العظيم، في يومٍ أنت أحوج فيه إلى مثقال ذرّة من خير.
أيّها المسلم، إنّ الله جلّ وعلا حذّر المسلمين من أن يكونَ نجواهم فيها بينهم ظلمًا وعدوانًا، قال تعالى: ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلاَ تَتَنَاجَوْاْ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْاْ بِالْبِرّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِى إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [المجادلة:9، 10].
أيّها المسلم، فالمسلمون فيما بينهم سرًّا وعلانية أمرُهم واضح ومنهجُهم سليم وسرّهم وعلانيتهم على وفق واحد, فإنّ إيمانهم صادق ظاهرًا وباطنًا، وأخلاقُهم أخلاقُ الصّدق، وأعمالهم أعمالُ الحقّ، ترى أعمالَهم واضحة, وترى أمورَهم جليّة، لا يظهِر لك أمرًا ويخفي عليك غيرَ ذلك، ولذا قال الله لهم: إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلاَ تَتَنَاجَوْاْ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ، لا تكن مناجاتُكم وأحاديثكم وأمورُكم إثمًا وعدوانًا, فإنّكم إذا تناجيتُم بالإثم والعدوان صِرتم سببَ شرّ وبلاء, بل تكون لقاءاتكم دائمًا لقاءاتِ خير ولقاءات برّ وتعاونٍ على كلّ خير تسعد به الأمّة في حاضرها ومستقبلها.
أمّا أولئك المندسّون بين الأمّة، الذين امتلأت قلوبهم مرضًا وحقدًا على الإسلام وأهله، فهؤلاء تراهم في الظاهر معك، ولكن في باطنِ أمورهم يتناجَون بالإثم والعدوان, مناجاتُهم فيما يخطّطونه وفيما يبرِمونه من مؤامرة ضدَّ الإسلام وأهله، إنهم إن لم يُعلَم بهم فهم في غيّهم وفي ضلالهم وفي كيدِهم للإسلام وأهله. فهم ـ والعياذ بالله ـ قلوبٌ مريضة، لا تطمئنّ ولا تهنأ إلا بالمكيدة للإسلام وأهله، الحقدُ ملأ قلوبهم, وطاعةُ الأعداء حكمتهم، ومدُّهم يدَ العون مع الأعداء جعلتهم يعيشون في هذا المستنقَع السيّئ.
أيّها المسلم، فلا يليق بك أن تتآمرَ ضدَّ أمّة الإسلام، ولا أن تبغيَ للإسلام وأهله الغوائل، ولا يليق بك أن تكونَ مجالسك الخاصّة مجالسَ سوء ومجالسَ تعاونٍ على الإثم والعدوان.
أولئك الذين يختفون عن أنظار النّاس، وإنما يطيب لهم ما يطيب لهم عندما يجتمِعون فيما بينهم، فحدِّث ما شئتَ عن مكرِهم وخِداعهم، ولكنّ اللهَ بالمرصاد لمن أراد السوء، وَلاَ يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ [فاطر:43]. فهؤلاء ـ والعياذ بالله ـ لا خيرَ فيهم، ولكنّ الله يفضحُهم ويهتك أستارهم؛ لأنّ أمرهم خطير وشرّهم مستطير.
إذن فالمسلم لا يليقُ به أن يكونَ مع هؤلاء، ولا يصاحب هؤلاء، ولا يجالس هؤلاء، ولا يركن إلى هؤلاء الذين في قلوبهم حِقد على الإسلام وأهله، بل هو ينصَح لله, وإذا تناجى فستسمع في نجواه أمرًا بخير، لاَّ خَيْرَ فِى كَثِيرٍ مّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ [النساء:114].
أمّا الذين تناجيهم أمرٌ بشرّ وتنظيم ضرر ومؤامرة دنيئة ومحاولة على ضرب الإسلام وأهله فإنّ هذه الملتقياتِ ملتقياتُ إثم وعدوان، المسلم يربَأ بنفسه عن هؤلاء وعن صُحبة أولئك وعن إعانة أولئك وعن السّكوت والتغاضي عن أولئك.
هؤلاء لا خيرَ فيهم، وليس عندهم خيرٌ ولا صلاح, ولكنّهم قوم خدِعوا وانخدَعوا وضعُف الإيمان في قلوبهم, فأصبَحوا آلةً بأيدي أعدائهم لمكيدةِ الإسلام وأهله، ولكنّ الله تعالى لا يصلح عملَ المفسدين الذين يحاوِلون الإفسادَ في الأرض بأيّ أنواع الفساد، الله لا يصلح أعمالهم, ولا يوفّقهم لأنهم أهلُ مكرٍ وخداع وتناجٍ بالباطل، فأعمالهم يخفونها عن النّاس؛ لأنّ كلاً يشجب أفعالهم, ويعلم سوءَ نواياهم وقبحَ ما يريدون، فالمسلم موقفُه من أولئك موقفٌ يشجب كلّ هذه الأحوال، ويكرهها ويكرَه أهلَها، ولا يتستّر على أحدٍ منهم، ولا يرضى عن أحدٍ منهم، وإنما ينصَح إن قبلوا النصيحة, ويحذّرهم مِن هذه المؤامرات الدنيئة إن يكن في قلوبهم بقيّة من إيمان, وإلاّ فإنه لا يتستّر عليهم، ولا يرضى بأحوالهم، إذِ الإيمان يمنع المؤمنَ من الفساد وأهله، والله ذكر عن المنافقين بقوله: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِى الأرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَاكِن لاَّ يَشْعُرُونَ [البقرة:11، 12].
أجل، إنّ هؤلاء مفسدون في الأرض، تناجَوا على الإثم والعدوان, والتقَت مجالسهم على الشرّ والبلاء والمكيدة للإسلام وأهله، ولكنّ الله جلّ وعلا حكيم عليمٌ فيما قضى وقدّر، سلّط الله على أولئك من هتَك أستارهم وكشف عيوبهم وأوضح باطلَهم, وأخزاهم الله, والله على كلّ شيء قدير.
فيا أيّها المسلم, كن واثقًا بالله، حريصًا على دينك قبل كلّ شيء, ثم حريصًا على أمنِ أمّتك وسلامتها، ولا تمكّن للفسّاق والأراذل الأمرَ، ولا تعِنهم على باطِلهم، وحذّر أبناءك وإخوانَك ومن تتّصِل بهم من هذه الأكاذيب والأباطيل وهذه المكايد والخيانات التي لا يرضى بها المسلم، ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ [الأنفال:27].
أسأل الله تعالى أن يثبتنا وإياكم على دينه، وأن يذلّ من في ذلّه عزّ الإسلام وأهله، وأن يعيذنا وإياكم من الفتن ما ظهر منها وما بطن.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أنّ أحسنَ الحديث كتاب الله، وخيرَ الهدي هدي محمّد ، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلّ بدعةٍ ضلالة، وعليكم بجماعَة المسلمين، فإنّ يدَ الله على الجماعة، ومن شذّ شذّ في النار.
وصلّوا ـ رحمكم الله ـ على نبيّكم محمّد كما أمرَكم بذلك ربّكم، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىّ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدِك ورسولك محمّد، وارضَ اللهمّ عن خلفائه الراشدين...
[1] أخرجه مسلم في الزكاة، باب في الكفاف والقناعة (1054) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
[2] أخرجه البخاري في الأدب، باب: من بسط له في الرزق بصلة الرحم (5986)، ومسلم في البر والصلة، باب: صلة الرحم (2557) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
[3] أخرجه مسلم في الذكر، باب: فضل الاجتماع على تلاوة القرآن وعلى الذكر (2699) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
ــــــــــــــــــــ(67/189)
أحكام الطلاق - الإفساد في الأرض
...
...
3258
...
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
...
...
الطلاق, الفتن, قضايا الأسرة, قضايا المجتمع
...
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
...
...
الرياض
...
17/6/1424
...
...
جامع الإمام تركي بن عبد الله
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- ضرورة أداء الحقوق الزوجية. 2- حرص الإسلام على انتظام الحياةِ الزوجيّة. 3- الطلاق آخر الحلول. 4- تنظيم الإسلام للطلاق. 5- فرح إبليس بحصول الفرقة بين الزوجين. 6- التحذير من الغضب. 7- الحكمة من مشروعية الطلاق. 8- واجب أهل الزوجين. 9- التحذير من الإساءة والإضرار بعد الطلاق. 10- التحذير من المفسدين باسم الدين.
الخطبة الأولى
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتّقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، يقول الله جلّ وعلا مبيّنًا حقَّ كلٍّ من الزوجين على صاحبه: وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِى عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة:228]، فبيّن تعالى أنّ على الزوج واجبًا نحوَ امرأته, وأنّ على المرأة واجبًا نحو زوجها.
عندما يتصوّر كلٌّ من الزوجين هذه الواجبات أو هذا الواجبَ حقَّ التصور ويؤدّي كلٌّ منهما الواجبَ عليه نحوَ صاحبه, عند هذا تستقيم الحياةُ الزوجيّة, وينتظم البيت, وتعيش الأسرة هناءً وطمأنينةً وسكينة, ويتفرّغ كلٌّ منهما للقيام بالحقّ الواجب عليه.
فالرّجل عندما يتصوّر حقًّا أنّه راعٍ على امرأته والله سائلُه عنها, أنها أمانةٌ عندَه والله سائلُه عن تِلكم الأمانة, أنّ المرأة بمنزلة الأسير عندَه فهو مطالبٌ بواجبِ النّفقة سُكنى وكسوةً وسائر النفقات, ومطلوبٌ منه أن يعاشرها ويعاملَها بالمعروف, حسن خلقٍ ولين جانبٍ وتعاملٌ حسن.
المرأة أيضًا تتصوّر هذا الواقعَ، فتعلم أنّ بعقد النكاح أصبحت تبعًا لزوجِها, وأنّ الواجبَ عليها القيام بحقّه, السمع والطاعةُ له في المعروف, عدمُ المخالفة, القيامُ بالحياة الزوجيّة.
فإذا عرف كلٌّ واجبه, وأدّى كلّ الواجب عليه فإنّ الحياة الزوجيةَ تكون حياة طيبةً مطمئنة, تسودها المحبة والمودّةُ والوئام, وينشأ النشء في ظلّ ذلك التعاون المبارك. وإنما تُصاب الحياة الزوجيّة بما تصاب به عندما يضعف أداء كلٍّ للواجب عليه, فيقصِّر الرجل في حقّ المرأة, يقصّر في كِسوتها, في مسكنِها, في النفقةِ عليها, يسيء عشرتَها, يخاطبها بأسوأ خِطاب, لا يتحمّل خطأها, يعاتِب عند كلّ زلّة, ويعاقب عندَ كلّ هَفوة، فهو لا يعرِف جميلاً, ولا يحتفظ بأعمالٍ طيّبة. وعندما يكون ذلك من المرأة فتسيء الخلقَ, ولا تسمَع ولا تطيع أو غير ذلك, تدخُّل الأهلين من قبَل الزوج أو قبل الزوجة, فإنّ تدخّلَهما وإشعالهما نارَ الفتنة بين الزوجين ممّا يقوِّض سلامةَ البيت وطمأنينته.
أيّها المسلم، إنّ الإسلامَ حريص على انتظام الحياةِ الزوجيّة واستمراريّتها، ولذا أرشد الزوجَ عندما يشعُر من المرأة بتقصير بقوله: وَاللَّاتِى تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِى الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا [النساء:34].
فأمر بالموعظةِ، والذكرى تنفع المؤمنين, يعِظها ويذكّرها الله, ويخوِّفها من عصيان زوجِها, فإن يكن فيها خير وإيمان ردعها إيمانها أن تستمرَ على الخطأ, وهجرَها في الكلام, وهجرها في المضجَع, فعسى الهجر أن يذكّرها ويؤدّبها, وأذن في الأدب بالضرب بلا ضربٍ مبرّح, وإنما أدبٌ يكفي في ذلك، فإن تعذّرتِ الأمور شُرع حكمان يأتيان مِن قبل المرأة والزوج ليقوّما الوضعَ بين الزوجين وأسباب الخلاف وهل يمكن تلافي ذلك الخلاف أما لا؟ كلّ هذا حرص على استمرار النّكاح وعلى انتظام الحياة الزوجية.
أيّها المسلم، إنّ الطلاق في الإسلام لم يأت الحلَّ الأول, وإنما جاء عندما تتعذّر الحلول كلّها, وتبذَل الأسباب ولا تغني شيئًا, فعند ذلك شرَع الله الطلاقَ، أي: أذِن للزّوج فيه.
والطلاق يهدِم البيت, ويشتِّت الأسرة ويفرِّقها, فتبقى المرأة أيِّمًا والأولاد من بنين وبنات ربّما ضاعوا بين قسوةِ أبٍ وعدم قدرة أم, وتلك البليّة العظمى.
أيّها المسلم, عندما أذِن الله في الطلاق إنما أذِن وشرعه للحاجة الملحَّة إلى ذلك, لم يشرَعه محبّةً له, ولكن لأنّ فيه مصلحةً فشرِع ذلك الطلاق, وهذا الطلاق من أبغَض الحلالِ إلى الله كما قال : ((أبغضُ الحلال إلى الله الطلاق))[1]، وتوعّد المرأةَ المسلمة حينما تطلب الطلاقَ من زوجها بلا سببٍ يقتضيه, فيروَى أنّه قال: ((أيما امرأةٍ سألت زوجَها الطلاقَ في غير ما بأس فحرامٌ عليها رائحة الجنة))[2].
ثم هذا الطلاقُ ـ أيها المسلم ـ لم يأتِ فوضويًّا, ولم يُجعل أمرُه لشهوةِ الرجل أو المرأة, بل جاء بنظامٍ دقيق مؤثّر نافع, فهو دواء, والدّواء إنما يستعمَل بقدره فقط، ألا ترى الطبيبَ لو وصَف لك أنواعًا من العِلاج مأكولاً أو مشروبًا، هل تتناولها جرعَةً واحدة وتقول: يكفي؟! لا، لا بدّ له من أوقاتٍ مناسبة، إذًا فالطلاق دواء إنما يستعمل في الحاجة إليه.
ولقد كانوا في الجاهليّة قبل الإسلام يطلّقون طلاقًا فوضويًّا، فيطلّق الرجل المرأةَ في أيّ وقت شاء، فإذا قاربت العدّة راجعها، وربما جمَع لها مئاتٍ من الطلقات، فجاء الإسلام وحدَّ مِن هذه الجاهلية, جعل للطلاق عددًا، وجعل له زمنًا, كلُّ ذلك للتأمل والتفكّر والتبصّر، فعسى الأمر يعود إلى مجاريه.
فأوّلاً: الشارع جعل للطلاق وقتًا، فلم يأذَن للمسلم أن يطلّق متى شاء، لكي يمنع أهلَ الحماقة من حماقاتهم والذين لا يتبصّرون في الأمور أن يوقفَهم عند حدّهم.
فالطلاق في الشريعة إنما هو في وقتٍ مخصّص، وهو أن يطلّقها في طهرٍ عقِب الحيض، أي: في طهرٍ ما جامعها فيه، فإن طلّقها في طهرٍ وطِئها فيه صار بذلك عاصيًا لله؛ لأنّه يحتمَل أنها حامل، فتطول المدّة عليها، وهو أيضًا قد لا يرغبها، لطولِ المدّة عليها، فيكون في ذلك ضررٌ عليه وعليها، فحرّم عليه أن يطلّقها في طهرٍ وطئها فيه. وحرم عليه أن يطلّقها وهي حائض؛ لأنّ الحيض يمنعه من الاستمتاع، فربما انصرفت نفسُه عنها، وفيه أيضًا تطويل المدة عليها.
وحرّم عليه أن يجمعَ ألفاظَ الطلاق بلفظ واحد، بأن يقول لها: هي طالقٌ بالثلاث, سمع النبيّ رجلاً قال لامرأته: أنتِ طالق بالثلاث, فغضب وقال: ((أيُلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم؟!)) حتى قام رجل فقال: أأقتله يا رسول الله؟[3] دلّ على أنّه ارتكب إثمًا عظيمًا.
ثم إنّ النبيّ منع المسلمَ من أن يتساهلَ ويتلاعبَ بالطلاق, وجعل الطلاقَ نافذًا سواء أكان هازلاً في أدائه, أو كان جادًّا في أدائه، فيقول : ((ثلاثٌ جدّهن جدّ وهزلهن جدّ: النكاح والطلاق والرجعة))[4]. فلا يحلّ لك أن تطلّق من باب المزاح واللّعب، فإنّ هذا حكم شرعيّ، والله يقول: وَلاَ تَتَّخِذُواْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا [البقرة:231].
ثم شرَع له إذا طلّقها الطلقةَ الواحدة أن يتركَها حتى تنقضيَ عدّتها, ولا يجمع لها في الطهر بين طلقتين، فإنّه لا ينفعه ذلك، بل إذا طلّقها وليس له فيها رغبةٌ فبانقضاء عدّتها تكون أجنبيّةً عنه، لا تعود إليه إلا بعقدٍ جديد برضاها؛ لأنها طلقة واحدةٌ انقضت عدّتها, كلّ هذا حتى لا يستغرقَ المسلم ألفاظَ الطلاق, ولا يقع في مشاكل, فإنّه إن طلّقها الطلقةَ الثالثة فلا تحلّ له حتى تنكِح زوجًا غيره نكاحَ رغبةٍ لا نكاح تحليل, كلّ هذه أمور محافظةً على البيت أن ينهدِم على أيدي سفيه.
أيّها المسلم، إنّ عدوَّ الله إبليس يفرح بك في حال غضبك وحماقتك، فيجعل الطلاق نصبَ عينيك، ويلقيه على مسامعك, فإن اتّقيتَ الله وتبّصرت في الأمور لم تطِع عدوَّ الله في مراده, جاء في الحديث: ((إنّ الشيطان ينصب عرشَه على الماء, ويبثّ جنوده فيأتيه الواحدُ ويقول: ما زلتُ بفلان حتى فرّقت بينه وبين أبيه أو بينه وبين أمّه أو أخيه, يقول: ما فعلتَ, يوشِك أن يصالحه. ويأتيه آتٍ ويقول: ما زلتُ بفلان حتى فرّقت بينه وبين امرأته, قال: فيدنيه ويضمّه إليه ويقول: أنتَ وأنت وأنت))[5]. فعدوّ الله يفرح بالتّفريق بين الزوجين، يفرح بتشتيت الأسرة وتفرّقها.
أيّها المسلم، كن حريصًا على استمرارِ الحياة الزوجيّة.
أيّها الرجل، أنت أقوى عودًا وأشدّ ثباتًا، فإياك وإيّاك أن تعصِفَ بك الريح فتطلّق بلا سببٍ يقتضيه, إيّاك والضجر وقلةَ الصبر ونفادَ الحلم، تأمّل في كلامك قبل أن تقوله, وتدبّر عواقبَ الأمور, وإذا غلَب الغضب عليك فاقعُد من قيام, واضطجِع من قعود, وتوضّأ، وتعوّذ بالله العظيم من الشيطان الرجيم، واخرج عن المنزل، فعسى الغضب أن يزول وتنقشِع سحائبه.
أيّها الرّجل المسلمُ العاقل، ليس لائقًا بك أن يكونَ الطلاق دائمًا على لسانك, لا تجعله حلَّ المشاكل, فالمشاكل يمكِن حلّها بكلّ سبب, لا تجعَل خصومتك مع الناس وغلطَك مع الآخرين أن تصبّ غضبك على امرأتك, عندما يبدو منها تقصيرٌ في واجب أو عدم قيام بواجب فما أمكن أن تتلافاه فتلافاه, وما أمكن أن تتجاوَزه فتجاوزه, ما دام الدّين سليمًا والعِرض نزيهًا والشّرف محافظًا عليه, فبقيّة الأمور يمكن الصبر عليها, ويمكن تداركها, ويمكن إصلاحها, أمّا العجلة في أمرِ الطّلاق على أتفهِ الأسباب وأحقَر الأسباب فهذا غير لائق بالرجل العاقل ذي العقل الرزين والرأي السليم.
أيّها المسلم، لا بدَ من صبر، ولا بدّ من تحمّل، ولا بدّ من تصوّرٍ للمآل بعد الطلاق, أمّا إذا كان الإنسان لا يبالي, ضعفٌ في الإيمان, قلّةٌ في الصبر، نفادٌ في الحلم, فإنّه يهدِم بيته في لحظةٍ من اللحظات.
أيّها المسلم، إنّ الطلاقَ شرِع لتخليصِ الرّجل من عدَم ملائمة المرأة أو تخليصِ المرأة من عدم ملائمة الرّجل, لكن ما أمكن تداركُه والصبر عليه فالمطلوبُ من الزوجين السّعيُ في لمّ الشّعث وتدارك الأخطاء.
ثمّ أهل الرجل وأهل المرأة عليهم أيضًا واجبٌ أن يبذلاه حتى لا تقَع المشاكل, فينصح أهلُ المرأةِ المرأة, ويوصوها بالصبر وعدم الضجر, وينصح أهلُ الرّجل الرجلَ، فيوصونه بالصبر والثبات, فإذا تعاون الجميع على الخير أمكن استمرارُ الحياة الزوجية على أطيب الأحوال.
أيّها المسلم، بعضُ الرجال يمارس ضغوطًا على المرأة حتى بعد الطلاق لينتقِم منها, فيتّخذ من الضغوط الأولادَ أوّلاً, ربما لا يمكِّنهم من رؤية أمّهم, وربما يتركُهم فلا يرعاهم ولا ينفِق عليهم فيضيعون, إمّا أن يأخذَهم عنده فيعامَلون غيرَ معاملة الرّفق واللين, وإمّا أن يتركَهم عند أمّهم فلا يرعاهم ولا ينفِق عليهم. وقد تتعصّب الأمّ أيضا على زوجها فتنتقم منه فتمنَع أولادَه من الذّهاب إلى أبيهم، كلّ هذه الأغلاط والأخطاء ينبغي تلافيها وتداركُها، وأن لا نتّخذ من الطلاق وسيلةَ انتقام وبطشٍ بالآخرين وإلحاق الضّرَر بالآخرين.
فلنتَّقِ الله في أنفسنا, ربّنا جلّ وعلا أمر الزوجَ إذا طلّق أن يتركَ المرأة في المنزل مدّةَ العدّة لعل الله أن يحدِث بعد ذلك أمرًا، لعله أن يندمَ ولعلّها أن تندم، جعل الطّلاق مراحل: أولى ثم ثانية ثم ثالثة.
أولى فإن يكُن من المرأة الخطأ ندِمت أو مِن الرجل، ثم الثانية, فإذا طلّقها الثالثة علِم أنّ الحياة الزوجيّةَ لا يمكن استمرارها واستقرارُها.
فعلى الجميع لزومُ حدود الله والوقوف عندها؛ لأنّ الله يقول: وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ [الطلاق:1].
فلنتَّق الله في طلاقِنا, لا من حيثُ الزمن, ولا من حيثُ العدد, ولا من حيث الإقدامُ عليه إلا بعدَ تعذّر كلّ وسيلةٍ يمكن أن نستعمِلها حتى لا نلجأ إلى الطلاق ولا نجعله الحلَّ لمشاكلنا.
أسأل الله لي ولكم التوفيقَ والهداية والعون على كلّ خير.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيمَ الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه إنّه هو الغفور الرحيم.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يأيُّهَا النَّبِىُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النّسَاء فَطَلّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُواْ الْعِدَّةَ وَاتَّقُواْ اللَّهَ رَبَّكُمْ لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلاَ يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لاَ تَدْرِى لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا [الطلاق:1].
[1] أخرجه أبو داود في الطلاق، باب: في كراهية الطلاق (2178)، وابن ماجه في الطلاق، باب: حدثنا سويد بن سعيد (2018) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، وأعلّ بالإرسال، لذا ضعفه الألباني في الإرواء (2040).
[2] أخرجه أحمد (5/277، 283)، وأبو داود في الطلاق، باب: في الخلع (2226)، والترمذي في الطلاق، باب: ما جاء في المختلعات (1187)، وابن ماجه في الطلاق، باب: كراهية الخلع للمرأة (2055) من حديث ثوبان رضي الله عنه، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن"، وصححه ابن الجارود (748)، وابن خزيمة كما في الفتح (9/403)، وابن حبان (4184)، والحاكم (2809)، وصححه الألباني في إرواء الغليل (2035).
[3] أخرجه النسائي في الطلاق، باب: الثلاث المجموعة وما فيه من التغليظ (3401) من حديث محمود بن لبيد رضي الله عنه، وأعله ابن كثير في تفسيره (1/278) بالانقطاع، وقال الحافظ في الفتح (9/362): "رجاله ثقات, لكنّ محمود بن لبيد ولد في عهد النّبيّ ولم يثبت له منه سماع, وإن ذكره بعضهم في الصّحابة فلأجل الرّؤية, وقد ترجم له أحمد في مسنده وأخرج له عدّة أحاديث ليس فيها شيء صرّح فيه بالسّماع. وقد قال النسائي بعد تخريجه: لا أعلم أحدا رواه غير مخرمة بن بكير ـ يعني ابن الأشج ـ عن أبيه اهـ. ورواية مخرمة عن أبيه عند مسلم في عدة أحاديث، وقد قيل: إنه لم يسمع من أبيه"، وصححه الألباني في غاية المرام (261).
[4] أخرجه أبو داود في الطلاق، باب: في الطلاق على الهزل (2194)، والترمذي في الطلاق، باب: ما جاء في الجد والهزل في الطلاق (1184)، وابن ماجه في الطلاق، باب: من طلق أو نكح... (2039) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب"، وحسنه الألباني في الإرواء (1826).
[5] أخرجه مسلم في صفة القيامة والجنة والنار، باب: تحريش الشيطان وبعثه سراياه لفتنة الناس (2813) من حديث جابر رضي الله عنه بمعناه.
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربّنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
وبعد: أيّها المسلمون، يقول الله جلّ وعلا: وَيَئَادَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلاَ مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَاذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَاذِهِ الشَّجَرَةِ إِلا أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ وَقَاسَمَهُمَا إِنّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ [الأعراف:19-22].
أيّها الإخوة، يبيِّن لنا ربّنا جلّ وعلا أنّه أسكنَ أبانا آدمَ وزوجته الجنة, وأباح لهما كلَّ شيء فيها إلاّ شجرة واحدةً عيّنها لهما ونهاهما عن قربانها: وَلاَ تَقْرَبَا هَاذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ. هذه شجرةٌ واحدة منِع آدم وزوجتُه من الأكلِ منها، وسائر ثمار الجنة أبيحَت لآدم وزوجتِه, ماذا عمِل عدوّ الله إبليس؟ وسوس لهما وقال لهما: إنّ ربّكما ما نهاكما عن هذه الشجرة إلاّ أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين، فإذا أكلتما منها كنتما من الخالدين دائمًا, وقاسمهما: أقسَم لهما أنه ناصح، فدلاّهما بغرور.
أيّها الإخوة، هكذا الشيطان يعمَل مع بني آدم، يظهِر لهم الشرّ والفساد والبلاءَ في قالَب الإصلاحِ والنصيحة, يزيّن لهم الباطلَ حتى يظنّوه خيرًا, ويقبِّح لهم الخيرَ حتى يظنّوه باطلاً، وهكذا أعوانُ الشّياطين من شياطين الإنس الذين يسعَون في الأرض فسادًا, يُغرون الجهال ويغوونهم ويصدّونهم عن طريق الله المستقيم, يظهرون لهم الباطلَ في قالَب الحق, والشرَّ في قالب الخير, ويظنَّ الجاهل أنّ أولئك محقّون, والله يعلم أنهم مفسدون.
أيّها المسلم، كم من عدوٍّ متربّص بالأمّة ساعٍ في الأرضِ فسادًا، لكنّه يلبس لبوسًا لأجلِ أغراضِه ومطامعه, فقد يكون في قلبه مرض ونفاقٌ وحِقد على الإسلام وأهله، لا يروي غليله ولا يطفئ حقدَه إلا أن يرى بين المسلمين شرًّا, فهو والعياذ لله داعيةُ ضلال وساعٍ في الأرض فسادًا, يأتي لجاهلٍ ولمراهِق غِمر لا يفهم, فيحسِّن له الباطل, يحسِّن له قتلَ الأبرياء وسفكَ الدّماء وإخلالَ الأمن, يقول: هذا من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, اقتل, ودمّر, واختَر من تقتله وأنت آمر بمعروف أو ناهٍ عن منكر، وقد يأتيه يومًا ويقول له: هذا من كراهية أعداءِ الله وموالاة أولياء الله, وقد يأتيه في صوَر شتى، لكن يعلم الله منه أنّ قصدَه الفساد والإفساد، يقول لهم: افعلوا وأقدموا على إجرامِكم فإنّكم في الجنّة؛ لأنّكم قتلتم الكفارَ والمشركين, فأهل الإسلام المصلّين الصائمين يراهم هذا الخبيث يراهم مجرمين يجب قتلُهم واستئصالهم.
هكذا يحسِّن أعداء الإسلام لمن لا بصيرةَ عنده ولا علم عنده، يحسّنون له الشرَّ كما حسّن الشيطان لأبينا آدم الأكلَ من تلكم الشجرة حتى أهبطه الله إلى الأرض, لكن الله تدارك أبانا آدمَ، فتاب عليه وعفا عنه.
أيّها الشابّ المسلم، فاحذر دعاةَ السوء، احذر دعاةَ السوء ومجالسَ السوء وأرباب السوء، مهما أظهروا لك من الغَيرة على الدين, ومهما قالوا لك من الدّفاع عن الدين, إذا كانوا يأمرونك بقتلِ المسلمين وسفكِ دمائهم وترويعهم والإخلالِ بأمنهم فاعلَم أنهم مجرمون ومفسِدون, المصلِح لا يدعو إلى فتنة, ولا يؤيّد الفتنة, وإنما يدعو إلى الخير ويأمر بالخير بالطرق الشرعية. أمّا سفكُ الدّماء وقتل الأبرياء، سفك الدّماء تدميرُ الأمة إرباكها، فليس هذا من الدّين أبدًا، هذا كلّه من تزيين الشّيطان, لا تطِع أولئك, ولا تنقَد لهم, ولا تطِعهم فيما يقولون وما يظهرون, إنهم أعداؤك وأعداءُ دينك وإن تظاهروا بما يتظاهرون به, فلو كان في القلبِ إيمان وإسلامٌ لاحترموا الدّماء والأموالَ والأعراضَ، إنّ دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، وفي الحديث: ((لا يزال المرءُ في فسحةٍ من دينه ما لم يصب دمًا حرامًا))[1].
فيا أخي المسلم، كيف يستبيح إنسانٌ قتلَ رجل الأمن مثلاً, هذا رجلٌ يدافِع عن دينه ثمّ عن أمّته، فلماذا تسفك دمه؟ لماذا؟ لأنّ هذا الذي خطّط لهذا يرَى أولئك كفّارًا، دماؤهم حلال, وقتلهم واجِب. كلّ هذه من المغالطات، كلّ هذه من دعاة الفتن, من دعاةِ الضلال, من أقوامٍ امتلأت قلوبهم مرضًا وحِقدًا على الإسلام وأهله.
فاتّقوا الله يا شباب الإسلام، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوةُ إلى الله وإلى دينه أمرٌ مطلوب شرعًا, لكن بالطرق الشرعيّة المأذون بها, بالأمر بالمعروف في حدوده, والدعوة إلى الله بوسائلها, أمّا أن نتّخذ من سفك الدماء وترويع الآمنين أن نتخذها وسيلةً ندّعي أن هذا دعوة وأنّ هذا إصلاح، هذا ليس بالإصلاحِ أبدًا, وهذا منافٍ للإصلاح وبعيدٌ كلَّ البعد عنه.
فلنتَّق الله في أنفسنا، ولنتَّق الله في أمننا وأمنِ مجتمعنا، ولنحرص على التناصح والتعاون فيما بيننا في سبيل ما يقلّص هذه الجريمة, ويقطع دابرها, فكلٌّ منا مسؤول عن واجبه نحوَ أمّته, والنبيّ يقول لنا: ((لعنَ الله من آوى محدِثًا))[2]. فالمحدِث الفاجرُ الظالم لا يجوز إيواؤه، ولا يجوز التستّر عليه؛ لأنه والعياذ بالله إذا ترِك واستمرّ على إجرامه وفساده فضرره ليس على فئة معيّنة, ضررُه عليك وعلى فلان وعلى أهلِك وعلى مجتمعك.
فلنتَّق الله في أنفسنا، ولا نطِع أعداءنا ولا نطِع من في قلبه مرض على الإسلام وأهله، فأمننا نحن جميعًا مسؤولون عنه, نرجو الله أن يحفظه من كلّ سوء, وأن يعيذنا من شرورِ أنفسنا ومن ذنوبِنا أن لا تكون جُندًا علينا, نسأل الله السلامةَ والثبات, ولا شكّ أن ما أصاب العبادَ فبذنوبهم، وما ربّك بظلاّم للعبيد.
واعلموا ـ رحمَكم الله ـ أنّ أحسَنَ الحديثِ كتاب الله، وخيرَ الهدي هدي محمّد ، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلّ بدعةٍ ضلالة، وعليكم بجمَاعة المسلمين، فإنّ يدَ الله على الجماعة، ومن شذّ شذّ في النّار.
وصلّوا ـ رحِمكم الله ـ على نبيّكم محمّد كما أمركم بذلك ربّكم، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىّ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
اللهمَّ صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدِك ورسولِك مُحمّد, وارْضَ اللهمَّ عن خلفائِه الرّاشدين...
[1] أخرجه البخاري في الديات، باب: قول الله تعالى: وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمّدًا (6862) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
[2] أخرجه مسلم في الأضاحي، باب: تحريم الذبح لغير الله... (1978) من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
ــــــــــــــــــــ(67/190)
العار أكاديمي
...
...
3565
...
الأسرة والمجتمع, العلم والدعوة والجهاد
...
...
الإعلام, قضايا المجتمع
...
عبد الله بن يعقوب تركستاني
...
...
مكة المكرمة
...
...
...
الشهداء
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- الإسلام دين الخير والعدل. 2- تحريم الفساد والإفساد. 3- من أنواع الفساد. 4- ضرورة كشف مخططات المنافقين. 5- فساد بعض القنوات العربية. 6- برنامج: "ستار أكاديمي" وخبث أهدافه. 7- إنها حرب إعلامية لا أخلاقية. 8- وسائل تسويغ العهر والرذيلة. 9- سبل العلاج على مستوى الأفراد. 10- سبل العلاج على مستوى المجتمعات.
الخطبة الأولى
أما بعد: فاتقوا الله معاشر المسلمين، واعلموا أن أصدقَ الحديثِ كلامُ الله، وخيرَ الهدي هديُ محمدٍ ، وشرَّ الأمورِ محدثاتها، وكلَّ محدثةٍ بدعة، وكلَّ بدعةٍ ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يدَ الله على الجماعة، ومن شذَّ عنهم فمات فميتته جاهلية.
أيها المسلمون، إن دينَ الإسلام دينُ الخير والعدلِ والإحسان، إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ [النحل:90]. دينُ الصلاح والإصلاح، يدعو إلى الخير وينهى عن الشرّ والفساد، وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا [الأعراف:56].
الفسادُ في الأرض إجرام، نهى عنه ربُّنا جلّ وعلا، وتتابعت رسُلُ الله وأنبياؤه ينهَون عن الفساد في الأرض، قال نبيّ الله صالح عليه السلام لقومه: وَاذْكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِن بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الأرْضِ تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُواْ ءالآء اللَّهِ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِى الأرْضِ مُفْسِدِينَ [الأعراف:74]، ونبيُّ الله شعيب يقول لقومه: وَيا قَوْمِ أَوْفُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأرْضِ مُفْسِدِينَ [هود:85]، ونبي الله موسى يخاطب أخاه نبيَّ الله هارون قائلاً له: اخْلُفْنِى فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ [الأعراف:142]، وصالحو البشر يخاطبون قارون قائلين له: وَابْتَغِ فِيمَا ءاتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلاَ تَبْغِ الْفَسَادَ فِى الأرْضِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ [القصص: 77].
الفسادُ في الأرض خُلُق اللئام من البشر، والله لا يحبّ المفسدين ولا يصلِح عملَهم، قال تعالى عن أعدائه اليهود: وَيَسْعَوْنَ فِى الأرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ [المائدة: 64]، وقال تعالى عن موسى ومخاطبته آلَ فرعون: فَلَمَّا أَلقوا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ [يونس: 81].
أيها المسلمون، لقد رتَّبَ عزَّ وجلَّ على الفسادِ عقوبةً عظيمة، قال تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِى قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِى الأرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْفَسَادَ وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ [البقرة: 204-206] وقال: وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِى الأرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوء الدَّارِ [الرعد: 25].
أيّها المسلمون، عندَ تدبُّر كتابِ الله والتأمُّل فيه نرى فيه نهيًا وتحذيرًا عن أنواع من الفساد؛ ليكون المسلم على حذرٍ من أيِّ نوع من أنواعها.
ومن أنواع الفساد إضلالُ الناس وتشكيكُهم في دينهم وصرفُهم عن الطريق المستقيم، وهو خُلُق المنافقين، قال الله عنهم: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِى الأرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ [البقرة: 11، 12].
أيها الأحبة، ولأن الله تعالى أمر بفضح المنافقين وكشفِ خُططهم ومؤامراتهم وما يكيدونه للمسلمين، فقال تعالى: وَكَذَلِكَ نفَصّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ [الأنعام:55]، وقال: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ أَن لَّن يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ وَلَوْ نَشَاء لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِى لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ [محمد: 29، 30] لذا نرجو منكم العذر في ذكر بعض العبارات غير المألوفة في مثل هذا المقام. والله المستعان.
أيها الأحبة، عندما أدركنا خطورةَ تسخير تقنية البثّ المباشر في إنشاء قنوات بثّ فضائية تعبُر حدودنا وتغزو منازلنا، ركّزنا على التحذير من مخاطر الغزو الفكري الغربي لمجتمعاتنا عبر القنوات الفضائية، وتوقّع كثيرون أن تستغلَّ الدولُ الغربيةُ هذه التقنية لإفسادِ الصالح من مجتمعاتنا عن طريقِ نشرِ الإباحيةِ والتنصيرِ وأفكارِ التحرّرِ من القيمِ الأخلاقيةِ، وترويجِ ممارسةِ الفاحشةِ بطرقٍ محرّمةٍ مبتذلة، وركَّزَ المصلحون حينذاك على التحذيرِ من الرياحِ القادمةِ من الغرب، لكنَّ الذي حدث وبكلّ أسف هو ما لم يكن في حسبان أحدٍ منا، وهو أن التسابقَ في عالمِ إفسادِ القيمِ والأخلاق جاء من قنواتٍ عربيةٍ صِرفة!! عربيةِ التمويلِ واللغةِ والإخراجِ والممثلين والمخطّطين.
الغربُ الكافر بثَّ قنواتِ فسادٍ ومجون، لكنه كعادته جعلها بمقابلٍ ماديّ، أما نحن فمشكلتنا بل مصيبتنا جاءت من رجالِ أعمالٍ عربٍ ومسلمين، لا يهمّهم الربح بقدر ما تهمّهم الشهرة، ويكفيهم مردودُ الإعلانِ والاتصالاتِ الهاتفية من البعض ليفسدوا الكلّ إن استطاعوا، فكانت قنوات مجانية متاحة عبر كل الأقمار وبمجرد ضغطة زرّ الزناد القاتل للقيم والأخلاق.
نعم، ما كدنا نحتج ونحذّر من قنوات الغناء المبتذل والفيديو كليب الملوّث بالعري والجنس الرخيص والإغراء وترويج بضائع الغانيات والقينات باسم الغناء، حتى فوجئنا بقنواتٍ فضائيةٍ عربية تقدم نوعًا جديدًا من الفساد، في بثٍّ حيّ ومباشر للخلاعة والمجون، في الوقت الذي يُمزَّق الإسلام وأهلهُ في كلِ مكان، وتستحل ثروات العرب والمسلمين، وتهدر دماؤهم رخيصة في فلسطين وفي كل الأرض، وبينما الإسلام يئن ضعفًا وخورًا من أهلهِ, ويشتكي ألمًا وقهرًا من تسلط الملاحدة والزنادقة، إذا بنا نفاجأ بانحطاط جديد يخترعه الغرب، ثم يأتي من يزعمون أنهم عرب ومسلمون، ليستنسخوا هذا الانحطاط، ويطبقونه على أولادنا وشبابنا وبناتنا، ويجعلون العالم العربي والإسلامي كلّه مشدوهًا مشدودًا بآخر التقليعات الساقطة والمنكر الفاضح ومبارزة الله في المعاصي.
يقول تعالى في أمثال هذه القنوات السافلة وقيادتها الساقطة: إِنَّ الذين يُحِبُونَ أن تَشيعَ الفاحِشَةُ في الذين آمَنُواْ لَهُم عَذابٌ أليمٌ في الدُنيا والآخرةِ واللهُ يَعلَمُ وأنتُم لا تَعلمُونَ [النور:19]، ويقول تعالى: وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيمًا [النساء:27]. نعم، يريدون أن نميل إلى الباطل ميلاً عظيمًا عبر برامج سحقت الفضيلة وزينت الرذيلة ونسفت الأخلاق والقيم.
هذه الفضيحة الأخلاقية التي تعيشها أمتنا المهزومة روحيًا وعسكريًا هذه الأيام أخبر بها المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم فيما يرويه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه في الحديث المتفق عليه: ((لتتبعن سنن من كان قبلكم, حذو القذة بالقذة, شبرًا بشبر، وذراعًا بذراع, حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه))، قلنا: يا رسول الله، اليهود والنصارى? قال: ((فمن؟!)).
تصوروا ـ يا رعاكم الله ـ قناةً عربيةً تبث على مدى 24 ساعة يوميًا، لا تعدو كونها مجموعةَ كاميرات، تصوِّرُ إقامةً مختلطةً لمجموعةٍ من النساءِ وأشباهِ الرجال في أحدِ الأوكار، وتَنْقُلُ بالصوتِ والصورةِ سلوكَهم الرخيصَ غيرَ الهادف، غير المحكوم بقيم أو أخلاق.
تصوِّرهم وهم يأكلون، وهم يرقصون، وهم يتبادلون اللهوَ غير البريء والقُبلَ والأحضان، يتنافسون على المنكر وعلى كل ما يغضب الله تعالى، فمن يكن منهم أكثر إجادة للرقص يكن فائزًا بالدرجات العليا! ومن يكن أكثرهم حميمية مع صديقاته ولطيفًا ورومانسيًا يكن هو الفائز! ومن يجيد المقامات والغناءَ والعزف وكلَّ أنواعِ الغفلةِ يكن هو الأول عليهم! ثم إذا أقبل السحر ركّزت الكاميرا على غرفِ نومهم، وهم مستغرقون في نومٍ حقيقي بلباسٍ مبتذل. أما الشريط الإخباري أسفلَ الشاشة فيحمل رسائلَ غرامٍ، لا تقلّ مجونًا عمَّا تحمله الكاميرا.
كم هي خطة ساقطة ومهينة تلك التي خطّط لها القائمون على هذا البرنامج الفاضح والمسمّى: "ستار أكاديمي"، والذي تبثه إحدى القنوات العربية المشتهرة بالعهر والفساد، فالقائمون على هذه القناة السافلة علاوةً على سحقهم لقيمِ الفضيلةِ والأخلاقِ علانيةً في نفوس الشباب والبنات من خلال برامجهم المختلفة، فقد جنوا كذلك الملايين والملايين من وراء الاتصالات التي تصل للبرنامج, فأنتَ من ترشّحُ اليوم ليكون الفائزَ بهذه الرقصة? وأنتِ ـ يا أيتها الفتاة ـ من ترشحين من الشباب ليكون الفائزَ عندكِ? ومن هو الشابُ الذي دخل قلبَكِ وتتمنين أن تقضي أوقاتًا دافئة معه? ساعدي هذا الشاب، وأنتَ ساعد هذه الفتاة التي أُعجبت بقِوامها واتّصل وأعطها صوتك. وهكذا يمزقون الفضيلة وينحرون الحياء والعفاف، قاتلهم الله أنى يؤفكون.
برنامج حقير يبين طريقةَ هؤلاء الساقطين في تضييعِ وإفسادِ بناتنا وشبابنا، حيث إنهم يجعلونهم يألفون المنكر، وقليلاً قليلاً يعتادون على الحرام, ويعايشونه لحظة بلحظة، ورويدًا رويدًا حتى يعتادون على أن يعيشوا مثل الحياة التي يعيشها المشاركون في "ستار أكاديمي"، وشيئًا فشيئًا يكونون جزءًا من واقعهم وحياتهم الساقطة، ويجعلون الشباب والفتيات يقولون في أنفسهم: كلُ هذه الرقصات والضم والتقبيل على مرأى ومسمع من العالم أجمع، وعلى الهواء مباشرة، ومع هذا الناسُ يصوّتون لهم ويشجعونهم، فما بالنا نحن لا نفعل مثلهم ولو في الدس والخفاء؟! لماذا لا نقلد حياتهم الرومانسية؟! وهكذا، يسعون لتخنيث الشاب، فلا حميّةَ له على أخته أو أهله أو عرضه، والفتاةُ تتعلّم أصولَ العهرِ والفجورِ بالمجّان، وعلى الهواء مباشرة، وهكذا تُنحر كلُ فضيلةٍ في المجتمع، ولا يبقى من القيم والمثل الكريمة إلاَّ الشعاراتُ الجوفاء. فأيّ سطوةٍ للخلاعة والدعارة تحدث الآن?! شعوبٌ ومؤسسات من عدة دول عربية إسلامية تستنفر جهدها ووقتها ومالها لإنجاح مراهق أو مراهقة في الغناء, وفي إثبات أنه الأكثر بسالةً في الصمود حتى آخر السباق، وتحتفل البلاد التي يقترب نجومها من التصفيات, وتبدو كأنما تُهيئ نفسها لإطلاق قمرٍ فضائي في مداره, أو كأنها ستهدي للأمة قائدًا ربانيًا أو فاتحًا عظيمًا! فأيّ خلاعةٍ تمارسُ بوقاحةٍ على مستوى الأمة?!
مراهقون ومراهقات يرقصون على ضفاف نشرات الأخبار المثقَلة بالاحتلالات والشهداء, وكلما سقط منهم واحد في التصفيات بكت عليه الأمّة كما لم تبكِ سقوط بغداد! فرحماك رحماك يا رب، اللهم لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا.
أيها الأحبة، إن هذه الحرب الإعلامية غير الأخلاقية التي تشنّها الفضائياتُ العربية على المشاهدِ العربي المسلم في عمقه الفكري والأخلاقي بدأت تأخذ منحى نوعيًا لم يكن أشدّ المحذرين منها ومن خطورتها يتوقعه، يتصل هذا التحول النوعي بالخلفيات والأسس التي تنطلق منها هذه الحرب الضروس، خاصةً في جانبها الأخلاقي، فلم تعد مظاهرُ الغوايةِ والعري والفحشِ والغناءِ الماجنِ والاختلاءات الآثمةِ والمشاهد الفضائحية إلى آخر ذلك العبث الأخلاقي، لم تعدْ تُعرضُ في سياقِ الاعتراف بمخالفتها الشرعية والأخلاقية والتربوية، وإنما باتت تعرض في سياق عكسي تمامًا، هو سياق التسويغ والتبرير، منطلقةً في ذلك عبر ثلاث وسائل رئيسة:
الوسيلة الأولى: إباحة الباطل، وذلك بنفي أن يكون في تلك المظاهر ما يخالف الدين والخُلُق، والجدلِ بأن تصنيفها في دائرة المحرم لا يستند إلى أدلة متفق عليها بقدر ما يعود إلى اجتهادات ذاتية في معاني النصوص، ومن ثَمَّ يكون هذا الحكم رأيًا قابلاً للنقاش والاختلاف! ومن ثَمَّ أيضًا يكون بالإمكان وفق هذا المنطق جعْلُ تلك المظاهر في دائرةِ المباح، رغم أنها ليست من المسائل الخلافية، سواء كان الخلاف فيها معتبرًا أو غير معتبر، وإنما هي من المحرم القطعي بالنص والإجماع.
الوسيلة الثانية: إيجابُ الباطل، وهذه الوسيلةُ أشدُ خطرًا من سابقتها، لأنها لا تقف عند نفي تحريم تلك المظاهر والجدال لإباحتها، وإنما تتجاوزه إلى مدى أبعد وأخطر، وهو محاولة إيجابه بالحكم الشرعي، بنسبة الرضا عنها وإقرارِها إلى الله، تعالى الله عما يقوله الظالمون علوا كبيرًا.
ولأنَّ الباطلَ ذو نَسَقٍ واحد فمقولةُ اليوم ليست إلاَّ إعادةً لمقولةِ الأمس، مقولةِ الذين أرادوا تشريع باطلهم بأنه أمرُ الله وإيجابُه افتراءً عليه، قال تعالى: وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا [الأعراف:28].
في هذا السياق كان ثمةَ من يعلّل حماستَه لإنجاح أحدِ مهرجانات الاختلاط العربية مؤخرًا بأن النبي يحث على الإتقان! وعلّل أحدُ الكتّاب العرب دفاعه عن ظاهرة العري بأن الله خلق الجمال من أجل الاستمتاع به. والحقيقةُ العقديةُ الشرعيةُ التي قفز عليها هؤلاء وأولئك من المفترين أن الله تعالى وإن قدَّرَ الغوايةَ والفاحشةَ والباطلَ كونًا يقتضي الحدوث والوقوع لحكمةٍ بالغةٍ يريدها، فإنه لا يأمر بها ولا يرضاها شرعًا: قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [الأعرافل:28].
الوسيلة الثالثة: تحييد الباطل وتجريده عن الحكم الشرعي، بمعنى نفي خضوع الأفعال للأحكام الشرعية وضوابطها. فقد نفوا عن الأحكام الشرعية القدسية والعصمة والاطراد والثبات، وذهبوا إلى أنها نتاج ظروف تاريخية غير ملزمة، وأن معايير الحكم على الأفعال يجب أن تكون عقلية صرفة، فما رآه العقل حسنًا فهو حسن وما رآه قبيحًا فهو القبيح. وهذا الفكر المنحرف هو فكر المعتزلة في القديم والعصرانيين العقلانيين في الحديث. ووفق هذا المنهج صارت مظاهرُ الباطل نسبية ومتحولة، فما يكون اليوم حقًا من الممكن جدًا أن يكون غدًا باطلا، وما هو باطل اليوم يكون غدًا حقا لدى رواد هذا الفكر المنحرف.
ولأن مشهد الفضاء العربي مفتوح على إبداع وسائل تسويغية أخرى للغواية والباطل فقد ابتكرت هذه القناة أخيرًا وسيلةً رابعةً تقوم على توظيف المصطلحات والدلالات، فعلى حين تعني "الأكاديمية" في الدلالات والأعراف العلمية المكانَ المهيّأ للبحث والتعليم والمدارسة، وهو اصطلاح يتقاطع مع مصطلح الجامعة، صارت بعد توظيفه من قبل تلك القناة مكانًا تسويغيًا لمظاهر أخلاقية سلبية.
فهل ثمة أكاديمية حقيقية؟! وهل هناك غايات مجردة في ذلك؟! إن مناخ الاختلاط بين أولئك الشباب، وتشجيعهم على التفاعل البيني، ودعوتهم إلى كسر الحواجز النفسية والاجتماعية الحائلة دونهم، واعتماد الملابس العارية للفتيات، وتشجيع وغض الطرف عن حالات التماس الصريح بين شباب من الجنسين بالضم والقبلات والنظرات والغمزات والضحكات، ثم النقل الفضائي الموجّه على مدار الساعة، إضافة إلى حالات الغواية العقدية التي ظهرت بين بعض الشباب من خلال حالات الاستعانة بالأحراز والتمائم والتعويذات، كل ذلك يؤكد أنه ليس ثمة أكاديمية حقيقية، وليس هناك أهداف مجردة، وإنما هي مشروع تقويضي يمثل فيها أولئك الشباب المشارك الطُّعم، والشباب المشاهد الهدف، وتظل هذه الأكاديمية المستعارة المزعومة ساحة حرب حقيقية، وأولئك الموظفون المسوغون يرمون إلى النيل من العقيدة والأخلاق نيلاً لا هوادة فيه!
هذا التوظيف التسويغي جديد في صورته، إلا أنه من حيث الحقيقة يذكرنا بتوظيف قديم توسّل بالدلالة الاصطلاحية أيضًا، غير أن الفرق أن هذا التوظيف الحادث كان لمكان بحث ومدارسة، أما التوظيف القديم فمكان عبادة وطاعة، إذ وظف المنافقون مسجدهم للإرصاد ومحاربة الله ورسوله ومضارة المؤمنين، ولهذا سماه القرآن مسجد الضّرار.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ [البروج:10].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين.
الخطبة الثانية
أيها المسلمون، أيها الشرفاء، أيها الأحرار، أيها الرجال، يا أصحاب الغيرة، يا أصحاب النخوة، يا أصحاب الشهامة، لقد عظمت المصيبة وجلَّ الخطب وبلغ السيل الزبى واتسع الخرق على الراقع.
لسنا هنا لكي نصرخ ونولول ونبكي عظائم الأمور، بل لوضع الحلول والعلاج لهذه القضية العويصة، وفي نظري القاصر أن العلاج لهذه القضية له طرفان: خاص وعام، أما الخاص فعلى مستوى الأفراد، والعام على مستوى المجتمعات.
أما العلاج الخاص لمن أراد الخلاص بصدق وإخلاص فأولاً: ذكر الله وتلاوة القرآن، قال تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [الأنفال:2]، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِين [يزنس:57]، وقال جل وعلا: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا [الإسراء:82].
إن الدواء الناجع الذي تطيب به القلوب القاسية هو ذكر الله تعالى، وأعظمه تلاوة القرآن الكريم، فإنَّه حياة القلوب، والقلب الذي ليس فيه شيء من القرآن قلب خرب عشعشت فيه الشياطين، قلب أغلف محجوب عن رحمة الله تعالى.
ثانيًا: صدق التضرع إلى الله ودوام اللجأ إليه والتباكي بين يديه، فعليك بالإخلاص فإنه خلاصك، وداوم الإنابة إلى رب العالمين، واستحضر عظيم جنايتك التي حالت بينك وبين ربك، واستعن في ذلك بقراءة آيات الوعيد، وقراءة الكتب التي تصف لك الدار الآخرة، أو سماع الأشرطة التي يخشع لها قلبك، وقم بين يديه جل جلاله، مظهرًا فقرك وشدة احتياجك إليه، وابك على خطيئتك، وادع دعاء الغريق.
فعن ابن عبّاس قال: كان النّبيّ يدعو يقول: ((ربّ أعنّي ولا تعن عليّ، وانصرني ولا تنصر عليّ، وامكر لي ولا تمكر عليّ، واهدني ويسّر الهدى لي، وانصرني على من بغى عليّ، ربّ اجعلني لك شكّارًا، لك ذكّارًا، لك رهّابًا، لك مطواعًا، لك مخبتًا، إليك أوّاهًا منيبًا، ربّ تقبّل توبتي، واغسل حوبتي، وأجب دعوتي، وثبّت حجّتي، وسدّد لساني، واهد قلبي، واسلل سخيمة صدري)) رواه الترمذي.
ثالثًا: حضور مجالس العلم والوعظ والتذكير والتخويف والترغيب، فعن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه : ((من سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا سهّل اللّه له به طريقًا إلى الجنّة، وما اجتمع قومٌ في بيت من بيوت اللّه يتلون كتاب اللّه ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السّكينة وغشيتهم الرّحمة وحفّتهم الملائكة وذكرهم اللّه فيمن عنده)) رواه الترمذي.
رابعًا: ذكر الموت، أكثر من ذكر هادم اللذات ومفرق الجماعات، وقد كان رسول الله يتعاهد قلوب أصحابه بتذكيرهم بالموت. قال الله تعالى: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ
[الأنبياء:35]، وقال الله: قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِن فَرَرْتُم مِّنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لا تُمَتَّعُونَ إِلا قَلِيلاً [الأحزاب:16].
يا نفسُ توبي فإِن الموتَ قد حانا واعصِ الهوى فالهوى ما زال فَتَّانا
في كل يوم لنا مَيْتٌ نشيّعهُ ننسى بمصرعهِ آثارَ مَوْتانا
يا نفسُ ما لي وللأموالِ أكنزُها خَلْفي وأخرجُ من دنيايَ عريانا
ما بالُنا نتعامى عن مَصارِعنا ننسى بغفلِتنا من ليس يَنْسانا
ولم أرَ مثلَ الموتِ حقًا كأنه إِذا ما تخطته الأماني باطل
وكلُّ أناسٍ سَوْفَ تَدْخُلُ بَيْنَهُم دُوَيْهِيَةٌ تَصْفَرّ مِنْهَا الأنامل
الخامس: إيجاد البديل المناسب الموافق لدين الله تعالى، ولن يعدم الإنسان البديل إذا سأل واستشار، المهم هو صدق النية في الخلاص من هذا البلاء المدمر والسيل الجارف ومن صدق الله صدقه الله.
أما العلاج على مستوى المجتمعات فأولاً: إيقاف جميع القنوات المشبوهة وما أكثرها، وإيقاف كل قنوات المجون العربية عن طريق قرار سياسي تتخذه القيادات العربية في اجتماعاتها، لأن الأمر خطير ويتعلق بمصلحة أمة وشعوب، وله انعكاسات سلبية خطيرة على أجيالنا القادمة، ونحن أمة ذات قيم دينية وحضارة وأخلاق، ولنا قضايا مصيرية ملحة تستوجب إعداد أجيال لنصرتها، ولا يجدر بنا أن ننتظر حتى نؤاخذ بما يفعل السفهاء منا.
ثانيًا: إيجاد القنوات البديلة المناسبة للأسرة والشباب، والتي تخدم قضايا الأمة ومصالحها.
ثالثًا: وضع الخطط والبرامج الملائمة لاحتواء الشباب فكريا واجتماعيًا وثقافيًا.
رابعًا: إبراز القدوات العظيمة التي تمتلئ بها ذاكرة التاريخ من العلماء والنبلاء ورجالات الأمة، وتقديمهم للناس بدلاً من القدوات الساقطة المهينة التي تعلق بها الشباب.(67/191)
وأخيرًا ما أحوجنا في هذه الأيام إلى كاتب يحمل همّ مجتمعه، ناقدٍ صادقٍ بحسِّ المسلم الفطن الكيّس. ما أحوجنا للإعلامي البارع الذي ينتقد الوضع الخاطئ في مجتمعه, نقدا يسكب فيه بلسما يعالج آلام مجتمعه ومآسيه. ما أحوجنا لمثقفٍ يكشف ببنانه ولسانه زيف المزيفين وحقد الحاقدين. ما أحوجنا لعالم يخرُج من مكتبته ودرسه ليرى الخلل في المجتمع ومدى المصائب التي حلت عليه. ما أحوجنا لمن يفتح عقول شبابنا على المؤامرات المحيطة به لجره بعيدًا عن دينه وهويته وتغريبه عن محيطه الإسلامي.
إن العلاج ليس بالأمر الصعب إذا صدقت النفوس وحسنت النوايا وأريد بذلك وجه الله.
ــــــــــــــــــــ(67/192)
أبغض الحلال
...
...
3625
...
الأسرة والمجتمع, فقه
...
...
الطلاق, قضايا المجتمع
...
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
...
...
الرياض
...
17/11/1424
...
...
جامع الإمام تركي بن عبد الله
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- فضل شريعة الإسلام على قوانين البشر. 2- عناية الإسلام بقضية الطلاق. 3- حرص الإسلام على الحياة الزوجية السعيدة. 4- الطلاق عند غير المسلمين. 5- سدّ الذرائع المفضية إلى الطلاق. 6- مشروعية الطلاق وبيان شروطه. 7- مفاسد الطلاق. 8- أسباب كثرة الطلاق.
الخطبة الأولى
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، إنَّ من ينظر نظرةً عابرة ويقارن مقارنةً بدائية بين شريعةِ الله التي أنزلها على عبده ورسوله محمّد وبين القوانين الوضعيّة والدساتير البشرية ليَرى العجَبَ العُجاب، أنظمةُ البشر قوانينُ البشر دساتير البشر مهما بالغ العقلاء منهم وذوو الرأي والفكر منهم فإنهم لا يستطيعون أن يجعلوها قوانينَ ثابتة تستمرّ عبرَ القرون، بل دائمًا يُدخلون عليها التعديل، زيادةً ونقصانًا، وربما تُلغَى بعد مُضيِّ جيل من الزمن، وقُصارى جهدهم أن يضعُوا خطوطًا عامّة، لكن التدخُّل في الحياة الشخصيّة وتنظيم الحياة فإنّ دساتيرهم تعجز عن ذلك. من مبادئهم الحريَّة الشخصية للإنسان، ليعمل ما يشاء، ويتصرّف كيف يشاء، بلا قيدٍ في كلِّ تصرُّفاته.
إنها قوانينُ لا يُمكن استمرارها ولا ديمومتُها، بل لو فكَّرتَ كلَّ التفكير وأرجعتَ البصر بعيدًا لرأيت القوانين ما قرنٌ إلا وقانونٌ يأتي، وإن استمرَّ فلا بدّ من تعديل؛ زيادةٍ، إضافة، نقصٍ وحذف، تعديلٍ، إلى غير ذلك.
أمّا شريعة الإسلام التي أكمَلها الله وأتمها ورضيَها دينًا وبعث بها خيرَ خلقِه وأفضلَ خلقه سيّد ولد آدم على الإطلاق أفضل خلق الله محمد فهي الشريعةُ الكاملة، وهي الشريعةُ التامّة، وهي الشريعةُ القادرة على معالجة مشاكلِ المجتمع، حاضِره ومستقبله، وصدق الله: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلاَمَ دِينًا [المائدة:3].
شريعةٌ ساسَ بها محمّد الرعيلَ الأوّلَ من أصحابه، وهي أيضًا يُساس بها المسلمون إلى أن يرثَ الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين. مع مرورِ القرونِ العديدة فلا يمكن أن يأتيَ زمنٌ تعجز الشريعة عن معالجةِ مشاكله، قواعدُها واجباتها نظُمُها باقيةٌ صالحَةٌ ومُصلِحة لكلّ جيل وقرن، ولذا قال إمام دار الهجرة مالك بن أنس رحمه الله معبّرًا عمّا انطوى عليه ضميرُه من ذلك الإيمان الصادِق واليقين التامّ بهذه الشريعة: "لن يُصلِح آخرَ هذه الأمة إلاَّ ما أصلح أوَّلها"[1] صدق رحمه الله، فلن تصلُح الأمّة آخرُها إلا بذلك الشرعِ الذي صلَح به أوّلها وسار عليه أوّلها، جعلنا الله وإياكم من التابعين لهم بإحسان.
أيّها المؤمن، شريعةُ الإسلام نظَّمت علاقةَ العبد وصلته بربِّه، وحالَه مع نفسه، وحاله مع زوجتِه ومع أولاده ومع أبويه ومع رحِمِه ومع جيرانه ومع مُجتمعه ومع المسلمين عامّة، حتى علاقته مع غير المسلمين، كلُّ ذلك لكمالها وانتظامها، أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك:14].
نسخ الله بها جميعَ الشرائع، وجعَلها شريعةً مهيمِنة على كلِّ الشرائع، ولن يقبل من أحدٍ دينًا إلا الدين الذي بعث الله به محمّدًا، وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقّ مُصَدّقًا لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ [المائدة:48]، وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِى الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ [آل عمران:85].
أيّها المسلم، لننظُر مثلاً إلى قضيةٍ من قضايا المجتمع، ألا وهي قضيّة الطلاق. قضيةُ الطلاق قضية إسلامية، عالجها الكتابُ والسنة بأحسنِ علاج، ونظّمها أحسنَ نظام، فجاء نظامه نظامًا معتدلاً، راعى فيه الجانبين، فليس ظلمًا لأحدٍ على حساب منفعةِ أحد.
إنَّ القوانينَ الوضعية أحيانًا تدَّعي زُورًا وكذِبًا أنها مع المرأة المهضومة المظلومة، ولكن لماذا معها؟ معها على حسابِ الإضرار بالزوج وسلبِه صلاحيتَه، فهم يدَّعون أنَّهم مع المرأة، والواقعُ أنّ ذلك الحيفُ والجَور، حتى لا يكون للرجل أيُّ قِوَامَةٍ وولاية، فجاءت شريعةُ الإسلام بالتوازن والاعتدال وإِعطاء كلِّ ذي حقٍّ حقه.
أيها المسلم، النكاحُ في الإسلام عقدٌ له شأنه وأهميّته، عظَّم الله هذا العقدَ وأعلى شأنه وجعله عقدًا مغلَّظًا: وَأَخَذْنَ مِنكُم مّيثَاقًا غَلِيظًا [النساء:21]. هذا العقدُ النكاحُ الشرعيّ هو الذي يضع اللبنة الأولى لبناء الأسرةِ على النظام الإسلاميّ العادل الذي جاء من ربّ العالمين.
أيّها المسلم، هذا العقدُ العظيم، الذي هو عقدٌ مُهِمّ لا ينبغي فسخه ولا التخلّي عنه إلا بالطُّرق الشرعية التي بيّنها الله في كتابه وبيّنها رسوله .
أيّها المسلم، إنّ الله جلّ وعلا أرشد الزوجين إلى الحياةِ السعيدة، عندما يعرف الرجلُ الحقَّ الواجب عليه، وعندما تعرف المرأةُ المسلمة الحقَّ الواجب عليها، فعند ذلك تكون الحياة الزوجية حياةَ هناءٍ وسعادة، قال تعالى: وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِى عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة:228]. فأخبر أنَّ على المرأة حقًّا، وعلى الرجل حقًّا، فللمرأة على الزوج من الحقوق مثلُ ما للزوج عليها من الحقوق، فإنْ عرَف الزوج الحقَّ الواجبَ عليه إطعامًا وكِسوة وسُكنى ومعاشرةً بالمعروف ورعايةً للزوجية الرعايةَ الشرعية المطلوبة، ثم عَرفتِ المرأة المسلمةُ حقَّ زوجها سمعًا وطاعةً وخِدمة وقيامًا بالواجب ومعاشرةً بالمعروف، إذا عرف كلٌّ من الزوجين واجبَه وأدَّى الذي عليه فإنَّ الحياةَ الزوجية تستمرّ بتوفيقٍ من الله على أسُسٍ من الخير والتَّفاهم.
ولكن إنما تحدُث المشاكلُ عندما يقع القصورُ من الزوج أو الزوجة، فإن قصَّر الزوجُ في واجبه؛ لم ينفق، لم يعاشر بالمعروف، لم يرعَ الرعاية المطلوبة، أو المرأة أيضًا تنكَّرت لزوجها وعَصته ولم تقم بواجبه، فعند ذلك يبدأ تصدُّع هذا البناء، ونسأل الله العافية.
أيّها المسلم، الطلاقُ مشروعٌ فيمن قبلنا، ولكنَّ الدياناتِ السماوية قبل الإسلام بينها اختلافٌ في هذا المبدأ، فمنهم من يبيح الطلاقَ مطلَقًا، ويجعل الزوجَ حُرًّا في إيقاع ما شاء من العدد، ومن بعض الديانات من يلغي الطلاقَ ويجعل المرأة غِلاًّ في عنقِ زوجها، يُنفق عليها ولو لم تكن معه، ويُحمَّل مسؤوليّتها ولو لم تَقُم بواجبه، وجاهليةُ العرب كانوا على شيء من الانحرافِ في هذا الجانب، فجاءت شريعةُ الإسلام بالعدلِ والإنصاف وإعطاء كلِّ ذي حقٍّ حقَّه.
أيّها المسلم، الإسلام أباح الطلاقَ في الجملة، ولكن تلك الإباحةُ مقيّدة بالشروط الشرعيّة، فأخبرنا نبيّنا أن أبغضَ الحلال إلى الله الطلاقُ وقال: ((ما أباح الله أبغضَ إليه من الطلاق))[2]، فهو مباح في الجملة، لكنه مباح بشروطه وضوابطه، فليس الأمر مجرَّدَ إيقاع طلاق وهدم البيت بأيّ كلام، لا، لا بدّ للرجل أن يتصوَّر عندما يوقع الطلاق: ما هي المفاسد المترتِّبة على هذا الطلاق؟ وهل الطلاق هو الحلّ؟ وهل الطلاق أنفعُ أم الاستمرار أنفع؟ فلا يُحكِّم عاطفته، ولا يستمرّ في طيشانه وحماقته، بل يتأملّ ويتدبّر ويتعقّل، فهذا هو المطلوب.
انظر أيّها المسلم، النبيُّ أمر الرجلَ بالصبر على المرأة، وقال له : ((إن المرأةَ خُلِقت من ضِلع، وإنّ أعوجَ ما في الضلع أعلاه، فإن ذهبتَ تقيمه كسرته، وإن استمتعتَ بها استمتعتَ بها وفيها عِوج))[3]، وقال أيضًا: ((لا يفرُك مؤمنٌ مؤمنةً، إن سخِط منها خُلقًا رضيَ منها آخر))[4]. هذا توجيهٌ للزّوج، أن يكونَ متحمِّلاً للمسؤولية، مراعيًا ضعفَ المرأة وقلةَ تصوّرها وأنها ليست بعيدةَ النظر، فقد تحمِلُها قلّةُ الرأي على التسرُّع في عنادِ الزوج أو طلب الطلاق، فأمرَ الزوجَ أن يصبر، فهو أصلبُ عودًا منها، فليتحمَّل فإنّ اللهَ يقول: فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا [النساء:19].
ثمّ المرأةُ المسلمة مأمورة أيضًا بالسَّمع لزوجها والطاعة لزوجها، وأن لا تتسرَّعَ في طلب الطلاق، وأن تُعرِضَ عنه ما وجدت لذلك سبيلا.
ثم شريعةُ الإسلام أمرت الزوجَ عندما يشعُر من زوجته ببَعض الأمور أن يَعِظها ويذكّرها الله والدارَ الآخرة: وَاللَّاتِى تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ [النساء:34]. ثم أمره بهجرها في الفراش، فعسى إن لم تنفع الموعظة أن يعِظها هجرُ الزوجِ لها في الفراش، قال: وَاللَّاتِى تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِى الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ [النساء:34]، ضربًا لا يؤثر، يؤدِّب ويسُدّ الخلل من غير ضَرَر، فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً [النساء:34]، ليس الانتقام وليس العتابُ المطلوب إذا أطاعتِ الزوجة وانقادت، فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا [النساء:34].
ثم أمر المجتمعَ أيضًا عندما لا تنفعُ تلك الأمور أن يكوّنَ حكَمين من أقرباء الرجل والمرأة، ينظران: هل المصلحة في الاستمرار أو عدمه؟ نظرَ عدلٍ ومصلحة وموازنَة بين الأمور، وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ حَكَمًا مّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا [النساء:35]، إن كانت النية صادقةً وفّق الله بينهما وعادت المياه إلى مجاريها، لكن إذا تعذَّرت كلُّ الوسائل واستعصَت كلُّ الطرق، إذًا فالحلّ الطلاق، ولكن هذا الطلاقُ ليس بالهوَى، وليس بحريّة الناس، الطلاقُ مشروعٌ، ولكنه بحدود وقيود:
فأولاً: أذِن الشارع في الطلاق، لكن أيُّ وقت؟ ليس كلّ وقت تُطلَّق فيه المرأة، إنما يطلقها وهي حامل، أو يطلِّقها في طُهر بعد حيضِها لم يجامعها فيه، لأنّ طلاقه لها وهي حامل ربّما يندم، وطلاقُه لها في حيضها أو في طهر وطئها فيه فربما حملت في ذلك الطهر، وربما طالت عليها العدة في الحيض.
ثم أمر الزوجَ بعد الطلاق أن لا يخرِجَ المطلَّقةَ من بيته إن كانت الطلقة الأولى أو الثانية، رجاءَ أن تعود الأمور إلى طبيعتها، قال جل وعلا: لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلاَ يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لاَ تَدْرِى لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا [الطلاق:1]. فبقاؤُها في المنزل رُبّ نظرة تغيِّر من الواقع، ورُبّ ندَم من أحدهما يُصلح الوضع، والله على كلِّ شيء قدير، إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ [الطارق:8]. لكن إذا لم يكن هناك محبّةٌ ومودّة فلا بد [أن] تبقى حتى تنقضيَ عدّتها بحيضها ثلاثَ حيض إن كانت ممّن تحيض، أو مُضيّ ثلاثة أشهر، أو وضع الحمل فتنتهي بذلك عدَّتها.
ولم يأذَن للزوج أن يجمع عَددَ الطلاق في لفظ واحد، بل جعل ذلك أمرًا منهيًّا عنه، سمع رجلاً يقول لامرأته: أنت طالق بالثلاث، فغضب وقال: ((أيُلْعَبُ بكتاب الله وأنا بين أظهركم؟!)) قام رجل قال: أأقتلُه يا رسول الله؟[5] لأنه رأى غضبَ النبيّ واشتداده على هذا اللفظ، إذ الأولى أن تكون الطلقات متفرّقة، لا تكون مجموعة، بل تكون في أوقاتٍ ثلاثة، ذلكم أن [أهل] الجاهلية في جاهليتهم يطلِّق الرجل المرأةَ الثلاث والأربعة بل الألف، كلّما قاربت انقضاءَ عدتها راجعها، ثم طلقها، فأصبح الزوج متحكِّمًا في أمرها، فجاء الإسلام ورفع ذلك فقال: الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ [البقرة:229]. الطلاق مرتان هذه فيها رجعة، لكن إذا وقعت الثالثةُ فلا تحلّ له حتى تنكح زوجًا غيره، كل ذلك [حتى] لا تكون الفروج ألعوبةً بيد الرجال، وإنما هي أمور محفوظة؛ لأنها تنبني عليها الأسرة، فلا بدّ من سلامة هذه الأمور وانتظامها الانتظامَ الشرعيّ.
أيّها المسلم، إنّ عدوَّ الله إبليس أحبُّ شيء إليه أن ينهدمَ البيت وتتفرّق الأسرة ويتشتّت الشمل، جاء في الصحيح: ((إنَّ إبليس يضع عرشَه على الماء، ويبثّ جنودَه، فيأتيه الواحد فيقول: ماذا فعلت؟ قال: ما زلتُ بفلانٍ حتى قطَع رحِمَه، قال: ما عملتَ شيئًا، يوشك أن يصلَ رحِمه، ويأتيه الآخر ويقول: ماذا عملت؟ قال: ما زلت به حتى عقَّ أمَّه وأباه، قال: ما فعلتَ شيئًا، يوشك أن يعود إليهما، ويأتيه الآخر فيقول: ماذا عملت؟ قال: ما زلت بفلان حتى طلَّق امرأته، قال: فيدنيه ويضمُّه ويقول: أنتَ أنتَ أنت))[6]، فرَحًا بالتمزُّق والتفرُّق؛ لأنه يكره الاجتماعَ والتآلف.
أيها المسلم، حاسِب نفسك، وقِف مع نفسك وقفات، إذا أردتَ الإقدامَ على الطلاق، انظر حالك وحالَ المرأة وحال الأولاد الصغار، ماذا سيكون حالهم؟ سيتشتّتون ويتفرّقون بينك وبين أمّهم، فإما تمسُّكُ الأمّ بهم فيضيعون، وإما تمسُّكُ الأب بهم فيضيعون، وتقسو قلوبهم، ويتفرّق شملهم، ويُحدِث عليهم صدمةً نفسيّة في أحوالهم. فقِف قليلاً وفكِّر، فكِّر وتأمّل قبل أن تقدِم على الطلاق، ما الملجأ وما المخرج؟ واستِخر الله واستشِر، وإياك والطيشَ والغضب، وإياك والحماقةَ، وإياك والتسرُّع، وإياك أن تجعلَ الطلاق على لسانك في كل أحوالك، فينهدِم بيتُك من حيث لا تشعر.
كم نادمٍ يندم ويقول: ما فعلتُ وما أردت، ويندم ولات حينَ مندَم، فلو فكَّر قليلاً وتأمّل لعلم أنه المخطئ والمقصِّر، ولو أنه تأنّى في أموره وتدارك أحوالَه لوُفِّق للصواب.
ولكن ما هو موقف أهلِ المرأة وأهل الزوج؟ هذا أمر لا بدَّ من النظر فيه. فإنّ بعض أهل البيت، بعض أقرباء الزوجة ربما أعانوا ابنتَهم على الشقاق، وأعانوها على إهانةِ الزوج وإذلاله، ووقفوا معها رغمَ أخطائها وتقصيرها، لكن ابنتهم يحبُّونها فيميلون معَها دونَ أن ينبِّهوها وينصحوها ويرشِدوها، وربما تدخَّل الأبوان في حياةِ الزوج، فحاوَلوا التفريقَ بينه وبين امرأته لأمور تافهةٍ وحكايات ووشايات، وأمور لا تتحمّل هذه الأمور.
إذًا فعلى أهل الزوجة وأهل الزوج أن يكونوا جميعًا عونًا على استمرار هذا العقدِ ودوامه بكلّ ما أمكنهم من وسيلة، إن رأوا من البنتِ خطأً حاولوا تأديبها وتوجيهَها ولفتَ نظرها إلى الأخطاء، وأن الزواج ليس كلّ يوم زوج، وليس المهمّ أن المرأة تُطلَّق وتزوّج، المهمّ أن تنتظِم حياتُها الزوجيّة بدون أيّ بلبلة. ثم أهل الزوج إن رأوا من ابنهم شيئًا من الجفاء وعدم التوازن فلا بدَّ من لفتِ نظره وتبيين الأخطاء حتى تستمرّ الحياة. أما إن كانت الحياة الزوجيّة يتدخّل فيها الأهلون من قبل المرأة والزوج من غير تأمّل ولا روية، فهذا والعياذ بالله سببٌ لهدم البيت وتشتيت الأسرة.
أسأل الله أن يجمع الجميعَ على طاعته، وأن يعيذنا وإياكم من نزغات الشيطان، وأن يرزقنا جميعًا العملَ بشرع الله والاستقامة عليه.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخذ مالك رحمه الله هذه الكلمة عن شيخه وهب بن كيسان كما روى ذلك ابن عبد البر في التمهيد (23/10)، ثم اشتهرت عن مالك لشهرته وإمامته.
[2] أخرجه أبو داود في الطلاق، باب: في كراهية الطلاق (2178)، وابن ماجه في الطلاق، باب: حدثنا سويد بن سعيد (2018) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما نحوه، وأعلّ بالإرسال، ولذا ضعفه الألباني في الإرواء (2040).
[3] أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء، باب: خلق آدم صلوات الله عليه وذريته (3331)، ومسلم في الرضاع، باب: الوصية بالنساء (1468) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بنحوه.
[4] أخرجه مسلم في الرضاع، باب: الوصية بالنساء (1469) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[5] أخرجه النسائي في الطلاق، باب: الثلاث المجموعة وما فيه من التغليظ (3401) من حديث محمود بن لبيد رضي الله عنه، وأعله ابن كثير في تفسيره (1/278) بالانقطاع، وقال الحافظ في الفتح (9/362): "رجاله ثقات, لكن محمود بن لبيد ولد في عهد النّبيّ ولم يثبت له منه سماع, وإن ذكره بعضهم في الصّحابة فلأجل الرّؤية, وقد ترجم له أحمد في مسنده وأخرج له عدّة أحاديث ليس فيها شيء صرّح فيه بالسّماع. وقد قال النسائي بعد تخريجه: لا أعلم أحدا رواه غير مخرمة بن بكير ـ يعني ابن الأشج ـ عن أبيه اهـ. ورواية مخرمة عن أبيه عند مسلم في عدة أحاديث، وقد قيل: إنه لم يسمع من أبيه"، وصححه الألباني في غاية المرام (261).
[6] أخرجه مسلم في صفة القيامة والجنة والنار، باب: تحريش الشيطان وبعثه سراياه لفتنة الناس (2813) من حديث جابر رضي الله عنه بمعناه.
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله، خيرته من خلقه وأمينه على وحيه، بلَّغ الرسالة ونصح الأمّة وأدّى الأمانة وجاهد في الله حقَّ جهاده، صلوات الله وسلامه عليه أبدًا دائمًا إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيّها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، يتساءل المتسائل أحيانًا: نسمعُ أن الطلاقَ قد كثر، وأنّ أعدادَ الطلاق تخيف، وأن كلَّ سنة قد يزداد العدد على ماضيها، فما هي الأسباب يا تُرى لهذه الكثرة؟!
أجل يا أخي، كثُر الطلاق لأنَّ بعضَ الأزواج ليسَ أهلاً لرعاية المرأة، ليس أهلاً لتحمُّل المسؤولية، ليس أهلاً للقيام بالواجب. شخصٌ مذبذَب، ما بين فسادٍ وانحرافِ أخلاق وبُعدٍ عن الدين وشلَّة فاسدة، يسهَر الليالي معهم دونَ مبالاةٍ بالمرأة ومعرفةٍ لحقِّها وقدرها.
كثرُ الطلاق؛ الزوجُ ابتُلي والعياذ بالله بداءِ المسكرات والمخدِّرات، هذا حياةٌ معه عسيرة وشاقّة، فكم تحدِث تلك المخدّراتُ في أفكاره، وكم تحطُّ من أخلاقه، وكم تقضي على فِكره وتصوُّره للأشياء، أعاذنا الله وإياكم من ذلك.
كثر الطلاق لأنّ بعضَ الأزواج ذو حماقة وقلَّة صبر ونفاد صبر، لا يبالي، الطلاقُ على لسانه في القليل والكثير.
كثرُ الطلاق لأنّ هذا الزوج لا يريد مسؤوليةً وتحمُّلَ مسؤولية، فما يعلم أنّ النبي قال: ((الرجل راع في أهله، ومسؤول عن رعيته))[1]، لا يريد رعاية، لا يريد وقوفًا مع المرأة، لا يريد تحمُّل مسؤولية.
كثر الطلاق لأنّ النمَّامين والواشين من أقرباءِ الزوجين ربما أحدَثوا بالنميمة والقيلِ والقال تصدُّعًا في بنيان المجتمع.
كثر الطلاق وللأسفِ الشديد أنَّ بعضَ شبابنا ـ هدانا الله وإياهم ـ كم يستعملون الهاتفَ جوَّالاً أو غيره في إيصال رسائل إلى بعض النساء فيها قبحٌ وسوءُ أخلاق وقلَّة حياء، ربّما تُحدِث عند الزوج شكوكًا وأوهامًا، وهذا أمر خطير.
كثر الطلاق لأنَّ بعضَ الأزواج عنده وساوسُ وشكوك، يأتي للمرأة فيفتح صفحةً عن ماضيها، ماذا جرى؟ وماذا كان؟ فيتكوّن عنده وساوسُ وأمور تكدِّر صفوَ حياته، وذاك ـ يا أخي ـ من الخطأ.
كثر الطلاق لأنّ بعض النساء ـ هدانا الله وإياهن ـ لا يبالين بحقِّ الزوج، خروجٌ من المنزل وترك المنزل، إهمالٌ للمنزل والأولاد، ذهابٌ هنا وهناك بلا استئذانٍ ولا تأمُّل ولا صبرٍ على البيت. امرأةٌ تقول: أهلي وأهلي، وعند أهلي مناسبة، وعند وعند.. فتُكثِر على الزوج أسبابَ الخروج، حتى ربما يمضي معظمُ الليل وليست في بيتها، البيتُ موكُولٌ إلى غيرها من خادماتٍ وغيرهن، فالبيت ضائع لا راعيَ له، السفينة ليس لها ربّان يقودها، تلعب بها الأمواج يمينًا ويسارًا.
فيا أيّها المسلم، ويا أيّتها المسلمة، لنتَّقِ جميعًا ربَّنا في أحوالنا كلِّها، ولنلزم أدبَ إسلامنا، ففيه سعادتنا في حياتنا وأخرانا.
أسأل الله للجميع التوفيقَ لما يحبّه ويرضاه.
وتلك نصيحةٌ لإخواننا المسلمين، والواجبُ التناصُح بين الجميع، نسأل الله أن يجعلنا ممَّن يستمعون القولَ فيتَّبعون أحسنه، أولئك الذين هداهم الله، وأولئك هم أولو الألباب.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أن أحسنَ الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها, وكل بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله على الجماعة، ومن شذ شذ في النار.
وصلوا ـ رحمكم الله ـ على محمد بن عبد الله سيد ولد آدم كما أمركم بذلك ربكم، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىّ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمَّ صلِّ وسلِّم بارك على سيدنا محمد، وارضَ اللهم عن الخلفاء الراشدين...
[1] أخرجه البخاري في الجمعة (893)، ومسلم في الإمارة (1829) عن ابن عمر رضي الله عنهما.
ــــــــــــــــــــ(67/193)
إنها الأمّ
...
...
3628
...
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
...
...
الآداب والحقوق العامة, الوالدان
...
مازن التويجري
...
...
الرياض
...
...
...
جامع حي النزهة
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- شأن الأم وفضائلها العظام. 2- منزلة الأم في الإسلام. 3- رسالة بعثتها أم مكلومة إلى وليدها وريحانة فؤادها. 4- واجب الأولاد نحو أمهاتهم.
الخطبة الأولى
وبعد: أيها الإخوة المؤمنون، فأوصيكم ونفسي بتقوى الله جل وعلا والعمل على طاعته، ياأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1]، ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70، 71].
قلبٌ رحيم وصدر حنون، مجبولٌ على الشفقة، نفسٌ كبيرة وسعت ما لم تسعه آلاف النفوس، خلِق يوم خُلِق فركّبت فيه الرحمة حين خالطت أحشاءَه وسرت سريان الدم في عروقه، يحِبَّ وإن لم يُحَبّ، ويحنو وإن أغلِظ عليه، لا تجازي بالسيئة السيئة، بل يغشى المسيء برّا وإحسانًا، لكأنما حيزَت معاني الحبّ حتى استأثَر بها عمّن سواه، وجُمعت خصال الرقة والشفقة فظفِر بها عن سائر الخلق، لم أصفْه بعد أيها الأخيار، إنه المخلوق الذي قدّم وضحّى ولم يزل، كم حزن لتفرح، وجاع لتشبع، وبكى لتضحك، وسهر لتنام، وتحمّل الصعاب في سبيل راحتك، إذا فرحت فرح، وإن حزنتَ حزن، إذا دَاهمك الهمّ فحياته في غمّ، أمله أن تحيى سعيدًا رضيًّا راضيا مرضيًا، مُناه أن يرفرف السرور في سمائك، وسكن الحبور ربوعَك، إنه المخلوق الضعيف الذي يعطي ولا يطلب أجرًا، ويبذل ولا يأمل شكرًا، هل سمعتَ عن مخلوق يحبّك أكثر من ماله؟ لا، بل أكثر من دنياه، لا، بل أكثر من نفسه التي بين جنبيه، نعم يحبّك أكثر من نفسه، إنها الأم، الأم وكفى، رمز الجنان.
تأمّل ـ يا رعاك ربيّ ـ حالَ صغرك، تذكّر ضعف طفولتك، فقد حملتك أمك في بطنها تسعةَ أشهر وهنًا على وهن، حملتك كرهًا ووضعتك كرهًا، تزيدها بنموّك ضعفًا، وتحملها فوق طاقتها عناءً، وهي ضعيفة الجسم واهنة القوى، وعند الوضع رأت الموتَ بعينها، زفرات وأنين، غصص وآلام، ولكنها تتصبّر، تتصبّر، تتصبّر، وعندما أبصرتك بجانبها وضمتك إلى صدرها واستنشقت ريحك وتحسست أنفاسك تتردّد نسيت آلامها وتناست أوجاعها، رأتك فعلّقت فيك آمالها ورأت فيك بهجة الحياة وزينتها، ثم انصرفت إلى خدمتك ليلها ونهارها، تغذيك بصحتها، وتنميك بهزالها، وتقوّيك بضعفها، فطعامك درّها وبيتك حجرها، ومركبك يداها، تحيطك وترعاك، تجوع لتشبع، وتنهر لتنام، فهي بك رحيمة، وعليك شفيقة، إن غابت عنك دعوتَها، وإذا أعرضت عنك ناجيتها، وإذا أصابك مكروه استغثتَ بها، تحسب الخير كلَّه عندها، وتظنّ الشرّ لا يصل إليك إذا ضمّتك إلى صدرها أو لاحظتك بعينها، تخاف عليك رقّة النسيم وطنين الذباب، وتؤثرك على نفسها بالغذاء والراحَة، فلما تم فصالك في عامين وبدأت بالمشي، أخذت تحيطك بعنايتها وتتبعك نظراتها وتسعى وراءك خوفًا عليك، ثم كبرت فكبر جهالك، وأخذت منك السنين، فأخذ منها الشوق والحنين، صورتك أبهى عندها من البدر إذا استتمّ، صوتك أبدى على مسمعها من تغريد البلابل وغناء الأطيار، ريحك أروع عندها من الأطياب والأزهار، سعادتك أغلى من الدنيا لو سيقت إليها بحذافيرها، يرخص عندها كلّ شيء في سبيل راحتك، حتى ترخص عندها نفسها التي بين جنبيها، فتؤثر الموت لتعيش أنت سالمًا معافى.
روى أحمد والنسائي وابن ماجه عن معاوية بن جاهمة السلمي رضي الله عنه، قال: أتيت رسول الله فقلت: يا رسول الله، إني كنت أردت الجهاد معك، أبتغي وجه الله والدار الآخرة، قال: ((ويحك، أحية أمك؟)) قلت: نعم، قال: ((ارجع فبرها))، ثم أتيته من الجانب الآخر، فقلت: يا رسول الله، إني كنت أردت الجهاد معك أبتغي وجه الله والدار الآخرة، قال: ((ويحك، أحية أمك؟)) قلت: نعم يا رسول الله، قال: ((فارجع إليها فبرها))، ثم أتيته من أمامه، فقلت: يا رسول الله، إني كنت أردت الجهاد معك، أبتغي بذلك وجه اللهَ والدار الآخرة، قال: ((ويحك، أحية أمك؟)) قلت: نعم يا رسول الله، قال: ((ويحك، الزم رجلَها فثمّ الجنة)). إنها الجنة وربّ الكعبة: ((الزم رجلها فثمّ الجنة)).
قال محمد بن المنكدر: "بتّ أغمز رجلَ أمي، وبات أخي عمر ليلته يصلّي، فما تسرّني ليلته بليلي".
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: أتي رجل رسول الله فقال: يا رسول الله، إني جئت أريد الجهاد معك أبتغي وجه الله والدار الآخرة، ولقد أتيت وإن والدي ليبكيان، قال: ((فارجع إليهما، فأضحكهما كما أبكيتهما)) رواه ابن ماجه وصححه الألباني.
عن أنس بن نضر الأشجعي قال: استقت أم ابن مسعود رضي الله عنها ماءً في بعض الليالي، فجاءها بالماء فوجدها قد ذهب بها النوم، فثبت عند رأسها حتى أصبح، ولما قدم أبو موسى الأشعري وأبو عامر على رسول الله فبايعاه وأسلما، قال لهم عليه الصلاة والسلام: ((ما فعلت امرأة منكم تدعى كذا وكذا؟)) قالوا: تركناها في أهلها، قال: ((فإنه قد غفِر لها)) قالوا: بم يا رسول الله؟ قال: ((ببرها والدتها)) قال: ((كانت لها أم عجوز كبيرة، فجاءهم النذير: إن العدوّ يريد أن يغير عليكم، فجعلت تحمل أمها على ظهرها، فإذا أعيت وضعتها، ثم ألزقت بطنها ببعض أمها وجعلت رجليها تحت رجلي أمها من الرمضاء حتى نجت)) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه.
إنها الأم، يا من تريد النجاة، الزم رجليها، فثمّ الجنة، قال ابن عمر رضي الله عنهما لرجل: (أتخاف النار أن تدخلها، وتحب الجنة أن تدخلها؟) قال: نعم، قال: (برّ أمك، فوالله لئن ألنت لها الكلام وأطعمتها الطعام لتدخلن الجنة ما اجتنبت الموجبات)، يعني: الموبقات.
إن البر دأب الصالحين وسيرة العارفين، أراد ابن الحسن التميمي قتلَ عقرب فدخلت في جحر، فأدخلها أصابعه خلفها فلدغته، فقيل له في ذلك، قال: "خفت أن تخرج فتجيء إلى أمي وتلدغها".
قال محمد بن سيرين: "بلغت النخلة على عهد عثمان رضي الله عنه ألف درهم، فعمد أسامة بن زيد رضي الله عنهما إلى نخلة فاشتراها، فنقرها وأخرج جمّارها، فأطعمها أمه، فقالوا له: ما يحملك على هذا وأنت ترى النخلة قد بلغت ألف درهم؟! قال: إن أمي سألتني ولا تسألني شيئًا أقدر عليه إلا أعطيتها".
عبد الله بن عون نادته أمه فعلا صوته صوتها، فأعتق رقبتين، وزين العابدين كان أبر الناس بأمه، وكان لا يأكل معها في صحفة واحدة، فقيل له: إنك أبرّ الناس ولسنا نراك تأكل معها في صحفة واحدة؟! فقال: "أخاف أن تسبق يدي إلى ما سبقت إليه عينها فأكون قد عققتها، ولقد مضى بين أيدينا أقوام لا يعلو أحدهم بيته وأمه أسفله".
إنها الجنة، يا طالب الجنة، الزم قدميها فثمّ الجنة.
روى الترمذي وصححه عن أبي الدرداء رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله يقول: ((الوالد أوسط أبواب الجنة، فإن شئت فأضع ذلك الباب أو احفظه)).
وفي صحيح الترمذي عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، عن النبي قال: ((رضا الرب من رضا الوالد، وسخطه الرب من سخط الوالد)).
قال ابن عباس رضي الله عنهما: (ما من مسلم له والدان مسلمان يصبح إليهما محتسبًا إلا فتح الله بابين ـ يعني من الجنة ـ وإن كان واحدًا فواحد، وإن أغضب أحدهما لم يرضى الله عنه حتى يرضى عنه)، قيل: وإن ظلما؟ قال: (وإن ظلما).
لأمك حق لو علمتَ كبير كثيرك يا هذا لديه يسير
فكم ليلة باتت بثقلك تشتكي لها من جواها آنّة وزفير
وفي الوضع لا تدري عليها مشقة فمن غصص منها الفؤاد يطير
وكم غسّلت عنك الأذى بيمينها وما حجرها إلا لديك سرير
وتعديك مما تشتكيه بنفسها ومن ثديها شرب لديك نمير
وكم مرة جاعت وأعطتك قوتها حنوا وإشفاقًا وأنت صغير
فضيعتها لما أسئت جهالة وطال عليك الأمر وهو قصير
فآهالذي عقل ويتبع الهوى وآهًا لأعمى القلب وهو بصير
فدونك فارغب في عميم دعائها فأنت لما تدعو إليه فقير
رأى ابن عمر رضي الله عنهما رجلاً يمانيًا يطوف بالبيت حمل أمه وراءه على ظهره، يقول: إني لها بعيرها المدلَّل، إن أذعِرت ركابها لم أذعر، الله ربي ذو الجلال الأكبر، حملتها أكثر مما حملتني، فهل ترى جازيتها يا ابن عمر؟! قال ابن عمر: (لا، ولا بزفرة واحدة).
ليس هذا فحسب، بل برها مكفّر للكبائر، قال الإمام أحمد: "بر الوالدين كفارة الكبائر"، وسئل ابن عباس رضي الله عنهما عن رجل قتل امرأته ما توبته؟ قال: (إن كان له أبوان فليبرهما ما داما حيين، فلعل الله أن يتجاوز عنه). وقد جاء عنه مثل ذلك في توبة من تعلّم السحر.
معاشر المؤمنين، كم ساعات قضى فيها المسلم للوالدين حاجات، غفر الله عز وجل بها الذنوب والزلات، وخرج بها الهموم والكربات، كم ولد بار أو فتاة بارة قاما من عند والديهما بعد سلام أو طيب كلام أو هدية متواضعة وقد فتحت أبواب السماء بدعوات مستجابات لهما من والديهما الضعيفين الكبيرين.
فاتقوا الله في الوالدين، سيما إذا بلغا من الكبر والسنّ ما بلغا، ووهن العظم منهما واشتعل الرأس شيبًا، إذا بلغت بهما الحال ما بلغت وأصبحا ينظران إليك نظر الذي ينتظر لقمة هنية أو أعطية جزية.
حَدّث أحد الضباط العاملين في جهاز الدفاع المدني فقال: إنهم وصلوا إلى بيت قد اشتعلت فيه النيران وفي البيت أم وأطفال لها ثلاثة، بدأ الحريق في إحدى الغرف، فحاولت الأم الخروج من الأبواب فإذا هي مقفلة، صعدت سريعا مع أطفالها الثلاثة إلى سطح المنزل لتخرج من بابه فألقته مغلقًا كذلك، حاولت فما استطاعت، كررت فأعياها التكرار، تعالى الدخان في المنزل، وبدأ النفس يصعب، احتضنت صغارها، ضمتهم إلى صدرها، وهم على الأرض حتى لا يصل الدخان الخانق إليهم، والأم الرؤوف تستنشقه هي، لما وصلت فرق الإنقاذ إلى سطح المنزل وجدوها ملقاة على بطنها، رفعوها فإذا بأبنائها الثلاثة تحتها أموات، كأنها طير يحنو على أفراخه يجنبهم الخطر، تدافع عنهم من عدوّ كاسر، وجدوا أطراف أصابع يدها مهشّمة وأظافرها مقطوعة إذ كانت تحاول فتح الباب مرّة، ثم نرجع إلى أولادها لتحميهم من لهيب النار وخنق الدخان مرة أخرى، حتى قضت وقضوا.
في صورة تجسّد روعة التضحية، في لوحة مصونة بألوان الحنان منقوشة بريشة العطف والرحمة.
ومع كلّ هذه التضحية والتفاني في الحفظ والرعاية التي تقدمها الأم لوليدها وفلذة كبدها، حتى قال النبي في بيان عظم حقها مع الوالد: ((لا جزي ولد والده إلا أن يجده مملوكًا فتشتريه فيعتقه)) رواه مسلم.
مع هذا الحب الفياض والعطف الرؤوف والحنان المتدفق نسمع ونرى من صور العقوق ونكران الجميل والقسوة العجيبة والغلظة الرهيبة وإساءة العمل وسوء التعامل ما لو أن الواحد وقف على بعضه وسمع من الأثبات البعض الآخر لأنكره أشدّ النكير ولما تطرق إلى خياله أنه الصدق والواقع.
رسالة تبعَثها أم مكلومة إلى وليدها وريحانة فؤادها، قالت الأم المسكينة: "يا بني، منذ خمسة وعشرين عامًا كان يومًا مشرقًا في حياتي عندما أخبرتني الطبيبة أني حامل، والأمهات ـ يا بني ـ يعرفن معنى هذه الكلمة جدًّا، فهي مزيج من الفرح والسرور وبداية معاناة مع التغيرات النفسية والجسدية، وبعد هذه البشرى حملتك ـ يا بني ـ تسعة أشهر في بطني فرحة جذلة، أقوم متثاقلة، وأنام بصعوبة، وآكلُ مرغمة، وأتنفّس بألم، ولكن كل ذلك لم ينقص من محبتي لك وفرحي بك، بل نمت محبتك مع الأيام وترعرع الشوق إليك. حملتك ـ يا بني ـ وهنًا على وهن وألمًا على ألم، بيد أني كنت أفرح وأفرح كلما شعرت بحركتك داخل جوفي، وأسرّ بزيادة وزنك، مع أنه حمل ثقيل علي، إنها معاناة طويلة، أتى بعدها فجر تلك الليلة التي لم أنم فيها ولم يغمض لي فيها جفن، ونالني من الألم والشدة والرهبة والخوف ما لا يصفه القلم ولا يتحدّث عنه اللسان، ورأيت بأمي عيني ـ والله يا بني ـ الموت مرات عدّة حتى خرجت إلى الدنيا، فامتزجت دموع صراخك بدموع فرحي، وأزالت كل آلامي وجراحي. يا بني، مرّت سنوات من عمري وأنا أحملك في قلبي وأغسلك بيدي، جعلت حجري لك فراشًا، وصدري لك غذاء، أسهرت ليلي لتنام، وأتعبت نهاري لتسعد، أمنيتي أن أرى ابتسامتك، وسروري كلّ لحظة أن تطلب مني شيئًا أصنعُه لك، فتلك منتهى سعادتي. ومرت الأيام والليالي وأنا على تلك الحال، خادمة لم نقصّر، ومرضعة لم تتوقف، وعاملة لم تفتر، حتى اشتدّ عودك واستقام شبابك، وبدأت تظهر عليك معالم الرجولة، فإذا بي أجري يمينا ويسارًا لأبحث لك عن المرأة التي طلبت، وأتى موعد زفافك فتقطع قلبي وجرت مدامعي فرحة بحياتك السعيدة الجديدة وحزنا على فراقك، ومرّت الساعات ثقيلة فإذا بك لست ابني الذي عرفت، لقد أنكرتني وتناسيت حقي، تمرّ الأيام لا أراك، ولا أسمع صوتك، وتجاهلت من قامت لك خير قيام، يا بني، لا أطلب إلا القليل اجعلني من أطرف أصدقائك عندك وأبعدهم خطوة لديك.
اجعلني ـ يا بني ـ إحدى محطات حياتك الشهرية لأراك فيها ولو لدقائق. يا بني، أحدودب ظهري وارتعشت أطرافي وأنهكتني الأمراض وزارتني الأسقام، لا أقوم إلا بصعوبة، ولا أجلس إلا بمشقة، ولا يزال قلبي ينبض بمحبتك، لو أكرمك شخص يومًا لأثنيت على حسن صنعه وجميله، وأمك ـ يا رعاك ربي ـ أحسنت إليك إحسانًا لا تراه ومعروفًا لا تجازيه، لقد خدمتك وقامت بأمرك سنوات وسنوات، فأين الجزاء والوفاء؟! إلى هذا الحد بلغت بك القسوة وأخذتك الأيام؟!
يا بني، كلما علمت أنك سعيد في حياتك زاد فرحي وسروري، ولكني أتعجب وأنت صنيع يدي، وأتساءل: أي ذنب جنيته حتى أصبحت عدوة لك لا تطيق رؤيتي وتتثاقل عني؟! لن أرفع شكواك، ولن أبثّ الحزن لأنها إن ارتفعت فوق الغمام واعتلت إلى باب السماء أصاب شؤم العقوق ونزلت بك العقوبة، وحلت بدارك المصيبة، لا، لن أفعل، لا تزال ـ يا بني ـ فلذة كبدي وريحانة حياتي وبهجة دنياي.
أفق يا بني، بدأ الشيب يعلو مفرقك، وتمر سنوات ثم تصبح أبا شيخًا، والجزاء من جنس العمل وستكتب رسائل لابنك بدموع مثل ما كتبت لك، وعند الله تجتمع الخصوم. يا بني.
اتق الله في أمك، كفكِف دمعها، وخفف حزنها، وإن شئت بعد ذلك فمزّق رسالتها، واعلم أنه من عمل صالحًا فلنفسه ومن أساء فعليها.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فعن زيد قال: قلت للحسن البصري: ما دعاء الوالدين للولد؟ قال: نجاة، قال: فقلت: فعليه؟ قال: استئصاله، يعني الهلاك.
إن حق الأم على الولد عظيم، وشانها كبير، فلا يدعُها باسمها، بل نادها بما تحبّ من اسم أو كنية، لا تجلس قبلها، ولا تمشي أمامها، قابلها بوجه طلق، قبل رأسها، والثم يدها، إذا نصحتها فبالمعروف من دون إساءة، أجب دعوتها إذا دعتك من دون ضجر أو كراهية، تكلم معها باللين، أطعمها إذا جاعت، أو اشتهت صنفًا وإن تأنيت في ذلك، أهدها قبل أن تسأل شيئًا، تحسَّس ما تحبّ فاجلبه لها، كان خادمًا مطيعًا لها، أطعها في غير معصية، لا تسبقها بأكل أو شرب، أبهجها بالدعاء لها آناء الليل وأطراف النهار بالرحمة والمغفرة، غضّ الطرف عن أخطائها وزلاتها، لا تتأسّف أو تحدّث أحدًا عن سبيل الشكاية أو النكاية، وقرها واحترمها، لا تتكبّر عليها فقد كنت في أحشائها وبين يديها، أدخل السرور عليها، صاحبها بالمعروف، اطلب الدعاء منها فله تفتح أبواب السماء.
هذا واعلموا أن الله أمركم بدأ فيه بنفسه، وثنى بملائكته وثلث بكم عباده المؤمنين، فقال عز من قائل حكيم: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيّ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلم وزد وبارك وأنعم على عبدك ونبيك محمد، وارض اللهم عن الخلفاء الأربعة ــــــــــــــــــــ(67/194)
ضرر المخدِّرات
...
...
3348
...
الأسرة والمجتمع, فقه
...
...
الذبائح والأطعمة, قضايا المجتمع
...
مراد وعمارة
...
...
باب الوادي
...
...
...
التقوى
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- مدى انتشار المخدرات في المجتمع الإسلامي. 2- تحريم المخدرات. 3- أسباب انتشار المخدرات. 4- تاريخ ظهور المخدرات. 5- دور المستعمر في نشر المخدرات في المجتمع الإسلامي.
الخطبة الأولى
أيُّها المسلمون، هل بلغكم الخبر؟ هلعٌ أصاب نفوسنا وخلَع قلوبنا، وهمٌّ نغّص علينا العيش حين فاجأنا الخبر الذي تنامى إلى أسماعنا في بيوتنا من قبل الوسائل الرسميَّة أنَّ نصف مجتمعنا أو قريبًا من ذلك مهدَّدٌ بالانقراض من جراء إدمان شبابنا وأبنائنا المخدرات!!!
أمَّا أنا فما كنت أتوقَّع هذا البلاء بهذا الحجم في ديارنا ديار الإسلام، وإنَّما كنت أحسبه في ديار الكفر والضلال، التي لا يحكم الناس فيها وازع من دين ولا رادع من خلق ولا مسكة من عقل.
فتلك أممٌ مهما تقدَّمت بهم التكنولوجيا وأساليب الترف والبذخ فهم حضاريًّا منحطُّون في أخسِّ المراتب وأسفل الدركات، بعد الأنعام، لا بل بعد الضباع والقردة والخنازير، إلاَّ قليلا منهم.
أيُّها المسلمون، إنَّ آفة المخدرات عنوان النهاية في الشر والفساد وانحطاطِ الإنسان من مرتبة الإنسانية إلى أسفل مراتب الحيوان. هذه الحشيشة المخدِّرة واللقمة الملعونة المفترة، متى فشت في أمَّة فكبِّر عليها تسعا، وبشِّرها بالدمار والهلاك، وقل: لا آسى على القوم المجرمين، لكنَّها إذا فشت في طائفة من المسلمين فقد وجب إعلان الحرب عليهم.
أرأيتم هذه الخمر؟ هذه الخمر فمع كلّ ما تعلمونه من خبثها وإثم شاربيها ومروِّجي بضاعتها فإنَّ الحشيشة المخدرة واللقمة الملعونة المفتِّرة هي أخطر من الخمر جرما وأعظم إثما وأشدُّ مقتًا وأسوأ سبيلا وأقبح مآلا.
وقد انعقد إجماع الأئمَّة على أنَّ كلَّ طائفة مدمنة للخمور والمسكرات لا تنتهي بعد الزجر فإنَّه يجب إعلان الحرب عليهم وقتالهم. وإذا كان هذا حكمَ كلِّ طائفة لا تنتهي عن الخمر، فأهل المخدرات من مهربين ومتعاطين ومروِّجين أولى بذلك وأشقى.
هذه المخدرات والمسكرات والمفترات أيًّا كان نوعها وشكلها، شرابًا يتجرَّع، أو حقنة بالإبرة أو بخارًا يشم أو لقمة تؤكل، فحكمها في دين الله التحريم الشديد، سواء في ذلك تناولها وشراؤها وبيعها وحملها وإهداؤها وغرسها وسقيها وحصادها وإنتاجها وتهريبها وتخزينها، بالإجماع، ولا دليل أقوى من الإجماع.
إنَّ إقبال شبابنا على هذه الآفة الخطيرة، وجرأتهم على تناول هذه الحشيشة المخدِّرة أو الجرعة المفتِّرة يدلُّ على ضعف الوازع الديني من نفوسهم. وخلوِّ قلوبهم من ملكة التقوى التي تحجزهم عن مساخط الله تعالى.
وضعف الوازع الديني في شبابنا يرجع إلى أسباب من الجهل والظلم واتباع الهوى ولكن سبب الأسباب هو إبعاد الإسلام وزحزحته عن مكانه اللائق به في مجتمعنا.
ويتحمَّل قسطًا من الإثم ومن أسباب انتشار هذه الآفة كلُّ من عمل على إبعاد الإسلام عن مواقع الترشيد والتوجيه، وأقصاه من مراصد المراقبة والتحسس، وألغاه من محاكم القضاء، وأدناه من مجالس التشريع، وفصله عن شؤون الحياة العامَّة والخاصَّة، في مجال التربية والإعلام والثقافة والترفيه وسائر المجالات الحيويَّة.
ويتحمَّل قسطًا من الإثم من بنى للشباب النوادي الليلية المنتشرة على جنبات الطرق، وتقاربها أيضًا كثيرٌ من مقاهي شبكة الإنترنت، التي كثير منها ما هي إلاَّ صورة مصغرة من النوادي الليلية، بدلاً من أن تكون محطات تزويد بالمعلومات المفيدة، والاتصالات الجماعية النافعة. فمن هذه الأوكار تنتشر هذه الآفات.
ومهما يكن من أسباب انتشار هذه الآفة فالمسؤول الأوَّل والآخر عن تحصين الأبناء منها هم الآباء والأمهات.
إنَّكم ـ أيُّها الآباء ـ مسؤولون عن أبنائكم يوم القيامة، فاتقوا الله فيهم، مراقبةً ومعاقبة، وتحذيرًا ومتابعة.
الخطبة الثانية
هذه النبتة الخبيثة تسمَّى الحشيشة، و تسمَّى الغبيراء، ويسمِّها سفلة الناس بالغبرا، ويزعمون أنَّ ذلك يطلق على أجود أنواعها كما قال ابن تيمية.
أوَّل ما ظهرت هذه الحشيشة في بلاد المسلمين على يد الزنادقة الملاحدة الذين عرفوا باسم الباطنيَّة أو الإسماعيليَّة، الذين ينكرون الصلاة والزكاة والحج والقرآن، ولهم مقدساتهم وكتبهم الخاصَّة، وكانت لهم دولة الفاطميين بمصر.
وقد بدأت دعوة هؤلاء الحشاشين بقيادة ذلك الخبيث المسمَّى الحسن بن محمد بن علي الصباح الحميري عام 483هـ، بعدما جاء إلى مصر، واجتمع بالحاكم الفاطمي، فانتشرت هناك دعوتهم، وقوي نشاطهم، وأرهبوا العباد وأكثروا من النهب والسبي والفساد، وكانوا يعمدون إلى الاغتيال لتحقيق أغراضهم، فيغتالون كلَّ من يجهر بالإنكار عليهم من العلماء والسلاطين، ولم ينج من بطشهم حتىَّ النساء والصبيان.
وكانت لهم في الأزمان الغابرة سلطة وقوة حتَّى إنَّ أكبر سلاطين المسلمين قي زمانه وهو صلاح الدين الأيوبي اضطرَّ إلى مهادنتهم ليتفرَّغ لقتال الصليبيين، وكانت لهم قلاع بأصبهان والشام والجزيرة وديار بكر والأنضول وخراسان وغيرها.
وكانوا يبطنون مذهبهم ويخفونه، ولذلك يسمون الباطنيَّة، ولا يزال لهم وجود إلى الآن في جنوب جزيرة العرب وفي مدينة سلمية وغيرها من شمال سوريا وفي مدينة بمبي وغيرها من بلاد الهند وفي أوربا، ويسمَّون الآن في الهند بالأغاخان، ولا تزال فيهم الإمارة إلى اليوم، وآخر أمرائهم عبد الكريم خان أو ابنه، ولعلَّه لا يزال حيا. وقد شاركوا مع الاستعمار الغربي ضد المسلمين، وهم يدَّعون أنَّهم مسلمون.
فهؤلاء كانوا منذ القرن الخامس يستعملون هذه الحشيشة لتخدير الأعضاء، ثم يحملونهم إلى حدائق جميلة ليوهموهم أنَّهم في الجنَّة.
ثمَّ انتشرت على أيدي بعض المتصوِّفة وهو حيدر صاحب الطريقة الحيدريَّة في بداية القرن السابع، ثمَّ على يدي القلندري صاحب الطريقة القلندرية، وكان لهذه الفرقة زاوية في مدينة القاهرة بمصر، وبعد ذلك كان ظهور التتار وغزوهم للمسلمين.
إنَّ من يمعن النظر في تاريخ ظهور هذه الحشيشة الخبيثة يتبيَّن له أمران مهمان:
أحدهما: أنَّ ظهورها إرهاص بين يدي الغزاة المستعمرين، لإضعاف النفوس عن المقاومة، وذلك لما تحدثه هذه المخدرات من إماتة الشعور بالكرامة والعزة والنخوة والغيرة على النفس والأهل والعشيرة والوطن، ومن ثمَّ تتولَّد في نفس المدمن قابليَّة الاستعمار والإذلال. ولذلك كان أوَّل ظهورها في بلاد المسلمين في نهاية القرن السادس وبداية السابع على يد التتار، فهجموا على ديار المسلمين بهذه الحشيشة قبل هجومهم عليهم بالسيف مدَّة سنين، قال ابن تيمية: "إنما حدثت في الناس بحدوث التتار، أو من نحو ظهور التتار، فإنَّها خرجت وخرج معها سيف التتار".
وكذلك فعل المستعمر البريطاني والفرنسي حين عزم على غزو بلاد المسلمين واستعمارها واستعباد أهلها، مهَّد لمجيئه بنشر هذه الحشيشة المخدِّرة إنتاجًا وتسويقا وترويجًا، في البلاد التي يريد غزوها، وذلك عن طريق حلفائهم من الباطنيين وبعض المنتسبين للصوفية والطرقية، ومن هنا انتشرت في بلاد المسلمين.
وقد ذكرت لكم من قبل أنَّ من شرِّ آثار هذه المخدرات على الإنسان أنَّه يصير عديم الغيرة حتَّى على نفسه، ويصير بعد مدَّة بليد الفكرة ديوثا لا يغار على عرضه.
الأمر الثاني: اقترانها بقصد إضلال العقول حتَّى تقبل كلّ ضلالة تناقض الإسلام، وحتَّى يَضعف الوازع الديني من النفوس، فيرتفع سلطان الخوف من الله وحاجز التقوى، فيصير العبد قابلاً لكلِّ ما يملى عليه من الضلالات، وراضيًا بالإذلال والمهانة والاستعمار، ولذا نجد بعض الطرق الصوفية المشرقية كالحيدرية والقلندرية تأمر أتباعها بتناول هذه الحشيشة؛ لأنَّ العقل إذا ضعف بها تقبَّل أوامر شيوخ الضلالة، والعياذ بالله.
ــــــــــــــــــــ(67/195)
قتل النفس المؤمنة وحرمان النساء من الميراث
...
...
3679
...
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
...
...
الفرائض والوصايا, الكبائر والمعاصي, قضايا الأسرة
...
زهير بن حسن حميدات
...
...
الخليل
...
23/7/1424
...
...
عبد الرحمن بن عوف
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- التحذير من الإساءة إلى المؤمنين. 2- كثرة الاعتداءات في هذا العصر. 3- وعيد الاعتداء على المؤمنين. 4- ذم لعن المسلم وهجره وتفسيقه ورميه بالكفر بغير حق. 5- ديوان الظلم. 6- تحريم الأنفس المعصومة. 7- جريمة حرمان النساء من الميراث.
الخطبة الأولى
إخوة الإسلام، اتقوا الله، واحذروا الإساءة إلى المؤمنين، إلا بحقّ ظاهر قام عليه الدليل البيِّن من الكتاب والسنة والمأثور عن السلف الصالح من هذه الأمة؛ ليكون لكم برهانًا قاطعًا وحجة دافعة حين تختصمون عند ربكم، فتؤدّى الحقوق إلى أهلها، حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء، وتؤخذ المظالم من الظالمين فترد إلى أهلها في يوم لا درهم فيه ولا دينار، بل إن كان للظالم عمل صالح أُخذ من حسناته بقدر مظلمته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أُخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار.
أيها المسلمون، لقد كثر اعتداء الناس على بعضهم، وانتشرت بينهم الفتن، فكثرت الخصومات، وعمّ الظلم، فهذا يسبُّ جاره، وذاك يضرب أخاه، وأولئك يلعنون بعضهم، دون أن يلتفت أحدهم إلى عظم معصيته، بل أصبحوا لا يكترثون إذا ما قتل أحدُهم الآخر، فانتشر القتل بين المسلمين، ومنه ما حدث في بعض القرى المجاورة قبل أيام، وما حدث في مدينة الخليل قبل أسابيع، وما حدث في هذا البلد في السنين الماضية، وكأن قتل النفس المؤمنة عندهم أصبح عبادة يتقربون بها إلى الله عز وجل.
عباد الله، إن أذية المؤمنين بغير حق من أشد المظالم وأعظم المآثم التي توعد الله أهلها بالوعيد الأكيد، وتهددهم بالعذاب الشديد، في مثل قولِه سبحانه وتعالى: وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُواْ فَقَدِ احْتَمَلُواْ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا [الأحزاب:58]، وقولِه سبحانه وتعالى في الحديث القدسي: ((مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ)) رواه البخاري، وقال رسول الله : ((مَنْ صَلَّى صَلاةَ الصُّبْحِ فَهُوَ فِي ذِمَّةِ اللَّهِ، فَلا يَطْلُبَنَّكُمُ اللَّهُ مِنْ ذِمَّتِهِ بِشَيْءٍ؛ فَإِنَّهُ مَنْ يَطْلُبْهُ مِنْ ذِمَّتِهِ بِشَيْءٍ يُدْرِكْهُ ثُمَّ يَكُبَّهُ عَلَى وَجْهِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ)) رواه مسلم، وقال عليه الصلاة والسلام: ((اتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ فَإِنَّهَا لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ)) متفق عليه.
أيها المسلمون، يا أحباب محمد ، وإن لعن المسلم وهجره وتفسيقه ورميه بالكفر بغير حق ظلم وعدوان، وهو كقتله، قال النبي : ((وَلَعْنُ الْمُؤْمِنِ كَقَتْلِهِ)) متفق عليه، وقال عليه الصلاة والسلام: ((إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا لَعَنَ شَيْئًا صَعِدَتِ اللَّعْنَةُ إِلَى السَّمَاءِ، فَتُغْلَقُ أَبْوَابُ السَّمَاءِ دُونَهَا، ثُمَّ تَهْبِطُ إِلَى الأَرْضِ، فَتُغْلَقُ أَبْوَابُهَا دُونَهَا، ثُمَّ تَأْخُذُ يَمِينًا وَشِمَالاً، فَإِذَا لَمْ تَجِدْ مَسَاغًا رَجَعَتْ إِلَى الَّذِي لُعِنَ، فَإِنْ كَانَ لِذَلِكَ أَهْلاً وَإِلا رَجَعَتْ إِلَى قَائِلِهَا)) رواه أبو داود، وقال النبي : ((سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ وَقِتَالُهُ كُفْرٌ)) متفق عليه، وقال عليه الصلاة والسلام: ((لا يَرْمِي رَجُلٌ رَجُلاً بِالْفُسُوقِ وَلا يَرْمِيهِ بِالْكُفْرِ إِلا ارْتَدَّتْ عَلَيْهِ إِنْ لَمْ يَكُنْ صَاحِبُهُ كَذَلِكَ)) رواه البخاري، وقال : ((الْمُسْتَبَّانِ مَا قَالا فَعَلَى الْبَادِئِ مَا لَمْ يَعْتَدِ الْمَظْلُومُ)) رواه مسلم، وقال عليه الصلاة والسلام: ((مَنْ هَجَرَ أَخَاهُ سَنَةً فَهُوَ كَسَفْكِ دَمِهِ)) رواه أحمد وأبو داود، وقال أيضا: ((لا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلاثٍ، فَمَنْ هَجَرَ فَوْقَ ثَلاثٍ فَمَاتَ دَخَلَ النَّارَ)) رواه أبو داود.
فاتقوا الله عباد الله، واحذروا الظلم؛ فإنه حسرة وندامة، وإن الظلم ظلمات يوم القيامة، ومن ذلك التعدي عليهم بالضرب والشتم واللعن والهجر وغيرها من المحرمات، فكل هذه من الظلمات التي لا تكفرها الصلاة ولا الصدقة ولا الصوم، بل لا يُغفر للظالم حتى يَغفر له المظلوم، فإن ديوان الظلم من الدواوين التي لا يترك الله منها شيئا، بل يؤاخذ بها، إلا إذا تنازل عنها أصحابها. فكم من شخص يظن أنه كثير الحسنات، ثم يأتي يوم القيامة مفلسا بسبب ما تحمل من الظلمات، قال النبي : ((لَتُؤَدُّنَّ الْحُقُوقَ إِلَى أَهْلِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُقَادَ لِلشَّاةِ الْجَلْحَاءِ مِنَ الشَّاةِ الْقَرْنَاءِ)) رواه مسلم.
أمة الإسلام، يا أمة محمد ، من المعلوم أن شريعة الإسلام جاءت بحفظ الضرورات الخمس، وحرمت الاعتداء عليها، وهي الدين والنفس والمال والعرض والعقل. ولا يختلف المسلمون في تحريم الاعتداء على الأنفس المعصومة، والأنفس المعصومة في دين الإسلام لا يجوز الاعتداء عليها وقتلها بغير حق، ومن فعل ذلك فقد ارتكب كبيرة من كبائر الذنوب العظام، يقول الله تعالى: وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء:93]، وقال تعالى: مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا [المائدة:32]، وقال سبحانه وتعالى: وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا وَمَن يَفْعَلْ ذالِكَ عُدْوانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذالِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا [النساء:29، 30].
وصح عن النبي أنه قال: ((لَنْ يَزَالَ الْمُؤْمِنُ فِي فُسْحَةٍ مِنْ دِينِهِ مَا لَمْ يُصِبْ دَمًا حَرَامًا)) رواه البخاري، وقال عليه الصلاة والسلام في خطبة الوداع: ((فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، وَسَتَلْقَوْنَ رَبَّكُمْ فَيَسْأَلُكُمْ عَنْ أَعْمَالِكُمْ، أَلا فَلا تَرْجِعُوا بَعْدِي ضُلالاً يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ، أَلا لِيُبْلِغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ)) رواه البخاري، وقال النبي : ((إِذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ))، فقيل: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا الْقَاتِلُ فَمَا بَالُ الْمَقْتُولِ؟! قَالَ: ((إِنَّهُ كَانَ حَرِيصًا عَلَى قَتْلِ صَاحِبِهِ)) رواه البخاري، وقال عليه الصلاة والسلام: ((مَنْ أَعَانَ عَلَى قَتْلِ مُؤْمِنٍ بِشَطْرِ كَلِمَةٍ لَقِيَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ مَكْتُوبٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ آيِسٌ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ)) رواه ابن ماجة.
ويقول النبي : ((لا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلا بِإِحْدَى ثَلاثٍ: النَّفْسُ بِالنَّفْسِ، وَالثَّيِّبُ الزَّانِي، وَالْمَارِقُ مِنَ الدِّينِ التَّارِكُ لِلْجَمَاعَةِ)) متفق عليه، ويقول : ((أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ، وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلا بِحَقِّ الإِسْلامِ، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ)) رواه الشيخان، وقال عليه الصلاة والسلام: ((لَزَوَالُ الدُّنْيَا أَهْوَنُ عَلَى اللَّهِ مِنْ قَتْلِ رَجُلٍ مُسْلِمٍ)) رواه الترمذي والنسائي. ونظر ابن عمر رضي الله عنهما يوما إلى الكعبة فقال: (ما أعظمك وأعظم حرمتك، والمؤمن أعظم حرمة عند الله منك).
عباد الله، يا أحباب محمد ، كلّ هذه الأدلة وغيرها تدلّ على عِظم حُرمة دم المرء المسلم، وتحريم قتله لأي سبب من الأسباب، إلا ما دلت عليه النصوص الشرعية. فلا يحل لأحد أن يعتدي على مسلم بغير حق، يقول أُسَامَةُ بْنَ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ رَضِي اللَّه عَنْهما: بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ إِلَى الْحُرَقَةِ مِنْ جُهَيْنَةَ، فَصَبَّحْنَا الْقَوْمَ، فَهَزَمْنَاهُمْ، وَلَحِقْتُ أَنَا وَرَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ رَجُلاً مِنْهُمْ، فَلَمَّا غَشِينَاهُ قَالَ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، فَكَفَّ عَنْهُ الأَنْصَارِيُّ، فَطَعَنْتُهُ بِرُمْحِي حَتَّى قَتَلْتُهُ، فَلَمَّا قَدِمْنَا بَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ ، فَقَالَ لِي: ((يَا أُسَامَةُ، أَقَتَلْتَهُ بَعْدَ مَا قَالَ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ؟!)) قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّمَا كَانَ مُتَعَوِّذًا ـ أي: قالها ليتقي سيوفنا ـ، فقَالَ النَّبِيُّ : ((أَقَتَلْتَهُ بَعْدَ مَا قَالَ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ؟!)) قال أُسامة بن زيد: فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا عَلَيَّ حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنِّي لَمْ أَكُنْ أَسْلَمْتُ قَبْلَ ذَلِكَ الْيَوْمِ. متفق عليه.
وإن هذا ـ يا عباد الله ـ ليدل أعظم الدلالة على حرمة الدماء، فهذا رجل مشرك، وهم مجاهدون في ساحة القتال، لما ظفروا به وتمكنوا منه نطق بالتوحيد، فتأول أسامة قتله، على أنه ما قالها إلا ليكفوا عن قتله، ولم يقبل النبي عذر أسامة وتأويله، فكيف سيقبل بعذر من قتل نفسا مؤمنة لأنها طالبت بحقها في الميراث، أو لعذر دنيوي تافه، لا يقبله البشر؟! فكيف سيقبله رب البشر؟!
وإذا كان هذا ما قاله الرسول لمن قتل مشركا اتقى السيف بلا إله إلا الله، فماذا يقول لمن يَقتل مسلما مؤمنا مصليا مزكيا ذاكرا عابدا لله منقادا لأمره؟! بل قل: ماذا يقول الرسول لمن قتل نفسا مؤمنة لا ذنب لها إلا أنها طالبت بحقها الذي شرعه الله لها؟! فأين الرحمة أيها المسلمون؟! أين الخوف من الله يا عباد الله؟!
لماذا ينسى هؤلاء القتلة ذلك اليوم العظيم الذي قال فيه رب العالمين واصفا حال المجرم: يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ وَفَصِيلَتِهِ الَّتِى تُؤوِيهِ وَمَن فِى الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنجِيهِ [المعارج:11-14]؟!
عباد الله، بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله ولي الصالحين، ولا عدوان إلاّ على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله، أرسله إلى جميع الثقلين بشيرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا، اللهم صلِّ وسلِّم وبارك عليه وعلى آله وصحبه، ومن سار على نهجه واستن بسنته، وسلِّم تسليمًا كثيرًا.
وبعد: أيها المسلمون، وإذا ما عدنا إلى آخر جريمة قتلٍ حدثت، وبحثنا في أسبابها، وجدنا سبب المشكلة ـ كما سمعنا ـ مطالبة المرأة لأخيها بحقها في الميراث، مثلها مثل أكثر النساء في مجتمعنا، محرومة من حقها في تركة أبيها، فما كان من أخيها إلا أن ضربها وقتل ابنها، فأُخرِج من بلده، وحُرق بيته، ثم هُدم، وسيدفع دية هي أضعاف نصيب أخته من الميراث، ولن يهنأ في حياته على شيء لخوفه من الانتقام. وكم ألفا في مجتمعنا من مثل هذا.
أيها المسلمون، يا خير أمة أخرجت للناس، يقول الله تعالى في كتابه الكريم: لّلرّجَالِ نَصيِبٌ مّمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالأقْرَبُونَ وَلِلنّسَاء نَصِيبٌ مّمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالأقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا [النساء:7]، وقال تعالى: لّلرّجَالِ نَصِيبٌ مّمَّا اكْتَسَبُواْ وَلِلنّسَاء نَصِيبٌ مّمَّا اكْتَسَبْنَ [النساء:32]، وقال تعالى: وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالاً وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [النساء:176]، وقال تعالى: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ [النساء:11].
عباد الله، إننا بعد الذي سمعناه ندرك أن الله الذي يأمر بالعدل أعطى كل ذي حق حقه، سواء كان رجلاً أم امرأة، وإن الواجب علينا أن نعطي الحقوق لأهلها، وأن ندرك أن الله محاسبنا يوم القيامة، رجالاً ونساءً، وأنه لا يرضى أن يعتدي أحد على أحد، بل لا يرضى أن يعتدي إنسان على حيوان، بل لا يرضى أن يعتدي حيوان على حيوان، فقد جاء في الحديث الصحيح أن الله يقتص يوم القيامة للشاة الجلحاء من الشاة القرناء.
وبعد هذا ـ أيها الإخوة ـ نقول لكل رجل يظلم أخته باحتقارها وازدرائها وحرمانها من حقها: إنه إنسان ضحل الفكر، بعيد عن الحق، يأخذه الشيطان إلى طريق الجاهلية ومفاهيم الجاهلية، وعليه أن يعلم أنه بظلمه لأخته أو ابنته، عليه أن يعلم أنه ربما قد يأتي يوم القيامة بصلاة وزكاة وصيام وحج فيجعلها الله هباء منثورًا، بسبب ظلمه وطغيانه، والله عز وجل يقول: وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُواْ فَقَدِ احْتَمَلُواْ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا [الأحزاب:58].
إن الإساءة إلى المرأة إساءة عظيمة، لماذا؟ لأنها ضعيفة، ولأنها لا تستطيع أن تردّ كيد الرجل أو تتظلم أو تجهر بالشكوى، ولا أن تخرج فتسيح في الأرض، لأنها عِرض، إنها امرأة، لذلك كان ظلمها أشد الظلم، وكان إلحاق الضرر بها مصيبة أكبر من كل المصائب، فلتتقوا الله أيها الرجال، فإن كانت تلك المرأة أمًا فالجنة تحت قدميها، وإن كانت أختًا فدخول الجنة موقوف على الإحسان إليها، وإن كانت بنتًا فهذا حقها، فليؤدِّ إليها حقها، وإلا فقد ظلمها وأساء إليها، والويل له من ربه.
ونقول لهؤلاء الذين يحرمون النساء من حقهن في الميراث: تفكروا فيمن كان قبلكم، كم عمروا على هذه الدنيا، وأين هم الآن؟! اعتبروا بمن كان قبلكم، بماذا سينفعك الولد إذا تواريت التراب؟! ماذا ستفعل بتلك الدونومات التي تركتها ولأختك حق فيها، وستطوق بها يوم القيامة إن شاء الله تعالى؟! ماذا ستقول لرب العالمين إذا سألك: لماذا حرمت أختك من حقها؟! تذكر ذلك اليوم الذي تقول فيه الرحم لربها: يا رب، فلان ظلمني، فلان قطعني، فيقول رب العالمين: أَمَا تَرْضَيْنَ أَنْ أَصِلَ مَنْ وَصَلَكِ وَأَقْطَعَ مَنْ قَطَعَكِ؟ قَالَتْ: بَلَى، قَالَ: فَذَاكِ لَكِ. ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : ((اقْرَؤوا إِنْ شِئْتُمْ: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا [محمد:22-24])).
من منكم سيخلد في الدنيا؟! من منكم يأمن عذاب الله؟! لماذا ينسى هؤلاء الظلمة ذلك اليوم العظيم، ذلك اليوم الذي يَفِرُّ فيه الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ، وَأُمّهِ وَأَبِيهِ، وَصَاحِبَتِهُ وَبَنِيهِ، لِكُلّ امْرِئ مّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ؟!
ياأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمْ وَاخْشَوْاْ يَوْمًا لاَّ يَجْزِى وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلاَ مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الْحياةُ الدُّنْيَا وَلاَ يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ [لقمان:33]، وقال تعالى: حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [المؤمنون:99، 100]، وقال تعالى: وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِى كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُواْ فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ [فاطر:37].
ــــــــــــــــــــ(67/196)
فتنة اختلال الأمن
...
...
3710
...
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
...
...
الفتن, قضايا المجتمع
...
سعود بن إبراهيم الشريم
...
...
مكة المكرمة
...
11/3/1425
...
...
المسجد الحرام
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- توالي الفتن. 2- ظاهرة الإخلال بالأمن. 3- كثرة القتل من علامات الساعة. 4- أهمية مطلب الأمن. 5- تجريم أحداث التفجير. 6- الاتزان في تشخيص الداء. 7- ما نزل بلاء إلا بذنب.
الخطبة الأولى
أمّا بعد: فيا أيها الناس، إنَّ واقعَنا اليومَ لهو واقعٌ موحِش، تتلاطم فيه ظلماتُ الفِتَن كتلاطُم موج بَحر لُجِّيّ يغشاهُ موجٌ من فوقه موجٌ من فوقه سحاب، ظلماتٌ بعضها فوق بعض. وإنّ غواسِقَ هذه الفتن قد أحاطت بنا من كلِّ جانب، وأخذت بأفئدتنا كلَّ مأخَذ، بل وتخطَّفتنا على غِرَّة كما تتخطَّف الزوابع نِثار الأرض. إنَّها لفتنٌ عمياء صمَّاء بكماء، تَدعُ الحليم حيرانًا واللَّبيبَ مذهولا، ذلكم الحليم الذي رُزق خَصلةً يحبُّها الله ورسوله ، الحليمُ الذي إذا شُتِم صبر وإذا ضُرِب غفَر، إنّه ليُرى إبَّان هذه الفتن حيرانًا من هول الوقع وعِظَم الخطب. وهذه الفتنُ التي تعترينا حينًا بعد آخر إنما هي في حقيقتها تمحيصٌ وابتلاء، لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنْ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ [الأنفال:37].
في الصحيحين أنَّ النبيَّ قال: ((ستكون فتنٌ القاعدُ فيها خيرٌ من القائم، والقائمُ فيها خير من الماشي، والماشي فيها خيرٌ من الساعي، من تشرَّف لها تستشرفْه)) الحديث[1]، يقول الحافظ ابن حجر في معنى قوله: ((من تشرَّف لها)): "أي: تطلَّع لها بأن يتصدَّى ويتعرَّض لها ولا يُعرض عنها"[2].
أيها المسلمون، لقد تكاثرت في هذه الآونةِ حلقاتُ الإخلال الأمنيّ في المجتمع المسلم، وقلَّت في واقعنا هيبةُ الدم المسلم وحرمتُه وعصمتُه، ولقد أشار المسلم بالسِّلاح على أخيه المسلم، بل وأفرَغ حشوَه فيه، وهذا ما لا كُنّا نعهدُه في زمَن الاستقرار الوارف والطمأنينةِ التي عمَّت المجموع، فما الذي غيَّر الأمرَ عن مجراه؟ ولأيِّ شيء يختلف اليومُ عن الأمس؟ وما هو السبيلُ للخروج من عُنُق الزجاجةِ القاتل؟ هذه كلُّها أسئلةٌ تستدعينا إلى التركيز على أهمِّ المعطَيَات التي ينبغي الوقوفُ أمامها بصِدق والتعامُلُ معها بنيَّة إصلاحِ ما في النفس ليصلِحَ الله ما في الواقع، وهذه المعطياتُ ليست بالقليلة، غيرَ أنَّ العجالةَ تضطرُّنا إلى ذكر الأهمّ، وذلك في الأمور التالية:
الأمر الأوَّل: أنّ الاختلال الأمنيّ المتمثِّلَ في كثرةِ القتل وإزهاق الأنفس البريئة دونَ بُرهانٍ من الله لهو من علامات آخر الزمان المنذِرةِ بدنُوِّ الساعة التي لا يعلَمها إلاَّ الله، ففي الصحيحين أنَّ النبيَّ قال: ((يتقاربُ الزمان، وينقُص العمل، ويُلقى الشحّ، وتظهرُ الفتن، ويكثر الهَرج))، قالوا: يا رسول الله، وما الهرج؟ قال: ((القتل القتل))[3].
والأمر الثاني عباد الله: هو أنَّ استقرارَ المجتمع المسلِم الذي يهنأَ فيه بطعامه ويُسيغ شرابَه ويجعَل نهارَه فيه معاشًا ونومَه سباتًا وليله لباسًا لا يُمكن أن يتحقَّق إلاَّ تحتَ ظلِّ الأمن الوارفِ، فالأمنُ والأمان مطلبٌ مُلِحّ للمجتمعات طُرًّا، لا يُنكر ذلك إلاّ مُكابر أرعَن؛ لأنّ الأمنَ إذا اختلَّ فإنّ مغَبَّته لن تكونَ قاصرةً على المخلِّ به فحسب، بل إنّها ستطال نفسي ونفسَك أيّها المسلم، وولدِي وولدك، وأسرتي وأسرَتك، والواقع المقرَّر هو أنَّ المجتمعَ المتكامِل من جميع جوانبه هو ذلكم المجتمعُ الذي تتحقَّق فيه الأسُسُ الأمنية الثلاثة، ألا وهي الأمنُ العسكريّ والأمن الغذائيّ والأمن الصحِّي، وهذه الأسُسُ الثلاثة لا يمكِن أن تتحقَّق جميعًا دونَ اختلالٍ إلاَّ تحت ظلِّ الإسلام وشِريعته، فلقد صحَّ عن النبي أنه قال: ((من أصبَح آمنًا في سِربه معافًى في جسدِه عنده قوتُ يومِه فكأنَّما حِيزَت له الدنيا بحذافيرها)) رواه الترمذي وابن ماجه[4].
والأمر الثالث عباد الله: أنَّ أحداثَ التفجير الماضِية والتي استهدَفت معصومي الدمِ فيها لهي أمرٌ لا يرضاه دينٌ ولا عقل ولا عُرف، وشجبُه واستنكاره درجةٌ واجبة من درجاتِ تغيير المنكَر، وأما الرِّضا به والفرحُ فهو لونٌ من ألوان الخيانةِ في الباطن، فالنصوصُ الشرعية متكاثِرة في بيان حُرمة المسلم وعِصمة دمه وبيان احترامِ حقِّ السُّلطان المسلم وعدمِ الافتيات عليه وعلى أهلِ العلم، فاللهُ جلّ وعلا يقول: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات:10]، ويقول سبحانه: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء:93]، ويقول جلَّ شأنه حكايةً عن ابنَي آدم عليه السلام: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنْ الآخَرِ قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ [المائدة:27]، هذه هي حكايةُ ابنَي آدم؛ أنَّ بدايةَ القتل كانت مِن وَلَد ابن آدم.
وفي صحيح البخاري أن النبي قال: ((إذا مرَّ أحدُكم في مسجدِنا أو في سوقنا ومعه نبلٌ فليمسِك على نِصالها ـ أو قال: ـ فليقبِض بكفِّه أن يصيبَ أحدًا من المسلمين منها بشيء))[5]، وفي الصحيحين أنَّ النبي قال: ((من حَمَل السلاحَ علينا فليس منا))[6]، وفيهما أيضًا قوله : ((سِبابُ المسلم فُسوق وقتاله كفر))[7]، وروى الإمام أحمد في مسنده عن الحَسَن البصري أنه قال: إنّ عليًّا رضي الله عنه بعث إلى محمد بن مَسلمَة، فجيء به فقال: ما خلَّفك عن هذا الأمر؟ يعني القتال بينه وبين خصُومه رضي الله عنهم أجمعين، قال: دفَع إليَّ ابنُ عمك ـ يعني النبي ـ سيفًا فقال: ((قاتِل به ما قُوتل العدوّ، فإذا رأيتَ الناس يقتُل بعضُهم بعضًا فاعمَد به إلى صَخْرة فاضربه بها، ثم الزَم بيتَك حتى تأتيكَ منيةٌ قاضية أو يدٌ خاطئة))، فقال عليّ رضي الله عنه: خلُّوا عنه[8]، ونقل ابن عبد البر عن بعض السلف قوله: "أحقُّ الناس بالإجلال ثلاثةٌ: العلماءُ والإخوان والسلطان، فمن استخفَّ بالعلماء أفسَد [دينَه، ومن استخفَّ بالإخوان أفسَد] مروءتَه، ومن استخفَّ بالسلطان أفسد دنياه، والعاقل لا يستخفّ بأحد"[9].
أما الأمر الرابع عباد الله: فهو ضرورةُ تشخيص هذا البلاء تشخيصًا نزيهًا عاريًا عن الشُبُهات والأهواء للوقوف على أسبابِه والبعثِ عن العلاج الأمثلِ له، وأن لا يجاوزَ التشخيصُ موضعَ الداء، بحيث إنه لا يجوز أن يُلقى باللاَّئمةِ إلى غير مرتَكبي تلكم الأحداث، فلا يجوز أن ينسَبَ السبب إلى التديُّن مثلاُ، أو إلى علوم الشريعة ومناهجها، أو إلى العلماءِ والدعاة المخلِصين، فإنَّ السرقةَ في المسجِد لا تستدعي هدمَ المسجد، كما أنَّ عدمَ فَهمِ الشريعة والتديُّن لا يعني إلغاءهما من واقع الحياة، ولو تستَّر لصٌّ في حجابَ امرأة فلا يعني ذلك إلغاءَ الحجاب بالمرَّة.
فليتَّق الله أولئك الذين يشوِّشون عند كلِّ حَدَث سانِح، فيرمون أصالتنا وتمسُّكَنا بديننا ردحًا من الزَّمن بأنه هو سببُ هذه الحوادثِ والمعضلات، فيكون هذا التَّشويش تكأَةً يتَّكئ عليها أعداءُ الإسلام من الكَفَرة الحاقدين ومن المعجَبين بهم، ومبرِّرًا سائغًا لهم في تمرير ما مِن شأنه فرضُ المسوِّغات المشروعة بزعمهم في الضغوط المتتالية على حِياض المسلمين، فيأتيهم مثلُ هذا التهويش والتشويش على طَبَق من ذهب ليجتاحوا بلادَ المسلمين بأدنى الحِيَل، ولا جَرَم ـ عباد الله ـ إذ الخَطَر من قِبَل التشويش الداخليّ أشدُّ وقعًا من التشويش الخارجي، وإنَّ مثَلَ الناعقين عبرَ وسائلَ متعدِّدةٍ في وجه الدين والتديُّن والمناهج النيِّرة والاستقامة المشهودة في المعتَقَد والفكر كمثل ما رواه الإمام أحمد في مسنده عن عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما عن النبي أنه قال: ((ضاف ضيفٌ رجلاً من بني إسرائيل وفي داره كلبة، فقالت الكلبة: والله لا أنبحُ ضيفَ أهلي، قال: فعَوى جِراؤها[10] في بطنها قال: قيل: ما هذا؟ قال: فأوحى الله عزّ وجلّ إلى رجلٍ منهم: هذا مثلُ أمَّةٍ تكون مِن بعدكم يقهَر سفهاؤها أحلامَها))[11].
وحاصل هذا الأمر ـ عباد الله ـ هو أن يعالَجَ الفكرُ بالفِكر، وأن لا يستغلَّ الخطأ في إذكاء تفريق الكلمة وإضعافِ التديّن، فقد قُتل عليٌّ رضي الله عنه بأشدَّ من هذا ولم يُلقَ باللائمة على الدين وأهله، وإنما كانت اللاَئمةُ والرَّدع على ذوي الفِكر أنفسِهم وهم الخوارج الذين خرجوا عليه ورأوا أنَّ قتلَه رضي الله عنه وتخليصَ الأمة منه من أعظم القُرُبات إلى الله بزعمهم عليهم من الله ما يستحقّون، بل لقد وصفَ أحدُ شعرائهم عبدَ الرحمن بنَ مُلجم قاتلَ عليّ رضي الله عنه بأنه أوفى البريَّة عند الله ميزانًا، والقائلُ هو عِمران بن حِطّان الخارجي الذي قال مادِحًا قاتل علي:
يا ضربةً من تقيٍّ ما أراد بها إلاَّ ليبلغَ من ذي العرش رضوانًا
إني لأذكُره يومًا فأحسبه أوفى البريّة عند الله ميزانا[12]
كبُرت كلمةً تخرجُ من فمه، إن يقولُ إلاَّ كذبًا.
وقد ردَّ عليه بعضُ أهل السنة بقوله:
بل ضربةٌ من شقيّ أوردته لظى وسوف يلقى بها الرحمن غضبانا
إني لأذكرُه يومًا فألعنه أيضًا وألعنُ عِمرانَ بنَ حِطّانا[13]
والشاهد من هذا ـ عباد الله ـ أنَّ الصحابةَ رضي الله عنهم لم يثنِهم فعلُ الخوارج عن زيادةِ تمسُّكهم بدينهم واستلهام لُطفِ الله ورحمته بهم والثباتِ على الدين رغمَ ما اعتراهم من نوابتَ شذّت عن سوادِهم الأعظم.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [المائدة:105].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، قد قلت ما قلت، إن صوابًا فمن الله، وإن خطأً فمن نفسي والشيطان، وأستغفر الله إنّه كان غفارا.
[1] صحيح البخاري: كتاب الفتن (7081، 7082)، صحيح مسلم: كتاب الفتن (2886) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[2] فتح الباري (13/31).
[3] صحيح البخاري: كتاب الفتن (7061)، صحيح مسلم: كتاب العلم (157) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[4] سنن الترمذي: كتاب الزهد، باب: التوكل على الله (2346)، سنن ابن ماجه: كتاب الزهد، باب: القناعة (4141) من حديث عبيد الله بن محصن الأنصاري، وأخرجه أيضا البخاري في الأدب المفرد (300)، والحميدي في مسنده (439)، قال الترمذي: "حديث حسن غريب". وله شواهد من حديث أبي الدرداء وابن عمر وعلي رضي الله عنهم. انظر: السلسلة الصحيحة للألباني (2318).
[5] صحيح البخاري: كتاب الفتن (7075) عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، وأخرجه أيضا مسلم في البر (2615).
[6] صحيح البخاري: كتاب الفتن (7070، 7071)، صحيح مسلم: كتاب الإيمان (98، 100) عن ابن عمر وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنهما. وصح أيضا من حديث سلمة بن الأكوع وأبي هريرة رضي الله عنهما عند مسلم في الإيمان (99، 101).
[7] صحيح البخاري: كتاب الفتن (7076)، صحيح مسلم: كتاب الإيمان (64) عن ابن مسعود رضي الله عنه.
[8] مسند أحمد (4/225)، وأخرجه من طريقه الطبراني في الكبير (19/235)، قال ابن حجر في الإصابة (6/34): "الحسن لم يسمع من محمد بن مسلمة"، فهو لم يشهد القصة. وأخرجه ابن سعد في الطبقات (3/444)، وابن أبي شيبة (15/22) من طريق أخرى عن الحسن عن محمد بن مسلمة بالمرفوع وليس فيه قصة علي رضي الله عنه، وروى أيضا المرفوعَ غير الحسن عن محمد بن مسلمة، فهو بمجموع طرقه ثابت إن شاء الله، قال الحاكم في المستدرك (3/127): "فبهذه الأسباب وما جانسها كان اعتزال من اعتزل عن القتال مع علي رضي الله عنه وقتال من قاتله".
[9] نُقل هذا الكلام عن ابن المبارك رحمه الله، انظر: سير أعلام النبلاء (17/251).
[10] قال الرامهرمزي في الأمثال (ص100): "الجِراء جمع جِرو بكسر الجيم، وهو ولد الكلبة. وعوى الكلب إذا صاح، وهو العُواء بضم العين ممدود. وهذا مثل في استعلاء السفهاء وتطاول الأشرار. والسفه نقيض الحلم، وهو في معنى الجهل، وأصله التنقّص في العقل، ويستعمل في بذاء اللسان ورفث القول".
[11] مسند أحمد (2/170)، وأخرجه أيضا البزار (2412)، والرامهرمزي في الأمثال (60)، قال الهيثمي في المجمع (7/280): "فيه عطاء بن السائب وقد اختلط"، وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة (3812).
[12] انظر: المحلى (10/484)، والاستيعاب (3/1128)، والسير (4/215)، والإصابة (5/303).
[13] انظر: الاستيعاب (3/1129)، والإصابة (5/303) نحوه.
الخطبة الثانية
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبيَّ بعده.
وبعد: فاتقوا الله معاشرَ المؤمنين، واعلموا أنَّ تمَّتَ أمرًا خامسًا لا يقلّ أهميِّةً عمّا مضى ذكرُه، ألا وهو التأمُّل في الحال والواقع ومحاسبةُ النفس على التقصير والتفريط في جنب الله وإصلاحُ مواطن الخَلل في النفس والمجتمع، فإنه ما نزل بلاءٌ إلا بذنب، ولا رُفع إلاَّ بتوبة صادقةٍ إلى الله، وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنْ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرْ الصَّابِرِينَ [البقرة:155]، وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ [النحل:112]، وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا [الإسراء:16].
إنَّ الذنوبَ والمعاصي وضعفَ التمسُّك بشريعة الله في النفس والمالِ والمجتمَع لهي مِن دواعي الاختلال الأمنيّ وترادُف الكوارث والخطوب، ما يستدعي اللُّجوءَ إلى الله وارتقاب لُطفه وتغيير ما في النفس ليغيِّر الله الحالَ إلى ما هو خير، إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ [الرعد:11].
روى البيهقي وابن ماجه من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: كنتُ عاشرَ عشرة رهطٍ من المهاجرين عند رسول الله ، فأقبل علينا بوجهه فقال: ((يا معشر المهاجرين، خمسُ خصال أعوذ بالله أن تدركوهن: ما ظهرتِ الفاحشةُ في قوم حتى أعلَنوا بها إلاَّ ابتُلوا بالطواعين والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم الذين مضَوا، ولا نَقَص قومٌ المكيالَ إلا ابتُلوا بالسنين وشِدّة المؤونة وجَور السلطان، وما منع قومٌ زكاةَ أموالهم إلاَّ مُنِعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطَروا، ولا خَفَر قومٌ العهدَ إلاَّ سلَّط الله عليهم عدوًّا من غيرهم فأخذوا بعضَ ما في أيديهم، وما لم يعمَل أئمَّتُهم بما أنزل الله في كتابه إلاَّ جعَل الله بأسَهم بينهم))[1]، ولقد صدق الله: أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [آل عمران:165].
هذا وصلّوا ـ رحمكم الله ـ على خير البرية وأزكى البشرية محمّد بن عبد الله بن عبد المطلب صاحب الحوض والشفاعة، فقد أمركم الله بأمرٍ بدأ فيه بنفسه، وثنّى بملائكته المسبِّحة بقدسه، وأيّه بكم أيها المؤمنون، فقال جل وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمّ صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد، وارض اللهم عن خلفائه الأربعة...
[1] سنن ابن ماجه: كتاب الفتن (4019)، شعب الإيمان للبيهقي (3/197)، وصححه الحاكم (4/540)، ووافقه الذهبي، وصححه الألباني بمجموع طرقه في السلسلة الصحيحة (106).
ــــــــــــــــــــ(67/197)
أيها الضرَّابون للنساء ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء
الكتاب يتكون من مقدمة وتمهيد وثلاثة فصول ويقع في ست وسبعين صفحة من القطع المتوسطة وهو من إصدار دار ابن كثير، مصر وللمؤلف عدة مؤلفات أخرى منها: الإيقاظ لتذكير الحفاظ بالآيات المتشابهة بالألفاظ، ولا تقربوا الفواحش، إمتاع السامعين بوصف الحور العين، للعاقلات فقط، للعقلاء فقط، عظماء الأطفال، أطفال المسلمين، كيف رباهم النبي الأمين صلى الله عليه وسلم•
مقدمة وتمهيد
يبدأ المؤلف كتابه بمقدمة صغيرة تمهيد يُبين فيه أن الله سبحانه وتعالى كرَّم الرجل والمرأة وساوى بينهما في ضمان الجزاء على العمل فقال تعالى: (فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض) آل عمران:195، بل لما أطاعت المرأة ربها رفع سبحانه قدرها وجعلها سيدة نساء العالمين، وبنى لها بيتاً في الجنة: (إذ قالت رب ابنِ لي عندك بيتاً في الجنة< التحريم:11، ولما عصى زوجها ربه جل وعلا جعل له ولجنوده النار في قبورهم وفي أخراهم• (النار يعرضون عليها غدواً وعشياً ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب) غافر:46•
ومن تكريم الله سبحانه وتعالى للمرأة، أن أنزل في القرآن سورة من السُّور الطوال وسماها سورة النساء•
الفصل الأول: حق المرأة على زوجها
إن أعظم من يبين حقوق المرأة على زوجها هو خالقها وبارئها جل وعلا، وقد بيَّن ذلك في كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، فليس ثمة مجال إذاً لعلماني مارق، ولا لفاسق من دعاة تحرير المرأة أن يستحدث للمرأة حقوقاً، ومن أراد تحرير المرأة ومن أراد أن يتحدث عن حقوقها، فليبحث عن ذلك في القرآن والسُّنة إن كان حقاً من المسلمين، أما الذي يبحث عن حقوقها في زبالات أفكار الغرب، ومستنقعات أهواء غير المسلمين، فدينه غير دين المسلمين، وإن تسمَّى بأسمائهم وانتسب إلى ملتهم، ولسنا الآن بصدد الحديث عن جميع حقوق المرأة، على أبيها وعلى أهلها، أو أقاربها أو مجتمعها، فلهذا مكان آخر، ولكن حديثنا عن حق المرأة الزوجة التي تسكن بيت الزوجية مع زوجها، وأول هذه الحقوق:
1 ـ أن يبذل الزوج جهده في وقايتها من النار، فالله تعالى أمر بذلك في قوله: (يأيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة•••) التحريم:6• ويكون ذلك بتعليمها ما لابد منه من العلم النافع الموصل إلى الله سبحانه وتعالى، ومن العقيدة الصحيحة وأحكام الوضوء والصلاة والصوم وسائر أمور دينها•
2 ـ أن يحسن عشرتها، ويعاملها بالمعروف لقول الله تعالى: (وعاشروهن بالمعروف)•
3 ـ ألا يطرقها ليلاً إذا طالت غيبته•
4 ـ أن يتجمل لها كما يحب أن تتجمل له•
5 ـ ألا يفشي سرها•
6 ـ ألا يتجاهلها، وأن يُشركها في ما هي شريكة له فيه•
7 ـ أن يشكرها إذا رآها تفعل ما يسرُّه•
8 ـ مساعدتها فيما ثقل عليها من أعباء•
9 ـ أن يراعي حقوقها العينية التي حددها خير البرية صلى الله عليه وسلم•
10 ـ أن يراعي فيها جانب القصور الفطري•
11 ـ أن يأذن لها في الخروج لقضاء حوائجها خارج البيت مادامت في مأمن من الأخطار والفتن•
12 ـ أن يتدرج معها عند معالجة أخطائها•
13 ـ إذا غضب فلا يسبَّها أو يسب أهلها أو يحط من قدرهم•
14 ـ ألا يبغضها لشيء فيها يكرهه•
15 ـ أن يؤمِّن لها حق الشكوى إذا اشتد الخلاف بينهما•
16 ـ ألا يهجرها أو يضربها لغير سبب مشروع•
17 ـ ألا يزيد الهجر عن أربعة أشهر•
18 ـ ألا يضرب وجهها عند ضربها•
19 ـ ألا يكثر لها من التهديد بالسلاح الرخيص وهو كثرة الحلف بالطلاق•
20 ـ تحكيم أهلها مع أهله عند خوف الشقاق•
21 ـ صلتها وزيارتها إذا كانت عند أهلها لسبب من الأسباب•
22 ـ ألا يضارها ويضايقها ليُكرهها على المفارقة والتنازل عن حقها•
23 ـ أن يطلقها طلاقاً سنياً في طهر لم يجامعها فيه•
24 ـ الإنفاق عليها والسُّكْنى لها إذا كان طلاقها رجعياً•
25 ـ ألا يخرجها من بيتها وقت العدة ولا تخرج هي أيضاً•
26 ـ أن يبقيها في عصمته إن طلبت ذلك منه إن أراد طلاقها•
27 ـ العدل بين أزواجه إن كان له أكثر من زوجة•
28 ـ وليكن لزوجته كأبي زرع لأم زرع وهو الحديث المشهور•
الفصل الثاني: حق الزوج على زوجته
وكما أن للمرأة حقوقاً على زوجها، وقد ذكرناها، فإن للزوج أيضاً حقوقاً على زوجته، فما هي هذه الحقوق؟
1 ـ طاعة الزوج•
2 ـ ألا تمتنع عنه إذا دعاها إلى فراشه•
3 ـ ألا تُدخل في بيت زوجها أحداً يكرهه•
4 ـ عدم تمكينها لأجنبي من الخلوة بها•
5 ـ أن تحافظ على أسرار زوجها•
6 ـ ألا تخرج من بيته إلا بإذنه•
7 ـ أن تحفظ زوجها في غيابه في نفسها وماله•
8 ـ عدم صومها صيام التطوع قبل إخباره وإذنه•
9 ـ ألا ترهق زوجها بالإكثار من النفقات•
10 ـ أن تكون نظيفة في لبسها وهيئتها وزينتها•
11 ـ أن ترضيه إذا غضب•
12 ـ أن تعترف بجميله ولا تجحد إحسانه•
13 ـ أن تعترف بقوامته عليها وتخضع لرئاسته لها•
14 ـ أن تحسن استقباله عند قدومه من خارج البيت•
15 ـ تربية أولاده تربية إسلامية، والقيام بشؤون البيت•
الفصل الثالث: ضرب النساء
لقد شرع الله تعالى سنة الثواب والعقاب، وجعل الثواب لمن أحسن وأناب، ثم كان العقاب لمن حاد عن الصواب، بعدما نُصِح فما استجاب، لكنه سبحانه أمر بالتدرج عند التقويم والإصلاح، بحيث يكون الضرب آخر الوسائل التي يلجأ إليها الزوج أو المربي، ويكون أيضاً علاجاً لمرض، فإذا ذهب المرض فلا حاجة لهذا العلاج من أصله، وعلى هذا فالضرب ضرورة يلجأ إليها الرجل بعد أن يكون قد استنفد كل الوسائل المتاحة، والسبل المباحة من موعظة ونصح ثم هجر للمرأة في مضجعها في حال نشوزها وعصيانها، أو تكرر الخطأ منها بلا اكتراث ولا اهتمام وهو كذلك آخر مرحلة يضطر إليها الزوج نظراً لما قد ينتج من تفاقم المشكلات، بسبب ضربة خاطئة، أو تجاوز الحدود الشرعية في الضرب، قال تعالى: (واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلاً إن الله كان علياً كبيراً) النساء:34، وقال صلى الله عليه وسلم: >واضربوهن ضرباً غير مبرح< صحيح الجامع: 2068، وليس النساء أمام الضرب سواءً، فليست الوضيعة كالرفيعة >أي في المنزلة<، وليس الحييَّة كالجريئة ولا الجانية كالبريئة، فمن النساء من تكفيها النصيحة، وتستحي بمجرد مراجعتها، ومثل هذه فإن اللجوء إلى ضربها عند الخطأ ربما شق قلبها وفلق كبدها، وإذا تكرر ذلك فربما أصابتها حال نفسية يصعب علاجها فيما بعد، ومن النساء من تتحمل الضرب بشرط ألا يكون في حضرة الأقارب أو الأجانب فإذا حضروه استشاطت غضباً وازدادت خطأ، وعلى الزوج أن يراعي ذلك، فإن لم يكن الزوج حصيفاً حليماً بحيث يراعي هذه الجوانب النفسية فإنه بلا شك يقود السفينة للغرق والحياة الزوجية للفشل، ومن النساء من يكفيها ويؤدبها الهجر فلا حاجة إذاً للضرب، ومن النساء من يُصلحها الضرب أحياناً، ولكن يراعى حدود الشرع في ذلك، ويبين المؤلف حدود الضرب ونوعه فيقول:
أولاً: لا يكون الضرب على الوجه لأنه يهينها، والوجه موضع تكريم، وبه موضع السجود للرب الكريم، قال صلى الله عليه وسلم: >ولا يضرب الوجه< صحيح الجامع: 3149• ثانياً: ألا يكون في مواضع حساسة من جسدها•
ثالثاً: ألا يكون مبرحاً أي شديداً لقوله صلى الله عليه وسلم: >واضربوهن ضرباً غير مبرح<•
رابعاً: أن يكون على قدر الخطأ، فليس كل خطأ ولو كان صغيراً تقام له مجلدة للمرأة• والله تعالى يقول: (وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به) النحل:126•
ويحذر المؤلف من التمادي في العقاب إذا أعلنت المرأة أي إعلان يدل على التراجع والطاعة، فقال تعالى: (واضربوهن فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلاً إن الله كان علياً كبيراً) النساء:34•
ويحذر أيضاً المؤلف من الضرب، لأنه يجعل المرأة تتعود عليه وتستأسد، فتتحول من قطة إلى أسد، فربما مدت يدها عليه حال ضربها، فإن لم تمد يدها فلن يسلم من لسانها ودعواتها عليه، ومثل هذه الزوجة تكره زوجها ولا تتمنى أن تراه، فهل هذه حياة؟
ويذكر المؤلف موقف النبي الكريم صلى الله عليه وسلم من ضرب النساء، فيستدل بالحديث النبوي، فعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم ما ضرب بيده شيئاً قط إلا أن يجاهد في سبيل الله وما ضرب امرأة قط ولا خادماً قط< صحيح ابن حبان 14 ح64444، وقد استنكر رسول الله صلى الله عليه وسلم هُواة الضرب لنسائهم تلك الممارسات فقال: >لا يجلد أحدكم امرأته جلد العبد ثم يجامعها آخر اليوم< البخاري ج4 ح4658، وكان صلى الله عليه وسلم عظيم اللطف بالنساء، يظهر ذلك فيما روى عنه أنه ما ضرب شيئاً قط بيده لا امرأة ولا خادماً، وقوله لأنجشه: >رويداً سوقك بالقوارير< صحيح الجامع: 7858، وشبه صلى الله عليه وسلم النساء بالقارورة الزجاجية الضعيفة، سريعة الكسر والتحطيم، وفي موقف من المواقف غارت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها من إحدى زوجات النبي صلى الله عليه وسلم فقالت للنبي صلى الله عليه وسلم كلمة شديدة فسمعها أبوها أبوبكر رضي الله عنه فضربها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: >مهلاً يا أبا بكر< فقال يا رسول الله ألم تسمع ما قالت؟ فقال صلى الله عليه وسلم: >إن الغَيْرَى ـ المرأة شديدة الغيرة ـ لا تبصر أسفل الوادي من أعلاه<•
وورد في الأثر: >أيما رجل صبر على سوء امرأته، أعطاه الله من الأجر ما أعطى أيوب عليه السلام على بلائه، وأيما امرأة صبرت على سوء خلق زوجها أعطاها الله من الأجر من أعطى آسية بنت مزاحم امرأة فرعون<•
ويبين المؤلف أسباب ضرب النساء فيقول: منها ما تكون الزوجة سبباً فيه، ومنها ما الزوج يكون متورطاً فيه، فما تسببه المرأة لنفسها:
1 ـ نشوزها وعدم طاعتها والتزامها بما يُلزمها به زوجها•
2 ـ الامتناع عن فراشه بدون عذر•
3 ـ خروجها بغير إذنه•
4 ـ إدخالها في بيته أحداً لا يحب هو دخوله عنده•
5 ـ إهمال الحجاب أو إهمال التزين للزوج وغير ذلك•
وهناك أسباب من جهة الزوج منها:
1 ـ الغيرة الشديدة في غير محلها والناتجة من الوسوسة• 2 ـ الخلط بين حق الزوجة وحق الأبوين•
3 ـ خوف الرجل المفرط على أبنائه•
4 ـ النزاع بسبب عدم وفاء الزوج بما اشترطه لزوجته•
ويختم المؤلف كتابه القيم بوصية للزوجين يقول فيها أخي الزوج: إذا قرأت في هذا الكتيب أو في غيره، وعرفت حقوقك على امرأتك، فتمهَّل ولا تهب بسرعة لتقول لها: انظري إلى حقوقي عليك، وانظري إلى تفريطك فيها، ولكن كن منصفاً، واقرأ حقوقها عليك أيضاً، لتعلم هل أنت مؤد لها حقوقها، أم أنك أيضاً مهمل ومفرط؟ بل وربما كان تفريطك أنت هو سبب إهمالها هي وتفريطها، قال تعالى: (يأيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط)•
أختي الزوجة: إن ما يُقال لزوجك يُقال لك أيضاً، فلم ننصرك عليه، ولم ننصره عليك، ولكن أنصفنا بينكما بما علمناه من دين الله تعالى وشرعه، وهدي نبيه صلى الله عليه وسلم: >فليتق كل منكما ربه في الآخر، واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه، وأنه جامع الناس ليوم لا ريب فيه، ثم تُوَفَّى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون•
التصنيف الرئيسيالبيت المسلم
بقلم الكاتب: تأليف: جمال عبدالرحمن ....... عرض: أحمد رمضان محمد حمودة
ــــــــــــــــــــ(67/198)
الأمّة بين تخريب القريب وعدوان الغريب
...
...
3711
...
الأسرة والمجتمع
...
...
قضايا المجتمع
...
عبد الباري بن عوض الثبيتي
...
...
المدينة المنورة
...
11/3/1425
...
...
المسجد النبوي
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- مآسي الأحداث. 2- تجريم أعمال التخريب والإفساد. 3- مفاسد العمليات التخريبية. 4- أهمية مطلب الأمن. 5- واجب المجتمع تجاه هذه الأحداث. 6- خطورة العدو الداخلي. 7- التحذير من الذنوب المعاصي. 8- جرائم أعداء الإسلام في الفلوجة وفي فلسطين.
الخطبة الأولى
أما بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله، قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
عبادَ الله، إنّ القلبَ ليحزن وإن العقلَ ليذهَل حين يرقُب المسلم هذه الأحداثَ التي ابتُليت بها هذه البلاد من أقوامٍ ضلّوا الطريقَ وتلوّثت عقولهم بأفكارٍ خاطئة، أعمال مهما كان فاعلها ومهما كانت حجّتُه ودافعه فهي تتضمّن مفاسدَ كبيرة وشرورًا عظيمة، فيها قتلُ الأنفس المسلمة ظلمًا وعدوانا، قال الله تعالى: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء:93]، وقال رسول الله : ((لن يزال المؤمن في فُسحةٍ من دينه ما لم يُصِب دمًا حرامًا)) أخرجه أحمد والبخاري[1]، وقال رسول الله : ((لزوالُ الدنيا أهون على الله من قتل رجلٍ مسلم)) أخرجه الترمذي[2]، وقال رسول الله : ((لو أنّ أهلَ السماء وأهلَ الأرض اشتركوا في دم مؤمن لأكبَّهم الله في النار))[3]، وحين قتَل أسامة بن زيد رجلاً تأوُّلاً بعد أن سمعه ينطَق بالشهادة قال له رسول الله : ((أقتلتَه بعد أن قال: لا إله إلا الله؟!))[4].
إنّ هذه الأعمالَ التي تحصدُ أرواحَ العشرات من المسلمين لا تقوم على أساسٍ شرعيّ، ولا تقبلها العقولُ السليمة والفِطر السويَّة، وهي فِعلة مستهجَنة شنعاء، تتضمّن البغيَ والظلم، فليس من أخلاق المؤمن الإقدامُ على تفجير نفسه وقتل الغير وقطع الفريقِ على المسلمين وتهديدهم بالسّلاح والاعتداء على سياراتهم، بل هذه من أخلاق قُطّاع الطرُق المفسدين الأرض، قال رسول الله : ((من قتل نفسَه بحديدةٍ فحديدته في يده يتوجَّأ بها في بطنِه في نار جهنّم خالدًا مخلَّدًا فيها أبدًا، ومن شرِب سُمًّا فقتل نفسَه فهو يتحسّاه في نار جهنّم خالدًا مخلّدًا فيها أبدًا، ومَن تردّى من جبلٍ فقتل نفسَه فهو يتردّى في نار جهنّم خالدًا مخلَّدًا فيها أبدًا)) أخرجه مسلم[5].
في هذه الأعمالِ حملُ السّلاح على المسلمين وقد أخرج البخاريّ ومسلم في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((لا يشير أحدُكم على أخيه بالسلاح؛ فإنه لا يدري لعلّ الشيطان ينزع في يده فيقع في حفرةٍ من النار))[6].
فيها مفارقةُ الجماعة وشقُّ عصا الطاعة، وهي كبيرة من الكبائر، قال رسول الله : ((من خرج من الطاعة وفارق الجماعةَ فمات مات ميتةً جاهلية)) أخرجه مسلم[7]، وقال : ((من فارق الجماعةَ شبرًا فقد خلع رِبقةً الإسلام من عُنقِه)) أخرجه أحمد وأبو داود[8].
فيها الاعتداءُ على رجال الأمن، وهذه جريمةٌ كبرى؛ لأنهم في الأصل مسلمون، والمسلم في شريعة الإسلام معصومُ الدمِ والعِرض، ولا يختلف المسلمون في تحريم الاعتداء على الأنفسِ المعصومة، ومهما كان من معاصٍ وأخطاء فليس هذا من الإصلاح، وهل يكون الإفساد والعبثُ بالأرواح والأمن إصلاحًا؟!
والذين يدعون إلى الجهاد دونَ النظر إلى آثار القتال غاب عنهم الهدفُ الأسمى الذي شرِع من أجله الجهاد، وهو إقامةُ الدين ورفعُ راية التوحيد؛ لأنّ القتالَ إذا أدّى إلى فتنةٍ ممنوعٌ شرعًا وعقلاً.
هذه الأعمالُ تُشيع الهلَعَ وتثير الفزع، ولا يجوز ترويع المؤمنين، تؤجِّج نارَ الفوضى، وخطورةُ ذلك لا تخفى، تشعِلُ شرارةَ فتنةٍ داخلية، تُدمَّر فيها الطاقات، وتهدَر فيها المكتسبات، وتُشتَّت الجهود، وتعيق بناءَ الخير والتنمية، وتُعطِّل مشاريعَ الإصلاح، وتشوّه مناشِط الخير وما يرتبط بها.
إنّ التفريطَ في أمن المجتمع تدميرٌ له ولمكتسباته ودعائمه، لذا يجب علينا جميعًا أن نسعَى للحفاظ على هذا الأمن بسدِّ الثغراتِ التي يمكن أن تُحدِث شرخًا في المجتمع أو تجعلَ جسدَه مثقَلاً بالجراح، فيشغَل بردمها عن دوره ورسالته وبناء مجتمعه وأمَّته.
بيَّن القرآن الكريم أنّ سمةَ المنافقين زعزعةُ أمن المجتمع والإفساد فيه وإشاعةُ الفتنة بدعوى الإصلاح، قال الله تعالى: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلا إِنَّهُمْ هُمْ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ [البقرة:11، 12].
إذا تفيَّأ المجتمعُ ظلالَ الأمن والأمان وجدَ لذّةَ العبادة وذاق طعم الطاعة، يكون اليوم سباتًا والطعامُ هنيئًا والشراب مريئًا، فالأمن مطلَبٌ أساسٌ لجميع الناس، خاصّة في المجتمعات المسلمة التي تتمتّع بالإيمان، إذ لا أمنَ بلا إيمان، وقد قال رسول الله : ((من أصبح منكم آمِنًا في سِربه معافًى في بدنه عنده قوتُ يومه فكأنما حِيزت له الدنيا))[9].
بالأمن تُعمَّر المساجِد، وتُقام الصلوات، وتُحفَظ الأعراض، وتؤمَّن السُبُل، وينشَر الخير، وتقام الحدود، وتنتشر الدعوة، وتُطبَّق الشريعة، وإذا اختلَّ الأمن حكم اللصوصُ وقُطّاع الطرق.
إذا ضعُف الأمن اشتعلت الديار وأحالت قلوبَ المؤمنين ذُعْرًا، وصُرِع إخوانُ الإسلام والعقيدة، وقد يُستخدَم لزعزة الأمن بعضٌ من المغرَّر بهم.
هذه البلادُ كغيرها من البلدان تعيش مرحلةً خطيرة ومنعطفًا صَعبًا، فلا بدّ من تماسُك الصفّ مع بذل النصيحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وطريقُ التغيير الإصلاحُ والبناء لا الهدم والتدمير.
على الجميع أن يُحِسّوا بواجبهم الشرعيّ لرأب الصَّدع في البناء، ومعظَم النار من مستصغَر الشرر، وإنّ فتنًا عظيمةً في أُممٍ ماضيةٍ ودُوَلٍ حاضرة كان أولّها شرارةً يسيرة، تساهل أولو العلم والرأي في إطفائِها، فألهبت الأرض جحيمًا لا ينطفئ ودمًا لا ينقطع وفتنةً تركت الحليم حيرانًا.
أمنُ الفردِ جزءٌ من أمنِ مجتمعه، وتوطيد الأمن يستلزم أن يؤدّيَ كلّ فردٍ مسؤوليتَه في حِفظ الأمن، قال رسول الله : ((كلُّكم راع، ولكّكم مسؤول عن رعيته))[10].
إنّ شناعةَ الجريمة جليّة لا تكتنفُها شبهة، وناصعة لا شكَّ فيها، وممّا يثير العجَب كيف غيَّب هؤلاء نصوصَ الشرع وعقولهم حتى أراقوا دماءَ الأبرياء، وأسبَلوا دموعَ الثكالى، وأجَّجوا لوعَة كلِّ مسلم، وأحلّوا قومَهم دارَ البوار.
بماذا سيجيبون عن دماءِ المسلمين التي سالت وأشلاء بريئةٍ تناثرت وأفعالٍ طار بها العدوّ فرحًا وأحدثت شرخًا في لُحمة المجتمع وبنائه الداخلي؟!
إنّ الأمّة تعيش مآسيَ في مشارق الأرض ومغاربها، فلِمَ ينبري فئامٌ من بني جلدتِنا لإيقاد فتنٍ داخلية واحترابٍ لا مسوِّغ له؟! لن يكونَ فيه كاسبٌ سوى العدوّ المتربِّص، وسنبوء جميعًا بآثارها، ونُلذع بشَررها.
الأمّةُ ـ عباد الله ـ تضجّ ألمًا وتكتوي لوعةً وأسًى، ويشتدّ البلاء ويعظُم الخطب حين يُحدَث الخرق من الأقربين، والتاريخُ بأحداثه على مرِّ العصور يكشِف للأمّة أن أبرزَ مصائبها ولأوائها وخلخلةِ أركانها دبّ من داخلها، قال تعالى: الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا [الكهف:104]، الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ [الشعراء:152].
على شبابِ المسلمين التبصُّر في أمورِهم والتزوُّد من العلم النافع، ومن زلَّت به القدَم أن يعودَ إلى الله ويرجع، فإنّ التائبَ من الذنب كمن لا ذنبَ له.
من أعظمِ أسباب الفِتن الذنوبُ والمعاصي التي تزيل النعمَ وتجلِب النقَم، والواجب على الأمّة كلِّها صغارًا وكبارًا حكَّاما ومحكومين التوبةُ إلى الله، قال الله تعالى: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ [الشورى:30].
الأمّة إذا أرادت الأمنَ والأمان والسّلامة والاستقرار فلا بدّ أن تتّقيَ الله وتلتزم جادّةَ الاستقامة والطاعة لله ولرسوله، وإنّ التحصينَ لشبابنا هو ترسيخُ المنهج الوسَط للإسلام، ونشرُ العلم الشرعي في المدارس والجامعات والمساجد، ونبذُ الأفكار المنحرفة المتشدّدة أو المتساهلة، مع عدم إرسالِ التُّهَم دونَ تأنٍّ وتثبُّت، أو تعميم الأخطاءِ والتشكيك في منابِر الدعوة والإصلاح، ولا يقوله إلاّ حاقِد أو حاسد، يروم الاصطياد في الماء العَكِر.
نسأل الله أن يحفظَ علينا أمننا وإيماننا وسِلمَنا وإسلامنا، وأن يعيذَنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن، كما أسأله أن يرينا الحقَّ حقًا ويرزقنا اتّباعه، ويرينا الباطلَ باطلاً ويرزقنا اجتنابه، وأن يرحمَ المتوفَّين من المسلمين في هذا الحادثِ وغيره، ويُلهم ذويهم الصبرَ واليقين، ويشفي الجرحَى والمرضى، إنه سميع مجيب.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] صحيح البخاري: كتاب (6862) عن ابن عمر رضي الله عنهما.
[2] سنن الترمذي: كتاب الديات (1395) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، وأخرجه أيضا النسائي في كتاب تحريم الدم (3987)، قال الترمذي: "وفي الباب عن سعد وابن عباس وأبي سعيد وأبي هريرة وعقبة بن عامر وابن مسعود وبريدة"، وأشار إلى أن وقفه أصح من رفعه، ورجّح وقفه أيضا البيهقي في الكبرى (8/22)، ورمز له السيوطي بالصحة، وصححه الألباني في غاية المرام (439).
[3] أخرجه الترمذي في الديات (1398) عن أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما، وقال: "حديث غريب"، وقال ابن كثير في إرشاد الفقيه (2/258): "في إسناده يزيد الرقاشي عن أبي الحكم وهو عبد الرحمن بن أبي نعم عنهما، ويزيد ضعيف جدّا، ولكن هذه الأخبار يشد بعضها بعضا "، ولذا صححه الألباني في صحيح الترغيب (2438، 2442).
[4] أخرجه البخاري في كتاب الديات (6872)، ومسلم في كتاب الإيمان (96) عن أسامة رضي الله عنه.
[5] صحيح مسلم: كتاب الإيمان (109) عن أبي هريرة رضي الله عنه. وأخرجه أيضا البخاري في كتاب الطب (5778).
[6] صحيح البخاري: كتاب الفتن (7072)، صحيح مسلم: كتاب البر (2617).
[7] صحيح مسلم: كتاب الإمارة (1848) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[8] مسند أحمد (5/180)، سنن أبي داود: كتاب السنة (4758) عن أبي ذر رضي الله عنه، وأخرجه أيضا ابن أبي عاصم في السنة (892، 1054)، وعبد الله في زوائد المسند (5/180)، والحاكم (401، 402)، والقضاعي في مسند الشهاب (448)، والبيهقي في الكبرى (8/157)، وفي سنده خالد بن وهبان مجهول، لكن له شواهد كثيرة من حديث الحارث الأشعري وابن عمر وابن عباس ومعاذ وإبي الدرداء وعامر بن ربيعة رضي الله عنهم، ولذا صححه الألباني في ظلال الجنة (2/434).
[9] أخرجه البخاري في الأدب المفرد (300)، والترمذي في كتاب الزهد، باب: التوكل على الله (2346)، وابن ماجه في كتاب الزهد، باب: القناعة (4141)، والحميدي في مسنده (439) من حديث عبيد الله بن محصن الأنصاري، وقال الترمذي: "حديث حسن غريب". وله شواهد من حديث أبي الدرداء وابن عمر وعلي رضي الله عنهم. انظر: السلسلة الصحيحة للألباني (2318).
[10] أخرجه البخاري في العتق (2554، 2558)، ومسلم في الإمارة (1829) عن ابن عمر رضي الله عنهما.
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي خلق فسوّى، والذي قدّر فهدى، أحمده سبحانه وأشكره على نعمٍ لا تُعدّ ولا تحصى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له، يعلم الجهرَ وما يخفى، وأشهد أنّ سيّدنا ونبينا محمّدًا عبده ورسوله، وعده ربه بقوله: وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى [الضحى:5]، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن سلك سبيلَ الهدى.
أما بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله.
عباد الله، وفي الفلّوجة بل وفي العراق كلِّها وفي فلسطين يعيش الناسُ المأساة في أحلَك فصولها وأوضَح صُوَرها؛ تدميرٌ وقتلٌ وإبادة جماعية، بأيّ ذنب تُدكّ الأرض ومن عليها؟! وإلى متى تُقام هذه المجازر؟! متى تتوقَّف الحرب؟! متى تصمُت المدافع والدبابات؟! متى تسكُن الطائرات؟! متى يهنأ الأطفالُ وتأمن النساء؟! لقد جاوز الظالمون المدى، قطعوا شريان كلِّ حياة، دمَّروا الأخضرَ واليابس، أين الحريّة التي بها يتشدَّقون وتحت شِعارها يقهرون؟! أين العدالة التي باسمها يُفسِدون؟! أين حقوق الإنسان الذي يقتلونه ويسحقونه؟! أين المواثيق الدولية؟! أيُّ قانونٍ يسوِّغ لهم تلك الجرائمَ وقد ضجَّت الأرض وبكت السماءُ وتقطّعت الأكبادُ من هولها؟! وكأنّ العالم اليوم ألغى من قاموسِه معانيَ الرحمة ووشائجَ المودّة والعطف.
الظلمُ اليومَ بلغ من القسوةِ غايتَه ومن الجبروتِ أقصاه، لا تحرِّكه إلاّ لغة المصالح الأرضيّة والمطامع الدنيوية، ولو سقطت كلّ المبادئ والقيم، ولو على جماجمِ الثكلَى وصرخات الأطفال وأشلاء النساء وجُثث المصلّين الأطهار، نسأل الله السلامة والعافية.
ومهما بلغت جراحُ الأمّة فإنها لن تموتَ، كما أنّ ليل الظلم قد أزِف زواله، فإنّ الفجرَ قد دنا وأشرقت أنواره.
إننا نناشِد كلَّ من كان في قلبه ذرّةٌ من رحمة، ونخاطب كلَّ صاحبِ نخوة وغَيرة أن يَهُبَّ لرفع الظلم عن المظلومين وردع الظالم الذي تمادى في غيِّه وتجبَّر وتغطرس. ونحن هنا نملك أقوَى سلاحٍ وأمضى عَتاد، ألا وهو الدعاء.
ــــــــــــــــــــ(67/199)
حديث عن المرأة
...
...
3792
...
الأسرة والمجتمع
...
...
قضايا الأسرة
...
سعود بن إبراهيم الشريم
...
...
مكة المكرمة
...
23/4/1425
...
...
المسجد الحرام
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- عدم استقلال أحد الجنسين عن الآخر. 2- ضرورة الحديث عن المرأة. 3- وجوب اعتماد الوحي في قضايا المرأة. 4- ضرورة التصدّي للعابثين بمقوّمات الأمّة. 5- خطورة التنادي بالحرية المطلقة للمرأة. 6- خطورة العبث بقضايا المرأة. 7- لا إفراط ولا تفريط. 8- وظيفة المرأة في الحياة والمجتمع. 9- بطلان دعوى التساوي بين الجنسين.
الخطبة الأولى
أما بعد: فأوصيكم ـ أيّها الناس ـ ونفسي بتقوى الله سبحانه ومراقبتِه في السرِّ والعلن، والتمسُّك بشريعته في المنشَط والمكرَه، وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [البقرة:195].
أيّها الناس، لقد جَعل الله سبحانه أصلَ البشريّة زوجين اثنين: ذكرًا وأنثى، لا يستقلّ أحدهُما بنفسه دون الآخر، وإلاّ لانقطع النسل وبُتر العقِب، ولذا فقد ذكر الله هذه النعمةَ في معرضِ الامتنان على خلقِه فقال سبحانه: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا [الأعراف:189].
إنها المرأةُ التي هي سكَنُ الزوج والأسرةِ واستقرارُهما، ناهيكم عن كونها نصفَ المجتمع، ثم هي تلِد النصفَ الآخر، فكأنها بذلك مجتمعٌ بأكمله.
إنَّ الحديثَ عن المرأة ـ عبادَ الله ـ حديثٌ ذو شجون، لا غِنى للمجتمع المسلم المعاصرِ عنه، وهو في الوقتِ نفسِه حديث محفوف بالمخاطر وعرضةٌ للزلَل والانزلاقِ جرّاءَ الأهواء والقوّةِ البيئيّة المؤثّرة والهجوم الكاسِح والاختلاف الموضوعيّ تجاهَها بنوعيه، أعني اختلافَ التنوُّع واختلافَ التضادّ.
إنه لمن الغَبن حقًّا أن نحصرَ الحديث عن قضيّة المرأة من كافّة جوانبها في اقتضابٍ وعُجالة كمثل هذه الخطبةِ القصيرة ونحوها، غيرَ أن ما لا يُدرَك كلّه لا يتركُ كلُّه، وأنّ القلادةَ والسِّوار يكفي منهما ما أحاط بالعنُق والمِعصم. نقول ذلك في الوقتِ الذي أصبحت فيه قضيةُ المرأة الشغلَ الشاغلَ للكثيرين والهاجسَ الأوّل في الوقت الذي تشهَد فيه الأمّة صنوفًا من الظلم والقهرِ والبطالة والفقرِ والانحراف والتضليلِ وتسلُّط الأعداء من الداخل والخارج، ولا نجد لها أطروحاتٍ في الواقعِ المرئيّ والمسموع والمقروء إلاّ ما رحم ربّي. ومع ذلك كلِّه فإننا نقول لكلِّ من يُسهِم في مناقشة قضية المرأة أن يلحظَ المحاورَ الآتية في طريقِه لئلاّ تزلَّ به القدم ويقَع في أتّون البخس والتطفيفِ وخَلق ما لم يأذن به الله وما لم يأتِ به الأوّلون من سلَف هذه الأمّة.
أمّا المحورُ الأوّل فإنه يتمثّل في الاعتقادِ الجازم بأنّ المصدرَ الوحيد في تحديدِ هويّة الجنسَين الذكر والأنثى وتحديدِ معايير كلِّ واحدٍ منهما وبيان أوجُه الاشتراك والاختلاف بينهما في بابِ الخِلقة وبابِ التكليف أنّ ذلك كلَّه يرجع إلى كتاب الله وسنة رسوله ، لا لآراء الرجال وأهوائهم، كما أنَّ الاعتراضَ على أيِّ شيء من ذلكم إنما هو اعتراض على واضع الشريعة وهو القائل: أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنْ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ [المائدة:50]. فلا اعتبارَ إذًا لانقلابِ المقاييس الشرعيّة في أسماء الأشياء والتي تورِث المهازلَ العجيبة جينما تنقلبُ المعاني رأسًا على عَقِب، كتسميةِ حياءِ المرأة وحِشمتِها وحجابها كَبتًا لا مسوِّغَ له وموروثًا تقليديًّا عفا عليه الزمن.
والمحور الثاني ـ عبادَ الله ـ أن يقفَ كلُّ ناصِح ومخلصٍ وغيور على أمّة الإسلام في وَجه كلِّ صاحب قلمٍ يريد أن يعبثَ بمقوِّمات الأمّة أو يجعلها عِلكًا ملتصِقًا في أحذية عُبَّاد الشهوة أو مِن الذين كرِهوا ما نزّل الله، أو يسعى بقلمه إلى خرق سفينة الأمّة الماخرة ممن يلوكون بألسنتهم ويسطِّرون بأقلامهم أنه لا سبيلَ لنا إلى أيّ تقدّم في العِلم والصناعة والحضارة إلاّ من خلالِ خوض غِمار تجارب الغربِ في رسومهم وفِجاجهم تجاهَ المرأة، والحقّ الأبلج في هذا الإطار هو أنّ الدّولَ الراعيَة لمناهج التحرّر للمرأة في دولٍ غير مسلمة أو دولٍ تنحى منحاها تجِد أنّ تلك الدوَلَ رغمَ طنطَنتها وبهرجَتها فيما تزعُم مِن حريّةٍ للمرأة أنها لم تبلغ بها مبلَغًا يكافئ الدّعايةَ المبذولة في تحريرها، بل إننا لا نجِد لها في حقائبهم الوزاريّة إلا النزرَ اليسير، ولا في البرلمانات والنيابات إلا امرأةً أو امرأتين، ما يؤكِّد أن ذلك ما هو إلا مجرّدُ رمزٍ يقنعون به السُّذَّجَ بأنّ المرأة بلغت شأوًا عظيمًا عندهم.
والأعجبُ من ذلك ـ عبادَ الله ـ أن بعضَ تلك الدوَل العظمى الراعية لتحرير المرأة ينصّ دستورُها على أن لا تتولَّى المرأةُ منصبَ رئاسة الدولة، فهل بعدَ هذا تصبِح تلك الدولُ مِثالاً يُشنشِن حولَه أدعياء تحرير المرأة؟! ولا غروَ ـ عبادَ الله ـ فلعلّ تلك الدولَ الكافرة كانوا أفهمَ لمغزَى حديثِ رسول الله من بعض دعاةَ تحريرِ المرأة من المسلمين، وذلك حينما بلغ النبيَّ أنّ دولةً كافرةً نصّبت امرأةً عليها، فقال رسول الله : ((ما أفلَح قومٌ ولَّوا أمرَهم امرأةً)) رواه البخاري في صحيحه[1]، وفي لفظ عند أحمد في المسند بسندٍ صحيح أنّ النبيَّ قال: ((الآنَ هلكتِ الرجال إذا أطاعتِ النساء))[2].
والواقعُ المشاهَد ـ عبادَ الله ـ أنّ غايةَ ما حقّقته تلك الدولُ لتحرير المرأة أن جعلتها سِلعةً ممتهنَة في دُور البغي والفُحش أو صُوَرًا مبتذلَة في ثنايا مقطوعاتٍ غنائيّة أو أجسادًا للإغراء في ترويجِ السِّلع ونحوها عبرَ الدعايات التي لا تروج إلا من خلال جسَد المرأة.
والمحور الثالث ـ عبادَ الله ـ يتمثَّل في أنّ إطلاقَ الحريّة والتحرّر في كلّ قضيَّة للمرأة إنما هو مطِيّة يركبُها جهَلَةٌ مغرورون أو مغرِضون مشوِّشون لإحداث ثغرَةٍ في التكامُل الاجتماعيّ لدى الدّولة المسلمة. وإنما تُقذَف القنابل الموقوتة من هذه النافذة، بل هذا هو البابُ التي تُطلُّ منه تفّاحةُ الشيطان؛ لأنّ اسمَ الحرية له وقعٌ سِحريّ في غرور عامّة الناس، لا سيّما المراهقين والمراهقات.
وإن تعجَبوا ـ عبادَ الله ـ فعجبٌ تلك المراحلُ الثلاث التي يسطِّرها ويقرِّرها أدعياءُ تحرير المرأة وانتشالها من سِجنها النفسيّ المتمثّل في التمسُّك بالشريعة زعموا.
فالمرحلةُ الأولى عندهم هي تقرير أنهم مكلَّفون فحصَ كلِّ ما يعترضنا من مشاكل في الوسط الإسلاميّ، فلا يقبلون أيّة فكرةٍ إلا بعد أن يسمحَ لها العقلُ بالمرور، وحجّتهم في ذلك الفارق العلميّ والثقافي بينهم وبين رجل الشارع البسيط.
يلي ذلك المرحلةُ الثانية، وهي أنهم بأطروحاتهم تلك يدَّعون أنهم مخلِصون مشفِقون على واقع الأمة، طالبون للحقّ والعلم، ولكنهم يؤكِّدون أنّ العلمَ إنما هو نتيجةُ الحرية، فما لم يتحرَّروا من كلِّ فكرةٍ سابقة لم يسَعهم الحصولُ على المراد المطلوب.
ثم تأتي الداهيةُ في المرحلة الثالثة التي يقرّرون من خلالها أنّ كلّ شيء ينبغي أن يخضعَ للبحثِ الحرّ، وكلمة "كل شيء" لا تستثني شيئًا عندهم حتى عقائدنا وتعاليمنا وموروثاتِ الفضيلةِ عندنا.
وممّا لا شكّ فيه أنَّ هذه المراحلَ فيها من البروق المغريةِ للسّذّج ما يكفي لإلقاءِ بذور الشكّ في كل شيء، فضلاً عن قضية المرأة ذاتِها، وأنّى لمثلِ هؤلاء الأغرار من المجتمعات المسلمة أن يدرِكوا بأنّ ذلك إنما هو كسِتار الدخانِ الذي يطلِقه المحاربون عادةً لتغطية الزّحف.
أمّا المحوَر الرابع فإنه ما مسَّ مجتمعٌ قطّ قضيّةَ المرأة وعَبثَ بها وبمقوِّماتها وشكّك في الأُطُر الشرعية التي وَضِعت كسياج حمايةٍ لها والمهامّ التي امتازت بها عن الرجل وامتاز الرجلُ بها عنها إلا أوقعهم الله في شرٍّ مما فرّوا منه، وجرّوا على أنفسهم من الويلات والشرور ما لم يكونوا على حَذَر منه، ولقد صدق رسول الله إذ يقول: ((ما تركتُ بعدي فتنةً أضرّ على أمّتي من النساء)) رواه البخاري ومسلم[3]، وعند مسلم في صحيحه: ((فاتقوا الدنيا، واتّقوا النساء، فإنّ أوّل فتنةِ بني إسرائيل كانت في النساء))[4].
وليس غريبًا عنّا ـ عبادَ الله ـ ما كشَفه التاريخُ لنا عن معركةِ ذي قار المشهورة، وقد كانت من أشدّ حروبِ الجاهلية حيث نشَبت بسبَب امرأة أرادها كِسرى وأباها النعمان عليه[5]. ومثل ذلك أيضًا التآمُر الذي وقع من قِبل يهود على نزع حجابِ المرأة المسلمة وكشفِ سوأتها في سوقِ بني قينقاع في عهد النبي [6].
والمحور الخامس ـ عبادَ الله ـ وهو أنّ الشريعة الإسلامية في الحقيقةِ لا ترضى بمسلَك الغلوّ في النظرة للمرأة، بحيثُ تُحتقَر وتمتهَن وتُهمَّش عن واقع الحياة، ولا هي في الوقت نفسِه ترضى بمسلَك التحرّر والانطلاق، فكلا طرفَي قصدِ الأمور ذميم. فالأمّة كذلك ينبغي أن لا تسمَع للمتشائمين المتنطِّعين، وأن لا تتابع المتهوِّرين العابثين؛ إذ الأمة ليست محلَّ تأثيرِ الغلاة في كبتِ حقّ المرأة وما يجلبونه ضدَّها من مبرِّرات وإن خلَطوها بأحاديثَ موضوعة مكذوبة، كإيرادهم حيث: ((طاعةُ المرأة ندامة)) وهو حديث موضوع مكذوب[7]، كما أنّ الأمةَ أيضًا ليست محلّ تأثير المفرّطين الزّاجّين بالمرأة خارجَ السِّياج، وإن أجلبوا على باطلهم بالمبرِّرات المغشوشة والأحاديث المكذوبة أيضًا كحديث: ((خذوا نِصفَ دينِكم من هذه الحُميراء)) يعنون بذلك عائشةَ رضي الله عنها، وهو حديث موضوع مكذوب أيضًا[8].
والحقُّ في ذلك كلِّه هو الوسَط الذي هو العدلُ والخِيار والإنصاف، فما دلّ عليه الدليلُ الشرعيّ فهو الحقّ وإن لم يتَّبعه إلا شخصٌ واحد، وما خالف الدليلَ الشرعيَّ فهو الباطل وإن اتّبعه جمهور الناس.
وإنه لمن الغلَط الفاحِش والمفهوم المقلوب أن يدّعي بعض الناس إمكانيةَ جمع الفُرَقاء والمختلفين في قضية المرأة، فيريدون أن يوفّقوا بين الداعِين إلى الحجابِ الشرعيّ المتكامل والداعين إلى سفور المرأة وتبرّجها من خلال تنصيفِ الحجاب وتنصيفِ الحِشمة وتنصيفِ الحياء، فيصيرون بذلك مذبذَبين بين ذلك، لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، وَمَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ [الرعد:33].
ألا فاتقوا الله معاشرَ المسلمين، وإياكم ومحدثاتِ الأمور، فإنّ كلَّ محدثةٍ بدعة، وكلَّ بدعة ضلالة، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآياتِ والذكر الحكيم، قد قلتُ ما قلت، إن صوابًا فمن الله، وإن خطأً فمن نفسي والشيطان، وأستغفر الله إنه كان غفارًا.
[1] صحيح البخاري: كتاب المغازي (4425) عن أبي بكرة رضي الله عنه بلفظ: ((لن يفلح قوم...)).
[2] مسند أحمد (5/45)، وأخرجه أيضا بهذا اللفظ الطبراني في الأوسط (425)، وصححه الحاكم (7789)، لكن في سنده أبو بكرة بكار بن عبد العزيز بن أبي بكرة متكلم فيه، انظر: السلسلة الضعيفة (436).
[3] صحيح البخاري: كتاب (5096)، صحيح مسلم: كتاب الذكر (2740) عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما بلفظ: ((أضر على الرجال من النساء)).
[4] صحيح مسلم: كتاب الذكر (2742) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
[5] انظر: تاريخ الطبري (1/472) وما بعدها.
[6] انظر: السيرة النبوية لابن هشام (3/314)، قال البيهقي في السنن الكبرى (9/200): " قال الشافعي في رواية أبي عبد الرحمن البغدادي عنه: لم يختلف أهل السيرة عندنا ابن إسحاق وموسى بن عقبة وجماعة ممن روى السيرة أن بني قينقاع كان بينهم وبين رسول الله موادعة وعهد، فأتت امرأة من الأنصار إلى صائغ منهم ليصوغ لها حليّا، وكانت اليهود معادية للأنصار، فلما جلست عند الصائغ عمد إلى بعض حدائده فشدّ به أسفلَ ذيلها وجيبها وهي لا تشعر، فلما قامت المرأة وهي في سوقهم نظروا إليها منكشفة، فجعلوا يضحكون منها ويسخَرون، فبلغ ذلك رسول الله فنابذهم وجعل ذلك منهم نقضا للعهد".
[7] أخرجه ابن عدي في الكامل (3/262، 5/262) من حديث عائشة ومن حديث زيد بن ثابت رضي الله عنهما، وحكم عليه بالوضع ابن الجوزي (2/272)، والشوكاني (129)، والألباني في السلسلة الضعيفة (435)، وغيرهم.
[8] جاء في مرقاة المفاتيح (10/565): "قال الحافِظُ اِبنُ حجرٍ: لا أعرِفُ له إسنادًا , ولا رِوايةً فِي شيءٍ مِن كُتُبِ الحدِيثِ إِلا في النّهايةِ لابنِ الأثيرِ , ولم يذكر من خرّجه. وذكر الحافِظ عِماد الدينِ بن كثِير أنّه سأل المزِّيّ والذّهبِي عنه فلم يعرِفاه. وقال السخاوِيّ: ذكرهُ فِي الفِردوسِ بِغيرِ إِسنادٍ, وبِغيرِ هذا اللّفظِ، ولفظُه: ((خُذوا ثُلث دِينِكُم مِن بيتِ الحُميراء)), وبيّض لهُ صاحِبُ مُسندِ الفِردوسِ, ولم يُخرِج لهُ إِسنادًا. وقال السيوطيُّ: لم أقِف عليه".
الخطبة الثانية
الحمد لله وحدَه، والصلاة والسلام على من لا نبيّ بعده.
وبعد: فاتقوا الله أيها المسلمون.
واعلموا أنّ ثمّة محورًا سادسًا يخصُّ قضيةَ المرأة، وهو أنّ وظيفتها في الحياة والمجتمَع ليست مبنيّةً على عقدِ استرقاقٍ ولا ارتفاقٍ لجسدِها، بل المرأة لها حقّ في المجتمع والأسرَة، إذ لها حقٌّ أن تحضر المساجدَ في غير فتنةٍ، وأن ترفع عنها الأمّيّة، وأن يكونَ لها قصَبٌ في النصح والتوجيه والتربية والتعليمِ والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن حقِّها أيضًا أن تسعَى إلى الأفضلِ عند توفُّر فُرصِ العمل الملائم لوضعِها خَلقيًّا وشرعيًّا، في ميدان العِلم النافع والعمل الصالح ودعوةِ الخير، فالأمّة المسلمة بحاجةٍ ماسّة إلى المربّية المسلمة والمعلِّمة المسلمة والممرّضة المسلمة والطّبيبة المسلمة والكاتبة المسلمة، والمرأةُ ذاتُها بحاجةٍ ماسّة إلى أن تملأ رأسَها بالعلم والمعرفة الصالحة، لا أن تعرِّي رأسَها وجسَدها وتتجهَّم لدينها.
ووظيفة المرأة في المجتمع ستبقى خطيرةً وحسَّاسَة، لا تقبل التفريطَ فيها ولا التجاربَ المُرّة عليها.
كما أنّ المجتمع كلَّه مطالبٌ بصيانةِ الأعراض ومنعِ أيّ عَبَثٍ بها. والأمة الموفّقَة هي التي تستطيع أن تلائِم بين هذه الأهدافِ النبيلة للمرأة وبين احتياطاتِ المجتمع في ظلِّ حمايتِها وصيانتها، فلا هي تضَعها في قفصِ الاتهام، ولا تطلِقها لتكونَ مصيَدةً للآثام والبغي، ولا تجور على غَيرةِ الرجل وتمتهِن حقوقَ الله.
وأمّا آخِر المحاور ـ عبادَ الله ـ فهو ما ينبغي إيضاحُه بأنّ دعوى التّساوي بين الجنسين الذكرِ والأنثى من جميع الوجوه إنما هي كمثَل دعوى إمكانيّة العقدِ بين شعيرتين، فالمسلمُ الحقّ ينبغي أن لا يشُكَّ في أن الله جل وعلا اختصَّ كلَّ جنسٍ بخصائصَ امتاز بها عن الآخر، وزاد الرجالُ على النساء درجةً، فقال سبحانه: وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [البقرة:228]. فجعلَ الله التفضيلَ للرجال بالنبوّة والإمامةِ العُظمى والقضاءِ وإماماتِ الصلاة والجهادِ في سبيل الله وتزويج الرجل نفسَه دون وليّ والطلاق بيَد الرجل وأنّه يأخذ ضعفَها في الميراث في كثيرٍ من الحالات وأنّ الولدَ يُنسَب لأبيه وأنه يتزوّج أربعةً من النساء ويتسرَّى بالجواري وأنّ شهادةَ امرأتين تعدلُ شهادتَه وغير ذلك كثير. وقد روى الإمام أحمد في مسنده أن أم سلمة رضي الله عنها قالت: يا رسول الله، تغزُو الرجال ولا نغزو، ولنا نِصفُ الميراث!! فأنزل الله تعالى: وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ [النساء:32][1]. يقول القرطبي رحمه الله: "ولا يخفى على لبيبٍ فضلُ الرجال على النساء، ولو لم يكُن إلاّ أنّ المرأة خُلِقت من الرّجل فهو أصلُها، وله أن يمنعها من التصرُّف إلا بإذنه"[2].
غيرَ أنَّ هذا الاختصاصَ والتفضيلَ ـ عبادَ الله ـ لا يعني ازدراءَ المرأة ولا إقامةَ العنصريّة ضدَّها، ولا يعني ذلك بداهةً أن يكون كلُّ رجُلٍ أفضلَ من كلِّ امرأة، فإنّ القاعدةَ المقرّرَة أن تفضيلَ الشيء لا يلزم منه إهانةُ المفضول أو سقوطه، فالقرآن كلُّه كلامُ الله، ومع ذلك صحّ عند مسلم أنّ النبيَّ ذكر أنّ آيةَ الكرسيّ هي أفضل آية في كتاب الله[3]، والأنبياءُ والرسُل يفضُل بعضهم بعضًا كما قال تعالى: وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ [الإسراء:55]، ولا يعني ذلك البتَّةَ انتقاصَ المفضول من الآيات والأنبياء والرسُل.
وبعد: عبادَ الله، فإننا مع هذا التفضيل المذكور آنفًا لنؤكِّد بالدليلِ الشرعيّ أنّ النساءَ شقائق الرجال، وأنهم والرجالَ في العقائدِ والأخلاق سواء، وأنهم سواء في استحقاقِ الثواب والعقاب في مقابل تعاليمِ الإسلام سلبًا وإيجابًا. كما أنّ الزعمَ بأنّ الذكورةَ تقدِّم صاحبَها في الميزان وأنّ الأنوثة تؤخِّر صاحبتَها ليُعدّ لونًا من ألوان الافتراءِ والظلم، فالله جل وعلا يقول: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات:13]. بل إنّ الواقع ليشهد أنّ المرأة قد تفوق كثيرًا من الرجال كما كان لأمّهاتِ المؤمنين ومَن بعدهنّ، فالذكورة والأنوثة ليست هي مقامَ الميزان يوم القيامة، فكما أنّ تأنيثَ الشمس لم يكن عَيبًا لها، فكذلك تذكير الهلالِ لم يكن فخرًا له، وفي المثل المطروق: أنثى الأسَد في غابها خيرٌ وأقوى من الدّيك بين دجاجِه.
وأمّا الأصلُ العامّ في النظرة والقاعدةُ المجمَلة في هذه القضية فهي قولُه تعالى: الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ [النساء:34].
هذا وصلُّوا ـ رحمكم الله ـ على خيرِ البريّة وأزكى البشريّة محمّد بن عبد الله بن عبد المطلب، فقد أمركم الله بذلك بقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمّ صلِّ على محمّد وعلى آل محمّد كما صلّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد...
[1] أخرجه أحمد (6/322)، وأبو يعلى (6959)، والطبري في تفسيره (5/46-47)، والطبراني في الكبير (23/280) وغيرهم عن مجاهد قال: قالت أم سلمة وذكر القصة، وأخرجه الترمذي في التفسير (3022) عن مجاهد عن أم سلمة رضي الله عنها، وقال: "هذا حديث مرسل ـ أي: منقطع ـ، ورواه بعضهم عن ابن أبي نجيح عن مجاهد مرسل أن أم سلمة قالت كذا وكذا"، وقال الحاكم (2/335): "هذا حديث صحيح الإسناد على شرط الشيخين إن كان سمع مجاهد من أم سلمة"، قال أحمد شاكر في تعليقه على جامع البيان (8/262-263): "الروايتان بمعنى واحد، وإنما هو اختلاف في اللفظ من تصرف الرواة، وكلها بمعنى: مجاهد عن أم سلمة... وأما حكم الترمذي بأنه حديث مرسل فإنه جزم بلا دليل؛ ومجاهد أدرك أم سلمة يقينا وعاصرها، فإنه ولد سنة 21هـ، وأم سلمة ماتت بعد سنة 60هـ على اليقين، والمعاصرة من الراوي الثقة تحمل على الاتصال إلا أن يكون الراوي مدلسا، ولم يزعم أحد أن مجاهدا مدلس... فثبت عندنا اتصال الحديث وصحته"، والحديث في صحيح سنن الترمذي (2419).
[2] الجامع لأحكام القرآن (3/125).
[3] صحيح مسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها (810) عن أبي بن كعب رضي الله عنه.
ــــــــــــــــــــ(67/200)
حقوق الكبار
...
...
1667
...
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
...
...
الآداب والحقوق العامة, قضايا المجتمع
...
محمد بن محمد المختار الشنقيطي
...
...
المدينة المنورة
...
...
...
قباء
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- أطوار يعيشها الإنسان فيصل إلى الكبر والهرم. 2- انتهاك البعض لحقوق الكبير. 3- كلمة إلى الكبار. 4- إجلال الكبير ومعرفة فضله. 5-من نعم الله أن تطول حياة المرء في طاعة الله. 6- الكبير ودوره في القدوة الحسنة. 7- سؤال الله حسن الخاتمة.
الخطبة الأولى
أما بعد: فيا عباد الله، أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ [الروم:54].
سبحان من خلق الخلق بقدرته, وصرَّفهم في هذا الوجود والكون بعلمه وحكمته, وأسبغ عليهم الآلاء والنعماء بفضله وواسع رحمته, خلق الإنسان ضعيفًا خفيفًا ثم أمده بالصحة والعافية فكان به حليمًا رحيمًا لطيفًا اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً قوة الشباب التي يعيش بها أجمل الأيام والذكريات مع الأصحاب والأحباب, ثم تمر السنين والأعوام وتتلاحق، الأيام تلو الأيام، حتى يصير إلى المشيب والكبر، ويقف عند آخر هذه الحياة فينظر إليها فكأنها نسج من الخيال أو ضرب من الأحلام. يقف في آخر هذه الحياة وقد ضعف بدنه وانتابته الأسقام والآلام ثم بعد ذلك يفجع بفراق الأحبة والصحب الكرام.
إنه الكبير الذي رق عظمه وكبر سنه وخارت قواه وشاب رأسه، إنه الكبير الذي نظر الله إلى ضعفه وقلة حيلته فرحمه وعفا عنه إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا [النساء: 98, 99].
نقف اليوم مع الكبير مع حقوقه التي طالما ضُيَّعت ومشاعره وأحاسيسه التي طالما جرحت ومع آلامه وهمومه وغمومه وأحزانه التي كثرت وعظمت.
أصبح الكبير اليوم غريبًا حتى بين أهلِه وأولاده ثقيلاً حتى على أقربائه وأحفاده من هذا الذي يجالسه؟ من هذا الذي يؤانسه؟ من هذا الذي يباسطه ويدخل السرور عليه؟.
إذا تكلم الكبير قاطعه الصبيان, وإذا أبدى رأيه ومشورته سفهه الصغار والصبيان, فأصبحت حكمته وحنكته إلى ضيعة وخسران, أما إذا خرج من بيته فقد كان يخرج بالأمس القريب إلى الأصحاب والأحباب وإلى الإخوان والخلان, فإذا خرج اليوم يخرج بالأشجان والأحزان, يخرج إلى الأحباب والأصحاب يُشيع موتاهم, ويعود مرضاهم, فالله أعلم كيف يعود إلى بيته, يعود بالقلب المجروح المنكسر, وبالعين الدامعة, وبالدمع الغزير المنهمر.
يا معاشر الكبار، الله يرحم ضعفكم, الله يجبر كسركم، في الله عوض عن الفائتين, في الله أنس للمستوحشين.
يا معاشر الكبار، أنتم كبار في قلوبنا, وكبار في نفوسنا, وكبار في عيوننا, كبار بعظيم حسناتكم وفضلكم بعد الله علينا، أنتم الذين علمتم وربيتم وبنيتم وقدمتم وضحيتم لئن نسي الكثير فضلكم فإن الله لا ينسى, ولئن جحد الكثير معروفكم فإن المعروف لا يَبْلى, ولئن طال العهد على ما قدمتموه من خيرات وتضحيات فإن الخير يدوم ويبقى ثم إلى ربك المنتهى, وعنده الجزاء الأوفى إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً [الكهف:30].
يا معاشر الكبار, أمّا الآلام والأسقام التي تجدونها فالملائكة كتبت حسناتها, والله عظم أجورها, وستجدونها بين يدي الله, فالله أعلم كم كان لهذه الأسقام والآلام من حسنات ودرجات, اليوم تُزعجكم وتقلقكم وتُبكيكم وتقض مضاجعكم, ولكنها غدًا بين يدي الله تفرحكم وتضحككم, فاصبروا على البلاء واحتسبوا عند الله جزيل الأجر والثناء فإن الله لا يمنع عبده المؤمن حسن العطاء قال : ((عجبت لأمر المؤمن إن أمره كله خيرٌ، إن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له, وإن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له))[1].
عظم الله أجوركم, وأجزل في الآخرة ثوابكم فأحسنوا الظن بما تجدونه عند الله ربكم.
يا معاشر الشباب، توقير الكبير وتقديره أدب من آداب الإسلام, وسنة من سنن سيد الأنام عليه من الله أفضل الصلاة وأزكى السلام.
يا معاشر الشباب، إجلال الكبير وتوقيره وقضاء حوائجه سنة من سنن الأنبياء وشيمة من شيم الصالحين الأوفياء قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ [القصص:23, 24].
يا معاشر الشباب، ارحموا الكبار وقدروهم ووقروهم وأجلُّوهم فإن الله يحب ذلك ويثني عليه خيرًا كثيرًا, قال : ((إن من إجلال الله إجلال ذي الشيبة المسلم))[2]، إذا رأيت الكبير فارحم ضعفه, وأكبر شيبَهُ, وقدِّر منزلته, وارفع درجته, وفرج بإذن الله كربته يعظم لك الثواب, ويجزل الله لك به الحسنى في المرجع والمآب.
يا معاشر الشباب، أحسنوا لكبار السن لاسيما من الوالدين من الآباء والأمهات إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنْ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا [الإسراء:23، 24]، لاسيما إن كان الكبار من الأعمام والعمات والأخوال والخالات, كم تجلسون مع الأصحاب والأحباب من ساعات وساعات, كم تجالسوهم وتباسطوهم وتدخلوا السرور عليهم, فإذا جلستم مع الأقرباء الكبار مللتم وضقتم وسئمتم, فالله الله في ضعفهم... الله الله في ما هم فيه من ضيق نفوسهم.
يا معاشر الشباب، ما كان للكبار من الحسنات فانشروها واقبلوها واذكروها, وما كان من السيئات والهنات فاغفروها واستروها فإن الله يُعظم لكم الأجر والثواب.
اللهم اختم لنا بخير, اللهم اختم لنا بخير, اللهم اجعل خير أعمالنا أواخرها, وخير أعمالنا خواتمها, وخير أيامنا يوم نلقاك, اللهم اجعل أسعد اللحظات وأعزها لحظة الوقوف بين يديك برحمتك يا أرحم الراحمين, اللهم ارحم كبارنا, ووفق للخير صغارنا, وخذ بنواصينا لما يرضيك عنا.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] رواه مسلم في كتاب الزهد, باب في أحاديث متفرقة (18/ 125) بشرح النووي, عن صهيب.
[2] رواه أبو داود عن أبي موسى بلفظ (إن من إجلال الله إكرام ذي الشيبة المسلم) في كتاب الأدب.
الخطبة الثانية
الحمد لله الحليم الرحمن وأشهد أن لا إله إلا الله وحده, العظيم الديان, وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله, أرسله بالهدى والفرقان, صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه, أهل الرحمة والرضوان, وعلى جميع من سار على نهجهم واهتدى بهديهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل.
سُئل بعض السلف فقيل له: من أسعد الناس؟ قال: أسعد الناس من ختم الله له بالخير.
أسعد الناس من حسُنت خاتمته, وجاءت على الخير قيامتُه, قال : ((خيركم من طال عمره وحسن عمله, وشركم من طال عمره وساء عمله))[1].
يا ابن آدم إذا رق عظمك, وشاب شعرك فقد أتاك النذير أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير [فاطر: 37]. قال بعض العلماء: وهْنُ العظام والشيب في الشعر والرأس.
تذكرة من الله جل جلاله, وتنبيه من الله سبحانه وتعالى رحمة بعباده, وإلا فلربما غفلوا وكانوا عن طاعته بعيدين, فرحمهم الله جل وعلا بهذا النذير؛ حتى يُحسن خاتمتهم؛ حتى يُحسن الختام لهم سبحانه وتعالى, كان السلف الصالح رحمة الله عليهم إذا بلغ الرجل أربعين سنة لزم المساجد, وسأل الله العفو عما سلف وكان, وسأله الإحسان فيما بقي من الأزمان حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنْ الْمُسْلِمِينَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ [الأحقاف:15, 16].
كانوا إذا بلغوا أربعين عامًا لزموا بيوت الله, وأكثروا من ذكر الله, وأحسنوا القدوم على الله جل جلاله, أما اليوم فأبناء ستين وسبعين في الحياة يلهثون, غافلون لاهون, أما اليوم فنحن في غفلة عظيمة من طلوع الصباح إلى غروب الشمس والإنسان يلهث في هذه الدنيا, لا يتذكر ولا يعتبر, لا ينيب ولا يدَّكر, وتجده إذا غابت عليه الشمس وقد مُلئ بالذنوب والآثام من غفلة الدنيا وسيئاتها, ينطلق إلى المجالس, إلى مجلس فلان وعلان, وغيبة ونميمة وغير ذلك مما لا يُرضي الله, فيأتي عليه يومه خاملاً كسلانًا بعيدًا عن رحمة الله.
كبارنا خيارنا أهل الفضل والحلم فينا، هم قدوتنا في كل خير هم أئمتنا إلى الطاعة والبر.
يا معاشر الكبار، أنتم قدوة لأبنائكم وبناتكم وأهليكم, قدوة في مجتمعاتكم إذا جلست مع الأبناء والبنات، فإن كنت محافظًا على الخير والطاعات أحبوك وهابوك وأجلّوك وأكرموك, وإن وجدوك تسب الناس وتشتمهم وتنتقصهم وتعيبهم وتغتابهم أهانوك وأذلوك ثم سبوك وعابوك, وهكذا يجزي المحسن بالإحسان, والمسيئون بالخيبة والخسران.
يا معاشر الكبار، إنابة إلى الله الواحد القهار, وتوبة من الحليم الغفار إذا تقربت إلى الله شبرًا تقرب منك ذراعًا, وإن تقربت منه ذراعًا تقرب منك باعًا, وإذا أتيته تمشي أتاك هرولة, إذا نظر الله إلى قلبك أنك تحب التوبة وتحب الإنابة إليه فتح لك أبواب رحمته ويسر لك السبيل إلى مغفرته وجنته, إلى متى وأنت عن الله بعيد, إلى متى وأنت في غفلة؟ إلى متى وأنت بعيدُ عن الله طريد؟ ما الذي جنيت من السهرات؟ وما الذي جنيت من الجلوس هنا وهناك؟ توبة إلى الله.
قال بعض كبار السن: اللهم أحسن لي الخاتمة, فمات بين الركن والمقام. وقال ثان: اللهم أحسن الختام, فمات وهو ساجد بين يدي الله جل جلاله. وقال ثالث: اللهم إني أسألك حسن الخاتمة, فمات يوم الخميس صائمًا لله جل جلاله. أحسنوا الختام, وأقبلوا على الله جل جلاله بسلام وودعوا هذه الدنيا بأحسن العمال وشيم الكرام.
وصلوا وسلموا على الرحمة المهداة والنعمة المسداة, فقد أمركم الله بذلك حيث يقول جل في علاه: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
[1] رواه أحمد (5/40) والترمذي في كتاب الزهد, باب ما جاء في طول العمر للمؤمن عن أبي بكرة, وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
ــــــــــــــــــــ(67/201)
...
رسالة إلى العفيفات
...
...
3813
...
الأسرة والمجتمع
...
...
المرأة
...
صلاح بن محمد البدير
...
...
المدينة المنورة
...
28/5/1425
...
...
المسجد النبوي
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- دعاة السفور. 2- صيانة الإسلام للمرأة. 3- حال المرأة المتحرّرة من قيود الشرع. 4- ضرورة الفصل بين الرجال والنساء. 5- رسالة إلى المرأة المسلمة. 6- سدّ ذرائع الفساد. 7- رسالة إلى الآباء والأولياء. 8- منكرات الأفراح.
الخطبة الأولى
أمّا بعد: فيا أيّها المسلمون، اتّقوا الله فإنّ تقواه أفضلُ زاد، وأحسنُ عاقبةٍ في معاد، إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ [هود:49].
أيّها المسلمون،
زعَمَ السفورَ والاختلاطَ وسيلةً للمجد قومٌ في المجانةِ أغرَقوا
كذبوا متى كان التعرُّضُ للخنَا شيئًا تعزُّ به الشعوب وتسبق؟![1]
قومٌ تعاظم حِقدهم، واشتدَّ عُدوانهم، ليأتيَ على الفضيلة أعنفُه وعلى الحِشمة أشنعُه وعلى الطّهارة أبشعُه؛ لأنّ العِفّة تثيرُ غيظَهم وتُمضّ أفئدتَهم وتحرِق قلوبهم.
وما على العنبَر الفوّاحِ من حرجٍ أن مات من شمِّة الزبّالُ والجعَل[2]
نشؤُوا في حضنِ الإسلام، وتربَّوا في بلاده، فلمّا شبُّوا عن الطّوق استساغوا علقمَ العِدا واستحبّوا العمَى على الهُدى وحمَلوا معاولَ الهدمِ ورفعوا لواءَ الكيدِ والمكر الصُّراح، فأيُّ خيرٍ يُرتجَى ممّن سبَق للعِدا تعبيدُه ورِقُّه وتعذّر فكُّه وعِتقُه؟! فهو الوكيلُ المكتَرى والمملوكُ المشتَرى والخادمُ المرتَضى.
فُسولُ الرجال، الغَشَشَة الضُّلاَّل، أثاروها عجابةً هوجاء، وخطّوها مقالاتٍ خَرقاء، ضدَّ المجتمعِ المسلم الطاهر، وضدّ المرأة المسلمة، لإسقاط حجابها وتدنيسِ شرفها وإنزالها في ميادينِ الرجال وزجِّها في جميع الوظائفِ والأعمال وتأسيس الاختلاط وغَرس نبتتِه الخبيثة ووضعِ لَبِنته النّجسة، فقطعها الله من أكفٍّ، وأخرسَها من ألسُن، وأخمدَها من أنفاس، وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ [التوبة:107]، وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلا إِنَّهُمْ هُمْ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ [البقرة:11، 12].
أيّها المسلمون، لقد وضَع الإسلام حدًّا وسَدًّا لحمايةِ المرأة من مُعابثة الفُسّاق ومطامِع أهل الرِّيَب والنفاق، وستظلّ بالإسلام في إطارِ الشّرَف والفِخار والإجلال والإكبار، درّةً مصونة وزعيمة شريفة وحرّة عفيفة وشقيقة كريمة. حجابها جمالُها، وسِترها جلالُها، وجلبابُها عِزُّها وكمالُها، مِن الإسلام تستمدُّ هديَها، وبسنّةِ رسول الله تشقُّ طريقَها.
وليخسأْْ دعاةُ الافتراءِ المفضوح وأنصار المذهب المقبوح، فلن تجنيَ المرأة من الاختلاطِ والظهور والتكشُّف والحسُور إلا النّظرات المتلطِّخة والتحرّشات العابثة والاعتداءات الفاحِشة والكلالَ والنكالَ والوبال، وَمَنْ يَتَّخِذْ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا [النساء:119]، أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً [الكهف:50].
أيّها المسلمون، لقد قامت هذه الدّعواتُ الآثمة والشّعارات المضلِّلة في غابرٍ من الزّمن في عددٍ من الأمصار والأقطار، ونجح مناصِروها في إنزال المرأة من قصرها المنيع وحِصنها الرّفيع، فخلعت حجابَها، وغادرت حِصنها ومخدعَها، وتحرَّرت من كلِّ سلطان، وانطلقت في كلِّ مكان، وعملت في كلّ ميدان، فماذا كانت النتيجة؟! انحسارٌ في أخسّ دركاتِ العبَثِ والفجور، وانغِماسٌ في أسفل دَركات الخلاعة والمجون. وحُقّ لنا أن نتساءل: ماذا أضحتِ المرأة المتحرّرة كما زَعموها والمرأةُ الحديثة كما نعَتوها والمرأة العصريّة كما وصَفوها؟ لقد ابتُذِلت غايةَ الابتذال، واستغِلَّت غايةَ الاستغلال، واستُعبِدَت واستُرِقّت، وغَدت أداة لهوٍ وتسليةٍ في يد العابثين الفُجّار والفَسَقة الأشرار، تعمل بثديَيها قبل يدَيها، راقِصةً في دورِ البِغاء، وعارضةً في دورِ الأزياء، وغانيةً في دور الدّعَارة والتّمثيل، فأينَ أُكذوبة تحريرِها وتكريمها؟! وصدق رسول الله : ((ما تركتُ بعدي فتنةً أضرَّ على الرجال من النساء، فاتّقوا الدنيا واتّقوا النساء، فإنّ أوّل فتنة بني إسرائيل كانت في النساء))[3].
أيّها المسلمون، إنّ حتميَّة الفصلِ الدقيق والعميق بين الرجلِ والمرأة يُعدُّ ضرورةً أخلاقيّة وسلوكيّة واجتماعية وأمنية؛ لأنّ تمكينَ الاختلاط بين الرجال والنساء أصلُ كلِّ بليّة ونقيصة وأساسُ كلِّ شرٍّ ورذيلة، فعن عقبة بن عامر الجهنيّ رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إيّاكم والدخولَ على النساء))، فقال رجل من الأنصار: يا رسولَ الله، أفرأيتَ الحموَ؟ قال: ((الحموُ الموت)) متفق عليه[4]، وعن أمّ سلمة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله إذا سلّم ـ أي: إذا فرَغ من الصلاة ـ مكَث قليلاً، وكانوا يَرونَ أنّ ذلك كيما ينفذ النساءُ قبل الرجال. أخرجه أبو داود[5]. وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((لو تركنا هذا البابَ للنّساء))، قال نافع: فلم يدخل منه ابن عمر حتى مات. أخرجه أبو داود[6]. وعن أبي أسيد الأنصاريّ رضي الله عنه أنّه سمع رسول الله يقول وهو خارجٌ من المسجد فاختلط الرّجال مع النساء في الطريق، فقال رسول الله للنساء: ((استأخِرن، فإنّه ليس لكنّ أن تحقُقن الطّريقَ، عليكنّ بحافّات الطريق)) أخرجه أبو داود[7]. ويقول جلّ في علاه في كتابه العزيز وكلامه البليغ الوجيز: وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ [الأحزاب:53].
تلك أدلَّةٌ من الكتاب والسنة تردُّ أباطيلَ كلِّ مارق وتحسِم أضاليلَ كلِّ ماذق ممّن عدَلَ عن مَوردهما العذبِ الزُّلال إلى آسِن قلّوطِ أهل الفِسق والضَّلال.
يا فتاةَ الإسلام، كوني كما أرادَك الله وكما أراد لك رسولُ الله ، لا كما يريدُه دعاةُ الفتنة وسُعاةُ التبرُّج والاختلاط، فأنتِ فينا مُربِّيةُ الأجيال وصانعةُ الرجال وغارسةُ الفضائل وكريمِ الخصال ومرضِعةُ المكارم وبانيةُ الأمم والأمجادِ، فحاشاك حاشاك أن تكوني مِعوَلَ هدمٍ وآلةَ تخريب وأداةَ تغيير وتغريب في بلادِ الإسلام الطّاهرة وربوعِه العامرة ضِدّ أمّة محمّد .
يا نساءَ المسلمين، إنّ الله رفعكنَّ وشرّفكنّ، وأعلى قدركنّ ومكانتَكنّ، وحفِظ حقوقكنّ، فاشكُرنَ النعمة، واذكُرن المنَّة، فما ضُرِب الحجابُ ولا فُرِض الجِلباب ولا شُرع النقاب إلاّ حمايةً لأغراضِكن وصيانةً لنفوسِكن وطهارةً لقلوبكنّ وعصمةً لكنّ من دواعي الفتنة وسُبُل التحلُّل والانحِدار، فعليكنّ بالاختِمار والاستِتار، واغضُضنَ من أبصاركنّ، واحفظن فروجَكنّ، واحذَرن ما يلفِت الأنظارَ ويُغري مرضَى القلوبِ والأشرار، وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى [الأحزاب:33]. استُرن وجوهكنّ وزينتكنّ ومحاسنكنّ عن الرّجال الأجانب عنكنّ.
ولتحذَر المرأةُ المسلمة الرقيقَ من الثيابِ الذي يصِف ويشفّ، والضيِّقَ الذي يبين عن مفاتِنها وتقاطيعِ بدنها وحجمِ عظامها، فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((المرأةُ عورةٌ، فإذا خرجت استشرَفها الشيطان، وأقرَب ما تكون من ربِّها إذا هِي في قعرِ بيتِها)) أخرجه ابن حبان[8].
ولتحذرِ المرأة المسلمةُ أن تمرَّ على الرجالِ متعطِّرةً متبخِّرة، يقول رسول الهدى : ((إذا استعطَرت المرأة فمرَّت بالقومِ ليجدوا ريحَها فهي زانية)) أخرجه أبو داود والترمذي[9]، وعن عُبيد مولى أبي رُهم أنّ أبا هريرة رضي الله عنه لقيَ امرأةً متطيّبةً تريدُ المسجدَ، فقال: يا أمةَ الجبّار، أين تريدِين؟ قالت: المسجد، قال: وله تطيَّبتِ؟! قالت: نعم، قال: فإني سمعتُ رسول الله يقول: ((أيّما امرأةٍ تطيّبَت ثمّ خرجت إلى المسجد لم تُقبَل لها صلاةٌ حتى تغتسِل)) أخرجه ابن ماجه[10]، وعن عمرةَ بنتِ عبد الرحمن عن عائشة رضي الله عنها قالت: لو أنّ رسولَ الله رأى ما أحدثَ النساءُ لمنعهنّ المسجدَ كما مُنِعَت نساءُ بني إسرائيل، قيل لعمرةَ: نساءُ بني إسرائيل مُنِعنَ من المسجد؟! قالت: نعم. أخرجه مسلم[11].
ولتحذرِ المرأة المسلمةُ أن تخضعَ بقولها أو تترَقرَقَ في لفظها أو تتميَّع في صوتها أو تتنظّم وتتكسَّر في كلامِها مع الرجال، فتُطمِعَ فيها ضعيفَ الإيمان، فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفًا [الأحزاب:32].
والمرأةُ الشريفة العفيفَة لا تقبلُ أن تكونَ نبعَةَ إثارةٍ أو مثار فتنة للأعين الشرِهَة والنظراتِ الخائنة الوقِحة والنفوس السافِلة الدنيئةِ والأقوال المهينةِ البذيئة، قال جلّ في علاه: وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ [النور:31]، ويقول تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا [الأحزاب:59].
فأين الامتثال؟! وأين الاستجابة في الحال؟! فعن أم سلمةَ رضي الله عنها قالت: لمّا نزلت هذه الآية: يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ خرج نساءُ الأنصار كأنّ على رؤوسهنّ الغربان من الأكسية. أخرجه أبو داود[12]. وعن عائشةَ رضي الله عنها قالت: كُنّ نساء المؤمنات يشهَدن مع رسول الله صلاةَ الفجر متلفِّعاتٍ بمروطهنّ، ثم ينقلبنَ إلى بيوتهنّ [حين] يقضين الصلاة، لا يعرفهنّ أحدٌ من الغَلَس. متفق عليه[13].
أيّتها المرأةُ المسلمة، تجلَّلي بأشرفِ إِكليل وتلفّعي بأهدَى سبيل وانتمي إلى خيرِ قَبيل، تجلَّلي بالتقوى والإيمانِ والخشية والخوفِ والحياء من الرحمن، واحذري كلَّ متبرِّجةٍ داعِرة وكلَّ حاسِرة وسافِرة وكلّ ماجنةٍ وكافرة، وأرعِي سمعَك لقول رسولِ الهدى : ((صنفان من أهلِ النار لم أرَهما: قومٌ معهم سياطٌ كأذنابِ البقر يضرِبون بها الناس، ونساءٌ كاسيات عاريات مميلاتٌ مائلات، رؤوسُهنّ كأسنِمَة البُخت المائلة، لا يدخلنَ الجنة ولا يجِدن ريحَها، وإنّ ريحها ليوجد من مسيرةِ كذا وكذا)) أخرجه مسلم[14] والطبراني وزاد: ((العنوهنّ فإنهن ملعونات))[15].
هذا مصيرُ العاريةِ من خشية الله، العاريةِ من شكر نعمةِ الله، العاريةِ من الأخلاق الكريمة، هذا مصير من تبرّجت وترجَّلت ومرجت وبرزت وتكشّفت وفتَنت وافتُتِنَت، فاحذَري سوءَ الخاتمة، ولا يحُل بينك وبين الخاتمة الحسنةِ والدارِ الطيبة في الجنّة العالية دعاةُ المخادنة وأعداءُ الشّرف وأنصار التحلُّل والتفسُّخ والانحدار.
أيّها المسلمون، كلّ ما أدّى إلى محذور فهو في الشّرع محظور، وإنّ من أعظم أسباب الفساد والحيدِ عن سبيل العِفَّة والرشاد سَفَرَ المرأة وليس مَعها ذو محرم منها أو خلوتها بأجنبيّ عنها، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: سمعتُ رسول الله يخطب ويقول: ((لا يخلوَنّ رجلٌ بامرأة إلا ومعها ذو محرم، ولا تسافِر المرأة إلاّ مع ذي محرم))، فقام رجلٌ فقال: يا رسولَ الله، إنّ امرأتي خرجت حاجَّةً وإني اكتُتِبتُ في غزوةِ كذا وكذا، فقال النبيّ : ((انطلِق فحُجَّ مع امرأتك)) متفق عليه[16]، وعن ابن عمر رضي الله عنهما أنّ عمر بن الخطاب خطبَ بالجابية فقال: قام فينَا رسول الله مقامِي فيكم فقال: ((لا يخلوَنّ أحدكم بامرأةٍ فإنّ الشيطان ثالثُهما)) أخرجه أحمد[17]. كلّ ذلك سدًّا للذرائع وحَسمًا للوسائل المفضِية إلى وقوع الفواحِش.
أيّها الآباء والأولياء، صونوا نساءَكم، واحفَظوا أعراضَكم وأنسابكم، واجتنِبوا التفريطَ والتشاغُل، وحاذروا التقصيرَ والتساهلَ الذي لا تُؤمَن لواحِقُه وتوابعُه وتواليهِ وعواقبه، بيدَ أنّ عاقبتَه بوار وخاتمته خَسار، كونوا أُباةَ العَار وحُماةَ العَرين، كونوا كمحافظٍ متنبِّهٍ لا يغفل، ومُراعٍ متيقِّظٍ لا يُهمِل. واعلَموا أنّ أشرفَ الناس أشدُّهم غيرةً على نفسِه وأهله وعِرضه، ومَن لا غَيرة عنده فبطنُ الأرض أولى به من ظهرها، فعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إنّ اللهَ سائلٌ كلَّ راعٍ عمّا استرعاه: حفظ أم ضيَّع؟ حتى يسأل الرجلَ عن أهل بيته)) أخرجه ابن حبان[18]، وفي الصحيحين: ((والرجلُ راعٍ على أهلِه ومسؤول عن رعيته، والمرأةُ راعية في بيت زوجها ومسؤولةٌ عن رعيّتها))[19].
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6].
جعلني الله إيّاكم من الهداة المهتَدين المتّبعين لسنّة سيّد المرسلين ، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] من قصيدة "السفور والخلاعة" للشاعر محمد حسن النجمي.
[2] من لامية ابن سند.
[3] هذا النص مركب من حديثين، فالجزء الأول منه أخرجه البخاري في النكاح (4706)، ومسلم في الذكر (4923) من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما، والجزء الثاني منه أخرجه مسلم في الذكر (4925) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
[4] صحيح البخاري: كتاب النكاح (4831)، صحيح مسلم: كتاب السلام (4037).
[5] سنن أبي داود: كتاب الصلاة (876)، وهو عند البخاري في الأذان (793).
[6] سنن أبي داود: كتاب الصلاة (391، 484)، ورواه عقِبه موقوفا على عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقال: "وهو أصحّ"، وأخرجه أيضا الطبراني في الأوسط (1018)، وذكر الجزء المرفوع الألباني في صحيح سنن أبي داود (439، 534).
[7] سنن أبي داود: كتاب الأدب (4588)، وأخرجه أيضا الطبراني في الكبير (19/261)، وحسنه الألباني في صحيح سنن أبي داود (4392).
[8] صحيح ابن حبان (5598، 5599)، ورواه أيضا ابن خزيمة (1685، 1686)، والطبراني في الأوسط (2096) والكبير (10/108)، وقال الهيثمي في المجمع (2/35): "رجاله موثقون"، وصححه الألباني في الإرواء (273)، وانظر السلسلة الصحيحة (2688).
[9] سنن أبي داود: كتاب الترجل (3642)، سنن الترمذي: كتاب الأدب (2710) عن أبي موسى بنحوه، وأخرجه أيضا أحمد (4/400، 413، 418)، والنسائي في الزينة (5036)، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وصححه ابن خزيمة (1681)، وابن حبان (4424)، والحاكم (3497)، وحسنه الألباني في صحيح سنن أبي داود (3516).
[10] سنن ابن ماجه (3992)، وأخرجه أيضا أحمد (2/246، 297، 365، 444، 461)، وأبو داود في الترجل (3643)، وصححه ابن خزيمة (1682)، وهو في صحيح سنن ابن ماجه (3233).
[11] صحيح مسلم: كتاب الصلاة (676)، وهو أيضا عند البخاري في الأذان (822).
[12] سنن أبي داود: كتاب اللباس (3578)، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (3456).
[13] صحيح البخاري: كتاب المواقيت (544)، صحيح مسلم: كتاب المساجد (1020، 1021، 1022).
[14] صحيح مسلم: كتاب اللباس (3971) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[15] المعجم الصغير (1125) والأوسط (9331) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، وهو أيضا عند أحمد (2/223)، وصححه ابن حبان (5753)، والحاكم (8346)، وهو في السلسلة الصحيحة (2683).
[16] صحيح البخاري: كتاب الحج (1729)، صحيح مسلم: كتاب الحج (2391).
[17] مسند أحمد (1/18)، وأخرجه أيضا الترمذي في الفتن (2091)، والنسائي في الكبرى (9225)، والبزار (167)، والبيهقي في الكبرى (7/91)، وقال الترمذي: "هذ حديث حسن صحيح غريب"، وصححه ابن حبان (7254)، والحاكم (387، 388، 389، 390)، وهو في صحيح سنن الترمذي (1758).
[18] صحيح ابن حبان (4492)، وأخرجه أيضا النسائي في الكبرى (9174)، والطبراني في الأوسط (1703)، وابن عدي في الكامل (1/312)، وأبو نعيم في الحلية (6/281، 9/235)، وصحح إسناده ابن حجر في الفتح (13/113)، وهو في السلسلة الصحيحة (1636).
[19] صحيح البخاري: كتاب الجمعة (844)، صحيح مسلم: كتاب الإمارة (3408) عن ابن عمر رضي الله عنهما.
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشّكر له على توفيقه وامتنانِه، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه، وسلّم تسليمًا كثيرًا.
أمّا بعد: فيا أيّها المسلمون، اتقوا الله وراقبوه، وأطيعوه ولا تعصوه، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ [التوبة:119].
أيّها المسلمون، إنّ ممّا يذيب القلبَ كَمدًا ويعتصِر له الفؤادُ ألمًا ما يحدثُ من مخالفاتٍ في الأعراس والأفراحِ ومنكراتٍ عظيمة في حفلات النكاح، أفراحٌ تعُجّ وتضِجّ بالمخالفات والمنكرات، استئجارٌ للمغنّين والمغنّيات والمطربين والمطرِبات الذين يتغنّونَ بأشعارِ الفِسق والفجور ويستخدِمون آلاتِ الموسيقى والطبول بمبالغَ باهظة وتكاليفَ عالية، سَفهٌ وإسراف ورِياءٌ وتبذير، وإيذاء واعتداء ناتجان عن رفع الصوت بالغناء، ونساءٌ متبرِّجات يلبسنَ ثيابًا شفّافةً وضيِّقة ومجسِّمة وعارية وشبهَ عارية، ورقص كرقص العاهرات، واختلاط للرّجال بالنساء، وبذلٌ طائش وإسرافٌ فاحِش في المآكل والمشارب الذي لا يخفَى مصيرُها، وسَهرٌ لا خيرَ فيه ولا تُحصَى مساويه.
أمورٌ مخجِلة ومحزنة سَرت إلى صفوف المسلمين بطريقِ العدوى والتقليدِ الأعمى، فاتقوا اللهَ أيّها المسلمون، فما هكذا تُشكَر النِّعم وتستدفَع النِّقم، فانتَهوا عمّا نهيتُم، واستدركوا الفائتاتِ بالتوجُّع للعثرات والخروج من التّبعات والتوبة من السيّئات، والله يتوب على التّائبين.
ثمّ اعملوا أن الله أمركم بأمرٍ بدأ فيه بنفسه، وثنّى بملائكته المسبِّحة بقدسه، وأيَّه بكم أيّها المؤمنون من جنّه وإنسِه، فقال قولاً كريمًا: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:59].
اللهمّ صلِّ وسلِّم على نبيّنا وسيّدنا محمد، وارض اللهم عن الخلفاء الراشدين...
ــــــــــــــــــــ(67/202)
...
التحذير من كيد الكفار
...
...
3817
...
الأسرة والمجتمع, الإيمان, العلم والدعوة والجهاد
...
...
القتال والجهاد, الولاء والبراء, قضايا المجتمع
...
حسين بن غنام الفريدي
...
...
حائل
...
26/3/1415
...
...
غير محدد
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- استمرار الصراع بين الإسلام وأعدائه. 2- الماسونية وخطرها على الإسلام وأهله. 3- آثار الماسونية في البلاد الإسلامية. 4- التحذير من المؤتمر المنعقد بمصر لنشر الرذيلة وحرب الفضيلة. 5- أهداف هذا المؤتمر. 6- التحذير من الفرقة والاختلاف الواقع بين الدعاة وطلبة العلم. 7- فتوى هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية في التحذير من المؤتمر.
الخطبة الأولى
أما بعد: اتقوا الله تعالى، واعلموا أنكم مسؤولون عن دين الإسلام وما قمتم به نحوه في خاصة أنفسكم ومع غيركم، قال تعالى: فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ.[الأعراف:6، 7].
عباد الله، أعداء الإسلام منذ بعث الله رسوله محمدًا وهم يكيدون له ويحاولون القضاء عليه، قال تعالى: وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [البقرة:120]، وقال تعالى:وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ [البقرة:271].
حاولوا صدّ الناس عن اتباع الرسول، ووصفوه بأشنع الأوصاف، وحاولوا قتله والقضاء على دعوته، فلم يفلحوا بحمد الله، يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ [التوبة:32].
واستمر الصراع إلى أن ضعف المسلمون في العصور المتأخرة، فغزاهم الاستعمار الكافر، واستولى على كثير من بلادهم، وقسمهم إلى دويلات، وبث سمومه وأحقاده فيهم، فلما انحسر هذا الاستعمار السياسي بقي الاستعمار الفكري الذي هو عبارة عن الإلحاد في العقائد والفساد في الأخلاق والإغراق في الشهوات البهيمية، وتكونت لذلك المنظمات والإرساليات المنصرة.
ومن ذلك المنظمة الماسونية والمنظمة الصهيونية الحاقدة، واتجهت كل هذه المنظمات تكيد للإسلام والمسلمين بشتى الوسائل، هدفها في ذلك موحد، هو القضاء على الإسلام، وقد استخدمت هذه المؤسسات الكفرية قومًا من جلدتنا ويتكلمون بلغتنا، استأجرتهم لتنفيذ مخططاتهم في المسلمين، فاستغلوا بعض القادة العرب ليكونوا عملاء لهم في تنفيذ سياستهم، واستغلوا وسائل الإعلام من إذاعة وتلفزة وصحافة في جميع البلاد، ودسوا فيها البرامج الفاسدة والمنحلة من أفلام خليعة وأغان ماجنة وصور عارية ومعازف ومزامير ملهية وتمثيليات مغرضة وكتابات منحرفة في الصحف والمجلات، تندد بالدين تلميحًا وتصريحًا، وتدعو إلى الكفر والإلحاد والتحلل من الأخلاق الفاضلة. واستغلوا المناهج التعليمية في بعض البلاد العربية، فحولوا كثيرًا منها لخدمة أهدافهم ومبادئهم المنحرفة.
وبهذا تمكنت الصهيونية العالمية والماسونية وشقيقاتهما من المنظمات الكفرية التي تعمل ضد الإسلام، تمكنت من تنفيذ مخططاتها خطوة بخطوة، حتى وصل الأمر بهم إلى التصريح في الإساءة إلى الإسلام بكتابات تتهجم على تشريعاته في النكاح والطلاق والحدود والجهاد، يتهمونه فيه بالقسوة والوحشية، وأنه ظلم المرأة وعطّلها عن العمل، وحرم المجتمع من مشاركتها في التنمية والعمل، بل قالوا: إن الإسلام لا يصلح نظامًا للحكم في هذا الزمان، فيجب أن تستبدل القوانين الوضعية به، فاستجاب لهم من استجاب وبقيت هذه البلاد حرسها الله تحكم بالشريعة الإسلامية. فنسأل الله لها الثبات وأن لا يغير علينا هذه النعمة.
وأما الذين استجابوا فإنهم لا زالوا يقدّمون التنازلات تلو التنازلات، تخلَّوا بسببها عن مسلَّمات الدين وثوابت القيم. حتى جاءت الراجفة تتبعها الرادفة، فيصل الحال إلى درجة لم يسبق لها مثيل من الوقاحة والاستخفاف بالمسلمين ومعتقداتهم، يتمثل ذلك بالحشد الكبير والمؤتمر الذي سيعقد في قلب العالم الإسلامي، في مصر الإسلام، على أرض عمرو بن العاص رضي الله عنه، يأتي قطعان من الغرب ممن تربّوا على الانسلاخ من كل قيم إنسانية، قد نشؤوا في محاضن الجنس والعربدة، يطلق عليهم خبراء، نعم خبراء ولكن بالفساد والإفساد وإركاس الشعوب في المعاصي والفجور والزنا وعمل قوم لوط، جاؤوا بدعوى مشكِلةِ التزايد السكاني في العالم أمام قلّة الموارد الذي بدوره يؤدي إلى مشكلة الفقر العام حسب مزاعمهم.
جاؤوا خوفًا على المسلمين من الفقر، كأنهم هم الموكّلون بخزائن الله، وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الأرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ [هود:6]، قُل لَّوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبّى إِذًا لأمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإِنفَاقِ وَكَانَ الإنْسَانُ قَتُورًا [الإسراء:100].
يا ترى ما الحل؟! ما العلاج عند هؤلاء المتآمرين؟! إنه يتلخّص بالدعوة إلى أمرين اثنين هما:
الدعوة إلى الحرية والمساواة بين الرجل والمرأة، والقضاء التام على أيّ فوارق بينهما حتى فيما قررته الشرائع السماوية واقتضته الفطرة وحتمته طبيعة المرأة وتكوينها.
الثاني: الدعوة إلى فتح باب العلاقات الجنسية المحرّمة شرعًا، واتخذت له من الوسائل ما يلي:
1- السماح بحرية الجنس وأنواع الاقتران الأخرى غير الزواج، والدعوة إلى الإجراءات الكفيلة بتسهيل ذلك.
2- التنفير من الزواج المبكر، ومعاقبة من يتزوج قبل السنّ القانونية، وإتاحة بدائل تغني عن الزواج المبكر من قبيل توفير فرص التعليم والعمل.
3- العمل على نشر وسائل منع الحمل، والحد من خصوبة الرجال، وتحديد النسل بدعوى تنظيم الأسرة، والسماح بالإجهاض وتقليل تكاليفه.
4- التركيز على التعليم المختلط.
5- التركيز على تقديم الثقافة الجنسية للجنسين في سن مبكر، واستغلال وسائل الإعلام لذلك.
6- إهمال التعاليم الدينية والقيم الإنسانية والمثل الأخلاقية.
7- سلب ولاية الآباء على الأبناء والبنات وقوامة الأزواج على الزوجات..
إلى غير ذلك مما جاء في برنامج المؤتمر المرفق بمذكرة الأمانة العامة للأمم المتحدة، وتناقلته وسائل الإعلام.
معاشر المصلين، إنني والله لأعلم أن هذا لا يقره أي إنسان، فضلاً أن يكون مسلمًا يدين بدين الفطرة، مهما كان حاله من الاستقامة أو عدمها، ولكن الذي يحز في النفس ويؤلم كل غيور كيف يصل كيد الأعداء إلى هذه الدرجة من الصراحة والوقاحة؟! أين مليار مسلم من ذلك؟!!
إنه ـ والله ـ ذلة وصغار وهوان ما بعده هوان.
إن أعداءنا لم يصلوا إلى هذه الدرجة إلا بسبب غفلتنا عن ديننا وإغراقنا في دنيانا وشهواتنا وملذاتنا. لم يجرؤ أعداؤنا حتى رأوا تبلّد إحساسنا. إلى متى ـ يا عباد الله ـ نغزَى في عقر دارنا؟! لا نستطيع أن نردّ كيد أعدائنا، ولا حتى بالكلام! إننا أصبحنا شذر مذر، أصبحنا كالأيتام على مأدبة اللئام.
يا دعاة الإسلام، يا طلبة العلم، يا أهل الغيرة، إلى متى نترك الميدان ونغفل عن إنقاذ الناس من السقوط في براثن الأعداء والاستجابة إلى مطالبهم؟! لماذا لا نأخذ بحجزنا وحجز إخواننا عن النار؟! أم أننا شغلنا ببعض همنا؛ تجريح علمائنا، والوقيعة بإخواننا، وهجر أحبابنا، والحقد على من خالفنا في الرأي ولو كان للاجتهاد فيه مجال. سلم منا اليهود والنصارى ولم تسلم أعراض إخواننا من ألسنتنا، أتقرب إلى الله ببغض أخي في الله!! ما هذه المفاهيم المنكوسة وما هذه البصائر المطموسة؟!!
إلامَ الخُلف بينكم إلاما وهذه الضجة الكبرى علاما
وفيم يكيد بعضكمُ لبعض وتبدون العداوة والخصاما
فلنعِد النظر ـ يا عباد الله ـ في أنفسنا وفيمن حولنا، علينا أن نعمل للإسلام ونبصر الناس بأمور دينهم، ولننبذ الخلاف جانبًا ونعمل جنبًا إلى جنب لخدمة هذا الدين، ولنرصّ الصف ونوحّد الكلمة ونعرف عدونا الحقيقي لنكون حربًا عليه، بكل ما تملك؛ باللسان، بالقلم واليد، إن استطعنا إلى ذلك سبيلاً، لنهتدِ بهدي أسلافنا ونسر على طريقتهم؛ فإنهم لما صدقوا مع الله نصرهم وأعزهم وأظهرهم على الناس، فإننا إذا سرنا على ذلك لا يضيرنا كيد أعدائنا، وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ [آل عمران:120].
عباد الله، إننا ونحن نذكّركم بكيد أعدائكم نذكركم بقوله تعالى: يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ وَاللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيمًا [النساء:26، 27].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
الخطبة الثانية
أما بعد: فاتقوا الله تعالى، واشكروه على نعمه التي لا تعدّ ولا تحصى، واحذروا أسباب سخطه، فإن أجسامكم على النار لا تقوى.
عباد الله، إنه مما يثلج الصدر ويبعث في القلب الأمل أن يستنكر المسلمون جميعًا هذا المؤتمر.
ومن ذلك ما قام به علماؤنا حفظهم الله، وجعلهم الله ذخرًا للإسلام وأهله، يذبون عنه كيد الكافرين، ويكونون بأمر الله قائمين وبالمعروف آمرين وعن المنكر ناهين، فبينوا وأنكروا، وكان مما قالوا: "إنه لا يجوز شرعًا للمسلمين حضور هذا المؤتمر الذي هذا من مضمونه وثيقة عمله، ويجب عليهم مقاطعته وعدم الاشتراك فيه". وقالوا أيضًا: "يجب على كل من ولاه الله شيئًا من أمور المسلمين أن يتقي الله في نفسه وفي رعيته، وأن يسوسهم بالشرع الإسلامي المطهر، وأن يسدّ عنهم أبواب الشر والفساد والفتنة، وأن لا يكون سببًا لجرّ شيء من ذلك عليهم، وأن يحكم شريعة الله في جميع شؤونه" انتهى من كلام هيئة كبار العلماء حفظهم الله.
هذا، واعلموا أن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي رسول الله ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وضلالة، وكل ضلالة في النار.
وصلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه، فقال تعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيّ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
ــــــــــــــــــــ(67/203)
نعمة الأمن
...
...
3832
...
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
...
...
آثار الذنوب والمعاصي, قضايا المجتمع
...
عبد المحسن بن محمد القاسم
...
...
المدينة المنورة
...
6/6/1425
...
...
المسجد النبوي
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- رعاية الله تعالى لمصالح العباد. 2- فضل الأمن وأهميته. 3- حفظ الإسلام للضروريات الخمس. 4- النهي عن منغِّصات الأمن. 5- نتائج الأمن. 6- عواقب انفلات الأمن. 7- وجوب شكر نعمة الأمن. 8- أسباب حصول الأمن وأسباب زواله.
الخطبة الأولى
أمّا بعد: فاتَّقوا الله ـ عبادَ الله ـ حقَّ التقوى، فمن اتَّقى ربَّه رشَد، ومن أعرضَ عن مولاه عاش في كمَد.
أيّها المسلمون، فرَض الله الفرائضَ وحرَّم المحرَّماتِ وأوجب الحقوقَ رِعايةً لمصالحِ العباد، وجعل الشريعةَ غِذاءً لحِفظ حياتِهم ودواءً لدَفع أدوائهم، وجاءت دعوةُ الرّسل بإخلاصِ العبادةِ لله وحدَه بخضوع وخشوعٍ وطمأنينة، ومَقَتت ما يصرِف القلوبَ عن خالقِها، فكانت أوَّل تضرُّعات الخليل عليه السلام لربّه جل وعلا أن يبسُطَ الأمنَ على مهوى أفئِدَة المسلمين فقال: ربِّ اجعل هذا البلدَ أمنًا، فاستجاب الله دعاءَه فقال سبحانه: وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا [آل عمران:97].
وفضَّل الله البيتَ الحرام بما أحلَّ فيه من الأمنِ والاستقرار، وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا [البقرة:125]. وامتنَّ الله على ثمودَ قومِ صالح نحتَهم بيوتَهم من غير خوفٍ ولا فزع، فقال عنهم: وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنْ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ [الحجر:82]. وأنعمَ اللهُ على سبَأ وأغدَق عليهم الآلاء المتتابعةَ وأسكنهمُ الدّيار الآمنة، فقال جل وعلا: وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِي وَأَيَّامًا آمِنِينَ [سبأ:18]. ويوسفُ عليه السلام يخاطبُ والدَيه وأهلَه ممتنًّا بنعمة الله عليهم بدخولهم بلدًا آمنًا مستقرًّا تطمئنّ فيه نفوسهم وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ [يوسف:99]. وحَبَس الله عن مكةَ الفيلَ وجعل كيدَ أصحابِ الفيل في تضليل لتبقَى كعبةُ الله صرحًا آمنًا عبر التاريخ.
والعربُ قبلَ الإسلام كانت تعيش حالةً من التمزُّق والفوضى والضّياع، تدور بينهم حروبٌ طاحنة ومعاركُ ضارية، وعلَت مكانةُ قريش من بينهم لاحتضانها بلدًا آمنا، أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ [العنكبوت:67]، بل وأقسم الله بذلك البلدِ المستقرِّ الآمن: وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ وَطُورِ سِينِينَ وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ [التين:1-3]، ووعد الله نبيَّه محمَّدًا وأصحابه بأداء النُّسُك على صفةٍ تتشوَّف لها نفوسهم وهي الأمنُ والاطمئنان، قال جلّ وعلا: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ [الفتحة:27].
وممّا اختصَّت به مدينةُ المصطفى أمنُها حين فَزَع القرى من المسيح الدجال، قال عليه الصلاة والسلام: ((لا يدخُل المدينةَ رعْبُ المسيح الدجال، لها يومئِذ سبعةُ أبواب، على كلِّ باب ملكان)) رواه البخاري[1].
ومن نعيمِ أهل الجنة في الجنّة أمنُ المكان، فلا خوفَ ولا فزعَ ولا تحوُّل، ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ [الحجر:46]، وقال سبحانه: وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ [سبأ:37]، إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ [الدخان:51].
أيّها المسلمون، لقد جمعت شريعةُ الإسلام المحاسنَ كلّها، فصانت الدينَ وحفِظت العقول وطهَّرتِ الأموال وصانت الأعراض وأمَّنت النفوس، أمرتِ المسلمَ بإلقاء كلمة السلام والأمن والرحمةِ والاطمئنان على أخيه المسلم إشارةً منها لنشرِ الأمن بين الناس، وأوجبت حفظَ النفس حتى في مظِنَّة أمنها في أحبِّ البقاع إلى الله، قال عليه الصلاة والسلام: ((إذا مَرَّ أحدُكم في مسجدِنا أو في سوقنا ومعه نَبلٌ فليمسِك على نِصالها ـ أو قال: ـ فليقبِض بكفِّه أن يصيبَ أحدًا من المسلمين منها بشيء)) متفق عليه[2].
وحذَّرت من إظهارِ أسباب الرَّوع بين صفوفِ المسلمين، قال : ((لا يُشِر أحدُكم إلى أخيه بالسلاح؛ فإنه لا يدري لعلَّ الشيطانَ ينزِع في يده، فيقعُ في حفرةٍ من النار)) متفق عليه[3].
وحرَّمت على المسلم الإشارةَ على أخيه المسلم بالسّلاح ولو مازحًا، قال النبيّ : ((من أشار إلى أخيه بحديدةٍ فإنّ الملائكة تلعنُه حتى يدعَها، وإن كان أخاه لأبيه وأمه)) رواه المسلم[4]، قال النوويّ رحمه الله: "هذا مبالغة في إيضاح عُموم النهي في كلِّ أحدٍ، سواء من يُتَّهم فيه ومن لا يتَّهم، وسواء كان هذا هزلاً ولعبًا أم لا؛ لأن ترويعَ المسلم حرامٌ بكلِّ حال"[5].
ودعا الإسلامُ إلى كلِّ عمل يبعَث على الأمن والاطمِئنان بين صفوفِ أفراده، وأمر بإخفاء أسباب الفزَع في المجتمع، فقال عليه الصلاة والسلام: ((لا يحلُّ لمسلمٍ أن يروِّع مسلِمًا)) رواه أحمد[6].
ولمَّا دخل النبيّ مكَّة عامَ الفتح، منح أهلَ مكَّة أعظمَ ما تتوُق إليه نفوسهم، فأعطى الأمانَ لهم وقال: ((من دخَل دارَ أبي سفيان فهو آمن، ومن ألقَى السّلاحَ فهو آمن، ومن دخل المسجدَ فهو آمن)) رواه مسلم[7].
وما شُرعت الحدود العادِلة الحازمة في الإسلام على تنوُّعها إلاَّ لتحقيقِ الأمن في المجتمعات.
أيها المسلمون، بالأمن والإيمان تتوحَّد النفوسُ، وتزدهِر الحياة، وتغدَق الأرزاق، ويتعارف الناس، وتُتَلقَّى العلومُ من منابعها الصافية، ويزدادُ الحبلُ الوثيق بين الأمة وعلمائها، وتتوثَّق الروابطُ بين أفراد المجتمع، وتتوحَّد الكلمةُ، ويأنس الجميعُ، ويتبادل الناسُ المنافع، وتُقام الشعائر بطمأنينة، وتقُام حدود الله في أرض الله على عباد الله.
وإذا اختلَّ الأمنُ تبدَّل الحالُ، ولم يهنأ أحدٌ براحةِ بال، فيلحقُ الناسَ الفزعُ في عبادتهم، فتُهجَر المساجد ويمنَع المسلم من إظهارِ شعائر دينه، قال سبحانه: فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ [يونس:83]، وتُعاق سُبُلُ الدعوة، وينضَب وُصول الخير إلى الآخرين، وينقطع تحصيلُ العلم وملازمة العلماء، ولا توصَل الأرحام، ويئنُّ المريض فلا دواءَ ولا طبيب، وتختلُّ المعايش، وتهجَر الديار، وتفارَق الأوطان، وتتفرَّق الأسَر، وتنقَضُ عهودٌ ومواثيق، وتبور التجارة، ويتعسَّر طلبُ الرزق، وتتبدَّل طباعُ الخَلق، فيظهرُ الكَذِب ويُلقَى الشحّ ويبادَر إلى تصديق الحَبَر المخوف وتكذيب خبر الأمن.
باختلال الأمن تُقتَل نفوسٌ بريئة، وترمَّل نساء، ويُيتَّم أطفال. إذا سُلِبت نعمةُ الأمن فشا الجهلُ وشاع الظلم وسلبتِ الممتلكات، وإذا حلَّ الخوفُ أُذيق المجتمعُ لباسَ الفقر والجوع، قال سبحانه: فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ [النحل:112]، قال القرطبي رحمه الله: "سمَّى الله الجوعَ والخوفَ لباسًا لأنه يظهِر عليهم من الهُزال وشحوبةِ اللون وسوءِ الحال ما هو كاللباس"[8].
الخوفُ يجلِب الغمَّ، وهو قرين الحزن، قال جل وعلا: إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا [التوبة:40]، يقول معاوية رضي الله عنه: (إيّاكم والفتنةَ، فلا تهمّوا بها، فإنها تفسِد المعيشةَ، وتكدِّر النِّعمة، وتورثُ الاستئصال)[9].
ولو قلَّبتَ البصرَ في الآفاقِ لوجدتَ الأمنَ ضرورةً في كلّ شأن، ولن تصلَ إلى غايةِ كمالِ أمرٍ إلا بالأمن، بل لن تجدَ مجتمعًا ناهضًا وحبالُ الخوف تهزّ كيانَه.
أيّها المسلمون، نعمةُ الأمن من نعَم الله حقًّا، حقيقٌ بأن تُذكَر ويذكَّر بها وأن يُحافَظ عليها، قال سبحانه: وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمْ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ [الأنفال:26].
ونعمةُ الأمن تُقابَل بالذكر والشكر، فَإِذَا أَمِنتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ [البقرة:239]. وأمَر الله قريشًا بشكر نعمةِ الأمن والرخَاء بالإكثار من طاعته، قالَ جل جلاله: فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ [قريش:3، 4].
والمعاصي والأمنُ لا يجتمِعان، فالذنوب مُزيلةٌ للنِّعم، وبها تحُلّ النقم، قال سبحانه: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ [الأنفال:53]، وما نزل بلاءٌ إلاَّ بذنب، ولا رُفِع إلا بتوبة. والطاعةُ هي حِصن الله الأعظمُ الذي من دخله كان من الآمنين.
وبالخوف منَ الله ومراقبتِه يتحقّق الأمن والأمان، فهابيل امتَنع من قتلِ قابيل لخوفِه من ربِّه جل وعلا، مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِي إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ [المائدة:28].
والعنايةُ بالعلم والتمسُّك بالكتابِ والسنة شريعةً وقِيَمًا وأصولاً اجتماعية عصمةٌ من الفتن، وللتعليم الشرعيِّ أساسٌ في رسوخ الأمن والاطمئنان، قال ابن القيّم رحمه الله: "وإذا ظهر العلمُ في بلدٍ أو محلّة قلّ الشر في أهلها، وإذا خفي العلمُ هناك ظهَر الشرّ والفساد"[10].
والعلماءُ الربانيّون هم ورثةُ الأنبياء، وفي ملازمتِهم وزيارتهم وسؤالهم والاستنارةِ بآرائهم سدادٌ في الرأي وتوفيقٌ للصواب ودرءٌ للمفاسد. وببركةِ الأمرِ بالمعروف والنهي عن المنكر تُمنَع الشرور والآفات عن المجتمعات. وحِفظُ العبد نفسَه من شهواتِ النفس وشبهاتِ القلبِ أصلٌ في صيانةِ المجتمع من المخاوف والمكاره. وتأويلُ نصوص الشريعة على غير وجهِها سببُ انحرافِ الفهوم، ومنها ينطلق الأعداءُ لتلويث عقولِ الناشئة، ويزداد أثره حينَ يضعُف التحصُّن بعلوم الدين.
وبعد: أيها المسلمون، فحِفظُ الأمن في بلاد الحرمين ألزمُ، فعلى ثراها تنزَّل الوحي، ومِن بين لابتَي طابةَ شعَّ النور في الآفاق، فيها بيتُ الله قائم، وفيها مسجدُ رسول الله عامر.
ويجب أن ينهلَ الجميعُ من منبع الكتاب والسنّة من غير تحريفٍ أو تأويل لنصوصِهما، ومعرفة ضوابط الولاءِ والبراء من غير إفراطٍ فيها أو مجافاة عنها, وبالتمسك بالشريعة يسعَدُ الجميعُ بالأمن والرخاء.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ [النور:55].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] صحيح البخاري: كتاب فضائل المدينة (1879) عن أبي بكرة رضي الله عنه.
[2] صحيح البخاري: كتاب الفتن (7075) صحيح مسلم: كتاب البر (2615) من حديث أبي موسى رضي الله عنه.
[3] صحيح البخاري: كتاب الفتن (7072) ، صحيح مسلم: كتاب البر (2617) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[4] صحيح مسلم: كتاب البر (2616) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[5] شرح صحيح مسلم (16/170).
[6] مسند أحمد (5/362) من طريق عبد الرحمن بن أبي ليلى عن بعض أصحاب رسول الله ، وأخرجه أيضا أبو دواد في كتاب الأدب (5004)، والقضاعي في مسند الشهاب (878)، والبيهقي في الكبرى (10/249)، وصححه الألباني في غاية المرام (447).
[7] صحيح مسلم: كتاب الجهاد (1780) عن أبي هريرة عن أبي سفيان رضي الله عنهما، وليس فيه: ((ومن دخل المسجد فهو آمن)).
[8] الجامع لأحكام القرآن (10/194).
[9] انظر: سير أعلام النبلاء (3/148-149).
[10] إعلام الموقعين (2/257).
الخطبة الثانية
الحمدُ لله على إحسانه، والشّكر له على توفيقه وامتنانِه، وأشهد أن لا إله إلاَّ الله وحدَه لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أنَّ نبيَّنا محمّدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وسلَّم تسليمًا مزيدًا.
أمّا بعد: أيّها المسلمون، الأمنُ مطلَبٌ في الحياة لا يستغني عنه الخلقُ لقضاءِ مصالحهم الدينية والدنيوية، وما مِن عبد إلاَّ ويبحثُ لنفسه عن أسبابِ أمنِها، ويتوقَّى جَهدَ طاقته أسبابَ الخوف التي قد تُحدق به في طريق حياته، ومهما أُوتي الإنسان من سلامةِ بَدن ووَفرة رزق فإنّه لا يشعُر بقيمتِها إلاَّ بالأمن والاستقرار.
والخوفُ منَ الله ومراقبته مفتاحُ الأمن للمسلم في دنياه وفي أخراه، وعَقد القلب على أركان الإيمان وتوفيرُ مقتضياته في عمل الجوارح هو المصدر الحقيقيّ لحصول الأمن في الدنيا والآخرة. والأمن التامّ هو في طاعة الله ولزوم ذكره، قال سبحانه: أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد:28].
وإذا استقام الفردُ في نفسه وألزمَ مَن تحت يدِه من زوجةٍ وأبناء على السّير وَفقَ كتاب الله وسنّة رسوله حَقَّق الأمنَ لنفسه، وانتظَمَ الأمنُ في المجتمع.
ثمّ اعلموا أنّ الله أمركم بالصلاة والسلام على نبيّه، فقال في محكم التنزيل: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمّ صلِّ وسلِّم وزد وبارك على نبيّنا محمد، وارضَ اللهم عن خلفائه الراشدين...
ــــــــــــــــــــ(67/204)
المشكلات الزوجية
...
...
3843
...
الأسرة والمجتمع, فقه
...
...
النكاح, قضايا الأسرة
...
صالح بن محمد آل طالب
...
...
مكة المكرمة
...
27/6/1425
...
...
المسجد الحرام
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- الحياة الهنيّة. 2- أهمّيّة الزواج في الإسلام. 3- عناية الإسلام بالأسرة. 4- الاختلاف من طبيعةِ البشر. 5- أسباب المشكلات الزوجية. 6- سعادة البيوت.
الخطبة الأولى
أمّا بعد: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَتَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1]، اتَّقوا الله تعالى وراقِبوه، وأطيعوا أمرَه سِرًّا وجهرًا، وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا [الطلاق:4].
أيّها المؤمنونَ والمؤمنات، الحياةُ الهانِئَة ضرورةٌ من ضَرورات الحياةِ؛ ليستقرَّ المجتمَع ويحصلَ النمَاء والبناء ويتفرّغَ الخلقُ للعبادةِ والعِمارةِ، والنفس البشريّة قد جُبِلت على أن تسكنَ وتطمئنَّ إلى نفسٍ أخرَى، لذا قال الله تعالى في معرض ذكرِ نِعمه الوفيرةِ وآياته الكثيرة: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الرّوم:21]. نَعَم، أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا، ولم يقل: لتسكنوا معها، فهو دليلٌ على أنّ الزواجَ سكنٌ واستقرار وهَدأة وراحةُ بال. ومِن هنا جاءت أهمّيّة الزواج في الإسلام والعِنايةُ بالأسرة، فرغَّب الشرع في الزواجِ وحثَّ على تيسيرهِ وتسهيلِ طريقه، ونهى عن كلِّ ما يقِف في سبيلِه أو يعوق تمامَه ويعكِّر صَفوَه، فأمَرَ الله به في قوله: فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً [النساء:3]، وقال: وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [النور:32]، وفي الصحيحين أنّ النبيَّ قال: ((يا معشرَ الشباب، من استطاعَ منكم الباءةَ فليتزوَّج))[1]، فالزّواجُ من سُنن المرسلين وهديِ الصّالحين.
أيّها المسلمون، لقد عُنِي الإسلام بتكوين الأسرةِ المسلمة واستصلاحِها؛ لأنَّ الأُسَرَ أساس المجتمع الذي يقوَى ويشتدّ بقَدر التماسُك وترابُط أُسَره، ولذا شبَّه النبيّ المسلمين بالبُنيانِ المرصوص الذي يشدُّ بعضه بعضًا[2]، فأمر بتزويجِ الأكفَاءِ، ونهى عن عَضلِ النساء، وبيَّن في الكتابِ والسنة الحقوقَ والواجباتِ بين الزوجين، ذلك أنَّ استقرار البيوت وصلاحَ الأسَر لا يكون إلاّ باستقرارِ الزوجين ونجاحِهما في حياتهما الزوجيّة. كما أنَّ فاقدَ الشيءِ لا يعطيه، فالأب والأمّ التعيسَين في حياتهما الزوجيّة لن يقدِّما لمجتمعِهما شيئًا، فضلاً أن ينشِئا أجيالاً صالحِين قادِرين على البناءِ والقيادَة. فالزواج الناجحُ نجاحٌ للمجتمَع، أمّا خراب البيوتِ فهو خرابُ الدّيار، لذا قال النبيّ : ((إنّ إبليسَ يضَع عرشَه على الماء، فيبعَث سراياه، فأدناهم منه منزلةً أعظمهم فتنةً. يجيء أحدُهم فيقول: فعلتُ كذا وكَذا، فيقول: ما صنعتَ شيئًا، ثمّ يجيء أحدُهم فيقول: ما تركتُه حتى فرَّقتُ بينه وبين امرأتِه، قال: فيدنيه منه ويقول: نِعمَ أنت)) رواه مسلم[3]. وإذا كان هذا شأنَ إبليس الرجيمِ فإنّ أتباعَه من المفسدين قد حَرصوا على هدمِ هذا الكيان وتفكيكِ أواصرِ المجتمَع وروابطِه عن طريقِ تفكِيكِ الأسَر، حتى انتشرَت معدَّلات الطلاق بشكلٍ مخيف، وارتفَعَت نسبة العُنوسة بشكل أسوَأ، ولا شكَّ أنّ في هذا خطرًا كبيرًا، ففيه تفرُّق المجتمَع وضياع الأولادِ وعنوسةُ النّساء وانتشار الفساد ونَبات الضغينة بين الأسر. إنَّ الواجبَ على المربِّين والمصلحين والإعلاميِّين العنايةُ بهذا الجانِب، فانتشارُ المشكِلات الزوجيّة وتشعُّبها وتنوّعها مؤذنٍ بالخَطَر، فما بين زَعزَعة البيوت وهدمِها تدور المعضِلات.
عبادَ الله، إنّنا نعلَم جميعًا أنّ الكمَالَ عزيز، وأنّ الاختلافَ من طَبيعة البشَر، وأنّ الزوجين لا يمكِن أن يكونا نسخةً لبعضهما في الطبائع والأخلاقِ والرَّغَبات والتّفكير، فيكفي من المفارَقات أنهما ذَكرٌ وأنثى، كما أنهما لا يعيشان منعَزِلين، بل في داخِلِ مجتمَعٍ له متطلّباته وتأثيراته، لِذا فقد تهبّ عواصف الخِلاف على بعض الأسَر، وقد يختَلف الزوجان، ولم يسلَم بيتٌ حتى بيتُ النبوّة على صاحبها أفضل الصلاة والسلام، فهذه سنّة الحياة، إلاَّ أنّ البيتَ الصالح المؤسَّس على التقوى والذي عَرَف فيه كلا الزوجَين ما لهما وما عليهما فإنّه لا يتأثّر بأيِّ خِلاف، بل يزيده تماسكًا وثباتًا، ويُكسِبه وعيًا وإدراكًا، فيصلَح الخطَأ وتُسَدّ أبوابُ الشّرّ للمستقبل.
أيّها المسلمون، وفي نظرةٍ سريعة مشفِقة إلى أَسبابِ المشكلاتِ الزوجية نجِدها نابعةً من معصيَة الله تعالى ومخالفةِ أمرِه في كثيرٍ من شؤون النكاح، حتى أصبَحَت بعضُ الزّيجات نَكَدًا ونِقمَة بدلاً من أن تكونَ سَكنًا ورَحمة، والله تعالى يقول: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ [الشورى:30]، ولا شكَّ أن مِن أعظمِ المصائب خرابَ البيوت، وقد قال بعضُ السّلف: "إني إذا عصيتُ الله رأيتُ أثَرَ ذلك في دابّتي وخُلُق زوجتي"، قال أحدُ العلماء: "قلَّت ذنوبهم فعَرَفوها، وعرَفوا مِن أين أتوا". نعم، فمن بارَزَ الله بالمعَاصِي فهل ينتَظِر توفيقًا منه؟! ومَن عَصا الله ولم يطِعه فكيفَ يطالِب زوجتَه بأن تطيعَه؟! وكذا بالنسبة للزوجةِ؛ فمن قصّرت في جَنب الله فلا تنتظر من زوجها تمامًا، إلاَّ أنَّ المعصيةَ من أحدِ الزوجين ليست مبرِّرًا للآخَر أن يقصِّر في حقّ شريكِه أو يقابِلَه بالإساءةِ والعقوق.
عبادَ الله، ومِنَ المعاصِي ما هوَ عامٌّ كتَضييعِ الصّلوَاتِ واقترافِ المحرَّمات، ومنها ما هوَ خاصّ بالنكاح وهو التعدِّي أو التقصيرُ في الحقوقِ والواجبات الزّوجيّة، فبِقَدرِ ما يكون التفريطُ في هذه الحقوق تقَع الخلافات. إنَّ المعصيةَ الخاصّة وهي تضييع الحقوق لمن أشهَر المعاصي التي تهاوَنَ فيها الناس وتساهلوا مع عظيم أثرِها، وليعلَم مَن قصَّر في حقِّ زوجتِه أو قصّرت في حقِّ زوجها أنّه عَصَى اللهَ قبلَ كلِّ شيء، واسمَع قولَ النبيّ : ((إذا دَعا الرجلُ امرأتَه إلى فراشِه فأبَت فباتَ غضبانَ عليها لعَنَتها الملائكة حتى تصبِح)) رواه البخاري[4]. ينبغي للزوجين أن يستحضرَا حالَ الوفاءِ بالحقوق أنهما يقدِّمان طاعةً لله بامتثال أمرِه، بل بالاحتسابِ يكون ذلك عبادةً، وقد أخبَرَ النبيّ أنّ المسلمَ يؤجَر حتى في اللقمةِ يضعُها في في امرأتِه[5] مع أنّ النفقةَ واجبةٌ عليه أصلاً، وفي الصحيحِ أيضًا أخبرَ النبيّ أنّ في جماعِ الرّجل زوجتَه أجرًا[6] مَعَ أنّ هذا تَدعو إليه الطّبيعَة. إذًا أهَمّ الحلول وأوَّلها لمن أرادَ السعادةَ الزوجيّة القيامُ بحقِّ الله تعالى وطاعتُه وامتثال أمره والقيام بما أوجَب من حقوقٍ، فمن أراد الحياةَ الهنِيّة فليقرَأ قولَ الحقّ سبحانه: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً [النحل:97].
أيّها المسلمون، حُسنُ الاختيار بين الطرَفَين أساسُ الحياة ليكونَ الوِفاق والوِئام والتكامُل والانسجام، إلاَّ أنَّ التقصيرَ في هذا الجانِب ومَعصيةَ الله فيه يجعله سبَبًا للمعضِلات، فمِن ذلك إجبارُ المرأةِ على رجلٍ لا تريده بسبب أعرافٍ بالية لتزويجها على قريبِها الذي لا ترغَبه أو طمعًا من وليِّها في جاهِ الخاطب أو مالِه، وهذا حرام وظلم، فالنبيّ يقول: ((لا تُنكَح الأيِّم حتى تُستأمَر، ولا تنكَح البكر حتى تستأذَن)) رواه البخاري ومسلم[7]. إلاَّ أنّ الفتاةَ يجِب أن تتفهَّم مشورةَ وليِّها، وأن تكونَ المصلحة مناطَ الاختيار.
ومن المخالفاتِ أيضًا الكذبُ والتدليس من قبَلِ أحدِ الجانبين أو مِنَ الوسيطِ، فهذا غشٌّ وظلمٌ للمسلمين، يتحمَّل الكاذب فيه تَبِعتَه في الدنيا قضاءً وفي الآخرةِ حِسابًا وجزاءً.
ومِن سوءِ الاختيار عدمُ الاهتمام بأمورِ الدين، فيسأل غيرُ الموفَّق عن الوظيفةِ والمالِ والجاهِ وأمورِ الدنيا ناسيًا أنّ من خان اللهَ ورسولَه لا يمكِن أن يؤتَمَن على ابنتِه، وينسَى الخاطب أنّ من قصَّرت في جنبِ الله فلن تقومَ بحقِّ زوجِها، وربما يؤسَّس البيت على هذا، فيكون على شَفَا جُرُف هارٍ يوشك أن ينهار. والأولياءُ يتحمَّلون قِسطًا من المسؤولية في ذلكِ لتفريطِهم في السؤالِ عن حالِ الخاطب وتقصيرِهم في أداء الأمانةِ جِهةَ مَولِيَّاتهم، فكم منِ امرأةٍ صالحةٍ عفِيفة بُلِيت بزوجٍ لا يصلّي أو يشرَب المسكِرات ويقارِف المحرّمات، ولا ذنبَ لها إلاَّ تقصير وليّها وإهماله في السؤالِ عن ديانةِ الخاطب، وكم مِن رجلٍ اشترطَ كلَّ الشروط الدنيويّة في مخطوبَته ولكنَّ الدينَ كان آخرَ اهتماماته، ثم يكتشِف أنها لا تصلُح أن تكونَ زوجةً لنقصِ دينها وخُلُقها، وكلّ هذا ناتِج عن غِشٍّ وتدليسٍ أو تهاوُن وتفريط. والسؤال الكبير: على أيّ أساسٍ يكون الاختيار؟ فالجواب في حديثين شريفَين عن النبيِّ : ((إذا أتاكم مَن تَرضَونَ دينه وخلقَه فزوِّجوه، إلاّ تفعَلوا تكن فتنةٌ في الأرض وفساد كبير)) وفي رواية: ((عريض)) رواه الترمذيّ وابن ماجه[8]، والثاني هو قول النبيِّ : ((تنكَح المرأة لأربع: لمالها ولحسَبها ولجمالها ولدينها، فاظفَر بذاتِ الدين تَرِبَت يداك)) رواه البخاري ومسلم[9].
أيّها المسلمون، ومن افتَتَح حياتَه الزوجيّة بالمخالفاتِ الشرعية فهل ينتظِر التوفيقَ من الله؟! أعني بذلك ما بُلِي به بعضُ المسلمين بما أحاطوا به الأعراسَ والأفراحَ من مخالفاتٍ ومُنكَرات قد تنزِع منه البركةَ وتُفقِده التوفيقَ كالتبرّج واختلاطِ الرجالِ بالنساء والتصويرِ المعلَن والخفيِّ والمعازِفِ والأغاني والتعرّي في لباسِ الحفلاتِ وتضييع الصّلوات، هذا بالإضافةِ إلى المبالغةِ في الإسراف والمباحاتِ في التجهيز والحفلات، حتى تحوَّلت بعض الحفلاتِ إلى طغيانٍ ومعاصي. ألا فاتَّقوا الله عباد الله، وليقُم كلٌّ بدوره ومسؤوليّتِه تجاهَ ذلك، ولا يُترَك السفهاءَ يعبَثون.
أيّها المسلمون، إنَّ معرفةَ أسبابِ المعضِلات الزوجيّة يؤدّي بالعاقِلِ إلى تجنُّبها ومناصَحةِ إخوانه المسلمين لئلاّ يقعوا فيها، فتدخُّل الأقارب في شؤون الزوجَين مخالفٌ لقولِ النبيِّ : ((مِن حُسنِ إسلام المرءِ تركُه ما لا يعنيه))[10]، وقَد نهى الله تعالى عن التَحَسُّس والتَجَسُّسِ. كما أنّه من الجهلِ والحُمق أن يشتكيَ أحدُ الزوجين لأقاربِه ما يلقَى من الآخر؛ لأنّ توسيعَ دائرة الشقاقِ وإدخالَ مجموعةٍ من المحارِبين في السّاحة يزيدُ الأمرَ سوءًا وتعقيدًا. إنّ الواجبَ أن نحتفِظَ بأسرارِنا ونحلَّ مشاكلنا بأنفسنا، فإذا تأزَّمتِ الأمور يُدْخَلُ من يصلِح لا مَن يفسِد، أمّا أن لا يكونَ مِن أمرٍ إلاَّ وهو دائرٌ في كلّ بيتٍ وتدور الغِيبة والنميمةُ على كلّ لسانٍ فهذا منكَرٌ يهدِم البيوت.
عبادَ الله، ومِن بواعِثِ المشكِلات الأسَرِيّة ومسبِّباتها النظرةُ القاصِرَة للحياة الزوجيّة وعدمُ الإدراك الصحيح لمقاصِدِ النكاحِ الشرعيّة السامية التي من أهمِّها حصولُ الإعفافِ للزوجَين والسّكن الفطريُّ لبعضهما وإقامةُ البيت المسلِم والتعاوُن على البرِّ والتقوى وتربيةُ الذرّيّة الصالحة التي تعبُد الله وتطيعه، فإذا استحضَر الزوجان هذه المعانيَ فلم يلتفتا إلى القشورِ أو القصور ولو حصَل خطأ دنيويّ قدَّراه قدره وتذكّرا قولَ الله عز وجل: وَلا تَنسَوْا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ [البقرة:237]، حتى ولو كان نَقصًا في أحدِ الزوجين فإنّ النبيَّ يقول: ((لا يفرُك مؤمن مؤمنة إن كرِه منها خُلُقا رضيَ منها آخر)) رواه مسلم[11].
وكذلك النظرةُ القاصِرة لنِسَب الجمال، فليجعلِ المسلمُ المقاصدَ الشرعيّة هي الأساس، ومن طريفِ ما يُروَى عن الشعبيّ أنّ رجلاً سألَه فقال: "إني تزوَّجتُ بامرأة فرأيتُ في إحدَى قدَمَيها أثرَ عَرج أفأردُّها وأسترجِع مهري؟ قال الشعبيّ: "إن كنتَ تزوَّجتها لتسابِق عليها فرُدَّها" فأفحمه. وبعضُ الناسِ يزهَد في امرأتِه لأنّه يرَى غيرَها أطوَلَ منها أو أعلَمَ، وهذا يؤدّي بِنا إلى الحديثِ عن سَبَبٍ آخرَ مهمّ من بواعثِ الشّقاقِ ومدخَلٍ كبير للشيطان ألا وهو بابُ المقارناتِ بين الأزواج، فتبدأ الوساوسُ والخواطِر كلّما ذُكِرت امرأةٌ وأنّ فيها أو في خُلُقها وتدبيرها تميُّزًا، فيبدأ المسكين يقارِنُ ويتحسَّر، وكذلك المرأةُ، وهذا بابٌ ليس له آخِر.
كذا النظرةُ القاصِرة للجَمال، خصوصًا ما بلِيَ بهِ الزّمن مِن كثرةِ النّظر في الأفلام والقَنَوات الفضائيّة والمجلاّت من صُوَر النّساء الفاتنات أو صوَر أشباهِ الرجال القاصدين الفِتنَة، فلا تُرضِي رجلاً زوجتُه لأنّه يرَى في الصورةِ أجملَ منها، أفلا يعتقِد أنه يوجَد أجملُ ممّن في هذه الصورة؟! إذًا بابُ المقارنةِ لا ينتهي. ثمّ هل يجوز لمسلمٍ يؤمن بالله واليوم الآخر يعلم أنه ملاقي الله ويطمَع في جنّتِه ويخشى نارَه، هل يجوز له أن يفضِّل على امرأتِه المؤمِنة العفيفةِ امرأةً رآها في التّلفاز أو المجلّة كافرةً أو فاسقة، ليس له منها إلاَّ حسرةُ النّظر؟!
إنَّ القنواتِ الفضائيّةَ والمجلاّتِ التي تعرِض صوَرَ النساءِ والرّجالِ في أكمَلِ زينةٍ قد فتَحَت على المسلِمين بابَ شرٍّ عظيم، فأصبحَت المواصَفاتُ للزّواج فضائيّة، فلا تُرضِي الرجلَ امرأةٌ، وإذا وجَد من تناسِبه ثمّ رأى في صورةٍ غيرَها تركها، وهكذا، لا يمكِن أن يقنَعَ ولو تزوَّج نساءِ البلد، مِن هنا ندرِك الحكمةَ العظيمةَ من قولِ الله عزّ وجلّ: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ [النور:30، 31]، وكذلك يقال للمرأةِ التي تَبني أحلامًا ورديّة للحياةِ على ضوءِ ما تربّت عليه من أفلامٍ ومسلسَلات، ثم تُصدَم بواقعِ الحياة جاهلةً أنَّ ما تربّت عليه أو تربَّى عليه الزوجُ ما هو إلاَّ مجرَّد تمثيليّات وصوَرٍ وخيالات وعُصارة أفكارِ فسّاقٍ ومنحطِّين يسمَّونَ فنّانين.
إنَّ الأفلامَ والمسلسَلاتِ وما تبثُّه القنواتُ من حِواراتٍ لم يقتصِر شرُّها على إثارةِ الشَّهوات، بل أفسدَت أخلاقَ الناس وتعاملاتِهم في بيوتهم، وقرَّرت في نفوسِ مشاهديها مبادئَ خاطئةً عن الحياةِ الزوجيّة والتعامل الأسريّ، وقلبَت المفاهيمَ، وحسَّنت المنكرَ، وقبَّحت المعروفَ، وفتحَت على البيوتِ أنواعًا من المشكِلات لم تكن موجودةً من قبل. إنَّ ما تقومُ به هذه الوسائلُ الإعلاميّة هو منَ التخبيب الذي حرَّمه النبيّ وهو إفساد المرأة على زوجِها وإثارتها عليه.
ومنَ التخبيبِ ومن إفسادِ البيوت مناداةُ المغرضين بخروجِ المرأةِ عن ولايةِ الرجل، وإقناعُها بأنها مهضومةَ الحقوق مسلوبةَ الحرية معطَّلة الطاقة، فدعَوا إلى تسلُّط النساء وتمرُّدِهنّ على بيوتهنّ ومجتمَعَهن وترك واجباتها الطبيعيّة إلى العمَل في الشوارع ومزاحمةِ الرجالِ في كلّ مكانٍ، فبَعدَ أن كانت مكرَّمَة مصونةً مضمونةَ النّفقة والرّعاية تسعى إلى شقائِها بنَفسِها بدعوَى المساواةِ، فهل من العدلِ والمساواة أن تُحمَّل المرأةُ مسؤوليّاتِ الرجل في تجاهلٍ للإمكانات والقُدُرات وطبيعةِ التكوينِ أم يريدونَ المصيرَ إلى الفوضَى العارِمة في الأخلاق والقِيَم وقلب المجتمع على تكوينه؟! وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلا إِنَّهُمْ هُمْ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ [البقرة:11، 12].
بارك الله لي ولكم في القرآنِ العظيم، ونفعنا بما فيه من الآيات والذّكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفِر الله تعالى لي ولكم ولسائر المسلمين والمسلِمات من كلّ ذنب وخطيئة، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] صحيح البخاري: كتاب النكاح (5065)، صحيح مسلم: كتاب النكاح (1400) عن ابن مسعود رضي الله عنه.
[2] أخرجه البخاري في كتاب الأدب (6027)، ومسلم في كتاب النكاح (2585) عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.
[3] صحيح مسلم: كتاب صفة القيامة (2813) عن جاير رضي الله عنه.
[4] صحيح البخاري: كتاب بدء الخلق (3237) عن أبي هريرة رضي الله عنه، وهو أيضا عند مسلم: كتاب النكاح (1736).
[5] أخرجه البخاري في كتاب النفقات (5354)، ومسلم في كتاب الوصية (1628) عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه.
[6] صحيح مسلم: كتاب الزكاة (1006) عن أبي ذر رضي الله عنه.
[7] صحيح البخاري: كتاب النكاح (5136)، صحيح مسلم: كتاب النكاح (1419) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[8] سنن الترمذي: كتاب النكاح (1084)، سنن ابن ماجه: كتاب النكاح (1967) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وصححه الحاكم (2/164- 165)، وتعقبه الذهبي بأن فيه عبد الحميد بن سليمان قال فيه أبو داود: "كان غير ثقة"، وفيه أيضًا ابن وثيمة لا يعرف. ثم اختلف في إسناده، فنقل الترمذي عن البخاري أنه يرجح انقطاعه. ولكن للحديث شواهد يتقوى بها، ولذا حسنه الألباني في السلسلة الصحيحة (1022).
[9] صحيح البخاري: كتاب النكاح (5090)، صحيح مسلم: كتاب الرضاع (1466) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[10] رواه الترمذي في الزهد (2317)، وابن ماجه في الفتن (3976) من طريق الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه، وقال الترمذي: "هذا حديث غريب، لا نعرفه من حديث أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي إلا من هذا الوجه"، وحسنه النووي في الأربعين: الحديث الثاني عشر، قال ابن رجب في جامع العلوم والحكم (1/287-288): "أكثر الأئمة قالوا: ليس هو بمحفوظ بهذا الإسناد، وإنما هو محفوظ عن الزهري عن علي بن حسين عن النبي مرسلا"، وذكر منهم أحمد وابن معين والبخاري والدارقطني.
[11] صحيح مسلم: كتاب الرضاع (1469) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
الخطبة الثانية
الحمد لله، خَلَق فسوّى، وقدَّر فهدى، وخلق الزوجين الذكرَ والأنثى مِن نطفة إذا تمنى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله الذي كان خيرَ الناس لأهله وهو خير منّا.
أمّا بعد: أيها المسلمون، ومن أسبابِ المشكلات الزوجيّة عدمُ قيام الزوج بواجب القوامَة الشرعيّ أو التعسُّف في استخدامِه أو منازعةُ الزوجةِ له حقَّ القوامة. إنّ القوامَةَ لا تعني التسلُّط والظلمَ، وإنّما هي الرعاية والحفظُ والقيام بالمصالح.
أيّها المسلمون، لقد حَكَم الله تعالى بأبلَغِ بيانٍ بما على الزوجين فقال: وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة:228]. فانظر ـ رعاك الله ـ إلى هذه الكلماتِ القصيرة وتدبَّرها، لقد قال: بِالْمَعْرُوفِ أي: أنَّ المطالبةَ بالحقوق لا تكون بالأنانيّة ولا بالإلجاءِ والمحاسبة، فهي شراكَةُ حياة لا شركةُ تجارة. وقال سبحانه في آية أخرى: فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ [البقرة:229]، حتى الفرقة أيضًا بإحسانٍ، فهل تجِدون أجملَ من هذه التّوجيهاتِ لصلاح البيوت؟! أليس من الأولى بأربابِ الأقلامِ ومدَّعي الإصلاحِ الاجتِماعيّ أن يسعَوا في حلّ مثلِ هذه القضايا والاستنارةِ بالهديِ النبويّ في إسعادِ البيوت المسلمة، بدلاً من شنّ الحملاتِ على الحِجاب وسَترِ المرأة وتصديع البيوت والتلبيس على النساءِ بأنّ ما هنّ فيه من صيانةٍ أنه مشكِلة يجب حلُّها وخطأ يجب تغييرُه؟! وغاية دعواتِهم التمرّدُ والفوضى. إنّ إلجامَ هؤلاءِ واجبٌ شرعيّ لحمايةِ المجتمَع بأسره.
أيّها المؤمنون والمؤمِنات، إنّ سعادةَ البيوتِ لا يحقِّقها إلاَّ دينٌ صَحيح وخُلُق سميح وتغاضٍ عن الهفَوَات وحرصٌ على أداءِ الحقوق والواجبات مع المروءةِ والأدَب واحتساب كلِّ أمر عند الله تعالى، عند ذلك تهبّ نسائمُ السعادةِ لتشملَ كلَّ الأسَرِ وتربِط المجتمع كلَّه بالعلاقاتِ الطيّبة والحبِّ والاحترام المتبادَل. ينبغي للمرأةِ أن تقصرَ عينَ زوجِها عليها بحُسن تبعُّلها له، وكذا يجِب على الرجلِ أن يحسِن إلى امرأتِه ويكفيَها. وليَعلم الجميعُ أنّ كَثرةَ المخالفة توغرُ الصدورَ، وأنّ طولَ المرافقة مِن كثرةِ الموافقة وطولَ الصّحبة بالقناعة وجميلَ العِشرة بحُسنِ الطاعة، ومن كان أشدَّ احترامًا فإنّه لا يلقَى إلاّ محبّةً وإكرامًا، ومن دعَا الله لم يخيِّب رجاءَه.
إنَّ العلاقةَ بين الزوجَين ليست دنيويّة مادّية ولا شهوانيّة بهيميّة، إنها علاقةٌ روحيّة كريمة، حينما تصلُح وتصدق فإنها تمتدّ إلى الحياة الآخرة، جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ [الرعد:23، 24]، وكم مِن أُسَر في سِترِ الله عاشت كريمةً وماتت كريمة.
هذا وصلّوا وسلِّموا على الرحمةِ المهداة والنّعمة المسداة رسولِ الله محمّد بن عبد الله.
اللهمّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدِك ورسولك محمّد، وعلى آله الطاهرين وصحابته الميامين وأزواجه أمّهات المؤمنين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلّم تسليمًا كثيرًا.
اللهمّ أعزَّ الإسلام والمسلمين، وأذلَّ الشرك والمشركين، ودمّر أعداء الدّين...
ــــــــــــــــــــ(67/205)
ظاهرة انحراف الشباب
...
...
3844
...
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
...
...
الأبناء, الفتن, قضايا المجتمع
...
عبد الباري بن عوض الثبيتي
...
...
المدينة المنورة
...
27/6/1425
...
...
المسجد النبوي
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- أهمية الشباب. 2- خطورة انحراف الشباب. 3- سلامة جيل الصحابة من الانحراف الفكري. 4- موقف الصحابة من الفتن. 5- الانحراف الخلقي. 6- دور الأسرة في تربية النشء. 7- ضرورة محاربة الفقر. 8- دور المدرسة في إعداد الشباب. 9- الدين أعظم حصانة. 10- دور المعلم ورسالته. 11- أهمية الرفقة. 12- خطورة الفراغ. 13- تأثير الفضائيات على الشباب. 14- وسائل علاج الانحراف.
الخطبة الأولى
أمّا بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوَى الله، قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
يُعتَبر الشبابُ ثروةَ الأمّة الغاليةَ وذخرَها الثمين، يكون خيرًا ونعمةً حين يُستَثمر في الخير والفضيلةِ والبناء، ويغدو ضررًا مستطيرًا وشرًّا وبيلاً حين يفترسه الشرُّ والفساد.
الانحرافُ في مرحلة الشّباب خطيرٌ ومخوِّف، فمنحرفُ اليوم هو مجرمُ الغدِ ما لم تتداركه عنايةُ الله، وعلى قَدرِ الرعاية بالشبابِ والعنايةِ بشؤونهم يتحدَّد مصيرُ الأمّة والمجتمع.
إنّ انحرافَ الشباب من أعظم المسائلِ المطروحة اليومَ وأهمِّ القضايا التي تُقلِق الآباءَ والمربِّين.
تتملّك بعضَ كتّابنا ومفكِّرينا العاطفة وتقودهم السطحيّة أحيانًا في التعامُل مع ظاهرةِ الانحراف، فنظلّ نلوك المشكلةَ ونفجِّر جراحَها ونردِّد آهاتِها مرّةً وثانيةً وثالثةً دونَ طائل، والعلاجُ الناجِع إعمالُ العقل وإمعانُ النّظر واستشراف المستقبل بتحليل الظاهرة ودراسةِ أسبابها والعَمَل على الوقاية منها بموضوعيّةٍ ومنهجيّة على أساسٍ من الدين والشرع.
ليس غريبًا أن يهتمَّ المختصّون بظاهرةِ الانحراف في أوساطِ الشباب لتجفيف منابِعه واجتثاثِ جذوره؛ لأنّ الشبابَ أملُ الأمّة وعدّة المستقبل وذخيرةُ المجتمَع والعَصَبُ الفعَّال في حياةِ الأمم.
انحرافُ الشّباب ظاهرةٌ عامّة تظهَر في الأفق في كلِّ بلد، وتزدادُ زاويةُ الانحراف اتِّساعًا حين تجدُ نفسًا بلا حصانةٍ وفكرًا بلا مناعة وشخصيّةً بلا تربيّة وطاعة.
الشباب كغيرِه من الناس يخطئون ويصيبون، قال رسول الله : ((كلّ ابن آدم خطّاء، وخير الخطائين التوّابون)) أخرجه الترمذي[1]، إلاّ أنّ هذه الأمّةَ التي كتب الله لها الخيريّةَ بين الأمَم لا ترضى لشبابها إلاّ أن يكونوا على الأرض سادةً وفي الأخلاق قادَة، ولقد سجَّل تاريخ أمّتِنا منذ فجرِ الإسلام حتى يومنا نماذجَ فذّةً لشبابٍ تمسَّك بالإيمان الصحيح والعمل القويم، والتزَم منهَجَ الله وشرعَه، أسعدَ أمّتَه بقوله، وقوّى أركانَ مجتمعه بجميل فِعالة وكريم خصاله، ممّا يبشِّر بخير عميم، وهم حجّةُ الله على غيرهم.
وفي عصرِنا تنوّعت مسالكُ الشبُهات وتأجَّجت نوازِع الشهوات، وغدَا شبابُنا معرَّضًا لسهامٍ مسمومةٍ ورماحِ غزوٍ مأفونة، ذاق مرارَتها المجتمَع في غلوٍّ وتكفير وانحلالٍ خُلُقيٍّ مقيت.
في ميدانِ الأفكار المنحرفةِ والفِرَق والمِلَل الباطِلة لم يتلوّث مجتمعُ الرعيل الأوّل جيل الصحابة بقاذوراتها، فقد كان تحصينُ الرسولِ لهذا الجيل قويًّا. خرج الرّسول على أصحابه وهم يتنازعون في القدر، هذا ينزِع آيةً، وهذا ينزع آيةً، كأنما فُقِئ في وجهه حَبُّ الرمّان فقال: ((بهذا أُمِرتم؟!)) أو ((بهذا بُعِثتم أن تضربوا كتابَ الله بعضَه ببعض؟! إنما ضلّت الأمم قبلكم في مثل هذا، إنكم لستُم ممّا ها هنا في شيء، انظروا الذي أُمِرتُم به فاعملوا به، والذي نُهيتم عنه فانتهوا)) أخرجه أحمد[2]. وغضِب رسول الله غضبًا شديدًا عندما وقف متعالِم جاهلٌ مغرور بين يديه يعترِض عليه في حُكمه في الغنائم ويقول: اعدِل يا محمّد، فيقول له الرسول : ((ويحَكَ، ومن يعدِل إذا لم أعدِل؟!)) فلما ولّى قال الرسول : ((دعه، فإنّ له أصحابًا يحقِر أحدُكم صلاتَه مع صلاتهم وصيامَه مع صيامهم، يقرؤون القرآنَ لا يجاوِز تراقيَهم، يمرقون من الإسلامِ كما يمرق السّهمُ من الرميّة)) أخرجه مسلم[3].
تيقّظ الصحابةُ للفِتن المدلهمّة، أغلقوا منافِذها، ووقفوا منها موقفًا منهجيًّا حازمًا، فهذا الخليفة الراشد عمرُ بن الخطّاب رضي الله عنه يضربُ صبيغًا بعراجينِ النخل على رأسِه عندما رآه يبحَث عن المعضلات والمشكِلات في الكتاب والسنة[4]، وتشدّدوا رضي الله عنهم في روايةِ السنة، نهوا عن عضلِ المسائل والتكلُّف في السؤال، إلى غير ذلك من القواعِدِ التي حفِظت على الصحابة دينَهم.
ومنَ الانحرافِ ـ عبادَ الله ـ ما يهدِّد الأخلاقَ ويحطِّم القيَمَ ويشكِّل جريمةً شائِنة وخطيئةً متعمَّدَة وأضرارًا جسيمةً بنظام المجتمع وسلامَتِه، خاصّة إذا كان مقرونًا باستهتارٍ أو إصرارٍ أو كان يحمِل نشرَ صُوَر ارتكاب معصيةٍ في مجاهرةٍ على رؤوس الأشهاد بكبيرةٍ توعَّد الله عليها بالعذاب الأليم.
إنَّ سلامةَ القاعدَةِ الأخلاقية في حياةِ الأمّة سبيلُ استقرارها ومناطُ قوَّتها، وإذا انحرفَ سلوكُ الأفراد وانفَجَر بركانُ الشهواتِ وسيطرت النزوات أشرفتِ الأمّة على الهلاك وآذنَت بالزوال، قال تعالى: وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا [الإسراء:16].
الأسرةُ هي المحضِن الأبرز لإعداد الشبابِ وبناء الشخصية، ومنها يصدُر الخيرُ أو الشرّ، ومنها ينجُم الانحرافُ أو الصلاح.
تفقِد الأسرةُ دورَها وتضيِّع رسالتها إذا انصرَف الآباءُ عن أُسَرهم وكان همُّهم الأكبر توفيرَ مادّة الكسب مع ترك الحبلِ على الغارب للأولادِ والتقصيرِ في تربيتهم وعدم تخصيص وقتٍ لهم يمارسون فيه التوجيه والرعاية. يختزل كثيرٌ من الآباء علاقتَه بأبنائه ومسؤوليّته في أسرتِه في حساباتٍ مادّيّة لا تتجاوز حاجاتِ الأولاد من أكلٍ وشُرب وكِسوةٍ وترفيه، أما تربيةُ الأخلاق وتهذيبُ السلوك وبناءُ الشخصية فحظُّها أنها في ذيلِ قائمة المسؤوليات. ولا يشكُّ عاقِلٌ أنّ الآباءَ حين يمارسون التربيةَ الصحيحة ويجعلونها أولى المهمّات في حياتهم يوفِّرون المناعةَ الكافيةَ ضدَّ الانحراف والوقايةَ من المصير الأليم، ويُسهمون في أمن المجتمع، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ [التحريم:6]، وقال : ((والرجل راعٍ في أهله وهو مسؤولٌ عن رعيَّته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولةٌ عن رعيتها)) أخرجه البخاري[5].
الأسرةُ في الإسلامِ مسؤولةٌ عن حمايةِ الشباب من الانحرافِ، ويتحمّل الوالدان النصيبَ الأوفرَ من جريرةِ الغلوّ في الدين أو التطرُّف في الخُلُق لقوله : ((كلّ مولودٍ يولَدُ على الفطرة، فأبواه يهوِّدانه أو ينصِّرانِه أو يمجِّسانه))[6].
قد يُهيِّئ جوُّ الأسرةِ الملبَّد بالغيوم الانحرافَ، فالبيت الذي تعلو فيه أصوات النزاع وتحتدمُ في جنباته مظاهرُ الخُصومة والشقاق ليس مهيَّأً للتربية واستقرارِ النفوس، بل قد يهرب منسوبُو البيت من هذا الجوّ الملبَّد إلى مَن يُؤويهم، وقد يحتضنهم رفقاءُ سوءٍ وقُرَناء شرّ، وقد تُسهَّل له الطّرق ليصبحَ مجرمًا محترفًا، كيف لا وقد فَقَد الرعايةَ والنصحَ والتوجيهَ من أبويه، غاب عنه من يدلُّه على طريق الهدى والنّور.
الطلاق ظاهرةٌ اجتماعيّة خطيرة، تهدِم كيانَ المجتمعات ومِن الأسباب الرئيسةِ في انحراف الأولاد، خاصةً إذا اقترن بضَعف الوازع الدينيّ، وكلُّ خلافٍ يخلِّف خسائرَ واضحةً وآثارًا عميقة، بل هو طعنٌ في قلب المجتَمَع ونزيفٌ في جسده.
إنّ الولدَ الذي يهربُ من جحيم الطّلاق قد لا يجِد من ينصَح أو يردع، ولأقران السوءِ تزيينٌ ولأهل الفسادِ شِباك. والمجتمع مطالبٌ ـ خاصةً أولو الأحلام والنُّهى ـ بتحجيمِ هذه الظاهرة المؤلمة وتحصينِ المجتمع من آثارها المدمِّرة.
ومِن أسبابِ الانحرافِ وقوعُ بعضِ الأُسَر فريسةَ الفَقر، فيلجأُ بعضُ الأولاد إلى مغادَرَة البيت بحثًا عن أسبابِ الرّزق، ولجهلهم وقصورِ إدراكهم قد تتلقّفهم أيدي الشّرّ وقرناء السوء، فيسلكون بهم سُبُل الانحراف، وقد كان النبيّ يستعيذ من الفَقرِ فيقول: ((اللهم إني أعوذ بك من الكفرِ والفقر))[7].
وللوقايةُ من مشكلةِ الفقر وآثارها فرضَ الإسلام الزكاةَ وحثَّ على الصدقة، أحيى معانيَ التكافلِ الاجتماعيّ، دعا إلى تفقُّد الأيتام والفقراء والمساكين، ورتّب على ذلك أجرًا عظيمًا بقوله: ((أنا وكافلُ اليتيم في الجنّة هكذا)) وأشار بالسبابة والوسطى[8].
ومن التكافُل دعمُ الجمعيّات الخيريّة التي ترعى الأيتامَ والفقراءَ والمساكين، ولقد سَمت بلادُ الحرمين بأنموذجٍ فريد في منظومةٍ مباركةٍ تمثَّلت في هذه الجمعيّات الخيرية التي تناثر عِقدُها في أرجاء البلاد، وأصبحت رافدًا مُهِمًّا وشريكًا حقيقيًّا في التنمية البشريّة والاقتصاديّة، قاربت بين الفقراءِ والأغنياء، أسهمت في تقوية بنيانِ المجتمع، غمرته بمشاعرِ الرحمة والشفقة، كم أطعَمت من جائع، كم كَسَت من عارٍ، كم نفَّست من كَرب، كم فرّجت من عُسر، ولا يلمِز هذه الجمعياتِ المباركةَ التي شاع خيرها وعَمَّ فضلُها وطاب غرسُها ورعاها ولاةُ أمرنا، لا يلمزها إلا مغشوشُ النية ملوَّثُ الفِكر منهزِمُ النفس، قد جفّ نبْع الخيرِ من مشاعره وفُؤاده.
المدرسةُ ـ عبادَ الله ـ هي المحضِن الثاني، ووظيفتُها ذاتُ تأثيرٍ عميق في إصلاحِ الشباب أو انحِرافهم، تحمِل مِعوَلَ الهدم أو مِعوَلَ البناء، وأُسُّ المدرسة وأساسُها مناهِجُ التربية والتعلِيم، ولا ينكر عاقلٌ أن المرحلةَ تتطلَّب خاصةً مع تقارُب أطراف العالم وشيوع الأفكار الضالّة والشهواتِ العارمة، يتطلَّب الأمرُ تكثيفَ المناهجِ الشرعية لتكونَ حصانةً لقلبِ الشباب وحمايةً لفِكرِهم من غُلوٍّ مَقيت أو فسوقٍ مُمِيت.
إنّ الدينَ أعظم حصانةٍ للشّباب من كلِّ انحراف، وقراءةُ التاريخ تُجلِّي أنّ ظهورَ الفِرَق وبروز الانحراف وشيوعَ الجريمة لم تنَل حظَّها في المجتمعات ولم تفعَل فِعلَها في القلوبِ والعقول إلاّ على فترةٍ من الدّعوة واندراسٍ من الشريعة، ولا إخالُ منصِفًا يُنكر هذا، وبالتالي يحيي سُنَنًا وعبرة، قال الله تعالى: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [الإسراء:9].
وفي غِياب الدينِ الصحيح والإيمان والقويم والمنهَج الوسَط يكون الشبابُ معرَّضًا للانحراف، قد يقَع فريسَةَ الإجرام أو الإرهاب أو التطرّف أو الارتماء في أحضانِ الأعداء أو الوقوع في مصائد المنحَرفين أو يسيطِر عليه الضّياع حتى يُصبِحَ كالسُّمِّ في جسَد الأمّة والمِعوَل في كيانها، يُحطِّم مستقبلَها ومُستقبَله، ويهدم كيانَها وكيانَه.
المعلِّم مِحوَرُ التربية والتعليم، وبه نقاوِم الانحرافَ ونحصِّن الشباب، إذا كان مستقيمًا في سلوكه، صالحًا في خُلُقه، قويًّا في إيمانه، متقِنًا لعمله، يحمِل همَّ أمته ومجتمَعه، وتلك أهمّ سماتِ المعلِّم في المجتمع المسلم.
رسالةُ المعلِّم تغذيةُ الإيمان، توطيدُ الوازعَ الخُلقي، إحياءُ رَقابة الله في نفوس النشء.
الرُفقةُ الصالحة لها أثرٌ في اكتساب القيمَ والسلوك، قال : ((المرءُ على دين خليله، فلينظر أحدُكم من يُخالِل))[9]. وقد يوقع القرينُ السيّئ في المهلكات، أمّا القرين الصالح [فسببٌ] من أسباب الاستقامة والفضيلة.
الفراغُ ـ عبادَ الله ـ من أسبابِ الانحراف، والوقتُ إذا لم يُوظَّف توظيفًا سليمًا فإنّه ينقلب بآثاره السيئة على صاحبه، ويكون أكثرَ استعدادًا للانحراف، ويجب أن يتبيّن الوالدان أينَ وكيف تُقضى ساعاتُ الفراغ.
في الفراغِ قد تتسَلَّل فتتمكَّن فكرةٌ منحرِفة أو نَزوة عابِرة أو شهوةٌ جامحة، فتقع الواقعة، ولقد أسهمتِ المؤسَّساتُ التربويّة والدورات الشرعيّة وحِلَق القرآن في احتضان عقولِ وأفئدةِ جمعٍ من الشباب، ولا يزال الحالُ يتطلَّبُ توفيرَ محاضن تربويّة آمنةٍ أخرى واستيعاب وإصلاح ما تيسّر من شبابٍ جعل الغُلُوّ طريقًا والتكفيرَ منهجًا، وشبابٍ رضيَ بالعيش على هامش الحياة، فافترش الأرصفةَ وتسكَّع في الأسواق، وشبابٍ وقع فريسةَ الخمور والمخدِّرات، قال عليّ رضي الله عنه: (من أمضى يومًا من عمره في غير حقٍّ قضاه أو فرضٍ أدّاه أو مجدٍ بناه أو حمدٍ حصَّله أو خير سمِعه أو عِلمٍ اقتبسه فقد عَقَّ يومَه وظلَم نفسه)[10].
بارك الله لي ولكم في القرآنِ العظيم، ونفعني وإيّاكم بما فيه من الآيات والذّكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] سنن الترمذي: كتاب صفة القيامة (2499) من طريق علي بن مسعدة عن قتادة عن أنس رضي الله عنه، وأخرجه أحمد أيضا (3/198)، وابن ماجه في الزهد (4251)، والدارمي في الرقاق (2727)، قال الترمذي: "هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث علي بن مسعدة عن قتادة"، وصححه الحاكم (4/244)، وتعقبه الذهبي بقوله: "علي لين"، وحسنه الألباني في صحيح الجامع (4515).
[2] مسند أحمد (2/178، 181، 195) من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وهو عند ابن ماجه في مقدمة سننه (85) مختصرا، وصحح إسناده البوصيري في مصباح الزجاجة (1/14)، وهو في صحيح سنن ابن ماجه (69)، وأصل الحديث في مسلم: كتاب العلم (2666) من طريق آخر عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما. وفي الباب عن أبي هريرة وعمر وابن مسعود وأنس وعائشة رضي الله عنهم.
[3] صحيح مسلم: كتاب الزكاة (1064) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، وهو أيضا عند رواه البخاري في الأدب (6163).
[4] قصة ضرب عمر رضي الله عنه لصبيغ بن عسل أخرجها عبد الرزاق في المصنف (11/426)، والدارمي في مقدمة سننه (144، 148)، وأخرج الطبري في تفسيره (9/170) عن ابن عباس قال: (أتدرون ما مثل هذا؟ مثل صبيغ الذي ضربه عمر بن الخطاب حتى سالت الدماء على عقبيه أو على رجليه)، قال ابن كثير في تفسيره (2/283): "وهذا إسناد صحيح إلى ابن عباس"، وقال في موضع آخر (4/233): "قصة صبيغ بن عسل مشهورة مع عمر رضي الله عنه، وإنما ضربه لأنه ظهر له من أمره فيما يسأل تعنّتا وعنادا. والله أعلم". وانظر الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (4/14-15).
[5] صحيح البخاري: كتاب الجمعة (893) عن ابن عمر رضي الله عنهما، وأخرجه مسلم أيضا في الإمارة (1829).
[6] أخرجه البخاري في كتاب الجنائز (1358، 1359، 1385)، ومسلم في كتاب القدر (2658) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[7] أخرجه أحمد (5/36، 39، 44)، والنسائي في الاستعاذة (5465)، والبزار (3675) عن أبي بكرة رضي الله عنه، وصححه ابن خزيمة (747)، وابن حبان (1028)، والحاكم (99، 927)، وهو في صحيح سنن النسائي (5048).
[8] أخرجه البخاري في الأدب (6005) عن سهل بن سعد رضي الله عنه.
[9] أخرجه أحمد (2/303)، وأبو داود في كتاب الأدب، باب: من يؤمر أن يجالس (4833)، والترمذي في كتاب الزهد، باب: ما جاء في أخذ المال بحقه (2378) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وقال الترمذي: "حديث حسن غريب"، وصححه الحاكم (4/188)، ونقل التبريزي في المشكاة (3/1397) عن النووي أنه قال: "إسناده صحيح"، وحسنه الألباني في تعليقه على كتاب الإيمان لابن تيمية (ص60).
[10] انظر: فيض القدير (6/288).
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي خلَق فسوّى، والذي قدَّر فهَدى، أحمده سبحانه وأشكره على نعمٍ لا تُعَدّ ولا تحصَى، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريك له، له الأسماء الحسنى والصفاتُ العلى، وأشهد أن سيّدنا ونبيّنا محمّدًا عبده ورسوله المبعوث بالنور والهدى، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن سلك سبيلَه واقتفى.
أمّا بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله، فهي سبيلُ النجاة وطريق الفلاح، وبها السعادة في الدنيا والأخرى.
العالمَ اليومَ يعيشُ حالةً من الإثارةِ الشهوانية العارِمة التي تُلهِب مشاعِرَ الشباب، ومن أبرز سُبُل الانحراف ومن أبرز حبائلِ شياطين الإنس هذه الفضائياتُ التي يزيِّنُ مُعظمها الانحرافَ ويجرُّ إلى الضلالة، لقد تراجَع دورُ مؤسّسات التربية أمام هذه الفضائياتِ التي أطلقت أبواقَها وسخّرت جهودَها في فتح أبوابِ الانحراف من تلويثِ العقول وإفساد القلوبِ ونزع جلبابِ الحياء، سهَّلت الغزوَ الفكريَّ ونَقلت ثقافة وأخلاق بلدانٍ لا تمثِّل الإسلامَ ولا تدين به، شجَّعت على الفسقِ والسّفور، جرَّأت على الجريمة والانحراف.
وإذا أردنا تقليصَ زاوية الانحرافِ فلا بدّ من البَحث عن حلولٍ لهذا الكابوسِ الجاثم على صدورِنا القابِع في دورنا المزَلزِل لأخلاقنا والتصدِّي لسُمومه وإبطال مفعوله.
مِن وسائل علاج الانحراف القيامُ بالدعوة إلى الله بالحكمة وبالموعظةِ الحسنة، قيامُ المسجد برسالته وإحياء دورِه في التوجيه والإصلاح، قيامُ الدّعاة والمربِّين بواجبهم وتحمُّل مسؤوليّتهم. أصحابُ الفكر وحملةُ الأقلام ندعوهم للإسهام في مقاومةِ مظاهرِ الانحراف بدراستِها ووضعِ الحلول لها، بل كلُّ فردٍ منّا يُعتبَر حارسًا أمينًا ومسؤولاً عن حمايةِ أمّته من الفساد والانحراف، محافظًا على نقاء وبقاءِ مجتمعه، قال الله تعالى: وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ [هود:117].
يتحقّق هذا في التواصي بالحقّ والتواصي بالصّبر والقيام بواجب الأمرِ بالمعروف والنهيِ عن المنكر الذي هو صمّام أمنِ المجتمعات وسبيل نجاتها، قال الله تعالى: وَالْعَصْرِ إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [سورة العصر].
ألا وصلّوا ـ عباد الله ـ على رسولِ الهدى، فقد أمَرَكم الله بذلك في كتابه فقال: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمّ صلّ وسلِّم على عبدك ورسولِك محمّد، وارض اللهمّ عن الخلفاء الأربعة الراشدين...
ــــــــــــــــــــ(67/206)
...
التعليم في الإسلام
...
...
3867
...
الأسرة والمجتمع, العلم والدعوة والجهاد
...
...
الأبناء, التربية والتزكية
...
صالح بن محمد آل طالب
...
...
مكة المكرمة
...
25/7/1425
...
...
المسجد الحرام
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- كثرة الأطروحات التعليمية. 2- عناية الإسلام بالعلم والتعليم. 3- فضل العلم المقرون بالتربية الصالحة. 4- أهمية التربية وضرورة العناية بها. 5- مهمة تربية الأولاد. 6- دور الوالدين في تربية الأجيال. 7- خطر الفضائيات على المسيرة التربوية. 8- الثبات على مبادئ الإسلام. 9- خطورة استيراد العملية التربوية. 10- مناهج التعليم في بلاد الحرمين الشريفين. 11- العلم الشرعي ضمان من الانحراف. 12- عناية الإسلام بتعليم المرأة.
الخطبة الأولى
أمّا بعد: فاتقوا الله أيّها المسلمون، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70، 71]، يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ [لقمان:33]. بالتّقوى تُنال الخيراتُ، وبالتّقوى يُنال العِلم، وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمْ اللَّهُ [البقرة:282].
وبعد: أيّها المسلمون، بعد بداية مواسِمِ الدّراسة تكثُر الأطروحاتُ التعليميّة والتنظيرات التربويّة، ويستنفِر الجميعُ للحديث والمساهمة في هذا الجانب، وما ذاك إلاَّ لإدراكِ النّاس ما للتّربية والتّعليم من أهمّيةٍ بالغة وأثرٍ فاعل في بِناء الأجيال وإعداد المجتمعات. ولقد كانت عنايةُ الإسلام فائقةً في هذا المضمار من أوّل حرفٍ نزل به الوحيُ من القرآن على رسول الأنام : اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ [العلق:1-5]. كما توافرتِ النصوصُ عن إمام المربّين قولاً وتطبيقًا في جانب التربية حتى تغيَّرت حياةُ الأعراب الجفاة عبدَةِ الأوثان في سنواتٍ قليلة، فأصبحوا قُدوةَ الدنيا وقادةَ العالم، وخلَّدوا سِيَرًا لا زال شذا عِطرِها يفوح ونورُ هُداها يُقتَبَس إلى يومِنا هذا.
أيّها المسلمون، لا يخفى على عاقلٍ فضلُ العلم المقرونِ بالتربية الصالحة، فبه يعبد المسلم ربَّه على بصيرة، وبه يعامِل الناسَ بالحسنى، وبه يسعَى في مناكبِ الأرض يبتغي عند الله الرزقَ، وبالعلم تُبنى الحضارات وتُبلغُ الأمجاد ويحصُل النماءُ والبناء. العلمُ يُجلِس صاحبَه مجالسَ الملوك، وإذا اقترن بالإيمان رفعَه الله في الدنيا والآخرة، يَرْفَعْ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ [المجادلة:11]. وإذا كان العلم مجرَّدًا من التربيّة خواءً من المبادِئ فهو وبالٌ ونقمة؛ ولذا ارتبطتِ التربية بالتعليم والعِلم بالعمَل والمفردات بالمبادِئ والسلوك، ففي القرآنِ العظيم آياتٌ تتلَى إلى يوم الدين فيها أدَبُ الحديث وأصولُ العلاقات الاجتماعية وبِرّ الوالدين والعِشرة الزوجية والعلاقات الدولية في السِّلم والحرب، بل فيه أدبُ الاستئذان وأدبُ النظر، واقرؤوا إن شئتم سورةَ النساء والأنفال والحجُرات والنور. أما السنّة والسيرة فعالَمٌ مشرِق بالمُثُل والتربية، ويكفينا مثالاً حديث ابنِ عباس رضي الله عنه قال: كنت رديفَ رسولِ الله يومًا فقال: ((يا غلام، إني أعلِّمك كلمات، احفَظ الله يحفَظك، احفَظ الله تجِده تجاهَك، إذا سألتَ فاسأل الله، وإذا استعنتَ فاستعِن بالله، واعلم أنَّ الأمةَ لو اجتمعت على أن ينفعوك لم ينفعوك إلاَّ بشيءٍ قد كتبه الله لك، ولو اجتمَعوا على أن يضرّوك لم يضرّوك إلاَّ بشيء قد كتبه الله عليك، رُفِعت الأقلام وجفَّت الصحف)) رواه أحمد والترمذي بسند صحيح[1].
إنّه أوّلُ ما ينبغِي ترسيخه في قلوبِ الناشئةِ وتُرسَى عليه قواعدُ التربية، عقيدةٌ صحيحة وربطٌ للنَّشء بالله ومراقبَتِه واليقين والتوكّل عليه، عندها يصبِح المؤمن ذا همَّة وعزيمةٍ وقوّةِ إرادة، لامتلاءِ قلبِه بالإيمان واليقين، فيُرجى منه النّتاج، وتتحقَّق منه الآمال، وهذا سرُّ امتداحِ الله تعالى لخِيرة أنبيائِه بأنهم أولو العَزم من الرسل. وقد نبَّه الفقهاء رحمهم الله إلى أنَّ القائدَ والوالي للمسلمين ينبغي أن يكونَ من أولي العزمِ من الرجال أي: علوِّ الهمّة وقوّة العزيمة والشجاعةِ النابعة من الإيمان، ومنه يعلَم أيضًا سرُّ اهتمام الأعداء بتدجين الشعوب وإغراقهم في الشّهوات وتلبيسِ عقيدتهم لإحباطِ عزائمهم ثمّ استرقاقهم.
أيّها المؤمنون والمؤمنات، إنَّ الأبَوَين المستحقَّين للدّعاء هما من أحسن التربيةَ، وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا [الإسراء:24]، وفي الحديث: ((إذا ماتَ ابن آدم انقطَعَ عملُه إلاَّ من ثلاث)) ومنها: ((ولدٍ صالح يدعو له)) رواه مسلم[2].
إنَّ مهمّةَ تربيةِ الأولاد مهمّةٌ عظيمة، خصوصًا في هذا الزّمنِ الذي تَلاطمَت فيه أمواجُ الفتن واشتدَّت غربةُ الدين وكثُرت فيه دواعي الفساد، حتى صار المربِّي مع أولاده كراعِي الغَنَم في أرضِ السّباع الضارية إن غفَل عنها أكلَتها الذئاب.
أيّها المربّي مِن أبٍ وأمّ ومعلِّم ومعلّمةٍ، اعلم أنَّ خيرَ القلوب أوعاها وأرجاها للخيرِ ما لم يسبِق إليه الشرّ، وأولى ما عُنِي به الناصحون ورغِب في أجره الراغبون إيصالُ الخير إلى قلوبِ أولاد المسلمين لكي يرسَخَ فيها وتنبيهُهم على معالم الدّيانة وحدودِ الشريعة وترويضُهم عليها، وهذه والله وظيفةُ الأنبياء، وقد أخبر النبيّ كما في سنن التّرمذيّ أنّ الله وملائكتَه وأهل السموات والأرض ليصلّون عل معلِّمِ الناس الخير[3]، وفي صحيح مسلم أنّ النبيَّ قال: ((من دعَا إلى هدًى كان له مِنَ الأجرِ مثل أجورِ من تبِعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئًا))[4]. فهنيئًا لك إذا أخلصتَ نيّتك واحتسبتَ أجرَك عند ربّك. كما أنّ على المربّين من المعلّمين والوالدَين العنايةَ بجانب القُدوة، فإنّ قدرةَ المتعلّم على الالتقاط والاقتداء بوعيٍ أو بدون وعي كبيرةٌ جدًا، لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب:21].
وإذا قال المنظِّرون: إنّ التربيةَ والتعليم عمليّةٌ تكامليّة، فما دورُ الآباء والأمّهات في هذا التكامل؟ وما دور وسائِلِ الإعلام في التربية والتوجيهِ والنّصح والتعليم؟ وهل أدّى الأمانة من أيقظَ ابنَه للمدرسة وأهملَه في صلاة الفجر أو العصر؟! وهل رعى المسؤوليّةَ من جلب الفضائيّاتِ والمفسِدات لبيتِه في تناقضٍ صريح مع مقوّمات التربية التي تجاهِد المدرسةُ في إرسائِها وبنائها؟!
إنّه لم تعدِ التربيةُ اليومَ مقتصرةً على مقاعدِ الدراسة، فمع التطوّر الهائل والانفتاحِ المذهِل لوسائل الإعلام والاتّصال أصبحنا في وقتٍ ينازعنا غيرُنا في تربية أجيالنا، خصوصًا إذا كان واقعُ هذه الوسائل والفضائيُّ منها خاصّة إثمُه أكبر من نفعه، وهدمُه للقِيَم والعقائد ظاهرٌ لكلِّ ناظر. تبذَل الطاقاتُ والإمكانات وتصرَف الجهود والأموال للتربية والتعليم، بينما الفضائياتُ تهدِم وتفسِد وتفتِك، وكأنّها في حربٍ مع الدّين والقِيَم، ليُستَنبَتَ جيلٌ في هذه المستنقعاتِ قد شرِب من هذا الكدر، أفلا يستدعي ذلك وقفةً من أصحابِ القرار وحرّاس الفضيلة والمعنيِّين بالتربيةِ لأجل حمايةِ المجتمع، خصوصًا إذا كانت هذه الوسائلُ مملوكةً ومدعومَة ممن ينتسِب للإسلام والمسلمين؟! وقد قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ [التحريم:6]، والأمر بالوقايةِ للوُجوب، ومن لم يقِ يُسأَل كما في الحديث: ((كلُّكم راعٍ، وكلّكم مسؤولٌ عن رعيّته))[5].
أيّها المربّون، أنتم مؤتَمَنون على تربيةِ أجيالِنا وإعدادِ أولادِنا وتوجيهِ مستقبَلنا في تطويرٍ وتجديد ومواكبةٍ للجديدِ مع الأصالةِ والثباتِ المستمَدّ من شريعة الإسلام، نعَم الأصالةُ والتميُّز المستمِدّةُ منهجَها من الكتابِ والسنَّة، الهادِفةُ إلى تعبيدِ الناس لربِّ العالمين والولاءِ لهذا الدّين وتنشئةِ المواطنِ الصالحِ المنتِج الواعي السَّالم من شطَطِ التفكير ومَسالِك الانحرافِ. إنّ مبادئَ الإسلام الثابِتَة المرِنةَ كانت الانطلاقةَ الصحيحة للحضارةِ الإسلامية التي باركَها الله على أهلِ الأرض جميعًا، وما ضعُفت إلاَّ حينَ كانت المنطلقات غيرَ شرعيّة في تنكُّر للدّين أو تحجُّر لا يتحمَّله الإسلام.
أيّها المسلمون، كلُّ أمّة تنشِئ أفرادَها وتربّيهم على ما تريد أن يكونوا عليه في المستقبَل، إذًا فالتربيّةُ والتعليم في حقيقتِه هو صناعةُ الأجيال وصياغةُ الفكر وتشكيلُ المجتمع وتأهيلُه وتوجيهه، وكلُّ الأمم والدوَل مهما كانت غنيّةً أو فقيرة متقدِّمةُ أو متخلّفة تدرِك هذا الجانبَ، وتسعى بما تستطيعُ لترسيخِ مبادئِها وأهدافِها عن طريقِ التربية والتعليم، وتعتبر ذلك من خصوصيّاتها وسيادتِها وسماتها التي لا تساوِم عليها، ومنه ندرِك أنَّ استيرادَ التربيةِ من أمّةٍ أخرى بكلِّ عُجَرها وبُجرها خطيئةٌ كبيرة وتبعيَّة خطيرة، تعني نشأةَ جيلٍ مغيَّب عن تراثِه وتاريخِه مقطوعِ الصّلةِ بعقيدته ومبادئه، مسخًا بلا هويّة يسهُل قيادُه بل واستعبادُه. وهذا لا يعني هجرَ الإفادة مِن تجارب الأمم، فالحكمة ضالّة المؤمِن أنّى وجدَها فهو أولى بها، إلاَّ أنه من الخلطِ والتّضليل فرضُ العَلمنَة بحجّة التطوير أو إقصاءُ الدين لمواكبة العلم كما بُليت بذلك بعض بلادِ المسلمين، وفي قولِ الله عزّ وجلّ: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28] دليلٌ على أنّ العلومَ النافعة هي المقرِّبة إلى الله ولو كانت من علومِ الدنيا، وذلك باصطِباغها بصِبغة الإيمان والتقرُّب بها إلى الله وخِدمةِ دينه ونفعِ المسلمين وعمارةِ الأرض كما أراد الله، في توازُنٍ وشُمول ووسطيّة واعتدالٍ، فتُعمَر الدنيا والآخرة.
أمّا إذا تجرَّد التعليمُ وأهدافه من الإيمان فأضحَتِ الوسائل والمقاصِد مادّيةً بحتة فهو الوبالُ والشقاء، وهذه حضارةُ اليوم شاهِدٌ حيّ على هذا النتاج، فشقِيت أمَمٌ بصِناعاتها واختِراعاتها، وأصبح التّسابُقُ في وسائِلِ الدمار لا في العَمَار والاستقرار، وأضحَى الظلمُ والطغيان وسرقةُ الأوطانِ هو شعار أقوَى الدّوَل وأظهرِها في الحضارة المادية، وها هي فلسطينُ والعِراق تدمَّر قُراها وتُسفَك دماها برعايةِ مبادئ الحضارةِ الزائفة، وما الفخرُ في بناياتٍ تعانِق السّحابَ إذا كانتِ الأخلاق والفضائل مدفونةً تحثها في التراب؟! وما الرّبح في كثرةِ المتعلِّمين إذا غُيِّبتِ المبادئ والحقائِق وصودِرَ الدين وشُغِل العامّة بالشّهوات واللّهَثِ وراءَ المادّة الجافّة في غفلةٍ عن الآخرة؟! وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنْ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنْ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ [الروم:6، 7].
عبادَ الله، إنَّ من الحقِّ والعدلِ أن نفخرَ بأنّ المناهجَ الدراسيةَ في بلاد الحرمينِ الشريفين من أفضلِ المناهِج في عالمنا الإسلامي رغمَ وجهات النظَر الغريبة التي تطرَح أحيانًا لتغييرِ المسارِ الآمن، إلاَّ أنَّ التميُّزَ والأصالة لزالت سمةً تجب المحافظةُ عليها مع التطويرِ المثمِر والسّعي للأفضل، فأرجاءُ الفضاء فسيحةٌ للتحليقِ، ولكن يجِب أن تكونَ القواعد والمنطَلَقات ثابتةً راسخة وفي نفسِ الوقت آمِنة.
وأخيرًا، فإذا كان هذا الزمنُ زمنَ صِراعٍ حضاريّ وعقائدي بين الأمم وضغوطاتِ لعولمةِ الفِكر وعلمنةِ التعليم فإنّ من علامةِ إخلاص ووعيِ القائمين على المناهجِ في بلاد المسلمين مواجهةَ هذا التحدّي والعناية بالمنطلقات والأسُسِ العقدية والفكرية الصحيحةِ حين بناءِ المناهج أو تطويرها. وإذا كان ولاةُ الأمر في هذهِ البلاد وفّقهم الله يبذلون ويحرِصون ويوجِّهون ويتابِعون فإنَّ الواجبَ على المربّين والمتربِّين عمومًا أن يكونوا على قدرِ المسؤوليّة في القيام بهذا الواجِبِ العظيم لأجلِ مستقبَل مضيءٍ بإذن الله بالعلمِ والهدَى والعطاءِ والبناءِ في ظلِّ دوحة الإيمان الوارفة.
حفِظ الله بلادَنا وبلادَ المسلمين عزيزةً بدينها آمنةً بإيمانها سابقةً لكلِّ خير.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ [الشورى:52، 53].
بارَك الله لي ولكُم في الكتابِ والسّنّة، ونفعنا بما فيهما منَ الآياتِ والحِكمة، قد قلتُ ما سمِعتم، وأستغفِر الله تعالى لي ولكم.
[1] مسند أحمد (1/293)، سنن الترمذي: كتاب صفة القيامة (2516) وقال: "حديث حسن صحيح"، وصححه الضياء المقدسي في المخارة (10/25)، وقال ابن رجب في جامع العلوم والحكم (1/460-461): "روي هذا الحديث عن ابن عباس من طرق كثيرة... وأصح الطرق الطريق التي خرجها الترمذي"، وهو في صحيح سنن الترمذي (2043).
[2] صحيح مسلم: كتاب الوصية (1631) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[3] سنن الترمذي: كتاب العلم (2685) من طريق القاسم أبي عبد الرحمن عن أبي أمامة رضي الله عنه، وقال: "حديث حسن غريب صحيح"، وهو أيضا عند الطبراني في الكبير (8/234)، وذكره الهيثمي في المجمع (1/124) وقال: "فيه القاسم أبو عبد الرحمن وثقه البخاري وضعفه أحمد". والحديث في صحيح الترغيب (81).
[4] صحيح مسلم: كتاب العلم (2674) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[5] رواه البخاري في العتق (2554، 2558)، ومسلم في الإمارة (1829) عن ابن عمر رضي الله عنهما.
الخطبة الثانية
الحمدُ لله، أوجدنا من العدَم، وربَّانا بالنِّعم، وجعل الوحيَ لنا نورًا نهتدي به في حالِكِ الظُلَمَ، وأشهد أن لا إلهَ إلا وحده لا شريكَ له، قد أفلح من بحبلِه اعتَصَم، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن سارَ على نهجه الأقوَم.
أمّا بعد: أيّها المسلمون، إنّ العلمَ الشرعيَّ الصافي ضمانةٌ بإذن الله ضدَّ الانحرافات الفكرية والعقيدة، فالواجِب على ذوي الاختصاصِ مراعاةُ ذلك وتبصيرُ الأجيال بما يجِب عليهم بالتفصيلِ والوضوح النافي للخَلط أو التضارب؛ لأنَّ العقول أو القلوبَ أوعية إن لم تُبادَر بالحقّ وتُملأ بالصواب تسرَّب إليها الفهم المغلوط. أمّا مواراةُ النصوص وتحويرُها فهو تغييبٌ للوعيِ وسَبَب لاضطرابِ المفاهيم.
أيّها المسلمون، النّساء شقائقُ الرجال، وقد عُني الإسلام بتعليمِ المرأة وتربيَتِها أيّما عناية، بل إنَّ النصوصَ الواردة في فضل تربيةِ البنات والإحسانِ إليهن أكثرُ مما ورد خاصًّا بالبنين، مع اشتراكِ الجميع فيما ورَد لعموم الأولاد. وعليه، فينبغِي العنايةُ بتعليمِ المرأةِ ما ينفعها وتحتاجه في حياتها وما يمكِن أن تخدم به مجتمَعَها مما لا يتنافى مع طبيعتها، ولا تحجيرَ في العلوم، إلاَّ أنه من الإغرابِ أن تدرُسَ الهندسَةَ الفراغيَّة أو الفلسَفَة الحداثية ثمّ هي لا تعرِف شيئًا عن حياتها الطبيعية وما يسلَم به دينُها وتصحّ به عبادتها وكيف تتصرَّف إذا كانت زوجةً أو أمًّا، لا تعرِف تربيةَ الأولاد والعنايةَ بالصّحّة ولا تدبيرَ المنزل أو الحقوقَ الزوجية والتعاملَ الاجتماعي، وهذه أمورٌ يتحتَّم المصير إليها وينبَني وضعُ المجتمع عليها. وإذا أحسَنَت كلُّ متعلِّمة ما سبَق وعرفَت ما لها وعليها استقامَت أحوال الأُسَر وتكاملتِ الحياة ولم تكن العلومُ الدنيويّة عائقًا، بل نجاحًا مضاعفًا.
وهمسَةٌ أخيرة للطلاّب والطالبات بوصيّةٍ بالإخلاصِ لله عزّ وجلّ في طلبِ العِلم والجِدِّ والمثابَرَة في التحصيل واحترامِ المعلّمين وتوقيرهم والقيام بحقِّهم والحذَرِ من رفقة السّوء وضِعاف الهمّة، وقد قال الله تعالى: يَا يَحْيَى خُذْ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ [مريم:12]، وقال لموسى عليه السلام لما آتاه الألواحَ فيها التّوراة: فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ [الأعراف:145]، كما ينبغي الحذَر من الأفكار المنحرِفة والتوجُّهات المشبوهة.
والله تعالى هو المسؤول أن يوفِّقَ الجميعَ لما يحبّه ويرضاه وأن يعِزّ دينه ويُعليَ كلمتَه.
ثم اعلموا ـ رحمكم الله ـ أنّ الله أمركم بأمر بدأ فيه بنفسه فقال: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:65].
اللهمّ صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدِك ورسولك محمّد صاحبِ الحوض المورودِ واللّواء المعقود، وأورِدنا حوضَه، واحشرنا تحت لِوائه، وارضَ اللهم عن صحابة نبيك أجمعين...
ــــــــــــــــــــ(67/207)
تعامل الرسول مع الأطفال
...
...
3880
...
الأسرة والمجتمع, سيرة وتاريخ
...
...
الأبناء, الشمائل
...
عبد الرحمن بن علي العسكر
...
...
الرياض
...
...
...
عبد الله بن عمر
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- أهمية الشباب. 2- ضرورة العناية بالنشء. 3- خطورة مرحلة الطفولة. 4- عناية النبي بالأطفال. 5- نماذج من معاملته للأطفال. 6- حرص النبي على تعليم الأطفال والشباب. 7- نعمة الذرية. 8- السبيل لصلاح الأولاد.
الخطبة الأولى
أما بعد: فاتقوا الله ـ عباد الله ـ حق التقوى.
أيها الناس، زينة الحياة الدنيا وعدّة الزمان بعد الله هُم شباب الإسلام والناشئون في طاعة ربهم، لا تكاد تعرف لهم نزوة أو يعهد منهم صبوة، يتسابقون في ميادين الصالحات، أولئك لهم الحياة الطيبة في الدنيا والنعيم المقيم في الآخرة، يظلهم الله بظله يوم لا ظل إلا ظله سبحانه. في الحديث: ((سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله))، وذكر منهم: ((شابًا نشأ في طاعة الله)).
عباد الله، لئن تطلعت الأمة لإصلاح ناشئتها ورغبت أن تقرّ أعينها بصلاحهم فعليها أن تهتمّ بتربيتهم، وتسليحهم بسلاح الإيمان، وتحصينهم بدروع التقوى، وأخذهم بجدِّ وقوة العلم النافع والعمل الصالح.
إن العناية بالنشء مسلك الأخيار وطريق الأبرار، ولا تفسد الأمم إلا حين يفسد أجيالها الناشئة، ولا ينال منها الأعداء إلا حين ينالون من شبابها وصغارها.
عباد الله، إن الشاب في فترات تكوينه يمر بمراحل، كل مرحلة أهمّ من الأخرى. ألا وإن من أهم تلك المراحل مرحلة الطفولة، فهي السن الذي يتعرف فيه الطفل على مجريات الحياة، فيعرف الصحيح، ويعرف الخطأ، ويعلم الصواب، ويتعوّد على الغلط، ((كل مولودٍ يولد على الفطرة، فأبواه يهوّدانه أو ينصرنه أو يمجسانه)).
لهذا كانت مرحلة الطفولة من أخطر المراحل، ولقد كان السلف الصالح يعنون بأبنائهم منذ نعومة أظفارهم، يعلّمونهم وينشّئونهم على الخير، ويبعدونهم عن الشرّ، ويختارون لهم المعلمين الصالحين والمربين والحكماء والأتقياء.
عباد الله، محمد سيد ولد آدم وأعظم الناس مكانة هو القدوة في كل شيء، ولقد راعى الأطفال واهتم بأمرهم. ألا فليقتد بذلك الناصحون، لم يكن يتضجر ولا يغضب منهم، إن أخطؤوا دلهم من غير تعنيف، وإن أصابوا دعا لهم.
وإليكم ـ يا عباد الله ـ نماذج من معاملته لأطفاله :
روى الإمام أحمد في مسنده أن أبا هريرة رضي الله عنه قال: كنا نصلي مع النبي العشاء، فإذا سجد رسول الله وثب الحسن والحسين على ظهره، فإذا رفع رأسه أخذهما من خلفه أخذًا رفيقًا ووضعهما على الأرض، فإذا عاد إلى السجود عادا إلى ظهره حتى قضى صلاته، ثم أقعد أحدهما على فخذيه، يقول أبو هريرة: فقمت إليه، فقلت: يا رسول الله، أردهما؟ فبرقت برقة في السماء، فقال لهما: ((الحقا بأمكما))، فمكث ضوؤها حتى دخلا.
وعن أم خالد رضي الله عنها قالت: أتيت رسول الله مع أبي وأنا صغيرة، وعلي قميص أصفر، فقال رسول الله : ((سنه سنه))، أي: حسن حسن، قالت: فذهبت ألعب بخاتم النبوة على ظهر رسول الله، فزبرني أبي، فقال رسول الله : ((أبلي وأخلِقي، ثم أبلي وأخلقي))، فعمرت أم خالد بعد ذلك. رواه البخاري.
ولما جاءت أم قيس بنت محصن إلى رسول الله بابنٍ لها صغيرٍ لم يأكل الطعام، فحمله رسول الله فبال على ثوبه، فدعا بماء فنضحه عليه ولم يغسله. وتقول أم الفضل رضي الله عنها: بال الحسين بن علي رضي الله عنهما في حجر النبي ، فقلت: يا رسول الله، أعطني ثوبك والبس ثوبًا غيره حتى أغسله، فقال: ((إنما ينضج من بول الذكر، ويغسل من بول الأنثى)) رواه الثلاثة.
عباد الله، لقد كان يلاعب الأطفال، ويمشي خلفهم أمام الناس، وكان يقبلهم ويضاحكهم. روى الإمام أحمد وابن ماجه والبخاري في الأدب المفرد عن يعلى بن مرة رضي الله عنه قال: خرجت مع النبي وقد دعينا إلى طعام فإذا الحسين بن علي يلعب في الطريق، فأسرع النبي أمام القوم ثم بسط يديه ليأخذه، فطفق الغلام يفرّ ها هنا ويفرّ ها هنا، ورسول الله يلحقه يضاحكه حتى أخذه، فجعل إحدى يديه في ذقنه والأخرى في رأسه ثم اعتنقه ثم أقبل علينا وقال: ((حسين مني وأنا من حسين)).
ويقول أبو هريرة رضي الله عنه: سمعت أذناي هاتان وبصر عيناي هاتان رسول الله أخذ بيديه جميعًا بكفي الحسن أو الحسين، وقدماه على قدم رسول الله ، ورسول الله يقول: ((ارقه ارقه))، قال: فرقى الغلام حتى وضع قدميه على صدر رسول الله ، ثم قال رسول الله : ((افتح فاك))، ثم قبله، ثم قال: ((اللهم أحبه فإني أحبّه)) رواه البخاري في الأدب المفرد والطبراني في معجمه.
وجاء الأقرع بن حابس إلى رسول الله فرآه يقبّل الحسن بن علي، فقال الأقرع: أتقبّلون صبيانكم؟! فقال رسول الله: ((نعم))، فقال الأقرع: إن لي عشرةً من الولد ما قبلت واحدًا منهم قط، فقال له رسول الله : ((من لا يرحم لا يرحم)) متفق عليه.
أيها الناس، لقد بلغ من عناية الرسول بأطفاله أن ألقى لهم باله حتى أثناء تأديته للعبادة، يقول أبو قتادة: كان رسول الله يصلي وهو حامل أمامة بنت بنته زينب، فإذا ركع وضعها وإذا قام حملها، وكان إذا سمع بكاء الصبي وهو في صلاته تجوّز فيها مخالفة الشفقة من أمه. متفق عليهما.
وكان رسول الله يخطب ذات يوم فجاء الحسن والحسين عليهما قميصان أحمران يمشيان ويعثران، فنزل رسول الله من المنبر فحملهما فوضعهما بين يديه، ثم قال: ((صدق الله ورسوله: إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ [التغابن:15]، نظرت إلى هذين الصبيين يمشيان فيعثران، فلم أصبر حتى قطعت حديثي ورفعتهما))، ثم أكمل خطبته. رواه أهل السنن.
عباد الله، هذا رسول الله ، وهذه معاملته لأطفاله، أترونه يهمل تعليمهم؟! روى البخاري ومسلم أن عمر بن أبي سلمة قال: كنت غلامًا في حجر رسول الله ، وكانت يدي تطيش في الصحفة، فقال لي رسول الله : ((يا غلام، سمِّ الله، وكل بيمينك، وكل مما يليك)). ولما أراد الحسين أن يأكل تمرة من تمر الصدقة قال له الرسول : ((كخ كخ، أما علمت أنا لا تحل لنا الصدقة؟!)). وروى البخاري أن النبي كان يعوّذ الحسن والحسين فيقول: ((أعيذكما بكلمات الله التامة من كلّ شيطان وهامة، ومن كل عين لامة)).
إن عناية المصطفى تستمر معهم حتى بعد بلوغهم مبلغ الرجال، يقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه: كانت فاطمة بنت رسول الله عندي، وكانت أحبّ أهله إليه، فجرّت بالرحى حتى أثرت في يدها، واستقت بالقربة حتى أثّرت في نحرها، وقمّت البيت حتى اغبرت ثيابها، وأوقدت القدر حتى دكِنت ثيابها، وأصابها من ذلك ضرّ، فسمعنا أن رقيقًا أتِي بهم النبيّ فقلت: لو أتيتِ أباك فسألتيه خادمًا يكفيك، فأتته فوجدت عنده ناسًا فاستحيت فرجعت، يقول علي: فغدا علينا رسول الله من الليل ونحن في لفاعنا ـ أي: لحافنا ـ قد أخذنا مضاجعنا، فذهبنا لنقوم فقال: ((مكانكما))، ثم جلس بيننا، وأدخل قدمه بيني وبين فاطمة، وجلس عند رأسها، فأدخلت فاطمة رأسها في اللفاع حياءً من أبيها، فقال: ((ما كان حاجتُك أمس إلى آل محمد؟)) فسكتت، فقلت: أنا والله أحدّثك يا رسول الله، إنّ هذه جرّت عندي بالرحى حتى أثرت في يدها، واستقت بالقربة حتى أثرت في نحرها، وكسحت البيت حتى اغبرت ثيابها، وأوقدت القدر حتى دكنت ثيابها، وخبزت حتى تغير وجهها، وبلَغَنا أنه قد أتاك رقيق فقلت: سليه خادمًا، فقال : ((أوَلاَ أدلّكما على ما هو خير لكما من خادم؟! إذا أويتما إلى فراشكما فسبّحا الله ثلاثًا وثلاثين، واحمدا ثلاثًا وثلاثين، وكبّرا أربعًا وثلاثين، فهو خير لكما من خادم)) رواه البخاري ومسلم وأبو داود واللفظ له.
ألا فاتقوا الله عباد الله، وراقبوه فيما تحت أيديكم وما استرعاكم الله.
بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة، ونفعنا بما فيهما من الآيات والحكمة، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فاتقوا الله أيها الناس، واشكروا نعمة الله عليكم بهؤلاء الأولاد الذين جعلهم الله فتنة لكم، فإما قرّة عين في الدنيا والآخرة، وإما حسرة وندم ونكد. وإن من شكر نعمة الله عليكم فيهم أن تقوموا بما أوجب الله عليكم من رعايتهم وتأديبهم بأحسن الأخلاق والأعمال وتنشئتهم تنشئة صالحة.
عباد الله، الأطفال هم حياة البيوت، بيت لا أطفال فيه بيت فيه نقص. إنهم ـ أيها الإخوة ـ يملؤون البيت إزعاجًا ولكنهم يملؤونه فرحًا وسرورًا، يملؤونه فوضى ولكنهم يملؤونه ضحكًا وابتهاجًا.
سئل غيلان بن سلمة الثقفي: من أحب ولدك إليك؟ فقال: "صغيرهم حتى يكبر، ومريضهم حتى يبرأ، وغائبهم حتى يحضر".
عباد الله، شعور يحسّ به الوالد حين يرى صغاره أمامَه، ويتذكّر قول الرسول : ((لا يأتي زمان إلا والذي بعده شرّ منه))، ويرى ما هو فيه وما مر به من فتن لا يثبت فيها إلا من عصمه الله، وماذا بعده؟ أو كيف السبيل إلى وقايته مما أمامه؟
ألا فاعلموا ـ عباد الله ـ أن ثمة أمورًا جعلها الله من فِعل الأب وتنفع الابن من بعده، ومن أهمّ هذه الأمور صلاح الوالد في نفسه، فإنه سبب لحفظ الله عز وجل لأبنائه من بعده، يقول الله سبحانه: وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ [الكهف:82]، يقول ابن عباس رضي الله عنهما: (حفظهما الله بصلاح والدهما ولم يذكر الله للولدين صلاحًا).
وإن الله بفضله وكرمه إذا أدخل المؤمنين الجنة يلحِق بالآباء أبناءهم وإن كانوا دونهم في العمل، يقول الله سبحانه: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ [الطور:21]، يقول ابن عباس رضي الله عنهما عند هذه الآية: (إن الله ليرفع ذرية المؤمن في درجته وإن كانوا دونه في العمل كي تقرّ بهم أعينهم)، وجاء في حديث مرسل: ((إن الله ليحفظ المرء المسلم من بعده في ولده وولد ولده وفي داره والدويرات حوله)).
عباد الله، لا يغلبنّكم الشيطان على باب آخر مفتوح للمؤمنين وهو دعاء الوالد لولده، فقد صحّ عنه من حديث أبي هريرة أنه قال: ((ثلاث دعوات مستجابات لا شكّ فيهن))، وذكر منهن: ((دعوة الوالد لولده)).
ولقد كان دأب الأنبياء عليهم السلام الدعوة لأبنائهم، يقول إبراهيم: وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ [إبراهيم:35]، رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي [إبراهيم:40]، وقال هو وولده إسماعيل: رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ [البقرة:128]، وقال زكريا: رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ [آل عمران:38].
فاتقوا الله عباد الله، واعملوا صالحًا، وسيروا على النهج، وأصلحوا النشء؛ تسعدوا في حياتكم وبعد وفاتكم.
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد...
ــــــــــــــــــــ(67/208)
القنوات الفضائية
...
...
3889
...
الأسرة والمجتمع, العلم والدعوة والجهاد
...
...
الأبناء, الإعلام
...
عبد الرحمن بن علي العسكر
...
...
الرياض
...
...
...
عبد الله بن عمر
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- صلاح الإسلام لكل زمان ومكان. 2- حرص النبي على أمته. 3- سعي أعداء الإسلام في إفساد المسلمين. 4- النهي عن مخالطة الكافرين والسفر إلى بلادهم. 5- خطورة السفر إلى بلاد الكفر عبر القنوات الفضائية. 6- أضرار القنوات الفضائية. 7- زواجر عن إدخال القنوات الفضائية للبيوت.
الخطبة الأولى
أما بعد: فإن أصدق الحديث كلام الله تعالى, وخير الهدي هدي محمد , وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
أيها الناس، إن الوصية لكم جميعًا هي أن تتقوا الله تعالى حق التقوى, فإن التقوى هي خير لباس وأفضل زادٍ, وما علا شخص وارتفع إلا بتقوى الله تعالى، فاتقوا الله في جميع أوقاتكم وراقبوه, واذكروا نعمه عليكم، وإياكم وكفرها فإن كفرها من أسباب نقم الله, وإن نقم الله بعباده شديدة، ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [الأنفال:53].
عباد الله، إننا مع مضيّ الليالي لا نزداد إلا رسوخا في صدق ما جاء عن الله وعن رسوله , ونزداد أيضا علما بأن ما جاء عن الله وعن رسوله صالح لتعاقب الأيام والدهور, وإنه ما من شيء إلا وقد بين الله حكمه وبينه رسوله .
وإن هناك قاعدة لا بد أن تكون راسخة في عقل كل مسلم، وهي أن خوف الرسول على أمته شديد، وأن الأوائل والأواخر من أمته سواء، حتى إنه أخبر أصحابه عن أشياء لم تكن لتقع في عهده هو, وحذر هو منها خوفا على الأمة, ومن ذلك سؤال حذيفة بن اليمان: هل بعد هذا الخير من الشر؟ فلما أخبره بما سيقع قال: فما المخرج منها يا رسول الله؟ قال: ((كتاب الله وسنتي)).
إنه ما من أمر حذر منه رسول الله إلا وتحذيره عام لكل زمان ومكانٍ.
أيها الناس، إن ثمة أمرا ثبته الله ورسوله ليعلمه كل مؤمن ومؤمنة على طول الزمن, وهو أن أعداء الإسلام يخططون لسلب المسلمين دينهم وأموالهم والقضاء عليهم: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ الْحَقُّ [البقرة:109]، مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ [البقرة:105]، وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنْ اسْتَطَاعُوا [البقرة:217]، وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ [النساء:89].
إن مثل هذه الآيات ترسّخ قاعدة عظيمة وهي سعي المشركين لإفساد الدين وهدمه بأي طريق، لأجل هذا جاء النهي صريحًا من الله عز وجل ومن رسوله بتحريم كل ما قد يكون سببا لإزالة دين المسلم, ومن أعظم تلك الأسباب مخالطة المشركين وحبهم والتشبه بهم؛ لأن المخالطة تقتضي ولا شك امتزاجًا وتداخلاً.
عباد الله، إن من أعظم ما يفسد دين المسلم ويجعله رقيقا هو السفر إلى بلاد الشرك والوثنية, يقول : ((إنا بريء من مسلم يقيم بين ظهراني المشركين، لا تراءى ناراهما)) رواه أبو داود والترمذي.
إن بلاد الكفار فيها من الكفر والإلحاد والانحطاط في الأخلاق والسلوك ما يجعل المرء يأنف من البقاء فيها, فكيف والنهى في ذلك ظاهر والدليل قائم؟! جاء جرير بن عبد الله إلى رسول الله وهو يبايع فقال: يا رسول الله, ابسط يدك حتى أبايعك, واشترط علي فأنت أعلم, قال رسول الله : ((أبايعك على أن تعبد الله وأن تقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتناصح المسلمين وتفارق المشركين)) أخرجه النسائي والبيهقي وأحمد بسند صحيح، وجاء عن سمرة أن رسول الله قال: ((لا تساكنوا المشركين ولا تجامعوهم، فمن ساكنهم أو جامعهم فهو مثلهم))، وروى البيهقي أنه قال: ((من أقام مع المشركين فقد برئت منه الذمة))، وروى النسائي وابن ماجه بسند حسن عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده أن رسول الله قال: ((كل مسلم على مسلم محرم، أخوان نصيران، لا يقبل الله عز وجل من مشرك بعدما أسلم عملا أو يفارق المشركين إلى المسلمين)).
إن مفاسد السفر إلى بلاد المشركين ليست بتلك الخفية حتى نحتاج إلى أن نعددها، ولكن في أحيان كثيرةٍ يكون السفر إلى بلاد المسلمين أشد ضررًا من السفر إلى بلاد الشرك وإن اجتمعا في الضرر، ذاك أنها بلدان يميع فيها الدين باسم التمسّك به، وضعوا لهم علماء سوءٍ يزيّنون لهم ما يريدون.
وظلم ذوي القربى أشدّ مضاضة على النفس من وقع الحسام المهنّد
أيّها الناس، إنني أتكلم عن سفر ليس في أذهان الكثير, بل حتى إنهم لا يحسبونه سفرًا، إنه ليس السفر المعتاد الذي ينال المسافرَ فيه مشقة وتعب؛ ففيه حل وارتحال, وفيه غربة عن الأوطان. إنني أتحدث عن سفر لا يحتاج إلى جوازاتٍ ولا حجوزات, سفر لا يحتاج المسافر فيه سنا معينا, سفر لا يحتاج المسافر فيه إلى مرافق؛ بل مرافقه الشيطان ونفسه الأمارة بالسوء, سفر المسافر فيه أمير نفسه، يذهب كيف شاء, وينتقل بين البلدان كلما رغب عن بلد ذهب إلى بلد آخر, سفر يخلو الرجل فيه بمن شاء من نساءٍ كاسياتٍ عارياتٍ, يضحك معهن ويقلب بصره في حسنهن، قد انتزع منه حياؤه.
إنه ـ يا عباد الله ـ سفرٌ المرأةُ فيه تسافر لوحدها لا محرَمَ معها, تختلط فيه مع الرجال, تضحك لضحكهم وتحزن لحزنهم, ووالدها ينظر, وزوجها يبصر، وأخوها يعلم، ولكنهم لا يحركون ساكنًا.
الصغير في هذا السفر له متعة خاصة، ولكنها هادمة للعقيدة مفسدة للفطرة منافية للأخلاق, يتعلم الصغير في هذا السفر ما يستحي من الحديث عنه الكبار.
لا غرو إذًا ـ عباد الله ـ أن يعود الناس من هذا السفر بعقائد منحرفة وفطر منكوسةٍ وأخلاق فاسدة. إن الناظر فيما يستجد بين المسلمين اليوم من أعياد شركية أو بدع قوليةٍ أو فعليةٍ لو تأمله الإنسان لعلم أن مبتدأه تأثر الناس بالمشركين عن طريق هذا السفر, أما كان جديرًا بنا إذًا أن نتكلم عن أصل المشكلة قبل أن نتكلم عن أطرافها, أن نسدّ الباب من أصله؟!
ما تحدث الناس وفتحوا أفواههم في الحديث عن المرأة وحاولوا تغريبها إلا لأن أعداء الملة أظهروا لهم المرأة عبر هذا السفر في صورةٍ لها وجهان وجه ظاهر مزين أمام الناس, والخفي عارٍ من الأخلاق هي فيه سلعة رخيصة لا وزن لها.
إن السفر الذي أتحدث عنه هو سفر الإنسان بعقله وقلبه إلى بلاد الانحلال والشرك والمجون عبر القنوات الفضائية التي غزت بيوت فئامٍ من الناس.
إن السفر إلى هذه البلدان عبر القنوات الفضائية أشد ضررا وخطرا, وأقبح نتيجة من السفر إلى تلك البلاد بالجسم بالطرق المعروفة؛ لأن المسافر بجسمه يستطيع أن يقارع الحجة بالحجة والدليل بالدليل، لكن الناس الذين يقضون أوقاتهم أمام هذه القنوات هم فقط يلتقطون ويسمعون ليس إلا.
عباد الله، إن هذه القنوات الفضائية التي رضي ناس أن يدخلوها بيوتهم محرمة شرعًا، وإنه وإن تجوّز ناس بإباحتها إلا أنهم يقرون ولا بد بأن ما فيها من خيرٍ غارق في بحرٍ من الظلمات, قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا [البقرة:219]، والحرمة تقدّم على الإباحة, ذلك لأنها وإن سلمت من الدعوة إلى الشرك الصريح فلن تسلم من الدعوة إلى الانحلال الخلقي والفكري والسلوكي, ولن تسلم من علماء سوء يزينون للناس ما أرادوا باسم السهولة والتيسير. وأكبر شاهد على ذلك أننا صرنا نسمع ونقرأ عمن يتحدثون ويشككون في أمور هي من مسلّمات العقيدة ويجادلون فيها, وما جاء ذلك منهم إلا تأثّرًا بمثل هذه القنوات.
أما جانب الأنباء والأخبار في هذه القنوات فحدث ولا حرج، كم قلبت من حقائق, وكم أثيرت من فتن, وكم كبر من صغير وعظم من حقير بسبب نشرة أو تحليل أخبار, ونسي الناس أن أكثر هذه القنوات قد سبحت في بحر الصهيونية أو خاضت في غمار الماسونية.
عباد الله، إذا وجد الحياء في نفس المرء منعه من الكثير, وحال بينه وبين الحقير من الأمور, وأما إذا خلع المرء برقع الحياء ولم يعد في وجهه للمروءة ماء أتى السيئات وهو يظن نفسه محسنًا, وتجرأ على المنكر الشنيع وهو يحسبه هينا, وقد قال : ((إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت)).
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية
الحمد لله الصادق في وعده، المتصرف في خلقه، وأشهد أن لا إله إلا الله، هو سبحانه يعد المحسن فيوفيه وعده، ويتوعد المسيء فيوقع عليه وعيده، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، كان رفيقًا بأمته يبحث الخير لهم ما استطاع، ويخاف عليهم من الشر، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فإن التقوى هي الوصية لكل مؤمنٍ ومؤمنة، فاتقوا الله ـ أيها الناس ـ واحذروا عقابه.
أيها الناس، هذه ثلاثة أمور هي ذكرى لكل رجلٍ رضي أن يدخل مثل هذه القنوات في بيته:
الأولى: أن الله عز وجل قد أمر الناس أن يتقوا الله في أنفسهم، فأين تقوى الله في هذه المعصية حين تجول ببصرك بين أمورٍ محرمةٍ ومنكرة؟!
الثانية: أن الله أمرك بأهل بيتك وأن تقيهم من النار: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ [التحريم:6] أي: أنقذوا أنفسكم وأهليكم من نار الله الرهيبة الموجعة، وأنقذوا معكم أهليكم الذين تزعمون أنكم تحبونهم، فكيف تحبونهم وأنتم تلقون بهم في مجالاتٍ خطرةٍ وعفنٍ ماجنٍ وصورٍ منحلةٍ؟!
ألا يخشى من رضي لأولاده وأهل بيته بمثل هذه الأمور من مغبة حديث رسول الله الذي في صحيح مسلم؟! يقول عليه صلوات الله وسلامه: ((ما من مسلم يسترعيه الله رعيةً يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة))، ولا أدري هل من أحدٍ ينازع في أن مثل هذه الأمور من الغش للأهل والأولاد؟!
فإن أبيت إلا السير خلف هوى نفسك ومطاوعة الشيطان فأذكرك أمرًا ثالثًا: وهو أن أمامك أمرين لا محيص لك عنهما، وهي أنك تتقلب في نعم الله صباح مساء، ألا تخاف أن يفجأك الله بعقوبةٍ من عنده؟! فما أكثر العقوبات الدنيوية، هذه الزلازل ما بين طرفة عينٍ تنتهي بلاد كاملة، أتظن أنك في ملجأ من الله؟! إن كفر النعم وعصيان الله في أرضه هو سبب النقم من الله.
إنك إن أبيت إلا الإصرار على الذنب فإن أمامك أمرًا آخر لن تنجو منه وهو المبيت في حجرةٍ مظلمةٍ يملأ التراب فاك وينخر الدود عظامك، ثم تقف حافيًا عاريًا أمام الله يوم القيامة، ويزيد من ألمك وحسرتك أن أهلك وذويك سيتعلقون بك في ذلك اليوم يريدون حقوقهم، كيف خدعتهم وغششتهم؟! سيتعلق بك زوجك وابنك وبنتك وأخوك، وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [البقرة:281]، يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [النور:24]. فإلى كل شخص وضع هذا الجهاز في بيته أقول: ستقف والله بين يدي الله يوم القيامة وسيسألك، فماذا ستجيب أمام علام الغيوب؟!
أيها الناس، إن من يعلم بضرر هذه القنوات الفضائية وقبيح عاقبتها ثم لا يستجيب لنداءٍ ولا يرعوي لموعظةٍ فلا عليه إذًا أن يجد على رقبة ابنه ناقوسًا أو صليبًا، ولا عليه أن يرى أبناءه يترنحون من أثر المسكرات والمخدرات، ولا عليه أن يرى بنته ومحرمه تصادق فلانًا وتخرج وتدخل بلا حياءٍ ولا غيرةٍ، ولا عليه أن يسمع عن علاقاتٍ محرمةٍ بين نساءٍ متزوجات مع أخدانٍ وأصحاب.
إن ما يبصره المرء عبر هذه القنوات لا بد أن يتأثر به وإن طال الزمن، ولكن الشيطان يعمي ويصم. إن المرء قد يمضي سنواتٍ طويلةً في إصلاح أهله وأولاده ثم يفسدهم في لحظاتٍ إذا سمح لهم بمثل هذه الأمور.
عباد الله، إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56]...
ــــــــــــــــــــ(67/209)
الواسطة والشفاعة
...
...
3890
...
الأسرة والمجتمع
...
...
قضايا المجتمع
...
عبد الرحمن بن علي العسكر
...
...
الرياض
...
...
...
عبد الله بن عمر
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- فضل حسن الخلق. 2- حاجة الناس بعضهم إلى بعض. 3- أعظم المعروف. 4- فضل قضاء حوائج الإخوان. 5- فضل الشفاعة الحسنة. 6- شفاعة الرسول . 7- آداب طلب الحاجة من الناس. 8- الشفاعة السيئة.
الخطبة الأولى
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَتَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].
عباد الله، حسن اللقاء وطيب الكلام ومشاركة الأخ لأخيه في السراء ومواساته في الضراء كل أولئك من كريم الخصال وحميد الشيم، وهذه الأمور من المعروف الذي يجب على كل مسلم أن لا يقلل من شأنه أو يحتقر بذله، ((لا تحقرن من المعروف شيئًا ولو أن تفرغ دلوك في إناء المستسقي، ولو أن تكلم أخاك ووجهك إليه منبسط)).
الناس ـ عباد الله ـ لحمة لا يستغنون عن التعاون، ولا يستقلّون عن المضافر والمساعد، فإنما ذلك كله تعاون ائتلافٍ، يتكافؤون فيه ولا يتفاضلون، ولربما احتاج شخص إلى آخر، والمحتاج إليه أقل من المحتاج، كاستعانة السلطان بجنده والمزارع بعماله، فليس من هذا بد، ولا لأحد عنه غنى.
أيها الناس، أعظم المعروف ما ترك في نفسٍ أثرًا طيبًا تذكره فتشكره، وإذا كان انبساط الوجه للأخ يعتبره الإسلام معروفًا يؤجر عليه العبد، فكيف بما هو أكثر نفعًا وأعظم فائدةً تعود على الأخ المسلم، كبسط اليد إليه بالإنفاق، وكواسطة الخير في أمرٍ مشروع، وكتفريج الكرب عن المكروب أو دفع المكروه؟!
روى الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((من نفس عن أخيه كربةً من كرب الدنيا نفس الله عنه كربةً من كرب يوم القيامة، ومن يسر على معسرٍ يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر على مسلمٍ ستر الله عليه في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه)).
الواجب على المسلمين كافةً نصيحة المسلمين والقيام بالكشف عن همومهم وكربهم؛ لأن من نفس كربة من كرب الدنيا عن مسلمٍ نفس الله عنه كربةً من كرب يوم القيامة، ومن تحرى قضاء حاجته ولم يكتب قضاؤها على يديه فكأنه لم يقصّر في قضائها، وأيسر ما يكون في قضاء الحوائج استحقاق الثناء، والإخوان يعرَفون عند الحوائج، كما أن الزوجة تختَبر عند الفقر؛ لأن الناس في الرخاء كلّهم أصدقاء، وشر الناس الخاذل لإخوانه عند الشدّة والحاجة، كما أن شرّ البلاد بلدة ليس فيها خصب ولا أمن.
يقول الحسن البصري: "قضاء حاجة أخٍ مسلم أحبّ إلي من اعتكاف شهرين"، وجاء رجل إلى الحسن بن سهل يستشفع به في حاجة فقضاها، فأقبل الرجل يشكره فقال له الحسن: "علام تشكرنا ونحن نرى أن للجاه زكاة كما أن للمال زكاة؟!", وفي لفظ: "ونحن نرى أن كتب الشفاعات زكاة مروءاتنا؟!".
وروى البخاري ومسلم عن أبي موسي رضي الله عنه قال: كان رسول الله إذا أتاه طالب حاجةٍ أقبل على جلسائه فقال: ((اشفعوا فلتؤجروا، وليقض الله على لسان رسوله ما أحبّ))، وفي رواية: عن معاوية أن رسول الله قال: ((إن الرجل ليسألني عن الشيء فأمنعه كي تشفعوا له فتؤجروا)).
عباد الله، الإفضال على الناس والإحسان إليهم شرف عظيم جعله الله لكل صاحب مالٍ أو جاه، بل إن من أعطاه الله عز وجل نعمةً من مالٍ أو جاهٍ فقد وجب عليه الإحسان إلى الناس، روى الطبراني في معجمه وابن أبي الدنيا في قضاء الحوائج بإسناد حسّنه الهيثمي عن ابن عباس أن رسول الله قال: ((ما من عبد أنعم الله عليه نعمة فأسبغها عليه ثم جعل شيئا من حوائج الناس إليه فتبرم فقد عرض تلك النعمة للزوال))، وفي رواية: ((إن لله أقوامًا يختصهم بالنعم لمنافع العباد، ويقرهم فيها ما بذلوها، فإذا منعوها نزعها منهم فحولها إلى غيرهم)).
حقيق ـ عباد الله ـ على من علم الثواب أن لا يمنع ما ملك من جاهٍ أو مال إن وجد السبيل إليه قبل حلول المنية فينقطع عن الخيرات كلها، والعاقل يعلم أن من صحب النعمة في دار الزوال لم يخل من فقدها، وأن من تمام الصنائع وأهنئها ما كان ابتداء من غير سؤال.
إذا ضاقت بالصحابة ضائقة ذهبوا إلى رسول الله يسألونه الشفاعة لهم فيها عند أصحبها، فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: إن أباه توفي وترك عليه ثلاثين وسقًا لرجل من اليهود، فاستنظره جابر فأبى أن ينظره، فكلم جابر رسول الله ليشفع له إليه، فكلم الرسول اليهودي ليأخذ ثمر نخله بالذي له فأبى... إلى آخر الحديث.
عباد الله، يقول الله سبحانه: مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا [النساء:85]. وروى الجماعة إلا الترمذي عن كعب بن مالك أنه تقاضى كعب بن أبي حدردٍ دينًا كان عليه في المسجد فارتفعت أصواتهما حتى سمعها رسول الله وهو في بيته، فخرج إليهما حتى كشف سجف حجرته فنادى: ((يا كعب))، فقال: لبيك يا رسول الله، قال: ((ضع من دينك هذا)) وأشار إليه أي: الشطر، قال: قد فعلت يا رسول الله، قال: ((قم فاقضه)).
أيها الناس، اسمعوا إلى ما أعده الله للقاضين للناس حوائجهم والكاشفين كروبهم، أخرج ابن أبي الدنيا في كتاب قضاء الحوائج بإسناد حسن والطبراني وابن عساكر عن ابن عمر رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي فقال: يا رسول الله، أي الناس أحب إلى الله؟ وأي الأعمال أحب إلى الله؟ فقال رسول الله : ((أحب الناس إلى الله أنفعهم للناس، وأحب الأعمال إلى الله عز وجل سرور تدخله على مسلم أو تكشف عنه كربة أو تقضي عنه دينًا أو تطرد عنه جوعًا)) إلى أن قال في آخر الحديث: ((ومن مشى مع أخيه في حاجة حتى تتهيأ له أثبت الله قدمه يوم تزل الأقدام، وإن سوء الخلق يفقد العمل كما يفسد الخل العسل)).
عباد الله، الحاجة إلى الناس من أثقل الأمور، ألا فليعلم من ابتلي بمثل هذه أنه يجب عليه أن لا يحلف في السؤال، فإن شدة الاجتهاد ربما كانت سببًا للحرمان والمنع. ألا وليختر المكان المناسب والزمان المناسب، روي عن عمر أنه قال: (لا تسألوا الناس في مجالسهم ولا مساجدهم فتفحشوهم، ولكن سلوهم في منازلهم، فمن أعطى أعطى ومن منع منع). يقول أبو حاتم بن حبان بعد أن ذكر قول عمر: "هذا إذا كان المسؤول كريمًا، أما إذا كان لئيمًا فإنه يسأل في هذا الموضوع؛ لأن اللئيم لا يقضي الحاجة ديانة ولا مروءة، وإنما يقضيها إذا قضاها للذكر والمحمدة بين الناس، على أني أستحب للعاقل أن لو دفعه الوقت إلى أكل القديد ومص الحصى ثم صبر عليه لكان أحرى به من أن يسأل لئيمًا حاجة؛ لأن إعطاء اللئيم شين ومنعه حتف" اهـ. يقول خالد بن صفوان: "لا تطلبوا الحوائج عند غير أهلها، ولا تطلبوها في غير حينها، ولا تطلبوا ما لا تستحقون منها، فإن من طلب ما لا يستحق استوجب الحرمان".
عباد الله، إن صنائع المعروف لا تقف عند حد، بل تتسع إلى ما لا حد له، حتى يكون في نصيب كل مسلمٍ أن يأخذ منها بحظ، فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه [الزلزلة:7، 8].
يقول بعض الحكماء: "اصنع الخير عند إمكانه يبق لك حمده عند زواله، وأحسن والكرّة لك يحسن إليك والكرة عليك، واجعل زمان رخائك عدةً لزمان بلائك".
واعلموا ـ عباد الله ـ أن هناك أمورًا لا تحل الشفاعة فيها، روى الإمام أحمد وأبو داود عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي : ((من حالت شفاعته دون حد من حدود الله فهو مضاد لله في أمره)).
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي وعد المحسنين بعظيم الثواب، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله .
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، فإن تقوى الله هي المخرج عند الشدائد وهي المعين عند النكبات.
عباد الله، ينفر كثير من الناس عن الشفاعة لغيرهم خوفًا من عدم قبولها، ألا فليعلم أولئك أن سيد الخلائق وهو أعظم حقا وأولى بكل مسلم من نفسه ردت شفاعته، فما أصدر تحسرًا ولا ندمًا، ولا عاتب أحدًا.
روى البخاري ومسلم عن ابن عباس قال: كان زوج بريرة عبدا يقال له: مغيث، كأني أنظر إليه يطوف خلفها يبكي ودموعه تسيل على لحيته، فقال النبي للعباس: ((ألا تعجب من حب مغيث بريرة ومن بغض بريرة مغيثًا؟!)) فقال لها النبي : ((لو راجعتيه؛ فإنه أبو أولادك))، فقالت: يا رسول الله، أتأمرني؟ قال: ((لا، ولكني أشفع))، قالت: لا حاجة لي فيه.
فلا يكونن نظر الشافع القبول وعدمه، إنما ينظر إلى الأجر، فإن الله قد قال: مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا [النساء:85]، ولم يقل: من يشفع فيشفع.
جاء في ترجمة عبد الله بن عثمان شيخ البخاري أنه قال: "ما سألني أحد حاجة إلا قمت له بنفسي، فإن تم وإلا قمت له بمالي، فإن تم و إلا استعنت له بالإخوان، فإن تم وإلا استعنت له بالسلطان".
عباد الله، العاقل الفطن لا يتسخط ما أعطي وإن كان تافهًا؛ لأن من لم يكن عنده شيء يستفيده ربح.
ذكر ابن الجوزي قصة فقال: "كان هارون الرقي قد عاهد الله تعالى أن لا يسأله أحد كتاب شفاعة إلا فعل، فجاء رجل فأخبره أن ابنه أسير في الروم وسأله أن يكتب إلى ملك الروم في إطلاقه، فقال له: ويحك، ومن أين يعرفني؟! وإذا سأل عني قالوا: مسلم، فكيف يفي حقي؟! فقال له السائل: اذكر عهد الله، فكتب إلى ملك الروم، فلما قرأ الكتاب قال: من هذا الذي قد شفع إلينا؟ قيل: هذا قد عاهد الله لا يُسأل شفاعة إلا كتبها إلى أيّ مكان، فقال ملكهم: هذا حقيق بالإسعاف، أطلقوا أسيره".
أيها الناس، ليس الحديث عن مثل هذه الأمور هو دعوة للناس إلى السؤال، ولكن الحاجة ملحة والضرورة قاسية والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه، ولكن لا يكن الواحد كمثل ذلك الفقير الذي سمعه رجل وهو يدعو يقول: اللهم ارزق المسلمين حتى يعطوني، فقال له الرجل: أتسأل ربك الحوالة؟!
عباد الله، إن الشفاعة والوساطة متى ما كانت في أمرٍ مشروع فهي مندوب إليها، إلا أنه ينبغي أن لا تكون الشفاعة هي مسيرة أمورنا وباعث إنتاجنا، إننا مطالبون بإكرام القريب والصاحب، ولكن ليس على حساب تعطيل مصالح أناس لا يجدون مثل ما تجد، فمن أين لهم ما يرغبون؟!
عباد الله، لست أدعو هنا أن نأخذ حقوق غيرنا عن طريق الشفاعات، فإن الرسول قد قال: ((من اقتطع مال امرئ مسلم بغير حق لقي الله وهو عليه غضبان)). أيما شفاعة أخذت حق شخص مسلم فهي شفاعة محرمة، ينال وزرها الشافع فيها حال علمه بذلك. الشفاعة التي توصل الغر إلى مراكز الأسود شفاعة لا خير فيها بل ضررها عظيم.
وما أجمل الشفاعة التي توصل الحق إلى صاحبه، يوصل بها بين متخاصمين، يوصل بها أرحام متقاطعة، تُزال بها منكرات، ينال بسببها خير للمسلمين أجمع، لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء:114].
أيها الناس، لو أنجزنا الأعمال بمثل المسؤولية التي تحملناها أمام الله أولاً ثم أمام ولاة الأمر لما احتاج صاحب الشأن للبحث عن شفيع أو وسيط، ولما احتاج الشفيع إلى بذل شفاعته، ولما صار الناس رهائن الشفاعات يبحثون عنها دائمًا.
عباد الله، إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56]...
ــــــــــــــــــــ(67/210)
بر الوالدين
...
...
1584
...
الأسرة والمجتمع
...
...
الوالدان
...
خالد بن محمد الشارخ
...
...
الرياض
...
...
...
اللحيدان
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- ظاهرة عقوق الوالدين. 2- حقوق الوالدين. 3- رضا الوالدين باب من أبواب الجنة. 4- قصص في بر الوالدين. 5- صور في حياتنا من العقوق.
الخطبة الأولى
أيها الإخوة المؤمنون، أوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى، فهي وصية الله لنا ولمن قبلنا: وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللهَ.
معاشر المسلمين، كانت النية أن تكون الخطبة هذه الجمعة عن العطلة الصيفية وكيفية اغتنامها، ولكن حال دون ذلك كثرة شكاوي الناس وكثرة الأخبار المزعجة التي تفطر القلوب وتدمي الأسماع، وهي نذير شؤم وعلامة خذلان، يجب على الأمة جميعها أن تتصدى لإصلاح هذا الخلل الذي بدأ ينتشر انتشار النار في الهشيم، ألا وهو عقوق الوالدين.
عقوق الوالدين ـ أيها الإخوة ـ من أكبر الكبائر بعد الإشراك بالله، وكيف لا يكون كذلك وقد قرن الله برهما بالتوحيد فقال تعالى: وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا، وقال تعالى: قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا. بل هي من المواثيق التي أخذت على أهل الكتاب من قبلنا: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا.
وها نحن نسمع بين الحين والآخر ـ وللأسف ـ من أبناء الإسلام من يزجر أمه وأباه أو يضربهما أو يقتل أمه أو أباه.
أقول أيها الإخوة: إن انتشار مثل هذه الجرائم المستبشعة ليس في الإسلام فحسب بل في عرف جميع بني آدم، أقول: إن انتشارها نذير شؤم وعلامة خذلان للأمة، ومن هنا وجب على جميع قنوات التربية والتوعية والإصلاح تنبيه الناس على خطر هذا الأمر، وإظهار هذه الصورة البشعة لمجتمعاتنا بأنها علامة ضياع وعنوان خسارة.
أيها الإخوة في الله، ما سبب انتشار أمثال هذه الجرائم؟ ولا أقول: وجودها لأنها قد وجدت في قديم الزمان، لكن ما سبب انتشارها إلا انتشار الفساد والأفلام المقيتة بوجهها الكالح، وتشبه طبقة من طبقات المجتمع بصورة الشاب الغربي الذي يعيش وحده وليست له أي صلة تربطه بذي رحم أو قريب، فيتأثر البعض بهذه المناظر، فيحصل ما لا تحمد عقباه من العقوق.
أيها الإخوة المؤمنون، قال تعالى: وَاعْبُدُوا اللهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا، قال ابن عباس رضي الله عنهما: يريد البرّ بهما مع اللطف ولين الجانب، فلا يغلظ لهما في الجواب، لا يحدّ النظر إليهما، ولا يرفع صوته عليهما، بل يكون بين يديهما مثل العبد بين يدي السيد تذللاً لهما.
وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا الآية، قال الهيثمي عند قوله تعالى: وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا أي: الليِّن اللطيف المشتمِل على العطف والاستمالة وموافقة مرادهما وميلهما ومطلوبهما ما أمكن لا سيما عند الكبر، وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ ثم أمر تعالى بعد القول الكريم بأن يخفض لهما جناح الذلّ من القول بأن لا يُكلَّما إلا مع الاستكانة والذل والخضوع، وإظهار ذلك لهما، احتمال ما يصدر منهما، ويريهما أنه في غاية التقصير في حقهما وبرهما. ولا يزال على نحو ذلك حتى ينثلج خاطرهما، ويبرد قلبهما عليه، فينعطفا عليه بالرضا والدعاء، ومن ثم طلب منه بعد ذلك أن يدعو لهما: وقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَيَّانِي صَغِيرًا.
وكان أبو هريرة إذا أراد أن يخرج من دار أمه وقف على بابها فقال: السلام عليك يا أمتاه ورحمة الله وبركاته، فتقول: وعليك يا بني ورحمة الله وبركاته، فيقول: رحمك الله كما ربيتني صغيرًا، فتقول ورحمك الله كما سررتني كبيرًا. ثم إذا أراد أن يدخل صنع مثل ذلك.
أيها الإخوة المسلون، وحق الوالدين باقٍ، ومصاحبتهما بالمعروف واجبة، حتى وإن كانا كافرين. فلا يختص برهما بكونهما مسلمين، بل يجب برهما وإن كانا كافرين، فعن أسماء رضي الله عنها قالت: قَدِمت عليّ أمي وهي مشركة في عهد قريش إذ عاهدهم، فاستفتيت النبي فقلت: يا رسول الله، إن أمي قدمت عليّ وهي راغبة أفأصِلها؟ قال: ((نعم، صلي أمك)).
ولم يقف حق الوالدين عند هذا الحدّ، بل تبرُّهما وتحسن إليهما حتى ولو أمراك بالكفر بالله وألزماك بالشرك بالله، قال تعالى: وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَّفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ.
فإذا أمر الله تعالى بمصاحبة هذين الوالدين بالمعروف مع هذا القبح العظيم الذي يأمران ولدهما به وهو الإشراك بالله، فما الظن بالوالدين المسلمين سيما إن كانا صالحين؟! تالله إن حقهما لمن أشد الحقوق وآكدها، وإن القيام به على وجهه أصعب الأمور وأعظمها، فالموفق من هدي إليها، والمحروم كل المحروم من صُرف عنها.
وها هو رسول الله يجعل حق الوالدين مقدمًا على الجهاد في سبيل الله، ففي الصحيحين من حديث عبد الله بن مسعود قال: سألت رسول الله : أي الأعمال أحب إلى الله؟ قال: ((الصلاة على وقتها))، قلت ثم أي؟ قال: ((ثم بر الوالدين))، قلت: ثم أي؟ قال: ((ثم الجهاد في سبيل الله))، وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله قال لرجل استأذنه في الجهاد: ((أحي والداك؟)) قال: نعم، قال: ((ففيهما فجاهد)) رواه البخاري، وعنه أيضًا أن النبي قال: ((رضا الرب في رضا الوالد، وسخط الرب في سخط الوالد)) رواه الترمذي وصححه ابن حبان، وعن معاوية بن جاهمة قال: جاء رجل إلى رسول الله فقال: يا رسول الله، أردت أن أغزو وقد جئت أستشيرك، فقال: ((هل لك أم؟)) قال: نعم، قال: ((فالزمها فإن الجنة تحت رجليها)) رواه النسائي وابن ماجه بإسناد لا بأس به.
وها هو رسول الله يدعو على من أدرك أبويه أو أحدهما ثم لم يدخل الجنة، فيقول كما في صحيح مسلم عن أبي هريرة: ((رغم أنفه، رغم أنفه، رغم أنفه))، قيل: من يا رسول الله؟! قال: ((من أدرك أبويه عنده الكبر أحدهما أو كليهما ثم لم يدخل الجنة)).
وبر الوالدين من أعظم القربات وأجل الطاعات، وببرهما تتنزل الرحمات وتكشف الكربات، وما قصة الثلاثة الذين أطبق عليهم الغار فلم يستطيعوا الخروج منه، فقال بعضهم لبعض: انظروا أعمالاً عملتموها لله صالحة، فادعوا الله بها لعله يفرجها، فقال أحدهم: اللهم إنه كان لي والدان شيخان كبيران، ولي صبية صغار، كنت أرعى عليهم فإذا رجعت عليهم فحلبت بدأت بوالدي أسقيهما قبل ولدي، وإنه قد نأى بي الشجر ـ أي: بعد علي المرعى ـ فما أتيت حتى أمسيت، فوجدتهما قد ناما، فحلبت كما كنت أحلب، فجئت بالحلاب، فقمت عند رؤوسهما أكره أن أوقظهما، وأكره أن أبدأ بالصبية قبلهما، والصبية يتضاغَون عند قدمي ـ أي: يبكون ـ، فلم يزل ذلك دَأْبي ودأبهم حتى طلع الفجر، فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج لنا، ففرّج الله لهم حتى يرون السماء.
وهل أتاك نبأ أويس بن عامر القرني؟! ذاك رجل أنبأ النبي بظهوره وكشف عن سناء منزلته عند الله ورسوله وأمر البررة الأخيار من آله وصحابته بالتماس دعوته وابتغاء القربى إلى الله بها، وما كانت آيته إلا بره بأمه، وذلك في الحديث الذي أخرجه مسلم: كان عمر إذا أتى عليه أمداد أهل اليمن سألهم: أفيكم أويس بن عامر؟ حتى أتى على أويس بن عامر فقال: أنت أويس بن عامر؟ قال: نعم، قال مِن مراد؟ قال: نعم، قال: كان بك برص فبرأت منه إلا موضع درهم؟ قال: نعم، قال: لك والدة؟ قال: نعم، قال: سمعت رسول الله يقول: ((يأتي عليكم أويس بن عامر مع أمداد اليمن من مراد ثم من قرن، كان به أثر برص فبرأ منه إلا موضع درهم، له والدةٌ هو بارٌ بها، لو أقسم على الله لأبرّه، فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل)). فاستغفر لي، فاستغفر له، فقال له عمر: أين تريد؟ قال: الكوفة، قال: ألا أكتب لك إلى عاملها؟ قال: أكون في غبراء الناس أحب إليّ. وعن أصبغ بن زيد، قال: إنما منع أويسًا أن يَقدم على النبي برّه بأمه.
ولما علم سلفنا الصالح بعظم حق الوالدين قاموا به حق قيام، فهذا محمد بن سيرين إذا كلم أمه كأنه يتضرع، وقال ابن عوف: دخل رجل على محمد بن سيرين وهو عند أمه، فقال: ما شأن محمد؟! أيشتكي شيئًا؟! قالوا: لا، ولكن هكذا يكون إذا كان عند أمه. وهذا أبو الحسن علي بن الحسين زين العابدين رضي الله عنهم كان من سادات التابعين، وكان كثير البر بأمه حتى قيل له: إنك من أبر الناس بأمك، ولسنا نراك تأكل معها في صحفة، فقال: أخاف أن تسبق يدي إلى ما سبقت إليه عينها، فأكون قد عققتها. وهذا حيوة بن شريح وهو أحد أئمة المسلمين والعلماء المشهورين، يقعد في حلقته يعلّم الناس ويأتيه الطلاب من كل مكان ليسمعوا عنه، فتقول له أمه وهو بين طلابه: قم ـ يا حيوة ـ فاعلف الدجاج، فيقوم ويترك التعليم.
هذه بعض نماذج بر السلف لآبائهم وأمهاتهم، فما بال شبابنا اليوم يقصرون في بر آبائهم وأمهاتهم، وربما عق أحدهم والديه من أجل إرضاء صديق له، أو أبكى والديه وأغضبهما ـ وهذا من أشد العقوق ـ من أجل سفر هنا أو هناك أو متعة هنا أو هناك.
أوصيكم ـ يا معشر الأبناء ـ جميعًا ونفسي ببر الوالدين، وأن نسعى لإرضائهما وإسعادهما في هذه الدنيا. أسألك بالله يا أخي: ماذا يريد منك أبوك إلا أن تقف معه حين يحتاجك، وأن تسانده حين يحتاجك؟! بل ماذا تريد منك الأم إلا كلمة حانية وعبارة صافية تحمل في طياتها الحب والإجلال؟!
والله يا إخوان، لا أظن أن أي أم أو أب يعلمان من ولديهما صدقًا في المحبة ولينًا في الخطاب ويدًا حانية وكلمة طيبة ثم يكرهانه أو يؤذيانه في نفسه أو ولده.
اللهم إنا نسألك أن تعيننا جميعًا على بر والدينا، اللهم قد قصرنا في ذلك وأخطأنا في حقهما، اللهم اغفر لنا ما قدمنا وما أخرنا وما أسرفنا وما أعلنا واملأ قلبيهما بمحبتنا وألسنتهما بالدعاء لنا يا ذا الجلال والإكرام.
الخطبة الثانية
الحمد لله وكفى، والصلاة والسلام على نبيه الذي اصطفى، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله.
أيها الإخوة المؤمنون، لا أظن أنه تخفى علينا النصوص الواردة من الكتاب والسنة في فضل بر الوالدين وحرمة عقوقهما وأن عقوق الوالدين من كبائر الذنوب، ولكن ينقصنا العمل بما نعلم، ونغفل أحيانًا كثيرة عن مواضع البر مع زحمة الأعمال الدنيوية، كزيارة الوالدين وتفقد أخبارهما والسؤال عن أحوالهما وسؤالهما عن حاجتهما.
وكم نجد ونسمع من يلتمس رضا زوجه ويقدمه على رضا والديه، فربما لو غضبت الزوجة لأصبح طوال يومين حزينًا كئيبًا لا يفرح بابتسامة ولا يسّر بخبر حتى ترضى زوجه الميمون، وربما لو غضب عليه والداه ولا كأن شيئًا قد حصل.
ذكر أحد بائعي الجواهر قصة غريبة وصورة من صور العقوق، يقول: دخل علي رجل ومعه زوجته ومعهم عجوز تحمل ابنهم الصغير، أخذ الزوج يضاحك زوجته ويعرض عليها أفخر أنواع المجوهرات تشتري ما تشتهي، فلما راق لها نوع من المجوهرات دفع الزوج المبلغ فقال له البائع: بقي ثمانون ريالاً وكانت الأم الرحيمة التي تحمل طفلهما قد رأت خاتم فأعجبها لكي تلبسه في هذا العيد، فقال: ولماذا الثمانون ريال؟ قال: لهذه المرأة قد أخذت خاتمًا، فصرخ بأعلى صوته وقال: العجوز لا تحتاج إلى الذهب، فألقت الأم الخاتم وانطلقت إلى السيارة تبكي من عقوق ولدها، فعاتبته الزوجة قائلة، لماذا أغضبت أمك؟ فمن يحمل ولدنا بعد اليوم؟! ذهب الابن إلى أمه وعرض عليها الخاتم فقالت: والله، ما ألبس الذهب حتى أموت، ولك يا بني مثله، ولك يا بني مثله.
هذه صورة من صور العقوق، يدخل الزوج وهو يعيش مع والديه أو هما يعيشان عنده، يدخل البيت عبوسَ الوجه مكفهّر الجبين، فإذا دخل غرفة نومه سمعت الأم الضحكات تتعالى من وراء باب الحجرة، أو يدخل ومعه هدية لزوجه فيعطي زوجته ويدع أمه. هذا نوع من العقوق.
ويا أخي المسلم، من أحق بالبر: المرأة التي هي سبب وجودك والتي حملتك في بطنها تسعة أشهر وتألمت من حملك وكابدت آلام وضعك، بل وغذتك من لبنها وسهرت ونمت، وتألمت لألمك وسهرت لراحتك وحملت أذاك وهي غير كارهة، وتحملت أذاك وهي راضية، فإذا عقلت ورجت منك البر عققتها وبررت امرأة لم تعرفها إلا سنةً أو سنتين أو شهرًا أو شهرين.
وهذه قصة حصلت في إحدى دول الخليج وقد تناقلتها الأخبار، قال راوي القصة: خرجت لنزهة مع أهلي على شاطئ البحر، ومنذ أن جئنا هناك وامرأة عجوز جالسة على باسط صغير كأنها تنتظر أحدًا، قال: فمكثنا طويلاً حتى إذا أردنا الرجوع إلى دارنا وفي ساعة متأخرة من الليل سألت العجوز فقلت لها: ما أجلسك هنا يا خالة؟! فقالت: إن ولدي تركني هنا وسوف ينهي عملاً له وسوف يأتي، فقلت لها: لكن يا خالة الساعة متأخرة ولن يأتي ولدك بعد هذه الساعة، قالت: دعني وشأني وسأنتظر ولدي إلى أن يأتي، وبينما هي ترفض الذهاب إذا بها تحرك ورقة في يدها، قال: فقلت لها: يا خالة، هل تسمحين لي بهذه الورقة؟ يقول في نفسه: علِّي أجد رقم الهاتف أو عنوان المنزل، اسمعوا ـ يا إخوان ـ ما وجد فيها، إذا هو مكتوب: إلى من يعثر على هذه العجوز نرجو تسليمَها لدار العجزة عاجلاً.
نعم أيها الإخوة، هكذا فليكن العقوق، الأم التي سهرت وتعبت وتألمت وأرضعت هذا جزاؤها!! من يعثر على هذه العجوز فليسلمها إلى دار العجزة عاجلاً. هذا جزاء الأم التي تحمل في جنباتها قلبًا يشع بالرحمة والشفقة على أبنائها، وقد صدق الشاعر حين وصف حنان قلب الأم بمقطوعة شعرية فقال:
أغرى امرؤ يومًا غلامًا جاهلاً بنقوده كيما يحيق به الضرر
قال: ائتني بفؤاد أمك يا فتى ولك الجواهر والدراهم والدرر
فأتى فأغرز خنجرًا في قلبها والقلب أخرجه وعاد على الأثر
ولكنه من فرط سرعة هوَى فتدحرج القلب المعفر بالأثر
ناداه قلب الأم وهو معفّر: ولدي حبيبي هل أصابك من ضرر
إني أدعوكم جميعًا ـ أيها الإخوان ـ أن لا تخرجوا من هذا المسجد المبارك إلا وقد عاهدتم الله أنه من كان بينه وبين والديه شنآن أو خلاف أن يصلح ما بينه وبينهم، ومن كان مقصرًا في بر والديه فعاهدوا الله من هذا المكان أن تبذلوا وسعكم في بر والديكم، ومن كان برًا بهما فليحافظ على ذلك، وإذا كانا ميتين فيتصدق لهما ويبرهما بدعوة صالحة أو عمل صالح يهدي ثوابه لهما.
وأما أنت أيها العاق، فاعلم أنك مجزي بعملك في الدنيا والآخرة، يقول العلماء: كل معصية تؤخر عقوبتها بمشيئة الله إلى يوم القيامة إلا العقوق فإنه يعجل له في الدنيا، وكما تدين تدان.
ذكر العلماء أن رجلاً حمل أباه الطاعن في السن وذهب به إلى خربة فقال الأب: إلى أين تذهب بي يا ولدي؟ فقال: لأذبحك، فقال: لا تفعل يا ولدي، فأقسم الولد ليذبحنّ أباه، فقال الأب: فإن كنت ولا بد فاعلاً فاذبحني هنا عند هذه الحجرة فإني قد ذبحت أبي هنا، وكما تدين تدان.
اللهمّ أعنا على برّ والدينا، اللهم وفق الأحياء منهما واعمر قلوبهما بطاعتك، ولسانهما بذكرك، واجعلهم راضين عنا، اللهم من أفضى منهم إلى ما قدم فنور قبره، واغفر خطأه ومعصيته، اللهم اجزهما عنا خيرًا، اللهم اجزهما عنا خيرًا، اللهم اجمعنا وإياهم في جنتك ودار كرامتك، اللهم اجعلنا وإياهم على سرر متقابلين، يسقون فيها من رحيق مختوم ختامه مسك.
ــــــــــــــــــــ(67/211)
...
الزواج العرفي
...
...
2911
...
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
...
...
الكبائر والمعاصي, النكاح, قضايا الأسرة
...
عبد الحي يوسف
...
...
الخرطوم
...
...
...
غير محدد
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- الشريعة معناها تحقيق مصالح العباد. 2- إباحة النكاح والحث على تسهيل وسائله. 3- الأنكحة المحرمة والفاسدة. 4- انتشار النكاح العرفي. 5- أدلة تحريمه والفرق بينه وبين النكاح الشرعي. 6- دواعي انتشار هذا النكاح وأسبابه.
الخطبة الأولى
أما بعد: فإن أصدق الحديث كلام الله تعالى, وخير الهدي هدي محمد , وشرَّ الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالة في النار, وما قلّ وكفى خيرٌ مما كَثُر وألهى, وإنّ ما توعدون لآتٍ وما أنتم بمعجزين.
أما بعد: أيها المسلمون، عباد الله، فإنّ شريعة الإسلام قد جاءت بإباحة كل حلالٍ طيب, وتحريم كل ضارٍ خبيث؛ كما قال رسول : ((بُعثت بالحنيفية السّمحة)).
كان دينه صلوات ربي وسلامه عليه قائمًا على الحنيفية في العقائد ملّة إبراهيم عليه السلام، وعلى السّماحة في الشرائع، فليس في شريعة الإسلام ما هو في غير نطاق طاقة العبد, لاَ يُكَلّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا [البقرة:286]، وليس في شريعة الإسلام حرج ولا تكليفٌ بما لا يُطاق, بل شريعة الإسلام مبناها على اليسر, مبناها على السهولة, مبناها على الحكمة، ما أباح الله شيئًا من المطاعمِ والمشارب والملابس والمراكب والمناكح وغير ذلك إلا لأنّه نافعٌ طيّب, ولا حرّم علينا شيئًا إلا لأنّه ضارٌ خبيث.
ومما أباحته شريعة الإسلام ورغّبت فيه وحثّت عليه وأمرت بتيسير السُّبل الموصلة إليه الزواج الشرعي الذي يحصل به غضُّ البصر وإحصان الفرج وحفظ النسل وإغناء النفس وقضاء الوَطَر وغير ذلك من المنافع العظيمة، قال الله عز وجل: وَأَنْكِحُواْ الأيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِن يَكُونُواْ فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [النور:32], وقال رسول الله : ((تناكحوا تناسلوا، فإني مكاثرٌ بكم الأنبياء يوم القيامة)), وصحّ عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أنّه قال لتلميذه سعيد بن جُبير رحمه الله: تزوّج فإنّ خير هذه الأمة أكثرها نساءً، يعني بذلك رسول الله والذي قال: ((النكاح من سنتي, فمن رغب عن سنتي فليس مني)).
هذا الزواج الشرعي مطلوبٌ منّا ـ أيها المسلمون عبادَ الله ـ أنْ يحثّ بعضنا بعضًا عليه, وأنْ يأمر بعضنا بعضًا به, لأنّ الله تعالى أمرنا, ولأنّ نبينا حثّنا وبيّن أنّ هذا النكاح سببٌ للإغناء: ((ثلاثةٌ حقٌ على الله عونهم: المجاهد في سبيل الله, والناكح يريد العفاف, والمكاتب يريد الأداء)). هذا النكاح تقوى به الأواصر, وتعظم به العلاقات بين المؤمنين والمؤمنات, وتنتُج منه الذرية الصّالحة التي تعمُر الأرض بطاعة الله, تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر.
لمّا كان هذا النكاح بهذه المنزلة العظيمة وبهذه المكانة الجليلة فإنّ شريعة الإسلام قد سنت فيه أحكامًا ووضعت له ضوابط وحدّت له حدودًا، فليس كلُّ نكاحٍ صحيحًا, وليس كلُّ زواجٍ يُعدّ شرعيًا, بل لا بدّ من أركان, لا بدّ من شروط, إذا اختلت فإنه يقعُ فاسدًا, يقعُ باطلاً, لا تترتب عليه آثاره, ولا يحل الإقامة عليه.
أيها المسلمون، عباد الله، مما أجمع عليه أهل الإسلام أنّ نكاح التحليل حرام, وأنّ نكاح المُتعة حرام, وأنّ نكاح الشِّغار حرام, إلى غير ذلك من أنكحة باطلة اتفق على حرمتها أهل الإسلام، قد تأخذ صورة الزواج الشرعي لكنها في حقيقتها تحايل على شرع الله, مسافحةٌ، سفحٌ لماء الحياة في غير ما أحل الله.
أما نِكاح التحليل فهو ما وقع فيه كثيرٌ من الناس إذا ما طلق الرجل امرأته ثلاثا وعلم يقينًا أنها قد صارت عليه حرامًا لا تحل له من بعد حتى تنكح زوجًا غيره, فإنّ هذا الإنسان يعمد إلى رجلٍ آخر يتّفق معه على أنْ يتزوج هذه المرأة المطلّقة حينًا من الدهر، يمكث معها يومين أو ثلاثة أو أسبوعًا أو شهرًا, ثم بعد ذلك يطلّقها, لترجع إلى زوجها الأول الذي طلّقها ثلاثًا بعدما تنقضي عدتها من الثاني, هذا النكاح حرام, وهو باطل، قال رسول الله : ((ألا أنبئكم بالتيس المستعار: هو المحلل, لعن الله المحلِّل والمحلَّل له)).
وكذلك نكاح المتعة, وهو الذي أجمع أهل الإسلام على بُطْلانِهِ, ولا يُجيزه ولا يمارسه إلا الروافض الذين شاقوا الله ورسوله, وفارقوا جماعة المسلمين في كثير من الأصول والفروع. نكاح المتعة هو النكاح المؤقت لمدّة, أنْ يتزوج الرجل المرأة لمدّة معلومة ينصّ عليها في العقد, أنْ ينكحها أسبوعًا أو شهرًا أو سنةً ونحو ذلك, هذا النكاح قد حرمه رسول الله فأمر مناديًا ينادي يوم خيبر: ((إنّ الله ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحُمُر الأهلية, وإنّ نكاح المتعة حرام إلى يوم القيامة))، نكاح المتعة محرمٌ تأبيدًا، لا يُمارسُه من له نصيبٌ من دينٍ أو حظٌّ من عقل.
أما نكاح الشّغار فهو أنْ يُنكحَ الرجلُ الرجلَ بنته على أنْ ينكحه الآخرُ بنته، والنكاح خالٍ من المهر, شاغرٌ مِنْ الصَدَاق, يقول له: زوجني ابنتك على أنْ أزوجك ابنتي, أو زوجني أختك على أنْ أزوجك أختي, ثم يسقطان المهر، فيكون كل بُضعٍ مهرًا للبُضع الآخر, هذا أيضًا حرام باتفاق أهل الإسلام، قال رسول الله : ((لا شِغار في الإسلام)).
أيها المسلمون، عباد الله، ظاهرةٌ تفشّت, نابِتةٌ نبتت, أقوالٌ حُكِيَت في الآونة الأخيرة, ممارسةٌ فظيعة وقع فيها بعض الناس, شبّانٌ وشابّات, فتيانٌ وفتيات, في الجامعات وغير الجامعات, وهو ما اصطُلح على تسميته بالنكاح العُرفي, كثُر سؤال الناس عنه واستفتاؤهم حوله, كلٌ يسأل: أحلالٌ هو أم حرام؟ ما صورته؟ ما حقيقته؟
صورته أنْ يذهب الفتى إلى الفتاة, الشابُّ إلى الشابّة, ويريد أنْ يُخادِنها في الحرام, يُريد أنْ يُواقِعها في غير ما أحل الله, في غير الزواج الشرعي الذي أباحه الله, لكنه لا يريد أنْ يُسمّيَه زنا, بل يريد أنْ يتحايل, يريد أنْ يُخادِع, فيقول لها: زوجيني نفسك، فتقول له: زوجتك, فيقدم لها مهرًا شيئًا يسيرًا من نقود، أو خاتمًا من فضةٍ أو ذهب, ثم بعد ذلك تُكتب ورقة يشهد عليها اثنان من أصحابهما، زملائهما، ممن كانوا على شاكلتهما. تُكتب ورقةٌ من نسختين تكون إحداهما عند الشاب, والأخرى عند الفتاة، ثم بعد ذلك يواقِعها حتى يُرضيَ نزْوته ويُشبع شهوته ويَقضيَ وَطَره, ثم بعد ذلك يقول لها: أنت طالق. هل هذا نكاحٌ شرعي؟ هل هذا زواجٌ إسلامي؟
الجواب: أيها المسلمون، عباد الله، إنّ هذه المعاملة وتلك الفعلَة هي من جنس ما أخبرنا عنه رسول الله : ((يأتي علي الناس زمان يشربون الخمر يُسمّونها بغير اسمها. يأتي على الناس زمان يأكلون الربا يُسمّونه بغير اسمه)), هذا هو الواقع الحاصل الآن, كثير من الأمور المحرمة مُورِست بأسماء موهمة, فيسمون الخمر: شراب الراحة أو مشروبات روحية, ويسمون الرّبا: فوائد أو عائدًا استثماريًا, ويُسمون الحكم بغير ما أنزل الله وتبديل الشريعة: سياسة, إلى غير ذلك من الأباطيل, الجهاد في سبيل الله جعلوه إرهابًا, التزام الشرع في النفس جعلوه تطرفًا, وقل مثل ذلك في أمورٍ كثير.
وهكذا أيها المسلمون عباد الله، ينبغي أن يُعلم أنّ هذا الذي يُمارسُ في أيّامنا هذه باسم النكاح العُرفِي أو الزواج العُرفِي هو زِنًا حَرّمه الله ورسوله، لا يحل لمسلم ولا مسلمة أنْ يقع فيه ولا أنْ يُمارسَه, لِمَ أيها المسلمون عباد الله؟ لسببين رئيسين:
السبب الأول: أنّ هذا الذي سموه زواجًا تمّ بغير علم الولي, بغير علم وليّ الفتاة, وقد صحَّ عن رسول الله أنّه اشترط الوليّ في صحّة النكاح, وجمهور العلماء على أنّ كلّ زواجٍ خلي من الوليّ فهو باطلٌ باطلٌ باطل. ما الدليل على ذلك؟ الدليل من القرآن أنّ الله عز وجل خاطب بالنكاح الأولياء، يقول سُبحانه: وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ إِذَا تَراضَوْاْ بَيْنَهُم بِالْمَعْرُوفِ [البقرة:232]، هذا الخطاب لك أيها الأب أيها الأخ أيها الجد أيها العم, يا من ولاك الله أمر فتاةٍ مِنْ المؤمنين, إذا طُلّقت هذه الفتاة التي ولِيت أمرها ثم بعد ذلك بعد بلوغ أجلها وانقضاء عدّتها رغب زوجها الذي طلّقها في أنْ يراجعها وكانت هي كذلك راغبةً فلا يحل لك أنْ تمنعها الله عز وجل، يُخاطبك أنت، لأنّ عُقدة النكاح بيدك، أنْت الذي تملك أنْ تُزوِّج, وأنت الذي تَمنع فلا ينعقد الزواج إلا برضاك, يَدلُّ على ذلك سبب نزول هذه الآية وهو ما رواه الإمام البخاري عن معقِل بن يسار رضيَ الله عنه أنّه زوّج أختًا له مِن رجلٍ, فعاش معها ما كتب الله له أنْ يَعيش ثم طلقها، فلما انقضت عِدتُها جاء يَخطِبُها ثانيةً، فقال له معقل: يا لُكَع ـ أي: يا لئيم ـ، أكرمتُك وأفرشتك وزوّجتُك، فلم تصبر عليها حتى طلّقتها ثم جئت تخطبُها! لا والله لا تعود إليك أبدا، يقول رضي الله عنه وكان الرجل لا بأس به، مرْضيٌ في دينه وخُلُقه, وكانت المرأة تُريد أنْ ترجع إليه, فلمّا بلغ ذلك رسول الله نزلت الآية: فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ إِذَا تَراضَوْاْ بَيْنَهُم بِالْمَعْرُوفِ [البقرة:232]، فقلت: الآن أفعل يا رسول الله. رجع إلى حكم الله, خضع لشرع الله, زوّج أخته ممن طلّقها رغم أنّ ذلك كان يُخالف رغبته.
ثم من السنة في حديث أبي موسى رضي الله عنه قال رسول الله : ((لا نكاح إلا بوليٍّ وشاهدي عدل)) رواه أصحابُ السنن، ومن حديث أمّنا عائشة رضي الله عنها قال رسول الله : ((أيُما امرأةٍ نكحت نفسها بغير إذن وليِّها فنِكاحُها باطل, فنِكاحُها باطل, فنِكاحُها باطل, فإنْ دخل بها فله المهر بما استحل من فرْجها, فإنْ اشتجروا فالسلطانُ وليُّ مَنْ لا وليَّ له))، ومِن حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله : ((لا تُزوّجِ المرأة المرأة, ولا تزوجِ المرأة نفسها, فإنّ التي تزوج نفسها هي الزانية)). ما بقي مقالٌ لأحد بعد ما قاله رسول الله , يُخبر أنّ النكاح بغير إذن الولي نكاحٌ باطل, وأنّ المرأة التي تُباشر العقد لنفسها زانية.
وكلٌّ منّا ينبغي أنْ يسأل نفسه أيها المسلمون عباد الله: أيرضى هذا لابنته؟ أيرضى هذا لأخته؟ أنْ تكون في الجامعة، أو أنْ تكون في المصلحة، أو في الوزارة, ثم بعد ذلك تتفق مع رجلٍ آخر فتتزوجه، والوليُّ لا علم له, هذا والله حرام.
ثم سبب ثانٍ يُقضى به بفساد هذا النكاح, إنّه نكاح سرٍّ, نِكاحٌ يتواطأ مَنْ حضره على كتمانه, هذا الفتى يلقى تلك الفتاة على غير مرأى من الناس, الشهود الذين حضروه يكتمونه, ويتواصون بأن لا يخبروا أحدًا, يلتقون كما تلتقي اللصوص في خفيةٍ مِنْ الناس, لِمَ؟ لأنّهم يعلمون أنهم يُمارسُون إثمًا, ويقترفون ذنبًا, ويحتقبون وزرًا، الإثم ما حاك في نفسك وكرهت أن يطّلع عليه الناس.
أما النّكاح الشرعي, النّكاح الطيب, النّكاح المباح, فكما قال رسول الله : ((أعلنوه في المساجد واضربوا عليه بالدفوف)), يُعلن في المسجد بمشهد مِنْ المسلمين وحضورٍ مِنْ المؤمنين أنّ فلان بن فلان قد نكح فلانة بنت فلان, ثم بعد ذلك يُضرب بالدفوف, ويعلم الناس كلهم أجمعون أنّ فلانًا تزوّج مِنْ فلانة. أما هذا فإنّه يكون سرًّا مَنْ غير إشهارٍ ولا إعلانٍ, ولا يَعرِف به إلا منْ حضروه.
ثم إنّه ـ أيها المسلمون عباد الله ـ يُمكن أنْ يُضاف لهذين السببين سببٌ ثالث: وهو أنّ النّكاح لا يصحُّ إلا بشهودٍ عدولٍ, لا بد أنْ يكون الشهود عدولاً, موصوفين بالعدالة, ما عُرِف عنهم سببُ منْ أسباب الفسق, ولا خارمٌ مِنْ خوارم المروءة, أما هؤلاء الذين يشهدون على هذا النوع مِنْ النكاح فإنّهم في الأعم الغالب يكونون فسقةً فجرةً، لا يرجون لله وقارًا, لا يعرفون شرعًا ولا دينًا, لا يحلُّون حلالاً, ولا يُحرمون حرامًا, ولا يَنضبطون بضابطٍ مِنْ الكتاب ولا مِنْ السنة.
أيها المسلمون، عباد الله، الوليُّ شرطٌ في صِحّة النّكاح, مَنْ الوليّ؟ الأبُ هو ولي المرأة, فإنْ لم يكن فأبوه وإنْ علا، فإن لم يكن فابنها, ثم ابنه وإنْ نزل, ثم الأخُ الشقيق وابنه, ثم يأتي بعد ذلك العُمومة, فإنْ كانت امرأةٌ ليس لها أبٌ ولا أخٌ لا عمٌّ, لا يوجد لها وليٌ قط فالسلطان وليُّ مَنْ لا وليّ له, كما أخبر رسول الله . والسؤال الذي يطرح نفسه أيها المسلمون عباد الله: ما الذي أوصلنا إلى هذا الدّرْك؟ وما الذي دفع بطائفة مِنْ شبابنا وفتياتنا إلى هذه الممارسات القبيحة الشنيعة الفظيعة التي ما عَرفها أسلافنا ولا كانت في أجدادنا، وإنّما هي نابتةٌ نبتت, وظاهرةٌ تفشت؟ ما الذي حَمَلَ عليها؟ الذي حمل عليها ـ أيها المسلمون عباد الله ـ جُملة أسباب:
أولها: أنّ كثيرًا من الشباب فقد الأمل, فإنه يرى أنّ الزواج الشرعي الزّواج المعروف دونه عقباتٌ كؤود, دونه قيودٌ وسدود, لا بدّ أنْ يتخطاها, لا بد من مالٍ يُبذل, لا بد مِن ملابسَ تُجلَب, لا بد من حفلاتٍ تُقام, لا بد مِن طعام يُوزّع, لا بد مِن نفقاتٍ باهظة, وهذا كلّه مما خالفنا فيه سُنة رسول الله الذي علّمنا أنّ أكثرهنّ بركةً أيسرهنّ مؤونةً. إنّ رسول الله كان ينكح نساءه رضوان الله عليهن في مظاهر خفيفة، في طعام يسير, ربّما أولمَ في بعض زيجاته بخبزٍ ولحم, ربّما أولم في بعض زيجاته بسويقٍ وتمر, السويق شراب الشعير وتمرٌ يُوزع على الناس, ربّما في بعض زيجاته أمر بالأنطاع فبُسطت, وأمر الصحابة بأنْ يأتي كل منهم بما يستطيع, فيأتي هذا بقبضةٍ مِنْ تمر, وذاك بشيءٍ مِنْ أقِط, وهذا بقليلٍ مِنْ خبز, يوضع هذا على النطْع ـ الجِلد ـ ثم يأكلون جميعًا، ويُعلم بذلك أنّ رسول الله محمدًا قد تزوّج فلانة بنت فلان.
هكذا كانت أمورهم يسيرة, مظاهر خفيفة, يحصُل بها الإعفاف والإعلان وتحليل الحلال وتقوية الروابط وتوثِقَة الأواصر, ويعم الخير بإذن الله. لكنّ الحال غيرُ الحال، على ما بِنا مِنْ فاقةٍ وجهل, على ما بنا مِن شدةٍ وعُسر, زدنا الأمر تعسيرًا بهذه المظاهر المتكلفة.
ثم سببٌ ثانٍ أيها المسلمون عباد الله: أنّ كثيرًا مِنْ الأولياء لا يتّقي الله في بناتهِ, كثيرٌ من الآباء لا يتّقي الله في بناتهِ, قد تبلغ البنت مِنْ الكِبَر عِتيّا ويشتعل رأسها شيبًا وتتخطى الثلاثين وتُعاني ما تُعاني, ثم بعد ذلك يشترطُ شروطًا ويضع قيودًا, لا بدّ أنْ يأتيها رجل يخطبها بمنزلة كذا, ومكانة كذا, مِن قبيلة كذا, على أنْ يأتي مِن الملابس بكذا وكذا, وبالذهب بكذا وكذا, وكثيرٌ مِن الرجال الزوجة ـ أمُّ الفتاة ـ هي التي تتحكم فيه, وهي التي توجّه قراره، وهي التي تضبط أمره، فإذا كان أغنياؤُكم بخلاءَكم وأمراؤُكم شرارَكم وأمرُكم إلى نسائكم فبطن الأرض خيرٌ لكم مِن ظهرها، إذا كان الرجل سيُسلم أمر بناته إلى الأم, هي التي تقبل وهي التي ترفض, هي التي تضع وهي التي تفرض فبطن الأرض خيرٌ مِن ظهرها.
الله عز وجل ما جعل الولاية بيد المرأة، جعلها بيدك أنت أيها الرجل, واجبٌ عليك أنْ تسعى في تزويج بناتك, واجبٌ عليك أنْ تسعى في إحصانهنّ, في إعفافهنّ, وإلا كثيرٌ من الناس يقول: ما تزال صغيرة, ويبلغ قلّة الدين ببعض الرجال أنْ يتقدم إلى بنته رجلٌ ذو دينٍ وخُلُق, وربما يكون ذا وظيفةٍ ومالٍ يتقدم لخطبتها, يقول له: لا مانع عندنا، ولكن بشرط أنْ تنتظر إلى تُكمل دراستها الجامعية. وقد تكون دراستها الجامعية بقيت عليها أربع سنوات أو خمس سنوات, لِمَ يا عباد الله؟ حرامٌ والله أنْ نؤخِّر، قال رسول الله : ((إذا جاءكم مَنْ ترضون دينه وخُلقهُ فزوّجوه, إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفسادٌ كبير)).
سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه لمّا مات زوج ابنته حفصة وهو السكران بن عمرٍ رضي الله عنه, فانقضت عدتها ما مكث عمر بن الخطاب في بيته يقول: أنا الشريف القرشي, أنا الأميرُ العدوي, أنا عمر بن الخطاب, فليأتِ الخاطب متى يأتي. لا والله، سعى في تزويج ابنته, سعى إلى الرجال الصالحين, سعى إلى المؤمنين الطيبين, ذهب إلى أبي بكر قال: يا أبا بكر، إنْ شئت زوّجتك حفصة، فسكت أبو بكر. ذهب إلى عثمان فقال له: يا عثمان، إن ْشئت زوجتُك حفصة، قال عثمان: لا حاجة لي فيها. يأتي عمر رضي الله عنه مهمومًا مغمومًا, وهكذا الرجل الصالح يكون مهمومًا مغمومًا بأمر ابنته, يُريد تزويجها, يريد لها أنْ تعيش في كنف رجلٍ صالح, في بيتٍ طيّب, يريد لها الإحصان والعفاف, يريد لها الاستقامة والصلاح, جاء عمر مهمومًا مغمومًا, فلقيه الرؤوف الرحيم الرسول الكريم عليه مِن الله أفضل الصلاة وأتم التسليم فقال له: ((ما شأنُك يا عمر؟)) قال: يا رسول الله، عَرضتُ حفصة على عثمان فأبى, وعرضتها على أبي بكر فسكت، فكنت على أبي بكر أوجد مني على عثمان، فقال له رسول الله : ((يتزوج حفصة مَنْ هو خيرٌ مِنْ عثمان ـ يعني نفسه عليه الصلاة والسلام ـ، ويتزوج عثمانُ مَنْ هي خيرٌ مِنْ حفصة)) يعني ابنته أمُّ كلثوم رضي الله عنها, فتزوج النبي عليه الصلاة والسلام حفصة بنت عمر بن الخطاب رضي الله عنهما وصارت أمًّا للمؤمنين وزوجة للنبي الكريم عليه الصلاة والسلام.
أيها المسلمون عباد الله، هؤلاء قدوتنا, أسوتنا, ما ينبغي أنْ نُعسّر الأمر, وأنْ نضع الشروط, وأنْ نتشدد ونتنطّع لأننا إنْ لم نفعل, إنْ لم نُيسّر هذا الزواج تكون فتنة في الأرضِ وفسادٌ كبير, مِنْ جنس ما نرى, فتنة في الأرض وفساد كبير، زواجٌ عُرفي, زنًا صريح, كثرة لُقطاء.
يُحدثني بعض من يقوم على دار الأيتام أنّه في الشهر الذي مضى وحده ثمانية وخمسون من الأطفال اللُقطاء في دار رعاية الأيتام ماتوا نتيجة سوء التغذية وقلّة الرعاية, مِنْ أين هؤلاء الأطفال اللُقطاء؟ مِنْ أين أتوا؟ مِنْ جهة أنّ رجلاً فاجرًا لقي امرأة فاجرة, فوضع فيها بذرة حرامًا وأراق ماء الحياة على غير وجهه, فكانت هذه الثمرة التي ستشكو إلى ربها ظلم العباد.
نسأل الله أنْ يردّنا إلى دينه ردًا جميلاً, نسأل الله أن يردّنا إلى دينه ردًّا جميلاً، وأنْ يُحصّن فروجنا, وأنْ يستر عوراتنا, وأن يحفظ بناتنا, وأن يصون أعراضنا, وأنْ يصرف عنا شرّ كلّ ذي شرّ هو آخذ بناصيته, والحمد لله رب العالمين.
الخطبة الثانية
الحمد لله ربّ العلمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين, وأشهد أن لا إله إلاّ الله إله الأولين والآخرين, وأشهد أنّ سيّدنا ونبينا محمدًا عبدُ لله ورسوله النبي الأمين, بعثه الله بالهدى واليقين, لينذر من كان حيًّا ويحق القولُ على الكافرين, اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى إخوانه الأنبياءِ والمرسلين وآل كلٍ وصحب كلٍ أجمعين, وأحسن الله ختامي وختامكم وختام المسلمين وحشر الجميع تحت لواء سيد المرسلين.
أما بعد: أيها المسلمون، عباد الله، فاتقوا الله حقّ تُقاته، وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور:31].
واعلموا ـ أيها الإخوة في الله ـ أنّ مِن الأسباب التي أدت إلى شيوع هذه الظاهرة وتفشي هذا الأمر الخطير ما هو حاصلٌ من اختلاطٍ للذكور بالإناث في الجامعات, في المؤسسات, في الوزارات, في الشّركات, في وسائل المواصلات, في غير ذلك مِن المرافق والخدمات، الرجال مع النساء، ترتفع الكُلفة ويزول الحجاب, ويحصل ما حرّم الله عز وجل مِن أصنافٍ كثيرة وأنواعٍ شهيرة مِن زنا أو زواجٍ عُرفيٍ أو غير ذلك, فالاختلاط درجة أُولى في سُلّم الفساد, ينبغي أنْ يُمنع وأنْ يُحال بين الناس وبينه، كما فعل سيّدنا رسول الله ؛ جعل للنساء في الصلاة صفوفًا, وللرجال صفوفًا, جعل للنساءِ بابًا، وللرجال بابًا, وأمر بالمباعدة بين أنفاس الرجال والنساء.
أيضًا مِنْ الأسباب التي أدت إلى هذا المنكر هذه المسلسلات وهاتيك الأفلام وتلك المسرحيات والتمثيليات التي تُعرض على الناس فتُزيّنُ الفاحشة وتُشيعها في الذين آمنوا, هذا سببٌ عظيمٌ من أسباب الفساد.
ثم مِن الأسباب كذلك أنّ الناس قد أماتوا سُننًا عظيمةً سنّها رسول الله , أماتها الناس وضيّعوها. مِنْ سنّة رسول الله تيسير الزواج, من سنّة رسول الله أنّه لا مانع مِنْ أنْ يعرض الرجل ابنته على الرجل الصالح الذي يرجو برّه ويرجو خيره ورِفدَه. ومن سنن رسول الله أن يتزوج الرجل اثنتين وثلاثًا وأربعًا, حارب الناس ذلك عن طريق المسلسلات والقَصَصِ والحكايات والكتب والمجلات والنّكات التي تتداولها الألسُن, حاربوا سنّة التعدّد التي أمر بها رسول الله ، بل أمر الله بها في كتابه: فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مّنَ النّسَاء مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَواحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ [النساء:3], حارب الناس هذه الشريعة فأبدلهم الله عز وجل بهذه الأحوال الوضيعة, هذه الأحوال التي يضجّ مِنها الناس ويتألمّون منها, لكنهم لا يستطيعون لها علاجًا, العلاج في شرع الله, العلاج في دين الله.(67/212)
وإيّاك يا عبد الله، وإيّاك أيها الشاب أنْ تبدأ حياتك الزوجيّة بمعصية الله عزّ وجل. كثير مِن الناس إذا بدأ حياته الزوجيّة يبدأ باختلاط وغناءٍ فاحشٍ وموسيقى يتأذى مِنها الجيران والخلان والأصحاب. كثيرٌ مِن الناس يبدأ حياته الزوجية بمصاريفَ باهظة ونفقاتٍ عالية وديونٍ قاتلة, ثم بعد ذلك يبدأ في الشكوى حيث لا تنفعه الشكوى، وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِى فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبّ لِمَ حَشَرْتَنِى أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا قَالَ كَذالِكَ أَتَتْكَ ايَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذالِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى [طه:124-126]. قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (أيها الناس، لا تغالوا في المهور, فإنها لو كانت مكرمةً في الدنيا أو منزلةً في الآخرة, لكان أولى الناس بها نبيكم , ما تزوج إحدى نسائه على أكثر مِن ثنتي عشرة وقيّة)، أكثر نسائه أم حبيبة رضي الله عنها، كان مهرها اثنتي عشرة وقية, وكانت البساطة والزهد السمة الغالبة, يخطب رسول الله أمّ سلمة فتقول له: يا رسول الله، ليس أحدٌ مِن أوليائي شاهد، يقول لها: ((ليس مِن أوليائك شاهدٌ ولا غائبٌ إلا ويرضى هذا الزواج))، لن يرفضه أحد ولن يأباه أحد، ماذا تقول أم سلمة رضي الله عنها؟ تقول لولدها، لصغيرها عمر: قم ـ يا عمر ـ زوّج رسول الله . ما باشرت العقد بنفسها رضي الله عنها, وفي الوقت نفسه ما تنطعت وقالت: لا حتى يحضر العمّ مِن السفر وحتى يأتي الأب مِن كذا، قم ـ يا عمر ـ زوج رسول الله .
لمّا خطب أبو طلحة الأنصاري أم سليم رضي الله عنهما قالت أم سليم: يا أنس، قم زوج أبا طلحة، تقول لولدها أنس: يا أنس، قم زوّج أبا طلحة. هكذا كانت أمورًا يسيرة, حياةً مضبوطة بضوابط الشرع, فأثمرت خيرًا كثيرًا في العاجل والآجل, وما زلنا نتفيأ تلك الظلال الوارفة, ظلال أصحاب محمدٍ الذين اتبعوا سنته, وعظّموا شريعته, فكانوا أبرّ هذه الأمة قلوبًا, وأعمقها هديًا, وأقلها تكلُّفًا, فاتّبعوهم ـ أيها المسلمون ـ لعلكم تفلحون.
ــــــــــــــــــــ(67/213)
...
بر الوالدين
...
...
3985
...
الأسرة والمجتمع
...
...
الوالدان
...
خالد بن محمد بابطين
...
...
جدة
...
24/6/1424
...
...
مسجد الراجحي
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- أنموذج من البر بالوالدين. 2- وصية الله تعالى ببر الوالدين. 3- بر الوالدين من صفات الأنبياء. 4- عظم منزلة بر الوالدين. 5- فضل بر الوالدين. 6- نماذج من بر السلف الصالح. 7- صور من العقوق. 8- جريمة العقوق. 9- الأم أحق بالبر.
الخطبة الأولى
حدث رسول الله أصحابه يومًا عن رجل من بني إسرائيل أنه قال: اللهم كان لي أبوان شيخان كبيران، وفي رواية: أبوان ضعيفان فقيران ليس لهما خادم ولا راع ولا ولي غيري، فكنت أرعى لهما بالنهار وآوي إليهما بالليل، وكنت لا أُغْبقُ قبلهما أهلاً ولا مالاً، فنأى بي في طلب شيءٍ يومًا فلم أُرِحْ عليهما حتى ناما، فحلبت لهما غبوقهما فوجدتهما نائمين، وكرهت أن أُغْبِقَ قبلهما أهلاً أو مالاً، فلبثت والقدح على يدي أنتظر استيقاظهما وفي رواية: وأهلي وعيالي يتضاغون من الجوع، وفي رواية أخرى: والصبية يتضاغون عند قدمي حتى برق الفجر، فاستيقظا فشربا غبوقهما.
أنموذج من البر عجيب، يكاد المرء يظنه ضربًا من الخيال لولا أن المخبر به هو الصادق المصدوق .
أيها الإخوة، بر الوالدين وصية الله ربّ العالمين للإنسان: وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ [لقمان:14]، وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا [الأحقاف:15]، وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [العنكبوت:8].
بر الوالدين من صفات الأنبياء، فهذا عيسى عليه السلام قال عن نفسه: وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا [مريم:32]، وأثنى الله على يحيا بن زكريا عليهما السلام فقال: وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا [مريم:14]، وهذا إسماعيل عليه السلام وما كان من شأنه مع أبيه في قصة الذبح: قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ الصَّابِرِينَ [الصافات:102].
بل انظر إلى شيخ الأنبياء وأبيهم خليل الرحمن في قصته مع أبيه آزر عابد الأوثان، بل صانعها وناحتها، انظر كيف تلطف معه أيما تلطف، وكيف خاطبه بأرق عبارة تفيض برًا وإحسانًا: إِذْ قَالَ لأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنْ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا يَا أَبَتِ لا تَعْبُدْ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنْ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا [مريم:42-45].
وهذا سيد الأنبياء وخاتمهم كان من خبره ما جاء في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: زار النبي قبر أمه فبكى وأبكى من حوله، فقال: ((استأذنت ربي في أن أستغفر لها فلم يُؤذن لي، واستأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي))، وقال أبو الطفيل : رأيت رسول الله يقسم لحمًا بالجعرانة وأنا غلام شاب، فأقبلت امرأة، فلما رآها رسول الله بسط لها رداءه فقعدت عليه فقلت: من هذه؟ قالوا: أمّه التي أرضعته.
أيها المؤمنون، بر الوالدين قرنه الله بأعظم وأول واجب على المكلف: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [البقرة:83]، وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [النساء:36]، وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [الإسراء:23].
بر الوالدين مقدم على الجهاد في سبيل الله الذي هو ذروة سنام الإسلام، عن معاوية بن جاهمة السلمي قال: أتيت رسول الله فقلت: يا رسول الله، إني كنت أردت الجهاد معك أبتغي بذلك وجه الله والدار الآخرة، قال: ((ويحك، أحيّة أمك؟)) قلت: نعم، قال: ((ارجع فبرّها))، قال: ثم أتيته من الجانب الآخر فقلت: يا رسول الله، إني كنت أردت الجهاد معك أبتغي بذلك وجه الله والدار الآخرة، قال: ((ويحك، أحية أمك؟)) قلت: نعم يا رسول الله، قال: ((فارجع إليها فبرها))، ثم أتيته من أمامه فقلت: يا رسول الله، إني كنت أردت الجهاد معك أبتغي بذلك وجه الله والدار الآخرة، قال: ((ويحك، أحية أمك؟)) قلت: نعم يا رسول الله، قال: ((ويحك، الزم رجلَها فثَمَّ الجنة)).
واعلم ـ رحمك الله ـ أن بر الوالدين لا ينتهي بموتهما، فعن أبي أسيد الساعدي قال: فيما نحن عند رسول إذ جاءه رجل من بني سلِمة فقال: يا رسول الله، هل بقي من بر أبويّ شيء أبرّهما بعد موتهما؟ قال: ((نعم، الصلاةُ عليهما والاستغفارُ لهما وانفاذُ عهدهما من بعدهما وصلة الرحِم التي لا توصل إلا بهما وإكرام صديقهما)).
وبر الوالدين يستمرّ في ذرية الإنسان وعقبِه من بعده، عن ابن عمر قال رسول الله : ((بروا آباءكم تبركم أبناؤكم، وعِفّوا تعِف نساؤكم)). كذلك بر الوالدين يزيد في العمر، عن سهل بن معاذ أن رسول قال: ((من بر والديه طوبى له، زاد الله في عمره)).
كتب أحد السلف إلى أبيه رسالة كتب في آخرها: (جُعِلت فداك)، فبكى الوالد وردّ عليه وقال: (لا تكتب هكذا بعد اليوم، فأنت على يومي أصبر مني على يومِك). هكذا الأبوان المستحقّان للبر والصلة. وذكروا أن رجلاً ضرب بمال لم يؤده فلم يعطه، فأتي بولده فضرِب، فجعل الرجل يبكي بكاء الطفل فقالوا له: ما لك؟! فقال: ضرِب جلدي فصبرت، وضرِبَت كبدي فلم أصبر.
هكذا الأب أيها المسلم، يجوع لتشبع، ويعرى لتَلْبَس، ويشقى لتسعد، ويتعب لترتاح، إذا مرضت داواك، وإذا بكيت أرضاك، وإذا ضحكت فرح، وإذا نهضت أتبعك النظر، وإذا جلست أتبعك الدعاء.
أيها الإخوة، لقد فقه الصالحون هذا الأمر فضربوا أروع الأمثلة في بر الوالدين والإحسان إليهما، فهذا ابن عمر يلقى رجلاً من الأعراب بطريق مكة فيسلّم عليه عبد الله ويحمله على حمار كان يركبه ويعطيه عمامة كانت على رأسه، فقال ابن دينار: فقلنا له: أصلحك الله إنهم الأعراب، وإنهم يرضون باليسير! فقال عبد الله: إن أبا هذا كان وِدًا لعمر بن الخطاب، وإني سمعت رسول الله يقول: ((إن أبر البر صلة الولد أهل ود أبيه)). وهذا زين العابدين علي بن الحسين قيل له: إنك من أبرّ الناس بأمّك، ولسنا نراك تأكل معها في صحفة! فقال: أخاف أن تسبق يدي إلى ما سبقت إليه عينها فأكون قد عققتها. وكان طلق بن حبيب لا يمشي فوق ظهر بيت وأمه تحته إجلالاً لها وتوقيرًا. وكان الفضل بن يحيا يُدِْفئ الماء لأبيه وهما في السّجن، فيضع الدلو عند المصباح ويمسكه طوال الليل، فعرف السجان ذلك فأخذ المصباح في الليلة التي بعدها، فجعل الفضل يضمّ الوعاء إلى جلده وبطنه طوال الليل فإذا طلع الفجر كان الماء فاترًا فأعطاه أباه ليتوضأ به. وقال عامر بن عبد الله بن الزبير: لما مات أبي عبد الله ما سألت الله حولاً كاملاً إلا العفو عنه. وهذا ابن عون نادته أمه فأجابها فَعَلا صوته صوتَها فأعتق رقبتين يرى أنهما كفارة لما فعل. وبكى إياس بن معاوية حين ماتت أمه بكاء شديدًا، فقيل له في ذلك فقال: كان لي بابان مفتوحان إلى الجنة فأغلق أحدهما، وحُقّ لعين بكاها. وقال محمد بن المنكدر بات أخي عمر يصلي وبتّ أغمز قدم أمي وما أحبّ أن ليلته بليلتي.
أين هذا ـ عباد الله ـ من شابّ عاق أودع أمّه دار العجزة ولم يزرها حتى تردّت حالتها فطلبت من مسؤول الدار أن يتّصل بولدها لتراه وتقبِّله قبل موتها، فسبقتها دموعها قبل أن تسمع جواب ولدها بالرّفض والاعتذار بضيق الوقت وكثرة الأعمال والأشغال، فلما توفّيت الأم اتصلوا بذلك الابن لإخباره فقال: أكملوا إجراءاتكم الرسمية وادفنوها في قبرها. نعوذ بالله من الحرمان ومن سخط الملك الديان. هكذا صغيرًا بكت عليه إشفاقًا وحذرًا، وكبيرًا بكت منه فرقًا وخوفًا، فهي حليفة همّ وحزن وغم.
يتباكيان ويشكوان جواهما بمدامعٍ تنهل من برحائه
يتجاوبان إذا الرياح تناوحت على الرياح هببن من تلقائه
أيها الإخوة، إن شأن الوالدين عظيم، فمهما اجتهد الإنسان في برهما فلن يبلغ جزاءهما، قال أبو موسى الأشعري : شهد ابن عمر رجلاً يطوف بالبيت قد حمل أمه وراء ظهره يقول:
أني لها بعيرها المذلل إن أذعرت ركابها لم أذعر
فقال: يا ابن عمر، أتراني جزيتها؟ قال: لا، ولا وبزفرة واحدة، ولكنك أحسنتَ، والله يثيبك على الإحسان. وعن زرعة بن إبراهيم أن رجلاً جاء إلى عمر بن الخطاب فقال: يا أمير المؤمنين، إن لي أمًا بلغت الكبر ولا تقضي حاجتها إلا وظهري مطية لها، وأنا أقوم بتوضئتها وأصرف وجهي عنها، فهل أديت حقها وشكرها؟ فبكى عمر ثم قال: إنها صنعت بك ذلك وهي ترجو بقاءك، وأنت تفعله متمنّيًا فراقها بعد حين.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله، عَظُمَ شأنه، ودام سلطانه، أحمده سبحانه وأشكره، عم امتنانه، وجَزَلَ إحسانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله، به علا منار الإسلام وارتفع بنيانه، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى أصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فإن العقوق للوالدين من أقبح ما يقع من الإنسان، ولننظر في كلام السلف لنرى كيف كانوا يرون العقوق. فهذا مجاهد يقول: ما بر والديه من أحدَّ النظر إليهما. وقال كعب: أجد في كتاب الله أن الابن إذا دعاه أبوه فلم يجبه فقد عقّه، وإذا ألجأه أن يدعو عليه فقد عقه، وإذا ائتمنه فخانه فقد عقه، وإذا سأله ما لا يقدر عليه فقد عقه. وسئل الحسن عن العقوق فقال: أن يحرمهما ويهجرهما ويحدّ النظر إليهما، ولو علم الله شيئًا من العقوق أدنى من أفّ لحرمه.
ومن أعظم العقوق ما يحصل من بعض الناس من تفضيل زوجه على أمه وإرضائها بإسخاط أمه، وهذا الأمر قُطبُ كثير من المشكلات الاجتماعية وعمود رحى كثير من الخلافات الزوجية، مع أن المسألة محسومة شرعًا، ومن أراد الله به خيرًا فقهه في الدين، ومن يتق الله يجعل له مخرجًا، فالأم لها حقوق على ولدها، والزوجة لها حقوق على زوجها كفلها لها الشارع، لكنها ـ وربي ـ لا تداني حقوقَ الأم ولا تزاحمها، فافهم هذا ـ يا عبد الله ـ وحذار حذار أن تبعد من أوصاك رسولك بها وجعلها أحقّ الناس بحسن الصحبة، يقول له الصحابي: ثم من؟ فيقول: ((أمك))، فيقول له: ثم من؟ فيقول: ((أمك)).
وما أحسن ما قيل:
فلا تطع زوجةً في قطع والدة عليك يا ابن أخي قد أفنت العمرا
فكيف تنكر أمًا ثقلَك احتملت وقد تمرغت في أحشائها عسرا
وعالجت بك أوجاع النفاس وكم سرت لما ولدت مولودها ذكرا
وأرضعتك إلى الحولين مكملة في حجرها تستقي من ثديه الدررا
ومنك ينجسها ما أنت راضعه منها ولا تشتكي نتنا ولا قذرا
و"قل هو الله" بالآلاف تقرؤها خوفًا عليك وترخي دونك السُتُرا
وعاملتك بإحسان وتربية حتى استويت وحتى صرت كيف ترى
فلا تفضل عليها زوجة أبدًا ولا تدع قلبها بالقهر منكسرًا
والوالد الأصل لا تنكر لتربية واحفظه لا سيما إن أدرك الكبرا
فما تؤدي له حقا عليك ولو على عيونك حج البيت واعتمرا
عباد الله، إن عقوق الوالدين مما تعجّل عقوبته في الدنيا مع ما يكون لصاحبه من نكال وعذاب يوم القيامة. ذُكر عن رجل من السابقين كان له ولد يقال له: منازل، وكان كثير العقوق، وكان أبوه كثيرًا ما ينصحه ويوجهه، ولكنه كان يأبى ذلك كله، حتى كان ذات يوم أن نصحه أبوه فغضب الولد وعلا غضب، فرفع يده ولطم أباه، فغضب الأب من ذلك وأقسم ليأتين البيت العتيق وليتعلقن بأستار الكعبة وليدعوَنَّ على ولده، فخرج الرجل حتى انتهى إلى مكة ودخل البيت الحرام وتعلّق بأستار الكعبة وأنشأ يقول:
يا من إليه أتى الحجاج قد قطعوا عرض المهامه من قرب ومن بُعُدِ
إني أتيتك يا من لا يُخَيَّب مَنْ يدعوه مبتهلاً بالواحد الصمد
هذا منازل لا يرتد عن عَقَقِيْ فخذ بحقي يا رحمن من ولدي
و شلّ منه بحول منك جانبه يا من تقدس لم يولد ولم يلد
قال الراوي: فما انتهى الأب من دعائه حتى يَبس شق ولده هناك.
وفي عصرنا نماذج متعددة لأنواع من العقوق، وكم نسمع عن قضايا في المحاكم من أب يشكو ابنه في تلاعبه بمال أبيه وحرمانه منه وإخوانه إلى غير ذلك.
ومن أعجب القصص ما ذكر عن شابٍ كانت تعيش معه أمه العجوز وقد طعنت في السن حتى ضجر منها، فأخذها ذات يوم معه في السيارة وذهب بها إلى شاطئ البحر، ووضعها هنالك، وقال لها: إنه سيأتيها بعد حين، وأعطاها ورقة صغيرة وقال لها: انتظري حتى آتيك، فمكثت تلك المسكينة ساعات وهي ما زالت تمني نفسها بأن ولدها سيأتيها، حتى أدركها الليل وبدأ الناس يرحلون من ذلك المكان، فجاءها رجل وقد استغرب بقاءها حتى هذا الوقت، فسألها عن شأنها وعن جلوسها في هذا المكان وحدها فقالت: لقد أتى بي ولدي إلى هنا وقال: إنه سيذهب لقضاء بعض أموره وسوف يأتي، ولكنه تأخر وعسى أن يكون خيرًا، فحاول معها ذلك الرجل ليوصلها إلى بيتها فأبت وقالت: إنه سيأتي وقد أعطاني هذه الورقة، فنظر الرجل في تلك الورقة، وتصوروا ماذا قرأ فيها: "يرجى ممن يقرأ هذه الورقة أخذ هذه العجوز إلى دار العجزة". نعوذ بالله من العقوق والحرمان.
ــــــــــــــــــــ(67/214)
مؤسسة الزواج
...
...
4005
...
الأسرة والمجتمع, فقه
...
...
النكاح, قضايا الأسرة
...
عبد الرحمن بن محمد بوكيلي
...
...
مكناس
...
...
...
بدر
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- الزواج استجابة لأمر الله تعالى. 2- الزواج إصابة لسنة النبي . 3- الزواج يجلب عون الله تعالى. 4- الزواج مؤسسة لإنتاج الحسنات.
الخطبة الأولى
ما زلنا ـ معشر الإخوة ـ نتحدث عن صفات عباد الرحمن، فربنا سبحانه وتعالى ينصّ على أن من شأن هؤلاء العباد أن يتضرعوا إلى ربهم قصدَ إصلاح أبنائهم وأزواجهم، يقول سبحانه: وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا [الفرقان:74].
معلوم ـ أيها الأحبة ـ أن هذه الرغبة من طبعها أن تكون مصحوبة بعمل واجتهاد، أما أن يسأل العبد ربه صلاح زوجه وفي الوقت نفسه لا يعمل لتحقيق هذا الصلاح ولا يجتهد في السير على طريق الإصلاح والصلاح فهيهات أن ينال بغيته وأن يدرك قصده.
ترجو النجاةَ ولم تَسْلُكْ مسالكَها إِن السفينةَ لا تجري على اليَبَس
إنّ عطف الذرية على الأزواج في الآية الكريمة يدلّ على أن المحضِن الوحيد والمؤسّسة الوحيدة لإنتاج الأولاد التي يعترف بها ديننا الحنيف هي مؤسسة الأسرة، فلا يعترف بعلاقة جنسية بين الذكور والإناث إلا في ظل الزواج المشروع، وما عدا ذلك فهو فاحشة وسفاح.
إن الزواج ـ أيها الإخوة ـ من الأعمال الصالحة التي يحرص عليها عباد الرحمن، ويعتبرونها هبة الله التي يكرم بها خلقه ويسعدهم، ويعصمهم بها من الفواحش والزلات. والعجيب أن الله تعالى لم يبح الزواج ويرغب فيه فحسب، وإنما أمر به سبحانه فقال: وَأَنكِحُوا الأيَامَى مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِن يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [النور:32]، فكما أمر الله تعالى بالصلاة والصيام والزكاة وفعل الخير ها هو ذا يأمر بالزواج. وإنه سبحانه لا يأمر الفرد وحده، وإنما يأمر المجتمع كله: وَأَنكِحُوا الأيَامَى، يأمر المجتمع بتزويج الأيامى أي: غير المتزوجين من الذكور والإناث.
نعم معشر المؤمنين، إن الزواج يخص الفرد بشكل مباشر، لكنه أكبر من ذلك، فهو قضية المجتمع برمته.
إن المجتمع المهتم بتزويج أبنائه الحريص على أعراضهم لا شك أنه مجتمع قوي حصين، تختفي فيه الفواحش أو تكاد، مجتمع لا يبقى شغل الناس الشاغل فيه النساء والجنس، أما المجتمع المهمل لهذه القضية المتخاذل في تفعيل سبل الحلال لأبنائه فهو مجتمع آيل إلى الضعف، آيل إلى هلاك الحرث والنسل، مجتمع مصاب في عرضه وخلقه.
و إنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا
وإذا أصيب الناس في أخلاقهم فأقم عليهم مأتمًا وعويلا
إنّ هذا عين ما أصاب مجتمعنا اليوم، فها هي عجلة الزواج معطلة، وها هو شبح العنوسة يهدّد حياتنا، وها هي الفاحشة ظاهرة في البر والبحر، ها هو الفساد العريض ـ الذي حذر منه النبي في قوله: ((إذا خطب إليكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض)) رواه الترمذي وحسنه والحاكم وصححه ـ قد ظهر، ولا حول ولا قوة إلا بالله. فهل من مدَّكر وتائب إلى الله تعالى؟!
كما أن الزواج علاوة على كونه استجابة لأمر الله فإنه إصابة لسنة أبي القاسم .
إن نزعة التشدد والغلو ليست وليدة اليوم، وإنما هي قديمة قدم الإسلام، ومن مظاهر ذلك اعتبار البعض الزواج والاشتغال به مناقضًا للاستقامة على الدين، ومنافيًا لعبادة الله تعالى. روى البخاري ومسلم وغيرهما عَنْ أَنَسٍ أَنّ نَفَرًا مِنْ أَصْحَابِ النّبِيّ سَأَلُوا أَزْوَاجَ النّبِيّ عِنْ عَمَلِهِ فِي السّرّ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لاَ أَتَزَوَّجُ النّسَاءَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لا آكُلُ اللّحْمَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لاَ أَنَامُ عَلَى فِرَاشٍ، فَحَمِدَ الله وَأَثْنَى عَلَيْهِ فَقَالَ: ((مَا بَالُ أَقْوَامٍ قَالُوا كَذَا وَكَذَا؟! لَكِنّي أُصَلّي وَأَنَامُ، وَأَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأَتَزَوّجُ النّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنّتِي فَلَيْسَ مِنّي)).
نعم، إن العزوف عن الزواج ميل عن سنة النبي إلى سنة الإباحيين أو إلى بدعة الرهبان، وهذا الميل كلما زاد واحتدّ في مجتمع ما فإن مصيره مفارقة رسول الله والبعد عن ملته، ((فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنّتِي فَلَيْسَ مِنّي)).
إن سنة الرسول في الزواج أشبه ما تكون بسنة المجتمع في التعامل مع منبع نهر، إذا ترك وشأنه جرف البلاد والعباد، وأتى على الأخضر واليابس، وإذا نظم وقُنِّن نفع الحرث والنسل. فغريزة الجنس لم يخلقها الله تعالى لتقهر وتكبَت، ولا ليطلَق لها العنان دون ضابط ولا رادع، وإلا كان الفساد العريض، وإنما قننها الحق سبحانه بالزواج الطيّب، وجعلها سبيلا لارتباط المجتمع واستمرار النسل.
لعل الترغيب في الزواج والدعوة إليه يدفع إلى الحديث عن العقبة الكأداء التي تقف في وجه الراغب فيه، أعني بذلك قلة ذات اليد وغلاء المعيشة والخوف من ضيق الرزق، وهذا ما يفسر حديث الحق عن ذلك بعد أمره سبحانه بالزواج في آية النور، قال تعالى: وَأَنكِحُوا الأيَامَى مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِن يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [النور:32]، ففي الزواج الغنى بفضل الله ومنته.
روي عن أبي بكر أنه قال: (أطيعوا اللّه فيما أمركم به من النكاح ينجز لكم ما وعدكم من الغنى)، وعن ابن مسعود: (التمسوا الغنى في النكاح). وقال ابن كثير: "وقد زوّج النبي ذلك الرجل الذي لا يجد عليه إلا إزاره ولم يقدر على خاتم من حديد، ومع هذا فزوجه بتلك المرأة، وجعل صداقها عليه أن يعلمها ما معه من القرآن، والمعهود من كرم اللّه تعالى ولطفه أن يرزقه ما فيه كفاية لها وله".
فعلاً معشر المؤمنين، فقد اقتضت حكمته سبحانه أن يعين قاصدَ الخير، وأن يغنيه بفضله عمن سواه. روى الترمذي وحسنه عن أبي هريرةَ قالَ: قالَ رسولُ الله : ((ثَلاَثَةٌ حَقّ على الله عَوْنُهُمْ: المُجَاهِدُ في سَبِيلِ الله، والمُكَاتَبُ الّذِي يُرِيدُ الأدَاءَ، والنّاكِحُ الّذِي يُرِيدُ العَفَافَ)). فإذا كان المجاهد في سبيل الله موعودًا بعون الله وبسنده لأنه خارج لقتال أعداء الله وتأمين الأمن والحرية والحياة للناس، وإذا كان المكاتب يقصد إلى تحرير نفسه من العبودية، فإن عمل الناكح الذي يقصد العفاف والحصانة لنفسه ولمجتمعه من الفواحش من صميم عملَي المجاهد والمكاتب، وذلك لأن الناكح يعمل على تحرير نفسه من أسر الشهوات، ويسهم في تكثير نسل مجتمعه؛ لذلك كان الناكح موعودًا بعون الله تعالى كالمجاهد في سبيل الله، وكالمكاتب المجتهد في الأداء.
فنسأله سبحانه أن يكون لنا عونًا وسندًا، والحمد لله رب العالمين.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا.
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون، لقد تعدّدت النصوص الدالة على أن الزواج من أعظم الأعمال المنتجة للحسنات، فالعمل لإعالة الأسرة والسعي لتوفير حاجياتها يكفر الله به السيئات، عن أنس مرفوعًا قال: ((مَنْ بَاتَ كَالاً مِنْ طَلَبِ الْحَلاَلِ بَاتَ مَغْفُورًا لَهُ)) صححه السيوطي. بمعنى: من بات متعَبًا من عمله ـ سواء كان هذا العمل يدويًا أو عقليًا ـ بات وقد انقشعت ذنوبه بفضل الله.
وأفضل ما ينفقه المؤمن نفقته على زوجته وأولاده، أخرج الإمام مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ : ((دِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ فِي سَبِيلِ اللّه،ِ وَدِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ فِي رَقَبَةٍ، وَدِينارٌ تَصَدّقْتَ بِهِ عَلَىَ مِسْكِينٍ، وَدِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ عَلَى أَهْلِكَ، أَعْظَمُهَا أَجْرًا الّذِي أَنْفَقْتَهُ عَلَىَ أَهْلِكَ)). فما مِن دِرهم تنفقه على أهلك في طعامهم أو كسوتهم أو تعليمهم إلا تؤجر عليه ويدَّخر لك ليوم لا ينفع فيه مال ولا بنون. روى أبو داود عن النبي : ((وَإنّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً إلاّ أُجِرْتَ فِيهَا، حَتّى اللّقْمَةَ تَدْفَعُهَا إلَى فِي امْرَأتِكَ)).
والألطف من كل ما ذُكر أن العلاقة الجنسية بين الرجل وزوجته يرتّب عليها سبحانه أجر الصدقة، ففي صحيح مسلم عن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي أنه قال: ((وَفِي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ))، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللّهِ، أَيَأْتِي أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ وَيَكُونُ لَهُ فِيهَا أَجْرٌ؟! قَالَ: ((أَرَأَيْتُمْ لَوْ وَضَعَهَا فِي حَرَامٍ أَكَانَ عَلَيْهِ فِيهَا وِزْرٌ؟ فَكَذَلِكَ إِذَا وَضَعَهَا فِي الْحَلاَلِ كَانَ لَهُ أَجْرٌ)).
كما أن الأسرة سبيل التنعم بأجر الذرية وتربيتهم، فإنه لا يخفى أن الأولاد من أعظم مشاريع الخير والحسنات، فما من والد أو والدة يقدم بين يديه من ولده اثنين إلا كانوا له حجابًا من النار، في الصحيحين عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ قَال: قال رَسُولُ اللّهِ : ((مَا مِنْكُنّ مِنِ امْرَأَةٍ تُقَدّمُ بَيْنَ يَدَيْهَا مِنْ وَلَدِهَا ثَلاَثَةً إِلاّ كَانُوا لَهَا حِجَابًا مِنَ النّارِ))، فَقَالَتِ امْرَأَةٌ: وَاثْنَيْنِ وَاثْنَيْنِ وَاثْنَيْنِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ : ((وَاثْنَيْنِ، وَاثْنَيْنِ، وَاثْنَيْنِ)). وما تخصيص الخطاب بالنساء إلا لكونهن الحاضرات مع الرسول حال الموعظة، والله أعلم.
ومن أكرمه الله ببنات فأحسن إليهن وأدبهن دخل بسببهن الجنة، عن أبي هريرة أن رسول الله قال: ((من كانت له ثلاث بنات فصبر على لأوائهن وضرائهن أدخله الله الجنة بفضل رحمته إياهن))، فقال رجل: يا رسول الله، واثنتان؟ قال: ((واثنتان))، فقال رجل: أو واحدة؟ فقال: ((وواحدة)) رواه الحاكم وصححه.
وأعظم من كل ما سلف أن الولد الصالح صدقة جارية لا يقف أجرها بموت الوالد، ففي صحيح مسلم قال رَسُول اللَّهِ : ((إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له)).
هذه ـ أيها الإخوة المؤمنون ـ كلمات قليلة في بيان عناية ديننا بالزواج ودعوته إليه وترغيبه في الإقدام عليه دون تردّد ولا مخاوف، وما رتبه الله عليه من العون والأجر والفضل.
فنسأل الله تعالى أن لا يحرمنا من هذا الخير، وأن يبارك للمتزوجين عملهم، وأن ييسر لشبابنا سبيل العفة والزواج. والحمد لله رب العالمين.
ــــــــــــــــــــ(67/215)
...
أسرة من المدينة المنورة
...
...
4008
...
الأسرة والمجتمع, سيرة وتاريخ, قضايا في الاعتقاد
...
...
الصحابة, القصص, قضايا الأسرة
...
عبد الرحمن بن محمد بوكيلي
...
...
مكناس
...
...
...
بدر
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- حاجة الأسرة إلى معرفة النماذج الأسرية الصالحة في السابقين. 2- الحديث عن شخصيات هذه الأسرة: أم سُلَيم الرُّمَيْصَاء، أبو طلحة زيد بن سهل النجاري، أنس بن مالك، البراء بن مالك. 3- مبادئ هذه الأسرة: الإسلام، العلم بالإسلام، حسن الوفاء وحسن التبعّل، الخدمة الاجتماعية، الجهاد في سبيل الله والعمل لنشر كلمة الله.
الخطبة الأولى
أما بعد: تعالوا بنا ـ أيها الإخوة الأعزاء ـ بعدما تحدثنا عن واجبات كل زوج نحو زوجه داخل الأسرة المسلمة, تعالوا بنا اليوم نعيش لحظات سريعة مع أسرة مرضية طيبة, مع أسرة يحبها الله وتحبه, مع أسرة يحبها رسول الله وتحبه, مع أسرة من المدينة المنورة على عهد رسول الله ؛ لأنني أعلم ـ معشر الإخوة الكرام ـ أن حاجتنا لمعرفة بعض النماذج والوقوف على المنهج الذي عاشوا عليه والمبادئ التي تربوا عليها, حاجتنا إلى هذا النموذج حاجة ماسة.
نعم أيها الإخوة الكرام، واقعنا اليوم يزخر بعدد من الأسر والعائلات الطيبة، رغم ذلك فإن الأسر كي تعرف دينها أكثر لا بد من معرفة النماذج الطيبة والأمثلة الرائعة من سيرة سلفنا الصالح، خصوصًا في واقعنا الزاخر بنماذج أسر سيئة، فالعديد من العائلات ـ للأسف الشديد ـ تعيش الجحيم والشقاء، وتعيش الضنك والأزمات تلو الأزمات.
كنت أقرأ لقارئ مؤمن طيب يقرأ القرآن الكريم في بيته, وكانت له زوجة تَعِسة شقية معذَّبة ومعذِّبة, فلما وصل إلى قوله تعالى: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ [الزخرف:70] وضع المصحف الشريف وقال: اللهم يا رب لا تفعل, يا ربّ لا تفعل. الآية الكريمة تبشّر المؤمنين فتقول لهم: إن الله سبحانه وتعالى سيجمعكم أنتم وأزواجكم في الجنة، لما قرأ هذا الرجل صاحب الزوجة التعسة هذه الآية فزع وقال: سيجمع الله بيني وبينها يوم القيامة مرة أخرى، فقال: اللهم لا تفعل، فقالت له: لماذا تدعو بهذا؟! لماذا تطلب أن لا يجمع الله بيني وبينك في الآخرة؟! قال لها: أنا في الدنيا أعيش معك الجحيم، ورغم ذلك فإني صابر، فكيف أصبر على عذابك مرة أخرى يوم القيامة؟! فقالت: بالله عليك لا تسأل ربك هذا، فإني تائبة إلى الله راجعة إليه.
ومن هذه الحكاية اللطيفة التي نفتتح بها هذه الخطبة يتضح أثر القرآن الكريم في إصلاح أحوالنا وأحوال الناس جميعًا متى تَلَوْه وعملوا به وتمسكوا به.
الأسرة التي سأتحدث عنها ـ إخواني ـ هي أسرة أم سُلَيم رضي الله عنها، هذه المرأة الصالحة، هذه الصحابية الجليلة أم سُلَيم المكناة بالرُّمَيْصَاء، قال عنها النبي : ((رَأَيْتُنِي دَخَلْتُ الْجَنَّةَ فَإِذَا أَنَا بِالرُّمَيْصَاءِ امْرَأَةِ أَبِي طَلْحَةَ)) أخرجه البخاري ومسلم. ورؤَى الأنبياء وحي وحقّ، ألم تقرؤوا قول رب العزة عن إبراهيم إذ قال لابنه: يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى [الصافات:102]؟! فهي امرأة لا كالنساء، وصحابية جليلة من خيرة الصحابة, هي مبشرة بالجنة، ولعل هذه البشارة بالجنة تثير الانتباه وتجعلنا نتساءل: كيف وصلت هذه المرأة إلى هذه المرتبة؟
لما أسلمت جاءت إلى مالك زوجها، وكان رجلا مخمرًا, كان لا يفارق الخمر، كانت هذه المصيبة متجذّرة فيه لا يستطيع مفارقتها بتاتًا ولو ضحّى بكل شيء في سبيلها كشأن المخمرين. فقالت: جئت اليوم بما تكره، فقال: لا تزالين تجيئين بما أكره من عند هذا الأعرابي، قالت: كان أعرابيًا اصطفاه الله واختاره وجعله نبيًا، قال: ما الذي جئت به؟ قالت: حُرِّمت الخمر، قال: هذا فراق بيني وبينك، فمات مشركًا، وتركها وأبناءها. رواه البزار بسند رجاله ثقات.
ولعل هذا ـ إخوتي الأعزاء ـ أول امتحان تعرضت له هذه المرأة الصالحة المؤمنة، ولا يخفى أنه امتحان عسير، فإنه ليس من السهل أن تعرض أسرتك بين عشية وضحاها لزلزال عظيم مثل هذا بدافع الإسلام، وفي سبيل الإسلام.
فجاءها أبو طلحة الأنصاري ـ وهو المكوِّن الثاني للأسرة المؤمنة المرضية ـ يخطبها، وقد ترك لها مالك وَلَدين: أنس بن مالك والبراء بن مالك رضي الله عنهما، وسيأتي الحديث عنهما إن شاء الله. فقالت أم سُلَيم رضي الله عنها: يا أبا طلحة، أنت لست ممن يُردّ، ولكنك مشرك نجس، وأنت محرّم عليَّ ما دمت مشركًا، قالت: فإني أشهدك وأشهد نبي الله أنك إن أسلمت فقد رضيت بالإسلام منك، قال: فمن لي بهذا؟ قالت: يا أنس، قم فانطلق مع عمك، قال: فقام فوضع يده على عاتقي، فانطلقنا حتى إذا كنا قريبًا من نبي الله فسمع كلامنا فقال: ((هذا أبو طلحة بين عينيه عزة الإسلام))، فسلم على نبي الله فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله، فزوّجه رسول الله على الإسلام. رواه البزار.
فكان هذا الصداق أعظم صداق في المدينة المنورة: الإسلام، الدين العظيم.
فتحسّن إسلام الرجل، فصار رضي الله عنه مضرب المثل في النفقة والاستجابة لأمر الله تعالى. أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال: كَانَ أَبُو طَلْحَةَ أَكْثَرَ الأَنْصَارِ بِالْمَدِينَةِ مَالاً مِنْ نَخْلٍ، وَكَانَ أَحَبُّ أَمْوَالِهِ إِلَيْهِ بَيْرُحَاءَ، وَكَانَتْ مُسْتَقْبِلَةَ الْمَسْجِد،ِ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ يَدْخُلُهَا وَيَشْرَبُ مِنْ مَاءٍ فِيهَا طَيِّبٍ. قَالَ أَنَسٌ: فَلَمَّا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [آل عمران:92] قَامَ أَبُو طَلْحَةَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ فَقَال: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَقُولُ: لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ، وَإِنَّ أَحَبَّ أَمْوَالِي إِلَيَّ بَيْرُحَاءَ، وَإِنَّهَا صَدَقَةٌ لِلَّهِ أَرْجُو بِرَّهَا وَذُخْرَهَا عِنْدَ اللَّهِ، فَضَعْهَا ـ يَا رَسُولَ اللَّهِ ـ حَيْثُ أَرَاكَ اللَّهُ. قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ : ((بَخٍ! ذَلِكَ مَالٌ رَابِح،ٌ ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ، وَقَدْ سَمِعْتُ مَا قُلْتَ، وَإِنِّي أَرَى أَنْ تَجْعَلَهَا فِي الأَقْرَبِينَ))، فَقَالَ: أَبُو طَلْحَةَ أَفْعَلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَقَسَمَهَا أَبُو طَلْحَةَ فِي أَقَارِبِهِ وَبَنِي عَمِّهِ.
كما أصبح هذا الرجل العظيم من كبار الصحابة المجاهدين، فشهد المشاهد كلها مع رسول الله ، وكان له يوم أحد موقف مشهود، إذ ثبت مع القلة مع الرسول وقال عنه : ((لَصَوْتُ أَبِي طَلْحَةَ فِي الْجَيْشِ خَيْرٌ مِنْ فِئَة)) رواه أحمد.
ويوم حنين حين ضاقت على المسلمين الأرض بما رحبت كان أبو طلحة كعادته من أبرز أبطالها الصامدين. عن أنَسِ بنِ مَالِكٍ قالَ: قالَ رَسُولُ الله يَوْمَئِذٍ يَعْنِي يَوْمَ حُنَيْنٍ: ((مَنْ قَتَلَ كَافِرًا فَلَهُ سَلَبُهُ))، فَقَتَلَ أبُو طَلْحَةَ يَوْمَئِذٍ عِشْرِينَ رَجُلاً وَأخَذَ أسْلاَبَهُمْ. أخرجه أبُو دَاوُدَ وقال: "هَذَا حديثٌ حَسَنٌ".
وتابع مسيرته الجهادية في كبره حتى لقي الله تعالى في سبيل الجهاد. عن أنس أن أبا طلحة قرأ سورة براءة فأتى على هذه الآية: انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالاً [التوبة:41] فقال: ألا أرى ربي يستنفرني شابًا وشيخًا؟ جهزوني. فقال له بنوه: قد غزوت مع رسول الله حتى قبض، وغزوت مع أبي بكر حتى مات، وغزوت مع عمر، فنحن نغزو عنك. فقال: جهزوني. فركب البحر فمات. فلم يجدوا له جزيرة يدفنونه فيها إلا بعد سبعة أيام فلم يتغير. قال الهيثمي: "رواه أبو يعلى ورجاله رجال الصحيح".
فلقي الله تعالى بعد عمرٍ حافل بخدمة الإسلام والاجتهاد في طاعة الله، وذلك سنة أربع وثلاثين للهجرة، وهو ابن سبعين سنة رضي الله عنه.
العنصر الثالث من هذه الأسرة ـ معشر الإخوة ـ هو أنس بن مالك رضي الله عنه خادم رسول الله عشر سنوات، حرصت أمه أن يكون رفيقَ سيد الخلق ؛ ليلتصق بنبع الخير والهداية، فجاءت به إلى رسول الله فقالت: يا رسول الله، خادمك أنس ادع الله له، فقال: ((اللهم أكثر ماله وولده، وبارك له فيما أعطيته))، قال أنس: فلقد دفنت من صلبي سوى ولد ولدي خمسًا وعشرين ومائة، وإن أرضي ليثمر في السنة مرتين، وما في البلد شيء يثمر مرتين غيرها. رواه الطبراني.
وكان رضي الله عنه من أكثر الناس رواية عن الرسول .
أما الشخصية الرابعة فهو البراء بن مالك أخو أنس بن مالك، هذا الرجل العظيم المجاهد، قال عنه الرسول : ((كَمْ مِنْ أَشْعَثَ أَغْبَرَ ذِي طِمْرَيْنِ لا يُؤْبَهُ لَهُ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لأَبَرَّهُ، مِنْهُمُ الْبَرَاءُ بْنُ مَالِكٍ)) أخرجه الترمذي وقال: "هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْه".
إن الإنسان ـ معشر الأحبة ـ لا يقاس بطوله ولا بعرضه ولا بماله ولا بجاهه ولا بسلطانه، وإنما يقاس بعمله وإيمانه. وعاش هذا الصحابي الجليل مجاهدًا مقدمًا متفانيًا بماله ونفسه ودمه في عهد الرسول ، وفي عهد أبي بكر رضي الله عنه، وفي جهاد الفُرس استعصت معركة على المسلمين والمجاهدين فجاؤوا إلى سيدنا البراء فقالوا: إن الأمر اشتد علينا، فادع الله أن ينصرنا؛ لأن المسلمين الأوائل ـ أيها الإخوة ـ كانوا يعرفون جيدًا أن الذي يعز من يشاء ويذل من يشاء وينصر من يشاء هو الله، فلا أمريكا ولا الأمم المتحدة: وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيم [آل عمران:126]. فرفع البراء في زحمة المعركة وشدتها يديه فقال : "اللهم انصرنا، وارزقنا أكتافهم، وارزقني الشهادة في سبيلك"، فلما انتصر المجاهدون وأظهر الله تعالى الحق بحثوا عن البراء فإذا هو شهيد بين الشهداء.
فهذه ـ أيها الإخوة الأعزاء ـ عناصر هذه الأسرة العظيمة الفريدة، فما هي المبادئ التي كانت تعيش عليها ولأجلها مما جعلها تنال ما نالت من الفضل وجعلت منها منارة للهداية؟
أول هذه المبادئ وأعظمها هو الإسلام وأولويته، فقد أسست على كلمة الله ووفق تقواه، فعلى أساس الإسلام بُنيت الأسرة، وعلى أساسه عاشت، وعلى أساسه يجب أن تحيا كل أسرة تنشد الرشد، فبسببه فارقت أم سُلَيم زوجها الأول مالكًا، وعلمنا أن أبا طلحة لما جاءها خاطبًا لم تطلب منه مالاً ولا جاهًا ولا سلطانًا، وإنما طلبت منه أن يكون مسلمًا وكفى.
إن الإنسان ـ أيها الإخوة ـ بلا دين مصيبة وكارثة. إذا جاءك إنسان لا دين له وزوجته ابنتك فقد قطعت رحمها، فقد أهلكتها. أمير المؤمنين علي رضي الله عنه جاءه أحد الناس فقال: إن الناس يخطبون مني ابنتي فلمن أزوجها؟ فقال رضي الله عنه: "يا أخي، زوجها لتقيّ، إن أحبها أكرمها، وإن كرهها لم يظلمها".
ثم إن هذه الأسرة ـ وعلى رأسها أم سُلَيم ـ كانت أحرص ما تكون على تعلّم دينها، فصحّ عند البخاري ومسلم وغيرهما عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: جَاءَتْ أُمُّ سُلَيم إِلَى رَسُولِ اللَّهِ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ، فَهَلْ عَلَى الْمَرْأَةِ مِنْ غُسْلٍ إِذَا احْتَلَمَتْ؟ قَالَ النَّبِيُّ : ((إِذَا رَأَتِ الْمَاءَ))، فَغَطَّتْ أُمُّ سَلَمَةَ، تَعْنِي: وَجْهَهَا. وَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَوَتَحْتَلِمُ الْمَرْأَةُ؟! قَالَ: ((نَعَمْ تَرِبَتْ يَمِينُكِ، فَبِمَ يُشْبِهُهَا وَلَدُهَا)). فلقيها نسوة فقلن لها: يا أم سُلَيم، فضحتنا عند رسول الله ! قالت: ما كنت أنتهي حتى أعلم أفي حلال أنا أم في حرام.
هذا مبدأ ـ أيها الإخوة المؤمنون ـ ينبغي للحياة كلها أن تتأسّس عليه، ليس هناك من عمل سرّي أو خاص بفئة دون أخرى، فالرسول بعثه الله للرجال والنساء، فما من خطوة يخطوها المسلم إلا وهو ملزم أن يعلم أفي حلال هو أو في حرام.
ومن حرص أم سُلَيم على العلم ما روي عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: جَاءَتْ أُمّ سُلَيم إلَى النّبِيّ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللّهِ، عَلّمْنِي كَلِمَاتٍ أَدْعُو بِهِنّ فِي صَلاَتِي، قَالَ: ((سَبّحِي اللّهَ عَشْرًا، وَاحْمَدِيهِ عَشَرًا، وَكَبّرِيهِ عَشْرًا، ثُمّ سَلِيهِ حَاجَتَكِ، يَقُلْ: نَعَمْ، نَعَمْ)). يعني: إذا سبحت عشرًا، وكبرت عشرًا، وحمدت عشرًا، وطلبت الله تعالى، يقول لك الله: لبيك يا أمَتي، ويستجيب لك.
بل الأعظم من ذلك أن النبي لما عرف حرص هذه الأسرة على العلم والتعلم كان يخصها بزيارات، فكان كما ورد في أحاديث صحيحة يقيل عندها مرارًا، ويصلي بهم في بيتها، لماذا أيها الإخوة؟ ليتعلموا منه مباشرة، وليتبرّكوا به مباشرة . وبالفعل لقد روي أنها من كثرة محبتها له وكثرة الالتصاق به لما كان يأتي منزلها تبسط له أم سُلَيم بساطًا لكي يرتاح وينام، وكان الجو حارًّا كما تعلمون، فإذا استيقظ تجمع العرق الذي تصبّب فوق البساط، وتخلطه مع مسكها وتتطيب به رضي الله عنها وأرضاها.
أخرج أبو داود عن أَنَسِ بنِ مَالِكٍ أَنّ النّبيّ كَانَ يَزُورُ أُمّ سُلَيم فَتُدْرِكُهُ الصلاةُ أحيَانًا فَيُصَلّي عَلَى بِسَاطٍ لَنَا، وَهُوَ حَصِيرٌ تَنْضَحُهُ بالماء، وأخرج النسائي عن أنس قَالَ: أَتَانَا رَسُولُ اللّهِ فِي بَيْتِنَا فَصَلّيْتُ أَنَا وَيَتِيمٌ لَنَا خَلْفَهُ، وَصَلّتْ أُمّ سُلَيم خَلْفَنَا، وأخرج البخاري وأحمد عَنْ أَنَسٍ أَنَّ أُمَّ سُلَيم كَانَتْ تَبْسُطُ لِلنَّبِيِّ نِطَعًا فَيَقِيلُ عِنْدَهَا عَلَى ذَلِكَ النِّطَعِ. قَالَ: فَإِذَا نَامَ النَّبِيُّ أَخَذَتْ مِنْ عَرَقِهِ وَشَعَرِهِ فَجَمَعَتْهُ فِي قَارُورَةٍ، ثُمَّ جَمَعَتْهُ فِي سُكٍّ، وأخرج النسائي عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ اضْطَجَعَ عَلَى نَطْعٍ فَعَرِقَ، فَقَامَتْ أُمُّ سُلَيم إِلَى عَرَقِهِ فَنَشَّفَتْهُ فَجَعَلَتْهُ فِي قَارُورَةٍ، فَرَآهَا النَّبِيُّ قَال: ((مَا هَذَا الَّذِي تَصْنَعِينَ يَا أُمَّ سُلَيم؟)) قَالَتْ: أَجْعَلُ عَرَقَكَ فِي طِيبِي، فَضَحِكَ النَّبِيُّ .
قلنا أيها الإخوة: إن الركن الأساس الذي بنيت عليه هذه الأسرة الطيبة هو الإسلام وتعلمه، وبالفعل فالأسرة المحرومة من مجالس القرآن ومن أشرطة القرآن ومن الكتب الإسلامية ومن تفاسير القرآن ومن قصص الأنبياء والصالحين، هذه أسرة محرومة من الخير. وهذا ـ للأسف ـ هو السائد اليوم، فكثير من الأسر إذا اطلعتَ على أحوالها وجدت الشيطان وجنوده مستحوذًا عليها، تجد الصغار والكبار غرقى في أمواج غوايته، فلا علم ولا تقوى, وإنما السائد الأغاني الماجنة والأفلام العارية والاهتمامات الدنية. فمتى تعيش هذه الأسر السعادة؟! ومتى تتذوق حلاوة الإيمان ولذة الاستقرار؟! متى وإبليسٌ يُدعى: التلفزيون هو المتربِّع على سياستها؟! إن هذا المفسديون أضحى المعول الذي يهدم أخلاق الأمة ويهدم كرامتها، وذلك بسوء توجيهه وتسخيره.
إن الإنسان ـ معشر الإخوة ـ إذا أراد رحمة الله والسعادة في بيته لا بد له من إدخال التقوى والخير إلى بيته.
ولست أرى السعادة جمع مال ولكن التقي هو السعيد
أخرج البخاري ومسلم
عن أم عطية قالت: أَخَذَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ فِي الْبَيْعَةِ: ((أَلاَّ تَنُحْنَ))، فَمَا وَفَتْ مِنَّا غَيْرُ خَمْسٍ، مِنْهُنَّ أُمُّ سُلَيم. فأم سُلَيم من اللواتي وفين في الحين، ولم يشترطن ولا تلكأن، فطلّقت النياحة وما كانت نساء الجاهلية تفعلنه حزنًا على موتاهن.
كما كانت الغايةَ في حسن التلطف والتودّد إلى زوجها في كل حال. أخرج مسلم وأحمد وأبو داود عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: كَانَ ابْنٌ لأَبِي طَلْحَةَ يَشْتَكِي، فَخَرَجَ أَبُو طَلْحَةَ فَقُبِضَ الصَّبِيُّ، فَلَمَّا رَجَعَ أَبُو طَلْحَةَ قَالَ: مَا فَعَلَ ابْنِي؟ قَالَتْ أُمُّ سُلَيم: هُوَ أَسْكَنُ مِمَّا كَانَ، فَقَرَّبَتْ إِلَيْهِ الْعَشَاءَ فَتَعَشَّى ثُمَّ أَصَابَ مِنْهَا، فَلَمَّا فَرَغَ قَالَتْ: وَارُوا الصَّبِيَّ. فَلَمَّا أَصْبَحَ أَبُو طَلْحَةَ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ: ((أَعْرَسْتُمُ اللَّيْلَةَ؟)) قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: ((اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُمَا)). فرزقهم الله بعد تسعة من الأولاد كلهم قرؤوا القرآن الكريم. وفي رواية لأحمد: ثم تصنعت له فأصابها، فلما فرغ قالت: ألا تعجب لجيرانك، أُعيروا عارية، فطُلِبت منهم فجزعوا! فقال: بئس ما صنعوا، فقالت: ابنك كان عارية فقُبض، فحمد واسترجع.
ثم إن هذه الأسرة ـ أيها الإخوة الأعزاء ـ زيادة على ما ذكرناه، كانت القمة في الكرم والجود، والقمة في الضيافة، والمثال في الاهتمام بالحالة الاجتماعية للمجتمع. فمما يُروى عن هذه الأسرة الطيبة رضي الله عنهم أن أبا طلحة خرج يومًا فوجد الرسول يعلّم أهل الصفة سورة النساء كما جاء في بعض الروايات، ولاحَظ أن النبي قد عصب بطنه من شدة الجوع، فأثَّر هذا في نفس أبي طلحة، فجاء إلى أم سُلَيم فقال لها: يا أم سُلَيم، لقد رأيت رسول الله يعصب بطنه من شدة الجوع، فهل لديك شيء من الطعام؟ فقالت له: إذا جاءنا الرسول وحده أشبعناه. فأرسل أنس بن مالك إلى الرسول . قَالَ أنس: بَعَثَنِي أَبُو طَلْحَةَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ لأَدْعُوَه وَقَدْ جَعَلَ طَعَامًا، قَالَ: فَأَقْبَلْتُ وَرَسُولُ اللَّهِ مَعَ النَّاسِ، فَنَظَرَ إِلَيَّ فَاسْتَحْيَيْتُ، فَقُلْتُ: أَجِبْ أَبَا طَلْحَةَ، فَقَالَ لِلنَّاسِ: ((قُومُوا))، فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّمَا صَنَعْتُ لَكَ شَيْئًا. قَالَ: فَمَسَّهَا رَسُولُ اللَّهِ وَدَعَا فِيهَا بِالْبَرَكَة،ِ ثُمَّ قَالَ: ((أَدْخِلْ نَفَرًا مِنْ أَصْحَابِي عَشَرَةً))، وَقَالَ:((كُلُوا))، وَأَخْرَجَ لَهُمْ شَيْئًا مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِه،ِ فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا فَخَرَجُوا، فَقَالَ:((أَدْخِلْ عَشَرَةً)) فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا، فَمَا زَالَ يُدْخِلُ عَشَرَةً وَيُخْرِجُ عَشَرَةً حَتَّى لَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ أَحَدٌ إِلاَّ دَخَلَ فَأَكَلَ حَتَّى شَبِعَ، ثُمَّ هَيَّأَهَا فَإِذَا هِيَ مِثْلُهَا حِينَ أَكَلُوا مِنْهَا.
وفي أسرة أبي طلحة في الراجح نزل قوله تعالى: وَيُؤثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الحشر:9]. أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَجُلاً أَتَى النَّبِيَّ فَبَعَثَ إِلَى نِسَائِهِ، فَقُلْنَ: مَا مَعَنَا إِلاَّ الْمَاءُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ : ((مَنْ يَضُمُّ أَوْ يُضِيفُ هَذَا؟)) فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ: أَنَا، فَانْطَلَقَ بِهِ إِلَى امْرَأَتِهِ فَقَالَ: أَكْرِمِي ضَيْفَ رَسُولِ اللَّهِ ، فَقَالَتْ: مَا عِنْدَنَا إِلاَّ قُوتُ صِبْيَانِي، فَقَالَ: هَيِّئِي طَعَامَكِ، وَأَصْبِحِي سِرَاجَكِ، وَنَوِّمِي صِبْيَانَكِ إِذَا أَرَادُوا عَشَاءً. فَهَيَّأَتْ طَعَامَهَا وَأَصْبَحَتْ سِرَاجَهَا وَنَوَّمَتْ صِبْيَانَهَا، ثُمَّ قَامَتْ كَأَنَّهَا تُصْلِحُ سِرَاجَهَا فَأَطْفَأَتْهُ، فَجَعَلا يُرِيَانِهِ أَنَّهُمَا يَأْكُلانِ، فَبَاتَا طَاوِيَيْنِ. فَلَمَّا أَصْبَحَ غَدَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ فَقَالَ: ((ضَحِكَ اللَّهُ اللَّيْلَةَ، أَوْ عَجِبَ مِنْ فعَالِكُمَا))، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ.
فهذه الأسرة ـ إخواني ـ ليست أنانية لا تعيش سوى للذاتها ومصالحها، وإنما هي أسرة تعيش أحوال مجتمعها الإسلامي، وتسهم بكلّ ما تطيق لكشف ما به من خصاصة، وتجاوز ما يحل به من أزمات.
الخطبة الثانية
كما كانت هذه الأسرة في طليعة العاملين لنشر دين الله تعالى وجهاد أعدائه الصادين عن سبيل الله.
فقد سبقت الإشارة إلى بلاء أبي طلحة رضي الله عنه في ميادين الجهاد والفداء، وسبق ذكر جهاد البراء رضي الله عنه، وما أكرمه الله به من الشهادة في سبيله. قال البخاري: حدثنا موسى، حدثنا إسحاق بن عثمان: سألت موسى بن أنس: كم غزا أنس مع النبي ؟ قال: ثماني غزوات.
ولم تكن أم سُلَيم رضي الله عنها لتحرم نفسها من مرافقة الرسول في غزواته، فقد كانت مجتهدة في الخروج معه وتحمل المشاق في مساعدة المقاتلين ومداواتهم والقتال معهم إذا اقتضى الحال. ومن ألطف ما يروى عن شجاعتها وثباتها ما حصل في غزوة حنين. أخرج مسلم وأبو داود عن أنس أن أم سُلَيم اتخذت يوم حنين خنجرًا فكان معها، فرآها أبو طلحة، فقال: يا رسول الله، هذه أم سُلَيم معها خنجر! فقال لها رسول الله : ((ما هذا الخنجر؟)) قالت: اتخذته إن دنا مني أحد من المشركين بقرت به بطنه، فجعل رسول الله يضحك، قالت: يا رسول الله، اقتُلْ مَن بعدَنا من الطلقاء انهزَمُوا بك، فقال رسول الله : ((يا أم سُلَيم، إن الله قد كفى وأحسن)).
هذه ـ إخواني ـ هي أسرة أم سُلَيم، وهذه بطاقة تعريف لعناصرها البارزة، وتلكم المبادئ التي تأسست عليها وعاشوا لأجلها، فغنموا السعادة والريادة في الدنيا، والفوز برضوان الله ورسوله، وذلك هو الفوز العظيم.
جعلني الله تعالى والإخوة من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، ونسأله سبحانه أن يصلح أحوالنا. والحمد لله رب العالمين.
-ــــــــــــــــــــ(67/216)
التحذير من التبرج (1)
...
...
3112
...
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
...
...
الكبائر والمعاصي, المرأة
...
عبد الحليم توميات
...
...
رايس حميدو
...
25/5/1421
...
...
عمر بن الخطاب
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- نداء للقلوب الحية. 2- تبرج النساء مظهر من مظاهر الظلم. 3- كلكم راع. 4- اتفاق الأديان السماوية على الحجاب. 5- التبرج عقوبة من الله. 6- ستر المرأة من أخلاق العرب في جاهليتها. 7- أدلة ستر المرأة في الكتاب والسنة. 8- تحسّر أهل الصلاح من الوضع المزري. 9- نصيحة عامة.
الخطبة الأولى
أما بعد: فقبل أن نشرع في التحدث عن مظهر آخر من مظاهر الظلم ننادي قلوبكم، قلوبكم التي عقدت العزم على أنه لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله. ننادي قلوبكم التي آمنت وأيقنت أن الموت حق، وأن الجنة حق، وأن النار حق، وأن الصراط حق، وأن الحساب حق، وأن الحشر حق، وأن الله هو الحق، ذالِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْىِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلّ شَىْء قَدِيرٌ وَأَنَّ السَّاعَةَ ءاتِيَةٌ لاَّ رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَن فِى الْقُبُورِ [الحج:6، 7].
ذلكم لأنه لا ينتفع بالموعظة إلا من تذكر الموت، وأيقن أنه سيعود إلى ربه، فيقف بين يديه فيحاسبه عما قدم وأخر، لأنه لا يرقّ إلا قلب من اتعظ وتذكر، يقول الله تعالى: قُلْ لّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ ذالِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ وَقُل لّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ [لقمان:33].
عباد الله، سنتناول معكم اليوم مظهرًا آخر من مظاهر الظلم الفظيعة، وصورة من صور الأذى الشنيعة، التي يعاني منها المسلمون الصالحون، في كل مكان من مشارق الأرض ومغاربها، تلكم هي ظاهرة تبرج النساء، نعم إنه تبرج النساء في هذا الزمان، وخروجهن عاريات، عاريات يعثن في الأرض فسادًا والله لا يحب الفساد. فلا شك أنكم توافقونني في أن خروج المرأة متبرجة مبرزة مفاتنها من أعظم الظلم، لأن فيه صدا كبيرًا للناس عن دين الله تعالى، وعن الاعتصام بمنهجه القويم وشرعه الحكيم، وكفى بذلك بغيا وعدوانا.
وأول معني بهذا الأمر هو نحن، لأن هؤلاء النساء إنما هن بناتنا أو أخواتنا أو زوجاتنا وقريباتنا وجاراتنا، اللائي يدخلن تحت قوله : ((كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته))، مسؤول عنهن في الدنيا والآخرة، لأنهن تحت حكمك، وتحت قوامتك، والله لن نفلت من سؤاله سبحانه وتعالى لنا وحسابه وعقوبته إن لم نرعهن حق الرعاية.
إننا نأمرهن بالغسل والطبخ، ولو لم يقمن بذلك لقمنا وقعدنا، وأرعدنا وأزبدنا، ونقول: عليهن السمع والطاعة، فكيف لا نأمرهن بالستر والعفاف ما دمنا كذلك؟! كيف لا تأمرها بالحجاب ونصوص الكتاب والسنة تتلى ليل نهار على سمعك تبين لك أن ستر المرأة فرض من فرائض الإسلام؟!
يقول الله تعالى الذي رضي الكرامة والعزة للإنسان: يَابَنِى آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوارِى سَوْءتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذالِكَ خَيْرٌ [الأعراف:26]. لباس التقوى كله خير، ذلك هو اللباس الذي يلبسه المؤمن والمؤمنة فيتقيان به ربهما، لباس التقوى للمرأة المسلمة هو اللباس الذي يحفظ لها كرامتها وعزتها، حياءها وعفتها، فإن زينة المرأة العفة والحياء.
ومما يجب أن لا نغفل عنه وأن لا نجهله أن تستر المرأة لم ينفرد الإسلام وحده بتشريعه، بل إن الحجاب قد اتفقت جميع الأديان السماوية على أنه فرض من فرائض الله تعالى على إمائه، فلقد جاء في كتب الذين أوتوا الكتاب من قبلنا في التوراة والإنجيل أنه فرض من الله تعالى، ولا تزال تلك النصوص في كتبهم، أعماهم الله عنها فلم يحرفوها، جاء في الإصحاح 23 و38 من سفر "التكوين"، والإصحاح الثالث من سفر "إشعيا" قوله: (إن الله سيعاقب بنات إسرائيل على تبرجهن والمباهاة بخلاخيلهن بأن ينزع عنهن زينة الخلاخل والضفائر والحلق والأساور والبراقع والعصائب).
بل إن الكنيسة كانت إلى غاية القرون الوسطى تخصص جانبًا كبيرًا من مواردها حتى لا يختلط الرجال بالنساء.
ومما تجدر الإشارة إليه، أن التبرج عقوبة من الله سبحانه، ولا أدل على ذلك من قوله تعالى وهو يقص علينا معصية آدم وحواء: فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ [الأعراف:21].
ثم اعلموا أن كفار العرب في الجاهلية كان من مكارم أخلاقهم ـ كما تذكر أشعارهم ـ ستر المرأة وتحجبها، قال الشاعر:
تكسل عن جاراتها فيزرنها وتعتل من إتيانهن فتعذر
فالحرة كانت تجلس في البيت سيدة مخدومة، ولا تخرج إلا متسترة، ولكن من بنات اليوم من رضين لأنفسهن برتبة الإماء، حتى صار عرضهن ـ وهو أغلى ما تملكه المسلمة ـ صار يباع بأرخص الأثمان.
بل الذي يتأمل أشعار العرب يجد أن ستر الوجه كان معروفًا لديهم، فقد صح أن امرأة النعمان بن المنذر ملك الحيرة كانت تسير في الطريق، فسقط نصيفها ـ أي: خمارها ـ عن وجهها أمام الناس، فمالت إلى الأرض لتحمله بيدها، وتستر وجهها بيدها الأخرى، حتى قال النابغة الذبياني:
سقط النصيف ولم ترد إسقاطه فتناولته واتقتنا باليد
وحرب الفِجار قامت بين كنانة وهوازن بسبب تعرض شباب من كنانة لامرأة من غمار الناس، راودوها على كشف وجهها فنادت: "يا آل بني عامر"، فأجابتها سيوف بني عامر.
وورد في أشعارهم ذكر البرقع والقناع والحجاب والمرط والكساء ونحوها، مما يدل على أن ستر المرأة كان من مكارم الأخلاق عندهم، فجاء الحبيب المصطفى محمد فأتمها وقومها وكمل نقصها، فقد كان الشواذ يطفن بالكعبة وهن عرايا، فأزال الإسلام بهديه ذلك الانحطاط الكبير فقال تعالى: يَابَنِى ءادَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلّ مَسْجِدٍ [الأعراف:31]. أما الشائع في ذلكم الزمان فهو أنهن كُن يخرجن ويبدو منهن شيء من نحورهن وهو أسفل الرقبة، فأنزل الله حكمه من فوق سبع سماوات قائلاً: وَقَرْنَ فِى بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأولَى [الأحزاب:33]، هذا هو التبرج الذي أنكره الله عليهن، واعتبره عودة إلى الجاهلية الأولى، فما عسانا أن نقول عن تبرج نسائنا هذه الأيام؟!
وأدلة حجب المرأة وسترها في القرآن والسنة أكثر من أن تحصى، وأعظم من أن تستقصى، ولكن يكفي أن نذكركم بجوامع الكلم منها، قال الله تعالى: وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأولَى، وقال: ياأَيُّهَا النَّبِىُّ قُل لأزْواجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذالِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا [الأحزاب:59]، وقال عز وجل: وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ [النور:31]، يدنين جلابيبهن: تلمّه على نفسها حتى لا يظهر من بدنها شيء، ويضربن بخمرهن فلا يبدو شيء من شعرها أو نحرها، والكلمة الجامعة لذلك كله هي قول المصطفى : ((المرأة عورة)) رواه الترمذي. نص حكيم محكم جامع للأمر كله ((المرأة عورة))، من فقه هاتين الكلمتين فقه الحكم كله، ((المرأة عورة)). فكما تستحي ـ أيها الرجل ـ من أن تظهر عورتك، فينبغي أن تستحي من أن تظهر نساؤك وبناتك متبرجات.
((المرأة عورة))، احفظوا هذه النصوص لتضعوها في نحور دعاة التبرج والخلاعة، الذين ما فتئوا يُشيعون الفاحشة في الذين آمنوا بجميع الوسائل المرئية والسمعية والمقروءة، إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِى الَّذِينَ ءامَنُواْ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِى الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ [النور:19].
فاعلم ـ أيها المسؤول ـ عن أمك وأختك وابنتك وزوجتك أن أعداء الله كُثُر، وأمرك لابنتك بالحجاب سلاح ضدهم أشد من عشرات الخطب المنبرية في المساجد، وأنفع من مئات المحاضرات. فهؤلاء يريدون التمتع بالمرأة المسلمة كما يتمتع الغربيون بنسائهم، إنهم يزينون لها الظواهر ويكيدون لها في الباطن:
خدعوها بقولهم حسناء والغواني يغرهن الثناء
نظرة فابتسامة فسلام فكلام فموعد فلقاء
فاتقوا الله في قلوب العذارى إن العذارى قلوبهن هواء
الخطبة الثانية
فإنه لا يمر يوم إلا وترى الذين في قلوبهم غيرة على دينهم يتحسرون على ما يخططه أعداء الله والمسلمون غافلون.
أيها الوالد، أيتها الأخت المسلمة، ألا يحن قلبك لدينك؟! ألا تبكون على هذا الدين الذي يطعن فيه كل يوم كل من أتيحت له فرصة؟! ألا تعلمون أن ترك الحجاب هو طعنة في ظهور إخوانكم وأخواتكم؟!
أختي المسلمة، ألا تتذكرين ذلك المشهد؟! أيها الوالد، ألا تتذكر يوم تفارقك زوجتك أو ابنتك أو أختك، يوم تعود إلى الله خالقها جامدة لا تتكلم ولا تتحرك؟! ألا تشفق أن تسحب إلى النار سحبا، وتدع إلى جهنم دعّا؟!
ألا تعلم أن رسول الله قال: ((صنفان من أهل النار لم أرهما: قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات مميلات مائلات، رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا)) رواه مسلم.
ألا نعلم أن رسول الله رأى ليلة أسري به صورا من العذاب الفظيع الذي لا يمكن لأحد تصوره، هذا العذاب ثبت لمن عصى الله بذنوب هي أدنى بكثير من معصية التبرج.
تذكري ذلك اليوم، تذكر ذلك أيها الأب وأيها الأخ، وأيتها الأم وأيتها الأخت، سارعوا بدعوة الغافلات إلى ما فيه خير الدنيا والآخرة، وذكروها أنها يوما إلى الله تعالى، وهذا اليوم لا ريب آت، وكل آت قريب، هذه ذكرى فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا.
إن حضورك أيها الأب، أيها الأخ، أيتها الأم، أيتها الأخت، حضوركم جميعًا إلى سماع خطب الجمعة إنما هو للعمل بما تسمعونه، فإياكم أن تكونوا من الذين طبع على قلوبهم فهم لا يفقهون.
وأما من أصر على ما هو عليه، ولا يهتم بما أنزل عليه، وأصر على ظلم العباد بصدهم عن رب العباد، فنقول له: هداك الله لما فيه الخير والصلاح، والهدى والفلاح.
ونسأله تعالى أن يجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأن يوفق بنات المسلمين ونساءهم للاعتصام بصراط الله المستقيم، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
ــــــــــــــــــــ(67/217)
...
التحذير من التبرج (2)
...
...
3111
...
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
...
...
الكبائر والمعاصي, المرأة
...
عبد الحليم توميات
...
...
رايس حميدو
...
2/6/1421
...
...
عمر بن الخطاب
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- ظاهرة التبرج عنوان الجاهلية. 2- الكاسيات العاريات. 3- شروط الحجاب. 4- حرص نساء خير القرون على الستر. 5- التحذير من إظهار الزينة أمام الأقارب غير المحارم. 6- أنواع الحجاب. 7- الغيرة على الأعراض.
الخطبة الأولى
أما بعد: فلقد تحدثنا معكم في الخطبة الأخيرة عن مظهر من مظاهر الظلم الفظيعة، وصورة من صور الظلم الشنيعة، التي انتشرت في المجتمعات الإسلامية حتى غدت شبيهة بالمجتمعات الكفرية، التي لا تدين بدين، ولا تحتكم إلى شريعة رب العالمين، تلكم الظاهرة هي ظاهرة تبرج النساء، وتلونا على مسامعكم أحاديث المصطفى المرهبة أشد الترهيب من ذلك، وكان من أشهدها ترهيبًا قوله : ((صنفان من أهل النار لم أرهما: قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات مميلات مائلات، رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا)). ونريد أن نعرف معنى قوله : ((كاسيات عاريات)).
ولا بد أن نبين هذا لأن كثيرًا من النساء يحسبن أنفسهن متحجبات وهن لسن كذلك، مثلهن كمثل المسيء صلاته الذي قال له رسول الله : ((ارجع فصل فإنك لم تصل))، فنقول لهؤلاء النسوة: ارجعن فاسترن أنفسكن فإنكن غير مستورات.
قال العلماء: تكون المرأة كاسية عارية بأحد ثلاثة أمور:
- بأن يكون لباسها قصيرًا لا يستر جميع البدن، فهذه كاسية عارية.
- بأن يكون شفافًا غير سميك، ولو كان طويلاً، فهذه كاسية عارية.
- بأن يكون الحجاب ضيقًا غير فضفاض، فيجسد جسدها ويبين تقاسيم بدنها، فهذه كاسية عارية.
أما هؤلاء اللائي يبدين معظم البدن فإنهن عاريات عاريات.
وعليك أن تنظر إلى نسائك وبناتك أين يدخلن؟ وهن تحت مسؤوليتك، فإياك أن تحرمها من الجنة ومن رحمة الله تعالى.
أذكرك بحديث رواه الإمام أحمد عن عمرو بن العاص قال: بينما نحن مع رسول الله في هذا الشعب إذ قال: ((انظروا هل ترون شيئا؟)) فقلنا: نرى غربانا فيها غراب أعصم أحمر المنقار والرجلين، فقال رسول الله : ((لا يدخل الجنة من النساء إلا من كان منهن مثل هذا الغراب في الغربان))، الغراب الأعصم هو نوع نادر من الغربان أحمر المنقار والرجلين.
الجنة أم الأمنيات وأعظم المرجوات، الجنة التي إذا تذكرتها المسلمة هان عليها كل شيء في سبيلها. واستمعوا إلى هذا الحديث الذي رواه البخاري عن عطاء قال: قال لي ابن عباس رضي الله عنه: ألا أريك امرأة من أهل الجنة؟ قلت: بلى، قال: هذه المرأة السوداء، أتت النبي فقالت: إني أُصرع وإني أتكشف، فادع الله لي، فقال النبي : ((إن شئت صبرت ولك الجنة، وإن شئت دعوت الله أن يعافيك))، قالت: أصبر، فقالت: إني أتكشف فادع الله لي أن لا أتكشف، وفي رواية قالت: إني أخاف هذا الخبيث أن يجردني، فدعا لها.
أرأيتم حرص المرأة المسلمة على الجنة، يهون عليها صرع العفاريت ولا ترضى أن يبدو شيء من بدنها رضي الله عنها وأرضاها.
وما أعظم ما رواه الإمام أحمد عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، كانت تستحي وتقول: كنت أدخل بيتي الذي دفن فيه رسول الله وأبي، فأضع ثيابي وأقول: إنما هو زوجي وأبي، فلما دفن معهما عمر بن الخطاب فوالله ما دخلت إلا وأنا مشدودة علي ثيابي حياء من عمر. أين عمر؟! تحت الأرض، تحت الأرض وتستحي منه عائشة رضي الله عنها.
فيا أيتها النسوة في البيوت، أخاطبكن من على هذا المنبر، احذرن من كشف شيء من أبدانكن لغير محارمكن، فإن كثيرًا من النساء يتبعن العرف والعادة، ويمنعن بناتهن من التستر من الأجانب، ويتساهلن أمام زوج الأخت مثلاً أو ابن العم أو ابن الخال أو الجيران وغير ذلك ممن لم يعتبره الله محرمًا لهن، أين هؤلاء من عمر وهو حي؟! وأين هم منه وهو ميت؟! ومع ذلك تمتنع عائشة من إبداء شيء من بدنها.
ثم أنتم أيها الرجال، كيف بعد كل هذا تترك نساءك وبناتك وأخواتك يخرجن سافرات إلى الشوارع أمام ذئاب البشر؟! الذين لا يهدأ لهم بال حتى يمزقوا بأنياب الفسق والفجور عرضك وأنت تعلم ذلك لا محالة.
أيها الناس، يا عباد الله، اتقوا الله، قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَّ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6].
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله أفضل الأنبياء وسيد الأتقياء وإمام المرسلين، اللهم صل عليه وسلم وبارك وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: اعلموا ـ عباد الله ـ أن الحجاب الذي أنزله الله تعالى على عباده ثلاثة أنواع:
- حجاب في البيت: فمكان المرأة البيت رغم أنف العلمانيين، مكان المرأة البيت رغم أنف دعاة التحرر والانحلال من الدين، مكان المرأة البيت فلا تخرج إلا لحاجة، تشريفًا لها وحماية لعزتها وعفتها وكرامتها، تخرج للحاجة لزيارة الأقارب وصلة الأرحام، ولشراء ما لا يمكن غيرها شراؤه، وذلك بشروط خمسة، متى فقد شرط واحد حرم عليها الخروج، أما أن تكون خراجة ولاّجة، تخرج كل يوم مرات عديدة أو لغير حاجة، فإنها بذلك تخالف أمر الله الذي قال: وَقَرْنَ فِى بُيُوتِكُنَّ [الأحزاب:33]، وأنتم تعلمون معنى القرار والاستقرار.
- النوع الثاني من الحجاب حجاب البدن بشيء يستر جميع البدن، سميك غير شفاف، وفضفاض غير ضيق، وغير لافت لنظر الرجال، وقد بينا ذلك، إذن فالمسألة ليست لعبًا، وليس كل ما نعده حجابًا فهو حجاب.
- النوع الثالث حجاب داخل البيت يستر بدن المرأة أمام المحارم.
بعد كل ما ذكرناه، وبعد كل ما نراه هذه الأيام من انحراف كبير، وبعد كل ما نسمعه من حوادث الزنى واللواط والسحاق، بعد كل ذلك ندرك تمامًا حكمة الباري سبحانه في فرض الحجاب، الله الذي قال وقوله الحق: أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك:14]، الله الذي قال وقوله الصدق: وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ [البقرة:216]. فكم من البيوت هدمت، وكم من الأعراض قد لوثت، وكم من الجلود قد تنجست.
أيها المسلم، أسأل نفسك إذا خرجت امرأتك أو ابنتك أو أختك متزينة، لمن تتزين؟ اسأل نفسك هذا السؤال، ولا أنتظر منك الجواب، إنما علينا البلاغ، إنما علينا التذكير، نذكرك بشيء اسمه: "الغيرة".
وأختم حديثي بقصة تكتب بماء الذهب، قصة جرت لامرأة اختصمت مع زوجها إلى قاضي الري عام 286هـ، ادعت على زوجها صداقًا قدره خمسمائة دينار، وقالت: ما سلمه لي أبدا، فأنكر الزوج، فجاء الشهود الذين حضروا مجلس العقد، فقال الشهود: نريد أن تُظهر لنا وجهها حتى نعلم أنها الزوجة، واعلموا ـ عباد الله ـ أن هذا من المواطن التي أباح الله فيها النظر إلى المرأة، إذ لا يخفى عليكم أن نظر الرجل إلى المرأة محرم إلا في مواطن ضيقة كالخطبة والمعاملة كبيع وإجارة، وفي الشهادة كما في قصتنا هذه، لكن لما سمع الزوج ذلك صرخ، صرخ وقال: لا تفعلوا هي صادقة فيما تدعيه، إنه يريد صيانة زوجته من أن يراها الرجال، فلما رأت الزوجة ذلك منه، وأنه ما أقرّ إلا ليصون وجهها، قالت: هو في حل من صداقي في الدنيا والآخرة.
فهذا ما ينبغي أن يكون عليه المسلم والمسلمة هذه الأيام، قَدْ جَاءكُمْ مّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ يَهْدِى بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِراطٍ مُّسْتَقِيمٍ [المائدة:15، 16].
ــــــــــــــــــــ(67/218)
عيد الفطر 1423هـ
...
...
4013
...
الأسرة والمجتمع, التوحيد, الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
...
...
أهمية التوحيد, فضائل الأزمنة والأمكنة, قضايا المجتمع, محاسن الشريعة
...
عبد العزيز بن محمد القنام
...
...
وادي الدواسر
...
1/10/1423
...
...
جامع النويعمة القديم
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- معاني العيد. 2- العيد فرصة لأداء الحقوق وصلة الأرحام. 3- خطورة الغزو الفكري على الأمة الإسلامية. 4- الحث على تعاهد الأيتام والمحاويج في العيد. 5- كلمة للنساء.
الخطبة الأولى
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد، الله أكبر كبيرًا، والحمد لله كثيرًا، وسبحان الله بكرة وأصيلاً، الله أكبر كلما صام صائم وأفطر، الله أكبر كلما لاح صباح عيد وأسفر، الله أكبر كلما لاح برق وأرعد سحاب وأمطر، الله أكبر ما هلل المسلم وكبر. الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
الحمد لله الذي سهل لعباده طريق العبادة ويسر، ووفَّاهم أجورهم من خزائن جوده التي لا تحصر، سبحانه له الحمد على نعمه التي تتكرر، وله الشكر على فضله وإحسانه وحق له أن يشكر. نشهد أنه الله لا إله إلا هو انفرد بالخلق والتدبير، وكل شيء عنده بأجل مقدور، ونشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله أفضل من صلى وصام وزكى وحج واعتمر، صلى الله عليه وعلى آله الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهر.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، واشكروه على نعمه التي لا تحصى، وآلائه التي تترى، ألا وإن يومكم هذا يوم شريف، فضله الله وشرفه، وجعله عيدًا سعيدًا لأهل طاعته، يفيض عليهم فيه من جوده وكرمه، فاشكروه على إكمال عدة الصيام، واذكروه وكبروه على ما هداكم وحباكم من نعمة الإسلام، واعبدوه حق عبادته، واتقوه حق تقاته، ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون. أفردوه وحده بالعبادة، فإنه خلقكم لها كما قال سبحانه: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُون [الذاريات:56]، واعرفوا ـ رحمكم الله ـ نعم الله عليكم وفضله في هذا اليوم السعيد، فإنه اليوم الذي يفيض الله فيه على المؤمنين سوابغ نعمائه، ويعمهم بواسع عطائه، ويوالي عليهم جوده وامتنانه، ويعمهم بفضله وإحسانه، هذا يوم توّج الله به الصيام، وأجزل فيه للصائمين والقائمين جوائز البر والإكرام. قال ربنا سبحانه: وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [البقرة:185].
وها أنتم قد أكملتم بفضل الله صيام شهركم، وجئتم إلى مصلاكم تكبرون الله ربكم، على ما هداكم إليه من دين قويم وصراط مستقيم وصيام وقيام وشريعة ونظام، وقد خرجتم إلى صلاة العيد وقلوبكم قد امتلأت به فرحًا وسرورًا، وألسنتكم تلهج بالذكر والدعاء، تسألون ربكم أن يتقبل عملكم، وأن يتجاوز عنكم، وأن يعيد عليكم مثل هذا اليوم، وأنتم في خير وأمن وإيمان واجتماع على الحق وابتعاد عن الباطل.
والعيد ـ يا عبد الله ـ يتضمن معاني إسلامية كبيرة ومنافع وحقائق كثيرة، يتضمن العيد العقيدة الإسلامية الصافية النقية التي هي أعظم نعمة على الإنسان، وذلك بتعظيم الله وتكبيره والثناء عليه، والشهادة بأنه الإله الحق الذي يتقرب إليه المسلم، يتقرب إليه بالدعاء والرجاء والاستعانة وجميع أنواع العبادة، لا يشرك معه في عبادته أحدا، كما قال تعالى: وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ اللَّهِ أَحَدًا [الجن:18]، والشهادة بأن محمدًا عبده ورسوله بطاعة أمره وترك نهيه وتصديق أخباره وعبادة الله بشرعه. والعيد يتضمن العبادة والذل والخضوع والمحبة لله تعالى، فصلاة العيد تشتمل على ذلك كله. والعيد يتضمن بيان التشريع الإسلامي، وذلك بإظهار شعيرة العيد وأداء صلاته وتفصيل الخطبة لأحكام الإسلام العظيمة.
والعيد يتضمن تهذيب الخلق وتقويم السلوك، وذلك بالترغيب في الصبر والاحتمال والحلم والتواصل في هذا اليوم والتسامح وتطهير القلوب من الغل والحسد والضغائن؛ لأنه يوم فرح وأخوة إسلام. والعيد يتضمن الترابط الأخوي بين المسلمين والتكافل الاجتماعي، وذلك بأداء زكاة الفطر قبل الصلاة لقوله : ((أغنوهم في هذا اليوم)) يعني: الفقراء. رواه الدارقطني من حديث ابن عمر.
والعيد يتضمن يسر الإسلام وسماحته، ففي هذا اليوم أوجب الله الفطر وأباح الطيبات، كما هو الحال قبل الصيام في إباحة الطيبات، ولكن الإسلام ربط ذلك بالأصل الكبير وهو الإيمان والاستسلام لرب العالمين، وافتتح فرح العيد وسروره والتمتع بالطيبات فيه، افتتحه بصلاة ركعتين لله تعالى؛ حتى لا ينساق المسلم وراء لذاته وينسى ربه الذي رباه بالنعم وصرف عنه النقم، قال الله تعالى: ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تُحَرّمُواْ طَيّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالاً طَيّبًا وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِى أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ [المائدة:87، 88].
وزمن العيد وقت لتنزّل الخيرات والبركات والرحمة واستجابة الدعوات، فعن ابن عباس رضي الله عنهما يرفعه: ((إذا كان يوم عيد الفطر هبطت الملائكة على أفواه السّكك ينادون بصوتٍ تسمعه الخلائق إلا الجن والإنس: يا أمة محمد، اخرجوا إلى رب كريم يعطي الجزيل، فإذا برزوا إلى مصلاهم، قال الله تعالى: يا ملائكتي، ما جزاء الأجير إذا عمل عمله؟ قالوا: إلهنا وسيدنا أن توفيه أجره؟ قال: فإني جعلت ثوابهم من صيامهم وقيامهم مغفرتي ورضواني، وعزتي لا يسألوني في جمعهم هذا للآخرة شيئًا إلا أعطيتهم، ولا لدنياهم إلا نظرت لهم، انصرفوا مغفورًا لكم)) قال مورق العجلي: فيرجع قوم من المصلى كما ولدتهم أمهاتهم. فهو يوم الجائزة، ويسمى ذلك اليوم في السماء يوم الجائزة. رواه الطبراني.
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
أيها المسلمون، في هذا اليوم العظيم أي: في يوم عيد الفطر يجتمع المسلمون في جميع أقطار المعمورة يجتمعون لصلاة العيد، وهناك حينما يجتمعون تبرز الوحدة الإسلامية في أبهى ثيابها وكذلك في أروع صورها، وذلك لأنه يحضر ويجتمع في المصلى الصغير والكبير والعبد والذكر والأنثى وكذلك أيضًا الرئيس والمرؤوس، لا فارق بينهم، يجتمع الأسود مع الأبيض والأبيض مع الأسود على اختلاف اللغات وعلى اختلاف الألوان، وإنها لوحدة عظيمة. هذا اليوم يوم مشهود من أيام المسلمين، يوم عيد وفرحة وسرور، يوم يغتاظ منه الكفار وأعداء الدين، إنه فرصة ـ عباد الله ـ لإزالة الضغائن والأحقاد من القلوب، فدعوا الضغائن لا تكن من شأنكم؛ لأن الضغائن والأحقاد تقضي على الأمة الإسلامية، وتوهن بناءها، وتقوض أركانها، إنها سبب لِمَرض القلوب وتباعدها وتنافرها، إنها ـ عباد الله ـ تنخر في جسم الأمة الإسلامية كما ينخر الدود في العظام البالية، وإذا رأيتم ما يثير الضغائن والأحقاد بين أكثر المسلمين اليوم على مستوى المجتمعات والدول والأفراد لوجدتموه اختلافًا على الدنيا وملذاتها، ووقوعًا في الفتن المتنوعة التي غزت مجتمعات المسلمين وبلادهم، من فتنة النساء إلى فتنة الأموال ونهاية بفتنة المآكل والمشارب، فوقعت الضغينة، ووقع الحقد بين أفراد الأسرة الواحدة. نسأل الله السلامة والعافية.
أيها المسلمون، ليقم كل واحد منكم بحقوق إخوانه المسلمين عليه، ومن ذلك السلام وعيادة المريض واتباع الجنائز وتشميت العاطس وإجابة الدعوة وأداء الأمانة ونشر المحبة والوئام وتحقيق التعاون على البر والتقوى، وأن يحب المرء المسلم لإخوانه المسلمين ما يحب لنفسه، بعيدًا عن الأثرة والأنانية وحب الذات والحسد والحقد والبغضاء والغيبة والنميمة والشحناء بالأيمان الكاذبة وغيرها.
ليقم كل واحد منكم ـ يا عباد الله ـ بحقوق الوالدين، فإن حق الوالدين عظيم، قرنه الله سبحانه بحقه فقال سبحانه: وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَانًا [الإسراء:23]، كما يجب أن يؤدي المسلم واجبه تجاه أقاربه وجيرانه من حيث الصلة والبر والإحسان، وليحذر من قطيعة الرحم فإن شؤمها عظيم وضررها كبير، يحل بصاحبه العقاب العاجل قبل الآجل، فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ فِى الأَرْضِ وَتُقَطّعُواْ أَرْحَامَكُمْ أَوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ [محمد:22, 23].
وإن مما يؤسف له أن هناك خللاً في العلاقات الاجتماعية بين كثير من الأقارب، فأين الرحمة عند هؤلاء والديانة؟! بل أين المروءة والإنسانية؟! وإذا كان هذا في حق الوالدين، فما بالكم بموقف هؤلاء من الأقارب والأرحام؟! فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ فِى الأَرْضِ وَتُقَطّعُواْ أَرْحَامَكُمْ أَوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ [محمد:22، 23].
لقد وصل الحال ببعض الناس أن يمتلئ قلبه غيظًا وحقدًا على أقاربه وذوي رحمه، فيقاطعهم بل يعاديهم، ويخاصمهم بل يقاضيهم، ويتمنى لهم الموتَ الزؤام، من أجل أمر تافهٍ حقير، يتعلَّق بحفنة من الحطام أو وشاية غِرّ لئيم أو زلة لسان أو شجار بين الأطفال، فتمرُّ الأشهر والسنوات وقلبُه يغلي عليهم، ونفسه تموج غلاً ضدّهم كما يموج البركان المكتوم، فلا يستريح إلا إذا أرغى وأزبد وآذى وأفسد، وانبلجت أساريرُه بنشر المعايب وإذاعة المثالب، وسرد القبائح وذكر الفضائح، وتلك ـ لعمرو الحق ـ من دلائل الصغار واللؤم وخسّة الطبع وقلة المروءة لدى أقوام لا يتلذَّذون إلا بالإثارة والتشويش، ولا يرتاحون إلا بالتحريش والتهويش. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "المؤمن لا يطالب ولا يعاتب ولا يضارب".
إن غليانَ مراجل القطيعة في المجتمع لا سيما بين أبناء الأسرة وذوي الرحم والقربى وطغيان المآرب الشخصية والمصالح الذاتية أدواءٌ فتاكة إذا تمكَّنت من جسد الأمة أثخنتها، فهي مصدر كلِّ بلاء، وسبب كل عداء، ومنبع كلِّ شقاء، بل هي السلاح البتار الذي يشهره الشيطان ضدّ القلوب فيفرّقها والعلاقات فيمزِّقها، في غلياناتٍ شيطانية وهيجانات إبليسية، إن أُرخِيَ لها الزمام وأطلِق لها الخطام قضت على حاضر الأمة ودمّرت مستقبلَها، وإذا تنافر ودّ القلوب كُسِرت زجاجات التواصل، وتمكَّن الشرّ في النفوس، وعاد الناس ذئابًا مسعورةً ووحوشًا كاسرة، وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ في الأرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوء الدَّارِ [الرعد:25].
أمة الإسلام، ويوم أن ضعُف التديّن في قلوب كثيرين وكثُر الجهل بالشريعة وطغت المادة ضعُفت أواصر التواصل وتعددت مظاهر القطيعة، وإلا فلا تكاد فضائل الصلة وآثارها الخيرة تخفى على العاقل اللبيب، فهي صفة أهل الإيمان، وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوء الحِسَابِ [الرعد:21]، وهي ثمرة من ثمار الإيمان بالله واليوم الآخر، خرج الشيخان من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليصل رحمه)). وهي سبب للبركة في الرزق والعمر، يقول : ((من أحبّ أن يُبسَط له في رزقه ويُنسأ له في أجله فليصل رحمه)) مخرّج في الصحيحين من حديث أنس رضي الله عنه، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((إن الله خلق الخلقَ حتى إذا فرغ منهم قامت الرحم فقالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة، قال: نعم، أما ترضين أن أصل من وصلكِ وأقطع من قطعك؟! قالت: بلى، قال: فذلك لك))، وعن جبير بن مطعم رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((لا يدخل الجنة قاطع))، قال سفيان: يعني: قاطع رحم. رواه البخاري ومسلم.
إن حقًا على كل قاطعِ رحم أن يبادر بالصلة ـ وهذا الوعيد يقرع سمعَه ـ قبل فوات الأوان، ولا أظنّ أن أحدًا يُعذر بعد خدمة الاتصالات الحديثة، فرحم الله عبدًا يصِل رحمه وإن قطعوه، يتعهَّدهم بالزيارة، ويتخوَّلهم بالهدية وإن جفوه، يقول : ((ليس الواصل بالمكافئ، وإنما الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها)) خرجه البخاري، وعند مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلاً قال: يا رسول الله، إن لي قرابةً أصلهم ويقطعوني، وأُحسن إليهم ويسيئون إليّ، وأحلُم عنهم ويجهلون عليَّ، قال : ((لئن كنت كما قلتَ فكأنما تُسفّهم الملَّ، ولا يزال معك من الله ظهير عليهم ما دمت على ذلك)).
فهنيئًا لقريبٍ أعان على صلته بقبول العذر والصفح والعفو والتغاضي عن الهفوات والتغافل عن الزلات، إن أحسنَ فلا يمنّ، وإن أعطى فلا يضِنّ، لا يعرف السباب، ولا يُكثر العتاب، فليست تدوم مودةٌ وعتابُ، يتجنَّب المراء والجدال، ويحسن الأقوالَ والفعال، يشارك أقاربَه آلامهم وآمالهم، ويشاطرهم أفراحهم وأتراحهم، مفتاحٌ لكل خير، مغلاق لكل شرّ، ينصح ولا يفضح، ويستر ولا يعيِّر، وفي ذلك ذكرى للذاكرين وعبرة للمعتبرين.
هذه ـ عباد الله ـ شمس العيد قد أشرقت، فلتشرق معها شفاهكم بصدق البسمة، وقلوبكم بصفاء البهجة، ونفوسكم بالمودة والمحبة، جدّدوا أواصر الحب بين الأصدقاء، والتراحم بين الأقرباء، والتعاون بين الناس جميعًا.
في العيد تتقارب القلوب على الود، وتجتمع على الألفة، ويتناسى ذوو النفوس الطيبة أضغانهم، فيجتمعون بعد افتراق، ويتصافحون بعد انقباض، ويتصافون بعد كدر، فتكون الصلات الاجتماعية أقوى ما تكون حبًا ووفاء وإخاء.
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
أيها المسلمون، فأخلصوا لله توحيدكم. الصلاة الصلاة، حافظوا عليها واحفظوها، فهي الركن الثاني من أركان الإسلام، فهي عمود الإسلام، وهي الركن العملي الأول من أركان الإسلام، فحافظوا عليها ـ رحمكم الله ـ جماعةً، وأدوها في وقتها في المسجد، واعتنوا بها، ولتكن من أهمّ أموركم، فإن علامة حب الإسلام العناية بهذه الصلوات والاهتمام بها، أدوا زكاة أموالكم، وصوموا رمضان، وحجوا البيت.
كن ـ أخي المسلم ـ داعيًا إلى الله على علم وبصيرة، آمرًا بالمعروف، ناهيًا عن المنكر، على حكمة وعلم، صابرًا على ما أصابك. وحارس الملة والدين، وعليكم بصدق الحديث والوفاء بالعهود وإنفاذ الوعود، فإن ذلك من الإيمان الذي أمر به القرآن: وَاعْبُدُواْ اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا [النساء:36]، فاحذروا السحرة والمنجمين والكهنة والعرافين، فمن حقق كمال التوحيد دخل الجنة بغير حساب ولا عذاب.
وإياكم وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، قال الله تعالى: وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء:93].
وإياكم والربا؛ فإنه يمحق البركة ويدخل صاحبه النار، قال الله تعالى: يَمْحَقُ اللَّهُ الْرّبَوااْ وَيُرْبِى الصَّدَقَاتِ [البقرة:276]، وعنه : ((الربا نيف وسبعون بابًا، أهونها مثل أن ينكح الرجل أمه)).
وإياكم والزنا فإنه عارٌ ونارٌ، وعذاب وذلة وصغار، قال الله تعالى: وَلاَ تَقْرَبُواْ الزّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً [الإسراء:32]، وفي الحديث: ((ما من ذنب أعظم عند الله من أن يضع الرجل نطفته في فرج حرام)).
وإياكم والمسكرات والمخدرات، فإنها شرٌ ووبال، وندامة وخبال، وغضب لذي العزة والجلال. وإياكم وقول الزور وشهادة الزور، والغيبة والنميمة، وقذف المحصنات؛ فإن الله حرم ذلك بالآيات البينات.
وإياكم والمكاسب المحرمة وأموال الضعفاء والأيتام وأوقاف المسلمين، فإن ذلك ما خالط مالاً إلا أفسده، ولا دخل بيتًا إلا دمره ونكده. كم من الناس لا يتورع في الكسب الحلال، بل يلجَأ إلى ظلم النّاس بالشّتم والقذف وشهادة الزّور والضرب والقتل لِيحصّلوا على شيء من حطام الدنيا، ويعدّون تحصيل ذلك شرفًا وربحًا، وهو في الحقيقة خسّة وإفلاس وخزي وندامة يوم القيامة، ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((إن المفلسَ من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، حتى إن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من خطاياهم فطرح عليه ثم طرح في النار)). فاقنعوا بالحلال عن الحرام، وتوبوا إلى الله من المظالم والآثام.
وإياكم ومضارة المسلم، فمن ضار مسلمًا ضاره الله. واحذروا الخصومات الباطلة، فإن من ادعى ما ليس له فهو في سخط الله حتى ينزع من خصومته. واحذروا الحلف الكاذب فإنه يغمس صاحبه في جهنم.
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
أيها المسلمون، الغزو الفكري والأخلاقي سلاحٌ فتاك استعمله أعداء الإسلام ليبعدوا المسلمين عن دينهم وقتل الغيرة في نفوسهم ووأد الفضيلة في أمرهم، فعملوا على ذلك واستخدموا في سبيله الوسائل المسموعة والمرئية والمقروءة، وأنتم ـ أيها المسلمون ـ في هذه الأيام أمام خطر داهم وشر قادم، له تأثيره على المسلمين عقديًا وفكريًا وخلقيًا، وذلك عن طريق ما يسمى بالبث الإعلامي المباشر والفضائيات التي علت كثيرًا من البيوت إعلانًا للفحشاء بوقاحة وإغراقًا في المجون، وتعرض تفاصيل الفحشاء في كثير من الأحيان، فلا حول ولا قوة إلا بالله، كيف يستسيغ ذوو الشهامة من الرجال والعفة من النساء لأنفسهم ولأطفالهم لفتيانهم ولفتياتهم هذا الغثاء المدمر وقنوات الفضاء الواسع؟! أين ذهب الحياء؟! وأين ضاعت المروءة؟! أين الغيرة من بيوت هيأت لناشئتها أجواء الفتنة، وجرتهم إلى مستنقعات التفسخ جرًا، وجلبت لهم محرضات المنكر تدفعهم إلى الإثم دفعًا وتدعُّهم إلى الفحشاء دعًّا؟!
شباب الإسلام، أنتم أمل الأمة ورجال المستقبل، ولن تبنوا أمجادكم وتؤمنوا مستقبلكم وتقوموا بحمل الأمانة تجاه دينكم وأمتكم وبلادكم إلا بالاستقامة على دين الله والتحلي بالصبر والمثابرة والأخلاق الكريمة والبعد عن الرذائل والفساد والانحراف، صونوا أنفسكم ـ يا عباد الله ـ عن الملهيات والمغريات، لا تغتروا ـ أيها الشباب ـ بشبابكم وصحتكم، فالموت لا يفرق بين صغير وكبير، ولا غني وفقير، تفطنوا لمخططات أعدائكم تجاهكم، وكونوا منها على حذرٍ وحيطة.
أيها المسلمون، ربّوا أبناءكم التربية الإسلامية، فهم أمانة في أعناقكم، ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا [التحريم:6].
سهّلوا أمر الزواج، وأعينوا على إفشائه، فإن ذلك من علامة الخير، تعاونوا على البر والتقوى.
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَأَنَّ هَاذَا صِراطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذالِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون [الأنعام:153].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، ونفعنا بهدي سيد المرسلين، وبقوله القويم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولكافة المسلمين من كل ذنب، فاستغفره وتوبوا إليه، فيا لفوز المستغفرين، ويا لبشرى التائبين، اللهم أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا، وأنت خير الغافرين.
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
الخطبة الثانية
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
الحمد لله معيد الجمع والأعياد، ومبيد الأمم والأجناد، وجامع الناس ليوم لا ريب فيه إن الله لا يخلف الميعاد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا ند ولا مضاد، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله المفضّل على جميع العباد، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم التناد، وسلم تسليمًا.
أيها المسلمون، زينوا عيدكم بالتكبير وعموم الذكر، يقول المصطفى : ((أيام العيد أيام أكل وشرب وذكر لله تعالى))، وأدخلوا السرور على أنفسكم وأهليكم، واجعلوا فرحتكم بالعيد مصحوبة بتقوى الله وخشيته، ولا تنفقوا أموالكم أيام العيد فيما حرم الله، يقول علي رضي الله عنه: (كل يوم لا نعصي الله فيه فهو لنا عيد).
وإذا غدا المصلي لصلاة العيد من طريق سُنّ له أن يرجع من طريق آخر، فقد روى البخاري رحمه الله في صحيحه عن جابر رضي الله عنه أن النبي كان إذا خرج إلى العيد خالف الطريق.
أيها المسلم، هذا يوم عيد فصيره عيدًا لإخوانك، ضمِّد جراح المجروحين، وامسح دمعة اليتيم، وفرّج كرب المكروبين، ويسِّر على المعسرين.
عباد الله، كما أدخلتم الفرحة والسرور في قلوبكم بهذا العيد أدخلوا الفرحة والسرور في قلوب الأيتام الذين فقدوا آباءهم، فقدوا القلب الرحيم واليد الحانية، قد انكسرت قلوبهم بفقد آبائهم، فلا تنسوهم ـ عباد الله ـ في غمرة فرحتكم وسروركم، عوضوهم عنهم في هذا اليوم العظيم بالصلة والإحسان وإزالة ذل اليتم وقسوته من قلوبهم، اجعلوهم لا يحسّون بفقد آبائهم، فكونوا لهم آباءً وإخوانًا، فإن في ذلك أجرًا عظيمًا وعاقبة حميدة.
فعلينا ـ عباد الله ـ أن نعتدل في فرحِنا في هذا اليوم الجليل، وأن لا ينسينا الفرح بهذا اليوم إخوانًا لنا يعيشون بيننا قد عض عليهم الفقر بأنيابه، فلم يفرحوا كما فرح إخوانهم، خيّم الحزن عليهم، وعلت الكآبة وجوههم، لا يقدرون على التجمل في هذا اليوم، فلنتذكرهم ـ عباد الله ـ ونواسيهم في هذا اليوم، ونمسح دمعة الحزن التي سالت على وجناتهم، فتذكرهم في هذا اليوم من أفضل الأعمال وأرجاها عند الله، ونسعى في قضاء حوائجهم، يقول رسول الله : ((الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله أو القائم الليل الصائم النهار) رواه البخاري، ففي الحديث: ((إنما تنصرون وترزقون بضعفائكم)).(67/219)
وتذكروا ببهجتكم وسروركم في هذا اليوم المبارك المعوزين والمضطهدين في بعض الأقطار من إخوانكم المسلمين، الذين تعلو وجوههم الكآبة والحزن، وترجف قلوبهم من الخوف وقلة الأمن بمطاردة أعدائهم أعداء الإسلام بالقنابل المحرقة والأسلحة الفتاكة وبالاضطهاد في دينهم وحريتهم وكرامتهم، يغتصبون بلادهم وأوطانهم، وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ، وهم مع ذلك صابرون مناضلون في بسالة وتضحية، فهذا شهيد، وذاك جريح، وآخر أسير، فكم أيموا النساء، ويتّموا الأطفال، وشتتوا الأسر، وفرقوا بين الأمهات وأطفالهن، فتذكروا إخوانكم في تلك البقاع، واشكروا الله على أمنكم واستقراركم، وإن من شكر النعم القيام بأمر الله والإحسان إلى أولئك المجاهدين والمضطهدين.
أيها المسلمون، اعلموا أنه ليس السعيد من تزين وتجمل للعيد فلبس الجديد، ولا من خدمته الدنيا وأتت على ما يريد، لكن السعيد من فاز بتقوى الله تعالى، وكتب له النجاة من نار حرها شديد، وقعرها بعيد، وطعام أهلها الزقوم والضريع، وشرابهم الحميم والصديد، وفاز بجنة الخلد التي لا ينقص نعيمها ولا يبيد.
واحذروا عباد الله، احذروا عدوكم إبليس اللعين لعنه الله، فإنه كان في رمضان مقهورًا، ويريد أن يأخذ منكم بثأره فيجعل الأعمال هباءً منثورًا، فداوموا على الطاعة واجعلوه دائمًا مدحورًا، واذكروا بأنكم تدلفون وتساقون إلى آجال معدودة وأعمال محدودة، عما قليل تنقلون من هذه الدار، إما إلى الجنة وإما إلى النار.
وتفكروا فيمن صلى معكم في سنين خلت وأيام مضت في هذا المكان من الأقرباء والمعارف والخلان، كيف اخترمتهم المنايا، وأتاهم أمر الله، فإن ما نزل بهم ملاقيكم، وستذوقون طعم الموت وتتجرعون منه البلايا، فأحسنوا العمل، وأقصروا الأمل، تنجوا من عذاب عظيم، وتفوزوا بالنعيم المقيم.
أيتها المرأة المسلمة، وتمشيًا مع سنة المصطفى في تخصيص موعظة للنساء فإني أقول لأخواتي المسلمات: اتقين الله عز وجل في أنفسكن، أطعن الله ورسوله، أطعن أزواجكن بالمعروف، كنَّ من الصالحات القانتات، احذرن الألبسة المخالفة لشرع الله التي تظهر الزينة، أو تتضمّن تشبهًا بالكافرات وتعوُّدًا على ترك الحياء وإظهار الفتنة. وتخلقي بأخلاق الإسلام، واحذري التبرج والسفور، وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأولَى [الأحزاب:33]، احذري أخلاق أعداء الإسلام، تمسكي بما كنت عليه من عفة وحشمة وكرامة، ومحافظةٍ على هذه الأخلاق الكريمة.
عباد الله، إن نبيكم قد ندبكم لصيام ستة أيام من شوال، ففي صحيح مسلم عن أبي أيوب رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((من صام رمضان ثم أتبعه ستا من شوال كان كصيام الدهر)). فبادروا إلى فعل الطاعات وتسابقوا إلى الخيرات.
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
وإذا وافق العيد يوم الجمعة جاز لمن حضر العيد أن يصلي جمعة أو أن يصلي ظهرًا؛ لما ثبت عنه في هذا، فقد ثبت عنه أنه رخص في الجمعة لمن حضر العيد، وقال: ((اجتمع في يومكم هذا عيدان، فمن شهد العيد فلا جمعة عليه))، ولكن لا يدع صلاة الظهر، والأفضل أن يصلي مع الناس جمعة، فإن لم يصل الجمعة صلى ظهرًا. أما الإمام فيصلي بمن حضر الجمعة إذا كانوا ثلاثة فأكثر منهم الإمام، فإن لم يحضر معه إلا واحد صليا ظهرًا.
أعاد الله عليَّ وعليكم من بركات هذا العيد، وجعلنا في القيامة من الآمنين، وحشرنا تحت لواء سيد المرسلين، عليه الصلاة من رب العالمين.
اللهم اجعل عيدنا فوزًا برضاك، واجعلنا ممن قبلتهم فأعتقت رقابهم من النار، اللهم اجعل رمضان راحلاً بذنوبنا، قد غفرت فيه سيئاتنا، ورفعت فيه درجاتنا.
ألا وصلوا ـ عباد الله ـ على خير البرية أجمعين ورسول رب العالمين نبي الهدى والرسول المجتبى، فقد أمركم مولاكم بذلك في محكم كتابه: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم على سيدنا محمد وعلى آله الأطهار، وصحابته المهاجرين منهم والأنصار، وارض اللهم عن الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين...
ــــــــــــــــــــ(67/220)
الحياة الآمنة
...
...
4036
...
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب, موضوعات عامة
...
...
الكبائر والمعاصي, جرائم وحوادث, قضايا المجتمع
...
عبد الكريم بن صنيتان العمري
...
...
المدينة المنورة
...
...
...
جامع الصانع
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- البعد عن القتل من صفات عباد الرحمن. 2- الأدلة من الكتاب والسنة على تحريم القتل. 3- الاعتداء على النفس جريمة عظمى. 4- لا يُقدم على جريمة القتل مؤمن.
الخطبة الأولى
عباد الرحمن نخبةٌ من أولياء الله تعالى، وطائفة ممن ملأ الإيمانُ قلوبهم، ووقر في أفئدتِهم، وظهر في أفعالهم وتصرفاتهم، أثنى الله عليهم في كتابه الكريم، ووصفهم بأوصاف عزيزة، ونعوت غالية ونفيسةٍ، يسيرون على منهج الله تعالى، ويهتدون بِهدي رسوله الكريم عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم، وإن مالت بهم أنفسهم يومًا إلى المخالفة رجعوا إلى خالقهم، واستغفروا الله وتابوا إليه من تلك الكبوة الطارئة، وَرَدَتْ صفاتُهم في أواخر سورة الفرقان، وهي صفات تظهرُ في سلوكهم وحياتهم وتعاملهم وأخلاقهم.
ومن أوصافهم تلك ما جاء في قوله جل وعلا عنهم: وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ [الفرقان:68]. فنفى الله تعالى عنهم هذا الوصف، وبيَّنَ أنَّهم لا يعتدون على الأنفس البريئة، بل يحفظونها، ويبتعدون عن إيذائها، ولا يتعرضون لها بسوء أو ضرر، وهم حين يمتنعون عن ذلك، إنما يسترشدون بالهدي الرباني والتوجيه الإلهي، فإن الله تعالى قد نهاهم عن ذلك وحذرهم منه وقال لهم: وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [الأنعام:151].
ثم أكد النهي بتكراره مرة أخرى، قال جل في علاه: وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنصُورًا [الإسراء:33]، فبين الله تعالى أن القتل لا يكون ولا يحلّ إلا بالحق، وهو ما بينه المصطفى بقوله: ((لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيِّب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة)) متفق عليه، وورد عن عثمان أنه قال: ((لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: رجل كفر بعد إسلامه، أو زنى بعد إحصانه، أو قتل نفسًا بغير نفس فُيقتل بها)) رواه أبو داود، وعن أبي بكرة أن النبي قال: ((إن ريح الجنة لتوجدُ من مسيرة مائة عام، وما من عبدٍ يقتل نفسًا معاهدةً إلا حرّم الله عليه الجنَّةَ ورائحتها أن يجدها)) رواه البخاري.
إن الاعتداء على النفس وإزهاقها بغير حق جريمة عظمى، وعدَّها كثيرٌ من العلماء أكبرَ الكبائر بعد الإشراك بالله تعالى، ولا أدل على بشاعة هذه الجناية وقبحِ ارتكابِها من أنَّ الجاني باعتدائه على النفس الإنسانية وقتلها بدون حق يتحمل إثمًا عظيمًا؛ إذ هو بفعله هذا كأنما اعتدى على أرواح الناس كلهم وسَفَكَ دماءهم، وقد بّين الله تعالى ذلك في قصة ابني آدم، وأن القاتل قد باء بإثم جرمه الذي ارتكبه، قال جل شأنه: مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ [المائدة:32]. وجاء في الحديث عن النبي أنه قال: ((لا تقتل نفس ظلمًا إلا كان على ابن آدم الأول كفل من إثمها؛ لأنه أول من سنَّ القتل)) متفق عليه.
إن جريمة القتل لا يمكن أن تُرتكب من مؤمن صادق الإيمان، ولا يتصور أن يحدث ذلك منه إلا أن يكون عن طريق الخطأ وعدم القصد، قال تعالى: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلاَّ خَطَأً [النساء:92].
أما قتل العمد من المؤمن والترصد له وتحيّن الفرصة لإزهاق روحه فإن ذلك لا يحدث من مؤمن، وإن حدث فإن الله تعالى قد أعد أشد العذاب وتوعد بأليم العقاب لكل من خالف فاعتدى على نفسٍ مؤمنةٍ فأزهقها، قال جلّ وعلا: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء:93]، وذلك كله تحذير للناس كلهم من الاعتداء على النفوس المؤمنة، إذ لها عند الله تعالى مكانة عظيمة ودرجة سامية كريمة.
فعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: رأيت رسول الله يطوف بالكعبة ويقول: ((ما أطيبك وما أطيب ريحك، ما أعظمك وما أعظم حرمتك، والذي نفس محمد بيده، لحرمة المؤمن عند الله أعظم من حرمتك، مالِه ودمِه)) رواه ابن ماجه، وقال : ((كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا الرجل يموت مشركًا أو يقتل مؤمنًا متعمدًا)) رواه ابن حبان في صحيحه، وقد جاء عنه : ((إن المقتول يأتي يوم القيامة يحمل رأسه بإحدى يديه، ويمسك قاتله بتلابيبه بيده الأخرى، وأوداجه تشخب دمًا عند ذي العزة والجلال، فيقول المقتول لرب العالمين: يا رب، سل هذا فيمَ قتلني؟)) رواه الترمذي.
إن المسلم وهو يسمع هذا الوعيد الإلهي لمن قتل نفسًا بغير حق لينأى بنفسه عن الوقوع في ذلك، ويبتعد عن ارتكاب أي عملٍ من شأنه أن يكون سببًا في إزهاق نفس مؤمنة، وتظهر فظاعة هذه الجريمة وعِظمها بما يتحمله القاتل من الآثام والذنوب من مساواته بقتل البشرية كلها في الآية الواردة في ذكر قتل ابن آدم لأخيه، وما ذكره الله تعالى أنه من أجل تلك الفعلة الشنيعة كتب على بني إسرائيل ذلك الجزاء العظيم على أي قاتل منهم اعتدى على نفسه فقتلها بغير حق، وهذا الحكم يشمل من حصل منه ذلك الجرم العظيم ووقع فيه من هذه الأمة المحمدية فأزهق نفسًا منها؛ لأن نفوس بني إسرائيل ودماءهم ليست أعز ولا أكرم على الله من دماء هذه الأمة التي جعل الله لها الخيرية والأفضلية على سائر الأمم الأخرى، كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران:110].
ــــــــــــــــــــ(67/221)
حقوق الأولاد في الإسلام
...
...
4017
...
الأسرة والمجتمع
...
...
الأبناء
...
عبد العزيز بن محمد القنام
...
...
وادي الدواسر
...
...
...
جامع النويعمة القديم
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- أهمية الحديث عن هذا الموضوع. 2- من أهم حقوق الأبناء على الآباء: اختيار الأم الصالحة، الأذان في أذن المولود، إحسان التسمية، العقيقة، الرضاعة الطبيعية، حسن المعاملة، عدم الإهمال، الاهتمام بالتربية المباشرة دون وسائط، التعويد على فعل الطاعات واجتناب المنكرات.
الخطبة الأولى
أوصيكم ـ عباد الله ـ ونفسي بتقوى الله، وأحثكم على طاعته، وأحذركم وبال عصيانه ومخالفة أمره، وأستفتح بالذي هو خير: فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [الزلزلة:7، 8].
أما بعد: فيا إخوة الإيمان والعقيدة، نعيش هذه الدقائق الطيبة في هذا اليوم المبارك مع موضوع من أهم الموضوعات، يحتاج إليه كل أب وكل أم وولد، وذلك من أجل الحياة الطيبة السعيدة، ألا وهو حقوق الولد على أبويه. يقول مولانا تبارك وتعالى في كتابه العزيز:يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6].
أيها الإخوة المؤمنون، إن أولادَنا ثمراتُ قلوبنا، وفلذاتُ أكبادنا، وهديةُ الله إلينا، وزينةُ حياتنا، والأثرُ الصالح الذي نُذكَر به إذا كانوا صالحين، وهم من كسبنا، ودعاؤهم من العمل الذي لا ينقطع بموتنا، قال رسول الله : ((إِذَا مَاتَ الإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلاَّ مِنْ ثَلاَثَةٍ: إِلاَّ مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ)) رواه مسلم والبخاري في الأدب المفرد وأبو داود والترمذي والنسائي.
أيها الإخوة، إن أبناءَنا وبناتِنا هم جسدُ الأمة وعَقلُها المفكر وقلبُها النابض، جعلهم الله أمانةً في أعناقنا، يقول رسول الله : ((أَلاَ كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، فَالإِمَامُ الَّذِي عَلَى النَّاسِ رَاعٍ وَهْوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ وَهْوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ عَلَى أَهْلِ بَيْتِ زَوْجِهَا وَوَلَدِهِ وَهِىَ مَسْئُولَةٌ عَنْهُمْ)) متفق عليه.
أيها الإخوة الكرام، إن دينَنا الإسلاميَّ الحنيفَ وازَنَ بين الحقوق والواجبات، فكما أوجب على الأولاد برَّ والديهم وأوصاهم بهم فقد أوجبَ على الآباءِ رعايةَ أولادهم والعنايةَ بهم، ليكونوا مصدرَ خيرٍ وقرةَ عينٍ لهم في الدنيا والآخرة، وليستجيب الله عز وجل لهم إذا دعَوا: رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا.
أيها الأحبة في الله، إذا أردنا أن تقرَّ أعينُنا بأولادنا ونأخذَ بأسباب نجابتهم وسعادتهم فعلينا باختيار الأرض الطيبة التي يخرج نباتُها بإذن ربها طيبًا مباركًا، ولا بدَّ أن يبحثَ مريدُ الزواج عن الزوجةِ التَّقِيَةِ النَّقِيَةِ، قال رسول الله : ((فاظفرْ بذاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ)) رواه البخاري ومسلم وأبوداود والنسائي.
وقد اعتبر أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه انتقاء الزوجة واختيارها حقًا من حقوق الولد على أبيه، وكذلك اختيارَ اسمِهِ وتعليمَهُ القرآنَ والدِّين. واسمع ـ يا أخا الإسلام ـ إلى الرجل الذي يشكو عقوق ولده إلى سيدِنا عمرَ بن الخطاب رضي الله عنه، فأحضرَ أميرُ المؤمنين الغلامَ وأنَّبه، فقال الغلام: يا أمير المؤمنين، أليس للولد حق على أبيه؟ قال: بلى، قال: فما حقه على أبيه؟ قال: أن يَنْتَقِيَ أُمَّهُ، ويُحْسِنَ اسمَهُ، ويُعَلِّمَهُ الكتابَ. قال الغلامُ: يا أميرَ المؤمنينَ، إنَّ أبي لم يفعلْ شيئًا من ذلك، استولدني من أَمَةٍ زنجية كانت لمجوسيّ، وقد سماني جُعلاً، ولم يعلّمْني من الكتاب حرفًا واحدًا، فالتفتَ أميرُ المؤمنينَ عُمرُ رضي الله عنه إلى الرجل وقال له: جئتَ إليَّ تشكو عقوقَ ولدِكَ وقد عقَقْتَهُ قبلَ أن يَعقَّك، وأسأْتَ إليه قبْلَ أنْ يُسيء إليك!
أيها الإخوة الأعزاء، إن لأولادنا حقوقًا علينا، فينبغي تخيّرُ الأمهاتِ لهم، وقد نبَّه مبعوثُ الرسالة الإلهية وشمسُ الهداية الربانية سيدُنا محمدٌ إلى هذا فيما روي عنه: ((تَخَيَّرُوا لِنُطَفِكُمْ، وَانْكِحُوا الأَكْفَاءَ، وَأَنْكِحُوا إِلَيْهِمْ)) رواه ابن ماجه والديلمي.
فإذا أطلَّ المولودُ على الوجود فيستحبُّ الأذانُ بلطفٍ في أذنه اليمنى والإقامةُ في اليسرى؛ ليكونَ أولَ ما يطرقُ سَمْعَهُ ويستقرُّ في أعماقه تكبيرُ الله عز وجل وشهادةُ أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسولُ الله والدعوةُ إلى الصلاة والفلاح.
كما أمرنا النبي باختيار أسماء أولادنا، وأن تكون الأسماءُ متصلةً بمَنْ اختارهم الله من الصفوة المباركة من الأنبياء والصديقين والصالحين، قال رسولُ الله : ((إِنَّكُمْ تُدْعَوْنَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأَسْمَائِكُمْ وَأَسْمَاءِ آبَائِكُمْ فَأَحْسِنُوا أَسْمَاءَكُمْ)) رواه أبو داود بإسناد جيد عن أبي الدرداء.
ولم يكتفِ رسولُ الله بالإرشادِ القولي، بل أكَّدَ ذلك بالفعل عندما خرج على الناس صبيحةَ يومٍ وقال لهم: ((وُلِدَ لِيَ اللَّيْلَةَ غُلاَمٌ فَسَمَّيْتُهُ بِاسْمِ أَبي إِبْرَاهِيمَ)) رواه مسلم. فالنبي في هذا الحديث يلفتُ الأنظارَ إلى أن نسميَ أبناءنا بأسماء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وقد أخرج أبو داود والنسائي أن رسولَ الله قال: ((تَسَمَّوْا بِأَسْمَاءِ الأَنْبِيَاءِ، وَأَحَبُّ الأَسْمَاءِ إِلَى اللَّهِ عَبْدُ اللَّهِ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ، وَأَصْدَقُهَا حَارِثٌ وَهَمَّامٌ، وَأَقْبَحُهَا حَرْبٌ وَمُرَّةُ)).
أيها الإخوة الأحباب، إن من السنة أيضًا في حقوق الأولاد أن نذبحَ عن الغلام شاتينِ، وعن الأنثى شاةً، وتجزئ شاة عن الغلام أيضًا وهو مذهب الإمام مالك رحمه الله، وهو ما يسمى بالعقيقة أو النسيكة.
ومن حِكَم مشروعيتها شكرُ اللهِ عز وجل على عطائه وآلائه، والتقربُ إليه بالذبح والتصدق والإطعام، والتكافل والتعاون، يقول رسولُ الله : ((كُلُّ غُلاَمٍ رَهِينَةٌ بِعَقِيقَتِهِ، تُذْبَحُ عَنْهُ يَوْمَ السَّابِعِ، وَيُحْلَقُ رَأْسُهُ، وَيُسمَّى)) رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وأحمد، وقوله: ((رهينة بعقيقته)) معناه: محبوسٌ عن الشفاعة في أبويه.
أيها الإخوة المؤمنون، إن من حقوقِ أولادنا الرضاعةَ الطبيعيةَ، قال الله تعالى: وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ [البقرة:233], ويخطئ بعض الآباء والأمهات حين يلجؤون ـ دون ضرورة ـ إلى إرضاع أولادهم رضاعةً صناعية، وهذا أمرٌ خطيرٌ على صحةِ الطفلِ وأخلاقهِ وطباعهِ، فينبغي الحذرُ من ذلك إلا في ضرورة.
وإذا تجاوزَ الطفلُ فترةَ الرضاعةِ فعلينا أن نرفقَ به ونلينَ في معاملته؛ لأن ذلك أدعى إلى استجابته لتوجيهات أبويه، وهكذا كان شأن سيدنا محمد مع أبنائه وبناته رضي الله عنهم، فعن عبد الله بن شداد عن أبيه قال: خرجَ علَيْنا رسولُ الله في إحدى صلاتي العَشِيِّ: الظهرِ أو العصرِ، وهو حاملٌ أحدَ ابنيه: الحسنَ والحسين، فتقدم رسولُ الله فوضعَهُ عند قدمه اليمنى، فسجدَ رسولُ الله سجدةً أطالها، قال أبي: فرفعتُ رأسي من بين الناس فإذا رسولُ الله ساجدٌ، وإذا الغلامُ راكبٌ على ظهره، فعدتُ فسجدتُ، فلما انصرفَ رسولُ الله قال الناسُ: يا رسولَ الله، لقد سجدتَ في صلاتكَ هذه سجدةً ما كنتَ تسجدُها، أفشيءٌ أُمِرْتَ به أو كان يوحى إليك؟ قال: ((كلُّ ذلك لم يكن، ولكن ابني ارتحلني، فكرهتُ أن أُعْجِلَهُ حتى يقضيَ حاجتَه)) رواه الحاكم.
أيها الإخوة الأعزاء، إن الإسلامَ يحمِّلُ الأبوين مسؤوليةَ التربيةِ لأولادِهم، قال رسولُ الله : ((كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ)) أخرجه البخاري ومسلم. فكلُّ مولودٍ يولَدُ على الفطرة وعلى الإيمانِ والتوحيدِ والحقِ والخيرِ والفضيلةِ والنفورِ من الباطلِ والشرِ والرذيلةِ، فلا يولدُ أحدٌ يهودِيًا ولا نصرانيًا، ولا فاسقًا ولا منافقًا، إنما يوجهه إلى ذلك أبواه ومربوه، وأهله وجيرانه، وأصحابه ومعلّموه.
وينشأ ناشئُ الفتيانِ فينا على ما كان عوَّده أبوه
وما دان الفتى بحِجًى ولكنْ يعوِّدهُ التدَيُّنَ أقربوه
معاشرَ الآباء، يجب علينا أن نباشرَ تربيةَ أولادِنا مباشرةً دونَ وساطةٍ، بحيثُ نعلمُ مدخلَهم ومخرجَهم، ونعلمُ أينَ يذهبون، ومَنْ يُصاحِبُون ويُصَادِقُون، وماذا يفعلون؛ لأن الصغارَ لا يوجدُ لديهم الوعيُ الديني الكاملُ الذي يمنعهم من المنكرات والآثام، ولا توجدُ عندهم العقولُ الكاملةُ التي تمنعهم من الفساد والانحراف.
إن كثيرًا من الآباء والأمهات شُغِلُوا عن أبنائهم وبناتهم، فلم تَعُدْ لهم أوقاتٌ يجلسون فيها مع عائلاتهم، يسألون عن أخلاقهم وأحوالهم، ولكنهم يهتمون في الغالب بمن يمرضُ فيداوونه، وبمن يجوعُ فيشبعونه، وغابَ عنهم أنهم في هذا الاهتمام يخدمون الجسمَ، ويهملون النفسَ والقلبَ والروحَ، والحكيم يقول:
يا خادمَ الجسمِ كمْ تشقى لخدمتِهِ أتطلبُ الربحَ مما فيه خسرانُ
أقبلْ على النفسِ واستكملْ فضائلَها فأنتَ بالنفسِ لا بالجسمِ إنسانُ
عباد الله، إن أولادَنا أحوجُ إلى التربيةِ والتزكيةِ والرعايةِ منهم إلى الطعامِ والشرابِ والدواءِ؛ لأن الطعامَ والشرابَ والدواءَ ينفعُ البدنَ ويدفعُ عنه الأخطارَ بمشيئة الله تعالى، أما التربيةُ والتزكيةُ فإنها تحفظُ الدينَ والعقلَ والعرضَ والنسلَ والجسمَ والمالَ، وأفضلُ هدية يقدمها الوالدان والمربون لأولادهم هي التربيةُ والتأديب، قال رسولُ الله : ((مَا نَحَلَ وَالِدٌ وَلَدًا مِنْ نَحْلٍ أَفْضَلَ مِنْ أَدَبٍ حَسَنٍ)) أخرجه الترمذي.
وقد كان العلماءُ والخلفاءُ والصالحون يهتمون بذلك أعظمَ الاهتمام، قال عبدُ الملك بن مروان الخليفة الأموي ينصحُ مُؤَدِّبَ ولده: "علِّمْهم الصدقَ كما تعلمُهُمُ القرآنَ، واحملْهمْ على الأخلاقِ الجميلةِ، وجالسْ بهم أشرافَ الرجال وأهلَ العلم منهم، واضرْبهم على الكذب، فإن الكذبَ يدعو إلى الفجور، وإن الفجورَ يدعو إلى النار".
أيها المسلمون، يجبُ علينا تعهّدُ أبنائنا وبناتنا وتوجيهُهم وتعويدُهم على فعلِ الطاعات وتركِ المنكرات، وتقويةُ الوازع الديني في نفوسهم، قال رسولُ الله : ((مُرُوا أَوْلاَدَكُمْ بِالصَّلاَةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعِ سِنِينَ، وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرِ سِنِينَ، وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ)) أخرجه أبو داود والحاكم .
وقد كان أصحابُ النبي يدَرِّبُون أولادَهم ويروِّضُونَهم على الصلاةِ والصيامِ والأخلاقِ الحسنةِ، ويعلمونهم سيرةَ النبي العطرةَ، قال سعدُ بنُ أبي وقاصٍ رضي الله عنه :كنا نعلِّمُ أولادَنا مَغازيَ رسولِ اللهِ كما نُعَلِّمُهُمُ السورةَ من القرآن.
وفي الختام: نصيحتي للآباء أن يهتموا بأولادهم تربيةً وتعليمًا، وأن لا يسْلموهم لأناسٍ غيرِ ثقاتٍ ولا طيبين من خدم أو معلمين، وبخاصة إذا كانوا كافرين أو فاسقين، وأن لا يتيحوا لأولادهم فُرَصَ مشاهدةِ الأفلامِ والقنواتِ والمجلاتِ والإنترنت وغيرها من الوسائل التي تدمر الخُلُق والدين، كما ينبغي حفظُهم من أصحابِ السوءِ ورفقاءِ الشر أهلِ المعاصي والفواحشِ والمنكراتِ والمسكرات والمخدرات وتضييعِ الأخلاقِ والأوقات؛ لأن الأمة ما وصلت إلى ما وصلت إليه من الذل والهوان وتداعي الأمم عليها إلا بتضييع نشئها والتفريط في أبنائها وبناتها، فاحفظوهم ـ عباد الله ـ وأصلحوهم حتى يكونوا صالحين مصلحين هادين مهديين غيرَ ضالين ولا مضلين.
رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا، اللهم لا تَدَعْنا في غَمْرَة، ولا تَأْخُذْنا على غِرَّة، ولا تجعلْنا من الغافلين.
فاتقوا الله أيها المسلمون، وأدوا ما عليكم من واجبات الذرية، قال الله تعالى: رَبّ اجْعَلْنِى مُقِيمَ الصلاةِ وَمِن ذُرّيَتِى رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاء رَبَّنَا اغْفِرْ لِى وَلِوَالِدَىَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ [إبراهيم:40، 41].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، ونفعنا بهدي سيد المرسلين وبقوله القويم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله يقول الحق وهو يهدي السبيل، أحمده سبحانه وأشكره وهو حسبنا ونعم الوكيل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا ندّ ولا مثيل، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبد الله ورسوله جاء بأشرف تنزيل، ودعا إلى كل خلق جميل، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه، أدّوا الأمانة، ونصحوا الأمة، وحفظوا هذا الدين من التحريف والتبديل، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله ـ أيها المسلمون ـ وأطيعوه، واجتنبوا سخطه ولا تعصوه، واعلموا أن أولادكم ومن ولاكم الله أمره أمانة في أعناقكم ومسؤولية عليكم، بأن تحملوهم على أصلح الأمور، وتدلوهم على كل خلق قويم ونهج مستقيم، واحذروا عليهم من الانفلات وقرناء السوء ومضار الفراغ والسفر بلا رقيب ولا حسيب. أعينوهم على تنظيم حياتهم في نومهم ويقظتهم، وعودوهم على ما يصلحهم، وجنبوهم السهر، ولا سيما في الشوارع، فإن ذلك قد يجرّ الشاب إلى أمور لا يقدر على التخلص منها مستقبلاً، فيندم على ما اكتسب من الأخلاق المنحرفة حيث لا ينفع الندم، وأخطر شيء على الشباب المخدرات والانحرافات الخلُقية، فحذِّروا من ذلك دائمًا، وهيِّئوا لأولادكم الوسائل المباحة النافعة، ووجِّهوهم إلى ما يفيد من الأعمال؛ لأنكم تُسألون عنهم، ففي الصحيحين من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، فالرجل راع في أهل بيته ومسؤول عنهم، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عنه، والخادم راع في مال سيده ومسؤول عنه، وكلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته)).
ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70، 71].
وصلوا وسلموا على سيد الأولين والآخرين وإمام المرسلين، فقد أمركم الله بالصلاة والسلام عليه في قوله تبارك وتعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56]، وقد قال : ((من صلى عليَّ صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشرًا)).
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد...
ــــــــــــــــــــ(67/222)
ترويع الآمنين
...
...
4041
...
الأسرة والمجتمع, موضوعات عامة
...
...
جرائم وحوادث, قضايا الأسرة
...
عبد الكريم بن صنيتان العمري
...
...
المدينة المنورة
...
...
...
جامع الصانع
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- حرص الشريعة الإسلامية على حفظ النفس وصيانتها. 2- النهي عن ترويع المسلم أو إدخال الرعب عليه بأي وسيلة. 3- نَهي النبي عن الإشارة بالسلاح والحكمة منه. 4- أمر النبي بأخذ الحيطة والحرص على البعد عن الأسباب المؤدية إلى إيذاء المسلمين. 5- الإكثار من المزاح وتجاوز الحدود المسموح بها يوقع الإنسان في مخالفة الشرع.
الخطبة الأولى
حرصت الشريعة الإسلامية على حفظ النفس وصيانتها وحمايتها من الاعتداء عليها، وحتى ترويعها، وتجنيبها كل الأضرار التي تفتك بها، ووضعت كافة الوسائل المؤدية إلى المحافظة عليها.
فحرّم المصطفى تخويف المسلم وترويعه، ونهى عن إدخال الرعب عليه بأي وسيلة، فقد كان الصحابة رضي الله عنهم يسيرون مرة مع النبي في سفر، فاستراحوا ونام رجل منهم، فقام بعضهم إلى حبل معه فأخذه، وأمَرَّهُ على جسد أخيه النائم ففزع، فقال : ((لا يحل لمسلم أن يروع مسلمًا)) رواه أبو داود. وروى ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((من أخاف مؤمنًا كان حقًا على الله أن لا يؤمّنه من أفزاع يوم القيامة)) رواه الطبراني.
ونَهى عن الإشارة بالسلاح وقال: ((من أشار إلى أخيه بحديدة فإن الملائكة تلعنه، حتى وإن كان أخاه لأبيه وأمه)) رواه مسلم. فهذا تحذير من الإشارة بأي آلة مؤذية قد تؤدي الإشارة بِها إلى القتل، كالسكين والآلات الأخرى الحادة، حتى لو كانت الإشارة مجرّد مزاح، وفي هذا تأكيد على حرمة المسلم، والنهي الشديد عن ترويعه وتخويفه والتعرض له بما قد يؤذيه.
وقد بيَّن السبب في ذلك النهي، وهو أن إشارته تلك ومزاحه على أخيه بتلك الآلة قد يتحوّل إلى أمر حقيقي، فيحدث القتل أو الجرح وهو لا يقصده، قال : ((لا يشر أحدكم إلى أخيه بالسلاح، فإنه لا يدري لعل الشيطان ينزع في يده، فيقع في حفرة من حفر النار)) متفق عليه.
قال الإمام القرطبي رحمه الله: "لعنُ النبيِّ للمشير بالسلاح دليل على تحريم ذلك مطلقًا، جادًّا كان أو هازلاً، ولا يخفى وجه لعن من تعمّد ذلك؛ لأنه يريد قتل المسلم أو جرحه، وكلاهما كبيرة، وأما إن كان هازلاً فلأنه ترويع مسلم، ولا يحل ترويعه، ولأنه ذريعة وطريق إلى الجرح والقتل المحرمين".
وقال الإمام النووي رحمه الله: "في الحديث تأكيد على حرمة المسلم، والنهي الشديد عن ترويعه وتخويفه والتعرض له بما قد يؤذيه. وقوله : ((وإن كان أخاه لأبيه وأمه)) مبالغة في إيضاح عموم النهي في كل أحد، سواء من يتهم فيه ومن لا يتهم، وسواء كان هذا هزلاً ولعبًا أم لا؛ لأن ترويع المسلم حرام بكل حال، ولأنه قد يسبقه السلاح" انتهى.
وفي سنن النسائي من حديث أبي بكرة أن رسول الله قال: ((إذا أشار المسلم على أخيه المسلم بالسلاح فهما على جرف جهنم، فإذا قتله خرَّا جميعًا فيها)).
كما أمر بأخذ الحيطة والحذر والحرص على البعد عن الأسباب المؤدية إلى إيذاء المسلمين وإلحاق الضرر بهم، فعن أبي موسى أنه قال: ((إذا مر أحدكم في مجلس أو سوق وبيده نبل فليأخذ بنصالها، ثم ليأخذ بنصالها، ثم ليأخذ بنصالها؛ أن يصيب أحدًا من المسلمين منها بشيء)) رواه البخاري ومسلم. وهذا تأكيد منه على الاحتياط في هذا الأمر، والحفاظ على نفس المؤمن، والابتعاد عن إيذائه بأي شيء.
وفي حديث جابر قال: نَهى رسول الله أن يُتعاطى السيف مسلولاً. رواه الترمذي. وورد أنَّ رسول الله أتى على قوم يتعاطون سيفًا مسلولاً فقال: ((لعن الله من فعل هذا، أوَليس قد نهيت عن هذا؟!)) ثم قال: ((إذا سَلَّ أحدكم سيفه فنظر إليه فأراد أن يناوله أخاه فليغمده، ثم يناوله إياه)) رواه أحمد. وهذا كله من باب الاحتياط، حتى لا يؤدّي ذلك إلى إصابة أحد بعضوٍ من أعضائه وجرحه وإلحاق الضرر به.
لذلك ينبغي على المسلم أن يأخذ بهذه التوجيهات النبوية، ويستنير بِها، ويطبقها في تعامله مع إخوانه، وليتفقد كل آلة تؤدي عند الخطأ في استعمالها إلى إلحاق الضرر بالآخرين، وليحرص عند استخدامها أن لا يكون ذلك في جموع غفيرة، كما قد يحدث ذلك في مناسبات الأعياد والأفراح ونحوها، فكم من مخالفة لذلك التوجيه النبوي الذي أكد على الاحتياط فيه، كم أدت مخالفته إلى الندم والحسرة، وبالأخص حينما يترتب على ذلك إزهاق نفس بريئة أو إعاقة سويّ، أو التسبب في فقد عضو من أعضائه.
وليحذر الجميع من الإفراط في المزاح بتلك الآلات، فإن الإكثار من المزاح وتجاوز الحدود المسموح بها يوقع الإنسان في مخالفة، ويرمي به إلى ارتكاب جناية يندم بعدها على إفراطه في مزاحه، فإن كثيرًا من المزاح يورث العداوة والبغضاء، ويؤدي إلى قطع العلاقات الأخوية والصلات الوثيقة بين المتواصلين. وكم من علاقة وطيدة ورابطة وثيقة جمعت بين متآلفين، وقربت بين متباعدين، أدى المزاح إلى فصمها وفرق بين أفرادها.
فالعاقل من يكون متأنيًا في أفعاله وأقواله، نائيًا عما يؤدي إلى ابتعاد إخوانه وأصدقائه.
أَكرم جَلِيسك لا تمَازح بالأَذَى إنَّ المزاح ترى به الأضغانُ
كم من مزاح جذَّ حبل قرينه فتجذمت من أجله الأقرانُ
ــــــــــــــــــــ(67/223)
السلامة المرورية
...
...
4042
...
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
...
...
الآداب والحقوق العامة, قضايا المجتمع
...
عبد الكريم بن صنيتان العمري
...
...
المدينة المنورة
...
...
...
جامع الصانع
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- توالي نعم الله تعالى على عباده. 2- السيارات من أعظم النعم في هذا العصر لما لها من الفوائد. 3- السيارة من منافع الحديد التي أخبر الله تعالى عنها في كتابه. 4- السيارة وسيلة ينبغي قصر الانتفاع بِها على الجوانب الإيجابية. 5- على قائد السيارة أن لا يخرج عن القواعد الصحيحة حين القيادة. 6- الآداب الإسلامية للطريق. 7- على كل سائق الالتزام بآداب القيادة.
الخطبة الأولى
تتوالى نعم الله تعالى على عباده في كل وقت، وتنهمر عليهم في كل أوان وحين، يعجز المرء عن حصرها، ويضعف عن استقصائها وعدِّها، قال الله تعالى: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا [إبراهيم:34].
وبين وقت وآخر تظهر لنا المكتشفات الحديثة وسائل جديدة تعينُ الإنسانَ على تسهيل أموره وقضاء حاجاته وتلبية رغباته. ولا شك أن المسلم الواعي يختار من ذلك ما لا يتعارضُ مع أهداف الشريعة ومقاصدها، ويأخذ ما يتوافق مع أصولها ومبادئها.
ومن أعظم النعم التي يسَّرها الله تعالى وسخَّرها للبشرية في هذه الأزمنة ما هيأه جل وعلا من ظهور السيارات وتسخيرها لخدمة الإنسان، بأشكالها المتعددة وأحجامها المختلفة، وهي من المخلوقات التي أشار إليها القرآن الكريم في قول الحق جل وعلا: وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ [النحل:8].
فكان من فوائدها أن أراحت الإنسان من عناء السفر، وأزاحت عنه كثيرًا من المشاق والمتاعب التي كان يواجهها في رحلاته وتنقلاته. كما أن السيارات قربت المسافات، واختصرت الأوقات، ووفرت كثيرًا من المجهودات.
وذلك شيء من المنافع التي تُجنى من الحديد، والتي ذكرها القرآن الكريم في قوله تعالى: وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ [الحديد:25].
والسيارة وسيلة ينبغي قصر الانتفاع بِها على الجوانب الإيجابية، وأداة حَرِيٌ بصاحبها أن يجعلها مجلبةً للخير والنفع، وأن لا تكون مفتاح شر أو مصدر قلق أو وسيلة إزعاج أو أذى يضر بِها نفسه وغيره.
إن هذه المركبة لم تُصَنَّع إلا لخدمة الإنسان ونفعه، وهي كذلك إن أحسن استعمالها والتزم الطريقة المثلى في قيادتها، والمنهج السليم في استخدامها، والأدب المروري في تنقلاته عليها.
إن على قائد السيارة أن لا يخرج عن القواعد الصحيحة حين يقود سيارته، وعليه أن يلتزم بأنظمة المرور التي وضعت في الأصل لحماية السائق نفسه من الأخطار التي قد تناله عند ارتكابه أدنى مخالفة، كما أنها وضعت لحفظ حقوق الآخرين من المشاة وقائدي السيارات الأخرى، حتى لا يصيبهم أذى أولئك السائقين المخالفين الذين لا يعبؤون بالقواعد والتعليمات، ولا يعيرونها أدنى اهتمام، إذ ترى المخالفات الصريحة والتجاوزات المفرطة منهم وهم يقودون سياراتهم، وبالأخص حين يغيبون عن أعين رجال المرور.
وهذا ليس من الأدب الإسلامي في شيء، فإن ديننا يحث أفراده على احترام مشاعر الآخرين ومعاملتهم بالطريقة التي يرضاها المرء لنفسه، يودّ لهم ما يودّ لشخصه من الخير والنفع، ويكره لهم ما يكرهه لها من الشر والأذى والضرر، وقد قال الله تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات:10]، وقال : ((المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده)) رواه البخاري.
وقد رسم لنا المصطفى ووجهنا وحثنا على الالتزام بآداب الطريق ومراعاة الآداب العامة فيه، فذكر من تلك الآداب كف الأذى، وذلك يحتم على السائق وهو يقود سيارته أن يعمل بهذا التوجيه المحمدي، فلا يؤذي إخوانه قائدي السيارات الأخرى، أو المشاة بمضايقتهم، أو تعريض أرواحهم للخطر.
فهو حين يقود سيارته يلتزم بالسرعة المحددة التي حَدَّدَتها الجهات المختصة لسلامة الجميع، ورسمتها لكل سائق حتى يحفظ نفسه، ويحفظ غيره ممن يرافقه أو يستخدم الطريق التي يسلكها.
والسائق الذي يسير في طريقه باعتدال واتزان وتعقل وتروٍّ وهو يمسك بمقودِ سيارته سائق مثالي، يحسب ألف حساب لأي خلل يصدر منه أثناء القيادة، قد تكون عاقبته وخيمة ونتائجه سيئة أليمة، وهو يتوقع المفاجآت من الآخرين أثناء قيادته، ولذلك لا يرضى أن يوقع نفسه في موقف لا يحسد عليه.
كما أنه يدرك أن أي عبث يمارسه وهو يقود السيارة قد يؤدي إلى اختلال سيرها، وعدم قدرته على التحكم بها، فينتج عنه اصطدامها بأي جسم آخر، فيلحقه الضرر بنفسه وسيارته، فضلاً عن تضرر بعض المشاة أو الركاب أو إصابتهم في أجسادهم أو ممتلكاتهم.
إن السائق الفطِنَ ذا الفكر الناضج والفهم السليم والشعور الإسلامي المتمكن في قلبه ـ الذي استقاه واستلهمه من قوله : ((المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يخذله ولا يسلمه)) رواه مسلم، وقوله : ((مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)) رواه مسلم ـ هو السائق العاقل الذي أيقن أن مخالفته في قيادة سيارته قد يتمخض عنها إهدار أموال أو إتلاف أعيان أو ترمل نساء أو تيتم أطفال أو تفكيك أُسر أو إصابة آخرين بإعاقات كاملة أو جزئية، وتصَّور تلك النتائج السلبية المفزعة، والعواقب الوخيمة والمفجعة، التي ترتبت على المخالفات المرورية، والاستهتار بآداب السير، وعدم المبالاة بالتعليمات المستمرة والتوجيهات المتكررة التي تصدرها الجهات الأمنية، والحريصة على سلامة أفراد المجتمع والحفاظ على مقدراته وممتلكاته.
إن على كل واحد منا أن يلتزم وهو يقود سيارته بآداب القيادة، وأن يحافظ على نفسه ومن معه ومن هم في الطرقات التي يسلكها إخوانه.
إن التؤدة والتأني في السير من الأمور المحمودة ومن الصفات المرغوبة، قال تعالى: وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمْ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا [الفرقان:63].
ــــــــــــــــــــ(67/224)
مسؤولية رجل الأمن
...
...
4044
...
الأسرة والمجتمع, العلم والدعوة والجهاد
...
...
قضايا المجتمع, محاسن الشريعة
...
عبد الكريم بن صنيتان العمري
...
...
المدينة المنورة
...
...
...
جامع الصانع
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- بيان الرسل للطريق الموصل إلى رضوان الله تعالى. 2- الطريق إلى الجنة محفوف بالمشاق والعوائق. 3- دور الشيطان في إفساد الإنسان. 4- التحذير من مقارفة المعاصي صغيرها وكبيرها. 5- الغاية من وجود الشرطة حفظ الأمن والاستقرار. 6- نظام العسس القديم كان النواة لنظام الشرطة. 7- أهم الأعمال المنوطة برجال الشرطة. 8- على كل فرد في المجتمع أن يعتبر نفسه رجل شرطة.
الخطبة الأولى
لقد أوجد الله تعالى الإنسان في هذه الحياة، وخلقه لحكمةٍ جليلة، وغاية سامية ونبيلة، بينها الله تعالى في كتابه الكريم، فقال جل شأنه: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]، ولإقامة الحجة على خلقه أنزل الخالقُ جل في علاه الكتب وأرسل الرسل، ليبلغوا للناس رسالته، قال تعالى: رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لئلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا [النساء:165]، فبين الرسلُ للناس المنهج الواضح الذي يجب عليهم سلوكه والطريق الصحيح الذي ينبغي الالتزامُ به، حتى يفوزوا بموعود الله تعالى لهم.
إلا أن الوصول إلى ذلك الهدف ـ وهو الفوز بالجنة والرضا من الله تعالى ـ لا يمكن لأيّ واحدٍ أن يصل إليه بكل سهولة، بل لا بد من جدٍّ واجتهاد وعملٍ ومثابرة وصبر دؤوب على أداء الطاعةِ التي كُلِّفَ بها والتزامٍ تامٍّ بجميعِ الأوامر، واجتنابٍ دائمٍ لجميعِ المحرمات التي حذر الشارع من الوقوع فيها والعمل على كبح جماحِ النفس عن السقوط في مهاوي الرّذيلة والفساد.
ونفس المسلم وإن كانت حريصة على الالتزام بكل ما ذكر إلا أن هناك من أخذ على نفسه العهد أن يوقع الأمة جميعها في المحظورات، ويُحسِّن لها المعاصي والمنكرات، ويصدها عن فعل الخيرات، ويزين لها القبيح، ويريها الحق باطلاً والباطل حقًا، ألا وهو إبليس اللعين، الذي التزم أن يغوي هذه الأمة جميعها، قال تعالى حكاية عنه: قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ [الأعراف:16، 17]، وقال جل شأنه: قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ [الحجر:39].
من هنا تبدأ النفس الإنسانية وتفكر في الخروج عن جادة الصواب التي رسمها الشارع جل وعلا، فتتولد فيها النزعةُ إلى الشر والفساد، فتشرع في الانحراف والزيغ، ويظهر فيها الميلُ إلى العنف وإذكاء نار الفتنة وحب التسلطِ والقهر، فإذا اتصفت بهذه الصفات انحرفت عن الطريق المستقيم، وخرجت عن الوظيفة الأساسية التي خُلِقت من أجلها، فتتفشى في المجتمع ظاهرة لم تكن فيه، وهي زرع القلق والاضطراب وإظهار عدم الاستقرار بين أفراده، فمتى وقعت السرقة، وانتشر القتل، وفشت الفاحشةُ بجميعِ أنواعها، وارتكبت المحرمات كبيرها وصغيرها أحدث ذلك كلُّه نوعًا من الخلل في المجتمع وهلعًا وفزعًا بين أفراده، فيقوم الخوف مقام الأمن، والفوضى بدل الهدوء والاستقرار، والقلق مكان الطمأنينة.
كذلك فإن وجود المغريات بشتى صورها، وتوفرها أمام الشخص، وعدمَ وجود رادعٍ يمنع من الوقوع فيها، كل ذلك يسهل على الفرد الذي ضعف الوازعُ الديني في نفسِه أن يقع في الجريمة، ويشبع رغبته، ويحقق مقصده السيئ الذي عقد العزم على الوصول إليه.
إلا أن الشريعة الإسلامية لم تغفل عن هذا كله، بل نبهت أفرادها وحذرتهم حتى من مجرد التفكير بمقارفة المحرمات، وأوضحت أن إرادة ارتكاب المحرم فقط توجب العقاب في بعض الحالات، قال تعالى: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [الحج:25]. قال ابن مسعود رضي الله عنه: (لو أن رجلاً همَّ بخطيئةٍ لم تكتب عليه ما لم يعملها، ولو أن رجلاً همَّ بقتلِ رجلٍ بمكة وهو بعدن أو ببلدٍ آخر أذاقه الله من عذاب أليم).
لذلك كله كان لزامًا على العلماء وأصحاب الفكر والرأي وحملة القلم تحذير الناس من الوقوع في جميع المحرمات، وتنفيرهم من الوقوع في المخالفات، وبيان النتائج السلبيةِ التي تعقب ارتكاب الجرائمِ بشتى صورها، كبيرة كانت أو صغيرة.
وإذا لم ينجح هذا الأسلوب، ولم يفد هذا المسلكُ مع بعض الخارجين عن نظام هذا الدين والراغبين في الانخراط في قائمة المجرمين، ولم يردعهُمُ النصح والتوجيهُ من الكفِّ عن بث الرعب والفزع بين الناس، فإن الدين الإسلامي أوجد سلطةً أناط بِها القيام بمهمة ردع المجرمين والقضاء عليهم واستئصالهم من هذا المجتمعِ الطاهر النقي، وهذه السلطة هي الشرطة التي أُوجدت لحفظ الأمن في المجتمع ورعاية أفراده، فقد روى ابن عمر رضي الله عنهما قال: خرجت مع النبي يوم أحد، فلما رآني استصغرني وردَّني، وخلفني في حرس المدينة في نفر منهم أوس بن ثابت وأوس بن عرابة ورافع بن خديج. وقد ورد أيضًا ما يدل على أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا مع رسول الله بمنزلهِ الشرطة من الوالي، حيث كانوا ينفذون أوامره، ويقومون بالمهام التي كان يكلفهم بِها.
من ذلك ما رواه مسلم في صحيحه عن أبي وائل عن أبي الهياج الأسدي قال: قال علي بن أبي طالب: (ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله : أن لا تدع تمثالاً إلا طمسته، ولا قبرًا مشرفًا إلا سويته).
ولعل نظام العسس الذي كان موجودًا في عهد النبي وزمن خلفائهِ الراشدين يعتبر النواة الأولى لنظام الشرطة الذي بدأ يظهر بعد ذلك بصورةٍ أشمل، وبتخصصات متعددة وأغراض مختلفة.
لقد أنيطت برجال الشرطة بعد ظهورهم بشكل أوسع في الأزمنةِ اللاحقة مهمات كبيرة ومسؤوليات جسيمة، حيث ظهر لأفراد المجتمع الدور البارز الذي يقوم به أولئك في حفظ الأمن والنظام، فظهرت هيبة رجال الشرطة في أعين الناس، وذلك لجِدهم في حسمِ الخلافاتِ والنزاعات وغلقِ أبواب الشر.
ومن خلال نظرة عامةٍ إلى أهم الأعمال المنوطة برجال الشرطة في المحافظة على أمن المجتمع نجد أن ذلك يتلخص في أمور منها:
أولاً: تنفيذ الأوامر التي يصدرها ولي الأمر بمختلف أنواعها، من تفقد أحوال الناس وإقامة الحدودِ الصادرة بحق المجرمين، كجلد شاربِ الخمر وقطع يد السارق وتنفيذ القصاص وغير ذلك.
ثانيًا: مداهمةُ المجرمين في الأماكن التي يتوقع وجودهم فيها، من خلال قيام رجال الشرطة بالمراقبةِ الدائمةِ والمستمرةِ للمشبوهين أينما ذهبوا، للتحقق من أهدافهم المشبوهة وضبطهم وهم متلبسون بشبهِهِم.
ثالثًا: السهر على استتباب الأمن، والعمل على راحة الجميع، من خلال القيام بالدوريات المتتابعة على مدار اليومِ والليلة في الطرق العامة، وفي داخل الأحياءِ والمجمعاتِ السكنية.
رابعًا: العمل على تعويد الناس وإلزامهم بطاعة ولي الأمر، من خلال توجيههم إلى الالتزامِ بالنظام والمحافظة عليه وعدم الخروج عنه، حتى لا تعم الفوضى، وليبقى المجتمع آمنًا.
خامسًا: المحافظة على أموال الناس وممتلكاتِهم الخاصةِ والعامة، من خلال الحراسةِ التي يقوم بِها رجال الأمن في الأسواق والمحلات التجارية والمرافق العامة.
سادسًا: التصدي لأهل البدع والأهواء ممن يحدثون ظواهر جديدةً داخل المجتمع، تخالف ما جاء في كتاب الله تعالى وسنة رسوله .
وبالجملة فإن مهام رجال الشرطة كثيرة، وهي في جملتها تنحصر بقيامهم بكل عمل يحول دون وقوع الجريمة في المجتمع، والمحافظة على أمنهِ واستقراره، وعدم تسرب الفوضى والفسادِ بين أفراده، حتى يهنأ الجميع بحياةٍ آمنةِ سعيدة.
إن أفراد المجتمع بأسره يجب على كل واحد منهم أن يكون شرطيًا أمينًا داخل هذا الكيان الكبير الشامخ، وذلك بتعاونه مع رجال الشرطة في كل ما من شأنه إنجاح مهمتهم ومساعدتهم في الوصول إلى تحقيق النجاح في وظيفتهم التي أنيطت بهم.
وأخيرًا، فإن رجل الأمن مسؤول مسؤولية عظيمةً أمام الله تعالى بقيامه بعمله الذي كُلف به خير قيام، وبطاعته لرؤسائه وتنفيذ أوامرهم، كما أن عليه أن يلزم الصدقَ في تعامله مع الناس، وأن يتجنب الظلمَ بشتى طرقهِ، وأن يتحرى الدقة والحرص عند قيامه بتنفيذ جميع مهامه، وأن يتذكر دائمًا عين الرقيب الذي لا ينام.
ــــــــــــــــــــ(67/225)
شريحة المعاقين
...
...
4048
...
الأسرة والمجتمع, العلم والدعوة والجهاد
...
...
قضايا المجتمع, محاسن الشريعة
...
عبد الكريم بن صنيتان العمري
...
...
المدينة المنورة
...
...
...
جامع الصانع
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- اهتمام الشريعة الإسلامية بكافة أفرادها دون تمييز بينهم. 2- للمعاقين حقوق زائدة على حقوقهم العامة. 3- أول حق للمعاق ينطلق من حسن اختيار الزوجة. 4- حرص الشريعة الإسلامية على حماية الجنين من كل ما يلحق الضرر به. 5- وجوب الحرص على رعاية المعاق بتربيته وتعليمه. 6- عتاب اله تعالى للنبي بسبب إعراضه عن أعمى. 7- مراعاة الشرع للمعاق في الأحكام التكليفية.
الخطبة الأولى
لقد اهتمت الشريعة الإسلامية بأفرادها، ووضعت لهم حقوقًا، ولم تميز بينهم، بل أمرت بالعدل، ووجهت إلى إعطاء كل ذي حق حقه. فالمجتمع المسلم كل فرد فيه جزء لا يتجزأ منه، يتمتع بكامل حقوقه التي وضعها له الإسلام.
والمعاقون شريحة من شرائح المجتمع وفئة عزيزة من فئاته، لهم سائر الحقوق التي للفرد الصحيح، ولهم حقوق أخرى انفردوا بها مراعاة لأحوالهم وحاجاتهم.
وينطلق حق المعاق في المجتمع أول ما ينطلق من أسرته التي ولد فيها، ونشأ في ظلالها، وتربى بين أفرادها، فإن الواجب على الأسرةِ قبل تكوينها من مؤسسيها الزوج والزوجة حسن الاختيار عند الرغبة في الزواج؛ لأن الوراثة من مسببات الإعاقة، فلا يكون من أسرةٍ عرفت بكثرة الإعاقة في أفرادها، فإن الطفل قد يرث الإعاقة من وراثاته القريبة أو البعيدة عن والديه، ومن حقوق الابن على والديه مراعاة الصلاح والاستقامة والسلامة من العيوب، قال : ((إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فانكحوه)) رواه الترمذي، وقال: ((تخيروا لنطفكم)) رواه ابن ماجه.
ثم تأتي أهمية العناية بالمولود منذ أن يكون جنينًا في بطن أمه، وتجنيبه أسباب الإعاقة، وحمايته منها بإذن الله تعالى. ويتمثل ذلك في أن الإسلام أباح للحامل أن تفطر حين تكون صائمة وتخاف على جنينها من الضرر، وهذا ما يؤكد عناية الشريعة الإسلامية بالفرد قبل قدومه إلى هذه الحياة.
ومن هنا فإن على الأم أن تحافظ على جنينها، وتبعد كلّ خطر عنه، وتبتعد عن كل ما يؤثر في نموه وتكوينه، فتعاطيها للتدخين والمخدرات من أكثر المخاطر التي قد تعرضه للإعاقة، كما أن تناولها لبعض الأدوية وهي حامل دون استشارة الطبيب وذوي الاختصاص قد يسبب للجنين أضرارًا ومؤثرات تؤدي إلى ولادته معاقًا أو مشوهًا، فينبغي للوالدين وخاصة الأم الحرص على حماية الجنين من أي مؤثر قد يكون سببًا في ولادة مولود غير سوي.
وإذا رُزق الوالدان الولد وكتب الله تعالى أن يكون معاقًا فإن الإسلام حثّ الوالدين على العناية به، وتربيته تربية صالحة، والاهتمام بكافة شؤونه، ومن ذلك الحرص على تعليمه وبذل كل ما يحتاجه في سبيل ذلك، وعلى المجتمع أن يعنى بشؤونه وييسر السبل ويذلل الصعاب للمعاقِ؛ كي يتعلم ويكون عضوًا فاعلاً فيه.
لقد عاتب الله تعالى رسوله الكريم حين اشتغل بدعوة قريش عندما جاءه ابن أم مكتوم ـ وكان أعمى ـ طمعًا منه في إسلامهم حتى يكونوا سببًا في دعوة قومهم إلى الإسلام، قال تعالى: عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى أَمَّا مَنْ اسْتَغْنَى فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى وَهُوَ يَخْشَى فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى [عبس:1-10].
قال ابن كثير رحمه الله: "ومن هنا أمر الله عز وجل رسوله أن لا يخص بالإنذار أحدًا، بل يساوي فيه بين الشريف والضعيف والغني والفقير والسادة والعبيد والرجال والنساء والكبار والصغار، ثم الله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، وله الحكمة البالغة والحجة الدامغة" انتهى كلامه رحمه الله.
إن الدين الإسلامي لم يهمله لأنه أعمى، بل اهتم به، وقدمه على الأصحاء؛ لأن العلم حق من حقوق التربية الإسلامية، وأنزل في شأنه آياتٍ تُتلى إلى يوم القيامة. كما أن الشريعة الإسلامية لم تهمل حال المعَاق في التكاليف، بل رفعت المشقة والعسر عنه.
قال تعالى: لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ [الفتح:17]. فأباح التخلف والقعود لأصحاب هذه الأعذار ـ ومنها المرض والعرج والعمى ـ عن الجهاد في سبيل الله. وهي من الآيات التي هي أصل في سقوط التكليف عن العاجز، فكل من عجز عن شيء سقط عنه، ولذلك فإن المعوق رُفع عنه الحرج وأعذره الله تعالى.
وأكدت السنة النبوية ذلك، وبينت أن الإعاقة تخفف عن المريض التكليف، ويكتب له الأجر كاملاً، قال : ((إذا مرض العبد أو سافر كَتَبَ الله تعالى له من الأجر ما كان يعمل صحيحًا مقيمًا)) رواه البخاري، ورفعُ الحرج عن المعاق في التكاليف الشرعية إذا كان لا يلحقه ضرر أمرٌ مشروع، ولذلك ذكر الفقهاء أن المريض إذا خشي من الإتيان بالمطلوبات الشرعية على وجهها خوفًا من ألم شديد أو زيادة في المرض أو تأخر برءٍ أو فساد عضو أو حصول تشويه فيه فإنه يعدل إلى الأحكام المخففة.
والتطبيق التربوي لذلك ما ورد عن عمران بن حصين قال: كانت بي بواسير، فسألت النبي عن الصلاة، فقال: ((صَلِّ قائمًا، فإن لم تستطع فقاعدًا، فإن لم تستطع فعلى جنبك))، وفي زيادة: ((فإن لم تستطع فمستلقيًا، لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها)) رواه البخاري والنسائي.
إذًا فالشرع المطهر راعى المعاق عند تكليفه، ولم يحمّله ما لا يطيق، أو ما لا يتناسب وقدراته وطاقته، مما يؤكد أنه وضعه في عين الاعتبار عند التشريعات، وهذا يجعل المعاق في موقف قوي له اعتباره، حيث رسم الإسلام له حقوقه الخاصة واعتبرها، كما وضع له حقوق الأسوياء الأصحاء تمامًا.
-ــــــــــــــــــــ(67/226)
القلوب الرحيمة
...
...
4053
...
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
...
...
أعمال القلوب, قضايا المجتمع, مكارم الأخلاق
...
عبد الكريم بن صنيتان العمري
...
...
المدينة المنورة
...
...
...
جامع الصانع
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- الإسلام دين الرحمة والعطف والرأفة. 2- شمولية الرحمة في الإسلام لكل شيء. 3- من صور الرحمة في سيرة رسول الله . 4- أهمية التراحم في المجتمع. 5- الصحابة وخلق الرحمة. 6- الرحمة حتى بالحيوان.
الخطبة الأولى
الإسلام دين الرحمة والعطف والرأفة، جاء يدعو إليها، ويزرعها في قلوب أفراده، ويحث المجتمع بأن تخيم عليه الرحمة ظاهرًا وباطنًا، وتبدو الشفقة والعطف في سلوك وتعامل أفراده.كيف لا، وربنا جل في علاه متصف بالرحمة، فهو الرحمن الرحيم، وهو القائل في الحديث القدسي: ((إن رحمتي سبقت غضبي)) رواه مسلم.
والرسول أرسله الله تعالى بالهدى ودين الحق، وبعثه رحمة للأمة، وكان يقول: ((إنما أنا رحمة مهداة)) رواه الحاكم، بل إنه من شدة رحمته بأمته جعل نفسه مثل الأب لابنه في قوله : ((إنما أنا لكم مثل الوالد لولده)) رواه أحمد وأبو داود.
وإن مجال الرحمة في ديننا واسع لا حدود له، فهي لا تقتصر على الأهل والأولاد وذوي القربى، وإنما تشمل الناس جميعًا، بل والحيوان أيضًا.
وفي سيرة النبي وحياته صور عديدة يتضح من خلالها كيف أنه وسع دائرة الرحمة في أقواله وأفعاله، ولم يكن يدعها حتى في صلاته، فعن أنس أنه قال: ((إني لأقوم إلى الصلاة وأنا أريد أن أطيلها، فأسمع بكاء الصبي، فأتجّوز في صلاتي ـ أي: أخففها ـ مما أعلم من شدة وَجدِ أمه من بكائه)) متفق عليه.
ودخل الأقرع بن حابس على رسول الله فرآه يقبل الحسن بن علي رضي الله عنهما، فقال الأقرع: إن لي عشرة من الولد ما قبّلت منهم أحدًا. فنظر إليه رسول الله فقال: ((أوَلا أملك أن نزع الله الرحمة من قلبك؟! من لا يَرْحم لا يُرْحم)) متفق عليه.
لقد حرص الإسلام على انتشار الرحمة بين المسلمين وشيوعها وظهورها في أفعالهم ومعاملتهم، فقال : ((مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)) رواه مسلم.
فالتراحم إذا لم يكن صفة يتصف بِها أفراد المجتمع تكون بين الكبير والصغير والغني والفقير، وتُرى آثارها بينهم فإن هذا يدل على انتشار الكبر والترفع والتعالي، فإن الرحمة لا يترفَّع عنها إلا من مُلئ قلبه حسدًا وحقدًا وبُغضًا، وأنى لمجتمع مسلم أن يكون كذلك، قال : ((لا تُنزع الرحمة إلا من شقي)) رواه أحمد وأبو داود.
وقد كان مجتمع الصحابة رضي الله عنهم تسوده الرحمة، إذ عرفوا منزلتها، فاتصفوا بِها، قال تعالى: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ [الفتح:29].
وقد كانوا يتسابقون إلى فعل الخير رحمة بالمستحقين للعون والمساعدة، وطلبًا لما عند الله تعالى من الأجر والثواب، فهذا عمر يتعهد امرأة عمياء بالمدينة، ويتردد عليها، يوفر لها ما تحتاجه من الطعام والشراب واللباس، غير أنه لاحظ أن رجلاً آخر يتعهد هذه العجوز، ويأتيها بما تحتاجه، فإنه كلما جاءها وجد عندها ما يكفيها، فترصد عمر ، وأخذ يراقب هذا الرجل، من هو يا ترى؟ من هذا الذي سبقه على فعل الخير وعمل البر والإحسان؟ فيتضح له أنه أبو بكر خليفة المسلمين، كان على صلة دائمة بهذه المسكينة الضعيفة.
لقد كان الصحابة رضي الله عنهم يعطف أثرياؤهم على فقرائهم، فيجودون على المحتاجين مما أعطاهم الله من واسع فضله، فهذا عثمان تأتيه قافلة محملة بما يحتاجه الناس من المؤنة، وفي وقت كانت المدينة تعيش فيه جدبًا وقحطًا، فيساومه التجار عليها، فيقول لهم عثمان: كم تزيدونني؟ قالوا: العشرة باثني عشر، فقال: قد زادني، قالوا: فالعشرة خمسة عشر، فيقول زادني، حتى أوصلوا الربح إلى سبعة أضعاف، وهو يقول: قد زادني أكثر، فيقولون: ما بقي من تجار المدينة أحد، فمن أعطاك؟ قال: إن الله أعطاني بكل درهم عشرة، فانصرف التجار عنه، وهو ينادي: اللهم إني وهبتها فقراء المدينة بلا ثمن ولا حساب. لقد كانت الرحمة تشيع في نفسه الحانية وقلبه الفياض بالجود والعطاء المتدفق بالعطف والحنان والسخاء.
فالإسلام حَثَّ على غرس صفة الرحمة في نفوس أفراده، حتى في معاملتهم للحيوان بأن يكونوا رحماء به، فينظرون إليه بعين الشفقة والرحمة، فعن أبي هريرة أن رسول الله قال: ((بينما رجل يمشي في الطريق اشتد عليه العطش، فوجد بئرًا فنزل فيها فشرب، ثم خرج فإذا كلب يلهث يأكل الثرى من العطش، فقال الرجل: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثلُ الذي كان بلغ مني، فنزل البئر فملأ خفه ماءً، ثم أمسكه بفيه، حتى رقِيَ ـ أي: صعد ـ فسقى الكلبَ، فشكر الله له فغفر له))، فقال الصحابة رضي الله عنهم: يا رسول الله، وإن لنا في البهائم لأجرًا؟! فقال: ((في كل ذات كبد رطبة أجر)) رواه البخاري ومسلم.
وبيَّن رسول الله أن من حق الحيوان عدم إرهاقه في العمل أو تكليفه فوق طاقته، وأن يؤمِّن له صاحبه ما يحتاجه من العلف والماء، وأن لا يقصر عليه بشيء من ذلك، فقد ورد أن النبي دخل بستانًا في المدينة، فأتاه جمل فجَرْجَرَ وحَنَّ وذرفت عيناه، فمسح رسول الله سنامه ورأسه فسكن، فقال لصاحب الجمل: ((أما تتقي الله في هذه البهيمة التي ملَّككها الله؟! إن جملك يشتكي من كثرة الكُلَف وقلة العلف)) رواه أحمد والترمذي. أي: تزيد عليه في الحمل والعمل فوق طاقته، ثم لا تعطيه كفايته من الغذاء والطعام.
وهكذا فإن الرحمة ينبغي أن تسري في نفوس المؤمنين وفي مشاعرهم على النحو الذي رسمه الإسلام، وأرسى قواعدها، وأسس دعائمها القرآن الكريم، وظهرت في معاملة المصطفى لأمته، وإرشاده لهم بالتحلي بها، حتى يعيش مجتمعًا متآلفًا متماسكًا، تذوب فيه كل الفوارق، وتجتمع فيه القلوب على نور الإسلام وهديه.
روى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((إن لله مائة رحمة، أنزل منها رحمة واحدة بين الجن والإنس والبهائم والهوام، فبها يتعاطفون، وبها يتراحمون، وبها تعطف الوحش على ولدها، وأخَّر تسعًا وتسعين رحمة، يرحم بِها عباده يوم القيامة))، ورأى رسول الله امرأة أخذت صبيًا فألصقته ببطنها وأرضعته، فقال لأصحابه: ((أترون هذه طارحة ولدها في النار؟)) قالوا: لا يا رسول الله، فقال : ((لله أرحم بعباده من هذه بولدها)) متفق عليه.
اللهم طهر قلوبنا من الحسد، ونَقِّها من البغضاء والكبر، واملأها بالعطف والرحمة، وروِّها باللطف والشفقة، وارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، واغفر ذنوبنا، برحمتك يا أرحم الراحمين.
ــــــــــــــــــــ(67/227)
التكافل الاجتماعي
...
...
4054
...
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
...
...
فضائل الأعمال, قضايا المجتمع, مكارم الأخلاق
...
عبد الكريم بن صنيتان العمري
...
...
المدينة المنورة
...
...
...
جامع الصانع
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- من فضائل قضاء حوائج الإخوان في السنة. 2- كل إنسان يبذل من المعروف والعون ما في وسعه قليلاً كان أو كثيرًا. 3- من أقوال السلف في مساعدة الناس وقضاء حاجاتهم.
الخطبة الأولى
إن خصال الخير وصنائع المعروف التي حث الإسلام على فعلها متعددة الطرق واسعة الأبواب، فالمجتمع الإسلامي تتهيأ فيه الفرص لأعمال الخير والإحسان وبذل المعروف للإخوان.
وما أعظم الأجر الذي يناله من يسعى في قضاء حاجة إخوانه، ويفرج كُرَب أقاربه وخِلاَّنه، إذ ينالُ ذلك الثواب في موقف هو أحوج فيه للحسنات، يوم يقف بين يدي رب الأرباب، يوم العرض والحساب، حيث يشمل كل عمل قام به نحو المحتاجين ومن ضاقت عليهم أحوالهم سواء يَسَّرَ عليه في قضاء دينه، أو سدده عنه، أو فَكَّ ضائقته، أو شفع له عند من يعينه، أو سهل له مهمته، قال : ((من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فَرَّج عن مسلم كربةً فرَّج الله عنه بِها كربةً من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلمًا ستره الله يوم القيامة)) متفق عليه.
وبين أن من عباد الله من أوجد الله فيه خاصية مساعدة إخوانه وقضاء مصالحهم وتلمس احتياجاتهم، ولذلك فإن هؤلاء يلجؤون إليه بعد الله تعالى لعونهم ومساعدتهم، فقد روي عنه أنه قال: ((إن لله خلقًا خلقهم لحوائج الناس، يفزع الناس إليهم في حوائجهم، أولئك الآمنون من عذاب الله يوم القيامة)) رواه الطبراني، وفي لفظ: ((إن لله أقوامًا يختصهم بالنعم لمنافع العباد، يُقرهم فيها ما بذلوها، فإذا منعوها نزعها منهم فحوَّلها إلى غيرهم)) رواه الطبراني.
إن مساعدة الآخرين وعونهم التي دعا الإسلام إليها لا تتوقف عند حد، ولا تختص بقريب أو صديق، ولا بوقت دون آخر، بل كلَّما سنحت الفرصةُ للعون والمساعدة وكان المسلم قادرًا على فعلها وقضائها، فحريٌ به أن يسارع إلى تقديمها، فإن ذلك مما يؤلف القلوب، ويقرب النفوس، ويضفي على العلاقات رباطًا قويًا من المودة والمحبة والأنس، كما قيل:
أحسن إلى الناس تستعبد قلوبَهم فطالما استعبد الإنسانَ إحسانُ
من كان للخير منَّاعًا فليس له على الحقيقة إخوانٌ وخِلاّن
أحسِن إذا كان إمكانٌ ومقدرةٌ فلن يدوم على الإنسان إمكانُ
ورد عن الحسن بن علي رضي الله عنهما أنه قال في الحث على قضاء الحوائج وبذل المعروف: (نافسوا في المكارم، وسارعوا في المغارم، ولا تحتسبوا بمعروف لم تُعَجّلوه، ولا تكسبوا بالمطل ذمًّا، واعلموا أن حوائج الناس من نعم الله عليكم، فلا تملّوا النعم فتكون نقمًا، وإن أجود الناس من أعطى من لا يرجوه، وإن أعفى الناس من عفا عمن قدر عليه، ومن أحسن أحسن الله إليه، والله يحب المحسنين).
وروي عن عمر قال: (أفضل الأعمال إدخال السرور على مؤمن: كَسوتَ عورته، أو أَشبعتَ جوعته، أو قضيتَ له حاجة).
إن على كل قادر على بذل المعروف وقضاء حاجة أخيه المسلم أو المساعدة في ذلك والمشاركة فيه أن يسهم على قدر جهده وطاقته ومكانته، وأن يحتسب أجرَ ذلك عند الله تعالى.
قال : ((تَلَقَّت الملائكة روحَ رجل ممن كان قبلكم، فقالوا: أعملتَ من الخير شيئًا؟ قال: لا. قالوا: تذكَّر. قال: كنتُ أداين الناس، فآمر فتياني أن يُنْظِروا المعسر ويتجاوزوا عن الموسر. قال: قال الله عز وجل: نحن أحق بذلك منه، فتجاوزوا عنه)) رواه البخاري ومسلم.
ثم إن ما تبذله من جاه أو عون أو مساعدة قد تحتاجه في قابل الأيام، فقد تصير في موقف أنت في أمس الحاجة فيه إلى من يعينك، وينقذك فيه من مَأْزِقٍ صعب وقعت فيه:
خيرُ أيام الفتى يوم نفَع واصطناع العُرف أبقى مصطنع
ما يُنالُ الخيرُ بالشرِّ ولا يحصد الزارع إلا ما زرع
ليس كل الدهر يومًا واحدًا ربما انحطّ الفتى ثم ارتفع
ورد أن ابن سعيد بن العاص لما حضرته الوفاة قال لبنيه: يا بني أيكم يقبل وصيتي؟ فقال ابنه الأكبر: أنا، قال: إن فيها قضاء دَينِي، قال: وما دينُك يا أبتي؟ قال: يا بُنَيَّ، في كريمٍ سددتُ خَلَّتَه وفقره، ورجل جاءني في حاجة وقد رأيت السوء في وجهه من الحياء، فبدأت بحاجته قبل أن يسألها.
وقد صور ابن إسحاق هذا المعنى بقوله:
وإذا طلبتَ إلى كريمٍ حاجةً فحضوره يكفيك والتسليم
فإذا رآك مُسَلِّمًا عرَف الذي حَمَّلْته فكأنه ملزوم
قال أبو حاتم رحمه الله: "ما ضاع مالٌ ورَّثَ صاحبَه مجدًا، ولولا المتفضّلون مات المتجمّلون، ولا يستحقُّ اسم الكرم بالكف عن الأذى إلا أن يَقرِنَه بالإحسان إليهم، فمن كثرت في الخير رغبته وكان اصطناع المعروف همته قصده المحتاجون، وتأمّله الملهوفون والمعوزون، ومن كان عيشه وحده مقتصرًا على نفسه فهو قليل العمر وإن طال عمره، والبائس من طال عمره، ولم يبذل المعروف، ولم يقض حوائج إخوانه".
كثير هم أولئك الذين يجِدهم المرء حوله في رخائه ويسره، لكنهم ينحسرون ويقلون أوقات المحن والشدائد، ورحم الله الإمام الشافعي إذ قال:
ولما أتيتُ الناسَ أطلبُ عندهم أخا ثقةٍ عند ابتلاء الشدائدِ
تقلبت في دهري رخاءً وشدةً وناديتُ في الأحياء: هل من مساعدِ؟
فلم أر فيما ساءني غير شامتٍ ولم أر فيما سَرَّني غير حاسد
وقال أيضًا:
إني صحبتُ أناسًا ما لهم عددُ وكنت أحسبُ أني قد ملأتُ يدي
لما بلوتُ أخلائِي وجدتُهم كالدهر في الغدر لم يبقوا على أحدِ
إن غبتُ عنهم فشرُّ الناس يشتُمني وإن مرضتُ فخير الناس لم يَعُدِ
وإن رأوني بخيرٍ ساءهم فرحي وإن رأوني بشرِّ سرَّهم نكدِي
لكن الخير في هذه الأمة إلى يوم القيامة، وفي الناس من زرَع الله في أفئدتهم محبة الضعفاء والمساكين، وإعانة ذوي الحاجات والمعوزين، ومسح دموع اليتامى والمساكين، وجبرَ خواطر الأرامل والثكالى والمكلومين. كتب الله لهم الأجر والمثوبة، وتقبَّل منهم ما قدّمت أيديهم، ورفع مكانتهم، وأعلى قدرهم ومنزلتهم.
ــــــــــــــــــــ(67/228)
ميزان الصداقة
...
...
4055
...
الأسرة والمجتمع, الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
...
...
أعمال القلوب, الولاء والبراء, فضائل الأعمال, قضايا المجتمع
...
عبد الكريم بن صنيتان العمري
...
...
المدينة المنورة
...
...
...
جامع الصانع
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- جاء الإسلام بكل ما يسعد المرء في الدارين. 2- ضرورة بناء العلاقات بين الناس على الحب في الله والبغض فيه. 3- علو منزلة المتحابين في الله تعالى. 4- كل صداقة بنيت على غرض دنيوي فهي زائفة مصطنعة زائلة.
الخطبة الأولى
المتأمّل في هذا الدين يجده أتى بكلّ ما يسعدُ المسلمَ في حياته ومعاده، فهو يوجّه أفراده دائمًا إلى تعميق الصّلة والأخوة بينهم، وتثبيت أواصر المودّة والمحبة، وغرس أسس الترابط والتآلف بين القلوب، ولمّ شمل الأفراد والتقريب بينهم. وباعتبار أن المؤمنين في المجتمع الإسلامي إخوة فلا وجه إذًا لكلّ ما يعكّر صفو العلاقة والأخوة القائمة في صدورهم، بل إن عليهم أن يعملوا على رسوِّها وثباتها ونمائها، وينأوا بِها عن كل ما يخدشها أو يعمل على زعزعتها وعدم استقرارها، وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا [آل عمران:103].
وينبغي أن تكون هذه الرابطة على أساس الحب في الله والبغض في الله، كما قال : ((ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان)) وذكر منها: ((وأن يحب المرء لا يحبه إلاّ لله)) متفق عليه.
وهذه المحبة الصادقة الصافية في الله تعالى ينتج عنها علوُّ المنزلة ورفعةُ الدرجة يوم القيامة، ففي حديث السبعة الذين يظلهم الله في ظله، يوم لا ظل إلا ظله ذكر منهم: ((ورجلان تحابا في الله، اجتمعا عليه وتفرقا عليه)) متفق عليه.
فهذان الرجلان ـ كما يقول أحد شراح الحديث ـ تمكنت بينهما أواصر المحبة والصداقة، صداقة قوية وخالصة لله تعالى، لم يعلق بِها شيء من شوائب النفاق والتملق وابتغاء المنفعة وتحصيل المصلحة الدنيوية، لا يؤثر فيها غنى، ولا يقطعها فقر، بل تزداد يومًا بعد آخر وثوقًا وإحكامًا ورسوخًا وثباتًا، سِرُّهما في طاعة الله تعالى، وجهرهما في مرضاة خالقهما، لا يتناجيان في معصية، ولا يُسِرَّان منكرًا، يسعيان بأقدامهما إلى طاعة الله تعالى، لا يمشيان إلى فسق أو فجور؛ لأن هذين جمعت بينهما رابطة الدين وحبه، لم يجتمعا لزيادة رصيدهما من حطام الدنيا، أو السعي للوصول إلى درجة عالية أو مرتبة دنيوية زائلة.
فهنيئًا لهذين اللذين يزداد شرفهما حين يدنيهما الله تعالى في ذلك اليوم العظيم، ((ويقول: أين المتحابون بجلالي؟ اليوم أظلُّهم في ظلِّي يوم لا ظلّ إلا ظلي)) رواه مسلم.
إن هذا الشرف وتلك المكانة العالية ليست بالأمر الهين، ولا المطلب السهل، إنها صعبةُ المُرْتَقى، عسيرة المُبْتَغى إلا على أناس زهدوا في هذه الحياة وفي زخارفها وزينتها، باعوا قصورها ونعيمها وملاذها، وراحوا ينشدون مرضاة الله تعالى، اشْرَأَبّت نفوسهم، وتطلعت قلوبهم، وارتفعت هممهم إلى الجزاء الأخروي، إلى ما أعده الله تعالى للمتحابين فيه من المنازل العالية والدرجات السامية، يطمعون في محبة الله تعالى لهم ورضاه عنهم، عن أبي هريرة عن النبي قال: ((إن رجلاً زار أخًا له في قرية أخرى، فأرصد الله تعالى على مدرجته ـ أي: على طريقه ـ ملكًا، فلما أتى عليه قال: أين تريد؟ قال: أريد أخًا لي في هذه القرية. قال: هل لك عليه من نعمةٍ تربها عليه ـ أي: تقوم بِها ـ؟ قال: لا، غير أني أحببتُه في الله تعالى. قال: فإني رسول الله إليك بأن الله قد أحبك كما أحببته فيه)) رواه مسلم.
بل إن النبي بشَّرهم بعلو منازلهم وتميّزهم عن غيرهم وسبقهم لمن سواهم وحصولهم على ما لا يحصل عليه أحد، ففي مسند الإمام أحمد أنه قال مخاطبًا أصحابه رضي الله عنهم: ((يا أيها الناس، اسمعوا واعقلوا، واعلموا أن لله عز وجل عبادًا ليسوا بأنبياء ولا شهداء، يغبطهم الأنبياء والشهداء على مجالسهم وقربهم من الله))، فجاء رجل من الأعراب من قاصِيَة الناس، وأشار بيده إلى رسول الله فقال: يا نبي الله، ناس من الناس، ليسوا بأنبياء ولا شهداء يغبطهم الأنبياء والشهداء على مجالسهم وقربهم من الله! صِفهم لنا. فسُرّ وجهُ رسول الله لسؤال الأعرابي وقال: ((هم ناس من أفناء الناس ونوازع القبائل، لم تصل بينهم أرحام متقاربة، تحابوا في الله وتصافوا، يضع الله لهم يوم القيامة منابر من نور فيجلسهم عليها، فيجعل وجوههم نورًا وثيابهم نورًا، يفزع الناس يوم القيامة ولا يفزعون، وهم أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون)) رواه أحمد.
فأي تشريف وتكريم أسمى من هذا وأرفع منه؟! يحظى به من سمت نفوسهم، وصفت قلوبهم، وفاضت بالحب الإيماني الصادق في الله عز وجل، إنها دعوة نبوية وحفز لتأسيس صداقة قوية، تجمع القلوب على حب صادق خالص لله تعالى، لما لهذا الحب من نتائج إيجابية في الدنيا والآخرة، تظهر آثارها بين أفراد المجتمع المسلم، فهم متآلفون متواصلون، ضمتهم هذه الرابطة القوية، وحوتهم تلك العلاقة الإيمانية، يسعدون بسعادة أحدهم، ويحزنون لحزنه، يستبشرون بنجاحه، ويتألمون لألمه وإخفاقه.
أما الصداقة الزائفة، والمحبة المبنية على تحصيل المصالح الدنيوية وجلب المنافع العاجلة، فإن الحب فيها مصطنع مزيف، إذا هبت عليها رياح المصلحة فرقتها ومزقتها؛ لأنها لم تبن على أساس راسخ ولا أصل ثابت.
إن كل صداقة في غير الله تعالى تنقلب يوم القيامة عداوة، قال تعالى: الأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ [الزخرف:67]، فالأصدقاء في هذه الحياة يعادي بعضهم بعضًا يوم القيامة إلا أصدقاء الإيمان، الذين بنوا صداقاتهم على الحب في الله والبغض في الله.
ويتضح ذلك يوم القيامة، حين تظهر الندامة والحسرة والأسى على تلك العلاقة الزائفة في الدنيا، قال تعالى: وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً يَا وَيْلَتِي لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلاً لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنْ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولاً [الفرقان:27-29].
عدوك من صديقك مستفادُ فأقلل ما استطعت مِن الصحابِ
فإن الداء أكثر ما تراه يكون من الطعام أو الشرابِ
وإنك قلما استكثرت إلا وقعت على ذئابٍ في ثيابِ
فدع عنك الكثير فكم كثيرٍ يعابُ وكم قليل مستطابِ
وما اللُّجَج الملاحُ بمروياتٍ وتَلقَى الرِّيَّ في النطفِ العذابِ
ــــــــــــــــــــ(67/229)
الجار المأمون
...
...
4057
...
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
...
...
الآداب والحقوق العامة, قضايا المجتمع, مكارم الأخلاق
...
عبد الكريم بن صنيتان العمري
...
...
المدينة المنورة
...
...
...
جامع الصانع
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- نصوص الكتاب والسنة في تعظيم حق الجار والوصية به. 2- أقسام الجيران في الحقوق. 3- تعريف الجار وحدّه. 4- من حقوق الجار: الإهداء إليه، الإحسان إليه، كف الأذى عنه، احتمال أذاه. 5- الإشارة إلى حال الجيران اليوم.
الخطبة الأولى
عن أبي شريح الخزاعي قال: قال رسول الله : ((والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن))، قيل: من يا رسول الله؟ قال: ((الذي لا يأمن جاره بوائقه)) رواه البخاري، وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورّثُه)) متفق عليه.
هذان حديثان من مشكاة النبوة، التي تهدي إلى مكارم الأخلاق وجميل الصفات، وتوجه إلى البر والإحسان، وتدعو إلى المودة والرحمة والشكران. وإن من أعظم ما قرره الإسلام وأثبته حق الجار، فقد جاء به كتاب الله تعالى، وبينه رسول الهدى .
لقد أمر الله تعالى بالإحسان إلى الجيران، قال تعالى: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا [النساء:36].
تضمنت هذه الآية الكريمة عشرة حقوق، حتى عُرفت بين أهل العلم بآية الحقوق العشرة، بينها حق الجار، فقد أمر الله تعالى بحفظه والقيام بحقه، وأكد على ذلك بذكره لهذا الحق بعد ذكر الوالدين والأقربين.
والجيران ثلاثة: فجار له ثلاثة حقوق، وجار له حقان، وجار له حق واحد، فأما الجار الذي له ثلاثة حقوق فالجار المسلم القريب، له حق الإسلام وحق القرابة وحق الجوار، والجار الذي له حقان هو الجار المسلم، فله حق الإسلام وحق الجوار، والجار الذي له حق واحد هو الكافر له حق الجوار.
وإن أولى الجيران بالرعاية والإحسان من كان أقربهم بابًا إليه، وقد بوَّب الإمام البخاري رحمه الله لهذا فقال: "باب: حق الجوار في قرب الأبواب"، ثم أورد حديث عائشة رضي الله عنها قالت: قلت: يا رسول الله، إن لي جارين، فإلى أيهما أهدي؟ قال: ((إلى أقربِهما لكِ بابًا)).
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: "والحكمة في ذلك أن الجار الأقرب يرى ما يدخل بيت جاره من هديةٍ وغيرها، فيتشوف لها، بخلاف الأبعد، وكذلك فإن الأقرب أسرع إجابة لما قد يقع لجاره من المهمات، ولا سيما في أوقات الغفلة".
وقد ذكر العلماء عدة أقوال في حد الجوار، فقال بعضهم: هو الملاصق لبيته، وقال آخرون: إن أربعين دارًا من كل ناحية جار، وقيل غير ذلك.
ولقد أكدت الشريعة الإسلامية على حقوق الجوار ولزوم القيام بِها في أمور عديدة ومجالات مختلفة، منها:
التودد إلى الجار والإحسان إليه والبرُّ به وإكرامه، ويتمثل ذلك بالإهداء إليه مما يأكله ويشربه، ومما منَّ الله تعالى به عليه من النعم، فقد روى أبو ذر قال: قال رسول الله : ((يا أبا ذر، إذا طبخت فأكثر المرق، وتعاهد جيرانك)) رواه مسلم. أي: تفقدهم بزيادة طعامك ما تحفظ به حق الجوار. وقال : ((ليس المؤمن بالذي يشبع وجاره جائع إلى جنبه)) رواه البخاري في الأدب المفرد.
وفي ذلك حض على مكارم الأخلاق وإرشاد إلى محاسنها، لما يترتب على هذا الإهداءِ من المحبةِ وحسن العشرة والمودة والألفة، ولما يحصل به من المنفعة ودفع الحاجة، فقد تصل إلى الجيرانِ رائحة الطعام، فتتوق نفوسهم إليه، لا سيما الصغارُ من الأولاد، فيشقّ على القائم عليهم ذلك، خاصةً إذا كان فقيرًا لا يستطيع توفير مثل ذلك لهم.
وفي هذا حثٌ على البذل والإنفاق، وتعويد النفس على السخاء والكرم، وتطهير لها من البخل والشح، وذلك من صفات المؤمنين.
وينبغي تبادل الهدايا بين الجيران ولو كان شيئًا يسيرًا؛ لأن الأكثر لا يتيسر في كلّ حين، وإذا تواصل الناس كان كثيرًا، وقد قال : ((يا نساء المسلمات، لا تحقرن جارة لجارتها ولو فِرْسنَ شاة)) رواه البخاري ومسلم.
ومن حقوق الجار أن يحسن إليه بما استطاع من المال والجاه والنفع، كأن يستشيره في أمر من الأمور، أو يطلب مساعدته في قضاء حاجةٍ له، أو يرشده في مسألة يجهلها، وينبغي أن يبدأه بالسلام، ويتفقد أحواله، ويعوده إذا مرض، ويعزيه في مصيبته، ويهنئه في أفراحه، ويشاركه في مسراته، ويعفو عن زلاته، ويصفح عن هفواته، ويلاحظ منزله عند غيابه، ويتعاهد أولاده فيما يحتاجون إليه عند سفره.
وقد جمع ذلك النبي عندما سأله أصحابه رضي الله عنهم: ما حق الجار يا رسول الله؟ قال: ((إن استقرضك أقرضته، وإن استعانك أعنته، وإن احتاج أعطيته، وإن مرض عدته، وإن مات تبعت جنازته، وإن أصابه خير سرّك وهنأته، وإن أصابته مصيبة ساءتك وعزيته، ولا تؤذه بقتار قدرك، إلا أن تغرف له فيها، ولا تستطيل عليه بالبناء لتشرف عليه وتسدّ عليه الريح إلا بإذنه، وإن اشتريت فاكهةً فاهد له منها)) رواه الخرائطي.
ومن حقوق الجار أيضًا كفّ الأذى عنه، فقد قال : ((من كان يؤمن بالله واليومِ الآخر فلا يؤذِ جاره)) رواه البخاري. فيجب على الجار أن لا يتعرض لجاره بأي شيء يسوؤه، فلا يتطاول عليه بيده ولا بلسانهِ، ولا يعيره بشيء أو ينتقص منه، ولا يضايقه في طريقه، أو يلقي النفايات عند بابه، أو يوقف سيارته موقفًا يتأذى منه، أو يزعجه بأبواق سيارته أو بأصوات تتعالى تؤرقه في نومه أو تقلق راحته، وقد قال : ((والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن))، قالوا: من يا رسول الله؟ قال: ((الذي لا يأمن جاره بوائقه)) رواه البخاري. والبوائق هي الحقد الباطن وسائر أنواع الشر والأذى.
فالذي يتعرض لجيرانه بالأذى، ويسيء إليهم ويستمر على ذلك، بلا مبالاة ودون مراعاة لحقوق الجار إنما يكشف عما في داخل قلبه من الحقد والكراهية، وذلك أمر قادح في إيمانه بأعظم ركني الإيمان، وهما الإيمان بالله واليوم الآخر، فالإيمان محله القلب، وهو أمر باطني، والأعمال دليل على وجوده أو على عدمه، فمن ادعى الإيمان وأقواله وأفعاله تناقض إيمانه فدعواه باطلة.
ليس حق الجوار كف الأذى فقط، بل أن يتحمل ما يصدر من جاره من إساءة إليه، فيقابلها بالإحسان والعفو والصفح، وقد قال : ((خير الأصحاب عند الله تعالى خيرهم لصاحبه، وخير الجيران عند الله تعالى خيرهم لجاره)) رواه أحمد والترمذي.
إن الجار لما كان مأمورًا بالإحسان إلى جاره كان التمسّك به مستوجبًا للثواب، فمن كان أكثرهم حظًّا من ذلك فهو أعظمهم ثوابًا عليه، فكان عند الله خيرهم، قال الحسن البصري رحمه الله: "ليس حسن الجوار كف الأذى، ولكن حسن الجوار احتمال الأذى".
من هذه النصوص الشرعية والتوجيهات النبوية يتبين لنا عظم حق الجار، من الإحسان إليه وكف الأذى عنه واحتمال ما قد يصدر منه، لكن المتأمل في حال كثير من الناس اليوم يجد أن المدنية الزائفة قد ألقت بظلالها على حياتهم، فتناسوا هذه الحقوق الواجبة عليهم تجاه جيرانهم، وأعرضوا عنها وأهملوها، فلا تكاد ترى مظهرًا من مظاهر الصلة المستمرة والعلاقة الوطيدة بين الجيران، فقد أشغل الناسَ عن القيام بتلك الواجبات كثرةُ تهافتهم على المادة، وانشغالُهم بملذات الحياة، وتَعْجَبُ كثيرًا حين تعلم أن شخصين في حي واحد، بل في بناية واحدة يتجاوران سنوات عدة، لا يدخل أحدهم منزل جاره خلال هذه المدة، ولا يتفقّد أحواله، وقد يسافر الجار أو يمرض أو يحزن أو يفرح وجاره لم يشعر بذلك، ولم يشاركه في أفراحه وأتراحه، بل قد ترى الشقاق والنزاع محتدمًا بين الجيران، والعداء ظاهرًا بينهم بالقول أو الفعل، وذلك كله مخالف لهدي الإسلام وتعاليمه، فلا بد من وقفةٍ نراجع فيها أنفسنا، ونصحح فيها أحوالنا، ونعمل على تطبيق التوجيهات النبوية الواردة في القيام بحقوق الجيران والوفاء بواجباتهم والإحسان إليهم. والله المستعان، وعليه التكلان.
ــــــــــــــــــــ(67/230)
عقوق الوالدين
...
...
4160
...
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
...
...
الكبائر والمعاصي, الوالدان
...
عبد العزيز بن الطاهر بن غيث
...
...
طرابلس
...
4/3/1425
...
...
بلال بن رباح
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- تعريف العقوق وبيان بعض صوره المعاصرة. 2- أسباب عقوق الوالدين. 3- عقوبة عاق والديه.
الخطبة الأولى
وبعد: فقد تحدثنا في الخطبة السابقة عن أعظم معصية هي معصية الشرك، وتناولنا بعض مظاهره، واليوم نتكلم عن معصية لا تقل خطورة عن معصية الشرك، فقد قرن الله سبحانه وتعالى بينها وبين الشرك في كتابه فقال سبحانه: وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [الإسراء:23]، وقرن بينهما أيضا رسول الله فقال: ((ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟! الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وقول الزور)) أخرجه الشيخان عن أبي بكرة.
نتكلم اليوم عن عقوق الوالدين، هذا الذنب العظيم وهذه الجناية الخطيرة التي تتصدع بها البيوت وتنهار بها الأمم وتحجب بها الرحمات عن الخلق، فما هو العقوق؟
العقوق كما في شرح الترمذي: يقال: عق والده يعقه عقوقا إذا آذاه وعصاه وخرج عليه، وأصله من العق وهو الشق والقطع، فالعقوق في مجمله هو أي أذى يلحق بالوالدين من ولدهما.
وكثير منا إذا سمع لفظة: (الأذى) أو (العقوق) أو غيرها من هذه المعاني يقول: أنا لا أعق والديّ ولا أؤذيهما، ولكن ـ يا عبد الله ـ لست أنت من يحدد الأذى والعقوق، إنما يحدده الشرع ثم يحدده والداك، فهما أدرى بما يؤذيهما، فقد يؤذيهما لفظ أو حركة تذمر أو نظرة، فما بالك بالسب والشتم أو رد الكلام أو الهجران أو تقديم الزوجة والأولاد عليهما؟! فالله المستعان على هذا الأمر العظيم.
ولننظر كيف حدد الشرع هذا الأذى، يقول تعالي: فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا [الإسراء:23]، أفّ كلمة تذمر وتأفف نهى الله عنها في حق الوالدين، كلمة صغيرة تتكون من حرفين، فما بالك بالعظيم من الكلام؟! لا تقل لهما: أف فكيف حالك يا من تقسو عليهما بالكثير من الكلام؟! لا تقل لهما: أف فكيف حالك يا من تصرخ في وجهيهما؟ لا تقل لهما: أف فكيف حالك يا من ترفع صوتك فوق صوتيهما؟! هل هذا هو جزاء شقائهما من أجلك ورعايتهما لك في الصغيرة والكبيرة؟!
إن الوالدين يتأذيان مما لا يخطر على بالك من أمور فاحذر، عن عمارة أبي سعيد قال: قلت للحسن: إلى ما ينتهي العقوق؟ قال: "أن تحرمهما وتهجرهما وتحد النظر إليهما".
تدبروا يا عباد الله، قولة "أف" من العقوق، وأن تحد النظر إليهما من العقوق، إذًا فهل يخلو بيت لدينا من العقوق؟! لا أظن أن بيتا لدينا يخلو من العقوق، اللهم إلا إذا كان هذا البيت بدون أبناء، وإذا كان الأمر كذلك فأين ستنزل رحمة الله؟! وعلى من ستنزل؟!
عقوق الوالدين سرى في مجتمعنا إلى درجة أنك إذا رأيت شخصا بارا بوالديه تعجبت، أصبح الوالد ذليلا أمام ولده بينما المولى يأمرنا بعكس ذلك، فبينما يخبر سبحانه بأن العزة لله وللرسول وللمؤمنين بقوله: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِين [المنافقون:8]، فإنه يستثني من هذا في الدنيا موقفا يخفض فيه الإنسان جناح الذل، وهذا الموقف هو موقفه أمام والديه حيث يقول سبحانه: وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا [الإسراء:24].
فهل أنت ـ أيها المسلم ـ ذليل أمام والديك من أجل رضا الله، أم أنك تقف أمامهما بشموخ وترفض طلباتهما وهما اللذان يخفضان لك جناح الذل من الخوف؟! هذه الأسئلة لا بد أن نطرحها على أنفسنا، فالله سبحانه يقول: وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا [الأحقاف:15]، هذه وصية من الله، ووصايا الله واجبة التنفيذ، وإلا عرض الإنسان نفسه إلى سخط الله، والله سبحانه كرر من وصية الولد بوالديه ولم يفعل ذلك مع الوالدين؛ لأن الوالدين يعطيان كل ما عندهما من عطف وجهد ومال للولد دون وصية، فيجوعان من أجل أن يشبع، ويمرضان من أجل أن يشفى، ويشقيان من أجل أن يرتاح، أما الولد فرغم وصايا الله فإنه يجحد نِعَم الوالدين وفضلهما، وكأنه منذ أن ولد ولد مستغنيا عنهما، وكأنه ما تخبط في بطن أمه تسعة أشهر، وكأنه ما رضع من ثديها من أجل أن ينمو جسمه ويشتد عوده، وكأن والده ما شقي من أجله ليلا ونهارا، ينسى الولد كل هذا رغم وصايا الله سبحانه، ورغم أفضال الوالدين عليه، لهذا وصانا الله بالوالدين ولم يوص الوالدين بنا.
ولا شك ـ إخوة الإيمان ـ أن العقوق بجميع أنواعه متمثل فينا، ومنتشر انتشار النار في الهشيم، ففي مجال الضرب ضَرَب بعض الناس آباءهم، وفي مجال الطرد طُرِد الآباء والأمهات من البيوت ووضعوا في دور الرعاية وأبناؤهم أحياء يرزقون، ومن الناس من يتقاسمون ضيافة والديهم، فلا يتحمّل كل واحد منهم والده أو والدته أكثر من أسبوع، وإذا خرج والداه من بيته إلى بيت أخيه أو أخته تنفّس الصعداء، وكأنه أزاح حملا ثقيلا من على صدره، هذا بدل أن يتنافس كل منهم من أجل أن يبقي والديه لديه، وفي مجال السب والشتم فحدث ولا حرج، وفي مجال النفقة ينفق الإنسان منا على زوجته وأولاده وبيته الآلاف من الدنانير، وإذا أراد أن يعطي لوالديه أعطاهما دنانير معدودة يخرجها بصعوبة، ويظن أنه قد وفاهما حقهما، لا، ما وفّيتهما حقّهما، فلا تخدع نفسَك يا عبد الله، ولا تتعب نفسَك بكثرة العمل إذا كنت عاقّا لوالديك، بل سارع إلى إرضائهما والإحسان إليهما؛ لأن عقوقهما من الكبائر ومن المحرمات، يقول : ((إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات ووأد البنات ومنعا وهات، وكره لكم قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال)) أخرجه الشيخان عن المغيرة بن شعبة.
فيا من تعق أمك من أجل زوجتك أو أبنائك، أين كان هؤلاء عندما كانت أمك تحملك ثقيلا؟! وأين كان هؤلاء عندما كانت أمك تصرخ من آلام المخاض لتخرج أنت إلى هذه الحياة؟! أين كان هؤلاء عندما كانت أمك تطعمك الطعام لقمة لقمة وتمضغه وتلينه لك ولا تمل ولا تسأم بل تناغيك وتلاعبك؟! أين كان هؤلاء عندما كانت أمك تسهر الليل لمرضك وتحزن إن حزنت وتفرح إن فرحت؟! أفتنسى كل هذا بمجرد أن تكبر ويشتد عودك؟! وصدق الله سبحانه: إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ [إبراهيم:34]. فاتقوا الله عباد الله، وفروا من العقوق فراركم من الشرك؛ لأن العقوق من الذنوب المهلكة.
وللعقوق أسباب نذكر بعضا منها بعون الله، ولعل من الغرابة أن يكون الوالدان اللذان يتعرضان إلى العقوق هما أحد الأسباب الرئيسية فيه، حيث إنهما هما اللذان قاما بتربية هذا الابن العاق وتنشئته، فالابن لا يولد عاقا منحرفا بل يولد صفحة بيضاء، يولد على الفطرة كما قال رسول الله ، ووالداه هما اللذان يقومان بالتأثير عليه وتوجيهه، يقول كما في صحيح الجامع من حديث الأسود بن سريع: ((كل مولود يولد على الفطرة حتى يعرب عنه لسانه، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه)).
فالتربية السيئة أحد أهم أسباب العقوق، فغالب تربيتنا لأبنائنا فيها خلل، فمنا من يربي ابنه على الدلال الزائد، ومنا من يربيه على الشدة الزائدة على حدودها، ومنا من يربيه على الإهمال بل ويترك تربيته للشارع، ثم إذا كبر الابن وكان عاقا لا يعرف حقوق الوالدين تعجب الوالدان من هذا رغم أنهما هما اللذين زرعا في الابن من حيث لا يشعران هذا الأمر. فيا من تريد ولدا بارا يريحك في كبرك، عليك بتعهده منذ الصغر، تعهده بالتربية كما يتعهد الفلاح النبتة يوما بيوم حتى تصير شجرة مثمرة.
ومن أسباب العقوق غياب الوازع الديني لدى الأبناء، وغياب أهمية بر الوالدين لديهم، فالكثير منا لا يراقب نفسه وتصرفاته وأخلاقياته على ضوء الإسلام، وهل هي ترضى الله عز وجل أم لا؟ بل كلنا يحصر الإسلام في الشعائر فقط، لهذا فهو لا يراقب نفسه في أمر بر الوالدين، ولا يهتم بهذا الجانب، فيضيع حق الآباء والأمهات، وهذا عند الإنسان المصلي المحافظ على أركان دينه، أما عند الإنسان المفرِّط في دينه فالوضع أسوأ من ذلك.
ومن أسباب العقوق المعاملة السيئة من الآباء نحو الأبناء، مثل التفريق بين الأبناء في التعامل وفي العطاء، فهذا يولّد في أكثر الأحيان ردة فعل من الابن نحو الأب أو الأم، يقول فيما أخرجه الطبراني عن النعمان بن بشير: ((اعدلوا بين أولادكم في النحل كما تحبون أن يعدلوا بينكم في البر واللطف))، ومعنى الحديث: أن على الأب أن يعدل بين أبنائه في عطائه لهم، حتى لا يفتح على أبنائه دواعي العقوق، إن الله حرم عليكم جال النفقة الله عليه وسلم قالوقد يفعل الوالد هذا الخطأ بحسن نية وبدون قصد، لكنه يفتح بابا للعقوق خاصة لدى المتسرعين والعصبيين من الأبناء، وهذا الخطأ من الآباء ليس مبررا للابن بأن يعصي أباه ويعقه، فالله أمر بالإحسان إلى الوالد في حال الشرك فكيف بما دونها من الحالات؟! يقول سبحانه: وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا [لقمان:15].
ومن أسباب العقوق الأساسية أن الأب أو الأم يكون في السابق عاقا لوالديه هو أيضا، فيبتليه الله سبحانه وتعالى بابن يعقه كما كان هو يعق والديه، والجزاء من جنس العمل، وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [الكهف:49]، فعلى كل منا أن يتذكر وهو يعق والديه ويسيء إليهما أنه سيكبر وسيكون له أبناء، فهل يرضى أن يفعلوا به كما يفعل هو بوالديه؟! إن كنا لا نرضى بهذا فعلينا ببر الوالدين حتى يجازينا الله على ذلك بأبناء يبروننا ويكونون قرة لأعيننا وسندا نتكئ عليه عند الكبر.
أسأل الله أن يوفقنا إلى بر الوالدين والإحسان إليهما، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله وكفى، وصلاة وسلاما على نبيه المصطفى، وعلى آله وصحبه الطيبين الشرفا.
إخوة الإيمان، أما عقوبة عاق الوالدين فهي عقوبة عظيمة على قدر هذا الذنب العظيم، ومن سمات ذنب العقوق أن فاعله ينال جزاءه في الدنيا قبل الآخرة، فالكثير من الذنوب قد يفعلها الإنسان ولا ينال عقوبتها في الدنيا، بل تكون عقوبتها أخروية، أما العقوق فإن آثاره السيئة يراها الإنسان في الدنيا قبل الآخرة، يقول فيما أخرجه الطبراني عن أبي بكرة: ((اثنان يعجلهما الله في الدنيا: البغي وعقوق الوالدين)).
وهذا أمر مشاهد في الحياة اليومية، بل أصبح من المسلّمات، فما من إنسان كان عاقا لوالديه مسيئا لهما إلا وجدت الله سبحانه وتعالى قد أنزل به المصائب والهم والفشل في كل ما يقدم عليه، وكانت حياته حياة نكد وضنك.
كما أن العاق لوالديه مستوجب لسخط الله عليه، وعندما نقول سخط الله فهي ليست كلمة سهلة نرددها، بل هي طامة عظيمة؛ لأنها تعني أن رب السماوات والأرض وخالق الكون الكبير المتعال ساخط عليك أيها العبد الضعيف، فهل لك قدرة على هذا؟! يقول كما في صحيح الجامع من حديث ابن عمر: ((رضا الرب في رضا الوالدين، وسخطه في سخطهما))، فاحذر من سخط الله يا من تفرط في وصايا الله التي أنزلها في كتابه وبلغها لنا على لسان نبيه، احذر فإن سخط الله من سخط الوالدين، بل إن رسول الله أخبر بخزي وخسار مضيع حق الوالدين، أخرج الإمام مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله قال: ((رغم أنفه، ثم رغم أنفه، ثم رغم أنفه))، قيل: من يا رسول الله؟ قال: ((من أدرك والديه عند الكبر أحدهما أوكلاهما ثم لم يدخل الجنة))، ومعنى ((رغم أنفه)) كُره وخُزي وذلّ، نعوذ بالله من ذلك. فالوالدان استنادا إلى هذا الحديث فرصة ذهبية للدخول إلى الجنة لمن عرف كيف يستغلها. فيا من أدركت والديك على قيد الحياة أو أدركت أحدهما، إنك في نعمة قد فقدها كثير من الناس الذين لم يدركوا والديهم أحياء أو مات والدوهم وهم صغار، إنك في فرصة فلا تضيعها، واجعل من والديك جسرا يوصلك إلى الجنة، فإن ضيعت هذه الفرصة فرغم أنفك وخاب سعيك.
ومن عقوبات العاق المُصِّر على عقوقه عدم دخوله الجنة، يقول : ((لا يدخل الجنة عاقّ ولا مدمن خمر ولا مكذّب بقدر)) أخرجه أحمد عن أبي الدرداء. فالعاقّ وفقا لهذا الحديث ممنوع من دخول الجنة؛ لأن المضيّع لحقّ الوالدين هو لما سواه من الحقوق أضيع، نسأل الله السلامة والسداد.
وعاق الوالدين كتبت عليه الشقاوة، فلا سعادة في حياته وإن ظنه الناس سعيدا؛ لأن السعادة ليست ما تراه العين من مال وغنى، بل السعادة شيء في القلب لا يتحصل عليه العاق، بل يكون شقيا شقاوة لا شقاوة بعدها، ورد في تفسير ابن كثير في سورة مريم قال أحد السلف: "لا تجد أحدا عاقا لوالديه إلا وجدته جبارا شقيا"، ثم قرأ: وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا [مريم:32]. نعوذ بالله من الشقاوة، ونسأله أن يوفقنا إلى بر والدينا، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
اللهم إنا نسألك رضاك والجنة، ونعوذ بك اللهم من سخطك والنار...
ــــــــــــــــــــ(67/231)
...
سلامة الصدر
...
...
3603
...
الأسرة والمجتمع, الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
...
...
أعمال القلوب, خصال الإيمان, قضايا الأسرة, قضايا المجتمع
...
خالد بن عبد الله المصلح
...
...
عنيزة
...
...
...
جامع العليا
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- سلامة الصدر من لوازم التقوى. 2- صور مشرقة لسلامة الصدور عند السلف الصالح. 3- فضائل سلامة الصدر. 4- علامات سلامة الصدر. 5- أسباب سلامة الصدر.
الخطبة الأولى
أما بعد: ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران:102].
واعلموا ـ أيها المؤمنون ـ أن من لوازم التقوى سلامة الصدر من الغل والحقد والحسد والضغائن والرذائل، قال تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ [الأنفال:1]. ولا يكون صلاح ذات البين إلا بسلامة الصدر من تلك الآفات.
لذا فإن دين الإسلام قد حرص حرصًا شديدًا على أن تكون الأمة أمةً واحدة؛ في قلبها وقالبها، تسودها عواطف الحب المشترك، والود الشائع، والتعاون على البر والتقوى، والتناصح البناء الذي يثمر إصلاح الأخطاء، مع صفاء القلوب وتآلفها، دون فرقة وغل وحسد ووقيعة وكيد وبغي.
وقد جاءت الآيات القرآنية والآثار النبوية منسجمة متناسقة متضافرة لتحقيق ذلك المقصد الشرعي الكبير.
فمن تلك الآيات قول الله تعالى في الطائفتين المقتتلتين من المؤمنين: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الحجرات:10]. فالأخوة الإيمانية تعلو على كل خلاف مهما اشتدت وطأته واضطرمت شدته وبلغ حد الاشتباك المسلح.
أما الأحاديث فمنها قوله : ((لا تباغضوا، ولا تحاسدوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانًا)) رواه الشيخان[1]، ومنها قوله : ((المؤمن للمؤمن كالبنيان، يشد بعضه بعضًا)) وشبك بين أصابعه. رواه الشيخان[2].
ولقد ضرب الصحابة رضي الله عنهم أروع الأمثلة في سلامة القلوب وطهارة الصدور، فكان لهم من هذه الصفة أوفر الحظ والنصيب، فلقد كانوا رضي الله عنهم صفًا واحدًا، يعطف بعضهم على بعض، ويرحم بعضهم بعضًا، ويحب بعضهم بعضًا، كما وصفهم جل وعلا بذلك حيث فقال: وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ [الحشر:9]، وكما قال جل ذكره في وصفهم: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا [الفتح:29].
ولقد كان لسلامة الصدر عندهم منزلة كبرى، حتى إنهم جعلوها سبب التفاضل بينهم، قال إياس بن معاوية بن قرة عن أصحاب النبي : كان أفضلهم عندهم أسلمهم صدرًا وأقلهم غيبة. وقد قال سفيان بن دينار لأبي بشر أحد السلف الصالحين: أخبرني عن أعمال من كان قبلنا، قال: كانوا يعملون يسيرًا ويؤجرون كثيرًا، قال سفيان: ولم ذاك؟! قال أبو بشر: لسلامة صدورهم.
أيها المؤمنون، إن المرء لا ينقضي عجبه من ذلك الجيل الصالح الكريم، حيث إن قلوبهم بقيت صافية وسليمة طيبة السريرة رغم ما وقع بينهم من فتن كبار، أشهرت فيها السيوف، واشتبكت فيها الصفوف، فلا إله إلا الله ما أطيب المعشر وأكرمه.
ومن تلك المواقف ما حفظه التاريخ عن الشعبي رحمه الله قال: رأى علي بن أبي طالب طلحة بن عبيد الله في وادٍ مُلقى بعد وقعة الجمل التي كانت بين علي وبين عائشة وطلحة والزبير رضي الله عنهم، فنزل فمسح التراب عن وجه طلحة وقال: (عزيز علي ـ يا أبا محمد ـ أن أراك مجندلاً في الأودية تحت نجوم السماء، إلى الله أشكو عُجري وبجري).
أيها المؤمنون، إن سلامة الصدر خصلة من خصال البر عظيمة، غابت رسومها، واندثرت معالمها، وخبت أعلامها، حتى غدت عزيزة المنال، عسيرة الحصول، مع ما فيها من الفضائل والخيرات. وها أنا ذا أذكر بعض فضائلها، عسى أن تكون حافزة لنا على الأخذ بها والحرص عليها، فإنه قبل الرماء تملأ الكنائن.
فمن فضائل سلامة الصدر أنها صفة أهل الجنة، الذين هم خير أهل ومعشر، قال تعالى: يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ إلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء:88، 89].
ومن فضائل سلامة الصدر أن صاحبها خير الناس وأفضلهم، فإن النبي قد سئل: أي الناس أفضل؟ فقال: ((كل مخموم القلب، صدوق اللسان))، قالوا: صدوق اللسان نعرفه، فما مخموم القلب؟ قال : ((هو التقي النقي، لا إثم فيه ولا بغي، ولا غل ولا حسد)) رواه ابن ماجه بسند لا بأس به[3]. فبدأ بالتقوى التي تثمر صفاء القلوب وسلامتها من الآفات والرذائل.
أيها المؤمنون، إن من فضائل سلامة الصدر أنها معينة للقلب على الخير والبر والطاعة والصلاح، فليس أروح للمرء ولا أطرد للهّم ولا أقرّ للعين من سلامة الصدر على عباد الله المسلمين.
ومن فضائل سلامة الصدر أنها تقطع سلاسل العيوب وأسباب الذنوب، فإن من سلم صدره وطهر قلبه عن الإرادات الفاسدة والظنون السيئة عف لسانه عن الغيبة والنميمة وقالة السوء.
ومن فضائل سلامة الصدر أن فيها صدق الاقتداء بالنبي ، فإنه أسلم الناس صدرًا، وأطيبهم قلبًا، وأصفاهم سريرة. وشواهد هذا في سيرته كثيرة، ليس أعظمها أن قومه أدموا وجهه يوم أحد، وشجوا رأسه، وكسروا رباعيته، فكان يمسح الدم ويقول: ((اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون)).
[1] أخرجه البخاري في الأدب (5604), ومسلم في البر والصلة (4646).
[2] أخرجه البخاري في الأدب (5567), ومسلم في البر والصلة (4684).
[3] أخرجه ابن ماجه في الزهد (4206) وسنده لا بأس به.
الخطبة الثانية
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله، وطيبوا قلوبكم، وطهّروها من الآفات كما أمركم الله تعالى حيث قال: وَذَرُوا ظَاهِرَ الإثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الإثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ [الأنعام:120]، فإن سوء الطوية وفساد الصدور ومرض القلب من باطن الإثم الذي أمرتم بتركه.
أيها المؤمنون، اعلموا أنه لا نجاة ولا فلاح للعبد يوم القيامة إلا بأن يقدم على مولاه بقلب طيب سليم، كما قال الله تعالى: يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء:88، 89]، وصاحب القلب السليم هو الذي سلم صدره وعوفي فؤاده من الشرك والغل والحقد والحسد والشح والكبر وحب الدينا والرياسة، فسلم من كل آفة تبعد عن الله تعالى.
أيها المؤمنون، إن لسلامة الصدر أسبابًا وطرقًا لا بد من سلوكها، فمن تلك الأسباب:
الإخلاص لله تعالى، فعن زيد بن ثابت مرفوعًا: ((ثلاث لا يُغِل عليهن صدر مسلم: إخلاص العمل لله عز وجل، ومناصحة أولي الأمر، ولزوم جماعة المسملين)) رواه أحمد بسند صحيح[1]. قال ابن الأثير عند هذا الحديث: "إن هذه الخلال الثلاث تُستصلح بها القلوب، فمن تمسك بها طهر قلبه من الخيانة والدخل والشر".
ومن أسباب سلامة الصدر الإقبال على كتاب الله تعالى الذي أنزله شفاء لما في الصدور، قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ [يونس:57]، فكلما أقبلت ـ يا عبد الله ـ على كتاب الله تلاوة وحفظًا وتدبرًا وفهمًا صلح صدرك وسلم قلبك.
ومن أسباب سلامة الصدر دعاء الله تعالى أن يجعل قلبك سليمًا من الضغائن والأحقاد على إخوانك المؤمنين، قال الله تعالى: وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ [الحشر:10].
أيها المؤمنون، إنّ من طرق إصلاح القلب وسلامة الصدر إفشاء السلام بين المسلمين، ففي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة مرفوعًا: ((لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم))[2].
وقد أجاد من قال:
قد يمكث الناس دهرًا ليس بينهم ودّ فيزرعه التسليم واللطفُ
ومن أسباب سلامة الصدر الابتعاد عن سوء الظن، فإنه بئس سريرة الرجل، قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ [الحجرات:12]. وقد قال النبي : ((إياكم والظن؛ فإن الظن أكذب الحديث، ولا تحسسوا، ولا تجسسوا، ولا تنافسوا، ولا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانًا)) رواه الشيخان[3]. فانظر كيف بدأ بالنهي عن سوء الظن؛ لأنه الذي عنه تصدر سائر الآفات المذكورة في الحديث، فالواجب عليك ـ يا عبدالله ـ أن تطهر قلبك من سوء الظن ما وجدت إلى ذلك سبيلاً.
أيها المؤمنون، هذه بعض أسباب صلاح القلب وسلامة الصدر، فإنه من صدق في طلبها أدركها، فـ:
لو صحّ منك الهوى أرشِدتَ للحيَل
اللهم إنا نسألك صدورًا سليمة، وقلوبًا طاهرة نقية، اللهم طهر قلوبنا من الشرك والشك والنفاق وسائر الآفات.
[1] أخرجه أحمد من حديث زيد بن ثابت (12871) وسنده صحيح.
[2] أخرجه مسلم في الإيمان (81).
[3] أخرجه البخاري في الأدب (5604), ومسلم في البر والصلة (4646).
ــــــــــــــــــــ(67/232)
معصية شرب الخمر
...
...
4181
...
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
...
...
الذبائح والأطعمة, الكبائر والمعاصي, قضايا المجتمع
...
عبد العزيز بن الطاهر بن غيث
...
...
طرابلس
...
18/3/1425
...
...
بلال بن رباح
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- تعريف الخمر وبيان تحريمها وأضرارها ومفاسدها. 2- نماذج من سرعة انقياد الصحابة رضي الله عنهم. 3- عقوبة شارب الخمر الدنيوية والأخروية.
الخطبة الأولى
وبعد: إخوة الإيمان، نواصل حديثنا عن المعاصي، وحديثنا اليوم عن شرب الخمر، فشرب الخمر معصية عظيمة نهى الله سبحانه عنها وحذر منها وحرمها على المسلمين، فالخمر مذهبة لعقل الإنسان، يستوي الإنسان عند شربها بالبهائم، ويفعل ما لا يمكن أن يفعله حال صحوه قبل شربها، لهذا حرمها الله ورفضتها الفطرة السوية، فالإنسان السوي عندما يرى ما تفعله الخمر بشاربها فإنه ينفر منها حتى ولو لم يعلم تحريمها، يروي ابن كثير كما في البداية والنهاية أن عاصم المنقري ـ وهو من سادات العرب في الجاهلية ـ حرم على نفسه الخمر قبل الإسلام، وذلك لأنه سكر يوما فهجم على ذات محرم منه فهربت منه، فلما أصبح قيل له في ذلك فحرم على نفسه الخمر وقال:
رأيت الخمر منقصة وفيها مقابح تفضح الرجل الكريما
فلا والله أشربها حياتي ولا أشفي بها أبدا سقيما
فالخمر إذا منقصة، يدرك هذا كل ذي فطرة سوية، وقد سميت خمرا لأنها تخامر العقل وتحجبه، فهي ساترة للعقل الذي هو ميزة الإنسان، لهذا فإنه يدخل تحت مسمى الخمر كل ما استحدث من مسكرات ومخدرات، أورد القرطبي في أحكام القرآن ما مختصره: "إن للخمر ثلاثة معان: الأول: الستر والتغطية لأنها تخمر العقل وتغطيه، والثاني: أنها سميت خمرا لأنها تركت حتى اختمرت وأدركت كما يقال: اختمر العجين، أما المعنى الثالث: فأنها سميت خمرا من المخامرة أي: المخالطة لأنها تخالط العقل، والمعاني الثلاثة صحيحة. فالخمر تركت حتى اختمرت ثم خالطت العقل ثم خمرته أي: غطته".
وقد جاء الإسلام فحرم هذا الشراب المذهب للعقل؛ لأن الإسلام جاء ليكرم الإنسان وليحفظ المجتمعات من الآثار السيئة لكثير من المعاصي والجرائم، يقول الله سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ [المائدة:90، 91]، قال القرطبي: "قوله: فَاجْتَنِبُوهُ يقتضي الاجتناب المطلق الذي لا ينتفع معه بشيء بوجه من الوجوه، لا بشرب ولا ببيع ولا تخليل ولا مداواة ولا غير ذلك".
هكذا ـ معشر المسلمين ـ سد القرآن منافذ الخمر وحرم استعمالاتها حتى يحسم هذا الأمر، وحتى لا يحوم حول الخمر مسلم، وكذلك فعل رسول الله حيث بين أن أي تعاط أو اكتساب أو استفادة من الخمر محرم، يقول فيما أخرجه الطبراني من حديث ابن عباس: ((أتاني جبريل فقال: يا محمد، إن الله عز وجل لعن الخمر وعاصرها ومعتصرها وشاربها وحاملها والمحمولة إليه وبائعها ومبتاعها وساقيها ومسقيها))، هكذا يحسم إسلامنا السمح الحنيف الأمر حسما جازما، ويرفع العذر عن أي مسلم يقع فريسة في يد هذه الآفة الخطيرة حين يحرم عليه كل الطرق التي تقربه من هذه المادة المحرمة.
وللخمر كثير من الآثار النفسية والجسدية السيئة كالأمراض وغيرها، وآثار اجتماعية أيضا كالتفكك الأسري وحالات الطلاق وضياع الأبناء، هذا غير الآثار السيئة الكبيرة على المستوى العام، ولا نريد أن نحول هذه الخطبة إلى أرقام وإحصائيات، ولكن يكفي أن نذكر أن خسائر العالم جراء الخمر تبلغ حسب منظمة الصحة العالمية 166 بليون دولار سنويا، وأن ثلث أسرَّة المستشفيات في الدول الصناعية يشغلها مرضى الخمر. إذا عرفنا هذا ـ إخوة الإيمان ـ علمنا شيئا من حكمة الباري عز وجل في تحريم تناول هذه المادة الخبيثة، وعلمنا مدى خسارة المجتمعات التي لم تهتد بنور الله عز وجل.
وقد حذرنا ديننا الحنيف أيما تحذير من الخمر، بل لقد سماها رسول الله بأسماء سيئة زيادة في التنفير منها، فسماها: أم الخبائث وهي أم الخبائث حقا، وقال عنها أنها مفتاح كل شر؛ وذلك لأن شاربها يفقد وعيه ورشده فيرتكب أي معصية إذا شربها، فهي تجر إلى السب والشتم، وتجر إلى السرقة، وتجر إلى الزنا والقتل، يقول : ((لا تشربوا الخمر فإنها مفتاح كل شر)) أخرجه ابن ماجة عن أبي الدرداء، ويقول أيضا فيما أخرجه أحمد والترمذي من حديث ابن عمر: ((من شرب الخمر لم تقبل له صلاة أربعين صباحا، فإن تاب تاب الله عليه، فإن عاد لم تقبل له صلاة أربعين صباحا، فإن تاب تاب الله عليه، فإن عاد لم تقبل له صلاة أربعين صباحا، فإن تاب تاب الله عليه، فإن عاد الرابعة لم تقبل له صلاة أربعين صباحا، فإن تاب لم يتب الله عليه وسقاه من نهر الخبال))، هل بعد هذا التحذير تحذير؟! وهل بعد هذا النكير نكير؟! فكيف يسمح مسلم بعد هذا أن يجعل من بطنه مكانا لهذه المادة الخبيثة، ومن فمه ممرا لهذا الشراب المنتن؟!
لقد سمع أصحاب رسول الله نهي الله سبحانه عن الخمر وهي في أيديهم وعلى شفاههم فأقلعوا عنها وتابوا منها، بل وأهرقوها فورا ولم يسعوا حتى إلى التأكد من التحريم أو الاحتفاظ بها لعلهم يستفيدون منها بشيء، عن أنس قال: ما كان لأهل المدينة شراب حيث حرمت الخمر أعجب إليهم من التمر والبسر؛ فإني لأسقي أصحاب رسول الله وهم عند أبي طلحة مر رجل فقال: إن الخمر قد حرمت، ـ فما قالوا: متى؟ أو حتى ننظر ـ قالوا: يا أنس، أهرقها. أخرجه البخاري في الأدب المفرد بإسناد صحيح.
هكذا يكون الامتثال، وهكذا تكون الفطرة السليمة، بل إن من الصحابة من كان ينتظر تحريم الخمر على أحر من الجمر؛ لأنه كان يعلم أثرها على سلوك الإنسان وعلى صلاته وعبادته، ذلكم هو فاروق الأمة عمر بن الخطاب ، يروي النسائي عن عمر أنه كان يدعو الله: اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا، فنزلت الآية التي في البقرة، فدعي عمر فقرئت عليه، فقال عمر: اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا فنزلت الآية التي في النساء: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى [النساء:43]، فكان منادي رسول الله إذا أقام الصلاة نادى: لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى، فدعي عمر فقرئت عليه فقال: اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا فنزلت الآية التي في المائدة، فدعي عمر فقرئت عليه فلما بلغ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُون [المائدة:91] قال عمر : انتهينا انتهينا.
هذه الكلمة العظيمة: انتهينا انتهينا، قالها عمر وقالها صحابة رسول الله حينما سمعوا قوله تعالى: فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُون، قالوها صادقين ممتثلين لأمر الله عز وجل، فمتى ـ يا عباد الله ـ نقول هذه الكلمة صادقين؟! متى نقول: انتهينا عن الكذب، انتهينا عن الفسق، انتهينا عن الزنا، انتهينا عن الربا، انتهينا عن الخمر؟! متى نقول: انتهينا انتهينا امتثالا لأمر الله واتباعا لسلف الأمة الصالحين؟!
وشارب الخمر ـ إخوة الإيمان ـ معرض لغضب الله سبحانه فوق ما يصيبه في هذه الدنيا من هموم وغموم وكوارث، فالعجب كل العجب ممن تحكمت فيه الخمر ففقد صوابه، ولم يصده عنها لا آثارها الدنيوية ولا عقوباتها الأخروية، لقد توعد الله سبحانه شارب الخمر ومدمنها بوعيد شديد، من هذا الوعيد حرمانه من الجنة ومن خمر الجنة الذي قال الله عنه: مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاء غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى [محمد:15]، خمر لذيذ ليس كخمر الدنيا الخبيث، هذا الخمر اللذيذ يجري نهرا في الجنة، وعد الله به المؤمنين الذين يدخلون الجنة، أما من أدمن الخمر في الدنيا ولم يدخل الجنة فهو محروم من هذا، يقول : ((لا يدخل الجنة مدمن خمر)) أخرجه ابن ماجه عن أبي الدرداء، ويقول فيما أخرجه مسلم من حديث ابن عمر: ((كل مسكر خمر، وكل مسكر حرام، ومن شرب الخمر في الدنيا فمات وهو يدمنها لم يتب لم يشربها في الآخرة)).
ومن هذا الوعيد أن شارب الخمر يلقى الله سبحانه وتعالى كعباد الأوثان والعياذ بالله، فكما كان في الدنيا عبدا لهذا الشراب الخبيث عاكفا عليه حشر يوم القيامة كغيره من عباد الأوثان، يقول : ((من مات وهو مدمن خمر لقي الله وهو كعابد وثن)) أخرجه الطبراني عن ابن عباس.
ومن هذا الوعيد ـ والعياذ بالله ـ أن الله يسقي شارب الخمر من طينة الخبال وهي عرق وعصارة أهل النار، عن جابر أن رسول الله قال: ((كل مسكر حرام، وإن على الله لعهدا لمن شرب المسكر أن يسقيه من طينة الخبال عرق أهل النار)) أخرجه مسلم عن جابر، إلى غير ذلك من وعيد توعد الله به من أدمن الخمر أو شربها ولم يتب منها.
فاتقوا الله عباد الله، واحذروا وساوس الشيطان وخطواته، يقول تعالى: الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاء وَاللّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة: 268].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، وأجارنا من خزيه وعذابه الأليم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
إخوة الإيمان، لقد حرم الله الخمر على عباده لأنه سبحانه أعلم بما يصلحهم، أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك:14].
ومع أننا مطالبون بالامتثال لأمر الله حتى ولو لم نعرف الحكمة من ذلك، إلا أننا عرفنا بوجه جلي الكثير من آثار الخمر السيئة على الإنسان، فيكفي أنها تتوجه بالأذى إلى مناط التكليف في الإنسان ومناط تكريمه ألا وهو عقله الذي فضله الله به على باقي الخلائق، يقول سبحانه: وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً [الإسراء:70]، كرم الله الإنسان بجوهرة العقل، فجاءت الخمر لتعطل عمل هذه الجوهرة وتحرم الإنسان من هذا التكريم الإلهي.
ولعل نظرة عابرة إلى ما أثبته المتخصصون المعاصرون من مساوئ للخمر ترينا شيئا من حكمة الباري عز وجل في تحريمها على عباده، فقد أثبتوا أن الخمر تؤثر في أعلى مكان في مخ الإنسان، وتضر بالكثير من خلاياه، فيكون من آثار ذلك تحلل الشخصية وضعف الإرادة وشرود الذهن إلى غير ذلك من آثار، كما أنها تسبب في الكثير من الأمراض، وتضر بالكثير من أجهزة الإنسان إضافة إلى المخ كالقلب والأوعية الدموية والكبد والكليتين والحلق وغيرها، ولكن الإنسان إذا ابتعد عن هدى الله سبحانه واتبع خطوات الشيطان ارتكست فطرته وأقدم على ما يضره، وها نحن نرى مآسي الخمر من حوادث سير وجرائم قتل وغير ذلك مما يصيب الناس إذا هم عصوا أوامر الله ورسوله ، ولا زال الكثير من شبابنا يحتسي هذا الشراب الخبيث فيدفعه إلى ارتكاب عظائم الأمور، حتى إذا ذهبت سكرته وعادت فكرته وجد نفسه في حال لا تسر صديقا ولا عدوا.
هذا هو أثر الخمر على عقل الإنسان وتفكيره، وهذا هو صنيعها بالإنسان، تنحط به إلى درك يأنف كل عاقل أن ينحدر إليه، وكيف لا يكون هذا أثرها وهي تطرد الإيمان من قلب المؤمن؟! يقول فيما أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة: ((ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن))، ويقول أمير المؤمنين عثمان بن عفان : (اجتنبوا الخمر؛ فإنها لا تجتمع هي والإيمان أبدا إلا أوشك أحدهما أن يخرج صاحبه).
فلنحذر ـ إخوة الإيمان ـ على أنفسنا وعلى أبنائنا وإخواننا من هذه الآفة الخطيرة التي إذا هجمت فتكت، فكم هدمت من بيوت، وكم خربت من ديار، وكم شردت من أناس.
أسأل الله أن يقيني وإياكم شر كل معصية وفتنة، وأن يجنبنا مواطن الزيغ والزلل، اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه...
ــــــــــــــــــــ(67/233)
معصية الزنا
...
...
4184
...
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
...
...
الكبائر والمعاصي, قضايا المجتمع
...
عبد العزيز بن الطاهر بن غيث
...
...
طرابلس
...
9/4/1425
...
...
بلال بن رباح
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- بيان خطر الزنا وأسبابه وعقوبته. 2- الزنا وآثاره السيئة على الأفراد والمجتمعات. 3- حد الزاني والزانية. 4- الوقاية من الزنا.
الخطبة الأولى
أما بعد: فيقول الله سبحانه في كتابه العزيز: وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً [الإسراء:32].
هذه آية من آيات الكتاب العزيز تحذر وتنهى عن قربان معصية الزنا، ويخبر فيها سبحانه أن الزنا فاحشة عظيمة لا يرضاها الله لعباده، وأن سبيل الزنا سبيل سيئ، فمن اختار هذا السبيل فقد اختار الشقاء والذل والعذاب، والله سبحانه لم يخلق العباد عبثا ولم يتركهم سدى، بل خلقهم لغاية سامية هي عبادته وطاعته، ووضح لهم ما به يفلحون وما به يخسرون، وأمرهم بالعدل والإحسان ونهاهم عن الفحشاء والمنكر: إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النحل:90]، ومن الفحشاء والمنكر الذي نهى عنه وحذر منه سبحانه الزنا، هذا الداء الذي إذا استشرى في مجتمع نزعت منه البركة وحلت به النقم، يقول : ((لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا)) أخرجه ابن ماجه عن ابن عمر.
وللزنا ـ عباد الله ـ أسباب توقع فيه، من أهم هذه الأسباب وأعظمها ضعف الإيمان، فكلما قوي إيمان العبد زادت مخافته من ربه وزجر نفسه وجاهدها ونهاها عن الوقوع في هذا الذنب، وكلما ضعف إيمانه قل خوفه واستسهل الذنوب وقارفها، كما أن الالتزام بالتكاليف الشرعية ـ كالصلاة مثلا ـ يبعد الإنسان عن مثل هذه المزالق ويجعله مرتبطا بالله سبحانه، يقول تعالى: اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ [العنكبوت:45]، فضعف الإيمان والبعد عن هذه الشعائر والمواعيد الإيمانية من أهم الأسباب التي تسهل الوقوع في الفواحش.
ومن الأسباب التي توقع في الزنا وتزينه إطلاق البصر وراء المناظر المحرمة والصور الفتانة، وهي في عصرنا هذا تحيط بالمرء من كل جانب؛ في الشارع والعمل وعبر المجلة وعلى الفضائيات التي دخلت كل بيت وأصبحت مهوى أفئدة المسلمين في كل مكان، والإنسان يطلق بصره وراء هذه المناظر الفتانة، وما تبثه هذه الوسائل من دعوة إلى الفجور والرذيلة، وما تراه العين ينتقش على القلب، ويظل يلح على الإنسان حتى يوقعه فيما يغضب الله عز وجل، يقول الشاعر:
كل الحوادث مبداها من النظر ومعظم النار من مستصغر الشرر
كم نظرة فتكت في قلب صاحبها فتك السهام بلا قوس ولا وتر
والمرء ما دام ذا عين يقلبها في أعين الغيد موقوف على الخطر
يسر مقلته ما ضر مهجته لا مرحبا بسرور عاد بالضرر
ومن الأسباب التي قد تسبب في الزنا وتجرئ عليه الخلوة بالأجنبية التي يحل منه الزواج، وهذا الأمر قد يهمله المسلم لثقته الخاطئة بنفسه أو لأمور اجتماعية أو غيرها، ولكن رسول الله حذر من هذا الأمر أيما تحذير، فهو القائل فيما أخرجه أحمد من حديث جابر : ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يخلون بامرأة ليس معها ذو محرم منها؛ فإن ثالثهما الشيطان))، وهو القائل : ((إياكم والدخول على النساء))، فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله، أفرأيت الحمو؟! قال: ((الحمو الموت)) أخرجه الترمذي عن عقبة بن عامر. والحمو: هو قريب الزوج.
هذه بعض الأسباب التي توقع في الزنا، أما ما ينتظر الزناة في الدنيا والآخرة فإنه أمر عظيم يناسب هذا الجرم العظيم، فكل قوم يظهر فيهم هذا الداء فقد استحقوا عذاب الله، يقول فيما أخرجه الطبراني من حديث ابن عباس : ((إذا ظهر الزنا والربا في قرية فقد أحلوا بأنفسهم عذاب الله))، كما أن للزناة عذابا خاصا ذكره في رؤيا رآها، حيث يقول كما عند البخاري من حديث سمرة بن جندب: ((فانطلقنا فأتينا على مثل التنور، أعلاه ضيق وأسفله واسع، فيه لغط وأصوات، قال: فاطلعنا فيه، فإذا فيه رجال ونساء عراة، فإذا هم يأتيهم لهب من أسفل منهم، فإذا أتاهم ذلك ضوضوا ـ أي: صرخوا ـ فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الزناة والزواني))، كما يبين في حديث آخر عن رؤيا أخرى رآها أن أصحاب هذه المعصية الخبيثة الكريهة هم أخبث وأكره الناس رائحة يوم القيامة، يقول كما في حديث أبي أمامة: ((ثم انطلقا بي فإذا بقوم أشد شيء انتفاخا وأنتنه ريحا كأن ريحهم المراحيض، قلت: من هؤلاء؟ قال: هؤلاء الزانون والزواني)).
وهذه المعصية ـ أيها المسلمون ـ لها آثارها السيئة على الأفراد والمجتمعات، فبها يضيع الشباب ذكورا وإناثا ويعيشون حياة التشرد والضياع، وبها تختلط الأنساب وتنتهك الحرمات ويُعتدى على الأعراض، وبها تفشو وتنتشر الأمراض والأوبئة الفتاكة التي لا تنحصر في مرتكبي هذه الفاحشة، بل تنتقل إلى كل من يتعامل معهم من أهل وأزواج وأبناء، فإذا لم ينزجر الزناة بما وعدهم الله به من عقوبات أخروية لضعف إيمانهم أفلا ينزجرون بهذه الآثار السيئة التي يجلبونها على أنفسهم وذويهم وهم يرونها رأي العين؟!
من أجل كل ما سبق من آثار سيئة فقد حكم شرعنا المطهر بجلد الزانية والزاني إن كانا غير محصنين، وأمر برجمهما حتى الموت إن كانا محصنين، يقول سبحانه: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ [النور:2].
وحد الزنا ـ إخوة الإيمان ـ من أشد الحدود والعقوبات المقررة في شريعتنا نظرا لفداحة هذا الجرم، فالرجم الثابت بصحيح السنة لا تدانيه عقوبة في شريعتنا الإسلامية، أما عقوبة الجلد الواردة في الآيات السابقة ففيها الأمر بالجلد والوصية بعدم الرحمة، والأمر بأن تكون العقوبة على الملأ، زيادة في الفضيحة لمن تجرأ على هتك هذه الحرمة وتحذيرا لمن يشاهد إقامة الحد من الوقوع في هذه الفاحشة.
إخوة الإيمان، وإذا كان الزنا بهذا القبح وهذه النكارة فإنه يكون أقبح وأنكر ويكون عذابه أشد وغضب الله عليه أعظم حين يأتي ممن لا يتوقع منه، يقول فيما أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة : ((ثلاثة لا يكلمهم الله ولا يزكيهم ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولهم عذاب أليم: شيخ زان، وملك كذاب، وعائل مستكبر))، فالزنا مستبعد من الشيخ، وليس هناك من الدواعي الطبيعية ما يدفعه إليه، لهذا كان النكير على الشيخ إذا زنى أعظم من النكير على غيره وعذابه أشد.
ولقد بين لنا شرعنا المطهر أمورا تقينا من شر الزنا، وتكون مساعدا لنا في البعد عن هذه المعصية، من أهم هذه الأمور استحضار هيبة الله وخشيته وتذكر وعيده وعذابه لمن خالف أمره وارتكب ما نهاه عنه، فإذا ملأت مخافته سبحانه قلب العبد كان مبتعدا عن نواهيه أشد البعد، يقول سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ [الأعراف:201، 202].
ومن هذه الأمور الواقية والتي تحسم الأمر وتبعد الإنسان عن الكثير من غمّ النفس وقسوة القلب غض البصر، يقول سبحانه: قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنّ [النور:30، 31]، ويدخل في هذا الغض في عصرنا البعد عن المثيرات البصرية الموجودة على الفضائيات وما يعرف بشبكة الإنترنت، وما فيهما من أمور تحرك أحاسيس الناس وتثير شهواتهم.
ومن الأمور الواقية من شر هذه المعصية الزواج، فالزواج حصن حصين يتحصن به المسلم فيكون معينا له على الابتعاد عن هذه الفاحشة، يقول : ((يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم؛ فإنه له وجاء)) أخرجه الشيخان عن ابن مسعود.
ومن الأمور الواقية أيضا الصوم كما هو مذكور في الحديث السابق؛ لأنه نصح من لا يستطيع الزواج بالصوم كمساعد في التوقي من هذا المحذور، وهذا ما بينه الله سبحانه في كتابه حيث ذكر أن من حكمة الصوم تحقيق التقوى، يقول سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة: 183]، إلى غير ذلك من أمور تقي وتبعد المسلم عن هذا الشر المحيط وهذا الخطر الماحق.
فاتقوا الله عباد الله، وأنصتوا إلى قول ربكم وهو يثني على عباده الذين يبتعدون عن مثل هذه المعاصي، ويتوعد من يرتكبها بعذاب مضاعف، يقول سبحانه: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا إِلا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا [الفرقان:68-70].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله إنه هو الغفور الرحيم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أيها المسلمون، لقد حثنا ديننا الحنيف على عدم التعدي في طلب حاجاتنا وشهواتنا، ولم يكلفنا الله ما لم نستطع، فلم يحرمنا شهواتنا، ولكنه اشترط علينا أن نحصلها مما أحل لنا، حتى لا نكون عادين معتدين، يقول سبحانه: وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ [المؤمنون:5-7]، فالله سبحانه يبين في هذه الآيات أن تحصيل شهوة الفرج من غير ما أحل الله من زوجة أو ملك يمين هو عدوان ليس من عمل المؤمنين، كما رغب رسول الله في هذا ووعد عليه بالجزاء الحسن، فهو القائل فيما أخرجه البخاري من حديث سهل بن معاذ: ((من يضمن لي ما بين رجليه وما بين لحييه أضمن له الجنة))، فهذا وعد بالجنة لمن صبر على ما حرم الله، واختار مرضاة الله على عذابه، وحفظ فرجه ولسانه من الحرام، بل إن ديننا الحنيف لا يكتفي بتحذيرنا من قضاء شهوتنا بالحرام وتوجيهنا إلى ما أحل الله سبحانه من أزواجنا، لكنه يزيد على ذلك فيجعل الإنسان مأجورا وهو يقضي شهوته من الحلال، فهل هناك أسمح وأحفظ لكيان الأفراد والأمم من هذا الدين؟! يقول : ((وفي بضع أحدكم صدقة))، قالوا: يا رسول الله، أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟! قال: ((أرأيتم لو وضعها في الحرام أليس كان يكون عليه وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال يكون له أجر)) أخرجه مسلم عن أبي ذر.
فالعجب كل العجب من عبد يهرب من مرضاة الله إلى عذابه، ومن راحة الآخرة إلى شقاء الدنيا والآخرة، بل يرفض أن يقضي شهوته من مكان طاهر أحله الله له لا يأتيه غيره، تكتب له الحسنات كلما أتاه، إلى مكان حرمه الله عليه، وقد يكون مكانا قذرا قد ولغ فيه الفساق والفجار والمرضى، أي عقل يدل على هذا؟! وأي فطرة ترضاه؟! والأعجب من ذلك أن يدفع مقابل هذا النجس وهذه القذارة الأموال الطائلة. فلنحذر ـ إخوة الإيمان ـ هذه المعصية ومقدماتها، حتى لا ينزل بنا عذاب الله وعقابه.
اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك، اللهم أغننا بحلالك عن حرامك وبفضلك عمن سواك، اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة..
ــــــــــــــــــــ(67/234)
منهج النبي في التربية والتعليم
...
...
3617
...
الأسرة والمجتمع, العلم والدعوة والجهاد, سيرة وتاريخ
...
...
التربية والتزكية, السيرة النبوية, قضايا المجتمع
...
خالد بن عبد الله المصلح
...
...
عنيزة
...
...
...
جامع العليا
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- حال العرب قبل الإسلام. 2- نعمة إرسال الرسول . 3- تربية النبي لأصحابه الكرام رضي الله عنهم. 4- دعوة لدراسة منهج النبي في التربية والتعليم. 5- معالم من سمات منهجه في التربية والتعليم. 6- التربية والتعليم مسؤولية الجميع.
الخطبة الأولى
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن من أهم ركائز بناء الأمم والمجتمعات التربيةَ والتعليمَ، إذ بهما تصاغ الأمم والأجيالُ، وعليهما تقام الحضارات وتبنى المجتمعات، وتقوّم الأخلاق وتُزكى النفوس، وتوضح الأهداف وتجنى الغايات، وقد كانت الأمةُ قبلَ مبعث النبي تعيش في دياجير الجهالة والظلمات، وتسودها الخرافةُ والشقاواتُ، ليس لها غاية ولا هدف.
أمةٌ ضائعةٌ غائبةٌ في جاهلية جهلاء، تطحنها العصبيات، وتمزقها النعرات والحميات، وتعشعش فيها الخزعبلات والوثنيات، وتسحقها الطبقيات والعنصريات، ليس لها في واقع الأمم تأثير ولا أثر، ممقوتة من الله خالق البشر، ففي صحيح مسلم عن النبي : ((إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب))[1].
فبعث الله برحمته وفضله النعمة المسداة محمدًا ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، قال تعالى: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ [آل عمران:164].
فجاء مزكيًا مربيًا ومعلمًا مصلحًا، فجاهد لتحقيق هذه الغاية أعظم الجهاد، وبذل النفس والنفيس حتى تحقق له ما يريد، فربى أصحابه رضي الله عنهم أكمل التربية، وعلّمهم أحسن التعليم، فكانوا جيلاً فريدًا لا نظير له ولا مثيل، قال الله تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ [آل عمران:110].
وغدوا سادة الأمم وأئمةَ العالم وصنّاعَ القرار فيه، فدانت لهم الممالك الكبار وأذعنت، في فترة وجيزة من التاريخ، فانهدّ ملك كسرى، وانثلم ملك قيصر، ودخل الناس في دين الله أفواجًا. فسبحان الله العظيم، والحمد لله رب العالمين.
أيها المؤمنون، إن هذا التحول الكبير والنجاح العظيم الذي حققه في صناعة الأمم والأجيال حتى ارتفعت الأمة من السفوح إلى قمم الجبال كان نتيجة منهج تربوي تعليمي دعوي رصين، له معالمهُ وسماتهُ، وهو بلسم ودواء أصيل لما نزل بالأمة من انحدار وانكسار وذلةٍ وهوانٍ.
فعلى الدعاةِ وأهل التربية والتعليم أن يتأملوا منهج النبي وطريقته في تربيته وتعليمه ودعوته، ويدرسوا هذا المنهجَ دراسة متأنية متفحصة لتحديد معالمِه، واستنباط سماتهِ وخصائصه؛ فلن يصلحَ آخرُ هذه الأمة إلا بما صلح به أولها.
وإليكم ـ أيها الإخوةُ ـ هذه المعالم والسماتِ:
فمن سمات هذا المنهج الرباني تعبيدُ الناس لله تعالى، وتحريرُهم من كل ما يخدش عبوديتهم لله سبحانه، وهذه سمةٌ مشتركة بين الرسل جميعًا، قال الله تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل:36]، فلُبّ دعوة الرسل جميعًا تعبيدُ الخلق لله تعالى، وهذه السمة تحقق الغاية من الخلق وتلبي نداء الفطرة، قال الله تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ [الذريات:56]، وقال : ((كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه)) متفق عليه[2].
الفطرة هي توحيد الله تعالى بالعبادة، وغياب هذه السمة من المناهج التعليمية والتربوية يؤدي إلى اختلالِ الموازين واضطرابِ المفاهيم وتحطيمِ الطاقات البشرية ومصادمةِ الفطر الإنسانية وذهابِ الفضائل والمثل والقيم.
ومن سمات هذا المنهج النبوي تربيةُ الناس على تصحيح وتصفية المقاصد، خاصة إذا كان العلم علمًا شرعيًا دينيًا، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((من تعلم علمًا يبتغى به وجه الله لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضًا من الدنيا لم يجد عَرْف الجنة يوم القيامة)) أي: ريحها. أخرجه أحمد وأبو داود وغيرهما بسند جيد[3].
أما العلوم الدنيوية فإن استحضار النية الصالحة والقصد الحسن من سدّ حوائج الأمة أو غير ذلك سببٌ يحصل به الأجرُ من الله تعالى والعونُ والتوفيق؛ إذ النية الصالحة من الإحسان والتقوى، وقد قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ [النحل:128].
ولا يستوي هذا مع من جعل التربية والتعليم سلّمًا يرتقى به إلى المناصب الوظيفية أو المراكز الاجتماعية، أو جعلها طريقًا لبناء الأمجاد الشخصية والمكاسب الذاتية. فلا شك أن هذه النيات الرخيصة تؤثر على العمل التربوي والتعليمي تأثيرًا بالغ السوء، فليس الخليّ كالشجيّ.
ومن سمات المنهج الرباني ربط العلم بالعمل، فالعلمُ شجرة والعملُ ثمرة، وقد كان النبي يعلم أصحابه العلم والعمل، فالعلم بلا عمل حجة على صاحبه.
إذا لم يزد علمُ الفتى قلبَه هدًى وسيرتَه عدلاً وأخلاقه حسنا
فبشره أن الله أولاه نعمة يساء بها مثل الذي عبد الوَثْنا
أيها المؤمنون، إن مما يجذّر انفصام َالعلم عن العمل ويؤصلُه هذا التناقضَ الذي يعيشه كثير من المتعلمين؛ حيث إن ما يتلقونه يخالف ويضاد كثيرًا مما يلمسونه ويرونه، بل ويعايشونه ويمارسونه في الحياة الاجتماعية، ومن أمثله ذلك أن دور العلم وصروحَه تُعلم بأن الكذبَ رذيلةٌ وإثمٌ، ثم إننا نسمع من بعض وسائل الإعلام أن الكذبَ ألوان وأشكال يختلف حكمه باختلاف لونِه وشكلهِ، ونتعلم أيضًا أن لا سبيل للاتصال بين الذكور والإناث إلا من خلال النكاح الشرعي، ثم نسمع ونشاهد هنا وهناك أن من العلاقة بين الجنسين ما يسمى صداقةً أو زمالةً، ومنها ما يسمى حبًا بريئًا شريفًا نزيهًا، وغيرَ ذلك من المسميات التي تذكرنا بقوله : ((يشرب أناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها)) رواه النسائي وابن ماجه وغيرهما بإسناد لا بأس به[4].
ولا غرو أن هذا التناقض بين وسائل التوجيه في المجتمع له آثارٌ سيئةٌ على الأمم والمجتمعات، ليس أهونُها ترسيخَ الفصل بين العلم والعمل والانشطارِ الفكري وتعميق الاضطراب النفسي؛ إذ إن من المعلوم أن اليدَ العليا في نهاية المطاف لما تفرضه المجتمعات، لا للمثل والنظريات التي تدرس في الكتب والمقررات.
ومن سمات هذا المنهج الرباني مراعاةُ القدرات والمستويات؛ فيعطى كلٌّ ما يناسبه ويلبي حاجاته. ومن هذا نعلم خطأ ما تمارسه بعضُ دور التعليم من المساواةِ التامة بين الذكور والإناث في المناهج والمقررات والمراحل والمستويات، بل ويبلغ الخطأ منتهاه عند خلط الذكور بالإناث في المدارس والكليات، ولا شك أن هذا خطأ كبير ما زالت الأمة تجني ويلاته وتحصد حسراتِه في كثيرٍ من بلاد المسلمين، كيف لا وقد قال العليم الخبير سبحانه وتعالى: وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى [آل عمران:36]. فمن رام تسوية الذكور بالإناث فقد ضاد الله تعالى في خلقه وشرعه، فالواجب الفصلُ بين الجنسين في جميع مراحل التعليم، وإعطاء كلٍ ما يناسبه ويلائمه ويحتاجه من العلوم والمعارف.
[1] أخرجه مسلم في الجنة وصفة نعيمها (2865) من حديث عياض بن حمار رضي الله عنه.
[2] أخرجه البخاري في الجنائز (1385)، ومسلم في القدر (2658) من حد يث أبي هريرة رضي الله عنه.
[3] أخرجه أحمد في المسند (8252)، وأبو داود في العلم (3664)، وابن ماجه في المقدمة (252).
[4] أخرجه النسائي في الأشربة (5658) عن رجل من أصحاب النبي ، وابن ماجه في الفتن (4020) عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه، وانظر: الترغيب ( 3/263).
الخطبة الثانية
أما بعد: فمن سمات المنهج النبوي في التعليم والتربية استمرارية العملية التعليمية وعدم حدّها بمرحلة تنتهي عندها، فالنبي حثّ الأمة على تعاهد القرآن الذي هو أصل العلوم ومنبع المعارف الدينية الشرعية، قال : ((تعاهدوا هذا القرآن؛ فوالذي نفس محمد بيده لهو أشد تفلتًا من الإبل في عقلها)) متفق عليه[1].
وقال أحد العلماء: "لا تزال عالمًا متعلمًا فإذا استغنيت كنت جاهلاً"، فالعلم عندنا من المحبرة إلى المقبرة. لكن لما غاب هذا الفهم عن كثير من متعَلِّمينا رأينا من حملة الشهادات من كان آخرُ عهده بالقراءة والاطلاع والبحث تسلم أوراق تخرجه، ولا مرية أن هذا مما يضعف العلم ويذهبهُ، فالعلم بالعلم يكثر وينمو ويثبت كما قال الأول:
فاليومَ شيء وغدًا مثله من نخب العلم التي تلتقط
يحصل المرءُ بها حكمة وإنما السيل اجتماع النقط
ومن سمات هذا المنهج النبوي إحياءُ العلم بنشره وبذله وتوسيع دائرة المنتفعين به، قال النبي : ((نضر الله امرأً سمع مقالتي فوعاها ثم بلّغها، فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه)) أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي بسند صحيح[2]، وقال أيضًا: ((إن الله وملائكته يصلون على معلمي الناس الخير)) رواه الترمذي بسند حسن[3].
فبذل العلم ونشره باب من أبواب البر التي يتقرب بها إلى الله تعالى، فعلى حملة العلم بشتى فروعه وصنوفه أن ينشروا علومهم ويبثوها بين الناس، وليكن الواحد منا:
كالبحر يهدي للقريب جواهرًا جودًا ويبعث للبعيد سحائبا
ومن سمات المنهج النبوي في التربية والتعليم توظيفُ جميع الطاقات وبث روح المشاركة والعطاء والبناء في أبناء الأمة وتربيتُهم على تحمل الأعباء والقيام بالمسؤوليات.
فلمحة سريعة في سيرة النبي تجلّي هذه السمة المهمة، فمن الذي قتل أبا جهل فرعون هذه الأمة، أليسا ابني عفراء الغلامين الحدَثين؟! ألم يعقد النبي لأسامة بن زيد الراية لقتال الروم ولم يكن قد بلغ العشرين سنة؟! ألم تكن الصحابيات رضي الله عنهن يخرجن مع النبي في غزواته يداوين المرضى ويسقين الجرحى؟! بلى، كل هذا قد كان.
فعلى التربويين والمعلمين وأولياء الأمور أن يوظفوا جميع طاقات الأمة في خدمة الإسلام ونصر قضاياه، حتى الضعفاء والمساكين بهم تنصر الأمة، قال النبي : ((ابغوني ضعفاءكم، فهل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم؟!)) رواه أبو داود بسند جيد[4]، وفي رواية ((بصلاتهم ودعائهم))[5].
أيها المؤمنون، هذه بعض سمات المنهج الرباني النبوي في إصلاح الأمم وبناء الأجيال، وقد آتت هذه المعالم ثمارها، فأخرج الله بها خير أمة أخرجت للناس، فكانت ملءَ سمعِ العالمِ وبصره وفؤاده فترة طويلة من الزمن، فلما انحرفت الأمة عن هذه المعالم وتخلّت عن هذه الخصائص خلّف هذا صدعًا كبيرًا في الأمة، ومزجًا في التربية والتعليم، وسبَّب كثيرًا من النكسات والنكبات، ولا سبيل للخروج من هذه النازلة والتخلص من هذه المعضلة إلا لزومُ المنهج النبوي في الدعوة والتعليم والتربية والتوجيه.
وعلينا جميعًا مسؤولية إصلاح هذه الانحرافات كل حسب طاقته وقدرته؛ فالأب عليه أن يصلح تربية أولاده ويكملَ النقص الذي في الجهات التربوية الأخرى، ودُور التعليم ومؤسساته عليها مراجعةُ مناهجها وطرائقِ التدريس فيها، وعلى المجتمع أن يسخّر كلَ قدراته ووسائلِ التأثير فيه لتحقيق الهدف المنشود من صناعة الأجيال وبناء الرجال، فإن الثروة الحقيقية التي تمتلكها الأمم هي أبناؤها ورجالها، ولا يظن غالط أن التربية والتعليم َمسؤوليةُ جهة معينة فقط، بل كلنا مسؤول، وقد قال النبي : ((كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته))[6].
[1] أخرجه البخاري في فضائل القرآن (5033)، ومسلم في صلاة المسافرين وقصرها (791) من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.
[2] أخرجه أحمد من حديث جبير بن مطعم رضي الله عنه (16312)، وأبو داود في العلم (3660)، والترمذي في العلم (2656) من حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه. وانظر: جامع العلم والحكم (1/197).
[3] أخرجه الترمذي في العلم (2685) من حديث أبي امامة الباهلي رضي الله عنه.
[4] أخرجه أبو داود في الجهاد (2594) من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه.
[5] أخرجه النسائي في الجهاد (3178) من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه.
[6] أخرجه البخاري في الوصايا (2751)، ومسلم في الإمارة (1829) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
ــــــــــــــــــــ(67/235)
وقفات مع الإجازة الصيفية
...
...
3623
...
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب, موضوعات عامة
...
...
اغتنام الأوقات, السياحة والسفر, قضايا المجتمع
...
خالد بن عبد الله المصلح
...
...
عنيزة
...
...
...
جامع العليا
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- مشكلة الفراغ. 2- آثار الفراغ ومفاسده. 3- وقفات مع الإجازة الصيفية: مع الشباب والشابات، مع أولياء الأمور، مع المسافرين إلى بلاد العهر والدعارة، مع الدعاة وطلاب العلم.
الخطبة الأولى
أما بعد: أيها المسلمون، إن مرجع كثير من المشكلات الدينية أو الاجتماعية أو الأخلاقية والسلوكية في فترات الإجازات الصيفية ذلك الفراغ الهائل الذي يخيم على أكثر الناس في هذه الفترة، فما الإجازة عند أكثر الناس إلا كمٌ كبيرٌ من الوقت الفارغ الذي لا يحسن استعماله ولا تصريفه، فهي أوقات سائبة وطاقات معطلة من خير الدنيا أو الآخرة، ولقد صدق رسول الله حين قال: ((نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ))[1].
أيها المؤمنون، إنما كان الفراغ نعمة لأن استغلاله في الطاعة والبر يرفع درجة العبد عند ربه، ويحصل له بذلك سعادة الدنيا ونعيم الآخرة، فإن الدنيا مزرعة الآخرة، وفيها التجارة التي يظهر كسبها وربحها يوم يقوم الناس لرب العالمين، ولذلك وجّه الله تعالى نبيه والأمة بعده إلى استثمار الفراغ بالاجتهاد في الطاعة والنصب والتعب فيما يقرب إلى الله تعالى، فقال جل وعلا: فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ [الشرح:7، 8].
وسرّ هذا التوجيه ـ أيها المؤمنون ـ أن العبد إنما خلق لعبادة الله تعالى وحده لا شريك له في كل وقت وحين، فقال جل وعلا: وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ [آل عمران:41]، وقال سبحانه: فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ [الروم:17-18]، وقال تعالى: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الحجر:99]، فإذا فرغ الإنسان مما لا بد له منه من أشغال الدنيا فليعد إلى غاية وجوده وهي عبادة الله تعالى.
أيها المؤمنون، إن الفراغ نعمة مهدرة مضيعة عند كثير من الناس، بل هو سبب كثير من المفاسد والشرور الدينية والدنيوية، فمن ذلك:
أن الفراغ المهدر سبب لتسلّط الشيطان بالوساوس الفاسدة التي ينشأ عنها كثير من الانحرافات والمعاصي، فنفسك إن لم تشغلها بالحق والخير شغلتك بالباطل والشر.
أيها المؤمنون، إن الفراغ السائب سبب لكثير من الأمراض الجسمية والنفسية، الحسية والمعنوية، فحق على كل مؤمن أن يأخذ بما أمر الله تعالى به وبما أوصى به النبي : ((اغتنم خمسًا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك))[2].
أيها المؤمنون، إن كيفية قضاء الإجازة الصيفية أمر يحتاج إلى أن نقف معه عددًا من الوقفات:
الوقفة الأولى: مع الشباب ذكورًا وإناثًا:
أيها الشباب، أنتم عماد الأمة ورصيدها وذخرها وسر نهضتها وبناة مجدها ومستقبلها، فبصلاحكم واستقامتكم تصلح الأمة وتستقيم، ومن أهم عوامل تحقيق صلاحكم واستقامتكم وعيكم بواجبكم وملؤكم أوقاتكم بالنافع المفيد، وها أنتم ـ أيها الشباب ـ تستقبلون إجازتكم السنوية، فإياكم إياكم والفراغ والبطالة، فإنهما أصل كثير من الانحراف ومصدر أكثر الضلال، كما قال الأول:
إن الشباب والفراغ والجِدة مفسدة للمرء أي مفسدة
فاملؤوا أوقاتكم في هذه الإجازة بالنافع والمفيد في دين أو دنيا، ولا تتركوها نهبًا لشياطين الإنس والجن. وقد يسر الله تعالى لكم في هذه الأزمان قنوات عديدة، تستغلون من خلالها أوقاتكم، وتنمون قدراتكم وعلومكم ومعارفكم، بل وإيمانكم، فمنها حِلق القرآن الكريم المنتشرة في المساجد، فإنها من رياض الجنة وفيها خير عظيم.
ومن هذه القنوات التي تحفظون بها أوقاتكم تلك الدروس العلمية والدورات التي تقام هنا وهناك، وفيها يتعلم الشاب ما يجب عليه معرفته من علوم الشريعة والدين.
ومن هذه القنوات أيضًا المراكز الصيفية التي يشرف عليها أساتذة فضلاء ومربون نجباء، يعملون على إشغال أوقات الشباب بما يفيدهم وينفعهم، ففيها الأنشطة الترويحية والمهنية، وفيها الدورات العلمية والثقافية.
فاحرصوا ـ أيها الشباب ـ على الانضمام إليها، والاستفادة منها، فإن فيها خيرًا كثيرًا، وغالب المشتركين فيها هم أهل الخير والصلاح من الشباب.
شباب كما الإسلام يرضى خلائقًا ودينًا ووعيًا في اسوداد المفارق
أقاموا لواء الدين من بعد صدعه وأعلوا لواء الحقّ فوق الخلائق
فإن أبيت هذا فاحرص على شغل وقتك بتجارة أو زراعة أو صناعة، تملأ وقتك، وتحفظك من شرور الفراغ وأهله، فإن نفسك إن لم تشغلها بالحق شغلتك بالباطل ولا بد.
وإياك ـ يا أخي الحبيب ـ ورفقةَ السوء وقرناءَ الشر الذين يزينون لك المنكر ويدعونك إليه، ففر منهم فرارك من الأسد.
الوقفة الثانية: مع أولياء الأمور من الآباء والأمهات، فأقول لهم:
أيها الأفاضل، إن الله تعالى منّ عليكم بالولد، ذكورًا وإناثًا، وتلك من مننه الكبار.
منن الإله على العباد كثيرة وأجلّهنّ نجابة الأولاد
وحمّلكم الله تعالى مسؤولية تربيتهم وحفظهم وتنشئتهم على العبادة والطاعة، كما قال النبي : ((كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجِّسانه))[3]، فما تقومون به اليوم من حسن التربية والرعاية والحفظ والصيانة لفلذات أكبادكم تجنونه ثوابًا وأجرًا عند الله في الآخرة، وبرًا وإحسانًا في الدنيا، وقد كلفكم الله وأمركم بحفظهم ووقايتهم، قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ [التحريم:6]، وقد قال النبي : ((والرجل راع في أهله، وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها، ومسؤولة عن رعيتها)) رواه الشيخان[4]. فمحافظتك على أولادك ورعايتك لهم والاجتهاد في إصلاحهم وإبعادهم عن الفساد وأهله مقدمة ضرورية لاستقامتهم وصلاحهم.
وينشأ ناشئ الفتيان منّا على ما كان عوّده أبوه
فالأب الذي أدار ظهره لأولاده وبيته، فلم يجلس فيه إلا ساعات قصارًا، في نوم أو أكل، وقد أخذت مشاغله بتلابيب قلبه، وشغلت لبه وقلبه، فلم يلتفت لأولاده، ولا لتربيتهم وإصلاحهم، هل قام بما أوجب الله عليه؟!
والأب الذي ترك الحبل على الغارب لأولاده ذكورًا وإناثًا، يخرجون متى يشاؤون، ومع من يريدون، يسهرون إلى الفجر، وينامون أكثر النهار، ويصاحبون أهل السوء، ويهاتفون أهل الشر، هل قام بحفظهم ورعايتهم؟!
والأب الذي أدخل إلى بيته وسائل الإفساد والدمار، وامتطت صحون الشر وأطباق البلاء صهوة بيته، وانتشرت مجلات الشر وأشرطة الخراب في حجر أولاده، هل قام بتنشئة أولاده على البر والتقوى؟!
إن الجواب على هذه الأسئلة ما ترونه من أحوال أبناء هؤلاء لا ما تسمعون.
فيا أولياء الأمور، اتقوا الله فيمن استرعاكم الله إياهم، مروا أولادكم بالمعروف، ورغبوهم فيه، وانهوهم عن المنكر، ونفروهم منه، احفظوهم عن قرناء السوء وأصحاب الشر، أبعدوهم عن وسائل الإعلام الفاسد، أشغلوا أوقاتهم في هذه الإجازة بما يعود عليهم بالنفع في دينهم ودنياهم، وبادروا بذلك كله في أوائل أعمارهم، فإن الأمر كما قيل:
إن الغصون إذا عدّلتها اعتدلت ولا تلين إذا قوّمتها الخشب
[1] أخرجه البخاري في الرقاق (933)
[2] رواه الحاكم بسند جيد.
[3] أخرجه البخاري في الجنائز (296).
[4] أخرجه البخاري في الجمعة (844), ومسلم في الإمارة (3408).
الخطبة الثانية
أما بعد: فيا أيها المؤمنون، الوقفة الثالثة: مع أولئك الذي قد شدوا حقائبهم، وأعدوا أمتعتهم، وحجزوا مراكبهم للسفر إلى بلاد الكفر والبلاء، ومواطن الفتنة العمياء في الغرب أو الشرق، وما شابهها من البلدان العربية أو الإسلامية، إلى هؤلاء أقول:
اتقوا الله في أنفسكم وأهليكم، فإن السفر إلى تلك البلاد محرم لا يجوز، لما فيه من تعريض النفس والأهل والولد للفتنة التي أعلاها الكفر بالله تعالى، وأدناها موافقة المعاصي والذنوب، أو على أقل الأحوال استساغة المنكر والفجور، فإن تلك البلاد والمصايف قد تعرت قلوب أهلها عن الإيمان، وانسلخت أجسادهم عن زي أهل الحشمة والحياء والإسلام، وانتشرت بين أهلها الخمور، وظهر الزنا والخنا، فعدّ المنكر معروفًا، والمعروف منكرًا، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
ولا شك أن من ذهب إلى تلك الأمصار فقد عرض نفسه للفتن والأخطار، وأنت ـ يا عبد الله ـ مأمور بالنأي عن الفتن صغيرها وكبيرها، فقد أخبر النبي في فتنة الدجال أن خير مال المسلم في آخر الزمان غنم يتبع بها شعف الجبال، يفر بدينه من الفتن[1]، أعاذنا الله وإياكم من الفتن، ما ظهر منها وما بطن.
وليعلم هؤلاء المفتونون بالسفر إلى تلك البلاد أن عليهم وزر كل ذنب يقارفه أولادهم و أهلوهم، قال النبي : ((ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه، لا يَنقص ذلك من آثامهم شيئًا))[2].
الوقفة الأخيرة: هي مع ورثة الأنبياء من الدعاة وطلبة العلم، فأقول لهؤلاء:
أنتم يا من عقد الأمة عليكم آمالها، ورنت إليكم بأبصارها، وهوت إليكم بأفئدتها، إن المسؤولية التي أنيطت بكم وألقيت على كاهلكم في توجيه الناس وتربيتهم ودعوتهم وتبصيرهم أعظم من مسؤولية غيركم، لا سيما في هذا الزمان الذي كثر فيه الباطل والفساد، ونفقت فيه سلع أهل الكفر والإلحاد، ونشط دعاة التغريب والإفساد، وقويت فيه أسباب الزيغ والانحراف، فالأمة مهددة بجحافل هؤلاء المفسدين المتربصين الذين يجرون الناس إلى الفساد جرًا، ويأطرونهم على الكفر والفسوق والعصيان أطرًا.
فواجبكم إزاء هذا الواقع المفزع المرير كبير خطير، لا يسوغ لكم التخلي عنه ولا الرجوع عنه، فسابقوا ـ بارك الله فيكم ـ أعداءكم، واعملوا بمضاء وجدٍّ، فاجتهدوا في الدعوة إلى الله تعالى، اسلكوا كل سبيل، واطرقوا كل باب لنشر الخير بين الناس، سافروا إلى القرى والأمصار، وعلموا الجاهل، وأرشدوا التائه، ودلوا الحائر، مُروا بالمعروف وانهوا عن المنكر، حذروا الناس من الفساد والعصيان، عَرُّوا لهم الباطل، واهتكوا ستره، واكشفوا زيفه، واجهوا الغارة الشعواء التي يشنّها خصوم الإسلام وأعداؤه بالعلم والبيان والدعوة والصبر والإيمان، قاوموا وسائل التدمير والإفساد بوسائل البناء والإرشاد، انشروا الكلمة الطيبة والمحاضرة النافعة والكتاب المفيد، أقيموا الدروس والكلمات في مساجدكم وأحيائكم ومجالسكم واجتماعاتكم، وليبذل كل منكم في مجاله؛ فالمدرس في حلقته، والمربي في مركزه، والإغاثي في مواطن الاحتياج إليه، أخلصوا في ذلك كله لله تعالى، فإن ما كان لله يبقى، وما كان لغيره يذهب أدراج الرياح، لا تحقروا من أعمال البر والدعوة شيئًا، ولو أن تلقى أخاك المسلم بوجه طلق.
واعلموا أنكم إذا أخذتم بذلك كنتم من أحسن الناس قولاً، قال الله تعالى: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ [فصلت:33].
[1] أخرجه البخاري في بدء الخلق (3055).
[2] أخرجه مسلم في العلم (4831).
ــــــــــــــــــــ(67/236)
العفّة والعفاف
...
...
4226
...
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
...
...
الفتن, قضايا المجتمع, مكارم الأخلاق
...
صالح بن محمد آل طالب
...
...
مكة المكرمة
...
23/1/1426
...
...
المسجد الحرام
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- فضل العفّة والعفاف. 2- حقيقة العِفّة. 3- من قصص العَفاف. 4- صيانة الأعراض. 5- مفاسِد الإباحيّة وأضرارها. 6- الحرية الحقيقية. 7- من آداب الإسلام في الستر والعفاف. 8- الرد على مزاعم دعاة التحرر. 9- خطورة الإعلام. 10- سبيل العفة والعفاف.
الخطبة الأولى
أمّا بعد: فاتّقوا الله تعالى أيها المسلمون، واعلموا أنّكم إليه راجعون، وبأعمالكم مجزِيّون، وعليها محاسَبون، وأنّ المصيرَ حقٌّ إلى جنّةٍ أو نار، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70، 71]، إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ [الأحزاب:15، 16].
عباد الله، ما طعِمَ الطّاعِمون كالحلالِ الكفافِ، وما رِداءٌ خيرٌ من رِداء الحياءِ والعفاف. العَفافُ والعِفَّة ـ أيّها المسلمون ـ سِيمَا الأنبياءِ وحِليةُ العلماء وتاجُ العُبَّاد والصّلَحاء. العفافُ سلطان من غيرِ تاجٍ وغِنًى من غير مالٍ وقوّة من غيرِ بَطش وخُلُق كريم وصِفة نبيلة. هو عنوان الأسَرِ الكريمة والنفوسِ الزّكية الشريفةِ ودَليل التربية الصالحة القويّة. هو موجِبٌ لظلِّ عرش الرحمنِ ذِي الجلال كما في حديثِ الذي دَعَته امرأةٌ ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله[1]. والعِفّة والعَفاف سببُ إجابة الدعاءِ وتجاوز الأخطارِ كما ورَد في حديثِ الثلاثة الذين انطبَقت عليهم صخرةُ الغار[2]. الحِرصُ عليه جِبِلّة في البشر وطبعٌ عند أصحابِ العقول وسليمِ الفِطَر.
العِفّة ـ أيّها المؤمنون ـ كفُّ النفس عمّا لا يحِلّ ولا يجمُل وضبطُها عن الشهواتِ المحرَّمة وقصرُها على الحلال مع القناعةِ والرِّضا. إنّه خلُق زَكِيّ، يَنبُت في روضِ الإيمان، ويُسقى بماءِ الحياء والتقوى. إنّه سُمُوّ النفس على الشّهواتِ الدنيئة وترفُّع الهِمّة عما لا يليق، بل يفيض هذا الخلُق بكلِّ الخصال النبيلةِ، فصاحبُه ليس بالهلوعِ ولا الجَزوع ولا المنوع، كما في سورة المعارج: وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ [المعارج:29]، ثم قال: أُوْلَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ [المعارج:35]. إنها جنّةٌ وكرامة؛ لأنّ العفيفَ كريمٌ على الله حيث أكرَمَ نفسَه في الدنيا عن الدّنَايَا، فأكرمه الله في الآخرةِ بأعلى الدرجاتِ وأحسَنِ العطايا، واستحقَّ ميراثَ الجِنان؛ لأنَّ الميراثَ للطاهرين كما في سورة المؤمنون: أُوْلَئِكَ هُمْ الْوَارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [المؤمنون:10، 11] بعد أن حقَّقَ لهم الفلاحَ في أوّلِ السورة. وفي صحيح مسلم لما ذكَر النبيّ أهلَ الجنة قال: ((منهم عفيفٌ متعفِّف))[3].
وحين تُعرَض القصَصُ فإنّ أحسَنَها قصّةُ يوسفَ الكريم ابن يعقوبَ ابن خليلِ الله إبراهيم حين يكون العفافُ سيّدَ الموقِف في ظرفٍ تتهاوَى فيه عزائمُ الرّجال الأشدّاء، فضلاً عن فتًى غريبٍ نائي الأهلِ والديار، حين راودته التي هو في بيتها عن نفسه، وَغَلَّقَتْ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ [يوسف:23]. مَعَاذَ اللَّهِ، إنها كلِمةٌ عظيمة في موقفٍ عصيب لا يقوَى عليه إلا صاحبُ الإيمان فيصبِر عليه السلام رغمَ الوَعدِ والوعيد والسّجنِ والتهديدِ، ويتجاوَزُ المحنةَ، فآتاه الله الملكَ وعلَّمه من تأويل الأحاديث، وأعظم من ذلك أنّه من عبادِ الله المخلَصين.
وفيه من العِبَر أنّ العِفَّةَ عاقبتُها الغناءُ والاستغناء ونورُ القلب والبصيرةُ والضياء والعِلمُ والفراسة والتّوفيق؛ ذلك أنَّ العِفّةَ في حقيقتها مراقبةُ الله تعالى وخوفُه، ومَن راقب الله في خواطِرِه عصَمَه في حركاتِ جوارحه وأسبغ عليه رضاه، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ [البينة:8]، وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ [الرحمن:46]، وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنْ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى [النازعات:40، 41].
أيّها المسلمون، ولاهتِمامِ الإسلام بهذا الجانِبِ العظيم ولامتداحِ الله المؤمناتِ بقوله: فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ [النساء:34] فقد حمى الله تعالى أعراضَ المؤمنات، وصانَ سُمعَتَهن أشدَّ صيانةٍ لكرامتِهن عند الله وحرمةِ جنابِهنّ فقال سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمْ اللَّهُ دِينَهُمْ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُوْلَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ [النور:23-26].
بل إنّ مَن قدح في عِرض العفيفة فقد استوجَبَ الحدَّ وسقوطَ العدالة واستحقَّ صِفةَ الفِسق، وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ [النور:4].
ثمّ تأمّلوا ـ رعاكم الله ـ كيف وصَف العفيفاتِ بالغافلات، وهو وصفٌ في محلِّه لطيفٌ محمود يصوِّر المجتَمَع البريء والبيتَ الطاهر الذي تشِبّ فيه فتياتُه في الأكمامِ بعيداتٍ عن الدنايا والآثام، يصوِّرُهنّ غافلاتٍ عن لوثَاتِ الطِّباع السّافلة غائباتٍ عن المعاني الرّديئة، ثمّ تأمَّل كيف تتعاوَن الأقلام السّاقِطة والأفلام الهابِطة لتمزِّقَ حجابَ الغفلةِ هذا، ويتسابقون ويتنافَسون في هَتكِ الأستار وفتحِ عيونِ الصّغار على ما يستحِي منه الكبار، وصدق الله العظيم: وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيمًا [النساء:27].
أيّها المسلمون، إنَّ الحديث عن صيانةِ الأعراض وتزكيةِ النفوس وتطهيرِ الطِّباع وتنمية دواعِي العِفّة والطهارة ليست شعاراتٍ عاطفيّة أو مجرَّدَ كمالاتٍ خُلُقيّة، إنها أصلُ تماسُك المجتمع وبِنية أساسٍ لبقائه ومقصد عظيمٌ من مقاصِدِ الشرع الحنيف، وانظر كيف جعَل الله تعالى العفافَ والأمن في آيةٍ واحدة مع توحيدِ الله سبحانه، وجعل إزهاقَ الأرواح وانتهاكَ الأعراض قرينَ الشرك، فقال سبحانه: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا [الفرقان:68، 69].
فليس الأمرُ قابلاً للتهاون أو للمسَاومة، والمجتمَع يجِب أن يؤسَّس على الضمائر اليقِظَة والفضائلِ الشريفةِ والصيانةِ والحِراسة المشدَّدة مِن الرأيِ العامّ والقوّة الحاكمة جميعًا. كما أنَّ العجز عن ضَبطِ العَواصف والصّلاتِ الجنسيّة في الحدود التي شرَعَها الله والتذرُّع بهذا العجزِ إلى ترك الشّهوةِ البهيميّة تنساح كيف تشاءُ هو سقوطٌ بالفِطرة والخُلُق وتمرُّد على اللهِ وشرعِه.
إنَّ العالَم المنفَتِح على الجنسِ المتحلِّلَ منَ الفضيلةِ يئِنّ اليومَ تحت وطأةِ الأمراضِ الوبائية ويجأرُ من التشتُّت الاجتماعيّ والتفكُّك الأسريّ والتحلّل الأخلاقيّ، كما تشكو نساؤه وأطفالُه آلافَ الحالات من الاغتصابِ وتجارةِ الرذيلة، والتي نافَسَت تِجارةَ الأسلحة والمخدِّرات، ويسمّونها تجارةَ الرقيقِ الأبيض، فأين الحرّيّة والأمان؟! وأين الطّمأنينةُ والاستقرار في هذه الفوضَى العارِمة في اختلالِ الأخلاق والقيَم؟!
إنَّ الحريّةَ الحقيقيّة التي بناهَا الإسلام هي عندَما يحِسّ أفرادُ المجتمع بالأمنِ في حياتهم وأعراضِهم، فيتحرَّكون بحرّيّةٍ وأمن، وتنتشِر الثِّقة والطمأنينة وحُسنُ الظنّ، ويتفرَّغ الناس لمعاشِهِم وما يصلِح دينَهم ودنياهم، وذلك حين يتربَّى المجتمعُ رجالاً ونساء وينشؤونَ أجيالاً على مظاهِرِ العِفّة والحِشمة والورَع ولزومِ أمر الله تعالى، فلا شكَّ ورِيبةَ ولا خيانةَ ولا خَوف، إنه الأمنُ والطمأنينةُ والحريّة، ولذلك في صدرِ الإسلامِ الأوَّل لم يمنَع ذلك صلاةَ المرأة في المسجِد ومشاركتَها الجيشَ في المعركة وطلَبَها للعِلم ومداواةَ الجَرحى وطلَبَ الرِّزق، ولم يكُن في أحكامِ الشَّرع ما يمنعُها مصلحةً لها أو لغَيرها، بل كلُّه حِفظٌ وصيانة كما قال تعالى: ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ [الأحزاب:59]. وإذا تحرَّكتِ المرأة الطاهرةُ والرجلُ الطاهر في البِيئة الطاهرة وفقَ ما رسمَه الله من أحكامٍ بعيدًا عن الشّبُهات والملوِّثات فلا سبيلَ لجرثومةٍ أن تنفذَ.
أيّها المسلمون، ولأجل هذه المقاصدِ السامية جاءت شريعةُ الإسلام بما يكفَل هذه الحرّيّة وهذا الأمنَ الخلقيّ، بل بايع النبيُّ نُقَباء الأنصارِ ليلةَ العقبة الأولى على التوحيدِ وتركِ الزنا كما في صحيحِ البخاريّ من حديثِ عبادةَ بن الصامت رضي الله عنه[4]، وفي آخرِ الممتحنة أمر الله تعالى رسولَه أن يبايِعَ المؤمناتِ على التوحيدِ والعفاف، وفي الكتابِ العزيز والسنّةِ المطهَّرة آدابٌ شتَّى للنظرِ والاستئذان والتستُّر والتكشُّف والزِّينةِ وسفَر المرأة وخَلوَتها وعودةِ الرجل إلى بيتِه وموقف المرأةِ من أقاربها وأقاربِ زوجها وحقِّ الوالدين وحقوقِ الأولاد وآدابِ الاستماع والظنّ والنهي عن الاطِّلاع على عوراتِ البيوت وتتبُّع العَثَرات، وهي آدابٌ مفصَّلة يجب على المسلمينَ أن يلتَزِموهَا ويربُّوا أهلَهم عليها؛ ذلك أنَّ من أعظم مقاصِدِ الشريعة إقامةَ المجتمَع الطاهِر المحاطِ بالخُلُق الرفيع والمُبَطَّن بالعِفّة والحشمة والوقار.
وحيثَّ إن أعظمَ أبوابِ الشّرّ وأوّلَ مدخلٍ للشيطان هو إطلاقُ البَصَر والاختلاط لذا صارت أحكامُ الحجابِ والقَرار في البيوت والأمر بغَضِّ البصر للرجال والنساء، قال الحقّ سبحانه: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ [النور:30، 31]، بل حتى في الحديثِ العابِر بين الرّجل والمرأة الأجنبيّة عنه: إِنْ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفًا [الأحزاب:32]. إنّه سدٌّ لمنافِذِ الشيطان كما في قولِ الله سبحانه: وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ [الأحزاب:53].
أيّها المسلمون، وحيث جاءَ الإسلام بكلِّ ما يحفَظ ويصون هذا السياجَ فقد حرَّم كلَّ ما يهتِكه ويفسِده، وقد علِم كلُّ مسلمٍ حرمةَ ما يعارِضه ويناقضه مِن دعواتِ السّفورِ والاختلاطِ في الأعمال والجامِعات والمجالِسِ والمؤتمَرات لئلاَّ يُكسَر حاجِز الحياء وتُنبَذ الحِشمة. ولقد علِم الراشِدون أنَّ التقدّمَ والتخلّفَ له أسبابُه وعوامِله، وإنَّ إقحامَ السَّترِ والاحتشام والخلُق والالتزام والعِفّة والفضيلة وجعلَها عواملَ للتخلُّف لهو خِداع مكشوف وتمريرٌ مفضوح لا ينطلي على متبصِّر.
إنَّ الحياةَ الطاهِرة تحتاج إلى عزائِمِ الأخيارِ، وأمّا عيشةُ الرذيلة فطريقُها سهلُ الانحدار، والبيوتُ التي تظِلّها العفّةُ والحِشمة تورِق بالعزِّ والكرامة، أمّا البيوتُ التي يملؤهَا الفحشاء والمنكرُ فلن تنبُتَ إلاّ بالذّلِّ والمهانة، وإذا أمَر الله تعالى بوقايةِ النفس والأهل من النارِ التي وقودُها الناس والحجارة وأخبر النبيُّ أنَّ كلَّ راعٍ مسؤول عن رعيّته[5] فإنَّ المسلِمَ يجب أن تكونَ له وقفةٌ للهِ لتجنيبِ نفسِه ومن يَليه ما جلبته وسائلُ الاتِّصال والبَثِّ مِن ذبحٍ للفضيلة ونشرٍ للرذيلة وإماتةٍ للغيرة، وكيف يستسيغُ مسلمٌ هذا الغثاءَ المدمِّر؟! أين الحياء؟! أين المروءةُ؟! أين الحِفظُ والصِّيانة مِن بيوتٍ هيَّأت لناشِئَتها أجواءَ الفتنة وجلَبت لها محرِّضاتِ المنكَر؛ تجرُّها إلى مستنقَعات الفُحش جرًّا وتَدُعُّها إلى الخطيئةِ دَعًّا؟! ومع أنَّ شهوةَ الجِنس كشهوةِ الطّعام قد تمتلِئ المعِدة فتفتُر وقتًا عن طلَبها إلاّ أنَّ الذين يحِبّون أن تشيعَ الفاحشة في الذين آمنوا لم يَفتروا، بل ملَؤوا الفضاءَ بكلِّ أنواع المثيراتِ والمغرِيات، وتفنَّنوا في إثارةِ الشّهَوات وإيقادِ لهيبِ الغرائزِ في سُعارٍ أذهل الشيطان.
وأمام هذه الأمواجِ المتلاطمةِ منَ الفتن الضاربةِ مهدِّدةً سفينةَ المجتمعاتِ المسلمة تعظُم الأمانةُ والمسؤوليّة على المسلمين للحِفاظ على زكاءِ مجتَمَعهم وطهارةِ حياتهم وبما لا زالُوا متميِّزين به على أهلِ الأرض بحمد الله.
ولا أحدَ ينكِر ما صارَ للإعلامِ من مكانةٍ خطيرة في توجيهِ الأمَمِ والشّعوب والسياسات وصياغةِ مفاهيمِها وتصوُّراتها وسلوكيّاتها. وإذا طغتِ الشهواتُ واختلطَتِ النيات فسدَتِ الأوضاع واضطَرَبت الأحوال وحقَّ العذاب، وتَضيع الأمّة إن تُرِك الحبلُ على الغارِب، يعيش الناسُ بشَهَواتهم ويعبَثون بأخلاقِهم متجاوِزين حدودَ الله بلا وازعٍ ولا ضابطٍ وبلا رادِعِ ولا زاجر، وإنها سُنّةٌ من سنَنِ الله، إذا فشَا الظلم والفسادُ ولم ينهَض مَن يدافِعُه فإنَّ سنّةَ الله تعالى تحِقّ ولا تحابِي أحدًا، فَلَوْلا كَانَ مِنْ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُوْلُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنْ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ [هود:116].
وفي هذا البابِ ينبغي أن يشكَرَ ويذكَرَ بالتّقدير والدّعاء كلُّ جهدٍ مبذولٍ من أهلِ الحِسبة ورجال أمن ومن وراءَهم، وكذا القائِمون على تنقيَةِ المطبوعات والموادّ الإعلاميّة وشبكة المعلوماتِ العالميّة في مدينةِ التِّقانَةِ وغيرها، إنهم حُرّاس الفضيلة وحُماة الدّينِ والمرابطون في وجهِ العاصفة.
ومع هذا فإنَّ التحصين من الداخلِ والتربيةَ الذاتية وزرعَ المراقبةِ لله في السّرِّ والعلَن مسؤولية الجميع، وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ [هود:117].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بسنة سيد المرسلين، أقول قولي هذا، وأستغفر الله تعالى لي ولكم ولسائر المسلمين والمسلمات من كلّ ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] هذا حديث السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، أخرجه البخاري في الحدود (6806)، ومسلم في الزكاة (1031) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[2] حديث الثلاثة الذين أطبقت عليهم الصخرة في الغار فتوسلوا إلى الله بصالح أعمالهم أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء (3465)، ومسلم في الذكر والدعاء (2743) عن ابن عمر رضي الله عنهما.
[3] صحيح مسلم: كتاب الجنة (2865) عن عياض بن حمار رضي الله عنه.
[4] صحيح البخاري: كتاب الإيمان (18).
[5] أخرجه البخاري في العتق (2554، 2558)، ومسلم في الإمارة (1829) عن ابن عمر رضي الله عنهما.
الخطبة الثانية
الحمد لله ربِّ العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، أحمده تعالى وأشكره، وأثني عليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أمّا بعد: أيّها المسلمون، إنَّ الغريزةَ الجنسيّةَ مطبوعةٌ في دمِ الإنسان، والله تعالى هو الذي خلَقَها بأمرِه وعِلمِه وحِكمتِه وابتلائِه لخَلقِه، وجعلها وسيلةَ البقاء البشريّ، وهو سبحانه أعلَمُ بما يُصلِحها، أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك:14].
إنَّ الإسلامَ لم يتجاهَل هذه الغريزةَ، ولم يقتُلها بالرّهبانيّة، ولا أطغاهَا بالإباحيّة، بل جَعَل لها شاطئًا آمنًا تسبَح إلى بحره وتطهُر في مائِه وتحيَا ببقائِه، إنّه الزواج، أنبلُ صِفةٍ عرَفَتها الإنسانيّة لتكوينِ الأسرةِ وتربيةِ الأولاد ونشرِ الألفةِ والرّحمة وسكينةِ النفس في جوٍّ زّكيٍّ طهور، مع ضبطِ المشاعر وترشيدِها نحوَ مكانها الصّحيحِ المنتج بدلاً من ضَياعِها وتيهِها في العَبَث والفساد. والمسلمُ مأمورٌ ببلوغ هذا المدَى حتى يتحصَّنَ بالحلال: وَلْيَسْتَعْفِفْ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [النور:33]، وفي الحديثِ المتَّفق عليه أنّ النبيَّ قال: ((يا معشرَ الشباب، مَن استطاع منكم الباءةَ فليتزوج؛ فإنّه أغضّ للبصر وأحصَن للفرج، ومَن لم يستطِع فعليه بالصّوم؛ فإنّه له وجاء))[1]؛ وذلك أنَّ الصومَ مع تضييقِه لمجاري الشيطان فإنّه ينمِّي روحَ المراقبة والخشيةِ والتقوى، وهي أصولُ وبواعث العِفّة، ومِن دعاءِ عباد الرحمن: رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا [الفرقان:74].
وحتى بعدَ الزواج فينبغِي تنميةُ جانبِ العفّة والصيانة، ومِنه ما يُشرَع للمرأة مِنَ التحبُّب لزوجِها والتودُّد وحُسن التبعُّل وقصرِ عينه لئلاَّ يتطلَّع لغيرها. وكذلك الزوجُ، يكفِي زوجتَه، ويشبِع عاطفتَها بالكَلِمة الطيّبة والعِشرة الحسنة وجبرِ الخواطر وسدِّ مداخل الشيطان وأداءِ أمانة القِوامة في الأهل والأولادِ والقيام بأمرِ الله في كل شؤون الحياة. والمؤمنُ أسيرٌ في الدنيا يسعَى في فكاكِ رقبته، لا يأمن نفسَه حتى يلقَى الله عزّ وجلّ، يعلَم أنّه مأخوذٌ عليه في سمعِه وبصرِه ولسانِه وجوارحِه، ومن يستعفِف يعفّه الله، وفي الحديث: ((احفَظِ اللهَ يحفَظك))[2] أي: في نفسِك ودينِك وأهلِك وذرّيّتك، ومَن كرُم عند الله فلن يخزيَه ولن يسوؤَه. أسأل الله تعالى لي ولكم الهدى والتّقَى والعفافَ والغنى.
ثمّ اعلَموا ـ رحمكم الله ـ أنَّ الله تعالى أمَركم بأمرٍ بَدَأ فيه بنفسه فقال: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللّهمّ صلّ وسلِّم وزِد وبارك على عبدك ورسولك محمّد وعلى آله وأزواجِه وذرّيته وصحابتِه ومن تبِعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
اللّهمّ أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذلَّ الشرك والمشركين، واخذل الطغاةَ والملاحِدة والمفسدين...
[1] أخرجه البخاري في النكاح (5065، 5066)، ومسلم في النكاح (1400) عن ابن مسعود رضي الله عنه.
[2] أخرجه أحمد (1/293)، والترمذي في صفة القيامة (2516) عن ابن عباس رضي الله عنهما، وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وصححه الضياء المقدسي في المختارة (10/25)، وقال ابن رجب في جامع العلوم والحكم (1/460-461): "روي هذا الحديث عن ابن عباس من طرق كثيرة... وأصح الطرق الطريق التي خرجها الترمذي"، وصححه الألباني في صحيح السنن (2043).
ــــــــــــــــــــ(67/237)
من مقاصد الزواج
...
...
4076
...
الأسرة والمجتمع, فقه
...
...
النكاح, قضايا المجتمع
...
عبد الكريم بن صنيتان العمري
...
...
المدينة المنورة
...
...
...
جامع الصانع
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- ترغيب الإسلام في الزواج وحثه عليه. 2- الزواج من هدي المرسلين. 3- من مقاصد الزواج: صيانة المتزوج نفسه، حصول الأنس والمودة، تكثير النسل، حصول الأجر والثواب، توثيق العلاقات بين سائر أفراد المجتمع.
الخطبة الأولى
قال الله عز وجل: وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [النور:32]، وقال عز وجل: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُوا [النساء:3].
هذا أمر من الله تعالى لعباده بالزواج، وتحصين النفس من الوقوع في المحظور، واتباع سنن المرسلين، وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً [الرعد:38].
وسيد الخلق تزوَّج وزوَّج بناته رضي الله عنهن، ولما بلغه خبر الثلاثة الذين جاؤوا يسألون عن عبادته فقال أحدهم: وأنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدًا غضب ، وأنكر ذلك وقال: ((ولكني أتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني)) متفق عليه.
ذلك أنَّ للزواج مقاصد عديدة وأهدافًا نبيلة، منها:
أولاً: صيانة المتزوج نفسه وحفظها من أن تقع فيما حُرِّم عليها، فإن النفس الإنسانية قد أودع الله فيها غريزة لا يمكن إشباعها أو الحد منها إلا عن طريق الزواج واختيار المرأة المناسبة له، فلو بقي الرجل أو المرأة دون لقاء مشروع لحصل الفساد الأخلاقي وانتشرت المحرمات، ولذلك قال : ((إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير)) رواه الترمذي.
ومهما بلغ الإنسان من التقوى والصلاح فإنه لو أرسل نظره إلى امرأة أو أطلق بصره إليها فقد يبدو له من محاسنها المثيرة ما يحرك غريزته، ولذلك خاف على أمته من هذه المفسدة، وأرشدهم إلى طريق بها تزول وتنحسم، ويأمن المرءُ على نفسه من ارتكاب الخطأ والتلبس بالإثم، فعن جابر أن رسول الله رأى امرأة، فأتى امرأته زينب رضي الله عنها فقضى حاجته منها، ثم خرج إلى أصحابه فقال: ((إن المرأة تقبل في صورة شيطان، وتُدبر في صورة شيطان، فإذا أبصر أحدكم امرأة فليأت أهله، فإن ذلك يرد ما في نفسه)) رواه مسلم.
وقد حذَّر العلامة القرطبي رحمه الله كل مسلم من أن يظن برسول الله لمّا فعل ذلك ميل نفسٍ أو غلبة شهوة، حاشاه عن ذلك، وإنما فعل ذلك ليسُنّ سنةً، وتقتدي به أمته، فيحسم كل واحدٍ عن نفسه ما يخشى وقوعه.
وقد حض النبي الشباب بالمبادرة إلى الزواج والمسارعة إليه متى ما وجد الشاب ميلاً غريزيًا في نفسه إلى المرأة ودافعًا إليها، فقال: ((يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاء)) متفق عليه.
ثانيًا: ومن مقاصد النكاح وأهدافه حصول الأنس والمودة والراحة والطمأنينة بين الزوجين، وقد صور ذلك القرآن الكريم، وبينه بألطف عبارة وأدق تصوير وأغزر معنى، فقال جل في علاه: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الروم:21].
فكل واحد من الزوجين يأنس بالآخر، ويطمئن إليه، ويجد معه الألفة والود والحنان، قال تعالى: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ [البقرة:187]. والاستقرار العاطفي والمشاعر القلبية والأحاسيس الفياضة الندية يجدها الرجل والمرأة بالزواج، وتتحقق عندهما ببناءِ وتأسيس الأسرة المسلمة التي تسير على النهج الإلهي والإرشاد النبوي في حياتها.
ثالثًا: في الزواج تكثير للنسل والذرية، والنبي حث أمته على ذلك وقال: ((تزوجوا الودود الولود، فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة)) رواه ابن حبان، فرغَّب في نكاح المرأة التي توفرت فيها صفة الود والحب لزوجها والأنس به وطيب معاملته، التي تلد كثيرًا، فإن المكاثرة مما أكد عليه المصطفى لما ذكره من مباهاته بأمته عند عرض الأمم يوم القيامة.
ثم إن الوالدين ينالهما من الأولاد الذين يحصلون بسبب الزواج خير عظيم وفضل عميم، فبالإضافة إلى أنهم من زينة الحياة الدنيا، ويسعى الوالدان إلى تربيتهما التربية الإسلامية الصحيحة، لينشؤوا على البر والفضيلة والخير والصلاح، ويكونوا قرة أعين لوالديهم كما قال تعالى: وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا [الفرقان:74]، فإنه ليس أحب إلى الإنسان من ولد صالح يسعى في بره وطاعته وخدمته في حياته، ثم إن مات الوالد قبله دعا الولد له بالمغفرة والرحمة والرضوان، وقد قال : ((إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث))، وذكر منها: ((أو ولد صالح يدعو له)) رواه مسلم. فيُثاب الولدُ على دعائه لوالديه، ويلحق دعاؤه الوالدين فينتفعان به.
وإن مات الولد قبل والديه وصبرا واحتسبا نالا من الله تعالى عظيم الأجر والثواب، وفي الحديث أنه قال: ((إذا مات ولد العبد قال الله تعالى لملائكته وهو أعلم: قبضتم ولد عبدي؟ فيقولون: نعم، فيقول: قبضتم ثمرة فؤاده؟ فيقولون: نعم، فيقول: فماذا قال عبدي؟ فيقولون: حمدك واسترجع، فيقول الله تعالى: ابنوا لعبدي بيتًا في الجنة، وسموه بيت الحمد)) رواه الترمذي، وجاءت امرأة إلى رسول الله فقالت: يا رسول الله، هذا ابني فادع له، فلقد دفنت ثلاثة قبله، فقال : ((دفنت ثلاثة؟)) قالت: نعم، قال: ((لقد احتظرت بحظار شديد من النار)) رواه مسلم. أي: امتنعت من النار بمانع وثيق.
رابعًا: أن في الزواج فتحًا لطريق أخرى من طرق تحصيل الأجر والثواب، فإن الرجل قد أوجب عليه الشرع الإنفاق على أهله وأولاده، ورعايتهم وحسن تعليمهم وطيب معاملتهم، وهو بهذه الأعمال ينال الأجر والثواب، ويحتسب ذلك عند الله تعالى، وقد قال : ((دينارٌ أنفقته في سبيل الله، ودينارٌ أنفقته في رقبة، ودينارٌ تصدقت به على مسكين، ودينارٌ أنفقته على أهلك، أعظمها أجرًا الذي أنفقته على أهلك)) رواه مسلم، وفي الصحيحين أنه قال: ((إذا أنفق الرجل على أهله نفقة وهو يحتسبها كانت له صدقة)) متفق عليه.
خامسًا: يحصل بالزواج توثيق العلاقات بين سائر أفراد المجتمع المسلم، فإنه بالزواج تتقارب الأسر، ويدنو بعضها من بعض، وتتعارف وتتصل بعد أن كانت متباعدة، وبذلك تسود المجتمع روابط المودة والمحبة والصلة والقربى، فيصبح متماسكًا قويًا، ويصدق فيه قول المصطفى : ((مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)) رواه مسلم.
تلك أهم أهداف النكاح ومقاصده، وعلى كل مسلم وبالأخص الشباب أن يسارعوا إلى الزواج لإعفاف أنفسهم وحفظها والاقتداء بالمصطفى الكريم .
ــــــــــــــــــــ(67/238)
تعدد الزوجات
...
...
4077
...
الأسرة والمجتمع, فقه
...
...
النكاح, قضايا الأسرة
...
عبد الكريم بن صنيتان العمري
...
...
المدينة المنورة
...
...
...
جامع الصانع
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- تعدّد الزوجات في الشريعة الإسلاميّة مباح بشروطه. 2- مصالح تعدّد الزوجات: تكثير النسل، إشباع من لا تكفيه الواحدة، التفوق العددي للنساء على الرجال، طروء المرض ونحوه على الزوجة، ترابط المجتمع. 3- ضوابط التعدد في الشريعة. 4- التحذير من الميل إلى الزوجة الثانية.
الخطبة الأولى
يقول الله تعالى في كتابه الكريم: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُوا [النساء:3].
أباح جَلَّ في علاه للرجل الزواج باثنتين أو ثلاث أو أربع في وقت واحد، بشرط أن يكون قادرًا على تحقيق العدل، وهو العدل في الأمور المادية المحسوسة كالملبس والمسكن والمبيت والمعاملة ونحو ذلك، فإن كان لا يستطيع ذلك وخاف من الجور والظلم فليقتصر على زوجة واحدة فقط.
لقد أباحت الشريعة الإسلامية للرجل التعدد، لكنها قيدته بأربع نساء فقط؛ لأنه العدد الذي يتمكن به الرجل من تحقيق العدل والقيام بحق الزوجية وسد حاجته إن احتاج إلى أكثر من واحدة، إذ لو تُرك للرجل الزواجُ بما شاء من النساء لأدى ذلك إلى الفوضى والظلم وعدم القدرة على القيام بحقوق الزوجات. روي أن غيلان بن سلمة الثقفي أسلم وتحته عشر نسوة، فقال له النبي : ((اختر منهن أربعًا، وفارق سائرهن)) رواه أحمد والترمذي.
إن إباحة التعدد في الإسلام لتحقيق مصالح وفوائد كثيرة ودفع أضرار قد تلحق بالمسلم، ومن ذلك:
أولاً: أن النبي حث على تزوج المرأة الولود ورغَّب في تكثير النسل، وقال: ((تزوجوا الودود الولود)) رواه أبو داود، وذلك لتكثير أمته والمباهاة بِهم، وقد يتزوج الرجل امرأة ليحقق هذا الهدف ولِيكْثُر أبناؤه وبناته، فيظهر له بعد فترةٍ أنها امرأة عقيم لا تلد، فلا يرغب مفارقتها لحبه لها وإشفاقه عليها، فمن المصلحة أن تبقى عنده، ويتزوج امرأة أخرى تأتيه بالولد والذرية، ولا سبيل إلى ذلك إلا بالتعدد.
ثانيًا: أن كثيرًا من الرجال لا تكفيه الزوجة الواحدة، ولا تشبع غريزته، فيتطلع إلى غيرها، والتعدد هو الذي يحقق رغبته، ويحول بينه وبين الوقوع في المحظور.
إضافة إلى أن المرأة تعتريها بعض الحالات من المرض والحيض والحمل والنفاس، مما يفوِّت على الرجل رغباته في هذه الأوقات.
ثالثًا: أن أعداد الإناث في المجتمعات أكثر من الذكور، نظرًا لكثرة ولادة وإنجاب البنات، وقد تزداد أعدادهن في أعقاب الحروب التي تقضي على كثير من الرجال، وكذلك فإنهم أكثر عرضة للموت من النساء؛ لتعرضهم للحوادث وخروجهم للكسب وطلب المعيشة والتنقل من مكان لآخر، فيكثر عدد الإناث من العوانس والأرامل إضافة إلى المطلقات، فالزواج بأكثر من واحدةٍ ستر لكثير منهن، وأفضل من أن يقضين أعمارهن بلا أزواج، فالتعدد يترتب عليه صون عدد كبير من النساء، والقيام بحاجتهن من النفقة والمسكن وكثرة الأولاد والنسل.
رابعًا: قد تكون الزوجة مريضة أو كبيرة السن، ولو اقتصر الزوج عليها لم يكن له منها إعفاف، ويخاف على نفسه المشقة بترك النكاح، وإن طلقها فرق بينها وبين أولادها، وفكك أسرته، فلا حل لذلك إلا بالتعدد.
خامسًا: أن تعدد الزوجات يربط بين أسر كثيرة في المجتمع المسلم، وسبب لتقارب الكثير منها وصلة بعضهم ببعض، وهذا أحد الأسباب الرئيسة التي حملت النبي أن يتزوج بعدد من النساء.
والإسلام عندما أباح تعدد الزوجات قيده بشروط، ووضع له ضوابط أوجب على الزوج الالتزام بها، وإلا فإنه ممنوع من الزواج بأكثر من واحدة، فمن ذلك أنه حرم الزيادة على أربع زوجات، وأوجب عليه الإنفاق عليهن، بأن يكون ذا قدرة مالية، بحيث يمكن أن يوفر لزوجاته حاجاتهن من الطعام والشراب والمسكن واللباس، وقد قال : ((ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف)) رواه مسلم، وسأله أحد أصحابه عن حق الزوجة على زوجها، فقال : ((أن تطعمها إذا طعمت، وتكسوها إذا اكتسيت، ولا تضرب الوجه، ولا تقبح، ولا تهجر إلا في البيت)) رواه أبو داود وابن حبان.
ومن أهم ما يجب على الزوج العدل بين زوجاته، وهو المساواة بينهن في الأمور المادية وحسن العشرة. أما ما لا يقدر عليه الزوج من الميل القلبي والمحبة فإن هذا ليس باختياره، فهو غير واجب عليه، وهو الذي ورد في قوله تعالى: وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا [النساء:129]، وكان يقسم بين نسائه فيعدل ويقول: ((اللهم هذا قَسْمي فيما أملك، فلا تؤاخذني فيما تملك ولا أملك)) أي: المحبة. رواه أبو داود والترمذي.
وكذلك يعدل بينهن في المبيت، بأن يخصص لكل واحدة منهن ليلةً يبيت فيها معها؛ لأن القصد من المبيت الأنس الذي يحصل به للزوجة.
إن التعدد أمر أباحه الإسلام وشرعه للزوج، والمرأة حين تغضب وتقف في وجه الرجل إذا تزوج عليها فإنها لا تعترض على الحكم الشرعي؛ لأنها ـ ولله الحمد ـ مسلمة، تؤمن بكل ما جاء في كتاب ربّها، لا ترد شيئًا منه، وما يحصل منها إنما هو من باب الغيرة التي جُبلت عليها بفطرتها وعاطفتها.
غير أن هناك حالات لبعض الأزواج الذين لا يلتزمون بكل ما أوجبه الشرع عليهم تجاه زوجاتهم، فتجدهم يقصرون في حق بعض الزوجات، فيميلون ميلاً واضحًا لإحداهن، ويتنكرون للزوجة الأخرى، فلا يوفيها الزوج حقها، ولا يوفر لها احتياجاتها، بل يعاملها معاملة فيها شيء من القسوة والجفاء والإهانة.
إن على الزوج أن يدرك أن الشريعة الإسلامية أباحت التعدد، ووضعت له قيودًا صارمة وضوابط محددة، فليتأملها قبل إقدامه على الزواج بأخرى، فإن عرف من نفسه أنه مؤهل للوفاء والالتزام بها فذاك، وإلا فليبق على زوجته الأولى وليكتف بها.
إن ما يقوم به بعض الأزواج من هضمٍ لحقوق الزوجة الأخرى وهي الأولى في الغالب ويظهر اهتمامًا خاصًا وفريدًا بالزوجة الجديدة هو الجور الذي حذر الله تعالى منه بقوله جل شأنه: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُوا [النساء:3]، فتخصيص الزوجة الثانية بالهدايا والهبات والعطايا والمميزات والرحلة والتنقلات والاهتمام بأولادها ونسيانه للزوجة الأولى هو بعينه الجور والظلم الذي بين رسول الله عقوبته بقوله: ((من كانت له امرأتان فلم يعدل بينهما جاء يوم القيامة وشقه مائل)) رواه الترمذي.
ــــــــــــــــــــ(67/239)
صفات الفتاة المخطوبة
...
...
4078
...
الأسرة والمجتمع, فقه
...
...
المرأة, النكاح, قضايا الأسرة
...
عبد الكريم بن صنيتان العمري
...
...
المدينة المنورة
...
...
...
جامع الصانع
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- عناية الإسلام بالأسرة وتكوينها. 2- من أهم قواعد اختيار الزوجين: الحرص على صاحب الخلق والدين، النظر إلى المخطوبة، أن لا يقدم المظهر على المخبر.
الخطبة الأولى
الأسرة لبِنةٌ من لبنات المجتمع التي يقوم عليها، ولذلك عُني الإسلامُ بها أعظم عناية، واهتم بأسس تكوينها، وأكد على تعميق أسباب ترابطها، وما يؤدي إلى تماسكها وسعادتها وصلاحها.
والزوجان عمادا كل أسرة، ومنهما تنشأ الأسر وتتنامى في المجتمع، لذلك وضع التشريع الإسلامي ضوابط لتأسيس الأسرة المسلمة، تتمثل في حسن اختيار الزوجين اللذين سيبنيانها ويرعيانها.
ومن أهم القواعد التي عُني الإسلامُ بها لاختيار الزوجين ما يأتي:
أولاً: الاجتهاد في خطبة الفتاة المعروفة بالصلاح وحسن الخلق، وذلك يُعرف بنشأتها في أسرة اشتهرت بالمحافظة على تعاليم الإسلام والعناية بآدابه والتحلي بأخلاقه الفاضلة.
فالأولاد في مثل هذه الأسرة المحافظة ينشؤون على حب الخير والقرب من الحق وحسن التعامل والسمت والأدب، وأهم شيء هو تمسكهم بما أوجبه الله تعالى عليهم والتزامهم بأمور دينهم، وذلك ما أكده النبي وركز عليه حين قال: ((فاظفر بذات الدين تربت يداك)) رواه البخاري ومسلم.
فالدين هو أهم مطلب ينبغي أن يُنظر إليه عند خطبة الفتاة، وكذلك في الزوج الخاطب، فإنه ينبغي التحري عن حاله، والسؤال عن معاملته وسيرته، حتى يقوم بما وجب عليه تجاه مخطوبته، وقد روي عنه أنه قال: ((إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوّجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفسادٌ كبير)) رواه الترمذي. وهذا يدل على أن الْمُعرِض عن دين الله تعالى الذي عُرف بالفساد والبعد عن القيام بما أوجبه الله عليه لا يكون كُفئًا للمرأة الصالحة العفيفة.
ثانيًا: يسن للخاطب أن ينظر إلى مخطوبته، فإن ذلك مما دعا إليه الشرع وسنَّهُ المصطفى ، ففي حديث جابر قال: قال رسول الله : ((إذا خطب أحدكم المرأة، فإن استطاع أن ينظر إليها فليفعل)) رواه أحمد. وبيَّن أن النظر إلى المخطوبة سببٌ في دوام الألفة وتمام المودة وحسن العشرة، فقال للمغيرة بن شعبة حين ذكر له امرأة خطبها: ((هل نظرت إليها؟)) فقال المغيرة: لا يا رسول الله، فقال : ((انظر إليها؛ فإنه أحرى أن يؤدم بينكما)) رواه الترمذي، أي: يؤلَّف ويوفَّق بينكما.
ومن أهم الأمور التي ينبغي مراعاتها أن يكون الخاطب قد عقد العزم على خطبتها، وأن يكون جادًّا في ذلك، حتى لا يُتخذ النظر وسيلة إلى الاطلاع على الفتيات من بعض ضعاف النفوس، وأن يكون بوجود محرم عند نظره إليها، وأن يكون نظره مقصورًا على وجهها وكفيها.
وكما أبيح للرجل النظر إلى الفتاة فإن المخطوبة لها أن تنظر إلى خاطبها، وقد علل بعض الفقهاء عدم ورود نص في نظر المرأة إلى الرجل، بكون الرجل يمكن رؤيته في أي مكان، ولا يمكن أن يختفي، فنظرها إليه أيسر وأسهل، ويمكنها رؤيته بلا تكلف.
ثالثًا: أن يحرص الزوج وأولياء الفتاة على وجود صفة حُسْن الْخُلُق في الخاطب أو المخطوبة؛ لأن الْخُلُقَ الْحَسَنَ دليل على سلامة النشأة، وقد قال عنه : ((ما من شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من خُلُق حسن)) رواه الترمذي.
لذلك أكد المصطفى على التحلي بالخلق الحسن والاتصاف به؛ لأنه صفةٌ عظيمة شاملة يندرج تحتها كلُّ خلُق يسمو بالشخص ويرفعه عند الخالق والخلق، كالأمانة والصدق والحياء والرفق والسماحة والحلم، ونحو هذه الصفات المحبوبة.
رابعًا: لا ينبغي أن يصبَّ الخاطب جُلَّ اهتمامه في بحثه عن شريكة حياته على الجمال، فإن الجمال جمال الدين والْخُلق والصلاح والاستقامة، وجمال العقل والفكر، كما قيل:
وأفضلُ قسمِ اللهِ للمرءِ عَقلهُ فليس من الخيرات شيء يقاربه
يعيش الفتى بالعقل في الناس إنه على العقل يَجْري علمُه وتجاربُه
يشين الفتى في الناس قلّةُ عقلهِ وإن كرمت أعراقه ومناسبه
إذا أكمل الرحمنُ للمرء عقلَه فقد كملت أخلاقُه ومآربُه
فقد يكون الجمال سببًا في غرور المرأة وتعاليها على زوجها، خاصة عند إعجاب الزوج بهذه الصفة وتركيزه عليها، وجاء عن رسول الله ما يدل على أن قصد بعض الصفات البراقة المتغيرة وغير الثابتة قد يكون سببًا في حصول أضدادها، فلا يجني الزوج من ذلك إلا الحسرة والندامة.
فروي عنه أنه قال: ((لا تزوجوا النساء لحسنهن، فعسى حسنهن أن يرديهن، ولا تزوجوهن لأموالهن، فعسى أموالهن أن تطغيهن، ولكن تزوجوهن على الدين، ولأمة خرماءُ سوداءُ ذات دين أفضل)) رواه ابن ماجه.
إن الجمال إذا توفر في المخطوبة مع دينها وحسن خُلقها كان ذلك أمرًا محمودًا، لكن لا ينبغي أن يكون أقوى دافع للخاطب عند الخطبة، بل ينظر إلى ما بعد الزواج من رغبته في الأولاد وطلبه لهم، وحسن تربيتهم ورعايتهم، والأم العفيفة الديِّنة المصونة هي التي تحقق آماله ورغباته في حياة سعيدة وتكوين أسرة هانئة مستقرة.
وحين استشار أحد الصحابة رضي الله عنهم رسول الله في خطبة امرأة جميلة عقيم لم يوافقه على الزواج منها، فعن معقل بن يسار أن رجلاً جاء إلى رسول الله فقال: يا رسول الله، إني أصبت امرأة ذات جمال، وإنها لا تلدُ، أفأتزوجها؟ فنهاه، ثم أتاه الثانية فنهاه، ثم أتاه الثالثة فنهاه، وقال: ((تزوجوا الودود الولود؛ فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة)) رواه ابن حبان في صحيحه.
فلما كان نظر الخاطب هنا مرتكزًا على الجمال وحده مع ما ذكره من كونها عقيمًا لم يرض له النبي بتزوجها؛ إذ لو كان الجمال صفة متميزة تنكح من أجلها المرأة لأذن له بذلك.
ومما ينبغي التنبيه عليه هنا ما ذكره العلماء من أن النهي عن نكاح العقيم لا ينبغي أن يؤخذ على أنه نهي تحريم، بل إما للكراهة باقتصار الرجل عليه بقصد كراهة الأولاد، فإن ذلك قد يكون محرمًا؛ لأن التناسل من أهم مقاصد النكاح، وإما أن لا تكون كراهة، بل يستحب له أن يتزوجها إذا قصد إعفافها، وكان عنده غيرها، وكذلك لو كان هو عقيمًا مثلها جاز له التزوج بها، ولو حُمل نهيه عن نكاح العقيم على التحريم مطلقًا لبقيت دون زوج يعفها.
إن الخاطب ينبغي أن يتحرى في خطبته، وأن يبحث وينقب عن الفتاة الديِّنة التي تعينه على أمر دينه ودنياه، ويسعد بها وبتربيتها لأبنائه وحفظها له في نفسها وماله، ولا يُنسى قول المصطفى : ((الدنيا متاع، وخير متاع الدنيا الزوجة الصالحة)) رواه مسلم.
النظر إلى المخطوبة
...
...
4079
...
الأسرة والمجتمع, فقه
...
...
المرأة, النكاح
...
عبد الكريم بن صنيتان العمري
...
...
المدينة المنورة
...
...
...
جامع الصانع
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- البصر من أعظم النعم. 2- أهمية غض البصر وحث الشارع عليه. 3- تحريم النظر إلى الأجنبية. 4- الحالات التي يجوز فيها النظر إلى الأجنبية. 5- الأدلة على استحباب النظر إلى المخطوبة. 6- أحكام وقيود النظر إلى المخطوبة: النظر مشروط بعقد العزم على الزواج، كون النظر قبل الخطبة، وجود محرم للمخطوبة عند النظر، اقتصار النظر على الوجه والكفين، السكوت عما رآه فيها إن لم تعجبه، جواز توكيل من يثق فيها من النساء لتأتيه بأوصاف المخطوبة.
الخطبة الأولى
البصرُ نعمة عظيمة، وهو من جملة النعم التي رَكَّبَ الله تعالى منها جسد ابن آدم، وبه يستطيع المرء أن يتأمل ويتفكَّر في مخلوقات الله، ويصل إلى غايته، ويدير شؤون حياته، ولأهميته البالغة وقيمته السامية جعل الله ثوابه عند فقده الفوز بالجنة إذا صبر من سُلِبَه واحتسب، فعن أنسٍ قال: سمعت النبيَّ يقول: ((إن الله تعالى قال: إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه ـ يريد عينيه ـ ثم صبر عوّضته منهما الجنة)) رواه البخاري.
وقد أمر الله تعالى بحفظ البصر، وحرَّم النَظَر إلى المحرمات، وأوجب استعماله فيما ينفع، وصيانته وعدم إطلاقه بتتبع العورات وملاحقة المعاصي والمنكرات، ووعد من غض بصره بأن يورثه لذةً وراحةً في قلبه، ونورًا وإشراقًا يظهر في سائر جوارحه.
ولما كان النظر من أقرب الوسائل إلى ارتكاب الآثام والوقوعِ في المنكر والحرام شددت الشريعة على أهمية العناية به، ولزوم المحافظة عليه، والتأكيد على توظيفه فيما أبيح، وألقت بالمسؤولية على صاحبه: وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً [الإسراء:36].
ونظر المرأة الأجنبية إلى الرجل الأجنبي ونظره إليها مما حرَّمه الله تعالى على الذكور والإناث، قال تعالى: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُون [النور:30]، وقال جل شأنه: وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوْ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الإِرْبَةِ مِنْ الرِّجَالِ أَوْ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور:31]، وقال : ((يا علي، لا تتبع النظرة النظرة، فإن لك الأولى وليست لك الآخرة)) رواه أحمد والترمذي.
لكن هذا التحريم استُثني منه، فأبيح في بعض الحالات النظر، وذلك بالاطلاع على ما تدعو إليه الحاجة، وتقتضيه الضرورة. وقد وُضِع لذلك شروط وضوابط ذكرها العلماء، ومن المواضع التي يباح فيها النظر نظر الطبيب والقاضي والشاهد ونحو ذلك.
ومما أبيح فيه النظر وورد بجوازه أدلة ونصوص صريحة وصحيحة نظر الخاطب إلى مخطوبته ورؤيته المرأة التي يرغب نكاحها، وقد دل على الجواز ما يأتي:
1- ما رواه أبو هريرة قال: كنت عند النبي فأتاه رجل فأخبره أنه تزوج امرأة من الأنصار، فقال له رسول الله : ((أنظرت إليها؟)) قال: لا، قال: ((فاذهب فانظر إليها، فإن في أعين نساء الأنصار شيئًا)) رواه مسلم.
2- وعن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله : ((إذا خطب أحدكم المرأة فإن استطاع أن ينظر إلى ما يدعوه إلى نكاحها فليفعل)) رواه أحمد.
قال جابر: فخطبت جاريةً من بني سلمة، فكنت أتخبأ لها، حتى رأيت منها ما دعاني إلى نكاحها وتزوجها.
3- وعن المغيرة بن شعبة قال: أتيت النبي فذكرت له امرأة خطبتُها، فقال : ((هل نظرتَ إليها؟))، قلت: لا، قال: ((فانظر إليها، فإنه أحرى أن يؤدم بينكما)) رواه أحمد والترمذي.
4- وعن محمد بن مسلمة أن رسول الله قال: ((إذا ألقى الله في قلب امرئ خِطبة امرأة فلا بأس أن ينظر إليها)) رواه أحمد وابن حبان.
فدلت هذه الأحاديث على استحباب نظر الخاطب إلى الفتاة التي يرغب في تزوجها ومشروعيته، والأمر الوارد في كلامه إنما هو على جهة الندب والإرشاد والمصلحة، والإفادة بأن النظر سبب في دوام الألفة وتمام المودة وحسن العشرة بين الزوجين، فإن رؤيته لها قبل العقد تستريح بها نفسه ويهدأ باله، ويؤدي ذلك إلى استمرار العلاقة الوطيدة بينهما.
ويتعلق بمسألة النظر إلى المخطوبة عدة أحكام مهمة منها:
أولاً: إن جواز النظر للخاطب مشروط بعقده العزم على خطبتها، وإرادة نكاحها، ويأمل إجابة وليها، أو يغلب على ظنه أنه سيجيبه، وبعد أن يطمئن ولِيُّ المرأة إلى دين وخلق وصدق الخاطب وجديته. أما عند عدم الاطمئنان إلى ذلك فلا يصح النظر، لا سيما أن بعض الشباب وضعاف النفوس قد يتخذون ذلك وسيلة إلى الاطلاع على الفتيات والنساء بحجة أنهم خطاب لهن.
ثانيًا: كون نظره قبل الخطبة لا بعدها، لأنه قد يُردُ أو يتراجع إذا لم تعجبه، فيصرف النظر عنها، فلو كان ذلك بعد الخطبة لأدى إلى إيذائها وتَرْكِ شيءٍ في نفسها.
ثالثًا: وجود محرم للمخطوبة عند نظر الخاطب إليها، فلا ينفرد بها في مكانٍ ليس معهما أحد، فإنها أجنبية عنه، والخلوة بها محرَّمة، لحديث ابن عباس قال: قال رسول الله : ((لا يخلون رجل بامرأة إلا ومعها ذو محرم)) متفق عليه.
ولا يعتبر السماح له بالرؤية مبيحًا الخلوة بها، فإنها تبقى على الأصل وهو التحريم، وذلك لما يترتب على الخلوة والانفراد بالمرأة من أضرار ومساوئ لا يحمد عقباها، وقد قال : ((ألا لا يخلونَّ رجلٌ بامرأة، فإن ثالثهما الشيطان)) رواه أحمد والنسائي.
رابعًا: أن يكون نظره إليها مقصورًا على وجه المخطوبة وكفيها دون الشعر وغيره، فإن الوجه يعرف ويستدل به على جمال المرأة وزينتها، ويجمع محاسن جسدها، وبالكفين يتعرف على خصوبة البدن أو عدمها، ورؤية هذه المواضع كافية للترغيب في المرأةِ أو النفرة منها، فإنَّ أكثر الناس يتوقف عن الزواج بالمرأة أو يقدم عليه بمجرد رؤية عيب في وجه المرأة أو استحسانه، فإذا نظر إلى الوجه والكفين كان ذلك كافيًا، فلا يتجاوز النظر إلى غير ما ذكر، ويحرم عليه أن يمس شيئًا من جسدها؛ لأن الجواز خاص بالنظر فقط.
خامسًا: إذا نظر الخاطب إليها فأعجبته ورأى منها ما يرغبه في الزواج بها واطمأن إليها مضى في خطبتها من وليها، وإن لم تعجبه وقرر صرف نظره عنها وجب عليه السكوت عما رآه منها، ولا يجوز له التحدث عن صفاتها أو شيء من ملامحها، فإن الخوض في ذلك صفة من لا خلاق له ولا أمانة عنده، فتلك أسرار يلزم المحافظة عليها وكتمانها وعدم إفشائها والتكتم على نشرها؛ لأن ذلك يسيء إليها وإلى أسرتها، فقد يكون حديثه عنها سببًا في عضلها وتوقف الخطاب عنها، وقد يكون ما رآه منها يعجب غيره وإن كان لا يعجبه هو؛ لاختلاف أذواق الناس ورؤيتهم ومشاربهم وتقديرهم للأمور.
سادسًا: يجوز للخاطب أن يرسل امرأة يثق بها لتنظر إلى المخطوبة وتتأملها وتصفها له، ليكون على بصيرة من أمره، بل ربما كانت هذه الطريقة أنفع وأصلح له، فإن المرأة تطلع على ما لا يطلع عليه هو، وترى من المخطوبة ما لا يراه هو لو ذهب بنفسه، وهذا الجواز مستثنى من النهي الوارد في حديث ابن مسعود أنه قال: ((لا تباشر المرأة المرأة فتصفها لزوجها، حتى كأنه ينظر إليها)) رواه البخاري. أي: لا تنظر إلى بشرتها، فتصف ما رأت من حسنها وجمالها ومظهرها ومنظرها.
سابعًا: كما أبيح للرجل النظر إلى المخطوبة، فكذلك المرأة يجوز لها أن تنظر إلى من تقدم لخطبتها. قال في الإقناع وشرحه: "وتنظر المرأة إلى الرجل إذا عزمت على نكاحه؛ لأنه يعجبها منه ما يعجبه منها".
والأحاديث الواردة خاصة بنظر الرجل إلى المرأة، لكن علَّل بعض الفقهاء عدم ورود نص في نظر المرأة للرجل بأن الرجل يمكن رؤيته في أي مكان، بحيث لا يمكن أن يختفي كما تختفي المرأة، فنظرها إليه أسهل وأيسر، ويمكنها أن تراه بلا تكلف.
وبالجملة فإن نظر الخاطب إلى المخطوبة من الأمور الجائزة والمباحة، وقد أمر به أمر ندب واستحباب، لكن ينبغي للخاطب والولي والمخطوبة مراعاة الأمور والنقاط والقيود التي سبق ذكرها، والتشديد على عدم التساهل في أي منها، والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.
ــــــــــــــــــــ(67/240)
الترغيب في طلب الأولاد
...
...
4080
...
الأسرة والمجتمع, فقه
...
...
الأبناء, النكاح
...
عبد الكريم بن صنيتان العمري
...
...
المدينة المنورة
...
...
...
جامع الصانع
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- حث الشرع على النكاح لما فيه من المصالح وتحريم السفاح لما فيه من المفاسد. 2- من مقاصد النكاح العظيمة تكثير النسل. 3- كراهية الزواج من العقيم لغرض سيئ. 4- ترغيب الإسلام في طلب الأولاد. 5- وجوب العناية بتربية الأبناء. 6- الترغيب في تكثير النسل شامل للذكور والإناث. 7- مزايا تربية البنات في الإسلام.
الخطبة الأولى
روى أنس بن مالك قال: قال رسول الله : ((تزوجوا الودود الولود، فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة)) رواه أحمد وابن حبان.
لقد اهتمّت الشريعة الإسلامية بالنكاح أبلغَ اهتمام، وعُنيت به أعظم عناية، وذلك لما له من مكانة مهمة في حياة الفرد والمجتمع، وحرَّمت السفاح ونهت عنه، وشدَّدت في عقوبته، وزجرت مرتكبيه؛ لما فيه من الخطر والفوضى وتداخل الأنساب بين بني الإنسان.
وفي هذا الحديث توجيه منه لأفراد أمته بحثهم على النكاح، إعفافًا لأنفسهم، وصونًا لهم عن الوقوع في المحرم، وطلبًا لما يترتب على ذلك من حصول الولد، وقد وجه القرآن الكريمُ إلى هذا، قال تعالى:
فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُم [البقرة:187]، قال العلامة الشوكاني رحمه الله: "أي: ابتغوا بمباشرة نسائكم حصولَ ما هو معظَم المقصود من النكاح وهو حصول النسل".
وفي حديث أنس هذا دعوة منه إلى تكثير النسل ليباهي به: ((فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة)).
وكره عليه الصلاة والسلام الزواج من العقيم ولو كانت ذات حسب ونسب، يدل على ذلك هذا الحديث، فقد روى معقل بن يسار قال: جاء رجل إلى النبي فقال: إني أصبت امرأة ذات حسب وجمال، وإنها لا تلد، أفأتزوجها؟ قال: ((لا))، ثم أتاه الثانية فنهاه، ثم أتاه الثالثة فقال: ((تزوجوا الودود الولود)) رواه أحمد وأبو داود وغيرهما.
فقد بين النبي لهذا الخاطب الحكمة من نهيه عن الزواج بالعقيم، بأمره له ولغيره من المسلمين بأن يتزوجوا الودود الولود، وهي المرأة ذات الود والحب لزوجها، اللطيفة في تعاملها معه، التي تلد كثيرًا، وأكد على هذه الصفةِ وأَبرَزَها لكونها أهم المقصود، ((فإني مكاثر بكم الأمم)).
ولا بد من التنبيه هنا على أن ما ورد في هذا الحديث من النهي عن نكاح العقيم للعلماء فيه كلام، وهو أنه ينبغي أن لا يؤخذ هذا على أنه نهي تحريم، بل إما أن يكون للكراهة، بأن يقتصر الرجل على الزواج بها وقصده من ذلك كراهة إنجاب الأولاد، وقد يحرم ذلك عليه؛ لأن التناسل وكثرة الولد من أهم مقاصد النكاح، وإما أن لا تكون هناك كراهة للزواج من العقيم، بل يستحب له أن يتزوجها إذا قصد إعفافها، وكان عنده غيرها من الزوجات اللاتي ينجبن الأولاد، ولو حُمل نهي الرسول على التحريم في كل حال لبقيت العقيم محرومةً من الزواج الذي يحصل به صونها وإعفافها، وليس ذلك من مقاصد الشريعة.
لقد رغب الإسلام في طلب الأولاد، وذلك لما يحصل بهم من الخير والنفع العظيم في الحياة وبعد الممات، فالولد الصالح يدعو لوالديه، ويترحم عليهما بعد مماتهما، فينفعهما ذلك، وترفع درجاتهما بسبب دعاء الأولاد، ففي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((إذا مات ابن آدم انقطع عمله من الدنيا إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له))، قال العلماء: إن عمل الميت ينقطع بموته، وينقطع تجدد الثواب له، إلا في هذه الأشياء الثلاثة لكونه سببها، فإن الولد من كسبه.
وفي مسند أحمد من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((إن الله عز وجل ليرفع الدرجة للعبد الصالح في الجنة، فيقول: يا رب، أنى هذه؟! فيقول: باستغفار ولدك لك)).
ولن يتأتى ذلك إلا بالعناية التامة بالأولاد منذ نشأتهم، والعمل على تربيتهم التربية الإسلامية الصحيحة، وحفظهم ومراقبتهم، فمتى ما تعاهد الوالد ولده وغرس في نفسه حب الخير وأدبه بآداب الإسلام الفاضلة وتعاليمه النيرة قرت به عينه، واطمأن عليه، ونفعه حيًا وميتًا، فإحسان التربية للولد منذ نشأة الأسرة وتكوينها أمر لا بد منه، مصحوبًا بدعاء الله له بالصلاح والاستقامة، وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا [الفرقان: 74].
إن حث الإسلام على طلب الأولاد وتكثيرهم ليس مقصورًا على الذكور منهم، بل إن ذلك عام يشمل الذكور والإناث، وجعل الإسلام للبنات مزيةً انفردن بها عن الذكور، فإن الله تعالى لما ذكر أقسام الخلق بدأ بالإناث، قال تعالى: لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ [الشورى:49،50]. قال واثلة بن الأسقع : (إن مِن يُمنِ المرأة تبكيرها بالأنثى قبل الذكر؛ لأن الله تعالى بدأ بالإناث).
ومما يدل على أنَّ للبنات مكانة خاصة ومنزلة هامة ما ورد من الأحاديث الصحيحة الدالة على حصول الثواب العظيم والأجر الجزيل لمن ربَّى بناته تربية حسنة، وصبر عليهن، وأنفق عليهن بالمعروف، حيث ينال جزاء ذلك وهو دخول الجنة، فعن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله : ((من عال ابنتين أو ثلاثًا أو أختين أو ثلاثًا فأحسن صحبتهن واتقى الله فيهن دخل الجنة)) رواه الترمذي، وفي صحيح مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله : ((من ابتُلي من البناتِ بشيءٍ فأحسن إليهن كنَّ له سترًا من النار))، وعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله : ((من عال جاريتين حتى تبلغا جاء يوم القيامة أنا وهو)) وضم أصابعه. رواه مسلم. وهذا تكريم منه للبنات، مَيَّزَهُن به عن الأولاد، وخصَّهن به.
وبذلك يتبين خطأ الاعتقاد السائد بين كثير من الناس من كراهتهم وتسخطهم وتضايقهم حين يرزقون بالإناث، وذلك لجهلهم بالأحاديث الواردة في فضل البنات، فإن كراهتهن من العادات المتأصلة في الجاهلية، حيث كانوا يسأمون من ولادتهن، قال تعالى: وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ يَتَوَارَى مِنْ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ [النحل:58،59].
وقد جاء الإسلام فأبطل ذلك كله، وبين فساده وسوءه، وأوضح أن البنات كلهن خير، إذا اتقى الوالد الله فيهن، ورباهن التربية الإيمانية، ورعاهن رعاية صالحة، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((ما من مسلمٍ يكون له بنتان فيحسن إليهما ما صحبهما وصحبتاه إلا أدخلتاه الجنة)) رواه ابن ماجه، وعن عقبة بن عامر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((من كانت له ثلاث بنات فصبر عليهن فأطعمهن وسقاهن وكساهن من جِدتِه كنَّ له حجابًا من النار)) رواه أحمد.
والمرء لا يدري، فلعل الله تعالى قدَّر الخير عندما رزقه بهذه البنت، فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا [النساء:19]، فالبنات قد يكنّ رافدًا من روافد الخير لأهلهن، وقد كان الإمام أحمد رحمه الله إذا ولد له ابنة يقول: "الأنبياء كانوا آباء بنات".
إن على المسلم أن يرضى بقضاء الله، فيشكره على ما وهبه من الولد ذكرًا كان أو أنثى، فكم من الناس يتمنى الولد وقد حُرم منه، فإن الأولادَ ذكورًا أو إناثًا نعمة عظيمة، لا يعرف قدرها إلا من حُرمها.
وقد يفتح الله تعالى للأب بهذه البنت أبوابًا وطرقًا من الخير والسعادة، فكم من فتاة مستقيمة ملتزمة جلبت السعادة والهناء لأسرتها ومجتمعها، وكم من ولد عاق منحرف أدمى قلبي والديه وزُج به في غياهب السجون، وجلب لأسرته التعاسة والشقاء، ولمجتمعه الشر والبلاء، فتقبل ـ أخي المسلم ـ ما وهبه الله لك بنفس راضية مطمئنة، واشكر الله تعالى على ذلك، يحصل لك الأجر والثواب من المنعم جل في علاه
ــــــــــــــــــــ(67/241)
ثمرات الأولاد
...
...
4082
...
الأسرة والمجتمع, فقه
...
...
الأبناء, النكاح
...
عبد الكريم بن صنيتان العمري
...
...
المدينة المنورة
...
...
...
جامع الصانع
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- خلق الله تعالى الإنسان لعمارة الأرض. 2- من أهم مقاصد الزواج حفظ النوع الإنساني بالتناسل. 3- أحكام الزواج من العقيم. 4- النهي عن التبتل والعزوف عن الزواج. 5- منافع إنجاب الأولاد في الدارين.
الخطبة الأولى
لقد خلق الله تعالى الحياة الدنيا لعمارة الأرض وفقًا لشريعته حتى يرث الله الأرض ومن عليها، وخلق الناس ليعمروها ويستغلوها، ويستخرجوا ما أودع الله فيها من الخيرات وما حوته من المنافع والطيبات، وكانت عمارتها تقتضي وجود هذا الإنسان إلى يوم القيامة، ولأن الله تعالى حدّد الأعمار، وجعل لكل نفس أجلاً ونهاية، فإن حفظ النسل كان ضرورة من ضرورات الحياة.
وشرع الله تعالى الزواج الذي من أهم مقاصده بقاء النوع الإنساني على وجه سليم، ولو لم يشرع الزواج لأدى ذلك إلى فناء الإنسان وذهابه.
لقد علم رسول الله أن لهذا الدين أعداء يقفون له بالمرصاد، لذلك رغَّب في تكثير نسل أمته؛ ليكاثر به ويباهي، وكره أن يتزوج المسلم عقيمًا، ولو كانت امرأة ذات منصب وحسبٍ، فقد جاء رجلٌ إليه، فقال: يا رسول الله، إني أصبتُ امرأة ذات منصب وحسبٍ إلا أنها لا تلد، أفأتزوجها؟ فنهاه، ثم أتاه الثانية فنهاه، ثم أتاه الثالثة فنهاه، وقال: ((تزوجوا الودود الولود، فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة)) رواه أبو داود، فقد حث على الزواج بالمرأة ذات الود والحب لزوجها، اللطيفة في معاملته التي تلد كثيرًا.
وقد نبه العلماء على أن النهي عن نكاح العقيم ينبغي أن لا يؤخذ على أنه نهي تحريم، بل إما أن يكون للكراهة بأن يقتصر الرجل على الزواج بها قاصدًا كراهة إنجاب الأولاد، وقد يحرم ذلك عليه؛ لأن من أهم مقاصد الزواج التناسل. وإما أن لا توجد الكراهة، بل يستحب له أن يتزوجها إذا قصد إعفافها، وكان عنده غيرها من الزوجات المنجبات.
وكذلك إذا كان الرجل عقيمًا، فلا يكره أن يتزوج عقيمًا مثله؛ لاتفاقهما في تلك الصفة، وقد تكون كراهة الرسول زواج ذلك الرجل من المرأة العقيم لما ظهر من طمعه في الحسب والمنصب، ولم يذكر أنه أرادها لدينها أو لإعفافها، ولو حُمل نهيُ رسول الله على التحريم في كل حال لبقيت العقيم محرومة من الزوج الذي يُعفها، وليس ذلك من مقاصد الشريعة الإسلامية.
إن بعض المسلمين قد يرغبون عن الزواج لقصد الإكثار من الطاعة، فيبدؤون في العزوف عنه، وقد بدأ ذلك يظهر في عهد النبي حين جاء ثلاثة من الصحابة رضي الله عنهم يسألون عن عبادته ، فلما أُخبِروا بها كأنهم تقالّوها، فقال أحدهم: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدًا، فأنكر النبي عليهم ذلك وقال: ((من رغب عن سنتي فليس مني)) متفق عليه.
بل إن بعض الصحابة في حادثة أخرى جاء يستأذن النبي في التبتّل والانقطاع للعبادة، وكان وراء المستأذن من ينتظر الجواب، فلو أذن لهم لأماتوا شهوة النكاح، ولكنه الذي كان يحب بقاء النسل ويدرك مقاصده الشرعية أوصد عليهم الباب ومنعهم من ذلك.
وبيّن في أحاديث كثيرة حرصه وحثه أمته على الزواج، وكراهة تركه والزهد فيه، مع أن الذين يفضلون العزوف عن الزواج يكون عددهم في الغالب قليلاً، ولكنه حرص أن لا يوجد هذا في أمته أصلاً.
لقد بينت الشريعة الإسلامية المصالح والفوائد التي تعود على الوالدين من أبنائهم نتيجة حفظهم النسل وحرصهم على كثرة الولد، فقد قرن الله تعالى حق الوالدين بحقه، وفي ذلك بيان لعظم حقهما وكبير فضلهما؛ إذ هما السبب بعد الله تعالى في وجود الولد في هذه الحياة، فترى الأولاد يقرون ويعترفون بفضل والديهم وحقهم، فيبرون بهم، ويقدمون رغبات آبائهم وأمهاتهم على رغبات أنفسهم.
ثم تمتد مصالح الوالدين لأولادهما في الآخرة، فإنَّهما إذا انتقلا إلى جوار ربِهما وقد خلَّفا أولادًا صالحين، فيكون لهما مثل أجور أولادهما، من غير أن ينقص من أجور الأولاد شيء، فهما مَيِّتان والأعمال الصالحة تدوّن في ميزان حسناتهما بسبب أولادهما الصالحين، وبخاصة الدعاء لأبويهم، فعن أبي هريرة أن رسول الله قال: ((إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له)) رواه مسلم.
قال الإمام النووي رحمه الله تعالى: "قال العلماء: معنى الحديث أن عمل الميت ينقطع بموته، وينقطع تجدد الثواب له إلا هذه الأشياء الثلاثة؛ لكونه كان سببها، فإن الولد من كسبه، وفي الحديث أيضًا فضيلة الزواج لرجاء ولد صالح".
ومن محاسن الأولاد أنهم إذا ماتوا قبل آبائهم فصبر الآباء واحتسبوا أثابهم الله تعالى على ذلك، فعن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله : ((إذا مات ولد العبد قال الله تعالى لملائكته: قبضتم ولدَ عبدي؟ فيقولون: نعم، فيقول: قبضتم ثمرة فؤاده؟ فيقولون: نعم، فيقول: ماذا قال عبدي؟ فيقولون: حَمِدك، واسترجع، فيقول الله تعالى: ابنوا لعبدي بيتًا في الجنة، وسمّوه بيت الحمد)) رواه الترمذي وابن حبان، وقال : ((يقول الله تعالى: ما لعبدي المؤمن عندي جزاءٌ إذا قبضتُ صَفِيّه من أهل الدنيا ثم احتسبهُ إلا الجنة)) رواه البخاري.
كذلك من النفع العائد على الوالدين من أولادهما شفاعتهم لهما يوم القيامة، فقد ورد في صحيح مسلم أن الصغار يتلقون آباءهم في الجنة حتى يدخلهم الله وآباءَهم الجنة.
فأيّ ترغيب يبلغ هذا المبلغ ببركة النسل والذرية الناتجة عن الزواج، فإذا رُزق الوالد ولدًا وجب عليه بِرُّه والإحسان إليه، وإذا مات الوالد قبل الولد كان له مثل عمل ولده من الخير.
إن على المسلم أن يسعى في أسباب حصول النسل، ويحافظ عليه، ويعمل على استمراره، عبادة لربه وطاعة له ورغبة في ثوابه واتباعًا لهدي رسوله ، ولذلك يسعى إلى الزواج، ويحرص عليه، ويُرغب فيه، ويُسهِّل أموره، ولا يقف حجر عثرة في طريق زواج ولده أو ابنته أو أحد من أقاربه وإخوانه المسلمين، بل يدعو إلى الزواج، ويعين عليه ولو بكلمة طيبة من شأنها أن تجمع بين رجل وامرأة يُنشئان بيتًا مسلمًا، تخرج منه أسرة صالحة تعبد ربَّها، وتعرف حقَّ الله عليها، وتسهم في نفع مجتمعها.
ــــــــــــــــــــ(67/242)
فضل تربية البنات
...
...
4083
...
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
...
...
الأبناء, التربية والتزكية, فضائل الأعمال
...
عبد الكريم بن صنيتان العمري
...
...
المدينة المنورة
...
...
...
جامع الصانع
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- تقسيم الله تعالى الذرية منذ خلقها وحتى قيام الساعة. 2- الجاهلية وعاداتهم القبيحة في التعامل مع الفتيات. 3- التضايق من البنات صفة من صفات الجاهلية. 4- فضائل تربية البنات. 5- الهدي النبوي في التعامل مع البنات. 6- فتاة اليوم هي أم الغد.
الخطبة الأولى
يقول الله تعالى في محكم التنزيل: لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ [الشورى:49، 50].
في هاتين الآيتين بين الله تعالى أقسام الذرية من الإناث والذكور، وأنه تعالى يهب لمن يشاء إناثًا، ويهب لمن يشاء الذكور، ويرزق من يشاء ذكورًا وإناثًا، ويجعل من يشاء عقيمًا لا يولد له، لحكمة يعلمها جل جلاله.
وقد ورد أن هاتين الآيتين نزلتا في الأنبياء ثم عمت الجميع، يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا يعني لوطًا عليه السلام، كان له بنات ولم يكن له ابن، وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ يعني إبراهيم عليه السلام، لم يولد له أنثى بل قد ولد له ذكور، أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا يعني سيدنا محمدا ، كان له ذكور وإناث: القاسم وعبد الله وزينب وأم كلثوم ورقية وفاطمة، وكلهم من خديجة رضي الله عنها، وإبراهيم وهو من مارية القبطية رضي الله عنهم أجمعين.
وقسَّم الله تعالى الخلق من لدن آدم إلى زماننا هذا إلى أن تقوم الساعة، على هذا التقديرِ المحدود بحكمته البالغة ومشيئته النافذة، ليبقى النوع الإنساني، وتُعمر الدنيا، وينفذ وعد الله تعالى.
وقد ابتدأ الله تعالى بذكر الإناث في هذا التقسيم، وورد عن بعض السلف: "إن من يُمْن المرأة تبكيرها بالأنثى قبل الذكر، وذلك أنه عز وجل قال: يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا"، ولعل في ذلك تشنيعًا على المشركين، وبيانًا لقبيح أفعالهم وخبث أعمالهم، لما كانوا يرتكبونه من حُمقٍ في جاهليتهم بوأدهم للبنات، وكرههم لهن، واشمئزازهم عند ولادتهن، قال سبحانه وتعالى في ذلك: وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ يَتَوَارَى مِنْ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ [النحل:58، 59]. قال قتادة رحمه الله: "هذا صنيع مشركي العرب، أخبرهم الله تعالى ذِكرهُ بخبث صنيعهم، فأما المؤمن فهو حقيق أن يرضى بما قسم اللهُ له، وقضاء الله خير من قضاء المرء لنفسه، وما يدري المرء أين يكون الخير والصلاح، فلرب جاريةٍ خيرٌ لأهلها من غلام، وإنما أخبرهم الله بصنيعهم ليجتنبوه وينتهوا عنه، وكان أحدهم يغذو كلبه ويئد ابنته" انتهى كلامه رحمه الله.
وقال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى: "قَسَّمَ الله تعالى حال الزوجين إلى أربعة أقسام اشتمل عليها الوجود، وأخبر أَنَّ ما قُدِّرَ بينهما من الولد فقد وهبهما إياه، وكفى بالعبد تعرضًا لمقته أن يتسخَّطَ مما وهبه، وبدأ سبحانه بذكر الإناث، فقيل: جبرًا لهن، وقيل: إنما قدمهن لأن سياق الكلام أنه تعالى فاعل ما يشاء لا ما يشاء الأبوان، فإنَّ الأبوين غالبًا لا يريدان إلا الذكور، وهو سبحانه قد أخبر أنه يخلق ما يشاء، فبدأ بذكر الصنف الذي يشاء ولا يريده الأبوان".
ثم أضاف رحمه الله: "إن الله تعالى قَدَّم ما كانت تؤخره الجاهلية من أمر البنات، حيث كانوا يئدونهن، أي: هذا النوع المؤخر الحقير عندكم مقدم عندي في الذِّكر، وتأمل كيف نَكَّرَ سبحانه الإناث وعَرَّفَ الذكور، فجبر نقص الأنوثة بالتقديم، وجبر نقص التأخير بالتعريف، فإن التعريف تنزيه" انتهى.
إن النفور والتضايق من الإناث صفة من صفات الجاهلية كما بين الله تعالى ذلك في الآية المتقدمة، واعتراض على حكم الله تعالى وقضائه، فإن الله عز وجل أدرى بخلقه وأعلم بما يصلح أو يفسد أحوالهم، والمرء لا يدري في أي حالٍ تكون السعادة أو الشقاء، ولربما فتح الله له من أبواب الرزق وسبل الخير ما لا يخطر بباله حين تولد له بنت، ولعل مغفرة الله ورضوانه لا ينالها المرء إلا بسبب البنات.
ورد عن عائشة رضي الله عنها أن امرأة جاءت إليها ومعها بنتان لها، قالت: فسألتني فلم تجد عندي غير تمرة واحدة، فأعطيتها إياها، فأخذتها فقسمتها بين ابنتيها، ولم تأكل منها شيئًا، ثم قامت فخرجت وابنتاها، فَدَخَلَ عَلَيَّ النبيّ فحدثتهُ حديثها، فقال : ((من ابتلي من هذه البنات بشيء فأحسن إليهن كن له سترًا من النار)) رواه البخاري ومسلم، وفي لفظ: ((إن الله قد أوجب لها بها الجنة، وأعتقها بها من النار)).
قال العلامة القرطبي رحمه الله: "قوله : ((بشيءٍ من البنات)) يفيد بعمومه أن الستر من النار يحصل بالإحسان إلى واحدةٍ من البنات، فأما إذا عال زيادة على الواحدة فيحصل له زيادة على الستر من النار، وهو السبق مع رسول الله إلى الجنة كما في قوله : ((من عال جاريتين ـ أي: بنتين ـ حتى تبلغا جاء يوم القيامة أنا وهو)) وضم أصابعه عليه الصلاة والسلام. رواه مسلم".
وذلك يحصل بحسن التربية، وصدق الرعاية، وغرس آداب الإسلام الفاضلة وتعاليمه القيمة في نفوسهنَّ، والعناية بكل ما يحفظهن، والإحسان لفظة عامة تشمل كل ما فيه مصلحة البنت وفائدتها.
إن البنت ستصبح في يوم من الأيام أمًّا تنجب الأبناء، وتتعهد أولادها وتربيهم، فكل ما حولك من البشر إنما أخرجهم الله من بطون أمهاتهم، وأنت قد سمعت ما قرره الإسلام من حقوقٍ للأم، وما أوجب على الأولاد من برِّها ومعرفة فضلها.
الأمُّ مَدْرَسَةٌ إذَا أَعْدَدتَها أَعْدَدتَ شَعْبًا طيِّبَ الأعراقِ
الأمُّ روضٌ إن تعهده الحيا بالرَّي أورق أيّما إيراقِ
وإذا كان المصطفى قد بيّن فضائل تربية البنات فإنه بفعله ذلك كان يكرمهن ويقربهن ويشملهن برعايته وحنانه، فقد كان يحمل أمامه بنت ابنته زينب رضي الله عنها وهو في صلاته. وهو بأقواله وأفعاله يقدّمُ أنموذجًا فريدًا للعناية بالفتاة وتكريمها:
أُحِبُّ البناتِ وحُبُّ البنا تِ فرضٌ على كل نفسٍ كريمه
فإن شعيبًا مِنْ أجل ابنتيـ ـه أخدمه اللهُ موسى كليمَه
ولئن نسي البعض فضائل البنات فلن ننسى أمهاتنا، ولن ننسى نساءً أشاد الله تعالى بِهن في كتابه ونوَّه بأعمالهنّ: مريم ابنة عمران، وآسية امرأة فرعون، وأمهات المؤمنين زوجات النبيّ ورضي عنهن، وغيرهن وغيرهن..
فلو كان النساء كمن ذكرنا لفُضّلت النساءُ على الرجال
فما التأنيث لاسم الشمس عيْبٌ ولا التذكير فخرٌ للهلالِ
الله أكبر، كيف تشمئز النفوس حين ترزق بمن هن ستر من النار، ومن بحسن تربيتهن يحظى بمرافقة سيد الأبرار في أعظم وخير دار؟
تيسير المهور
...
...
4084
...
الأسرة والمجتمع, فقه
...
...
النكاح, قضايا المجتمع
...
عبد الكريم بن صنيتان العمري
...
...
المدينة المنورة
...
...
...
جامع الصانع
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- الدين الإسلامي قائم على السماحة واليسر. 2- حث النبي على تسهيل الزواج. 3- فوائد تيسير المهور. 4- هدي النبي وأصحابه في تيسير المهور. 5- أثر غلاء المهور في إقبال الشباب على النكاح.
الخطبة الأولى
من جميل صفات التشريع الإسلامي تلك المرتكزات التي يقوم عليها من السهولة واليسر والتخفيف والسماحة، إذ راعى وضع جميع أفراده وتفاوتَ قدراتهم واختلافَ أحوالهم وطاقاتهم، يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ [البقرة:185]، وقال جل وعلا: يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا [النساء:28].
وفي توجيهاته نجد حرصه على عدم الإثقال على أمته، ودعوته إلى السماحة واليسر في أقواله وأفعاله وفي إرشاده لأصحابه رضي الله عنهم، ويظهر ذلك جليًا واضحًا في سائر الأحكام التشريعية، في العبادات والمعاملات وكافة التكاليف الدينية، ولا غرابة في ذلك فقد قال عنه خالقه تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107].
وحين حث على الزواج ليحفظ المسلم نفسه من الوقوع في المخالفات، وليقطف مصالح الزواج وأهدافه، وينعم المجتمع الإسلامي بنتائجه وثمراته، دعا إلى تسهيل أمر الزواج وتيسير الطرق الموصلة إليه، ومن أهمها الصداق الذي يقدمه الزوج للمرأة مقابل اقترانه بها، فقد روى جابر أن رسول الله قال: ((لو أن رجلاً أعطى امرأة صداقًا ملء يديه طعامًا كانت له حلالاً)) رواه أحمد.
وبيَّن أن تخفيف الصداق يجلب الخير للزوجين، ويأتي بالبركة، ويضفي على حياتهما أجواءً من السعادة والهناء، فقال : ((إن أعظم النكاح بركة أيسره مؤنة)) رواه الإمام أحمد، وقال : ((خير الصداق أيسره)) رواه ابن ماجه.
والنبي تزوج أم المؤمنين صفية رضي الله عنها وجعل عتقها صداقها، ولم يبالغ في مهور نسائه ولا بناته، إذ لم يزد صداق بعضهن على اثنتي عشرة أوقية، كما بَيَّنَ ذلك عمر حين ظهرت مغالاة الناس في المهور وزيادتهم على الحد المتعارف عليه في العهد النبوي، فقال : (ألا لا تغالوا في صُدُق النساء، فإنها لو كانت مكرمةً في الدنيا أو تقوى عند الله عز وجل لكان أولاكم بها رسول الله ، ما أصدق رسول الله امرأة من نسائه ولا أُصدِقَت امرأة من بناته أكثر من اثنتي عشرة أوقية، وإن الرجل لُيغلي بصداق امرأة حتى يكون لها عداوة في نفسه) رواه الترمذي.
فهذا الفاروق يشير إلى المساوئ المترتبة على المغالاة في الصَّداق والنتائج العكسية والآثار السلبية المترتبة على زيادة المهور، ومنها أن الزوج حين يُلْزَمُ بدفع صداقٍ عالٍ ومهر غالٍ يشُقّ على نفسه في توفيره، ويتكلف في جمعه وتحصيله، فيقترض من هذا وذاك، ويتحمل الديون التي تثقل كاهله وتقلق راحته، ويسعى في جمع هذا المهر سنين عديدة، ثم يقدمه للزوجة، وبعد أن يدخل بها ويُمضي معها أيام الزواج الأولى ويحين موعد سداد ديونه يجد أن حالته المادية لا تساعده في الوفاء بكل ما اقترض، ولا تسديد كل ما استدان، فيؤدي ذلك إلى كراهته لزوجته؛ لأن توفير صداقها هو الذي أوقعه في الديون، فتتكالب عليه الهموم، وتنصرف رغبته عنها، إذ إن تلك الديون شَكَّلَت له عقبة كؤودًا في طريق السعادة، وبقيت نارًا تتلظى في فؤاده.
لقد قال عمر ذلك في عصره ولم تكن المغالاة في زمنه مثل ولا قريبة مما حدث بعده حتى يومنا هذا.
وهناك نماذج فريدة وأمثلة عديدة وصور من المجتمع المدني، كان المهر فيها سهلاً ميسورًا، إذ كانت المرأة تقنع باليسير وترضى بالقليل، فهذا أبو طلحة يخطبُ أم سليم رضي الله عنها فتقول: والله، يا أبا طلحة ما مثلك يُرد، ولكنك رجل كافر، وأنا امرأة مسلمة، ولا يحل لي أن أتزوجك، فإن تسلم فذاك مهري، ولا أسألك شيئًا غيره، فأسلم فكان ذلك مهرها. قال ثابت: فما سمعنا بامرأة قط كانت أكرم مهرًا من أم سليم. رواه النسائي.
إنه أنموذج فريد لامرأة تنازلت عن حقها المادي، واشترطت مهرها الإسلام لإنقاذ رجل من براثن الشرك وغياهب الضلال، واجتذبته إلى نور الهدى وشعاع الحق والتقى، فنالت أجره وثوابه، وكان هذا خيرًا لها من حُمر النَّعم، وأفضل من ماديات الحياة الدنيا وبهرجتها الزائفة ومظاهرها البراقة الكاذبة.
وصحابية أخرى لم تجعل المال هدفها، ولا العَرَض النفيس غايتها ومقصدها، فلم تشترط مركبًا فارهًا، ولا لباسًا غاليًا، ولا سكنًا واسعًا، بل اقتنعت بأن صداقها أقل القليل، هما نعلان تلبسهما تقي بِهما قدميها حر الرمضاء وقسوة البرد في الشتاء، فعن عامر بن ربيعة أن امرأة من بني فزارة تزوجت على نعلين، فعلم رسول الله بذلك فقال لها: ((أرضيتِ من نفسك ومالك بنعلين؟)) قالت: نعم، فأجاز نكاحها. رواه الترمذي وصححه.
وأما جيل التابعين فإن فقيههم عالمَ المدينة سعيد بن المسيب ضرب أروع الأمثلة في ذلك، حين دفع ابنته زوجةً لتلميذه أبي وداعة، وجعل مهرها درهمين فقط، وكان قد خطبها عبد الملك بن مروان لابنه الوليد، فاختار سعيدٌ أن يزوجها لأحد طلابه خوفًا عليها من فتنة الدنيا والتقلب بين رياشها وملذّاتها.
فهل في هذا الزمن أنموذجُ عصري فريد يعيد سيرة ابن المسيب في تزويج ابنته؟! لا أظن أن ذلك محال، لكنه عزيز ونادر، والخير في هذه الأمة إلى يوم القيامة.
كم نادى الدعاة والمصلحون، وكم رددوا من الخطب والمواعظ والدروس والنصائح التي أصغت إليها أسماع بعض الأولياء ولم تعيها قلوبهم، كم دعوا إلى تخفيف المهور، وأكدوا على ضرورة تيسيرها، وبينوا الأخطار الناجمة عن المغالاة فيها، فكم من شاب عقد العزم على إكمال نصف دينه، فاعترضته عقبةُ كثرة الصداق، واصطدم بها، فتوقفت آماله، وتحطمت رغباته، وشكا إلى الله حاله، وكم من فتاة تتوق إلى تكوين أسرة وإنجاب أولاد، فحال وليها بينها وبين تحقيق آمالها باشتراطه مهرًا غاليًا كلما تقدم شاب لخطبتها.
لقد أصبحت مشكلة غلاء المهور أمرًا يؤرق الشباب والفتيات، ويقلق الأيامى من الذكور والإناث، وما ذاك إلا لجشع بعض الأولياء، وتنافسهم في جمع المال من هذا الطريق، والطمع المادي الذي ترسَّب في قلوبِهم، فلم يدركوا أهداف الزواج، ولم يعرفوا مقاصده السامية وأهدافه النبيلة.
كما أن النظرة إلى الزوج الكفء قد تغيرت عند بعضهم، فأصبح المعيار المادي هو المقصد عند بعض الآباء والأولياء الذين لم يُمعِنوا النظر في قوله : ((من يُمن المرأة تيسير خطبتها وتيسير صداقها)) رواه أحمد.
ــــــــــــــــــــ(67/243)
آداب وليمة الزواج
...
...
4085
...
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
...
...
الآداب والحقوق العامة, النكاح, قضايا المجتمع
...
عبد الكريم بن صنيتان العمري
...
...
المدينة المنورة
...
...
...
جامع الصانع
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- ترغيب الشارع في عمل وليمة الزواج وإجابتها. 2- وقت الوليمة موسع قبل الدخول أو بعده. 3- الوليمة بما تيسر له ولا يُشترط طعام معين. 4- استحباب المشاركة في إعداد الوليمة. 5- وجوب شمول لجميع طبقات الناس. 6- التنبيه على بعض أخطاء الولائم. 7- التحذير من الإسراف والتبذير.
الخطبة الأولى
روى أنس قال: رأى رسول الله على عبد الرحمن بن عوف أثر صفرة فقال: ((ما هذا؟)) قال: يا رسول الله، إني تزوجت امرأةً من الأنصار على وزن نواةٍ من ذهب، فقال : ((بارك الله لك، أولم ولو بشاة)) متفق عليه.
هذا الحديث من النصوص الدالة على مشروعية الوليمة للزواج، وفي إعدادها والدعوة إليها إعلانٌ للزواج وإشهارٌ له، ويجتمع لها الأهل والأقارب والجيران والأصدقاء والمعارف، فتحصل الألفة والمودة والأنس والتقارب. ولنقف عند وليمة الزواج والدعوة إليها الوقفات الآتية:
أولاً: أنَّها من السنن المستحبة عند أكثر العلماء، ومنهم من قال بوجوبها، روى أبو هريرة أن رسول الله قال: ((الوليمة حقٌ وسنة، فمن دعي فلم يجب فقد عصى الله ورسوله)) رواه الطبراني.
ولم يترك النبي الوليمة في النكاح قط، بل أولم لجميع نسائه، ووجه أصحابه إلى ذلك، كما في قصة عبد الرحمن بن عوف .
ثانيًا: أن وقت الوليمة موسَّع من عقد النكاح إلى ما بعد الدخول، والذي عليه أكثر العلماء أن النبي صنع هذه الوليمة بعد الدخول، فقد ورد أنه أصبح عروسًا بزينب فدعا القوم إلى الطعام، والعملُ عند أكثر الناس اليوم أنها تكون قبل الدخول، ولا حرج في ذلك، إذ ليس بين عمل الوليمة والدخول إلا وقت يسير، وهذا ما جرت عليه عادة الناس، فالعادة مُحَكَّمة.
ثالثًا: أن يولم بشاة أو أكثر، لا سيما إذا كان ممن أنعم الله عليه بالغنى والسَّعة، لكن لا يصل ذلك إلى حد الإسراف المنهي عنه. وفي حديث عبد الرحمن بن عوف أن النبيّ قال له: ((أولم ولو بشاة))، وروى أنس قال: ما رأيت رسول الله أولم على امرأة من نسائه ما أولم على زينب، فإنه ذبح شاة فأطعمهم لحمًا وخبزًا حتى تركوه. متفق عليه.
رابعًا: لا يشترط أن تكون الوليمة باللحم، بل هي جائزة بأي طعام يتيسر ولو كان خاليًا من اللحم، وفي عمل النبيّ حين أولم لبعض نسائه لم يكن في طعام الوليمة لحم، فعن أنس أن النبي أولم على صفية بتمر وسويق، وعن صفية بنت شيبة أن النبيّ أولم على بعض نسائه بمد من شعير. رواه البخاري.
خامسًا: يستحب أن يشارك الأغنياء والقادرون في إعداد الوليمة وتوفير متطلباتها، وأن يكون لهم دور بارز في ذلك، وفي قصة زواج النبي بصفية رضي الله عنها أنه دخل بها فلما أصبح قال : ((من كان عنده شيء فليأت به))، فجعل الرجل يجيء بفضل التمر والسويق، وجعل الرجل يجيء بالأقط، والرجل يجيء بالتمر، والرجل يجيء بالسمن، فجعلوا من ذلك حَيْسًا، فأكلوا منه، وشربوا من حياض إلى جنبهم من ماء السماء، فكانت تلك وليمة رسول الله على صفية رضي الله عنها. رواه مسلم.
وقد جرت عادة كثير من الناس في مجتمعنا أن يسهموا مع الزوج في القيام بتكاليف الوليمة ومؤنة الزواج وإعانته على ذلك، من باب التكافل والمودة والمحبة، وهي طريقة محمودة، تعطي دلالة واضحة على صدق التعاطف مع الزوج وسخاء النفس وطيب القلب.
سادسًا: من السنة أن تكون الدعوة إلى وليمة الزواج شاملة للأهل والأقارب والجيران والأصدقاء والأغنياء والضعفاء والقادرين والمعدمين، ولا يجوز أن يخص الداعي الأغنياءَ بالدعوة، أو يقتصر على دعوة الأثرياء وذوي الوجاهة والغنى، فقد قال : ((شر الطعام طعام الوليمة، يُدعى لها الأغنياء، ويُمْنَعُها المساكين، ومن لم يجب الدعوة فقد عصى اللهَ ورسولَه)) رواه مسلم. ذلك أن الفقير والمسكين بحاجة إلى الطعام، وهو الذي إذا دُعي بادر وأسرع في تلبية الدعوة وأجاب، بخلاف الغني فإنه قد يستثقل المجيء فلا يجيب، وهذا المراد من الحديث السابق، ومعناه أن شر طعام الوليمة ما اقتُصر فيه على دعوة الأغنياء وترك الفقراء، وليس المراد أن كل وليمةٍ طعامها شر الطعام، وإلاَّ لما حث عليه الصلاة والسلام على إجابتها وأوجب ذلك على المدعو.
سابعًا: لو أمعنا النظر في حال كثير من الناس اليوم، لوجدنا عدة مخالفات ترتكب عند إقامة ولائم الزواج، منها تعمد البعض المفاخرة في وليمة زواجه أو زواج قريبه أو قريبته، بحيث يختار لها أفخم قاعات الفنادق وأغلى قصور الأفراح وأرقى صالات الاحتفالات، ويدفع مقابل ذلك مبالغ مالية باهظة، ويحرص البعض على ذلك رغبة في الظهور بمظهر الغني القادر، وتقليدًا أو محاكاة للآخرين، حتى يظهر أمام أهل الزوجة بمظهر الثري الذي لا يعجز أن يفعل مثلَ أو أكثر مما فعله غيره، وهذه نظرة خاطئة تجلب كثيرًا من المتاعب للشباب الذين لا يطيقون تحمل الأعباء المالية التي تزيدهم إرهاقًا مع دفع المهور المرتفعة، مما يُشكل عبئًا ماليًا كبيرًا، من شأنه أن يؤدي بالكثير منهم إلى الإحجام عن الزواج مع شدة الرغبة والتوقان إليه.
ثامنًا: أن إقامة ولائم الزواج لا تخلو في معظم حالاتها اليوم من الإسراف المتناهي، حيث يظهر البذخ والتبذير بتقديم الأطعمة من اللحوم وأنواع المأكولات والمشروبات والحلوى وغير ذلك بكميات كبيرة، تزيد في أكثر الحفلات عن أعداد المدعوين، إذ إن من يُدعى لحضور الولائم يتخلف كثيرٌ منهم، فتبقى تلك الأطعمة، ولا يؤكل إلا القليل منها، ويكون مصير الباقي منها الإتلاف دون الإفادة منها، أو توزيعها على الفقراء والمساكين والمعوزين والمحتاجين.
وذلك كله بسبب مخالفة الهدي الإلهي والتوجيه الرباني: يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ [الأعراف:31]، وعدم التقيد بالإرشاد النبوي الوارد في قول المصطفى الكريم : ((كلوا واشربوا وتصدقوا في غير إسراف ولا مخيلة)) رواه أحمد والنسائي.
فإلى متى يتمادى بعض النَّاس في الإعراض عن الضوابط الشرعية التي وضعها الإسلام في دعوته إلى الاعتدال والتوسط بين الإسراف والتقتير في المآكل والمشارب والملابس وما يقدم في الحفلات والمناسبات، وبالأخص ولائم الزواج والأعراس
ــــــــــــــــــــ(67/244)
الاعتدال في حفلات الزواج
...
...
4086
...
الأسرة والمجتمع, فقه
...
...
النكاح, قضايا المجتمع
...
عبد الكريم بن صنيتان العمري
...
...
المدينة المنورة
...
...
...
جامع الصانع
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- إقامة الوليمة في النكاح سنة ثابتة. 2- استحباب تعميم الدعوة للوليمة على كافة طبقات المجتمع. 3- وجوب إجابة الدعوة إذا كانت خاصة. 4- خطأ ما يفعله بعض الأولياء من اشتراط الأماكن الفارهة لإقامة الوليمة. 5- القصد من بطاقة الدعوة هو الإعلام بموعد الزواج. 6- الإسراف والبذخ في طعام الوليمة. 7- التحذير من المنكرات المصاحبة للوليمة. 8- عزوف كثير من الشباب عن الزواج بسبب تكاليفه الباهظة.
الخطبة الأولى
إقامة الوليمة للزواج وإعداد الطعام ودعوة الأهل والأقارب والأصدقاء سنة مشروعة، فعن أنس أن النبيّ أولم على زينب بشاة، وقال لعبد الرحمن بن عوف: ((أولم ولو بشاة)) متفق عليه.
وتستحب الدعوة إلى وليمة العرس، ومن دُعي إليها لزمته الإجابة لقوله : ((أجيبوا هذه الدعوة إذا دعيتم لها)) متفق عليه.
ولا ينبغي للداعي أن يخصّ بالدعوة عِليةَ القومِ وأثرياءهم ووجهاءهم ويؤكد على الأغنياء والأعيان ويهمل الفقراء والمساكين، بل يدعو أهل الصلاح والتقوى وإخوانه المسلمين أيًّا كان مستواهم الاجتماعي وحالهم المادي، قال : ((شرّ الطعام طعام الوليمة؛ يُدعَى لها الأغنياء، ويُترك الفقراء، ومن لم يجب الدعوة فقد عصى الله ورسوله)) متفق عليه، وعن جابر قال: قال رسول الله : ((إذا دُعي أحدكم إلى طعامٍ فليجب، فإن شاء طعِم وإن شاء ترك)) رواه مسلم.
ومراده بقوله: ((شر الطعام طعام الوليمة)) أي: طعام الوليمة التي يُدعى إليها الأغنياء ويترك الفقراء، ولم يرد أن كل وليمة طعامها شرّ الطعام، فإنه لو أراد ذلك لما أمر بها، ولا حثّ على الإجابة إليها، ولا فعلها، ولأن الإجابة تجب بالدعوة، فكل من دُعي فقد وجبت عليه الإجابة.
ولنتوقف عدة وقفات، نتعرّض خلالها لبعض المظاهر الاجتماعية الحالية المصاحبة لإقامة حفلات الزواج ووليمته:
الوقفة الأولى: إن وجوب إجابة الدعوة إنما يكون في حالة ما إذا خصَّه بالدعوة بعينه، بأن قال: يا فلان، أنت مدعوّ للحضور، أو أرسل إليه شخصًا أو بطاقة أو هَاتَفَه أو نحوَ ذلك، أما إذا دعاه دعوة عامة، كأن يكون في اجتماع فيه عدد كبير أو في مسجد أو نحو ذلك فقال: أيها الناس، أنتم مدعوّون لحضور الوليمة، ففي مثل هذه الحالة لا تلزم الإجابة، إلا إذا دَعَا كلَّ شخص بعينه.
الوقفة الثانية: إن بعض الأولياء يشترط إقامة حفل الزواج في أغلى الفنادق أو في أفخم قصور الأفراح أو أغلى صالات الاحتفالات أو أجمل القاعات، وهذا من أكبر الأخطاء المصاحبة لإقامة الحفل، فإنّ الغالب هو قصدُ المباهاة والمفاخرة، والتقليد الأعمى للآخرين، وحُب الظهور على حساب الزوج الذي يلجأ في معظم الحالات إلى استدانة الأموال أو الاقتراض من غيره حتى يلبي تلك الرغبة، وفي ذلك إهدار للأموال وتضييع وصرف لها في غير محلها، وقد نَهى النبي في أحاديث كثيرة عن إضاعة المال.
الوقفة الثالثة: يعمد بعضُ الأزواج إلى إعداد بطاقات الدعوة وطباعتها بأشكال جذابة وألوان مختلفة وإطار مزخرف، واختيار أغلى البطاقات ثمنًا وأعلاها كلفة، وكتابتها بصيغتين مختلفتين: واحدة للرجال وأخرى للنساء، وهذه مبالغة غير محمودة، وتبذير وتحمل لمبالغ طائلة، والمقصود من إرسال البطاقة إلى المدعوين إنما هو إعلامهم بموعد ومكان إقامة الوليمة، وذلك يحصل بأقل من هذه التكلفة.
الوقفة الرابعة: إعداد وليمة الزواج بأحجامٍ يظهر فيها الإسراف والبذخ والتبذير، إذ يعمد القائمون عليها إلى إعداد أنواع الأطعمة وأصناف المأكولات والمشروبات من اللحوم والأرز والفواكه والحلوى والعصيرات، ويعدّ ذلك بكميات كبيرة فائضة عن أعداد المدعوين الذين قد يتخلّف الكثير منهم عن الحضور، فتزيد تلك الأطعمة، وتبقى كما هي، لم يؤكل منها إلا الشيء اليسير، ويبقى الكثيرُ منها دون الإفادة منه. وفي ذلك مخالفة شرعية صريحة للنصوص الإلهية والأحاديث النبوية التي حذرت من الإسراف بشتى صوره، ونهت عن التبذير بمختلف أشكاله.
فقد أمر الله تعالى بالتوسط والاعتدال في الأكل والشرب، فقال جل ذكره: يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ [الأعراف:31]. قال ابن عباس رضي الله عنهما: أحل الله تعالى في هذه الآية الأكل والشرب ما لم يكن سرفًا أو مخيلة. وقد ورد هذا المعنى عن رسول الله بقوله: ((كلوا واشربوا والبسوا وتصدقوا من غير إسراف ولا مخيلة، فإن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده)) رواه أحمد.
وذكر الله تعالى من صفات عباده المتقين: وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا [الفرقان:67]، وقال جل شأنه: وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا [الإسراء:26، 27]، والآيات والأحاديث في هذا المعنى كثيرة، كلها تدعو إلى الاعتدال، وترغب في القصد والاقتصاد، وتنهى عن التبذير والإسراف، أوَلَم يكفنا اتباع سيرة رسول الله وأصحابه رضي الله عنهم التي كانت مليئة بمجاهدة النفس والأهل والعيش على الكفاف والخشونة والتقشف؟! وحين يدرك المسلم ذلك يقف مشدوهًا لما يراه من الإسراف والتبذير.
وإن الناظر لما عليه الحال في بعض المجتمعات البائسة التي تعيش حالات الجوع والفقر يدرك ما أنعم الله به علينا، فيدفعه ذلك إلى مزيد من الشكر والثناء والإقرار بنعم الله وحفظها وصونها ومراقبة الله تعالى فيها والخوف من أليم عقابه وشديد انتقامه، وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ [إبراهيم:7].
الوقفة الخامسة: يضاف إلى ما تقدم من الإسراف ما يصحب الحفلَ من المخالفات الشرعية والأمور المنكرة كالتصوير والغناء والمبالغة في سائر الأمور، والزوج في النهاية هو الذي يتحمل تلك المبالغ المالية الباهظة المترتبة على تلك الاحتفالات التي أفرزت إنفاقه مبالغ كبيرة، كان الافتخار والمباهاة وحب الشهرة والتقليد الأعمى وطاعة النساء وتنفيذ آرائهن هو الدافع وراء ذلك كله.
فلنتق الله تعالى في أمرنا كله، ولنلتزم جانب الاعتدال والاقتصاد في سائر نفقاتنا، وبالأخص ما يتعلق بنفقة وتكاليف الأفراح، فإن كثيرًا من الشباب عندما يرى أو يسمع بتلك النفقات يقدّم رِجلاً ويؤخّر أخرى، بل ربما يصرف النظر عن الزواج لعدم قدرته على الوفاء بما يتطلبه، فتتعطّل سنة الزواج التي حثّتنا عليها الشريعة الإسلامية، ورغبنا فيها الرسول المصطفى الكريم عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم
ــــــــــــــــــــ(67/245)
حقوق الزوج على الزوجة
...
...
4087
...
الأسرة والمجتمع, فقه
...
...
النكاح, قضايا الأسرة
...
عبد الكريم بن صنيتان العمري
...
...
المدينة المنورة
...
...
...
جامع الصانع
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- حث الإسلام على حسن المعاشرة بين الزوجين. 2- أهم ا لحقوق الواجبة للزوج على زوجته: الطاعة في المعروف، عدم خروجها إلا بإذنه، عدم الإذن أحد في بيته إلا بإذنه، أن تصون نفسها عن غيره، إجابة الزوج إلى فراشه، الاعتراف بفضل الزوج، المحافظة على ماله، عدم صيام النفل حال وجوده إلا بإذنه، المعاشرة الحسنة، الحرص على مواساته وإدخال السرور عليه، خدمتها له، أن لا تتصدق من ماله إلا بإذنه.
الخطبة الأولى
قال الله تعالى في كتابه الكريم مخاطبًا الأزواج: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا [النساء:19]، وقال : ((خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي)) رواه الترمذي وصححه.
لقد أوجب الإسلام على الزوجين أن يعاشر كلُّ واحد منهما صاحبه بالمعروف، وذلك لما للمعاشرة الحسنة من أهمية كبيرة في سعادتهما، واستمرارِ حياتهما الزوجية، وتقوية صلة كلٍّ منهما بالآخر، فيجدُ كلُّ واحد منهما الأنس بصاحبه والمحبةَ له والفرح بلقائه.
وللزوج حقوق على زوجته أوجبها الشارع ورتبها، وحث الزوجة على الالتزام بها، حتى تدوم الألفة والمودة بينهما. ومن خلال تتبع النصوصِ الواردة في ذلك من الكتاب والسنة يمكن أن نلخص أهم الحقوق الواجبة على الزوجة لزوجها بما يأتي:
أولاً: يجب على الزوجة طاعةُ زوجها وقبول أمره ما لم يكن معصية، قال تعالى: الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا [النساء:34]، ولا تكون المرأة صالحة إلا إذا كانت مطيعة لزوجها. وروى أبو هريرة قال: قال رسول الله : ((لو كنتُ آمرًا أحدًا أن يسجد لغير الله لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها، والذي نفس محمد بيده، لا تؤدي المرأة حق ربها حتى تؤدي حقَّ زوجها كلَّه، حتى لو سألها نفسها وهي على قتب لم تمنعه)) رواه أحمد وابن حبان.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "قوله تعالى: الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا [النساء:34]، يقضي وجوب طاعتها لزوجها مطلقًا، فإن المرأة إذا تزوجت كان زوجها أملك بها من أبويها، وطاعة زوجها عليها أوجب".
ثانيًا: عدم خروجها من بيته إلا بإذنه، قال تعالى: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا [الأحزاب:33]، ففي الآية دلالة على أن النساء مأمورات بلزوم البيت، منهياتٌ عن الخروج.
وفي الحديث قال : ((إذا استأذنت المرأة أحدكم إلى المسجد فلا يمنعها)) متفق عليه، فيفهم من الحديث أنها إذا أرادت الخروج لا بد أن تستأذن، كما يُفهمُ منه أن للزوج منع زوجته من الخروج إلا ما استثني شرعًا، فالإسلام حينما جعل بيت المرأةِ قرارًا لها، وحذرها من الخروج منه، فإنه أباح لها الخروج عند الحاجة أو الضرورة، ومن ذلك الخروج لحضور صلاة الجماعة في المسجد كما في الحديث السابق، وكذا الخروج إلى مصلى العيد أو الجهاد أو ما إليه ضرورة.
إنَّ الإسلام دين حكمة، يضع الأمور في مواضعها، فهو يأمر المرأة بالقرار في البيت وعدم الخروج لغير حاجة، فإذا جاء وقت الحاجة أباح لها أن تخرج، وتعمل في أحرج المواقف وأشدها خطرًا، وهي أوقات الحروب، وأعمال المرأة تختلف فيها باختلاف الأحوال، فهي تسقي تارة، وتداوي أخرى، وتحمل السلاح لتدافع عن نفسها، فالإسلام حكيم عادل، بخلاف ما يدعو إليه دعاة الضلال الذين يغرون المرأة بالخروج إلى أماكن اللهو والفجور ومواطن الشك والارتياب، والمواقع الأخرى التي لا حاجة لوجود المرأة فيها، إذ يُكتفى فيها بالرجال.
ومع أن الإسلام أمر المرأة بعدم الخروج، إلا أن حسن المعاشرة يحتم على الزوج أن يكون حكيمًا، وأن يدرك أن المرأة ليست حبيسة المنزل، فيأذن لها في الخروج فيما تحتاج في نفسها، أو ما تحتاجه من زيارة أبويها أو أقاربها؛ لأن في ذلك صلة للرحم التي أمر الشرع بصلتها، وهذا مشروط بأن لا يكون في خروجها ضرر يعود على زوجها أو على نفسها، فإن وجد شيء من ذلك تعين على الزوج منعها.
لقد اجترأ كثير من النساء في هذا الزمن للخروج من بيوتهن بلا ضرورة، بل لارتياد المتاجر، لا لشراء ما هن في حاجة إليه، بل لمعرفة ما استحدث من نماذج وموضات جديدة للملابس التي تظهر المفاتن، وتكشف عما أُمرت المرأة بستره، وكأنها بخروجها تعرض مفاتنها لتوجه أنظار الرجال إليها، أو تثير إعجابهم بمحاسنها، وأصبح خروجها بهذه الطريقة عادة مألوفة في كثير من المجتمعات، وقد توعد النبيّ المرأة التي تخرج على تلك الصفة، فقال: ((أيما امرأة استعطرت ثم خرجت فمرَّت على قوم ليجدوا ريحها فهي زانية، وكل عين زانية)) رواه أحمد والنسائي.
ثالثًا: ومن حق الزوج على زوجته أن لا تأذن لأحد بدخول بيته إلا بإذنه، فقد قال : ((ولا تأذن في بيته إلا بإذنه)) متفق عليه.
رابعًا: أن تصون نفسها عن غيره، فتحافظ على فراش زوجها، ولا تتساهل في خلوة أي أجنبي بها، ولا سيما أقارب الزوج وأقاربها الذين ليسوا بمحارم، فقد حذر رسول الله من الخلوة بالمرأة بصفة عامة، وحذر من الأقارب غير المحارم بصفة خاصة، فقال : ((إياكم والدخول على النساء))، فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله، أفرأيت الحمو؟ قال: ((الحمو الموت)) متفق عليه.
خامسًا: إجابة الزوج إذا طلبها إلى فراشه، فإن عصيانه في هذه الحالة من أكبر المعاصي، روى أبو هريرة قال: قال رسول الله : ((إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فأبت أن تجيء فبات غضبان عليها لعنتها الملائكة حتى تصبح)) متفق عليه، وقال : ((إذا دعا الرجل زوجته لحاجته فلتأته وإن كانت على التنور)) رواه الترمذي وَحَسَّنَه.
سادسًا: الاعتراف بفضل الزوج عليها وعدم إنكار معروفه، فلا تنكر الزوجةُ ما قدمه لها وأسداه إليها من معروف، فإن كثيرًا من النساء تجحد فضل زوجها عليها، وخاصة عندما تغضب، وذلك من أسباب دخولها النار، قال : ((ورأيتُ النار، فلم أرَ كاليوم منظرًا قطُّ، ورأيتُ أكثر أهلِها النساء))، قالوا: بم يا رسول الله؟ قال: ((بكفرهنَّ))، قيل: أيكفرنَ بالله؟ قال: ((يكفرن العشير، ويكفرنَ الإحسان، لو أحسنتَ إلى إحداهنَّ الدهر ثم رأت منك شيئًا قالت: ما رأيتُ منك خيرًا قطُّ)) متفق عليه.
سابعًا: أن تحفظ ماله ولا تفرط فيه أو تبعثره، فلا يجوز للزوجة أن تضيع مال زوجها الذي تعب في تحصيله وتحمل المشاق في جلبه وكسبه، سواء كان ذلك نقودًا أو طعامًا أو ملابس أو أثاثًا أو غير ذلك، فليس لها أن تبذر إذا أنفقت منه؛ لأنه قد ائتمنها على ذلك، وتبذيرها له خيانة، والخيانة من صفات المنافقين، وليس لها الحق في أن تتصرف بشيء من ماله دون إذنه ورضاه، إلا إذا كان حريصًا على المال حرصًا شديدًا، بحيث لا يوفر لها حتى النفقة على نفسها وأولادها، فيجوز لها حينئذ أن تأخذ ما يكفيها ويكفي أولادها بقدر الحاجة. يدل لذلك حديث عائشة رضي الله عنها قالت: جاءت هندُ إلى رسول الله فقالت: يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل شحيح، وليس يعطيني ما يكفيني وولدي إلا ما أخذت منه وهو لا يعلم، فقال : ((خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف)) متفق عليه.
ثامنًا: أن لا تصوم صيام تطوع وزوجها موجود إلا بعد أن تستأذنه، فعن أبي هريرة أن رسول الله قال: ((لا يحل للمرأة أن تصوم وزوجها شاهد إلا بإذنه)) متفق عليه.
قال الحافظ: "والحديث دليل على أن حق الزوج آكد على المرأة من التطوعِ بالخير؛ لأن حقه واجب، والقيام بالواجب مقدم على التطوع"، وقال الإمام النووي: "وسبب هذا التحريم أن للزوج حق الاستمتاع بزوجته في كل وقت، وحقه واجب على الفور، فلا تفوته بالتطوع"، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية وقد سئل عن امرأة تصوم النهار وتقوم بالليل، وكلما دعاها الزوج إلى فراشه تتمنع قال: "لا يحل لها ذلك باتفاق المسلمين، بل يجب عليها أن تطيعه إذا طلبها إلى الفراش، وذلك فرض واجب عليها، وأما قيام الليل وصيام النهار فتطوع، فكيف تقدّمُ مؤمنةٌ النافلةَ على الفريضة؟!".
تاسعًا: أن تعاشره معاشرة حسنة، فتبتسم في وجهه، وتظهر البشر والسرور، وتتجمل له، وتظهر أمامه بالمظهر الذي يعجبه، وتعمل كل ما من شأنه أن يحببها إليه ويرغبها فيه، ولا ينبغي أن تظهر أمامه بمظهر ينفر منه، كأن تلبس ملابس سيئة المنظر، أو تقترب منه وبها روائح غير مناسبة من آثار الطبخ وغيره، فإن ذلك من شأنه أن يكرّه الزوج فيها، ويُنَفِّره منها، وقد يعقبه بغض شديد لها، لا سيما إذا داومت على ذلك المظهر السيئ.
وكثير من النساء لا تعتني بمظهرها أمام زوجها، لا في ملبسها ولا في نظافتها، وتعكس ذلك إذا خرجت في زيارة خارج المنزل، فتراها تعتني بنفسها وتلبس أجمل ثيابها، وهذا الفعل يعتبر من أسوأ الأفعال وأشنع الصفات التي تصدر من الزوجة مع زوجها، فإنه أحق بتجملها وتنظفها وتطيّبها، وإنَّ امرأةً تفعل مثل هذا توشك أن تعيش حياة نكدة، وتجلب على نفسها وعلى زوجها البلاء والشقاء إذا ما صبر عليها وأبقاها زوجة له، والغالب أن مثلها لا تبقى مع الزوج إلا إذا كان مضطرًا اضطرارًا يلجئه إلى بقائها.
عاشرًا: أن تواسيه، وتعمل على فعل الأسباب التي تدخل عليه البهجة والسرور، وتزيل عنه الهمَّ والغم والتعب، وتهدئه في حال الغضب بالأساليب المناسبة، والرجل في حاجة إلى مواساة امرأته وتسكينها إياه في حالات الغضب، أو نزول حوادث محزنة، كموت ولدٍ أو فقد مال أو ما أشبه ذلك، ولقد ضربت أم سليم زوج أبي طلحة رضي الله عنهما أنصع مثال في هذا، فعن أنس بن مالك قال: مات ابن لأبي طلحة من أم سليم فقالت لأهلها: لا تحدثوا أبا طلحة بابنه حتى أكون أنا أحدثه، فلما جاء قرَّبت إليه العشاء فأكل وشرب، قال: ثم تزينت له أحسن ما كانت تفعل قبل ذلك فبات معها، ثم قالت له: يا أبا طلحة، أرأيت لو أن قومًا أعاروا عاريتهم أهل بيت فطلبوا عاريتهم ألهم أن يمنعوهم؟ قال: لا، قالت: فاحتسب ابنك، قال: فغضب وقال: تركتِني حتى تلطختُ، ثم أخبرتِني بابني، فانطلق حتى أتى رسول الله فأخبره بما كان، فقال له رسول الله : ((بارك الله لكما في ليلتكما)) متفق عليه.
حادي عشر: أن تقوم بالخدمة في بيته، وتصبر على ما قد تعانيه من تعب ومشقة، وليس الزوج ملزمًا بأن يؤمّن لها خادمةً، بل الصحيح من أقوال العلماء أنه يجب على الزوجة خدمة زوجها، ويدل لذلك حديث علي أن فاطمة رضي الله عنها بنت رسول الله أتت النبيّ تشكو إليه ما تلقى في يدها من الرحى، وبلغها أنه جاءه رقيق فسألته خادمًا، فقال النبيّ : ((ألا أدلكما على خير مما سألتما؟ إذا أخذتما مضاجعكما ـ أو أويتما إلى فراشكما ـ فسبّحا ثلاثًا وثلاثين، واحمدا ثلاثًا وثلاثين، وكبرا أربعًا وثلاثين، فهو خير لكما من خادم)) متفق عليه.
وفي بنت رسول الله التي جُرحت يدُها مما تزاول من أعمالِ بيتها أسوة حسنة لزوجات المؤمنين، وقد كان نساء النبيّ وغيرهن من نساء الصحابة يخدمن أزواجهن في بيوتهن وخارج بيوتهن إذا دعت الحاجة، ولا خير في حدوث إشكالٍ بين الزوجين بسبب خدمة البيت، والخيرُ في تعاونِهما جميعًا، والله تعالى يأمر المؤمنين بالتعاون، وهو بين الزوجين آكد من غيرهما.
قال ابن القيم رحمه الله: "إن عقد الزواج يُنزلُ على العرف السائد بين الناس، والعرف بين الناس أن الزوجة تقوم بخدمة الزوج كما تقوم بشؤون البيت الداخلية".
ثاني عشر: أن لا تتصدق من مال زوجها إلا بإذنه، لما روى أبو أمامة الباهلي قال: سمعت رسول الله يقول: ((لا تنفق المرأة شيئًا من بيتها إلا بإذن زوجها))، قيل: يا رسول الله، ولا الطعام؟! قال: ((ذلك أفضلُ أموالنا)) رواه أحمد. غير أن المتصَدَّقَ به إذا كان يسيرًا من عادة الزوج أن يسمح بمثله فللزوجةِ التصدق به ولو لم يأذن الزوج.
هذه هي أهم الحقوق والواجبات التي يلزم المرأة أن تقوم بها، وإن التوافق بين الرجل وزوجته وحسن المعاملة بينهما وتحمل كل واحد منهما صاحبه مما يضفي على حياتهما جوًا من السعادة والبهجة، ويغرس في قلبيهما المودة والرحمة، فليست الشكليات الزائفة والمظاهرُ البراقة التي قد تعمد بعض الأسر إلى توفيرها عنوانًا على السعادة، بل ربما كانت سببًا رئيسًا في إحداث نوع من الخلل داخل الأسرة، وإن قناعة الزوجة بما يقدمه زوجها وما يمكن أن يسعدها به على قدر استطاعته مما يجعل المرأة كبيرةً في عين زوجها قد اكتسبت محبته ورضاه، وقد قال : ((أيما امرأة ماتت وزوجها عنها راضٍ دخلت الجنة)) رواه الترمذي.
ــــــــــــــــــــ(67/246)
حقوق الزوجة على الزوج
...
...
4088
...
الأسرة والمجتمع, فقه
...
...
النكاح, قضايا الأسرة
...
عبد الكريم بن صنيتان العمري
...
...
المدينة المنورة
...
...
...
جامع الصانع
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- تكريم الإسلام للمرأة. 2- من حقوق الزوجة على زوجها: حسن العشرة، النفقة والكسوة، تعليمها أمور دينها، السماح لها بالخروج عند الحاجة، أن يحفظها ويصونها، العدل بين الضرائر.
الخطبة الأولى
لقد كانت المرأة في كثير من المجتمعات القديمة لا اعتبار لها ولا قيمة، بحيث ينظر إليها الرجل نظرة ازدراء واحتقار، لا يعتد بها، وليس لها أي منزلة في المجتمع، بل كانت تقوم بأدوارٍ تافهةٍ وضيقة.
ولما جاء الإسلام أبرز مكانة المرأة، وبوّأها منزلةً مرموقة، وقرر لها من الحقوق والواجبات ما لم يكن من قبل، فقرر لها أهلية التملك كالتملك بالإرثك لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا [النساء:7]، وقرَّر صلاحيتها للعبادة والتكاليف الشرعية وألزمها بذلك: وَمَنْ يَعْمَلْ مِنْ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا [النساء:124].
وأناط الإسلام بالمرأة كثيرًا من المهام، وكان النبي يخص النساء بتوجيهاته الكريمة، ويحث الرجال على الإحسان إليهن وعدم الإضرار بهن، فقال : ((استوصوا بالنساء خيرًا)) متفق عليه.
وجعل الإسلام للمرأة حقوقًا، وألزم الزوج أن يقوم بِها ويعمل على تحقيقها: وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [البقرة:228]، فلهن من حقوق الزوجية على الرجال مثل ما للرجال عليهن.
ويجدر بنا أن نقف على أهم تلك الحقوق الواجبة للزوجة، فمنها:
أولاً: أن يعاشرها معاشرة حسنة، بلطف ولين، وأن لا يغلظ عليها في الكلام، ويبتعد عن أسلوب الزجر والتوبيخ في كل أمر من الأمور، بل يصبر على ما قد يبدر منها مما لا ينبغي، كأن تتنكر له، أو تجحد معروفه، فإن هذا من طبائع النساء، فليكن سمحًا لينًا في غير ضعف وقت تعامله معها، فإنه لو قابل الشدة بمثلها والعنف بالعنف ربما أدى ذلك إلى فصم العلاقة بينهما، وتشتيت شمل الأسرة، وقد نبَّه الرسول إلى ذلك، فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((إن المرأة خُلقت من ضِلع، لن تستقيم لك على طريقة، فإن استمتعتَ بها استمتعتَ بها وبها عِوجٌ، وإن ذهبتَ تقيمها كسرتَها، وكسرُها طلاقُها)) رواه مسلم، وقال : ((لا يَفْرَكْ مؤمنٌ مؤمنةً، إن كره منها خُلقًا رضي منها آخر)) رواه مسلم.
ثانيًا: أن ينفق عليها ويكسوها على قدر حاله من غنى وفقر وما بينهما، ولا يتكلَّف ما لا يطيق، قال تعالى: لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا [الطلاق:7]، وقال تعالى: أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى [الطلاق:6].
ونفقة الزوجة مقدمة على نفقة غيرها، وهي حق ثابت لها بمقتضى عقد النكاح، سواء كانت الزوجة غنية أم فقيرة، موظفة أم ربة بيت أم طالبة؛ لأن سبب وجوبِ النفقة هو الزواج الصحيح، وذلك أمر متحقق في سائر الزوجات، وقد قال : ((ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف)) رواه مسلم.
ومع أن النفقة حق للزوجة فإن الزوج يؤجر عليها، وينال الثواب من الله تعالى بإنفاقه على زوجته، فقد قال : ((دينارٌ أنفقتَه في سبيل الله، ودينارٌ أنفقتَه في رقبة، ودينار تصدقتَ به على مسكين، ودينار أنفقتَه على أهلك، أعظمها أجرًا الذي أنفقتَه على أهلك)) رواه مسلم.
فإن كان الزوج شحيحًا ولا يعطيها ما يكفيها وأولادها من النفقة والكسوة واستطاعت أخذ شيء من ماله دون علمه فلها ذلك، بشرط أن يكون ما تأخذه على قدر حاجتها دون إسراف ولا تبذير، قال لهند امرأة أبي سفيان: ((خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف)) متفق عليه.
ثالثًا: أن يعلمها أمور دينها التي لا غنى لها عنها، كالطهارة بأنواعها وأركان الإسلام الخمسة، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ [التحريم:6]، ووقاية الأهل من النار تحصل بتعليمهم ما يجب عليهم وما يحرم، وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، كما يجب أن يبصِّرَها بحقوقه عليها حتى تقوم بأدائها، فلا يحصل بينهما نزاع بجهلها تلك الحقوق.
رابعًا: السماح لها بالخروج إذا احتاجت إليه كزيارة والديها وأقربائها وجيرانها، ويسمح لها بالصلاة في المسجد، إن لم يكن ثمة ضررٌ يترتب على خروجها، وكان خروجها إليه خروجًا شرعيًا بحيث لا تمس طيبًا، ولا تظهر زينة تفتن بها الرجال، فمن السنة أن يأذن لها، قال : ((لا تمنعوا إماء الله مساجد الله، وبيوتهن خير لهن)) رواه أحمد وأبو داود.
خامسًا: أن يحفظ زوجته ويحرص على عفتها وكرامتها واحتشامها بالبقاء في بيتها وعدم الخروج منه لغير حاجة، وإذا خرجت يجب أن تكون محتجبةً غير سافرة؛ لئلا يطمع بها الآخرون، والرجل الذي يسمح لزوجته أن تخرج بين الرجال الأجانب مظهرة لزينتها ويتركها تختلط بِهم رجل ديوث، قد فقد شعور الإنسانِ النزيه، مخالف للدين الذي أمرها بالتستر والاحتشام، وقد أصبح بعض الرجال لا يبالي من أن يكون كذلك، فيترك لامرأته الحرية التامة في أن تلتقي بالرجال الأجانب وتصافحهم وتتحدث معهم وهي سافرة مبدية لزينتها، وقد قيل:
إنَّ الرِجالَ الناظرين إلى النِّسا مثلُ الكلابِ تطوف باللّحمان
إن لم تَصُنْ تلكَ اللحومَ أسودُها أُكِلَتْ بلا عوضٍ ولا أثمانِ
سادسًا: أن يعدل بينها وبين ضرائرها، فإن الله تعالى حين أباح للرجل التعدد قيد ذلك بالعدل بينهن: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُوا [النساء:3].
وقد حذر من ترك العدل وتفضيل إحدى الزوجات، فقال : ((من كانت عنده امرأتان فلم يعدل بينهما جاء يوم القيامة وشقه مائل)) رواه الترمذي، وكان يقسم فيعدل ويقول: ((اللهم هذا قسمي فيما أملك، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك)) رواه أبو داود. يعني: ميل القلب ومحبته للزوجة الأخرى.
والعدل بين الزوجات يكون في أمور كثيرة منها المبيت، فيجب عليه أن يساوي بين الزوجات في مبيته، فإذا بات عند هذه ليلة بات عند الأخرى مثلها، وقد كان يقسم بين زوجاته. وكذلك إذا أراد أن يسافر وبصحبته إحداهن، فإن رضين بسفر من يريد منهن وإلا أقرع بينهن، كما كان يفعل النبيّ . ويجب عليه أن يساوي بين زوجاته في النفقة والكسوة والعطية، ولا يفضل إحداهن على الأخرى.
إن احترام كل من الزوجين لصاحبه وتقديره له والبشاشة في وجهه مما يقوي العلاقة بينهما، ويغرس روح المودة والأنس في نفسيهما، وإن حسن المعاشرة بين الزوجين تتمثل في مراعاة كل واحد منهما حق صاحبه.
فليحافظ كل منهما على الأدب في مخاطبة الآخر، وليستجلب مودته ومحبته، وليتنازل عما يراه من الآخر من زلة في القول أو خطأ في المعاملة، وليقابل ذلك بالصبر والكلمات الرقيقة والعبارات اللطيفة، ويحفظ حق صاحبه، فالمرأة العاقلة هي التي تكسب ود زوجها، وتصون عرضها، ولا تثقل كاهل الزوج بكثرة الطلبات وزيادة التنقلات، وتبعثر أمواله بشراء الكماليات، بل تعمل جاهدة على حفظ ماله، فلا تصرفه إلا فيما يعود بالنفع عليها وعلى أولادها.
والزوج العاقل الوفي هو الذي يلتزم بحقوق زوجته عليه، فيوفر لها ما تحتاجه، ويهتم بأولاده، فيجلس معهم، ويرعى شؤونهم وحاجاتهم، فلا يكثر السهر خارج المنزل إلى ساعة متأخرة من الليل، فإن ذلك يقلق الزوجة، ويكدر صفو الحياة العائلية، وربما أدى استمراره إلى انفصال الزوجين وانفصام العلاقة بينهما وهدم كيان الأسرة وشتات الأولاد.
إن حسن العشرة بين الأزواج يجلب الخير والسعادة ويبعد الشرَّ والشقاوة، ففي حسن المعاشرة الرحمة والسرور، فهي تجلب الصحة في الأجسام والراحة في العقول والأبدان والاقتصاد في الأموال، وتُنْبِتُ في الأسرة المتفاهمة الذريةَ الصالحة التي يسعى الجميع إلى مصاهرتها والاقتراب منها، قال : ((أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا، وخياركم خياركم لنسائهم)) رواه الترمذي وابن حبان.
ــــــــــــــــــــ(67/247)
النفقة على الزوجة
...
...
4089
...
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
...
...
الآداب والحقوق العامة, النكاح, قضايا الأسرة
...
عبد الكريم بن صنيتان العمري
...
...
المدينة المنورة
...
...
...
جامع الصانع
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- النفقة من حقوق الزوجة على زوجها. 2- وجوب توفير النفقة والكسوة للزوجة بحسب الطاقة. 3- فضيلة النفقة على الزوجة والأبناء. 4- للزوجة الأخذ من مال زوجها بالمعروف إذا كان مقصرًا في النفقة عليها. 5- لا نفقة للزوجة الناشز. 6- على الزوجة الحذر من تبديد أموال زوجها.
الخطبة الأولى
من الواجبات اللازمة للزوجة على زوجها والحقوق التي ألزم بها النفقة عليها مقابل ما تقوم به من الطاعة والولاء له. والنفقة من أسباب القوامة التي جعلها الله تعالى في يد الزوج في قوله جل شأنه: الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ [النساء:34] أي: أن الزوج متى عجز عن النفقة عليها لم يكن قوَّامًا عليها.
ويجب على الزوج أن يوفر لزوجته ما تحتاجه من النفقة والسكنى والمأكل والملبس والمشرب، ولا يتأخر في شيء من ذلك، بل يؤديه إليها كاملاً، دون مِنَّة أو أذى، أو يظهر لها أن كل ما يوفره لها مما تحتاجه تفضُّل منه وإحسان وبر ومعروف وإكرام، وهذا خلاف ما أوجبه الله تعالى عليه، حيث قال جل شأنه: وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [البقرة:233]. فالنفقة واجبة عليه، وملزم بها في حدود إمكاناته المادية وقدرته المالية، وهو حين يسعى ويعمل ويكد ويتعب ليوفر لزوجته وأولاده ما يحتاجونه من متطلبات هذه الحياة فإنه يؤجر على أعماله هذه، وتكون قربة له عند الله يثيبه عليها، وينال أجره حسنات تُدخر له.
فعن أبي هريرة أن رسول الله قال: ((دينار أنفقتَه في سبيل الله، ودينار أنفقتَه في رقبة، ودينار تصدَّقتَ به على مسكين، ودينار أنفقتَه على أهلك، أعظمها أجرًا الذي أنفقتَه على أهلك)) رواه مسلم، بل إن الزوج يحصل له الثواب حين يُطعم زوجته، فقد قال : ((وإنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها، حتى ما تجعل في فيّ امرأتك)) متفق عليه.
فالزوج حين يقدم النية الحسنة بتوفيره النفقة لأهله حتى يعفهم ويسترهم يكتب له ثواب ذلك وأجره على حسن قصده، قال : ((إذا أنفق الرجل على أهله نفقة وهو يحتسبها كانت له صدقة)) متفق عليه، وقال : ((ما أطعمتَ نفسك فهو لك صدقة، وما أطعمتَ ولدك فهو لك صدقة، وما أطعمتَ زوجتك فهو لك صدقة، وما أطعمتَ خادمك فهو لك صدقة)) رواه أحمد.
إن الزوج حين يقصر في نفقة زوجته وأولاده فإن للزوجة الحقَّ في الأخذ من ماله دون علمه، لكن في حدود الوسط دون إسراف ولا تقتير، فقد روت عائشة رضي الله عنها أن هندًا قالت: يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل شحيح، وليس يعطيني ما يكفيني وولدي إلا ما أخذت منه وهو لا يعلم، فقال : ((خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف)) متفق عليه.
وهذا يدل على جواز أخذها من مال زوجها، لكن بحدود ضيقة، وهي أن تقتصر على ما تمس الحاجة إليه من ضرورات الحياة، لا أن تجعل ذلك عادة مستمرة لها في الأخذ من ماله دون سببٍ ملجئ لها إلى التصرف بحقوقه دون علم منه.
وفي المقابل أيضًا فإن الزوجة حين تقصّر في أداء حقوق الزوج عليها، فلا تلبي رغباته أو تخرج من منزله دون إذنه بلا عذر، فإذا أهملت زوجها ولم تنهض بالواجبات التي ألزمت بها تجاهه فإن من حق الزوج أن يمتنع عن الإنفاق عليها، ويسقط ما لها من حق في ذلك حتى تعود إلى رشدها وتعمل على طاعة زوجها، قال تعالى: الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا [النساء:34].
قال الإمام الشافعي رحمه الله: "إذا كان الله سبحانه وتعالى قد أذن للزوج في هجرها في المضجع لخوف نشوزها كان مباحًا له ترك الإنفاق عليها". وسئل الإمام الشعبي رحمه الله عن امرأة خرجت من بيتها عاصية لزوجها، ألها نفقة؟ قال: "لا، وإن مكثت عشرين سنة".
فالنفقة إنما تجب للزوجة بتسليمها نفسها لزوجها وتمكينها منه، وتفريغها نفسها لمصالحه، فإنها بامتناعها عن ذلك تكون عاصية، قد فوتت على نفسها ما وجب لها من النفقة، فلم تستحق شيئًا منها.
إن نفقة الزوج على امرأته وأولاده إنما تكون على قدر ما وهبه الله تعالى من المال وما كَتَبَ له من الخير والفضل، فلا يُطَالَبُ بتوفير ما لا يتحمل، ولا يلزم بما لا يطيق، فمن النساء من تحاول إرغام زوجها لتوفير المستحيل في نظره، بحيث تكثر طلباتها اليومية، وتشترط أوصافًا معينة لأشياء تطلب منه إحضارها، وهو عاجز عن ذلك، وإن استجاب لها مرة فقد يعجز مرَّات، وربما اقترض وتَحَمَّلَ الديون حتى يوفر لها ما تطلبه، غير أن المرأة العاقلة هي التي تراعي أحوال زوجها وتقدر ظروفه، فترضى باليسير وتقنع بالقليل.
أما تلك الزوجة التي تصر على إحضار ما يصعب عليه لقِصَرِ نظرها وعدم تقديرها للعواقب فإنها تتعب زوجها، وتكدر عليه صفو عيشه، فهي ترمي ببصرها إلى النظر في أحوال الأثرياء وما يوفرونه لزوجاتهم، مما هو مناسب لأحوالهم؛ إذ من أسهل الأمور عليهم تأمين متطلبات المنزل من ضرورات وكماليات، لما يتمتعون به من الغنى والسعة، وهذه التي تدعو زوجها غير القادر إلى أن يأتي بمثل ما يأتي به أولئك تجلب الهمَّ والنكَدَ لزوجها بتطلعها إلى من هم أعلى من مستواها، وقد جاء عنه أنه قال: ((انظروا إلى من هو أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم، فإنه أجدر ألا تزدروا نعمة الله عليكم)) رواه مسلم، وقال : ((إذا نظر أحدكم إلى من فُضِّلَ عليه في المال والجسم فلينظر إلى من دونه في المال والجسم)) متفق عليه.
كما أن من نُبل الزوجة وحسن نظرها محافظتها على مال زوجها وعدم المسارعة إلى تبديده هنا وهناك في أشياء لا تجد لها في نهاية المطاف فائدة ولا نفعًا، فتسعى وراء المناظر الزائفة والمظاهر البراقة الكاذبة، مفاخرة لزميلاتها، ومباهاة أمام صديقاتها، فليس ذلك من حسن التدبير، ولا من شكر الجميل.
كما أن الزوج الذي يبادر إلى وضع أمواله وصرفها فيما لا تمس الحاجة إليه وما لا منفعة فيه لم يدرك حقيقة هذا المال، وأنه وسيلة للعيش، يوفّر به قوت يومه وليلته، دون أن يكون مسرفًا أو مبذرًا، فقد يحتاج في يوم من الأيام، فيجد أن أمواله قد نَفَدَت لسوء تصرفه وعدم إدراكه لعواقب الأمور.
فالمسلم معتدل في مصروفاته، وسط في توفير متطلبات حياته، مبتعدٌ عن التضييق على أسرته والتقتير عليها، كما أنه في الوقت نفسه لا يقع فيما نهاه الله تعالى عنه من الإسراف، وقد بين جَلَّ وعز أن من صفات عباد الرحمن التوسط في الإنفاق في قوله تعالى: وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا [الفرقان:67].
ــــــــــــــــــــ(67/248)
الجمال والزينة
...
...
4091
...
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
...
...
اللباس والزينة, المرأة
...
عبد الكريم بن صنيتان العمري
...
...
المدينة المنورة
...
...
...
جامع الصانع
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- حث الشرع الحنيف على الزينة. 2- تأكد استحباب التزين في المناسبات. 3- هدي النبي في التزين. 4- تزين الزوجين لبعضهما من حسن العشرة. 5- من المخالفات التي تقع فيها النساء في هذا الباب: إهمال التزين للزوج والحرص عليه خارج المنزل، كثرة خروج المرأة من بيتها لغير حاجة، التطيب وعدم الالتزام بالحجاب الشرعي حال الخروج، إهدار المرأة للأوقات الكثيرة في سبيل التزين للمناسبات، وقوع كثير من النساء في النمص ووصل الشعر.
الخطبة الأولى
الزينة صفة محمودة، يميل إليها كل إنسان بطبيعته، ويحرص الرجلُ والمرأة على التجمل والتزين، كيف وقد أمرنا ديننا الحنيف بها، وحثنا عليها بندائه لجميع فئات المجتمع الإسلامي وأفراده بالتحلي بِها، يقول الله تعالى: يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ [الأعراف:31]، ويقول جل شأنه: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنْ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [الأعراف:32].
وإذا كان الكل يحرص على المظهر الجميل والملبس الأنيق حين يقابل الآخرين وأن يبدو أمامهم بأطيب منظر وأحسن ملبس وأبْهى حُلَّة، فإن ذلك يتأكد في المناسبات، عندما يلتقي المرء بإخوانه وأصدقائه، ويتأكد أكثر في اللقاءات الدينية: في صلوات الجماعة والجمع والأعياد.
وذلك كله يأتي به المسلمُ وَفقَ الإرشادات الدينية التي تحضه على ذلك وتوُجِّهُه إليه، قالت عائشة رضي الله عنها: كان نفر من أصحاب رسول الله ينتظرونه على الباب فخرج يريدهم، وفي الدار رَكْوةٌ فيها ماء، فجعل ينظر في الماء، ويسوي لحيته وشعره، فقلت: يا رسول الله، وأنت تفعل هذا؟! قال: ((نعم، إذا خرج الرجل إلى إخوانه فليهيئ من نفسه، فإن الله جميل يحب الجمال)) أورده القرطبي في التفسير.
وكان لا يفتأ يوجه أصحابه إلى حُسْن المظهر وجمالِ الهيئة، فكان جالسًا في المسجد، فدخل رجلٌ ثائر الرأس واللحية، فأشار إليه أن اخرج، وكأنه يعني إصلاح شعر رأسه ولحيته، ففعل الرجل ثم رجع، فقال : ((أليس هذا خيرًا من أن يأتي أحدكم ثائر الرأس كأنه شيطان؟!)) رواه ابن حبان.
كما كان يحرص على الطيب والرائحة الحسنة، وكان يقول : ((حُبّب إلي من دنياكم النساء والطيب، وجعلت قرة عيني في الصلاة)) رواه أحمد، وروى أبو هريرة قال: قال رسول الله : ((من عرض عليه طيب فلا يرده، فإنه طيب الريح خفيف المحمل)) رواه مسلم.
ويستحب لكل من الزوجين أن يتزين للآخر، فإن ذلك من حسن العشرة، قال الله تعالى: وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ [النساء:19]، وقال تعالى: وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة:228]، وقد نُقل عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (إني لأحب أن أتزين لامرأتي كما أحب أن تتزين لي)، وكان محمد بن الحسن الشيباني صاحب أبي حنيفة رحمهما الله يلبس أجمل الثياب وأحسنها وأغلاها، ويقول: "إن لي نساءً وجواريَ، فأزين نفسي كي لا ينظرن إلى غيري".
لكن زينة المرأة وتجمُّلها قد نظَّمها الدين الحنيف، ووضع لها ضوابطَ، وألزمَها أن لا تتجاوزها، وأن تأخذ بها، ولنقف عندها الوقفات الآتية:
أولاً: كل امرأة تحب الجمال وترغب في التزين، وتميل بفطرتها إلى أن تكون حسنة الهيئة أنيقة الشكل، وقد أباح الشرع ذلك لها حتى تحظى بإعجاب زوجها، وتشتد رغبته فيها، ويأنس بها، فعن أبي هريرة أن النبيّ قال: ((خير النساء التي تسره إذا نظر، وتطيعه إذا أمر، ولا تخالفه فيما يكره في نفسه وماله)) رواه أحمد.
وقد فرَّط بعض النساء في هذا الجانب؛ إذ إن اعتناءها بمظهرها وتجملها يكون حال خروجها من بيتها لحضور المناسبات، أو حين تستقبل صديقاتها في منزلها، حيث تعتني بنظافة نفسها ولبس أجمل ثيابها، أما أمام زوجها فينعكس ذلك كله، فلا اهتمام عندها بالمظهر ولا الملبس ولا الهيئة، وهذا خطأ واضح، فإن الزوج أحقُ من تتجمل له، والزوجة التي تداوم على ذلك قد تفقد زوجها لسوء عشرتها معه، وفي الغالب أنه لا يصبر على سوء تصرفها هذا إلا إذا كان مُلجأً إلى بقائها معه.
ثانيًا: كثير من النساء يخرجن من بيوتهن لغير حاجةٍ أو ضرورةٍ تدعو لذلك، ويصحب خروجهن مبالغة في التجمل وإفراط في الزينة وارتداء للملابس الضيقة اللافتة وتعطر بالطيب الذي منعت منه خارج بيتها، قال : ((أيما امرأة استعطرت فمرت على قوم ليجدوا من ريحها فهي زانية)) رواه النسائي.
وهي حين تخرج على تلك الصفة من الزينة المفرطة توقع نفسها وغيرها في الإثم؛ إذ يُخيل إليها أنها أجمل مخلوق، وأنها محل نظر وإعجاب الرجال بها، فتقتنصها السهام الشيطانية، وجاء في الحديث عنه أنه قال: ((المرأة عورة، فإذا خرجت استشرفها الشيطان)) رواه الترمذي، أي: جمّلها وزيَّنها في نظر الرجال لتحصل الغواية لها وبها، فهي على وشك الوقوع في المحظور إن لم تتدارك نفسها، وتبتعد عن هذا المسلك الخطير.
ثالثًا: الوقت مع نفاسته لا قيمة له في قاموس كثير من النساء اليوم، فكم من ساعات تهدرها المرأة حين تجلس ساعات تنتظر في محلات التجميل، ومثلها أمام المرآة والتهيؤُ للخروج لحضور مناسبات الأفراح وغيرها، ثم كم من الوقت تمضيه حين تقضي ساعات الليل في قاعات الاحتفال والسهر مع بنات جنسِها في قصور الأفراح.
وتَصَوَّر كم مجموع تلك الساعات حينما يتكرر ذلك بخروجها لحضور مناسبات الزواج المتعددة في معظم أيام الأسبوع، خلال الإجازة الصيفية خاصة، وكم يصحب ذلك من مخالفات شرعية، ووقوع فيما لا يعودُ عليها إلا بالإثم والضرر، وكم من الأموال تصرفها في مرات ذهابها، فتثقل كاهل زوجها، أو تبذِّر تلك الأموال التي جمعتها من كسبها ووظيفتها، ولو أنفقتها في مساعدة المحتاجين وإعانة الضعفاء والمساكين لكان ذلك خيرًا لها وأعظم أجرًا.
وكم من الأحاديث الواردة في تحذير المرأة من الوقوع في مخالفات شرعية هي ترتكبها مع علمها بذلك، منها قوله : ((أيما امرأة وضعت ثيابها في غير بيت زوجها فقد هتكت ستر ما بينها وبين الله عز وجل)) رواه أحمد، وهذا كنايةٌ عن إبداء زينتها وتكشفها وعدم احتشامها في لباسها من الرجال الأجانب.
ومن ذلك تعرضها لِلَّعْنَةِ بنتف شعر حاجبيها أو قصِّه أو نحو ذلك، قال ابن مسعود : لعن رسول الله الواشمة والمستوشمة والواصلة والمستوصلة والنامصة والمتنمصة. متفق عليه. وكثير من النساء أصبح النمصُ والوصل عندهن من الضرورات، فتساهلن في الوقوع في هذه الكبيرة والآفة الخطيرة التي تستحق اللعن والطرد والإبعاد من رحمة الله تعالى، وكل ذلك انسياق منهن وراء الموضات الوافدة والإغراءات الخادعة والمظاهر الزائفة، فالله المستعان.
ــــــــــــــــــــ(67/249)
ضوابط لتجمل المرأة
...
...
4092
...
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
...
...
اللباس والزينة, المرأة, قضايا فقهية معاصرة
...
عبد الكريم بن صنيتان العمري
...
...
المدينة المنورة
...
...
...
جامع الصانع
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- طلب الجمال أمر فطري. 2- حث الإسلام على التجمل والتزين. 3- الهدي النبوي في الجمال والزينة. 4- لا يجوز للمرأة إظهار زينتها للأجانب. 5- من حق الزوج على زوجته التزين له والتجمل. 6- المرأة وإهدار الأوقات. 7- مساحيق التجميل بين المنع والإباحة. 8- من مخالفات تزين المرأة: العدسات الملونة اللاصقة، صبغ الشعر لغير حاجة، إطالة الأظفار.
الخطبة الأولى
كل إنسان بطبيعته يحب أن يظهر بشكل حسن ومنظر جميلٍ أمام بني جنسه وبين أفراد مجتمعه، ويفضل أن يكون دائمًا في أحسن هيئةٍ وأبْهى حلة، وذلك أمر محمود، دعا الدين الإسلامي إليه، وحث أفراده على التجمل والنظافة والزينة، قال تعالى: يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ [الأعراف:31]، وقال جل وعلا: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنْ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [الأعراف:32]، وهذا دليل على لبس أجمل الثياب وأحسن الألبسة، روي أن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما لبس أحسن ما يكون من حُلَل اليمن ثم خرج، فقيل له: ما هذه الحُلَّة؟ فقال: علام تعيبون عليَّ؟! لقد رأيت على رسول الله أحسن ما يكون من الحلل. رواه أبو داود.
ورسول الله كان ذلك دأبه وعادته، لا يُرى إلا نظيفًا جميلاً، وكان يهتم بالنظافة وجمال الهيئة، فقد روي عن عائشة رضي الله عنها أن نفرًا من أصحاب رسول الله كانوا ينتظرونه، فخرج ليقابلهم، فجعل يسوي شعر رأسه ولحيته، وقالت عائشة: قلت: يا رسول الله، رأيتك تفعل هذا! قال: ((نعم، إذا خرج الرجلُ إلى إخوانه فليهيئ من نفسه، فإن الله جميل يحب الجمال))، ولما قال لأصحابه: ((لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر)) قال أحد الصحابة له: يا رسول الله، إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنًا ونعله حسنة، فقال : ((إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق وغمط الناس)) رواه مسلم، أي: دفع الحق ورده واحتقار الناس وازدراؤهم. وقال : ((كلوا واشربوا والبسوا وتصدقوا في غير إسرافٍ ولا مخيلة)) رواه أحمد. فالتزين والتجملُ لكل من الرجال والنساء ينبغي أن يكون وفق الحدود والضوابط التي بينتها الشريعة الإسلامية، وأن لا يتجاوز المسلم ما حُدّد له، حتى لا يخرج بذلك إلى حد المحرم والممنوع.
فالمرأة إذا تزينت فهي مأمورة بحفظ زينتها، وعدم إظهارها أمام الأجانب، حتى لا تقع في المعصية والإثم، وقد قال الله تعالى: وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ [النور:31]، وقال جل شأنه: وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ [النور:31].
وبيَّن رسول الله العقوبة التي تحل بالمرأة وتنتظرها إذا هي تعمدت لفت أنظار الرجال الأجانب إليها بأي شكل من أشكال الزينة والجمال، فقال : ((أيما امرأةٍ استعطرت فمرت على قوم ليجدوا من ريحها فهي زانية)) رواه أبو داود.
وقد يلاحظ ذلك من بعض النساء، حيث تهمل الزينة التي أُمرت بها شرعًا أمام زوجها وداخل بيتها، ولا تكترث بمشاعره، بل تجلس معه دون أن تعتني بنظافة جسدها وهيئتها، ومن حقوق الزوج عليها أن تتزين له بالملابس الجميلة والهيئة الحسنة والطيب، وغير ذلك مما يرغبه فيها ويدعوه إليها، فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((خير النساء التي تسره إذا نظر، وتطيعه إذا أمر، وتبره إذا أقسم، ولا تخالفه فيما يكره في نفسها وماله)) رواه أحمد.
فالمرأة بفطرتها ترغب في أن تكون جميلة موصوفة بالحسن والبهاء والزينة، وذلك من الأمور المباحة لها، فإن تزينها وتجملها مما يرغب الزوج بها، ويوطد العلاقة بينهما، فهو يراها دائمًا في أجمل هيئة وأحسن صورة، وهذا التزين والحسن ليس مقصودًا في ذاته، بل هو وسيلة لجلب مودة زوجها، ولذلك فإن على المرأة أن لا تبالغ أو تسرف في عمليات التجميل وطرقه؛ لأن ذلك قد يشغلها عن الوظائف الأساسية، كما أن عليها أن لا تُظهر زينتها لغير زوجها، وأن تتبع التعاليم الشرعية الواردة في ذلك، روت عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله : ((أيما امرأة وضعت ثيابها في غير بيت زوجها فقد هَتَكَتْ ستر ما بينها وبين الله عز وجل)) رواه أحمد، وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله : ((أيما امرأة نزعت ثيابها في غير بيتها خَرَقَ الله عز وجل عنها ستره)) رواه أحمد.
إن حض المرأة على التجمل لزوجها لا يعني ذلك أن تسلك طريقًا أطول من المعتاد، أو تلجأ إلى وسائل أخرى تستهلك وقتها وجهدها ومالها، بل ربما أدى ذلك إلى إلحاق الضرر بجسدها. فالوقت أنفس ما عُني المرء بحفظه، لكن كثيرًا من النساء قد يضيعن أوقاتًا طويلة وساعات متواصلة، إما أمام المرآة أو في محلات وأماكن التجميل، مما يعني أن الوقت لا قيمة له عندها.
يضاف إلى ذلك الأضرار التي تلحق بالمرأة نتيجة مبالغتها ومداومتها واستعمالها المستحضرات الحديثة لجمال بشرتها، فقد أثبتت الدراسات والأبحاث الطبية الحديثة أن أكثر مساحيق التجمل تؤدي إلى التهابات بالبشرة وتعجل بشيخوخة المرأة، وتظهر تقدمها في السن، ولا يخفى ما يترتب على الشيخوخة المبكرة عند المرأة من الآثار النفسية، وقد أفتى العلماء بأن هذه المساحيق إن كان يحصل بها الجمال والزينة ولا تضر الوجه ولا تسبب فيه شيئًا فلا بأس بِها، أما إن كانت تسبب فيه شيئًا من الضرر كما هو الحال فإنها تمنع من أجل الضرر.
كذلك استعمال العدسات اللاصقة فيه تغيير لخلق الله وتمويه وغش وتدليس، فهي تظهر العين بغير مظهرها الحقيقي، فينبغي تركها وعدم استعمالها من غير حاجةٍ إليها، لا سيما أنها باهظة الثمن غالية الكلفة.
وأما صبغ المرأة شعرها بعدة ألوان بين الحين والآخر فإن النبيّ نهى عن الصبغ بالسواد، وذكر العلماء أن تغيير لون الشعر من الأسود إلى لون آخر لا يجوز؛ لأنه لا داعي له، وفيه تشبه بالكافرات، والتشبه بهن حرام، وقد قال : ((من تشبه بقوم فهو منهم)) رواه أبو داود.
كذلك يعمد بعض النساء إلى ترك أظفارهن طويلة جدًّا، ويبقينها مدة، يزعمن أن ذلك من التجمل والزينة، فأي زينة ومدنية تحمل تحتها الأقذار والأوساخ، وتخالف هدي المصطفى الذي بين أن قص الأظافر من الفطرة والسنة؟!
إن مبالغة المرأة في التجمل والزينة عند حضورها الأفراح والمناسبات قد يجلب لها أضرارًا كثيرة، فقد تراها امرأة أخرى تعجب بها فتصيبها بالعين، والعين حق، قال : ((العين حق، ولو كان شيءٌ سابق القدر سَبَقَتْه العين)) رواه مسلم. وكل شيء بأمر الله وقضائه وقدره، ولكن المسلم مأمور بالأخذ بالأسباب والتوكل الصادق على الله تعالى.
إن زينة المرأة ينبغي أن تكون لزوجها، فإذا ما أحست بقدومه سارعت إلى مقابلته بأحسنِ صورة: طلاقة في الوجه، وابتسامة، ونظافة، وهَيَّأت له ما يحتاجه ويريحه، فإنها متى فعلت ذلك وداومت عليه اكتسبت محبة زوجها، وتبوأت مكانة عالية ومنزلة سامية في قلبه، والله المستعان وعليه التكلان.
ــــــــــــــــــــ(67/250)
العشرة الطيبة
...
...
4093
...
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
...
...
الآداب والحقوق العامة, النكاح, قضايا الأسرة
...
عبد الكريم بن صنيتان العمري
...
...
المدينة المنورة
...
...
...
جامع الصانع
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- عناية الإسلام البالغة بالعلاقة الزوجية. 2- تأكيد الشريعة على حسن العشرة بين الزوجين. 3- ضرورة استخدام الحكمة والرفق في الخلافات الزوجية. 4- الخطوات الشرعية لحل النزاعات الأسرية: الوعظ والتذكير، ثم الهجر في المضجع، ثم الضرب غير المبرح، ثم تدخل المصلحين بينهما.
الخطبة الأولى
العلاقة بين الزوجين علاقة في غاية الأهمية، عُني الإسلام بتوثيقها، وعمل على بقائها واستمرارها، وأكد على ضرورة المحافظةِ على هذه الرابطة، وحضَّ الزوجين على الحرص على إنمائها وديمومتها.
ولذلك نجد أن حسن العشرة بين الزوجين من أهم الركائز التي يؤكد عليها الدين الحنيف، وينتج عنها عيش الأسرة في ود وسلام وصفاء ووئام، قال تعالى: وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ [النساء:19]، وقال جل شأنه: وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [البقرة:228]، وفي الحديث عنه أنه قال: ((خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي)) رواه الترمذي، وقال : ((أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا وألطفهم بأهله)) رواه الترمذي.
فالدعوة إلى التآلف بين الزوجين وتقوية الروابط بينهما من أهم ما أكدت عليه الشريعة الإسلامية، ضمانًا لصيانة الأسرة من التفكك والانشقاق والتمزق والافتراق.
وحين يدب الخلاف بين عمودي الأسرة نتيجة سوء العشرة بينهما فإن الرياح العاتية والعواصف المدمرة تنذر بهدم ذلك الكيان القائم وتشتيته في كل اتجاه، وعند حدوث أي خلاف بين الزوجين فإنه ينبغي التغلب عليه داخل كيان الأسرة بالتفاهم والتراضي والعمل على القضاء عليه واستئصالِ جذوره، دون سريانه إلى أطرافٍ أخرى أجنبية عن الأسرة.
ولا ينبغي للزوج أن يتسرع، أو يعجز عن مقاومةِ الخلاف من أول وهلة، بل عليه أن يصبر، فإن استعجاله في حسم الخلاف قد يندم عليه ندمًا يصحبه طيلة حياته، وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا [النساء:19].
وإذا كان بعض النساء تميل بطبعها إلى محبة افتعال مشكلةٍ أو تلمس أدنى خطأ من الزوج فإن عليه أن يكون أعقل وأثبت وأحلم في موقفه منها، فلعل فيها من الصفات الأخرى والمحاسن والمحامد ما يُغطّي زلاتِها ويمحو أخطاءها، وقد قال : ((لا يفرك ـ أي: لا يبغض ـ مؤمن مؤمنة، إن كره منها خُلقًا رضي منها آخر)) رواه مسلم.
إلا أن بعض النساء تنظر إلى صفح الزوج عنها وتسامحه عن هفواتها وعفوه عن زلاتها بأنه ضعف في جانبه، وخَوَرٌ في موقفه، واهتزازٌ لشخصيته، فيزيد استعلاؤها، وتتمادى في عنادها، وكلما اقترب من رأب الصدع والتئام الشمل ابتعدت عنه وترفعت عن التفاهم معه.
وهنا يضع الإسلام خطوات متوالية وإجراءات متتابعة لحل النزاع وإعادة الأُنس والصفاء الذي كانت تعيش في ظلاله الوارفة وسمائه الصافية، قال تعالى: الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا [النساء:34].
فيبدأ الزوج بوعظ شريكة حياته وملاطفتها بالكلام بأسلوب رقيق وألفاظ حسنة مهذبة، تؤثر في نفسها، وتقرب عاطفتها، ويعيدها بذاكرتها إلى أيام حياتهما الزوجية الأولى، وما كان بعدها من المشاعر والأحاسيس الرقيقة الفياضة التي جمعت بينهما في محبة ووئام ومودةٍ والتئام، والمرأةُ العاقلة هي التي تؤثر فيها تلك الكلمات الصادقة من الزوج، فتعود إلى رشدها وتلبي رغبته.
فإن لم تعبأ بذلك انتقل إلى هجرها في فراشها، وذلك بأن يدير ظهره إليها، ويبدي لها امتعاضه منها، فلا يكلمها ولا يلتفت إليها، وليس المراد من هجرها نومه في غرفة مستقلةٍ عنها، فإن ذلك ربما أدى إلى زيادة تأزم العلاقة بينهما واتساع الفجوة في حياتهما.
فإذا لم تستجب الزوجة لهذا التأديب المعنوي انتقل الزوج إلى الخطوة الثالثة وهي قوله تعالى: وَاضْرِبُوهُنَّ، فإن الضرب هو الذي يصلحها له، ويحملها على توفيةِ حقوقه وقيامها بها.
لكن لا يتبادر إلى الذِّهن الضربُ الشديد القاسي الذي من شأنه التأثير في جسدها، أو إلحاق عاهةٍ أو أذى بها، أو إهانتها والانتقام منها، أو قهرها وإذلالها، بل المراد الضرب التأديبي غير المبرح، أي: الذي لا يؤدي إلى شيء مما ذُكر، بل يضربها ضربًا خفيفًا، وقد نبه إلى ذلك رسول الله بقوله في خطبة عرفات: ((فاتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدًا تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربًا غير مبرح)) متفق عليه.
وقد بين أن البعد عن العنف وترك القسوة في التعامل مع الزوجة دليل على حسن العشرة، وذلك مما يجب على الزوج تجاهها، فقد سأل أحد الصحابة رضي الله عنهم رسول الله عن حق المرأة على الزوج، فقال : ((يطعمها إذا طعم، ويكسوها إذا اكتسى، ولا يضرب الوجه ولا يقبح، ولا يهجر إلا في البيت)) رواه أبو داود.
فهذا يدل على أن الضرب المراد في الآية هو ما قُصد منه تنبيه المرأة إلى أنها قد حادت عن الطريق الأمثل في تعاملها مع زوجها، وأن عليها أن تعود إلى رشدها وتؤوب إلى صوابها. وقد سئُل ابن عباس رضي الله عنهما عن صفة الضرب الوارد في الآية فقال: بالسواك ونحوه. فُعرف أن المقصود من ذلك تهذيب المرأةِ وتقويم اعوجاجها وإصلاحها، دون أن يؤدي الضرب إلى إيذائها أو إهانتها أو إلحاق الضرر بها، فإن جاوز ذلك فهو متعدٍ قد جنى عليها وخالف المراد من ذلك.
هذه الخطوات الثلاث: وعظ الزوجة، ثم هجرها، ثم ضربها ضربًا خفيفًا، إن لم تُجْدِ ولم يكن لها نتيجة إيجابية في إعادة صفو العلاقة الزوجية إلى ما كان عليه، وازداد الخلاف والتباين بين الرجل والمرأة، وظهرت في الأفق بوادر وعلامات التباعد، فإن على المصلحين المسارعة إلى لمِّ الشمل، واختيار اثنين من أهل الرأي وأصحاب الخبرة والمشورة، يعملان على التقريب بين الزوجين، قال تعالى: وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحًا يُوَفِّقْ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا [النساء:35].
فينظر الحكمان الثقتان في الأصلح للزوجين من دوام العلاقة الزوجية بينهما واستمرارها أو التفريق بينهما، من خلال دراستهما لأحوال الزوجين ومعرفة أسباب الخلاف بينهما وما كَدَّرَ صفو حياتهما حتى الوصول إلى هذه الحال، ومحاولة التقريب بينهما، واستفراغ وسعهما في إزالة كافة العوائق والعقبات التي تقف في طريق حياتهما الزوجية، وسيهديهما الله تعالى إلى السبيل الأمثل إذا قصدا الجمع والتقريب بين الزوجين، قال جل في علاه: إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحًا يُوَفِّقْ اللَّهُ بَيْنَهُمَا [النساء:35].
ــــــــــــــــــــ(67/251)
أسباب الخلافات الزوجية
...
...
4094
...
الأسرة والمجتمع, فقه
...
...
النكاح, قضايا الأسرة
...
عبد الكريم بن صنيتان العمري
...
...
المدينة المنورة
...
...
...
جامع الصانع
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- دعوة الإسلام إلى حسن التعامل بين الزوجين. 2- أسباب الخلافات الزوجية: سوء اختيار شريك الحياة، تقصير كل منهما في حق الآخر، تعالي الزوجة على زوجها، تزين المرأة لغير زوجها، إفشاء الأسرار الزوجية، استخدام الألفاظ النابية.
الخطبة الأولى
يدعو الدين الإسلامي إلى حسن المعاملة بين الزوجين وطيب العشرة ولين الكلام ولطف القول، قال تعالى: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الروم:21]. وحذر من كل ما ينغّص الحياة الزوجية ويؤدي إلى تعكير صفو العلاقة الأسرية، أو يرمي بها في أحضان الفرقة والانقسام والتباعد والشتات.
والمتأمّل لنصوص الكتاب الكريم والسنة المطهرة يجد فيها دعوة الزوجين إلى الألفة والتحلي بالشفقة، والبعد عن كافة الأسباب التي قد تعصف بحياتهما الزوجية، وتُلقي بمركبها في خضم الأمواج الهادرة والرياح العاتية التي ربما دمرت ذلك البناء الذي أسساه والعُش الذي بنياه والكيان الذي تعاهداه بالرعاية والصون سنوات طويلة.
وكثيرة هي الأسباب التي قد تعصف بالأسرة وتفرّق شملها، وتُذهِب ودّها ووئامها، وتمحو تآلفها وانسجامها، سواء كان ذلك بتقصير من أحدِ الزوجين في حقوق الآخر أو منهما جميعًا، ومن تلك الأسباب:
أولاً: سوء الاختيار من أول تأسيس الأسرة، فالشاب أو الفتاة والرجل أو المرأة ينبغي أن يعملا جاهدين على اختيار ذي الدّين والخلق، ومن عُرف بطيبِ العشرة وحسن المعاملة والصلاح والاستقامة، فإنّ الدين مطلب أساسيّ في الزوج والزوجة، كما قال : ((إذا أتاكم من ترضَون دينه وخلقه فزوجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير)) رواه الترمذي.
وأكّد على ذلك، وأمر بالبَحث والتنقيب والسؤال والتحري عن هذه الصفة العظيمة صفة الدين فقال: ((فاظفر بذات الدين تربت يداك)) متفق عليه.
ذلك أن عمودَي الأسرة ـ وهما الزوجان ـ حين يتّصفان بالدين والصلاح والبر والتقوى يبنيان أسرة مستقيمةً بإذن الله تعالى، تقيم حدود الله، وتنفذ تعاليم الإسلام العظيمة، بعيدًا عن الانحراف والسلوك الأهوج والتصرف الأعوج، فإذا فُقدت هذه الصفة الأساسية والخصلة الذهبية كان أمر استمرارِها ودوامها متعذّرًا، إذ تتسرّب إليها المخالفات، وتضعف عن إقامة الشعائر والواجبات، فتبقى في مهبّ الريح، وتكون عرضةً للزوال عند أوّل هزّةٍ تعتريها، ومن كان بالله أعرَفَ، كان منه أخوف.
ثانيًا: تقصير كلّ منهما في حقّ الآخر، فكما أنّ لهما حقوقًا، فإنّ عليهما واجباتٍ يلزم أداؤها والعناية بها، وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [البقرة:228]. وعلى كل منهما مراعاة الآخر وحفظه في كل حال والعفو عن زلاته والصفح عن هفواته وتلبية حاجاته ورغباته، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا [النساء:19].
ثالثًا: تطاول الزوجة عليه والتمرد على أوامره وعدم انصياعها لأقواله، وتلك معاملة سيئة قد تصدر من بعض الزوجات اللائي لا يُقدرن الحقوق الزوجية، ولا الواجبات الدينية التي تُحتّم عليها طاعة زوجها وتلبية أوامره، وقد قال : ((لا ينبغي لأحد أن يسجد لأحد، ولو كان أحد ينبغي أن يسجد لأحد لأمرتُ المرأة أن تسجد لزوجها؛ لِما عظَّم الله عليها من حقّه)) رواه ابن حبان والترمذي.
وبعض الزوجات يفتقِدن الفِطنة وحسنَ التقدير في كيفية التعامل مع الزوج، فحين يدخل المنزل عائدًا من عمله متعبًا مرهقًا يرغب في التماس شيء من الراحة تستقبله الزوجة بكمّ هائل من الطلبات وعبارات مليئة بالتسخط واللّوم وشكاية له بما حدث من تصرف الأولاد وسوء صنيعهم، إلى غير ذلك من الأمور التي تُقلق باله وتكدّرُ أحواله، وكان من الأجدر أن تختار الزوجة وقتًا مناسبًا لعرضها عليه.
رابعًا: ومما يخطئ فيه كثير من الزوجات تعمّدها التزيّن في جسمها ولبس أحسن الملابس والظهور بأجمل مظهر عند خروجها من البيت لحضور مناسبة ما، أو عند استقبالها الزائرات والصديقات في منزلها، بينما تكون على العكس من ذلك إذا كانت في البيت وأمام زوجها، فلا تعتَني بنفسها، ولا يضيرها أن تظهر بمظهر جميلٍ أو عكسه، فربما قابلته بمنظر باهت، بعيدًا عن الجمال والزينة، فمثل هذا التصرف يُنغِّصُ على الزوج حياته، ويُحْدِثُ في نفسه ردّة فعل من شأنِها أن تؤدّي به إلى بغض زوجتِه ونُفرته منها، لا سيما إذا تكرّر ذلك منها وداومت عليه، فإنه أولى بأن تتجمّل وتتزيّن له، وأحوج أن تتنظّف وتتطيّب عند لقائه، والمرأة التي تداوم على مثل ذلك التصرّف غير اللائق تجلب على نفسها التعاسةَ والشقاء؛ لأن صبر الزوج له حدودٌ معينة، وفي الغالب أنه لا يبقيها عنده إلا إذا كان مضطرًا لذلك، فعليها أن تكون فطِنة في تعاملها مع زوجها، أنيقة في منظرها ومظهرها أمامه.
خامسًا: عدم محافظة البعض على أسرار الزوجية، فتلك أمانة عظيمة، يجب على كل واحد منهما أن يدفنها في سرّه، وقد صوّر النبيّ إفشاءَ ذلك بأقبح صورة وأبشع منظر، فقال : ((إنما مثل ذلك مثل شيطان لقي شيطانةً فغشيَها والناس ينظرون))، وقال أيضًا: ((إنّ من شرّ الناس عند الله منزلة يوم القيامة الرجل يفضي إلى امرأته وتفضي إليه، ثم ينشر أحدهما سر صاحبه)) رواه مسلم.
سادسًا: استخدام الألفاظ النابية والعبارات اللاذعة والكلمات الجارحة في التخاطب بينهما، فيُسْمِعُ كلُّ واحدٍ منهما الآخر ما لا يتحمّله، ويتلفّظ بما لا يطيقه، أو يجرحه في خَلقه وخُلُقه.
والزوج الفطِن والزوجة الذكيّة من يكون لبقًا أمام الآخر، يستخدم الكلمة المناسبة والعبارة اللطيفة واللفظة اللينة في الموقف المناسب، ويستطيع بحكمته وتعقّله أن يحوّل الموقف الكلامي المتأزّم إلى موقف مضادّ، ويحوّله من المشادّة والعنف إلى المفاهمة واللّطف، فيقود السفينةَ التي كادت أن تغرق في هذا البحر المتلاطم الأمواج، ويدفع بها إلى شواطئ الأمان.
وما أجمل البيت الذي ترعاه زوجةٌ ديِّنةٌ مصونة فطِنةٌ لبِقةٌ مأمونة، تنتقي ألفاظها بكلّ عناية، وتختار كلماتها بأحسنِ عبارة، تعطي كلّ موقف ما يناسبه، وكلّ مقام ما يستدعيه، بعيدة عن القيل والقال والثرثرة، نائية عن الغلظة والجفاء والقسوة، تكرَه سلاطة اللسان، وتبغض كثرةَ الكلام، أنيقة في مظهرها، نقيّة في مخبرها، عذبة في منطقها، فتلك التي تملأ المنزلَ فرحةً وسعادة، وتضفي على الأسرة جوًّا من الهناء والمودّة واللطافة، وأمثالها في مجتمعنا كثير، فالحمد لله اللطيف الخبير.
ــــــــــــــــــــ(67/252)
الطلاق
...
...
4095
...
الأسرة والمجتمع, فقه
...
...
الطلاق, قضايا الأسرة
...
عبد الكريم بن صنيتان العمري
...
...
المدينة المنورة
...
...
...
جامع الصانع
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- حرص الشريعة على غرس أواصر المودة بين الزوجين. 2- الخطوات الشرعية لحسم النزاع بين الزوجين واحتوائه. 3- الطلاق آخر الحلول في المنازعات بين الزوجين. 4- حكم الطلاق. 5- تحذير المرأة من طلب الطلاق لغير ضرورة. 6- كيفية الطلاق الشرعي الصحيح. 7- في منهج الطلاق الإسلامي دعوة صريحة للتريث والحرص على استمرار الحياة الزوجية.
الخطبة الأولى
حرصت الشريعة الإسلامية على غرس أواصر المودة بين الزوجين، وأكدت على تقوية الروابط بينهما، واحترام كل واحد منهما لمشاعر الآخرِ وأحاسيسه، وضرورة الترابط والانسجامِ، والبُعد عن التفرق والانقسام.
ولأن الحياة الزوجية في الغالب لا تخلو من المكدرات والمنغصات ووقوع الجفاء والخلافات وحصول التصدع والأزمات، فإن الإسلام قد وضع خطوات أولية للقضاء على الخلاف بين الزوجين وحسم النزاع بينهما، حيث أمر الزوج بوعظ زوجته وتذكيرها بما ألزمها الله من حسن العشرة وجميل المعاملة، ثم هجرها في فراشهما، ثم ضربها ضربًا تأديبيًا خفيفًا غير مُضرّ بها.
وعلى الزوج وغيره من الأقارب وذوي المعروف أن يستفرغوا جهدهم في سبيل رأب الصدع وإزالة الخلاف وإعادة العلاقة الحميمة والرابطة الحميدة بين الزوجين، فإن تعذر ذلك كله وانسدت كافة الطرق الموصلة إلى الوفاق والوئام، ولم يمكن التوفيق بين عمودي الأسرة، فقد شُرِع الطلاق ليكون هو الحل عند استفحال الخلاف واستعصاء الأمر واستحالة المصالحة.
إنَّ اللجوء إلى الطلاق ينبغي أن يكون آخر مخرج؛ إذ لا ينبغي للزوج التسرع في إلقائه على الزوجة أو الهروع إليه لأدنى سبب، بل هو الحل المتبقي لحسم النزاع، ولهذا نجد أن الإسلام بحرصه على المحافظة على كيان الأسرة الزوجية وحثه على تماسكها جعل الطلاق آخر الحلولِ لفصم هذه العلاقة؛ ذلك أن النكاح شُرِع لمقاصد نبيلة وحكم جليلة وأهداف سامية، فإذا تعذر تحقيق تلك المقاصد، وظهر أن تَفْوِيتَها أمر متحقق كان الطلاقُ السبيلَ الوحيد أمام الزوج؛ لأن بقاء النكاح والخلاف محتدم بين الزوجين ربما أدى إلى حصول أضرار جسيمة ومفاسد عظيمة تلحق بالرجل والمرأة، وينتج عن ذلك سوء العشرة والخصومة الدائمة، فاقتضى ذلك شرع ما يزيل العلاقة بينهما وهو الطلاق.
إن الطلاق في ديننا الحنيف ليس مشروعًا ولا جائزًا على إطلاقه، بل جُعِلت له ضوابط، ورسُمِت له قواعد، ووضُعِت له حدود وموانع.
كما أن الإسلام توعد المرأة بأشد الوعيد حين تعرضُ على زوجها وتطلب منه فراقها بالطلاق دون أسباب ملجئة إلى ذلك، يقول : ((أيما امرأة سألت زوجها طلاقها من غير ما بأس فحرام عليها رائحة الجنة)) رواه أبو داود والترمذي.
كما حرم على الزوجةِ أن تطلب من زوجها طلاق ضرتها لتستأثر به دونها، فقال : ((ولا تسأل المرأة طلاق أختها لتكفأ ما في إنائها)) رواه البخاري ومسلم.
والزوج حين يعزم على الطلاق بعد فشل كل محاولات الإصلاح فإن الشرع رسم له الطريق الصحيح لإيقاعه، فقد كانوا يطلقون زوجاتهم دونما حصر أو عدد حتى حدَّده الإسلام: الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ [البقرة:229] إلى أن قال جل في علاه: فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [البقرة:230].
فحدده الشرع بثلاث تطليقات، وحذر من إيقاعها كُلها دفعة واحدة، بل في كل مرة طلقة، يتدرج الزوج في إيقاعها، وفي ذلك فوائد عظيمة، فإن الزوج حين يطلق امرأته ثلاثًا مرة واحدة يقطع كل أملٍ ويسد كل مخرج للرجعة، فإنه ربما كان منفعلاً أو مغضبًا أو عاجزًا عن التحكم بألفاظه لشدة انفعالاته؛ لذلك فإن الأسلم أن تكون طلقة واحدة، ثم بعد أن يهدأ باله ويطمئن حاله يرى خطأه وسوء تصرفه، فيستغفر ربه ويراجع زوجته، يا أيها النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ [الطلاق:1].
فأنكر على من طلق امرأته ثلاث تطليقات جميعًا، وقال: ((أيُلعب بكتابِ الله وأنا بين أظهركم؟!)) رواه النسائي.
ومن فضل الله تعالى ودعوة الإسلام إلى ترابط الزوجين والتأكيد على تقاربهما أن نهى الزوج عن إخراج الزوجة المطلقة الرجعية من منزلها، بل تبقى فيه مدة عدتها، وفي ذلك فتحٌ لآمال الرجوع والعودة وبذل المساعي واستثارة العواطف والتذكير بمشاعر الأخوة والمودة والرحمة، ولعل الزوج يرجع عن طلاقه حين يحس بألم الهجر ووحشةِ الوحدةِ، لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا [الطلاق:1].
وانظر كيف يكون الحال عند مخالفة المنهج الشرعي الحكيم، فإن المطلقة الرجعية حين تخرج من بيتها أو يخرجها زوجها وتذهب إلى بيت أهلها فإن ذلك يكون أدعى إلى زيادة النفور بينهما واتساع الجفوة وتأزم الحال، وقد تتدخل أطراف أخرى مُغرضة تنحاز إلى أحد الزوجين، وتشحن كل واحدٍ منهما ضد الآخر، وتضمحل آمال الإصلاح والرجعة.
كما أن السنة بينت أن الطلاق حين يوقعه الزوج يكون طلقة واحدة رجعية في طهر لم يطأها فيه، قال تعالى: يا أيها النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ [الطلاق:1]، قال ابن مسعود : (أن يطلقها في طهر لم يجامعها فيه)، وورد مثله عن ابن عباس رضي الله عنهما، وعن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما أنه طلق امرأته وهي حائض على عهد رسول الله ، فسأل عمر بن الخطاب رسول الله ، فقال: ((مره فليراجعها، ثم ليمسكها حتى تطهر، ثم تحيض ثم تطهر، ثم إن شاء أمسك بعد، وإن شاء طلق قبل أن يمس، فتلك العدة التي أمر اللهُ أن تطلق لها النساء)) متفق عليه. فطلاقه لها في دورتها الشهرية إضرار بها، ثم إنه ربما وجد في نفسه نفورًا منها حين تكون على تلك الحال، لكن إذا صبر وانتظر حتى تطهر ربما راجع نفسه، وعدل عن رأيه في الطلاق، وواصل العشرة معها.
كذلك لو طلقها وهي حامل، فإنه طلاق صحيح، وهو طلاق سُني عند جمهور العلماء، لحديث ابن عمر السابق، فإن في بعض ألفاظه عند الإمام مسلم أنَّه قال: ((مره فليراجعها، ثم ليطلقها طاهرًا أو حاملاً))، وهذا يدل على جواز طلاق الحامل في أي وقت.
وإذا كان الإسلام قد وضع هذه الضوابط ورسم المنهج الصحيح للزوج حين يقدم على طلاق زوجته، وحين التأمل في هذا المنهج نجد دعوة واضحة للتريث ودلالة صريحة على سماحة الإسلام ودعوته للم شمل الأسرة والتأكيد على ترابطها، إذ يمر الطلاق بعدة مراحل متوالية ووقفات متأنية في أحوال خاصة، من خلالها قد تتغير الأحوال، ويرى الزوج أن المصلحة في بقائه مع زوجته واستمراره في بناء الأسرة ورعايتها والصبر والتحمل واحتساب ذلك عند الله تعالى.
ــــــــــــــــــــ(67/253)
الخادمات
...
...
4096
...
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
...
...
الآداب والحقوق العامة, النكاح, قضايا المجتمع
...
عبد الكريم بن صنيتان العمري
...
...
المدينة المنورة
...
...
...
جامع الصانع
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- اهتمام الإسلام بالعلاقة بين الزوجين وعنايته بها. 2- قيام الزوجة بواجباتها تجاه زوجها مما يسهم في استمرار السعادة بين الزوجين. 3- للزوجة المسلمة أسوة حسنة بالصحابيات رضوان الله عليهن. 4- خدمة الزوجة لزوجها من الحقوق الواجبة عليها. 5- التأكيد على حسن اختيار الخادمة. 6- حقوق الخدم: إحسان المعاملة، العفو عنهم، عدم تكليفهم ما لا يطيقون، توفيتهم أجورهم، العناية بالجانب الديني لديهم.
الخطبة الأولى
تعتبر العلاقة بين الزوجين النواة الأولى التي تنبثق عنها سائر العلاقات البشرية في المجتمع الإنساني، ولذلك فقد أولى الإسلام هذه العلاقة رعاية خاصة وفريدة، حيث جعل لها أسسًا وضوابط وتنظيمات، تعمل على توفير الراحة والسعادة والحياة الهنيئة بينهما، فعلى كل واحد من الزوجين أن يعمل على توطيد تلك العلاقة والقيام بالحقوق اللازمة عليه تجاه الآخر ومعاملته معاملة حسنة.
وإن مما يضفي على الحياة الزوجية أجواء البهجة والسعادة قيام المرأة بالحقوق التي أمر بها الدين الحنيف، وتهيئة الجو المناسب لزوجها من خلال إعداد نفسها إعدادًا يُدخِلُ على زوجها الراحة والطمأنينة، وأن تصبر على ما قد تعانيه من تعب وما تواجهه من مشقة، وتقدم إليه ما يحتاجه من خدمة، وما يطلبه منها من عناية، وللزوجة المسلمة أسوة حسنة في ابنة رسول الله التي كانت تزاول أعمالها بيدها، حتى أصيبت يدها بجروح وأضرار. وقد كان نساء النبيّ وغيرهن من نساء الصحابة ـ رضي الله عن الجميع ـ يخدمن أزواجهن في بيوتهن.
وجاءت فاطمة رضي الله عنها تشكو إلى النبيّ ما تلقى في يدها من الرَّحى، وتسأله خادمًا، وذكر ذلك أيضًا عليٌ للنبي فقال عليه الصلاة والسلام: ((لا أعطيكما وأدع أهل الصفة تتلوى بطونهم لا أجد ما أنفق عليهم، ألا أدلكما على خير مما سألتما ـ أي: طلب الخادم ـ؟! إذا أخذتما مضاجعكما وأويتما إلى فراشكما فسبحا ثلاثًا وثلاثين، واحمدا ثلاثًا وثلاثين، وكبرا أربعًا وثلاثين، فهو خير لكما من خادم)) متفق عليه.
فلم يلبِّ النبيّ طلب فاطمة بأن يحضر لها خادمًا، ولم يأمر عليًا بذلك، فدل أن على الزوجة القيام بخدمة زوجها، وأن لا تلزمه أو تكلفه ما لا يطيق في استجلاب خادمة، وتحمله أموالاً طائلة لاستقدامها، وبالتالي تأمينه مرتباتها ونفقاتها، إلا إذا كانت المرأة في حالة لا تسمح لها بخدمة الزوج وأولاده، كأن تكون مريضة لا يمكنها أن تقوم بالأعمال المنزلية، ولا تستطيع تهيئة كل ما يحتاجه الزوج، أو كانت معلمة أو موظفة تغيب عن بيت الزوجية بعض الوقت. وليكن إحضار الخادمة للمنزل مقرونًا بالحاجة الماسة إلى وجودها، للمساعدة في النهوض ببعض الأمور التي تحتاجها الأسرة.
وعلى الزوج أو رب الأسرة أن يحسن اختيار الخدم، بحيث يكون الدين هو أول أسس الاختيار، فيشترط أن تكون الخادمة مسلمة مخلصة، تخاف الله تعالى وتراقبه، فلا ينبغي لهم أن يستقدموا خادمة لا تدين بدينهم؛ لأن وجودها بين المسلمين وفي داخل المنزل خطرٌ على أهل البيت وخاصة الصغار منهم، إذ قد يؤدي ذلك إلى إفسادِ عقائدهم وأخلاقهم، ويترتب على اختلاطها بهم كثير من الأضرار والمساوئ.
كذلك ينبغي أن تكون الأمانة من أهم الصفات؛ لأن الخادمة تطلع على أشياء داخل البيت لا يراها غيرها، فإذا فُقدت منها هذه الخصلة أذاعت الأسرار، وأشاعت الأخبار، وكشفت ما تعرف بداخله للآخرين، كما أن المهارة والخبرة في أعمال المنزل من ألزم الصفات التي ينبغي أن تتوفر في الخادمة.
ولا يجوز لأهل البيت أن يعاملوا الخدم معاملة سيئة، فإن الإسلام قد وضع لهؤلاء حقوقًا يجب على المخدومين أن يقوموا بها تجاه الخدم، وأن يوفوا بها دون مماطلة أو نقص، فيخاطب الخادم بأسلوب سهل وكلام لين، دون جفاء أو غلظة في القول، فإن الرفق ما كان في شيء إلا زانه، وما نُزع من شيء إلا شانه، والتواضع مع الخادم يؤنسه، ويشعره بالطمأنينة وعدم الحرج من العسر والفقر والحاجة، والتكبر عليه يوحشه، ويشعر بسببه أنه محتقر لا قيمة له، فيضطرب ويعيش كئيبًا حزينًا، وقد يؤثر ذلك على عمله وإنتاجه وجودة خدمته وإتقانه.
وينبغي العفو والسماح عنه إذا أساء أو أخطأ، فإن النقص والخطأ من طبيعة الإنسان، ولا يكاد يسلم من ذلك أحد، روي عنه أنه قال: ((إن أحسنوا فاقبلوا، وإن أساؤوا فاعفوا)) رواه البزار.
ولا يُكلَّف من العمل فوق طاقته، بل تخصص له ساعات للراحة، فإن استدعت الحاجة تكليفهم بعمل إضافي فينبغي معاونتهم، قال : ((ولا تكلفوهم من العمل ما لا يطيقون، فإن كلفتموهم ما يغلبهم فأعينوهم)) متفق عليه.
وينبغي الإحسان إليهم بالطعام واللباس، وأن يُمكَّنوا من الأكل مما يأكل منه أصحاب المنزل، فإنه ليس من المروءة أن يأكل أهل البيت أجود الطعام وأحسنه ويأكل الخدم أقل منه، قال : ((من كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس)) متفق عليه.
ومن الأمور المهمة التي ينبغي التنبيه عليها توفية الخدم أجورهم ومرتباتهم، فيجب أن يعطى استحقاقه أولاً بأول، دون مماطلة أو نقص، متى طلب ذلك، فإنه قد تغرَّب عن أهله وولده وبلده من أجل أن يكسب شيئًا يعينه على شؤون حياته، فيحرم استحلال كدّه وتعبه وكدحه دون مقابل، وقد قال : ((أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقُه)) رواه ابن ماجه، وروى أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((قال الله تعالى: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة: رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حرًا فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيرًا فاستوفى منه ولم يعطه أجره)) رواه البخاري. فليحذر المسلم من أن يكون اللهُ تعالى خصمَه في الموقف العظيم.
ومن أهم الأمور التي ينبغي للمسلم الالتزام بها تجاه الخدم الاعتناء بالجانب الديني، بأن يعلمهم أمور دينهم وما يحل وما يحرم، ويحثهم على التحلي بالأخلاق الفاضلة والخصال الحميدة، ويحذرهم من مساوئ الأخلاق وسفاسف الأمور، والبعد عن اقتراف الأشياء المحرمة، وأن يمكنهم من أداء الشعائر الإسلامية؛ لأنه أصبح مسؤولاً عنهم كمسؤوليته عن سائر أفراد الأسرة، وقد قال : ((كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته)) متفق عليه.
ــــــــــــــــــــ(67/254)
السهر والإجازة
...
...
3006
...
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
...
...
الكبائر والمعاصي, قضايا المجتمع
...
عبيد بن عساف الطوياوي
...
...
حائل
...
10/4/1423
...
...
جامع الخلف
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- الحذر من السهر على معاصي الله عز وجل. 2- نتائج السهر وعواقبه.
الخطبة الأولى
أما بعد: فإن أصدق الكلام كلام الله، وخير الهدى هدى محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، نعوذ بالله من النار، اللهم إنا نعوذ بك من النار، اللهم أجرنا من النار، وأعتق رقابنا من النار،ورقاب آبائنا وأمهاتنا، برحمتك يا أرحم الراحمين.
أيها الإخوة المؤمنون، حديثنا في هذا اليوم عن ظاهرة خطيرة بُلي بها كثير من الناس، وخاصة في مثل هذه الأيام أيام الإجازة، وهي ظاهرة السهر، هذه الظاهرة السيئة الدخيلة على مجتمعات المسلمين لم يسلم منها إلا من رحم الله، صارت عند بعضهم علامة على الرقي والتقدم وعلى الحضارة والمدنية، حتى إنهم ينتقدون من لا يسهر، ويصفونه بالتأخر والرجعية، يستغربون لو قلت لأحدهم: نم بعد صلاة العشاء، ويعتبرون ذلك شذوذًا، فهم لا يبدأ ليلهم إلا بعد وقت العشاء بساعات، يستغلون الليل بهدوئه وسكونه ليسهروا، وعلى ماذا؟ على ماذا يسهرون؟!
أتظنون أنهم يسهرون على طاعة أو على طلب قربة لله تعالى كالذين قال الله عنهم: كَانُواْ قَلِيلاً مّن الَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الذاريات:17، 18]؟! أوَتظنون أنهم يسهرون كالذين وصف الله حالهم في سورة السجدة بقوله: تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ [السجدة:16]؟! لا والله، إن أكثرهم يسهر على معصية الله، يحارب الله جل جلاله في وقت نزوله، حينما ينزل إلى السماء الدنيا فيقول: هل من سائل فيعطى، هل من داع فيستجاب له، هل من مستغفر فيغفر له، حتى ينبلج الصبح. إنهم في هذا الوقت الكريم الفاضل، في هذا الوقت النفيس الذي ـ والله ـ لا يعادل بثمن، تجدهم يحاربون الله ويبارزونه بالمعاصي، يسهرون لمتابعة القنوات الفضائية، لمشاهدة ما حرم الله من مسلسلات هابطة وأغانٍ ماجنة ومشاهد مثيرة، ومنهم من يسهر من أجل اللعب واللهو أو القيل والقال، وهذه المنكرات بحد ذاتها من الأمور الخطيرة ومن المعاصي الكبيرة من دون سهر، فإذا أضيف لها السهر فإن شرها يتفاقم وخطرها يتعاظم، نسأل الله العافية.
أيها الإخوة المؤمنون، إن لظاهرة السهر نتائج ضارة، لا سيما إذا كانت على معصية، وهي كذلك عند كثير منهم، ومن نتائجها تضييع صلاة الفجر، فالذي يسهر إلى قبيل الفجر ثم ينام أيستطيع الاستيقاظ من النوم لتأدية صلاة الفجر؟! لا أظن ذلك؛ لذا تجده دائمًا تفوته الصلاة، وإضاعة الصلاة جريمة عظمى وكبيرة من كبائر الذنوب وصفة من صفات المنافقين، يقول تعالى: فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ الصلاةَ وَاتَّبَعُواْ الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقُونَ غَيًّا [مريم:59]، وغَيٌّ هو واد في جهنم بعيد القَعْر خبيث الطَّعم من قيح ودم، لمن؟ لهؤلاء الذين أضاعوا وقت الصلاة بسبب اتباع الشهوات: مباريات، مسلسلات، وغير ذلك من الشهوات التي يسهر كثير من الناس من أجلها.
ويقول تعالى: فَوَيْلٌ لّلْمُصَلّينَ الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ [الماعون:4، 5]، وويل أيضًا هو واد في جهنم، وقيل: شدة العذاب، جعله الله للذين يؤخرون الصلاة عن وقتها.
وكذلك تأخير الصلاة من صفات المنافقين، فهم كما قال تعالى: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصلاةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَاءونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً [النساء:142].
فالسهر سبب من أسباب تأخير الصلاة عن وقتها الذي جعله الله لها، بل هو سبب من أسباب ترك الصلاة مع الجماعة، فالذي يسهر تجده يصلي في بيته، ويتخلف عن الصلاة مع جماعة المسلمين، وقد همّ النبي بأن يحرق بيوت الذين يتخلفون عن الصلاة، هَمَّ أن يضرم بها النيران، فالذين لا تراهم في صفوف المصلين في صلاة الفجر غالبًا هم الذين يسهرون. فالسهر يفوّت الصلاة، ولو فرضنا جدلاً أن هذا السهران حضر للصلاة فإنه سوف يصلي متكاسلاً مرهقًا تعبًا، يصارع النوم من شدة النعاس، ومن ثم لا يدري ما يقول، وهذه أيضًا بحدّ ذاتها مشكلة، وسببها السهر.
أسأل الله أن يهدي ضال المسلمين، ويرزقنا الفقه في الدين، إنه سميع مجيب.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أيها المسلمون، ومن نتائج السهر فعل ما كرهه الرسول ، فالمسلم يحرص دائمًا على فعل ما يحبه الله عز وجل وما يحبه رسوله ، ويحذر كل الحذر من ارتكاب ما يكرهه الله ورسوله، والسهر من الأمور التي كرهها النبي ، كما في الحديث المتفق عليه عن أبي برزة رضي الله عنه أن رسول الله كان يكره النوم قبل العشاء والحديث بعدها.
ومنها أيضًا تفويت المصالح في النهار، فالذي يسهر الليل دائمًا ينام خلال النهار، وفي هذا تفويت لعدة مصالح تكون في النهار، منها حرمان بركة أول النهار، فإن لأول النهار بركة أخبر بها النبي بقوله: ((بورك لأمتي في بكورها))، ومنها التكاسل في العمل إن كان عاملاً، وفي الدراسة إن كان طالبًا، بل حتى فيما يحتاجه الأهل في البيت، فالذي يقضي ليله في السهر لن يكون فعالاً في عمله ولا في دراسته ولا في أسرته، بل يكون فاشلاً عالة على غيره.
ومنها مخالفة الفطرة التي جعلها الله عز وجل للإنسان في هذه الحياة، فقد قال سبحانه: وَجَعَلْنَا الَّيْلَ لِبَاسًا وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا [النبأ:10، 11]، وصاحب السهر معكوس الفطرة، حيث جعل الليل للسهر والنهار للنوم.
فلنحذر هذه الظاهرة الخطيرة ظاهرة السهر، وإن كان لا بد فلنجعله في موازين أعمالنا الصالحة كقيام الليل وطلب العلم وتلاوة القرآن الكريم.
أسأل الله لي ولكم علمًا نافعًا وعملاً خالصًا وسلامة دائمة.
اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى...
ــــــــــــــــــــ(67/255)
صِلُوا أرحامَكم
...
...
2474
...
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
...
...
الأرحام, مكارم الأخلاق
...
ناصر بن محمد الأحمد
...
...
الخبر
...
11/10/1424
...
...
النور
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- اقتران الأمر بالتوحيد بالأمر بالبرّ والصلة. 2- صلة الرحم بركة في الرزق والعمر والعمل. 3- سُبُل صلة الرحم. 4- شؤم قطيعة الرحم وسوء عاقبتها. 5- النصرة على الباطل ليست من صلة الرحم في شيء. 6- أهمية الصفح والعفو في صلة الرحم. 7- بيان الأرحام.
الخطبة الأولى
أما بعد: انتهت أيام العيد الجميلة، وإن أجمل ما كان في العيد هو التزاور بين الأرحام وصلة ذات القرابات، ممن ربما مرّ على الواحد منا أشهر بل ربما سنة وهو لم يره أو يسمع حديثه، فجاء العيد بنفحاته وبركاته، ومن تلكم النفحات زيارة ذوي القرابات.
أيها المسلمون، ما أمر الله بتوحيده وما نهى عن الإشراك به إلا وقَرَنَ ذلك بالإحسان إلى الوالدين والأقربين، اقرؤوا إن شئتم: وَاعْبُدُواْ اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِى الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِى الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا [النساء:36]، وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَانًا [الإسراء:23]، ثم قال سبحانه: وَءاتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ [الإسراء:26].
إن أساس التواصل والرباط الموثّق هو التوادّ والتراحم، وإذا فُقِد ذلك تقطّعت الأوصال واستشرى الفساد وحقّت لعنة الله عياذًا بالله، وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِى الأرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوء الدَّارِ [الرعد:25].
إن صلة الرحم بركة في الأرزاق وتوفيق في الحياة، ويكتب الله بها العزّة والمنعة، وتمتلئ القلوب بها إجلالاً وهيبة. أخرج الإمام أحمد وابن ماجه عن عائشة رضي الله عنها مرفوعًا: ((وصلة الرحم وحسن الخلق وحسن الجوار يعمران الديار ويزيدان الأعمار))، وروى البزّار بإسناد جيد والحاكم عن علي قال: (من سرّه أن يُمدّ له في عمره ويوسّع له في رزقه ويدفع عنه ميتة السوء فليتق الله وليصل رحمه)، وفي صحيح البخاري مرفوعًا: ((من أحب أن يُبسط له في رزقه ويُنسأ له في أجله فليصل رحمه))، وفي الخبر: (صلة الرحم محبة في الأهل ومثراة في المال ومنسأة في الأثر) أي: زيادة في المال والعمر وبركة فيهما.
بصلة الأرحام تقوى المودّة، وتزيد المحبّة، وتتوثّق عُرى القرابة، وتزول العداوة والشحناء، ويحِن ذو الرحم إلى أهله.
اعلموا ـ رحمني الله وإياكم ـ أن صلة الرحم والإحسان إلى الأقربين ذات مجالات واسعة ودروب شتّى، فمن بشاشة عند اللقاء ولين في المعاملة، إلى طيب في القول وطلاقة في الوجه. إنها زيارات وصِلات، وتفقّد واستفسارات، مكالمة ومراسلة، إحسان إلى المحتاج، وبذل للمعروف، وتبادل في الهدايا. ينضم إلى ذلك غض عن الهفوات وعفو عن الزلات وإقالة للعثرات، عدل وإنصاف، واجتهاد في الدعاء بالتوفيق والصلاح. وأصدق من ذلك وأعظم مداومة الصلة ولو قطعوا، والمبادرة بالمغفرة إذا أخطؤوا، والإحسان إليهم ولو أساؤوا. إن مقابلة الإحسان بالإحسان مكافأة ومجازاة، ولكن الصلة الواصلة بُينت في قول نبينا محمد : ((ليس الواصل بالمكافئ، ولكن الواصل من إذا قُطِعت رحمه وصلها)). وجاء رجل إلى النبي فقال له: يا رسول الله، إن لي قرابة أصِلُهم ويقطعوني، وأُحسن إليهم ويسيئون إليّ، وأحلم عليهم ويجهلون عليّ، فقال عليه الصلاة والسلام: ((لئن كان كما تقول فكأنما تسفّهُمُ المَلّ ـ أي: تطعمهم الرماد الحار في أفواههم ـ، ولا يزال معك من الله ظهير ما دمت على ذلك)).
ومع كل ذلك أيها المؤمنون، ومع هذه الآيات والأحاديث فإن في الناس من تموت عواطفه، ويزيغ عن الرشد فؤاده، فلا يلتفت إلى أهل، ولا يسأل عن قريب. إن العار والشنار فيمن منحه الله جاهًا وأحسن له رزقًا، ثم يتنكّر لأقاربه أو يتعالى عليهم، بل قد يترفع أن ينتسب إليهم فضلاً عن أن يشملهم بمعروفه ويمدّ لهم يد إحسانه.
إن قطيعة الرحم شؤم وخراب وسبب للعنة وعمى البصر والبصيرة، فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ فِى الأرْضِ وَتُقَطّعُواْ أَرْحَامَكُمْ أَوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ [محمد:23، 24].
إن تقطيع الأرحام من أعظم كبائر الذنوب، وعقوبتها مُعجّلة في الدنيا قبل الآخرة، أخرج أبو داود والترمذي وصححه الحاكم عن أبي بكرة عن النبي قال: ((ما من ذنب أجدر أن يُعجّل الله لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدّخره له في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم))، وروى الإمام أحمد والبخاري في الأدب المفرد عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((إن أعمال بني آدم تعرض كل عشيّة خميس ليلة الجمعة، فلا يُقبل عمل قاطع رحم)).
فأسرة الإنسان وقرابته ـ يا عباد الله ـ هم عدّته وسنده، وهم أصله وقوته، يقول علي رضي الله عنه: (أولئك هم عشيرتك، بهم تصول وتطول، وهم العدّة عند الشدّة، أكرِم كريمهم، وعُد سقيمهم، ويسِّر على معسرهم، ولا يكن أهلك أشقى الخلق بك).
أيها المؤمنون، إن صلة الأرحام حق لكل من يمتّ إليك بصلة نسب أو قرابة، وكلما كان أقرب كان حقه ألزم وأوجب: أمك وأباك ثم أدناك أدناك. وطريق القيام بحق الأقارب والأرحام فشو المودّة واتساع الصدور وسلامة القلوب. وإن أعظم ما امتن الله به على الزوجين اللذين هما أصل الأسرة ونواتها أن جعل المودة والرحمة بينهما، وَمِنْ ءايَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْواجًا لّتَسْكُنُواْ إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً [الروم:21].
أيها المسلمون، إن أسرع الخير ثوابًا البرّ وصلة الرحم، وأسرع الشرّ عقوبة البغي وقطيعة الرحم، ومع هذا ترى في بعض مَن قَلّ نصيبهم مِن الخير مَن يسارع في قطع صِلاته بأقاربه لأدنى سبب، إما لكلمة سمعها، أو شيءٍ صغيرٍ رآه، وما درى أنه بهذا قد يجرّ إلى نفسه وأهله العداوة والجفاء، فيستحقّون اللعنة وزوال النعمة وسوء العاقبة، وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِى الأرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوء الدَّارِ [الرعد:25]. ولقد أوصى زين العابدين علي بن الحسين ابنه رضي الله عنهم أجمعين فقال: "لا تصاحب قاطع رحم، فإني وجدته ملعونًا في كتاب الله في ثلاثة مواضع".
فاتقوا الله، وصلوا أرحامكم، فأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض. قدّموا لهم الخير ولو جفوا، وصلوهم وإن قطعوا، يُدِم الله عليكم بركاته، ويبسط لكم في الأرزاق، ويبارك في الأعمار. قال الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ وَإِيتَآء ذِى الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْى يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النحل:90].
أيها المسلمون، اعلموا أن حق القريب رحم موصولة وحسنات مبذولة وهفوات محمولة وأعذار مقبولة، ولئن كانت صلة الرحم تعني الإحسان إلى المحتاج ورفع الظلم عن المظلوم والمساعدة على وصول الحق فليس من صلة الرحم المناصرة على الباطل والعون على الظلم والبغي والعدوان، فما هذا إلا الحميّة الجاهلية الممقوتة، تفشو بها العداوة، وينشر بها الفساد، وتتقطّع بها الأرحام، ولن يكون البغي والعدوان طريقًا إلى الحق أو سبيلاً إلى العدل والخير. فاعرفوا الحق وميّزوه عن الباطل، ولا تأخذكم العزّة بالإثم، واستقيموا على أمر ربكم، ((أطعموا الطعام، وأفشوا السلام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام؛ تدخلوا الجنة بسلام)).
لقد شاء المولى تعالى وتبارك بلطفه وتدبيره وحكمته وتقديره أن يكون بناء الإنسانية على وشيجة الرحم وقاعدة الأسرة من ذكر وأنثى من نفس واحدة وطبيعة واحدة، رحم وقربى تتوثّق عراها، ويتجذّر نباتها؛ ليقوم على سُوقِه بإذن ربه، فيحمى من المؤثّرات، ويحفظ من العاديات.
يقول بعض أهل العلم: "ما بُعِث أنبياءُ الله في أواسط البيوت من أقوامهم إلا لما يُقَدّر الناس من أمر الرحم، ويعرفون من شأن القرابة"، قُل لاَّ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِى الْقُرْبَى [الشورى:23]. وحينما قلّت عشيرة نبي الله لوط عليه السلام وضعف ركن قرابته أعذر نفسه بقوله: قَالَ لَوْ أَنَّ لِى بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِى إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ [هود:80]، ومن ثم قال نبينا محمد : ((يغفر الله للوط، إن كان ليأوي إلى ركن شديد، ولكنه عنى عشيرته، فما بعث الله نبيًّا بعده إلا في ثروة من قومه)). ومن بعد لوط قال قوم شعيب لشعيب عليه السلام: وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ [هود:91]، وامتن الله على نبيه محمد بقوله: أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَاوَى [الضحى:6].
أيها المسلمون، إذا كتب الله لعبده التوفيق فكان إلفًا مألوفًا محبًّا لأهله رفيقًا بأقربائه حفيًّا بعشيرته انتصر بالألفة على أعاديه، وامتنع بالإحسان من حاسديه، فسلمت له نعمته، وصفت له معيشته، فيجتمع عليه الشمل، ويمتنع عنه الذل، وخير الناس أنفعهم للناس. ولقد علم العقلاء والحكماء وأصحاب المروءات أن تعاطف ذوي الأرحام وتوادّ أهل القربى يبعث على التناصر والألفة، ويُجنّب التخاذل والفرقة.
النفس الرحيمة الواصلة الكريمة الباذلة يورث الله لها ذكرًا حسنًا في الحياة وبعد الممات، الألسن تلهج بالثناء، والأيدي تمتد بالدعاء. تعيش بين الناس بذكرها وذكراها أمدًا طويلاً، يبارك لها في الحياة فتكون حافلة بجليل الأعمال وجميل الفعال وعظيم المنجزات وكثرة الآثار. من وصل أقاربه أحبّه الله وأحبّه الناس، ووضع له الذكر والقبول. وجُبِلت النفوس على حبّ من أحسن إليها، ألم تقل الرحمُ وهي متعلقة بعرش الرحمنِ: من وصلني وصله الله، ومن قطعني قطعه الله؟! وقال لها رب العزّة في الحديث القدسي: ((من وصلك وصلته، ومن قطعك قطعته))، وإنكم لتعلمون أن من وصله الله فلن ينقطع أبدًا، ومن قطعه الله فلن ينفعه أحد من الخلق كائنًا من كان.
إن من صلة الرحم أن تغفر الهفوة وتستر الزلة، فأي صارم لا ينبو؟! وأي جواد لا يكبوا؟! وما العقل والفضل والنبل إلا أن تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتعفو عمن ظلمك، وتحلم على من جهل عليك. ويزداد النبل ويعظم الفضل وتسمو النفس حين تحسن الظن بهم، وتحمل أخطاءهم على المحمل الحسن، وتنظر في عثراتهم نظر العاذر الكريم.
اسمع ـ رعاك الله ـ إلى هذه القصة التي تنضح نُبلاً وشرفًا: حُكي عن بنت عبد الله بن مطيع أنها قالت لزوجها طلحة بن عبد الرحمن بن عوف، وكان أجود قريش في زمانه، قالت: يا طلحة، ما رأيت قومًا ألأمَ من إخوانك، قال: ولم ذاك؟! قالت: أراهم إذا أيسرتَ وكثر مالك زاروك ولزموك، وإذا أعسرت تركوك، قال: هذا والله من كرمهم، يأتوننا في حال القوة بنا عليهم، ويتركوننا في حال الضعف بنا عنهم.
فانظروا كيف تأوَّل بكرمه هذا التأويل، وفسّر بنبيل أخلاقه هذا التفسير، حتى جعل قبيح فعلهم حسنًا، وظاهر غدرهم وفاءً. وهذا محض الكرم ولباب الفضل، وبمثل هذا يلزم ذوي الفضل أن يتأوّلوا الهفوات، ويمحوا الزلات من إخوانهم وأرحامهم وأصهارهم، إنه تغافل مع فطنة، وتآلف صادر عن وفاء. وعلاقات الرحم ووشائج القربى لا تستقيم ولا تتوثق إلا بالتغافل، فمن شدّد نفَّر، ومن تغاضى تآلف، والشرف في التغافل، وسيد قومه المتغابي.
أين طلحة بن عبد الرحمن في هذه القصة من أناس ماتت عواطفهم وغلب عليهم لؤمهم؟! فلا يلتفت إلى أهل، ولا يسأل عن قريب، ولا يود عشيرة، إن قرُبوا أقصاهم، وإن بعدوا تناساهم، بل يبلغ به اللؤم أن يقرب أصحابه وزملاءه، ويجفو أهله وأقرباءه، يُحسِن للأبعدين، ويتنكّر للأقربين، بطون ذوي رحمه جائعة، وأمواله في الأصدقاء والصِحاب ضائعة. تراه يحاسب لهفوة صغيرة، ويقطع رحمه لزلة عابرة، إما بسبب كلمة سمعها أو وشاية صدّقها أو حركة أساء تفسيرها.
معاذ الله عباد الله، ربما كان بين الإخوة والأقارب من القطيعة ما يستحقون به لعنة الله من فوق سماواته، اقرؤوا إن شئتم: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ فِى الأَرْضِ وَتُقَطّعُواْ أَرْحَامَكُمْ أَوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ [محمد:23]، نعم يستحقون اللعنة، وتحل بهم النقمة، وتزول عنهم النعمة. والجنة تبلغ ريحها خمسمائة عام، ولا يجد ريحها عاقّ ولا قاطع رحمٍ.
من لم يصل رحمه ويتعاهد بخيره أقاربه فلا خير فيه ولا نفع منه، من ذا الذي قد فاض ماله يأكل ويشرب ويكتسي ويتمتّع وأقاربه الضعفاء عراة جائعون ورحمه البؤساء مهملون ضائعون؟!
ألم تعرفوا أنه من شريف خصال نبيكم محمد وخصاله كلها شريفه، ألم تقرؤوا نعت خديجة لحبيبها محمد : (كلا والله لا يخزيك الله أبدًا، إنك لتحمل الكَلّ، وتصل الرحم، وتقْرِي الضيف، وتُكسِب المعدوم، وتُعين على نوائب الحق)، صلة كريمة تحوطها السماحة، ويظللها الحلم، ويحيط بها العفو، ويحكمها ضبط النفس. حسن معاملة تعلو بها المراتب، ويكثر بها الأحباب، وتستجلب بها المودّات، وتحسن بها العواقب.
فحذار حذار ـ رحمكم الله ـ من التساهل مع أحق الناس بحسن صحبتكم، وإياكم إياكم أن تتضارفوا وتتكايسوا مع الأبعدين وتنسوا الأقربين، فإنكم إن فعلتم غَبنتم أنفسكم وظلمتم الحق الذي عليكم، وقد علمتم أن تقطيع الأرحام يهدم كيان الأسرة، ويزلزل أركان العشيرة، ويجعل أفرادها مرتعًا للفتن ونهبًا للأحقاد وفريسة للتمزّق.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
الخطبة الثانية
أما بعد: أيها المسلمون، اتقوا الله تعالى، وصلوا ما أمر الله به أن يوصل من حقوقه وحقوق عباده، صِلُوا أرحامكم، والأرحام والأنساب هم الأقارب، وليسوا كما يفهم بعض الناس أقارب الزوج أو الزوجة، فإن أقارب الزوج أو الزوجة هم الأصهار، فأقارب زوج المرأة أصهار لها وليسوا أنسابًا لها ولا أرحامًا، وأقارب زوجة المرء أصهار له، وليسوا أرحامًا له ولا أنسابًا. إنما الأرحام والأنساب هم أقارب الإنسان نفسه كأمه وأبيه وابنه وبنته، وكل من كان بينه وبينه صلة من قِبَل أبيه أو من قبل أمه أو من قبل ابنه أو من قبل ابنته.
صلوا أرحامكم بالزيارات والهدايا والنفقات، صلوهم بالعطف والحنان ولين الجانب وبشاشة الوجه والإكرام والاحترام وكل ما يتعارف الناس من صلة، إن صلة الرحم ذِكْرى حسنة وأجر كبير، إنها سبب لدخول الجنة وصلة الله للعبد في الدنيا والآخرة، اقرؤوا إن شئتم قول الله تعالى: إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنقُضُونَ الْمِيثَاقَ وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ [الرعد:19-24]. وفي الصحيحين عن أبي أيوب الأنصاري أن رجلاً قال: يا رسول الله، أخبرني بما يدخلني الجنة ويباعدني من النار، فقال النبي : ((لقد وُفّق ـ أو قال: ـ لقد هُدي، كيف قلت؟)) فأعاد الرجل، فقال النبي : ((تعبد الله ولا تشرك به شيئًا، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصل ذا رحمك))، فلما أدبر قال النبي : ((إن تمسك بما أمرته به دخل الجنة)).
وأعظم القطيعة قطيعة الوالدين، ثم من كان أقرب فأقرب من القرابة، ولهذا قال النبي : ((ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟)) ثلاث مرات، قلنا: بلى يا رسول الله، قال: ((الإشراك بالله وعقوق الوالدين)).
إن من الناس من لا ينظر إلى أقاربه نظرة قريب لقريبه، ولا يعاملهم معاملة تليق بهم، يخاصمهم في أقل الأمور، ويعاديهم في أتفه الأشياء، ولا يقوم بواجب الصلة، لا في الكلام ولا في الفعال ولا في بذل المال، تجده ثريًّا وأقاربه محاويج، فلا يقوم بصلتهم، بل قد يكونون ممن تجب نفقتهم عليه لعجزهم عن التكسب وقدرته على الإنفاق عليهم فلا ينفق، وقد قال أهل العلم: كل من يرث شخصًا من أقاربه فإنه يجب عليه نفقته إذا كان محتاجًا عاجزًا عن التكسب وكان الوارث قادرًا على الإنفاق؛ لأن الله تعالى يقول: وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ [البقرة:233]، أي: مثل ما على الوالد من الإنفاق، فمن بخل بما يجب عليه من هذا الإنفاق فهو آثم محاسب عليه يوم القيامة سواء طلبه المستحق منه أم استحيا وسكت.
فيا عباد الله، يا من آمنوا بالله ورسوله، انظروا في حالكم، انظروا في أقاربكم، هل قمتم بما يجب لهم عليكم من صلة؟! هل ألنتم لهم الجانب؟! هل أطلقتم الوجوه لهم؟! وهل شرحتم الصدور عند لقائهم؟! هل قمتم بما يجب لهم من محبة وتكريم واحترام؟! هل زرتموهم في صحتهم؟! وهل عدتموهم في مرضهم؟! هل بذلتم ما يجب بذله لهم من نفقة وسداد حاجة؟!
هذا، وصلّوا وسلّموا على خير البريّة وهادي البشريّة...
ــــــــــــــــــــ(67/256)
الأيتام
...
...
3034
...
الأسرة والمجتمع
...
...
الأبناء, قضايا الأسرة, قضايا المجتمع
...
أحمد بن عبد العزيز الشاوي
...
...
بريدة
...
...
...
جامع المنتزه الشرقي
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- هل اليتم هو بوفاة الوالدين أو أحدهما فقط؟ 2- التفريط بحقوق الأبناء أشد من اليتم الحقيقي. 3- السلبيات والأمراض الناتجة عن تفريط الآباء في تربية أبنائهم. 4- تجريم الإسلام للآباء والمسؤولين غير المراعين لحقوق الأبناء. 5- أسباب هذه الظاهرة وعلاجها.
الخطبة الأولى
أما بعد: فاتقوا ربكم يا مسلمون، وإن تتّقوا الله يجعل لكم فرقانا، ويكفر عنكم سيئاتكم، ويغفر لكم، والله ذو الفضل العظيم.
إذا كان الموت ضحاياه أيتام فقدوا حنان الأبوة فإن هؤلاء سيلقون من أمهاتهم وأقاربهم من يكفلهم ويرعاهم، وإذا كانت الجريمة الخُلقية ومقدّماتها تثمر أيتامًا مجهولي النسب بلا أم ولا أب فإن أولئك سيجدون من أهل الخير والإحسان من يحتضنهم ويهتمّ بأمرهم، لكن حينما يكون اليتم من أنواع أُخر فإن تلك ـ ورب ـ لإحدى الكبر، أيتام هذا النوع ليسوا ضحية وفاة ولا نتاج فاحشة، ولكنهم ضحايا لآباء وأمهات لم يدركوا أسباب الهداية ولم يركبوا سفينة النجاة.
أيتام هذا النوع من ضحايا آباء قد شُغِلوا وأمهات تخلَّين عن القيام بالمسؤولية، فأسندت التربية للخادمات والمتابعة للسائقين، وذاك ـ وربي ـ هو اليتيم بعينه.
ليس اليتيم من انتهى أبواه من همّ الحياة وخلّفاه ذليلاً
فأصاب بالدنيا الحكيمة منهما وبحسن تربية الزمان بديلاً
إنّ اليتيم هو الذي تلقى له أمًّا تخَلّت أو أبًا مشغولاً
أيتام هذا النوع ضحايا لحالات الطلاق يوم أن يكون الولد ضحية للعناء والتغيب والمهاترات، ويوم أن يبقى الولد مشفقًا بين أب مشغول بزوجة جديدة وأم مشغولة ببعل جديد. أيتام هذا النوع ضحايا الفهم الخاطئ لتعدد الزوجات، حينما يكون همُّ الزوج قضاء الوطر وإشباع الغريزة دون أن يرى في حاجات الأبناء ومتطلبات التربية. أيتام هذا النوع ضحية تسلط الزوجة الثانية حينما تكون ممن لا يخشى الله ولا يتقيه، حينما تكون سببًا في إيغار صدر الأب على أولاده وإشغاله عن واجباته. أيتام هذا النوع هم ضحايا السلبية المفرطة يوم أن تخلى الآباء عن واجب التربية، وشغلوا بجمع الحطام أو السهر مع الرفاق.
اليتم هذا ولَّد جيلاً منحرفًا يتلقّى قدواتِه من السافلين والسافلات ممن صنع منهم الإعلام أبطالاً ونجومًا. هذا اليتم ولّد شبابًا تائهًا في دروب الانحراف والرذيلة، لا يلقى موجها ولا يجد محاسبًا ولا معاتبًا. هذا اليتم ضحاياه بنات في عمر الزهور وقعن في شراك المعاكسات، وانتهى بهن المطاف إلى نهاية أليمة وعواقب وخيمة. هذا اليتم ضحاياه شباب صغار أدمنوا التدخين، وتورّطوا في انحرافات خُلقية؛ لأنهم فقدوا من يسأل عنهم وهو حيّ. هذا اليتم ضحاياه جيل من شباب الأمة غرق في وحل المخدرات ومستنقع الشهوات. ضحايا هذا اليتم أبناء أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات؛ لأنهم لم يظفروا بالولي الذي يخاطبهم قائلاً: يا بنيَّ أقم الصلاة. ضحايا هذا اليتم شباب تجدهم مع كثبان الرمال، يمارسون أعمالاً تأنف منها الرجولة وتتنافى مع الحياة والمروءة. ضحايا هذا اليتم طلاب فاشلون في حياتهم الدراسية والعملية. هذا اليتم صنعه الآباء يوم أن شغلوا عن بيوتهم، وأصبحت الاستراحات مكان أنسهم ومتعتهم.
إنّ هناك أناسًا شغِلوا عن بيوتهم بكسب المال، فترى الواحد منهم يكدح طوال النهار وطرفًا من الليل، ولا يعود إلى داره إلا مكدود الجسم مهدود القوى، قد استنفد طاقته حتى لم يعد لديه استعداد لحديث ولا مؤانسة لأهله وولده، قد يكسب من ورائه مالاً ومتاعًا، ولكنه يعرض نفسه لخسران الحياة الزوجية وضياع الأولاد والذرية.
وأسوأ من هؤلاء أناس شغلوا عن بيوتهم بمعاشرة الأصدقاء والسمر في الاستراحات وحضور الحفلات والسهرات والاشتراك في الرحلات، فترى الواحد منهم بعيدا عن بيته وأهله معظم الأوقات، وإن لم يذهب من الدار جاء هؤلاء الأصدقاء إليه. إن هذا الإنسان قد يكسب ود عدو من الأصدقاء، وقد يكسب سمعة اجتماعية جيدة، ولكنه يعرض نفسه إلى خسران السعادة البيتية.
وهناك أناس شغلوا عن أولادهم بأمور محمودة، فتراهم في ذكر وعبادة ونصح للناس ودعوة. إن هؤلاء جميعًا قد فقدوا القدرة على الموازنة بين الحقوق المقدمة، وفقدان القدرة على هذه الموازنة يورث خللاً واضطرابًا في الحياة الداخلية للفرد منهم في حياته مع زوجته وأولاده.
إن الأهل والذرية ـ أيها المسلمون ـ من أحق الناس بالعناية وبأن توجه الدعوة إليهم. إن الواحد من هؤلاء الذين فقدوا القدرة على تلك الموازنة لا يلبث أن يستيقظ من غفلته فإذا هو في وادٍ وزوجته وأولاده في وادٍ آخر، أفكاره غير أفكارهم، ومواقفه تختلف عن مواقفهم، وسلوكه في الحياة بعيد عن سلوكهم، وذلك لأنه ترك أهله وأولاده خاضعين لمؤثرات أخرى من وسائل الإعلام بأنواعها والبيئة والعلاقات والقرابات، وربما كان كثير منها لا يتفق مع اتجاهه في الحياة. ومن أصعب الأمور على النفس أن يرى المرء زوجه وأولاده يسيرون في طريق الزيغ والانحراف والضلال.
التفكك الأسري بكافة أشكاله سواء تمخّض عن إهمال أو سوء تربية أو افتراق بين الزوجية أو انشغال عن الأهل والأولاد، كل هذه الأشكال من أسباب انحراف الأحداث وتربة خصبة في نفسية الولد لاستقبال بُذور الجريمة، وترعرع هذه النبتة في هذا الجو الملوث.
إن الطفل بحاجة ملحة إلى التغذية النفسية، وهذه الأجواء تحرمه من هذا الغذاء، فلا يسعد بالحنو الكافي، وكيف يرجى أن يستقبل الأب دنيا الناس بالشر وقد عبثت بحقه معاول الإهمال والضياع؟! والذي أضاع حقه من الرعاية والعناية هو الذي دفع به إلى هوة التشرد ومستنقع الأشرار.
وإذا اجتمع مع انشغال الآباء انشغال الأمهات بالوظائف والأعمال كان الأمر أسوأ حينما تُوكَلُ الأمور إلى الخادمات ومؤثرات أخرى، فهذا الجيل الغربي من التائهين والضائعين المحطّمي الأعصاب المبلبلي الأفكار القلقي النفوس، وهذه النسبة الآخذة في الارتفاع حسب إحصاء الغربيين أنفسهم للانحراف والشذوذ بكل صوره وألوانه، هذه الظواهر والآثار كلها هي من آثار التجربة التي خاضها الغرب في المرأة؛ لأن هؤلاء جميعًا هم أبناء العاملات والموظفات الذين عانوا من إرهاق أمهاتهم وهم في بطونهن، ثم تعرضوا لإهمالهن بعد أن وضعنهن، وماذا يبتغي الناس من تجربة فاشلة كهذه؟! أفلا يتدبرون؟!
لذلك اعتبر الإسلام إهمال الأطفال والانشغال عنهم جرمًا كبيرًا وشرًا مستطيرًا، وفي الحديث: ((كفى بالمرء إثمًا أن يضيع من يقوت))، وقال لقاسي الفؤاد الذي يبخل مع طفلة بالقبلة الحانية: ((أوَأملك أن ينزع الله من قلبك الرحمة؟!))، واعتبر كلا من الزوجين متحملاً أمانة التربية والرعاية: ((وكل مسؤول عن رعيته)).
وشرع الدين وسائل عدة للتقارب الزوجي إذا انفجرت براكين الخلاف مخافة أن ينفرط عقد التلاحم الأسري، ولم يشرع الطلاق إلا عند تعذر الوفاق. كل هذا وذاك حماية للناشئين من الضياع والتشرد، ورغبة في إيجاد نشء سوي لا يعتريه النقص النفسي، ولا يتأرجح في سلوكه المستقبلي.
أيها المسلمون، إن هؤلاء الذين يشتغلون عن أهليهم يَجْنون بعد حينٍ المصاب والعلقم، ويتجرّعون غصص العناء والشقاء، والحياة اليوم معقّدة الجوانب مترعة بأسباب التأثير.
أخي رعاك الله، لا أدعوك لكي تكون حبيس منزلك، مؤثِرًا العزلة، قابضًا يدك عن التعاون مع بني جنسك، قاطعًا علاقاتك بالناس، تاركًا الدعوة إلى الله والسعي في طلب الرزق، وإنما هي دعوة للتوازن وإعطاء كل ذي حق حقه قدر الإمكان، فوازنْ بين الحقوق، وليكن لك مع أهلك وأولادك وقت تملؤه بالمؤانسة العذبة والحديث الجذاب، وأشرق عليهم بعطفك ولطفك وحنانك؛ ذلك من أجل أن لا ينشأ أولادنا أيتامًا ونحن أحياء، وحتى نسعد بالولد الصالح والذرية المباركة.
أستغفر الله لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فأسوأ الأيتام حالاً أيتام العلم والأدب، من يعيش بين أبوين لا يدركان من معاني الأبوة والأمومة وحقوقها إلا جلب الطعام والشراب وتأمين وسائل الترفيه وتحقيق طلبات الأبناء دون قيود أو ضوابط شرعية، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا، ومن هؤلاء من زرعوا بذور الفساد والإفساد في بيوتهم، يوم أن نصبوا فيها أجهزة تبث الرذيلة وتحارب الفضيلة وتقتل الحياء وتسلب الصفاء والنبل من الأبناء، أجهزة أثبتت الأحداث والوقائع أنها هزت أخلاق الأمة وخلخلت ثوابتها ونزعت معالم الدين وتعظيم الشعائر من قلوب الناس، أجهزة ساهمت في صد الناس عن ذكر الله وعن الصلاة، وجرَّأت الشباب على الجرائم والسلوكيات الخاطئة، وعلمت الفتيات فنون التمرد على القيم والآداب والأخلاق، وفي كل يوم يظهر للعيان من شأنها شان، فَمَا لِهَؤُلاء الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا [النساء:78].
إن بيتًا فيه هذه الأجهزة أبناؤه أيتام ولو كانوا بين أبوين يغدقان عليهم صنوف اللباس والطعام والشراب، إن أبًا يجلب هذه الأجهزة لبيته لهو أب يصنع معالم اليتم وأمارات الحرمان، ويداه أوكتا وفوه نفخ.
إن مثل هذا الأب هو من عنته تلك الفتاة حينما قالت:
ألبستنا ثوب الرذيلة ضافيا وتركتنا نَختال فيه و نرفل
إنِّي ليحزنني بأنك يا أبِي يوم القيامة عن صناعي تُسأل
أيها المسلمون، إن الله سائل كل راع عما استرعاه: حفظ ذلك أم ضيعه، و((ما من عبد يسترعيه الله رعيه يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة))، و((كفى بالمرء إثمًا أن يضيع من يقوت))، بهذا صحت الأخبار عن النبي المصطفى المختار.
قال ابن القيم رحمه الله: "فوصية الله للآباء بأولادهم سابقة على وصية الأولاد بآبائهم، فمن أهمل تعليم ولده ما ينفعه وتركه سدى فقد أساء غاية الإساءة، وأكثر الأولاد إنما جاء فسادهم من قبل الآباء وإهمالهم لهم وترك تعليمهم فرائض الدين وسننه، فأضاعوهم صغارًا، فلم ينتفعوا بأنفسهم ولم ينفعوا آباءهم كبارًا".
أيها الآباء الكرام، لكي نرفع عن أبنائنا اليتم الأقسى والأمَرّ ولكي لا نجعل من أبنائنا يتامى ونحن أحياء، لكي نسعد بصلاحهم وبرّهم في الحياة ونقرّ بدعائهم بعد الممات، فإن في هدي الإسلام وتعاليمه الدواء والغذاء.
أيها الأب المبارك، ابدأ بنفسك ثم بمن تعول، فقوِّمْ نفسك تستقِمْ لك ذريتك، إذ كيف يستقيم الظل والعود أعوج؟! وانظر كيف حفظ الله اليتيمَين بصلاح والدهم، قال تعالى: وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِى الْمَدِينَةِ الآية [الكهف:82].
اجعل من هدي رسول الله لك منهجًا وقدوة، فهو النبي الذي لم تشغله هموم الأمة وتكاليف الرسالة عن القيام بحقوق الأهل والذرية، واقرأ في سيرته وقصصه مع أبنائه وأبناء بناته تجد صورًا تعجز الكلمات عن وصف دلائلها.
الانشغال عن الأهل والولد تفريط في حقّ الرجل والأسرة وظلم بيِّن، وإن أحقّ الناس بتوجيهك أولادك وزوجك الذين معهم تعيش وبهم تُعرَف، وشرهم وخيرهم مقرون بك، فكن لهم معاشرًا، ولا تتركهم نهبًا للوساوس والخطرات وعرضة للوحشة والأزمات وفريسة للمغريات والمفسدات.
اغرس في أولادك بذور الفضيلة، وجنبهم خوارمها، وراقب تصرفاتهم، وتعرف على جلسائهم، واربطهم بالصحبة الصالحة والمجالس الإيمانية، ونمْ بعدها قرير العين، لا نومة غافل متساهل، ولكن نومة من ينام بإحدى مقلتيه ويتقي بأخرى المنايا، فهو يقظان نائم.
حَصِّنْ أفكار أولادك بنين وبنات من الأفكار الرذيلة والدعوات المنحرفة والدعايات المضللة، وغذِّ عقولهم بالعلم النافع والغذاء الفكري الهادف. أشركْ شريكة حياتك وأولادك الكبار في مهمة رعاية الأسرة وتنشئة أفرادها على الخير والفضيلة.
وبعد أن تبذر البذرة وتغرس الفسيلة ارفع يدك إلى مَنْ قلوبُ العباد بين أصبعين من أصابعه وقل: يا رب، هَبْ لِى مِن لَّدُنْكَ ذُرّيَّةً طَيّبَةً [آل عمران:83]، وقل: رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْواجِنَا وَذُرّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ [الفرقان:74]، كما قال عباد الرحمن، وردّد: رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ [النمل:19]، وإنك بعدها ستسعد بإذن الله بأبناء بررة وذرية صالحة ترفع رأسك في حياتك، وتدعو لك بعد مماتك، ويوم أن تُغفِل ذلك فأبناؤك يتامى ولو كنت فوق أطباق الثرى، فإن اليتيم حقًا يتيم العلم والأدب، ويوم أن تفعل ذلك سيسعد أبناؤك بتربيتك وعلمك ولو حرموا من روحك وجسمك. وإذا فعلت السبب ولم يتحقق لك الطلب فاعلم أن ذلك ابتلاء من الله، والله يختص برحمته من يشاء، ولك في نبي الله نوح مع ابنه أسوة، وحسبك أنك قمت بالرسالة وأديت الأمانة، فبرئت ذمتك ورفعت عنك الملامة.
أقرَّ الله عينك بصلاح أهلِك وولدك، وأسعدك بهداية فلذةِ كبدك، إنه على كل شيء قدير.
اللهم صلِّ وسلم على خير البشر ومَنْ بَشَّر وأنذَر نبينا محمد وعلى آله وصحبه...
ــــــــــــــــــــ(67/257)
عقوق الوالدين
...
...
3037
...
الأسرة والمجتمع
...
...
الوالدان
...
أحمد بن عبد العزيز الشاوي
...
...
بريدة
...
4/8/1420
...
...
جامع المنتزه الشرقي
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- ظاهرة عقوق الوالدين في زماننا. 2- العقوق خزي في الدنيا وعذاب في الآخرة. 3- ثمرة برّ الوالدين وكيفية البر. 4- تربية الشباب على بر الوالدين. 5- صور من بر الأبناء بالآباء. 6- البر بالوالدين بعد موتهما.
الخطبة الأولى
أما بعد: فيا أيها الذين آمنوا، وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِى تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].
أمة الإسلام، في عصرنا الحاضر جحود بالفضل ونكران للجميل وانغماس في الشهوات وقمع بالباطل وفرار من معاني الروح وتسابق إلى أحضان المادة. في مجتمعنا الحالي عقوق للآباء وبغض للأقرباء وحسد بين الجيران وغدر بالأصحاب وخيانة للأمانة وغش في المعاملات، فإلى أين تسير؟! قف ـ أيها الغافل ـ قليلاً كي نبين الطريق ونحدّد الغاية وإلا فالنهاية الخاسرة تنتظرنا إن لم نعمد إلى نفوسنا فنقومها، وأخلاقنا فنحسنها، وطباعنا فنهذبها، ومعاملاتنا فنصلحها. ولنبدأ بالنفس فننير لها السبيل ونحدّد ما لها من حقوق وما عليها من واجبات، فإذا استقامت رسخت دعائم المجتمع قوية متماسكة، تستقيم النفس بالتربية، والتربية مصدرها الأول الوالدان، وهما موضوع حديثنا.
والحديث عنهما عبارات حديث عن حق لا ينسى، وأنى للعبارات عن الوالدين أن توفيهما حقهما؟! إنه حديث عن الأمّ التي تحملت ما يفوق الوصف عن آلام الحمل والولادة وهموم الرضاع، سهر بالليل ونصب بالنهار في سبيل الرعاية والحماية لوليدها. إنها الأم التي تذبل لذبول وليدها، وتغيب بسمتها إن غابت ضحكته، وتذرف دموعها إن اشتد توعكه، وتحرم نفسها الطعام والشراب من أجله، وتلقي نفسها في النار لتنقذه، وتتحمل من الذل والشقاء أمثال الجبال كي يحيا ويسعد.
إنها الأم التي يرقص قلبها إذا ضحك الوليد، ولا تسعها الدنيا نشوة إذا حبا أو مشى، وتسمع نغم الدنيا في كلمته، وترى الحياة كلها نورًا وجمالاً وهي تراه مع الصبيان يلعب أو إلى المدرسة يذهب.
إنها الأم التي طعامك درها، وبيتك حجرها، ومركبك يداها وصدرها وظهرها، تحيطك وترعاك، وتجوع لتشبعك أنت، وتسهر لتنام أنت، فهي بك رحيمة وعليك شفيقة.
إنها الأم التي تعيش لولدها ومعه، وهي تنتظر الأيام الحاسمة في حياتها وحياته حين ينجح ويكسب ويتزوج هل يكون لها في ولدها نصب أم كل جهودها وتضحياتها وآمالها تذهب أدراج الرياح؟!
وهو حديث عن الأب الذي من أجلك يكدّ ويشقى لراحتك، يروح ويسعى ويدفع عنك صنوف الأذى، ينتقل في الأسفار يجوب الفيافي والقفار ويتحمّل الأخطار بحثًا عن لقمة العيش.
يا شباب الإسلام، إن البرّ بالوالدين والإحسان إليهما عام مطلق ينضوي تحته ما يرضى الابن وما لا يرضى من غير امتناع ولا جدل ولا مناقشة ولا ضجر، ذلك أن كثيرًا من الأبناء يحسبون أن البر فيما يروق لهم ويحقق رغباتهم وفيما تهواه نفوسهم، والحق أن البر لا يكون إلا فيما يخالف أهواءهم وميولهم ولو كان فيما يوافقها لما سمي برًا.
أيها المسلمون، إن العار والشنار والويل والثبور أن يفاجأ الوالدان بإنكار للجميل، كانا يتطلعان إلى الإحسان ويؤملان الصلة بالمعروف، فإذا بهذا المخذول قد تناسى ضعفه وطفولته، وأعجب بشبابه وفتوته، وغره تعليمه وثقافته، وترفع بجاهه ومرتبته، يؤذيهما بالتأفف والذم، ويجاهرهما بالسوء وسيّئ القول، يقهرهما وينهرهما.
فيا أيها المخذول، هل حينما كبرا فاحتاجا إليك جعلتهما أهون الأشياء عليك؟! قدمت غيرهما بالإحسان، وقابلت جميلهما بالنسيان، شق عليك أمرهما، وطال عمرهما، أما علمت أن من برَّ بوالديه برّ به بنوه، ومن عقهما عقوه، ولسوف تكون محتاجًا إلى بر أبنائك، وسوف يفعلون معك كما فعلت مع والديك، وكما تدين تدان، والجزاء من جنس العمل، يقول عليه الصلاة والسلام: ((ما من ذنب أجدر أن تعجل لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدَّخَر له في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم))، وإن من أكبر الكبائر عقوق الوالدين بعد الشرك.
يا أبناء الإسلام، بِرُّ الوالدين خلق الأنبياء وشيمة الأوفياء، فقد قال ربنا عن عيسى عليه السلام أنه قال: وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا [مريم:32]، وقال عن يحيى عليه السلام: وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا [مريم:14]، وإسماعيل عليه السلام ضرب المثل الأعلى في البر حينما استسلم لأمر الله، ثم لأمر أبيه، ولم تقف به نفسه العالية عند هذا الحد، بل أعان أباه على الطاعة وشجعه على تنفيذ أمر ربه فقال: يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ [الصافات:102]، فأين هذا من أبناء هذا الزمان الذين فسدت أذواقهم، وماتت مشاعرهم، واضمحلت عزتهم؟! لا ينفذ أحدهم أمر أمّه إلا إذا دعت عليه وبلغت صيحاتها ودعواتها أقصى الحي، ولا يلبي طلب أبيه إلا إذا عبس في وجهه وقطب وانهال عليه سبًا، وقلما تجد ولدًا يكتفي بإشارة ويفهم بنظرة ويتعظ بتأديب حسن.
يا شباب الإسلام، لقد قال ربكم في شأن الوالدين: وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنْ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا [الإسراء:23، 24]. فبهذه العبارات الندية والصور الموحية يستحث القرآن الكريم وجدان البر والرحمة في قلوب الأبناء.
إن الوالدين يندفعان بالفطرة إلى رعاية الأولاد، إلى التضحية بكل شيء حتى بالذات، وكما تمتص النباتية الخضراء كل غذاء في الحبة فإذا هي فتات، كذلك يمتص الأولاد كل رحيق وكل عافية وكل جهد وكل اهتمام من الوالدين، فإذا هما في شيخوخة ـ إن أمهلهما الأجل ـ وهما مع ذلك سعيدان.
فأما الأولاد فسرعان ما ينسَون هذا كله، ويندفعون بدورهم إلى الأمام، إلى الزوجات والذرية، وهكذا تندفع الحياة، ومن ثم لا يحتاج الآباء إلى توصية بالأبناء، إنما يحتاج الأبناء إلى استجاشة وجدانهم بقوة، ليذكروا واجب الجيل الذي أنفق رحيقه كله حتى أدركه الجفاف، وهنا يجيء الأمر بالإحسان إلى الوالدين في صورة قضاء من الله سبحانه، يحمل معنى الأمر المؤكد بعد الأمر بعبادة البر الرحيم سبحانه.
يا أبناء الإسلام، رضا الوالدين و برهما سبب في حلول الفَرَج إذا بلغت الشدة غايتها وتسهيل العسير وتحقق الأماني، وقصة أصحاب الغار برهان على ذلك. الولد البار ـ يا أبناء الإسلام ـ يهنأ بعمره ويطمئن في عمله، وتحفه السعادة من كل جانب، وفي الحديث: ((من بر والديه طوبى له، زاد الله في عمره)) ضعفه الألباني، فما أحلى الحياة إذا طال فيها العمر وانبسط فيها المال وغمرتها السعادة، وما أهنأ العيش إذا رافقته طمأنينة النفس وراحة الضمير ومحبة الناس.
أيها المسلمون، ولنتفيأ وأنتم ظلال المواقف المشوقة والصور الرائعة للبر عند سلفنا الصالح، لكي نأخذ منها العبر ونجعل منها لنا مثلاً، قال : ((دخلت الجنة فسمعت فيها قراءة فقلت: من هذا؟ فقيل: حارثة بن النعمان))، فقال النبي : ((كذلك البر، كذلك البر)) وكان برًا بأبيه.
وعن محمد بن سيرين قال: بلغت النخلة في عهد عثمان رضي الله عنه ألف درهم، فعهد أسامة بن زيد إلى نخلة فَعَرَقَها، فأخرج جُمّارَها فأطعمه، فقالوا: ما يحملك على هذا وأنت ترى النخلة قد بلغت ألف درهم والجُمّار لا يساوي درهما؟! قال: إن أمي سألتنيه، ولا تسألني شيئًا أقدر عليه إلا أعطيتها.
وكان حَيوة بن شُريح ـ وهو أحد أئمة المسلمين ـ يقعد في حلقته يعلم الناس فتقول له أمه: قم يا حيوة، فألقِ الشعير للدجاج، فيقوم ويترك التعليم.
قال المأمون، لم أرَ أحدا أبرّ من الفضل بن يحيى بأبيه، بلغ من بره أن يحيى كان لا يتوضأ إلا بماء مسخن وهما في السّجن، فمنع السجان من إدخال الحطب في ليلة باردة، فقام الفضل حين أخذ يحيى مضجعه إلى إناء كان يسخّن فيه الماء فملأه ثم أدناه من نار المصباح، فلم يزل قائما وهو في يده حتى أصبح، فمنعه السجان من تسخين الماء بالمصباح، فعمد الفضل إلى الإناء فأخذه في فراشه وألصقه بأحشائه حتى أصبح وقد فتر الماء.
يا شباب الإسلام، أوجّه لكم هذا النداء الذي وجهه أحد الدعاة فهو يقول: يا معشر الأولاد من بنين وبنات، ويا فلذة الأكباد، يا من أصبحتم أو ستصبحون بإذن الله آباء وأمهات، منذ سنين خلت كنت ابنًا مثلكم، وكان لي أم وأب يحنوان عليّ ويريان الدنيا جميلة بي حلوة بوجودي، وكنت سعيدًا بقربهما، فلما فقدت أبي فقدت شطرًا من السعادة وجزءًا كبيرًا من النعيم، وجرح قلبي موته، فبقيت سنين أبكي، ثم انحصر بعده نعيم الحياة ولذاتها في أمي، وكانت والله أمًا طيبة، بقيت ترعاني بدموع عينيها، والتمست سعادتي بشقائها وراحتي بتعبها، وكنت أجد منها حنانها وعطفَ أبي، وأعدّها رأس مالي في الدنيا وزادي إلى الآخرة، ثم حلّ بها الأجل، فلحقت بأبي، فتصدع شرخ شبابي وهو يوقد على أشده، وتضعضعت أرجاء حياتي وهي بالغة قوتها، ووهب الله لي البنين والبنات، فلم ألمس فيهم لذة الأبوة ومحبتها؛ لأني كنت أسعد بشقاء والديّ ويسعد اليوم أولادي بشقائي، وأستريح بتعبهما ويستريحون بتعبي، وكانا يبكيان لألمي وأبكي اليوم لألمهم، فشتان بين تجارتين، لقد كنت بارًا بهما في حياتهما، أؤثرهما على نفسي، وأعمل ما يرضيهما، وأقبل أيديهما صباحًا ومساءً، احترامًا لهما واعترافًا بفضلهما، ولا والله ما وجدت ألين منها.
وكم من الأنوف رغمت ودسّت في التراب عندما تدنست بالعقوق، فهل من آذان صاغية وقلوب واعية تعي هذا الحديث؟! ويا ليت أهل العقوق يقفون على أحوال من سبقهم ليطلعوا على النكال الذي حلَّ بهم والعذاب الذي نزل بهم والضيق الذي ألمّ بهم، فلم يجدوا في ذلك ردعًا لهم ووقاية لهم وإيقاظًا لغفلتهم.
إنه في خضم هذا الزمن الذي قست فيه القلوب وطغت فيه المادة وضعف فيه الوازع الديني وتلاشت فيه معاني المروءة ومكارم الأخلاق فإننا نخشى من نشوء جيل القطيعة الذي لا يعرف لوالد حقًا، ولا يحفظ لهم معروفًا، ولا يقدر لهم جهدًا، وما لم نتدارك ذلك بالتربية الحسنة وزرع بذرة الدين في قلوب أبنائنا وتنشئتهم على معالي الأمور وما لم تَقُمْ محاضن التربية بدورها في ذلك فإن جيل القطيعة قادم لا محالة، والله يتولى الصالحين، وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فيا شباب الصحوة المباركة، أيها الشباب الملتزم، إن النقطة السوداء لا تظهر إلاّ على الثياب البيضاء، وإنكم لستم كغيركم، فإن كان الناس لا يستغربون صور العقوق ومظاهره من المنحرفين وأنهم يفتقدون الوازع الديني والرادع الإيماني فإنهم ـ ولهم الحق ـ يستنكرون أدنى صورة من صور العقوق أن تصور فيكم.
يا أيها الشباب، إنه إن رضينا من غيركم بأدنى درجات البر فلا نرضى منكم إلا بالصور العالية والمظاهر المشرفة والمواقف المشرقة من مواقف البر والوفاء.
عجبًا لشابّ ملتزم يحفظ كتاب الله ثم هو مع هذا أبعد الناس عن والديه، وكثيرًا ما يتباطأ عن القيام بحقوقهما، ويسافر بغير إذنهما، ويغضب عليهما إذا لم ينفذا له طلبًا أو يحققا له رغبة، وربما تجد من يرفع صوته عليهما أو يسخر من هيئتهما، فأين حقيقة الالتزام؟!
يا شباب الصّحوة، لا نرضى منكم إلا أن تكونوا ملازمين لوالديكم ومراعين لمشاعرهم، فهذا من مقتضيات الدين ومستلزمات الالتزام.
إنه حديث عن حقّهما مقرون بعبادة الله، أَنِ اشْكُرْ لِى وَلِوالِدَيْكَ [لقمان:14]، وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَانًا [الإسراء:23].
أيها المسلمون، من أرضى الوالدين فقد أرضى الله، ومن أسخطهما فقد أسخطه، ومن برّ بهما وأحسن إليهما فقد شكر ربّه، ومن أساء إليهما فقد كفَر بنعمته، وهما الباب الموصل إلى الجنة، فمن برّ بهما وصل، ومن عقّهما مُنع، ولم يذكر الإسلام أنواع البر بهما ليحددها ويفصلها، فإن ذلك أمر لا يخضع للتفصيل والتعيين، إنما يخضع للظروف والأحوال والحاجة والقدرة والذوق الإنساني والعرف الاجتماعي والشعور الحيّ لدى الأبناء.
يا أبناء الإسلام، إن حقّ والديك ليس كحقّ أحد من الناس، فإن أيّ كلمة أو إشارة تفيد تضجرًا منهما أو من أحدهما تعتبر معصية ولو كانت كلمة (أف)، وإنّ الله لا يرضى عن الأبناء إلاّ أن يذلّوا أنفسهم لآبائهم وأمهاتهم خصوصًا عند الكبر، وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنْ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا [الإسراء:24]، وهو ذل للوالدين ليس سببه القهر والغلبة، ولكن سببه الحبّ والرحمة.
يا فتى الإسلام، مهما أذللت نفسك لأبويك فإن الله يحبك ويرضى عنك، والناس يكبرونك ويمدحونك ويجعلونك بينهم مثلاً طيبًا، وهذا عكس من يذل نفسه للناس، فإن كرام الناس ينفرون منه.
قيل لبعض السلف رحمه الله: كيف كان بر ابنك بك؟ قال: ما مشينا نهارًا قط إلا مشى خلفي، ولا مشى أمامي ولا رقَا سطحًا وأنا تحته. وعن ابن عون أن أمه نادته فأجابها، فَعَلا صوته صوتَها، فأعتق رقبتين. وقيل لعلي بن الحسين رضي الله عنهما: أنت من أبر الناس ولا تأكل مع أمك؟! فقال: أخاف أن تسبق يدي إلى ما قد سبقت إليه عينها، فأكون قد عققتها.
وهكذا فإن البر لا يكون في الكلام، وإنما هو اطمئنان في النفس واعتراف بالفضل ونكران للذات، عرف رحمه الله أن البر بالأم أن يشعر الولد بشعورها ويدرك بحَدسِه ما يجول في نفسها ويفهم من نظراتها مرادها، فإذا فقد هذه المعاني فقد حقيقة البر.
مرّ ابن عمر رضي الله عنهما وهو يطوف برجل يماني يطوف بالبيت، وتَرَحَّلَ أمه على ظهره وهو يقول:
إني لها بعيرها المذلّل إن ذعرت ركابها لم أذعر
ثم قال: يا ابن عمر، أتراني جازيتها؟! قال: لا، ولا بزفرة واحدة.
ولما ماتت أم إياس بن معاوية جعل يبكي فقيل: ما يبكيك؟ قال: كان لي بابان مفتوحان إلى الجنة، وغلق أحدهما. أما بعد موتهما فلا أنساهما يوميًا من صدقة ولا من الدعاء كل صلاة، وأحب من كان يحبان، وأصل أهل ودهما.
وأنتم ـ أيها الأبناء ـ من كان له أبوان فليهنأ بهما، وليحرص عليهما، وليسعَ جهده في إرضائهما، لأنه أوتي سعادة الدنيا والآخرة، والوالدان تاج لا يراه إلا الأيتام، ومن فقد أحدهما فقد خسر نصف السعادة، فليحرص على نصفها الآخر قبل أن يزول، ومن فجعه الدهر بهما كما فجعني فلا ينساهما من صلاته ودعواته، ومن أصبح منكم أبًا يدرك هذا، ومن لم يصبح فعمَّا قريب، وبروا آباءكم تبركم أبناؤكم، والحياة دين ووفاء، ونعوذ بالله من العقوق والجفاء، ويوم تبلى السرائر ويبعثر ما في القبور ويحصّل ما في الصدور، حينها سيرى أهل العقوق غِبَّ عقوقهم، وسيرى أهل البر حسن العاقبة، وطوبى لمن لقي الله ووالداه عنه راضيان.
هذا وصلوا وسلموا على نبينا محمد وعلى آله وصحبه...
ــــــــــــــــــــ(67/258)
لماذا تستعجلون شهواتكم أيها الشباب؟
...
...
4341
...
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
...
...
الأبناء, الفتن, الكبائر والمعاصي
...
عبد العزيز بن محمد القنام
...
...
وادي الدواسر
...
2/2/1426
...
...
جامع النويعمة القديم
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- خطر الشهوة. 2- الشهوةُ الجنسية غريزة جُبلتْ عليها النفسُ البشرية. 3- الآثار المترتبة على الشهوة إذا تسعَّر نارُها ولم تُلجَم بلجامِ التقوى. 4- أسباب الانحرافِ في الشهوة. 5- سبل الوقاية من شر الشهوات.
الخطبة الأولى
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، فإن بعد الحياة مماتا، وبعد الممات سؤالا، وبعد السؤال إما جنة أو نار، يقول الله الذي إليه المرجع والمآب: وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [البقرة:281].
أما بعد: أيها المسلمون، اتقوا ربكم حقَّ التقوى، وتمسكوا بالعروةِ الوثقى.
الشهوة ـ عباد الله ـ أساسُ كلِّ قضية ومنبعُ كل رزيَّة، إنَّها المستنقعُ الذي تتولدُ فيه قاذورات الخطايا، وهي البُركان الذي تتقاذفُ منهُ رحم البلايا، إنَّها داءُ الشبابِ، بل وغير الشباب، وهي القضيةُ الكبرى للشباب، ما من جريمةٍ إلاّ هي منبعُها، وما من كبيرةٍ إلا وهي مبدؤُها، إنَّها قضيةُ الشبابِ الكبرى، الزنا، واللواط، والعادةُ السريةِ، والغناءُ، والمعاكساتِ الهاتفية، جرائمُ الاغتصابِ والاختطاف، والعشقُ والإعجاب، إدمانُ النظرِ المحرمِ، السهرِ والسفر، كلّ هذهِ الأدواءِ صدى لهذه القضية، واستجابة لسعارها، إنَّها حجابٌ حُفت به النار، من اخترقهُ دخلها، هي ابتلاءٌ من اللهِ وامتحانٌ لعباده، ليعلمَ الصادقين والصابرين، ويبلو أخبارهم.
إنَّها ـ أيّها المسلمون ـ قضيةُ الشبابِ والشهوةِ، ولستُ أعني بها كلَّ شهوة، لكنني أردتُ بها شهوة الفرجِ، أو ما يُسمى بالمصطلحِ المعاصر: "شهوة الجنس". وهل داءُ الشبابِ إلاَّ الميل الجنسي الذي يملأُ نُفوسهم ويُسيطرُ على أرواحهم ويتراءى لهم في كلِّ جميلٍ في الكون شيطانًا لعينًا يقودُ إلى الهاويةِ وإبليسًا من أبالسةِ الرذيلةِ يدعو إلى دينِ الهوى وشرعِ الشهوات؟! كم من شابٍ كانت الشهوةُ له عائقًا من سلوكِ الهدايةِ، وكم من كانت السبب في انحرافهِ وضلاله. والله المستعان.
إنَّ الانسياقَ وراءَ الشهوةِ يُدمرُ إرادةَ الإنسان، ويُحطمُ كيانَ الإنسانيةِ، ويَفقدها وعيها وإرادتها، ويقُودُها على نغمِ القطيعِ الذي يرقُصُ على إيقاعِ نزواته، فيعبدُ شهواتهِ، ويظلُّ يُمارسُ هذهِ العبوديةِ، ويُسخِّر كلَّ طاقاتهِ للشهوةِ والهوى، إنَّها من أشدِّ الشهواتِ وأخطرِها على الشبابِ خاصةً في هذا الزمنِ، قال : ((ما تركتُ بعدي فتنةً أضرّ على الرجالِ من النساء))، وقال: ((مَن يضمنُ لي ما بينَ لحييهِ وما بين رجليه أضمن له الجنة))، وسُئل عن أكثرِ ما يُدخلُ الناسَ النار فقال: ((الفمُ والفرج)). لمن هذا الحديث؟ إنَّهُ لكُلِّ الشباب، ولكُلِّ من يُعاني ما يعانيهِ الشباب من طوفانِ الشهواتِ العارم، إنَّهُ خطابٌ لكلِّ من يُريدُ أن يتسامى بروحهِ، وأن يبقى لهُ دينهُ، ويصان عرضهُ وشرفه.
يا معشرَ الشبابَ ويا غيرَ الشباب، الشهوةُ الجنسيةُ غريزةٌ، جُبلتْ عليها النفسُ البشرية، فقد جعلَ اللهُ سبحانهُ هذا الميلَ الغريزي في كلٍّ من الرجلِ والمرأة؛ لتحقيقِ هدفٍ سام وهو بقاءُ النوعِ الإنساني، فلولا هذا الدافعُ الجنسي لما كان التناسلُ والتكاثر الذي عمرَ وجه الأرض جيلاً بعد جيل، وقد حمى الإسلامُ هذه الشهوة من الانحراف بما شرعه من ضوابط وأحكام؛ فشرعَ الزواجَ وحضَّ عليه، ويسَّر سُبله وأسبابه، ليَكُون الطريق الشرعي لتصريفِ هذه الشهوة بما يحققُ السعادةَ والسكنَ النفسي والطمأنينةَ لكلا الزوجين، وبما يُطهِّرُ النفسَ من أدرانها ويَحفظها من الآفات، ولكنَّ الهوى المستحكم في النفوسِ يصرفُ الإنسانَ عن طريقِ الحلالِ ليوقعهُ في الحرام، ويزينُ لهُ الباطلَ فيصبحُ العقلُ أسيرًا لذلك الهوى، مُنقادًا وراءهُ حتى يؤدي ذلك إلى طُغيانِ الشهوةِ وتدسيةُ النفسِ، ليكونَ صاحبُها كالبهائم. وفي ذلكَ يقولُ الإمامُ ابن القيم رحمهُ الله: "أمَّا مشهدُ الحيوانيةِ وقضاءُ الشهوةِ فمشهدُ الجُهَّالِ الذين لا فرقَ بينهم وبينَ سائرِ الحيواناتِ إلاَّ في اعتدالِ القامةِ ونطقِ اللسانِ، ليس همهم إلاَّ مجردَ نيل الشهوةِ بأيِّ طريقٍ أفضت إليها، فهؤلاءِ نُفوسُهم نفوسٌ حيوانية، لم تترقَ عنهُ إلى درجةِ الإنسانيةِ فضلاً عن درجةِ الملائكة، وهم في أحوالهم متفاوتونَ، بحسبِ تفاوتِ الحيواناتِ التي هم على أخلاقها وطباعها".
يا معشرَ الشباب، إنَّ الشهواتِ إذا تسعَّرت نارُها واشتدَّ سُعارها ولم تُلجَم بلجامِ التقوى والخوفِ من الله فإنَّهُ حينئذٍ تورثُ انحرافًا في الغريزةِ، وهذا الانحرافُ له آثار إنسانية وإيمانية واجتماعية وسلوكية ونفسية ومرضية، له آثار إنسانية حينما ينحطُ الإنسانُ بانحرافِ غريزتهِ إلى الحيوانية، بل إلى ما هو أحطُّ منها، فمُنذُ تلكَ اللحظةِ التي يقطعُ بها الإنسانُ صلتهُ باللهِ يغدو حيوانًا يعيشُ بغرائزهِ ويحيا لنزواتهِ، وبها تتعطلُ فيه نوازعُ الخير وتصبحُ الشهواتُ أكبرَ همهِ والدنيا مبلغَ علمهِ، فبانحرافِ الغريزةِ الجنسيةِ ينحطُ الإنسانُ من أحسنِ تقويمٍ إلى أضلّ سبيل، ذلك هوَ الخسرانُ المبين.
ولهُ آثارٌ إيمانية بأن يُسلب من المؤُمنِ إيمانه، فَيُرفَعُ من قلبه عندما ينحرف، وتستعبدهُ شهوتهُ، فلا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن.
كم كانتِ الشهواتُ سببًا في الحورِ بعد الكور، وكانت الخطوةُ الأولى نحو الردةِ والكفر، واقرؤُوا إن شئتم تفسير قوله تعالى: كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ [الحشر:16]. ألم تسمعوا حكايةَ ذلكَ الرجلِ الذي ابتُلي بعشقِ المردان، فعشقَ شابًا اسمهُ أسلم، واشتدَّ كلفهُ به، وتمكّن حبهُ من قلبهِ، فمرضَ بسببه، ولزمَ الفراشَ، ولم يزل يزدادُ مرضُه حتى قاربَ الوفاة، فلامهُ جلساؤُهُ، لكنَّهُ ختمَ حياتهُ بقولهِ:
أسلمُ يا راحةَ العليل ويا شفاءَ الْمدنفِ النحيل
لقياكَ أشهى إلى فؤادي من رحمةِ الخالقِ الجليل
وربما وجدتَ عابدًا زاهدًا فارقَ الدنيا كافرًا، كانت بدايةُ انحرافهِ نظرة، والنظراتُ تورثُ الحسرات، أولم تسمعوا عن حافظٍ للقرآن تنصر، وآخرَ كان مؤُذنًا فتركَ الآذانَ وارتد؟! لماذا؟ لقد كان السببُ نظرةً أُولى، وهكذا فإنَّ التهاونَ في وقايةِ شهوةِ الفرجِ والانحرافِ ولو كان يسيرًا سيؤدي شيئًا فشيئًا إلى ما هو أخطر، حتى يقعَ المرءُ فريسةَ طغيانِ الشهوةِ التي يصعُبُ التخلصُ من شُرورها، وتُؤدي في النهايةِ إلى طمسِ قلبِ صاحبها وانسلاخهِ من الأخلاقِ الفاضلة، هذا بالإضافةِ إلى ما يُصيبهُ من الأمراضِ النفسيةِ من قلقٍ واضطراب وذبولِ أحاسيس ومشاعرِ الغيرةِ والعرضِ والشرفِ والحياء والرجولة، وما يعتريه من الأمراضِ الجسديةِ التي يعوز علاجُها ويستعصي على أهلِ الطبِ دواؤُها.
يا معشرَ الشباب، إنَّ بدايةَ الانحرافِ في هذه الشهوةِ سببهُ الأساسي مرضُ القلبِ وعدمُ رسوخِ الإيمانِ فيه، فإذا ما عُرضَ لهُ شيءٌ من الفتنةِ مالَ إليها وتأثرَ بها، فازدادَ مرضًا على مرض. وفي ذلكَ يقولُ ابنُ تيمية رحمه الله في قولهِ تعالى: فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ [الأحزاب:32]: هو مرضُ الشهوةِ؛ فإنَّ القلبَ الصحيحِ لو تعرضت له المرأةُ لم يلتفت إليها، بخلافِ القلبِ المريض بالشهوةِ، فإنَّهُ لضعفِهِ يَميلُ إلى ما يعرضُ له من ذلكَ بحسبِ قوةِ المرضِ وضعفه، فإذا خضعنَ بالقولِ طمعَ الذي في قلبهِ مرض، إنَّ القلبَ الذي تذوقَ حلاوةَ الإيمانِ لا يُمكنُهُ أن ينصاعَ لوساوسِ الشيطان، أو يفتنَ بما يُعرضُ لهُ من الشهواتِ والمغريات؛ لأنَّ نورَ الإيمانِ إذا استقرَّ في القلبِ طردَ عنهُ الظُلمات، وما قصةُ يوسفُ عليه السلام إلاَّ خيرُ مثال.
إنَّ الشهوةَ الجنسيةِ وقُودُها النظرُ إلى الحرام، بل هو الخطوةُ الأولى، نظرةٌ فابتسامةٌ فسلامٌ فكلام فموعدٌ فلقاءُ. إنَّ النظرةَ الأولى تُجرئُ على ما بعدها، والعينُ مرآةُ القلبِ، فإذا غضَّ العبدُ بصرهُ غضَّ القلبُ شهوتَهُ وإرادته، والنظرةُ تفعلُ في القلبِ ما يفعلُ السهمُ في الرميةِ، فإن لم تقتُلهُ جرحتهُ، وهي بمنزلةِ الشرارةِ من النارِ، تُرمى في الحشيشِ اليابسِ، فإن لم تُحرقهُ كلهُ أحرقت بعضهُ:
كلّ الْحوادثِ مبدؤها من النظرِ ومعظمُ النارِ من مستصغرِ الشررِ
كم نظرةٍ فتكت فِي قلبِ صاحبِها فتكَ السهامِ بلا قوسٍ ولا وترِ
والمرءُ ما دامَ ذا عيْنٍ يُقلبُها في أعينِ الغيرِ موقوفٌ على الخطرِ
ولخطورةِ النظرِ وعلمِ النبيِّ بعظيمِ أثرهِ حذَّرَ أصحابهُ منهُ بل مما يفضي إليه في قولهِ: ((إياكم والجلوسِ في الطرقات))، ثُمَّ قال: ((فإذا أبيتم إلا المجالسَ فأعطوا الطريق حقها))، قالوا: وما حق الطريق؟ قال: ((غضُّ البصرِ، وكفُّ الأذى، وردُّ السلام، وأمرٌ بالمعروف، ونهيٌّ عن المنكر)). هذا مع أنَّ طُرقاتِ المدينةِ لم تكن كطُرقاتِ المسلمين اليوم مليئةً بالتبرجِ والسفور ومظاهر الإغراءِ والفتنةِ، وإنَّما كانَ النظرُ بهذهِ الدرجةِ من الخُطورةِ لأنَّهُ يتبعهُ ما بعده، فحين ينظُرُ المرءُ نظرةً محرمة ترتسمُ الصورةُ في قلبه ويُزينُها الشيطانُ له، فيُثيرُها في كلِّ موقف، وحين يخلُو بنفسهِ ويأوي إلى فراشهِ يعيدُ الشيطانُ الصورةَ في ذهنهِ فيتذكرُها، ويُفكرُ فيها ويطولُ معهُ التفكيرُ حتى يُصبحُ له ديدنًا وشأنًا، وحين يطولُ التفكيرُ بصاحبهِ، ويستولي عليهِ، فقد يتطورُ به الأمرُ إلى التفكيرِ بالفعلِ والممارسةِ، وتبدأُ المسألةُ من كونها مجرد أفكارٍ إلى أن تتحولَ إلى نيةٍ، ثُمَّ إلى تخطيطٍ وعزيمةٍ، ثمَُّ إلى الوقوعِ ربما في الفاحشةِ والفساد، فإن لم يكن كذلكَ فقد يؤدي به إلى ممارسةِ العادةِ السرية، والوقايةُ خيرٌ من العلاج.
يا معشر الشباب، إنَّ الشهوةَ نارٌ لا يشتدُّ أوارها إلا بالتساهلِ في أسبابها ومُوقداتها، فكيف يسلمُ من داءِ الشهوةِ من يتساهلُ في مُشاهدةِ الأفلامِ والمسلسلات أو متابعةِ القنواتِ بحُجةِ الأخبارِ والمناظرات؟! وكيفَ ينجو من نارِ الشهوةِ من يسمعُ الغناءَ أو يرتادُ تجمعاتِ النساء؟! وكيفَ يسلمُ من داءِ الشهوةِ من يُقلبُ المجلاتِ الهابطة أو يُشاهدُ القنواتِ الساقطة؟!
يا معشرَ الشباب، لا تغتروا بالتزامكُم، ولا تُعجبوا بأعمالكم، ولا تأَمنوا مكرَ الله، فأولُ داءٍ يسري إلى نُفوسِ الصالحين هو العجبُ والغرورُ بالطاعةِ، فإذا استحكمَ هذا الداءُ فهو علامةٌ على تسلطِ شهوةِ حبِ النفسِ، ونذيرُ خطرٍ بأنَّ هذهِ الشهوةِ الخفيةُ تُمهدُ الطريقَ لتسَلطِ الشهواتِ الأخرى.
لقد تساهلَ شبابٌ صالحون بالنظرِ إلى النساءِ عبرَ القنواتِ الفضائية، وتساهلَ آخرونَ في مُشَاهدةِ مواقعَ الإنترنت الفاضحة، وتساهلَ فئةٌ في قراءةِ صحفٍ ومجلاتٍ ساقطة، كلُّ ذلك اعتمادًا على قاعدةِ الالتزام، ولعمرُو اللهِ، ذاكَ بابٌ خطير ومزلقٌ عظيم، تساقطَ فيه أخيارٌ، وزلَّ فيه عُبادٌ أطهار، إنَّهُ لا يأمنُ مكرَ اللهِ إلاَّ القومُ الخاسرون، ومن حامَ حولَ الحمى يُوشكُ أن يقعَ فيه.
تلك ـ معاشرَ الشبابِ ـ لفتةٌ سريعةٌ إلى الداءِ الأعظم والمشكلةِ الكبرى، قد صورت لكم الداءَ ومصدره، ويبقى الأهمُّ وهو السبيلُ للخلاصِ والطريقُ لمواجهةِ هذه الشهوةِ وللسلامةِ من آثارِها وأخطارها.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا [الأحزاب:35].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، ونفعنا بهدي سيد المرسلين وبقوله القويم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي يسر لنا سبل الهدى و التقى والعفاف، ونجانا بفضله مما يحذر المرء منه ويخاف، وأكرمنا بجوده الذي ليس على أحد بخاف، وجعلنا بكرمه ومنته من المسلمين الأحناف، أحمده سبحانه وأشكره أن شرع لأمة الإسلام من الحدود ما يحفظ بها عليها أمنها الأخلاقي والاجتماعي والمالي. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: يا معشرَ الشباب، أُدركُ أنكم في زمنٍ تواجهون فيه تيارًا جارفًا وطوفانًا هادرًا من الشهوات، يلاحقُكم أينَما كنتم وحيثما حللتم، حتى ليقولُ القائل: وماذا تُجدي المواعظُ والخطب؟! إنَّكم تقولون للشبابِ: كُن صينًا وعفيفًا وهو يخرجُ فيسمعُ إبليسَ يخطبُ بلغةِ الطبيعةِ الثائرةِ في السوقِ على لسانِ حالِ المرأةِ المتبرجة وفي الحدائقِ وعلى السواحلِ على لسانِ النساءِ السافرات وفي القنواتِ الإعلامية على لسانِ المناظرِ المتهتكةِ المثيرة وفي المكتبةِ بل والبقالةِ على لسانِ الجرائدِ والمجلاتِ المصورة والرواياتِ الغراميةِ الماجنة وفي المدارسِ والشارعِ على لسانِ أصحابهِ المستهترين بل وفي جوارِ بيتِ الله حيثُ النساءِ اللاتي لم يأتينَ يبغينَ حجةً ولا عُمرةً ولكن ليفتنَّ الشبابَ المغفل!!
إنَّ الشبابَ تتعبدهُ الشهوةُ فيخضعُ لها؛ لأنَّ سهامها تَنصَبُّ عليه من كلِّ جانب، فلا يطيقُ أن يتقيها، فيُصورُها لهُ خيالهُ عالمًا مسحورًا عجيبًا وجنةً فتانةً، فيتمنى دخولَها، فلا يجدُ من دونها حجابًا، بل يجدُ من يسوقهُ إليها ويُحفِزُهُ عليها، فلا يخرجُ منها أبدًا، ولا عليه إن ماتتِ الأمةُ أو عاشت، فهل من علاجٍ لهذا الداء؟!
يا معشر الشباب، إنَّ العلاجَ هينٌ ميسور والعقاقيرُ دانية، لا ينقُصها إلا يدٌ تمتدُ إليها، فتأخُذُها لتكونَ سببًا في الشفاءِ بإذنِ ربِّ الأرضِ والسماء.
إنَّ أقوى علاجٍ لشهوةِ الجنسِ ولكلِّ الشهواتِ قوةُ الإيمانِ باللهِ تبارك وتعالى؛ فالإيمانُ سلاحُ المؤمنِ في مواجهةِ ما يُضلهُ من الشهواتِ والشبهات، فلا بُدَّ من تربيةِ النفسِ على الخوفِ من الله ومراقبتهِ في السرِّ والعلانية.
إنَّ المؤمنَ إذا تربى على الإيمانِ بالله سُبحانهُ وتعالى ومراقبتهِ في السرِّ والعلانيةِ وخشيتهِ في المنُقلبِ والمثوى فإنَّهُ يُصبحُ إنسانًا سويًا وينشأُ شابًا تقيًا، لا تستهويهِ مادةٌ، ولا تستعبدهُ شهوةٌ، ولا يتسلطُ عليه شيطانٌ، ولا تعتلجُ في أعماقهِ وساوسُ النفسِ الأمارةِ، فإذا دعتهُ امرأة ذات منصبٍ وجمال قال: إنِّي أخافُ اللهَ ربَّ العالمين، وإذا وسوسَ لهُ شيطانٌ قال: ليس لكَ عليَّ سلطان، وإذا زينَّ لهُ قُرناءَ السُوءِ طريقَ الفحشاءِ والمنكرِ قال: لا أبتغي الجاهلين.
أخي الشاب، حينما تُغلق عليك بابكَ ولا يراكَ أحدٌ وتتحركُ كوامن الشهوةِ في نفسكَ فتبحثُ لها عن متنفسٍ غير شرعي تذكر حينها أنَّ اللهَ عز وجل في تلكَ الساعةِ يراكَ، ويعلمُ ما في نفسكَ وما تُخفي في صدرك، يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ [غافر:19].
وإذا خلوتَ بريبةٍ فِي ظلمةٍ والنفسُ داعية إلَى الطغيانِ
فاستحيِ من نظرِ الإلهِ وقُل لها إنَّ الذي خلقَ الظلامَ يراني
أخي الشاب، ولكي تأمنَ غوائلَ الشهوةِ تذكر يومَ وقُوفكَ بين يدي اللهِ تباركَ وتعالى، وأنكَ ستلقى اللهَ يومَ تُبلى السرائر، يومَ لا يخفى من الناسِ خافية، تذكر شهادة الملائكةِ عليكَ بما فعلت، وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَامًا كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ [الانفطار:10-12] , وتذكر شهادة جوارحك، حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [فصلت:20]، وتذكر شهادة الأرضِ بما عليها قد فعلتَ، يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا [الزلزلة:4]. إنَّ من يتذكرُ ذلك ويُوقنُ به فلن تحدثهُ نفسُهُ أو تسوِّلُ لهُ بعملٍ يُسخطُ ربهُ وشهوةٍ محرمةٍ تُغضبُ خالقه.
أخي الشاب، إذا حدثتكَ نفسُكَ باقترافِ شهوةٍ فتذكر أنَّها لذةُ ساعةٍ ثمَّ تنقضي، وتعقُبُها الحسراتُ والزفراتُ. قال ابنُ الجوزي: إنَّ الهوى يَحولُ بين المرءِ وبين الفَهمِ للحال، فلا يرى إلاَّ قضاءَ شهوتهِ، ولو ميَّزَ العاقلُ بين قضاءِ وطرهِ لحظةً وانقضاءِ باقي العُمرِ بالحسرةِ على قضاءِ ذلكَ الوطرِ لما قربَ منهُ ولو أُعطي الدنيا، غيرَ أنَّ سكرةَ الهوى تحولُ بينهُ وبين ذلك. آهٍ كم من معصيةٍ مضت في ساعتها كأنَّها لم تكُن، ثمَّ بقيت آثَارُها، وأقلُّهَا ما لا يَبرحُ ولا يَزولُ من المرارةِ في الندمِ والهزيمةِ، أمَّا الشهوةُ:
تفنى اللذاذاتُ ممن نالَ صفوتَها من الحرامِ ويبقى الإثمُ والعارُ
تبقى عواقبُ سُوءٍ فِي مغبتِها لا خيرَ في لذةٍ من بعدها النارُ
أخي الشاب، أغلقِ البابَ الذي تُشمُ فيهِ روائحَ الشرِّ بالبعدِ عن المثيراتِ، فالصورِ ومشاهدةُ الأفلامِ والبحثُ عن المواقعِ الهابطةِ والتساهلُ في قضايا مُشاهدة الصورِ والمحادثاتِ وتبادل الرسائل الإلكترونيةِ وغيرها هي من أبوابِ الشرِّ، والبعدُ عنها وقايةٌ للنفسِ من غوائلِ الشهوةِ وشرورِها.
يا أخي الشاب، إذا علمتَ أنَّ قرينَ السُوءِ هو المُزيِّنُ للشهوةِ والمُسَهِلُ للفاحشةِ فهل فكرتَ بجدٍ ـ وأنتَ تُريدُ طاعةَ اللهِ ـ أن يكونَ لكَ قرينُ خيرٍ، يبقى لكَ ودُّهُ ونفعُهُ دنيا وأُخرى؟! الأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ [الزخرف:67].
يا أملَ الأمةِ، إذا حدثتكَ نفسُكَ أن تُذهبَ دِينَك وتُرِيقَ ماءَ حياتِك وعفتِكَ بلذةٍ مُحرمةٍ فتذكرْ أنَّكَ بذلكَ تحرم نفسكَ ما هو خيرٌ وأبقى وأتقى وأنقى، إنَّهُنَّ الحورُ العين اللاتي لو اطلعت إحدَاهُنَّ على أهلِّ الأرضِ لملأت ما بينهما ريحًا ونورًا، ولَنَصِيفُها على رأسها خيرٌ من الدُنيا وما فيها. إنَّ ثَمنَ العِفةِ وجزاء الصبرِ على المغرياتِ جنةٌ فيها ما لا عينٌ رأت ولا أُذنٌ سمعت ولا خطرَ على قلبِ بشر، وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا [الإنسان:12]. أفتستبدلونَ الذي هو أدنى بالذي هو خير؟! لمَّا ذكرَ اللهُ شهواتِ الدُنيا وزينتها قالَ بعده ذلك: قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ [آل عمران:15]. فحصنوا أنفسكم شباب الإسلام، وانتظروا حور العين في الجنة ـ إن شاء الله ـ ولا تستعجلوا.
يا معشرَ الشباب، احذروا الاستهانةَ بالذنبِ ولو صَغُر، فلا صغيرَ مع إصرار. والنظرةُ المُحرمةُ تورثُ الحسراتِ والزفرات، والعينُ تزني وزناها النظر. ومن هُنا أقولُ للشبابِ الملتزمِ: كم نُخَادِعُ أنفسَنَا حينما نُبيحُ لها في السفرِ ما نعتبرُهُ نَحنُ عندَ غَيرِنا إحدى الكبر. ما الذي يُبيحُ لنا مُشاهدةِ الدُشوشِ ونحنُ نُحذِّرُ منها؟! أفي أمنٍ نَحنُ من مكرِ الله؟! أوَنظُنُّ أنَّ عقوبةَ الذنبِ هي خَسُفٌ ومسخٌ فقط؟! أوَليسَ في قُسوةِ قُلوبِنَا وحرمانِنَا من لذةِ الطاعاتِ أعظمُ عقوبةً؟! فلا تأمنْ غبَّ الذنبِ ولو بَعدَ حين.
يا معشرَ الشباب، الشهوةُ تَبدَأُ بخاطِرةٍ، فَدَافعها قَبلَ أن تُصبِحَ فكرةً، فإن صارت فكرةً فدافعها قبلَ أن تصيرَ إرادةً، فإنَّ صارتْ إرادةً فدافعها قبلَ أن تُصبحَ همةً، فإن صارت همةً فدافعها قبلَ أن تُصبحَ فعلاً، فإن أصبحتْ فعلاً فدافعها قبلَ أن تُصبحَ عادةً مُستحكمة يصعُبُ فِراقُها.
وأخيرًا يا شبابَ الإسلام، إنَّ من يعرفُ الداءَ لا يُعجِزَهُ البحثُ عن الدواء إذا تسلحَ بالإرادةِ القويةِ والعزيمةِ الصادقة، وإذا أحسَّ بخطورةِ هذا الداءِ وسعى إلى دوائهِ، وإذا التجأَ إلى اللهِ ودعاهُ كما دعاهُ الصالحون المستغفرون، وإذا عمرَ وقتهُ بالمفيدِ، وشغلَ نفسهُ بكلِّ عملٍ صالح، حينها يَسلمُ لهُ دينهُ، ويبقى لهُ شَرفهُ وقَدرَهُ، وتسمُو رُوحَهُ وتزكو نفسُهُ، ويَحظى برضا خالِقهِ وتوفيقه.
معاشرَ المسلمين، إنَّ الحديثَ إلى الشبابِ لا يَعني أننا نُطالِبُهم أن يَكُونوا ملائكةً مقربين أو أنبياءَ معصومين، فهم بشرٌ يقعُ منهمُ الخطأُ والجنوحُ عن الحقِّ، مَثَلُهُم كمثلِ بقيةِ فئاتِ المُجتمعِ، وكلُّ ابن آدمَ خطاء، وخيرُ الخطائين التوابون، لكنِ المطلوبُ أن يكونَ الشبابُ في الموقعِ الصحيح، فإنْ أخطأَ حاسبَ نفسهُ وحاكمَ تَصرُفهِ، وتاب إلى ربهِ وعادَ إلى رُشدِهِ، وقبِلَ حُكمَ اللهِ ورسولهِ على فعالهِ. وفي ذاتِ الوقتِ يجبُ على أبناءِ المجتمعِ أن يعلموا أنَّ الشبابَ إذا أخطأ أو صدرت منهُ هفوةٌ أو وقعَ مِنهُ ذنبٌ لا يعني أنَّهُ مغموسٌ في الإثمِ وميئُوسٌ من حياتهِ ومستقبله ما دامَ غير َمُصرٍ على عملهِ ولم يستمر في انحرافهِ، كما أنَّ الحديثَ إلى الشبابِ لا يعني براءةَ غيرهم، كما لا يَعني العُموم والشُمول والإحاطة واليأس، ففي الأمةِ شبابٌ مستقيمٌ نجا ـ بفضلِ اللهِ ورعايتهِ ـ من غوائلِ الشهوةِ وشُرُورِها، إنَّهم نماذجُ فذَّة، وفتيةٌ آمنوا بربهم وزادهم هُدى. واللهُ وحدَهُ المُؤمَلُ والمسؤولُ أن يُحَبب لنا ولشبابِنا الإيمانَ ويُزَيِّنهُ في قُلوبنا، ويُكَرِهَ لنا ولهم الكُفرَ والفسوقَ والعصيان، وأن يجعلنا وإيَّاهم من الراشدين.
ألا وصلوا وسلموا ـ رحمكم الله ـ على البشير النذير والسراج المنير، كما أمركم بذلك اللطيف الخبير، فقال عز من قائل: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].(67/259)
اللهم صل وسلم وبارك على نبينا وحبيبنا وقدوتنا محمد بن عبد الله، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين، وعن الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين...
ــــــــــــــــــــ(67/260)
الزواج
...
...
4303
...
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
...
...
الكبائر والمعاصي, النكاح, قضايا المجتمع
...
ناصر بن محمد الأحمد
...
...
الخبر
...
8/2/1421
...
...
النور
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- أهمية الزواج وأثره على الفرد والمجتمع. 2- ما جاء في الوحيين من الحث على الزواج. 3- موانع الزواج وعوائقه. 4- خطورة إهمال الغريزة الجنسية. 5- من منكرات الأفراح.
الخطبة الأولى
أما بعد: أيها المسلمون، يهدف الإسلام الذي شرفنا الله به ورضيه لنا دينًا إلى حفظ النسب والنسل، ويدعو إلى حفظ الفروج وصيانة الأعراض، ويرغب في عمارة الكون وإصلاح الأرض وما يحقق للمجتمع الإسلامي الاستمرار والبقاء، ولا يتأتى ذلك إلا باتباع ما شرع الله من التزاوج والتناسل.
الزواج ـ عباد الله ـ وسيلة إلى تحقيق أمور عظيمة عقدها الشارع الحكيم وحبّب للناس القيام بها، بل هو ضرورة من ضرورات الحياة؛ لما يحقّقه من آثار طيبة وثمرات مباركة تعود على الفرد نفسه ومجتمعه وأمته بالخير العميم والنفع العظيم.
في الزواج ـ عباد الله ـ جمع الشمل والتئام الشعث وطمأنينة النفس وراحة الضمير وحصول الولد وعمارة الأُسر، فيه المودة والرحمة وقمة الأنس وتمام النعمة، فيه غضٌ للبصر وحفظ للفرج وحرث للنسل ومتاع للحياة وإحصان للجوارح، وفيه الخير كل الخير لمن وفقه الله عز وجل، ولهذه المنافع الجمّة والحكم العظيمة المحبّبة للنفوس البشرية ولما ركبه المولى جل وعلا في الإنسان من الغريزة والشهوة كان لا بد للرجل والمرأة من الزواج، سكنًا ولباسًا ومودة ورحمة، وقد امتن الباري جل في علاه على خلقه بهذه النعمة، وجعلها آية من آياته توجب التفكر والشكر، فقال جل جلاله: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الروم:21]، بل جاءت نصوص الكتاب والسنة القاطعة والأوامر الصريحة بالنكاح وبيان آثاره، قال الله تعالى: فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ [النساء:3]، ويقول سبحانه: وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [النور:32]، وقد كان الزواج ملة الأنبياء وسنة المرسلين، قال الله تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً [الرعد:38].
وسنة المصطفى القولية والفعلية تحثّ على ذلك وترغب فيه، روى البخاري ومسلم عن ابن مسعود قال: قال رسول الله : ((يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج))، وقال منكرًا على من رغب عن الزواج ونحوه مما أحل الله: ((لكني أصوم وأفطر وأصلي وأنام وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني)) متفق عليه، وفي صحيح مسلم: ((الدنيا متاع، وخير متاعها الزوجة الصالحة)).
أيها المسلمون، لقد كان الزواج سنة سلف هذه الأمة رحمهم الله، قال الصديق : (أطيعوا الله فيما أمركم من النكاح ينجز لكم ما وعدكم من الغنى)، وقال ابن مسعود : (التمسوا الغنى في النكاح)، وقرأ قوله تعالى: إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [النور:32]. وقال : (لو لم يبق من أجلي إلا عشرة أيام وأعلم أني أموت في آخرها يومًا ولي طَوْلٌ على النكاح فيهن لتزوجت مخافة الفتنة). وقال إبراهيم بن ميسرة: قال لي طاووس: لتنكحنّ أو لأقولنّ لك ما قال عمر لأبي الزوائد: (ما يمنعك عن النكاح إلا عجزٌ أو فجور). وقال الإمام أحمد رحمه الله: "ليست العزوبة من أمر الإسلام في شيء، ومن دعاك إلى غير التزوج دعاك إلى غير الإسلام". وفي الاختيارات لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "والإعراض عن الأهل والأولاد ليس مما يحبه الله ورسوله، ولا هو دين الأنبياء عليهم الصلاة والسلام".
أيها المسلمون، ما الذي يمنع عن الزواج والمبادرة إليه وتيسير طرقه وتذليل الصعاب أمام الراغبين فيه وقد عُلمت منافعه وآثاره وقَرعت أدلته النقلية والعقلية الأسماع؟! أيمنع منه عجزٌ وتقصير؟! أيمنع منه تساهل وعدم مبالاة بالعواقب، أو انسياقٌ وراء الناعقين من أعداء الشريعة الذين تقُضّ مضاجعهم كثرة المسلمين وزيادة عددهم، أو انجرافٌ في سيل عادات جاهلية وتقاليد اجتماعية مخالفة لمنهج الكتاب والسنة، أو انسياق وراء مظاهر خادعة وتكاليف باهظة هي آصار وأغلال ما أنزل بها من سلطان؟!
بحقٍّ أيها الأحبة، كان الله في عون الضعيف الذي لا يقدر على تكاليف الزواج، ما ذنب هؤلاء؟! وما جريرة آلاف الفتيات اللاتي مُنعن الأزواج وأُبعدن عما خُلقن له، وحيل بينهنّ وبين أن يكنّ زوجات وأمهات ومربيات أجيال ودعائم أُسر؟! كفى بأولياء أمور هؤلاء البنات جشعًا وشراهة وجهلاً وتفاهة أن يعضلوهنّ ويجعلوهنّ سلعةً معروضةً للمساومة، أين هؤلاء من قوله : ((إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، إلاّ تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير))؟! أجهل هؤلاء أنه عند توفر الدين والخلق والأمانة تتلاشى الماديات وتذوب ألوان التفاخر والمباهاة؟! أنسي هؤلاء الحمقى أن صفوة الخلق وقدوة العالم عليه الصلاة والسلام زوّج رجلاً بما معه من القرآن، وقال للآخر: ((التمس ولو خاتمًا من حديد))؟! ولم يُذكر عن أحد من سلف هذه الأمة أنه غالى في مهر أو أسرف في نفقة أو باهى بشيءٍ مما عليه الناس اليوم، إذًا فلماذا يصرّ كثير من سفهاء الأحلام وضِعاف البصيرة في الانسياق وراء هذه المظاهر الخادعة والشكليات التافهة؟! إنهم بصنيعهم هذا يعرّضون الأمة بأسرها للفساد والانحلال.
أتدرون ـ معاشر المسلمين ـ ماذا يجرّه الواقع المؤلم من تعقيد أمر الزواج ورد الأكفاء ووضع العقبات في سبيله؟! إنه يعني فتح الباب على مصراعيه للفساد الخلقي والانحلال والتفسخ والإباحية، إنها دعوة مبطنة للزنا واللواط والاستمناء ووضع الشهوة في غير الطريق المشروع واستشراء الجرائم الخلقية المدمرة. بماذا نفسر ظواهر الزنا والاختطاف والمعاكسات والمغازلات وهروب كثير ممّن اكتوَوا بنار الشهوة واصطلَوا بلَظاها إلى بقاع تروج بها سِلع الفساد وتسهل فيها طرقه؟!
إن الغريزة الجنسية ـ عباد الله ـ إذا أثيرت لا تعرف التوسّط والاعتدال، إنها تقذف بصاحبها في وادٍ من الرذيلة سحيق، ولا حول ولا قوة إلاّ بالله، ونحن في عصر ضعف فيه الإيمان، وقست فيه القلوب، وعميت فيه البصائر، وفسدت فيه الهمم إلا من عصم الله، وكثر الفساد، وعمّت وسائل الباطل، وقادت موجات الفسق التي تضرب على وتر الجنس والأغاني، هذه الصور الخليعة وهذه الأفلام الماجنة وهذه المظاهر السيئة التي تودي بالإنسان ـ إن لم يحصن نفسه بالزواج ـ إلى هاوية الفساد، وبالمجتمع إلى أقصى مراتب الانحدار والتقهقر. هل نرضى أن تموج أمواج الفساد لتُغرق شبابنا وفتياتنا ونحن نتفرج؟!
فلنتق الله عباد الله، ولنعلم أن هذا الأمر مسؤولية المجتمع بأسره، وأن المسؤولية تقع أول ما تقع على عاتق الوجهاء والعلماء والعقلاء وأهل الحلّ والعقد والمكانة، فليكونوا قدوة للمجتمع في هذا الشأن.
فإننا ننادي باسم الشباب الهائم على وجهه والحائر في أمره، وباسم الفتيات اللاتي غُلِبن على أمرهنّ، فإننا جميعًا ندعو ونخاطب العقلاء والوجهاء لدراسة موضوع الزواج وإزالة العقبات حوله، فإنه ـ والله الذي لا إله إلا هو ـ لا صلاح للأمة إلاّ بصلاح شبابها وفتياتها، ومن أعظم طرق الصلاح وأهم أسبابه النكاح الشرعي والزواج الإسلامي، ولا تبرأ الذمة ـ وقد بلغ السيل الزُّبى وطفحت المقالات وعمّت الكتابات وكثرت المناداة ـ إلا بعلاج هذا الأمر، ولكن هل من مجيب؟! ونسيان هذا الأمر والتساهل فيه يعرض المجتمع للفتنة والعذاب الأليم، وينحدر بالمجتمع الإسلامي إلى ما لا تحمد عقباه.
هذا، ونسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يهيّئ لنا من أمرنا رشدًا، وأن يصلح حالنا، وأن يكبت كيد أعدائنا، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
الخطبة الثانية
أما بعد: أيها المسلمون، اتقوا الله تعالى، واشكروه على ما هيأ لكم من الحلال الطيب، وبادروا بطاعة ربكم وامتثال أمره فيما أمركم به من النكاح، وإنه ليسُرّ كل مسلم ما يشاهد في الغالب وبعد انتهاء الدراسة وبداية الإجازة الصيفية من كثرة حفلات الزواج وإقبال أعدادٍ من الشباب على هذا الخير، لكن مما يؤسف له تجاوز بعض العوائل المشروع والدخول في المحرمات الواضحة والمجاهرة بالمنكر في حفلات زواجهم، تباهيًا وتفاخرًا ليتحدث الناس بذلك.
وإن مما أزعج كثيرًا من الصالحين والغيورين والعقلاء وأصحاب الفطر السليمة ما نشر حول إقامة زواج عندنا بالملايين، وقد دعي لهذا الزواج مغنّيات من الخارج وبعضهنّ نصرانيات، واستمر الرقص والغناء المحرم وما صاحب ذلك من منكرات أخرى حتى التاسعة صباحًا، وتم وضع جنيهات الذهب في بعض المأكولات، وأعطيت بعض المغنيات مبلغ 350 ألف ريال، ومجاهرةً بالمنكر نشر الخبر في بعض الصحف. وبعد أقل من شهر أقامت عائلة أخرى زواجًا لهم، وأرادوا منافسة من سبقهم، وأيضًا أحضروا مغنيات من الخارج، وفعلوا وأسرفوا أكثر ممن سبقهم تفاخرًا وتباهيًا، وزيادة دخولٍ في أبواب من الحرام، والعياذ بالله.
أيها الأحبة، متى عرفت مجتمعاتنا المحافظة مثل هذه الصور من حفلات الزواج؟! منذ متى أصبحنا نأتي بمغنيات فاسقات فاجرات وبعضهن نصرانيات إلى جزيرة العرب التي أمر النبي بإخراج المشركين منها؟! وكلما تأتي أسرة ثرية تريد أن تنافس من سبقها فتفعل ما لم تفعله الأولى. إن الثراء والمال قد يكون شؤمًا على صاحبه في بعض الأحيان، وسوء التربية يسيء للرجل حتى بعد وفاته، فأحيانًا يكون صاحب المال مشغولاً عن أولاده وبناته بتجاراته وشركاته وأمواله، ويترك أولادًا سفهاء وبعضهم فسقة، يسيئون إليه بعد وفاته، فيعبثون بهذا المال دون نظرٍ إلى حلال أو حرام، لذا تشاهد وتسمع إقامة مثل هذه النوعية من حفلات الزواج، والذي يصل فيه المنكر غايته والفسق نهايته. ففكر ـ أيها الغنيّ ـ في هذه القضية قبل الموت، وانتبه لعبث الأولاد بعدك إن لم يتربوا على الدين والخلق، فربما يلحقك من آثامهم وأنت في قبرك.
أيها المسلمون، لا يجوز حضور مثل هذه الحفلات، ولا يجوز المشاركة فيها، بل الواجب الإنكار على مثل هذه العوائل والتشهير بهم؛ لكيلا يكونوا قدوةً سيئةً لغيرهم، ولكيلا يشجعوا من كان مستحييًا أن يفعل شيئًا من هذا فيتقوى بفعلهم.
ثم كيف يريد هؤلاء البركة والتوفيق في حياتهم الزوجية وقد بدؤوها بمعصية الله، بل وبمنكرات عظيمة تعد من الكبائر ودعوا الناس إليها، ليحملوا أوزارهم وأوزار من حضر لعرسهم؟!
أيها المسلمون، ألم يئن الأوان للتعقل والرشد؟! إلى متى تستمر مظاهر البذخ والإسراف والتبذير؟! إلى متى والنساء هنّ اللاتي يتحكّمن في حفلات الزواج والرجال على الهامش ثم تحصل مثل هذه السخافات، والنساء بنص المصطفى : ((ناقصات عقل ودين))؟! هذا الذي يظهر من خلفيات في هذين العرسين، إنّ وراء الموضوع النساء، وإلاّ فالرجال أكثر تعقلاً ورشدًا.
أيها المسلمون، لا بد من التغلب على العادات الجاهلية والأعراف المنافية للإسلام، لا بد أن يكون في كل أسرة وقبيلة من أصحاب المكانة والنفوذ من يهتم بهذا الأمر لتجنب وقوع المخالفات وتعريض الأسر المحافظة والعوائل المحتشمة لأمور محرمة منافية للخلق والدين، ولا بد أن يدرك الأثرياء وغيرهم وندرك نحن جميعًا أن المال ليس كل شيء، أيظن هؤلاء أنهم بالمال بإمكانهم أن يفعلوا كل شيء، وأن يخالفوا تعاليم الدين، وأن يتحدوا الأعراف، وأن يكسروا بوابة الخلق والعفة؟! أولاً: المال ليس كل شيء، وثانيًا: المال لن يبقى معك دائمًا، فالذي أغناك قد يسلبك كل هذا الثراء في ليلة.
اللهم اغفر لنا وارحمنا..
ــــــــــــــــــــ(67/261)
كيف يحفظ الأمن؟
...
...
4365
...
الأسرة والمجتمع, العلم والدعوة والجهاد
...
...
قضايا المجتمع, محاسن الشريعة
...
ناصر بن محمد الأحمد
...
...
الخبر
...
12/3/1415
...
...
النور
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- أهمية الأمن في حياة الفرد والمجتمع. 2- خطورة انفلات الأمن. 3- لماذا الحديث عن الأمن؟ 4- وسائل حفظ الأمن: إقامة الحدود، حفظ العقول، حفظ شرع الله.
الخطبة الأولى
أما بعد: إن من أعظم نعم الله عز وجل على بني الإنسان ـ بعد نعمة الدين والإسلام ـ هي نعمة الأمن والاستقرار. إن حاجة الإنسان للأمن والاطمئنان كحاجته إلى الطعام والشراب والعافية للأبدان، كيف لا وقد جاء الأمن في القرآن والسنة مقرونًا بالطعام الذي لا حياة للإنسان ولا بقاء له بدونه؟! وقد امتن الله به على عباده، وأمرهم أن يشكروا هذه النعم بإخلاص العبادة له، فقال تعالى: فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْف [قريش:3، 4]، وقال تعالى في الوعد بحسن الجزاء وعظيم المثوبة للمؤمنين: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمْ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام:82].
إذا عَمّ الأمنُ البلادَ وألقى بظلّه على الناس أَمِنَ الناس على دينهم، وأَمِنَ الناس على أنفسهم، وأَمِنَ الناس على عقولهم، وأمنوا على أموالهم وأعراضهم ومحارمهم. ولو كتب الله الأمن على أهل بلد من البلاد سار الناس ليلاً ونهارًا لا يخشون إلا الله. وفي رحاب الأمن وظلّه تعمّ الطمأنينة النفوس، ويسودها الهدوء، وتعمّها السعادة، قال : ((من أصبح آمنًا في سِرْبه معافًى في جسده عنده قوت يومه فكأنما حِيزت له الدنيا بحذَافِيرها)).
إذا اجتمع الإسلام والقوت للفتَى وكان صحيحًا جسمه وهو في أمن
فقد ملك الدنيا جميعًا وحازها وحقّ عليه الشكر لله ذي المنّ
وكذلك العكس أيها الإخوة، فإذا سلب الله بعزته وقدرته وحكمته، لو سلب الأمن من بلد ما فتصوّر كيف يكون حال أهله، لو خرج ابنك إلى الشارع لا تأمن عليه، لو ذهبت بنتك إلى المدرسة خشيت أن لا ترجع إليك، لو ذهبت أنت إلى العمل جلست على مقعد العمل قلقًا على نسائك ومحارمك في المنزل، إضافة إلى سرقات البيوت وسرقة السيارات وقُطّاع الطرق في السفر وغيرها كثير. كم من البلاد الآن عاقبهم الله جل وعلا بنزع الأمن من بلادهم، فعاش أهلها في خوف وذُعر، في قلق واضطراب، ليل نهار، لا يهنؤون بطعام، ولا يتلذّذون بشراب، ولا يرتاحون بمنام، كل ينتظر حَتْفه بين لحظة وأخرى، عَمّ بلادَهم الفوضى، وانتشر الإجرام، لا ضبط ولا أمن، فنسأل الله عز وجل أن يرحمنا برحمته، وأن لا يوصلنا إلى هذه النهاية.
أيها المسلمون، عباد الله، إن الله عز وجل سَنّ سننًا في كونه، وحدّ حدودًا في شرعه، من خالفها أو تجاوزها فلا يلومنّ بعد ذلك إلا نفسه، ومن ذلك أنه سبحانه وتعالى جعل هناك حدودًا، وأمر عباده بحفظ أشياء لو ضيّعوها ولم يحفظوها كان عقابهم سَلب الأمن منهم، فلننبّه على بعض منها، فإذا كنا واقعين فيها نتدارك ذلك بتوبة نصوح، قبل أن يحل بنا ما حل بغيرنا، وإن لم نكن واقعين بها فالحمد لله، ولنحذرها ونتوقّاها.
أيها الأحبة، لا أخفيكم سِرًّا إذا قلت لكم: إن الذي دفعني إلى التحدث في هذا الموضوع ما سمعت وسمعتم مما يحصل في الآونة الأخيرة من كثرة السطو على المنازل وكثرة السرقة من المحلات التجارية وكسرها ليلاً بل وسرقة السيارات. في خلال الأسبوع الماضي لوحده أكثر من ثلاث بيوت ممن حولنا كُسرت وسُرقت. إذًا كم يكون إحصائية الأسبوع الماضي لوحده على مستوى المدينة، ثم ما حولنا من المدن، ثم على مستوى المنطقة، إلى أن نصل إلى مستوى البلاد، أتصور أنها أرقام مذهلة مروّعة.
حقًّا إن هذا الموضوع يُزعج، وإذا لم يوضع له حدّ ونهاية فإن العواقب لا تُحمد عُقباها. ليس بعد ضياع الأمن شيء. الإنسان يمكن أن يعيش وهو يعاني الفقر، الجوع، العطش، لكن لا يعيش مع الفوضى والقلاقل والاضطرابات. إذًا لا بد أن يسعى كل منا لتحقيق الأمن ودفع أسباب نزعه، منها ما هو واجب الفرد، ومنها ما هو واجب المجتمع، ومنها ما هو واجب الدولة.
وإليكم ـ أيها الأحبة ـ وسائل حفظ الأمن:
فمما يجب حفظه لكي يحفظنا الله عز وجل بأمنه أن نحفظ ونحافظ على ما شرعه تعالى من إقامة الحدود على المجرمين التي فيها زجر للناس، فالله سبحانه وتعالى قد شرع لنا وأمرنا بأن نقيم حدوده المنصوص عليها في كتابه أو في سنة رسوله ، وذلك لكي ينزجر الناس عن الجرأة على المعاصي التي نهى الله تعالى عنها، ولكي يستقر حال المجتمع، ولكي يأمن الناس على أموالهم وأعراضهم، فلو أَمِن السارق بأن يده لا تُقطع وأَمِن الزاني بأنه سوف لا يُرجم وأَمِن شارب المسكر بأنه لا يُجلد وأَمِن المرابي والغاش والمزوّر بأنه لا يُعزّر ماذا تتوقعون أن يكون حال ذلك المجتمع؟! هل يسوده أمن؟! لا والله، وإذا أقيم حدٌّ فعلى ضعيف، أو على من لا يد لديه عند فلانٍ أو فلان، تمرّ الأشهر تلو الأشهر في طول البلاد ولا نسمع ولا نرى حدودًا تقام، فهل يدل هذا على التزام الناس كلهم بشرع الله، وأن المجتمع قد خلا من الفواحش والمنكرات؟! لا نتصور ذلك ونحن نرى ونسمع كل يوم ما يشيب له الرضيع من الأهوال والمزعجات من تفسخ الناس وانحلالهم وارتكابهم لأفظع الجرائم، إلا من رحم الله.
لقد لعن الله أقوامًا كان إذا سرق فيهم القوي تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، ولهذا لمّا جاء ذلك الصحابي يستشفع في المرأة التي سرقت لكي لا يقيم رسول الله عليها الحد قال : ((والله، لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمدٌ يدها)).
بإقامة حدود الله عز وجل كانت تسير الضَّعِينه من شرق البلاد إلى غربها لا تخشى إلا الله والذئب على غنمها، لكن عندما صار المسلمون يعطلون إقامة حدود الله عز وجل ولا يأبهون بها بل ويستبدلونها بتشريعات من عقولهم العفنة في كثير من الأحيان وفي كثير من البلاد عاقبهم الله سبحانه بنزع الأمن منهم.
إن إقامة حدود الله تخيف الناس وتردعهم، فيثبت بذلك أركان المجتمع، أما أن يسرق ذاك الألوف المؤلفة ثم يترك، ويبلع الآخر بالملايين ولا يعرض أصلاً على حكم الله، والثالث يرتكب الزنا والفواحش والذين حوله يعلمون عنه والناس تتناقل أخباره وروائح جرمه ومنكراته بلغت كل مكان ولا يقام عليه حد، والرابع سِكّير عِرْبِيد بل قد جعل من بيته مصنعًا للخمر ثم يُتستّر عليه ويُسكت عنه، أسألكم بالله: من أين يُنزل الله أمنه؟! وكيف تريدون بعد ذلك أن يرحمنا الله بأمنه ويكلأنا برعايته إذا ضيعنا حدوده؟!
إذا أمِن الناس العقوبة استشرى فيهم الجريمة والفوضى، قال الله تعالى: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ [البقرة:229].
أيها المسلمون، ومما يجب علينا حفظه لو أردنا حفظ الأمن علينا أن نحفظ العقول، أن نحفظ عقول المسلمين مما يفسدها ويضرّ بها، سواء كانت مفسدات مادية أو مفسدات معنوية. يجب حفظ عقول الناس من كل مسكر ومن كل مخدّر، وكذلك المحافظة على عقول الناس من التصورات الفاسدة والأفكار المنحرفة، عقول الناس لو أصابها العَطَب وأصابها الخَدَر ماذا تكون النتيجة؟! النتيجة إقبال الناس على الشهوات وانتشار المعاصي، مما يُقلّل وازع الخوف من الله عند الناس، فيفعل كل شخص ما يريد، فيترتب عليه الفوضى وقلة الأمن.
أيها المسلمون، إن المحافظة على عقول الناس من أهمّ أسباب حفظ الأمن؛ لأن الناس لو استقامت عقولهم صاروا يفكرون فيما ينفعهم ويبتعدون عما يضرهم، لو استقامت عقول الناس لاستقامت حياتهم؛ لأنهم سوف يبحثون عما يرضي الله فيفعلونه، ويتعرفون على ما يغضب الله فيبتعدون عنه. إذًا هناك علاقة كبيرة بين المحافظة على عقول الناس وبين استقرار الأمن عندهم.
أيها المسلمون، ماذا تتوقعون من مجتمع أهمل عقول الناس، بل سعى إلى إفسادها وتخريبها ماديًا ومعنويًا؟! لم يحكم الرقابة والضبط عمّا يفسد عقول الناس ماديًا، كذلك لم يحكم الرقابة والضبط عما يفسد عقول الناس معنويًا، فإذا أتيت إلى إعلامه هالَكَ ما ترى فيه، سواءً كان إعلامًا مقروءًا أو مسموعًا أو مرئيًا، جميع أنواع المخالفات الشرعية من غناءٍ محرم وصور عارية وأخلاق رديئة وكلمات فاضحة وأفكار علمانية وحداثة حقيرة تافهة، كل هذا وغيره سيطر على عقول الناس فأفسدها، ولم يدع لها لحظة واحدة تفكر في دينها، أو تفكر في عاقبتها، أو حتى تفكر فيما ينفعها في دنياها، فصار أغلب الناس ـ إلا من رحم الله ـ يعيش في خواءٍ فكري وفراغ عقلي، لو جاءه الخطر لم يعلم عنه، ولو سُلبت خيراته ما علم عنه، بل لو استبدل حاله من أمن إلى فوضى وجريمة لربط هذا بالحضارة المعاصرة.
فاتقوا الله أيها المسلمون، حافظوا على هذه النعمة نعمة العقل، لا تفسدوها بتصورات وأخلاق دخيلة على دين الإسلام، حافظوا على عقولكم من كل ما يضرها في دينها ودنياها، وحافظوا على عقول أبنائكم ذكورًا وإناثًا، خصوصًا من هذا الخطر الجديد الذي داهم علينا بيوتنا البثّ المباشر، زبالة الغرب ونتنه وسمومه، يجلس أمامه الرجال والنساء، الصغار والكبار، على أنه مسلسلات أو مسرحيات أو نحوها، وهي في حقيقتها دعوة إلى النصرانية أو دعوة إلى اللادينية، إضافة إلى ما فيها من نشرِ وبثّ الأخلاق السيئة والعادات الرذيلة التي يمجّها صاحب الفطرة السليمة. كيف نريد من شبابنا بعد ذلك أن لا يسرق؟! فأين الأمن في الأوطان والغرب قد وجّه كل قواه علينا؟! هو يقصد التغريب، ونحن تلقيناه على أنه ترفيه وتسلية.
إن الأمن لا يمكن أن يحصل إلا في ظل شريعة الله حكمًا وتحاكمًا، مع المحافظة على العقول وفق منهج الله، ولو فرطنا في تحكيم كتاب الله فبطن الأرض خير لنا من ظاهرها، وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ [الطلاق:2، 3].
الخطبة الثانية
أما بعد: أيها المسلمون، لا أمن في الأوطان إلا بحفظ الدين، ومما أمرنا الله بحفظه حفظ الأنساب، فحرم الله الزنا، قال الله تعالى: وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً [الإسراء:32]، وقال تعالى: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ [النور:2]، فكما أن الله حرم الزنا حرم جل وعز وسائله من النظر المحرم أو الكلام المحرم والسماع المحرم.
فإذا أردنا أن يحفظ الله علينا الأمن علينا أن نمنع كل وسيلة تؤدّي إلى الزنا أو إلى أسبابه أو حتى مقدماته، وإن التساهل في مثل هذه الأمور شرّه عظيم وعاقبته معروفة، والناظر بعين البصيرة إلى مجتمعات المسلمين اليوم يرى تسيّبًا واضحًا في هذا المجال، شباب تائه على وجهه، حائر في أمره، يُسِّرَ له كل سبل الفاحشة والرذيلة، لا وازع ديني يمنعه، ولا نظام صارم يردعه، بل إن أنظمة بعض الدول الإسلامية تشجّع على الزنا وتدافع عنه وتسنّ له القوانين والأنظمة، والدول الأخرى أسباب الانحراف فيها ميسورة، اختلاط في كل مكان، وتعرٍّ في كلّ ناحية، ثم لا نريد أن يقع الناس في الشهوات المحرمة، هذا لا يمكن أبدًا.
فخلاصة القول: أن نمنع كلّ وسيلة تؤدّي إلى الزنا لو أردنا أن يحفظ الله علينا أمن بلادنا، أما أن يبقى الفساد على ما هو عليه وكل يوم في ازدياد وأن يبقى تبرج النساء في الشوارع والأسواق والشواطئ على ما هو عليه وكل يوم في ازدياد وأن يُترك دعاة التغريب والعلمنة ينشرون فسادهم وانحلالهم وكل يوم في ازدياد وتمكين، فإذا بقيت هذه الأمور على ما هي عليه فلا شكّ بأن هذا من أقوى أسباب نزع البركة والخير والأمن من البلاد.
فنسأل الله عز وجل أن يوفّقنا إلى نشر كل خير وفضيلة، ومنع كل شرر ورذيلة.
اللهم آمنّا في أوطاننا، اللهم وَلِّ علينا خيارنا...
ــــــــــــــــــــ(67/262)
مشاعر دافئة
...
...
4366
...
الأسرة والمجتمع
...
...
الوالدان
...
ناصر بن محمد الأحمد
...
...
الخبر
...
13/7/1423
...
...
النور
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- وجوب الإحسان إلى الوالدين. 2- الأنبياء وبرّ الوالدين. 3- برّ الوالدين من أعظم القربات. 4- نبأ أويس القرني. 5- السلف والإحسان إلى الوالدين. 6- من صور البرّ. 7- خطورة العقوق وبعض صوره. 8- استمرار البرّ بعد وفاة الوالدين.
الخطبة الأولى
أما بعد: حديثنا اليوم حديث حنان وذِكرى، حديث شوق وعِبْرة، حديث حُبّ واشتياق، إنه حديث عن أغلى وأعزّ وأكرم إنسانين لك يا أخي الحبيب، إنهما والداك.
إننا في زمن قد عظمت غُربته واشتدّت كُربته، فلم يرحم الأبناء دموع الآباء، ولم يرحم البنات شفقة الأمهات، في هذا الزمان الذي قلّ فيه البِرّ وازداد فيه العقوق والشرّ، كم نحن بحاجة إلى من يذكّرنا فيه بحقّ الوالدين وعظيم الأجر لمن برّهما؛ لذا كانت هذه الكلمات.
عباد الله، لقد أكثر الله من ذكر شأن الوالدين، وأوجب الإحسانَ إليهما لفضلهما وعظيم معروفهما، قال الله تعالى: يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ [البقرة:215]، وقال سبحانه: وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنْ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ [لقمان:14]، وقال تعالى: وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا [الأحقاف:15].
أيها المؤمنون، لما كان بِرّ الوالدين من القُرُبات العظيمة تَسَابق إليها الأتقياء من عباد الله من الأنبياء والرسل وأتباعهم، فبِرّ الوالدين منهج الأنبياء والمرسلين وعمل الكرام والصالحين، فهذا نوح عليه السلام يخص والديه بالدعاء بالمغفرة بقوله: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِي مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ [نوح:28]، وكذا حال عيسى ابن مريم عليه السلام حين قال عنه الله عز وجل: وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا [مريم:32]، وكذا يحيى عليه السلام قال الله عز وجل عنه: وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا [مريم:14]، وأما ما كان من شأن الخليل عليه السلام مع أبيه ودعوته إياه وتحبّبه له فأمْرٌ قد بَلَغَ في البرّ غايته وفي الإحسان نهايته، قال الله تعالى: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا إِذْ قَالَ لأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنْ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا يَا أَبَتِ لا تَعْبُدْ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنْ الرَّحْمَانِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا [مريم:41-45]، ولما هدّده أبوه: لَئِنْ لَمْ تَنتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا [مريم:46] قابَل التهديدَ بالإحسان والغِلْظَة بالأدب والاحترام: قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا [مريم:47].
فيا معاشر الأحبة، اعلموا أن بِرّ الوالدين من خير ما تقرّب به المتقرّبون وتسابق فيه المتسابقون، وهو من أحب الأعمال إلى الله وأفضلها بعد الصلاة، سئل النبي : أي العمل أحب إلى الله؟ وفي رواية: أي العمل أفضل؟ قال: ((الصلاة على وقتها))، قيل: ثم أي؟ قال: ((بِرّ الوالدين))، قيل: ثم أي؟ قال: ((الجهاد في سبيل الله)) رواه البخاري ومسلم. فبر الوالدين مُقدّم حتى على الجهاد في سبيل الله الذي هو ذروة سنام الإسلام، مما يدل على عظيم حقّهما، ولهذا جاء رجل إلى النبي يستأذنه في الجهاد فقال: ((أحيٌّ والداك؟)) قال: نعم، قال: ((ففيهما فجاهد)). وفي رواية لمسلم: أقبل رجل إلى النبي فقال: أبايعك على الهجرة والجهاد؛ أبتغي الأجر من الله عز وجل، قال: ((فهل من والديك أحد حيّ؟)) قال: نعم، بل كلاهما، قال: ((فتبتغي الأجر من الله عز وجل؟)) قال: نعم، قال: ((فارجع إلى والديك فأحسن صحبتهما)).
فبِرّ الوالدين من أعظم القُرُبات وأجل الطاعات، ببرّهما تتنزّل الرحمات وتُكشف الكُربات، برّ الوالدين مفتاح كل خير ومِغْلاق كل شرّ، بِرّ الوالدين من أعظم أسباب دخول الجنان والنجاة من النيران، بِرّ الوالدين سبب في بسط الرزق وطول العمر، بِرّ الوالدين سبب في دفع المصائب وسبب في إجابة الدعاء، فأين أنت من هذه النفحات يا عبد الله؟!
هل أتاك نبأ أويس بن عامر القرني؟! ذاك رجل أنبأ النبي بظهوره، وكَشَفَ عن سَنَاء منزلته عند الله ورسوله، وأمر البَرَرَة الأخيار من آله وصحابته بالتماس دعوته وابتغاء القُربى إلى الله بها، وما كانت آيته إلا بِرّه بأمّه، وذلك الحديث الذي أخرجه مسلم في صحيحه: كان عمر إذا أتى عليه أمداد أهل اليمن سألهم: أفيكم أويس بن عامر؟ حتى أتى على أويس بن عامر فقال: أنت أويس بن عامر؟ قال: نعم، قال: من مُراد؟ قال: نعم، قال: كان بك بَرَص فبرأت منه إلا موضع درهم؟ قال: نعم، قال: لك والدة؟ قال: نعم، قال: سمعت رسول الله يقول: ((يأتي عليكم أويس بن عامر مع أمداد اليمن من مُراد ثم من قَرن، كان به أثر برَص فبرأ منه إلا موضع درهم، له والدةٌ هو بارٌّ بها، لو أقسم على الله لأبرّه، فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل))، فاستغْفِرْ لي، فاستغَفَرَ له، فقال له عمر: أين تريد؟ قال: الكوفة، قال: ألا أكتب لك إلى عاملها؟! قال: أكون في غَبْرَاء الناس أحبّ إليّ. وعن أصبغ بن زيد قال: إنما منع أويسًا أن يَقدم على النبي برّه بأمه.
فانظر ـ يا رعاك الله ـ المنزلة التي بلغها هذا البارّ بأمّه حتى كان من شأنه أن يُخبِر عنه المصطفى ، وأن يقول لعمر: ((إن استطعت أن يستغفر لك فافعل)).
ولما علم سلفنا الصالح بعظم حق الوالدين قاموا به حق قيام، فهذا محمد بن سيرين إذا كلم أمه كأنه يتضرع، وقال ابن عوف: دخل رجل على محمد بن سيرين وهو عند أمه فقال: ما شأن محمد؟! أيشتكي شيئًا؟! قالوا: لا، ولكن هكذا يكون إذا كان عند أمه. وهذا أبو الحسن علي بن الحسين زين العابدين رضي الله عنهم كان من سادات التابعين، وكان كثير البرّ بأمّه حتى قيل له: إنك من أبرّ الناس بأمك، ولسنا نراك تأكل معها في صَحْفَةٍ!! فقال: أخاف أن تسبق يدي إلى ما سبقت إليه عينها، فأكون قد عققتها. وهذا حَيوة بن شُريح، وهو أحد أئمة المسلمين والعلماء المشهورين، يقعد في حلقته يعلم الناس، ويأتيه الطلاب من كلّ مكان ليسمعوا عنه، فتقول له أمه وهو بين طلابه: قم يا حَيوة، فاعلف الدجاج، فيقوم ويترك التعليم.
وكان الفضل بن يحيى بارًّا بأبيه، وكان أبوه لا يتوضأ إلا بماء ساخن، فقُدِّر أن سُجِنا سويًّا، فمنعه السجان من إدخال الحطب إلى السجن ليسخّن الماء لأبيه إذا قام لصلاة الفجر، فلما أخذ الأب مضجعه من النوم قام الفضل إلى إناء من النحاس مملوء بماء فأدناه من المصباح، وبقي واقفًا حتى استيقظ والده فتوضأ بالماء الساخن، ثم إن السجان منعه من تسخين الماء بالمصباح فأطفأ المصباح، فعمد الفضل إلى الإناء فأخذه في فراشه، وألصقه بأحشائه متحمّلاً برودة الماء حتى أصبح وقد فَتُر الماء. وهذا الإمام أبو حنيفة رحمه الله في بِرّه بأمه حيث كانت تأمره أن يذهب بها إلى حلقة عمر بن ذر حتى تسأله عما أشكل عليها، مع أن ابنها فقيه زمانه، وكان يذهب بها رحمه الله.
وكان منصور بن المعتمر يفلي رأس أمه. وقال محمد بن المنكدر: بات أخي عمر يصلي، وبِتُّ أغمز رجلَ أمي، وما أحبّ أن ليلتي بليلَته. وأمّا الإمام ابن عساكر محدّث الشام فقد سئل عن سبب تأخر حضوره إلى بلاد أصبهان فقال: لم تأذن لي أمي. وهذا محمد بن بشار المشهور بِبُنْدَار الإمام الحافظ راوية الإسلام جمع حديث البصرة كان يقول: "أردت الخروج ـ يعني: الرحلة لطلب العلم ـ فمنعتني أمي، فأطعتها فبورك لي فيه".
رحم الله هؤلاء الأئمة الكبار البَرَرَة الأبرار، ما أعظم شأنهم مع والديهم، هذه بعض نماذج بِرّ السلف لآبائهم وأمهاتهم، فماذا نقول نحن اليوم؟! وماذا نفعل نحن اليوم؟!
أوصيكم جميعًا ونفسي أولاً ببِرّ الوالدين، وأن نسعى لإرضائهما وإسعادهما في هذه الدنيا، أسألك بالله يا أخي: ماذا يريد منك أبوك إلاّ أن تقف معه حين يحتاجك؟! وماذا تريد منك الأم إلا كلمة حانية وعبارة صافية تحمل في طياتها الحب والإجلال؟!
ادفع عنهما الأذى فقد كانا يدفعان عنك الأذى، لا تحدثهما بغلظة أو خشونة أو رفع صوت، جنبهما كل ما يورث الضجَر، فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا [الإسراء:23]، قال الحسين بن علي رضي الله عنهما: (لو علم الله شيئًا من العقوق أدنى من الأفّ لحرّمه). تخَيّر الكلمات اللطيفة والعبارات الجميلة والقول الكريم، تواضع لهما، واخفض لهما جناح الذل رحمة وعطفًا وطاعة وحسن أدب. لقد أقبلا على الشيخوخة والكبر، وتقدما نحو العجز والهرم، بعد أن صرفا طاقتهما وصحتهما وأموالهما في تربيتك وإصلاحك. تأمّل ـ يا رعاك الله ـ قول ربك: إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ [الإسراء:23]، إن كلمة عِندَكَ تدل على معنى التجائهما واحتمائهما وحاجتهما، فلقد أنهيا مهمتهما، وانقضى دورهما، وابتدأ دورك، وها هي مهمتك، فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا [الإسراء:23].
نعم، إن حقهما عظيم، ولكن الجأ إلى الله بالدعاء لهما في حال الحياة وبعد الممات اعترافًا بالتقصير، وأملاً فيما عند الله، رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِى صَغِيرًا [الإسراء:24]، ولن يستطيع الأبناء والبنات مجازاة الآباء والأمهات إلا أن يجد الولدُ الوالدَ مملوكًا فيشتريه فيعتقه، ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((لا يجزي ولدٌ والدَه إلا أن يجده مملوكًا فيشتريه فيعتقه)).
احذر ـ أيها المسلم ـ عقوق الوالدين، فإنه من أكبر الكبائر بعد الإشراك بالله، وكيف لا يكون كذلك وقد قرن الله برّهما بالتوحيد فقال تعالى: وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [الإسراء:23]، وقال تعالى: قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [الأنعام:151]. ((إذا ظهر في أمّة محمّد أربع عشرة خصلة فانتظروا ريحًا حمراء وزلزلة وخسفًا ومسخًا وقذفًا وآيات تتتابع كنظام قُطِع سِلكه))، ومن هذه الخصال: ((إذا أطاع الرجل زوجته وعقّ أمه وأدنى صديقه وأبعد أباه))، فلا إله إلا الله ما أكثر هذا في هذا العصر.
احذر ـ يا عبد الله ـ عقوبة الله نتيجة لعقوقك، قال النبي : ((كل الذنوب يؤخر الله تعالى ما شاء منها إلى يوم القيامة إلا عقوق الوالدين، فإن الله يُعجّله لصاحبه في الحياة قبل الممات))، وقال النبي : ((رغم أنفهن رغم أنفه، رغم أنفه))، قيل: من يا رسول الله؟ قال: ((من أدرك والديه عند الكبر أو أحدهما ثم لم يدخل الجنة))، قال مجاهد رحمه الله: "لا ينبغي للولد أن يدفع يد والده إذا ضربه"، وسئل كعب الأحبار عن العقوق فقال: "إذا أمرك والداك بشيء فلم تطعهما فقد عققتهما العقوق كله".
اعلم ـ أيّها العاقّ ـ أنك مجزيّ بعملك في الدنيا والآخرة، يقول العلماء: كل معصية تؤخَّر عقوبتُها بمشيئة الله إلى يوم القيامة إلا العقوق، فإنه يُعجّل له في الدنيا، وكما تدين تُدان، والجزاء من جنس العمل.
ذكروا أن رجلاً حمل أباه الطاعن في السنّ وذهب به إلى خِرْبة فقال الأب: إلى أين تذهب بي يا ولدي؟ فقال: لأذبحك، فقال: لا تفعل يا ولدي، فأقسم الولد ليذبحنّ أباه، فقال الأب: فإن كنت ولا بد فاعلاً فاذبحني هنا عند هذه الصخرة، فإني قد ذبحت أبي هنا.
عباد الله، إن لعقوق الوالدين صورًا كثيرة، من ذلك إظهار العُبُوس عند مقابلتهما، ومن صور العقوق أيضًا رفع الصوت عليهما، أو مقاطعة كلامهما بزجرهما وفرض الرأي عليهما، وهذه الطباع مما يذمها العقلاء مع الناس، فكيف إذا كان ذلك مع الوالدين؟! ومن الصور النظر إلى الوالدين شَزرًا، وذلك بإحداد النظر إليهما، وكأنه ينظر إلى أحد أبنائه لزجره، قال مجاهد رحمه الله: "ما برّ والديه من أحدّ النظر إليهما"، ومن الصور التأخّر في قضاء حاجاتهما، والتسويف بها إلى أن يسأم الوالدان من سؤاله بعد ذلك، ومن الصور القيام بحقّ الزوجة والاعتناء به في مقابل عدم الاعتناء بحق الوالدين وعدم الاكتراث له، بل وتضييعه.
عن أبي بكرة قال: قال رسول الله : ((ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟)) قالها: ثلاثًا، قلنا: بلى يا رسول الله، قال: ((الإشراك بالله وعقوق الوالدين)) والحديث متفق عليه، وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة: العاق لوالديه ومدمن الخمر والمَنّان)) أخرجه النسائي، وعن عمرو بن مُرَّة الجهني قال: جاء رجل إلى النبي فقال: يا رسول الله، أرأيت إذا صليت الصلوات الخمس وصمت رمضان وأديت الزكاة وحججت البيت فماذا لي؟ فقال رسول الله : ((من فعل ذلك كان مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، إلاّ أن يَعُقّ والديه)) رواه الإمام أحمد والطبراني.
إن عقوق الأبناء تئنّ له الفضيلة، وتبكي له المروءة، وتأباه الديانة، ولا يرضى به العاقل فضلاً عن المتديّن؛ لأن فعله منكر عظيم وقبح جسيم. عقوق الوالدين جحود للفضل ونكران للجميل. كم هو عار وشَنَار أن ينسى الواحد منا ضعفه وطفولته، ويعجب ويغترّ بشبابه، ويترفّع على والديه بتعليمه وثقافته أو بشهادته ومركزه. أين الإيمان؟! وأين المروءة والوفاء؟! بل أين الرحمة والإنسانية؟! لقد قَلَبَ أولئك ظهر المِجَنّ، وقابلوا الإحسان بالإساءة، ألا بئس ما صنعوا، وتبًّا لما فعلوا.
وإنك لتأسف حين تجد من عليه مظاهر الصلاح والاشتغال بشيء من العلم والدعوة ولا يجعل لأبويه حقًّا من التقدير والرعاية والبِرّ والعناية، ومهما كان على الأبوين من تقصير فبِرّهما واجب والإحسان إليهما متعيّن، وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا [لقمان:15].
فللَّه كم دمعة ذرفها والد أو والدة على ما يلاقيان من الجحود والاستكبار من أولادهما، كم زفرة حَرّى انطلقت من أب مَكْلُوم أو أمّ رَؤُوم، يشتكيان الهجر والقطيعة ومن أقرب الناس إليهما. ويا لله، كم من أب وأم تمنى أن لم يُرزق بأولاد شَقِي معهم أول عمره، وها هو يشقى بهم في آخره، كم حسرة دُفِنت مع والد في قبره، وكم غُصّة ضاق بها جوف أمّ لم تحتمل ما ترى، كم من والد تمثل مع الشاعر قائلاً:
غَذَوتُك مولودًا وعُلتُك يافعًا تُعَلُّ بِما أحنِي إليك وتَنهَل
إذا ليلةٌ نابتك بالسُّقْم لَم أبِت لذكرك إلا ساهرًا أَتَمَلْمَل
كأني أنا المطروقُ دونك بالذي طُرِقتَ به دوني وعَيناي تهمل
تخاف الرّدَى نفسي عليك وإنها لتَعلم أنّ الْموت حَتمٌ مؤجل
فلما بلغتَ السنَّ والغايةَ التي إليها مدى ما كنتُ فيك أؤمِّل
جعلت جزائي غِلْظَة وفَظَاظَة كأنك أنت المُنعم المُتفَّضل
فليتك إذ لَم تَرْعَ حقّ أُبُوّتي فعلتَ كما الجارُ الْمجاوِر يفعل
فأوليتني حقّ الْجوار ولَم تكن عليّ بِمالي دونَ مالِكَ تبخل
كيف تَنْسَى أمَّك يا عبد الله؟! إنها سبب وجودك، تلك المربّية المشفِقَة، لُطْفها ملأَ جَنَانها، حملتك في أحشائها تسعة أشهر، تألمت من حملك، وكابدت آلام وضعك، حملته كُرهًا، ووضعته كُرهًا، رأت الموت بعينيها عند ولادتك، صرخت وبكت، ولما بَصُرت بك إلى جانبها سُرعان ما نسيت آلامها، وعَلّقَت فيك جميع آمالها، رأت فيك البهجة والحياة وزينتها، ثم شُغِلَت بخدمتك ليلها ونهارها، تُغذيك بصحتها، طعامك دَرُّها، وبيتك حِجْرُها، ومركبك يداها وصدرها وظهرها، سهرت ونمت، تألمت لألمك، سهرت لراحتك، وحملت أذاك وهي غير كارهة، وتحمّلت أذاك وهي راضية، تحيطك وترعاك، ولو خُيّرت بين حياتك وموتها لطلبت حياتك بأعلى صوتها، كم عاملتها بسوء الخلق مرارًا، فدعت لك بالتوفيق سِرًّا وجهارًا، كم كانت تجوع لتشبع أنت، وتسهر لتنام أنت، وتتعب لتستريح أنت، تترك كثيرًا مما تشتهيه خشية ضرر يعتريك، فهي بك رحيمة، وعليك شفيقة. أنسيت عندما كنت صغيرًا؟! إذا غابت عنك دعوتهَا، وإذا أعرضت عنك ناجيتَها، وإذا أصابك مكروه استغثتَ بها، تحسب كل الخير عندها، وتظن أن الشر لا يصل إليك إذا ضمتك إلى صدرها أو لحَظَتك بعينها، فكيف بعد ذلك تعقّها؟!
رأى ابن عمر رضي الله عنهما رجلاً قد حمل أمه على رقبته وهو يطوف بها حول الكعبة، وقد أتى بها من بلاده، فقال: يا ابن عمر، أتُراني جازيتها؟ قال: (ولا بطلقةٍ واحدةٍ من طلقاتها، ولكن أحسنت، والله يثيبك على القليل كثيرًا). الله أكبر! ما أعظم الحق، وما أشد تقصير الخلق.
ولما ماتت أم إياس القاضي المشهور بكى عليها، فقيل له في ذلك فقال: "كان لي بابان مفتوحان إلى الجنة، فغلِّق أحدُهما". وكان هناك رجل من المتعبدين يُقَبّل كل يوم قدم أمه، فأبطأ يومًا على أصحابه فسألوه، فقال: "كنت أتمرغ في رياض الجنة، فقد بلغنا أن الجنة تحت أقدام الأمهات".
فلله درّهنّ من أمهات مشفقات ومربيات رقيقات ووالدات حانيات، فجزاهنّ الله عنّا جنة عرضها الأرض والسموات.
لأمك حق لو علمت كبير كثيرك يا هذا لديه يسير
فكم ليلةٍ باتت بثقلك تشتكي لَها من جواها أنَّةٌ وزفير
وفِي الوضع لو تدري عليك مشقة فكم غُصصٍ منها الفؤاد يطير
وكم غسلت عنك الأذى بيمينها ومن ثديها شُربٌ لديك نَمِير
وكم مرّة جاعت وأعطتك قوتَها حُنُوًّا وإشفاقًا وأنت صغير
فضيّعتها لَما أسنّت جهالة وطال عليك الأمر وهو قصير
فدونك فارغب فِي عميم دعائها فأنت لِما تدعو إليه فقير
أما أبوك فهو السبب في وجودك، إنه الأب الغالي والوالد الحاني، الموجّه القيّم والمربّي الفاضل، وأنت له مَجْبَنَةٌ مَبْخَلَةٌ، يكدّ ويسعى، ويدفع عنك صنوف الأذى، ينتقل في الأسفار ويجوب الفَيَافِي والقِفَار ويتحمّل الأخطار بحثًا عن لقمة العيش لك ولإخوانك، يُنفق عليك، ويُصلحك ويُربّيك، إذا دخلتَ عليه هَشّ، وإذا أقبلتَ إليه بَشّ، وإذا خرج تعلقت به، وإذا حضر احتضنت حِجْره وصدره، إذا غبت سأل عنك، وإذا تأخرت انتظرك، يُنشِّئ ويُنفق، ويُربّي ويُشفق، إذا رآك ابتسم مُحَيّاه وبَرَقَت ثَنَاياه، فكم يبذل لتعليمك وتربيتك وتغذيتك وتنشئتك، فجزاه الله من والد كريم وأب رحيم.
هذان هما والداك، جميلهما يربو على كل جميل، وإحسانهما يفضل كل إحسان، إنهما جنتك ونارك، بذلا من أجلك النفس والنفيس والصحة والراحة، لقد أدّيا واجبهما، وأنفقا زهرة عمرهما في رعايتك، وإذا بالسنوات تَزْدَلِف بهما، وتمضي تباعًا على عَجَل، فيعلو الشيب مَفَارِقَهما، ويدبّ الضعف إلى بدنيهما، وقد كبرت أنت وإخوانك، واستقلّ كل واحد منكم بحياته الخاصة مع شريك حياته، فيلتفت الوالد ينظر من حوله، فلا يرى عنده إلا زوجه العجوز التي لا تكاد تخدم نفسها، فضلاً عن القيام بشؤون زوجها الذي أُنهِكت قواه وضَعُفَت حركته وعَجز عن خدمة نفسه في كثير من حاجاته، وأصبح في حالٍ يحتاج فيها إلى مَن حوله، ولا سيّما أبناءه وبناته؛ ليردّوا إليه الجميل أو بعضه مما بذله في سبيلهم، وليتقربوا إلى الله تعالى بخدمة والديهم اللذين طالما تعبا ليستريحوا، واهتمّا واغتمّا لينعموا، فما هو موقفك الآن ـ يا عبد الله ـ وهما في هذه الحال؟!
إن برّ الوالدين ليس درسًا يُلقّن ولا كتابًا يؤخذ، إنما هو سلوك وتربية. برّ الوالدين إكرام وإحسان، توقير وعرفان. برّ الوالدين دعاء واستغفار، بذل وعطاء مِدْرَار. برّ الوالدين قلب ينبض بالحبّ ويد مبسوطة بالبذل وجنة طيبة بالنوال، شعور يتدفّق بالوفاء ويجري مع الدم، فينبثق له الوجه ويبشّ. لا يدعو والده باسمه، ولا يمشي أمامه، ولا يُجلسه خلفه، يمتثل أمره، يلبّي دعوته، لا يمنّ بالبرّ له، يتحاشا كل كلمة نابية أو إشارة طائشة تفيد تأفّفًا أو تضجّرًا. إذا كان على أحدهما دين مالي أدّاه أو صوم قضاه، وإذا لم يحجّا حجّ عنهما.
نسأل الله جل وتعالى أن يوفقنا لبرّ والدينا، إنه سميع قريب مجيب.
أقول ما قلت، فإن كان صوابًا فمن الله وحده، وإن كان غير ذلك فمن نفسي والشيطان، والله ورسوله منه بريئان، وأستغفر الله إنه كان غفارًا.
الخطبة الثانية
أما بعد: إنهما والداك يا عبد الله، إذا ذكرتهما ذكرت البرّ والإحسان، إذا ذكرتهما أسعفتك بالدموع العينان، مضت أيامهما، وانقضى شبابهما، وبدا لك مشيبهما، وقفا على عتبة الدنيا وهما ينتظران منك قلبًا رقيقًا وبِرًّا عظيمًا، وقفا ينتظران منك وفاءً وبِرًّا، والجنة أو النار لمن برّهما أو عقّهما، فطوبى لمن أحسن إليهما ولم يسئ لهما، طوبى لمن أضحكهما ولم يبكهما، طوبى لمن أعزهما ولم يذلهما، طوبى لمن أكرمهما ولم يهنهما، طوبى لمن نظر إليهما نظر رحمة وودّ وإحسان وتذكر ما كان منهما من برّ وعطف وحنان، طوبى لمن أسهر ليله ونصب في نهاره وأضنى جسده في حبهما، طوبى لمن شمّر عن ساعد الجد في برّهما، فما خرجا من الدنيا إلاّ وقد كتب الله له رضاهما.(67/263)
فيا من أبكى أبويه، يا من أبكى أبويه وأحزنهما وأسهر ليلهما وحمّلهما أعباء الهموم وجرّعهما غُصَص الفراق ووحشة البعاد، هلاّ أحسنت إليهما وأرضيتهما وأضحكتهما، كم آذيتهما مرارًا وهما يدعوان الله سرًّا وجهارًا، ويبكيان عليك وأنت صغير إشفاقًا وحذارًا، ويبكيان منك وأنت كبير خوفًا وفرقًا، فهما أليفا حُزن وحليفا همّ وغمّ، فلما بلغت موضع الأمل ومحل الرجاء قلت: أَسِيح في الأرض أطلب كذا وكذا، فارقتهما على كبرهما باكيين، وتركتهما في وَكْرِهما محزونين، كم أطعماك حلوًا وجرّعتهما مُرًّا، فإن غاب شخصك عن عيونهما لم يغب خيالك عن قلوبهما، ولئن ذهب حديثك عن أسماعهما لم يسقط ذكرك عن أفواههما، ولطالما بكيا ولم يذوقا غَمْضًا إن تأخّرت عن الرواح في المساء، فكيف إذا أغلقا بابهما دونك، وأبصرا خُلوّ مكانك، ففقدا أنسك، ولم يجدا رائحتك، فكان ملاذهما سَحّ الدموع، فصار الولد خبرًا، وكل غريب ولدهما، وكل ميت هو لهما، وسل عن حديثهما إذا لقيا إخوانك وأبصرا أقرانك، ولم يبصراك معهم، فهنالك تُسكب العبرات وتتضاعف الحسرات. ارجع إلى والديك وجاهد فيهما، أحسن صحبتهما، الزم خدمتهما، أطع أمرهما، أدخل السرور على قلبيهما.
وإذا فقدتهما وابتليت بموتهما فإنك لا تذكر إلا حينئذ فضلهما، وتَمقُت نفسك على إساءتك لهما، وتقول: ويحي، ماتا قبل أن أبرّهما، ويا خسارتي إذ لم أقم بردّ جميلهما، ولم أشكر حسن صنيعهما، وقد رحلا قبل أن يجدا مني ما يرضي نفوسهما. قال : ((ثلاث دعوات مستجابات لا شك فيهنّ: دعوة المظلوم، ودعوة المسافر، ودعوة الوالد على ولده)).
ذُكِر أن شابًا اسمه مُنازِل كان مُكبًّا على اللهو واللعب لا يفيق عنه، وكان له والدٌ صاحب دين، كثيرًا ما يعظ هذا الابن ويقول له: يا بني، احذر هفوات الشباب وعثراته، فإن لله سطوات ونقمات ما هي من الظالمين ببعيد، وكان إذا ألَحّ عليه زاد في العقوق، ولما كان يوم من الأيام ألَحّ على ابنه بالنصح على عادته، فمدّ الولد يده على أبيه، فحلف الأب بالله مجتهدًا ليأتينّ بيت الله الحرام فيتعلق بأستار الكعبة ويدعو على ولده، فخرج حتى انتهى إلى البيت الحرام فتعلق بأستار الكعبة وأنشأ يقول:
يا مَن إليه أتى الحجّاج قد قطعوا عَرضَ المَهامِهِ من قُربٍ ومن بُعدِ
إنِّي أتيتك يا مَن لا يُخيِّبُ مَن يدعوه مبتهلاً بالواحد الصمَد
هذا مُنازِلُ لا يرتدُّ من عَقَقِي فخذ بحقّيَ يا رحمن من ولدي
وشُلَّ منه بحولٍ منك جانبه يا من تقدَّس لم يولَد ولم يلِد
فقيل: إنه ما استتمّ كلامه حتى يبس شِقُّ ولده الأيمن، نعوذ بالله من العقوق.
فيا أيها الحبيب، يا من مات والداه أو أحدهما وقد قصّر ببرهما في حياتهما وندم على ما فرّط وخاف من عاقبة العقوق، اعلم أن باب الإحسان لهما مفتوح، وبإمكانك أن تدرك شيئًا ولو قليلاً من البرّ بعد موتهما، لعلّ الله تعالى أن يعفو عنك، ويُرضي عنك والديك، من ذلك الدعاء لهما بالمغفرة والرحمة، والصدقة عنهما، والحج والعمرة عنهما، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما، وإكرام صديقهما، وإنفاذ عهدهما، فإن هذه الأعمال مما يَفرح به الوالدان بعد موتهما، لتخفيف ما عليهما من سيئات وزيادة في الحسنات. إنهما هناك في قبريهما يتشوّقان إلى دعوة صالحة من ولد صالح في جوف الليل، يتطلّعان إلى صدقة جارية من كسب طيب تجلب لهما الرحمة، وتدفع عنهما البلاء، ويرضى عنهما رب الأرض والسماء.
قال النبي : ((برّوا آباءكم تبرّكم أبناؤكم))، واعلموا أن رضا الله في رضا الوالدين، وأن سخط الله في سخط الوالدين. لا تخرجوا من هذا المكان إلا وقد عاهد كل واحد منا نفسه أن يذهب ليُقبِّل رأس أبويه ويستسمحهما، فإن كانا ميتين أو أحدهما فليدع لهما.
اللهم إنا نسألك أن تعيننا على برّ والدينا، اللهم قد قصّرنا في ذلك وأخطأنا في حقهما، اللهم فاغفر لنا ما قدّمنا وما أخّرنا، وما أسررنا وما أعلنا، واملأ قلبيهما بمحبتنا، وألسنتهما بالدعاء لنا، يا ذا الجلال والإكرام. اللهم وفّق الأحياء منهما...
ــــــــــــــــــــ(67/264)
المرأة تحرير أم تدمير (1)
...
...
4330
...
الأسرة والمجتمع
...
...
المرأة
...
ناصر بن محمد الأحمد
...
...
الخبر
...
22/12/1424
...
...
النور
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- محاولات الأعداء المستمرة لهدم الدين. 2- وسائل الأعداء في إفساد الأمة. 3- لماذا الهجوم على المرأة؟ 4- منزلة المرأة في الإسلام. 5- حقيقة دعاوى تحرير المرأة. 6- تاريخ قضية تحرير المرأة.
الخطبة الأولى
أما بعد: أيها المسلمون، إن أعداء الإسلام منذ بزوغ شمسه وظهوره وانتشار ضيائه وجماله وسنائه وهيمنته على الأديان كلها ما فتئوا يكيدون للإسلام وأهله ويتربصون بهم الدوائر، كما قال تعالى: وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَاء [النساء:89]. وإن أعداء الإسلام سلكوا مسالك شتى لضرب الإسلام وعرقلة انتشاره وظهوره, ولكن ـ لعَمْرو الله ـ من يردّ السيل إذا هدر؟! أم ـ لعَمْرو الله ـ من يردّ على الله القدر؟! جرّب هؤلاء الأعداء أبوابًا كثيرة ومسالك خطيرة في تشويه الإسلام وتقويض حصونه من الداخل، لكن ليس العجيب أنهم يخططون لضرب الإسلام وشلّ حركته، ولكن العجب العجاب أن تنطلي دعواتهم ودعايتهم وكلامهم المعسول المسموم على السذّج والبسطاء من أبناء المسلمين، فيصبحون من أنصار هذه الدعوة، ومن الداعين إليها والمنافحين عنها والناشدين لأمرها، من حيث يشاؤون أو لا يشاؤون.
لقد تمكّن أعداء الإسلام من هزّ كيان هذه الأمة وزعزعة حصونها، وأن ينفذوا مخطّطًا مجرمًا لتدمير الأمة الإسلامية، وذلك من خلال بابين خطيرين، ألا وهما: باب العقيدة، وباب الأسرة، وإن شئت فقل: باب المرأة المسلمة.
أما الباب الأول: فقد استطاع الأعداء أن ينشئوا مذاهب منحرفة وعقائد باطلة، ويدسوها في أصل ديننا، حتى أفسدت عقائد الكثيرين من أبناء المسلمين، فافترقوا فرقًا، وصاروا شيعًا وأحزابًا، يكفر بعضهم بعضًا، ويضرب بعضهم رقاب بعض، وسلط هؤلاء الأعداء على نصوص الوحيين التأويلاتِ الباطلة حتى فسد الدين فسادًا, ولولا أن الله سبحانه تكفل بحفظه وأقام له حُرّاسًا ووكّلهم بحمايته من تأويل الجاهلين وانتحال المبطلين لجرى عليه ما جرى على الأديان السالفة, ولكن الله برحمته وعنايته بهذه الأمة يبعث لها عند دروس السُّنَّة وظهور البدعة من يجدّد دينها، ولا يزال الله يغرس في هذا الدين غرسًا يستعملهم في طاعته.
وأما الباب الثاني: فهو باب المرأة المسلمة. لم تعد جهة معينة هي التي تتحدث عن المرأة وتهتم بشؤونها، فأصحاب تيار الرذيلة والانحراف لهم نصيب في نسف الحياة الطيبة التي تعيشها المرأة المسلمة في ظل دينها وإسلامها، ووسائل الإعلام بمختلف أنواعها أصبحت توجه المرأة، بل غدت المنظمات الدولية والمؤسسات الحقوقية تتسابق في توجيه المرأة بشكل عام والمرأة المسلمة بشكل خاص، وتقوم بتعريفها بمسؤولياتها وواجباتها، وتتباكى على حالها.
إن هناك حربًا ضروسًا لا هوادة فيها ضد المرأة، هذه الحرب موجهة ـ ومنذ زمن ليس بالقريب ـ لتحطيم هذا الحصن وهذا الكيان وهي المرأة، وإن لم نكن جميعًا بمستوى هذه الحرب فالخسارة من الذي يتحملها؟ أنا وأنت، وستنجرف في الهاوية أختي وأختُك وبنتي وبنتُك.
لقد علم أعداء الشريعة وخصوم الملة المركز الحساس الذي تحتله المرأة في هذا الدين، فهم يعلمون أن المرأة المسلمة هي أم المستقبل ومربية الليوث القادمة والحصن المنيع ضد تيارات الفساد والتدمير، بل يعلمون أنها نموذج الصبر والتضحية، وأنها قبس في البيوت مضيء وجوهرة تتلألأ، ويعلمون جيدًا تلك الحدود والضوابط التي وضعها الله جل جلاله في كل ما يتعلق بشؤون المرأة، من لباسها وخمارها وجلبابها وكلامها ومشيتها وطريقة عبادتها وكيفية دخولها وخروجها، كل هذا حفاظًا عليها من عبث ذئاب البشر بها، وأيضًا حفاظًا وحماية للمجتمع المسلم أن يتردى في مهاوي الرذيلة.
فبدأ هؤلاء المنتكسون منذ زمن بعيد والتي قد آتت أكلها في الآونة الأخيرة، بدؤوا في محاولة تغيير نظرة الناس والمجتمع بشكل عام والمرأة بشكل خاص؛ لأنها هي المعنية في هذه الضوابط التي جاء بها الإسلام، وبمعنى مختصر: تغيير دين الناس من الإسلام إلى ما يحاولون إقناع الناس به بما يسمونه الإسلام المتحضر أو الإسلام المَرِن الذي يقبل كل ما يأتي من الغرب، خصوصًا فيما يتعلق بشؤون المرأة، لكن حسب تقاليدهم وضوابطهم الشرعية ـ زعموا ـ، واستخدموا في سبيل تحقيق ذلك آلاف المقالات ومئات الندوات والمحاضرات بطرح ممجوج، وساعد هذا التيار ما يصنعونه هم بأيدهم عن طريق الإعلام من مسلسلات وأفلام تخدم هذا التيار وهذا التوجه.
فالمرأة والرجل بل المجتمع بأسره إذا نظر في الشاشة أو سمع في المذياع أو قرأ في مجلة أو جريدة فيما يتعلق بموضوع المرأة لا يرى ولا يسمع ولا يقرأ إلاّ تلك النداءات المتكررة من إخراج المرأة من بيتها، بحجة الدراسة والوظيفة، وما الدراسة أرادوا، ولا الوظيفة قصدوا، لكن وراء الأكمة ما وراءها.
لم تعرف البشريةُ دينًا ولا حضارةً عُنيت بالمرأة أجملَ عناية وأتمَّ رعايةٍ وأكملَ اهتمام كالإسلام. تحدَّث عن المرأة، وأكّد على مكانتها وعِظم منزلتها، جعلها مرفوعةَ الرأس، عاليةَ المكانة، مرموقةَ القدْر، لها في الإسلام الاعتبارُ الأسمى والمقامُ الأعلى، تتمتّع بشخصيةٍ محترمة وحقوقٍ مقرّرة وواجبات معتبرة. نظر إليها على أنها شقيقةُ الرجل، خُلِقا من أصل واحد، ليسعدَ كلٌّ بالآخر، ويأنس به في هذه الحياة، في محيط خيرٍ وصلاح وسعادة، قال : ((إنما النساء شقائق الرجال)).
المرأةُ في تعاليم الإسلام كالرجل في المطالبة بالتكاليف الشرعية، وفيما يترتّب عليها من جزاءات وعقوبات، وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيرًا [النساء:124]. هي كالرجل في حمل الأمانة في مجال الشؤون كلها إلا ما اقتضت الضرورةُ البشرية والطبيعة الجِبليّة التفريقَ فيه، وهذا هو مقتضى مبدأ التكريم في الإسلام لبني الإنسان، وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى ءادَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِى الْبَرّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مّنَ الطَّيّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً [الإسراء:70].
لقد أشاد الإسلام بفضل المرأة، ورفع شأنَها، وعدَّها نعمةً عظيمةً وهِبةً كريمة، يجب مراعاتها وإكرامُها وإعزازها، يقول المولى جل وعلا: لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاواتِ وَالأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاء يَهَبُ لِمَن يَشَاء إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَن يَشَاء الذُّكُورَ أَوْ يُزَوّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا [الشورى:49، 50]، وفي مسند الإمام أحمد أن النبي قال: ((من كان له أنثى فلم يئدها ولم يُهنها ولم يؤثر ولده عليها أدخله الله الجنة)).
المرأةُ في ظل تعاليم الإسلام القويمة وتوجيهاتِه الحكيمة تعيش حياةً كريمة في مجتمعها المسلم، حياةً مِلؤها الحفاوةُ والتكريم من أوَّل يوم تقدُم فيه إلى هذه الحياة، ومُرورًا بكل حال من أحوال حياتها.
رعى حقَّها طفلةً، وحثَّ على الإحسان إليها، ففي صحيح مسلم من حديث أنس أن النبي قال: ((من عال جاريتين حتى تبلُغا جاء يوم القيامة أنا وهو كهاتين)) وضمّ أصابعه، وفي مسلم أيضًا أن النبي قال: ((من كان له ثلاث بنات وصبر عليهن وكساهن من جِدته كُنّ له حجابًا من النار)).
رعى الإسلام حقَّ المرأة أمًّا، فدعا إلى إكرامها إكرامًا خاصًّا، وحثَّ على العناية بها، وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَانًا [الإسراء:23]، بل جعل حقَّ الأمّ في البرّ آكد من حقِّ الوالد، جاء رجل إلى نبينا فقال: يا رسول الله، من أبرّ؟ قال: ((أمّك))، قال: ثم من؟ قال: ((أمّك))، قال: ثم من؟ قال: ((أمّك))، قال: ثم من؟ قال: ((أبوك)) متفق عليه.
رعى الإسلامُ حقَّ المرأة زوجةً، وجعل لها حقوقًا عظيمة على زوجها، من المعاشرة بالمعروف والإحسان والرفق بها والإكرام، قال : ((ألا واستوصوا بالنساء خيرًا، فإنهن عوان عندكم)) متفق عليه، وفي حديث آخر أنه قال: ((أكملُ المؤمنين إيمانًا أحسنُهم خُلُقًا، وخيارُكم خياركم لنسائه)).
رعى الإسلامُ حقَّ المرأة أختًا وعمَّةً وخالةً، فعند الترمذي وأبي داود: ((ولا يكون لأحد ثلاثُ بنات أو أخوات فيُحسن إليهنّ إلا دخل الجنة)).
وفي حال كونِها أجنبيةً فقد حثَّ على عونها ومساعدتها ورعايتها، ففي الصحيحين: ((الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله، أو كالقائم الذي لا يفتُر، أو كالصائم الذي لا يفطِر)).
للمرأة في الإسلام حريةٌ تامة في مناحي الاقتصاد كالرجل سواءً بسواء، هي أهلٌ للتكسُّب بأشكاله المشروعة وطرقه المباحة، تتمتّع بحرية التصرف في أموالها وممتلكاتها، لا وصايةَ لأحدٍ عليها مهما كان وأينما كان، وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُواْ النّكَاحَ فَإِنْ ءانَسْتُمْ مّنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ [النساء:6].
بل إن الإسلامَ يفرض للمرأة من حيث هي ما يسمَّى بمبدأ الأمن الاقتصادي مما لم يسبق له مثيلٌ ولا يجاريه بديل، حينما كفل للمرأة النفقةَ أمًّا أو بنتًا أو أختًا أو زوجةً وحتى أجنبية؛ لتتفرّغ لرسالتها الأسمى وهي فارغةُ البال من هموم العيش ونصب الكدح والتكسُّب.
هذه بعضُ مظاهر التكريم للمرأة في الإسلام، وذلك غيْضٌ من فيض وقطرةٌ من بحر.
وعلى الرغم من أن الإسلام احترم المرأة وأعلى مكانتها وأعطاها من الحقوق ما يليق بخلقتها وبقدرتها، كيف لا والمشرع هو خالقها؟! أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك:14]. لكن أعداء الإسلام من اليهود وأذنابهم والنصارى ومقلديهم ومحبيهم والعلمانيين الحاقدين لا يروق لهم وضعُ المرأة في الإسلام، فهم لمّا علموا وأيقنوا أنهم لن يستطيعوا ضرب الإسلام وتقويض حصونه من الداخل إلا بإخراج المرأة من بيتها بل إخراجها عن طبيعتها وأصل خلقتها ـ أَوَمَن يُنَشَّأُ فِى الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِى الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ [الزخرف:18] ـ أرادوها أن تزاحم الرجل في كل ميادين الحياة ولا بد, فلا بد أن تزاحم الرجل في تجارته وفي عمله وفي صناعته وفي وظيفته، بل حتى في سيارته وتنقله.
ما كان لهؤلاء الحاقدين أن يدخلوا على الناس في بيوتهم ويخرجوا بناتهم ونساءهم, ولكنهم بمخططهم الماكر افتعلوا قضية أسموها "تحرير المرأة"؛ ليوحوا للمرأة أن لها قضيةً تحتاج إلى نقاش وتستدعي الانتصار لها أو الدفاع عن حقها المسلوب، ولذلك يكثرون الطنطنة في وسائل كثيرة ومختلفة على هذا الوتر, بأن المرأة في مجتمعاتنا تعاني ما تعاني، وأنها مظلومة، وشقٌّ معطل، ورئة مهملة، ولا تنال حقوقها كاملة، وأن الرجل قد استأثر دونها بكل شيء... وهكذا؛ ليشعروا الناس بوجود قضيةٍ للمرأة في مجتمعنا, هي عند التأمل لا وجود لها.
يقال لهؤلاء الناعقين: أي حريّة للمرأة تريدون؟! أتريدونها أن تكون ألعوبة في يد القاصي والداني، أم تريدونها أن تكون ورقةً مبذولةً تطؤها الأقدام وتمزقها الأيدي, بعد أن كانت جوهرةً مصونةً لا يكاد يرى أحد منها شيئًا من غير محارمها إلا بعقد صحيح؟! أيّ حرية في أن تكون المرأة مع الرجل جنبًا إلى جنب في كل شيء حتى في مصنعه وهندسته؟! عجبًا ثم عجبًا!
يقول سماحة الوالد الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله: "فلا يخفى على كل من له معرفةٌ ما عمت به البلوى في كثير من البلدان من تبرج الكثير من النساء وسفورهن وعدم تحجبهن من الرجال وإبداء الكثير من زينتهن التي حرم الله عليهن إبداءها، ولا شك أن ذلك من المنكرات العظيمة والمعاصي الظاهرة ومن أسباب حلول العقوبات ونزول النقمات؛ لما يترتب على التبرج والسفور من ظهور الفواحش وارتكاب الجرائم وقلة الحياء وعموم الفساد"، ثم يقول رحمه الله: "فاتقوا الله أيها المسلمون، وخذوا على أيدي سفهائكم، وامنعوا نساءكم مما حرم الله عليهن، وألزموهن التحجب والتستر، واحذروا غضب الله سبحانه وعظيم عقوبته، فقد صح عن النبي أنه قال: ((إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشَكَ أن يعمهم الله بعقابه))".
ويقول رحمه الله رادًّا على دعاة الاختلاط ونزع الحجاب: "إن ثمرات الاختلاط مُرة, وعواقبه وخيمة, رغم مصادمته للنصوص الشرعية التي تأمر المرأة بالقرار في بيتها والقيام بالأعمال التي تخصها في بيتها ونحوه، ومن أراد أن يعرف عن كثب ما جناه الاختلاط من المفاسد التي لا تحصى فلينظر إلى تلك المجتمعات التي وقعت في هذا البلاء العظيم بإنصافٍ من نفسه وتجرد للحق عما عداه، فسيجد التحسر على انفلات المرأة من بيتها وتفكك الأسر" اهـ.
لقد طفت على سطح الماء فقاقيع المتغربين، واعتلت المنابر الإعلامية وجوهٌ مشبوهة وألسنةٌ مسعورة، تم اختيارها بدقةٍ وعناية، ثم دُفع بها إلى حلبة الإعلام، وأعطيت قلمًا حبره السم، ليؤدي دوره المرسوم سلفًا خدمةً للعديد من تيارات التدخل الدولي أو التبعية المحلية، وسعى سعيًا حثيثًا دائبًا لتقليص مساحة هيمنة الإسلام على الحياة وتخطيطه لها وتفريغه من مضمونه الرباني الشامل.
هكذا ينبغي علينا أن نفهم مصطلح "تحرير المرأة"، إنها حرب على الإسلام، لكن هذه المرّة من خلال بوابة المرأة.
إن المرأة تواجه تحديات كثيرة في هذا الواقع المرّ، وتواجه صراعات متعددة الأطراف، فأنت لا تدري هل تحميها من ذئاب الإعلام، أم تحافظ عليها من فساد الشارع والسوق، أم تحذرها من أدعياء التقدم ورافعي رايات التغريب، أم ماذا تقول لها في هذا الوقت العصيب؟!
إن هؤلاء المسعورين من العلمانيين والمستغربين ومن سار في فلكهم ممن يتباكون على وضع المرأة هم أعداء المرأة حقًا، إنهم يتسللون بأفكارهم التحررية ودعوتهم للانحلال من خلال قضايا شرعية يحاولون أن يجعلوها مجال نقاشٍ وأخذٍ ورد، فلم يعد خافيًا على أحد ما تشهده مجتمعات المسلمين اليوم من حملة محمومة من الذين يتبعون الشهوات على حجاب المرأة وحيائها وقرارها في بيتها، حيث ضاق عطنهم، وأخرجوا مكنونهم، ونفذوا كثيرًا من مخططاتهم في كثير من مجتمعات المسلمين؛ وذلك في غفلة وقلة إنكار من أهل العلم والصالحين، فأصبح الكثير من هذه المجتمعات تعج بالسفور والاختلاط والفساد المستطير مما أفسد الأعراض والأخلاق، وبقيت بقية من بلدان المسلمين لا زال فيها ـ والحمد لله ـ يقظة من أهل العلم الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، حالت بين دعاة السفور وبين كثير مما يرومون إليه. وهذه سنة الله عز وجل في الصراع بين الحق والباطل والمدافعة بين المصلحين والمفسدين.
ومن كيد المفسدين في مثل المجتمعات المحافظة مع وجود أهل العلم والغيرة أن أولئك المفسدين لا يجاهرون بنواياهم الفاسدة، ولكنهم يتسترون وراء الدين، ويُلبِسون باطلهم بالحق واتباع ما تشابه منه، وهذا شأن أهل الزيغ كما وصفهم الله عز وجل في قوله: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ [آل عمران:7]، وهم أول من يعلم أن فساد أي مجتمع إنما يبدأ بإفساد المرأة واختلاطها بالرجال، ولو تأملنا في التاريخ لوجدنا أن أول ما دخل الفساد على أية أمة فإنما هو من باب الفتنة بالنساء، وقد ثبت عن النبي قوله: ((ما تركت فتنة هي أضر على الرجال من النساء))، وهذه حقيقة لا يماري فيها أحد، وملل الكفر أول من يعرف هذه الحقيقة؛ حيث إنهم من باب الفتنة بالنساء دخلوا على كثير من مجتمعات المسلمين، وأفسدوها، وحققوا أهدافهم البعيدة، وتبعهم في ذلك المهزومون من بني جلدتنا ممن رضعوا من ألبان الغرب وأفكاره، ولكن لأنهم يعيشون في بيئة مسلمة ولا زال لأهل العلم والغيرة حضورهم فإنهم لا يتجرؤون على طرح مطالبهم التغريبية بشكل صريح؛ لعلمهم بطبيعة تديُّن الناس ورفضهم لطروحاتهم وخوفهم من الافتضاح بين الناس، ولذلك دأبوا على اتباع المتشابهات من الشرع وإخراج مطالبهم في قوالب إسلامية، وما فتئوا يلبسون الحق بالباطل. نسأل الله تعالى أن يكفينا شرهم.
الخطبة الثانية
أما بعد: بدأ مسلسل ما يسمى حركة تحرير المرأة قبل مائة عام، أي في عام ألف وثمانمائة وتسع وتسعين للميلاد، حين خرج كتاب تحرير المرأة لقاسم أمين الذي دعا فيه المرأة إلى السفور ونبذ الحجاب واختلاطها بالرجال، ولم يكن في ذلك الوقت في مصر امرأة تختلط بالرجال سوى امرأة واحدة هي "ناظلي فاضل" حفيدة محمد علي باشا، وفي تركيا دعا "أحمد رضا" عام ألف وتسعمائة وثمانية للميلاد، أي: قبل تسعين سنة إلى إفساد المرأة حيث قال ما نصه: "ما دام الرجل التركي لا يقدر أن يمشي علنًا مع المرأة في تركيا وهي سافرة الوجه فلا أعد في تركيا دستورًا ولا حرية".
هكذا دعا هذا الأثيم إلى سفور المرأة قبل تسعين عامًا تقريبًا، ولكن انظروا ماذا يحدث الآن في تركيا حيث وصل الحال إلى إنشاء المراقص وبيوت البغاء وكل أنواع الشرور كما هو مشاهد ومعلوم في تلك البلاد، نسأل الله أن يحمي بلاد المسلمين من كل سوء ومكروه.
إن كثيرًا من الكتابات التي نطالعها على صفحات الجرائد إنما هي نسخة مستلة من دعوة قاسم أمين، وهي طبق الأصل من كتاباته وأفكاره هو وأضرابه من دعاة السفور والاختلاط.
لقد تآمروا على المرأة بالوظيفة، وقالوا: يجب أن تعمل المرأة. إن عمل المرأة بالصورة التي ينادون بها له من المفاسد الشيء الكثير من إهمال الأسرة وتمزيق أركانها وتضييع النشء وإفساد الأولاد وكثرة حالات الطلاق وكثرة حالات العنوسة في المجتمع وتحديد النسل، إذ إن المرأة العاملة تضطر لإيقاف الإنجاب مراعاةً للوظيفة، والتضييق على الرجل في الحصول على الوظيفة، وهذا مشاهد ملموس، بل الواقع يشير إلى بداية ظهور البطالة في المجتمع في أوساط الرجال، والرجل مطالب بالعمل لكونه مطالب بالنفقة على المرأة. ومن ذلك كثرة السائقين والخادمات والمربيات. ومن ذلك ما تحدثه من أثر نفسي على الأطفال نتيجة تنشئتهم في دور الحضانة. ومنها أنه لا عائد مادي من عمل المرأة؛ إذ إنه سيصرف في تبعات ذلك من خادمة أو مربية أو سائق وسيارة وغيرها من المصاريف.
وبالجملة فمن أراد أن يعرف آثار عمل المرأة بالصورة التي ينادي بها العلمانيون فلينظر إلى المجتمعات التي سبقت إلى مثل هذا العمل، وما حل بها من فساد وانحراف يوجب على العقلاء السعي لكف هذا الشر عن المسلمين، ويتعين على الجميع بذل الجهود لحفظ المجتمع وصيانة الأمة من خلال السعي على الحفاظ على خصوصية تعليم المرأة وعملها.
إن الذين يتباكون على وضع المرأة يريدونها أن تكون كالمرأة الغربية، ويصرحون بأن هذا هو طريق خلاصها، هل خلاصها أن تكون غانيةً في سوق الملذات والشهوات يستمتع بها الرجل ويستبد من طلوع الشمس إلى غروبها ومن غروبها إلى طلوعها في دور الأزياء وقاعات السينما وشاشات التلفاز وصالات المسارح وشواطئ البحار والأنهار وبيوت اللهو والدعارة وأغلفة المجلات والصحف السيارة، بل حتى في ردهات مستشفياتهم وملاحاتهم الجوية؟! ونستحي أن نقول: في دور التعليم ومحاضن التربية، هل هذا هو سبيل الخلاص من القهر الذي ينشدون والعنف الذي يقولون!!
إنها البيوت الخربة والمسؤولية الضائعة حين ألقاها الرجل الغربي عن كاهله فوقعت نساؤهم حيث وقعت، إهمالٌ وتنصلٌ من مسؤولية الإنجاب والتربية، فأصبح ذكرهم وأنثاهم لنفسه لا لأمته، للذّاته لا لكرامته، فالفساد في مجتمعاتهم يستشري، والخراب إلى ديارهم يسري.
لماذا لم نسمع الغرب يتحدث عن المرأة المقهورة المعذّبة، المرأة المشرّدة، المرأة المغتصبة من إفرازات حروب أنشؤوها وكوارث أثاروها، من الظلم العالمي والفقر المتدني في شعوب تنتسب إلى الأمم المتحدة؟! ما حال أمهاتنا وأخواتنا وبناتنا في فلسطين وكشمير والبوسنة والشيشان وأفغانستان وإرتريا والصومال والعراق؟! إن وثائقهم لا تكاد تعير هذا اهتمامًا في مقابل احتفائها واحتضانها للشاذات والبغايا والمومسات والمصابين والمصابات بكل ألوان أمراض الجنس الفتاكة. إنهم لا يعرفون الرحم ولا التراحم، ولا يعرفون البر ولا الفطرة، أي خيانة أكبر من خيانة إهمال النشء وإهلاك النسل؟!
إنهم يعلمون ولكنهم قومٌ بهت، إنهم يعلمون أن السكينة والطمأنينة لا تكون إلاّ في بيوت مستقرة، في ظلال أسرة حانية بنساؤها ورجالها وأطفالها وصباياها، أما الهمل والضياع في الأزقة والأرصفة وزوايا الوجبات السريعة فلا تبني أمة ولا تجلب طمأنينة، بل إن حياة الطيور في أعشاشها والسباع في أكنّتها خير وأصلح من هذا الهمل الضائع.
إن الغرب وأبواقه لن يرضوا إلاّ أن يروا مجتمعاتنا الطاهرة الطيبة وقد انزلقت في وبائه ورجسه، بل إن هناك إصرارًا من الغرب ورجاله ومؤتمراته ولجانه ليصهر الشعوب في عاداته وتقاليده، احتكارٌ وقهرٌ ليجعل هذا السلوك الممقوت مقياس التقدم ورمز الحضارة.
أما نحن أهل الإسلام فنأرِز إلى إيماننا، ونطمئن إلى كتاب ربنا، فقد خاطبنا رجالَنا ونساءنا في التكاليف والمسؤولية: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة:71، 72].
ــــــــــــــــــــ(67/265)
المرأة تحرير أم تدمير (2)
...
...
4331
...
الأسرة والمجتمع
...
...
المرأة
...
ناصر بن محمد الأحمد
...
...
الخبر
...
29/12/1424
...
...
النور
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- حال المرأة في الجاهلية. 2- تردّي أوضاع المرأة في الغرب. 3- حقيقة دعاوي تحرير المرأة. 4- كلمة للمرأة المسلمة. 5- صور من حياة الصحابيات. 6- دور المرأة المسلمة في رد العدوان عليها.
الخطبة الأولى
أما بعد: أيها المسلمون، استكمالاً لخطبة الأسبوع الماضي عن المرأة وما يُكاد لها فأكمل وأقول: لقد كانت المرأة في الجاهلية تعدّ من سقط المتاع، لا يقام لها وزن، وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ يَتَوَارَى مِنْ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ [النحل:58، 59].
أما وضعها في المجتمعات الكافرة والمجتمعات التي تتسمّى اليوم بالإسلام وهي تستورد نظمها وتقاليدها من الغرب فإن وضعها أسوأ بكثير من وضعها في الجاهلية الأولى، فقد جُعِلت فيها المرأة سلعة رخيصة تُعرض عارية أو شبه عارية أمام الرجال في مواطن تجمعهم، على شكل خادمات في البيوت وموظفات في المكاتب وممرضات في المستشفيات ومضيفات في الطائرات والفنادق وممثلات في أفلام التلفزيون والسينما، وإذا لم يمكن ظهور صورتها في هذه الوسائل جاؤوا بصوتها في المذياع مذيعة أو مطربة، وإلى جانب إظهار صورتها المتحركة في وسائل الإعلام المرئية يظهرون صورتها الفوتوغرافية في الصحف والمجلات، بل وعلى أغلفة السلع التجارية، فيختارون أجمل فتاة يجدونها، ويضعون صورتها على هذه الصحف والمجلات السيّارة، أو على أغلفة السلع التجارية؛ ليتخذوا منها دعاية لترويج صحفهم وبضائعهم، وليغروا أهل الفساد الخلقي بفسادهم، وليفتنوا الأبرياء. لقد كانت على شاطئ السلامة وبرّ الأمان، بعيدة عن متناول الأيدي ومماسّة الرجال، فتآمروا عليها وقذفوها في بحار الاختلاط المغرقة، عرضة للأيدي الآثمة ومطمعًا للنفوس الأمّارة بالسوء، فحرّموا ما أحلّ الله، وأحلّوا ما حرّم الله.
لقد جاءت الحضارة الغربية ورفعت شعارات برّاقة كشعار تحرير المرأة ومساواتها بالرجل وعدم كبتها أو التحكم فيها، فعاشت شقاءً لا يدانيه شقاء، واصطلت بنار هذه الحرية الشوهاء، لقد كُتبت تقارير وإحصاءات مذهلة عما تعانيه المرأة في الغرب، إليكم طرفًا من ذلك:
- لقد شاعت الفاحشة شيوعًا لم يسبق له مثيل، فلم تعد مزاولة الفاحشة ـ أجارنا الله وإياكم ـ مقصورة على دُور البغاء، بل تجاوزت ذلك إلى الفنادق والمقاهي الراقصة والمنتزهات وعلى قارعة الطريق، ولم يعد من الغريب ولا الشاذ أن يقع الأب على ابنته، والأخ على أخته، وأصبح ذلك في الغرب شائعًا ومألوفًا.
- وأصبحت الخيانة الزوجية ظاهرة عامة، ففي الولايات المتحدة الأمريكية امرأة واحدة من كل أربع نساء أمريكيات تخون زوجها.
- أما التفكير في الانتحار في ظل الرفاهية المزعومة والحرية وحقوق المرأة التي ينادون بها في الغرب فإن أربعًا وثلاثين بالمائة من النساء يفكرن في الانتحار.
- ومن الإحصاءات النسوية ـ إن صح التعبير ـ أن ثلثي حوادث الاعتداء في أمريكا بالضرب ضد النساء تصدر من أقاربهن، والباقي من غير الأقارب.
- ثمان وعشرون في المائة من حالات الاعتداء الجسمي على النساء تصدر من الزوج والصديق.
- وفي فرنسا تتعرض حوالي مليون امرأة للضرب، وأمام هذه الظاهرة التي تقول الشرطة: إنها تمثل حوالي 10 بالمائة من العائلات الفرنسية أعلنت الحكومة أنها ستبدأ حملة توعوية لمنع أعمال العنف. وهذه كأنها ظاهرة طبيعية. وقالت أمينة سر الدولة لحقوق المرأة: "إن الحيوانات تعامَل أحيانًا أحسن منهنّ، فلو أن رجلاً ضرب كلبًا في الشارع فسيتقدم شخص ما بالشكوى إلى جمعية الرفق بالحيوان، ولكن إذا ضرب رجلٌ زوجته في الشارع فلن يتحرك أحد". ونقلت صحيفة فرنسية عن الشرطة أن ستين في المائة من الدعوات الهاتفية التي تتلقاها شرطة الخدمة في باريس أثناء الليل هي نداءات استغاثة من نساء يسيء أزواجهنّ معاملتهنّ.
- ونشرت مجلة التايمز الأمريكية أن حوالي أربعة آلاف زوجة من حوالي ستة ملايين زوجة مضروبة تنتهي حياتهنّ نتيجة ذلك الضرب.
- وأشار خبر نشره مكتب التحقيقات الفيدرالية جاء فيه أن أربعين في المائة من حوادث قتل السيدات ارتكبها أزواجهنّ.
- ودلت الدراسات على أن في الولايات المتحدة نفسها أكثر من خمسةٍ وثلاثين مليون متزوج يقيم علاقات غير شرعية خارج عش الزوجية، أي: بنسبة تصل إلى سبعين في المائة من الرجال المتزوجين. وبعبارة أخرى فإن سبعين في المائة من الزوجات الأمريكيات مأسورات بقيد الخيانة، خيانة أزواجهنّ لهنّ.
- أما صورة أخرى فهي صور الاغتصاب التي تتعرض لها المرأة، ففي الولايات المتحدة تقول التقارير الخاصة بالاغتصاب: إن حادثة الاغتصاب تسجل كل ستِ دقائق، وإن جريمة الاغتصاب أكثر الجرائم تسجيلاً في محاضر الشرطة والمدن الأمريكية.
- ويقول المحللون: إن تسعين في المائة من حوادث الاغتصاب لا تصل إلى سجلات البوليس، وهذا يعني بحسبة بسيطة أن عشر حوادث للاغتصاب تتم كل ستِ دقائق أو جريمتين كل دقيقة تقريبًا.
- وأما في فرنسا فقد أذاع الراديو الفرنسي إحصائية ذكر فيها أن في فرنسا خمسة ملايين امرأة متزوجة على علاقة جنسية بغير أزواجهنّ.
- أربعون في المائة من النساء في إيطاليا هنّ ضحايا الاغتصاب الجنسي، وتتم العمليات في المنازل والشوارع وأماكن العمل بلا تمييز.
- أربعة عشر مليون امرأة في إيطاليا يخشون السير بغير رفقة في الشوارع المظلمة أو الأماكن المهجورة.
وبعد هذه النقولات نقول: إن الداعين إلى تحرير المرأة على الطريقة العلمانية اللادينية والداعيات إلى ذلك التوجه في الوطن الإسلامي إنما ينشدون محالاً من الأمر، فهم وهنّ في شقاء مستمر في سبيل الوصول إلى مركب يجتمع فيه الخير والشر في آن واحد، وكما قلت: فذلك من المحال.
إن الإسلام الذي جاء شاملاً وكاملاً من عند الله لا يمكن أن يكون ألعوبةً في أيدي هؤلاء العابثين المخربين دعاة وداعيات التحرير المزعوم، فالمرء مخير بين أمرين لا ثالث لهما: إما الإسلام كله، أو التبعية للجاهلية المعاصرة كلها، ولا خيار ثالث لهما، فليعِ هذا من أراد مناطحة الجبال.
إن الهجوم على المرأة المسلمة إنما هو هجوم على قيم الإسلام، ذلك أن الدعوة إلى تحرير المرأة إنما هو تسفيه لدينها الذي هو عصمة أمرها، وهو اختيارها ووجودها عبر أكثر من أربعمائة وألف من الأعوام، وهو الذي أخرجها من ذلّ وأسر الجاهلية إلى عزّ الإسلام، فالدعوة التحريرية دعوة في الواقع إلى إرجاعها إلى الذلّ والأَسر من جديد، ودعوة إلى تحويلها إلى دمية لمجرد المتعة على الطريقة التي يعرفها دعاة التحرير في هوليوود وغيرها حيث مسارح الرذيلة وملاهي الخنا.
إن المرأة التي تنطلي عليها هذه المؤامرة واحدة من اثنتين: إما جاهلةٌ لا علم لها بشيء على الإطلاق، لا بما يحاك ضدها ولا بأمور دينها، أو عالمة بما يدور حولها وبنتائج هذه الدعوة الخبيثة، فتكون في هذه الحالة جزءًا من المخطط الجهنّمي الذي يدبّر بليل ونهار، ليس للإيقاع بالمرأة فحسب، ولكن لتقويض الكيان الإسلامي من أساسه، ولن يتم ذلك لدعاة الهدم والتخريب بإذن الله ثم بيقظة المخلصين، فليتدبر كل منا أمره، فالخطب جسيم، والهجمة شرسة، والطريق طويل وشاق، والله المستعان.
لا بد أن يُعلم أنه كلما عظم الخطر عظمت المسؤولية، وكلما كثرت أسباب الفتنة وجبت قوة الملاحظة، وإننا في عصر عظم فيه الخطر وكثرت فيه أسباب الفتنة بما فتح علينا من زهرة الدنيا واتصالنا بالعالم الخارجي مباشرة أو بواسطة وسائل الإعلام المسموعة والمرئية، وخاصة ما يبث عبر قنوات البث المباشر والمقروءة، وبسبب ضعف كثير من الرجال وتهاونهم للقيام بمسؤولياتهم تجاه نسائهم، وترك الحبل لهنّ على الغارب، حتى إنك لترى المرأة الشابة تذهب من بيتها إلى أي مكان تريد دون أن تُسأل: إلى أين؟ وتتكلم بالهاتف الساعات الطوال دون أن يعلم ولي أمرها من تكلم، وترى بعض النساء يخرجن إلى الأسواق بلا رقيب، تطوف بها ليلاً ونهارًا صباحًا ومساءً، وما ذهابها إلى السوق من أجل شراء شيء تريده، وإنما من أجل التسلي والتسكع، ومن أجل تضييع الوقت، ومن أجل البحث عن الجديد من الأزياء أو المكياج، حتى تكون الزينة لها هدفًا لذاته.
إليك هذه الإحصائية المهولة لاستعمال أدوات الزينة لدى نساء الخليج: ففي عام 97م أنفقت نساء الخليج حوالي ثلاثة مليارات ريال على العطور فقط، وخمسة عشر مليون ريال على صبغات الشعر، وبلغت مبيعات أحمر الشفاه أكثر من ستمائة طن، فيما بلغت مبيعات طلاء الأظافر أكثر من خمسين طنًا. فكم هي الأرقام الآن؟!
إن من نتائج انحراف المرأة في مجتمعاتنا أن كثر الفسق، وانتشر الزنا، وابتعد الناس عن الزواج، وانهدم كيان الأسرة، وأهملت الواجبات الدينية، وانعدمت الغيرة، واضمحلّ الحياء، وتركت العناية بالأطفال، وأصبح الحرام أيسر حصولاً من الحلال، وكثرت الجرائم، وفسدت أخلاق الرجال خاصة الشباب المراهقين، وأصبحت المتاجرة بالمرأة كوسيلة دعاية أو ترفيه في مجالات التجارة وغيرها، وكثرت الأمراض التي لم تكن في السابق، قال : ((لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلاّ فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا)) رواه ابن ماجه.
ومن أعظم العقوبات التي هي قطعًا أخطر من القنابل الذرية ومن أسلحة الدمار الشامل هي استحقاق نزول العقاب الإلهي، قال الله تعالى: وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا [الإسراء:16]، وقال : ((إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك الله أن يعمهم بعذاب)).
إن من أعظم مقاصد هذا الدين إقامة مجتمع طاهر، الخلق سياجه، والعفة طابعه، والحشمة شعاره، والوقار دثاره، مجتمع لا تهاج فيه الشهوات، ولا تثار فيه عوامل الفتنة، تُضيّق فيه فرص الغواية، وتقطع فيه أسباب التهييج والإثارة. ولقد خُصَّت المؤمنات بتوجيهات في هذا ظاهرة ووصايا جليلة، فعفة المؤمنة نابعة من دينها، ظاهرة في سلوكها، ومن هنا كانت التربية تفرض الانضباط في اللباس سترة واحتشامًا ورفضًا للسيرة المتهتّكة والعبث الماجن.
وليعلم دعاة السفور من العلمانيين ومن وراءهم أن التقدم والتخلف له عوامله وأسبابه، وإقحام الستر والاحتشام والخلق والالتزام عاملاً من عوامل التخلف خدعة مكشوفة، لا تنطلي إلاّ على مغفل ساذج، في فكره دخن، أو في قلبه مرض. ودعاة السفور ليسوا قدوة كريمة في الدين والأخلاق، وليسوا أسوة في الترفع عن دروب الفتن ومواقع الريب، إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمْ الْغَالِبُونَ [المائدة:55، 56].
إن كل امرئٍ عاقلٍ بل كل شهم فاضل لا يرضى إلاّ أن يكون عرضه محل الثناء والتمجيد، ويسعى ثم يسعى ليبقى عرضه حرمًا مصونًا لا يرتع فيه اللامزون، ولا يجوس حماه العابثون. إن كريم العرض ليبذل الغالي والنفيس للدفاع عن شرفه، وإن ذا المروءة الشهم يقدم ثروته ليسد أفواهًا تتطاول عليه بألسنتها أو تناله ببذيء ألفاظها. نعم، إنه ليصون العرض بالمال، فلا بارك الله بمال لا يصون عرضًا. بل لا يقف الحد عند هذا، فإن صاحب الغيرة ليخاطر بحياته ويبذل مهجته ويعرض نفسه لسهام المنايا عندما يرجم بشتيمة تلوث كرامته، يهون على الكرام أن تُصاب الأجسام لتسلم الأعراض، وقد بلغ ديننا في ذلك الغاية حين أعلن النبي فقال: ((من قتل دون أهله فهو شهيد)).
فيا أختي المسلمة، يا من رضيت بالله ربًّا وبالإسلام دينًا وبمحمد نبيًا ورسولاً، إنهم يقولون لك: إن الرجل قد ظلمك حين فرض عليك ارتداء الحجاب، فقولي لهم: لم يكن الرجل هو الذي فرض الحجاب على المرأة فترفع قضيتها ضده لتتخلص من ظلمه، إنما الذي فرض الحجاب على المرأة هو ربها وخالقها الذي لا تملك إن كانت مؤمنة أن تجادل فيما أمر به أو يكون لها الخيرة في الأمر، ومَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ ولا مُؤْمِنَةٍ إذَا قَضَى اللَّهُ ورَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ومَن يَعْصِ اللَّهَ ورَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا مُّبِينًا [الأحزاب:36].
ويقولون لك: إن أختك الأوربية قد حملت قضيتها وأخذت حقوقها، وقضايا المرأة واحدة في كل بلاد العالم. فقولي لهم: بادئ ذي بدء لا أخوّة بيني وبين الأوربية؛ لأن المسلمة لا تؤاخي المشركة، وأما عن الحقوق التي تزعمونها للمرأة الأوربية ففي الحقيقة لقد كانت هذه المرأة ضحية من ضحايا المجتمع الذي حررها فقذف بها إلى المصنع والمكتب، وقال لها: عليك أن تأكلي من عرق جبينك، في بيئة مليئة بالأخطار على أخلاقها، فتركها في حرية مشؤومة ليس لها ولا للمجتمع فيها نفع. وقولي أيضًا: يكفيني ما تنشره تلك الدول من إحصاءات وأرقام تخيف وتهدد البشرية بسبب تحرير موهوم.
انقلي ـ يا أختاه ـ للعالم كله نماذج رائعة ومواقف مدهشة للنساء في صدر الإسلام، وكيف صبرن كما صبر الرجال، ففاطمة بنت الخطاب تسلم قبل أخيها عمر، ولما عرف عمر بذلك ضربها، فتقول في وجهه حين رأت الدم يسيل منها: نعم يا ابن الخطاب، أسلمت، فافعل ما بدا لك، فيُصعق عمر من إجابتها، ويقول لها: جيئيني بالكتاب الذي تقرؤون منه، فتأتيه به، فلما قرأه قال: دلوني على محمد كي أسلم.
وأم شريك آمنت وعذبت وجُوّعت وعُطّشت وألقيت في الحرَّ، وهي في شبه إغماء من الجوع والعطش، ولما حاولوا ردها إلى الكفر قالت: اقتلوني، ولن أعود للكفر أبدًا. وبينما هي في حالة إغماء أحست بشيء رطب على فمها وهي مقيدة ومربوطة في الشمس، فنظرت فإذا دلو من السماء نازل لكي تشرب منه. الله سقاها كرامة لها. ولما عرف قومها الحقيقة عرفوا أنها على الحق وأنهم على الباطل، ففكّوا وثاقها وحبالها وقالوا لها: فلننطلق إلى رسول الله لنعلن إسلامنا.
وكذلك أم أيمن الحبشية امرأة هاجرت وحدها في شدة الحر والعطش، وكانت صائمة ولكن الله تعالى حين جاء وقت الغروب أنزل إليها دلوًا من السماء فشربت منه، وكانت لا تحمل ماءً معها. تقول أم أيمن وهي مربية الحبيب محمد ، تقول بعد أن شربت من هذا الدلو: كنت أصوم في اليوم الشديد الحر فلا أشعر بعطش أبدًا.
ولا ننسى نسيبة الأنصارية والتي كانت مع النبي تدافع عنه في أحد حين انهزم كثير من الرجال وابتعدوا عنه، حتى قال عنها : ((ما التفت يمينًا وشمالاً إلا وأنا أراها تقاتل عني)).
ويمشي أمير المؤمنين عمر بن الخطاب فتستوقفه المرأة فيقف لها وتقول له: يا عمر، كنت تدعى عُمَيرًا، ثم قيل لك: عمر، ثم قيل لك: أمير المؤمنين، فاتق الله يا عمر، فإنه من أيقن بالموت خاف الفوت، ومن أيقن بالحساب خاف العذاب. وهو واقف يسمع لكلامها، فقيل له في ذلك فقال: والله، لو حبستني من أول النهار إلى آخره ما تحركت من مكاني، أتدرون من هذه العجوز؟ هي خولة بنت ثعلبة، سمع الله قولها من فوق سبع سماوات، أيسمع رب العالمين قولها ولا يسمعه عمر؟!.
الله أكبر! هذا كله دليل على صدق هؤلاء النساء، وعلى عظم مكانة المرأة في الإسلام، فالله لم يعط الفضل للرجال فقط، ولم يعط الشرف للرجال فقط، ولم يعط العزة والكرامة للرجال فقط، إنما أعطاها لكل من آمن وصدّق وأخلص في إيمانه وثبت على الحق ثبوت الجبال.
الخطبة الثانية
أما بعد: وهنا سؤال يطرح نفسه: ما المطلوب من المرأة المسلمة أن تفعله في هذا الوقت العصيب؟
المرأة المسلمة اليوم مطالبة أكثر من أي وقت مضى أن تكون سلاحًا في وجه أعدائها، وذلك من خلال ما يلي:
أولاً: رفضها لكل الدعوات الكاذبة والخادعة التي ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب، متمثلةً قول الله تعالى: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدتُّمْ وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ [سورة الكافرون].
ثانيًا: تقف سدًّا منيعًا إلى جانب الرجل المسلم في وجه ما يخطط للأمة الإسلامية من خلالها، فلا تكون عونًا لأعدائها وأعداء أمتها، بل يجب عليها أن تعي وتدرك ما يدور حولها من خطط لإبعادها عن دينها ورسالتها في هذه الحياة، وتهميش دورها في بناء مجتمعها الإسلامي، وإشغالها بتوافه الأمور، وإضاعة وقتها في تتبع ما تبثه الفضائيات وما تنشره المجلات الهابطة من عروض للأزياء وآخر الموديلات من مكياج وعطورات ومتابعة أخبار الفنانين والفنانات.
ثالثًا: تعود إلى إسلامها وتتمسك به بكل قوة، وتعيش تعاليمه كلها منهجًا وسلوكًا، وتطبقها على نفسها أولاً، ثم على من هم تحت رعايتها.
رابعًا: تعمل المرأة المسلمة على تثقيف نفسها والتسلح بالعلم الشرعي، وذلك من خلال حضورها لبعض الدروس الشرعية المتاحة في مجتمعها، وسماعها للأشرطة المأمونة المتوفرة، وكذلك تلاوتها للقرآن وتدبر آياته، خصوصًا آيات الأحكام، وتحفظ ما تيسر لها منه، والاطلاع على كتب التفسير والسيرة حتى يساعدها ذلك على أداء مهمتها في الدعوة لهذا الدين العظيم.
خامسًا: الحذر كل الحذر من أن تقع في شراك أدعياء تحرير المرأة، فإنهم يهدفون من وراء ذلك الطعم إلى اصطيادها وتحللها من دينها وقيمها وأخلاقها، وحينها تكون ذيلاً لهم وتابعة ذليلة لمناهجهم.
نسأل الله جل وتعالى أن يحفظ نساء المسلمين وبناتهم إنه سميع قريب مجيب...
ــــــــــــــــــــ(67/266)
...
تربية الأبناء
...
...
3028
...
الأسرة والمجتمع
...
...
الأبناء
...
عبد الله العلوي الشريفي
...
...
فاس
...
29/5/1423
...
...
الجامع المحمدي
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- النفس البشرية مفطورة على حب الذرية. 2- إهمال الوالدين تربية أولادهم في الصغر سبب فسادهم في الكبر. 3- النهي عن الدعاء على الأولاد. 4- تعويد الصغار على الخير من أسباب صلاحهم في الكبر.
الخطبة الأولى
أَمَّا بَعْدُ: فيَا إِخْوَةَ الإِيمَانِ، فَمِنْ عظيمِ فضلِ اللهِ وكبيرِ نعمهِ على خلْقهِ أَنَّهُ سبحانهُ كما قال: يَهَبُ لِمَن يَشَاء إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَن يَشَاء الذُّكُورَ أَوْ يُزَوّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا [الشورى:49، 50].
وَحُبُّ الذُّريَةِ مفْطورٌ في النَّفْسِ الإنْسانيةِ، وطلَبُها والسَّعْيُ إليْها ليسَ غريبًا على النَّفسِ الإنسانيةِ؛ لأنَّ المالَ والبنينَ زينةُ الحياةِ الدنيَا، كما قالَ اللهُ تعالى: الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحياةِ الدُّنْيَا [الكهف:46].
وإذا كانَ الإنسانُ يُحِبُّ أنْ يكونَ لهُ ذريةٌ فعبادُ اللهِ المؤمنونَ من طبيعتِهِم وصفاتِهِم أن يبْتَهِلوا إلى اللهِ أنْ يرزقَهُم أولادًا مؤمنينَ صالحينَ مهْديينَ إلى الإسلام، مُطيعينَ للهِ، يعملونَ الخيرَ، ويبتعدُونَ عنِ الشَّرِّ، تَقَرُّ بِهِمْ أعْيُنُهُم، وتُسَرُّ بِهِمْ نفوسُهُم، قال تعالى: وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْواجِنَا وَذُرّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا [الفرقان:74].
وكثيرٌ من الآباءِ والأمَّهاتِ يرجونَ برَّ أولادِهِم بِهِمْ واحترامِهِمْ لَهُمْ، وهذا واجبٌ على الأولادِ لِوالِديهِمْ، إلاَّ أنَّ كثيرًا من الآباءِ والأمَّهاتِ يشْكونَ منْ تمرُّدِ وانْحرافِ أبنائِهِم وفسادِ أخْلاقِهِمْ.
ومهما كانتْ أسبابُ ذلك فإنَّ التَّبِعَةَ في الواقِعِ يَبُوءُ بها الآباءُ، فالطِّفلُ يولدُ على الفِطْرَةِ السَّليمَةِ والصَّفاءِ والنَّقاءِ، ولَكِنَّ المُجتَمَعَ هو الذي يُفْسِدُه، والبِيئةَ التي يعيشُ فيها هيَ الَّتِي تُلَوِّثُ فِطْرَتَهُ وتُفْسِدُ خُلُقَهُ ودينَهُ، ولا سِيَما أبَوَيهُ فَهُما سَببُ هلاكِهِ ودمارهِ، وسبَبُ فسادِهِ أو صلاحِهِ، وسبَبُ استقامَتِهِ أو اعْوِجاجِهِ، ففي الحديثِ الصَّحيحِ أنَّ رسولَ اللهِ قَالَ: ((كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ)) رواه البخاري.
ولِهذا جعلَ الإسلامُ من أعظمِ الواجباتِ على الآباءِ والأمَّهاتِ تِجاهَ أولادِهِمْ حسنَ تعَهُّدِهِم ورعايتِهِم، واعْتَبَرَ كلَّ مُفرِّطٍ في أداءِ هذا الواجِبِ ظالمًا لنفْسِهِ وولدِهِ ومُجْتَمَعِهِ وأُمَّتِهِ، فهلْ قُمْنا بواجِبِنا نحْو أبنائِنا؟!
علينا قَبْلَ أن نلومَ أبناءَنا ونشكُوَ منِ انحِرافِهِم وفسادِ أخلاقِهِم أن نَسألَ أنْفُسَنا: هل تعهَّدناهُمْ ورعيْناهُمْ منذ صِغَرِهِمْ كما عَلَّمَنَا الإسلامُ؟! هل غرسْنا ورسَّخْنا الإيمانَ والعقيدةَ الصحيحةَ في نفوسِهِمْ؟! هل عوَّدْناهُمُ الصَّلاةَ وهم صغارٌ كما أمرنا رَسُولُ اللَّهِ : ((مُرُوا أَوْلادَكُمْ بِالصَّلاةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعِ سِنِينَ، وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرٍ)) رواه أبو داود؟! هل ربَّيْناهُمْ على حُبِّ اللهِ ورسولِهِ؟! هل حرصْنا على تحفيظِهِمْ كتابَ اللهِ؟! هل شجَّعْناهُمْ على قِراءةِ السُّنَّةِ النَّبويةِ؟! هل صحِبناهُم معنا إلى مجالسِ العلمِ والمحاضراتِ والنَّدواتِ التي تُعْقَدُ في المساجدِ وغيرِها؟! هل غرسْنا القِيَمَ الحميدَةَ والخِلالَ الكريمَةَ في نُفُوسِهِمْ وأدَّبْناهُمْ بِآدابِ الإسلامِ؟! هل خَصَّصْنا جُزْءًا من أوقاتِنا لأولادِنا وراقَبْنا تصرُّفاتِهِم في المنْزِلِ والشَّارعِ وتتبَّعْنا أحوالَهُمْ في المدارِسِ؟! هل نحنُ قُدوَةٌ صالِحةٌ لأبنائِنا؟! هل قمنا بتربية أبنائنا على الوجه الصحيح أم أننا تركناهم للشارع لكي يربِّيهِم على الأخلاق الدَّنِيئة والألفاظِ البذيئةِ المُنْحطَّةِ؟!
أسئِلةٌ كثيرةٌ كثيرةٌ.، يجبُ أن يطرَحَها كلُّ واحدٍ منَّا على نفسِهِ، ويجيبَ عليها بصِدْقٍ.
الحقيقةُ أننا أهْملْنا أبناءَنا إهْمالاً كبيرًا، لا أقولُ: أهملناهمْ في الطعامِ والشَّرابِ والكِسْوةِ والمسْكنِ، أو في متطلَّباتِهِمُ التَّكْميلية ووسائِلِ التَّرْفيهِ، فهذا أمْرٌ لا نُقَصِّرُ فيه جميعًا، ولكنَّنَا أهْمَلْناهُمْ في تقويمِ نُفُوسِهِم وتطْهيرِ أرْواحِهِم وتدْعِيمِ أخلاقِهِم، وفي تنْشِئَتِهِم على الدِّينِ والعِبادَةِ وضَرْبِ القُدْوةِ الصَّالِحَةِ لَهُمْ. لقد ربَّيْناهم تربيةً بعيدةً كلَّ البُعْدِ عن دينِ اللهِ، لا يعرفون من الدين إلا اسمَه، ولا من المصحف إلا رسمه فقط.
وإذا كُنْتُمْ في شكٍّ من ذلكَ فاسألوا أبناءَكُم عن دينِهِم وعن العباداتِ، اسْأَلُوهُمْ عن الصلاةِ، تجِدونهم لا يعرفون من الصلاة إلا حركاتٍ تؤدَّى ليس فيها خشوعٌ ولا طُمأنينةٌ، اسْأَلُوهُمْ عن القرآنِ وعن الأحاديث النبوية، اسْأَلُوهُمْ عن تاريخ الإسلام العظيم، اسْأَلُوهُمْ عن أسماء بعض أصحاب رسول الله وعن المجاهدين في سبيل اللهِ الذين بنَوْا لهذا الدِّينِ المجدَ والعزَّة، اسْأَلُوهُمْ عنِ العلماء العاملين المخلصين الذين أراد بهم الله إخراجَ الضَّالين من العبادِ من الضَّلال إلى الحقِّ المبين، ستجدون أنهم لا يستطيعون أن يجيبوكم على ما سألتموهم؛ لأننا لم نُرَبِّهِمْ على معرفةِ دينِ الله، ولا على حبِّ اللهِ، ولا على الولاءِ لدينِ اللهِ وحزبِهِ. أفلا يحقُّ لنا أن نقولَ: إننا أهْملْنا أبناءَنا إهْمالاً كبيرًا، وربَّيْناهم تربيةً بعيدةً كلَّ البُعْدِ عن دينِ اللهِ، ربَّيْناهم على حبِّ كلِّ شيْءٍ إلا دين الله؟! كيف نرجو خيْرَهُم وصلاحَهُمْ ونحن نراهم مقيمين على المعاصي فلا ننهاهم؟! وقد نكون أول من يفعل ذلك أمامهم، بل قد نشجعهم على ذلك، وهذا والله لهو الخطأ الفادح بكلِّ المقاييس.
رُوِيَ أن قاضيًا حَكَمَ على سارق بقطْعِ يدِهِ، فما أنْ لَفَظَ القاضي بالحُكْمِ حتى اهتَزَّتْ جَنَبَاتُ المَحْكَمَةِ بِصَوْتٍ يُجَلْجِلُ: اقْطَعُوا لِسانَ أُمِّي قَبْلَ أَنْ تقْطَعوا يَدِي، فلقد سَرَقْتُ في طفولتي بيضةً من جيراننا، فلم تؤنبني، وإنما هشتْ لي وبشَّتْ، مستحسنةً ما فعلتُ، إنني لولا لسانُ أمِّي الذي هَلَّلَ للجريمة في صغري لما كنتُ اليوم سارقًا تقطعُ يدُهُ. وهذا حالنا اليومَ مع أولادنا، نسكتُ عن خطيئاتهم الصغيرة، بل نضحك لهم ونشجعهم على الإساءاتِ.
وعاتبَ بعضهم ولده على العقوق فقال: يا أبت، إنك عققتني صغيرًا فعققتك كبيرًا، وأضعتني وليدًا فأضعتُكَ شيخًا. لقد أهملنا رعايةَ أولادِنا في أول الطريق فساءت أخلاقُهُم في نهايته.
وماذا كنا ننتظر غيرَ هذا وقد أضعنا أمرَ الله فيهمْ، وغفلنا عن إصلاحهم والعنايةِ بهم ووقايتهم؟! قال تعالى: ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا [التحريم:6]. ولا أظن أن أحدا منا لا يخاف على أولاده من النار مثلما نخاف على أنفسنا منها، إننا نخافُ أن يتأذَّوا ولو بشوكة، فهل نقبل أن يتلظى أبناؤنا في النار؟! إذً فاحموهم من النار.
إن مسؤوليتنا في تربيةِ أبنائِنا مسؤوليةٌ كاملةٌ، سنحاسب عليها أمام ربنا، فقد قيلَ: "إنَّ أولَ ما يتعلق بالرجل زوجته وأولاده، فيوقفونه بين يدي الله عز وجلَّ، فيقولون: يا رب، خذ لنا حقنا من هذا الرجل، فإنه لم يعلمنا أمور ديننا"، وقال ابن القيم رحمه الله: "إن الله سبحانه يسأل الوالد عن ولدِهِ يومَ القيامة قبل أن يَسْأَلَ الوَلَدَ عن والِدِهِ، فإنه كما أن للأب على ابنه حقا، فلِلابن على أبيه حق"، ثم يقول: "فمن أهمل تعليم ولده ما ينفعه وتركه سدى فقد أساء غاية الإساءة، وأكثرُ الأولاد إنما جاء فسادهم من قبل الآباء وإهمالهم وترك تعليمهم فرائض الدين وسننه، فأضاعوهم صغارًا، فلم ينتفعوا بأنفسهم ولم ينفعوا آباءهم كبارًا".
بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ فِي القُرْآنِ العَظِيمِ، وَنَفَعَنِي وَإيَّاكُمْ بِمَا فِيهِ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الحَكِيمِ، أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ العَظِيمَ لِي وَلَكُمْ وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ، فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخطبة الثانية
الحَمْدُ للهِ وَحْدَهُ، وَالصَّلاةُ وَالسَّلامُ عَلَى مَنْ لاَ نَبِيَّ بَعْدَهُ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
أَمَّا بَعْدُ: فَيَا إِخْوَةَ الإِيمَانِ، كثير من الآباء والأمهات بمجرد أن يروا من أبنائهم عقوقا أو تمردًا يدعون عليهم بشتى المصائب، وما علموا أن دعاء الوالدين مستجابٌ، وربما وافق ساعة إجابةٍ، فتقع الدعوة موقعها، فيشقى الولدُ بعدها شقاءً عظيمًا.
ولهذا حذر رَسُولُ اللَّهِ من الدعاء على الأولاد فقَالَ: ((لا تَدْعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ، وَلا تَدْعُوا عَلَى أَوْلادِكُمْ، وَلا تَدْعُوا عَلَى أَمْوَالِكُمْ، لا تُوَافِقُوا مِنْ اللَّهِ سَاعَةً يُسْأَلُ فِيهَا عَطَاءٌ فَيَسْتَجِيبُ لَكُمْ)) رواه مسلم، وقَالَ : ((ثَلاثُ دَعَوَاتٍ يُسْتَجَابُ لَهُنَّ لا شَكَّ فِيهِنَّ: دَعْوَةُ الْمَظْلُومِ، وَدَعْوَةُ الْمُسَافِرِ، وَدَعْوَةُ الْوَالِدِ لِوَلَدِهِ)) رواه ابن ماجه.
أيها الآباء، أيتها الأمهات، ما دامت دعوتكم مستجابة فلِمَ تحرمون أولادكم فضلَ دعوةٍ صالحةٍ تكون سببًا إن شاء الله تعالى في هدايتهم واستقامتهم؟! فأنبياءُ اللهِ ورسُلُهُ لم يغفلوا عن الدعاء والالتجاء إلى الله أن يهب لهم الذرية الصالحة، فهذا إبراهيم الخليل عليه السلام قال: رَبِّ هَبْ لِى مِنَ الصَّالِحِينِ [الصافات:100]، وقال: رَبّ اجْعَلْنِى مُقِيمَ الصلاةِ وَمِن ذُرّيَتِى رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاء [إبراهيم:40]، وهذا زكريا عليه السلام دعا وقال: رَبِّ هَبْ لِى مِن لَّدُنْكَ ذُرّيَّةً طَيّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاء [آل عمران:38]، وقال تعالى في صفات عباد الرحمن: وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْواجِنَا وَذُرّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا [الفرقان:74].
فأَكْثِرُوا من الدُّعاء لأولادكم، واعلموا أن صلاحهم ينفعكم بعد موتكم، وخذوا بأسباب صلاح ذرياتكم بغرس محبة الله ومحبة رسوله في قلوبهم، وبملء أوقات فراغهم بالمفيد، وبتشويقهم إلى الذهاب للمسجد صغارًا وحملهم عليه كبارًا.
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا ـ رَحِمَكُمُ اللهُ ـ عَلَى أَكْرَمِ خَلْق اللهِ مُحَمَّدٍ بْنِ عَبْدِ اللهِ.
اللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ الطَّيِّبِينَ الطَّاهِرينَ، وَارْضَ اللَّهُمَّ عنِ الخُلَفَاءِ الرَّاشِدينَ، وَعَنِ الصَّحَابَةِ أَجْمَعينَ، وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
اللَّهُمَّ انْتَصِرْ لِعِبَادِكَ المُؤْمِنِينَ المُسْتَضْعَفِينَ في مَشَارِقِ الأرْضِ ومَغَارِبِها...
ــــــــــــــــــــ(67/267)
وبالوالدين إحسانًا
...
...
3029
...
الأسرة والمجتمع
...
...
الوالدان
...
عبد الله العلوي الشريفي
...
...
فاس
...
7/6/1423
...
...
الجامع المحمدي
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- صور عقوق الوالدين في واقعنا. 2- الأمر ببر الوالدين في القرآن الكريم والسنة النبوية. 3- كيف يكون بر الوالدين؟ 4- نماذج من بر السابقين بوالديهم. 5- بر الوالدين لا يختص بكونهما صالحين أو مسلمين. 6- عقوبة العاق لوالديه. 7- لا بد من إعانة الزوجين بعضهما على بر والديهم.
الخطبة الأولى
أَمَّا بَعْدُ: فيَا إِخْوَةَ الإِيمَانِ، إنَّ قَصَصَ عقوق الأبناءِ التي أصبحْنا نسمعُها ونراها يَنْفَطِرُ لها الفؤادُ أَسى وتذوبُ النَّفسُ لها حسرةً، فكثيرٌ من الأبناءِ لا يتَّقونَ ربَّهُم في معاملةِ آبائِهِم وأمَّهاتِهِم، فيُسِيئُونَ إليهِم، ويُغْلِظون مَعَهُم، بلْ وَصَلَ الحَدُّ بكثيرٍ منهم إلى ازْدِرائِهِم واحتقارهِم وضربِهِم والعياذ بالله، حتى أصبح غايةُ ما يتمناهُ الأبوانِ من البِرِّ أنْ يأْمَنا شَرَّ أولادِهِمْ وبذاءَتَهُم وفُحْشَهم وسُوءَهُم.
وَهكذا لما قَسَتْ قُلوبُ الأبناءِ وتَمَرَّدَ الأولادُ على الآباءِ أصْبحنا نرى في شوارعنا منْ يسُبُّ أباهُ ويشْتُمُهُ بأَحَطِّ أنْواعِ السِّبابِ والشَّتْم، ومن حينٍ لآخرَ تأْتينا أمَّهاتٍ على الخصوص يشتكينَ من سوءِ معاملةِ أبنائهنَّ وبناتِهِنَّ، فهذهِ تشتكِي من صُراخِ أبنائِها في وجهِهَا ومُخاطبَتِهِم لها بأقْسَى العباراتِ، وتلكَ رَفَضَ أبناؤُها أنْ تعيشَ معهم، وأُخْرى طردتْها بنْتُها من منزلِها، وغيرُها ضرَبَها ابنُها أمامَ زوجَتِهِ، وهذِهِ قاطعها أبناؤُها تأديبًا لها.
هذهِ أحداثٌ ثابتةٌ وواقعةٌ، واللهِ ليستْ أساطيرَ تُرْوَى ولا حكاياتٍ تُتْلى، وعَشَرَاتٌ مِثْلُها في البُيُوتِ، فكلُّ بيْتٍ من بُيوتِ المسلمينَ اليومَ دخلتَهُ إلا وتسمعُ أحاديثَ عن أنواعٍ من العقوق، نعوذُ بالله من العقوق والعاقِّينَ.
إخوة الإيمان، هذا جزْءٌ من واقِعِنا، ولكنَّه ليس من دينِنَا، فنحْنُ أُمِرْنا بِبِرِّ الوالديْن، حتى إنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ قَرَنَ بَيْنَ عِبادَتِهِ وبَيْنَ الإِحْسانِ بالوَالديْن: وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَانًا [الإسراء:23]، وَقَرَنَ سبحانهُ بين شكرِهِ وشُكْرِ الوالديْن: أَنِ اشْكُرْ لِى وَلِوالِدَيْكَ إِلَىَّ الْمَصِيرُ [لقمان:14].
وقد جعلَ اللهُ البرَّ بِالْوَالِدَيْنِ بابًا للفوْزِ برضاهُ سبحانهُ، ففي الحديثِ الصحيحِ أنَّ رسُولَ اللهِ قَالَ: ((رِضا الرَّبِّ فِي رِضا الوَالِدَيْنِ، وَسَخَطُهُ فِي سَخَطِهِمَا)) رواه الترمذي وهو في صحيح الجامع (3507).
وَبِرُّ الوالديْنِ من أحبِّ الأعمالِ إلى اللهِ وأفضلِها بعدَ الصَّلاةِ، سُئِلَ النَّبِيُّ : أَيُّ الْعَمَلِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ؟ قَالَ: ((الصَّلاةُ عَلَى وَقْتِهَا))، قَالَ: ثُمَّ أَيّ؟ قَالَ: ((ثُمَّ بِرُّ الْوَالِدَيْنِ))، قَالَ: ثُمَّ أَيّ؟ قَالَ: ((الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ)) رواه البخاري.
فَبِرُّ الوالديْن مقدَّمٌ حتى على الجهادِ في سبيلِ اللهِ، مما يدُلُّ على عِظَمِ حَقِّ الوالديْن، ويُؤَكِّدُ هذا أنَّ رَجُلا جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ فَاسْتَأْذَنَهُ فِي الْجِهَادِ فَقَالَ: ((أَحَيٌّ وَالِدَاكَ؟)) قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: ((فَفِيهِمَا فَجَاهِدْ)) رواه البخاري.
والجهادُ في الوالديْنِ وبرُّهما يكونُ بِخِدْمَتِهِمَا والإِنْفاق عليْهِما وطاعتِهِما في المعْرُوفِ ومخاطبَتِهِما بأدَبٍ ولُطْفٍ وإِحْسانِ صُحْبتِهِما وتَطْييبِ خاطِرِهِما وقضَاءِ حوائِجِهِما، فقضاؤُها مقدَّم على قضاءِ حوائجِ الأبناءِ والزَّوْجةِ والإخْوانِ والأصْدِقاءِ، ولا تَرْفَعْ صوْتكَ عليْهِما، ولا تنْظُرْ إليْهِما بِغَضَبٍ واحْتِقَارٍ، ولا تَرْفَعْ يَدَكَ عليْهِما عنْدَ تكليمِهِمَا، ولا تُقَاطِعْ حَدِيثَهُما، وكُنْ صورةً كَريمةً للأَخلاقِ الفاضِلةِ، حتَّى تجلُبَ لهُما الدُّعاءَ الصَّالحَ حين يَرَوْنَ أفْعَالَكَ وأعْمالَكَ، ومِنْ بِرِّهِمَا بعْدَ موتِهِما زيارَةُ قبْرِهِما وقضاءُ ديونِهِما والدُّعَاءُ والاِسْتِغْفارُ لهُما.
جَاءَتْ امْرَأَةٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ تُخْبِرُهُ بِمَوْتِ أُمِّهَا وَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّهُ كَانَ عَلَيْهَا صَوْمُ شَهْرٍ أَفَأَصُومُ عَنْهَا؟ قَالَ: ((صُومِي عَنْهَا))، قَالَتْ: إِنَّهَا لَمْ تَحُجَّ قَطُّ أَفَأَحُجُّ عَنْهَا؟ قَالَ: ((حُجِّي عَنْهَا)) رواه مسلم. وَجَاءَ رَجُلٌ إلى رَسُولِ اللَّهِ وَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلْ بَقِيَ مِنْ بِرِّ أَبَوَيَّ شَيْءٌ أَبُرُّهُمَا بِهِ بَعْدَ مَوْتِهِمَا؟ قَالَ: ((نَعَمْ، الصَّلاةُ عَلَيْهِمَا وَالاسْتِغْفَارُ لَهُمَا وَإِنْفَاذُ عَهْدِهِمَا مِنْ بَعْدِهِمَا وَصِلَةُ الرَّحِمِ الَّتِي لا تُوصَلُ إِلا بِهِمَا وَإِكْرَامُ صَدِيقِهِمَا)) رواه أبو داود، والحديث ضعفه الألباني.
فما أَحْوَجَ الوَالِدَينِ إذا ماتا إلى دُعَاءٍ صَالِحٍ من ابنِهِما تُرْفَعُ بِهِ درجاتُهُما، ففي الحديثِ الصَّحيحِ أنَّ رَسُولَ اللهِ قَالَ: ((إِنَّ الرَّجُلَ لَتُرْفَعُ دَرَجَتُهُ فِي الْجَنَّةِ، فَيَقُولُ: أَنَّى لِي هَذَا؟! فَيُقَالُ: بِاسْتِغْفَارِ وَلَدِكَ لَكَ)) الحديث في صحيح الجامع (1617).
إِخْوَةَ الإيمانِ، لقد ضَرَبَ السَّابِقونَ أَرْوَعَ الأمْثالِ في البِرِّ بآبائِهِم وأمَّهاتِهِم، فهذا ابنُ الحَنَفِيَّةِ كان يغْسِلُ رَأْسَ أُمِّهِ ويَمْشِطُها ويُقَبِّلُها ويَخْضِبُها، وبكَى إيَّاسُ بنُ معاويةَ حينَ ماتتْ أُمُّهُ، فقيلَ لهُ في ذلكَ، فقالَ: "كانَ لي بابانِ مفْتوحانِ إلى الجنَّةِ فأُغْلِقَ أَحَدُهُما"، وطلبَتْ أُمُّ مِسْعَرٍ ماءً في ليْلةٍ، فجاءَ بالماءِ فوَجدَها نائِمَةً، فَوَقَفَ بالماءِ عنْدَ رأْسِها حتى أَصْبَحَ، وسُئِلَ عُمَرُ بنُ ذَرٍّ عن بِرِّ وَلَدِهِ بِهِ فقالَ: "ما مشَى معِي نهارًا قطُّ إلا كان خلْفِي تأدُّبًا، ولا ليْلاً إلاَّ كان أمامِي خَشْيَةَ مَكْرُوهٍ يلْقاني، ولا رَقَى سَطْحًا وأنا تحْتهُ حتَّى لا يعلُونِي"، وكان عليُّ بنُ الحُسَيْنِ كثيرَ البِرِّ بأُمِّهِ، فقيلَ لهُ: إنَّكَ منْ أَبَرِّ النَّاسِ بِأُمِّكَ، ولَسْنا نَرَاكَ تأْكُلُ مَعها في صَحْفَة! فقالَ: "أخافُ أنْ تسْبِقَ يَدِي إلى ما سَبَقَتْ إليهِ عينُها، فأكونُ قد عققتُها"، وكان أَحَدُ السَّلَفِ يُقَبِّلُ كلَّ يَوْمٍ قَدَمَ أُمِّهِ، فَأَبْطَأَ يَوْمًا على أصْحابِهِ فَسَأَلُوهُ، فقالَ: كنتُ أتمرَّغُ في رياضِ الجنَّةِ تحْت قَدَمَيْ أُمِّي، فقدْ بَلَغَنِي أنَّ الجنَّةَ تحْتَ قدميْها.
هكذا بَرَّ السَّلَفُ الصَّالِحُ آباءَهُم، وهذِهِ الصُّوَرُ المُشْرِقَةُ الطَّيِّبَةُ التي ذكرناها لا يخلُو منها عصْرٌ.
قد يقولُ بعضُ الأبناءِ اليوم: إنَّكَ تُحَدِّثُنا عن عهودٍ سلفتْ ومضتْ بما لَها وما عليْها، ونحنُ الآنَ في زمانٍ تُحْسِنُ فيه إلى والديْكَ ويُسِيئانِ إليْكَ، ترْحَمُهُما ويعذِّبانِكَ، تُكْرِمُهُما ويُهِينانِك، تُكَلِّمُهُما بكلامٍ لَيِّنٍ وقَوْلٍ طَيِّبٍ فَيَرُدَّانِ عليْكَ بالخبيثِ السَّيِّئ، تَصِلُهُما ويقْطَعانِك.
أقولُ: منِ ابْتُلِيَ بهذا النَّوْعِ من الوالديْنِ فعليْهِ بالصَّبْرِ، فأفْضلُ البِرِّ بِرُّ مِثْلِ هؤلاءِ، فبِصَبْرِكَ يرفعُ اللهُ دَرَجَتَكَ ويُعْظِمُ أجْرَكَ، وإنْ كانا يَجْحَدانِ بِرَّكَ فاللهُ سبحانهُ وتعالى لا يجحَدُهُ.
فَبِرُّ والديْكَ لا يختصُّ بكونِهما صالِحينِ طيِّبَيْنِ، ولا بكونِهما مُسْلمَيْن، بل تبرُّهُما وإنْ كانا كافريْنِ، فَعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَتْ: يا رسول الله، إن أمي قدمت علي وهي راغمة مشركة أفأصِلها؟ قال: ((نَعَمْ، فصِلِي أُمَّكِ)) رواه البخاري. بلْ عليكَ أن تبرَّهُما وتُحْسِنَ إليْهما حتى ولو أَمَراكَ بالكُفْرِ بالله وألْزَمَاكَ بالشِّرْكِ باللهِ، قال تعالى: وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَى أَن تُشْرِكَ بِى مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِى الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَىَّ ثُمَّ إِلَىَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [لقمان:15].
بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ فِي القُرْآنِ العَظِيمِ، وَنَفَعَنِي وَإيَّاكُمْ بِمَا فِيهِ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الحَكِيمِ، أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ العَظِيمَ لِي وَلَكُمْ وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ، فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخطبة الثانية
الحَمْدُ للهِ وَحْدَهُ، وَالصَّلاةُ وَالسَّلامُ عَلَى مَنْ لاَ نَبِيَّ بَعْدَهُ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
أَمَّا بَعْدُ: فَيَا إِخْوَةَ الإِيمَانِ، إنَّ عقوقَ الوالديْنِ جحودٌ للفضلِ ونُكْرانٌ للجميلِ ودليلٌ على الحُمْق والجهلِ وحقارةِ الشَّأْنِ.
عقوقُ الوالديْن من كبائرِ الذُّنُوبِ، فَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنِ النَّبِيِّ قَالَ: ((الْكَبَائِرُ الإِشْرَاكُ بِاللَّهِ وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ وَقَتْلُ النَّفْسِ وَالْيَمِينُ الْغَمُوسُ)) رواه البخاري، وَعَدَّ رَسُولُ اللَّهِ من الثَلاثَةِ الذينَ لا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ: ((الْعَاقُّ لِوَالِدَيْهِ)) والحديث في صحيح الجامع: (3063).
والعُقُوقُ دَيْنٌ ووفاءٌ، فإذا تَولَّيْتَ عن والدَيْكَ وأعْرَضْتَ عنْهُما سلَّط اللهُ عليكَ منْ ذُرِّيَتِكَ منْ لا يُراعِي فيكَ عهْدًا، ولا يحفظُ لكَ وُدًا، ولا يُقيمُ لك وَزْنًا، ولا يعرفُ فيكَ حَقَّ أُبُوَّةٍ ولا واجِبَ بُنُوَّةٍ، فكما تَدينُ تُدَانُ، والجَزاءُ منْ جِنْسِ العملِ.
ذُكِرَ أنَّ عاقًا كان يَجُرُّ أباهُ بِرجْلِهِ إلى الشَّارِعِ، فإذا بلغَ بهِ إلى البابِ قالَ الأبُ: حَسْبُكَ، ما كُنْتُ أَجُرُّ والدِي إلاَّ إلى هذا المكانِ، فيقولُ لهُ وَلَدُهُ: هذا جزاؤُكَ، والزَّائِدُ صدقةٌ مِنِّي عليْكَ.
وحَدَّثُوا أنَّ رَجُلاً منَ الأعْرابِ قالَ: خرجْتُ أَطْلُبُ أَعَقَّ النَّاسِ وأَبَرَّ النَّاسِ، فكنْتُ أَطُوفُ بالأَحياءِ حتى انْتَهَيْتُ إلى شَيْخٍ في عُنُقِهِ حَبْلٌ يَسْقِي بِدَلْوٍ لا تُطِيقُهُ الإِبِلُ في الهاجِرَةِ والحَرُّ شَديدٌ، وخَلْفَهُ شابٌّ في يَدِهِ سَوْطٌ يَضْرِبُهُ بِهِ، قدْ شَقَّ ظَهْرَهُ بذلِكَ الحَبْلِ، فقلتُ: أَمَا تَتَّقِي اللهَ في هذا الشَّيْخِ الضَّعِيفِ؟! أَمَا يَكْفِيهِ ما هُوَ فيهِ؟! قالَ: إنَّهُ معَ هذا أبِي، قلتُ: فلا جزاكَ اللهُ خَيْرًا، قالَ: اسْكُتْ، فهكذَا كانَ هوَ يصْنعُ بأبيهِ، وكذا يصنَعُ أبُوهُ بِجَدِّهِ، فقلت: هذا أعَقُّ النَّاسِ. نعوذُ باللهِ من العقوقِ ومنْ قسْوَةِ القَلْبِ.
كلمةٌ أخيرةٌ لكلِّ زَوْجٍ وزَوْجَةٍ: أعِينِي ـ أيتها الزَّوجةُ ـ زوجَكِ على بِرِّ والديْهِ، وأعِنْ ـ أيها الزَّوْجُ ـ زوْجَتَكَ على بِرِّ والِدَيْها، فهذا منَ العِشْرةِ بالمعروفِ، ولا يقفْ أحدُكُما في طريق الآخَرِ حَجَرَ عَثْرَةٍ في بِرِّ والِدَيْهِ.
نجدُ الزَّوْجةَ تحاسبُ زوْجها فيما اشتراهُ لوالديْهِ من بعضِ الأمورِ الضروريةِ، تُسِيءُ إليْهِما بقولٍ أو فعلٍ، تُديمُ الشَّكْوَى منْهما. الزَّوْجُ يمنعُ زوْجَتهُ من زيارةِ والديْها وصِلتِهِما، ولا يحتَرمُهُما، ولا يجْلِسُ معهما، إنَّ الزَّوْجَ إذا جعلَ زَوْجَتَهُ لئيمةً تَنْسَى معروفَ والديْها سيأْتِي يومٌ منَ الأَيام وتَنْسَى معروفَهُ، والزَّوْجَةُ التي تجعلُ زوْجها يمكُرُ بوالديْهِ سيأْتِي يومٌ من الأيامِ ويمْكُرُ بها. فكونا ـ جزاكما الله خيرًا ـ عوْنًا لبعْضِكُما على بِرِّ والدَيْكُما.
احذروا ثم احذروا ثم احذروا ـ أيها الإخوةُ ـ من العقوقِ، وعاهِدوا اللهَ من هذا المكانِ أنْ تبْذُلُوا وُسْعَكُمْ في بِرِّ وَالِديكُمْ، ومن كان بارًا بهما فلْيُحافِظْ على ذلك، وإذا كانا مَيِّتَيْنِ فَلْيَتَصَدَّق لَهُما ويَبُرَّهُما بدعوةٍ صالحةٍ.
هذا وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا ـ رَحِمَكُمُ اللهُ ـ عَلَى أَكْرَمِ خَلْق اللهِ مُحَمَّدٍ بْنِ عَبْدِ اللهِ.
اللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ الطَّيِّبِينَ الطَّاهِرينَ، وَارْضَ اللَّهُمَّ عنِ الخُلَفَاءِ الرَّاشِدينَ، وَعَنِ الصَّحَابَةِ أَجْمَعينَ، وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
اللَّهُمَّ انْتَصِرْ لِعِبَادِكَ المُؤْمِنِينَ المُسْتَضْعَفِينَ في مَشَارِقِ الأرْضِ ومَغَارِبِها...
ــــــــــــــــــــ(67/268)
عقوق الوالدين
...
...
3072
...
الأسرة والمجتمع
...
...
الوالدان
...
محمد بن سليمان المهوس
...
...
الدمام
...
...
...
جامع الحمادي
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- قصة العابد جريج. 2- عقوبة العاق لوالديه. 3- صور من العقوق في الوقت الحاضر. 4- فضل الوالدين على أبنائهما.
الخطبة الأولى
أيها الناس، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أبي هريرة عن النبي أنه قال: ((لم يتكلم في المهد إلا ثلاثةٌ: عيسى بن مريم وصاحب جُرَيج، وكان جُرَيج رجلاً عابدًا فاتخذ صومعةً، فكان فيه، فأتته أمه وهو يصلي فقالت: يا جُريج، فقال: يا رب أمّي وصلاتي، فأقبل على صلاته، فانصرفت، فلما كان من الغد أتته وهو يصلي، فقالت: يا جريج، فقال: يا رب أمّي وصلاتي، فأقبل على صلاته فانصرفت، فلما كان من الغد أتته وهو يصلي، فقالت: يا جريج، فقال: يا رب أمّي وصلاتي، فأقبل على صلاته، فقالت: اللهم لا تمته حتى ينظر وجوه المومسات ـ أي: الزواني ـ، فتذاكر بنو إسرائيل جُريجًا وعبادتَه، وكانت امرأةٌ بَغِيٌّ يتمثل بحسنها، فقالت: إن شئتم لأفتننّه لكم، قال: فتعرضت له فلم يلتفت إليها، فأتت راعيًا كان يأوي إلى صَومَعَتِه، فأمكنته من نفسها، فوقع عليها فحملت، فلما ولدت، قالت: هو من جريج، فأتوه فاستنزلوه وهدموا صَومعته وجعلوا يضربونه، فقال: ما شأنكم؟! قالوا: زنيت بهذه البَغِيِّ فولدت منك، فقال: أين الصبي؟ فجاؤوا به، فقال: دعوني حتى أصلي، فصلَّى، فلما انصرف أتى الصبيّ فطعن في بطنه وقال: من أبوك؟ قال فلانٌ الراعي، قال: فأقْبَلوا على جريج يُقبلونه ويتمسحون به، وقالوا: نبني لك صومعتك من ذهب، قال: لا، أعيدوها من طين كما كانت، ففعلوا)) الحديث.
عباد الله، جريجٌ أحدُ عباد بني إسرائيل الصالحين، حُببت إليها العبادة والخلوة لها، جاءته أمه لزيارته ومحادثته، فنادته وكان يصلي، فلم يجبْها وآثر الاستمرارَ في صلاته لما يَجِدُ من حلاوة المناجاةِ والاتصال بالله تعالى، ثلاث مراتٍ تناديه وهو لا يُلقي لها بالاً، وكان الواجب عليه أن ينصرف من صلاته ويجيب أمه؛ لأن ذلك أولى من صلاة النافلة، إلا أنه ارتكب كبيرةً من كبائر الذنوب، ألا وهي عقوق الوالدين، فدعت عليه، فاستجاب الله لدعائها.
الله أكبر عباد الله، عقوق الوالدين كفُرٌ بنعم الله، وبُعدٌ عن رضوان الله. عقوقُ الوالدين زعزعةٌ في المجتمع وبعدٌ من دائرة الأمان وجريمةٌ توجب العقوبةَ في الدنيا والآخرة، قال : ((ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟)) قلنا: بلى يا رسول الله، قال: ((الإشراك بالله وعقوق الوالدين))، وكان متكئًا فجلس فقال: ((ألا وقول الزور وشهادة الزور، ألا وقول الزور وشهادة الزور))، فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت. متفق عليه.
وفي حديث آخرَ خرجه النَّسائي وأحمد وابن خزيمة والحاكم وصححه عن رسول الله أنه قال: ((ثلاثة لا ينظر اللهُ إليهم يوم القيامة: العاقُّ لوالديه ومدمن الخمر والمنانُ عطاءَه، وثلاثة لا يدخلون الجنة: العاقُّ لوالديه والدَّيوث والرَّجِلةُ من النساء)).
عقوقُ الوالدين منكرٌ عظيمٌ وضيقٌ في الرزق وقصرٌ في العمر وسوءٌ في الخلق، قال : ((من سرّه أن يمدّ له في عُمره ويُوسع له في رزقه ويدفع عنه ميتةُ السوء فليتّق الله وليصِل رحمه)) خرجه أحمد بإسناد صحيح. والوالدان أقرب الناس إليك رُحمًا.
عباد الله، في هذا الزمن الذي كثرت فيه الفتنُ والمغريات والشبهات والشهوات تبرز فيه قضيةُ العقوق، وتنتشر في مجتمعات المسلمين اليوم.
الوالدان يتطلعان للإحسان، ويؤمّلان الصلة بالمعروف، فإذا بهذا الابن قد تناسى ضعفَهُ وطفولتَه وأُعجِب بشبابه وفتوته وغرّه تعليمه وثقافته، وترفع بجاهه ومرتبته، يؤذيهما بالتأفُّف والتبرم، ويجاهرهما بالسوء وفحش القول، يقهرهما وينهرهما، بل ربما آذاها بأكثر من هذا، يريدان حياته ويتمنّى موتهما، تئن لهما الفضيلةُ وتبكي من أجلهما المروءة.
شاب تخلّص من أمه المعاقة برميها عند باب أحد المستشفيات، وآخرُ أودعها دارَ العجزة بحجة ترميم شقته، وآخر يُسمِعُها كلماتِ السب والشتائم، إذا تكلمت في زوجته وعصت أمرها.
الله أكبر يا عبدَ الله، ما هكذا تجزي من حملتك في أحشائها تسعة أشهر وهنًا على وهنٍ، حملتك كرهًا ووضعتك كرهًا، ولا يزيدها نموّك إلا ثُقلاً وضعفًا. وعند الوضع رأت الموت بعينيها، ولكن لما بصُرت بك إلى جانبها سُرعان ما نسيت آلامها، وعلَّقت فيك جميعَ آمالِها، رأت فيك بهجة الحياة وزينتها، ثم شُغلت بخدمتك ليلها ونهارها، تغذيك بصحتها، طعامُك دَرُّها، وبيتك حِجرها، ومركبُك يداها وصدرها وظهرها، تحيطك وترعاك، تجوع لتشبع أنت، وتسهر لتنام أنت، فهي بك رحيمة وعليك شفيقة. إذا غابت عنك دعوتها، وإذا أعرضت عنك ناجيتها، وإذا أصابك مكروه استغثت بها، تحسب كلَّ الخير عندها، وتظن أن الشر لا يصل إليك إذا ضمتك أو لحظتك بعينها.
والد من التجار بعدما كَبر أخذه أولادُه وأَوْدَعُوه دار العجزة، فكتب كل ما يملك من مسكنٍ وغيره للممرِّض الذي يعتني به.
الله أكبر يا عبدَ الله، هذا أبوك الذي يكد ويسعى، ويدفع عنك صنوف الأذى؛ ينتقل في الأسفار يجوب الفيافي والقفار، ويتحمل الأخطار بحثًا عن لقمة العيش، ينفق عليك ويُصلحُك ويربيك، إذا دخلت عليه هشّ، وإذا أقبلت إليه بشّ، وإذا خرج تعلقتَ به، وإذا حضر احتضنت حِجره وصَدره.
غَذَوتُك مولودًا وعلتُك يافعًا تُعلّ بِما أَجْنِي عليك وتنَْهلُ
إذا ليلةٌ نابتك بالشَّجْو لَم أبت لشكواك إلا ساهرا أتَململُ
كأنِّي أنا المطروق دُونَك بالذي طُرِقْتَ به دُونِي فعينِي تَهْملُ
تَخاف الردى نفسي عليك وإنّنِي لأعلمُ أن الموت حتمٌ مؤجلُ
فلما بلغت السّنَّ والغايةَ التِي إليها مدى ما كنتُ فيك أُؤمّل
جعلت جزائي غِلظةً وفظاظةً كأنك أنت الْمنعمُ المتفضلُ
فليتَك إذ لَم ترْعَ حق أبوّتِي فعلتَ كما الجارُ الْمجاور يفعلُ
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم الجليل من كل ذنب، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأعوانه، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: عباد الله، خرّج الشيخان وغيرهما واللفظ لمسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: أقبل رجل إلى رسول الله فقال: أبايعُك على الهجرة والجهاد؛ أبتغي الأجر من الله، قال: ((فهل من والديك أحد حي؟)) قال: نعم، بل كلاهما، قال: ((فتبتغي الأجر من الله؟)) قال: نعم، قال: ((فارجع إلى والديك فأحسن صحبتهما)).
فاتقوا الله عباد الله، واحذروا عقوق الوالدين، فإن العقوق بجميع وجوهه نقص في العمر وضيق في الرزق وفسادٌ في الأبناء، فمن عقّ والديه عقّه أبناؤُه.
قال الأصمعي: حدثني رجل من الأعراب قال: خرجتُ من الحي أطلبُ أعقَّ الناس وأبرّ الناس، فكنت أطوف بالأحياء، حتى انتهيت إلى شيخ في عنقه حبلٌ يَسْتقِي بدلوٍ لا تطيقُه الإبل في الهاجرة والحر الشديد، وخلفه شابٌ في يده سوط يضربه به، قد شقّ ظهره بذلك السوط، فقلت: أما تتقي الله في هذا الشيخ الضعيف؟! أما يكفيك ما هو فيه من هذا الحبل حتى تضربه؟! قال: إنه مع هذا أبي، قلت: فلا جزاك الله خيرًا، قال: اسكت، فهكذا كان هو يصنعُ بأبيه، وهكذا أبوه يصنع بجده، فقلت: هذا أعقّ الناس.
فاتقوا الله عباد الله، واحذروا العقوقَ وقطيعة َالرحم، فإن الله ليُعَجّل هلاك العبد إذا كان عاقًا، ليعجّل له العذاب.
هذا وصلوا وسلموا على من أمر الله بالصلاة والسلام عليه فقال: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىّ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56]، وقال : ((من صلى عليّ واحدة صلى الله بها عليه عشرًا)) رواه مسلم.
اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وآله وصحبه أجمعين، وارضَ اللهم عن الخلفاء الراشدين، وعن بقية العشرة المبشرين بالجنة، وعن بقية صحابة رسولك أجمعين، وعن التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنّا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين...
ــــــــــــــــــــ(67/269)
...
الرشوة
...
...
3877
...
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
...
...
الكبائر والمعاصي, قضايا المجتمع
...
عبد الرحمن بن علي العسكر
...
...
الرياض
...
...
...
عبد الله بن عمر
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- الأمر بمخالفة الأمم السابقة. 2- الرشوة من صفات اليهود. 3- فتنة المال. 4- مفاسد الرشوة. 5- ذم الرشوة. 6- بين الهدية والرشوة. 7- خطر انتشار الرشوة. 8- التحذير من تسمية الرشوة بغير اسمها.
الخطبة الأولى
أما بعد: فيا أيها الناس، الخير كله والصلاح والفلاح في تقوى الله، فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [المائدة:100].
عباد الله، أعاد القرآن وكرر من الأمر بمخالفة الأمم السابقة، وأمرنا أن لا نسلك ما سلكوا فنهلك كما هلكوا، وقال : ((ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشي أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم، فتهلككم كما أهلكتهم))، ولقد أخبر الرسول عن هذه الأمة أنها ستفعل مثل ما فعل من قبلهم: ((لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه)). ألا وإن من أعظم من حذِّرنا أن نقع فيما وقعوا فيه هم اليهود والنصارى.
عباد الله، إن فيما قصه الله علينا في كتابه من أخبار الماضين في معرض الذم لهم والإنكار عليهم ما يحمل أرباب العقول على اجتناب طريقهم والبعد عن مسالكهم.
وإن مما أخبرنا الله سبحانه من صفات اليهود أنهم كانوا أكالين للسحت فيما بينهم: سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ [المائدة:42]، ويقول سبحانه: وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمْ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ لَوْلا يَنْهَاهُمْ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمْ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمْ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ [المائدة:62، 63]. يقول ابن مسعود: (السحت هو الرشا)، وقال عمر بن الخطاب: (رشوة الحاكم من السحت)، وروى ابن جرير عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله قال: ((كل لحم نبت من سحت فالنار أولى به))، قيل: يا رسول الله، وما السحت؟ قال: ((الرشوة في الحكم)). وقال الحسن رحمه الله: "كان الحاكم من بني إسرائيل إذا أتاه أحدهم برشوة جعلها في كمّه فأراها إياه وتكلم بحاجته، فيسمع منه ولا ينظر إلى خصمه، فيأكل الرشوة، ويسمع الكذب، سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ [المائدة:42]".
عباد الله، إن المال فتنه أي فتنة، وإن الإنسان متى فتح لنفسه باب شرٍ من طريقه فلن يغلق. ألا وإن من طرق أكل المال الحرام ما جاء في قوله تعالى: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:188]، فنهى الله المسلم أن يأكل مال غيره بالباطل، وصورها في صورة الرشوة التي يصانع بها صاحب الحاجة الحاكم لينال حق غيره، ولقد فسر قول الله سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنْ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ [التوبة:34] بأنه أكل الرشوة.
الرشوة ـ عباد الله ـ مرض فتاك يفسد الأخلاق، ويسري في الأمة حتى يوردها موارد التلف، ما خالطت الرشوة عملاً إلا أفسدته، ولا نظامًا إلا قلبته، ولا قلبًا إلا أظلمته، ما فشت الرشوة في أمةٍ إلا وحل فيها الغش محل النصح، والخيانة محل الأمانة، والخوف جاء بدل الأمن، والظلم بدل العدل.
الرشوة ـ أيها الناس ـ مهدرة الحقوق، معطِّلة للمصالح، مجرَأَة للظلمة والمفسدين، ما فشت في مجتمع إلا وآذنت بهلاكه، تساعد على الإثم والعدوان، تقدم السفيه الخامل، وتبعد المجد العامل، تجعل الحق باطلاً والباطل حقًا، كم ضيّعت الرشوة من حقوق، وكم أهدرت من كرامة، وكم رفعت من لئيم وأهانت من كريم.
الرشوة ـ أيها الناس ـ نقص في الديانة، وضياع للأمانة، وعلامة على الخيانة، انتشرت الرشوة بين اليهود فكانت أمتهم تعيش بالمحاباة والرشا في الأحكام، ففسدت بينها أمور المعاملات، وكذلك استبدلت الطمع بالعفة. كان اليهود ورؤساؤهم أكالين للسحت من رشوة وغيرها من الدناءات، كما هو دأب الأمم في عهود فسادها وأزمان انحطاطها، وما كان عليه أسلافهم في الماضي فهم عليه اليوم، ما تسقط شركة من شركات يهود إلا وفضائح الرشوة تلاحقها، بل ما يزول حاكم من حكامهم إلا وأول تهمة توجه إليه هي أخذه للرشوة ومحاباته لغيره.
عباد الله، الرشوة ملعون صاحبها على لسان رسول الله ، روى الترمذي وأحمد وابن حبان عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((لعن الله الراشي والمرتشي))، وفي رواية عند أحمد: ((والرائش)) وهو الذي يمشي بينهما. وروى الطبراني بإسناد صحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (الرشوة في الحكم كفر، وهي بين الناس سحت).
ولما بعث رسول الله معاذًا إلى اليمن أرسل في أثره، فلما جاءه قال: ((أتدري لِمَ بعثتُ إليك؟ لا تصيبن شيئًا بغير إذني فإنه غلول، ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة، لهذا دعوتك فامض لعملك)) رواه الترمذي.
عباد الله، الهدية مندوب إليها، بل لقد قال رسول الله : ((تهادوا تحابوا))، لكن متى ما كانت الهدية سبيلاً إلى حرام فإنها حرام، يقول ابن التين: هدايا العمال رشوة ليست بهدية، إذ لولا العمل لم يهد له، وهدية القاضي سحت، وإذا قلبها وضعها في بيت المال، فقيل له: إن رسول الله كان يقبل الهدية! فقال: إنها كانت هدية، وهي الآن رشوة.
إذا أتت الهديّة دار قومٍ تطايرت الأمانة من كواها
روى البخاري في صحيحه عن أبي حميد الساعدي قال: استعمل النبي رجلاً من بني أسد يقال له: ابن اللتبية على صدقة، فلما قدم قال: هذا لكم وهذا أُهدي إلي، فقام النبي على المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: ((ما بال العامل نبعثه فيأتي فيقول: هذا لك وهذا أهدي إلي؟! فهلا جلس في بيت أبيه وأمه فينظر أيهدى له أم لا؟! والذي نفسي بيده، لا يأتي بشيء إلا جاء به يوم القيامة، يحمله على رقبته، إن كان بعيرًا له رغاء، أو بقرة لها خوار، أو شاة تعير))، ثم رفع يديه حتى عفرتي إبطيه ـ يعني بياضهما ـ وقال: ((ألا هل بلغت؟)) ثلاثًا. وعن بريدة رضي الله عنه أن النبي قال: ((من استعملناه على عملٍ فرزقناه رزقًا ـ أي: منحناه مرتبًا ـ فما أخذ بعد ذلك فهو غلول)) رواه أحمد وأبو داود.
أيها الناس، إن وجود الرشوة وانتشارها في قوم مؤذن بخطر عظيم، فقد روى الإمام أحمد وأبو عبيد وابن أبي الدنيا وصححه الحافظ ابن حجر عن عُليم قال: كنت مع عابس الغافري على سطح، فرأى قومًا يتحملون من الطاعون ـ أي: يتوجّعون ـ فقال: ما لهؤلاء يتحمّلون من الطاعون؟ يا طاعون خذني إليك، يا طاعون خذني إليك، فقال له أحد الصحابة: لِمَ تتمنَّى الموت وقد سمعت رسول الله يقول: ((لا يتمنّينّ أحدكم الموت، فإنه عند انقطاع عمله))؟! فقال: إني سمعت رسول الله يقول: ((بادروا بالأعمال خصالاً ستًا: إمرة السفهاء، وكثرة الشرط، وقطيعة الرحم، وبيع الحكم، واستخفافًا بالدم، ونشوًا يتخذون القرآن مزامير، يقدمون الرجل ليس بأفقههم ولا أعلمهم، ما يقدمونه إلا ليغنّيهم)). والمقصود بيع الحكم كما فسره العلماء: هو تولية المناصب عن طريق الرشوة.
فاتقوا الله عباد الله، واعتبروا بمن مضى قبلكم من الأمم المحادّة لله والمعتدية على حدود الله، كيف حلت بهم نقمة الله، وكيف توعد الله من سلك سبيلهم واجترأ على معاصي الله.
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي جعل لنا في الحلال غنيةً عن الحرام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وعد من اتقاه أن يجعل له مخرجًا ويرزقه من حيث لا يحتسب، فله الحمد يهدي إلى الرشد ويعِد بالرزق ويفيض النعم ويدفع النقم، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله المأمور بأكل الطيبات والعمل بالصالحات، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد: فيا أيها الناس، قاعدة عظيمة ينبغي لكل مؤمن أن يجعلها نصب عينيه في كلّ عمل يعمله، يقول الرسول : ((إن الحلال بين، وإن الحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام)).
عباد الله، إن تفنُّن الناس في تسمية الرشوة بغير اسمها لا يخرجها عن حكمها، سمَّوها بغير اسمها، ولقّبوها بألقاب تخدع السذج من الناس وتسرّ الغششة، حتى انتشرت الرشوة بينهم انتشار النار في يابس الحطب، حتى أفسدت كثيرًا من الذمم، الطالب يعطي أستاذَه، الموظَّف يهدي إلى مديره، صاحب الحاجة يقيم مأدبة لمن هو محتاج إليه، في صوَر أفسدت العمال على أصحاب العمل، يجعلون الخدمة لمن يدفع أكثر، ومن لا يدفع فلا حول لهم ولا قوة، لا يجد الإنسان أمامه إلا نفوسًا منهومة وقلوبًا منكّسة، ولو كانوا صادقين في إباحة ما أخذوا ما بالهم لا يعلنونه أمام الملأ؟!
أيها الناس، إن من قصور النظر أن يظن أن الرشوة لا تعدو أن تكون مالاً يتبرّع به شخص لآخر، إن كل منفعة كائنة ما كانت بذلت لجلب منفعة أخرى بغير حقّ فهي داخلة في الرشوة، ألم تروا إلى اليهود يقول الرسول عنهم: ((قاتل الله اليهود لما حرمت عليهم شحوم الميتة جملوها وأذابوها، ثم باعوها وأكلوا ثمنها))؟! ويقول فضالة بن عبيد رضي الله عنه: "كل قرضٍ جرّ منفعة فهو وجه من وجوه الربا"، ويقول على بن أبي طالب رضي الله عنه: (يأتي على الناس زمان يستحَلّ فيه السحت بالهدية).
فاتقوا الله عباد الله، وراقبوه في سركم وعلانيتكم.
وصلوا وسلموا على البشير النذير والسراج المنير، فقد قال سبحانه: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56]...
ــــــــــــــــــــ(67/270)
...
الرسول زوجًا
...
...
3156
...
الأسرة والمجتمع, سيرة وتاريخ
...
...
الشمائل, المرأة, قضايا الأسرة
...
عادل بن أحمد باناعمة
...
...
جدة
...
11/11/1422
...
...
محمد الفاتح
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- الفهم الخاطئ للحياة الزوجية. 2- حرص الرسول على إظهار حبه لزوجاته. 3- لين الرسول عليه السلام وتلطفه مع زوجاته. 4- صبر الرسول عليه الصلاة والسلام على أذى زوجاته.
الخطبة الأولى
أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله، وأحسن الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
في كل يوم نقرأ في الصحف عن ارتفاع نسبة الطلاق في مجتمعاتنا المسلمة، وفي كل حين تتناهى إلى أسماعنا قصة من قصص الشقاق الأسري والنزاع الزوجي، كثيرًا ما تنتهي بالطلاق أو تفضي إلى أسرة شقية بائسة تكون مرتعًا خصبًا لناشئة السوء والفساد.
وكل من له أدنى اتصال بالعاملين في حقل التوجيه الاجتماعي أو العلاج النفسي يسمع ما يشيب له الرأس وتدمع له العينان من ضروب الشحناء والبغضاء وفنون الكيد والمكر بين الأزواج. صور كثيرة تتراءى أمام العين، وأصوات مصطخبة ترنّ هنا وهناك، وشعور عميق بالحسرة والألم على الواقع الأسري في أمة هي أمة التكاتف والتعاطف والمرحمة. ترى أين الخلل؟! وكيف صار من صار إلى هذه النفرة المشتتة والجفوة المفتتة؟!
ثمةَ أسباب كثيرة وتحليلات متعددة ودوافع شتى، ولكنها تجتمع كلها في كلمة واحدة هي الفهم الخاطئ، نعم الفهم الخاطئ للحياة الزوجية.
حين لا تفهم المرأة دورها في عش الزوجية ولا يفهم الرجل دوره أو حين يفهم كل منهما دوره بشكل خاطئ تبدأ النزاعات والشقاقات وإلقاء التهم، وتنشأ قائمة طويلة من التبريرات والتفسيرات لكل موقف أو كلمة. ولنقصر حديثنا هنا على الرجال، وللنساء من بعد نصيب إن شاء الله.
كثير من الرجال يتصور أن علاقته بزوجه علاقة الآمر بالمأمور والمتبوع بالتابع والمخدوم بالخادم، ومن ثم فعليه الأمر وعليها الطاعة، وعليه أن يستلقي في الدار وعليها أن تقوم بكل شيء، عليه أن يوفر القوت وعليها أن تدفع ثمن ذلك ذلاً وخضوعًا وانكسارًا.
ولما كانت جهامة الوجه وصرامة اللفظ والمبالغة في الشدة، لما كانت هذه الأوصاف في حس البعض هي سمات الزوج الناجح المسيطر على بيته والممسك بزمام الأمور، لما كان الأمر كذلك صارت الابتسامة والمباسطة والمداعبة مدرجة في قائمة المحرمات، وصار من أكبر الكبائر عند البعض أن يقول الزوج لزوجه كلمة رقيقة يعبر بها عن محبته وتقديره لها.
ولما كان الاعتقاد عند البعض بأن المرأة لا تصلح لشيء إلا للاستمتاع والخدمة صارت مشاورتها في شؤون البيت وأخذ رأيها فيما يأتي الزوج أو يذر خطيئة كبرى تحطّ من قيمة الزوج وتهز من كبريائه، وصار نزول الرجل عن رأيه من أجل زوجه في عرف هؤلاء شرخًا في الرجولة، لا يمكن أن يلتئم.
وهكذا تفعل هذه المفاهيم الخاطئة فعلها في فتور العلاقة بين الزوجين، ثم في نشوء النزاعات والشقاقات.
وهلموا نَحْتَكِمْ ـ أيها الأحبة الكرام ـ إلى سيد البشر محمد بن عبد الله ، لنرى كيف كان يتعامل مع أزواجه.
سنقف اليوم مع الرسول الزوج ، كما وقفنا من قبل مع الرسول المعلم، كيف كان عليه الصلاة والسلام في بيته؟ وكيف كان يمارس دور الزوجية؟
إن أول ما يلفت النظر في حياة الرسول الزوجية أنه كان حريصا على إظهار حبه لزوجاته رضي الله عنهم، كان يصرح بهذا الحب ويجهر به، وكان يعلمه أصحابه رضي الله عنهم وأرضاهم. كان يقول عليه الصلاة والسلام عن خديجة: ((إني قد رُزقت حبها)) رواه مسلم (2453)، وكان يقف المواقف التي يُعلم منها حبُّه لأزواجه ، ودونك هذا الخبر الطريف: عن أنس رضي الله عنه أن جارًا لرسول الله فارسيًا كان طيب المَرَق، فصنع لرسول الله ثم جاء يدعوه، فقال : ((وهذه؟)) يعني عائشة، فقال الفارسي: لا، فقال رسول الله : ((وهذه؟)) فقال: لا، فقال رسول الله : ((لا))، ثم عاد الفارسي يدعوه، فقال رسول الله : ((وهذه؟)) فقال: نعم في الثالثة، فقاما يتدافعان حتى أتيا منزله. رواه مسلم. فانظر كيف فعل رسول الله ، وكيف أبى في هذا السياق أن يدعى وحده.
وكانت زوجات النبي يتسابقن في إظهار حبه لهن، وهو يقرّهن على ذلك ولا ينكر عليهن، فقد قالت عائشة رضي الله عنها: أتاني رسول الله في غير يومي يطلب مني ضجعًا، فدقَّ فسمعت الدق، ثم خرجت، ففتحت له، فقال: ((ما كنت تسمعين الدّق؟!)) قلت: بلى، ولكنني أحببت أن يعلم النساء أنك أتيتني في غير يومي.
وبلغ من إظهار الرسول لحبه لأزواجه ـ ولا سيما عائشة رضي الله عنها ـ أن تعالم الناس بذلك، عن عروة قال: كان المسلمون قد علموا حب رسول الله عائشة، فإذا كانت عند أحدهم هديّة يريد أن يهديها إلى رسول الله أخرها حتى إذا كان رسول الله في بيت عائشة بعث صاحب الهدية إلى رسول الله في بيت عائشة. رواه الشيخان. وعن عمرو بن غالب أن رجلاً نال من عائشة عند عمار بن ياسر فقال: اعزُب مقبوحًا منبوحا، أتؤذي حبيبة رسول الله؟!
أرأيتم؟! فما لأحدنا اليوم يخجل من أن يظهر حبه لأهله ويستحيي من أن يعبر لزوجه عما يكنه لها من مودة ومحبة؟!
لقد كان عليه الصلاة والسلام يدعو الزوج إلى أن يتلطف مع زوجه بالشكل الذي يشعرها بمحبته ومودته، حتى إنه دعا الزوج إلى أن يضع اللقمة بيده في فم زوجه تحببًا وتوددًا، عن سعد بن أبي وقاص قال: قال رسول الله : ((وإنك مهما أنفقت من نفقة فإنها صدقة، حتى اللُّقمة التي ترفعها إلى في امرأتك)) رواه الشيخان.
وإليك هذه الصورة الزوجية الرائعة: عن عائشة قالت: كان رسول الله يعطيني العظم فأتعرّقه ـ أي: آكل ما بقي فيه من اللحم وأمصه ـ، ثم يأخذه فيديره حتى يضع فاه على موضع فمي. رواه مسلم. أيّ محبة وأي مودة وأي أجواء رائعة كان يضفيها عليه الصلاة والسلام على الحياة الأسرية؟!
وكان عليه الصلاة والسلام يبالغ في التلطف مع أزواجه إذا مرضت إحداهن أو اشتكت، تقول عائشة رضي الله عنها وهي تروي خبر الإفك: فقدمنا المدينة فاشتكيت حين قدمت شهرًا، والناس يفيضون في قول أصحاب الإفك، ولا أشعر بشيء من ذلك، ويريبني في وجعي أني لا أعرف من رسول الله اللّطف الذي كنت أرى منه حين أشتكي. رواه البخاري. فتأمل قولها: اللطف الذي كنت أرى منه حين أشتكي.
وكان عليه الصلاة والسلام هيّنًا لينًا مع أزواجه، يحرص على تحقيق ما يرغبنه ويشتهينه إن استطاع، ولم يكن في ذلك محذور، وإليك هذين المثالين، لترى من خلالهما كيف كان عليه الصلاة والسلام يلين مع أزواجه ويوافقهن فيما يردن ما لم يكن حرجًا:
حين حجت عائشة وحاضت لم تتمكن من أداء عمرتها، فلما جاء وقت الحج أمرها النبي أن تفعل ما يفعل الحاج غير أن لا تطوف بالبيت، فلما طهرت وطافت وسعت بين الصفا والمروة حزنت على أن لم تكن اعتمرت كما اعتمر الناس، فقالت: يا رسول الله، أيرجع الناس بنسكين وأرجع بنسك واحد؟! وفي رواية: أيرجع الناس بأجرين وأرجع بأجر واحد؟! فبعث بها النبي مع عبد الرحمن إلى التنعيم، فاعتمرت بعد الحج. رواه مسلم. قال جابر بن عبد الله: وكان رسول الله رجلا سهلا، إذا هويت الشيء تابعها عليه. رواه مسلم. فأين هذا ممن يعدّ مجرد موافقة المرأة في رأي سُبَّة وعيبًا وعارًا؟!
وكان عليه الصلاة والسلام إلى ذلك لا يأنف من أن يقوم ببعض عمل البيت ويساعد أهله، سئلت عائشة رضي الله عنها: ما كان النبي يصنع في بيته؟ قالت: كان يكون في مهنة أهله ـ أي: في خدمتهم ـ، فإذا حضرت الصلاة خرج إلى الصلاة. رواه البخاري. وفي رواية عند أحمد: كان بشرًا من البشر، يَفْلي ثوبه، ويحلب شاته، ويخدم نفسه. وفي رواية أخرى: كان يخيط ثوبه، ويخصف نعله، ويعمل ما يعمل الرجال في بيوتهم. وهي في صحيح الجامع (4813).
وكان عليه الصلاة والسلام يستشير أزواجه ويأخذ برأيهن فيما يعرض عليه من أمور، ومن ذلك ما فعله حين جاءه جبريل أول مرة، فرجع فزعًا إلى زوجه خديجة رضي الله عنها، وهو يقول: ((زمِّلوني زمِّلوني))، ثم أخبر خديجة بالخبر وقال: ((لقد خشيت على نفسي)) رواه الشيخان. فكلمتُه هذه كلمة المستنصح لخديجة الطالب رأيها في هذا الأمر العظيم الذي عرض له، وحين أشارت عليه بالذهاب إلى وَرَقَة قبل مشورتها واتبع نصحها رضي الله عنها.
وكان عليه الصلاة والسلام يصحب زوجاته في السفر، كما صحّ في الحديث عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: كان رسول الله إذا أراد سفرًا أقرع بين أزواجه، فأيتهن خرج سهمها خرج بها رسول الله . رواه البخاري ومسلم.
الخطبة الثانية
أما بعد: وكان عليه الصلاة والسلام يدرك طبيعة المرأة وأن على الزوج احتمال بعض شغبها وأذاها؛ لأنه هو القيم عليها، ولذلك كان عليه الصلاة والسلام يصبر على زوجاته، وكنّ أحيانا يرفعن أصواتهن فوق صوته ويراجعنه فيما يقرره من قرارات، وربما غاضبته الواحدة منهن فهجرته إلى الليل، فلا يهتاج عليه الصلاة والسلام، ولا يحتدّ، بل يقابل الأمر بسكينة ولطف. ولنستمع معًا إلى هاتين القصتين الطريفتين اللتين روى إحداهما عمر رضي الله عنه ورويت الأخرى عنه:
القصة الأولى: عن سعد بن أبي وقاص قال: استأذن عمر على رسول الله وعنده نسوة من قريش ـ يعني من أزواجه ـ يكلمنه ويستكثرنه عالية أصواتهن على صوته، فلما استأذن عمر قمن فبادرن الحجاب، فأذن له رسول الله ، فدخل عمر ورسول الله يضحك، فقال عمر: أضحك الله سنك يا رسول الله، فقال النبي : ((عجبت من هؤلاء اللاتي كن عندي، فلما سمعن صوتك ابتَدَرْن الحجاب))، فقال عمر: فأنت أحق أن يَهَبن يا رسول الله، ثم قال عمر: أي عدوّات أنفسهن، أتهبنني ولا تهبن رسول الله؟! فقلن: نعم أنت أفظُّ وأغلظ. رواه البخاري ومسلم.
القصة الثانية: عن عمر رضي الله عنه قال: والله، إن كنا في الجاهلية ما نعد للنساء أمرًا، حتى أنزل الله فيهن ما أنزل، وقسم لهن ما قسم، فبينا أنا في أمر أتأمّره إذ قالت امرأتي: لو صنعت كذا وكذا! قال: فقلت لها: ما لك ولما ها هنا؟! وما تكلُّفُك في أمر أريده؟! فقالت: عجبًا لك يا ابن الخطاب! ما تريد أن تُراجَع في أمر، وإن ابنتك لتراجع رسول الله حتى يظل يومه غضبان، وفي رواية عند البخاري: والله، إن أزواج النبي ليراجعْنَه، وإن إحداهن لتهجره اليوم حتى الليل، فقام عمر فأخذ رداءه من مكانه حتى دخل على حفصة فقال لها: يا بنية، إنك لتراجعين رسول الله حتى يظل يومه غضبان؟! فقالت: والله إنا لنراجعه، فقلت: تعلمين أني أحذرك عقوبة الله وغضب رسوله ... قال عمر: ثم خرجت حتى دخلت على أم سلمة لقرابتي منها فكلمتها، فقالت أم سلمة: عجبًا لك يا ابن الخطاب، دخلت في كل شيء حتى تبتغي أن تدخل بين رسول الله وأزواجه! وفي رواية: والله، إنا لنكلمه فإن تحمّل ذلك فهو أولى به، وإن نهانا عنه كان أطوع عندنا منك. رواه البخاري ومسلم.
وأعجب من كل ما سبق أن النبي كان أحيانًا هو الذي يسترضي زوجه إذا غضبت، ويعتذر لها. وسأحكي لهم هذه القصة الزوجية الطريفة:
روى أبو داود (4999) بإسناد قوي عن النعمان بن بشير قال: استأذن أبو بكر على النبي فسمع صوت عائشة عاليًا، فلما دخل تناولها ليلطمها وقال: ألا أراكِ ترفعين صوتك على رسول الله ! فجعل النبي يحجِزُه ـ أي: منع أبا بكر من أن يزجر ابنته أو يضربها ـ ، وخرج أبو بكر مغضبًا، فجعل النبي يترضى عائشة ويقول: ((كيف رأيتني أنقذتك من الرجل؟!)) أي: ألا ترين أني منعت أباك من زجرك وعقوبتك؟! وكأنه يريد أن يقول لها: ألا يكفيك هذا شاهدا على محبتي لك؟! فإلام تظلين ساخطة؟! ثم إن أبا بكر استأذن مرة أخرى فوجدهما قد اصطلحا، فقال: أدخلاني في سِلمكما كما أدخلتماني في حربكما، فقال النبي : ((قد فعلنا، قد فعلنا)).
فتأمل وانظر وتفكر، ثم قس هذا بحال من يرى في اعتذاره لزوجه وإن كان مخطئًا هوانًا في النفس ونقصا في الرجولة.
أيها الأحبة، لقد قال الله سبحانه: وَمِنْ ءايَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْواجًا لّتَسْكُنُواْ إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِى ذَلِكَ لايَاتٍ لّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الروم:21].
نعم أيها الزوجان:
أنتما فِي رحلة العمر معا تبنيان العشَّ كالروض الأنيق
قد نَما بينكما عهد الوفا صادقا فالعهد في الله وثيق
تَحملان العبء روحًا ويدًا والتقى نعم التقى زاد الطريق
نفحة تثمر في النفس الرضا تَجعل الأيام كالغصن الوريق
فإذا الدنيا سراج هادئ والمنى تسبح في بَحر طليق
عن أنس قال: خرجنا إلى المدينة قادمين من خيبر، فرأيت النبي يُحَوِّي لها ـ أي: لصفية ـ وراءه بعباءة، ثم يجلس عند بعيره فيضع ركبته، وتضع صفية رجلها على ركبته حتى تركب. رواه البخاري.
ــــــــــــــــــــ(67/271)
من أحكام المسنين
...
...
2483
...
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
...
...
الآداب والحقوق العامة, الوالدان, مكارم الأخلاق
...
ناصر بن محمد الأحمد
...
...
الخبر
...
23/2/1422
...
...
النور
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- تقلب الإنسان بين الطفولة والشباب والمشيب. 2- أخطاء البعض بحق الكبار والمسنين. 3- حديث موجه إلى المسنين. 4- إجلال المسنين واحترامهم. 5- دور الكبار في تربية المجتمع. 6- من حفظ الله في صغره حفظ الله قوته في كبره. 7- الإسلام وكفالة المسنين. 8- أحكام فقهية راعت أحوالهم. 9- مآسي المسنين في الغرب.
الخطبة الأولى
أما بعد: قال الله تعالى: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ [الروم:54]. سبحان من خلق الخلق بقدرته, وصرَّفهم في هذا الوجود والكون بعلمه وحكمته, وأسبغ عليهم الآلاء والنعماء بفضله وواسع رحمته, خلق الإنسان ضعيفًا خفيفًا ثم أمده بالصحة والعافية، فكان به حليمًا رحيمًا لطيفًا، اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً، قوة الشباب التي يعيش بها أجمل الأيام والذكريات مع الأصحاب والأحباب, ثم تمر السنون والأعوام، وتتلاحق الأيام تلو الأيام، حتى يصير إلى المشيب والكبر، ويقف عند آخر هذه الحياة، فينظر إليها فكأنها نسج من الخيال أو ضرب من الأحلام، يقف في آخر هذه الحياة وقد ضعف بدنه وانتابته الأسقام والآلام، ثم بعد ذلك يفجع بفراق الأحبة والصحب الكرام، إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ [الزمر:3].
عباد الله، حديثنا اليوم سيكون عن المسنين، كبار السن في مجتمعنا من الأهل والأقارب والجيران، وممن نخالطهم في المساجد والمجالس.
إنه الكبير الذي رق عظمه وكبر سنه، وخارت قواه وشاب رأسه، إنه الكبير الذي نظر الله إلى ضعفه وقلة حيلته فرحمه وعفا عنه، قال الله تعالى: إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا [النساء:98، 99].
نقف اليوم ـ أيها الأحبة ـ مع كبير السن، نقف مع حقوقه التي طالما ضُيِّعت، ومشاعره وأحاسيسه التي طالما جُرحت، ومع آلامه وهمومه وغمومه وأحزانه التي كثرت وعظمت.
أيها المسلمون، أصبح كبير السن اليوم غريبًا حتى بين أهلِه وأولاده، ثقيلاً حتى على أقربائه وأحفاده، من هذا الذي يجالسه؟! ومن هذا الذي يؤانسه؟! بل من هذا الذي يدخل السرور عليه ويباسطه؟!
إذا تكلم الكبير قاطعه الصبيان, وإذا أبدى رأيه ومشورته سفهه الصغار, فأصبحت حكمته وخبرته في الحياة إلى ضياع وخسران. أما إذا خرج من بيته فقد كان يخرج بالأمس القريب إلى الأصحاب والأحباب وإلى الإخوان والخلان, يزورهم ويزورونه، يقضي حوائجهم ويقضون حوائجه، أما اليوم فإن خرج فإنه يخرج إلى الأشجان والأحزان, يخرج اليوم إلى أحبابه وأصحابه من أقرانه وممن كان يجالسهم، يخرج اليوم يُشيّع موتاهم ويعود مرضاهم, فالله أعلم كيف يعود إلى بيته, يعود بالقلب المجروح المنكسر, وبالعين الدامعة, وبالدمع الغزير المنهمر؛ لأنه ينتظر دوره. يرجع إلى بيته ويرى أن معظم أقرانه وجُلسائه قد فارقوا الحياة، فصار وحيدًا غريبًا ينتظر أمر الله عز وجل.
فيا معاشر كبار السنن، الله يرحم ضعفكم, الله يجبر كسركم، في الله عوض عن الفائتين, وفي الله أنس للمستوحشين. إنا لنعلم أنه قد تجعّد جلدك، وثقل سمعك، وضعف بصرك، وبطِئت حركتك، وترهلت عضلاتك، وتغيّر لون شعرك، ومع ذلك ـ فيا معاشر الكبار ـ أنتم كبار في قلوبنا, وكبار في نفوسنا, وكبار في عيوننا, كبار بعظيم حسناتكم وفضلكم بعد الله علينا، أنتم الذين عَلّمتم وربيتم وبنيتم وقدمتم وضحيتم، لئن نسي الكثير فضلكم فإن الله لا ينسى، ولئن جحد الكثير معروفكم فإن المعروف لا يَبْلى, ولئن طال العهد على ما قدمتموه من خيرات وتضحيات فإن الخير يدوم ويبقى، ثم إلى ربك المنتهى, وعنده الجزاء الأوفى، إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً [الكهف:30].
يا معاشر الكبار، أمّا الآلام والأسقام والأمراض التي تجدونها بسبب كبر السن فالملائكة كتبت حسناتَها, والله عظّم أجورها, وستجدونها بين يدي الله, فالله أعلم كم كان لهذه الأسقام والآلام من حسنات ودرجات, اليوم تُزعجكم وتقلقكم وتُبكيكم وتقض مضاجعكم, ولكنها غدًا بين يدي الله تفرحكُم وتضحككُم, فاصبروا على البلاء، واحتسبوا عند الله جزيل الأجر والثناء، فإن الله لا يمنع عبده المؤمن حسن العطاء، قال : ((عجبت لأمر المؤمن، إن أمره كله خيرٌ؛ إن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له, وإن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له)). عظّم الله أجوركم, وأجزل في الآخرة ثوابكم، فأحسنوا الظن بما تجدونه عند ربكم.
ثم يا معاشر الشباب، توقير الكبير وتقديره أدب من آداب الإسلام وسنة من سنن سيد الأنام عليه من الله أفضل الصلاة وأزكى السلام.
يا معاشر الشباب، إجلال الكبير وتوقيره وقضاء حوائجه سنة من سنن الأنبياء وشيمة من شيم الصالحين الأوفياء، قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ [القصص:23، 24].
يا معاشر الشباب، ارحموا كبار السن وقدروهم ووقروهم وأجلُّوهم؛ فإن الله يحب ذلك ويثني عليه خيرًا كثيرًا, قال النبي : ((إن من إجلال الله إجلال ذي الشيبة المسلم))، وقال : ((ليس منّا من لم يرحم صغيرنا ويوقر كبيرنا)). إذا رأيت الكبير فارحم ضعفه، وأكبر شيبَهُ, وقدِّر منزلته وارفع درجته, وفرج كربته، يَعظُم لك الثواب, ويُجزِل الله لك به الحسنى في المرجع والمآب، بل اعتبر بما رواه الإمام أحمد رحمه الله عن أنس أنه قال: جاء أبو بكر بأبيه أبي قحافة إلى رسول الله يوم فتح مكة، يحمله حتى وضعه بين يدي رسول الله ، فقال رسول الله لأبي بكر: ((لو أقررت الشيخ في بيته لأتيناه)).
يا معاشر الشباب، أحسنوا لكبار السن، لا سيما الوالدين من الآباء والأمهات، إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنْ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا [الإسراء:23، 24]، لا سيما إن كان الكبار من الأعمام والعمات والأخوال والخالات. كم تجلسون مع الأصحاب والأحباب من ساعات وساعات, كم تجالسونهم وتباسطونهم وتدخلون السرور عليهم, فإذا جلستم مع الأقرباء الكبار مللتم وضقتم وسئمتم, فالله الله في ضعفهم، الله الله فيما هم فيه من ضيق نفوسهم.
يا معاشر الشباب، ما كان للكبار من الحسنات فانشروها واقبلوها واذكروها, وما كان من السيئات والهنات فاغفروها واستروها، فإنه ليس من البر إظهار زلة من أحسن إليك دهرا، وليس من الشيمة إعلان هفوة مَن مَا بِكَ مِن خير فبسببه.
أيها المسلمون، سُئل بعض السلف فقيل له: من أسعد الناس؟ قال: أسعد الناس من ختم الله له بالخير. أسعد الناس من حسُنت خاتمته, وجاءت على الخير قيامتُه, قال : ((خيركم من طال عمره وحسن عمله, وشركم من طال عمره وساء عمله)).
يا ابن آدم، إذا رق عظمك وشاب شعرك فقد أتاك النذير، أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمْ النَّذِيرُ [فاطر:37]؛ تذكرة من الله جل جلاله, وتنبيه من الله سبحانه وتعالى رحمةً بعباده. كان السلف الصالح رحمة الله عليهم إذا بلغ الرجل منهم أربعين سنة لزم المساجد وسأل الله العفو عما سلف، وكان يسأله الإحسان فيما بقي من الأزمان، حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنْ الْمُسْلِمِينَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ [الأحقاف:15، 16]. كانوا إذا بلغوا أربعين عامًا لزموا بيوت الله, وأكثروا من ذكر الله, وأحسنوا القدوم على الله جل جلاله, أما اليوم فأبناء ستين وسبعين في الحياة يلهثون, غافلون لاهون, أما اليوم فنحن في غفلة عظيمة، من طلوع الصباح إلى غروب الشمس والإنسان يلهث في هذه الدنيا, لا يتذكر ولا يعتبر, لا ينيب ولا يدَّكر, وتجده إذا غابت عليه الشمس وقد مُلئ بالذنوب والآثام من غفلة الدنيا وسيئاتها ينطلق إلى المجالس, إلى مجلس فلان وعلان, وغيبة ونميمة وغيرِ ذلك مما لا يُرضي الله, فيأتي عليه يومه خاملاً كسلانًا بعيدًا عن رحمة الله.
كبارنا خيارنا، أهل الفضل والحلم فينا، هم قدوتنا في كل خير، هم أئمتنا إلى الطاعة والبر.
يا معاشر الكبار، أنتم قدوة لأبنائكم وبناتكم وأهليكم, قدوة في مجتمعاتكم، إذا جلست مع الأبناء والبنات فإن كنت محافظًا على الخير والطاعات أحبوك وهابوك وأجلّوك وأكرموك, وإن وجدوك تسب الناس وتشتمهم وتنتقصهم وتعيبهم وتغتابهم أهانوك وأذلوك ثم سبوك وعابوك, وهكذا يُجزى المحسن بالإحسان, والمسيئون بالخيبة والخسران.
معاشر الكبار، إنكم قدوة في مجتمعاتكم، أردتم أم لم تريدوا، من هم دونكم في السن ينظرون إليكم نظرة إجلال واقتداء، فالحذر الحذر من المخالفة والعصيان، إن المجتمع لا يقبل أن يُرى كبير السن سيئًا في خلقه وتعامله، لا يرضى المجتمع أن يُرى كبير السن يدخن مثلاً، فكيف بما هو أعظم من التدخين؟! أو يلاحظ عليه ما يشين. نعم يا معاشر الكبار، إن من حقكم علينا الاحترام والتقدير والمواساة، ومن حقنا عليكم القدوة وأن تكونوا نماذج يُحتذى بكم ويستفاد من خبرتكم وتجاربكم.
يا معاشر الكبار، إنابة إلى الله الواحد القهار, وتوبة من الحليم الغفار، إذا تقربت إلى الله شبرًا تقرب منك ذراعًا, وإن تقربت منه ذراعًا تقرب منك باعًا, وإذا أتيته تمشي أتاك هرولة, إذا نظر الله إلى قلبك أنك تحب التوبة وتحب الإنابة إليه فتح لك أبواب رحمته ويسر لك السبيل إلى مغفرته وجنته, إلى متى وأنت عن الله بعيد؟! وإلى متى وأنت طريد؟! ما الذي جنيت من السهرات؟! وما الذي حصلت من الجلوس هنا وهناك؟!
قال بعض كبار السن: اللهم أحسن لي الخاتمة, فمات بين الركن والمقام. وقال ثان: اللهم أحسن الختام, فمات وهو ساجد بين يدي الله جل جلاله. وقال ثالث: اللهم إني أسألك حسن الخاتمة, فمات يوم الخميس صائمًا لله جل جلاله. أحسنوا الختام, وأقبلوا على الله جل جلاله بسلام، وودعوا هذه الدنيا بأحسن الأعمال وشيم الكرام، فإن الأعمال بالخواتيم.
يا معاشر الكبار، إن مما يحفظ عليك صحتك وقوتك حتى مع كبر سنك طاعة الله جل وتعالى، وأن لا تستخدم هذه الجوارح في معصيته، وهذا شيء من معنى قول النبي : ((احفظ الله يحفظك))، أي: من حفظ الله في صباه وقوته حفظه الله في حال كبره وضعف قوته، ومتعه بسمعه وبصره وحوله وقوته وعقله.
رُوي عن أبي الطيب الطبري رحمه الله تعالى أنه جاوز المائة سنة وهو ممتع بقوته وعقله، فركب مرة سفينة، فلما خرج منها قفز قفزةً قوية لا يستطيعها الشباب، فقيل له: ما هذا يا أبا الطيب؟! فقال: ولِمَ وما عصيت الله بواحدة منها قط؟!
وفي أزماننا المتأخرة فإنا قد عاصرنا مثل إمام هذا العصر الإمام عبد العزيز بن باز ـ رحمه الله تعالى رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته ـ وقد جاوز الثمانين من عمره، وهو بكامل قواه العقلية وذاكرته وحفظه، وكان رحمه الله يستحضر ويُعلّم ويُدرّس ويفتي حتى آخر لحظة من حياته. ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. إنها جوارح متى ما حُفِظت حَفَظَت، ((احفظ الله يحفظك)).
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قلّما كان رسول الله يقوم من مجلس حتى يدعو بهؤلاء الدعوات لأصحابه: ((اللهم اقسم لنا من خشيتك ما يحول بيننا وبين معاصيك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا، ومتعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا))، والوارث هو الباقي، والمراد إبقاء قوته إلى وقت الكبر.
معاشر الكبار، لقد دلّنا رسول الله إلى بعض الأعمال التي بسببها يطول عمر الإنسان، وعُدّ إطالة العمر جزاءً لهذه الأعمال الفاضلة، ومن ذلك بر الوالدين وصلة الأرحام وحسن الخلق وحسن الجوار وتقوى الله عز وجل.
فنسأل الله جل وتعالى طول عمر مع حسن عمل، كما نسأله سبحانه صحة في قلوبنا وصحة في أبداننا، وأن لا يحوجنا إلى غيره سبحانه.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
أما بعد: إن مرحلة الشيخوخة من العمر مرحلة عصيبة، ولا عجب فلقد تعوذ منها رسول الله فيما رواه عنه أنس أن النبي كان يقول: ((اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل والجبن والهرم)) رواه البخاري، وفي رواية أخرى أنه عليه الصلاة والسلام كان يتعوذ من أن يرد إلى أرذل العمر. وقد عدّ الرسول هذه المرحلة هي آخر مرحلةٍ قبل الموت، عن أبي هريرة أن رسول الله قال: ((بادروا بالأعمال سبعًا: هل تنتظرون إلا فقرًا مُنسيا أو غنى مطغيا أو مرضًا مفسدا أو هرمًا مفندا أو موتًا مجهزا؟!)).
أيها المسلمون، ولئن اعتنت الدول بهذه المرحلة من عمر الإنسان فظهر ما يسمى بنظام التقاعد والتأمينات الاجتماعية، فإن الإسلام قد نظّم وأكد هذا الأمر قبل أكثر من أربعة عشر قرنًا. إن المسنّين يدخلون ضمن الرعية التي يعَدّ إمام المسلمين راعيًا لهم ومسؤولاً عنهم، ((كلكم راع ومسؤول عن رعيته، فالإمام راع وهو مسؤول عن رعيته)) رواه البخاري من حديث ابن عمر.
ورعاية المسنين تلزم ولي أمر المسلمين، وهي مسؤولية شاملة لجوانب الرعاية، من اقتصادية واجتماعية وطبية ونفسية وغيرها. عن معقل بن يسار قال: سمعت رسول الله يقول: ((ما من عبد يسترعيه الله رعية فلم يُحِطها بنصحه إلا لم يجد رائحة الجنة)) رواه البخاري.
أيها المسلمون، لقد جاءت هذه الشريعة رحمة للبشرية، ومن صور هذه الرحمة أن الله عز وجل خص كبار السن ببعض الأحكام؛ رحمةً بهم وإشفاقًا عليهم، مراعاةً لحالتهم الصحية والبدنية، من ذلك:
أنه أمر الأئمة في المساجد بتخفيف الصلاة مراعاة لكبار السن والمرضى، روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة أن رسول الله قال: ((إذا صلى أحدكم للناس فليخفف؛ فإن منهم الضعيف والسقيم والكبير، وإذا صلى أحدكم لنفسه فليطول ما شاء)).
ومن الأحكام أن الأكبر سنا مقدّم في الإمامة في الصلاة إذا تساووا في قراءة القرآن.
وأيضا من الأحكام أن كبير السن الذي لا يستوي على الراحلة يحج عنه ويعتمر ولو كان حيا، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: جاءت امرأةٌ من خثعم عام حجة الوداع قالت: يا رسول الله، إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخا كبيرا لا يستطيع أن يستوي على الراحلة، فهل يقضي عنه أن أحج عنه؟ قال: ((نعم)) رواه البخاري.
ومن الأحكام الرخصة لكبير السن بالإفطار في رمضان حين عجزه، والإطعام عن كل يوم مسكينا أخذا بقول الله تعالى: فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ [البقرة:184].
ومن الأحكام أنه أمر الصغير أن يسلم على الكبير، وأن يبدأه إجلالا له وتقديرا لسنه، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((يسلم الصغير على الكبير، والمار على القاعد، والقليل على الكثير)) رواه البخاري.
ومن أحكام كبار السن أنه أمر أن يُبدأ بتقديم الشرب للأكابر، ففي الحديث أن رسول الله كان إذا سُقي قال: ((ابدؤوا بالكبراء))، أو قال: ((بالأكابر)). ومرةً جاءه عيينة بن حصن وعنده أبو بكر وعمر وهم جلوس على الأرض، فدعا لعيينة بوسادة وأجلسه عليها، وقال: ((إذا أتاكم كبير قوم فأكرموه)).
وأيضًا من الأحكام جواز كشف المسنة وجهَها لغير المحارم، لكن تحجُّبُها أفضل، قال الله تعالى: وَالْقَوَاعِدُ مِنْ النِّسَاءِ اللاَّتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [النور:60]، قال الإمام عبد العزيز بن باز رحمه الله: "والقواعد هن العجائز اللاتي لا يرغبن في النكاح ولا يتبرجن بالزينة، فلا جناح عليهن أن يسفرن عن وجوههن لغير محارمهن، لكن تحجبهن أفضل وأحوط لقوله سبحانه: وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ، ولأن بعضهن قد تحصل برؤيتها فتنة من أجل جمال صورتها وإن كانت عجوزا غير متبرجة بزينة، أما مع التبرج فلا يجوز لها ترك الحجاب، ومن التبرج تحسين الوجه بالكحل ونحوه" انتهى.
ومن أحكام المسنين أن الشريعة نهت عن قتل كبير السن من العدو الكافر حال الجهاد، فقد كان رسول الله يوصي أصحابه عند بعث السرايا والجيوش في الغزوات أن لا يقتلوا صغيرًا ولا امرأةً ولا شيخًا كبيرًا، روى الطبراني عن سليمان بن بريدة عن أبيه قال: كان رسول الله إذا بعث جيشًا أو سريةً دعا صاحبهم فأمره بتقوى الله وبمن معه من المسلمين خيرًا، ثم قال: ((اغزوا بسم الله وفي سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، لا تغلّوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليدًا ولا شيخًا كبيرًا)).
فتأمل ـ يا رعاك الله ـ إلى شريعة الإسلام حتى مع العدو حال القتال، لا يقتل كبير السن، ولا تقتل المرأة، فضلاً عن الأطفال، وقارن ـ يا أخي الحبيب ـ بين هذا وبين ما يمارسه الكفار اليوم بجميع مللهم ونحلهم، ابتداءً من اليهود ومرورًا بالنصارى وانتهاءً بالصرب والشيوعيين، وكيف أنهم لم يرحموا طفلاً رضيعًا ولا شيخًا كبيرًا ولا امرأةً مسكينة، بل بهم يبدؤون، وعليهم ترسل الصواريخ والقذائف، بل وتدمر البيوت والمساكن فوق رؤوسهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله، إنها شريعة الغاب التي يدين بها الغرب.
وإن تعجب فاعجب من موقف عمر بن الخطاب مع ذلك الرجل الكبير المسنّ الضرير اليهودي، وقد ذكره أبو يوسف في كتاب الخراج أن عمر بن الخطاب مرَّ بباب قوم وعليه سائل يسأل، شيخ كبير ضرير البصر، فضرب عضده من خلفه، فقال: من أيّ أهل الكتاب أنت؟ قال: يهودي، قال: فما ألجأك إلى ما أرى؟ قال: أسأل الجزية والحاجة والسنّ، قال: فأخذ عمر بيده فذهب به إلى منزله فأعطاه من المنزل شيئًا، ثم أرسل إلى خازن بيت المال فقال: انظر هذا وضرباءه، فوالله ما أنصفناه إذ أكلنا شبيبته ثم نخذله عند الهرم، إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ [التوبة:60]، فالفقراء هم المسلمون والمساكين من أهل الكتاب، ووضع عنه الجزية وعن ضربائه.
ألا فلتسمع الدنيا مثل هذه المعاملة، ولتسمع بخالد بن الوليد عندما صالح أهل الحيرة وجاء في صلحه معهم أنه قال: (وجعلت لهم أيّما شيخ ضعف عن العمل أو أصابته آفة من الآفات أو كان غنيًا فافتقر وصار أهل دينه يتصدقون عليه طرحت جزيته وعيل من بيت مال المسلمين).
أين منظمات حقوق الإنسان اليوم عن مثل هذه الأحكام وهذه التشريعات؟! إنه لا خلاص للبشرية من الممارسات الوحشية اليوم في العالم كله إلا بالإسلام، ويوم يرجع الإسلام لحكمه في الأرض فستنعم البشرية في ظله، وهو يوم آت لا نشك في ذلك، ولتعلمُنّ نبأه بعد حين.
إن الغرب ـ أيها الأحبة ـ الذي يدّعي حقوق الإنسان اليوم زعموا، إليك بعض أخباره مع كبار السن عندهم:
اقترح مستشار الرئيس الفرنسي السابق في إحدى الدراسات أن لا يعطى الشيوخ علاجًا طبيًا مكثفًا إذا تجاوز سنًّا معينة من أجل التعجيل بوفاته، وها هو أحد المستشفيات في الدانمارك يرفض استقبال المرضى المسنين؛ لأن إقامتهم في المستشفى قد تطول، ويجب أن تعطى أولوية العلاج للعاملين الذين يسهمون في تمويل صناديق الرعاية بما يدفعونه من ضرائب، فقيمة الإنسان لديهم ليست في ذاته، وإنما في قدرته على الإنتاج، ومن لا ينتج فالموت، هذه هي الحضارة التي ينادي بها في مجتمعاتنا أولئك المنهزمون ممن رضعوا من ألبان الغرب من أصحاب التوجهات العلمانية، ومن نحى نحوهم ممن يريدون أن يأخذوا حضارة الغرب بعجرها وبجرها. هذه الكتابات التي نقرأها يوميًا في صحفنا ومجلاتنا، والتي تنادي بالحضارة الغربية والسير في منوالها، هل يريدون أيضًا منّا أن نعامل كبار السنّ عندنا على مثل ما اقترحه المستشار الفرنسي؟! رحماك ثم رحماك.
اللهم ارحمنا رحمة اهد بها قلوبنا، اللهم اختم لنا بخير, اللهم اختم لنا بخير, اللهم اجعل خير أعمالنا أواخرها, وخير أعمارنا خواتمها, وخير أيامنا يوم لقائك, اللهم اجعل أسعد اللحظات وأعزها لحظة الوقوف بين يديك برحمتك يا أرحم الراحمين, اللهم ارحم كبارنا, ووفق للخير صغارنا, وخذ بنواصينا لما يرضيك عنا...
ــــــــــــــــــــ(67/272)
أزواج النبي صلى الله عليه وسلم
...
...
2366
...
الأسرة والمجتمع, سيرة وتاريخ, قضايا في الاعتقاد
...
...
الصحابة, المرأة, تراجم
...
عبد المحسن بن محمد القاسم
...
...
المدينة المنورة
...
26/4/1426
...
...
المسجد النبوي
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- الاقتداء بالصالحات. 2- فضائل خديجة رضي الله عنها. 3- فضائل عائشة رضي الله عنها. 4- فضائل سودة رضي الله عنها. 5- فضائل حفصة رضي الله عنها. 6- فضائل زينب بنت خزيمة رضي الله عنها. 7- فضائل أم حبيبة رضي الله عنها. 8- فضائل أم سلمة رضي الله عنها. 9- فضائل زينب بنت جحش رضي الله عنها. 10- فضائل جويرية رضي الله عنها. 11- فضائل صفية رضي الله عنها. 12- فضائل ميمونة رضي الله عنها. 13- زهد النبي وزوجاته.
الخطبة الأولى
أمّا بعد: فاتقوا الله ـ عبادَ الله ـ حقَّ التقوى، فتقوَى الله ذِكرَى لكلّ أوّابٍ ونجاةٌ للعبادِ من العَذاب.
أيّها المسلِمون، تسعَد المرأةُ المسلِمة باقتِفاءِ أثرِ خَيرِ نِساءٍ عِشنَ في أفضلِ القرون وتربَّين في أَجلِّ البيوتِ بيتِ النّبوّة، أعلَى الله مَكانتَهن، وأجَلَّ قَدرَهن، ونزَل القرآن بالثّناءِ عَليهنّ، قال عزّ وجلّ: يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ [الأحزاب:32]، زَوجاتٌ مبارَكات، ونِساء عظيمَات.
أُولاهنّ المرأة العاقِلَة الحاذِقة ذاتُ الدين والنسب خديجة بنت خُويلدٍ رضي الله عنها، نشأت على التخلُّق بالفضائلِ والتحلِّي بالآداب والكرَم، واتَّصفت بالعفّة والشرف، كانت تُدعَى بين نساءِ مكّة بالطاهرة. تزوَّجَها المصطفى فكانت نِعمَ الزوجة له، آوَته بنفسِها ومالها ورجَاحةِ عقلها، وفي أحزانِه عليه الصلاة والسلام كان يأوِي إليها ويبُثّ إليها همومه. نزل عليه الوحيُ أوّلَ نزوله فرجَع إليها يرجُف فؤادُه من هَول ما رأى، وقال لها: ((ما لي يا خديجة؟! لقد خشِيتُ على نفسي))، فتلقَّته بقَلبٍ ثابت وقالت له: كلاَّ والله، لا يخزيك الله أبدًا[1].
لاحَ الإسلام في دارِها فكانت أوّلَ من آمن من هذه الأمة، قال ابن الأثير رحمه الله: "خديجة أوّلُ خلقِ الله إسلامًا بإجماعِ المسلمين، لم يتقدَّمها رجلٌ ولا امرَأَة"[2].
عظُمَت الشّدائِد على النبيّ في مطلَع دعوتِه، واشتدَّ الإيذاء، فكانت له قلبًا حانيًا ورأيًا ثاقبًا، لا يسمَع من الناسِ شيئًا يكرهه ثم يرجِع إليها إلاّ ثبَّتته وهوَّنت عليه، يقول النبيّ : ((آمنت بي إذ كَفَر بي النّاس، وصدّقتني إذ كذَّبني الناس، وواسَتني بمالها إذ حرَمني الناس، ورزَقني الله ولدَها إذ حرمني أولادَ النساء)) رواه أحمد[3].
عظيمة بارّةٌ بزوجِها وأمّ حنون، جميع أولادِ النبيّ منها سوَى إبراهيم، أدبُها رفيعٌ وخُلُقها جَمّ، لم تراجِعِ المصطفى يومًا في الكلامِ، ولم تؤذِه في خِصام، يقول النبيّ : ((أتاني جبريل فقال: بشِّرها ببيتٍ في الجنة من قصب ـ أي: لؤلؤ مجوَّف ـ، لا صخَبَ ولا نصَب)) متفق عليه[4]. قال السّهيليّ رحمه الله: "إنما بشَّرها ببيتٍ في الجنة لأنها لم ترفَع صوتَها على النبيّ ، ولم تُتعِبه يومًا من الدهر، فلم تصخَب عليه يومًا، ولا آذته أبدًا"[5].
كانت راضيَةً مرضيّة عند ربِّها، يقول عليه الصلاة والسلام: ((قال لي جبريل: إذا أتتك خديجة فأقرِئ عليها السلام من ربِّها ومنّي)) متفق عليه[6]. قال ابن القيّم رحمه الله: "وهي فضيلةٌ لا تعرَف لامرأةٍ سِواها"[7]. أحبَّها الله وأحبَّتها الملائكة وأحبَّها النبيّ ، يقول : ((إنّي رُزِقت حبَّها)) رواه مسلم[8].
كان إذَا ذكرَها أعلَى شأنَها وشكَر صُحبتَها، تقول عائشة رضي الله عنها: كان النبيّ إذا ذكَر خديجةَ لم يكن يسأَم من ثَناءٍ عليها واستغفارٍ لها[9]. حفِظ لها وُدَّها ووفاءها، فكان يكرِم صاحِبَاتها بعدَ وفاتِها، تقول عائشة رضي الله عنها: وربَّما ذبح الشاةَ، ثم يقطِّعها أعضاءً، ثمّ يبعثها إلى صديقاتِ خديجة، فربما قُلتُ له: كأنّه لم يكن في الدّنيا امرأةٌ إلاّ خديجة! فيقول: ((إنها كانت وكانَت، وكان لي منها ولد)) رواه البخاري[10].
سمع النبيُّ صوتَ أختِها بعد وفاتها فحزِن كثيرًا وقال: ((ذكَّرتني بخديجة))[11].
كمُلَت في دينها وعقلِها وخلُقها، يقول عليه الصلاة والسلام: ((كمُل من الرجال كثير، ولم يكمل من النّساء إلا ثلاث: مريم بنت عمران، وآسيةُ امرأة فرعون، وخديجة بنتُ خويلد)) رواه ابن مردويه[12].
سبَقَت نساءَ هذه الأمة في الخيريّة والشرف والسناء، يقول عليه الصلاة والسلام: ((خيرُ نِسائِها ـ أي: في زمانها ـ مريمُ بنت عمران، وخير نسائِها ـ أي: مِن هذه الأمّة ـ خديجة)) متفق عليه[13].
صَلحت في نفسِها وأصلَحَت بيتَها، فجَنَت ثمرةَ جُهدها، فأصبَحَت هي وابنتُها خيرَ نساء العالمين في الجنّة، يقول عليه الصلاة والسلام: ((أفضَلُ نِساء أهلِ الجنّة خديجةُ وفاطمة ومريمُ وآسية)) رواه أحمد[14].
كانت عظيمةً في فؤادِ النبيّ ، فلم يتزوَّج امرأةً قبلَها ولم يتزوَّج امرأةً معها ولا تسرَّى إلى أن قضَت نحبَها، فحزِنَ لفَقدِها، يقول الذهبيّ رحمه الله: "كانت عاقِلةً جليلةً ديِّنةً مَصونةً كريمةً من أهلِ الجنة"[15].
وفي بَيتِ الصّدقِ والتّقوَى ولِدَت عائشة بنتُ أبي بكر الصديق رضي الله عنها، ونشأت في بيتِ الإيمان، فأمُّها صحابية، وأختُها أسماء ذاتُ النطاقين صحابيّة، وأخوهَا صحابيّ، ووالِدُها صِدّيق هذه الأمة. ترَعرَعت في بيتِ عِلم، كان أبوها علاَّمةَ قريشِ ونَسَّابَتها، منحَها الله ذكاءً متدفِّقًا وحفظًا ثاقِبًا، قال ابن كثيرٍ رحمه الله: "لم يكن في الأمَمِ مثلُ عائشَةَ في حفظها وعلمِها وفصاحتِها وعَقلها"[16]، فاقَت نساءَ جِنسها في العِلم والحكمة، رزِقَت في الفقه فهمًا وفي الشعر حِفظًا، وكانت لعلومِ الشّريعة وِعاءً، يقول الذهبي رحمه الله: " أفقَهُ نساءِ الأمّة على الإطلاق، ولا أعلَمُ في أمّة محمد بل ولا في النّساء مطلَقًا امرأةً أعلَم منها"[17].
سمَت على النساء بفضائِلِها وجميلِ عِشرتها، يقول المصطفى : ((فضل عائشةَ على النساء كفضلِ الثريد على سائر الطعام)) متفق عليه[18].
أحبَّها النبي ، وما كان ليحبّ إلا طيّبًا، يقول عمرو بن العاص : أيّ النّاس أحبّ إليك يا رسول الله؟ قال: ((عائشة))، قلت: فمن الرجال؟ قال: ((أبوها)) رواه البخاري[19].
لم يتزوَّج بِكرًا غيرَها، ولا نزَل الوحيُ في لحافِ امرأةٍ سواها، عَفيفةٌ في نفسها، عابِدة لربِّها، لا تخرُج من دارِها إلاّ ليلاً لئلا يراها الرّجال، تقول عن نفسِها: كنّا لا نخرُج إلاّ ليلاً[20]، محقّقةً قولَ الله: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجَاهِلِيَّةِ الأُولَى [الأحزاب:33]، قال القرطبيّ رحمه الله: "والشريعةُ طافِحَة بلزوم النّساءِ بيوتَهنّ والانكفافِ عن الخروج منها إلا لضرورَة.. فإن مَسّت الحاجةُ إلى الخروجِ فَليكُن على تبذُّلٍ وتستّر تامّ"[21].
والله يبتلِي من يحِبّ، والابتلاء على قدرِ الإيمان، بُهِتَت رضي الله عنها وعُمرُها اثنَا عشرَ عامًا، قالت: فبكَيتُ حتى لا أَكتحِل بنوم ولا يَرقأ لي دَمع، حتى ظنَّ أبواي أنّ البكاءَ فالِقٌ كبِدِي، واشتدَّ بها البلاء، قالت: حتى قلَصَ دمعي فلا أحسّ منه قطرة[22]. قال ابن كثير رحمه الله: فغارَ الله لها، وأنزَل براءتها في عشرِ آيات تتلَى على الزمان، فسمَا ذكرُها وعلا شأنها؛ لتسمَعَ عَفافها وهي في صباها. فشَهِدَ الله لها بأنها من الطيّبات، ووعَدَها بمغفرةٍ ورزق كريم.
لم تزل ساهِرةً على نبيِّنا ، تمرِّضُه وتقوم بخدمتِه، حتى توفِّيَ في بيتها وليلَتِها وبين سَحرِها ونحرِها.
وسَليمَةُ القلب سَودةُ بنت زمعَة رضي الله عنها، أوّلُ من تزوّجَ بها النبيّ بعد خديجَة، وانفردَت به نحوًا من ثلاثِ سنين، كانت جليلةً نبيلَة، رزِقَت صفاءَ السّريرةِ، وَهَبت يومَها لعائشةَ رضي الله عنها رِعايةً لقلب النبي تبتَغِي رِضَا ربِّها.
والقوّامَةُ الصّوّامة حفصةُ بنت أميرِ المؤمنين عمَرَ بن الخطاب رضي الله عنه، نشَأت في بيتِ نُصرةِ الدين وإظهارِ الحق، سَبعةٌ مِن أهلها شهدوا بدرًا، تقول عنها عائشة رضي الله عنها: هِي التي كانت تُسامِيني من أزواجِ النبيّ [23].
والمُنفقةُ زينبُ بنت خُزيمة الهلاليّة، ذات البذلِ والمسارعة في الخيرات، مكثَت عند النبيّ شهرَين ثم توفِّيَت.
والمهاجرة المحتسِبَة أمّ حبيبة رملة بنت أبي سفيانَ رضي الله عنها، ليس في أزواجِهِ مَن هي أقربُ نسبًا إليه منها، ولا في نسائِه مَن هي أكثرُ صَداقًا منها، ولا فيمَن تزوَّج بها وهي نائِيَة الدارِ أبعَدَ منها، عقَدَ عليها وهي في الحبَشَة فارّةٌ بدينها، وأصدَقَها عنه صاحِبُ الحبَشَة وجهَّزها إليه.
والصّابِرة الحيِيَّة أمّ سلمة رضي الله عنها هندُ بنت أبي أميّة مِنَ المهاجرات الأوَل، ولمّا أرادتِ الهجرةَ إلى المدينة مع زوجِها أبي سلمة فرَّقَ قومُها بينها وبين زوجِها وطِفلِها، قالت: فكُنتُ أخرج كلَّ غداة وأجلس بالأبطَح، فما أزال أبكي حتى أمسِي سنةً كاملة أو قريبًا منها، حتى أشفَقوا عليَّ فأعادوا إليَّ طفلي[24].
يقينُها بالله راسِخ، توفِّيَ عنها زوجها أبو سلمة فقالت دعاءً نبويًّا، فعوَّضها الله برسول الله زوجًا لها، تقول: سمعتُ النبيَّ يقول: ((ما مِن مسلم تصيبُه مصيبةٌ فيقول: إنّا لله وإنا إليه راجعون اللّهمّ أجُرني في مصيبتي وأخلِف لي خيرًا منها إلا أخلَف الله له خيرًا منها))، قالت: فلمّا مات أبو سلمة قلت: أيّ المسلمين خير من أبي سلمة أوّل بيت هاجر إلى رسول الله؟! ثمّ إني قلتها فأخلَف لي رسولَ الله . رواه مسلم[25]. فاجعَل هذا الدعاءَ ذُخرًا لك عندَ حلولِ المصاب يعوّضْك خيرًا من مصيبَتِك.
وأمّ المساكين زَينبُ بنتُ جَحش بنت عمّةِ رسول الله ، نَعِمت بالحسَب والنّسب والشرف والبَهاء، زوَّجَها الله نبيَّه بنصِّ كتابِه، بلا وليٍّ ولا شاهد، قال عز وجل: فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا [الأحزاب:37]. زواجُ النبيِّ بها بركَةٌ على المسلِمات إلى قيامِ الساعة حين فُرِض الحجابُ على بناتِ حوّاء بعد أن تزوَّجها؛ ليكونَ صِيانة للشّرَف والعفاف والنقاء.
سخِيَّة العطاءِ للفقراءِ والضّعفاء، كثيرةُ البرّ والصدقة، ومع شريف مكانتِها وعلوِّ شأنها كانت تعمَل بيدها تدبَغ وتخرزُ وتتصدَّق من كسبِها، قالت عنها عائشة رضي الله عنها: ما رأيتُ امرأة خيرًا في الدّين من زينب؛ أتقَى لله وأصدَق حديثًا وأوصَل للرّحم وأعظم صدقة[26].
والعابدة جويرية بنت الحارث رضي الله عنها من بني المصطلِق، أبوها سيِّدٌ مطاع في قومه، وهي مبارَكَة في نفسها وعلى أهلها، تقول عائشة رضي الله عنها: ما رأيتُ امرأةً كانت أعظمَ بركةً على قومِها منها[27].
كثيرةُ التعبُّد لربِّها، قانتةٌ لمولاها، كانت تجلِس في مصلاَّهَا تذكرُ الله إلى نصفِ النّهار، تقول: أتى عليَّ رسول الله غُدوة وأنا أسبِّح، ثم انطلَقَ لحاجته، ثمّ رجع قريبًا من نصف النهار، فقال: ((أما زِلتِ قاعدة؟)) يعني: تذكرِينَ الله، قالت: نعم. رواه مسلم[28].
والوجيهةُ صفيّة بنت حيَيّ رضي الله عنها، مِن ذرّيّة هارونَ عليه السلام، كانت شريفةً عاقلة ذاتَ مكانةٍ ودين وحِلم ووقار، قال لها النبي : ((إنك لابنةُ نبيّ ـ أي: هارون ـ، وإنَّ عمَّك لنبيّ ـ أي: موسى ـ، وإنّك لتحتَ نبيّ)) رواه الترمذي[29].
كانت وليمةُ النبيّ عليها في زواجِها السّمن والأقِط والتمر، فكان زواجًا ميسَّرًا مباركًا.
وواصِلة الرّحِم أمّ المؤمنين ميمونة بنت الحارث الهلاليّة رضي الله عنها من عظماءِ النساء، منحَها الله صفاءَ القلب ونقاء السريرة وملازمةَ العبادةِ، تقول عائشة رضي الله عنها: أما إنَّها كانت من أتقانَا لله وأوصلِنا للرحم[30].
وبعد: أيها المسلمون، فتلك سيرةُ الخالداتِ في الإسلام أمّهات المؤمنين، مَناقبهنّ مشرِقة، جمعنَ بين المحاسِنِ والفَضائل، حقيقٌ بنساءِ المسلمين أن يجعلنَهنّ نِبراسًا للحياة، يرتَشِفن من معينِ مآثرهن، ويقتدينَ بهن في الدين والخلق ومراقبَةِ الله والانقياد التام لله ورسوله وملازمةِ العبادة والإكثار من الطاعات والصّدق في الحديث وحفظ اللسان والبذل للفقراء وتفريجِ كرُبات الضعفاء والسعيِ لإصلاح الأبناء والصّبر على تقويمِ عوَجِهم والتحصُّن بالعلم وسؤالِ العلماء الراسخين وملازمة السّترِ والعفاف والقرارِ في البيوت والحِجاب والبعد عن الشبهات والشهوات والحذَرِ من طول الأمل والغفلة في الحياة أو الاعتِناء بالظاهِر مع فسادِ الباطن وإطلاق البصَر في المحرّمات والخضوع بالقول مع الرجال، وليَحذَرن من الأبواقِ الدّاعية إلى التبرّج والاختلاط بالرّجال، فشموخُ المرأة وعزُّها في دينِها وحِجابها.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ المُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا [الأحزاب:59].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعَني الله وإياكم بما فيهِ من الآيات والذّكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من ك ذنب فاستغفروه، إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] صحيح البخاري: كتاب التفسير (4954) عن عائشة رضي الله عنها. وهو أيضا عند مسلم في الإيمان (160).
[2] أسد الغابة (1/1337).
[3] مسند أحمد (6/117) عن عائشة رضي الله عنها، وأخرجه أيضا الطبراني في الكبير (23/13)، وحسن إسناده الهيثمي في المجمع (9/224).
[4] صحيح البخاري: كتاب المناقب (3821)، صحيح مسلم: كتاب فضائل الصحابة (2432) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[5] انظر: البداية والنهاية (3/127).
[6] صحيح البخاري: كتاب المناقب (3821)، صحيح مسلم: كتاب فضائل الصحابة (2432) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[7] زاد المعاد (1/102).
[8] صحيح مسلم: كتاب فضائل الصحابة (2435) عن عائشة رضي الله عنها.
[9] أخرجه الطبراني في الكبير (23/13)، قال الهيثمي في المجمع (9/224): "أسانيده حسنة".
[10] صحيح البخاري: كتاب المناقب (3818) عن عائشة رضي الله عنها.
[11] ينظر من أخرجه بهذا اللفظ. وقد أخرج البخاري في كتاب المناقب (3821)، ومسلم في كتاب فضائل الصحابة (2437) عن عائشة رضي الله عنها قالت: استأذنت هالة بنت خويلد أخت خديجة على رسول الله ، فعرف استئذان خديجة فارتاع لذلك فقال: ((اللهم هالة)).
[12] أخرجه ابن مردويه من طريق شعب عن معاوية بن قرة عن أبيه مرفوعا كما في تفسير ابن كثير (1/363).
[13] صحيح البخاري: كتاب المناقب (3815)، صحيح مسلم: كتاب فضائل الصحابة (2430) عن علي رضي الله عنه.
[14] مسند أحمد (1/293، 316، 322) عن ابن عباس رضي الله عنهما، وأخرجه أيضا عبد بن حميد (597)، والنسائي في الكبرى (5/93، 94)، وأبو يعلى (2722)، والطبراني في الكبير (11/336، 22/407، 23/7)، وصححه ابن حبان (7010)، والحاكم (3836، 4160، 4754، 4852)، وحسنه النووي في تهذيب الأسماء (2/341)، وقال الهيثمي في المجمع (9/223): "رجالهم رجال الصحيح"، وهو في صحيح الجامع (1135).
[15] سير أعلام النبلاء (2/110).
[16] البداية والنهاية (3/129).
[17] سير أعلام النبلاء (2/140).
[18] صحيح البخاري: كتاب المناقب (3769، 3770)، صحيح مسلم: كتاب فضائل الصحابة (2431، 2446) عن أبي موسى الأشعري وعن أنس بن مالك رضي الله عنهما.
[19] صحيح البخاري: كتاب المناقب (3662). وهو أيضا عند مسلم في كتاب فضائل الصحابة (2384).
[20] أخرجه البخاري في الشهادات (2661)، ومسلم في التوبة (2770) في قصة الإفك.
[21] الجامع لأحكام القرآن (14/179، 180).
[22] أخرجه البخاري في الشهادات (2661)، ومسلم في التوبة (2770) في قصة الإفك.
[23] الثابت في الصحيحين وغيرهما أن عائشة رضي الله عنها قالت ذلك في زينب بنت جحش رضي الله عنها كما في قصة الإفك، وقد أخرجها البخاري في الشهادات (2661)، ومسلم في التوبة (2770).
[24] أخرجه ابن إسحاق كما في السيرة النبوية (2/315).
[25] صحيح مسلم: كتاب الجنائز (918).
[26] صحيح مسلم: كتاب فضائل الصحابة (2442).
[27] أخرجه أحمد (6/277)، وأبو داود في العتق (3931)، والحاكم (6781)، وصححه ابن الجارود (705)، وابن حبان (4054، 4055)، وحسنه الألباني في صحيح سنن أبي داود (3327).
[28] صحيح مسلم: كتاب الذكر (2726) بمعناه.
[29] سنن الترمذي: كتاب المناقب (3894) عن أنس رضي الله عنه، وأخرجه أيضا معمر في جامعه (11/430 ـ المصنف ـ)، وعبد بن حميد (1248)، وأحمد (3/135)، والنسائي في الكبرى (5/291)، وأبو يعلى (3437)، وأبو نعيم (2/55)، وقال الترمذي: "هذا حديث سن صحيح غريب من هذا الوجه"، وصححه ابن حبان (7211)، وهو في صحيح سنن الترمذي (3055).
[30] أخرجه ابن سعد في الطبقات (8/138)، والحارث بن أبي أسامة (455 ـ بغية الباحث ـ)، وأبو نعيم (4/97)، وصححه الحاكم (6799)، وصحح ابن حجر في الإصابة (8/128) سند ابن سعد.
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانِه، والشّكر له على توفيقِه وامتنانه، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريكَ له تعظيمًا لشأنه، وأشهَد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، صلّى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وسلّم تسليمًا كثيرًا.
أيّها المسلمون، زوجاتُ النبيِّ عِشن معه في بَيتٍ متواضِع، في حجراتٍ بنِيت من اللّبِن وسَعَف النخل، ولكنه ملِيء بالإيمان والتقَوى، صبَرن مع النبيّ على الفقرِ والجوع، كان يأتي عليهنّ الشهر والشهران وما يوقد في بيوتهنّ نار، وتأتي أيّامٌ وليس في بيوتهنّ سِوى تمرة واحدة، ويمرّ زمنٌ من الدّهر ليس فيها سِوى الماء بدون طَعام، قناعةٌ في العيش وصَبر على موعودِ الله، وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الأُولَى [الضحى:4].
أجورهنّ مُضاعفة مرتين، وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُّؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا [الأحزاب:31].
خمسٌ منهنّ تزوَّجهنّ عليه الصلاة والسلام وأعمارهنّ مِن الأربعين إلى الستّين عامًا، حقَّق بذلك رعايةَ الأراملِ وكفالة صبيانهنّ الأيتام. تزوَّجَ خديجةَ رضي الله عنها وعمرها أربعون عامًا ولها ثلاثةُ أولادٍ من غيره، وهو لم يتزوَّج بعد، وتزوَّجَ زينبَ بنت خزيمة وهي أرملةٌ ناهزَت الستّين من عُمرِها، وتزوّج أم سلَمَة وهي أرمَلَة ولها ستّة أولاد، وتزوَّجَ سودَةَ وهي أرملةٌ وعمرها خمسَةٌ وخمسون عامًا.
تزوَّج من الأقارب من بناتِ عمّه وعمّاتِه، وتزوّج من الأباعد، وكان لهنّ زوجًا رحيمًا برًّا كريمًا جميلَ العِشرة معهنّ دائمَ البِشر متلطِّفًا معهنّ، فمن طلَب السعادةَ فليجعَل خيرَ البشَر قدوةً له، ولتلحَقِ المسلمة بركابِ زوجاتِه الصالحات، فلا فلاحَ للمرأة إلا بالاقتفاءِ بمآثرهنّ في السترِ والصلاح والتقوى والإحسان إلى الزّوج والولد.
ثم اعلَموا أن الله أمَركم بالصلاة والسلام على نبيه، فقال في محكمِ التّنزيل: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللّهمّ صلّ وسلِّم على نبيّنا محمّد، وارضَ اللّهمّ عن خلفائه الراشدين الذين قضَوا بالحقّ وبه كان يعدلون: أبي بكر وعمرَ وعثمان وعليّ، وعن سائر الصحابةِ أجمعين...
ــــــــــــــــــــ(67/273)
ضبط الوقت وأثره في إنتاجية المجتمع
...
...
4402
...
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
...
...
اغتنام الأوقات, فضائل الأزمنة والأمكنة, قضايا المجتمع
...
صالح بن عبد الله بن حميد
...
...
مكة المكرمة
...
10/5/1426
...
...
المسجد الحرام
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- ظاهرة إهدار الأوقات في الإجازة. 2- من سنن الله تعالى أن جعل الليل لباسًا والنهار معاشًا. 3- خطورة مخالفة سنن الله الكونية على الفرد والمجتمع. 4- أهمية ضبط الوقت وتنظيمه في رقي الأمم. 5- فضائل البكور وبركاته.
الخطبة الأولى
الحمد لله أولى من حُمِد، وأحبِّ من ذُكِر، وأحقِّ من شُكِر، وأكرمِ من تَفَضّل، وأرحمِ من قُصِد، أحمده سبحانه وأشكره، تَعَرّف إلى خلقه بالدلائل الباهرة والحجج القاهرة، وأنعم عليهم بالنعم الباطنة والظاهرة، والآلاء الوافرة المُتَكاثِرَة. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، مَدَّ الأرضَ فأوسعها بقُدْرِته، وقَدَّر فيها أَقْوَاتها بحكمته، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبد الله ورسوله، رفع ربُّهُ ذِكرَه فأعلاه وأجَلّه، وفي أعلا المنازل أكرمه وأحَلّه، صلّى الله وسلّم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه، أعِزّة على الكفّار وعلى المؤمنين أَذِلّة، والتابعين ومن تبعهم بإحسان، بدعوتهم وطريقتهم تَتّحِد الكلمة، وترتفع أركان المِلّة، وسلّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فأوصيكم أيها الناس ونفسي بتقوى الله عز وجل، فاتقوا الله رحمكم الله، فالدنيا غير مأمونة، ومَن عَزَمَ على السفر والرحيل تَزَوّد بالمؤونة، ومن صَحّت نيّتُه، وأخذ بالأسباب جاءته من ربه المعونة، من عَلِم شَرَف المطلوب جَدّ وعَزَم، والاجتهادُ على قَدْر الهِمَم، والنفسُ إذا أُطْمِعَت طَمِعَت، وإذا أُقْنِعَت باليسير قَنِعَت، وإذا فُطِمَت انْفَطَمَت، اهتمّ بالخلاص أهل التُّقى والإخلاص، وفرّط المفرّطون فندموا ولاتَ حينَ مَنَاص، مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت:46].
أيها المسلمون، قوّة الأمّة وتقدّمها وحُسن تديُّنها مَقِيسٌ بقوة إيمانها، وجودةِ عملها، ودقّةِ تنظيمها، ومِقدَارِ إنتاجها، وحُسنِ تدبيرها، بسم الله الرحمن الرحيم: وَالْعَصْرِ إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [سورة العصر].
عباد الله، ومع هبوب رياح الصيف وحلول مواسم الإجازات في كثير من البقاع والديار، وارتباط الإجازة عند بعض الناس بالتعطيل والبطالة وإضاعة الوقت وقتله؛ يحسن الوقوف وقفة نظر وتأمّل في العمل والإنتاج وساعات العمل وحفظ الوقت وضبط ساعات العُمُر وأوقات الراحة.
إن قُدرة المجتمعات على الإنتاج والعطاء وضبطِ ساعات العمل وكَسْبِ المعاش وأوقات الراحة من أدلّ الدلائل على القوّة، بل حُسنِ الإيمان والعمل الصالح وإدراك معنى الإصلاح.
تأمّلوا ـ رحمكم الله ـ هذه الآيات من كتاب الله فيما امتنّ الله على عباده من تهيئة أسباب المَعَاش من أجل حُسن المَعِيشَة، يقول عزّ شأنه: وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ [الأعراف:10]، ويقول عزّ من قائل: هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ [الملك:15]، وقال جلّ وعلا: فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون [الجمعة:10].
ثم تأمّلوا التنبيهَ على أوقات العمل وساعاته والراحة ومواعيدها، يقول سبحانه: وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا [النبأ:9-11]، ويقول جلّ في عُلاه: وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ [الإسراء:12]، ويقول جلّ وعلا: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا [الفرقان:47]، ويقول في حقّ نبيّه محمد : إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلاً [المزمل:7].
أيها المسلمون، هذه هي آيات الله، وتلك هي سُننه في الليل وفي النهار وفي البشر، ولكنّ المتابع لمسالك بعض الناس ـ وبخاصّة في منطقتنا ومحيطنا في كثير ٍمن أفراد مجتمعنا ـ ليَدْهَشُ ويأسَى مما يلْفِتُ نظرَه من الغفلة عن هذه السُّنّة الإلهية والآية الربّانية، حين ينقلب عندهم الحال، فيجعلون نهارَهم سُبَاتًا، وليلَهم مَعَاشًا، بل لهوًا وعَبَثًا، إنه انتكاسة وانقلاب، بل فوضى واضطراب، وآثاره على الحياة والأحياء خطيرة في الإنتاج والصلاح والإصلاح، صحّية وبيئيّة وأمنيّة واقتصاديّة واجتماعيّة وغيرها. نعم أيها الإخوة الأحبّة، إن مما يأْسَى له الناظرُ أن ترى أُسَرًا بأكملها، أو مُدنًا بكلّ أهلها، صغارِها وكبارِها، رجالِها ونسائِها؛ قد قلبوا حياتهم، وانقلبوا في مَعَاشهم، فيسهرون ليلَهم، ثم يصبحون في نهارهم غير قادرين على العمل والعطاء، سواءً أكانوا طُلابًا أم موظّفين، وسواءً أكانوا في أعمال خاصّة أم عامّة، فهم ضعفاء في الإنتاج، ضعفاء في المشاركة، مُقَصّرين في الأداء، مُفَرّطين في المسؤولية، لا ترى إلا ذُبُولَ الحاجِبَين، واحمرارَ العينين، قد أخذ منهم النُّعَاسُ والكسلُ كلَّ مَأخَذ، ضَعْفٌ في الجسم، ووَهَنٌ في القُوى، وقلّة في التركيز والأداء.
إن ظاهرة عكس السُّنن وتحويل وظائف النهار إلى الليل دليلٌ على التَسَيُّب والفوضى وضياع الضابط في الناس، بل قد تكون دلالةً من دلالات التَّرَهُّلِ المُهْلِك، والاتِّكاليّة المُدَمِّرة، وكأنّه لا هَمَّ لهم إلا تلبية أهوائهم ومُشْتَهَيَاتِهم، مُنْصَرِفين أو مُتَعَامِين عن حقيقة وجودهم، وطبيعةِ رسالتهم، وعظيمِ مسؤوليتهم، والجدِّ في مسالكهم. ويكفي المُخْلِصَ الصادقَ الناصحَ لأمته أن يُجِيل نظرَه في مجموعة من هذا الشباب التائه الضائع الذي يعيش على هامش الحياة، بل على هامش الزمن، في الليل مستيقظٌ بلا عمل والأمم الحيّة العاملة نائمة، ويكون نائمًا والأمم الحيّة العاملة مستيقظةٌ ساعَيِةٌ كادَّةٌ جادَّةٌ. ومع الأسف فإن الناظر المتأمّل لا يكاد يجد ناصحًا أو منكرًا لهذه المسالك التي لا تُحْمَد عُقْبَاها، بل إن عاقبتها خُسْرٌ في الأبدان والأموال والثمرات؛ مما يستدعي قرارًا حازمًا يردّ الناس إلى الصواب؛ ليكون الليل سَكَنًا وسُبَاتًا، ويكون النهار عملاً ومعاشًا.
ثم ماذا إذا صار الليلُ حركةً وعملاً لا نومًا ولا سُبَاتًا ولا سَكَنًا؟ سوف يزداد الصَّرْف والاستهلاك في كل المرافق، في مائها وإضاءاتها وطرقها وصيانة ذلك كله ونظافته، بل إن الأجهزة سوف تعمل فوق طاقتها ليلاً ونهارًا، مما يتولّد عنه الضعفُ والتَّسَيُّبُ والعَجْزُ والضَّجَرُ، ومن ثَمّ المشكلات الأمنيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة وغيرها.
معاشر المسلمين، إنّ أول مَدَارِج الإصلاح ـ والأمة تبتغي الإصلاح والانتظام في صفوف الأمم القويّة العاملة الجادّة ـ إنّ أول ذلك القدرة على ضبط أنفسنا وأبنائنا، والتحكّم الدقيق في ساعات عملنا. إن هذه الانتكاسة التي شملت الموظّفَ والمسؤولَ والطالبَ والمعلّمَ والرجلَ والمرأةَ تحتاج إلى وقفة صادقة جادّة، وقرارٍ حاسمٍ يعيد الناس إلى الجادَّة، بل يعيدهم ليكونوا أسوياء يعملون كما يعمل الناس في كل بلاد الدنيا. ولا مُسَوّغ البتَّةَ للاحتجاج بالظروف الاجتماعية أو المناخية؛ لأنّ سُنن الله في الليل والنهار عامّة، تَنْتَظِم البشرَ كلَّهم في مجتمعاتهم ومَنَاخَاتهم وقارّاتهم، فربُّنا جعل الليلَ سَكَنًا، وجعل النهارَ مَعَاشًا، ومحا آيةَ الليل، وجعل آية النهار مُبْصِرَة؛ لابتغاء فضله سبحانه، وذلك لأهل الأرض كلهم، بل جاء الخطاب في قوله سبحانه بعد أداء صلاة الجمعة: فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ [الجمعة:10]، وهذا لا يكون إلا بعد الظهر وفي شدّة حرارة الشمس في الصيف، وهو خطاب تَنَزّل أول ما تَنَزّل على العرب في جزيرتهم.
إن من أهمّ آليّات الإصلاح الذي ينادي به المصلحون المُخْلِصُون النظرَ الجادّ في هذه القضية، وإعادةَ ترتيب ساعات العمل، وحملَ الناس على ذلك، وأَطْرَهم عليه أَطْرًا، حتى يتحوّل المجتمع إلى مجتمع مُنْضبِط عامل مُنْتِجٍ يحسن توظيف قدراته ومواهبه ومؤهّلاته وكفاءته في كل طبقاته رجالاً ونساءً وشبابًا وكهولاً، يجب أن يكون المجتمع نَهَارِيًّا لا ليلِيًّا، فلا عمل في الليل إلا في حدود ضيّقة في بعض الأعمال الخاصّة من حراسة ومُنَاوَبة وأَشْبَهِها.
أيها المسلمون، إن أول ما يجب التطلّع إليه أن تكون الأمةُ أمةَ بُكُور، في بُكُور الصباح تغدو مخلوقاتُ الله وأممُ الأرض كلُّها تبتغي فضل الله، إن يومكم الإسلامي ـ أيها المسلمون، أيها الشباب ـ يبدأ من طلوع الفجر، وينتهي بعد صلاة العشاء، قال بعض السلف: "عجبت لمن يصلي الصبح بعد طلوع الشمس كيف يُرزق؟"، وأصدق من ذلك وأبلغ قول نبينا محمد في الحديث الصحيح الذي رواه أبو هريرة وابن عمر وصَخْر بن وَدَاعَة رضي الله عنهم في قوله : ((اللهم بارك لأمتي في بُكُورها)) رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه[1]، ولفظ أبي هريرة: ((بُورِك لأمتي في بُكُورها))[2]، وكان صَخْر راوِ الحديث لا يبعث غلمانه إلا من أول النهار، فكَثُر مالُه حتى كان لا يدري أين يضعه.
يومكم الإسلامي ـ يا أهل الإسلام ـ مُرتَبِطٌ ومُفْتَتَحٌ بصلاة الصبح، وفيها قرآن الفجر: إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا [الإسراء:78]. يستقبل بها المسلمُ يومَه، ويستفتح بها نهارَه وعملَه، دعاه داع الفلاح، فالصلاة خير من النوم. استشعر عبودية ربّه والإيمان والعمل الصالح، يرجو البركة ونشاط العمل وطِيب النفس، نعم طِيب النفس ونشاط البدن مِصْداقًا للحديث المتّفق عليه، إذ يقول : ((يَعْقِدُ الشيطانُ على قافِيَة رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عُقَد، ويَضْرِبُ على مكان كل عُقْدَة: عليك ليلٌ طويلٌ فارْقُد، فإن استيقظ وذكر الله انحلّت عُقْدَةٌ، فإن توضّأ انحلّت عُقْدَةٌ، فإن صلّى انحلّت عُقْدَةٌ، فأصبح نشيطًا طَيّب النفس، وإلا أصبح خبيثَ النفسِ كَسْلانَ))[3]. ومن صلّى الصُّبْح فهو في ذمّة الله. ولقد ذُكِر عند النبي رجلٌ فقيل: ما زال نائمًا حتى أصبح، ما قام إلى الصلاة! فقال رسول الله : ((ذاك رجلٌ بال الشيطان في أذنه)) أخرجه البخاري[4].
أهل البُكُور قوم موفّقُون، وجوههم مُسْفِرَة، ونَوَاصِيهم مُشْرِقة، وأوقاتُهم مُباركة، أهل جِدّ وعمل وسعي، يأخذون بالأسباب مُفَوّضين أمرهم إلى ربّهم، متوكّلين عليه، فهم أكثر عملاً، وأعظم رضًا، وأشدّ قناعة، وأرسخ إيمانًا، والبركات فُيُوضٌ من الله وفُتُوحٌ، فتحنا عليهم بركات من السماء والأرض، لا تقع تحت حَصْر لا في عمل ولا في عَدَد ولا في صورة ولا مكان ولا زمان ولا أشخاص، بركات من السماء والأرض، بركات بكل أنواعها وألوانها وصورها، مما يَعْهُدُ الناسُ ومما لا يعهدونه. فاستقيموا ولن تُحْصُوا، وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ [المزمل:20].
عباد الله، وحين يترك الناس البُكُور، ويُهْمِلون الساعات المباركة؛ تصبح أوقاتهم ضيّقة، وصدورهم حَرِجَة، وأعمالهم مُضْطَرِبة.
وبعد، فهذا هو ديننا، وهذا هو نهجنا، وهذه هي إرشادات نبيّنا، فلماذا يسبقنا الآخرون؟!
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ [الحجر:19-21].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم وبهدي محمد . وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي لكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه من حديث صَخْرِ بنِ وَدَاعَةَ الغَامِديِّ: الإمام أحمد (15012)، وأبو داود في الجهاد (2602)، والترمذي في البيوع (1212)، وابن ماجه في التجارات (2236)، قال الترمذي: "وفي الباب عن علي وابن مسعود وبُرَيدة وأنس وابن عمر وابن عباس وجابر... وحديث صخر الغامدي حديث حسن، ولا نعرف لصخر الغامدي عن النبي صلى الله عليه وسلم غير هذا الحديث، وقد روى سفيان الثوري عن شعبة عن يعلى بن عطاء هذا الحديث"، وصححه لغيره الألباني في صحيح الترغيب (1693).
[2] أخرجه الطبراني في الأوسط (1/229)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (2841).
[3] أخرجه البخاري في الجمعة (1142)، ومسلم في صلاة المسافرين وقصرها (776) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[4] أخرجه البخاري في الجمعة (1144)، ومسلم في صلاة المسافرين وقصرها (774) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
الخطبة الثانية
الحمد لله المُتَفَرِّد بالقُدْرة، أحمده سبحانه لا تُقَدِّرُ الخلائقُ قَدْرَه، وأشكره على نعمٍ لا تُحصى، ولا يُطيقُ العبادُ شُكْرَه. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك، جَلّ صفةً، وعزّ اسمًا، وأشهد أن سيّدنا ونبيّنا محمدًا عبد الله ورسوله علا شرفًا وإلى ذُرَا الأخلاق سَمَا، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه كانوا على الحق أعلامًا، وعلى الهُدَى أنْجُمًا، والتابعين ومن تبعهم بإحسان وسلّم تسليمًا.
أما بعد: أيها المسلمون، البُكُور استقامة مع الفطرة في المخلوقات والأشياء، والتبكير دليل قوّة العَزْم وشدّة التّشْمِير، ومن أراد علمًا أو عملاً فليُبَادر بالبُكُور، فذلكم علامة اليقظة والنّباهة والجدّ والحَزْم والبُعْد عن الغفلة والإهمال والفوضى، روى مسلم في صحيحه أن رجلين جاءا إلى عبد الله بن مسعود يزورانه بعد الفجر، فأذنت لهم الجارية بالدخول فترَدّدَا، فقال لهما عبد الله بن مسعود: (ادخلا، أتظنان بابن أمّ عَبْدٍ الغفلةَ؟!)[1].
في البُكُور صفاء الذهن، وجودة القَرِيحَة، وحضور القلب، ونَقَاء النفس، ونور الفكر، فيه استجماع القُوى، واستحضار المَلَكَة، وانبعاث الفُتُوّة. في البكور الهواء أنقى، والعبد أتقى، والنفس أطيب، والروح أزكى. نسائم الصباح لها تأثيرها اللطيف على النفس والقلب والبدن والأعصاب، والجسم يكون في أفضل حالاته وأكمل قواه. من غريب ما قالوا: إن أصحاب الأعمار الطويلة هم من القوم الذين يستيقظون مُبَكّرين. بل قالوا: إن الولادات الطبيعية في النساء تقع في ساعات النهار الأولى الباكرة. بل إن بعض الباحثين يُرْجِع الاكتئاب والأمراض النفسيّة إلى ترك البُكُور ونوم الضُّحَى.
وبعد، فتأمّلوا ـ رحمكم الله ـ حين يجتمع للعبد العاملِ الجادِّ البُكُور والبركة، بركة المال، وبركة العمل، وبركة الوقت، فينتفع بماله، ويُفْسَحُ له في وقته، ويُقْبِل على عمله، فينجز في الدقائق والساعات ما لا ينجزه غيره ممن لم يُبارَك له في أيام وليالي، يُبارَك له فيكون الانشراح والإقدام والإقبال والرضا والإنجاز.
ألا فاتقوا الله رحمكم الله، والزموا سُنَنَ الله، وخذوا بالجدّ من أعمالكم، والحَزْم من أموركم، يُكتَب لكم الفلاح في الدنيا والآخرة، فحيّ على الفلاح، فالصلاة خير من النوم.
[1] أخرجه مسلم في صلاة المسافرين وقصرها (822).
ــــــــــــــــــــ(67/274)
لمحات في استثمار الإجازات
...
...
4405
...
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
...
...
اغتنام الأوقات, الأبناء, التربية والتزكية
...
عبد الرحمن السديس إمام الحرم
...
...
مكة المكرمة
...
17/5/1426
...
...
المسجد الحرام
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- أهمية المحافظة على الوقت. 2- أصناف الناس في الإجازة. 3- دور العلماء والدعاة والمربين والتجار في إعانة الشباب على حسن قضاء الإجازة. 4- عظم مسؤولية الوالدين تجاه أبنائهم في الإجازة. 5- وصايا للسيّاح والمصطافين.
الخطبة الأولى
أما بعد: فيا عباد الله، خيرُ ما يوصُىَ به ويُستزاد لكل رائح وغاد، وأزكى ما يُدّخر ليوم المعاد، تقوى الإله في الغيب والإشهاد، فاتقوا الله ـ رحمكم الله ـ لِمَا حَبَاكم من الإيجاد والإعداد والإمداد، وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى [البقرة:197].
أيها المسلمون، عُرُوج الأُممِ في مَدَارات الحضارة والارتقاء، وسَبْقُها في ميادين الفوز والنَّمَاء، وبلوغِ شَأْوِها في أَمْدَاء البُلَهْنِيّة والهناء؛ قرين اهتمامها بجوهر مكنون من جواهر الإسعاد والقيادة، ومِسَاكٍ مَكِينٍ من أُسُس الرِّيادة والسيادة، ألا وهو اغتنام الأوقات بالصالحات، واهْتِبَالُها في الخيرات والطاعات وإنماء المجتمعات. أجل، فالأعمار مَكْنَزُ الأعمال لدى الأخيار، وأحزمُ الناس وأَكْيَسُهم من اقْتَطَفَ أيامَه ولياليَه في جَلْبِ المصالح والخُيُور، ودَرْء المفاسد والشرور عن نفسه ومجتمعه وأمته. فكل دقيقة تمضي سُدَى إنما هي فرصةٌ فائتةٌ وشِيمَةٌ مائتةٌ لا تُسْتَعَاض ولا تُسْتَرد، ورسالتنا في الحياة ـ إخوةَ الإيمان ـ أسمى من أن يُجَازَف بسُوَيْعَاتها وثوانيها، بَلْهَ أيامها ولياليها.
إخوة الإسلام، منذ أيام سَوَالِف أرخى ليلُ العام الدراسي سُدُولَه، وتَنَفَّسَ صُبْحُ الإجازة عن أَشْذَائه العَبِقَة وأيامه الغَدِقَة، وزَّيّنَت العطلةُ الصيفية بحُلَلِها وحُلاهَا، واخْضَوْضَرَت سهولُها ورُباها لتُصَافح المجتهدين، وتُهنّئ المتفوّقين من أبنائنا الطلاب وفتياتنا الطالبات، الذين يُهَيَّؤون ـ بإذن الله ـ لمواصلة مسيرة التحصيل والجِدّ والعَلاء، تحت هاتِيكَ الرّاية وذَيَّاكَ اللواء.
بلغنا السماءَ مجْدُنا وجُدُودنا وإنا لنبغي فوق ذلك مَظْهَرًا
لا كالذي ما إن كَحَّل بالشهادة عينيه، وأطبق على زُخْرِفها بيديه، حتى هَجَر العلم والمَحَابِر، وطَوَى الأقلام والدفاتر، وانطلقت أفْرَاسُه في أَعِنّة العَبَث والبَطَالة واللهو والعَطَالَة، جاعلاً الليل سَهَرًا وإعْنَاسًا، والنهارَ نومًا وسُبَاتًا، يُمَزّق الزمانَ النفيسَ باللهو والعصيان، وفَرْيِ الأعراض بالأباطيل والهَذَيَان، يمتطي صَهْوةَ الفضائيات، ويَتَسَمَّر أمام شبكات المعلومات، ويقضي على شريف الدقائق بالتفَنُّن في ضروب الملاهي والبوائق؛ طوعًا لنَزَغَات الشباب، وخضوعًا لسلطان الفراغ ـ بظنّه ـ.
كلا عباد الله، إن المسلم الحَصِيف الواعي يخوض غِمَارَ الحياة عمومًا، والإجازة الصيفية خصوصًا، وسلاحه استقامته وصلاحه، ساعِدُهُ ساعِدُهُ، وسِنَادُهُ زِنَادُهُ، وكِنَانَتُهُ جِدُّهُ وسعيهُ وأمانتهُ، وما الأعمار إلا أمانة جُلاّ في أَطْوَاقِنا.
وهل يصحّ في الأذهان ـ أيها التربويّون والمعنيّون بقضايا الجيل ـ أن يبقى أبناؤنا الطلاب وأحبتنا الشباب مدة الإجازة التي تُناهِزُ ثلث السنة دون سعي أو عمل أو نشاط أو أَمَل، وقد عُلِمَ وتَقَرّر أن الحياة السهلة الرَّخِيّة التي يَكْتَنِفُها القُعُودُ والهُمُودُ والتواني والجُمُودُ لا تُفْرِزَ ـ غالبًا ـ إلا الترَهُّلَ الفكري والجسدي لدى مُعَايِشِها، ولا يَتَرَقَّى الإنسانُ في سُلّم الأمجاد إلا في مُرَاغَمَةٍ للصعوبات والشدائد، إذ هي مِسْبَارُ القوة والفُتُوّة.
وإذا كان ذلك كذلك ـ يا رعاكم الله ـ فإنه يجب تعويد الشباب والأبناء على تحمّل التَّبِعَات، وحبّ المسؤولية في استقلالية مَرْعِيّة دون انهزاميّة أو اتِّكَالِيّة.
وإنما رجلُ الدنيا وواحدُها من لا يُعَوِّلُ في الدنيا على رجلِ
فالخمول والتواكل يُغلِقان أبواب الخير والسموّ في وجوه الطالبين، والعجز والتراخي يطمسان معالم الهداية والرشاد عن أنظار السائرين، ومن دعائه عليه الصلاة والسلام: ((اللهم إني أعوذ بك من العَجْزِ والكسل والجُبْنِ والبخل)) رواه مسلم في صحيحه[1]. ومن رَقِيم الحِكَم: "من اسْتَوْطَأَ الراحةَ ما ملأ الراحَة"، يُقابِل ذلك: "بقدر ما تَتَعَنَّى تَنال ما تَتَمَنَّى"، ومن استعصم بالله ثقة به وتوكّلاً عليه، وَوَطَّنَ نفسه على الصِّعاب، هانت عليه مكابدة الصِّلاب، فلا الحَرّ يُقْعِدُه، ولا القلقُ يُثَبِّطُه، ولا اليأسُ عن مراده يَعْطِفُه، وألفَى كلَّ شيء أمامه باسمًا مَيسورًا، وافْتَرَعَ ـ بإذن الله ـ سُدَّةَ الشرف العالي، ومن صَدَقَ إلى الله فِرارُه حَسُن من الله قَرَارُه، والنبي يقول: ((احرص على ما ينفعك، واستعن بالله، ولا تعجز)) خَرّجه مسلم في الصحيح[2].
ما اعْتَنَّ لي يأسٌ يُناجِي هِمّتي إلا تَحَدّاه رجائي فاكْتَمَى
أمة الإسلام، وفي نفوذ الشباب إلى ساحات المسؤوليات وتحقيق الذات والطموحات زمن الإجازات وجه من وجوه الإسلام المُشرِقة الذي اكْتَنَزَ الجِدّية الوَثَّابَة والمُثَابَرَة المُتَّقِدَة والنشاط الفَيّاض والسعي الدَّؤوب الدَّفَّاق؛ لحفظ أشرف الأوقات، وبلوغ أعلى الكَمَالات، مشاركة في إعزاز الأمة، واستئناف سُؤْدَدِها، وصَدّ التيارات الفاسدة والمبادئ الهدّامة دونها، مما قد يَتَسَلّل إليها لِوَاذًا، فَعِياذًا بالله عِيَاذًا. ومن المُتَقَرّر أن الجَدّ في الجِدّ، والحِرْمَان في الكسل، ومن نَصَبَ أصاب عما قريب غاية الأمل.
إخوة الإيمان، ومن اللّمَحَات اللمَّاحَات في استثمار الإجازات ما يُعقَدُ من آمال عِرَاض على العلماء والدعاة ورجال الحِسْبَة ورُوّاد الفِكر وحَمَلة الأقلام ورجال الإعلام، في الدُّلُوف بالبنين والبنات إلى تنمية عقولهم، وتقويم سِيَرهم، وتهذيب أرواحهم في رشاد، وإرْهَاف عواطفهم وأخلاقهم في سَدَاد، عبر الوسائل الإعلامية والدعوية والمراكز الصيفية والدروس العلمية واللقاءات التربوية، ويُخَصّ بالذِّكْرِ أشرف الذِّكْرِ القرآن الكريم، وما يجب من إيلائه العناية الفائقة، وسقي النشء والشباب من مَوْرِدِه السَّلْسَال حفظًا وتلاوةً واهتداءً ومُدارَسةً وتدبّرًا واقتداءً، خصوصًا والأمة تتعرّض لهجمات سَبْعِيّة حمراء على عِرْضِها وأرضها ومقدّساتها ومُقدّراتها، وبِأَخَرَةٍ أقدس مقدّساتها وسِرّ بقائها، في مُحَاذَرَة وَوَجَل من مسالك الغلوّ والإجرام وسفك الدم الحرام، خاصّة في البلد الحرام، وتبصير الشباب بمنهج الإسلام الوسطي المعتدل، وبذل النُّصْحِ والتوجيه المستمرّ لهم في رسم أهدافهم وتحديد أولوياتهم، واحتواء ردود أفعالهم، بالحكمة والحوار والحُسْنَى، واستثمار أوقاتهم بطرق فَذّة مُثْلَى، مع التأكيد على بذل الحوافز والمُشَجّعات في مختلف المجالات والمسابقات للنابهين والنابهات، إذ ثَمَّةَ الإكْسِيرُ الذي يحقّق كثيرًا من الآمال فيهم، ويَحُضّهم على التنافس النزيه المبدع، وفي ذلك فلْيَتَنَافسِ المُتنافِسُون.
معاشر المسلمين، وحين نُعرّج إلى مَضارِب الحديث عن الأعمال والمهارات التي يَحْسُن أن يُتقنها الشباب، ويتولاّها الجيل إعدادًا للمستقبل ونهوضًا بالحسّ المهني لديهم، فإن القول يُدَار على أنّ مُقوِّمات الأمّة وأُسُس نهضتها ما هي إلا بانصراف وُجَهائها ورجال أعمالها ورؤوس أموالها إلى تَوْفِيَة المصالح العامة حقّها، وإيثارها على المصالح الخاصة، وسَدّ كل ثُلْمَة من الحاجات التَّنْمَوِيّة، لحاقًا بركاب الحضارة والمَدَنِيّة، وفي طليعة ذلك يُهِيبُ الغَيورون بتوفير مزيد من فرص العمل الشريف لشبابنا الواعِد مَعَاقِد الأمل وركائز العِزّة والقوّة في الأمّة ومَبْعَث الازدهار والعمران فيها، وإشاعة ذلك في المجتمع كله، والتواصي به؛ لما فيه من التعاون على البرّ والمعروف، وإنها لكبيرة إلا على الذين هدى الله. ولنبعث في أجيالنا الاسْتِيفَازَ للعمل من جهة، وروح العزائم التي لا تقبل الهزائم من جهة أخرى، ولِنُعِدّ رجالاً أُبَاةً صالحين، تَقَرّ بهم الأعين، وتسعد بهم الأوطان، ويفتخر بهم الوالدان، ويُخَلّد مفاخرَهم وأمجادَهم الزمانُ. ولله دَرُّ الفاروق عمر كان يرى الرجل فيعجبه فيسأل: هل له من حِرْفَة؟ فيُقال: لا، فيسقط من عينيه، ويعلوه بالدِّرَّة. وكان يقول: (إني لأرى الرجل فأمْقُتُه ليس في عمل دنيا ولا في عمل آخرة). والله عزّ وجلّ يقول: رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ [النور:37]، فأَثِبْ لهؤلاء الأصفياء رضي الله عنهم أنهم تُجّار وباعَة، لكن لا يشغلهم العمل عن موارد الطاعة. ألا فُبورِك في الشباب الطموح، وردّ الله إلى حِيَاض الحق كل جَمُوح. وإن المسؤولية لعظيمة في إعداد الجيل الوسَطِي المعتدل، بعدما مرّت على شبابنا منعطفات فكرية خطيرة، جعلتهم يعيشون حيارى بين مِطْرَقة الغلو والعُنف والإفراط، وسِنْدَان التغريب والتفريط والإحباط.
فيا أخي الشاب المبارك، كن صادقًا راسخًا في انتمائك، صادِرًا عن توجيه علمائك، مشاركًا إيجابيًّا في حياتك، حاملاً هَمّ قضايا أمّتك، متفاعلاً في بناء مجتمعك، مِفْتاحًا لكل خير، مِغْلاقًا لكل شر، موازيًا بين متطلبات روحك وجسدك، بكل فضيلة مُتَحَلٍّ، وعن كل رذيلة مُتَخَلٍّ، تكن ـ بإذن الله ـ خير خَلَف لخير سلف. أما السَّلْبِيّة والنقد والبَطَالة والتضييع والتسْويف والعَطَالة فهي عَتَاد كل فارغ بَطّال، ولن تتحقّق الآمال ـ بعد توفيق الله ـ إلا على أيدي الشباب الإيجابي المعتدل الفَعّال.
ألا وإن مما يُنْعِمُ بالَ الغَيور، ويُبْهِجُ سُوَيْدَاءَهُ، ما يقوم به في هذه الإجازة موفّقون، ويضْطَلِع به مباركون، زادهم الله هدى وصلاحًا وتوفيقًا، من حرص يملأ نفوسهم على قضايا نَشْئنا الصالح، وبَذْل كل الطاقات للإفادة من الإجازة خير إفادة، أفلا ترون إلى ما بين أيديكم من حِلَق الوحيين الشريفين، والتنافس في حفظهما ومدارستهما، وإلى المعارض والمخيّمات الدعوية والمهرجانات التوعوية، وإلى الكتب والرسائل العلمية والمناشط الخيرية، وإلى الدورات العلمية، التي التَأَمَتْ كلها على حفظ أوقات الأُسَر وخصوصًا الشباب، وتنمية قدراتهم ومواهبهم، مما يؤكد أنها المَحَاضِن المأمونة للشباب الطموح، خاصة في إجازاتهم، ويسدّ المجال أمام من يَشْرَقُون بالأعمال الخيّرة، ويُجْلِبُون بخيلهم ورَجِلِهم في كَيْل الاتهامات جُزَافًا ضدها، مع ما يُؤمَّل من بذل المزيد من النصح الوَرِيف والتقويم الشَّفِيف.
بارك الله في الجهود، وسَدّد الخُطَى، وعفا بمنّه وكرمه عن السهو والخَطَا، واللهُ المسؤول أن يأخذنا بأيدينا جميعًا إلى مَعَاقِد العِزّ والتمكين لديننا ومجتمعاتنا وأمّتنا، إنه جواد كريم.
أقول هذا الكلام، وأستغفر الله الملك العلاّم، لي ولكم من كل الذنوب والآثام، فاستغفروه وتوبوا إليه على الدوام، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] صحيح مسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة (4899) من حديث زيد بن أرقم رضي الله عنهما.
[2] صحيح مسلم، كتاب القدر (2664) من حديث أبي هريرة رضي لله عنه.
الخطبة الثانية
الحمد لله أهل التعظيم والتّمْجِيد، ووليّ الإنعام والفضل المَدِيد، جَلّ في عليائه خَصّنا بآلاءٍ مُتَرَادِفة تستوجب الشكر والمزيد. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة نرجو بها الفوز يوم الوعيد، وأشهد أن نبينا محمدًا عبد الله ورسوله المبعوث بالمنهج الرشيد، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه البررة الصِّيد، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم المزيد، وسلّم تسليمًا كثيرًا لا ينقضي ولا يَبِيد.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، واحذروا الغَفَلات والزلاّت، واهْتَبِلوا شريف الأوقات في الباقيات الصالحات.
إخوة الإيمان، ولئن انْصَبّ الحديث ونحن في فترات الإجازات على قيمة الأوقات وانتهازها، فلا يتبادر إلى فهم المحبّ اللبيب كون الحياة مجرّد كَدْحٍ ونَصَبٍ وعناءٍ، كلا! فللتّرْويح البريء وإجْمَام النفس من وَعَثِ الأعباء حَضٌّ وفُسْحَة في شريعتنا بحمد الله، وهو مَقْصِد من المقاصد الشرعية، ومُتطلّب من متطلّبات الفطرة السويّة في النفس البشرية، ولكن بمعايير وضوابط تحفظ الدين، وتجمع المروءة، وتُرطّب النفس، وتحدو بها في رَزَانة وأَناة.
أيها الأحبة في الله، ومن لمَحَات استثمار الإجازات ما يُؤمَّل من الآباء والأمهات في تحمّل العِبء الأكبر في هذه الإجازة الصيفية وسواها من مراقبةٍ مسؤولةٍ لبناتهم وأبنائهم، والأخذ بِحُجَزِهم عن مواطن الاختلاط والرِّيبة، وعن ذَرْع الأسواق والطرقات، كما هو دَيْدَن الخرّاجين والوَلاّجِين والخرّاجات والولاّجات، ودَعِّهم دَعًّا عن موجات التغريب والعولمة وصيحات التقليد وموضات التشبّه وتَقْلِيعات الانفتاح اللا منضبط، التي زَمْجَرَت أمامهم، فخَلّفت كثيرًا منهم مُذَبْذَبين صَرْعَى، والنبي يقول: ((إن الله سائلٌ كلَّ راع عما استرعاه حفظ أم ضيّع، حتى يَسأَلَ الرجلَ عن أهل بيته)) رواه ابن حبّان في صحيحه[1]. يقول العلامة ابن القيم رحمه الله: "فمن أَهْمَلَ تعليم ولده ما ينفعه، وتركه سُدى فقد أساء إليه غاية الإساءة، وأكثر الأولاد إنما جاء فسادهم من قِبَل الآباء وإهمالهم".
وهنا مَلْحَظٌ مهمّ في إيلاء قضية أخواتنا وبناتنا وفتياتنا نصيبًا أكبر من الاهتمام والعناية والطَّرْح والتركيز والرعاية، في أَطْرِهنّ على الحجاب والحِشْمة والعِفّة والحياء، والمحافظة عليهنّ من دُعاة السُّفور والتبرّج والاختلاط، لا سيّما في هذا الزمن الذي زُجَّ فيه بالمرأة في سَرادِيب من الأُطروحات المثيرة، والزَّوْبَعَات الخطيرة، متناسين قضاياها الكبرى وأولوياتها العُظمَى، يتولّى كِبْرَ ذلك أربابُ فكر مهزوم، ويَتَلَقّفه في سياق محموم ذوو وذوات أنفس مريضة، لا تُقدِّرُ للأمة المصالح، ولا تَدْرأ عن المجتمع المفاسدَ والقبائحَ، وما يبلغ الأعداءُ من جاهل ما يبلغ الجاهلُ من نفسه.
كما أنّ ثَمّةَ هَمْسةً لطيفة لكل من عقد العزم على الاصطياف والسياحة، فحيث إن الإجازة الصيفية مَوْئلُ نُقْلَة ورِحْلة نُزْجِي لَفْتَةً بَرَّة للذين يَجْمَحُون للأسفار خارج مَغَانينا المَخْمَلِيّة الفَيْحَاء أن اتقوا الله حيثما كنتم، اتقوا الله في أوقاتكم، اتقوا الله في أُسَركم وذَرَارِيكم وأموالكم وجوارحكم، أَعَدَلْتُم عن الحياة المطمئنّة ومَسَرّاتها، وطلبتم الإفلاس والعِلَل وويلاتها؟! اتقوا الله ربكم، ففي مَصايفنا الغَرِدَة الغَنَّاء غَنَاءٌ لكم عن تلك الأسفار المُرِيبة وأيّ غَنَاء، فيا لأصالة المَبْنَى، وسُموّ المعنى، وطِيب المَغْنَى، ويا لله ما أجملَ الرُّبَا، وما أطيبَ المُصْطَاف والمُتَرَبّعَا.
[1] صحيح ابن حبّان (4492)، وأخرجه النسائي في الكبرى (5/374) ـ ومن طريقه أبو نعيم في الحلية (9/235) ـ، والطبراني في الأوسط (2/197)، من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، وأعلّه البخاري بالإرسال فيما نقله عنه الترمذي في جامعه (4/208)، وبالتفرّد النسائي والطبراني وأبو نعيم، وأورده الألباني في السلسلة الصحيحة (1636).
ــــــــــــــــــــ(67/275)
عوائق في طريق الزواج
...
...
4412
...
الأسرة والمجتمع, فقه
...
...
المرأة, النكاح, قضايا المجتمع
...
صالح بن محمد آل طالب
...
...
مكة المكرمة
...
2/6/1426
...
...
المسجد الحرام
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- أهمية الزواج وفضائله. 2- الآثار السيئة لظاهرة تأخير الزواج. 3- غلاء المهور والمبالغة في تكاليف النكاح سبب في إعاقة الزواج. 4- وجوب رضا الفتاة في الزواج وأثره على حياتها الزوجية. 5- صور من منكرات الأفراح. 6- أهمية تهيئة الفتيات للحياة الزوجية.
الخطبة الأولى
أما بعد: أيها الناس، إن أصدقَ الحديث كتابُ الله، وخيرَ الهدي هديُ محمد ، وشرَّ الأمور محدثاتها، وكلَّ محدثة بدعة، وكلَّ بدعة ضلالة، وكلَّ ضلالة في النار.
ثم اتقوا الله تعالى أيها المؤمنون، واعلموا أنكم غدًا بين يدي الله موقوفون، وبأعمالكم مَجْزِيّون، يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1]، وإياكم والتسويف؛ فإن طول الأمل يُنسِي الآخرة، واتّباع الهوى يصدّ عن الحق.
أيها المسلمون، لقد جَبَل الله تعالى النفوس على الفطرة، وصيّرها مُنجذِبة إليه، ومن رحمته وحكمته أن جعل الشريعة داعية إليها، والسعادة والثواب لمن سار عليها، ومن ذلك الارتباط بين الذكر والأنثى بالزواج.
عباد الله، لا يجادل عاقل في أهمية الزواج وفضائله، ومنزلة النكاح وفوائده، وأنه السبيل الطَبَعِي لاستقرار النفوس، وسَكَن القلوب، واستقرار المجتمع ونمائه، فهو الطمأنينة والسَّكَن، وبه تنتظم الحياة، وفي بحره تتدفّق أنهار المشاعر، وفي حِمَاه يَنْسِلُ الجيلُ الصالح، وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الروم:21].
بالزواج يَنشُر الطُّهْرُ ضياءَه، ويُسْدِل العَفَافُ رداءَه، ويحصل الإحصان لمن استطاع الباءة، عندها تنحسِر المنكرات، وتظهر الخيرات والبركات، ويعيش المجتمع رفاهية الأمن الخلقي ورغد العيش الاجتماعي. لقد جعل الله تعالى الزواج فضيلة، وجعله سنة أنبيائه فقال سبحانه مخاطبًا خليله: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً [الرعد:38].
لذا ولأجل ما فيه من المصالح العظيمة فقد رَغَّبَت شريعة الإسلام في الزواج، وحثّت على تيسيره وتسهيل طريقه، ونهت عن كل ما يقف في سبيله، أو يعوق تمامه، ويكدّر صفوه، فأمر الله تعالى به في قوله: فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً [النساء:3]، وقال المصطفى : ((يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغضّ للبصر وأحصن للفَرْج...)) الحديث، رواه البخاري ومسلم[1]. وقد أمر الله تعالى في كتابه بتزويج الأكفاء، ونهى عن عَضْل النساء، وبيّن في الكتاب والسنة الحقوق والواجبات بين الزوجين، داعيًا لتكوين الأسرة المسلمة واستصلاحها، فهي أساس المجتمع الذي يقوى ويشتدّ بقدر تماسك وترابط أسره.
أيها المسلمون، إن كل من يهمّه أمر مجتمعه وأمّته، ويحبّ الخير لأهل ملّته يلتمس الوسائل المفيدة لتنمية هذا الجانب، والسعي في إنجاح الحياة الزوجية لكل مسلم، والتحذير من كل ما يعيق مسيرة الزواج، كما يُقلِق الغيورَ ما يرى من فشل بعض الزِّيجات، أو حين يرى أشواك المشاكل الأسرية تنبت في بعض البيوتات؛ لذا كان لزامًا على كل عاقل أن يأخذ بالوسائل المفيدة لحياة زوجية سعيدة بإذن الله عزّ وجل.
عباد الله، الحديث عن الزواج حديث ذو شُجُون، وحسبنا في هذه الوقفة أن نعرّج على بعض الظواهر التي تسبق الزواج ولها أثر غير حسن على مسيرة الحياة؛ نصحًا للمسلمين، وتنبيهًا للغافلين.
فأوّلها ـ رعاكم الله ـ ظاهرة تأخير الزواج لدى الذكور والإناث بحجة إكمال الدراسة، أو الحصول على الوظيفة، أو القدرة المالية، أو عدم الرغبة في الارتباط المبكّر، أو غير ذلك من الأسباب، وهذا كله من كيد الشيطان وحبائله، يُذْكِي ذلك ما تُحْشَى به أدمغة الناس والشباب خاصّة من لَوْثَات الأفلام والمسلسلات والصحف والإذاعات والمجلاّت والقنوات، والتي أورثت رُكامًا هائلاً من التصوّرات الخاطئة عن الحياة الزوجية، وأفسدت أخلاق الناس، وقرّرت في نفوس مُتَلَقِّيها مبادئ مَغْلُوطَة، وقلبت المفاهيم، وفتحت على الناس باب شرٍّ عظيم.
إن تأخير الزواج مخالف للسنّة الشرعية كما هو مخالف للسنّة الفِطرية، وقد قرّر المتخصّصون في علم الاجتماع والحياة أنّ الزواج المبكّر هو أنجح الزِّيجات حتى ولو تعثّرت الظروف المادية، وأنه سبب رئيس لاستقرار الصحة النفسية والجسدية، وأن النبوغ والذكاء من الأطفال والصحة وانعدام الإعاقات الجسدية يكثر من الزِّيجات المبكّرة، هذا بالإضافة إلى اكتمال الدين والعَفاف وحصول الإحصان في بداية الحياة، وأن الزواج كان عاملاً رئيسًا في نجاح الكثيرين في حياتهم العملية.
وحينما تُفْتَعَل الحواجزُ والمعوّقاتُ أمام هذه السنّة الفِطرية فإن أثر ذلك يكون وبالاً على المجتمع بأسره، إنه لا تُعارض حقيقة بين الزواج ومتطلّبات الحياة الدنيوية، ذلك أنه جزءٌ من الحياة الطبيعية، والذي لا يجوز أن يُربَط بالمعوّقات والعَراقِيل الموهومة أو المُفْتَعَلَة من حَمْقَى البشر. كما أنّ المسلمين تجاه هذه السنّة الفِطرية الشرعية يجب أن تكون ثقتهم بالله تعالى، ويقينهم به لا بالمادّيات، وقد قال الحق سبحانه: وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [النور:32]، وعن أبي هريرة أن النبي قال: ((ثلاثة حقّ على الله عَوْنهم: المجاهد في سبيل الله، والمُكاتَب، والناكح يبغي العَفَاف)) رواه الترمذي والنسائي وابن ماجه[2].
وإذا غالى في المهور والشروط بعضُ السفهاء ممن اتخذوا بناتهم سِلَعًا كالرَّقِيق يُتاجِرون بها، ويُساوِمون عليها؛ ففي بقيّة النساء غُنْيَة. وكم من بيوت تتمنّى الكُفْء الذي يُسعِد ابنتَهم، ويحفظها بدينه وحُسن عِشرته، ويرضون من المَهْر باليسير، مُقتَدِين في ذلك بالنبي الذي قال: ((إن من يُمْنِ المرأة تيسير خِطْبتها وتيسير صَدَاقها)) رواه أحمد وابن حبان والحاكم بسند حسن[3]، وفي لفظٍ عند أحمد: ((أعظم النساء بركة أيسرهن مؤونة))[4]. إن إغلاء المهور، والمُباهَاة بها، وتقويم الخاطب بمقدار ما قدّم من مَهر؛ لهو صِغَرٌ في النفس، وانحدار في التفكير، ونقص في العقل، كما أن إرهاق الخاطب بالمهر الكثير، واشتراط الهدايا الكثيرة لأقارب الزوجة وأباعدها لهو جشع وطمع وانتهازية تورث الضغائن، وتُرهِق بالديون، وتُعيق مسيرة الزواج في المجتمع، ويسبّب بقاء الفتاة مدة طويلة بلا زواج، حتى تمتلئ البيوت بالعَوانِس، وهذا من صور العَضْل الذي حرّمه الله تعالى.
كما أنّ من أسوأ صور العَضْل حَجْر المرأة على أحد أبناء قرابتها، فلا يسمح لها وليّها بالزواج من غيره، ولو بقيت عانسًا طول حياتها! وهذه جريمةٌ كبيرة وأنانية مُفرِطة، تراعي أعرافًا بالية، وتخالف الشريعة الخالدة، إن المرأة لا يجوز أن تُجبَر على نكاح مَن لا تريد، وولاية أبيها عليها ولاية مُصلِحة لها وحفظ وصيانة وأمانة لا ولاية تسلّط وتجَبّر، وقد قال النبي : ((لا تُنكَح الأيّم حتى تُسْتَأمَر، ولا تُنكَح البِكْر حتى تُستأذَن))، فقالوا: يا رسول الله، فكيف إذنها؟ قال: ((أن تسكت)) رواه البخاري ومسلم[5]. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "ليس لأحد الأبوين أن يُلزِم الولدَ بنكاح من لا يريد، وأنه إذا امتنع لا يكون عاقًّا، وإذا لم يكن لأحدٍ أن يلزمه بأكل ما يَنْفِرُ منه مع قدرته على أكل ما تشتهيه نفسه؛ كان النكاح كذلك وأولى، فإنّ أَكْلَ المكروهِ مَرَارة ساعة، وعِشرة المكروه من الزوجين على طولٍ تؤذي صاحبه، ولا يمكنه فراقه" انتهى[6]. فإجبار المرأة على من لا تريد طَمَعًا في ماله أو جاهه أو بسبب قرابته ظلم وحرام، فعلى الأولياء إدراك ذلك. كما أنّ على الفتاة أن تتفهّم مشورة وليّها في القبول والرفض، وأن تكون المصلحة مَناط الاختيار.
أيها المسلمون، إن على الأولياء مسؤولية عظيمة تجاه الخاطب، انطلاقًا من قول النبي : ((والرجل راعٍ في أهله ومسؤول عن رعيته)) رواه الشيخان[7]. ولأنها أمانة يُسأل عنها يوم القيامة أدّاها أم ضيّعها، ولأن الفتاة غالبًا تعتمد على معرفة وليّها ومشورته، فعليه أن يتقي الله تعالى، وأن يستقصي في استظهار حال الخاطب ومعرفة كفاءته، فكم من امرأة صالحة عفيفة بُلِيت بزوج فاسقٍ لا يصلّي، أو يشرب المسكرات، ويُقارِف محرّمات، أو سيّء العشرة كَرِيه الخُلُق، ولا ذنب لها سوى تقصير وليّها وإهماله في السؤال عن ديانة الخاطب، مكتفيًا بالرضا بظاهر الحال، أو الثقة في أهل الخاطب وعشيرته! إن الكفاءة بصلاح الديانة وحسن الخلق، وقد قال النبي : ((إذا أتاكم من ترضون دينه وخُلُقه فزوّجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير)) رواه الترمذي وابن ماجه[8].
وليعلم من جعل همّه السؤال عن الجاه والمنصب والمال، وتغاضى عن سوء الديانة؛ أنّ من خان الله ورسوله لا يمكن أن يؤتمن على ابنته، ويقال ذلك للخاطب أيضًا، فكم من رجلٍ اشترط كل الشروط الدنيوية في مخطوبته، ولكنّ الدين كان آخر اهتماماته، بل ربما ليس في حساباته، ثم يكتشف أنها لا تصلح زوجة؛ لنقص دينها وخُلُقها! وقد روى البخاري ومسلمٌ أن النبي قال: ((تُنكَح المرأة لأربع: لمالها ولحسبها ولجمالها ولدينها، فاظفر بذات الدين تَرِبَت يداك))[9]. وليعلم الخاطب أن المُقَصِّرَة في حق الله لن تقوم بحق الزوج والأولاد على الكمال.
ويتبع هذه المسألة تنبيه المستشار والمسؤول عن الخاطب أن يتقي الله تعالى فيما يقول وفيما يشير به، فقد تأخذ بعضَ الناس الحَمِيّةُ أو العَجَلةُ فيبالغ في الثناء والمدح أو في الذم والقدح، وهو لم يحط علمًا بما استشير فيه، يظن ظنًّا وليس بمستيقِن، فهذا غشٌ وخيانة للأمانة، وقد قال النبي : ((المستشار مُؤتَمَن)) رواه أبو داود بسند صحيح[10].
أيها المسلمون، لقد أُحيطت بعض حفلات الأعراس بهالةٍ من التكاليف والمبالغات والمخالفات والمنكرات، وتضخّمت حتى أصبحت عَقَبة كَأْدَاء أمام إتمام الزواج، بل تجاوزت تكاليفها قيمة المهر أضعافًا. وتُرِك القِياد فيها للنساء والسفهاء، وتعظم المصيبة إذا صحبتها المنكرات والمعاصي، فأيّ بركة تُرجَى، وأيّ توفيق يُؤمّل إذا استُفْتِحَت الحياة الزوجية من أوّل ليلة بالمنكرات، ومعصية ربّ الأرض والسماوات، الذي يملك وحده التوفيق، وبيده سبحانه القلوب يصرّفها كيف يشاء؟!
إن الاختلاط بين الرجال والنساء غير المحارم، وجَلْب المغنّين والمغنّيات بالمعازف وآلات الطرب، وتضييع الصلوات، وكشف العورات بالذات بين النساء، حيث التعرّي في لباس الحفلات، والتصوير العلني والتصوير الخفي؛ كل ذلك يُعدّ كفرًا بالنعمة لا شكرًا، وتمرّدًا وبَطَرًا لا فرحًا، ناهيك عن الإسراف والمباهاة في التجهيز والحفلات، لماذا كل هذا؟ ألا يتمّ الفرح إلا أن يُحاط بالمخالفات الشرعية، وإن لم يوفّق مخذول فليعلم من أين أُتي.
إن المعاصي والذنوب تهلك الدول، وتزلزل الممالك، فكيف بالبيوت الصغيرة؟! أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ [التوبة:109].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بسنة سيد المرسلين. أقول قولي هذا، وأستغفر الله تعالى لي ولكم فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] صحيح البخاري: كتاب الصوم (1905)، صحيح مسلم: كتاب النكاح (1400) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
[2] سنن الترمذي: كتاب فضائل الجهاد (1655)، سنن النسائي: كتاب الجهاد (3120)، سنن ابن ماجه: كتاب الأحكام (2518)، وأخرجه أيضًا الإمام أحمد (2/251، 437) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال الترمذي: "هذا حديث حسن"، وصحّحه ابن الجارود (979)، وابن حبان (4030)، والحاكم (2678)، وحسّنه الألباني في غاية المرام (210).
[3] مسند الإمام أحمد (6/77)، صحيح ابن حبان (9/405)، مستدرك الحاكم (2/197) من حديث عائشة رضي الله عنها، قال الهيثمي في المجمع (4/469): "رواه أحمد، وفيه أسامة بن زيد بن أسلم وهو ضعيف وقد وُثِّق، وبقية رجاله ثقات"، وانظر: إرواء الغليل (6/350).
[4]مسند الإمام أحمد (6/145)، وأخرجه أيضًا النسائي في الكبرى (5/ 402)، والبيهقي في السنن (7/235)، وصحّحه الحاكم (2/ 178)، وفي سنده ابن سَخْبَرة لا يُدرَى من هو، ولذا ضعّف الألباني هذا الحديث في السلسلة الضعيفة (1117).
[5] صحيح البخاري: كتاب النكاح (5136)، صحيح مسلم: كتاب النكاح (1419) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[6] مجموع الفتاوى (32/30).
[7] صحيح البخاري: كتاب الجمعة (893)، صحيح مسلم: كتاب الإمارة (1829) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
[8] سنن الترمذي: كتاب النكاح (1084)، سنن ابن ماجه: كتاب النكاح (1967) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وصححه الحاكم (2/164، 165), وتعقّبه الذهبي بأن فيه عبد الحميد بن سليمان قال فيه أبو داود: "كان غير ثقة"، وفيه أيضًا ابن وثيمة لا يعرف، ثم اختلف في إسناده، ورجّح البخاري إرساله فيما نقله عن الترمذي، وللحديث شواهد يتقوّى بها، ولذا حسّنه الألباني في السلسلة الصحيحة (1022).
[9] صحيح البخاري: كتاب النكاح (5090)، صحيح مسلم: كتاب الرضاع (1466) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[10] سنن أبي داود: كتاب الأدب (5128)، وأخرجه أيضًا الترمذي في الأدب (2822)، وابن ماجه في الأدب (3745) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال الترمذي: "حديث حسن"، وأورده الألباني في السلسلة الصحيحة (1641).
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه.
أما بعد: إن من حسن التربية وأداء الأمانة تهيئة الفتاة لحياتها الزوجية، وتعليمها وتربيتها لتحمّل المسؤوليات وإحسان التصرف تجاه مطالب الحياة، وإنك لتأسى لحال فتاة تُزفّ لبيتها الجديد لتمضي فيه حياتها وهي لا تعرف الحقوق والواجبات، ولا كيف تتعامل مع الرجل وأهله وقرابته، وكيف تُربّي الأولاد، وتتصرّف معهم، ولا كيف تدير شؤون منزلها وتدبّره، ممّا أفرز حالات كثيرة من الشِّقاق، ورفع مُعدّلات الطلاق.
إن الواجب على الوالدين وأهل التربية والتعليم والقائمين على المناهج وأرباب الأقلام والإعلام أن يبذلوا جهودًا مخلصة للتوعية والتثقيف للبنين والبنات. وما الفائدة من الدراسة سنين طويلة إذا كانت لا تُعلِّم مبادئ الحياة؟! إن الجميع بحاجة ماسّة إلى التربية قبل الزواج على التزام حدود الله في النكاح، والتعبّد لله بالعشرة بالمعروف والخلق الحسن، والتعاون على البرّ والتقوى، والبُعد عن الأنانية، وكذا إدراك مفهوم القِوَامة الشرعي والإقرار به، وأنه حفظ وصيانة وضبط وتربية وحسن إدارة ومسؤولية يُسأل عنها يوم القيامة، ((كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته، فالرجل راعٍ ومسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها))[1].
وإذا صلحت النيّات، وأُدِّيت الواجبات رَفْرَفَتِ السعادة والهناء، وعَمّ التوفيق كل الأرجاء، ومن لزم الدعاء، وأخلص لله بصدق الرجاء فلن يُخيّب أمله، ولن يُضيع عمله.
هذا وصلّوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه، فقال سبحانه: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56]، اللهم صلِّ وسلّم وبارك على عبدك ورسولك محمد خاتم الأنبياء...
[1] أخرجه البخاري في الجمعة (893)، ومسلم في الإمارة (1829) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
ــــــــــــــــــــ(67/276)
توجيهات ووصايا للأسرة المسلمة
...
...
4413
...
الأسرة والمجتمع, فقه
...
...
الأبناء, المرأة, النكاح, الوالدان
...
عبد المحسن بن محمد القاسم
...
...
المدينة المنورة
...
2/6/1426
...
...
المسجد النبوي
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- نعمة الفراغ والصحة. 2- مسؤولية الآباء تجاه أبنائهم. 3- عامة فساد الأولاد يكون من قِبَلِ الآباء. 4- فتن البيوت المشكلة والعلاج. 5- الزواج المبكر من أعظم أسباب صلاح الأبناء والفتيات. 6- أهمية مرحلة الشباب. 7- نماذج من سلف الأمة ممن اغتنم شبابه فنشأ على الطاعة والعبادة والعلم. 8- وصايا للشباب المسلم. 9- وصايا وتوجيهات للأم. 10- وصايا للفتاة المسلمة.
الخطبة الأولى
أما بعد: فاتقوا الله ـ عباد الله ـ حقَّ التقوى، فتقوى الله نور في القلب وبشرى في المنقلب.
أيها المسلمون، الأعمار تطوى والأيام تفنى، والعبد يعاقب على تفريطه في زمانه، ويثاب على اغتنام أيامه، وعمارةُ الأوقات بالطاعة مما يَغْبِنُ به العباد بعضهم بعضًا، قال عليه الصلاة والسلام: ((نعمتان مغبون فيهما ـ أي لا يعرف قدرهما ـ كثيرٌ من الناس: الصحة والفراغ)) رواه البخاري[1].
قال ابن الجوزي: "من استعمل فراغه وصحته في طاعة الله فهو المغبوط، ومن استعملها في معصية الله فهو المغبون". وفي شباب اليوم من يضيع الأوقات في الإجازة، ويفرط في الطاعات، وعلى الآباء عبء ثقيل في إصلاح أبنائهم وإرشادهم، فبأيديهم القيامة والرعاية. وعقوق الأبناء آباءهم، وضعف تمسكهم بدينهم، وانحراف سلوكهم وأخلاقهم من قصور القيام بواجبِ الولاية عليهم، وغفلة الأولياء عنهم والتقصير في السؤال عن أحوالهم خلل في التربية.
قال ابن القيم رحمه الله: "وإذا اعتبرت ـ أي تأملت ـ الفساد في الأولاد، رأيت عامته من قِبَلِ الآباء، والانغماس في لهو الحياة وزخرفها، والإعراض عن الأسرة إضاعة للأبناء، وميزان الشرع في ذلك قول المصطفى : ((وإن لنفسك حقًا، ولأهلك حقًا)) رواه البخاري[2]. وإهمال مراقبتهم وعدم تفقّد صحبتهم من نقص النصح لهم، والمال في أيدي الشباب مع قصور حُسْنِ التصرف فيه مفسدة لهم، وإنما ينفق عليهم بقدر حاجتهم من غير تبذير ولا تقتير، ووضع الملهيات في البيوت من القنوات ونحوها لها تأثير على المعتقد الصحيح، وفيها دُربة على الجريمة، وتسرّب فضلات الانحراف، وضررها بابٌ على الأسرة، قال عز وجل: مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ [النساء:123].
وهي من أسباب حيرة عقول الشباب واضطراب أفكارهم؛ لما فيها من تناقض وتضارب في الأقوال، ولطرحها مسلمات من أحكام الشريعة، وجعلها أداةً للجدل والآراء البشرية، مما لا يتفق مع ما يحب على كل مسلم من التسليم والقبول لنصوص الوحي وأحكام الشريعة.
والفتن في البيوت داءٌ من استشرف عليها أخذته، ودواء الفتن نبذها والإعراض عنها والحذر من مغبتها. وقرب الوالدين من أبنائهم مِلء لفراغ قلوبهم، ومنع لهم من قرناء السوء، وفي الأولياء من هو مُعْرِضٌ عن أبنائه بمنأى عنهم بروحه وجسده، متوانٍ عن أسباب هدايتهم، وواجبٌ على الأب أن يكون قدوةً صالحة لأبنائه بالتمسك بالدين، والبعد عن الخطايا والسيئات، والتوجيه السوي المصحوب بالرفق خير معين على استقامتهم، مع الصبر والرفق واللين معهم، وإذا لم يتسع الصبر عليهم تلقفهم أهل الانحراف والشرور.
والزواج المبكر من أعظم أسباب صلاح الأبناء والفتيات، عملاً بوصية النبي : ((يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج)) متفق عليه[3]. وتأخير الزواج يوقع الشباب والنساء في أمور تسوء العاقبة فيها، والإخلاص في تربية الأولاد وتوجيههم عبادة عظيمة يؤجر عليها الوالدان، وهي من أعمال أهل الجنة، قال عليه الصلاة والسلام: ((من عال جاريتين حتى تبلغا ـ أي قام عليهما بالمؤونة والتربية ـ جاء يوم القيامة أنا وهو)) وضم أصابعه. رواه مسلم[4]، وللترمذي: ((دخلت أنا وهو الجنة كهاتين)) وأشار بإصبعيه[5].
ودعاءٌ مستجاب ممنوح من الكريم سبحانه للوالد في دعائه لأبنائه، قال المصطفى : ((ثلاث دعوات يستجاب لهم لا شك فيها: دعوة المظلوم، ودعوة المسافر، ودعوة الوالد لولده)) رواه ابن ماجه[6]. وتُسر الأفئدة بحسن العاقبة في جني ثمار صلاحهم، قال عز وجل: أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِلَهًا وَاحِدًا [البقرة:133].
أيها الشباب، سِّنُّ الشباب من النعم التي لا تدوم، قال عليه الصلاة والسلام: ((اغتنم خمسًا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك)) رواه الحاكم[7].
والشاب يحاسب على إهمال فتوته وتقصيره فيها، قال النبي : ((لا تزول قدما ابن آدم يوم القيامة من عند ربه حتى يُسأل عن خمس: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وماذا عمل فيما علم)) رواه الترمذي[8].
ومن حفظ شبابه بالطاعة أظله الله تحت ظل عرشه، قال عليه الصلاة والسلام: ((سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله)) وذكر منهم ((شاب نشأ في عبادة الله)) رواه البخاري[9].
ومن مَلَكَ هواه في حال شبيبته أعزَّه الله في كهولته، وفي سلف الأمة من اغتنم شبابه فنشأ على الطاعة والعبادة والعلم، كان ابن عباس رضي الله عنهما يتهجد الليل وهو ابن عشر سنوات، قال رضي الله عنه: (صليت مع النبي فقمت إلى جنبه عن يساره، فأخذني فأقامني عن يمينه، قال: وأنا يومئذ ابن عشر سنين) رواه أحمد[10].
وصَنَّفَ الإمام البخاري رحمه الله كتاب التاريخ الكبير وعمره ثمانية عشر عامًا، قال: "صنفته في الليالي المقمرة". والذهبي قرأ القرآن على مسعود الصالحي أربعين ختمة، وعبد الملك بن عمر بن عبد العزيز توفي وهو في التاسعة عشر من عمره، وكان في شبابه مجتهدًا في العبادة، ومع قدرته في الدنيا وتمكنه منها، كان راغبًا عنها مقبلاً على الله. قال ابن رجب رحمه الله: "ففي ذكر مثل أخبار هذا السيد الجليل مع سِنِّه، توبيخ لمن جاوز سِّنَه وهو بطال، ولمن كان بعيدًا عن أسباب الدنيا وهو إليها ميال، فاغتنم زهره العمر وجانب قرناء السوء، ففي صحبتهم ندامة، قال جل شأنه: وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً يَا وَيْلَتِي لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلاً [الفرقان:26، 27].
والمرأة فتنة فاجتنب فتنتها وكن بمعزل عنها، وإياك والحديث مع من لا تحل لك، فالحرام متعته زائلةٌ ثم تعقبه حسرة، ومن اتبع هواه كانت نهايته الذّلَّ والصغار والبلاء.
وللطاعة لذة وسرور، وبر الوالدين من أسباب السعادة، والصلاة مع جماعة المسلمين عصمة لك من الشرور.
أيتها الأم، الأم يترعرع في أحضانها العظماء والنبلاء في الأمة، ثمرة حسن الرعاية والتوجيه من أمهاتهم، يقول الشافعي رحمه الله: "نشأت يتيمًا وأنا بالشام، فجهزتني أمي للسفر إلى مكة لطلب العلم وأنا ابن عشر سنين"، قال: "ولم يكن عندها ما تعطيني ما أشتري به القراطيس، فكنت أنظر إلى العظم فآخذه فأكتب فيه". ويقول الإمام مالك رحمه الله: "ألبستني أمي وأنا صبيٌ لباس العلم، ثم قالت: اذهب إلى الإمام ربيعة فتعلم من أدبه قبل علمه".
فالأم تشاطر زوجها أمانة إصلاح أبنائه، وإبعاد الشرور وأسباب الفتن من دورهم، قال عليه الصلاة والسلام: ((والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها)) متفق عليه[11]. فعليها أن لا تهمل أمانتها، وأن لا تغلب جانب راحة أبنائها ورحمتهم على توجيههم وأمرهم بأوامر الشريعة.
أيتها الفتاة، الحياء نعت جمالٍ في المرأة، والأمم تُمدح باتصاف نسائها بالحياء، قال سبحانه في قصة موسى: فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ [القصص:25]. وذات الحياء المانع حياؤها على ترك القبيح موعودة بالجنة، قال النبي : ((الحياء من الإيمان والإيمان في الجنة)) رواه الترمذي[12]. وقال: "حديث حسن صحيح".
قال أهل العلم: "ومن لم يستح من الله من معصيته، لم يستح الله من عقوبته". والحياء يُصان بالقرار في البيوت، وبملازمة الحجاب والستر والاحتراز من الحديث مع الرجال الأجانب، والحذر من سموم الفضائيات، فالمعاصي تذهب السعادة، يقول عمر بن الخطاب : (النساء عورة، فسترها بالبيوت).
وفي المجتمع نساء صالحات حافظات للغيب، ملازمات لكتاب الله العظيم، مستمسكات بالحجاب والحياء ملازمات للدين، فبمثلهن يفخر المجتمع.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني الله وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
صحيح البخاري كتاب الرقاق، باب: لا عيش إلا عيش الآخرة (6412)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.[1]
[2]صحيح البخاري كتاب التهجد، باب: ما يكره من ترك قيام الليل لمن كان يقومه (1153). وأخرجه مسلم بنحوه في الصيام (1159). من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
[3]صحيح البخاري كتاب النكاح، باب: من لم يستطع الباءة فليصم (5066)، وصحيح مسلم كتاب النكاح (1400). من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.
[4]صحيح مسلم كتاب البر والصلة (2631)، من حديث أنس رضي الله عنه.
[5]سنن الترمذي كتاب البر والصلة، باب: ما جاء في النفقة على البنات والأخوات (1914). وقال: "هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه". وصححه الألباني في صحيح الترمذي برقم (1563).
[6]سنن ابن ماجه كتاب الدعاء، باب: دعوة الوالد (3862) واللفظ له، وأخرجه أيضا أحمد (2/258، 348، 478، 517، 523)، وأبو داود في الصلاة، باب: الدعاء بظهر الغيب (1536)، والترمذي في الدعوات، باب: ما ذكر في دعوة المسافر (3448). عن أبي هريرة رضي الله عنه، وحسنه الترمذي، وصححه ابن حبان (2699)، والقرطبي في تفسيره (13/223)، والألباني في صحيح سنن ابن ماجه (3115).
[7]هو في مستدركه (4/341) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. وقال : "صحيح على شرط الشيخين" ، ولم يتعقبه الذهبي، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (3355). لكن ذكر له البيهقي في الشعب علّة (7/263) وهي أن الصحيح أنه من رواية عمرو بن ميمون الأودي مرسلاً، كذا أخرجه ابن المبارك في الزهد (ص2)، وابن أبي شيبة في المصنف (7/77)، وصححه الحافظ في الفتح (11/235).
[8]سنن الترمذي كتاب صفة القيامة (2416). وقال: "هذا حديث غريب، لا نعرفه من حديث ابن مسعود عن النبي إلا من حديث الحسين بن قيس، وحسين بن قيس يضعّف في الحديث من قبل حفظه، وفي الباب عن أبي برزة وأبي سعيد". وله شاهد أيضاً من حديث معاذ رضي الله عنه، ولذا حسنه الألباني في الصحيحة (946).
[9]صحيح البخاري كتاب الأذان، باب: من جلس في المسجد ينتظر الصلاة، وفضل المساجد (660)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وأخرجه أيضا مسلم في الزكاة (1031).
[10]مسند الإمام أحمد (1/364). والحديث أصله في صحيح البخاري كتاب الأذان، باب: إذا لم ينو الإمام أن يؤم ثم جاء قوم (699)، وصحيح مسلم كتاب صلاة المسافرين وقصرها (763). دون قول ابن عباس: (وأنا يومئذ ابن عشر سنين) فقد تفرد بها رشدين بن كريب وهو ضعيف.
[11]صحيح البخاري كتاب الجمعة، باب: الجمعة في القرى والمدن (893). وصحيح مسلم كتاب الإمارة (1829)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
[12] سنن الترمذي كتاب البر والصلة، باب: ما جاء في الحياء (2009)، وأخرجه أيضا أحمد (2/501)، وابن ماجه في الزهد، باب: الحياء (4184)، والحاكم وصححه (1/52). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. قال الترمذي: "حسن صحيح". وصححه الألباني في صحيح الترمذي (1634).
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه.
أما بعد:
فالأسرة تسعد بطاعة الله ورسوله، وصلاح أفرادها صلاحٌ للمجتمع، وفي البعد عن الفتن سلامة الدين، والتفقه وسؤال أهل العلم، وبذل الأسباب بالحكمة من أهم أسباب صلاح المجتمع وسعادة أفراده.
ثم اعلموا أن الله أمركم بالصلاة والسلام على نبيه، فقال في محكم التنزيل: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56]. اللهم صل وسلم على نبينا محمد ...
ــــــــــــــــــــ(67/277)
الوالدان
...
...
4532
...
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
...
...
الكبائر والمعاصي, الوالدان, فضائل الأعمال, مكارم الأخلاق
...
حمود بن عبد الله إبراهيم
...
...
الدمام
...
...
...
جامع بلاط الشهداء
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- أهمية بر الوالدين ومنزلته. 2- وجوب طاعة الوالدين في غير معصية. 3- ما جاء في حق الأم على ولدها. 4- ما جاء في حق الأب على ولده. 5- فوائد بر الوالدين. 6- التحذير من عقوق الوالدين. 7- نماذج من بر السلف بآبائهم.
الخطبة الأولى
أما بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى، فهي وصية الله لنا ولمن قبلنا: وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللهَ [النساء:131].
أيها الإخوة، حديثنا اليوم عن عبادة من أفضل القرب التي تقرّبنا إلى ربنا عز وجل، وهي سبب لحصول الرزق والتوفيق إلى كل خير في الدنيا والآخرة. ونظرًا لأهميتها فقد قرنها الله مع عبادته في مواضع كثيرة من كتابه العزيز، فمن ذلك قوله تعالى: وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِى صَغِيرًا [الإسراء:23، 24]، إنها عبادة بر الوالدين.
ونظرًا لعظم حق الوالدين فإن الله جل شأنه قرن شكره بشكرهما، فقال تعالى: أَنِ اشْكُرْ لِى وَلِوالِدَيْكَ [لقمان:14]، حيث إن بر الوالدين من أحب الأعمال إلى الله وأفضلها بعد الصلاة، وهو مُقدَّم حتى على الجهاد في سبيل الله، سئل النبي : أي العمل أحب إلى الله؟ قال: ((الصلاة على وقتها))، قيل: ثم أي؟ قال: ((بر الوالدين))، قيل: ثم أي؟ قال: ((الجهاد في سبيل الله)) متفق عليه، وروى مسلم في صحيحه: أقبل رجل إلى النبي فقال: أبايعك على الهجرة والجهاد أبتغي الأجر من الله عز وجل، قال: ((فهل من والديك أحد حي؟)) قال: نعم، بل كلاهما، قال: ((فتبتغي الأجر من الله عز وجل؟)) قال: نعم، قال: ((فارجع إلى والديك فأحسن صحبتهما))، وفي رواية البخاري أنّ رَجُلاً جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ فَاسْتَأْذَنَهُ فِي الْجِهَادِ فَقَالَ: ((أَحَيٌّ وَالِدَاكَ؟)) قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: ((فَفِيهِمَا فَجَاهِدْ))، وفي حديث إسناده جيد أن رجلاً قال: يا رسول الله، إني أشتهي الجهاد ولا أقدر عليه، قال: ((هل بقي من والديك أحد؟)) قال: نعم، أمي، قال: ((قابل الله في برّها، فإذا فعلت ذلك فأنت حاج معتمر ومجاهد)).
وقال رجل لابن عباس : إني نذرت أن أغزو الروم، وإنّ أبواي منعاني، فقال: (أطع أبويك؛ فإن الروم ستجد من يغزوها غيرك)، حتى إن سفيان الثوري ذهب إلى أبعد من ذلك فقال: "لا يغزو إلا بإذنهما، وإن كانا مشركين".
أيها الإخوة، مما يؤكد فقه الصحابة لمسألة بر الوالدين ما حدث في قصة كلاب بن أمية المشهورة، فقد أرسل عمر بن الخطاب كلابًا أميرًا على جيش للجهاد في إحدى الغزوات، وعندما علم أبو كلاب برحيل ابنه تأثّر تأثّرًا شديدًا لفراق ابنه كلاب، وقال هذه الأبيات المحزنة:
لِمن شَيْخَانِ قد نَشَدَا كِلابَا كتابَ الله لو عَقَلَ الكتابَا
أُنادِيهِ فيُعْرِضُ فِي إبَاءٍ فلا وأبي كلابٍ ما أصابا
إذا سَجَعَتْ حَمامةُ بَطْن وادٍ إلى بيضاتِها أدعو كِلابا
تركتَ أباك مُرْعِشَةً يداه وأمّكَ ما تسِيغُ لها شَرابا
فإنك والتماس الأجر بعدي كباغي الماء يلتمس الشَّرابا
فسمع عمر بن الخطاب هذه الأبيات من أبي كلاب، فاستدعى كلابًا على الفور، وعندما حضر كلاب وأبوه لا يعلم بحضوره، فسأله عمر: كيف كان برّك بأبيك؟ فقال: إني أحلب له كل يوم وأسقيه اللبن، فقال له عمر: احلب هذه الشاة، واستدعى عمر أبا كلاب وقدّم له اللبن وهو لا يشعر بوجود ابنه عند عمر، فقال الأب: إني لأشم رائحة يدَي كلاب، فبكى عمر وقال لكلاب: جاهد في أبويك. قال ابن عبد البر: "هذا الخبر صحيح".
أيها الإخوة، ومما يؤكد عظم حق الوالدين أنهما حتى لو كانا كافريْنِ فيجب برّهما، فَعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنهمَا قَالَتْ: يا رسول الله، إن أمي قدمت علي وهي راغبة مشركة، أفأصِلها؟ قال: ((نَعَمْ، صِلِي أُمَّكِ)) رواه البخاري.
بل الأمر ـ أيها الإخوة ـ أعظم من كونهما كافرين، بل وحتى لو كانا يأمران ولدهما المسلم أن يكفر بالله فيجب أن يبرهما، ويحسن إليهما، لكن لا يطيعهما في الكفر، قال تعالى: وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [لقمان:15].
أيها الأخ المسلم، إن حق أمك عليك عظيم جدًّا، ولو تأمّلت ما في هذه الأدلة التي سأذكرها لنذرت نفسك لخدمتها ليلاً ونهارًا، ولن تستطيع أن توفّيها شيئًا من حقها عليك، قال تعالى: وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْرًا [الأحقاف:15]. وروى البخاري أنه جاء رجل إلى النبي فقال: من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: ((أمك))، قال: ثم من؟ قال: ((أمك))، قال: ثم من؟ قال: ((أمك))، قال: ثم من؟ قال: ((أبوك))، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: (إني لا أعلم عملاً أقرب إلى الله من برّ الوالدة)، وقال هشام بن حسان: قلت للحسن: إني أتعلم القرآن، وإن أمي تنتظرني بالعشاء، قال الحسن: "تعشَّ العشاء مع أمك تقر به عينها، فهو أحب إلي من حجة تحجها تطوّعًا"، وقال : ((دخلت الجنة فسمعت قراءة، فقلت: من هذا؟ فقيل: حارثة بن النعمان، فقال: كذلك البر))، وكان أبر الناس بأمه. والحديث في السلسلة الصحيحة.
أيها الإخوة، وقد وردت نصوص أيضًا في فضل وعظم حق الوالد عند الله عز وجل، قال النبي : ((رضا الرب في رضا الوالد، وسخط الرب في سخط الوالد)) والحديث رواه الترمذي وصححه ابن حبان.
ومن عظيم مكانة الوالد أن الله يستجيب دعاءه على ولده، فقد قال : ((ثلاث دعوات مستجابات لا شك فيهن: دعوة الوالد، ودعوة المسافر، ودعوة المظلوم)) حديث حسن.
فاسع ـ أخي المسلم ـ في إرضاء والدك حتى تنال الخير العظيم، وتوفّق في أولاد يحسنون إليك كما أحسنت أنت إلى أبيك، واحذر أن تعقّه فيدعو عليك.
أيها المسلمون، إن لبر الوالدين فوائد كثيرة تعود على الولد، فلماذا نفرط في هذا الخير العظيم؟!
فمن هذه الفوائد سعة الرزق وطول العمر، فعن رسول الله قال: ((من سرّه أن يُمَدَّ له في عمره ويُزادَ له في رزقه فليبرّ والديه وليصل رحمه)) والحديث حسن بهذا اللفظ، وأصله في الصحيحين.
كما أنه بفضل بركة بر الوالدين تحصل ـ بإذن الله ـ حسن الخاتمة، فعن علي بن أبي طالب أن النبي قال: ((من سره أن يُمَدَّ له في عمره ويُوسَّعَ له في رزقه ويُدفَعَ عنه ميتة السوء فليتق الله وليصل رحمه)) والحديث إسناده جيد.
وقد جعلَ اللهُ البرَّ بِالْوَالِدَيْنِ بابًا للفوْزِ برضاهُ سبحانهُ، ففي الحديثِ أنَّ رسُولَ اللهِ قَالَ: ((رِضا الرَّبِّ فِي رِضا الوَالِدَيْنِ، وَسَخَطُهُ فِي سَخَطِهِمَا)) والحديث في صحيح الجامع.
ومن الفوائد كذلك أن نكسب بر أولادنا لنا في المستقبل، وأيضًا من الفوائد استجابة الدعاء من الله لمن بر والديه، وكذلك في بر الوالدين تكفير للذنوب والآثام.
أيها المسلمون، لا أظن بمن سمع تلك الأحاديث والآيات الواردة في فضل بر الوالدين أن يتردد في برهما، خاصة وقد جاءت نصوص أخرى تحذر وتنذر وتتوعد من عَقَّ والديه، فمن ذلك أن النبي قال: ((كل الذنوب يؤخّر الله تعالى ما شاء منها إلى يوم القيامة إلا عقوق الوالدين، فإن الله يعجّله لصاحبه في الحياة قبل الممات)) رواه مسلم.
إن عقوقَ الوالديْن يعتبر من كبائرِ الذّنُوبِ، فَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ عَمْرٍو عَنِ النَّبِيِّ قَالَ: ((الْكَبَائِرُ الإِشْرَاكُ بِاللَّهِ وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ وَقَتْلُ النَّفْسِ وَالْيَمِينُ الْغَمُوسُ)) رواه البخاري، وَعَدَّ رَسُولُ اللَّهِ من الثَلاثَةِ الذينَ لا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ: ((الْعَاقُّ لِوَالِدَيْهِ)) والحديث في صحيح الجامع.
والله تعالى لا ينظر يوم القيامة إلى من عَقّ والديه، ولا يدخله الجنة، ففي الحديث الذي خرّجه النَّسائي والحاكم وصحّحه عن رسول الله أنه قال: ((ثلاثة لا ينظر اللهُ إليهم يوم القيامة: العاقُّ لوالديه، ومدمن الخمر، والمنانُ عطاءَه))، وقد دعا رسول الله على من أدرك والديه ولم يدخل بهما الجنة، فقال : ((رَغِمَ أنفُهُ، ثم رَغِمَ أنفُهُ، ثم رَغِمَ أنفُهُ))، قيل: من يا رسول الله؟ قال: ((من أدرك والديه عند الكبر أو أحدهما ثم لم يدخل الجنة)).
ومن خطورة أمر العقوق أن من تسبّب في أن يشتم والديه فقد ارتكب كبيرة من الكبائر، فقد قال الرسول : ((من الكبائر شتم الرجل والديه))، قالوا: يا رسول الله، وهل يشتم الرجل والديه؟ قال: ((نعم، يسب أبا الرجل فيسب أباه، ويسبّ أمه فيسبّ أمّه)) رواه مسلم.
ولذلك حذر السلف من مصاحبة الشخص العاق لوالديه، فقال عمر بن عبد العزيز رحمه الله: "لا تصحب عاقًّا لوالديه؛ فإنه لن يبرّك وقد عَقّ والديه".
أيها الإخوة، هذا والد يخاطب ابنه العاق بأبيات تقطع القلب، فيقول:
فلما بلغتَ السنَّ والغايةَ التي إليها مَدَى ما كنتُ فيك أؤمّلُ
جعلتَ جزائي غِلْظَةً وفَظَاظَةً كأنك أنت الْمُنْعِمُ الْمتفضِّلُ
فليتكَ إذا لَم تَرْعَ حقَّ أُبَوّتِي فعلتَ كما الْجارُ المجاورُ يفعلُ
فأوليتني حقَّ الْجوار ولم تكن عليّ بِما لِي دون مالك تبخلُ
أسأل الله أن لا يجعل من بيننا من هو عاق لوالديه.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب وخطيئة فاستغفروه، إنه كان غفّارًا.
الخطبة الثانية
أما بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى، فهي وصية الله لنا ولمن قبلنا: وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللهَ [النساء:131].
أيها الإخوة، حديثنا اليوم عن عبادة من أفضل القرب التي تقرّبنا إلى ربنا عز وجل، وهي سبب لحصول الرزق والتوفيق إلى كل خير في الدنيا والآخرة. ونظرًا لأهميتها فقد قرنها الله مع عبادته في مواضع كثيرة من كتابه العزيز، فمن ذلك قوله تعالى: وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِى صَغِيرًا [الإسراء:23، 24]، إنها عبادة بر الوالدين.
ونظرًا لعظم حق الوالدين فإن الله جل شأنه قرن شكره بشكرهما، فقال تعالى: أَنِ اشْكُرْ لِى وَلِوالِدَيْكَ [لقمان:14]، حيث إن بر الوالدين من أحب الأعمال إلى الله وأفضلها بعد الصلاة، وهو مُقدَّم حتى على الجهاد في سبيل الله، سئل النبي : أي العمل أحب إلى الله؟ قال: ((الصلاة على وقتها))، قيل: ثم أي؟ قال: ((بر الوالدين))، قيل: ثم أي؟ قال: ((الجهاد في سبيل الله)) متفق عليه، وروى مسلم في صحيحه: أقبل رجل إلى النبي فقال: أبايعك على الهجرة والجهاد أبتغي الأجر من الله عز وجل، قال: ((فهل من والديك أحد حي؟)) قال: نعم، بل كلاهما، قال: ((فتبتغي الأجر من الله عز وجل؟)) قال: نعم، قال: ((فارجع إلى والديك فأحسن صحبتهما))، وفي رواية البخاري أنّ رَجُلاً جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ فَاسْتَأْذَنَهُ فِي الْجِهَادِ فَقَالَ: ((أَحَيٌّ وَالِدَاكَ؟)) قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: ((فَفِيهِمَا فَجَاهِدْ))، وفي حديث إسناده جيد أن رجلاً قال: يا رسول الله، إني أشتهي الجهاد ولا أقدر عليه، قال: ((هل بقي من والديك أحد؟)) قال: نعم، أمي، قال: ((قابل الله في برّها، فإذا فعلت ذلك فأنت حاج معتمر ومجاهد)).
وقال رجل لابن عباس : إني نذرت أن أغزو الروم، وإنّ أبواي منعاني، فقال: (أطع أبويك؛ فإن الروم ستجد من يغزوها غيرك)، حتى إن سفيان الثوري ذهب إلى أبعد من ذلك فقال: "لا يغزو إلا بإذنهما، وإن كانا مشركين".
أيها الإخوة، مما يؤكد فقه الصحابة لمسألة بر الوالدين ما حدث في قصة كلاب بن أمية المشهورة، فقد أرسل عمر بن الخطاب كلابًا أميرًا على جيش للجهاد في إحدى الغزوات، وعندما علم أبو كلاب برحيل ابنه تأثّر تأثّرًا شديدًا لفراق ابنه كلاب، وقال هذه الأبيات المحزنة:
لِمن شَيْخَانِ قد نَشَدَا كِلابَا كتابَ الله لو عَقَلَ الكتابَا
أُنادِيهِ فيُعْرِضُ فِي إبَاءٍ فلا وأبي كلابٍ ما أصابا
إذا سَجَعَتْ حَمامةُ بَطْن وادٍ إلى بيضاتِها أدعو كِلابا
تركتَ أباك مُرْعِشَةً يداه وأمّكَ ما تسِيغُ لها شَرابا
فإنك والتماس الأجر بعدي كباغي الماء يلتمس الشَّرابا
فسمع عمر بن الخطاب هذه الأبيات من أبي كلاب، فاستدعى كلابًا على الفور، وعندما حضر كلاب وأبوه لا يعلم بحضوره، فسأله عمر: كيف كان برّك بأبيك؟ فقال: إني أحلب له كل يوم وأسقيه اللبن، فقال له عمر: احلب هذه الشاة، واستدعى عمر أبا كلاب وقدّم له اللبن وهو لا يشعر بوجود ابنه عند عمر، فقال الأب: إني لأشم رائحة يدَي كلاب، فبكى عمر وقال لكلاب: جاهد في أبويك. قال ابن عبد البر: "هذا الخبر صحيح".
أيها الإخوة، ومما يؤكد عظم حق الوالدين أنهما حتى لو كانا كافريْنِ فيجب برّهما، فَعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنهمَا قَالَتْ: يا رسول الله، إن أمي قدمت علي وهي راغبة مشركة، أفأصِلها؟ قال: ((نَعَمْ، صِلِي أُمَّكِ)) رواه البخاري.
بل الأمر ـ أيها الإخوة ـ أعظم من كونهما كافرين، بل وحتى لو كانا يأمران ولدهما المسلم أن يكفر بالله فيجب أن يبرهما، ويحسن إليهما، لكن لا يطيعهما في الكفر، قال تعالى: وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [لقمان:15].
أيها الأخ المسلم، إن حق أمك عليك عظيم جدًّا، ولو تأمّلت ما في هذه الأدلة التي سأذكرها لنذرت نفسك لخدمتها ليلاً ونهارًا، ولن تستطيع أن توفّيها شيئًا من حقها عليك، قال تعالى: وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْرًا [الأحقاف:15]. وروى البخاري أنه جاء رجل إلى النبي فقال: من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: ((أمك))، قال: ثم من؟ قال: ((أمك))، قال: ثم من؟ قال: ((أمك))، قال: ثم من؟ قال: ((أبوك))، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: (إني لا أعلم عملاً أقرب إلى الله من برّ الوالدة)، وقال هشام بن حسان: قلت للحسن: إني أتعلم القرآن، وإن أمي تنتظرني بالعشاء، قال الحسن: "تعشَّ العشاء مع أمك تقر به عينها، فهو أحب إلي من حجة تحجها تطوّعًا"، وقال : ((دخلت الجنة فسمعت قراءة، فقلت: من هذا؟ فقيل: حارثة بن النعمان، فقال: كذلك البر))، وكان أبر الناس بأمه. والحديث في السلسلة الصحيحة.
أيها الإخوة، وقد وردت نصوص أيضًا في فضل وعظم حق الوالد عند الله عز وجل، قال النبي : ((رضا الرب في رضا الوالد، وسخط الرب في سخط الوالد)) والحديث رواه الترمذي وصححه ابن حبان.
ومن عظيم مكانة الوالد أن الله يستجيب دعاءه على ولده، فقد قال : ((ثلاث دعوات مستجابات لا شك فيهن: دعوة الوالد، ودعوة المسافر، ودعوة المظلوم)) حديث حسن.
فاسع ـ أخي المسلم ـ في إرضاء والدك حتى تنال الخير العظيم، وتوفّق في أولاد يحسنون إليك كما أحسنت أنت إلى أبيك، واحذر أن تعقّه فيدعو عليك.
أيها المسلمون، إن لبر الوالدين فوائد كثيرة تعود على الولد، فلماذا نفرط في هذا الخير العظيم؟!
فمن هذه الفوائد سعة الرزق وطول العمر، فعن رسول الله قال: ((من سرّه أن يُمَدَّ له في عمره ويُزادَ له في رزقه فليبرّ والديه وليصل رحمه)) والحديث حسن بهذا اللفظ، وأصله في الصحيحين.
كما أنه بفضل بركة بر الوالدين تحصل ـ بإذن الله ـ حسن الخاتمة، فعن علي بن أبي طالب أن النبي قال: ((من سره أن يُمَدَّ له في عمره ويُوسَّعَ له في رزقه ويُدفَعَ عنه ميتة السوء فليتق الله وليصل رحمه)) والحديث إسناده جيد.
وقد جعلَ اللهُ البرَّ بِالْوَالِدَيْنِ بابًا للفوْزِ برضاهُ سبحانهُ، ففي الحديثِ أنَّ رسُولَ اللهِ قَالَ: ((رِضا الرَّبِّ فِي رِضا الوَالِدَيْنِ، وَسَخَطُهُ فِي سَخَطِهِمَا)) والحديث في صحيح الجامع.
ومن الفوائد كذلك أن نكسب بر أولادنا لنا في المستقبل، وأيضًا من الفوائد استجابة الدعاء من الله لمن بر والديه، وكذلك في بر الوالدين تكفير للذنوب والآثام.
أيها المسلمون، لا أظن بمن سمع تلك الأحاديث والآيات الواردة في فضل بر الوالدين أن يتردد في برهما، خاصة وقد جاءت نصوص أخرى تحذر وتنذر وتتوعد من عَقَّ والديه، فمن ذلك أن النبي قال: ((كل الذنوب يؤخّر الله تعالى ما شاء منها إلى يوم القيامة إلا عقوق الوالدين، فإن الله يعجّله لصاحبه في الحياة قبل الممات)) رواه مسلم.
إن عقوقَ الوالديْن يعتبر من كبائرِ الذّنُوبِ، فَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ عَمْرٍو عَنِ النَّبِيِّ قَالَ: ((الْكَبَائِرُ الإِشْرَاكُ بِاللَّهِ وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ وَقَتْلُ النَّفْسِ وَالْيَمِينُ الْغَمُوسُ)) رواه البخاري، وَعَدَّ رَسُولُ اللَّهِ من الثَلاثَةِ الذينَ لا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ: ((الْعَاقُّ لِوَالِدَيْهِ)) والحديث في صحيح الجامع.
والله تعالى لا ينظر يوم القيامة إلى من عَقّ والديه، ولا يدخله الجنة، ففي الحديث الذي خرّجه النَّسائي والحاكم وصحّحه عن رسول الله أنه قال: ((ثلاثة لا ينظر اللهُ إليهم يوم القيامة: العاقُّ لوالديه، ومدمن الخمر، والمنانُ عطاءَه))، وقد دعا رسول الله على من أدرك والديه ولم يدخل بهما الجنة، فقال : ((رَغِمَ أنفُهُ، ثم رَغِمَ أنفُهُ، ثم رَغِمَ أنفُهُ))، قيل: من يا رسول الله؟ قال: ((من أدرك والديه عند الكبر أو أحدهما ثم لم يدخل الجنة)).
ومن خطورة أمر العقوق أن من تسبّب في أن يشتم والديه فقد ارتكب كبيرة من الكبائر، فقد قال الرسول : ((من الكبائر شتم الرجل والديه))، قالوا: يا رسول الله، وهل يشتم الرجل والديه؟ قال: ((نعم، يسب أبا الرجل فيسب أباه، ويسبّ أمه فيسبّ أمّه)) رواه مسلم.
ولذلك حذر السلف من مصاحبة الشخص العاق لوالديه، فقال عمر بن عبد العزيز رحمه الله: "لا تصحب عاقًّا لوالديه؛ فإنه لن يبرّك وقد عَقّ والديه".
أيها الإخوة، هذا والد يخاطب ابنه العاق بأبيات تقطع القلب، فيقول:
فلما بلغتَ السنَّ والغايةَ التي إليها مَدَى ما كنتُ فيك أؤمّلُ
جعلتَ جزائي غِلْظَةً وفَظَاظَةً كأنك أنت الْمُنْعِمُ الْمتفضِّلُ
فليتكَ إذا لَم تَرْعَ حقَّ أُبَوّتِي فعلتَ كما الْجارُ المجاورُ يفعلُ
فأوليتني حقَّ الْجوار ولم تكن عليّ بِما لِي دون مالك تبخلُ
أسأل الله أن لا يجعل من بيننا من هو عاق لوالديه.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب وخطيئة فاستغفروه، إنه كان غفّارًا.
ــــــــــــــــــــ(67/278)
غض البصر
...
...
4533
...
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
...
...
التربية والتزكية, الفتن, الكبائر والمعاصي, المرأة
...
حمود بن عبد الله إبراهيم
...
...
الدمام
...
...
...
جامع بلاط الشهداء
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- استهانة الناس بالنظر المحرم في هذا الزمان. 2- أهمية البصر ومنزلته من الحواس. 3- خطورة النظر المحرم. 4- استغلال الأعداء للمرأة في الإفساد. 5- آثار النظر إلى الحرام وعواقبه. 6- الأسباب المعينة على غض البصر. 7- فوائد غض البصر.
الخطبة الأولى
أما بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى، قال عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
أيها الإخوة، لقد استهان كثير من المسلمين في هذه الأيام في النظر المحرم إلى النساء، وهذا شيء مشاهد، ويعلمه الجميع، فترى كثيرًا من الناس يستهينون في النظر إلى النساء الأجانب في الأسواق وفي أماكن تجمّعات الناس وعبر ما يُعرَض في كثير من القنوات الفضائية ومن خلال أجهزة الجوالات والحاسبات الآلية، والله جل في علاه يقول لعباده المؤمنين: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ [النور:30، 31]، فأين نحن من أمر الله لنا بالغضّ من البصر؟!
عباد الله، إن البصر هو الباب الأكبر إلى القلب، وأقرب طرق الحواس إليه، وما أكثر السقوط من جهته، ولذلك بدأ الله تعالى في الآية فأمر بالغضّ من البصر قبل حفظ الفرج، لماذا؟ لأن البصر هو أقرب طريق للقلب.
كما أن غض البصر ليس مختصًّا بالرجال، بل الأمر موجّه كذلك للنساء، حيث أمر الله سبحانه وتعالى المؤمنات بغض أبصارهن وحفظ فروجهن: وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ الآية [النور:31].
أيها الإخوة في الله، إن إطلاق البصر في المحرمات ذنب عظيم ينبغي عدم الاستخفاف به والتهاون فيه، حيث يقول الرسول الله : ((العينان زناها النظر، والأذنان زناهما الاستماع)) والحديث في الصحيحين، وقال رسول الله لعلي: ((يا علي، لا تُتْبِعِ النظرةَ النظرة؛ فإن لك الأولى، وليست لك الآخرة)) رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي، وفي الصحيح عن جرير بن عبد الله البَجَلِي قال: سألت النبي عن نظرة الفَجْأَة ـ وهو البَغْتَة من دون قصد ـ فأمرني أن أصرف وجهي.
إن معظم المصائب والذنوب والخطايا أولها نظرة، ألم تسمعوا قول الشاعر:
كلُّ الحوادِثِ مَبْدَؤُها مِن النَّظَرِ ومُعْظَم النارِ من مُسْتَصْغَرِ الشَّررِ
كم نظرةٍ فَتَكَتْ في قلب صاحبها فَتْكَ السِّهامِ بلا قَوْسٍ ولا وَتَرِ
والمرءُ ما دام ذا عين يقَلّبُها في أَعْيُنِ الغِيدِ موقوفٌ على الخَطَرِ
يسرُّ مُقْلَتَه ما ضرَّ مُهْجَتَه لا مرحبًا بسرور عاد بالضرَرِ
أيها المسلمون، لقد تفنَّن أعداؤنا وأعداء الفضيلة والطهر والعفاف في إغواء وإفساد وإغراء المسلمين ليلاً ونهارًا من خلال إفساد المرأة واستخدامها آلة وألعوبة لتحقيق مخططاتهم، وهذا ـ أيها الإخوة ـ مِصْداق لحديث رسول الله عليه الصلاة والسلام، ففي صحيح البخاري عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ قَالَ: ((مَا تَرَكْتُ بَعْدِي فِتْنَةً أَضَرَّ عَلَى الرِّجَالِ مِنَ النِّسَاء))، وفي صحيح مسلم عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنِ النَّبِيِّ قَالَ: ((إِنَّ الدُّنْيَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ، وَإِنَّ اللَّهَ مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيهَا فَيَنْظُرُ كَيْفَ تَعْمَلُونَ، فَاتَّقُوا الدُّنْيَا، وَاتَّقُوا النِّسَاءَ؛ فَإِنَّ أَوَّلَ فِتْنَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَتْ فِي النِّسَاءِ)).
ولذلك عرف المفسدون أثر المرأة في إفساد المجتمع، فجَنّدوا طاقاتهم، وكدحوا واجتهدوا من أجل حَفْنَة مال حرام قليل لا بارك الله في جهودهم، وسَيُسْألون عن هذا المال يوم القيامة، وسَيُسْألون عما تسبّبوا به في إفساد مجتمعات المسلمين بهذا الإغواء، وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيمًا [النساء:27].
أيها المسلمون، إن مَن أطلق لبصره العَنَان فينظر للنساء الفاسدات في القنوات الفضائية أو في المنتزهات أو في الشواطئ أو في الأسواق أو عبر الجوالات أو أجهزة الحاسب الآلي سيصاب بأمر عظيم يفسد عليه دينه، ألا وهو فساد القلب، فالنظرة تفعل في القلب ما يفعل السهم في الرمية، فإن لم تقتله جرحته، فهي بمنزلة الشرارة من النار تُرمَى في الحشيش اليابس، فإن لم تحرقه كله أحرقت بعضه. ولقد قيل: "الصبر على غض البصر أيسر من الصبر على ألم بعده"، ورحم الله القائل:
وكنتَ متى أرسلتَ طَرْفَكَ رائدًا لقلبك يومًا أتعبتك المناظِرُ
رأيتَ الذي لا كله أنت قَادِرٌ عليه ولا عن بعضه أنت صابرُ
أي: إذا أرسلت نظرك فإنك ترى ما لا تقدر على تحصيله، ولا تصبر على عدم حصول بعضه، وهذا من عجائب النظر. فهو سهم ترميه فيعود إليك.
وقال غيره:
يا راميًا بسهام اللحْظِ مجتهدًا أنت القَتِيل بما ترمي فلا تُصِبِ
أيها المسلمون، ألا يخاف من لم يغضّ بصره أن يحدث له الجزاء في الدنيا قبل الآخرة؟! والجزاء من جنس العمل، وكما تدِين تُدَان، وكما مرّ معنا في الحديث أن العين تزني وزناها النظر، ولهذا يقول الشافعي رحمه الله:
عفُّوا تعفّ نساؤكم في المَحْرَمِ وتَجنّبوا ما لا يليقُ بِمسلمِ
إن الزنا دَيْن فإن أقرضتَهُ كان الوفَا من أهل بيتك فاعلمِ
مَن يزْنِ يُزْنَ به ولو بجدارِه إن كنتَ يا هذا لَبِيبًا فافهمِ
وقد توعّد الله من يخون ببصره إلى ما لا يرضيه جل وعلا، فقال تعالى: يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ [غافر:19]، وخائنة الأعين هو نظر المُسَارَقَة، وهو النظر الذي يخفيه المرء من جليسه حياءً أو خوفًا أو احترامًا، والله جل وعلا وتقدّس أولى وأولى أن يُسْتحيى منه جل شأنه، وقد قال سبحانه وتعالى عمّن يخشى الناس ولا يخشى الله في السر: يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا [النساء:108].
أيها الإخوة، إن من عقوبات النظر المحرّم إبطال الطاعات، وبسببه يُصابُ المرء بالغفلة عن الله والدار الآخرة، فإن القلب إذا شُغِل بالمحرمات أورثه ذلك كسلاً عن ذكر الله وملازمة الطاعات، بل إن عين الناظر للحرام لا قيمة ولا دِيَة لها في الشريعة، فمن تعمّد النظر في بيوت الناس مُتَجَسِّسًا تهدر عينه، فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((لو اطّلع أحد في بيتك ولم تأذن له فخَذَفْتَهُ بحصاة ففَقَأَتْ عينه ما كان عليك جناح)) متفق عليه.
عباد الله، إن تقوى الله عز وجل والخوف من عقابه ودعاءه والاستعانة به وشكره على نعمه أكبر مُعِين على التخلّص من النظر الحرام، فإن من تمام شكر نعمة البصر أن لا يُعصَى الله عز وجل بها، وعلينا أن نتذكّر عظيم الجزاء عند الله لمن غضّ بصره، وأنّ مَن ترك شيئًا لله عوّضه الله خيرًا منه.
ليس الشجاعُ الذي يحمي مَطِيّته يومَ النزالِ ونارُ الحربِ تشتعِلُ
لكن فتًى غضَّ طرفًا أو ثنى بصرًا عن الحرام فذاك الفارسُ البطلُ
إن الخوف من سوء الخاتمة وترك صحبة الأشرار يعين كذلك على ترك النظر الحرام، فإن الشخص يأخذ من صفات من يخالطه، و((المرء على دين خليله؛ فلينظر أحدكم من يُخَالِل))، كما أخبر بذلك الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.
إن المسلم الذي رزقه الله بزوجة عليه أن يتذكّر أن الله أغناه بحلاله عن حرامه، فليشكر هذه النعمة، وإذا تعرض لنظرة مسمومة فعليه أن يبادر بعلاج ما يقع في قلبه من أثر تلك النظرة، ففي الحديث أن رسول الله قال: ((إن المرأة تُقبِل في صورة شيطان، وتُدبِر في صورة شيطان، فإذا أبصر أحدكم امرأة فليأتِ أهله؛ فإن ذلك يرد ما في نفسه)) رواه مسلم.
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه وسنة رسوله ، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين فاستغفروه، إنه غفور رحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على جزيل نعمه وعظيم امتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فيا أيها الإخوة في الله، إن لغض البصر عن الحرام فوائد وثمرات نجنيها في الدنيا والآخرة ينبغي التأمل فيها حتى لا تضيع منا هذه الخيرات، في مقابل حصول الحسرات من عدم غض الأبصار.
فمن فوائد غض البصر تخليص القلب من ألم الحسرة، وبغض البصر يحصل للقلب قوة وثبات وشجاعة ونور وإشراق يظهر في العين وفي الوجه وفي الجوارح، ومن غض بصره آتاه الله الحكمة، ولا تكاد تخطئ فراسته، وتجده مسرورًا وفرحًا ومُنشرِحًا، ويحس باللذة أعظم من اللذة والسرور الحاصل بالنظر، فلذة العِفّة أعظم من لذة الذنب.
إن غض البصر سبب لمحبة الله والأنس به، وبه يسد على الشيطان مدخله إلى القلب، وغض البصر يخلص القلب من أسر الشهوة، فإن الأسير هو أسير شهوته وهواه، ومتى أسرت الشهوة والهوى القلب سامته سوء العذاب.
إن غض البصر طريق للجنة، فعن عبادة بن الصامت أن النبي قال: ((اضمنوا لي ستًا من أنفسكم أضمن لكم الجنة: اصدقوا إذا حدثتم، وأوفوا إذا وعدتم، وأدوا إذا ائتمنتم، واحفظوا فروجكم، وغضوا أبصاركم، وكفوا أيديكم)) حديث حسن.
أيها الإخوة، المسلم مطلوب منه أن يمتثل قول رسوله : ((اتق الله حيثما كنت))، ومُطالَبٌ أيضًا أن يراقب ربه في الخلوات، كما هي حاله أمام الناس، ولا ينتهك حرمات الله إذا خلا بها بمفرده. والمسلم مُطالَبٌ بإقامة المعروف وإنكار المنكر، كلٌّ بحسب جهده وموقعه، وكلكم راعٍ وكلكم مسؤولٌ عن رعيته، الأبُ راع ومسؤولٌ عن أهل بيته، فلا يسمح بالمجلات الخليعة ولا البرامج المدمرة التي أصبحت تزرع الضلالات والفتن بدخول البيت، على المسلمين أن يحذروها، وأن يقوا أنفسهم وأهليهم منها.
اللهم اجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، ومن الذين يقولون: سمعنا وأطعنا، اللهم ارزقنا الهدى والتقى والعفاف والغنى، اللهم إنا نسألك خشيتك في الغيب والشهادة...
ــــــــــــــــــــ(67/279)
وقفات مع عودة المدارس
...
...
4556
...
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
...
...
الأبناء, الآداب والحقوق العامة, التربية والتزكية
...
محمد بن إبراهيم السبر
...
...
الرياض
...
...
...
جامع الأميرة موضي السديري
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- دور أولياء الأمور في العملية التعليمية. 2- التذكير بحقوق المعلم. 3- كلمات توجيهية للمعلم. 4- نصائح وتوجيهات للطلاب.
الخطبة الأولى
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [البقرة:281].
منظرٌ جميلٌ ومشهدٌ زاهٍ أن ترى فتى غَضًّا طَرِيًّا في أحسنِ حُلّةٍ وأبهى طَلْعةٍ يَنُوء بحمل حقيبته، مُتَأبِّطًا كتبه، متوجّهًا إلى مَحْضن التربية ومنهل العلم ومنبع الثقافة ومَأْرِز الدين والخير. إنه مشهدُ الآلاف تتجه زُرَافاتٍ ووِحْدانًا إلى المدارسِ والمعاهدِ والجامعاتِ، إنه منظرٌ يسرُ الناظرَ لمجدِ أمتهِ الطموحَ لعزِ دينه ومجتمعه، عندما يرى العلمَ يسري في دماء شبابِ الأمةِ، والجهلَ يتَضَعْضَعُ أمامَ نورِ العلمِ، والأميةَ تتراجعُ أمامَ إشراقةِ الفكرِ. إنه منظر في طريقٍ لا يؤدي في النهاية إلا للعزِ والرفعةِ وتأمينِ العيشِ، وهل أمةٌ سادت بغيرِ التعلمِ؟! وأعلى من ذلكَ وأجل: ((من سلكَ طريقًا يلتمسُ فيه علمًا سهّلَ اللهُ به طريقًا إلى الجنةِ)) رواه مسلم.
وفي هذه الأيام نعيشُ فورةً عارمةً واستنفارًا للطاقاتِ والجهودِ استنفارًا في البيوت والأسواق لتأمين مستلزمات الدّراسة وتسجيل الأبناء وتهيئتهم لخوض مُعْتَرَك العام الدراسي.
ولنا مع عودةِ الطلابِ عودةٌ ومع بدايةِ العامِ الدراسيِ وقفةٌ.
وأول هذه الوقفات: دور الآباء والأولياء، فما دورك أيها الأب؟ إننا بحاجة إلى أبٍ يعي ويفقه متطلبات الشباب وحقوق البنوة على الأبوة. إن بعض الآباء يعتقد أن دوره لا يتعدّى شراءَ الكراريس والأقلام وتسجيل الأبناء، ويقول: أنا انتهى دوري عند هذا الحد، فأحسنُ اللباس ألبستُه، وأحسنُ المدارس أدخلتُه، سيارةٌ بالسائق إلى المدرسة تُقِلّه، والدراهمُ تملأُ جيبه، و... و...، أظن أن دوري انتهى عند هذا الأمر، فماذا تريدون مني؟!
نقول: نعم بارك الله فيك، جميلٌ منك هذا، فهذا واجب النفقة، وقد أديته بكل اقتدار، وأنت مأجورٌ على ذلك إذا احتسبت ذلك عند الله، فالنبي يقول: ((أفضل دينار ينفقه الرجل دينارٌ ينفقه على عياله، ودينارٌ ينفقه على دابته في سبيل الله، ودينار ينفقه على أصحابه في سبيل الله)) رواه مسلم، وله من حديث أبي هريرة : ((دينار أنفقته في سبيل الله، ودينار أنفقته في رقبة، ودينار تصدقت به على مسكين، ودينار أنفقته على أهلك، أعظمها أجرًا الذي أنفقته على أهلك)).
إنه من الخطأ أن يهتم بعض الآباء والأمهات بهذا الجانب جانب النفقة وتوفير الملبس والمأكل والمشرب دونما عناية بالجانب الأهم، وهو الاهتمام بالمَخْبَر لا المَظْهَر وخدمة القلب والروح.
يا خادِمَ الجسمِ كم تسعى لخدمته أتعبتَ جسمكَ فيما فيه خُسْرَانُ
أقْبِلْ على الروح فاستكملْ فضائلَها فأنت بالروح لا بالجسم إنسانُ
والله جل وعلا يقول: وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الأَلْبَابِ [البقرة:197]، ويقول جل ذكره: وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ [الأعراف:26].
أيها الآباء والأولياء، إن مهمة التربية والتعليم ليست مقتصرةً على المدرسة فحسب، بل لكم فيها النصيب الأكبر، فأنت ـ أيها الأب ـ تتحمل المسؤولية الكبرى عن تعليم ولدك وتربيته ومتابعته، فالوالد هو المخاطَب بقول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6]، وهذه الآية أصل في تعليم الأهل والذرية، قال علي عن هذه الآية: قُوا أَنْفُسَكُمْ أي: (علّموهم وأدّبوهم) رواه الحاكم وصححه، وذكر ابن كثيرٍ رحمه الله في تفسيره عن الضحاك ومقاتل رحمهما الله: "حق على المسلم أن يعلم أهله من قرابته وإمائه ما فرض الله عليهم وما نهاهم عنه".
نقول هذا ـ أيها الأحبة ـ في غَمْرَة مشاغل الأب وكثرة وظائفه وارتباطاته وأعماله، فهو قد يغفل عن تفريغ نفسه لتعليم أهله وولده. قد يقول قائل: إن المدرسة تقوم بهذا! فيقال: إن هذا لا يعني أن نُسقط التَّبِعَة عن الآباء، ونلقي بالمسؤولية على كاهل المدرسة وحدها؛ لأن الوالد هو المربي والمدرّس الأول، فـ((كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يُهَوِّدانه أو يُنصِّرانه أو يُمَجِّسانه)).
وينشأُ ناشئ الفِتْيان فينا على ما كان عَوّدَهُ أبوهُ
وما دانَ الفتَى بحِجًى ولكن يُعَوّدُه التديُّنَ أقربوهُ
نعم إن المدرسة توجّه وتربّي، لكن الابن لا ينام فيها، ولا يجلس فيها غالب وقته، فالمعلم دوره تَوْعَوِي وتوجيهي، فهو يربي الطالب، ويعلمه الدين والصلاة والآداب الشرعية كآداب النوم والأكل والشرب...الخ، ويأتي الأبُ ليؤكد ذلك فعليًا بالمتابعة والتنفيذ؛ لأن الأب هو المخاطَب بقوله تعالى: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى [طه:132]، وهو المخاطَب بقول النبي : ((مروا أولادكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر)).
إن الأب مطالب بتربية ابنه التربية الإسلامية، وهكذا كانت تربية الجيل الأول لأولادهم، روى البخاري في صحيحه عن عمر بن أبي سلمة قال: كنت غلامًا في حِجْر النبي ، وكانت يدي تَطِيشُ في الصَّحْفَة، فقال لي رسول الله : ((يا غلام، سمِّ الله، وكُلْ بيمينك، وكُلْ مما يليك))، قال عمر: فما زالت تلك طُعْمَتِي بعد. وقال سعد: كنا نعلم أولادنا مغازي رسول الله كما نعلمهم السورة من القرآن.
إن الأب مع المدرسة صِنْوَان وعمودان لخيمة نجاح الأبناء، لكنّ المدرسة تشتكي أبًا لا يزورها ولا يحضر مجالس الآباء، بل إذا حصلت مشكلة أو أزمة لابنه مع المدرّس أو مع زملائه لا يُكلّف نفسه أن يسأل عن مُلابَسات الأمر. المدرسة تشتكي أبًا لا يطلع على التقارير الشهرية، ولا يتابع واجبات أولاده، ولا يساهم في تقويمهم وتسديدهم.
أخي الأب، إن حضورك ولو مرة في الشهر مهمٌ في تربية أبنائك لعدة أمور:
1- في ذلك تشجيع وتحفيز له على التحصيل، وباعث له على التفوق بإذن الله، كما أن ذلك يشعره بالثقة والاطمئنان لقرب أبيه منه.
2- قد يكون الابن يعاني من مشكلة أخلاقية أو نفسية أو صحية كضعف نطق أو نظر لا يعلمها الأب، وهذه المشكلة هي سبب في ضعف تحصيله وتقدمه، فيساهم حضور الأب وتفاعله في حلها وعلاجها.
3- الزيارة لها دورٌ إيجابي على الابن، فبعض الطلاب في المنزل يكون هادئًا مؤدّبًا أمام والده هيبةً وخوفًا، ولكنه في المدرسة على النقيض من ذلك، فهو مزعج أمام مدرسيه وزملائه، ولو زار الوالد المدرسة لحل مثل هذا التناقض وهذه الازدواجية، ومنها يعرف الوالد طبيعة ولده.
إن الأب مطالب أن يتفهم رسالة المعلم ويؤازرها، لا أن يحطّمها ويدمّرها، إن مدارسنا ـ بحمد لله ـ مَلأى بالأساتذة الصالحين والمعلمين المربين الذين هم على قدرٍ عال من الأمانة والمسؤولية، بل ويساعدون في نمو الشاب عقليًا وفكريًا ونفسيًا، لكننا نجد الأب ـ مع الأسف ـ ينسف هذا كُله شَعُرَ أم لم يشعر، درى أم لم يدر.
فالمدرس الذي يعلم الطالبَ أن الغناءَ والدخانَ حرامٌ ووالده يناقض ذلك فيرتفع صوت الغناء في منزله وسيارته، بل ويجعل الابن وسيلةً لشراء الدخان. والمدرسة تعلم الأبناء والبنات أن الخلوة مع المرأة الأجنبية حرام ووالدهم يناقض ذلك فيجعل الفتاة وهي في المرحلة المتوسطة أو الثانوية أو الجامعية تذهب مع السائق بلا مَحْرَم، والوالد لا يرى غَضَاضَة في الخلوة بالخادمة في المنزل، فكيف نريد للمدرسة أن تؤدي دورها وبعض الآباء يهدمون؟!
متى يبلغُ البُنْيَان يومًا تمامه إذا كنتَ تَبْنيهِ وغيرُك يهدِمُ
وما أكثر الهادمين في هذه الأيام، فالشاشة تهدم، والمجلة الهابطة تهدم، ومواقع الإنترنت غير اللائقة تهدم، والشارع يهدم، وصحبة السوء تهدم.
أرى ألفَ بانٍ لا تقوم لهادِمٍ فكيف ببانٍ خلفَه ألفُ هادِمِ
ومن عجب أن بعض الآباء يترك مسؤولية أبنائه وبيته ويقول: أهم شيء عندي أن ينجح، ويكفل نفسه، وهو حر، وتعلمه دنياه، ويتركه سِلمًا للعَوَادِي.
ألقاه في اليمِّ مكتوفًا وقال له: إياك إياك أن تبتلَّ بالماءِ
يا هذا، أذكّرك قولَ النبي : ((إن الله سائل كل رجل عما استرعاه: أحفظ ذلك أم ضيّعه؟ حتى يسأل الرجل عن أهل بيته)) رواه ابن حبان وإسناده حسن، وقولََه : ((كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، فالإمام راع وهو مسؤول عن رعيته، والرجل راع في أهله وهو مسؤول عن رعيته)) متفق عليه.
معشر الآباء والأمهات، اللهَ اللهَ في حقوق المعلمين والمعلمات، اغرسوا في قلوب أبنائكم وبناتكم حب العلم والعلماء، وإجلال المعلمين والمعلمات، وتوقيرهم واحترامهم، طلبًا لمرضاة الله سبحانه وتعالى، علّموهم الأدب قبل أن يجلسوا في مجالس العلم والطلب، علّموهم الأدب مع الكبار والعطف على الصغار، علموهم الهدوء واحترام المساجد ودور العلم والعبادة.
هذه أم الإمام القَبَس مالك بن أنس رحمة الله عليه وعليها، لما أراد أن يطلب العلم ألبسته أحسن الثياب، ثم أدنته إليها، ومسحت على رأسه، وقالت: "يا بنيّ، اذهب إلى مجالس ربيعة، واجلس في مجلسه، وخذ من أدبه ووقاره وحشمته قبل أن تأخذ من علمه". علمته الأدب قبل أن يجلس في مجلس الدرس والطلب.
وهذا رب العزة والجلال يخاطب كَلِيمَه موسى عليه السلام فيقول: فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي [طه:12-14]. علمه سبحانه الأدب، أدب المكان: فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ، علمه أدب الحديث: فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى، ثم أوحى إليه بالتوحيد والشريعة: إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمْ الصَّلاةَ لِذِكْرِي. الأدب ثم الأدب قبل أن يجلس الإنسان في مجالس العلم والطلب، يتعلم للعلم الوقار، يتعلم له الحشمة والقرار.
معشر الآباء والأمهات، أعينوا الأبناء والبنات على ما للعلم من مشاق ومتاعب، هذه أم سفيان الثوري رحمة الله عليه وعليها، ويا لها من أم صالحة، توفي أبوه وكان صغير السن حَدَثًا، فنشأ يتيمًا لا أب له، ولكن الله رزقه أمًا صالحة كانت عوضًا له عن أبيه، أم وأي أم هذه الأم الصالحة، لما توفي زوجها تفكر سفيان رحمه الله في حاله وحال إخوانه وحال أمه فأراد أن يطلب العيش والرزق، وينصرف عن طلب العلم، فقالت له تلك الأم الصالحة مقالة عظيمة مباركة، قالت له: أي بُنَيّ، اطلب العلم أكفك بِمِغْزَلي، فانطلقت الأم تغزل صوفها وتكافح في حياتها حتى أصبح سفيان علمًا من أعلام المسلمين، إمامًا من أئمة الشريعة والدين. وكل ذلك في ميزان حسنات هذه المرأة الصالحة، أعظم الله ثوابها وجزاها عن المسلمين خيرًا.
عن أبي مسعود البَدْرِي عن النبي : ((إذا أنفق الرجل على أهله نفقةً يحتسبها فهي له صدقة)) متفق عليه.
أيها الأحبة، نقفُ وقفاتٍ مهمة مع بيت القَصِيد ومَحَطِّ الرَّكْب، نقف مع الموجّه المربّي، إنها مع المدرّس الذي هو أكثرُ الناس اتصالاً بأبنائنا، الذي يقول فيُسمَعُ له، ويأمر فيُصْغَى له.
إننا نقول لكل من اشتغل بالتدريس: إن أقل ما يُنظَر فيك أن يكون مظهرك إسلاميًا، وأن يتفق القول مع الفعل، وأن تكون الروح إسلاميةً حقًّا. نريد مدرّسًا أمينًا على فلذات أكبادنا، فإذا تكلم فلا يتكلمُ إلا بخير، حسنَ التعامل فلا تصدر منه إلا عبارات التربية والتوجيه، قدوةً في مظهره، محافظًا على صلاته، إذا دخل على الطلاب قابلهم بالبسمةِ وطلاقةِ الوجه، قال : ((لا تحقرن من المعروف شيئًا ولو أن تلقى أخاك بوجه طَلِق)) رواه مسلم. إذا دخل حياهم بتحية الإسلام، لا بتحية العوام: صباح الخير، مساء الخير. إذا بدأ حديثه وشرحه بدأه بالحمد لله والثناء على الله والصلاة والسلام على رسوله ، وهكذا نغرس التربية الإسلامية في نفوس أجيالنا، ونربيهم على الأخلاق الحميدة.
وإنه لمنظر سيئ أن تجد المدرس الفاضل يُغَذِّي في الطلاب التعصّب الرياضي، فيحلل لهم المباريات وأسباب خسارة الفرق الرياضية. منظرٌ مشِين أن ترى مربّي الأجيال يتسلّل لِوَاذًا بين الحصص ليلوّث فاه بالدخان. منظرٌ سيئ أن ترى بعض المدرسين لا يحسن العدل مع الطلاب فيفضل هذا على هذا، لا لأدبه ولا لجِده، بل لحاجةٍ في نفسه وظلمٍ في قلبه نسأل الله العافية، وعلى العدل قامت السماوات والأرض. منظرٌ سيئ أن ترى المدرس لا يتقن شرحه لدروسه، بل ينام بقية الدرس أو يتضاحك مع الطلاب ساخرًا.
وإنني أتساءل أيها الإخوة: الطالب الذي يرى مدرّسه في حالٍ من الميوعة والتسيُّب كيف يتعلم الفضيلة والرجولة؟! الطالب الذي يسمع من مدرّسه السبَ والشتمَ والبَذَاء كيف يتعلم حلاوةَ المنطق؟! والطالبة التي ترى معلمتها تسير خلف صرخات الموضة وصيحات الأزياء وتتلقى كل ما يصدره الأعداء كيف تتعلم الفضيلة والعفاف؟! والطالبة التي ترى مدرستها متبرجةً سافرةً كيف تلتزم بالحجاب والجلباب؟! والطالبة التي ترى مدرستها تركب مع السائق وحدها كيف تبتعد عن الاختلاط بالأجانب والخلوة بهم؟! يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ [الصف:2، 3].
إنها مصيبة أن تختل الموازين حينما يتولى مهمة التربية والتعليم مَنْ لا يلتزم بأحكام الإسلام، متهاونٌ في أمر الله، قد استحوذ عليه الشيطان؛ لأن المطلوب من المعلم المربي الإرشاد إلى كُلِ خلقٍ حسنٍ والتحذير من كُلِ خلقٍ ذميمٍ، ولكن فاقد الشيء لا يعطيه.
يا أيها الرجلُ الْمعلّمُ غيرَه هلاّ لنفسكَ كان ذا التعليمُ
تَصِفُ الدواءَ لذي السّقَام وذي الضَّنَى كَيْمَا يصحّ به وأنت سَقِيمُ
ونراك تُصلِح بالرشادِ عقولَنا أبدًا وأنت من الرشاد عَدِيْمُ
ابدأ بنفسك فانْهَهَا عن غَيِّها فإذا انتهت عنه فأنت حكيمُ
فهناك يُقْبَلُ ما وَعَظْتَ ويُقْتَدَى بالعلم منكَ وينفعُ التعليمُ
لا تَنْهَ عن خُلُق وتأتِيَ مثلَه عارٌ عليك إذا فعلتَ عظيمُ
أيها المدرسون والمدرسات، مهنتكم من أعز المهن، وقد قيل: "كاد المعلمُ أن يكون رسولاً".
إنها وظيفة ومهمة الأنبياء والرسل عليهم صلوات الله وسلامه، رُوِيَ عنه : ((إنما بُعِثتُ معلّمًا)) أورده الألباني في الضعيفة (11)، فجمّلوا هذه المهنة بالإخلاص، واحموها بالجد والمتابعة.
أخي المعلم، الأمانةَ الأمانةَ في الحضور، في الانصراف، في التصحيح، في العدل بين الطلاب، فإن النبي يقول: ((ما من عبد يسترعيه الله رعيةً يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة)) رواه مسلم، ويقول : ((أدِّ الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك)).
أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ [آل عمران:79].
الخطبة الثانية
معاشر الطلبة والطالبات، ها قد عدتم إلى مقاعد الدراسة، والعَوْدُ أحمد إن شاء الله، فكيف بدأتم هذا العام؟ هل جددتم النية وأخلصتموها لله جل وعلا في طلب العلم؟! هل تتذكرون يوم أن تسعوا كُلَ صباح إلى أماكن الدراسة قولَ المصطفى : ((من سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا سهّل الله له به طريقًا إلى الجنة))؟! هل تستحضرون تقوى الله في طلبكم للعلم والله يقول: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [البقرة:282]؟!
أيها الإخوة الطلاب، لا أظن أنكم تحتاجون إلى من يذكّركم بآداب طلب العلم والتزام الأخلاق الفاضلة.
لا تحسبنَّ العلمَ ينفعُ وحدَه ما لَم يُتَوَّجْ رَبُّهُ بِخَلاقِ
ما مدى أدبكم مع معلميكم وأساتذتكم ومشايخكم؟! ما مبلغ الأدب فيكم مع زملائكم؟! فالأدب مفتاح العلم، والاحترامُ والتقديرُ أساسُ الطلب، فيتعلمُ الطالبُ أدبَ الجلوسِ وأدبَ الاستماع وأدبَ السؤالِ والإنصاتِ وأدبَ الاعتذارِ والاستدراك.
يقول الإمام الشافعي رحمه الله: "كنت أصفح الورقة بين يدي شيخي مالك صَفْحًا رقيقًا لئلا يسمع وَقْعَها"، ويقول الربيع: "والله ما اجترأت أن أشرب الماء والشافعيُ ينظرُ إليَّ؛ هيبةً له".
أما ابنُ عباس ابنُ عم رسول الله ما منعه نسبه وعلو منزلته حين يبلغه الحديث عن رجل أن يأتي بابه وهو قائلٌ نائم، ولندع ابنَ عباسٍ يكمل ويصور حاله فيقول: فأتوسّد ردائي على بابه، تسْفِي الريح عليّ من التراب، فيخرج فيراني فيقول: يا ابن عم رسول الله، ما جاء بك؟! هلاّ أرسلت إليّ فآتيك؟! فأقول: لا، أنا أحق أن آتيك، قال: فأسأله عن الحديث. هذا هو الأدب حقًا.
قال بعض الشعراء مبينًا مَغَبَّة ازدِرَاء المعلّم، قال الشاعر:
إن المعلمَ والطبيبَ كلاهُما لا يَنْصَحَانِ إذا هما لم يُكْرَمَا
فاصبر لدائك إن أهنتَ طَبِيبَهُ واصبر لجهلك إن جَفَوْتَ مُعلّما
وقال الآخر:
قُمْ للمعلّم وَفِّهِ التَّبْجِيلا كاد المعلمُ أن يكونَ رسولاً
قال بعض العلماء: "من لم يتحمل ذُلَّ التعلمِ ساعةً بقي في ذُلّ الجهل أبدًا".
وينبغي أن يبدأ الطالب دراسته بكل همة ونشاط ومتابعة ودراسة؛ لكي يُحَصِّل أكثر وأكثر. قال يحيى بن أبي كثير: "لا يُسْتَطاعُ العلمُ براحة الجسم" رواه مسلم، يقول أحد العلماء: "من لم تكن له بداية مُحْرِقة لم تكن له نهاية مُشْرِقة".
وأجدها فرصةً لأقف مع الطلاب وقفة مهمة فأقول: أخي الطالب، ما نوع الزملاء والأصدقاء الذين تختارهم وتصطفيهم لرفقتك وصحبتك في المدرسة وفي الشارع والحارة؟ هل هم من النوع المرضي في دينه الذي يعينك على الخير ويدلك عليه، أم هم من النوع المسخوط في دينه الذي يدعوك إلى الرذائل ويسوّغ لك فعل الباطل؟! ألا فَفِرّ من المَجْذًُوم فِرَارك من الأسد، وتذكّر أن النبي يقول: ((المرء على دين خليله))، ويقول أيضًا: ((المرء مع من أحب))، ويقول: ((لا تصاحب إلا مؤمنًا، ولا يأكل طعامك إلا تقي)). ولذا قال جماعة من السلف: "اصحب من يُنْهِضُك حالُه، ويدلّك على الله مَقَالُه".
إذا ما صحبتَ القوم فاصحبْ خِيارَهم ولا تصحبِ الأرْدَى فتَرْدَى مع الرَّدِي
نسأل الله للجميع العلمَ النافعَ والعملَ الصالح، اللهم علمنا ما ينفعنا، وزدنا علمًا وعملاً يا رب العالمين...
ــــــــــــــــــــ(67/280)
الغيرة على الأعراض
...
...
4560
...
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
...
...
قضايا الأسرة, مكارم الأخلاق
...
مهران ماهر عثمان نوري
...
...
الخرطوم
...
16/6/1426
...
...
خالد بن الوليد
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- تعريف الغيرة. 2- انعدام الغيرة سبب من أسباب فشو الفاحشة. 3- الغيرة سبيل الحفاظ على الأعراض. 4- الغيرة صفة المؤمنين وأولياء الله الصالحين.
الخطبة الأولى
الغَيْرة هي: الحَمِيّة والأَنَفَة، يُقال: رجل غَيُور، وامرأة غَيُور وغَيْرَى. والمِغْيار: شديد الغيرة. وفلان لا يتغيَّر على أهله: لا يغار عليهم[1].
قال الحافظ رحمه الله: "الغيرة بفتح المعجمة وسكون التحتانية بعدها راء، قال عياض وغيره: هي مشتقة من تَغَيُّر القلب وهيجان الغضب بسبب المشاركة فيما به الاختصاص، وأشد ما يكون ذلك بين الزوجين"[2].
الغيرة على الأعراض من الأمور الجبِلّية الفطرية، وانعدامها دليل على انتكاس في الفطرة، وهو يفضي إلى انتشار الفواحش، ولا أدلَّ على ذلك من قصة يوسف عليه السلام، فإن أهل التفسير رحمهم الله بينوا أنَّ قول العزيز ليوسف عليه السلام: أعرض عن هذا[3] واكتفاءه به دليل على قلة غيرته، فكان أنْ أعادت امرأته محاولاتها لتحظى بما تريده من يوسف عليه السلام، فقد قال الله تعالى عن النسوة في سورة يوسف: وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ [يوسف:30]، فجاء التعبير بالمضارع الدال على استمرارية سعيها، وقالت بعد ذلك لما طلبت اجتماعهن: وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِّنَ الصَّاغِرِينَ [يوسف:32]. ولو أنَّ زوجها عُرِف بغيرته لما حدث شيء من ذلك؛ لأن الغيور من الرجال تحذر امرأته من فعل ما يهيِّج غيرته، ولو أدى ذلك إلى أنْ تترك بعض ما لا إثم فيه، ولو قُدِّر أن صدر منها بعض ذلك فإنه يزجرها بما لا يجعلها تعاوده، وإليك أقوالهم التي تبين ما ذكرتُه من قلة غيرته:
قال ابن عطية رحمه الله: "وذلك أنَّ العزيز كان قليل الغيرة، بل قومه أجمعين، ألا ترى أنَّ الإنكار في وقت القميص إنما كان بأن قيل: إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم، وهذا يدل على قلة الغيرة، ثم سكن الأمر بأن قال: يوسف أعرض عن هذا، وأنت استغفري، وهي لم تبق حينئذ إلا على إنكارها وإظهار الصحة، فلذلك تُغوفِل عنها بعد ذلك؛ لأن دليل القميص لم يكن قاطعًا، وإنما كان أمارة ما، هذا إن لم يكن المتكلم طفلاً"[4].
وقال القرطبي رحمه الله: "وقيل: إن القائل ليوسف: أعرض ولها: استغفري زوجها الملك، وفيه قولان: أحدهما: أنه لم يكن غيورًا، فلذلك كان ساكنًا، وعدم الغيرة في كثير من أهل مصر موجود، الثاني: أن الله تعالى سلبه الغيرة، وكان فيه لطف بيوسف"[5].
وقال أبو السعود: "وقيل: كان ـ أي: العزيز ـ قليل الغيرة"[6].
وقال الرازي رحمه الله ناقلاً قول غيره مقررًا له: "إن ذلك الزوج كان قليل الغيرة، فاكتفى منها بالاستغفار"[7].
وقال ابن تيمية رحمه الله: "وذلك أن زوجها كان قليل الغيرة أو عديمها، وكان يحب امرأته ويطيعها، ولهذا لما اطلع على مراودتها قال: يوسف أعرض عن هذا واستغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين، فلم يعاقبها، ولم يفرق بينها وبين يوسف حتى لا تتمكن من مراودته، وأمر يوسف أن لا يذكر ما جرى لأحد محبةً منه لامرأته، ولو كان فيه غيرة لعاقب المرأة. ومع هذا فشاعت القصة، واطلع عليها الناس من غير جهة يوسف، حتى تحدثت بها النسوة في المدينة، وذكروا أنها تراود فتاها عن نفسه، ومع هذا فأرسلت إليهن، وأعتدت لهن مُتَّكَأً، وآتت كل واحدة منهن سكينًا، وأمرت يوسف أن يخرج عليهن ليُقِمن عذرها على مراودته، وهي تقول لهن: فذلكن الذي لُمْتُنَّنِي فيه، ولقد راودته عن نفسه فاستعصم، ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن وليكونن من الصاغرين. وهذا يدل على أنها لم تزل متمكنة من مراودته والخلوة به مع علم الزوج بما جرى، وهذا من أعظم الدِّيَاثة "[8].
فهذا يبين أنَّ انعدام الغيرة سبب لانتشار الفواحش، أما الأدلة على أنَّ الغيرة تحمل على حفظ الأعراض والذود عن حماها فكثيرة:
منها أنَّ ابنة شعيب لما قالت: يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ [القصص:26] أحفظته ـ أي: أغضبته ـ الغيرة أن قال: وما يدريك ما قوته وأمانته؟! قالت: أما قوته فما رأيت منه حين سقى لنا، لم أر رجلاً قط أقوى في ذلك السقي منه، وأما أمانته فإنه نظر حين أقبلتُ إليه وشخصت له، فلما علم أني امرأة صوب رأسه فلم يرفعه، ولم ينظر إلي حتى بلّغته رسالتك، ثم قال: امشي خلفي وانعتي لي الطريق، ولم يفعل ذلك إلا وهو أمين . فسُرِّي عن أبيها، وصدقها، وظن به الذي قالت[9]. فسؤاله لها دليل على صيانة عرضه، وسبب سؤاله الغيرة .
ومن غرائب أدلة ذلك أنَّ بلقيس التي أدركت سليمان عليه السلام كانت أمها من الجنِّ، وسبب ذلك أنَّ أباها كان وزيرًا لملك يغتصب نساء وزرائه، فأملت الغيرة عليه زواج جنية لا يراها ملكه[10].
ومن الأدلة أنَّ رجلاً دخل على أبي سعيد الخدري في بيته، قال: فوجدته يصلي، فجلست أنتظره حتى يقضي صلاته، فسمعت تحريكًا في عَرَاجِين ـ عيدان يابسة ـ في ناحية البيت، فالتفت فإذا حَيَّة، فوثبت لأقتلها، فأشار إلي: أن اجلس، فجلست. فلما انصرف أشار إلى بيت في الدار فقال: أترى هذا البيت؟ فقلت: نعم، قال: كان فيه فتى منا حديث عهد بعرس، فخرجنا مع رسول الله إلى الخندق، فكان ذلك الفتى يستأذن رسول الله بأنصاف النهار فيرجع إلى أهله، فاستأذنه يومًا فقال له رسول الله : ((خذ عليك سلاحك؛ فإني أخشى عليك قريظة)). فأخذ الرجل سلاحه ثم رجع، فإذا امرأته بين البابين قائمة، فأهوى إليها الرمح ليطعنها به وأصابته غَيْرةٌ، فقالت له: اكفف عليك رمحك، وادخل البيت حتى تنظر ما الذي أخرجني. فدخل فإذا بحية عظيمة منطوية على الفراش، فأهوى إليها بالرمح فانتظمها به، ثم خرج فركزه في الدار، فاضطربت عليه، فما يُدرى أيهما كان أسرع موتًا: الحية أم الفتى، فجئنا إلى رسول الله فذكرنا ذلك له وقلنا: ادع الله يحييه لنا، فقال: ((استغفروا لصاحبكم))، ثم قال: ((إن بالمدينة جِنًّا قد أسلموا، فإذا رأيتم منهم شيئًا فآذنوه ثلاثة أيام، فإن بدا لكم بعد ذلك فاقتلوه، فإنما هو شيطان)) أخرجه مسلم (2236). فهذا الفتى مع شدة تعلقه بأهله لكونه حديث عهد بعرس أراد أن يزجرها برمحه حماية لعرضه، وسبب ذلك غيرته.
ومما يدل لذلك أيضًا قول سعد بن عبادة : لو رأيت رجلاً مع امرأتي لضربته بالسيف غير مُصَفَّح ـ أي: بحدّه لا بعرضه ـ، فبلغ ذلك رسول الله فقال: ((أتعجبون من غيرة سعد؟ فوالله، لأنا أغير منه، والله أغير مني، من أجل غيرة الله حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن)) رواه البخاري ومسلم[11].
وفي رواية لمسلم[12] قال سعد بن عبادة: يا رسول الله، لو وجدت مع أهلي رجلاً لم أمسَّه حتى آتي بأربعة شهداء؟! قال رسول الله : ((نعم)). قال: كلا والذي بعثك بالحق، إنْ كنت لأعاجله بالسيف قبل ذلك. قال رسول الله : ((اسمعوا إلى ما يقول سيدكم، إنه لغيور، وأنا أغير منه، والله أغير مني)). وفي رواية قال رسول الله : (( يا معشر الأنصار، ألا تسمعون ما يقول سيدكم؟)) قالوا: يا رسول الله لا تلمه؛ فإنه رجل غيور، والله ما تزوج فينا قط إلا عذراء، ولا طلق امرأة له فاجترأ رجل منا أن يتزوجها من شدة غيرته. قال سعد: والله إني لأعلم يا رسول الله إنها لحق، وإنها من عند الله، ولكني عجبت[13].
يقول النووي رحمه الله: "ليس قوله ردًّا لقول النبي ، ولا مخالفةً من سعد بن عبادة لأمره ، وإنما معناه الإخبار عن حالة الإنسان عند رؤيته الرجل عند امرأته واستيلاء الغضب عليه، فإنه حينئذ يعاجله بالسيف، وإن كان عاصيًا"[14]. وهذا الكلام من سعد كان قبل تشريع اللعان[15].
فهذا يدل على أنَّ الغيور لا يمكن أن يقر سوءًا في أهله، وهذا مما يقلل الشر والفاحشة.
ومن الأدلة كذلك سبب غزوة بني قَيْنُقَاع، فقد جاءت امرأة إلى سوقهم، وجلست إلى صائغ هناك، فجعلوا يريدونها على كشف وجهها، فأبت، فعمد الصائغ إلى طرف ثوبها فعقده إلى ظهرها، فلما قامت انكشفت سوأتها، فضحكوا بها فصاحت، فوثب رجل من المسلمين على الصائغ فقتله وكان يهوديًّا، فشدت اليهود على المسلم فقتلوه، فكانت الغزوة[16].
ولما أصَرَّت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بعد حجة الوداع أنْ تأتي بعمرة بعد قرانها أرسل النبي معها أخاها عبد الرحمن إلى التنعيم لتُحرم منه، تقول: فأردفني خلفه على البعير في ليلة حارة، فجعلت أحسر عن خماري، فتناولني بشيء في يده[17]، فقلت: هل ترى من أحد معنا؟! رواه الطيالسي[18].
ومن طرائف ذلك أن الزبير بن العوام تزوج امرأة اشترطت عليه أن لا يمنعها من صلاة العشاء في مسجد النبي، فلما أرادت أن تخرج إلى العشاء شق ذلك على الزبير، فلما رأت ذلك قالت: ما شئت، أتريد أن تمنعني؟! فلما عيل صبرُه خرجت ليلة إلى العشاء فسبقها الزبير فقعد لها على الطريق من حيث لا تراه، فلما مرت جلس خلفها فضرب بيده على عجزها، فنفرت من ذلك ومضت، فلما كانت الليلة المقبلة سمعت الأذان فلم تتحرك، فقال لها الزبير: ما لك؟! هذا الأذان قد جاء! فقالت: والله، لقد فسد الناس في هذا الزمان[19].
ومن أجمل ما يدل على ذلك وأحسنه ما أورده ابن كثير رحمه الله في كتابه البداية النهاية إذ قال: "ومن عجائب ما وقع من الحوادث في هذه السنة ـ أي: سنة 286 ـ أنَّ امرأة تقدمت إلى قاضي الري فادَّعت على زوجها بصداقها خمسمائة دينار، فأنكره، فجاءت ببينة تشهد لها به، فقالوا: نريد أن تُسفرَ لنا عن وجهها حتى نعلم أنها الزوجة أم لا. فلما صمَّمُوا على ذلك قال الزوج: لا تفعلوا، هي صادقة فيما تدعيه. فأقرَّ بما ادَّعت؛ ليصون زوجته عن النظر إلى وجهها. فقالت المرأة حين عرفت ذلك منه وأنه إنما أقر ليصون وجهها عن النظر: هو في حِلٍّ من صَداقي عليه في الدنيا والآخرة"[20].
إني لأمنَحُك الصُّدُودَ وإنّني قَسَمًا إليك مع الصُّدُود أَمِيلُ
إنَّ المؤمن يحمي عرضه بدمائه، لا يتهاون فيه، ومن فعل ذلك فمات بسببه فهو ممن بشرّهم النبي بالشهادة، قال عليه الصلاة والسلام: ((من قُتِل دون ماله فهو شهيد، ومن قُتِل دون أهله أو دون دمه أو دون دينه فهو شهيد)) رواه أصحاب السنن[21].
ومما يدل على أثر تحقيق الغيرة للعفاف أنَّ الناس يراعون للغيور غيرته، وربما تركوا ما لا جناح فيه مراعاةً له، فهذه أسماء رضي الله عنها تقول: تزوجني الزبير وما له في الأرض من مال ولا مملوك ولا ناضِح غير فرسه، فكنت أَعلُف فرسه، وأستقي الماء، وأَخْرزُ غَرْبه، وأعجن، ولم أكن أحسن أخبز، وكان يخبز جارات لي من الأنصار، وكن نسوة صدق، وكنت أنقل النوى من أرض الزبير التي أقطعه رسول الله على رأسي وهي مني على ثلثي فرسخ، فجئت يومًا والنوى على رأسي فلقيت رسول الله ومعه نفر من الأنصار فدعاني، ثم قال: ((أخ، أخ))؛ ليحملني خلفه، فاستحييت أن أسير مع الرجال، وذكرت الزبير وغيرته وكان أغير الناس، فعرف رسول الله أني قد استحييت فمضى، فجئت الزبير فقلت: لقيني رسول الله وعلى رأسي النوى، ومعه نفر من أصحابه، فأناخ لأركب، فاستحييت منه وعرفت غيرتك. فقال: والله لحملك النوى كان أشدَّ علي من ركوبك معه. قالت: حتى أرسل إليَّ أبو بكر بعد ذلك بخادم يكفيني سياسة الفرس، فكأنما أعتقني. أخرجه البخاري ومسلم.
ولما قال سعد بن عبادة ما قال قالت الأنصار: إنه رجل غيور، والله ما تزوج فينا قط إلا عذراء، ولا طلق امرأة له فاجترأ رجل منا أن يتزوجها من شدة غيرته. رواه البيهقي[22].
قال الشنقيطي رحمه الله: "كثير من البلاد التي تركت الصيانة صار نساؤها يخرجن متبرجات عاريات الأجسام إلا ما شاء الله؛ لأن الله نزع من رجالها صفة الرجولة والغيرة على حريمهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، نعوذ بالله من مسخ الضمير والذوق ومن كل سوء"[23].
فهذه النقولات تؤكد أنَّ ضياع الغيرة مُفْضٍ إلى ضياع الشرف والعفة، مُؤْذِن ببلاء عريض، ولذا كان الخسران جزاء من فقدها، قال : (( ثلاثة لا يدخلون الجنة: العاق لوالديه، والدَّيُّوث[24]، ورَجُلَة النساء)) رواه الطبراني والحاكم[25].، وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : (( إِنَّ اللَّهَ يَغَارُ، وَإِنَّ الْمُؤْمِنَ يَغَارُ، وَغَيْرَةُ اللَّهِ أَنْ يَأْتِيَ الْمُؤْمِنُ مَا حَرَّمَ عَلَيْهِ)) رواه مسلم.
وجاء في حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال النبي : ((رأيتني دخلت الجنة فإذا أنا بالرُّمَيْصَاء امرأة أبي طلحة، وسمعت خَشَفَةً ـ أي: حركة ـ فقلت: من هذا؟ فقال: هذا بلال، ورأيت قصرًا بفنائه جارية، فقلت: لمن هذا؟ فقالوا: لعمر، فأردت أن أدخله فأنظر إليه، فذكرت غيرتك، فولّيت مُدْبِرًا))، فبكى عمر وقال: بأبي وأمي يا رسول الله، أعليك أغار؟! متفق عليه[26]. أي: أعليها أغار منك؟![27].
[1] اللسان: مادة غور (5/41).
[2] فتح الباري (9/320).
[3] أي: لا تذكره لأحد. انظر: جامع البيان (12/197).
[4] المحرر الوجيز (3/239).
[5] الجامع لأحكام القرآن (9/175).
[6] تفسير أبي السعود (4/270).
[7] التفسير الكبير (18/100).
[8] مجموع الفتاوى (15/119-120).
[9] جامع البيان للطبري (20/63).
[10] انظر: الجامع للقرطبي (13/211).
[11] صحيح البخاري: كتاب الحدود، باب: من رأى مع امرأته رجلاً فقتله (6454)، وكتاب التوحيد، باب: قول النبي : ((لا شخص أغير من الله)) (6980)، صحيح مسلم: كتاب اللِّعان (1499).
[12] صحيح مسلم: كتاب اللعان (1498).
[13] مصنف عبد الرزاق (7/114)، ومسند أبي يعلى (5/124)، وسنن البيهقي (7/394).
[14] شرح صحيح مسلم (10/131).
[15] انظر: المسند (1/238).
[16] انظر: السيرة النبوية لعبد الملك بن هشام الحميري، دار الجيل، بيروت، الطبعة الأولى، 1411هـ، تحقيق: طه عبد الرؤوف سعد (3/314).
[17] احتملته الغيرة فطعنها بعصاته.
[18] مسند الطيالسي (1/218).
[19] انظر: التمهيد (23/406-407).
[20] البداية والنهاية (11/83).
[21] سنن أبي داود: كتاب السنة، باب: في قتال اللصوص (4772)، سنن الترمذي: كتاب الديات، باب: ما جاء فيمن قتل دون ماله فهو شهيد (1421)، سنن النسائي: كتاب تحريم الدم، باب: من قاتل دون أهله (4094).
[22] سنن البيهقي (7/394).
[23] أضواء البيان (3/28).
[24] الذي لا يغار على أهله. انظر: النهاية في غريب الحديث (2/147).
[25] معجم الطبراني الكبير (12/302)، مستدرك الحاكم (1/144).
[26] صحيح البخاري: كتاب بدء الخلق، باب: ما جاء في صفة الجنة وأنها مخلوقة (3070)، وكتاب فضائل الصحابة، باب: مناقب عمر بن الخطاب (3476)، صحيح مسلم: كتاب فضائل الصحابة، باب: من فضائل عمر (2395).
[27] انظر: فتح الباري (7/45).
ــــــــــــــــــــ(67/281)
آداب استعمال الهاتف
...
...
4616
...
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
...
...
الآداب والحقوق العامة, قضايا المجتمع
...
أحمد المتوكل
...
...
تاونات
...
...
...
مسجد الرميلة
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- تميز العصر الحاضر بالتطور الإلكتروني. 2- التقنية الحديثة وتقريب البعيد. 3- وجوب شكر الله على هذه النعم. 4- فوائد ومزايا جهاز الهاتف. 5- آداب وتوجيهات في استخدام الهاتف. 6- الحذر من استغلال الهاتف في المحرمات.
الخطبة الأولى
أما بعد: أيها المسلمون، يُعرف عصرنا هذا بأنه عصر المعلوميات والتكنولوجيا ووسائل الإعلام والاتصال السريعة المتطورة، وعصر الثورات العلمية الهائلة والكشوفات العظيمة، وعصر الصواريخ والأقمار الصناعية، وغير ذلك مما جادت به العقول المفكرة والأيدي المبتكرة والطاقات العلمية المشكورة التي سخرها الله ـ من حيث تدري أو لا تدري ـ بقَدَره وقُدْرته، وأمدَّها بالتفكير والتدبير لخدمة الإنسانية على اختلاف عقائدها ومِللها وأجناسها ولغاتها وأماكنها، وتقديم النفع لها، وتيسير سبل العيش عليها في هذه الدنيا المترامية الأطراف، ذات الجبال والصحاري والبحار والقِفَار، لعلها تَذَّكّر فتكون هذه المخترعات والوسائل رسلَ خير توصل للإنسانية دين الله، وتصلها به، ممن كتب الله له في سابق أزله الإيمان والاستجابة.
أيها المؤمنون، لقد أصبح سكان العالم اليوم يعيشون متقاربين متواصلين، وكأنهم في قرية صغيرة متشابكة متصلة بخيوط عنكبوتية مرئية وغير مرئية، وكل هذا بفضل الله ثم بفضل وسائل وشبكات الاتصال الهائلة الحديثة من تلفون وناسوخ وإنترنت، وأجهزة متطورة ناقلة للصوت والصورة في بث حي مباشر عبر الأقمار الصناعية التي تتجول في الجو لهذا الغرض، إذ لولاها لما قامت الأجهزة الأرضية بعملها، حتى أصبح في مقدور الإنسان في أي بقعة من العالم كان أن يتصل متى شاء بمن شاء ويتواصل معه، ويقضي منه مآربه وحاجياته بشكل ميسَّر وفي أقرب وقت وبأقل التكاليف المادية والمعنوية.
أيها المسلمون، يجب على المؤمن أن يعتقد اعتقادًا جازمًا أن كل هذا حدث بتسخير وتقدير القادر الوهاب سبحانه الذي خلق فسوّى وقدَّر فهدى، والذي خلق كلَّ شيء فقدره تقديرا، فالله عز وجل هو الذي أوجد هذا الكون، وأودع فيه كل ما يحقق السعادة للإنسانية، ويجعلها تعيش في راحة وهناء واطمئنان، وجعل فيه من الإمكانيات والمواد التي تُستخدَم لصالح الإنسانية، وهدى إليها العقول المبتكرة المخترعة، فاخترعت وأبدعت وصنَّعت وطوَّرت، فسبحان الذي خلق فسوّى، وقدَّر فهدى، وأوجد فأرشد، وأنذر فأعذر. قال الخالق الهادي سبحانه وهو يمتنّ على عباده: وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الجاثية:13]، وقال: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا [البقرة:29]، وقال: وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ [النحل:8].
أيها المؤمنون، ومما ابتكرته العقول المفكرة الذكية المبدعة التي سخرها الله لنفع الإنسانية وجعلها واسطة في تبليغ نعمه لخلقه الهاتف أو ما يُسمّى بالتلفون، هذه الوسيلة العجيبة الغريبة التي انتشرت في السنوات الأخيرة بشكل واسع ملفت للانتباه، التلفون هذا الجهاز الصغير الكبير ـ فهو صغير في حجمه كبير في نفعه ـ تُقضَى به المآرِب، ويقرِّب بين الأحبة، ويحقق الاتصال والتواصل والقرب بين الأحباب، وينقل الناس من عالم إلى آخر، حيث يتقارب الزمان، وتُطوَى المسافة، وتوصل الأخبار من بعيد الأقطار في أوقات قِصَار، ويُخفّف من المشاق والمتاعب، ويقي من الهموم والمصائب لمن أحسن استعماله، ويوصل بين الأرحام والأصدقاء الأباعد، إنه نعمة عظمى أنعم بها الله سبحانه على أهل هذا العصر رحمة بهم وتخفيفًا عنهم لمَّا تداخلت الأمور، وتُبُودِلت المصالح بين الناس، وحينما احتاج بعضهم إلى بعض في بقاع هذا العالم المتباعدة أقطاره، إنه بحق نعمة كثُر نفعها، ووجب شكرها، وتحتَّم معرفة آداب استعماله؛ حتى لا يأثم مستعمله، بل يؤجر وينتفع ولا يضُرّ ولا يتضرّر.
أيها الإخوة المؤمنون، وهذه بعض الآداب والتوجيهات الإسلامية جمعتُها لمن يستعمل الهاتف، ومن منا اليوم لا يستعمل هذه الوسيلة في حياته؟! ومن إحسان الله بخلقه أنه كلما كثرت البشرية وتعقّدت الأمور أظهر ما يُخفف من الأزمات، ويحلُّ المشكلات، ويقرِّب الشُّقَّة، ويزيل المَشَقَّة، ويُيسّر الصِّعَاب، ويزيل الأتعاب، فسبحان الرحيم بخلقه اللطيف بعباده، إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ [الحج:65]، وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ [غافر:61].
أولاً: على كل من أراد أن يتصل هاتفيًّا بأحد أن يختار الأوقات المناسبة لذلك، ويتجنب الاتصال بالناس في أوقات صلاتهم أو نومهم أو أكلهم أو عملهم؛ حتى لا يُقلقهم، ويؤذي مشاعرهم، ويُفسِد نومهم، ويقطعَهم عن أكلهم أو عملهم أو حاجاتهم، فيحصل بذلك الإيذاء النفسي، وإيذاء الغير منهي عنه في الإسلام، قال عليه الصلاة والسلام: ((لا تؤذوا المسلمين)) رواه الترمذي عن ابن عمر في كتاب البر والصلة، باب: ما جاء في تعظيم المؤمن. فلا ينبغي الاتصال في مثل هذه الأوقات، إلا في حالات الضرورة والاستعجال والطوارئ مع سابق الاعتذار والتلطّف.
ثانيًا: على كل من أراد أن يتصل هاتفيًّا بأحد أن يتأكد من صحة الرقم الذي يطلبه قبل بدء الاتصال، حتى لا يركِّب رقمًا خاطئًا؛ لكي لا يوقظ نائمًا، أو يزعج مريضًا، أو يقلق آمنًا، أو يُروّع مطمئنًّا، قال الرسول عليه الصلاة والسلام: ((لا يحل لرجل أن يُروّع مسلمًا)) رواه الطبراني في الكبير عن النعمان بن بَشِير ورواته ثقات.
ثالثًا: على كل من طلبه أحد في الهاتف أن يجيبه، ولا يقطع عنه مكالمته، فكثير من الناس إذا اتصل به أحد ولم يرغب في الكلام معه قطع عنه المكالمة، وأغلق الخط، وأطفأ الجهاز، وربما كذَب وقال له: أنا لستُ الذي تطلبه، أو لستُ في مكان قريب منك. وهذا ليس من أخلاق الإسلام؛ لأن إجابة المنادي وردّ الجواب وإجابة الدعوة من الواجبات، قال الرسول عليه الصلاة والسلام: ((للمسلم على المسلم ست))، وذكر منها: ((ويجيبه إذا دعاه)) رواه الترمذي عن الحارث بن علي في كتاب الأدب، باب: ما جاء في تشميت العاطس. قال صاحب تحفة الأحوذي شارح جامع الترمذي: "أي: إلى دعوة أو حاجة"، ومن لم يرغب في الكلام مع أحد فيصارحه بذلك، وليصدق معه، وليعتذر له بعذر مقبول كالمَعَارِيض، روي عن الرسول أنه قال: ((إن في المَعَارِيض لَمَنْدُوحَة عن الكذب))، وعلى منِ اعتُذِر إليه أن يقبل الأعذار، وليحسِّن الظن بمن اعتذر له.
رابعًا: من اتصل بأحد أو اتصل به غيره مُشافَهة أو بالرسائل الصوتية أو المكتوبة فليكن أول كلامه: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فهي تحية الله للمؤمنين في الجنة، تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ [الأحزاب:44]، وتحية الملائكة لأهل الجنة، وتحية المرسلين، وبها يُبدأ الكلام عند المسلم كما بها يُختم، عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رجلاً سأل رسول الله: أي الإسلام خير؟ قال: ((تُطعمُ الطعام، وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف)) متفق عليه، وقال الرسول الكريم: ((لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابّوا، أَوَلا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم)) رواه مسلم عن أبي هريرة. وعلى المسلم عند بدء المكالمة أن يتجنّب استعمال الكلمات الأجنبية مثل: "ألو" وغيرها؛ لأنها ليست من تحياتنا نحن المسلمين.
خامسًا: وإذا كان الجهاز مُزوَّدًا بآلة تصوير (كاميرا) فلا ينبغي لمستعمله أن يُصوّر به الأجسام العارية، ولا المناظر القبيحة الفظيعة، ولا كل ما يحرُم النظر إليه، ولا يصور به إلا المناظر الطبيعية، وما لا يلحق ضررًا نفسيًّا أو مادّيًّا بأحد.
سادسًا: أن يتجنّب المسلم استخدام أسلوب الجواسيس في اتصالاته، حيث لا يعرِّف بنفسه ولا بقصده من مكالمته، بل بمجرد ما يُلقِي المتصل السلام على من اتصل به عليه أن يُعرِّف بنفسه وبالمكان الذي يتكلم منه، ويصرِّح بقصده، ويُفصِح عن غرضه من مكالمته بأدب واحترام وحسن تحية وفصيح كلام، قال الله عز وجل: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا [الحجرات:13].
سابعًا: من أجابَتْه امرأة أو اتصلت به فليحترمها، وليتكلم معها باختصار وبأدب ووقار، ولا يَخرُج عن الموضوع الذي يتكلمان فيه، وعليها هي كذلك أن تجيبه بأدب واحترام وحِشْمة غير خاضعة بالقول؛ حتى لا يطمع أصحاب القلوب المريضة وذوو الأهداف السيئة، ولا ينبغي أن يوحي بعضهم إلى بعض زُخْرَف القول غرورًا، قال الله سبحانه مُوجّهًا للرجال: وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفًا [النساء:5]، وقال للنساء: فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفًا [الأحزاب:32].
ثامنًا: إذا اتصل بنا أحد فلا ينبغي أن نطيل معه الكلام إلا إذا رغب في ذلك، وليكن كلامنا معه مختصرًا موجزًا هادفًا نظيفًا لطيفًا، اقتداء بالرسول الذي كان كلامه قَصْدًا وخاليًا من الفُحْش والإيذاء، كما ينبغي أن لا ندخل في غير الموضوع، أو نُكثر الكلام معه فيضيع رصيده من المكالمات، فنؤذي مشاعره فنأثم، ونتسبب في ضياع ماله بغير رضاه، وإضاعة مال الغير محرَّم ممقوت، وكذلك إذا استعملنا هاتف غيرنا، وإن بعض الناس أثناء المكالمة يمزحون ويلغون، قال النبي الكريم: ((كل المسلم على المسلم حرام؛ دمه وماله وعرضه)) رواه مسلم عن أبي هريرة في كتاب البر والصلة والآداب. فتطويل المكالمة وتمديدها بغير رضا المتكلم مساهمة في ضياع ماله وارتفاع فاتورة مكالماته واستنزاف جيبه، وهذا ما لا يرضاه الإسلام في التعامل مع الناس، وإذا كان الله قد كَرِه القيل والقال في الكلام العادي الذي لا يضيع معه مال، فكيف بالكلام الكثير الفارغ التافه الذي كلما زاد واسترسل ازداد معه المال ضياعًا؟! قال الرسول الكريم: ((إن الله يرضى لكم ثلاثًا، ويكره لكم ثلاثًا))، فذكر ما يرضاه الله وقال: ((ويكره قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال)) رواه مسلم عن أبي هريرة، والكراهة هنا تحريمية.
تاسعًا: على المؤمن أن يكون حازمًا في استعماله للهاتف، ولا يستعمله إلا في الحالات المهمة، حتى يحفظ ماله، ويضعه في موضعه، ولا يبذِّره تبذيرًا؛ لأن التبذير حرام، والمبذِّر أخو الشيطان، والمؤمن مسؤول عن ماله يوم لقاء الله، وإن كثيرًا من مستعملي الهاتف اليوم من السفهاء والمبذّرين والطائشين يركِّبون الأرقام بغير معرفة لأهلها، فيتصلون بهذا، ويتكلمون مع هذه، كل ذلك من أجل التشويش والإحراج والفتنة والبحث عن عشيقة بواسطة الهاتف، فيُشغلون الخطوط، ويضيِّعون أموالهم وأوقات غيرهم، ويؤذونهم بغير حق.
عاشرًا: وإذا كان الهاتف محمولاً فلا ينبغي أن نتركه مُشغّلاً داخل المسجد؛ حتى لا نؤذي عُمَّار بيت الله من الملائكة والمؤمنين، فنشوّش عليهم، ونُذهب خشوعهم وطمأنينتهم في الصلاة إذا اتصل بنا أحد ونحن في المسجد، فتضيع هيبة المسجد، وتزول السكينة منه، فَرَنِين الهواتف المحمولة يحدث أصواتًا مُلْفِتة، وانشغالاً مُلْهِيًا عن صدق التوجه وكمال الحضور، قال الرسول الأكرم : ((ائتُوا الصلاة وعليكم السكينة)).
حادي عشر: ينبغي على المؤمن أن لا يترك الهاتف في متناول المراهقين من البنين والبنات؛ حتى لا يستعملوه في ربط العلاقات الحميمة مع أقرانهم، وكم يكون الهاتف سببًا في تفاهم وتلاقي الطائشين والطائشات وبُغاة الزنا ومقترفي الحرام والإجرام. وإذا تركنا الهاتف في متناول القاصرين إن لم يستعملوه في ربط العلاقات الغرامية الجنسية استعملوه في الاتصال بأصدقائهم ولو لقصد بريء فأكثَروا من المكالمات، فترتفع بذلك فاتورة الاستهلاك، ويضيع رصيد المكالمات، والإسلام حرَّم تضييع المنافع وإفساد المصالح، وكم من أب أزال الهاتف الثابت بعدما أرهقه أهله وأبناؤه بكثرة اتصالاتهم.
ثاني عشر: على المسلم المؤمن أن يستعمل هذا الجهاز الخفيف الظريف لقصد نبيل وشريف؛ لصلة أرحامه الأباعد الذين ربما لا يتمكن من زيارتهم مباشرة، إما لكثرة المشاغل، أو لكثرة تكاليف السفر، أو لبُعد المكان ومشقّة الوصول إليه، فبالهاتف يمكن الاتصال بهم والتعرُّف على أحوالهم وتهنئتهم في أفراحهم وتعزيتهم في مصائبهم، فيهنأ المتصل، وتقرُّ عينه على أحوالهم، ويقضي هدفه دون كثير عناء ودون مشقة السفر وتكاليفه.
وعلى المسلم أن يستعمله في الاتصال بأهل الفضل من العلماء والدعاة البعيدين عنه؛ للتواصل معهم، وسؤالهم عن أمور الدين؛ حتى يسترشد بفتاواهم، ويتبين له طريق الحق والصواب.
ثالث عشر: كما يحسُن بك ـ أخي مستعمل الهاتف المحمول ـ أن تكون رَنّة الإشارة بالمكالمة في جهازك عاديّة تُرضي الأذواق السليمة، ولا تثير العواطف ولا تحرك الغرائز، فلا ينبغي أن تكون رَنّة هاتفك موافِقة للنغمات الموسيقية التي تصاحب الأغاني الفاحشة الماجنة، كما يجب عليك أن لا تستعمل في رسائلك الصوتية أو المكتوبة أو المرسومة الكلمات أو العبارات أو الصور الفاحشة، فكل ذلك منهي عنه، وسبب في الإثم والوزر.
رابع عشر: على المؤمن الذي تم الاتصال به خطأً أو في وقت غير مناسب أن يتلطّف في الرد، ويلتمس الأعذار لمن اتصل به، وليكن حليمًا رحيمًا واسع الصدر، فلا يغضب ولا يسب ولا يؤذي أحدًا، وإن أوذي صبر وغفر، قال الله يوجِّه من قد يُؤذَى: وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ [الشورى:43]، والإسلام الحنيف ينهى عن الغضب واستعمال العبارات الفاحشة البذيئة، وما كان رسول الله فاحشًا ولا مُتفحّشًا قط.
وبعد: أيها المسلمون، فهذه الأجهزة والوسائل التي سخرها الله للناس في هذا العصر من مِذْياع وتلفاز وتلفون وناسوخ وإنترنت وحاسوب وغيرها غير محرمة، ولا قُبح فيها لذاتها، وإنما يَحرُم استعمالها إذا استُعملت في الحرام، أو كانت سببًا فيه أو سبيلاً إليه، وتَحسُن ويُطلب استعمالها إذا نشرت الخير، وأوصلت إليه، وكانت سببًا فيه، وداعيًا إليه، فيجب استعمالها بمراعاة تامة لأخلاق الإسلام وآدابه، ووفق ضوابط الدين الحنيف، ولنشر تعاليمه، وإيصال الدعوة الإسلامية لمن يجهلها في هذا العالم
ــــــــــــــــــــ(67/282)
...
العادات السيئة المنتشرة في رمضان
...
...
4617
...
الأسرة والمجتمع, العلم والدعوة والجهاد, فقه
...
...
التربية والتزكية, الصوم, قضايا المجتمع
...
أحمد المتوكل
...
...
تاونات
...
...
...
مسجد الرميلة
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- رمضان شهر الطاعات والقربات. 2- جهل كثير من الناس بمقاصد الصوم. 3- استياء البعض من دخول رمضان. 4- رمضان ليس شهرًا للأكل والشرب. 5- انتشار ظاهرة الغضب أثناء الصوم. 6- التنبيه على خطأ السهر في رمضان.
الخطبة الأولى
أما بعد: أيها المؤمنون، إن الله تعالى جعل للناس رمضان شهرًا للطاعات وموسمًا للتقرب إليه بسائر القربات من صيام وقيام وذكر وقراءة للقرآن واستغفار وصدقة وتخلّق بكل خلق حسن. إن من خصائص رمضان أنه يوفّر الجو الرباني الروحاني بما يتَيَسّر فيه من عبادات متنوعة لا تُتاح في غيره من الشهور.
فعندما يَحل هذا الشهر ضيفًا على المسلمين ينالون من بركاته المتنوعة، وتُتْحفهم رحماته، وتغمرهم نفحاته الإيمانية، إلا أن بعض الناس ـ وخلافًا لما شُِرع من أجله رمضان ـ لا يعطونه حقه، ولا يقدرونه حق قدره، ولا يؤدونه كما هو مطلوب، بل يفتقد صيامُهم إلى ما يجعله صحيحًا كاملاً، وتظهر عليهم فيه سلوكيات خاطئة، وعادات قبيحة، تستولي على اهتماماتهم، وتظهر على جوارحهم، فتعكر صفو صومهم، وتفوِّت عليهم الأجر العظيم، وتوقِعُهم في الإثم المبين، يفعلونها إرضاء لأنفسهم، واتباعًا لرغباتهم، وتلبية لشهواتهم، في هذا الشهر الفضيل الذي لا ينبغي أن يُقابَل بهذا الإخلال والإهمال، ولا أن تُرى فيه هذه العادات السيئة، وهي أمور تدل فيما تدل عليه على عدم فهم الناس لأهداف ومقاصد الشعائر الدينية عامة، وجهلهم بأهداف الصيام وسننه وآدابه خاصة، وبقيمة هذا الشهر وفضله على سائر الشهور، وتفريطهم في فوائده وعوائده.
وأغلب الناس ضعُف عندهم معنى الصوم، أو غاب عنهم مفهومه الحقيقي كليًّا، وأصبحوا ينظرون إلى الصيام كإحدى العادات الاجتماعية التي تعَوَّدوا استقبالها وإحياءها كل سنة، دون أن يتأملوا في مقاصده وأبعاده، ولا أن يتفكروا في أسراره، ولا أن تظهرَ عليهم فوائده وآدابه، وبالتالي غاب تأثيره في حياتهم وواقعهم وفي حالهم مع ربهم عز وجل.
وفي هذا الموضوع سأتكلم عن أشهر هذه العادات وأكبرها ضررًا على الصائمين، وأثرها في إفساد صومهم.
أولاً: يُلاحظ أن بعض الناس يستاؤون ويغضبون إذا دخل رمضان، وكم يتمنون مرور ساعاته وأيامه بسرعة، ويترقبون خروجه بتلهّف؛ لأنهم يرون أن فيه حرمانًا لأنفسهم من شهواتها وملذاتها، وقطعًا لمألوفاتها وكبحًا لرغباتها، ولأنهم يرون أن الصيام يسبب لهم التعب والإعياء والعطش، مما يقلل من عطائهم، ويُضعف جهدهم في أعمالهم، فترى أنفسهم قلقة، وصدورهم حرجة ضيقة، ووجوههم عابسة مُكْفَهِرَّة، يشكون ويتألمون، ولا يصومونه إلا مجاراة وتقليدًا للناس، وخوفًا من الفضيحة والعار، ولذا فهم يفضلون عليه غيره من الشهور، ويرونه كضيف ثقيل حل بهم يتمنون رحيله سريعًا، قال الرسول : ((فلا مر بالمنافقين شهر شر لهم منه)) رواه ابن خزيمة.
وعلى العكس من حال هؤلاء ينبغي للمؤمن أن يفرح ويُسَرَّ بقدوم رمضان، ويستبشر بحلوله، ويسعد بأيامه العظيمة، وينعم بلياليه الكريمة، وتطيب نفسه بمنافعه الجسيمة، قال الله سبحانه: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [يونس:58]، ويعقدَ العزم على صيامه أحسن صيام، وإكرامِه غاية الإكرام، ويحرص أن لا تفوته فرصُه وفوائده وخيراته، ويستعد لذلك أفضل استعداد، وليجمع لذلك من الزاد ما يؤهله ليكون أحسن من استفاد، وإذا أكمل صوم رمضان تمنى حلوله بشوق وتوق.
ثانيًا: كثير من الناس يفهمون أن رمضان شهر للأكل والشرب والتمتع، فتراهم يستعدُّون له قبل حلوله ودخوله، وذلك بإعداد أنواع الحلويات والمأكولات وادِّخار بعض الأطعمة التي قد تنفَدُ في رمضان، وكأنه قد حل موسم جوع وقَحْط، ويزعم البعض أن الصيام يقطع عنهم أكلهم وشهواتهم في النهار، فتراهم إذا جاء الليل ملؤوا الموائد بأنواع المأكولات وألذ المشروبات، فيجعلون ليالي الصيام للمزيد من الاستهلاك والإسراف والتبذير والنَّهَم والشَّرَه، فترى الناس في الأسواق والمتاجر يزدحمون ويتسابقون على السلع والمشتريات، ويتزايدون في أثمانها، فترتفع أسعارها، وتحدث الفوضى والشِّجار والتدافع حولها، فتنفد السلع لكثرة الطلب عليها، مما يسبب لكثير من الفقراء الحرمان منها وهم في أشد الحاجة إليها، ويدفع بعض التجار الفجار لاحتكارها ليبيعوها بأثمان باهظة. وأغلب الناس تُضاعف ميزانية إنفاقهم في هذا الشهر، ولا يكفيهم مرتَّبهم الشهري فيه، بل يلجؤون إلى مدخراتهم أو إلى الاقتراض بالربا المحرم، حيث يستجيبون لإغراءات وتشجيعات البنوك الربوية، فيسقطون في الحرام وفي مستنقع الآثام، وأكثر الموظفين يشتكون مما يحدثه لهم هذا الشهر حسب زعمهم من نفاد في أموالهم، وما يترك خلفه من ديون ثقيلة عليهم يستمر تسديدهم لها شهورًا بعد رمضان.
فهذا الإسراف وكثرة الإنفاق والاستهلاك المنتشر بيننا ليسا من مقاصد الصيام، بل على العكس من ذلك فرمضان شهر الرخاء والاقتصاد والتقلل والزهد والتقشف وترشيد النفقات والاكتفاء بالضروريات دون الكماليات، وشهر لحلول البركات من الأرض والسماوات، شهر غذاء الأرواح والقلوب لا الأبدان والأجساد، يقول الله عز وجل: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ [الأعراف:31]، والتقلل سنة نبوية عاش عليها الرسول ومات عليها، قال عليه الصلاة والسلام: ((اللهم اجعل رزق آل محمد قوتًا)) رواه الشيخان عن أبي هريرة. والقوت: ما يكفي دون زيادة، والتقلل: إمساك على زمام النفس لكيلا تجتلبها المغريات، وكان رسول الله سيد هذه المنزلة أوصى بالتقلل حتى يكتفي المؤمن في خاصة نفسه بمثل زاد الراكب، قال الرسول لأبي هريرة : ((يا أبا هريرة، كن ورعًا تكن أعبد الناس، وكن قَنِعًا تكن أشكر الناس)) رواه ابن ماجه عن أبي هريرة بإسناد حسن، وقال الرسول عليه الصلاة والسلام: ((ما ملأ آدمي وعاء شرًّا من بطن، بحسْب ابن آدم أكلات يقمن صُلْبه، فإن كان لا محالة فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنفَسه)) رواه الترمذي في كتاب الزهد، باب: ما جاء في كراهية كثرة الأكل.
ثالثًا: نرى بعض الصائمين يغضَبون لأتفه الأسباب، فيسبُّون ويشتمون ويقولون فُحْشًا وقُبْحًا ومُنكرًا من القول وزورًا، ويتراشقون بالكلام الساقط، ويتشاجرون ويتخاصمون، ويخرج من أفواه بعضهم كلام قد يُخرج من الملة إلى الكفر، كسبّ الدين أو الرب سبحانه، وقد ينشب العِراك، وتسيل الدماء، وتسقط الأرواح. وهذا سلوك يتنافى مع أخلاق هذا الشهر الكريم، ومع ما هو مطلوب منا فيه من إمساك للسان عن اللغو والفحش وصون له عن البذاءة والصَّخَب، يقول الله عز وجل في الحديث القدسي عن الصيام: ((فإنه لي وأنا أجزي به، والصيام جُنّة، وإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفُث ولا يصْخَب، فإن سابّه أحد أو قاتله فليقل: إني امرؤ صائم)) متفق عليه، وفي رواية: ((فلا يرفث ولا يجهل، وإن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل: إني صائم)) مرتين.
فينبغي للصائم أن يمسك لسانه عن القول الذي لا يرضي الله، وليكن عفُوًّا صفوحًا حليمًا، ولا يعبأ بعبارات الطائشين، ولا يستَخِفُّه أصحاب اللسان الآثم فيهلك مع الهالكين.
رابعًا: ومن المشهور عند الناس في رمضان أنه شهر السمر والسهر إلى ساعات متأخرة من الليل، فأغلب الناس يحيون ليالي رمضان في الملاهي والمقاهي وفي الشوارع والأرصفة، وفي الغفلة والقيل والقال والغيبة والنميمة والخوض في الباطل، وأمام شاشات التلفاز لمشاهدة القنوات الفضائية والانتقال من واحدة إلى أخرى بحثًا عن أغنية أو منظر أجمل أو متعة أكمل أو مسلسل أو فلم أفضل، أو بحثًا في شبكة الإنترنت عن المواقع الإباحية ومواقع الرذيلة، وآخرون يلجؤون إلى لعب الورق والدَّامَّة وربما القمار المحرم، الشيء الذي يجعلهم يعوِّضون سهرهم بالليل بنوم النهار، مما يُضِر بأعمالهم، خاصة الموظفين منهم، فتراهم في مكاتبهم متكاسلين، تظهر عليهم علامات الخمول والإرهاق والإعياء، مما يقلل من عطائهم في العمل وإخلاصهم فيه، الشيء الذي يجعلهم يُخِلُّون بوظائفهم ولا يؤدونها على الوجه الأكمل، ويعطلون مصالح الناس، ويغلقون أبواب المكاتب في وجوههم، ويردونهم يومًا بعد يوم بدعوى تعب الصوم.
وإن رمضان يعرف قلبًا لحقيقته وتشويهًا لصورته من طرف الإعلام والقائمين عليه، حيث يعملون على تضليل الناس وإخفاء حقيقته في نفوسهم، إذ يملؤون برنامج هذا الشهر بالسهرات والحفلات والمسرحيات والأفلام ومختلف الفكاهات، وكأن رمضان شرع من أجل ذلك. وتفتح المقاهي والملاهي ودور السينما أبوابها مباشرة بعد الإفطار وعلى مدار الليل لجلب الناس وإتحافهم وإمتاعهم بسهرات رمضان الغنائية المسلية الملهية طلبًا للربح الوفير، ضاربين بعرض الحائط حرمة رمضان، حيث تختلط أصوات المؤذنين والمقرئين بأصوات المطربين والفنانين، وهذا منكر وضلال عظيم وفهم سقيم. والأولى للساهرين في التوافه أن يُشغلوا أنفسهم بذكر الله والاستغفار وقراءة القرآن والاستماع لدروس الوعظ والعلم، ومجالسة العلماء في المساجد، وحضور الندوات والمحاضرات التي تكثر في رمضان، ومتابعة البرامج النافعة في القنوات الفضائية، مما يزيد من فهمهم لأحكام الدين عامة وأحكام وآداب الصيام خاصة.
والسهر فيما لا نفع فيه نهى عنه رسول الله ، حيث كان يكره النوم قبل العشاء والحديث بعدها. رواه البخاري في كتاب مواقيت الصلاة، باب: ما يكره من النوافل قبل العشاء إلا في خير. قال عليه الصلاة والسلام: ((لا سَمَر بعد الصلاة ـ يعني العشاء الآخرة ـ إلا لأحد رجلين: مصل أو مسافر)) رواه أحمد عن عبد الله بن مسعود وحسنه السيوطي، وكان من موقف أمير المؤمنين المُلْهَم عمر بن الخطاب أنه كان يضرب الناس على السَّمَر في الليل ويقول: (أسَمَرًا أول الليل ونومًا آخره؟!). وللسمر الكثير بالليل مضار ومفاسد، أهمها تضييع الأوقات الفاضلة والتفريط فيما يتاح فيها من الخير، والحرمان من القيام في آخر الليل وما يكون فيه من بركات وكرامات وهبات، وتضييع لصلاة الصبح، وزهد في عطاءات الله لعباده المصلين الداعين المستغفرين في الأسحار، حيث ينزل إليهم إكرامًا وإنعامًا.
ألا فليعلم الصائمون أن رمضان إنما جاء ليكون وقاية وصيانة لنا من أخلاق منحطة، وليزيل منا عادات سيئة ترسخت فينا طوال السنة، وليربينا على الكمال الخلقي، وليدربنا على الصبر والتحمل والإنتاج والبذل والعطاء والاقتصاد والجهاد والإحسان إلى خلق الله والإخلاص والإتقان في الأعمال، وليزوِّد روحنا بالتقوى والزهد والورع، وليزكي نفوسنا حتى تسمو إلى بارئها عبر مدارج القرب والزلفى، وليطهر المجتمعات مما انتشر فيها من فساد خلقي واقتصادي واجتماعي وسياسي، وليحقق فينا العزة والإباء والشموخ. وتظهر هذه المعاني جلية من سيرة الرسول وأصحابه والتابعين الذين فهموا الغرض والقصد من الصيام، فصاموه وصانوه وقدروه حق قدره، فكانت لهم العزة والمجد والسؤدد.
اللهم وفقنا للصيام الذي ترضاه، اللهم اجعلنا ممن صام رمضان وحفظ حدوده، اللهم اجعلنا ممن رفع الصوم منزلته وأعتق رقبته من النار آمين...
ــــــــــــــــــــ(67/283)
الاستعداد للاختبار
...
...
4632
...
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
...
...
الأبناء, التربية والتزكية, الموت والحشر
...
عبد الله بن محمد البصري
...
...
القويعية
...
...
...
جامع الرويضة الجنوبي
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- سرعة انقضاء العام الدراسي. 2- حرص الوالدين على نجاح أولادهم الدنيوي فقط. 3- التذكير باختبار اليوم الآخر وخطره. 4- نتيجة اختبار اليوم الآخر. 5- وجوب العناية بأوقات فراغ الأولاد زمن الاختبارات. 6- التحذير من الغش في الاختبارات.
الخطبة الأولى
أما بعدُ: فأُوصِيكم ـ أيُّها الناسُ ـ ونفسِي بتقوى اللهِ عز وجل، فتزوّدوا بها فإنها خيرُ الزَّادِ، واستعدُّوا بالأعمالِ الصالحةِ ليومِ المَعَادِ، يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ [غافر:39، 40].
أيُّها المُسلمونَ، وقَبلَ أَشهُرٍ مَعدودةٍ بَدَأَ العامُ الدِّراسيُّ لِطُلابِ المَدَارسِ والجامعاتِ، وفي أَوَّلِ يومٍ منهُ نَظَرَ كثيرٌ مِنَ الطلابِ إلى ما أمامَهم من أيامٍ، فَرَأَوا أنها طَوِيلةٌ مُمتدّةٌ، وأنَّ بإمكانِهم أنْ يَلهُوا في أولِها ويَلعبوا، ثم يَعكُفُوا على كُتُبِهِم وَدَفَاتِرهِم في آخِرِها عُكُوفَ الجَادِّينَ، فَيَلتهِموُا ما فِيها من قَوَاعدَ وَمَعلُوماتٍ، وَيَشرَبوُا مَا تَحوِيهِ مِن مَسَائِلَ وَتَفرِيعَاتٍ، وَمَا زَالوا على الإِهمالِ مُقِيمِينَ، يَأكُلُ التَّسويفُ أَوقَاتَهُم سَاعةً بَعدَ سَاعةٍ، وَيَلَتهِمُ التَّأجِيلُ فُرَصَهُم يَومًا بَعدَ يَومٍ، حَتى اقتربَ مَوعدُ الاختِبارِ وَحَانت سَاعةُ الصِّفرِ، فإذا بِهِم يَجِدُونَ نَتِيجَةَ تَفرِيطِهِم وإِضاعتِهِم الأوقاتَ، يَجِدُونهََا نَدَمًا وَأَلمًا وَحَسَرَاتٍ، فَاستبدَلَ كَثيرٌ مِنهُم بِفرْحةِ اللَّعِبِ طُوالَ العَامِ تَرْحَةَ َاَلمُذَاكَرَةِ، وَبِجَلَسَاتِ الأحبَابِ العُكُوفَ على الكِتَابِ، بَل كَم مِن أبٍ وأمٍّ لم يَستَريحا في مَنَامٍ ولم يَهنَئَا بِطَعَامٍ تَضَامُنًا مَعَ أَبنائِهِم وبَنَاتِهِم، وَخَوفًا على مُستقبلِهِم مِنَ الضَّيَاعِ.
وَهَذا الشُّعورُ بِرَهْبةِ الامتحانِ مِن قِبَلِ الأبناءِ وَذَاكَ الخَوفُ مِن قِبَلِ الآباءِ والأولياءِ إنما هُوَ شُعُورٌ طَبيعِيٌّ وَخَوفٌ جِبِلِّيٌّ، لا غُبارَ عَلَيهِما ولا عَيبَ فَيهِما، وَلَكِنَّ المُصِيَبةَ العُظْمَى وَقَاصِمَةَ الظَّهرِ الكُبرَى أنْ تَرَى هذا الشُّعورَ أَوفرَ مَا يَكونُ عِندَ أُمُورِ الدّنيا وَاختِبَارِها اليَسِيرِ الذي أعظمُ ما يَحصلُ لِلطالبِ مِن جَرَّائِهِ أنْ يخُفِقَ فِيهِ أو يُحرَمَ مِنه، فإذا جاء أمرٌ مِمَّا يَخُصُّ الآخِرةَ واختبارَهَا الحقيقيَّ رأيتَ الأبوينِ أَبرَدَ ما يَكونانِ شُعُورًا، وَوَجدتَ الأبناءَ أَقَلَّ ما يُلْفَونَ اهتِمَامًا. كم مِن أَبٍ وَأمٍّ حَرِصا عَلَى إيقاظِ أبنائِهِم عِندَ أَذَانِ الفَجرِ في أَيَّامِ الامتِحَانَاتِ بل في أيامِ الدِّراسةِ، وَبَذَلُوا كُلَّ ما في وُسعِهِم لِتَنبِيهِهِم وَتَنشِيطِهِم، لِئَلا يفوتَهُم مَوعدُ الدِّراسةِ أوِ الامتحانِ فيُخفِقُوا، وَكم قد ذَكَّرُوهُم بِفُلانٍ وعَلانٍ مِمَّن نَجَحُوا في دِرَاسَتِهِم وَتعلِيمِهِم وَهُمُ الآنَ يتقلَّدونَ أغلى المناصبِ وَيَتَرَبَّعُونَ على أعلى المَرَاتِبِ؛ لعلَّهُم يَقتدونَ بِهِم ويَصنعُونَ مِثلَ ما صَنَعُوا، وَلَكِنَّ هَذينِ الوَالِدينِ لم يَهتَمَّا في يَومٍ مَا بِإِيقَاظِ الأبنَاءِ لِصَلاةِ الفَجرِ أو صَلاةِ العَصرِ، مَعَ عِلمِهِمَا بِأَهَمِّيَّةِ الصلاةِ وَخَطَرِ تَركِها، وَلَم يَربِطاهُم في دِينِهِم بِالقُدُوَاتِ الحَقِيقِيينَ مِن سَلَفِهِمُ الصَّالِحِ وَعُلَمَاءِ الأمَّةِ الرَّبَانِيينَ.
إنَّ مِنَ الشَّقَاءِ الوَاضِحِ وَالخَسَارَةِ الفَادِحَةِ ـ أيُّهَا المُسلِمُونَ ـ أنَّ يَظَلَّ اهتِمامُ الإِنْسانِ مُنصَبًّا على هذهِ الدُّنيا وَزَخَارِفِها، وَأَن لا يَظْهَرَ حِرصُهُ إلا عليها وَمِن أَجلِها، لا يُسعِدُهُ إلا نَجَاحُهُ في اختِبارِها، وَلا يُحزِنُهُ إلا إِخفَاقُهُ في جَمعِ حُطامِها، ثم لا يُهِمُّهُ بَعدَ ذَلكَ أَمرُ الآخِرَةِ ولا أَينَ مُوقِعُهُ مِنها، مَعَ عِلمِهِ أنَّهُ لا بُدَّ أنْ يَصيرَ إليها يَومًا ما، وَأَنَّها هِيَ المَقَرُّ وَفِيها البَقَاءُ، إِنْ في سَعَادَةٍ وَإِنْ في شَقَاءٍ.
إنَّ كُلَّ مُوَفَقٍ مِنَ العِبَادِ ـ أيُّها الإخوَةُ ـ لا يَمُرُّ بِهِ مُوقِفٌ حتى وَإنْ كان دُنيويًا بَحْتًا إلا تَذَكَّرَ بِهِ الآخِرةَ وَيَومَ الحِسَابِ. وَنحنُ مُقبِلونَ على امتحِانَاتِ الطُّلابِ، فَإِنَّ هَذِهِ الأيامَ العَصِيبَةَ على أبنَائِنا بل وَعَلى كَثيرٍ مِنَ الآباءِ لا بُدَّ أنْ نَتَذَكَّرَ بهَا يَومَ السُّؤَالِ والحِسَابِ وما أَعَدَّ اللهُ فَيهِ مِنَ الثَّوَابِ والعِقَابِ، ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لأَجَلٍ مَعْدُودٍ يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ [هود:103-108].
إِنَّهُ كَمَا أنَّ الطُّلابَ يُسْأَلُونَ في الامتِحَانِ وَلَن يَنجَحَ مِنهُم إلا مَن كَانَ مُجِدًّا مجتَهِدًا وَلَن يُفلِحَ مِنهُم وَيَنَالَ الدَّرَجَاتِ العَالِيةَ إلا مَنِ اغتَنَمَ عَامَهُ مِن أَوَّلِه، فَيَجِبُ أَنْ نَعلَمَ أنَّ كُلَّ عَبدٍ سَيُسْأَلُ يَومَ القِيامَةِ عَمَّا سَلَفَ مِنهُ وَكَان، وَلَن يَنجَحَ إلا أَهلُ التَّقوَى وَالإيمَانِ الذين يَغتَنِمُونَ الأعمَارَ ويُبادِرُونَ الأوقَاتَ في التَّزَوُّدِ مِنَ البَاقِياتِ الصَّالِحَاتِ وَاكتِسَابِ الحَسَنَاتِ، فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الحجر:92، 93]. فَكُلٌّ سَيُسْأَلُ لا مَحَالَةَ، دَاعِيًا كانَ أو مَدعُوًّا، رَسُولاً أو مُرسَلاً إليه، وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ [الأعراف:6-9].
أيُّهَا المُسلِمُونَ، إنهُ وَإِنْ حَرِصَ أَهلُ الدُّنيا على إِخفَاءِ أَسئِلَةِ الاختِبَارِ عَنِ الطُّلابِ إلا أنَّ اللهَ مِن رَحمتِهِ وَلُطفِهِ بِعبادِهِ جَعَلَ أَسئِلَةَ الاختِبَارِ الأُخرَوِيِّ مَكشُوفَةً وَمَعلُومَةً لِكُلِّ أَحَدٍ، فَقَد كَشَفَهَا مُعَلِّمُ البَشَرِيَّةِ الخيرَ بوحيٍ مِن ربِّهِ جل وعلا، وَنَصَحَ الأُمَّةَ بِتَوضِيحِها لهم، وَحَذَّرَهُم وَأَنذَرَهُم، فَقَالَ : ((لَن تَزُولَ قَدَمَا عَبدٍ يَومَ القِيامةِ حَتَّى يُسأَلَ عَن أَربعِ خِصَالٍ: عَن عُمُرِهِ: فِيمَ أَفنَاهُ؟ وَعَن شَبَابِهِ: فِيمَ أَبلاهُ؟ وَعَن مَالِهِ: مِن أَينَ اكتَسَبَهُ؟ وَفِيمَ أَنفَقَهُ؟ وَعَن عِلمِهِ: مَاذَا عَمِلَ فِيهِ؟)). ألا فَأَعِدُّوا لِلسُّؤَالِ جَوَابًا، وَأَعِدُّوا لِلجَوَابِ صَوَابًا، احفظُوا الرَّأسَ وَمَا وَعَى، وَالبَطنَ وَمَا حَوَى، وَتَذَكَّرُوا المَوتَ والبِلَى، وَاترُكُوا زِينَةَ الحَيَاَةِ الدُّنيَا لِتَفُوزُوا بِالأُخرَى، وَاعلَمُوا أَنَّهُ لا خَيرَ في طُولِ العُمُرِ إلا مَعَ حُسنِ العَمَلِ، وَلا في زَهرَةِ الشَّبَابِ إلا بِالطَّاعَةِ، وَلا في كَثرةِ المَالِ إلا مَعَ حُسنِ الإنفَاقِ، وَلا في العِلمِ إلا بِالعَملِ وَالتَّطبِيقِ.
إنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ ـ أيُّها الإِخوَةُ ـ قَد تَجَاوَزَتْ أَعمَارُهُمُ الأربَعينَ وَالخَمسينَ، وَمَعَ ذَلك مَا زَالُوا يَلعَبُونَ وَيَلهُونَ سَامِدِينَ، يَتَأَخَّرُونَ عَنِ الجُمُعَةِ وَالجَمَاعَةِ، وَيُقَصِّرُونَ في العِبَادَةِ وَالطَّاعَةِ، أَوقَاتُهُم تَضِيعُ في قِيلٍ وَقَالٍ، وَمَجَالِسُهُم غِيبةٌ وَنَمِيمَةٌ وَجِدَالٌ، أَضَاعُوا عَصرَ الفُتوَّةِ والشَّبَابِ وَمَا كَفَاهُم، فَيُرِيدُونَ أن يُلحِقُوا بِهِ عَصرَ الكُهُولةِ والشَّيخُوخَةِ، وَإِنَّ إِخوَانًا لهم مِن أَهلِ الغِنى والثَّرَاءِ مَا زَالُوا يَتَخَوَّضُونَ في مَالِ اللهِ بِلا خَوفٍ ولا تَوَرُّعٍ، يَحرِصُونَ عَلَى جَمعِ الأَموَالِ مِن كُلِّ وَجهٍ وَسَبِيلٍ، لا يَتَوَرَّعُونَ عَن غِشٍّ وَلا رِبا، ولا يَأبَهُونَ بِمَا أَخَذُوهُ بِالحِيَلِ وَشَهَادَاتِ الزُّورِ، وَلا بِمَا كَسَبُوهُ بِالأَيمَانِ الكَاذِبَةِ وَالخُصُومَاتِ الفَاجِرَةِ.
أمَّا مَعشرُ الشَّبَابِ ـ وَمَا أَدرَاكَ مَا حَالُهُم؟! ـ فَوَقتُهُم مُضَاعٌ وَفُرَصُهُم غَيرُ مُغتَنَمَةٍ، سَهَرٌ مُمْتَدٌ وَسَمَرٌ طَوِيلٌ في غَيرِ عِبادةٍ وَلا تَحصِيلٍ، نَومٌ عَنِ الصَّلاةِ وَتَثَاقُلٌ عَنِ الطَّاعَاتِ، وَصَحوٌ في البَاطِلِ وَخِفَّةٌ إلى المَعَاَصِي، عَلِمُوا فَلَم يَعمَلُوا، وَقَالُوا: سَمِعنَا وَعَصَينا، وَأُشرِبُوا في قُلُوبِهِم حبَّ المُوبقِاَت والشَّهَوَاتِ، فَلَبِئسَ العِلمُ عِلمُهُم، إذْ لم يُورِثْهُمُ العَمَلَ وَخَشيَةَ العَلِيمِ سُبحَانَه.
أيُّهَا المُسلِمُونَ، إِذَا كَانَ هَذَا هُوَ حَالُ جُمهُورِ شَبَابِنَا وَشِيبنَِا فَأَينَ الإِعدَادُ لاختِبَارِ الآخِرةِ؟! وَكَيفَ سَتَكُونُ الإِجَابَةُ عَنِ الأَسئِلَةِ بَينَ يَدِي رَبِّ العَالَمِينَ؟! يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [النحل:111]. لَيتَ شِعرِي، بِأيِّ جَوَابٍ سَيُقَابِلُ تَارِكُ صَلاةِ الفَجرِ والعَصرِ رَبَّهُ؟! أَتُرَاهُ سَيَقُولُ: كَانَ البَردُ في الفَجرِ شَديدًا وَالفِرَاشُ وَثِيرًا، وَكُنتُ في العَصرِ مُتعَبًا بَعدَ الدَّوَامِ وَجَمعِ الحُطَامِ؟! وَلا أَدرِي إلى أينَ يَفِرُّ مِن مَولاهُ مَن عَصَاهُ فَأَكَلَ الحَرَامَ وَشَرِبَ الحَرَامَ وَسَعَى إلى الحَرَامِ؟! مَا جَوَابُ مَن غَشَّ رَعِيَّتَهُ وَأَهلَ بَيتِهِ فَأَدخَلَ عَلَيهِمُ الدُّشُوشَ وَأَجهِزَةَ اللَّهوِ وَالبَاطِلِ؟! أَتُرَاهُ سَيَنجَحُ في اختِبَارِ الآخِرَة ِوَرَسُولُ اللهِ يَقُولُ: ((ما من عبدٍ يَسترعيهِ اللهُ عز وجل رعيةً، يموتُ يومَ يموتُ وهو غاشٌّ رعيتَهُ إلا حرَّمَ اللهُ تعالى عليهِ الجنةَ)).
ألا فَليُحاسبْ كُلُّ امرئٍ نفسَهُ قبلَ أن يُحَاسَبَ، وَليَسأَلها قبلَ أن يُسأَلَ، فإنَّ مَن حَاسَبَ نفسَهُ هُنَا خَفَّ عليهِ الِحسابُ هُناكَ، وَمَن أهملَها اليومَ نَدِمَ يَومَ لا يَنفعُ النَّدَمُ، يَوْمَ لا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ [غافر:52].
إخوةَ الإيمانِ، إنَّ اختبارَ الآخرةِ فَصْلٌ وَمَا هُوَ بِالهَزْلِ، جِدٌّ ليس بِاللَّعِبِ، إنه واللهِ اختبارٌ لا يَستوي فيهِ مَن تابَ وآمنَ وعَمِلَ صَالحًا ثم اهتدى بمن أغفل اللهُ قَلبَهُ عَن ذكرِهِ واتَّبعَ هَوَاه ُوكان أمرُهُ فُرُطًا، إنه اختبارٌ لا يُعادُ ولا يُكَرَّرُ، وَنَتيجَتُهُ لا تُرَاجَعُ ولا يُرجَعُ فيها، وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ [الرعد:41]. مَا نَتيجَتُهُ وَاللهِ إلا أن يُحِلَّ اللهُ رِضوَانَهُ عَلَى عبدِهِ فَلا يَسخَطُ عليه بعدَهُ أَبَدًا، أَو يَسخَطُ عليه فَلا يَرضَى بَعدَهُ أَبَدًا، ما ثَمَّ إلا الحُسْنَى وَزِيَادَةٌ، جَنَّةٌ عَاليَةٌ قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ، لا تَسْمَعُ فِيهَا لاغِيَةً، عَرْضُها السماواتُ والأرضُ أُعِدَّت للمتقيَن، وَنَظَرٌ إلى وَجهِ رَبٍّ كَرِيمٍ، في عِيشةٍ رَاضيةٍ، في سِدرٍ مَخْضُودٍ وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ وَظِلٍ مَمْدُودٍ وَمَاءٍ مَسكُوبٍ وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ لا مَقطُوعَةٍ ولا مَمْنُوعَةٍ وَفُرُشٍ مَرفُوعَةٍ، أَو نَارٌ مُوقدةٌ مؤصدةٌ حاميةٌ تلظَّى، أُعِدَّت للكافرينَ، لا يَصلاها إلا الأشقى الذي كذَّبَ وتوَلَّى، فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ [آل عمران:158].
فاتقوا اللهَ ـ يَا طُلابَ الآخرةِ ـ وأطيعوهُ، وراجِعوا كتابَ ربِّكُم والزمُوهُ، واقتدوا بمعلمِكُم الخيرَ واتَّبِعُوهُ، ولا يكنْ حالُكُم كحالِ المفرّطينَ الذين يلعبون ولا يَجِدُّونَ، حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [المؤمنون:99، 100].
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [الأنفال:20-25].
الخطبة الثانية
أما بعدُ: فاتقوا اللهَ ـ أيها المسلمونَ ـ حقَّ التقوى، وتمسَّكُوا مِنَ الإسلامِ بِالعروةِ الوُثقى، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ [الحشر:18-20].
أيها المسلمون، إن أولادَنا أمانةٌ في أعناقِنا، وَسَنُسْأَلُ عنها فيما نُسألُ عنه ولا بُدَّ، قال : ((كلُّكُم راعٍ وكُلُّكُم مسؤولٌ عن رعيتِهِ)).
وإذا كان الأمرُ كذلكَ ـ أيها الإخوةُ ـ فَيَجِبُ أن لا يَكُونَ كُلُّ هَمِّنا أن يُحَصِّلَ أبناؤُنا دنيًا فانِيةً، أو يَحُوزُوا مَنَافِعَ زَائِلَةً، أو يتقلَّدُوا مَنَاصِبَ غَالِيةً ويرتقوا رُتَبًا عَالِيةً، ثم نتركَهم بعدَ ذلك بِلا تربيةٍ إسلاميةٍ وتوجيهٍ سديدٍ؛ لأنَّ هَذهِ الأُمُورَ الدُّنيَوِيَّةَ البَحتةَ سَتُصبِحُ وَلا شَكَّ وَبَالاً عَلَيهِم إذا لَم تُربَطْ بَشَرْعِ اللهِ وَالدَّارِ الآخِرةِ، فَلْيكنْ هَمُّنا إِصلاحَهُم عَقِيدةً وَقَولاً وَفِعْلاً وَسُلُوكًا، لِيَستَفِيدُوا مِن دِرَاسَتِهِم وَمِن جَمِيعِ أُمُورِ حَيَاتِهِم، وليستَغِلُّوهَا في الخَيرِ وَنَشرِ الإسلامِ والدَّعوَةِ إليهِ.
وَمَا دامَ الكَلامُ عَنِ الاختِبَارِ وَأَيَّامِهِ وَعَنِ التَّربِيَةِ وَأَهَمِّيَتِهَا، فَإِنَّ هُنَا أَمْرًا مُهِمًا جِدّ مُهِمٍّ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالأبناءِ وَتَربيتِهِم، رَأَيتُ أنْ أُنَبِّهَ عَلَيهِ كُلَّ أَبٍ حَرِيصٍ غَيُورٍ يَعِي المَسؤوليةَ المُلقَاةَ عَلَى عَاتقِهِ وَيَشعُرُ بها، ذَلكم هُوَ أَنَّ أَيَّامَ الاختباراتِ والامتحاناتِ كَثيرًا مَا يَخرجُ الطَّالبُ فيها مِنَ المَدرَسَةِ مُبكِّرًا، وَهُنا مَكمَنُ الخَطَرِ وَمَنبَعُ الشَّرِّ، حَيثُ يَستَغِلُّ كَثيرٌ مِن عَبيدِ الشَّهَوَاتِ هَذا الوَقتَ الضَّائعَ الذي يَمتَدُّ إلى أَكثرَ مِن ثَلاثِ سَاعاتٍ أَحيَاَنًا، فَيَتَكَرَّمُون مَأْزُورِينَ غَيرَ مَأْجُورِينَ ويَجعَلُونَ مِن سَيَّارَاتِهِم مَأْوًى لِكَثِيرٍ مِنَ الأَيتامِ الضَّائِعِين الذينَ فَقَدُوا محَاَضِنَ التَّربيةِ السَّلِيمَةِ، وَبُلُوا بأمهاتٍ تَخَلَّينَ أَو آبَاءٍ مَشغُولِينَ، فَيَحصُلُ في هذا الإرْكَابِ مِنَ الشَّرِّ مَا اللهُ بِهِ عَلِيمٌ، مِنِ استماعِ غِنَاءٍ وَمَزَامِيرَ، وَإِيذَاءٍ لِعِبادِ اللهِ في أَسوَاقِهِم وَشَوَارعِهِم، وَمُهَاوَشَاتٍ وَمُنَاوَشَاتٍ، إلى لوَاطٍ وَهَتْكٍ لأعرَاضِ هؤلاءِ الأبناءِ المَخدُوعيَن مِن قِبَلِ تِلكَ السِّباعِ الضَّارِيةِ، بَلِ البَهَائِمِ العَارِيَةِ التي تَشَبَّعَت بما في الدُّشُوشِ مِن خَلاعةٍ وَمُجُونٍ، فَعَادَت لا تُفَكِّرُ إلا في كَيفيةِ قَضَاء ِالشَّهوَةِ والبَحثِ عَنها.
ألا فَاتقوا اللهَ أيُّهَا الآبَاءُ، واحفَظوا أَبنَاءَكُم مِنَ الضَّيَاعِ وَمِمَّا لا يَليقُ بِكُم ولا بِهِم، فَقَدْ ثَبَتَ بِتَتَبُّعِ كَثِيرٍ مِنَ المُعَلِّمِينَ المُهْتَمِّينَ بِالوَاقِعِ وَرِجَالِ الهَيئَةِ وَاستِقْرَائِهِم لِجَرَائمِ اللِّوَاطِ وَالمُضَارَبَاتِ وَاستِعْمَالِ المُخِدِّرَاتِ وَحَوَادِثِ السَّيَّارَاتِ التي تَقَعُ للطلابِ أَنَّ أَكثَرَها وُقُوعًا وَأَشنَعَها إنما يحَدُثُ في أَيَّامِ الاختِبَارَاتِ، حَيثُ طُولُ الفَرَاغِ وَانعِدَامُ الرَّقِيبِ وَتَسلِيمُ الآبَاءِ السَّيَّارَاتِ لأبنَائِهِم مِن غَيرِ اهتِمَامٍ وَلا مُتَابَعَةٍ.
أَلا فَرَحِمَ اللهُ أبًا اهتَمَّ بِأَبنَائِهِ وَتَابَعَهُم، وَأَخَذَ عَلَى أَيدِيهِم دَونَ كُلِّ شَرٍّ وَمَنَعَهُم، وَطُوبَى لِمَن كَفَى الناسَ شَرَّ أَبنَائِهِ وَأَذَاهُم، ذَاكَ وَاللهِ هُوَ المُسلِمُ حَقًّا، قَالَ : ((المُسلِمُ مَن سَلِمَ المُسلِمُونَ مِن لِسَانِهِ وَيَدِهِ، والمُهَاجِرُ مَن هَجَرَ ما نَهَى اللهُ عَنْه)). وَيَا لخسَارَةِ مَن ضَيَّعَ أَبنَاءَهُ وَأَهمَلَهُم، وَتَرَكَ لهم الحَبلَ عَلَى الغَارِبِ، وَشَجَّعَهُم لِيُؤذُوا عِبَادَ اللهِ بِغَيرِ ما اكتسبوا، وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا [الأحزاب:58].
وَقَضِيَّةٌ أَخِيرةٌ نُنَبِّهُ إِلَيهَا أَبنَاءَنَا الطلابَ وَإِخوَانَنَا المُعِلِّمِينَ، ألا وَهِيَ الغِشُّ في الامتحَاناتِ، أوِ الدُّخُولُ في سَرَادِيبَ مُلتَوِيَةٍ لِتَحصِيلِ أَورَاقِ الأَسئِلَةِ أَو جُزءٍ مِنها مِن بَعضِ المَصَادرِ، فَإِنَّ ذَلكَ مِن أَعظَمِ الغِشِّ لِلنَّفسِ وَلِلأُمَّةِ، حَيثُ يَنجَحُ بِهَذِهِ الطُّرُقِ مَن لا يَستَحِقُّ النَّجَاحَ، وَيَتَقَلَّدُ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ المُزَوَّرَةِ مَنَاصِبَ لا يَستَحِقُّهَا، وَيَأكُلُ بها أَموَالاً لا تَحِلُّ لهُ، فَالحَذرَ الحَذرَ مِن ذَلِكَ، وَليَتَذَكَّرْ كُلُّ مَن دَعَتهُ نَفسُهُ إلى الغِشِّ أوِ المُرَاوَغَةِ قَولَهُ : ((مَن غَشَّنَا فَلَيسَ مِنَّا)). وَلْيَعلَمْ أنَّ هَذا الحَدِيثَ مُنطَبِقٌ عَلَى الغِشِّ في الامتِحَانَاتِ وَفي كُلِّ المَوَادِّ بِلا استثناءٍ، كَمَا قَرَّرَ ذَلك الرَّاسِخُونَ في العِلمِ مِن عُلَمَائِنَا رَحِمَهُمُ اللهُ.
ــــــــــــــــــــ(67/284)
الإسراف والتبذير
...
...
4636
...
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
...
...
الزهد والورع, الكبائر والمعاصي, قضايا المجتمع
...
عبد الله بن محمد البصري
...
...
القويعية
...
...
...
جامع الرويضة الجنوبي
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- تفشي ظاهرة الإسراف والتبذير في المناسبات. 2- الأفراح بين الأمس واليوم. 3- الدوافع الباعثة على الإسراف. 4- خطورة الإسراف. 5- من حكم تحريم الإسراف. 6- الإسلام دين العدل والوسطية. 7- خطأ إسرار النكاح.
الخطبة الأولى
أما بعد: فاتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون، واسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [الأنفال:24-26].
أيها المسلمون، واستكمالاً لحديث سبق حول منكرات الأفراح ومخالفات الأعراس، فإننا سنتحدث اليوم عن مخالفة عظمى ومصيبة كبرى، أمرها خطير وشرها مستطير، نهى الله تعالى ورسوله عنها، وحذر المصلحون الناصحون من مَغَبّتها، وكثر حديث الخطباء والوعاظ حولها، علم الناس حرمتها وخطرها على دينهم ودنياهم، ولكنهم ما زالوا مع كل ذلك يقعون فيها، بل لا يزدادون مع الأيام إلا تعلقًا بها وإصرارًا عليها، تلكم هي قضية الإسراف والتبذير في الحفلات ومجاوزة الحد في البذل والإنفاق في المناسبات، فبدلاً من أن تكون الأعراس والولائم فرصة لإظهار الفرح والسرور بنعمة الله، أصبحت ميدانًا للتفاخر والتكاثر، وغدت مجالاً للرياء والسمعة، تباهٍ بالأموال المصروفة، وتفاخرٌ بالموائد الممدودة، وتغالٍ في الصالات المستأجرة، لهو وطرب وغناء، ورقص وخلاعة ومجون، استعمال غير مشروع للذهب والفضة، وتنافس في الملابس وأنواع الحلل والحلي، قصور في الفهم وانحطاط في التصور، وضعف في الدين ونقص في الإيمان، نسيان للماضي وتجاهل للغابر، وغفلة عن الغد وإغراق في الحاضر، وكأن الهدف من الحفلات والمناسبات قد أصبح حب مدح الناس وثنائهم، وخوف ذمهم وكلام ألسنتهم.
أيها المسلمون، لنعد قليلاً إلى أيامنا الماضية، ولنرجع هُنَيهة إلى عصورنا الخالية، ولا أقول: ارجعوا إلى قرون طويلة أو أجيال غابرة، أو انتقلوا إلى أماكن بعيدة ومسافات سحيقة، ولكن ارجعوا إلى أربعين سنة مضت، وعودوا إلى أربعة عقود خلت، وانظروا كيف عاش آباؤنا وأجدادنا في هذه البلاد، وتفكروا كيف كانت زيجاتهم وحفلاتهم في هذه الديار، ماذا ذبحوا، وماذا أكلوا، وبأي طعام أكرموا ضيوفهم وتبلّغوا. إنه اليسر وعدم التكلف، تقديم لما يسّر الله وهيّأه، في تواضع جمّ وراحة بال، وطيب قلوب وسعة صدور، شاة واحدة أو شاتان، مع ما يسّر الله من بُرّ أو رز وما أقله وأعزه، لا فاكهة ولا مشروبات، ولا إضاءة ولا إنارة، ولا فرش وثيرة ولا تعقيد، ومع ذلك كله كانت المحبة والألفة في أبهى صورها وأعلى معانيها، الجميع راض بما قسم الله وأعطى، يبدؤون باسم الله، ويختمون بحمده، ويدعون للعروسين بالبركة والولد، لا شيء من النعمة يمتَهن أو يستهان به، بل كثير يؤكل.
وتعمى الأبصار، فإذا بالذي يستر حاله بالأمس ويتعفّف أصبح اليوم يبذّر ويسرف، أناس كانوا وما زالوا فقراء مُعدَمين عالة مُمْلِقين يتكفّفون الناس ويستدينونهم، ويُلْحِفُون في سؤال الأغنياء والأمراء، ويلجؤون إلى مصارف التسليف والجمعيات الخيرية، يتحملون من الديون ما لا يستطيعون، ويتكلفون ما لا يطيقون، ويتنافسون على ما لا يقدرون، كل ذلك طمعًا في المظاهر الكذابة الخداعة، وتلبّسًا وتشبّعًا بما لم يعطهم الله، وتقليدًا للمسرفين الآخرين، وخوفًا من النقص عما يفعلون، حتى لقد غدا الزواج عند الشاب مطلبًا عزيزًا، بل أصبح شبحًا مخيفًا، يهابه ولا يجرؤ على القرب منه، يتمناه ولا يكاد يحصله، حتى إذا طال عليه الأمد وعبثت به الشهوة ورأى الأقران يستسلمون لهذا الواقع المرّ واحدًا واحدًا عقد العزم على اللحاق بهم والاستمتاع بما أحلّه الله، فلا يجد مناصًا من الوقوع في الديون الباهظة، ولا محيدًا عن مسالك الإسراف المفتعلة، يتجرّع مرارة الإسراف ولا يكاد يسيغها، ويتحمل مؤونة التبذير دَينًا على عاتقه، يستمر به سنوات وسنوات، ينغّص عليه عيشه وحياته، ويكره معه الزوجة وأهل الزوجة والمجتمع من حوله؛ حيث كانوا سببًا في إذلاله وإهانته وضياع حاضره ومستقبله.
من الذي اضطره إلى ذلك ـ أيها المسلمون ـ وأجبره عليه؟ من الذي أرغمه على الإسراف ودعاه إليه؟ إنه أنا وأنت والمجتمع بأسره، حين جعلنا الزواج مجالاً للمفاخرة وميدانًا للمكاثرة، فإذا ذبح فلان في زواجه خمسًا أو ستًا من الغنم لم يرض علان إلا بذبح عشر أو عشرين، وإذا نحر ابن فلان قعودين أو ثلاثة نحر ابن علان أربعة أو خمسة، ثم لا نبالي بعد ذلك بمصير هذه النعم ولا أين يُذهب بها، أفي البطون أم إلى القمامات؟! أأكلها الناس أم أكلتها السباع والعوافي؟! أوزعت على المحتاجين أم على صناديق النفايات؟!
والمصيبة كل المصيبة ـ أيها المسلمون ـ حين لا يكون الإسراف إلا ممن جرّب الفاقة وعايش الحاجة وأصابته الخلة وباء بالمسكنة، قد مسته البأساء والضراء، وقرصه الجوع وعضته المَسْغَبَة، ثم لما كثر ماله وحسنت حاله واخضرّ عوده وأورق غصنه تكبّر وتجبّر، وتطاول وتعاظم، وغدا شديد الصَّلَف كثير السَّرَف، لا يقنع بقليل ولا يملأ عينه كثير.
ولقد عايشنا وعايشتم في حفلات كثيرة، ورأينا ورأيتم شيوخًا وكهولاً، لا يُتّهمون إلا برجاحة العقول ورزانة الأحلام، قد عاشوا أيام الفقر والجوع، ومرت بهم سنون عجاف، إن وجد أحدهم غداءه لم يلق عشاءه، وإن شبع في وجبة تجاوز وجبات، فلما أنعم الله عليهم وأغناهم ـ وكان الأحرى بهم أن يقيدوا النعمة بشكر المنعم سبحانه ـ إذا هم قد جحدوا النعمة ولم يرعوها حق رعايتها، بل تفننوا في تبديدها وإهدارها في الذبائح والولائم، وفي شراء الملابس والفساتين، وفي جلب المغنيات والكوافيرات، وفي شراء الحلويات والمشروبات، وفي طلب الكماليات والثانويات، حتى لقد صارت قيمة فستان الزفاف في بعض الأحيان تبلغ أكثر من عشرين ألف ريال، وإيجار الصالات قد ينوف على ثلاثين ألفًا، ودُفِعت للمغنيات آلاف الريالات، هذا عدا ما يصرف على الإنارة والفرش والعمال والطباخين والفواكه والمرطبات، وما يعطاه الشعراء الذين يتبعهم الغاوون، ويقولون ما لا يفعلون.
أيها الإخوة، إن الإسراف والتبذير مسلك خطأ من مسالك الإنسان في المال، تولى القرآن الكريم الحديث عنه وعن أهله، فبيّنه وفضح الغارقين فيه، ودلّ على آثاره وجزاء المنغمسين فيه، وجاء في السنة المطهرة التحذير منه والنهي عنه. قال تعالى: وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا [الإسراء: 26، 27]، وقال سبحانه: يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ [الأعراف:31]، وقال : ((كلوا واشربوا، والبسوا وتصدقوا، في غير إسراف ولا مخيلة))، وقال عليه السلام: ((إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات ووأد البنات ومنع وهات، وكره لكم قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال)).
والإسراف داء مهلك ومرض قتّال، ينبت أخلاقاً سيئة مرذولة، ويهدم بيوتًا عامرة مصونة، ويورث الجبن وينبت الذل، والمسرف ضعيف العزيمة واهن القوة، منهمك في فنون المتاع الرخيص، لا يصمد أمام الشدائد ولا يحتمل المكاره؛ لأنه متعلق بمشتهيات نفسه، مغرق في لذيذ عيشها، مما يقوي حرصه على الحياة وكراهيته للموت. الإسراف يمسك بيد صاحبه عن فعل الخير وبذل المعروف، وأهل الإسراف تأبى أيديهم أن تبسط في إسعاد ذوي الحاجات والنكبات، لا يسارعون إلى مروءة ولا يسعفون في أخوة، ولا يهمهم أن يكون لهم في الناس ذكر جميل أو صيت حسن، ومن ثم تنقطع صلة التعاطف والتراحم بين كثير من أفراد الأمة، بل لقد نبه المجربون ـ أيها الإخوة ـ إلى أن للإسراف أثرًا كبيرًا في إهمال النصيحة وحب الناصحين، ولقد قال الله في فرعون: إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ [الدخان:31].
أيها المسلمون، إن النهي عن الإسراف والتبذير قُصِد به حماية الأمة من الليونة المفرطة، ووقايتها من الاسترسال في المتع الرخيصة، مما يؤدي إلى الانحدار في الرذائل والمحرمات، ويصرف عن حياة الجد والجهاد والبذل والتضحية، كما قُصِد به حفظ الأموال التي بها قيام الناس واستقامة معاشهم. ومن أجل ذلك، فكما أن الفرد مسؤول ومحاسب عن إسرافه وترفه فإن الأمة مسؤولة عن هذه الظاهرة ومحاسبة عليها، فيجب عليها مقاومتها ومنعها والتبصر بمخاطرها وسيئ آثارها، وإذا هي لم تفعل حقّت عليها كلمة الله، وأحاط بها وعيد القرآن، جزاءً وفاقًا: وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ [القصص:58].
وليزداد الأمر في ذلك وضوحًا وجلاءً فلتعلموا ـ أيها الإخوة ـ أن المسرفين المترفين في العادة هم أشد الناس استغراقًا في الاستمتاع وذهولاً عن المصير. مترفون مسرفون، يجدون المال ويجدون الخدم، ويجدون الراحة وينعمون بالدّعَة؛ حتى تترهّل نفوسهم وتضعف أبدانهم، وترتع في الفسق حياتهم، وتستهتر بالقيم سلوكياتهم. فإذا لم يوجد من يأخذ على أيديهم ويمنعهم مما هم فيه عاثوا في الأرض فسادًا، ونشروا فيها الفواحش والموبقات، وأرخصوا القيم العليا والمبادئ السامية التي لا تعيش الأمم ولا تقوم إلا بها، ومن ثم تتحلّل الأمم وتسترخي، وتفقد حيويتها وعناصر قوتها، فتهلك وتطوى صفحتها، وهذا من سنن الله التي لا تتبدل ولا تتغير، مصداق ذلك في كتاب الله: وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا [الإسراء:16].
إذا كان ذلك كذلك ـ أيها الإخوة ـ فإنه يتعين على ولاة الأمور وأهل العلم والصلاح، ويجب على الوجهاء والأعيان وشيوخ العشائر، ويلزم ذوي الأثر والقدوة في الناس أن تتضافر جهودهم وتتعاضد توجهاتهم على المجاهدة في هذا السبيل، حتى يبتعد الواقعون في الإسراف عن إسرافهم، ويسلكوا طريق القصد ونهج العدل؛ حفاظًا على الدين والمروءة، وإبقاءً على ثروات الأمة ومقدراتها.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُوْلُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ [هود:116، 117].
الخطبة الثانية
أما بعد: أيها المسلمون، فإن الوسط والعدل هو قاعدة الإسلام الكبرى، والإفراط أخو التفريط، والإسلام لا يدعو إلى ارتداء الخِرَق البالية مع تحصيل أفضل منها، ولا إلى تجويع النفس مع تحصيل الطعام الطيب، ولكنه العدل والوسط، يأخذ فيه المرء ما يجد ولا يتكلف ما فقد. هذا هو نهج عباد الرحمن، وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا [الفرقان:67]، يأكلون ليعيشوا، ويعيشون ليعطوا الحياة قدرها ويحفظوا لها وظيفتها، عبادة لله وإحسانًا إلى عباده، رجاءً لواسع فضله وطمعًا في عظيم ثوابه. يأخذون من الطيبات، ويستمتعون بالزينة، ويقفون عند حدود الله ولا يتجاوزونها، قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ [الأعراف:32].
إن الكريم ذا المروءة من يعرف للمال قدره ومكانته، فيضعه في موضعه، وينزله منزلته، عنده في الحياة مطالب يبذل فيها المال بسخاء وسماحة نفس، يؤدي الحقوق ولوازم النفقة على النفس والوالدين والوِلْدان والزوج والأقربين. مصارف البر عنده واسعة، من المساجد والمدارس والجمعيات الخيرية، في نظرة واسعة للمصالح العامة والخاصة. وحينما قال أهل العلم: لا خير في الإسراف فقد قالوا: لا إسراف في الخير، وحينما قالوا: لا تنفق قليلاً في باطل قالوا: لا تمنع كثيرًا في حق. وإنه لا يضر أولي الفضل والسعة أن يقتصدوا في أطعمتهم وملابسهم ويختصروا في حفلاتهم وزيجاتهم ما داموا يبذلون أموالهم فيما تكمل به مروءتهم، وتدعو إليه حقوق مجتمعهم وأمتهم، بل إن ذلك ليزيدهم مكارم إلى مكارمهم، ذلكم هو مسلك العدل والاقتصاد، وسبيل الكرم والسماحة، وطريق الفضل والمروءة، وسط بين البخل والإسراف، وعدل بين الشح والتبذير، إنه مسلك يملك العبد به الدنيا ليسخرها للدين، ويأخذ من متاع الأولى ما يبلغه الأخرى.
أيها المسلمون، وهنا أمر لا بد من ذكره مقترنًا بالتحذير من الإسراف، ذلكم هو ما يفعله بعض العقلاء ومريدي الخير من إسرار الزواج وإخفائه، وتصغيره وتحقير شأنه، إلى الحد الذي قد لا يعلم جيرانه وأقاربه أنه قد حصل عنده زواج، يفعل ذلك تيسيرًا لأمور الزواج وتخفيفًا على الزوج، وابتعادًا عن الإسراف وهربًا من التبذير، وكسبًا للراحة وطردًا للتعب والعناء، وهو مأجور على نيته الخيرة تلك، مثاب على ذلك إن شاء الله، ولكن ينبغي أن يعلم أن إسرار الزواج ليس من السنة في شيء، بل السنة إعلانه وإظهاره، وعمل وليمة لذلك، من غير مبالغة ولا تبذير ولا إسراف، قال عليه الصلاة والسلام: ((فصل ما بين الحلال والحرام ضرب الدف والصوت في النكاح)) وقال: ((أعلنوا النكاح))، وقال لعبد الرحمن بن عوف لما تزوج بامرأة من الأنصار: ((أولِم ولو بشاة)).
ألا فاتقوا الله رحمكم الله، واسمعوا وأطيعوا وأنفقوا خيرًا لأنفسكم، واعلموا أن السعيد هو من كان مباركًا على مجتمعه وأمته، مفتاحًا للخير مغلاقًا للشر، والحر هو من تحرر من كل ما يستطيع الاستغناء عنه، وأجمل عادة وأحسنها أن لا يكون العبد أسيرًا للعادة. طوبى لمن وجد غداء ولم يجد عشاء، ووجد عشاء ولم يجد غداء، وهو عن الله راض والله عنه راض. وويل ثم ويل للمسرفين الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون
ــــــــــــــــــــ(67/285)
البركة
...
...
4640
...
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
...
...
آثار الذنوب والمعاصي, قضايا المجتمع
...
عبد الله بن محمد البصري
...
...
القويعية
...
...
...
جامع الرويضة الجنوبي
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- انتشار ظاهرة قلة البركة. 2- العلاقة بين التمسك بالدين والبركة. 3- أسباب ذهاب البركة.
الخطبة الأولى
أما بعد: فأوصيكم ـ معاشر المؤمنين ـ ونفسي بتقوى الله عز وجل، فإن تقوى الله هي خير مخرج وأقوى منهج، وهي مفتاح الخيرات ومعدن البركات، وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا [الطلاق:2، 3]، وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [الأعراف:96].
أيها المسلمون، من الظواهر التي لحظها أغلب الناس اليوم واتفقت فيها كلمة أكثرهم حتى لا يكاد يختلف فيها اثنان قلّة البركة في الأموال والأولاد، وعدم الانتفاع بالأرزاق والأبناء، حتى إن الرجل ليكون مرتّبه عاليًا ودخله جيدًا وأبناؤه عُصْبَة من الرجال الأقوياء الأشداء ثم تراه يقترض ويستدين، ويعيش في بيته وحيدًا أو مع زوجه العجوز لا أحد من أبنائه يحدب عليه أو يلتفت إليه. ولربما دخل كثير من الناس السوق وجيبه مليء بالمال، فلا يخرج إلا وهو صفر اليدين أو قد تحمَّل شيئًا من الدَّين، وعندما ينظر فيما أتى به من أغراض وحاجات لأهله لا يجد إلا أشياء كمالية صغيرة، يحملها بين يديه بلا عناء، ولا تساوي ما أنفق فيها من مال.
وإن هذا الأمر ـ أيها الإخوة في الله ـ ليس قضية عارضة أو مسألة هينة، بل هو في الواقع يشكل ظاهرة ملموسة وقضية محسوسه، ويعد منحنى خطيرًا في حياة المجتمع المسلم، يجب على كل فرد أن يدرسه ويتعرف أسبابه، ويبحث عن حله الناجح وعلاجه الناجع، فيأخذ به ويقي نفسه، لعل الله أن ينجيه مما ابتلي به غيره من الناس، أو مما قد يكون هو نفسه مبتلى به.
أيها المسلمون، إننا يجب أن نعلّق أنفسنا بهذا الدين العظيم الذي ندين الله عز وجل به في كل أمورنا، يجب أن نرتبط به في جميع مناحي حياتنا، وأن ندرس تحت مظلته قضايانا، ونحل به مشكلاتنا، وأن نعلم أننا مهما تمسكنا به وعضضنا عليه بالنواجِذ فلن نضل ولن نشقى بتوفيق الله، وأننا بقدر ما نبتعد عنه أو ننحرف عن صراطه المستقيم أو نتخلّى عن تعاليمه السمحة المباركة أو نتهاون بها فإننا نهوي إلى مكان مُوحِش سَحِيق، ونلقي بأنفسنا في مجاهل من المستقبل المتردّي الذي لا يعلم ما يكون عليه إلا الله.
يقال هذا الكلام ـ أيها الإخوة في الله ـ ونحن قد رأينا الناس في الماضي القريب بل القريب جدًا، عندما كان قدر دينهم في قلوبهم أقوى وأعلى، ومكانته في نفوسهم أمكن وأسمى، إذ ذاك كانت أرزاقهم سهلة ميسورة، والخيرات والبركات بينهم منشورة، كان راتب أحدهم قليلاً ومعاشه ضئيلاً، ولكنه كان يسد حاجته ويمنعه الفاقة، ويكفيه ذل سؤال الناس واستجدائهم، بل كان يوفر منه ويدّخر شيئًا كثيرًا، يجده عند الشدائد والملمات، وينفعه الله به عند المضائق والكربات، ثم ما زالت الرواتب تزداد والبركة تقل والمعاشات ترتفع ومستوى المعيشة ينخفض، في ظل هذه الحضارة المادية البحتة التي ازداد الناس فيها علمًا بظاهر الحياة الدنيا، وأصبحوا عن الآخرة هم غافلون، فقلّت البركة فيهم ونُزِعت من أموالهم، حتى أصبح الذي بالأمس تكفيه ألف ريال في شهره ينفق الآن ثلاثة آلاف أو أكثر في أسبوع أو أسبوعين، ثم يظل بقية شهره لا يجد شيئًا، مما يضطره للاستدانة من الآخرين أو سؤالهم، وكلاهما أمران أحلاهما مُرّ عَلْقَم.
ولذا ـ أيها المسلمون ـ كان لا بد أن نتأمل أحوالنا، ونراجع أنفسنا، وأن نعود إلى ديننا، ونتوب إلى ربنا، لعله سبحانه أن يرحمنا رحمة من عنده واسعة، يغنينا بها عن رحمة من سواه. وإنه لا بد مع ذلك أن نتعرف الأسباب التي بها نُزِعت البركات وقلّت الخيرات، حتى نعالجها ونتخلص منها.
ومن تلك الأسباب ـ أيها المسلمون ـ بل هو أهمها وأقواها ضعف الإيمان في النفوس وانعدام التقوى من كثير من القلوب، حتى عاد كثير من المسلمين لا يرجون لله وَقَارًا، فعصوه ليلاً ونهارًا، وخالفوا أمره سرًا وجهارًا، واتبعوا من لم يزده ماله وولده إلا خسارًا. لقد أصبح جمهور الناس اليوم ـ ولا حول ولا قوة إلا بالله ـ لا يقيمون لأوامر الدين ونواهيه وزنًا، ولا يعطونها اهتمامًا ولا قدرًا، بل لقد أصبح بعضهم لا يلقي لها بالاً بالكلية، إذ تأتي عنده في المرتبة الأخيرة من اهتماماته، وتجيء في مؤخرة أولوياته.
انظروا ـ رحمكم الله ـ إلى الصلوات الخمس أهمّ أركان الدين العملية كيف تجرّأ كثير منا اليوم على تركها وتهاون بأدائها، وكأنها عنده أمر اختياري عادي، يخضع لهوى نفسه ورغباتها. كم هي نسبة الذين لا يصلون الفجر في وقتها ومع الجماعة؟! وكم عدد الذين يتركونها بالكلية؟! وكم تبلغ أعداد الذين يسلمون أنفسهم للنوم بعد الغداء فلا يصلون العصر إلا كفعل المنافقين المستهزئين؟! وأين من التقوى والإيمان ـ أيها الإخوة ـ من يرفع أطباق الشر على سطح منزله، ويدخل فيه أجهزة اللهو والباطل، تغذي أبناءه بالشر والرذيلة، وتقتل في نفوسهم الحياء وتئد الفضيلة؟! ووالله لو صدق كل منا مع نفسه وحاسبها محاسبة صادقة لوجد أخطاء لا يحصيها العَدّ، ولا يبلغها الحَدّ، لسنا بحاجة إلى تعدادها والتفصيل فيها، فكل أدرى بنفسه وأخبر بحاله، بَلِ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ [القيامة:14، 15].
ومن أسباب قلة البركات ونزعها ـ أيها الإخوة ـ تعلق الناس بالمال والدنيا، وغفلتهم عن المآل والأخرى، حتى لقد أصبح كثير منهم يوالي في المال ويعادي فيه، ويحب له ويبغض من أجله، ويرضى إن أعطي ويسخط إن منع، وإلا فقولوا لي بربكم: ما شأن هذه المنازعات التي أقضّت مضاجع القضاة؟! وما سبب تلك المرافعات التي شغلت الولاة؟! وما نهاية تلك القضايا المستغلقة المتعسّرة التي مضى عليها عشرات السنين، وأصدرت فيها صكوك كأنها لكبرها سُمُط منشورة، ومع هذا لم يأخذ صاحب الحق حقه، ولا الظالم ارتدع فيها عن ظلمه؟! ولِمَ يتهاجر إخوان ويتقاطع جيران؟! وعلى أي شيء تنقضي أعمار كثير من المحامين والموكلين؟! أعلى ما يرضي الله وفي طاعة الله، أم إنه في سبيل الشيطان وإغراق في المعصية وتفريق بين الأخ وأخيه وابن العم وقريبه؟! إنه لا يستطيع أحد من المتهاجرين المتصارمين أن يقول: إنه هجر أخاه لأنه لا يصلي، ولا يقدر أحد من المتخاصمين المتقاطعين أن يدعي أنه أقام على من خاصمه دعوى لأنه عاص لله، إذًا فمن أين ننتظر حلول البركة في أموالنا وأرزاقنا ونحن قد جعلنا هذا المال هدفنا ومُبْتَغَانا؟! من أين ننتظر البركة ونحن قد أصبحنا عبيدًا للمال خدمًا لسلطانه؟! من أين تأتينا البركة وقد أصبح المال محركنا وهو الذي يسكننا، وهو الذي يرضينا ويسخطنا؟! من أين تأتي البركة وصاحب الفضل يبخل بفضله والغني يمنع خيره ولا يمنح رِفْدَه؟!
يا لها من تعاسة ما أشدها على الأفراد والمجتمعات! ويا لها من انتكاسة ما أقوى أثرها على القلوب والنفوس! قال : ((تعس عبد الدينار وعبد الدرهم وعبد الخميصة، إن أُعْطِي رضي، وإن لم يعط سخط، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش)). يا له من حديث ما أعظم شأنه وما أصدق برهانه! ويا له من واقع ما أقرب معايشتنا له! هل ترون هذا الحديث منطبقًا إلا علينا؟! وهل ترون تفسير معناه إلا ما يجري الآن في واقعنا؟! وإلا فأي تعاسة أكبر وأشد وأبلغ من تعاسة إخوة أشقاء لا يسلّم أحدهم على الآخر، ولا يرى له عليه حقًّا؟! وأي انتكاسة أقوى وأعظم وأطم من انتكاسة جارين مسلمين وقد يكونان ذوي رحم واحدة، ثم لا يرعى أحدهما للآخر حرمة، ولا يقوم له بواجب؟! إنها والله لمصيبة وأي مصيبة، أن يكون ذلك من أجل الدنيا وطمعًا في نيل أكبر قدر منها، ثم لا يحصل العبد منها إلا ما كتب له بعد أن يكون قد اكتسب الآثام والذنوب العظام، واجترح السيئات وارتكب الموبقات، وأذهب بركة رزقه، وفقد طعم ماله، وضيّع وقته وأفسد مآله.
عن حكيم بن حزام قال: سألت رسول الله فأعطاني، ثم سألته فأعطاني، ثم سألته فأعطاني، ثم قال: ((يا حكيم، هذا المال خضر حلو، فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس ـ يعني بتطلّع وطمع وشَرَه ـ لم يبارك له فيه، وكان كالذي يأكل ولا يشبع)). ألا ما أشد انطباق هذا الحديث على المسلمين مجتمعات وأفرادًا في هذا الزمان! وما أقرب معناه من واقعهم المؤلم المُزْرِي! حيث جمع أكثرهم المال بإشراف نفس وطمع، وأخذه آخرون بشَرَه وتطلّع، فأفنوا من أجله الأعمار، وأذهبوا في طلبه الأوقات، بل ونسوا في سبيله الطاعات، وذُهِلوا عما خُلِقوا من أجله من العبادات، ووقعوا في الموبقات والمهلكات، يكذبون في بيعهم ويغشون، ويحلفون الأيمان الكاذبة ويخادعون، ويرابون ويرتشون ويشهدون الزور، كل ذلك طمعًا في الاستزادة من المال، فمن أين تأتي لمثل هؤلاء البركة؟! قال : ((البيعان بالخيار ما لم يتفرّقا، فإن صدق البيعان وبيّنا بورك لهما في بيعهما، وإن كتما وكذبا فعسى أن يربحا ربحًا ويمحقا بركة بيعهما))، ((اليمين الفاجرة منفقة للسلعة ممحقة للكسب))، وقال : ((الحلف منفقة للسلعة ممحقة للكسب))، وفي لفظ: ((ممحقة للبركة))، وقال فداه كل كاذب وحلاّف: ((إياكم وكثرة الحلف في البيع، فإنه ينفق ثم يمحق))، وقال عليه الصلاة والسلام: ((اليمين الفاجرة تذهب المال، أو تذهب بالمال)).
ومن أسباب عدم البركة ـ أيها الإخوة ـ البخل والشح وعدم الإنفاق في سبل الخير وأوجه البر، قال سبحانه: وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [سبأ:39]، وقال : ((ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان، فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقًا خلفًا، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكًا تَلَفًا))، وقال : ((يا ابن آدم، إنك أن تبذل الفضل خير لك، وأن تمسكه شر لك)). فكيف يبغي البركة بخيل ممسك تدعو عليه ملائكة الرحمن بالتلف؟! وكيف ينتظر البركة شحيح نحيح لا يفعل خيرًا ولا يدعى له بخير؟! ألا فلا نامت عين كل هَلُوع مَنُوع، جَمّاع للمال مَنّاع للخير، يحسب أن بركة المال في وفرته، وما علم أن بركته في الانتفاع به، وهو ما لم يذقه هو ومن على شاكلته.
ومن أسباب عدم البركة أكل المال الحرام وتناوله والاستهانة بذلك أخذًا وعطاءً، وقد كثر في هذا الزمان ذلك المنكر العظيم، واتسع فيه الخرق على الراقع، في معاملات الناس فيما بينهم، وفي التخوض في أموال إخوانهم العامة بغير حق، فكم من المصارف الربوية التي توقع الناس في الربا من حيث يشعرون أو لا يشعرون، فيما يسمى بعمليات التقسيط والمرابحة، أو فيما يدعى بالفوائد البنكية، وكم من قنوات الشر والفساد والإفساد وجرائد الشر والفتنة ومحلات الجشع والطمع من يبتلون المسلمين بمسابقات الميسر والقمار، وكم من التجار من يتعامل بالربا الذي لا مرية فيه، وكم من الموظفين والعمال من يأخذ الأجر ولا يقوم بالعمل كما ينبغي، وكم من الناس من يتلاعب بأموال المسلمين ومقدراتهم، سواء بأخذ الرشوة جهارًا نهارًا، أو الاقتطاع من مستحقات المشروعات والمرافق العامة، أو بأخذ ما لا يستحقه من انتدابات أو زيادات أو أراض ومنح في البلديات. أفلا يكون ذلك سببًا في نزع البركات وقلة الخيرات، والتي من أبرز معالمها الواضحة عدم استجابة الدعاء؟! وقد قال سبحانه في الربا: يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ [البقرة:276]، وقال عليه الصلاة والسلام: ((ما أحد أكثر من الربا إلا كان عاقبة أمره إلى قلة))، وفي لفظ: ((الربا وإن كثر فإن عاقبته إلى قِلّ)).
ألا فاتقوا الله ـ أيها المسلمون ـ وأطيعوه، وتقربوا منه وارجوا رحمته، وخافوا منه واخشوا نقمته، فإنه لا نجاة إلا بطاعته، ولا سعادة إلا في التقرب منه، واعلموا أن الدنيا زاد قليل وظل زائل، لا تساوي عند الله جناح بعوضة، وليست أهلاً لأن يجعلها المرء هَمّه، فإن الله يعطيها لمن يحب ولمن لا يحب، ولكنه لا يعطي الآخرة إلا لمن يحب، قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ [الملك:30].
الخطبة الثانية
أما بعد: فاتقوا الله تعالى حق تقاته، وسارعوا إلى مغفرته ومرضاته، واحذروا أسباب غضبه والبعد عنه، وعظّموا حرماته تفلحوا وتفوزوا، ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ [الحج:30].
أيها المسلمون، ومن أسباب عدم البركة مخالفة سنة الله الكونية، حيث جعل سبحانه الليل لباسًا والنهار معاشًا، فقلب كثير من المسلمين هذه الآية رأسًا على عقب، فسهروا الليل على ما لا يرضي الله، وناموا النهار عن طاعته، وكسلوا عن السعي في الأرض لطلب رزقه والأكل مما أحله، عن صخر بن وداعة الغامدي أن رسول الله قال: ((اللهم بارك لأمتي في بكورها))، وكان إذا بعث سرية أو جيشًا بعثهم من أول النهار، وكان صخر تاجرًا، فكان يبعث تجارته من أول النهار، فأثرى وكثر ماله.
ألا فأين من البركة من نام في وقت البركة؟! أين من البركة من نام عن صلاة الفجر مع الجماعة؟! أين من البركة من بال الشيطان في أذنيه؟!
ألا فاتقوا الله أيها المسلمون، وراجعوا أنفسكم، وصححوا مساركم، وعليكم بالحلال وإن قل، وإياكم والحرام وإن كثر، فإنما هي أيام معدودة وأعمار محدودة، يوشك أن تنقضي فترجعون إلى الله، فاتقوا الله، وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [البقرة:281].
ــــــــــــــــــــ(67/286)
القاتلة
...
...
3430
...
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
...
...
الذبائح والأطعمة, الكبائر والمعاصي, قضايا المجتمع
...
ناصر بن محمد الأحمد
...
...
الخبر
...
26/4/1426
...
...
النور
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- حرمة اعتداء الإنسان على نفسه. 2- انتشار ظاهرة التدخين. 3- أضرار التدخين على البدن والدين والمال والمجتمع. 4- نصائح وتوجيهات للمدخنين. 5- أسرار عن الشركات المنتجة للدخان. 6- إحصائيات عن قتلى التدخين. 7- دراسة حديثة تكشف حجم الإنفاق على التدخين في المملكة ومعالجة أمراضه. 8- الأسباب التي يجب اتخاذها لتقليل مشكلة التدخين.
الخطبة الأولى
أما بعد: أيها المسلمون، إن الله جل وتعالى أباح لعباده كلَّ نافع، وحرَّم عَليهم كلَّ ضارّ، فكُلُّ أمرٍ تحقَّقَ ضرَره وغلَب شرُّه وبَلاؤه فدينُ الإسلام حمَى المجتمعَ منه، فحرَّمه عليهم حمايةً لهم، وأَوجَب على المسلم المحافظةَ على نفسه، وحرَّم عليه التعدِّي عليها، قال الله تعالى: وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا [النساء:29]، وقال عز وجل: وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [البقرة:195]، فحرَّم عليه الاعتداءَ على أيِّ عضوٍ مِن أعضائه؛ لأنها ليسَت ملكًا له، بل هو مُؤتمَن عليها، وإنَّ التعدّيَ عَليها يُعد جريمة متوعد صاحبها بالعقاب من الله جل وتعالى.
أيها المسلمون، إن التغذّي بالطيبات له أثر حميد في صحة الإنسان وسلوكه، والتغذي بالخبائث يكون له أثر خبيث في الأبدان والسلوك كذلك.
ألا وإن من الخبائث التي ابتليت بها مجتمعات المسلمين اليوم ظاهرة التدخين الذي فشا شربه في العرب والعجم، والصغار والكبار، والأغنياء والفقراء، حتى النساء لم تسلم منه، وصار شُرَّابه يضايقون به الناس ويؤذون به الأبرياء من غير خجل ولا حياء؛ بحيث إن أحدهم يملأ فمه منه ثم ينفثه في وجوه الحاضرين من غير احترام لهم ولا مبالاة بحقهم، فيخيم على الحاضرين حوله سحابة قاتمة من الدخان الخانق الملوث بالريق القذر والرائحة الكريهة، ومصدر ذلك كله فم المدخّن، لا يراعي لمُِجَالسه حرمة، ولا يفكر في وخيم فعله، ولو أن إنسانًا تنفّس في وجه هذا المدخن أو امتخَط أمامه كم يكون تألمه واستنكاره لهذا الفعل، وهو يفعل أقبح من ذلك، ولكن الأمر كما جاء في الحديث: ((إذا لم تستح فاصنع ما شئت)).
أيها المسلمون، إن شرب الدخان حارق للبدن والدين والمال والمجتمع، ومعلوم أن نوعًا واحدًا من هذه المضار كافٍ، فكيف بها جميعًا؟!
أما ضرره على البدن فهو يضعفه بوجه عام، ويضعف القلب، ويسبب مرض سرطان الرئة ومرض السل ومرض السعال في الصدر، ويجلب البلغم والأمراض الصدرية، ويضعف العقل بحيث يصبح المدخن ذا حماقة ورعونة غالبًا، ويسبب صداع الرأس، ويقلل شهوة الطعام، ويفسد الذوق والمزاج، ويفتر المجموع العصبي، ويضعف شهوة النكاح، ويشوّه الوجه بحيث يجعله كالحًا وتظهر على صاحبه زرقة وصفرة تعم بدنه.
ولقد ذكر الأطباء السبب في إحداثه لهذه الأمراض ونحوها؛ وهو اشتماله على المادة السامة وهي النيكوتين، ومع هذا نجد الإصرار ممن يتعاطونه، لذلك يشكو مدمنو التدخين الأرق والقلق والتحسس والكآبة ووهن الإرادة وضعف الذاكرة، وقد يظهر عليهم الكسل والخمول والتعب والنصب وغير ذلك من العاهات المصاحبة له.
ولقد أكثر الأطباء والحكماء الكتابة في التدخين وما ينتج عنه، وانتشرت أقوالهم وطبعت مؤلفاتهم، وكلها تدندن حول أضراره الصحية للبدن.
وما دام قد ثبت أن التدخين من أعظم ما يجلب الأمراض للجسد وأن البعض يسميه بالانتحار البطيء فإنه يخشى أن يكون متعاطيه ممن قتل نفسَه ودخل في قول النبي : ((ومن تحسى سمًا فقتل نفسه فسُمُّه في يده يتحسَّاه في نار جهنم خالدًا مخلدًا فيها أبدًا)) رواه البخاري ومسلم.
وأما ضرره على الدين فإن الله جل وتعالى يقول: إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللهِ وَعنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ [المائدة:91]. ذكر الله تعالى أن من أسباب تحريم الخمر والميسر الصد عن الذكر وعن الصلاة، وهذه العلة تتحقق في الدخان؛ فإن شاربه في العادة يهرب عن حلق الذكر والقراءة، ويألف اللهو والباطل عادة، وهو غالبًا السبب الرئيس لبعد المدخنين عن حضور المساجد إلا من شاء الله، وهكذا سائر العبادات، وما كرّه العبدَ للخير فهو شر، وكذلك فهو يدعو متعاطيه إلى مخالطة الأراذل والسفهاء والابتعاد عن الأخيار، فهذا يكون سببًا لما هو أكبر منه وهو تعاطي المخدرات، نسأل الله السلامة.
وأما ضرره على المال فاسأل من يتعاطاه كم ينفِق فيه من الريالات، وقد يكون فقيرًا ليس عنده قوت يومه وليلته، ومع هذا فهو يقدّم الدخان على شراء غيره من الضروريات ولو ركبته الديون الكثيرة، ولو فكر هذا المسكين في ما ينفق في هذا السم الخبيث وصرف هذا المال لمستحقيه من إخوانه المنكوبين ليجدوا لقمة يسدون بها رمقهم لكسب بذلك الأجر والمغفرة من الله والمثوبة، لكن من يتذكر ويتعظ؟! فهل ترضى ـ أيها المدخن ـ بأن تودِع النار في صدرك بثمن تدفعه مقدمًا، وأن تشرب نارًا وتدفع مقابل ذلك دينارًا؟!
وأما ضرر شرب الدخان على المجتمع فإن شارب الدخان يسيء إلى مجتمعه، ويسيء إلى كل من جالسه وصاحبه؛ بحيث ينفخ الدخان في وجوه الناس، يخنق أنفاسهم ويضايقهم برائحته الكريهة حتى يفسد الجو من حولهم، امتد هذا الأذى فصار يلاحق الناس في المكاتب والمتاجر وفي السيارات والطائرات، حتى عند أبواب المساجد، بل إن بعضهم ما إن يخرج حتى يشعل السيجارة عند باب المسجد، بل إن التدخين يؤذي الملائكة الكرام ففي الصحيحين عن جابر أن النبي قال: ((إن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم)).
ثم كيف يليق بعاقل أن ينفخ الدخان في وجوه من حوله وينفثه بحضرة من هم أكبر منه سنًا وأعلى قدرًا؟! بل كيف يرضى بنفثه في وجوه من يجلسون من أبنائه وبناته وزوجته ويكدّر عليهم صفو جلستهم؟! أليس من حق الزوجة أن لا تجد من زوجها إلا رائحة زكية طيبة أم أن الزوج لا يرى إلا بعين واحدة؟! كيف وقد أكدت آلاف التقارير الطبية أن التدخين يسبب الضرر لغير المدخنين الذين يعيشون مع المدخن مثل الزوجة والأطفال وزملاء العمل؟! والله قد نهى عن أذى الآخرين فقال الله تعالى: وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا [الأحزاب:58]، وقال : ((من آذى مسلما فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله)) أخرجه الطبراني في الأوسط عن أنس بإسناد حسن. وإذا كان النبي قد نهى من أكل الثوم والبصل أن يغشى المجالس وأن يحضر صلاة الجماعة على أهميتها القصوى بسبب الرائحة فإن رائحة التدخين أشد من رائحة البصل والثوم؟! ناهيك عن أن البصل والثوم من المباحات والدخان ليس كذلك. وقد أخرج البخاري ومسلم في الصحيحين عن جابر قوله : ((من أكل ثومًا أو بصلاً فليعتزلنا، وليعتزل مسجدنا، وليقعد في بيته)).
ومن مضار التدخين الاجتماعية أنه يستنزف ثروة الأمة وينقلها إلى أيدي أعدائها من الشركات التي تصدر هذا الأذى الخبيث. ومع الأسف تنشر في بلاد المسلمين وفي صحفهم ومجلاتهم دعايات وإعلانات تشجع الشباب والمراهقين على التدخين، ويكتب والخط العريض "تعالَ إلى المتعة". وأقبح من ذلك أن مروجي الدخان من الكفرة وأذنابهم يصوّرون للشباب أن شرب الدخان شعار للرجولة والفروسية، كما هو مشاهد في دعايات بعض أنواع الدخان، يصوّرون رجلاً على فرس يمسك بالسيجارة. فتعجب من قلب المفاهيم وتغيير الحقائق. الفرس الذي هو شعار الجهاد في سبيل الله والنبي قد نص على أن الخير معقود في نواصيها إلى يوم القيامة صار اليوم شعارًا للتدخين والعياذ بالله، لكن يزول عجبك إذا علمتَ أن الذي يمارس هذا العبث الإعلامي هم أعداء الله وأعداء رسوله من اليهود والنصارى وأذنابهم من العلمانيين والشهوانيين، عليهم من الله ما يستحقون.
لقد نجح أعداء الملة وخصوم الشريعة في نشر هذا السم بين المسلمين؛ لأنهم يعلمون أن التدخين يهدم القِوى ويضعف الأجسام ويقضي على الصحة ويفسد أخلاق الشباب ويستنزف الثروات ويقلل الحياء ويزرع في النفوس اللامبالاة بالآخرين، وكل هذا يصب في صالح الأعداء.
ومن مضاره أنه يسبب الحرائق المروّعة التي تذهب بالأموال وتخرّب البيوت، فكم حصل بسبب أعقاب السجائر التي تلقى وهي مشتعلة من إضرام حريق أتى على الأخضر واليابس وأتلف أموالاً وأنفسًا بغير حق، تولى كبرها ذلك المدخن الذي قذف بسيجارته دون مبالاة.
هذه بعض أضرار التدخين الدينية والاجتماعية والبدنية والمالية، فهل يستطيع المدخنون أن يذكروا لنا فائدة واحدة أو بعض فائدة في شرب الدخان تقابل هذه المضار؟! فيا أسفاه كيف غابت عقولهم وسفهت أحلامهم وضاقت صدورهم من قبول الحق؟! بل إن التدخين ليس له حسنة واحدة يمكن أن تقال فيه، بل على العكس فكله مضار كما ذكرنا.
والتدخين في الحقيقة هو سفه ودناءة، ولو رأى أحدنا إمامًا أو واعظًا أو رجلاً من أهل القدر والرفعة يشرب الدخان لاستنكر هذا الفعل، ولشهّر به في المجالس؛ وما ذاك إلا لأنه ليس من مقام المروءة ومكارم الأخلاق، ومن رأى مجالس المدخنين ومن يرتادها ومجالس الصالحين ومن يحضرها لعرف الفرق، يكفي أن المدخنين يدخلون دورات المياه لكي يقضوا وطرهم منه.
فيا من ابتليت بشرب الدخان أسأل الله لنا ولك العافية، إنني أدعوك بدافع النصيحة الخالصة أن تبادر بالتوبة منه، وأن تتركه طاعة لربك وحفاظًا على صحتك ومالك، ومن ترك شيئًا لله عوضه الله خيرًا منه. ولا تنس ـ أيها المدخن ـ أنك ستكون قدوة سيئة لأولادك إن كنت والدًا، ولتلاميذك إن كنت مدرسا، ولأصحابك ومخالطيك، فتكون قد جنيت على نفسك وعلى غيرك، وإذا تركته وتبت منه صرت قدوة حسنة لغيرك، فكن قدوة في الخير ولا تكن قدوة في الشر، والرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل، ولا يحملنك التقليد الأعمى والمجاملة الخادعة أن تتعاطى هذا الدخان وقد عافاك الله منه أو تستمر فيه وقد عرفت أضراره وأمامك باب التوبة مفتوح، فبادر قبل أن يغلق.
وقد أفتى كثيرٌ من العلماء المحققين بتحريمه؛ لما يترتب عليه من الأضرار والمفاسد العظيمة، وقد أجمع العلماء على أن كل ما يؤدي إلى الضرر ويوقع في المهالك يجب اجتنابه، وفعله محرم، وقد قال : ((لا ضرر ولا ضرار)) رواه الإمام أحمد.
وكما يحرم شرب الدخان يحرم بيعه والاتجار به واستيراده، فثمنه سحت، والاتجار به مقت، وقد قال : ((إن الله إذا حرم على قوم أكل شيء حرم عليهم ثمنه)) رواه الإمام أحمد وأبو داود. وعلى هذا فالاتجار به لا يجوز، وثمنه يحرم أكله، ومن تاجر فيه ـ أي: باعه ـ بعد معرفته بالتحريم ففيه شبه من اليهود؛ لمّا حُرمت عليهم الشحوم أذابوها فباعوها وأكلوا ثمنها، فاستحقوا اللعن على هذا الفعل، فالذي يبيع هذا الدخان قد ارتكب جريمتين عظيمتين:
الأولى: أنه عمل على ترويجه بين المسلمين، فجلب إليهم مادة فساد.
الثانية: أن بائع الدخان يأكل من ثمنه مالاً حرامًا، ويجمع ثروة محرمة، فالحرام لا يدوم، وإن دام لا ينفع، وتكون عواقبه وخيمة.
فاتقوا الله عباد الله، وانظروا في العواقب، فإن في الحلال غنية عن الحرام، وقد ورد في الحديث عنه قوله: ((إن روح القدس نفث في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب، ولا يحملنكم استبطاء الرزق أن تطلبوه بمعصية الله، فإن ما عند الله لا يطلب إلا بطاعته)).
ولو سألت أيّ مدخن عن هذه السيجارة التي يمسكها بين إصبعيه: هل هي من الطيبات؟ لأجابك بكل صراحةٍ واقتناع بأنها ليست من الطيبات، وإنها لا تجلب له منفعة ينفرد بِها عن الآخرين، بل هي كابوس جاثم على صدره، تتولد منه أنواع المآسي والأضرار، يكفيك قبحًا فيه أن جميع من يشربه يود تركه. نسأل الله تعالى أن يعينهم على تركه.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم. أقول ما قلت، فإن كان صوابًا فمن الله وحده، وإن كان غير ذلك فمن نفسي ومن الشيطان، والله ورسوله منه بريئان، وأستغفر الله إنه كان غفارًا.
الخطبة الثانية
أما بعد: أيها المسلمون، إن أول ظهور للتدخين في العالم الإسلامي كان في حدود الألف هجرية، وحاربه العلماء والحكام أول الأمر، ثم استطاع تجار التبغ أن يغروا الحكومات بوضع ضريبة على التبغ تشكل دخلاً للدولة، وكانت تلك بداية السماح به، وانتشر التدخين بسبب المصالح المتشابكة المالية للشركات الضخمة ووكلائها المحليين، وبوجود دَخل للدول. وهناك مئات الفتاوى الصادرة من كبار العلماء على تحريمه وتجريمه والمطالبة بوضع عقوبات على بائعه ومورده ومستخدمه، بل إن مستخدم التبغ كان يجلد أربعين جلدة تعزيرًا إلى عهد قريب.
والآن يبلغ عدد المدخنين خُمس سكان العالم تقريبًا، ويدخنون يوميًا أكثر من 18 ألف مليون سيجارة، ووراء هذا كله شركات ضخمة همّها جمع المال ولو كان على حساب صحة الإنسان ودينه وخلقه وماله.
وتفاقم الوضع طبيًا وعلميًا وقانونيًا حينما ثبت بما لا يدع مجالاً للشك العلاقة بين التدخين والسرطان، وقد رفع عدد من مرضى السرطان شكاوى قانونيّة ضد شركات التبغ لاتهامها بتضليلهم وتسويق منتجات مسرطَنة، وقد نجح عدد من الأشخاص في الحصول على تعويضات من هذه الشركات بلغت ملايين الدولارات. وقد أثبتت الأبحاث الطبية وجود سبع وثلاثين مادة مسرطنة في السيجارة الواحدة، ومئات المركبات السامة الأخرى. وبمجرد إثبات هذه الحقائق الطبية وظهور الدعاوى على السطح ونجاح بعض المحامين في إثبات الضرر الحاصل من التدخين فقد انخفض عدد المدخنين في أمريكا إلى النصف تقريبًا، وفي بعض الدول الغربية كذلك، وتزايدت حدّة التحذير الصحي من التدخين، وتزايدت المطالبات القانونية ضدّ شركات التبغ الغربية، مما حدا بمعظم شركات التبغ الغربية إلى القيام ببعض الإجراءات التكتيكية والقانونية لكي تتهرّب من قبضة القانون، ومن تلك الإجراءات نقل مكاتبها الرئيسية إلى دول أخرى وتسجيلها هناك، لكي تتهرّب من تلك الملاحقات القانونية، وقد كان نصيب الدول الآسيوية والشرق أوسطية مع الأسف نصيب الأسد من تلك الشركات، فكانت بعض الدول من العالم النامي تعطي التسهيلات والدعم لشركات التبغ من أجل الحصول على بعض المكاسب المادية.
وإننا لنعجب تمام العجب من غفلتنا وجهلنا بهذه الحقائق! ففي الوقت الذي يتنامى فيه الوعي الصحي لدى الشعوب الغربية بأضراره يزداد لدينا الجهل، وتزداد حملات التسويق، وتنهال على تلك الشركات التسهيلات والدعم.
هل تعلم ـ يا أخي الحبيب ـ أن الدخان أعظم قاتل للبشر، حيث يقتل سنويًا أكثر من خمسة ملايين شخص؟! إذا كان الإيدز ـ والذي يعد من الأمراض الخطيرة في العالم ـ قتَل خلال العشرين عامًا الماضية ما يقرب من عشرة ملايين شخص فقط، بينما قتل التبغ خلال القرن العشرين أكثر من مائة مليون شخص، القنبلتان الذريتان اللتان ألقيتا على هيروشيما ونكازاكي في اليابان في نهاية الحرب العالمية الثانية قتلتا ربع مليون شخص فقط، بينما قتل التبغ في العام الماضي فقط خمسة ملايين شخص أي: أكثر من عشرين ضعفًا مما فعلته القنابل الذرية.
ففي سبيل المكاسب الضخمة للمبيعات يمكن أن تفعل هذه الشركات العملاقة كل شيء يخطر بالبال؛ ابتداءً من تكوين حكومات في العالم الثالث وشراء مسؤولين وإعلاميين، إنها حرب كاملة بكافة الوسائل، وهي لا تختلف في كثير أو قليل عن "مافيا المخدرات"، سوى أن المخدرات ممنوعة رسميًا، وتعاقب عليها الدول والحكومات عقوبات تصل إلى الإعدام، بينما يدخل التبغ إلى كل دول العالم بدون أي مساءلة.
وتقول الإحصائيات عن ضحايا التدخين في المملكة أنهم يبلغون الآن ثلاثة وعشرين ألف شخص كل عام.
إن قتل إنسان بريء يعتبر من أشنع الجرائم في جميع الأديان والقوانين والأعراف، والعالم كله يرتعب ويغضب ويثور عندما تقوم فئات بقتل عشرات أو مئات من سكان العالم الأبرياء، وهذه شركات التبغ تقتل كل عام خمسة ملايين شخص، وتصيب مئات الملايين بالأمراض والأسقام والعاهات دون أن تحاسب، بل على العكس من ذلك نعطيها مئات البلايين من الدولارات لقاء هذا العمل الإجرامي البغيض.
أيها المسلمون، لقد نهى الإسلام عن إضاعة المال والتبذير، وقد نهى رسول الله عن الإسراف في الوضوء والزيادة على ثلاث ولو كان الشخص على نهر جار، وقد قال الله تعالى: وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمْ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا [النساء:5]. نهى عن إتيان السفهاء أموالهم لأنهم يبذرونها واعتبرها أموال الأمة، ومن المعلوم فقهًا أن من يحرق عشرة ريالات عبثًا يحجر عليه باعتباره سفيهًا، فما بالك بمن يحرق كل عام أكثر من ألفي مليون دولار؟! نعم أكثر من ألفي مليون دولار، وهي ثمن التبغ الذي يستهلك في المملكة سنويًا، وأي تبذير وسرف وسفه أكبر من هذا؟! والأمة كلها تحتاج لكل دولار من هذه البلايين التي تصرف سفهًا في ثمن التبغ والتدخين.
ويؤدي التدخين إلى إصابة الملايين من الأشخاص بالأمراض، وبالتالي التغيب عن العمل وفقدان الدخل، وذلك يقدر بآلاف الملايين من الدولارات سنويًا. وأما ثمن التداوي من الأمراض ودخول المستشفيات فهي بمبالغ خيالية تبلغ التريليونات من الدولارات سنويًا على مستوى العالم، وقد حسب مستشفى التخصصي في الرياض خسائر علاج مرضى التدخين خلال عقدين من الزمن فوجدها تزيد على عشرة آلاف مليون ريال.
والمشكلة أن التدخين في العالم الثالث يزداد سنويًا بنسبة 10 في المائة، بينما تقوم الدول المتقدمة بخفض الاستهلاك بنسبة 5 إلى 8 في المائة سنويًا، وفي المملكة تم استيراد عام 1972م ـ وهي أول إحصائية مسجلة ـ 4.5 مليون كيلوجرام من التبغ، وبحلول عام 1984م ارتفع إلى 42 مليون كيلوجرام. بقي أن تعلم أن الكيلوجرام يساوي 1250 سيجارة. وبحلول عام 1994م وصل الاستهلاك إلى 45 مليون كيلوجرام، بلغ ثمنها الرسمي 1400 مليون ريال.
وهناك دراسة حديثة كشفت أن حجم الإنفاق على التدخين في المملكة ومعالجة أمراضه سنويًا يبلغ 14 مليار ريال. وبحسبة بسيطة فإن ما يصرف على التدخين في المملكة يكفي لبناء 1420 مدرسة، أو 58 ألف شقة سنويًا، وإنشاء 22 كلية في الجامعات بكامل ما تحتاج إليه. كما أن تكاليف التدخين تلك تكفي لبناء وتجهيز 27 ألف سريرٍ إضافيٍ في المستشفيات الحكومية، وإنشاء 7 آلاف كلم من الطرق السريعة المزدوجة، بالإضافة إلى أن تكلفة التدخين السنوية تلك تكفي لميزانية سنوية لأكثر من 14 جامعة، وتكفي لتقديم مساعدة لـ400 ألف عاطل عن العمل بمعدل 3 آلاف ريال شهريًا، عطفًا على توفير عدد كبير من فرص العمل الإضافية. فأين العقلاء؟!
وأخيرًا: فهذه نصيحة مشفق لمن ابتلي بهذا الداء العضال أن يلجأ إلى الله عز وجل أن يخلصه من هذا الإدمان، فكم من مدمن على التدخين لجأ إلى الله في السحر وصلّى ودعا وبكى فاستجاب الله له. وإننا نعرف أعددًا من هؤلاء المدمنين الذين توقفوا تمامًا عن الإدمان بعد صلاة خاشعة أو بعد دعوة صادقة أو بعد عمرة مقبولة أو حج مبرور.
ومع هذا فعلى الدول أن يكون لها دور، على الأقل تمنع الأطفال والمراهقين من الوقوع في مستنقع التدخين، فإذا انغرزوا فيه فمن الصعب جدًا إخراجهم من هذا المستنقع الآسن. وهذا يحتاج إلى دور متكامل من المدرسة ومناهج التعليم، وتكاتف دور الإعلام والمسجد، كما أن كافة دول العالم تضع عقوبات مالية كبيرة للذي يبيع السجائر لمن هم أقل من 18 عامًا، وإذا قمنا بوضع غرامة بخمسة آلاف ريال مثلاً لكل من يبيع التبغ للأطفال والمراهقين وأعطينا الشرطي صلاحية أخذ الغرامة بقسيمة مباشرة وشجعنا الشرطة على هذا النشاط بإعطائهم 10 في المائة مما يجمعونه فإنهم سيطاردون باعة التبغ ليكسبوا دخلاً مهمًا لأسرهم.
كما يجب أن لا ينقطع التحذير من التدخين، فالعلماء يحذرون، والأطباء يؤكدون خطره، ووسائل الإعلام المختلفة تتناول الموضوع بالأرقام.
أسأل الله تعالى أن يجنبنا الشرور والأمراض، اللهم أغننا بحلالك عن حرامك...
ــــــــــــــــــــ(67/287)