1. إن الزواج (النكاح) الجائز شرعاً وقانوناً في السودان هو الزواج الموصوف في الصورتين الأولى و الثانية. أما الزواج في الصورتين الثالثة و الرابعة فيُعد زواجاً غير صحيح، حيث يُعد الأول منهما زواجاً فاسداً أو باطلاً شرعاً على خلاف بين فقهاء المسلمين، بينما يعد الآخر منعدماً باتفاق جمهور فقهاء المسلمين.
2. الجدير بالذكر في هذا المقام أنه لم يرد في القانون السوداني مصطلح الزواج العرفي (المنبوذ) الذي يغيب عنه الولي عند تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية على أحوال الزواج على المسلمين في السودان وفقاً لحكم المادة (5/أ) من قانون الإجراءات المدنية لسنة 1983م هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى فإنَّ الزواج المنعقد بين المسلمين لا يصح وفقاً لهذا القانون إلا بعبارة الولي أو مَنْ يفوِّضه في ذلك, حيث يقع الزواج منعدماً إذا انعقد بغير عبارة الولي أو بغير إذنه ورضاه.
ب . النتائج المستخلصة من انطباق قاعدة العرف الجاري بين طرفي عقد الزواج لأحوال أحكام انعقاد الزواج العرفي وفقاً لقاعدة العرف الجاري بين طرفي الزواج صورتان:-
- الصورة الأولى:
صورة الزواج العرفي الرسمي (المشروع) : وهو زواج مشروع وفقاً لنص المادة (5/ب) من قانون الإجراءات المدنية لسنة 1983م ينعقد صحيحا بحضور الولي أو مَنْ يفوِّضه وفقاً لعُرف محلي صحيح, أو ينعقد بين طرفين متَّحِدين من رعايا إحدى الطوائف المستثناة وفقاً لأعرافهم وقوانين أحوالهم الشخصية, حيث تتحقق صحة هذا الزواج الأخير بتوافر شرط أهلية طرفيه ورضا الولي به وانعقاده بواسطة رجال الدين. ويُستثنى شرط الولي في هذا الزواج في حالتين:
الحالة الأولي:
حالة انعقاده بين رعايا طائفة اليهود الربَّانيين إذا كان طرفاه بالغين أو كان أحدهما ثيباً ولو لم يكن بالغاً.
الحالة الثانية:
حالة انعقاده بين رعايا الروم الكاثوليك في حالة الضرورة عندما لا يستطيع طرفاه الوصول إلى رجل الدين الذي يبعد عنهما مسيرة شهر أو أكثر, هذه الحالة الأخيرة بحسب الراجح في الفقه المعاصر لا تُعدُ زواجاً عرفياً بالمعني الوارد في المادة (5/ب) من قانون الإجراءات المدنية لسنة 1983م بالرغم من أن طرفيه ينتسبان للطائفة المذكورة, فيكون هذا الزواج لذلك زواجاً عرفياً منبوذاً.
- الصورة الثانية:
صورة الزواج العرفي غير الرسمي: وهو زواج عرفي غير مشروع (منبوذ) بعقد غير صحيح, لغياب الولي أو مَنْ يفوَّضه, أو لا ينعقد بواسطة رجال الدين, لذلك فهو يخرج عن نطاق نص المادة (5/ب) من قانون الإجراءات المدنية لسنة 1983م فيكون لذلك زواجاً عرفياً غير مشروع.
ج.أوجه الشبه و الاختلاف المثيرة لِلَّبس في أحوال تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية والعرف الجاري بين طرفي عقد الزواج :
1. يتشابه انعقاد الزواج الشرعي الرسمي في أحكام الشريعة الإسلامية بانعقاد الزواج العرفي الرسمي في قاعدة العرف الجاري بين طرفي الزواج في أن كلا منهما يستوجب إفراغه في وثيقة رسمية.
2. يتشابه الزواج العرفي في أحكام الشريعة مع الزواج العرفي الشرعي في قاعدة العرف الجاري بين الأزواج في الاسم , ويتطابق معه في الحكم, ويختلفان في أن الأول ينطبق على الزواج الذي يكون طرفاه أو أحدهما مسلماً, بينما لا ينطبق الثاني إلا على الزواج الذي يكون طرفاه متَّحِدَين في المِلَّة أو الطائفة المستثناة من تطبيق قانون الزواج لغير المسلمين لسنة 1926م.
3. يتشابه انعقاد الزواج الشرعي عند الحنفية في أحكام الشريعة الإسلامية مع الزواج العُرفي عند الروم الكاثوليك في حالة الضرورة, وكذا انعقاد زواج اليهود الربانيين البالغين منهم و الثيب, ولو كانوا غير بالغين في الوصف (غياب الولي), وفي الحكم وهو صحة انعقاد زواج البالغة العاقلة نفسها بنفسها بعبارتها دون حاجة لوليها, ويختلفان في أنَّ الأول منسوب للشريعة الإسلامية بينما الثاني منسوب للعرف الجاري بين طرفي عقد الزواج.
4. يتشابه انعقاد الزواج السري في أحكام الشريعة الإسلامية من حيث عدم حضور الشهود مع انعقاد الزواج العرفي (المنبوذ) في حالة الضرورة عند الروم الكاثوليك في العُرف الجاري بين طرفي عقد الزواج.
5. يتشابه الزواج المنعدم لغياب الولي في قاعدة الشريعة الإسلامية بالزواج المنعدم في قاعدة العرف الجاري بين طرفي الزواج عند رعايا الطوائف المستثناة, ماعدا طائفة اليهود الربانيين الذين بلغوا الأهلية وكذا الثيِّب ولو لم يبلغوا هذه السن.
د. المحصلة النهائية لهذه النتائج, هي أنَّ الزواج العرفي لا ينعقد إذا كان أحد أو كلا طرفي عقد الزواج مسلماً. فإذا انعقد هذا الزواج حسِاً وفقاً لأحكام العُرف (زواج عرفي) فإنَّه يكون منعدماً شرعاً وفقاً لأحكام الشريعة الإسلامية. فإذا كان ذلك كذلك , انعدم أثره الشرعي و القانوني , بحيث يكون كُلُّ فعلٍ بين رجل وامرأة استناداً على هذا الزواج زناً يستوجب المساءلة الشرعية و القانونية على النحو المنصوص عليه في المادة (145) من القانون الجنائي السوداني لسنة 1991م. (مسألة): هل يصح دفع تهمة الزنا بموجب مقررات المذهب الحنفي بحُجُّة تعلُقها بأحكام الشريعة الإسلامية الواردة في نص المادة (5/أ) من قانون الإجراءات المدنية لسنة 1983م لوجود شبهة تدرأ الحد ؟
الإجابة في تقديري- والله أعلم- بالنفي وذلك بحسب البيان التالي:- يُقصد بالشبهة : الظن وفقاً لنص المادة (5) من قانون الإجراءات الجنائية لسنة 1991م, والظن بصحة زواج العاقلة البالغة نفسها بعبارتها دون حاجة لعبارة وليَّها كما هو الحال عند الحنفية منعدم تماماً بموجب نص المادة (5/1) من قانون الأحوال الشخصية للمسلمين لسنة 1991م التي تقرأ: ( يُعمل بالراجح من المذهب الحنفي فيما لا حُكم فيه بهذا القانون, ويصُار في حالة المسائل التي يوجد لأصلها حكم أو تحتاج إلى تفسير أو تأويل إلى المصدر التاريخي الذي أُخذ منه القانون). استناداً على هذا النص فإنَّ انعقاد الزواج وفقاً لأحكام الشريعة الإسلامية كما ورد في القانون السوداني عملاً بنص المادة 34/1) من قانون الأحوال الشخصية للمسلمين لسنة 1991م فإنَّ البالغ يزوِّجها وليُّها, على ذلك فإنَّ غياب الولي يجعل العقد غير منعقد شرعاً ولو انعقد حساً, ممَّا يعنى أنَّ العقد يُعدُّ منعدماً. ومن ثم ينعدم الرباط الشرعي بينهما. وكما هو معلوم , فلا يصح الدفع بالجهل بالقانون. لذلك , إذا تمت المواقعة بين طرفي الزواج العرفي, تحققت جريمة الزِّنا وفقاً للمنصوص عليه في المواد (145-146) من القانون الجنائي السوداني لسنة 1991م. أمَّا إذا لم تتم المواقعة وحصلت خلوة صحيحة على النحو الذي يتم بين الأزواج , تحققت جريمة الأفعال الفاضحة المخلة بالآداب العامة وفقاً لنص المادة (152/2) من قانون الجنائي السوداني لسنة 1991م. عوداً على بدء , فمن النتائج المتحصل عليها يمكن أن نستخلص الحقائق الآتية:-
1. أن هناك غموض ولبس في مفهوم وتفسير وتأويل نص المادة (5) من قانون الإجراءات المدنية لسنة 1983م.
2. وأنَّ هذا الغموض ساهم في إنشاء ونشر ظاهرة الزواج العرفي في أوساط الطلاب و الطالبات في الجامعات في السودان.
ثانياً : توصيات الباحث:
استناداً على نتائج هذا البحث, يوصى الباحث بما يلي:-
1. إشاعة الوعي الديني والشرعي و القانوني بين طلبة وطالبات الجامعات في السودان بالقدر الذي يزيل الغموض واللبس بشأن الزواج الشرعي والعرفي بين المسلمين وغيرهم من رعايا الطوائف الدينية الأخرى.
2. شرح وتلخيص نص المادة (5) من قانون الإجراءات المدنية لسنة 1983م وبيان أوجه انطباق هذا النص ومداه على النحو الذي اشتملت عليه حيثيات هذا البحث ونتائجه وكذا البحوث المماثلة له.
3. يوصى الباحث بدراسة أسباب ظاهرة الزواج العرفي بمعرفة اختصاصيين في ورش عمل تضم بعض علماء الشريعة والتربية والقانون والاقتصاد والاجتماع للخروج بتوصيات محدَّدة
متكاملة لمحاربة هذه الظاهرة.
ــــــــــــــــــــ(67/75)
شبح العنوسة.. يطرق الأبواب!!
أبو بكر الأزرق*
شبح العنوسة.. يطرق الابواب!! على الرغم من أن ظاهرة العنوسة في السودان لم تصل بعد إلى المستوى الذي بلغته في دول أخرى؛ إلا أن من يراقب التطورات التي يمر بها المجتمع السوداني يلحظ ازدياد معدلاتها في الأعوام الأخيرة، مما يستدعي من الجميع الوقوف ملياً لتدارك هذه الظاهرة والبحث في أسبابها، لأنها لا تقل خطورة وتأثيرا عن بقية الظواهر الفتاكة التي تقوض بنيان المجتمع.
وللوقوف على الأسباب الحقيقية لظاهرة العنوسة والعوائق التي تحول بين الشباب وإكمال نصف دينهم؛ نسلط الأضواء من خلال هذا التحقيق على هذا الشبح الذي يخشى الكثيرون من الحديث عنه باعتباره عيباً اجتماعيا يسيء إلى سمعة العائلة رغم أنه بدأ يطرق الأبواب في السنوات الأخيرة وإن أصر الناس على تجاهله!!.
العنواسة والزواج .. أرقام
قبل عدة سنوات؛ نشرت جريدة الخليج الاماراتية في عددها 8841 تقريراً قالت فيه أن عدد المتزوجات من جملة نساء السودان بلغ في شمالي البلاد حوالي 6 ملايين و375 ألف و899 امرأة، ولم يتطرق التقرير بصورة مباشرة إلى عدد النساء غير المتزوجات إلا أنه أورد أن عدد النساء في الفئة العمرية للزواج من 15-49 سنة قد وصل إلى 7 ملايين و513 ألف امراة مقابل 3 ملايين و650 ألفاً من الرجال لنفس الفئة.
وقد كشف هذا التقرير واقعاً خطيراً لم يسبق أن عاشه المجتمع السوداني، حيث أظهر الفجوة الهائلة بين الرجال والنساء غير المتزوجين (امرأتين مقابل رجل واحد).
الوضع الاقتصادي.. حاضر بقوة
عباس عبدالله - طالب
من أهم الاسباب التي تقف عائقا أمام الزواج؛ الحالة الاقتصادية التي نعيشها والأوضاع الصعبة التي نمر بها، حيث يعاني أغلب الشباب الآن من عدم توفر فرص للعمل ولايوجد لديهم مصدر آخر للدخل.
محمد عبد الماجد - خريج
يوافق عباس رأيه، ويقول أن الوضع الإقتصادي هو السبب الأساسي لعزوف الشباب عن الزواج. ويضيف أن الشاب الآن لديه (صف طويل) من الإلتزامات عليه اللوفاء بها قبل التفكير في الزواج، فالشاب عليه بمجرد تخرجه أن يبحث عن وظيفة ومن ثم المساهمة مع أهله في تحمل مصاريف المعيشة وما يتبعها من واجبات، بالإضافة إلى حاجياته الشخصية البسيطة ناهيك عن الأحلام والطموحات الكبيرة التي تراود كل شاب.
عبد المعين عابدين - موظف
سألناه عن الحالة الإقتصادية التي أصبحت شماعة يعلق عليها الناس كل المشاكل التي تواجههم، فأجابنا بأن الحالة الإقتصادية ليست شماعة وإنما هي واقع يجابه الناس وايتمثل في قلة الدخل وارتفاع أسعار المعيشة وكثرة متطلبات الحياة، وهذا واقع فماذا يفعل الشاب الطامح في الزواج حياله؟!
محمد حسن علي - خريج
يختلف مع عبد المعين في أن الحالة الإقتصادية هي السبب الأساسي وراء عزوف الشباب عن الزواج، ويحكي لنا تجربته حيث ذكر أنه تخرج ولم يجد عملاً لكنه ذهب خطوات في مشروع الزواج، وأضاف أن الشباب متهيب من مسألة الزواج ويضع لها مخاوف ومحاذير أكبر من ما تستحقه.
العادات والتقاليد.. عائقاً!!
هاديةعلي- موظفة
ترى أن العادات والتقاليد المتبعة في الزواج في السودان سبب رئيسي في انتشار العنوسة، فمتطلبات الزواج كثيرة ومكلفة ولا يستطيع الشباب أن يفوا بها، وتقول أن المجتمع السوداني ألف هذه العادات بل وتجذرت فيه، ولايمكن التخلي عنها بسهولة مثل: (قولة الخير – سد المال – الشبكة – الشيلة – الزفاف) هذا غير الحفلات المصاحبة لمراسم الزواج. وأضافت أن الأمر لو ترك للشاب والفتاة لوحدهما لاستطاعوا أن يتخطوا كل هذه المسائل الطويلة في سبيل الزواج والاستقرار.
مهتدي ابراهيم - طالب جامعة النيلين
يرى أن المجتمع السوداني فيما يتعلق بأمر الزواج تشوبه بعض القبلية والعنصرية، وأن بعض القبائل لاتقبل الزواج من بعض القبائل الاخرى، وهذا يساهم في زيادة نسبة العنوسة.
صفاء عبداللطيف- طالبة
ترى أن سطوة الأب وتحكمه في قرار الزواج من أسباب العنوسة؛ إذ أن الأب يريد أن يفرض رجلاً معينا على الفتاة ولا يدع لها حرية الاختيار، وهذا ينعكس سلبيا على رغبة البنت، وقد تصل إلى حد تفضيل العنوسة على الزواج من شخص لاتحبه!!.
أنس الامين - موظف
يرى أن البنات هم السبب وراء عزوف الشباب عن الزواج؛ إذ ان طموح الفتاة أصبح كبيرا وكل فتاة تريد أن يصبح زوجها غنيا جدا، وإذا تقدم اليها شاب طموح لكنه ليس غنيا فهي لاتقبل به ولاترى فيه فتى أحلامها.
الثقافة الوافدة تفرض نفسها!!
لاشك أن الإنفتاح الذي شهده العالم وتطور وسائل الإعلام قد أثر تأثيرا مباشرا على سلوكيات الناس وأنماط حياتهم، فدخلت مفردات جديدة على المجتمع لم تكن مألوفة من قبل، وأضحت الثقافة الوافدة عبر وسائل الاعلام هي الثقافة المتبعة والتي يجب أن تتبع. وهذا ماظهر جليا في ثقافة الزواج؛ فأصبح الناس -وخصوصا البنات- يقلدون ما ياتيهم عبر وسائل الإعلام ويريدون لزواجهم ان يتم وفقا لما رأوه وشاهدوه، وهذه الثقافة الوافدة لاشك لاتتلاءم وطبيعة مجتمعنا، مما يحدث فجوة بين ما يطمح الشاب والفتاة إلى تحقيقه وبين واقعهم.
وهذا الكلام يمكن أن يقودنا الي مسألة مهمة في الزواج حسب التصور الإسلامي وهي القناعة، فإذا توفرت القناعة لدى طرفي الزواج يصبح الزواج ميسرا وسهلا: (إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله)، فبعد ذلك يمكن للشاب والشابة أن يبنوا حياتهم خطوة خطوة حتى يصلوا إلى ما يطمحون اليه.
محمد عثمان خليل - مهندس
يعتقد أن العقلية العربية لاتؤيد فكرة القناعة، وتعتبر أن الزواج هو نهاية المطاف وأنه المعوق الاساسي لطموح الانسان، ويرونه مقبرة ل"الحب بين الجنسين" بينما هو في الحقيقة بداية لمشروع حب شرعي وأخلاقي.
البحث عن الفتاه المناسبة
بعض الناس تتوفر لديهم سبل الزواج من مال وغيره لكنه يسيطر عليه هاجس اختيار شريكة حياته، فالكثيرين لايرون في بنات اليوم فتاة أحلامهم وأم أولادهم، ويرون أن البنت اليوم لاتستطيع ان تتتحمل مصاعب الحياة ومشاكلها وبالتالي لن تكون سندا لزوجها في حالك الظروف وسواد الأيام، ولسان حالهم كقول الشاعر:
ليس الفتاة بمالها وجمالها ** كلا ولا بمفاخر الآباء
لكنها بطهرها وعفافها ** وصلاحها للزوج والابناء
وقيامها بشؤون منزلها وأن ** ترعاك في السراء والضراء
الزواج وهاجس السكن..
أصبحت مشكلة السكن الآن الهاجس الاكبر الذي يسيطر على معظم الشباب ويحول دون بلوغ مرامهم في الزواج، فالارتفاع الجنوني والخرافي في الإيجار خصوصا في الخرطوم أصبح شبحا يراود كل أسرة تحلم بالعيش الكريم، فالأفضل –حسب البعض- للأسرة أن تذهب إلى خارج السودان وتسكن بعيدا عن أهلها من أن تجد ملجئاً يؤويها داخل الخرطوم، أما إذا أرادت أن يمتلك بيتا فالافضل لها أن تسأل عن أسعار المنازل في لندن وباريس قبل أن تفكر في ذلك في الخرطوم!!. ومسألة السكن هي المسألة الأهم في الزواج، وبدونها يصبح الحديث عنه ضربا من الخيال والجنون كما يرى الكثير من العازبين، وبها يحس المرء أن له كيانا خاصا، ويتحقق به معنى السكن الحقيقي: (ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا اليها).
النساء.. زيادة أعداد!!
مهند محمد نور- طالب كلية الاداب – جامعة الخرطوم
زيادة نسبة النساء للرجال أصبحت ملحوظة في كل مكان، ولا نحتاج إلى كثير عناء لكي نتأكد من هذه الحقيقة، فالجامعات أصبحت نسبة البنات فيها كبيرة ولا يمكن مقارنتها بنسبة الأولاد، وكذلك الأمر في دواوين الحكومة، وكذلك الامر في بقية الكليات التي تزيد فيها نسبة البنات عن الأولاد بشكل ملحوظ.
الشباب وتحمل المسئولية
أحمد علي - أعمال حرة
الشباب أصبح شبابا غير مسئول، وأصبحوا ينشغلون بأمور إنصرافية، لذلك لايفكر الشباب في الزواج لأنه لا يريد تحمل المسئولية، بالإضافة إلى التطور التكنلوجي الذي وفر قدرا من الإباحية؛ مما جعل الشباب يتلهى بها وينصرف بها عن الزواج.
هادية أحمد الكنز - صحفية
شاركت أحمد رأيه، ورأت أن الشباب أصبح يبحث عن المتعة الرخيصة ولا يفكر في الزواج، وهذا يرجع إلى انعدام المسئولية عند الشاب وتفضيله العيش حرا بعيدا عن ارتباطات الزواج وقيوده.
العنوسة والعدوانية!!
سألنا الدكتورة أمل بادي أستاذة التاريخ بكلية الآداب جامعة الخرطوم عن الأضرار التي تعود على الفتاة من خلال العنوسة، فأجابت بأن حرمان الفتاة من الزواج يؤدي إلى إفرازات نفسية واجتماعية كبيرة، فالفتاة التي حرمت من هذا الحق الشرعي تعاني من أزمات نفسية تؤدي إلى انعزالها وأحيانا إلى عدوانيتها تجاه المجتمع الذي تعتقد أنه حرمها من هذا الحق، وربما يؤدي هذا الامر إلى تغير في سلوكها وبالتالي انحرافها.
الزواج الجماعي وبعض الحل
انتشرت في السودان في الآونة الاخيرة ظاهرة الزواج الجماعي، والتي تهدف إلى تيسير الزواج وتسهيله عبر تقديم الدعم لهم ومساعدتهم في امور الزواج. وقد وجدت هذه الظاهرة ترحيباً وإشادة من الكثيرين باعتبارها عملا من أعمال الخير يجب تشجيعه، وترسيخا لمفاهيم عظيمة يفتقدها المجتمع، ولكنها في المقابل لم تسلم من النقد، ولم تجد لها صدى في نفوس الكثير من الشباب.
فخرالدين عمر - خريج
الزواج الجماعي لدى العاجزين هو حل لمشكلة العنوسة، لكن الكثير من الشباب لديه طموح بأن تتم زيجته بشكل محدد، ويرى في الزواج الجماعي أنه لا يحقق طموحه، ويفضل أن يبقي سنوات عازباً من أن يقبل على الزواج الجماعي.
حسن عوض الله - طالب جامعة النيلين
يرى بأن الزواج الجماعي يعد حلا جزئيا لمشكلة الزواج وليس حلا جذريا؛ فالمشاكل التي تحدث بعد الزواج أكبر، فكيف يستطيع الشاب أن يصرف على بيته إذا لم يتوفر له مصدر دخل. ويضيف أنه شخصيا يرفض مثل هذا الزواج، وإذا فكر يوما بأن يتزوج مثل هذا الزواج فسيعتبر نفسه أنه وصل إلى مرحلة الفشل!!.
تعدد الزوجات.. حلاً
يعتبر التعدد في الزواج أحد الحلول التي يمكن أن تساهم في التقليل من ظاهرة العنوسة في المجتمع السوداني، وبما أن التعدد قد يقابل بنوع من التحفظ أو الرفض؛ إلا أن الواقع قد يفرض على الكثيرين القبول به. والأصل في الزواج التعدد كما ذكر في القراءان الكريم: (فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم أن لا تعدلوا فواحدة) النساء الآية3. ويلاحظ مؤخراً أن بعض الفتيات أصبحن يقبلن بالزواج من رجال متزوجين ولا يجدن حرجا في هذا الأمر، ولايمكننا القول إزاء ذلك أن الامر أصبح ظاهرة في المجتمع السوداني، إلا أنه يعد مؤشرا علي التغير الذي طرأ على سلوك الفتيات من جراء خوفهن من دخول عالم العنوسة من أوسع ابوابه. ولم يقف التغير عند هذا الحد بل أصبح بعض النسوة يغنين له –أي الرجل المتزوج- أغنية ((راجل المراة)) مثالاً، وهذا التغيير يستدعي الدراسة والتمحيص بعد أن كانت النساء يتمنينه عضوا في هيئة التدريس!!
ــــــــــــــــــــ(67/76)
( الشماسة ) ..من جحيم الحروب إلى جحيم الشوارع
سفيان علي آدم*
الشماسة وجحيم الحروب مجموعة من الصبيان يعيشون كقبيلة واحدة , قذفت بهم أقدار الحياة إلى خارج منظومة الحياة المستقرة , و نبذتهم المجتمعات و حرمتهم العطف و الحنان , بل و تبارى الناس في إطلاق الألقاب عليهم , فهم تارة " الأطفال المشرّدون " , و تارة " أولاد السوق " , و تارة " الشماسة " , و تارة " أبناء سلس " ...
مجتمعهم مغلق عليهم , لا يعرف مكوّناته إلا من قدّر له الإقتراب منهم , له ألفاظ لكل شيء , فأسماء العملة لديهم هي : " أبو الدو " , و " الحمرا " , و " الففتية " , و " الزرقا " , و "التر"
, و " الدينارية " و غير ذلك ..
الصديق عندهم " فردة " , و الطعام عندهم " منجرية " , أما لغتهم بصورة عامة فهي " الراندوك " , يصعب فهمها على غير المطلّعين على أحوالهم و المحتكين بهم .
تجدهم عند براميل الأوساخ و أمام بوابات دور السينما بثيابهم البالية الرثّة التي لا تقي من برد و لا حر , مساكنهم في الشتاء مجاري المياه و الشوارع و البنايات التي هي تحت الإنشاء ..
عقولهم في معظم الأحيان في حالة غياب تام بسبب إستعمال البنزين " السيلسيون " , فهي مادة محببة جداً لديهم لأنها تنسيهم واقعهم و آلامهم كما يقولون , كما أنها تجعلهم لا يشعرون بعضّة الجوع و لا زمهرير الشتاء .
إنها ظاهرة تتفاقم يوماً بعد يوم , و قد صارت تشكل تهديداً خطيراً على سلامة المجتمع ..
أما نحن فكانت لنا مع بعضهم لقاءات ...
عشرون عاماً من التشرّد !!
عز الدين حسين علي , من أبناء مدينة كادوقلي , حضر للخرطوم قبل عشرين عاماً و كان عمره حينذاك تسعة أعوام , و الآن هو في التاسعة و العشرين ..
يقول عز الدين : حضرت لأجل خالي الذي يعمل هنا لكني لم أجده , فعملت في مهن بسيطة و هامشية مثل تلميع الأحذية " الأورنيش " و " شيالة " , و لما ضاقت بي الحياة و ساءت ظروفي إنضممت إلى "الشمّاسة" ..
و يواصل : أنا لا أستعمل البنزين و إنما " مكيفات " أخرى مثل " المريسة " و " العرقي " , و ابحث الآن عن عمل ..
" ماري يوسف "..سر طيبة الخواجات !!
الأوضاع الإنسانية السيئة لهؤلاء المشرّدين تمثل البيئة الخصبة للجمعيات التنصيرية التي تقوم برعاية بعضهم و إرسالهم في بعثات دراسية للخارج لإعادة صياغة أفكارهم و تنصير بعضهم , يقول عز الدين : كان هناك خواجة إسمه " فيتر", كان يقدم لنا العديد من المساعدات , كان يحضر لنا البطانيات و الأغذية , و كان له عربات تنقلنا إلى التدريب في " ماري يوسف " .
كذلك كان هناك خواجة إسمه " مستر ريشن " يقيم في الخرطوم 2 , و هو يعمل في منظمة اليونيسيف , كان يعطينا الطعام .. و يضيف عز الدين : الخواجات علّموا بعضنا و أهّلوهم و سفروهم إلى دول أجنبية مثل كندا و أمريكا !! ..
البحث عن وضع أفضل ..
كافي محمد كوّة من مدينة كادوقلي يقول : حضرت هنا البلاد منذ سنة 1984 م مع عساكر الجيش , و لم أكن مجنداً معهم و لكني كنت تابعاً , عملت في الجيش ضمن مجندي الخدمة الوطنية لمدة ثلاث سنوات بمدينة جوبا , ثم عدت للخرطوم و عملت أعمالاً هامشية مثل "الشيالة" و أعمال حرة .
يواصل كافي : منذ حضرت لم أرجع لأهلي و تبلغني أخبارهم من حين لآخر , و قد بلغني أن أمي ما زالت حية و لكن والدي توفي , و أنا مشتاق لرؤية أهلي و لكن ليس عندي ما يوصلني إليهم . أنا أريد عملاً شريفا أتكسب منه و أواصل دراستي فأنا أحب الدراسة و أحب الحياة الشريفة بعيداً عن الجرائم , و لكن لا سبيل إلى ذلك ! .
يترك المدرسة بسبب المصاريف ..
معتصم عبد المحمود الصافي من غرب كردفان منطقة " أم سيالة " , مولود في الخرطوم في الحاج يوسف الوحدة يقول : درست حتى الصف الثاني و تركت المدرسة بسبب عدم توفر المصاريف . و يضيف : والدي متوفٍ و والدتي على قيد الحياة , لي إخوان أربعة أكبر مني , أحدهم عسكري و الآخر جزار , و لكنهم لا يساعدونني لذلك أبيت في السوق و أعمل " شيال " و أذهب للمنزل من حين لآخر .
معسكرات إصلاحية !.
ريمون على لاقو زكريا من قبيلة الباريا و يسكن الحاج يوسف " جبرونا " , يقول : أنا أجلس في السوق و أذهب للبيت أحيانا , إخواني كلهم كبار , أمي و أبي أحياء و لكن ظروفنا صعبة للغاية , لذلك أعمل في السوق " أشيل عدة " و أحصل في اليوم على خمسة آلاف جنيه . درست حتى الصف الثالث بمدرسة " سكوك " بالحاج يوسف لكني تركت الدراسة ..
و يقول عز الدين حسين علي : احياناً يأخذوننا " ناس الحكومة " إلى معسكرات إصلاحية , و لكن معسكرات الحكومة صعبة ليس فيها وجبات دسمة , كما أنه ليس فيها برنامج ترفيهي و لا رياضة و لا يعطوننا ملابس رياضية لذلك لا نحبها !!.
أسباب الظاهرة ..
في دراسة أجراها الباحث التيجاني السيد , أرجع أسباب التشرد إلى التالي :
1- النزوح : و هو من أكبر الأسباب , و يكون نتيجة للحروب المشتعلة في الجنوب و النيل الأزرق و جنوب كردفان .
2- عوامل إقتصادية : تتمثل في انخفاض مستوى الدخل الخاص برب الأسرة في مقابل الغلاء و التضخم و ازدياد البطالة .
3- عوامل اجتماعية : مثل الطلاق و الانفصال و التفكك الأسري , و الذي يرمي بأعداد كبيرة من الأطفال في أحضان الشوارع و الطرقات .
أرقام و إحصاءات
أول دراسة أحصت عدد المشردين في العاصمة كانت عام 1983 م , و كان عددهم آنذاك 140 مشرداً من الجنسين , و لكن في دراسة التيجاني السيد عام 2002م بلغ عدد المشردين داخل العاصمة المثلثة 134 ألف متشرد .
و في عام 2002م أجرت وزارة الرعاية الإجتماعية دراسة على الولايات التي تعاني أكثر من هذه المشكلة , و هي ولايات شمال كردفان و غرب كردفان و جنوب دارفور و الجزيرة و النيل الأبيض , فكانت النتيجة كالآتي :
- ولاية جنوب دارفور 1070
- ولاية النيل الأبيض 141
- ولاية شمال كردفان 404
- ولاية الجزيرة 247
- ولاية غرب كردفان 186
جهود حكومية
وعلى ضوء دراسة أجريت عام 1991م لولايات السودان المختلفة إهتمت وزارة الرعاية الاجتماعية بهذه الظاهرة فأجرت الدراسات و المسوحات الاجتماعية لمعالجتها, و تم فتح أربع معسكرات هي معسكر وانقاو و القضارف و درديب بالبحر الأحمر , و قد استوعبت هذه المعسكرات حوالي 1084 طفلاً و 60 طفلة , و قد صيغت أهداف تلك المعسكرات لتكون مسئولة عن تنمية روح التدين و الروح الوطنية و توفير سبل و وسائل التعليم الأكاديمي و التحفيز للعودة للحياة العامة و الاندماج في الأسرة و المجتمع .
و قد تم تأهيل 978 مشرداً إضافة إلى 30 فتاة بتمويل من ديوان الزكاة و صندوق العمل الإجتماعي , و بدأ وصول معدات ورش للمراكز التأهيلية في كل من الخرطوم و كوستي و الجنينة , و تم استقطاب مبلغ خمسين الف دولار لتأهيل الدفعة الأولى من اليافعين , و تمليكهم وسائل الإنتاج كبداية لمشروع امتصاص ظاهرة التشرد , و تم إعداد سياسة قومية لمعالجة مشكلة تشرد الأطفال في السودان للسنوات القادمة .
منظمة تنمية الأطفال اليافعين
و من المنظمات العاملة في مجال رعاية هؤلاء المشردين " منظمة تنمية الأطفال اليافعين"وهي منظمة عاملة في مجال الأطفال المشردين , كوّنت عام 1999م , و جدد تكوين مجلس الأمناء في سبتمبر 2001م برئاسة د. صابر محمد الحسن , و هي منظمة تطوعية مسجلة وفق قانون مفوضية العمل الإنساني و تعمل في مجال تأهيل الأطفال المشردين و المتأثرين بالحروب و النزوح .
ختاماً ..
تبرز هذه المشكلة الإجتماعية التي تنذر بخطر جسيم على نسيج مجتمعنا المسلم في الوقت الذي يصارع فيه أمواج التنصير و العولمة و الغزو الثقافي , فهل تجد صيحتنا هذه أن أدركوا هؤلاء المساكين صدىً عند أهل الشأن أم أنها تذهب أدراج الرياح ؟!..
ــــــــــــــــــــ(67/77)
ظاهرة الزواج العرفي ... ملامح وحلول
محمد عبد الله الغبشاوي*
ظاهرة الزواج العرفي ... ملامح وحلول الزواج العرفي هو الذي يفتقر إلى الإشهاد و الإشهار والتوثيق وولي الأمر، فهو صيغة سرية تربط بين رجل و امرأة قد يشهد عليه بعض الأصدقاء و قد يناب أحدهم عن ولي الأمر، وقد يوثقه بعض المحامين في أحيان نادرة و لكنه يكون مفتقراً دائماً إلى ركن هام من أركان الزواج وأخطرها (عدم الإشهار والإشهاد) و الذي بدونه يتعذر إثبات الحقوق والنسب. و قد راجت شائعات كثيرة عن تناميه و ذيوعه في الفترة الأخيرة مما ألزم وزراة الإرشاد والأوقاف إجراء استبيان ميداني شمل ألف حالة من الجنسين في جامعات ولاية الخرطوم من حكومية و أهلية.
وما نؤكده و نشهد به وفقاً لهذا الاستبيان الدقيق أنه لم يسجل أحد من أفراد العينة المستهدفة إقرارًا بممارسته لهذه الظاهرة، وكذلك لم يسجل استبيان مصاحب شمل خمسين مشرفة تعيين حالة واحدة، وهذا بالطبع لا ينفي وجودها بالكلية و لكنه محصور في نطاق ضيق وأنه ظاهرة في طور التكوين، وأنه من ثم يمكن محاصرتها والقضاء عليها إذا ما عدنا للالتزام بهدى شرعنا و مقاصده عوداً حميداً فيما سنفصله في هذا التقرير.
,, تدني سن الدخول للجامعات جعل كماً ضخماً من المراهقين والمراهقات يجابهون بصدمة الاختلاط و كثيرٌ من هؤلاء من مجتمعات محافظة . ومن هنا فالاختلاط هو البيئة المفرخة لعديد من الظواهر السالبة ومنها هذا الزواج العرفي ,,
أسباب الظاهرة:
(1) أول ما استرعى الإنتباه في نتائج الاستبيان أن نسبة غير المتزوجين من العينة المختارة تصل إلى 85% ، ودلالة هذا أن كل هؤلاء فوق سن الرشد وصمود كل هذا العدد إزاء الجاذبية الطبيعية بين الرجل والمرأة وفي مجتمع جامعي قاعدة اجتماعه الإنساني الاختلاط بين الجنسين وشذوذه الفصل بينهما أمر متعذر إن لم يكن مستحيلاً، وتساقط بعضهم أمر مرجح و محتمل خاصة وأن دراسةً من أستاذة جامعية في علم الاجتماع د.هاجر علي بخيت نبهت إلى تدني سن الدخول للجامعات مما جعل كماً ضخماً من المراهقين والمراهقات يجابهون بصدمة الاختلاط و كثيرٌ من هؤلاء من مجتمعات محافظة . ومن هنا فالاختلاط هو البيئة المفرخة لعديد من الظواهر السالبة ومنها هذا الزواج العرفي.
(2) البعد عن الوالدين ورعاية الأسرة مع استصحاب حداثة السن لكثير من طلبة وطالبات الجامعات يضاف إلى ذلك وجود عدد من الداخليات الخاصة التي تخلو من الإشراف الاجتماعي و تفتقر إلى ضابط، وهي وإن كانت قليلة العدد إلا أنها تمثل قابلية لاختمار التفلت الأخلاقي و التسيّب وعدم الانضباط.
(3) الأفلام و المسلسلات العاطفية التي تدغدغ المشاعر و تبدد القيم الأم وتشيع شكلاً من الإجماع المزيف بوجوب قيام ما يسمى بالحب، و عديد من المسلسلات و الأفلام عربية اللسان تروج لقيم غربية و تسوق لمفاهيم تتدرج بالمتلقي إلى ما ارتمت المجتمعات الغربية في حمأته.
(4) عدم وجود البرامج التربوية والثقافية والاجتماعية المصاحبة للتعليم عموماً و الجامعي منه على وجه الخصوص، فهناك فراغ إذا لم يملأ بالخير فلابد من زحف الشر عليه.
(5) تدني الإشراف الاجتماعي في الداخليات عما كان عليه من قبل وحداثة سن الكثير من المشرفات فالمشرفة في زمن مضى كانت تختار بحكم مؤهلات و عوامل عديدة من بينها السن المناسبة، نقول:كانت المشرفة بمثابة النائبة عن الأم و كانت قدوة تنزل توجيهاتها وملاحظاتها منزلة الأمر الذي لا ينقض ولا يراجع، وقد تراجع كثير من ذلك مع تدني المؤهلات و تلاشي الهيبة وهو أمر يستحق المراجعة والتوفر عليه.
,, ضعف التربية الدينية والثقافة الإسلامية في الأوساط الجامعية، ودليل ذلك أن 30% من أفراد العينة أجابوا بأن الزواج العرفي مباح وهي نسبة خطيرة، ,,
(6) ضعف التربية الدينية والثقافة الإسلامية في الأوساط الجامعية، ودليل ذلك أن 30% من أفراد العينة أجابوا بأن الزواج العرفي مباح وهي نسبة خطيرة، فإذا اعتقدت هذه النسبة حله فبعضها ولا ريب ممارس له أو قادم على ممارسته .
يضاف إلى ذلك أن الإجابات الأخرى يضطرب بعضها في الحكم عليه مما يعلي نسبة الجهل بأحكام الشرع إلى ما يقارب 50% و هو أمر مريع. يضاف إلى ذلك ومن واقع حوارات مباشرة مع بعض الطلبة و الطالبات زحف الفكر الشيعي في غيبة فكرنا الأم فكان من تمددات ذلك ثقافة الزواج العرفي وهذا أمر ينبغي الانتباه إليه.
(7) و حقيقة الفقر لا نستطيع تجاوزها في الأسباب فـ 49.8% من أفراد العينة أوضحوا أن ما يحصلون عليه من مصروفات لا تكفي لاحتياجاتهم، وهو نذير خطر كبير بلا أدنى ريب، و لا يخفف الركون إلى قوة التماسك الاجتماعي وتعمق القيم الأخلاقية وشيوع مدارك القناعة و الصبر و الجلد، فمؤشر الجهل بالشريعة الذي أشرنا إليه آنفاً يوشك أن يبدد كل ذلك. ومع تنامي العولمة الأمريكية و إملاءاتها بعدم المبالاة بالشرائح المجتمعية يبقى الفقر وحشاً مفترساً لكل من ضعف وازعه!!
(8) وآخر الأسباب التي نشير إليها ولكن بحذر شديد حتى لا يعمم القول ولا الإنطباع به؛ أثر الإنترنت فقد أشارت 51.9% من أفراد العينة إلى اشتراكهم في الإنترنت والصفحات المفضلة لهؤلاء هي: المراسلة - الأخبار - الفن - الاختراعات العلمية - الرياضة - الثقافة - صفحات الجنس ! و تأمل في هذا يوضح أن نسبة الاهتمامات غير الجادة ليست بالقليلة وبروز الصفحات الجنسية من بينها أمر مؤرق و مثول حالات من المروق و التفلت تأثراً بذلك أمر وارد بدون شك و الله المستعان.
ملامح و ملاحظات أخرى:-
تؤكد إجابات الإستبيان محدودية الظاهرة وإمكان محاصرتها بحزمة من الحلول الواقعية الميسورة سنشير لها فيما بعد، ولكن يهمنا في هذا المقام التوقف عند بعض إجابات عينات الإستبيان، ففي سؤال متعلق عن تعليل عدم الزواج العرفي أجاب 1.2% بعدم إقرار الدين له و 41% بعدم إقرار المجتمع له و8.7% بالاثنين معاً (الدين و المجتمع) أي أن هناك إقراراً مجمعاً عليه بالاعتبار لهما وهذا مؤشر إيجابي يستأنس به و إن انطوى على التقليد ومحض التبعية.
وفي سؤال آخر عن شرط موافقة ولي الأمر أجاب 85.1% من أفراد العينة بالإيجاب و14.9% بالسالب وهذا مؤشر على زحف مفاهيم غير إسلامية في شريحة غير قليلة العدد وإن كانت أقلية وهو دلالة على اختلال ما لمفاهيم الولاية للأبوين والبرّ بهما.
في سؤال مباشر للعينة عن احتمال زواجهم عرفيا أجاب 81.4% بالنفي التام لوقوع ذلك منهم، و16.6% أجابوا بنعم وهؤلاء منهم 78 من الذكور و28 من الإناث أي أنّ القابلية في أوساط الإناث بمقدار الثلث تقريبا منسوبة إلى العدد في أوساط الذكور وهو دليل ناهض على أن التفلت في أوساط بناتنا أقل بكثير من التفلت في أوساط أبنائنا. والدلالة العامة أن من بين ألف حالة توجد 28 امرأة يحتمل إقدامها علي ذلك و78 رجلا من ألف حالة. ويبقى التحدي المواجه للمجتمع والأمة هل تتنامي هذة الحالات أم تتناقص؟
,, الضحية الوحيدة لهذه الصيغة من المفاسد هي المرأة، فأكثر من يقدمون على الزواج العرفي ممن لا خلاق ولا مروءة لهم، وعادة ما يتخلون عن المرأة الشريك لأقل طارئ وكثيراً ما ينكرون نسبة الولد، وقد يتسبب ذلك في إزهاق أرواح بري ,,
الآثار المترتبة على شيوع الزواج العرفي :-
أهم أثر للزواج العرفي أنه يخلخل حالة الإجماع على صيغة وشكل الزواج المعروف شرعاً والذي أقرّ به المجتمع الإسلامي كصيغة شرعية وحيدة للعلاقة بين الجنسين منذ أن شُهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.
وإشاعة الروح الإباحي أمر وارد لا سيّما حين التأمل في أنماط السلوك الجديدة التي برزت في الآونة الأخيرة بين الجنسين، ونحن نعلم أن النقلات القيمية المفاهيمية في المجتمعات لا تحدث طفرةً ومرةً واحدةً، وإنما عبر انتقال بطيء جداً وأنماط السلوك والممارسات، أما أن تكون إفرازاً لمفاهيم معينة والخشية من دبيب المفاهيم الإباحية دون أن يشعر المجتمع بذلك وظاهرة الزواج العرفي ناقوس خطر ينبة على ذلك.
ومعلوم أن الضحية الوحيدة لهذه الصيغة من المفاسد هي المرأة، فأكثر من يقدمون على الزواج العرفي ممن لا خلاق ولا مروءة لهم، وعادة ما يتخلون عن المرأة الشريك لأقل طارئ وكثيراً ما ينكرون نسبة الولد، وقد يتسبب ذلك في إزهاق أرواح بريئة فضلاً عما يسببه من اكتئاب وتدمير لكيان المرأة وحالات هروب وتفلت وربما انتحار.
ومجمل أثر ذلك سينصب على المجتمع الذي تكفيه ما فيه من نكبات وتعثرات.
الحلول المقترحة للقضاء على الظاهرة:-
1- التشجيع والحث على الزواج المبكر وتذليل كل الصعاب المعترضة له مفاهيمية كانت أو مادية، وتبني ذلك علي مستوى رئاسة الجمهورية والمجلس الوطني والوزارات والهيئات الرسمية والمدنية ذات الصلة.
2- إشاعة الثقافة الشرعية في أوساط المجتمع وخصوصاً المجتمع الجامعي وتبني مشروع عاجل في محو الأمية الدينية وذلك في التعريف بما لا يسع الجهل به من شريعتنا السمحاء.
3- تثمين وتقويم ثورة التعليم العالي وإعادة النظر في الاختلاط بين الجنسين في الجامعات وبصفة عاجلة.
4- ضبط و تقنين سكن الطالبات الخاص واشتراط المشرفة المؤهلة في الترخيص له والتخطيط لتبعية كل الداخليات للصندوق القومي لرعاية الطلاب.
5- التدقيق في اختيار المشرفين والمشرفات الاجتماعيات ومراعاة السن المناسبة وكافة شروط القدرة والاقتداء. والاهتمام بتدريب هذا القطاع وإعادة تأهيلهم المتجدد.
6- الرقابة على وسائل الإعلام وتقوية فرق المشاهدة الطوعية والرسمية للقنوات الفضائية والالتفات الدائم لملاحظاتهم وتنبيهاتهم وتحليلاتهم لمضمون ما يبث.
7- الإعلام المكثف عن الأسرة ودورها وقيمتها وأهميتها وإدراج ذلك في مختلف المناهج الدراسية والبرامج الإعلامية.
8- تكثيف البرامج الجادة التي تسد كل فراغ وخصوصاً في الأوساط الجامعية.
9- المزيد من الدعم لصندوق رعاية الطلاب ليقوم بواجبه في درء الفقر وخاصة في أوساط الطالبات.
10- تكثيف برامج درء الفقر علي كل المستويات ومضاعفة البرامج العاملة علي ذلك وزيادة المصارف الاجتماعية وتيسير شروطها لتشمل أكبر شريحة ممكنة من أفراد المجتمع.
11- تفصيل برامج خاصة في التعريف بظاهرة الزواج العرفي وتوضيح آثاره السالبة وعواقبه الوخيمة على الفرد والأسرة والمجتمع.
ــــــــــــــــــــ(67/78)
خطبة المرأة من نفسها ... الشيخ الأمين الحاج محمد أحمد
السؤال ...
هل تجوز خطبة المرأة من نفسها وإن لم يجز وحصل فما الذي يترتب على ذلك؟
الإجابة ...
الحمد لله, اللهم سلِّمنا وسلِّم منا:
المرأة لا تُخطَب إلا مِِن أوليائها, ولكن للشاب إن كان صادقاً وعازماً على الزواج وأراد أن يطمئن على رضا المرأة به وقبولها له قبل أن تقدم لخطبتها من أوليائها, أن يرسل أمه أو أخته أو إحدى قريباته لها ليتأكد من ذلك, قال تعالى: (وأتوا البيوت من أبوابها) وأكره أن يكون ذلك عن طريق الرسائل أو الهاتف ونحوهما.
ــــــــــــــــــــ(67/79)
حكم الزواج العرفي ... الشيخ الأمين الحاج محمد أحمد
السؤال ...
ما حكم الزواج العرفي؟
الإجابة ...
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله:
الزواج العرفي من المصطلحات الحديثة وقد ظهر لأول مرة بمصر وهو نوعان:
الأول: زواج صحيح وهو الذي تتوفر فيه كل أركان الزواج, وهي العاقدان والقبول والإيجاب. وسائر شروطه من الولي والشهود والمهر وربما الإعلان ورضا الزوجين وتعينهما. إلا أن الجهات الرسمية لا توثقه, لأنه يكون زواجاً ثانياً لمن له زوجه, ولا توافق الجهات الرسمية في مصر على توثيق الزواج الثاني إلا برضا الأولى الذي يعتبر من المستحيلات وفي عدم توثيق مثل هذا النوع من الزواج ظلم بيِّن ومخالفة شرعية ومحاداة لقوله تعالى: (فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع).
الثاني: زواج فاسد باطل وهو الذي ظهر في الجامعات المصرية وانتقلت هذه العدوى الخبيثة إلى الجامعات السودانية وهو يتم عن طريق اتفاق الشاب والشابة على الزواج من غير الرجوع إلى الولي الذي يعتبر هو أسُّ شروط صحة الزواج لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل) ولقول عائشة رضي الله عنها: "الزانية هي التي تزوج نفسها" ولهذا فهو باطل فاسد وهو أخو الزنا وأخو نكاح المتعة الذي هو عبارة عن اسم آخر للزنا.
ولا ينبغي لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يتزوج بهذه الطريقة وأن يتلاعب بأعراض المسلمين ونسأل الله أن يحفظنا ويحفظ شبابنا وشاباتنا من التقليد الأعمى ومن هذه الممارسات المحرمة
ــــــــــــــــــــ(67/80)
هل الزواج العرفي حلال؟ ... د. عبد الحي يوسف
السؤال ...
هل الزواج العرفي حلال؟
الإجابة ...
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد.
فالزواج لا يصح إلا بولي لقول النبي صلى الله عليه وسلم {لا نكاح إلا بولي} أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه وصححه ابن حبان والحاكم، قال السيوطي رحمه الله: حمله الجمهور على نفي الصحة.أ.هـ وقوله {أيما امرأة نكحت نفسها بغير إذن وليها فنكاحها باطل فنكاحها باطل فنكاحها باطل} أخرجه أبو داود والترمذي وحسنه وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم كما قال الحافظ رحمه الله في فتح الباري. وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه {لا تزوج المرأة المرأة ولا تزوج المرأة نفسها فإن الزانية هي التي تزوج نفسها} أخرجه ابن ماجه والدارقطني والبيهقي. قال الحافظ رحمه الله: رجاله ثقات.
وقد خاطب الله الأولياء بأمر النكاح فقال ((ولا تُنكحوا المشركين حتى يؤمنوا)) وقال ((فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن)) وقال ((وأنكحوا الأيامى منكم)) ولو أن كل امرأة اشتهت رجلاً تزوجته بغير إذن وليها أفضى ذلك إلى فساد عظيم؛ لأن ولي المرأة ـ غالباً ـ أعرف بحالها وأبصر بمصلحتها، وإذا كان الولي بخلاف ذلك أي يتعمد عضل وليته أو يعطل أو يضرها في أمر زواجها نزعت الولاية منه وجعلت لمن يليه أو للسلطان؛ حتى تتحقق المصلحة والله تعالى أعلم
ــــــــــــــــــــ(67/81)
الزواج العرفي
د. عبد الحي يوسف*
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد.
فإن الظاهرة التي كثر الحديث عنها في الأيام المتأخرة والتي اصطلح الناس على تسميتها بالزواج العرفي لا يمكن الخوض في الحكم عليها قبل أن نتصوّر حقيقتها لأن الحكم على الشيء فرع عن تصوره كما يقول أهل الأصول، ولا يمكن الحكم عليها قبل أن نتبيَّن موافقتها للأدلة الشرعية أو معارضتها لها، فنقول أولاً: إن هذا الزواج مبناه على اتفاق فتى وفتاة أو رجل وامرأة على الزواج دون علم ولي الفتاة مع جعل هذا الزواج سراً يتواطأ الزوجان والشهود على كتمانه، ونقول ثانياً: إن هذه الصورة ـ بالوصف الذي ذكرنا ـ لا يمكن عدُّها زواجاً شرعياً وذلك للاعتبارات التي نطقت بها الأدلة المتضافرة من الكتاب والسنة والعقل والواقع وتتمثل في الآتي:
1ـ أن علم الولي بهذا النكاح وإقراره إياه شرط في صحته؛ وذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل)) وقوله عليه الصلاة والسلام: ((أيما امرأة نكحت نفسها بغير إذن وليها فنكاحها باطل فنكاحها باطل فنكاحها باطل)) وقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا تزوج المرأة المرأة ولا المرأة نفسها فإن العاهر هي التي تزوج نفسها)) وربنا سبحانه خاطب بالنكاح الأولياء ولم يخاطب النساء فقال سبحانه: (ولا تُنكحوا المشركين حتى يؤمنوا) أي لا تُزوّجوهم، وقال سبحانه: (فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف) وسبب نزول الآية كما روى الإمام البخاري أن معقل بن يسار رضي الله عنه زوّج أخته لرجل من الأنصار فطلقها بعد حين، ثم رغب في مراجعتها وكانت هي كذلك راغبة لكن معقلاً أبى أن يرجعها له فنزلت الآية تخاطب أولياء المرأة ألا يمنعوها من مراجعة زوجها بعد طلاقه منها إن كانت راغبة في تلك الرجعة.
2ـ أن الزواج الشرعي لا بد فيه من الإشهار وهو أهم من الإشهاد؛ ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أعلنوه في المساجد واضربوا عليه بالدفوف)) وقال لعائشة رضي الله عنها: ((هلا أرسلت من يغنيهم أتيناكم أتيناكم)) وأمر عليه الصلاة والسلام من تزوَّج أن يولم ولو بشاة، كل هذا من أجل أن يحصل التفريق بين النكاح الذي مبدؤه الإعلان والإشهار وبين السفاح الذي مبدؤه الإسرار والإخفاء، وهذا الزواج العرفي ـ كما أسموه ـ يقوم على الكتمان والتخفي وقد قال عليه الصلاة والسلام: ((الإثم ما حاك في نفسك وكرهت أن يطلع عليه الناس)) وفي موطأ مالك رحمه الله أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أتي بنكاح لم يشهد عليه إلاّ رجل وامرأة فقال:" هذا نكاح السر ولو كنت تقدمت فيه لرجمت".
3ـ أن الغرض الأسمى من الزواج الشرعي يتمثل في حصول السكينة والمودة والرحمة كما قال ربنا سبحانه: (ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة) وكما قال عليه الصلاة والسلام: ((انظر إليها فإنه أحرى أن يؤدم بينكما)) أي تدوم المودة والألفة، ومن أغراضه كذلك إيجاد الذرية الصالحة التي تعمر الأرض بطاعة الله، ومن أغراضه حصول التعارف بين الناس بالمصاهرة والنسب كما قال سبحانه: ((وهو الذي خلق من الماء بشراً فجعله نسباً وصهراً)) والسؤال الذي يطرح نفسه: هل الزواج العرفي يتكفل بتحقيق تلك الغايات؟ أم أنه مجرد شهوة عارضة ونزوة عابرة دون نظر إلى مستقبل الأيام أو عمل على تحقيق مقاصد الشرع من ورائه؟ وكل منصف يعلم أن هذا الزواج مصيره إلى الفشل الذريع وأن العداوة والبغضاء سرعان ما تدب بين الزوجين المزعومين وذلك عند ظهور بوادر الحمل على الفتاة.
4ـ الزواج الشرعي يراد به الديمومة والاستمرار إلا إذا قدر الله أمراً آخر من وفاة أو طلاق، فهل الذي يقدم على الزواج العرفي غرضه البقاء مع تلك الزوجة أم أنه يحصر نفسه في قضاء الوطر دون استعداد لتحمل أي مسئولية مادية أو معنوية؟
5ـ يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)) فنقول لمن يقع في مثل هذا الزواج الشائه ويفتي نفسه بحله: أترضاه لأختك؟ أترضاه لابنتك؟ أتحب أنك في بيتك أو مشغول بتجارتك أو وظيفتك فتتزوج ابنتك دون علمك؟ إن كنت لا ترضى هذا لنفسك فلمَ ترضاه لبنات المسلمين؟
وأخيراً نقول: ثبت يقيناً أن هذه الظاهرة لا يصح تسميتها زواجاً بل هي زنا وإن سماها الناس زواجاً، فماذا نحن فاعلون للتحذير منها ومن ثم القضاء عليها؟...
ــــــــــــــــــــ(67/82)
من أجل المسنين
د. عبد الرحمن صالح العشماوي*
من أجل المسنين قال لي صاحبي: كنت في مجلس من هذه المجالس التي يلتقي فيها الناس على ولائم المناسبات وكان المدعوون مختلفي المستويات الاجتماعية والأعمار، وقد جلس في صدر المجلس رجلٌ كبير السنّ يقارب عمره التسعين ولكنه كان متماسك الجسم، حاضر الذهن، وإن كان بصره قد ضعُف قليلاً، فما يتبين وجوه الأشخاص إلا إذا اقتربوا منه، وجرى المجلس في مسارب الأحاديث المتنوِّعة، وأدلى كل جالس بما لديه، فالكل في مثل هذا المجلس يتحدث، والكل يجيب، والكل يرى في نفسه القدرة على المشاركة في أي موضوع يطرح، وما الذي يمنع من ذلك ما دام الحديث في هذه المجالس لا يخضع لحساب نقد أو توجيه، وما دامت هذه الأحاديث تسلِّي الجالسين حتى يدعوهم صاحب الوليمة إلى الطعام، فينفرون من مجلسهم بسرعة تدلُّك على أنهم كانوا ينتظرون هذه الدعوة بفارغ الصبر.
المهم أنني كنت في ذلك المجلس أتابع تلك الأحاديث، والتفت إلى ذلك الرجل المسنّ الذي يجلس في صدر المجلس وهو - أبو صاحب الدار - يتلفَّت يمنةً ويسرة، ويشعر بأن بينه وبين أحاديث الجالسين حواجز السنوات الطوال، وضعف الشيخوخة واختلاف الزمن، وتنوّع الثقافات، وما الذي يفهمه ذلك الشيخ الكبير من أنواع السيارات وألوانها وشياتها وصناعاتها، وما الذي يدركه من برامج «الحاسب الآلي» ومواقع الشبكة العنكبوتية العجيبة، وما الذي يعنيه من أخبار المباني الحديثة، وشركات العقار الضخمة، والحدائق والاستراحات والمتنزهات، وصالات الألعاب والأعراس؟؟
كل ذلك لا يعنيه إلا بقدر ما يمكن أن يجعله على صلةٍ بالناس من حوله، ورأيت ذلك الشيخ يغمض عينيه مستسلماً لإغفاءة سريعة، وشعرت بتقصير هذا المجلس معه، فقد كان جالساً كالغريب مع الجالسين.
وقاطعت المتحدِّث، موجهاً سؤالي إلى ذلك الشيخ، ولكنَّه لم يردّ، لأن النعاس قد حال بيني وبينه، والتفت إليه الحضور، وابتسم بعضهم، وخاطبه الذي كان جالساً بجواره: «يا أبا محمد، الرجل يوجه إليك سؤالاً»، وتخلَّص الشيخ من نعاسه، وأعدتُ السؤال: يا أبا محمد، نريد أن تحدثنا عن بعض ذكرياتك وتجاربك.
وتنحنح الرجل المُسنّ، وانفرجت أسارير وجهه الذي رسمت عليه الشيخوخة لوحتها المعروفة التي تُحسن إبراز التجاعيد المثقلة بذكريات العمر الطويل.
تحدث ذلك الرجل المسنّ عن حياةٍ عاشها كانت بمثابة الحكايات الخيالية لجيل الشباب الذين كانوا يستمعون إليه، وبالرغم من أن بعض حضور المجلس قد أبدوا نوعاً من التضايق حينما طرحت سؤالي على الشيخ، إلا أنهم توجهوا إليه بعد ذلك، منبهرين ببعض القصص التي رواها عن جيل الأمس، وفوجئوا حينما وجدوا منه معرفة ببعض أمور السياسة التي تتعلَّق بنشأة دولة العدو الصهيوني في فلسطين، والحرب العالمية الثانية.
ولم يفصل بين الناس وبين حديث هذا الرجل المسنّ إلا دعوة صاحب البيت إلى مائدة العشاء.
حينما قبَّلت رأس الشيخ رأيت دموعاً حائرةً تترقرق في عينيه وسمعته يقول: «عسى كلامي كان مناسباً يا ولدي»، قلت له: كان مناسباً وجديداً على حضورٍ تحدثوا في أمور لا نفع فيها.
قال صاحبي: بعد العشاء ودعت ذلك الشيخ وأنا سعيدٌ بما صنعت، لأنني شعرت أنني أدخلت من السرور على قلبه الكبير ما سيجعل نومه هادئاً.
وحينما استأذنت من صاحب الدار «ابن ذلك الرجل المسنّ» قلت له: أما رأيت كيف كان والدك سعيداً؟، أما تشعر أننا نجني على هؤلاء الكبار من آبائنا وأمهاتنا وأجدادنا وجدَّاتنا حينما نشعرهم بأنهم يجلسون معنا جلوس المنتظر للموت، قال: بلى واللهِ، وإن في المجتمع من إهمال هؤلاء ما يؤلم القلب.
قلت لصاحبي: يا لها من مشكلة اجتماعية خطيرة، ويا له من إهمال لن يجني أصحابه إلا الإثم مع مَنْ قاموا على رعايتهم وتربيتهم، ومن عاشوا حياتهم الماضية كدَّا وتعباً ومعاناة لا يحملها إلا أصحاب العزائم والهمم.
يا مَن مَنَّ الله عليه بوجودٍ أب كبير أو جد أو جدَّةٍ أو أمٍّ كبيرةٍ، إياك أن تكون من أهلً «اللؤمً» الذينً ينسوْن من أحسن إليهم، وإياك أن تنسى مراعاة مشاعر الذين تفضَّلوا عليك بما لا تستطيع أن تفعل معهم عشر معشاره.
هؤلاء الكبار هم الذين خاضوا متاعب الحياة، وحملوا أبناءهم على أكتافهم حتى أوصلوهم إلى شاطئ النجاة، فلنجعل مجالسنا ميداناً جميلاً يسعدون فيه بالحديث عن ذكرياتهم وتجاربهم التي تستفيد منها الأجيال.
ــــــــــــــــــــ(67/83)
أطفال الديجيتال والذائدون عن الحياض!
إبراهيم الأزرق*
أطفال الديجيتال رأيته يتمايل بشكل حاد ماداً ذراعية ضاماً قبضتيه يسير وهو يقول: "تتش كهههع سسس..." وللأمانة: أو نحو ذلك، فلما رآني وقف مشدوهاً ينظر إلى، ووقفت متعجباً أنظر إليه، لا لكونه كائن قادم من الفضاء الخارجي، ولكنه فيما يبدو صبي راشد سوي!
وتمضي السنوات.. ولم يعد ضرباً من الجنون لدى من كان دون سن الخامسة عشرة إصدار أصوات غريبة، أو حركات بهلوانية عجيبة، أو إشارات وإيماءات غير مفهومة!
ولكن الآبدة الغريبة هي تلك النقلة العجيبة بين الأمس واليوم، فكم سمعنا من آبائنا وأجدادنا قولهم: "والله ما كنا كذلك"، وصدقوا والله وبروا في ذلك، فقد حدثنا الآباء عن الأجداد، وأنبأنا الأجداد عن الأبناء، فشتان شتان بين الواقع الحاضر، والتاريخ القريب المعاصر، كان أحدهم في صباه ما بين الكُتَّاب أو الحقل، يقرأ أو يزرع، يعين أباه ويحمل جزءاً من هم أسرته الصغيرة، يعيش واقعه، يعرف للكبير قدره، وللمعلم حقه، وللجار حرمته، فلا غرابة أن يفقده الحي إذا عرض له مايشغله، فتراهم يسألون أين ذهب فلان بن فلان، وكأنه أحد الأعيان، ومع ذلك كان لهم حظهم من ذكريات الصبا الجميلة وعوارض الطفولة ومشاغباتها البريئة الطريفة. وكم كان لتلك العهود في نفوسهم من معان شهدناها في آثارهم.. ولعل منها ما أشار إليه الأول:
وحبب أوطان الرجال إليهم مآرب قضاها الشباب هنالكا
إذا ذكروا أو طانهم ذكَّرَتْهُم عهود الصبا فيها فحنوا لذلكا
وحق لمثل هذا أن يقول بملء فيه:
ولي وطن آليْتُ ألا أبيعه وألا ألفي له الدهر مالكا
عهدت به شرخ الشبابِ ونعمةً كنعمة قوم أصبحوا في ظلالكا
و لذلك ذاد المستعمرَ الغربي عن ربوع وطننا العربي العربي الإسلامي، الأباءُ والأجداد بينما تحالف عليه الأبناء والأحفاد.
وإذا تركنا التاريخ القريب ورجعنا بالذاكرة نحو تاريخ بعيد، زاد البون واتسع الفرق بين صبية جيلنا وبين الكبار: صبية جيل الخالدين..
وليس الخلد مرتبة تقلى وتؤخذ من شفاه الجاهلين
ولكن منتهى همم كبار إذا ذهبت مصادرها بقين
لك أن تقارن بين الصورة المعاصرة، وصورة ذلك الغلام الذي أجاد المشي وتعلمه من قريب، يقول له أباه لما بلغ معه السعي: (يابني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى).. (قال يا أبت افعل ماتؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين) قل لي بربك أي عقل هذا وأي غلام! عليه وعلى أبيه أفضل الصلاة والسلام.
فإن قيل تلك أمة خلت، قلنا جاء ابن عمر –رضي الله عنهما- متطوعاً يوم أحد وله من العمر أربعة عشر عاماً فرُدَّ لصغره، فتولى وبه هم مقيم مقعد، ومثله عمير قال سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: عُرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم جيش بدر، فرَدّ عمير بن أبي وقاص، فبكى عمير، فأجازه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعقد عليه حمائل سيفه، أهولاء غلمة وأبناء اليوم غلمان؟
من الذي قتل رأس الكفر أبا جهل، أليسا غلامين من الأنصار؟
في الصحيح عن عبدالرحمن بن عوف رضي الله عنه أنه قال: بينا أنا واقف في الصف يوم بدر فنظرت عن يميني وعن شمالي فإذا أنا بغلامين من الأنصار حديثة أسنانهما تمنيت أن أكون بين أضلع منهما فغمزني أحدهما فقال يا عم هل تعرف أبا جهل قلت نعم ما حاجتك إليه يا ابن أخي قال أخبرت أنه يسب رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي نفسي بيده لئن رأيته لا يفارق سوادي سواده حتى يموت الأعجل منا فتعجبت لذلك فغمزني الآخر فقال لي مثلها فلم أنشب أن نظرت إلى أبي جهل يجول في الناس قلت ألا إن هذا صاحبكما الذي سألتماني فابتدراه بسيفيهما فضرباه حتى قتلاه ثم انصرفا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبراه فقال أيكما قتله قال كل واحد منهما أنا قتلته فقال هل مسحتما سيفيكما قالا لا فنظر في السيفين فقال كلاكما قتله.
مثال آخر ذلك الغلام الذي كان في حجر الجلاس فلم يمنعه كونه ابن زوجه، من أن يأمره بالمعروف إذ زل، ولم تمنعه سِنُّه من النصح لله ولرسوله.
ومجال آخر .. إذا تأملت طلب أولئك للعلم وروايتهم له وجدت العجب العجاب، فهذه عائشة رضي الله عنها توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي ابنة ثمانية عشرة سنة، فروت عنه أكثر من ألفي حديث فلله درها كيف كان صباها.
وقد ترجم البخاري بابٌ: متى يصح سماع الصغير، على حديث محمود بن الربيع: عقلت من رسول الله صلى الله عليه وسلم مجة مجها من وجهي وأنا ابن خمس سنين، ليصحح به التحمل عن ابن خمس سنين أو من كان دون البلوغ، وقد أورد الخطيب -رحمه الله- جملة آثار حفظها جمع من الصحابة ومن بعدهم في الصغر، وحدثوا بها بعد ذلك وقبلت عنهم.
وقال الإمام أحمد إذا عقل ما يسمع صح تحمله الرواية، وهو الذي رجحه ابن جماعة في المنهل الروي، وقال: اعتبار كل صبي بحاله، وكأني بيحيى بن معين خمّن حال عامة الأجيال المقبلة فاشترط بلوغ الخمسة عشر سنة، ولا أدري إذا رأى جيلنا فأي سنٍ يشترط!
قارن بين تلك النماذج وبين ما أضحت عليه الحال وقل لي أي بون أبعد: هذا أو الثرى من الثريا؟
كان مخلد بن الحسين والعالم المجاهد بن المبارك -وهما هما- إذا ذكر لهما من ذكرت ونحوهم تمثلوا فقالوا:
لا تعرضنَّ لذكرنا في ذكرهم ليس الصحيحُ إذا مشى كالمقعدِ
فماذا نقول؟! أولئك قوم شهدوا الوحي وعاينوا التنزيل، فلا سبيل للمقارنة أو التمثيل.
نزلوا بمكةَ في قبائلِ نوفَلٍ ونزلتُ بالبيداءِ أبعد منْزِلِ!
ولكن السؤال: ما الذي أوجد هذا الفرق؟ أليست العلوم تزداد يوماً بعد يوم؟ أليست العقول تتفتح على آفاق جديدة حيناً بعد حين؟
الجواب: بلى، ولكن!
فرق بين من هداه الوحي فأبصر الطريق وسار نحو هدف ربي عليه، وبين من تفتحت عيناه على كابتن ماجد وأبطال الديجيتال والرمية الملتهبة ولا يفوتني ذكر البكيومونات! وغيرها من الخُزَعْبِلات والسخافات الحديثة المعاصرة.
فرق بين من شُكلت نفسيته وفقاً للفطرة السوية، وبين من شَكلت عقله الفضائيات المرئية التي استغرقت الأوقات وذهبت بالطاقات.
فخير جليسٍ (في الزمان!) كتاب وخير أنيس (في الحديث) قناة!
فرق بين من نشأ معتزاً بدينه وقيمه وأخلاقه، وبين من شكلت أخلاقه وقيمه –منذ نعومة أظفاره- الأفلام الكرتونية والثقافة الغربية.
إنه من الطبيعي أن يكون الأول غصة في حلق المستعمر لاتجمعه به رابطة، كما أنه من الطبيعي أن يكون الأخير أداة طيعة في يد المستعمر، سواءً أكان الاستعمار عسكرياً أو ثقافياً يُكفى به المنافقون القتال.
ــــــــــــــــــــ(67/84)
ضوابط العمل النسوي الدعوي
أسماء عبدالرازق*
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فالدعوة إلى الله واجب على كل مسلم ومسلمة: (قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني)، وهي من العبودية لله تعالى: (لكل أمة جعلنا منسكاً هم ناسكوه فلا ينازعنك في الأمر وادع إلى ربك إنك لعلى هدى مستقيم)، (فلذلك فادع واستقم كما أمرت)، (ولايصدنك عن آيات الله بعد إذ أنزلت إليك وادع إلى ربك).
والدعوة ليست محصورة في خطب ودروس لا يتصدى لها إلا العلماء كما قد يظن البعض، بل كل مسلمة تستطيع أن تكون داعية إلى الله بسلوكها وتعاملها مع مجتمعها، و بعلمها وهي تبلغ عن ربها ما علمت من دينه، وباحتسابها وهي تنهى عن منكر، أو تحث على فعل خير، وبكل ما تيسر لها من وسائل مشروعة، سواء أكانت وحدها في بيتها، أو عبر مؤسسة أو غير ذلك، في مكان عملها أو دراستها بل في العالم أجمع.
ولكن على المسلمة أن تراعي جملة من المسائل وأن تلتزم بعدة ضوابط حتى يثمر عملها، وتنال ثواب ربها.
وهناك ضوابط عامة، شرعية وسلوكية واجتماعية وغيرها تختلف باختلاف الأعمال الدعوية، منها ما يخص المسلمات دون المسلمين، ومنها ما يعم الجميع.
الضوابط الشرعية:
الإخلاص والصدق: فالله أغنى الشركاء عن الشرك، ولا يقبل من العمل إلا ما كان خالصا له، ومن ابتغى بعمله وجه الله بورك له فيه ورزق التوفيق، ومن عمل عملاً أشرك فيه مع الله غيره تركه وشركه.
الاتباع وترك الابتداع: فربنا جل وعلا قد أكمل لنا الدين، ونبينا صلى الله عليه وسلم قد بلغ رسالة ربه، وكل عمل أحدث في الإسلام فهو رد كما في الحديث، وكل بدعة تميت سنة ولا شك.
العلم بالمسألة التي تدعو إليها ومعرفة الأدلة وفهمها: لأن مسائل الشرع لا تحتمل تغليب الظن والكلام بالرأي، (قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني).
الاستعانة بالله والتوكل عليه: وإدراك أن الصلاة وقيام الليل زاد الداعية، وأن الدعاء عبادة، وأن الفزع إلى الله ديدن المسلمة في كل صغيرة وكبيرة. فهذا أسوتنا صلى الله عليه وسلم في بدر نام أصحابه رضي الله عنهم وبقي صلى الله عليه وسلم يصلي تحت شجرة ويتضرع حتى أصبح.
جمع الشجاعة والخشوع لربه ما أحسن المحراب في المحراب!
وأصبح الصبح ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشا تصوب من العقنقل - وهو الكثيب الذي جاءوا منه- إلى الوادي قال: (اللهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها، تحادك وتكذب رسولك، اللهم أحنهم الغداة)، ومد يديه وجعل يهتف بربه: (اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض)، فمازال كذلك حتى سقط رداؤه عن منكبيه، فأتاه أبوبكر فأخذ رداؤه فألقاه على منكبيه، ثم التزمه من ورائه وقال: يا نبي الله كفاك مناشدتك ربك، فإنه سينجز لك ما وعدك. فأنزل الله عز وجل: (إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين)
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة، (ففروا إلى الله)؛ فإن الخير بيديه والأمر إليه، فاستعينوا به وتوكلوا عليه:
إليه؛ وإلا لا تشد الركائب ومنه؛ وإلا فالمؤمل خائب
وفيه ؛ وإلا فالرجاء مضيع وعنه ؛ وإلا فالمحدث كاذب
مراعاة الضوابط الشرعية في التعامل مع الرجال: من التزام للباس الشرعي، وعدم الخلوة، وعدم التحدث إلاّ بقدر الحاجة، وعلى المسلمة ألا تسافر بغير محرم، ولا تخرج بغير إذن وليها، فالغاية لا تبرر الوسيلة.
معرفة الثابت والمتغير في مسائل الشريعة: لكثرة الطوائف العاملة في حقل الدعوة، على المسلمة التمييز بين الثابت من الدين الذي لا يجوز الاختلاف فيه، وبين المتغير الذي يحل فيه الاجتهاد، ويسوغ الخلاف الناتج عنه، لتعرف مع من تتعامل وكيف.
صدق الله العظيم الضوابط السلوكية:
الالتزام بما تدعو إليه: فأول خطوة في طريق الدعوة وأول سبب لقبولها، أن تكون قدوة حسنة، وإلا كنت منفرة لا مبشرة. (أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب! أفلا تعقلون؟).
الصبر: يستوجب معية الله تعالى (يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة، إن الله مع الصابرين)، وهو وصية الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم لما قرن أمره بتبليغ الدعوة بأمره بالصبر (يا أيها المدثر. قم فأنذر. وربك فكبر. وثيابك فطهر. والرجز فاهجر. ولاتمنن تستكثر.ولربك فاصبر)، ووصيته لسائر المسلمين (وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر)، وكذلك وصى به بني إسرائيل (واستعينوا بالصبر والصلاة). ولقمان عليه السلام جعله من عزم الأمور، مثل الصلاة والدعوة. والإمام محمد بن عبدالوهاب رحمه الله ذكر أربع مسائل يجب على كل مسلم تعلمها: "العلم والعمل والدعوة والصبر على الأذى فيها".
الحكمة: وهي فعل ما ينبغي كما ينبغي في الوقت الذي ينبغي، فعلى الداعية إلى الله أن تراعي الوقت المناسب والمكان المناسب والموضوع المناسب. وأن تراعي المصالح والمفاسد، فدفع المفسدة مقدم على جلب المصلحة، وعند تعارض المصلحتين ينظر في أعلاهما، وعند تعارض المفسدتين تدفع أعظمهما ضررا.
لين الجانب: وقد وصى الله بذلك أعظم الناس خلقا فقال: (فاعف عنهم واستغفر لهم)، وقال: (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن)، بل حتى أهل الكتاب، قال تعالى: ( ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن)، فنفى واستثنى ليؤكد الأمر. والناس بطبعهم يقيمون الداعية بعلمه، فإن خالطوه قيموه بسلوكه، فأحبوه أو انفضوا من حوله (ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك).
التواضع: من مفاتيح القلوب وهو قبل كل شيء يزيد المسلم عند الله رفعة، وحسب الداعية ذلك.
صدق الله العظيم الضوابط الاجتماعية:
مخالطة النساء بالقدر المناسب: لمعرفة طبيعتهن وما يناسبهن، ولأن الإنسان يأنس بمن يعرف، وقبل هذا وذاك، لأن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم.
تنويع الخطاب: بين الفقه والسيرة والرقائق وغير ذلك حسب طبيعة المدعوات وحاجتهن. والحرص على بث الإيمان في صفوف النساء، وربط حياتهن كلها بالله، فذلك وحده هو الكفيل بتغيير المنكرات التي تعتري مجتمعات النساء.
تفعيل المرأة: فتعلم أن لها دورا لا يقوم به غيرها، في بيتها ومجتمعها، واستيعابها في برامج تستفيد من إمكانياتها وإن قلت. فلكل مسلم كائنا من كان، صغيرا أو كبيرا، رجلا أو امرأة، عالما أو جاهلا، بل برا أو فاجرا، لكل ثغرة يسدها. ففي الهجرة، يخرج نبي الأمة صلى الله عليه وسلم وخليفته رضي الله عنه، فتمونه أسماء الفتاة، وعائشة الطفلة، ويعاين له عبدالله الشاب، ويخفي أثره عامر بن فهيرة الراعي. وفي الخندق يعمل الجميع، سلمان يخطط، وعلي يقطع رأس من يعبر الخندق، وعبدالله بن رواحة وخوات بن جبير يتحسسان أخبار بني قريظة، حتى امرأة جابر تصنع طعاما يبارك الله فيه فيكفي أهل الخندق، وحتى عبدالله بن الزبير الطفل يراقب من على سور الحصن، بل حتى عبدالله بن أم مكتوم الرجل الضرير يوليه رسول الله صلى الله عليه وسلم إدارة أمور المدينة.
استنهاض الهمم: وإشعار المسلمات بأن عليهن من الواجبات ما يستغرق الأعمار، وإخراجهن من دائرة هموم المعاش إلى هم الأمة العام، وغمسهن في قضايا المسلمين الكبار، فلسن يعجزن من أن يجعلن لهم من دعائهن نصيب، أو أن يربين أولادهن على حب الدين والدعوة والجهاد.
تجميع الصفوف ونشر أدب الاختلاف: ولا شك أن المقصود ليس هو الاجتماع فقط، وليس هو كونك على شيء من حق فقط، ولكن المقصود الاجتماع على الحق، والله تعالى يقول: (واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا)، وألا يكون للتفرق لأهواء النفس وأعراض الدنيا
دربنا واحد فكيف افترقنا ؟ لا يكن حظ نفسنا مبتغانا
نحن في الدين إخوة فلماذا يعتلي صوتنا ويخبو إخانا؟
ومراد النفوس أصغر من أن نتعادى فيه وأن نتفانى
ضوابط أخرى:
الوعي: أولاً بحاجتها إلى الله وتقصيرها في حقه، والوعي بمواضع قوتها وضعفها، والوعي بمشكلات مجتمعها، والوعي بضرورة التضحية، والوعي بمخططات الأعداء وأساليبهم، وبدور المنافقين المنبثين في المجتمع، الذين يتمضمضون بالعبارات المطاطة، فإذا ما مس جسد الأمة قرح هبوا ليعمقوا الجراح.
التيسير والتدرج: وتلك وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم لرسوليه إلى اليمن- معاذ وأبو موسى الأشعري- قال لهما: (بشرا ولا تنفرا، يسرا ولا تعسرا). ولماّ بعث معاذاً - رضي الله عنه - إلى اليمن قال له : إنك ستأتي قوما أهل كتاب فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم فإن هم أطاعوا لك بذلك فإياك وكرائم أموالهم واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينه وبين الله حجاب.
اغتنام الفرص: فترك الفرص غصص، والفرصة سريعة الفوت، بطيئة العود.
إذا هبت رياحك فاغتنمها فإن لكل خافقة سكون
عدم التأثر بضعف استجابة الناس: ( إنما عليك البلاغ)، على المسلمة أن تدعو ملتمسة ما يناسب من وسائل، ثم تكل أمر الناس إلى رب الناس.
التفاؤل مهما اشتدت الأزمات: أيتها الداعية فري إلى الله وابذلي مافي وسعك ثم تفاءلي:
يا رفيق الطريق هون عليك لابد من زوال المصاب
سوف يصفو لك الزمان وتأتيك ظعون الأحبة الغياب
وليالي الأحزان ترحل فالأحزان مثل المسافر الجواب!
تلك لفتات أسأل الله أن ينفع بهن، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
ــــــــــــــــــــ(67/85)
غيرة الأطفال هل هي شعور طبيعي؟
أسماء عبدالرازق*
يختلف تعامل الآباء مع الطفل الغيور؛ فمنهم من يظن أن استرضاء الطفل وتدليله يمكن أن يخفف من غيرته، وغيرهم يرى أن زجره كفيل بتقويم سلوكه، بينما لسان حال الطفل يقول: افهموا سبب غيرتي لتساعدوني!
فما هي الدوافع الحقيقة للغيرة؟ وما هي مظاهرها؟ وكيف نتصرف بحكمة فنصنع من الليمون الحامض شراباً حلواً مغذياً؟
الأسباب الحقيقية للغيرة:
أهم أسباب الغيرة على الإطلاق عدم إحساس الطفل بالأمان. والسبب في ذلك أن الطفل يريد أن يشعر بأنه مهم بالنسبة لوالديه وأنهما يحبانه. ولأن ذو السنتين أو الثلاث قليل التجربة، فإنه يفسر الانشغال عنه بغيره على أنه نوع من التخلي عنه خصوصا إذا حدث ذلك فجأة كالعناية بمولود جديد. ففي هذه الحالة يظن المسكين أن أبواه لم يعودا راضيين عنه فاستبدلاه بهذا الوليد. إن أكثر ما يهم الطفل هو حب والديه له، وهو يستمد ثقته بنفسه وانطلاقه في التعامل مع الناس من إحساسه بقبوله عند والديه. لذا نجد الطفل الذي يغمره والداه بالعطف ويظهران له الحب في كل الأحوال لطيفاً متسامحا مع الآخرين. أما إن شك الطفل في حب والديه له لقلة اهتمامهم به أو لقلة الوقت الذي يمضونه معه أو معاملتهم له بشيء من الجفاء أو الغلظة فإنه يحس بالقلق ويحاول أن يكسب والديه ويجذب انتباههما بأسلوبه الخاص ومن بينها إبداء الغيرة من الآخرين سواء كانوا إخوته أو أقرانه. وينبغي أن تُفسر أغلب تصرفات الأطفال دون السادسة على هذا الأساس.
من أسباب الغيرة كذلك أن الطفل في عامه الثاني يحس أنه كيان مستقل، ويحاول تقييم نفسه بمقارنتها مع الآخرين، مما يجعل تفاوتاً بسيطاً يبدو للطفل أمراً مزعجاً جداً؛ وهذا ما يفسر غيرة بعض الأطفال من مظهر الآخرين. فربما يغار الطفل من أحد أترابه لأنه أطول منه مثلاً.
مظاهر الغيرة:
يختلف تعبير الأطفال عن غيرتهم من إخوتهم الصغار؛ فمنهم من يبدي غضبه واحتجاجه صراحة ويعلن الحرب على هذا المخلوق الذي يريد أن ينازعه قلب أبويه، فيؤذيه كلما سنحت له الفرصة. وبعضهم يبدو ودوداً مع الوليد أمام والديه، حتى إذا ( ما غاب أب شنب لعب أب ضنب). وقد لا يبدي الطفل أي عدوان على أخيه لكنه يحاول العودة بعقله للمرحلة التي كان سعيداً فيها فيبدأ لا شعوريا في التصرف كالصغار فيمتنع عن تناول طعامه بنفسه أو يرفض الطعام كلياً ويعتمد على زجاجة الإرضاع، وقد يتبول على ثيابه رغم أنه كان يستعمل المقعدة، وقد يتعتع في الكلام مع أنه تجاوز هذه المرحلة منذ عدة شهور، وغير ذلك أفعال الصغار وهو بذلك يحاول أن يشعر والديه بأنه صغير يحتاج العناية والرعاية مثل هذا الذي يرعيانه. من مظاهر الغيرة كذلك:
{ القسوة على الحيوانات.
{ إلقاء الأشياء من النافذة أو الشرفة.
{ العناد وعدم الطاعة.
{ قلة النوم.
{ كثرة البكاء والانفعال لأبسط سبب.
{ الخوف الشديد وربما بلا مسوغ.
وبالطبع ينبغي التعامل مع كل هذه التصرفات على أنها مظاهر لمرحلة عابرة، والمهم معاونة الطفل لاجتياز التجربة والاستفادة منها لا التركيز على كل مظهر على حده ومحاولة علاجه؛ لأن كثرة الملاحظات والأوامر والممنوعات تزيد من ضيق الطفل وتفاقم مظاهر الغيرة وتشعر والديه بالإحباط مما يعقد المسألة ويحولها لمشكلة حقيقية لا تجربة عابرة.
كيف نتصرف مع الطفل الغيور:
من المهم جداً إشعار الطفل بالاهتمام، وإظهار الحب له بالتبسم والإقبال عليه عند الحديث معه، ومسح شعره والتربيت على ظهره أو غير ذلك من صور التلامس الجسدي، وكذلك عدم الضجر من تصرفاته مهما كانت طائشة، والاكتفاء بالتوجيه أو العقاب إن دعا الأمر لذلك على ألا يكون العقاب بتهديده بحرمانه من الحب، والتركيز على أن الوالدان يرفضان التصرف الخاطئ وأنه محبوب ومقبول بحسناته ولن تنزع سيئاته مافطر عليه قلبيهما من محبته. كما أن تخصيص وقت للعب مع الطفل وسيلة مهمة لطمأنته. كذلك المبادرة بتقديم ما يحب دون إفراط. بهذا يقول الأبوان للطفل نحن نحبك، لا كما يتصور البعض ويردد على مسامع أولاده: ما حاصله نحن نشتري لك أغلى الألعاب، وأفخم الملابس ونحو ذلك، فالمادة لا تعني للطفل شيئاً في سنيه الأولى.
قد يزعم الوالدان أن معاملتهما للطفل الكبير لم تتغير وأنهما هيآه لاستقبال أخيه الصغير، ولذا عندما يعبر عن ضيقه بمقدم أخيه يعتبراه شريرا ويستنكرا تصرفاته. وفي الحقيقة، أو لنقل حسب وجهة نظر الطفل أن الوالدين قد تنكرا له فهما لا يكفان عن مداعبة الوليد رغم أنه مثل الصنم لا يستجيب لحركاتهما، بل أكثر من ذلك يفخرون به ويقدمونه للزوار وهؤلاء بدورهم يمدحون جماله ويباركون مجيئه، ثم يرمقونه بنظراتهم ويسألون أمه عن ردة فعله فتشرح لهم بالتفصيل كيف أنه غيور يشد شعر أخيه المسكين ويحاول أن يعضه وو.. فينصحونها بإبعاده عنه وتشديد الرقابة عليه فيتعمق إحساسه بأنه منبوذ ويزداد إصرارا على استرداد حقوقه المسلوبة، وتقل ثقته بنفسه أكثر وبالتالي تزداد مظاهر غيرته من أخيه حدة. أما فرية تهيئته لاستقبال أخيه فمردودة أيضاً، لأن غاية الأمر أنهما أخبراه بأنهما سيحضران له أخا صغيرا فلم يفهم المسكين شيئا لكنه أخذ يردد ما يقولونه ثم لما رأى سرير الوليد كون صورة باهته ثم ها هو ذا فجأة يرى بديلا له بين ذراعي أمه، وأبوه لا يكف عن ذوده عنه كلما اقترب منه، ثم بعد كل هذا يطلبون منه أن يحبه معهما!
بالطبع لكل طفل سماته الخاصة، لكن النظر للقضية بعين الطفل يمكِّن الأبوان من التعامل الحكيم بعون الله، والسطور التالية موجِّهات عامة قد تعين الأبوين على تجاوز هذه المرحلة من حياة الطفل.
{ تقدير شعوره؛ فلو طلب الابن من الأم أن ترجع هذا الوليد الذي لا يكف عن الصراخ من حيث أتى، فلتتفاعل معه بشكل إيجابي، فتبين له الفرق بين الناس والبضائع ثم تشرح له كيف أنها فخورة به لأنه كبير لا يبكي مثل الصغار ويستطيع أن يلعب معها ويمكن أن تصفه بكل ما تتمنى أن يتحلى به من صفات لأن الإيحاء الإيجابي له أثر فعال في دفع الطفل -بل حتى الكبار- للتصرف بشكل سليم.
{ السماح للطفل بمخالطة غيره من الأطفال قبل مولد أخيه يجعل الطفل يستمتع بعدم الاعتماد المطلق على الأم وبالتالي يكون أقل هما وغما بعد ميلاد أخيه.
{ إشراك الطفل في العناية بالوليد - تحت إشراف أبويه طبعاً- فيساعد أمه في تبديل ثياب الرضيع أو يُسمح له بمسك زجاجة الإرضاع بضع ثوان مع الثناء عليه وشكره على خدماته الجليلة التي تخفف عن الأم كثيرا، وبذلك يحس الطفل بالفخر وأنه صار قريناً لوالديه لا للرضيع، وأن الجميع كيان واحد ولكل فرد مكانه. بالطبع لا يجب إثقال كاهل الطفل، بل يجب أن يسمح له بلعب دور الأبوة متى ما أحب حتى لا يحس أن الكبر عظيم التبعات وخير له أن يعيش صغيرا.
{ بالإمكان شراء دمية -وننصح بأن تكون شرعية فلا تكون تمثالاً بين معالم الوجه- يطلق عليها اسم الوليد ينفس فيها عن غيظه منه.
{ عدم المقارنة بينهما مطلقاً، وإن دعا الأمر يجب أن تكون المقارنة بين مرحلة الرضيع ومرحلته هو.
{ الابتعاد عن انتقاده لئلا يفقد الثقة في نفسه بل يجب توجيهه للصواب مباشرة.
{ إن حاول إيذاء الوليد خفية يجب ألا يعامل معاملة من ضبط متلبساً بجريمة كبرى، بل يجب التصرف بحكمة كأن تتظاهر الأم بأنها لا تعرف ما جرى وأنما أتت لتدعوه لمشاركتها في فعل شيء ما.
{ استشارته في بعض الأمور التي يمكن أن يُعمل فيها برأيه، كسؤاله مثلا: هل نلبس هذا الرضيع هذا الثوب أم ذاك؟
{ الثناء على أي خطوة إيجابية يتخذها ولو صغرت حتى يتحمس للخطوة التالية.
{ مكافأته عند الطاعة ليعلم الفرق بينها وبين العصيان، وليس من الضروري أن تكون المكافأة مادية، بل من الممكن أن تكون معنوية، ومن أشد ما يعجب الأطفال التصفيق لهم بشيء من الحماس أثناء تكرار الفعل الحسن الذي فعلوه، أو أن تقول الأم أنها ستخبر (بابا بهذه الشطارة) فور وصوله وطبعا يجب أن تفي بالوعد وأن يبدي الأب فرحته الغامرة بهذا الانجاز الهائل الذي قام به ابنه الحبيب.
{ معالجة الأمر عن طريق القصة مع مراعاة سن الطفل بحيث يتمكن من استيعابها، وبالطبع يجب أن تحكى القصة بنوع من الانفعال مع الأحداث.
{ إن كان الطفل قد نكص لمرحلة الرضيع فليُسمح له مرحليا بذلك على أن يركز الوالدان على إشعاره بمزايا مرحلته العمرية بصورة غير مباشرة.
{ بالنسبة للأطفال الذين يبدون شيئا من التمرد، تنوع لهم طرق الأمر مع مراعاة سنهم، فذو السنتين مثلا لا يستوعب الجمل الطويلة، وينسى كثيرا بالذات مع كثرة الأوامر. كذلك ينبغي أن يحترم كيانهم، بمعنى إذا كان الطفل مستغرقا في اللعب وحان وقت الطعام يطلب منه بشيء من التلطف أن يتناول طعامه ثم يعود للعب.
{ بالنسبة للأطفال الذين تضعف شهيتهم يُقدم لهم ما يحبون ويُجعل من وقت الطعام وقتا للتسلية كأن تأكل معه الأم ويمكن أن تطعمه بين الحين والآخر وهي تنشد له أو يشاهدون شيئا يحبه أو تحكي له قصة أو غير ذلك مما يناسبه.
{ الطفل قليل النوم يجب ألا يكره عليه إكراها بل ينبغي أن يُهيأ له الجو ويترك لينام عندما يغلبه النعاس. والأطفال عموما يستغرقون في النوم ما دام المكان هادئا خافت الإضاءة. كما أن الروائح الطيبة لها أثرها في تحفيز الصغار والكبار للنوم، فبإمكان الأم استعمال البخور على ألا يملأ الدخان أرجاء المكان.
{ يمكن أن تصحب الأم طفلها إلى المطبخ مثلا وتشرح له أثناء إعدادها الطعام ما تفعله، وتسمح له بالمشاركة في الأشياء المعقولة وتنصت له إذا تكلم فيتسلى ويحس بالأهمية، وتزداد ثقته بنفسه، ويتعرف كذلك على طبيعة بعض الأشياء، ويتعلم الإصغاء وكلها ميزات جيدة يمكن إكسابه إياها بمثل هذا التصرف الذي لا يكلف الأم شيئا.
هذه بعض التصرفات التي يمكن أن تعين الطفل في اجتياز تجربة الغيرة والاستفادة منها، وبإمكان كل أم وأب أن يستحدثا الكثير من الوسائل التي يمكن أن تسعد طفلهما حسب طبيعته ومزاجه.
أخطاء يجب أن يتجنبها الآباء:
{ الشفقة الزائدة على الطفل والتي تبديهما عنده وكأنهما قد جنيا عليه.
{ الامتناع عن مداعبة الرضيع كلما جاء أخوه، بل ينبغي لهما أن يُشعراه بأنهما أخوان، وأنهما معا محل رعاية الأبوين وحبهما.
{ تنفيذ طلباته كلها مما يجعل منه مستبداً صغيراً. وبما أن الأبوان لن يستمرا طويلاً على هذه الحال فستكون ردة فعل الطفل عنيفة لأنه كلما طلب شيئا ولم يعطه ظن أن والديه إنما يمنعاه حقا من حقوقه وأنهما قد تنكرا له وهذا من شأنه أن يسبب له بعض المشكلات النفسية حسب سنه.
{ غض الطرف عن وقاحته، مما يجعله يتمادى في الخطأ، بل يتعود الجرأة على فعل ما يُستنكر. كما أن الطفل يحس بالقلق كلما ترك دون توجيه كلما أقدم على فعل يستيقن أنه مشين؛ لأنه من ناحية يظن أن أبويه إنما يكظمان غيظهما لحين، وأن بركان غضبهما سينفجر في وجهه لا محالة، وسيُنزل عليه أشد العقاب، وهذا ما يحدث من كثير من الآباء قصدوا ذلك أو لم يقصدوا. ومن ناحية أخرى لأنه يحس بالحاجة للتوجيه والتقويم تماما كإحساسه بحاجته للطعام والشراب، وتقصير الوالدين في هذا الجانب يعني أنهما حرماه من التوجيه لأمر ما وهذا مدعاة للقلق بالنسبة للصغار.
{ المبالغة في ذم الرضيع.
{ عدم منعه من إيذاء أخيه مما يوقعه في الإحساس بالذنب، ويتعاظم هذا الإحساس إن لحق أخاه شيئا من الأذى. وعلى الأبوين أن يعيا جيدا أنهما مسئولان عن الطفلين معا وأن التسامح مع الأبناء لا يعني تمكينهم من الاعتداء على الآخرين، وأن الطفل في مرحلة الغيرة أو غيرها ينتظر منهما أن يهدياه للصواب ويشجعاه على التحلي بجميل الخلال.
ختاما إذا كانت المرأة العاقلة قد تغار من أختها، والرجل السوي يغار، ومن فوقهما يغار، فلابد أن يدرك الآباء أن الغيرة شعور طبيعي ومرحلة عابرة، وأن الأبوين بشيء من الصبر يمكن أن يعينا الطفل على الإقبال على الحياة بثقة، ويربياه على حب الآخرين والتسامح معهم.
ــــــــــــــــــــ(67/86)
نحو تربية أمثل(1/2)
أسماء عبدالرازق*
تربية أمثل الإنسان أطول المخلوقات طفولة، فمتوسط أعمار هذه الأمة بضع وستون عاما والطفولة اثنا عشر عاما تقريبا، فهي تمثل نسبة (5:1)، وتلك نسبة كبيرة لا تكاد توجد مثلها بين المخلوقات، فطفولة القط مثلا نحو شهرين؛ بينما متوسط عمره عشر سنوات وهذا ما نسبته (60:1)، وقد جعل الحكيم الخبير الإنسان كذلك لأنه مستخلف في الأرض، ولأنه حامل الأمانة التي أبت السماوات والأرض والجبال أن يحملنها وأشفقن منها، فكان لابد من اكتسابه خبرات طويلة، وإعداده لحمل الأمانة بدنياً ونفسياً وعقلياً واجتماعياً، وقبل ذلك كله إيمانياً وخلقياً.
وأداء واجب الخلافة في الأرض يكون بنشر دين الله بين الناس، ولما كانت المبادئ النظرية لا تعيش ـ فضلاً عن أن تنتشر ـ إلاّ عبر تجسدها في أجيال، فتكون سلوكا تطبيقياً يحرك الأجسام، كان من الأهمية بمكان أن يكون كل فرد نموذجاً مجسّماً للإسلام، يراه الناس فيرون الإسلام، وهذا ما فعله المربي الأعظم عليه أفضل الصلاة والسلام، "لقد كان هدفه الأول أن يصنع رجالاَ لا أن يلقي مواعظ، وأن يصوغ ضمائر لا أن يدبج خطباً، وأن يبني أمة لا أن يقيم فلسفة، لقد صاغ من فكرة الإسلام شخوصاً، وحول إيمانهم بالإسلام عملاًَ، وطبع من المصحف عشرات النسخ، بل مئات وألوف، لكنه لم يطبعها بالمداد على صحائف الورق، بل طبعها بالنور على صفحات القلوب، ثم أطلقها تعامل الناس تأخذ منهم وتعطي، وتقول بالفعل والعمل ما هو الإسلام الذي جاء به محمد بن عبدالله عليه الصلاة والسلام"([1]) . وهذه هي مهمة أمة الرسالة. أن تصوغ من الإسلام شخوصاً تمشي على الأرض وقلوبها متعلقة برب السماء.
ولتحقيق ذلك لابد من سلوك سبيل تربية طويل للنشء، زادُ قاصده حصيلة أعوام من التربية الذاتية، أو موروث ثمين من المؤن التربوية.
والخطوة الأولى في طريق التربية بناء الأسرة المسلمة التي تعرف ما الذي يراد منها، وتملك من الوسائل ما يبلغها الغايات. وهذه هي أهم الخطوات، ولذا كان التشريع للأسرة يشغل حيزاً كبيراً من تشريعات الإسلام, وقدراً ملحوظاً من آيات القرآن. فالتربية تبدأ من هنا.. جاء أحدهم إلى مالك بن نبي يسأله كيف يربي ولده، فسأله كم عمره؟ قال: بضعة أشهر فقال له: لقد تأخرت كثيراً يا أخا العرب!
إن الطفل يقضي أشد فترات عمره حساسية بجانب أمه، فالسنوات الخمس الأولى تتشكل فيها الملامح العامة لشخصية الطفل، وأي خطأ تربوي، وكل هزة نفسية فيها تحدث شرخاً عميقاً ربما عزّ علاجه. لذا كان من حق الولد على أبيه أن ينتقي أمه، فالناكح مغترس، والعرق السوء قلما يَنْجُب، فلينظر امرؤ حيث يضع غرسه. كما يحسُن أن يغترب ما استطاع لئلا يُضوِ، فكلما تباعدت الخريطة الجينية كان أصحَ للولد وأنجب.
كما أن على المرأة كذلك ألا ترضى بغير ذي دين يعرف حقها، وذي خلق يحسن صحبتها، ويكرم بنيها، وما عدا ذلك عرَض تأتي به الأيام وتذهب، وبيت أبيها خير لها من زوج شكِسٍ غضوب، وابن عاق عاص.
إن أعداء الأمة يعلمون أن السبيل لإضعاف الأجيال المسلمة هو خلخلة قواعدها وإضعاف أساسها، فلا غرو أن تراهم في عمل دؤوب يرمي إلى تصديع كيان الأسرة وإشاعة التوتر والاضطراب فيها، باسم تحرير المرأة تارة، ودعاوى مناهضة التمييز تارة أخرى. يستغلون لذلك الإعلام والمنظمات الدولية، ويعقدون من أجله المؤتمرات الإقليمية والعالمية، ويبتكرون وسائل شتى في سبيل إعادة تشكيل العقول وصياغة المبادئ من ناحية، وإرغام المارقين على المخطط الأثيم من ناحية أخرى.
إن صيحات المساواة والحرية والانفلات من قبضة الرجل كما يحلو للمستغربين أن يقولوا لتهز كيان الأسرة هزاً، وتمزق نفسيات الصغار تمزيقاً. فالمرأة التي تنازع زوجها القوامة إنما تجني على نفسها أولاً، ثم على بنيها وزوجها. إنها تخطئ ألف مرة حينما تتصور أن القوامة تعني التسلط والسيطرة كما يردد أدعياء الحرية والتمدن، واللغة والشرع يشهدان بغير ذلك. فالقيِّم على الشيء هو الذي يصلح أمره، ويقيم أوده، ويلم شعثه.
والشريعة أناطت خيرية الرجال بإحسانهم إلى أهلهم، ونبي الإسلام كان أرفع مثل في ذلك. والله العليم الحكيم جعل المرأة والرجل شطرين لنفس واحدة، ليسكن أحدهما للآخر، ويكمل أحدهما صاحبه. فالعلاقة بينهما ليست علاقة تصارع وتغالب، لكنها علاقة تكامل وتعاون.
أما الآية الوحيدة التي تُعجبُ المتحررين المشفقين على المرأة من شرع خالقها، فهي التي يرددون جزءها: (فاهجروهن في المضاجع واضربوهن) بمناسبة وغير مناسبة، ولا يعلمون أنها جاءت في مقابل تقصير المرأة في أوجب واجباتها وإصرارها على ذلك بعد وعظها وتذكيرها؛ أو يعلمون ويتجاهلون!
إن المرأة كسائر عناصر الطبيعة مخلوقة بمواصفات معينة، يصلحها ما يناسب الذي فطرها عليه أحسن الخالقين، فإذا انقلبت على خِلقَتها وأبت إلاّ أن تكون خلقاً آخر؛ شقيت وتعست وربما أشقت وأتعست وكانت عاقبة أمرها خُسرا. إن التشريع الرباني يراعي عند توزيع الأعباء على شطري النفس الواحدة الاستعدادات الفطرية الموهوبة لكل منهما.
إن الصراع على السلطة في مملكة البيت والذي هو عبء يثقل كاهل الرجال، ليخلق صراعاً مدمراً محتدماً في نفوس الأطفال، حتى ولو حاول الوالدان إبعاد الطفل عن هذه المعارك أو حاولا إخفاءها عنه، "فالذي ينشأ في أسرة مضطربة يتوقع دائما أن تكون حياته الزوجية مليئة بالنكد والخلافات والصراع وجرح كرامة الآخر، بل يسعى دون أن يشعر لخلق المشاكل في حياته العامة والخاصة. إن الذي كان يلعب في طفولته دور الضحية لخلافات الأبوين ويتألم لذلك يصبح في الكبر جلاداً، ويجد لذة في ممارسة هذا الجلد النفسي للآخرين"([2]).
أما إذا انتهى الصراع بفوز الأم واستطاعت أن تثبت أنها شرسة قوية! ليست بحاجة إلى وصاية، وأن قبضتها الحديدية لن يفلت منها صغير ولا كبير فما أتعسها وما أتعس بنيها!
لقد أثبتت دراسة نفسية أن الولد يولد بذكورة فطرية ويسعى لاكتساب صفات الرجولة بتقليد صاحب السلطة في البيت، فإن كان قيم الأسرة أباه كَمَّلت صفاته الرجولية المكتسبة ما فطر عليه، وإلا اكتسب من صفات أمه وعاش وفيه شيء من أنوثة، وقد قرر علماء الاجتماع أن نسبة الشذاذ بين هؤلاء أكبر من غيرهم.
وبالمقابل تولد البنت رقيقة لطيفة لينة فإن صادفت أما متسلطة تأثرت بأبيها وجاءت مسترجلة "وهذه ستجد نفسها غير قادرة على احترام الرجال أو الثقة بهم مهما حققوا من نجاح في حياتهم العملية"([3]).
يتبع...
------------------------------------------------
([1]) سيد قطب: دراسات إسلامية، فصل انتصار محمد بن عبد الله، بتصرف يسير.
([2]) د.سبوك: حديث إلى الأمهات، مشاكل الآباء في تربية الأبناء، ص327، بتصرف.
([3]) د. سبوك، المصدر السابق، ص330.
ــــــــــــــــــــ(67/87)
نحو تربية أمثل (2/2)
أسماء عبدالرازق*
نحو تربية أمثل مهددات الأسرة
إن مما يهدد بيوت المسلمين في زماننا هذا، عمل المرأة الخالي من القيود، ذلك العمل الذي يُصَوَّر على أنه حق أصيل للمرأة يحقق ذاتها، ويدلل على إنسانيتها، ويحررها من التبعية لزوجها الذي يسخرها في بيته بأجر الكسوة والإطعام.. وما هو إلاّ عبء أرادوا أن يثقلوا به كاهلها، أو يتخذوه ذريعة لعبثهم! أوَ يُعقل أن العالم المتحضر لا يستثير عطفه ولا يستدر شفقته شيء مثل المرأة الشرقية الكسيرة المهيضة الجناح، التي تنقل من حبس أبيها لسجن زوجها ثم حفرة قبرها! وهل أنت أيتها المسلمة كذلك؟ أحقاً أنك خاملة في بيتك، وبقاؤك فيه تعطيل لنصف المجتمع؟ أصدقوا يوم قالوا بأن دورك في بيتك يمكن أن تؤديه أية خادمة؟ أتعتقدين أن دُور الحضانة ـ كما زعموا ـ فيها متخصصات أكثر منك إدراكا لنفسيات أبنائك، وأكثر علما بحاجات فلذات أكبادك؟
لا.. لا تعليق ولا جواب...
إن العنصر البشري أثمن ما في الدنيا على الإطلاق، ومؤسسة الأسرة أهم مؤسسات الدنيا قاطبة، ولذا كان لابد من تحديد المسئوليات فيها على نحو دقيق جداً، وهذا ما أحكمته شريعة الإسلام، "فالله تعالى أوجب على الرجل النفقة وجعلها فريضة، كي يتاح للأم من الجهد ومن الوقت ومن هدوء البال ما تشرف به على الفراخ الزغب، وما تهيئ به للمثابة نظامها وعطرها وبشاشتها. فالأم المكدودة بالعمل للكسب المرهقة بمقتضيات العمل المقيدة بمواعيده المستغرقة الطاقة فيه، لا يمكن أن تهب للبيت جوه وعطره، ولا يمكن أن تمنح للطفولة النابتة فيه حقها ورعايتها.
فحقيقة البيت لا توجد إلا أن تخلقها امرأة، وأرج البيت لا يفوح إلا أن تطلقه زوجه، وحنان البيت لا يشيع إلا أن تتولاه أم"(1).
والأطفال لهم وراء حاجات المأكل والملبس والعناية الطبية حاجات نفسية لا تلبيها دُور الرعاية والمحاضن الاصطناعية، وهذه حقيقة يقر بها أختصاصيون راسخون. يقول الدكتور (راي ليفي) والأستاذ (بيل أوهانلون) في تعليقهما على السلوكيات المضادة للمجتمع والتي أخذت في التفشي في مدارس الولايات المتحدة: "خصص وقتاً أكثر لطفلك، إن قضاء كمية كبيرة من الوقت يعتبر هاما بصفة خاصة مع الطفل العنيد، حتى قضاء وقت دون عمل شيء معين مع الطفل يعد مفيداً، ربما تكون قد سمعت عن نوعية وجودة الوقت ولكننا لا نتحدث عن ذلك، إننا نتحدث عن كمية الوقت التي تقضيها مع الطفل"(2).
إن المربيات في دور الحضانة في أحسن الأحوال أمهات صناعيات، يشترك فيهن مع الطفل عشرون غيره. والفرق بين الأم والأم الصناعية مثل الفرق بين حليب الأم والحليب الاصطناعي!
أما الخلفية الثقافية والعقدية للمربية وما يمكن أن تقدمه للطفل من هذا الباب فذاك ما يجب أن يدفع كل أم على التفكير ألف مرة قبل أن تقذف بابنها في واحدة من تلك الدور مهما كانت الأسباب، إن المسلمة ينبغي أن تعيَ جيداً أن مهمتها الحقيقة تبدأ بعد الإنجاب، وأن صياغة ضمير الأمة وتشكيل عقلها مهمة وأي مهمة! فلا ينبغي أن تتركها أبدا لخادمة أو موظفة من أجل أن تتفرغ لجمع دريهمات أو تحصيل شهادات لا تدفع بالأمة شبراً واحداً إلى الأمام، إن أبناءنا يجب أن يُصنعوا على أعيننا، ولا ينبغي أن نترك للخادمة من أمر الطفل شيء البتة. حتى مجرد تنظيف الطفل ليس عملاً آليا، بل يعتبره الطفل مِنَّة كُبرى لا ينبغي أن يتفضل عليه بها أحدٌ غير أبويه، ولقد رأيت أطفالاً يتوسلون إلى أمهاتهم ألا يُنِبْنَ غيرهنّ في ذلك، وآخرين يرفضون رفضاً حاسماً أن تمتد إليهم يد غريبة بمنة لغير حاجة ملحة!
إن الله تعالى لم يعف المرأة من الضرب في مناكب الأرض لتتطوع هي بذلك تاركة دورها الذي تعبدها الله به لغيره. وأقلّ ما يمكن أن يقال في هذا أنه تنكبٌ للطريق، وإعراض عن الجادة، مالم تدعُ حاجتها أو حاجة أمتها إليه، شريطة أن لاتضيّع مَنْ تَلي من أولاد، وإلاّ كان عملها: "كارثة على البيت قد تبيحها الضرورة، أما أن يتطوع به الناس وهم قادرون على اجتنابه, فتلك هي اللعنة التي تصيب الأرواح والضمائر والعقول، في عصور الانتكاس والشرور والضلال.. فأما خروج المرأة لغير العمل، خروجها للاختلاط ومزاولة الملاهي، والتسكع في النوادي والمجتمعات، فذلك هو الارتكاس في الحمأة الذي يَرُدُّ البشر إلى مراتع الحيوان"(3).. إن على المسلمة أن تضع نصب عينيها دائماً وظيفتها الأساسية التي تبين قيمتها الحقيقية، ألا وهي إصلاح الدنيا بتربية الذرية، وتهيئة السكن والطمأنينة لهم ولزوجها في عالم مضطرب، فواجب المرأة إذاً إصلاح العالم، لا جمع الدراهم.
إن المرأة في الغرب تعمل لتعيش، فالقانون لا يلزم أحداً بالإنفاق عليها وحمايتها ما دامت غير قاصرة. وبنظرة منصفة، إلى حال المرأة في المجتمعات المادية وهي بنتٌ يعبث بها العابثون، وهي زوجةٌ تكدح ولا تكاد تأوي إلى بيتها إلا وهي كالة مكدودة، لتشارك زوجها إيجار المسكن وأقساط السيارة، وهي أمٌ يرميها أبناؤها في النهاية ـ يوم تُرد إلى أرذل العمر ـ في إحدى دور المسنين، كما قذفت بهم في البداية ـ يوم كانوا في ضَعف أول العمر- في إحدى دور الحضانة. حالها لا يداني أبدا حال المسلمة التي يحميها أبوها ويصونها زوجها ويبرها أبناؤها، ولا مِنَّة، بل هي حقوق كفلتها لها شريعة ربانية سمحة. أما ما تتعرض له المسلمة في بعض المجتمعات من ظلم أو قهر فسببه أن تلك المجتمعات حادت عن الإسلام إما فهماً أو تطبيقاً.
أما التحدي الثالث الذي يواجه الأسرة المسلمة فإنها دعوات تحديد النسل، وقد لعب الإعلام دوراً بارزاً في تشويه صورة المرأة الولود، وأفلح في ربط ذلك عند كثيرين بالتخلف وعدم المدنية. والمشكلة ليست تسخير الإعلام، فذلك شأن الجاهليات جميعاً وقد لقي أنبياء الله عنتا من الحملات الإعلامية التي روج لها أكابر المجرمين، ولكن المشكلة أن تسقط المسلمة أمام الدعاية وتنطلي عليها الخدعة، حتى صار من المألوف أن تردد الواحدة منهن بملء فيها في المجامع أنها تكتفي باثنين أو ثلاثة، وتتباهى بفارق العمر الكبير بين أبنائها. وترى الواحدة منهن وهي تردد مثل هذا الكلام الذي يدل على قلة ثقافتها الإسلامية وضعف ارتباطها بسنة نبيها، تراها جذلة متباهية لأنها ببساطة ليست همجية كما تظن، بل بالأصح كما جعلتها (المسلسلات) تظن، والمسكينة لا تدري أنها سقطت بذلك في مخططٍ خبيث يجتمع عليه اليهود والنصارى والهندوس.. وغيرهم من أذنابهم!
"لقد صار تحديد النسل المسلم بنداً مهماً في المعاهدات والاتفاقيات والبروتوكولات التي توقع بين الدول الكبرى ودول المسلمين عامة، ومصر بصفة خاصة. والمتتبع للعلاقات المصرية الأمريكية كنموذج، يجد أن موضوع تحديد النسل المصري المسلم متداخل مع موضوع المعونات الاقتصادية، وأقول النسل المصري المسلم لأن الكنيسة المصرية أعلنت مراراً وتكراراً أن موضوع تحديد النسل غير وارد في ملتهم، ولا يجوز لأتباع المسيح أن يفكروا فيه"(4).
إن الكلام عن تنظيم النسل ـ لا تحديده ـ ينبغي أن يُقصد به مراعاة مصلحة الرضيع، وصحة الأم إن نصح الطبيب بذلك. أما فقط لأن الأم مَلّت، أو أنها تحب أن تكون رشيقة أو أنيقة فذاك أمر لا ينبغي أن يكون على حساب زينة الدنيا من البنين.
والأم كما يقول أهلنا "لا تشتغل بالمجان!" فإن الوهن الذي يصيبها في الحمل والمخاض، والعنت الذي تلقاه في السهر والإرضاع، هو أجر مذخور، وعمل متقبل مبرور، إن هي أخلصت وصبرت واحتسبت. والجنة تحت أقدام الأمهات.
فلنحرص على بناء أسر قوية، ولنجعلها كما أراد الله لها أن تكون؛ آية من آياته، وواحدة من أعظم منَنِه وهباته، ولنتعهد غرسنا ليثمر صلاحاً ننعم به ما حيينا، ونلقاه مذخوراً لنا إن فنينا، بل يتعدى نفعه للإنسانية جميعاً، إعماراً للأرض بالعلم والسعي في مناكبها، وأخذاً بيد الحيارى الضالين الشاردين من رحمة الله، المحرومين من نعمة الإيمان.
ولنجعل بيوتنا محاريب طاعة وبيوت دعوة، ولنلهج بدعاء الأنبياء والصالحين، (ربنا هب لنا من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء)، (ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما)، ربنا اجعلنا مقيمي الصلاة ومن ذرياتنا (ربنا وتقبل دعاء).
----------
(1) سيد قطب: في ظلال القرآن، آية الأحزاب (وقرن في بيوتكن).
(2) راي ليفي وبيل أوهانلون: حاول أن تروضني، ص102،103، بتصرف.
(3) سيد قطب: الظلال، الأحزاب (وقرن في بيوتكن).
(4) د.زيد بن محمد الرماني: المرأة المسلمة بين الغزو والتغريب، ص38-39.
ــــــــــــــــــــ(67/88)
الحجاب بيننا وبينهم
د. عبد الرحمن صالح العشماوي*
تؤكد لنا الأحداث المتتابعة عظمة ديننا الإسلامي، وصحة عقيدته ومبادئه، وتؤكد لنا عظمة معجزته الكبرى القرآن الكريم، وصدق ما قاله نبينا محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم، وما أخبر به من حالات العصور والبشر التي كشف الله سبحانه وتعالى عنها حجب الغيب أمام أفضل خلقه وخاتم أنبيائه.
{إنَّهٍمً يّكٌيدٍونّ كّيًدْا} تؤكد هذه الآية القرآنية حقيقةً ثابتةً على مر العصور في رحلة مواجهة أهل الكفر، والباطل لما شرع الله سبحانه وتعالى من الشرائع، إنها حقيقة كيد أعداء الدين له ولأهله، ووقوفهم ضدّه وقوفاً مستوراً أحياناً، ومكشوفاً أحياناً أخرى {إنَّهٍمً يّكٌيدٍونّ كّيًدْا} أداة توكيدٍ وفعل مضارع يفيد الاستمرار وعدم الانقطاع، ومصدرٌ مؤكد لذلك الفعل، فالكيد من الأعداء مؤكد مستمر لا ينقطع حتى يرث الله الأرض ومن عليها، وفي هذه الآية الكريمة ما يردُّ على المستغربين من المسلمين في هذا العصر الذين ينفون «بسذاجة، أو بخبث» فكرة مؤامرة الأعداء ضدَّ الإسلام والمسلمين، وضدَّ دين الله الصحيح الذي شرعه للعالمين.
وإنَّ المتأمِّل المسترشد بكتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام ليعجب كلَّ العجب لبعض أبناء المسلمين الذين لايتورَّعون عن تسويغ أعمال الكفار ومخططاتهم في عالمنا الإسلامي، ولا يستحيون من الله، ولا من الناس فيما يقولون أو يكتبون عن حالة الصراع الذي بدأه الشيطان بعصيانه للرحمن، واستمر في أعوانه وأنصاره من الجن ومن الإنس، وسيظل مستمراً إلى أن تقوم الساعة.
{لأٍغًوٌيّنَّهٍمً أّجًمّعٌينّ ، إلاَّ عٌبّادّكّ مٌنًهٍمٍ المٍخًلّصٌينّ} إنَّ نيَّة الإغواء والعداوة والإفساد والمكر والكيد والمؤامرة ضد الخير موجودة أصلاً عند إبليس وعند من يطيعه في معصية الله من الثقلين الجن والانس.
في عصرنا هذا، وأيامنا هذه بالذات برزت لنا وجوه العداء سافرةً لا يسترها ستار، ولا يحجبها حجاب، وظهرت مخطَّطات أهل الكفر والعصيان ضد دين الله الصحيح، وضد أهله وأنصاره وأعوانه، بصورةٍ لا ينكرها إلا مصاب في وعيه، أو مخدوع في نفسه، أو مخذولٌ في عقله وقلبه، ولم تعد مخططات أعداء الخير والإنسانية تهديداتٍ مجرَّدة من الفعل، وإنما هي كما نشاهد تهديدات قولية مصحوبة بالدَّمار والقتل، والاحتلال، عياناً بياناً، جهاراً نهاراً، تهديدات منفَّذة على أرض الواقع في فلسطين، والعراق، وأفغانستان، وكشمير، والشيشان، وغيرها من البلدان، وكأني بتلك التهديدات الواقعة تسخر من أبناء المسلمين الذين ينكرون عداوة الأعداء، ويرفضون فكرة المؤامرة، نعم. تسخر منهم سخرية لاذعة تناسب ما هم فيه من الغفلة، وما يجنحون إليه من الوهم ونقصان الوعي بما يجري في عالم اليوم.
«الحجاب في فرنسا» معركة حامية الوطيس تجري على أرض «الثورة الفرنسية»، ثورة الحرية المطلقة «التي يدَّعونها» بل هي ثورة ثقافة الانحراف والتخلُّص من سيطرة المبادئ والقيم والأخلاق، نعم في فرنسا تقف أجهزة الدولة والاعلام في معركة غاشمة ظالمة لمواجهة فتيات مسلمات أبين إلا أن يطعن أمر الله بالحجاب، ويالها من معركة مخجلة لدولة متطورة بزعمهم لو كانوا يفقهون.
فتيات سلاحهن لباس محتشِمٌ يحقق معنى الطهر والنقاء، والحفاظ على كرامة الإنسان، وعلى طاعة الرحمن، لباس لا نار فيه ولا لهب، ولا رصاص ولا قذائف، وإنما هي الحشمة، يراها المحاربون للحرية الحقيقية سلاحاً فتاكاً يعلنون في وجهه الحرب. ومهما كانت المسوِّغات، فإن الحقيقة تؤكد لنا أننا في مرحلة كشف الستار عن مذاهب الخداع والزيف، وأفكار المصادرة والعنف التي اختفت زمناً تحت شعارات الحرية الغربية الكاذبة، والديمقراطية الزائفة، ونحن لا نوغل في استغراب ما حدث وما يحدث لأن قرآننا الكريم قد بيَّن لنا أن أعداء الخير والدين يمكرون دائماً ويكيدون دائماً، ويصلون إلى ما يريدون أو بعض ما يريدون حينما يرون من المسلمين ضعفاً، وتخاذلاً، واستكانة وذلَّة، وهذا ما يشهد به واقع حالنا في هذه المرحلة.
وإني لأعجب مما يستحق أن نعجب منه، ألا وهو ما نراه من كتاب مسلمين، وكاتبات مسلماتٍ في بلادنا الإسلامية يحاربون ويحاربن الحجاب والحشمة، ويعدُّون ذلك تخلُّفاً، ورجعية، بل يعدُّه بعضهم صورة من صور الإرهاب والعنف، نعجب منهم عجباً مؤلماً،ينادون بخلع حجاب المرأة المسلمة وحشمتها في وقت تواجه فيه الفتاة المسلمة المتحجبة في فرنسا وغيرها حرباً شعواء ضد حجابها فتأبى أن تستسلم، أليست مفارقة عجيبة مؤلمة؟
إشارة:
لا تسلني عن سموِّ الهدف
درَّة مكنونة في الصدفِ
ــــــــــــــــــــ(67/89)
المكابرون
د. عبد الرحمن صالح العشماوي*
المكابرون المكابرون من البشر هم الذين يجمدون على رأي واحد، وعمل واحد، وفكرة واحدة لا يتحركون عنها قيد أُنملة مهما كانوا مخالفين للحق فيما يذهبون إليه، وهم الذين لا يُصغون إلى ناصح، ولا يتأثرون بموعظة، ولا يلتفتون إلى تذكير.. إنهم المهرولون في دروب مصالحهم الخاصة، وأهوائهم ورغباتهم، غير آبهين بمصالح الناس.
المكابرون هم الذين قست قلوبهم فما يؤثر فيها نذير ولا وعيد، ولا يُحرِّكها وعظ ولا إرشاد، يغلقون أعينهم عن رؤية الحق، ويصمّون آذانهم عن الاستماع إليه، فإذا كانوا أصحاب قوَّة ومالٍ وسلطة، أضافوا إلى المكابرة الاستعلاء والخيلاء، فعميت بصائرهم عن رؤية الحق، وذهبوا في سبيل تحقيق رغائبهم كلَّ مذهب، وسلكوا إليها كلَّ سبيل حتى وإن كان سبيلاً محظوراً، ومذهباً باطلاً.
المكابرون.. لا يرون الحقائق، ولا يقدِّرون حجم المشكلات؛ لأنهم ينظرون بمنظار واحدٍ، يغطِّيه غَبَشُ الوهم الذي سيطر عليهم، فالحق عندهم باطل، والباطل حقّ، والفضيلة رذيلة، والرذيلة فضيلة، وهكذا يمضون في دروب مكابرتهم حتى يقعوا في حفرة الخاتمة السيئة وهم عنها غافلون.
ونماذج المكابرين من البشر كثيرة جداً على مدى تاريخ البشرية، ونهاياتهم معروفة بالسوء في الدنيا، ولعذاب الآخرة أشد.
فقابيل كان مكابراً حينما تطاول على أخيه هابيل، وقد وصلت به المكابرة إلى درجة استحلال دم أخيه، فقتله. لقد وضعته مكابرته في صندوقٍ مظلم ليس فيه إلا ثقب صغير يرى منه الأشياء، وهل يمكن أن يرى من ذلك الثُّقْب الصغير كلَّ شيء؟!.
لقد دفعته مكابرته إلى تلك النهاية السيئة التي أصبح فيها من الخاسرين ومن النادمين.
ابن نوح عليه السلام كان مكابراً؛ ولذلك أُغلق ذهنه، وتجمَّد شعوره ومات قلبه، فما عاد قادراً على الاستماع إلى ما يقول أبوه نوح عليه السلام (اركب معنا).. جملة واضحة من نوح عليه السلام، ولكنَّ مكابرة الابن العاصي حالت بين ذهنه وبين وضوح هذه الجملة.
المكابرة جعلت ابن نوح ينظر إلى الأشياء بمنظار مادّي بحت، فهناك جبل شاهق، وهنا سفينة مصنوعة من الخشب، والعقل البشري القاصر يقول الجبل أكثر أماناً، بينما نبوّة نوح عليه السلام وإيمانه بما هو عليه من الحق يقولان: السفينة أكثر أماناً.
المكابر لا يفهم هذا المعنى الروحي العميق؛ ولهذا فهو لا يتجاوب معه، ولا يفتح له آفاق ذهنه، فتكون نهايته الضياع.
نوحٌ نجا بمن معه في تلك السفينة، وابن نوح كان مع الهالكين.
الأقوام الذين كذَّبوا أنبياءهم وطردوهم وقتلوهم مصابون بداء المكابرة.
فرعون كابر حتى غرق، وهامان كابر حتى هلك مع سيِّده، وقارون كابر حتى خسف الله به وبداره الأرض، والنمرود كابر حتى قتلته حشرة، وأبو جهل كابر حتى مرَّغ تراب بدرٍ وجهه، وصدَّام كابر حتى وقع.
وهكذا هو شأن المكابرين، ولو كان المكابر ذا رأي وعقل وبصيرة ما استمرَّ في مكابرته وأمامه هذه التجارب التاريخية والواقعية العظيمة.
إشارة:
مَنْ حاربَ اللهَ يا أمّاه حاربَه
ومَنْ يحاربه الرحمن مغلوبُ
ــــــــــــــــــــ(67/90)
بين التسبيح والاستغفار
د. عبد الرحمن صالح العشماوي*
التسبيح والاستغفار قال: إني أشعر بالخجل الكبير من ربي؛ لكثرة ما يطّلع عليه من ذنبي، وإني لأشعر أحياناً أنني استحي من الله حينما أسبح أو أستغفر، وتقول لي وساوس نفسي: عجباً أيها العاصي، تردِّد بلسانك ما لا ينسجم مع أفعالك.. فماذا أفعل؟.
قلت له: لست أنت الوحيد الذي يخطئ من بين البشر، ولست معصوماً من الخطأ والزلل، وليس معنى وقوعك في الخطأ أنك قد فقدت الضمير الحيَّ والقلب النابض بالحياة، بل إنني أهنئك بهذه النفس اللوَّامة التي تجعلك تشعر بالخجل من ذنبك، والحياء من ربِّك، وأحذِّرك في الوقت نفسه من وساوس الشيطان الذي يحاول أن يملأ قلبك باليأس، وهو يهوِّن عليك قيمة التسبيح والاستغفار.
أنت تسلك الطريق الصحيح للتخلُّص من أعباء عصيانك وآثار خطئك، فالله - سبحانه وتعالى - يحب التوّابين ويحب المتطهّرين، ويشمل بعفوه ومغفرته المستغفرين، فهو الذي نادى عباده الذين أسرفوا على أنفسهم ألاَّ يقنطوا من رحمته، وهو الذي بشر عباده التائبين بقبول التوبة إذا صدقوا وأخلصوا، وهو - سبحانه - الذي يعلم بقلوب عباده، وبما تخفيه صدورهم، ولهذا فهو العفو الغفور لكل من لجأ إليه، ودعاه تائباً خاشعاً.
إنَّ وقوع الإنسان في المعصية ضعف، ولا يصح لعاقل أن يستسلم لهذا الضعف، بل عليه ان يحاول ويحاول، ويدافع عن نفسه ويصاول، واثقاً بربه، موقناً بقبول التوبة، وحسن العاقبة ما دام هارباً إلى الله راجعاً إليه.
لا تتوقف يا صاحبي عن الذكر والتسبيح والدعاء والاستغفار؛ لأنك بهذا تغسل أدران قلبك، وترفع نفسك إلى الأعلى حتى لا تغرق في لحجج الأهواء.
سأل سائل شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - عن التسبيح والاستغفار، أيُّهما أفضل للإنسان، فقال كلاماً جميلاً جاء فيه: إذا كان الثوب نظيفاً فإنَّ البخور والورد أنفع له، وإذا كان الثوب دنساً فإنَّ الصابون والماء الحارَّ أنفع له، فالتسبيح بخور الأصفياء، والاستغفار صابون العُصاة.
وأقول: لا يعني كلام شيخ الإسلام أنَّ العاصي لا يسبح ويذكر ربَّه، وإنما يعني أنَّ الإكثار من الاستغفار أنفع له ما دام متلبِّساً بأخطائه، ومعنى ذلك أن الاستغفار يغسل وينظِّف، ونحن بأمسِّ الحاجة إلى غسل نفوسنا، وتنظيف صدورنا في كل حين.
أكْثِر من التسبيح والذكر والدعاء، ورفرف بأجنحة الاستغفار، حلِّق بها في الآفاق الفسيحة المعطَّرة برحمة ربك ومغفرته، إياك أن تيأس، أو تقنط، أو تقع في أوحال الاستسلام للأوهام ووساوس الشيطان، وأراجيف النفس الأمَّارة بالسوء.
أذكرك بأن رسولنا عليه الصلاة والسلام أخبرنا في أحاديث كثيرة صحيحة أنَّ الله سبحانه وتعالى يقبل التوبة من عباده ويعفو عن كثير.
إنَّ للتسبيح والاستغفار لذَّّةً لا توازيها لذَّة من لذائذ الدنيا، وفيهما متعة لا تشبهها متعة، والباب مفتوح للجميع؛ لأن فضل الله عظيم، ولأنه سبحانه وتعالى واسع المغفرة، لو غفر للكائنات كلِّها ما نقص من ملكه شيء.
إشارة:
إلهي ما سألت سواك عفواً ***فحسبي العفو من ربٍ غفور
ــــــــــــــــــــ(67/91)
نحن والقرآن
د. عبد الرحمن صالح العشماوي*
نحن والقرآن
في رمضان الكريم تشرق كثير من بيوت المسلمين بنور القرآن الكريم، وتتردَّد في جنباتها تلاوات أفراد الأُسرة صغاراً وكباراً بصورة تحرِّك مكامن السعادة في القلوب، والناس في هذا أصناف كثيرة ما بين مكثرٍ ومقلٍّ، ومقبلٍ ومُدْبر، وغافلٍ ومتدبِّر، ولا شك أنّ سماع أصوات تلاوة القرآن الكريم يسعد القلب، ويرقى بالروح، ويستمطر أحياناً دموعاً ساخنةً لها لذَّةٌ خاصة في قلوب من يذرفونها.
القرآن ... هذا الكلام الإلهي المعجز الذي يتجدَّد معنى، ويتألَّق لفظاً كلَّما تلاه الإنسان أو سمعه، إلى درجةٍ يكاد يشعر معها الإنسان أنّه لم يقرأ ولم يسمع مع أنّه كثير القراءة كثير السماع.
وهنا تأتي أهميَّة التدبُّر لمعاني القرآن، والتأمُّل لما فيه من البلاغة والبيان، والتعرُّف على ما فيه من العبر والمواعظ، لأنّ القارئ المتدبِّر لكتاب الله يجد من المتعة والفائدة ما لا يجده القارئ المتعجِّل الذي يردِّد الآيات دون التدبُّر في جوانبها الإعجازية العظيمة.
إنَّ فرصة الإقبال من أكثر المسلمين على تلاوة القرآن الكريم لا تعوَّض بثمن، وإنَّ توجيه المسلمين والمسلمات إلى تدبُّر القرآن وتأمُّله أثناء تلاوتهم له مهمُّ جدّاً للرقيِّ بالنفوس، وراحة القلوب، وتقويم السلوك، وفتح نوافذ الكون بكلِّ ما فيه أمام الإنسان من خلال القرآن الكريم.
قال صاحبي: حانت منِّي رغبةٌ قويَّة في التعرُّف على معاني آياتٍ كنتُ أقرؤها من سورة (آل عمران)، فلمّا تأمّلتها وعرفت ما ورد من التفسير فيها شعرت أنّني أمام معانٍ عظيمة لم أنتبه إليها من قبل، مع أنّني أختم القرآن الكريم في كلِّ رمضان - بفضل الله -.
وقفت عند قوله تعالى: {وَلاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّواْ اللّهَ شَيْئاً يُرِيدُ اللّهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ، إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ لَن يَضُرُّواْ اللّهَ شَيْئًا وَلهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ، وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمًا وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ}.
ثم استرجعت بذاكرتي صور الذين يسارعون في الكفر الصريح الواضح في عصرنا هذا، وتأمَّلْتُ حالة المسلمين الذين يرون جبروت بعض الدول الكافرة وطغيانها في هذا العصر ويتساءل بعضهم: إلى متى هذا، وتأمَّلْتُ ما يقوله أولئك الكفار من عبارات وتصريحات تدلُّ على أنّهم يعيشون سكرة الاغترار بالقوة المادية، والسيطرة، والقدرات العلمية الهائلة، ويظنون أنّهم أوصياء على خلْق الله ويشيرون بطرق متعدِّدة إلى أنَّهم يسعون إلى زيادة السيطرة على العالم لأنّهم أقوياء.
ثم راجعت معاني الآيات الكريمات فهدأت نفسي، وظهرت الصورة واضحةً أمام عيني: (إنَّّه الإملاء الإلهي) و(الإمهال الربَّاني) للمتكبِّرين في الأرض، لماذا هذا الإملاء؟ تجيب الآية مباشرة {لِيَزْدَادُواْ إِثْمًا} وتؤكِّد مباشرة أنّ لهم عند ربِّهم عذاباً مهيناً، وأنّ لهم عنده عذاباً عظيماً، ومتى يكون هذا العذاب؟ الآيات الكريمات تركت مسألة التوقيت مفتوحة، فهو محتمل أن يكون في الدنيا معجَّلاً، مع كونه حاصلاً في الآخرة لا محالة.
وقد يتساءل الإنسان؟ ماذا أصنع أنا في مقابل هذا الإملاء الإلهي للكفار والطغاة؟ فتأتي الآية التالية لهذه الآيات مجيبة عن هذا السؤال: {مَّا كَانَ اللّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللّهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاء فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ}.
هنا يظهر الجواب جليَّاً، وهنا يشعر الإنسان المسلم بمسؤوليته أمام ما يجري، وأنْ يعلم أنّ الإملاء والإمهال للكفار، يقابله الابتلاء للمؤمن والاختبار، حتى يتبيَّن الخبيث من الطيِّب، وحتى تظهر حقيقة علاقة الإنسان المؤمن بربِّه في خضمِّ الأحداث، وأنَّه مسؤول عن هذه العلاقة مسؤولية مباشرة، وأنّ إيمانه بالله ورسله إيماناً قويّاً هو المنقذ من حالة الحزن التي تعتريه بسبب الإمهال لأهل الكفر والضلال، وفي بداية الآيات المذكورة هنا أمرٌ إلهي للإنسان المسلم بألاّ يحزن {وَلاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ}، لماذا لا نحزن، لأنَّ أمرهم إلى الله، ولأنّهم لا يضرُّون الله شيئاً، ولأنّ إيمانك بربِّك هو المنقذ لك من حزنك وألمك، ومن طغيانهم وجبروتهم.
وتحسم الآيات التي تأتي بعد هذه الآيات في أواخر سورة آل عمران الموقف بوضوح في قوله تعالى: {لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي الْبِلاَدِ، مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ}، ويكون الحسم النهائي للمؤمن بالله، ولكلِّ مسلم واثق بربِّه في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}، صبرٌ ومصابرةٌ ومرابطةٌ على الحق وتقوى لله، هي طريق الفلاح.
هكذا وقفت أمام هذه الآيات الكريمات متدبِّراً متأمِّلاً فكانت هذه المعاني العظيمة التي لا يمكن أن يصل إليها القارئ المتعجِّل، مع أنّ أجر التلاوة حاصل للإنسان في كلِّ الحالات بإذن الله تعالى.
نحن والقرآن في رمضان، تلاوة وتدبُّر وأجرٌ وفيرٌ، وعملٌ بما فيه من الخير، وهنا مكمن السعادة.
إشارة
أيُّها الفجر، لا عدمتك فجراً** تسكب النور في خلايا سهولي
ــــــــــــــــــــ(67/92)
رمضان ومكاتب المحاماة
د. عبد الرحمن صالح العشماوي*
لرمضان الكريم قضية مزمنة مع البشر في هذا العصر، قضية تتجدد كل عام، تعكر عليه صفاءه، وتشوب بشائبة الأذى نقاءه، وتؤلم قلبه الطاهر النقي الذي لا يحمل إلا الحبَّ والخير للناس أجمعين.
رمضان ومكاتب المحاماةإنَّ قضيَّة رمضان بحاجة إلى مكاتب محاماة ذات قدرة فائقة على إثبات حقِّ ضيف كريم مظلوم يعاني من حقِّه المهضوم، ومن حسرات قلبه المكلوم.. كيف؟
مقدمة القضية
أولاً: قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} .
ثانياً: روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الصيام جُنَّة، فلا يرفُثْ ولا يجهل، وإن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل: إني صائم (مرتين). والذي نفسي بيده لَخَلوف فم الصائم أطيب عند الله تعالى من ريح المسك، يترك طعامَه وشرابه وشهوته من أجلي. الصيام لي، وأنا أجزي به، والحسنة بعشر أمثالها).
في الآية الكريمة نرى كلمة { تَتَّقُونَ } تبرز أمامنا مطلباً مهماً من مطالب الصيام في شهر رمضان المبارك. والتَّقوى كلمة ذات معانٍ مضيئة تدل جميعها على العمل الصالح، والإخلاص لله، والبُعد عن الرذائل، ومراقبة الله تعالى فيما نقول وما نفعل؛ حتى نكون بمنجاةٍ عن عذابه، حيث تقينا الأعمال الصالحات من غضب الله سبحانه وتعالى.
وفي الحديث الشريف كلمات وجمل تدلُّ على ما دلَّت عليه الآية الكريمة، وتصبُّ في مَصَبِّ كلمة {تَتَّقُونَ}{الصيام جُنَّة}، والجُنَّةُ هي الستار الواقي، ومنه سُمِّي ما يستتر به المقاتل من ضربات السيوف (المجنّ). ومعنى الصيام جُنَّة: أنه يقي صاحبه من الوقوع في الأعمال السيئة والرذائل التي تجعله مكشوفاً أمام غضب الله وعذابه، فالصيام الصحيح يقي صاحبه من ذلك، وهذا هو معنى {تَتَّقُونَ}الواردة في الآية الكريمة، بدليل أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال بعدها: (فلا يرفث ولا يجهل). والرَّفَثُ والجهل لفظان يدلاَّن على كل معنى خبيث وكل عمل منهي عنه، فالصيام يحول بين صاحبه وبين ذلك، بل إنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم يزيد الأمر تأكيداً بتوجيه (الصائم) في رمضان إلى ما هو أعظم، ألا وهو عدم مجاراة المسيء إلينا في إساءته؛ لأن الصيام وقاية من وقوعنا فيما وقع فيه المسيء من الإساءة، أليس الصوم (جُنَّةً) كما ورد في الحديث؟ أليس الصوم سبباً من أسباب التقوى {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} كما جاء في الآية القرآنية الكريمة؟
القضيَّة
بصفتي أحد المسلمين الذين يستقبلون رمضان الكريم فرحين بموسمه العظيم، فقد رأيتُ في لوحة خيالي صورة (رمضان) وقد بدت على وجهه الطيِّب المبارك مسحة من الحزن، بل غمرته غمامةٌ من الأسى.. لماذا؟
كنتُ أستعرض ما أعدَّتْ أجهزة التلفاز والقنوات الفضائية من موادِّها الإعلامية المنوَّعة الخاصة برمضان، فرأيتُ خيراً قليلاً وشراً كثيراً، ورأيت هدف التسلية الممزوجة بالرذيلة بأشكالها ومستوياتها المختلفة العميقة وغير العميقة يكاد يكون هدفاً أسمى لتلك الوسائل الإعلامية، ورأيت في كثير من برامج رمضان تكريساً لتبرُّج النساء و(عُريهنَّ بحسب مستوياته أيضاً)، واستخداماً صاخباً لأصناف من الإيقاعات الموسيقية الراقصة، وجنوحاً إلى ميوعة النساء والرجال الذين يقدِّمون بعض المسابقات الرمضانية المستخدمة لأرقام الاتصال التي رأينا فتاوى واضحة لعلماء من المملكة ومصر والشام والمغرب تنصُّ على حرمتها معلِّلين ذلك بأنها من ألعاب (القمار) المحرَّمة شرعاً.
رأيتُ صوراً متعدِّدة في وسائل الإعلام العربي تنقض بكل جرأة معنى قوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}، وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (الصِّيام جُنَّة). ونظراً إلى ما يحدث من ذلك كله من الأذية الواضحة لضيفنا العزيز الكريم الغالي، ومن الإخلال بمعاني الصوم الروحية، ومن إبعاد كثير من عامة المسلمين الذين ينساقون وراء ما يشاهدون ويسمعون عن معاني (التقوى) التي يحقِّقها الصيام الصحيح، ونظراً إلى ما يحدث من إصرار القائمين على برامج رمضان الإعلامية في عالمنا الإسلامي على الاستمرار في إيذاء مشاعر ضيفنا الكريم (رمضان) وإيذاء مشاعرنا، ومن إصرارهم على (تغريب) رمضان عن جانبه الروحي السامي، فإنني بصفتي أحد المسلمين المستقبلين لضيفهم الكريم أرفع هذه الدَّعْوى إلى (.....).
عُذراً أيها الأحبة، صدِّقوني لا أعرف إلى مَن أرفعها، هل أرفعها إلى جامعة الدول العربية؟ أم إلى منظمة المؤتمر الإسلامي؟ أم إلى مجمع الفقه الإسلامي؟ أم إلى مجلس التعاون الخليجي؟ أم إلى رابطة العالم الإسلامي؟ أم إلى هيئة الأمم المتحدة؟ أم إلى محكمة (العدل؟) الدولية؟
وا أسفاه، هل ستضيع القضية؟!
هنا تبرز أهمية مكاتب المحاماة ذات الشعور بالمسؤولية، لعلَّها تتبنى هذه القضية الخطيرة التي يعاني منها أعظم ضيفٍ يزورنا كلَّ عام.
إشارة
أُمَّتي لا تنكري، إني أرى
بين عينيكِ الخطوط المُبكيَهْ
ــــــــــــــــــــ(67/93)
البنات وتأخير الزواج
د. عبد الرحمن صالح العشماوي*
زواج أم عبدالله، مُدِّرسةٌ قضتْ في مجال التعليم سنواتٍ عديدةً، وموجِّهةٌ قضتْ في مجال التوجيه سنواتٍ أخرى، ذات علاقات وطيدة مع الطالبات، ولها أسلوبها الخاص في مناقشتهن، والتعامل معهن، والتعاون - حسب قدرتها - معهنَّ في حلِّ كثير من مشكلاتهنَّ.
تؤكد أم عبدالله أنَّ السلوك الخلقي غير المستقيم ينتشر بين كثير من الطالبات، وأنَّ العلاقات المنحرفة التي تنتشر بينهن مع بعضهنَّ، وبينهن وبين بعض الشباب من جانب آخر تثير قلق العارف بها، المدرك لأبعادها، وتؤكد أم عبدالله أنها تدخل في مناقشات صريحة مع كثير من الفتيات اللاتي يثقن بها - وهن كثيرات - وأنَّ ذلك قد أتاح لها معرفة كثيرٍ من الأسباب المتعلِّقة بالمنزل، والأسرة، والمجتمع، والمدرسة، والصديقات، والفضائيات، والمجلات الخليعة، ومواقع الأنترنت، وغيرها من الجبهات الساخنة المفتوحة على أبنائنا وبناتنا، وكثير من الآباء والأمهات وصانعي القرار والمعلمين والمعلمات غافلون عن ذلك، لا يُلقون إليه بالاً ولا يُولونه اهتماماً.
قالت أم عبدالله - جزاها الله خيراً - ولقد تأكد لي من خلال ذلك كلِّه أنَّ تأخير زواج الفتاة سببٌ رئيسٌ مهمٌ من تلك الأسباب، فهو سيِّد أسباب الانحراف بلا منازع، وتؤكد أنَّ جميع مَنْ تتحدَّث إليهن من الفتيات - تقريباً - يشتكين من ذلك، ويصارحنها بأن أهلهنَّ يسيئون إليهن من حيث لا يشعرون، حينما يردُّون الصالحين من الخاطبين.. بحجج يظنّونها قوية، ونحن نرى أنها واهيةً لا قيمة لها، بل إننا نسخر من تلك الحجج حينما نبوح لبعضنا، وتقول أم عبدالله: إنَّ الفتيات ذكرن لها أنَّ من الحجج التي يسمعْنها على ألسنة أهلهنَّ لردِّ الخطباء ما يلي: أنها صغيرة ليست أهلاً للزواج، أنَّ الخاطب ليس من مستوانا الاجتماعي، أنه فقير ليس له مال كثير، أنه يسكن في منطقة أخرى بعيدة، أنَّه صغير لا يقدِّر معنى الحياة الزوجية، أن الفتاة تدرس ولا يريدون إشغالها عن الدراسة، أنَّ شكل الخاطب ليس على ما يرام، أنهم طلبوا منه مهراً كبيراً فلم يقبل فهو لا يصلح للزواج، أنَّ الفتاة قد سُمِّيت منذ الصغر لابن عمها أوخاله أو أحد أقاربها.. إلى غير ذلك من الأسباب والحجج التي تعطِّل زواج الفتيات.
تقول أم عبدالله: والله لقد لمست من الطالبات من معاني العتب الشديد على الأهل، والغضب الشديد من تعطيلهنَّ عن الزواج ما جعلني أشعر أنني أمام قضية اجتماعية خطيرة، بل إن بعض الطالبات قلن: إنا ضد دعاوى خروج المرأة من دائرة أخلاقها وقيمها وآدابها، ولكنَّ تعنُّت المجتمع معنا في موضوع الزَّواج ممن نريد، أو ممن يصلح للزواج من الشباب المتقدمين لنا، يجعلنا نستحسن - أحياناً - تلك الدعاوى معتقدات أنها ستخرجنا من الدائرة المغلقة التي أحاطتنا بها بعض العادات البالية والتقاليد التي ما أنزل الله بها من سلطان.
وتؤكد أم عبدالله أنَّ انحراف كثير من الفتيات إنَّما هو احتجاجٌ على التعسُّف الذي يعانين منه في موضوع الزواج، وهو بمثابة الانتقام المغلَّف للنفس، وحينما تتحدث إلى الفتيات بأن هذا الأسلوب يدمرهنَّ ويدمِّر حياتهنَّ إلى الأبد، فالانحراف يقتل الإنسان، تجد معظمهنَّ يبكين بكاءً مرَّاً ويقُلْن: ماذا نصنع؟ هذا ما ترويه واحدةٌ من المربيات القريبات من الفتيات، فماذا نقول نحن، وبماذا نجيب وماذا نصنع؟!
إشارة:
اللهم أبعد عن فتياتنا شبح الضياع.
ــــــــــــــــــــ(67/94)
الإعصار
د. عبد الرحمن صالح العشماوي*
الإعصار هَمْسَةٌ من همسات هذا الكون الفسيح، ونَفْثَةٌ من نفثاته تنطلق بقدرة العليِّ القدير، فتحوِّل قوَّة الإنسان إلى ضعف، وغرورَه إلى انخذال، وإقدامَه إلى تَضَعْضُعٍ وانهزام.
رسالةٌ بليغةٌ جاء بها إعصار (كاترينا) إلى العالم كلِّه بصفةٍ عامة، وإلى أكبر دولةٍ بشريةٍ بصفةٍ خاصة، رسالةٌ واضحة كلَّ الوضوح، صريحة كلَّ الصراحة، بعيدةٌ عن المبالغات والادعاء والتضخيم، رسالةٌ من إعصارٍ تحرَّك بإرادة ربه في دقائق معدودات، وسلك طريقه التي أمره الله بسلوكها، يجر معه كلَّ ما يمر به من بيوتٍ وسياراتٍ وآلاتٍ وكائنات بشرية وغير بشرية، ويحطِّم كل قوةٍ بشرية مهما كان حجمها، ومهما كان غرور أصحابها، (كاترينا) لم يستخدم وسيلة إعلامية واحدة للتضخيم والتفخيم، والتهديد والوعيد، ولم يحتج إلى ناقلات ولا حاملات طائرات وصواريخ، ولا إلى طائرات أباتشي، أو شبح أو غيرها من وسائل استعراض القوَّة البشرية.
كل قوَّة بشرية في ميزان (كاترينا) لا تساوي شيئاً، لأنه (إعصار) والإعصار تسوقه في وقته المحدَّد قوَّة المتكبِّر الجبَّار، الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير، ويقول للشيء (كن فيكون).
بالأمس القريب فعل (تسونامي) ما فعل، ودمَّر - بإذن الله - ما دمَّر وحينما تحدَّث العلماء والدُّعاة عن الموعظة والاعتبار، وأن هذه الظواهر الطبيعية تنبيهٌ وتحذير وعقاب، ثارت ثائرات أقلام عربية مسلمة متّهِمة أولئك العلماء بالوهم والتخلُّف، وقال قائلهم: لو كان تسونامي عقاباً لعصاة البشر، وتحذيراً للناس لوقع في الدول الكبرى التي تشنّ الحروب - أستغفر الله من هذا القول -، ومضى تسونامي بما ترك من المآسي والآلام والموعظة العظيمة التي لم يتعظ بها إلا القليل من البشر في هذا العصر المادي وجاء الآن إعصار (كاترينا)، وكانت رسالته الموجهة هذه المرة من داخل أكبر دولةٍ على وجه الأرض، فماذا يقول الآن أصحاب تلك الأقلام المسلمة العربية الثائرة المنكرة لفكرة التحذير والعقاب؟
يقول الرئيس الأمريكي بوش: نحتاج إلى سنوات لإصلاح ما دمَّره الإعصار، ويعلن حاكم نيو أورليانز الأمريكية أن ضحايا كاترينا بالآلاف، ويتحدث مسؤولون آخرون عن احتمال سقوط آلاف الضحايا، ويؤكد الرئيس الأمريكي أنَّ كارثة (كاترينا) هي إحدى أسوأ الكوارث الطبيعية في تاريخ البلاد، وأنّ العودة إلى الأوضاع الطبيعية ستستغرق سنوات. وهناك من الجهة الأخرى يتحرك إعصار (تاليم) برسالةٍ إلهيّة أخرى من جهة الصين، ويتم إجلاء ستمائة ألف شخص من الساحل الشرقي للصين بسبب هذا الإعصار.
وماذا بعد؟
أين اللجوء إلى الله أيُّها البشر المغرورون، المخدوعون بما يسَّر الله لكم من مظاهر القوة المادية التي لا تساوي شيئاً أمام قدرة الله؟ أين أثر هذه المواعظ الضخمة، وهذا التحذير الإلهي الكبير في وسائل إعلامكم المغموسة في الشرِّ والرذيلة، ومحاربة الله بكل كلمة سيئة وفعل مَشين؟
أين الوجدان الحيّ أيُّها الإنسان الغارق في وهم قوَّته، ووحل شهوته؟
أين النفوس اللوَّامة التي تحث أصحابها على مراجعة النفس، وتعديل المسار؟
تسونامي وكاترينا وتاليم رسائل إلهية عظيمة فأين الذين يقرؤونها قراءةً صحيحة فيبتعدون عن الظلم والجور والفساد والانحلال والاعتداء والاحتلال؟
أين العقول المفكرة، والعبقريات المخترعة، والقيادات الذكيّة من بني البشر؟
أم أنكم أيها البشر ما تزالون في غروركم وتعاليكم؟!، إذنْ فوجِّهوا طائراتكم وصواريخكم وأساطيلكم لردِّ كاترينا وكبح جماح تاليم، وقابلوها بمجنَّديكم ومجنَّداتكم المدجّجين والمدجَّجات بأحدث الأسلحة.
أما ضحايا هذه الأعاصير فإننا ندعو بالرحمة والغفران لكلِّ من مات منهم على كلمة الحقِّ، وندعو لذويهم ومن بقي من أهلهم بالصبر والسلوان، ونشاطرهم الإحساس بالألم لهذا المصاب الجَلَل، راضين بقضاء الله وقدره الذي لا يُرَدّ.
ــــــــــــــــــــ(67/95)
ميزان
د. عبد الرحمن صالح العشماوي*
ميزان سئل حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه -: كيف يعرف الرجل منا، هل أصابته فتنة أم لا؟
قال: إن كان ما يراه حراماً بالأمس يراه حلالاً اليوم فقد فُتن.
هنا ميزان واضح يرسم حذيفة معالمه أمامنا في كلمات مختصرات واضحات لا تحتاج إلى إعمال تفكير لفهمها، ولكنها تحتاج - في نظري - إلى شيء من التفصيل.
إن المعنى الواضح من كلام حذيفة بن اليمان يؤكد لنا أنَّه يقصد ما ثبتت حرمتُه شرعاً مما لا يدخل تحريمه في دائرةِ خلافٍ بين أحدٍ من علماء المسلمين وفقهائهم، وكأني به يقول كلمته هذه وفي ذهنه لفظ الحديث النبوي الشريف الصحيح : (الحلال بيَّن والحرام بيَّن)، فإذا وصل المسلم إلى درجة الشك في حرمة ما ظهرت حرمتُه وثبتت، أو في حِلَّ ما ظهر حِلُّه وثبت، فلا شك أنَّه قد فُتن شرَّ فتنةٍ والعياذ بالله.
إذا ظهر هذا المعنى الواضح من كلمة حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه - تجلّى لنا الفرق الكبير بين هذا المعنى، وبين ما قد يراه الناس من رجوع عالمٍ عن فتوى سابقةٍ له بناها على اجتهاد سابقٍ تبيَّن له مع الأَّيام خطؤه، حيث يرجع ذلك العالم عن فتواه معلناً حقيقة اجتهاده السابق فيها، وموضحاً حقيقة العلم اليقينيّ الذي وصل إليه في شأنها حتى أعلن رجوعه عنها.
هنا يصبح الأمر ميزةً لذلك العالم، وورعاً منه يشكر عليه، وهو بلا شك يؤجر عليه من الله - سبحانه وتعالى - إن صلحت نيته، وخلصت لله سريرته، وقد حدث هذا من عدد من العلماء والفقهاء الأجلاء على مدى التاريخ. وفي هذا من عظمة أولئك الرجال ما لا يخفى.
ولا يدخل في معنى كلام حذيفة - رضي الله عنه - ما قد يراه الناس من تغيير بعض أهل العلم والفقه والفكر بعض أساليبهم في دعوتهم وتعليمهم وتعاملهم مع الوقائع والأشخاص، فهذا داخل أيضاً في مجال الاجتهاد للبحث عن الأفضل في أساليب الدعوة وطرائق المناقشة، وهو أمر متاح ما دام قائماً على اجتهاد صادق ونية خالصة لوجه الله.
أما ميزان حذيفة - رضي الله عنه - فهو ميزان دقيق واضح المعالم يجب على كلّ مسلم أن يستخدمه بدقة في وزن مواقفه، خاصةً في أزمنة الفتن التي تصير كقطع الليل المظلم يصبح فيها الحليم حيران.
ومثال ذلك أن يكون الإنسان على يقين بتحريم الرشوة مهما تغيرت أسماؤها، وأن يعلم يقينه بحرمتها، ثم يلين ويضعف أمامها حينما تلوح له بحلاوتها الممزوجة بمرارة المعصية وسوء العاقبة.
هنا يجب على المسلم أن يستخدم هذا الميزان الرائع الدقيق الذي أشار إليه حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه - في كلمته السابقة.
ويُقاس على الرشوة غيرها من الأمور المحرمة التي لها علاقة برغبات النفس البشرية ومصالحها الدنيوية، كالمتاجرة في بعض المحرمات، أو الاعتداء بمنطق القوة على بعض حقوق الضعفاء، أو تسويغ معاملات الربا الواضحة استجابةً لهوى النفس.
هنا يكون ميزان حذيفة بن اليمان مهماً؛ لأنه يوضح لمَن تسرقه غفلته من نفسه حقيقة ما هو عليه.
إشارة:
إشراقة الشمس في غنىً عن إقرار النائمين.
ــــــــــــــــــــ(67/96)
يا بنات
نداء من عالم أديب
د. عبد الرحمن صالح العشماوي*
عالمٌ أديب معروف، ذو قلمٍ سيَّال، وكلمات رشيقة أنيقةٍ منسابةٍ يصدق عليها قول الشاعر:
أدبٌ كمثل الماءِ لو أجريتَه يوماً لسال كما يسيل الماءُ
يا بنات وجَّه ريشته الفصيحة إلى بناته (الفتيات المسلمات) قائلاً: البنتُ مهما بلغت من المنزلة والغنى والشهرة والجاه، لا تجد أملها الأكبر وسعادتها إلا في الزواج، في أن تكون زوجة صالحة، وأُمَّاً موقَّرة، ورَبَّةَ بيتٍ.. سواءُ في ذلك ممثلات هوليود ذوات الشهرة والبريق الذي يخدع كثيرات من النساء، أو غيرهن.. وأنا أعرف أديبتين كبيرتين في مصر والشام، أديبتين حقاً، جمع لهما المال والمجد الأدبي، ولكنهما فقدتا الزوج، ففقدتا العقل وصارتا مجنونتين - في آخر حياتهما - ولا تحرجيني بالسؤال عن الأسماء، إنها معروفة.
الزواج أقصى أماني المرأة ولو صارت عضوة البرلمان، وصاحبة السلطان، والفاسقة المستهترة لا يتزوجها أحد، حتى الذي يغوي البنت الشريفة بوعد الزواج، إنْ هي غوت وسقطت تركها وذهب - إذا أراد الزواج - فتزوج غيرها من الشريفات، لأنه لا يرضى أن تكون رَبَّةَ بيته، وأُم ابنته، امرأة ساقطة.
والرجل - وإن كان فاسقاً داعراً - إذا لم يجد في سوق اللذات بنتاً ترضى أنْ تريق كرامتها على قدميه، وأن تكون لعبة بين يديه، إذا لم يجد البنت الفاسقة، أو البنت المغفّلة التي تشاركه الزواج على دين إِبليس، وشريعة القطط في شهر شباط، فإنه يطلب مَنْ تكون زوجة (صالحة) له على سُنَّة الإسلام.
فسبب كساد سوق الزواج منكن يا بنات، لو لم يكن من البنات فاسقات، ما كسدت سوق الزواج، ولا راجت سوق الفجور، فلماذا لا تعملْنَ، لماذا لا تعمل شريفات النساء على محاربة هذا البلاء؟ أنتن أولى به، وأقدر عليه منّا، لأنكن أعرف بلسان المرأة، وطرق إفهامها، ولأنه لا يذهب ضحية هذا الفساد! إلا أنتن: البنات العفيفات الشريفات، البنات الصيّنات الديّنات.
في كل بيت من بيوت (المسلمين) بنات في سنّ الزواج لا يجدن زوجاً، لأن - كثيراً - من الشباب وجدوا من الخليلات ما يُغني عن الحَليلات.
فأَلِّفْنَ جماعة منكنَّ من الأديبات والمتعلمات والمدرسات وطالبات الجامعات، تعيد أخواتكن الضالاَّت إلى الجادَّة، خوِّفْنَهُنَّ الله، فإن كنَّ لا يَخَفْنَه، فحذِّرْنَهُنَّ المرض، فإن كنَّ لا يحذَرْنَه، فخاطِبْنَهُنَّ بلسان الواقع، قلن لهنّ: إنكن صبايا جميلات، فلذلك يقبل الشباب عليكن، ويحومون حولكن، ولكن، هل يدوم عليكن الصِّبا والجمال، فكيف بكنَّ إذا صرتنَّ عجائز محنيات الظهور، مجعَّدات الوجوه، من الذي يهتمُّ يومئذٍ بكن؟ ومن يسأل عنكن؟ أتعرفْنَ مَنْ يهتم بالعجوز ويكرمها؟ إنهم أولادها وبناتها وحَفَدَتُها وحفيداتُها، هنالك تكون العجوز ملكةً في رعيَّتها (بينما تضيع الأخرى وتنكسر، وربما يصيبها الجنون).
الذي لا يملك من يعرفه ويقرأ له، ويراه إلا أن يحترم علمه وأدبه وإبداعَه البيانيّ.
جزءٌ من ندائه الذي وجَّهه إلى بناته المسلمات، وهو يرى دعوات الباطل تكاد تُصِمُّ الآذان، وبريق الدَّعاوى يكاد يُعشي العيون.
مَنْ ذلك العالم الأديب؟
إنه الشيخ علي الطنطاوي - رحمه الله - يسلِّم على كلِّ فتاةٍ مسلمة ويقول لهنَّ: اقرأْنَ كتابي الصغير الذي يحمل عنوان: (يا بنتي) فقد أفرغت فيه خلاصة تجاربي، ودعوتكنَّ فيه إلى الطريق السليم.
ــــــــــــــــــــ(67/97)
الأسرة والتفريط
د. عبد الرحمن صالح العشماوي*
الأسرة والتفريط ما تزال مظاهر بعض الشباب ذكوراً وإناثاً تدلّ على أن هنالك تفريطاً كبيراً من أسرٍ مسلمةٍ كثيرة في احتضان أبنائها تربوياً، واحتوائهم نفسياً، وتوجيههم ثقافياً، فالأسرة - كما نعلم - هي المحضن الأول للأولاد، وهي المدرسة الأولى التي تعلّمهم المبادئ والقيم، وتكسبهم الأخلاق، وتضع في عقولهم اللَّبِنة الأولى للفكر والثقافة، وتغرس في قلوبهم الشّتلات الأُوَل للمشاعر المستقرة الصادقة.
هؤلاء الأبناء الذين يسيحون على أرصفة الشوارع وفي الأسواق المفتوحة والمغلقة بأشكالهم العجيبة التي يقلّدون بها جَوْقَةً منحرفة تعرضها الفضائيات من المطربين (المائعين) والممثلين المتجاوزين لحدود الأعراف والتقاليد الحسنة في المجتمعات العربية المسلمة، وهؤلاء البنات اللاّتي يسرحن ويمرحن في الأسواق مجاهرات بصورٍ متعدّدة من التبرّج (المزعج) الذي تتحوَّل به الفتاة إلى وسيلةٍ من وسائل إغراء أولئك الشباب الذين أشرنا إليهم قبل قليل.
هؤلاء جميعاً من أين خرجوا؟ وفي أي مدرسة تلقّوا هذا النَّهج المنحرف في طريقة حياتهم، وأسلوب كلامهم، وهيئة لباسهم؟ في أي مَحْضِنٍ نشأوا؟، وبأي ثقافة تغذّوا، وبأي قدواتٍ اقتدوا؟
الحقيقة تؤكد أنّ الأسرة التي سمحت لهذا النَّمط من الشباب أن ينشأ بهذه الصورة هي المسؤولة الأولى أمام الله سبحانه وتعالى أوّلاً، ثم أمام المجتمع المسلم المتماسك ثانياً.
وما كنت أظنّ أن أباً عاقلاً أو أماً عاقلة يمكن أن يرضيا بهذه الأنماط المستغربة من الأولاد، ذكوراً وإناثاً حتى اصطدمت بنماذج من الآباء والأمّهات مقتنعين بهذه المظاهر، متهاونين بآثارها السلبية، متوهّجين أنها مظاهر حريّة شخصية لا بدّ من تحقيقها للأولاد، وهذا الأنموذج من الآباء والأمّهات ينقسم إلى قسمين: أحدهما يجاهر بقناعته، ولا يتوارى منها، والآخر: يكتمها، ويحاول التنصّل منها، بل وينتقدها إذا نوقش فيها انتقاداً ظاهراً، ويدّعي أنه مغلوب على أمره، ولا شك أن القسم الأول الظاهر أهون من الآخر المستتر، مع أن الخطأ التربوي الخطير الذي حصل خطأ مشترك بينهما يتساويان في تحمّل مسؤوليته في الدنيا والآخرة.
ولكن القسم الذي يظهر قناعته يتيح لنا أن نناقشه ونوضّح له الحق وربما استيقظ ضميره فأدرك خطأه، أم القسم المتواري فهو أكثر خطورة في مجال التربية، وهذا هو شأن (النِّفاق) بكلّ صوره السيئة يظل هو الأخطر في حياة البشر.
الأسرة المسلمة بحاجةٍ إلى إعادة نظر في أساليب تربيتها لأولادها في هذه المرحلة التي يختلط فيها الحابل بالنابل.
إشارة
(كلكم راعٍ، وكلكم مسؤول عن رعيته).
ــــــــــــــــــــ(67/98)
لماذا ميوعة الشباب؟!
د. عبد الرحمن صالح العشماوي*
لماذا ميوعة الشباب؟! لا تزال تؤذي مشاعرنا ومشاعر الرجولة مناظر بعض شبابنا المستغربين الذين يكادون يذوبون رقة وأنوثة في لباسهم وطريقة كلامهم، وسلاسلهم المعلقة على صدورهم، وخواتمهم الموزعة على أصابع أيديهم، وأصواتهم المائلة إلى التأنث والرخاوة، والموسيقى الصاخبة التي تنبعث من سياراتهم، ومكالماتهم «الجوالية» المتكسرة التي تدل على أن وراء سماعة الجوال ما وراءها.
لماذا هذه الميوعة؟؟، ومن أين خرج هذا النوع من الشباب؟، وأين أقسام التربية وعلم النفس في جامعاتنا عن هذه الفئة التي تنحدر في أودية اللهو والتثني والميل إلى تقليد النساء؟؟ وهل هنالك دراسات تربوية درست هذه الظاهرة، وإذا كانت موجودة فأين هي، وأين إعلامنا وصحافتنا عن المناقشة الجادة لهذه التوجه المشين؟!
كيف سلك الشاب هذه الطريق المنحرف عن الرجولة والشهامة؟!
سؤال يوجه أول ما يوجه إلى الأسرة التي يعيش فيها هذا الشاب، فمما لا شك فيه أن في الأسرة خللاً أوجد هذا الاتجاه «المعاكس» لقيم الرجولة، وملامح الشخصية المسلمة المستقيمة، فالأبوان إن كانا موجودين يحتاجان إلى وقفة حاسمة للمناقشة، فلربما كانا يعانيان من خلل جعلهما يرضيان بهذا التوجه للأبناء، وهذا الخلل قد يكون سلوكياً، وقد يكون حاجة وفقراً، وقد يكون انحرافاً فكرياً، وقد يكون انشغالاً بمشاغل الحياة، أو بالثروة والمال، أو بالترحال والأسفار، وما زلت أذكر رجلاً جاراً لأحد المساجد ، زرته بعد إحدى الصلوات بإلحاح منه ومن إمام المسجد، وحينما جلسنا في مجلسه دخل علينا ابن له في الثانية عشرة من عمره، ولم يسلم بل جاء وجلس بجوار والده وقد آذى أعضاء جسده بملابس ضيقة جداً، لها ألوان براقة لا تصلح إلا للبنات، وحينما حدثته قائلاً: لماذا لم تسلِّم؟ ضحك ضحكة ذابلة مائعة ولم يتكلَّم، وكان أبوه يتحدث معنا دون أن يلتفت إلى جهة ابنه، وحينما استقر بنا المجلس قليلاً دخلت علينا ابنة للرجل في مثل عمر أخيها، وهالني ما رأيته من ملابس قصيرة جداً ضيقة جداً، وحالة مؤسفة من الاسترخاء واللا مبالاة وجلست بجوار والدها من الجهة الأخرى، وكانت «قَصَّةُ» شعرها قد قرَّبت شكلها من شكل أخيها، كما كانت حالة ملابس أخيها قد قربت شكله من شكلها، والأب لا يلتفت إلى شيء من ذلك، فالأمر عنده - كما بدا لي - أهون من أن يلفت النظر.
ولم أترك هذه الحالة «المائعة» تمرُّ، بل تحدثت مع الرجل بما يستدعيه المقام من الأدب والهدوء في حالة ابنه وبنته، ورأيت وجهه يتغير، وشعرت بأن حركته في مكانه قد كثرت، مما دلني على قدر لا بأس به من التضايق في نفسه، ولكنه تمالك وتماسك وقال: هؤلاء أطفال «خليهم يستمتعون في الحياة بدون عقد» والتفت إلى إمام المسجد لعله يشارك في الحوار، ولكنه كان مشغولاً بصحن «تمر» كان أمامه، وطال الحديث بيني وبين الرجل، وقد انفرجت أسارير وجهه للحوار، بعد تلك الموجة من التضايق، وسمعت منه كلاماً كثيراً خطيراً عن التربية والتوجيه، يدل على مفهوم خاطىء بل «مدمِّر» لمعنى الحرية الشخصية، ولمعنى التقدم والتطور، ومعنى النصيحة والتوجيه، لقد كان الرجل الخمسيني مقتنعاً بتلك الحالة «التربوية المائعة» لأولاده، بل إنه ظل يدافع عن سلامة رأيه، ويؤيد كلامه بسرد شواهد وأمثلة من رحلاته الكثيرة إلى أنحاء العالم، وذكر لي أنه حينما سافر إلى لندن في صيف ذلك العام، أدخل ابنه وابنته إلى مدرسة نصرانية راقية لتعليم اللغة، والسباحة، والعزف على بعض الآلات الموسيقية وتحدث عن ضرورة إزالة آثار العقد الاجتماعية والتوجيهية عن أبنائنا وتربيتنا حتى لا "نكسر خواطرهم" كما قال.
وخرجنا بعد جلسة عاصفة من الحوار لم يشترك فيها ذلك الرجل الذي كان مشغولاً بصحن التمر اللذيذ، وحينما سألته بعد خروجنا عن موقفه السلبي، قال: وما الفائدة من الكلام، رجل رضي بما هو عليه فماذا نصنع به؟!
هذا نموذج رأ يته بعيني، فهل يوجد في المجتمع من أمثاله من يمكن أن يشكلوا ظاهرة تربوية؟! وإذا كانوا موجودين فما العلاج؟!
هذه النماذج «المائعة» سوف تُرسخ التخلف الذي تعيشه الأمة المسلمة، وسوف تُمكن الأعداء من تنفيذ خططهم بأقل الجهد والعناء، فهل عندنا شعور بذلك وما الحل يا أولي الألباب.
ــــــــــــــــــــ(67/99)
الأدب الإسلامي
د. عبد الرحمن صالح العشماوي*
الأدب الإسلامي قال لي صاحبي: مالي أراك لا تكتب في هذه الزاوية عن الأدب الإسلامي مع أنك كتبت عنه مرَّاتٍ عديدةٍ، وصدر لك في دراسة منهجه كتب تناولْتَ فيها الموضوع تناولاً علمياً موثَّقاً؟
قلت له: هذه الزاوية بعنوان دفق قلم، فأنا أترك فيها القلم على سجيّته، يركضُ كما يشاء في هذا الميدان الذي حُدّد لقلمي في هذه الجريدة، ولم أشعر أنه عرّج بي في ركضه على هذا المجال.
قال لي: ولكنّ هنالك أقلاماً تكتب عن الأدب الإسلامي بقدرٍ كبيرٍ من التحامل، وتحاول أن تربط بينه وبين «الإرهاب»، مدّعية أن معظم نصوص الأدب الإسلامي تدعو إلى العنف والإرهاب، ولا تدعو إلى التسامح.
قلت لصاحبي: لم أتمكن من قراءة شيء مما ذكرت، وإن كانت هذه التهمة قد أصبحت تُلقى هذه الأيام على عواهنها، وتوسّع فيها قوم من الغرب ومن بني جلدتنا حتى صار كلُّ التزامٍ بمظاهر الإسلام إرهاباً، أو مشجعاً للإرهاب.
ولا شك أنّ هذه القضية - بعمومها - تحتاج إلى وقفة واضحة حاسمة من رجال العلم والفكر والأدب الذين يستوعبون القضايا استيعاباً صحيحاً ويعرفون الحدود الفاصلة بين المصطلحات، لأن الأقلام المصابة بجُرثومة «التحامل» وطاعون «سوء القصد» تقع في مستنقع الإرهاب «الفكري والثقافي»، وتحاول أن تغتنم فرصة وجود الماء العكر في سياسة الدول الكبرى، فتلقي فيه بالشباك تصيد من سمك الوهم ما تصيد.
إنَّ اتهام الأدب الإسلامي بالإرهاب دليل على خللٍ في فهم الذي يطلق التهمة، أو على سوء قصد، وكلاهما انحراف عن طريق الموضوعية والانصاف، والعدل في القول الذي يجب أن يكون سمةً من سمات الكتَّاب الذين يسعون إلى التوجيه والإصلاح، والبناء، لا إلى التضليل والإفساد والهدم.
إن الذي يستعرض ما يكتبه الكاتبون - هذه الأيام- في العالم كله يُدرك أن هنالك كتّاباً ومثقفين يخلطون بين الأمور خلطاً خطيراً، فلا يرون فرقاً فيما يكتبون بين «الجهاد المشروع، والإرهاب» ولا بين «الالتزام بالدين والتعصب الأعمى» ولا بين «المقاومة المشروعة، والاعتداء الآثم» ولا بين «تطبيق شرع الله، وتطبيق الآراء الشخصية المتلبِّسة بالشرع» ولا بين «الأدب الإسلامي، والأدب العنصري المتعصب» ، وهذا الخلط له آثاره السلبية الخطيرة على المجتمعات البشرية، لأنه يبنى نتائج على مقدمات فاسدة، ويصدر أحكاماً انطلاقاً من أفهام سقيمة، وهو بذلك يُربك عقولَ عامة المثقفين، ويثير البلبلة في نفوس وعقول الشباب، ويسوق الأدب والثقافة والفكر إلى سراديب مظلمة من التحامل والتعتيم.
الأدب الإسلامي - أيها الأخ الكريم - أفق فسيح، وإبداع متألِّق، وذوق رفيع، ورؤية شاملة للكون والحياة والإنسان، ونظرة متوازنة إلى المواقف والأحداث والأشخاص ، وحماسة راشدة في نشر الحب والخير والصفاء والنقاء بين الناس، وفي مواجهة الباطل وأهله الذين يكيدون لكل فكر سليم، وأدب مستقيم، وحياة مستقرة بما فيها من الإيمان واليقين، وحبّ الخير للناس أجمعين.
أين الارهاب بمعناه المعاصر من سماحة الأدب الإسلامي ومصداقيته، وشموليته وتوازنه التي يستمدها من الإسلام العظيم؟
إذا كان هدف من يردّد هذه «التهمة» أن يُسقط معنى الارهاب المعاصر المرتبط بالعنف والجريمة على نصوص الأدب التي تناصر المظلومين، وتدافع عن المشردين الذين تُغتصب حقوقهم في العالم، فإنه هدف رخيص باطل تنقضه حقيقة الأدب الإسلامي الناصعة، وترفضه الفطرة السليمة، وينكره الوعي الثقافي والاتزان الفكري، وحسبك بذلك رداً للباطل وردعاً لأهله.
ــــــــــــــــــــ(67/100)
الدرة المصونة واللؤلؤة المكنونة
وراد مدني*
لنا صديق عن ذكر سيرة الزواج عزوف، لا يحتمل ما يكون حولها من جد أو مزاح، يتملل في المجلس الذي تذكر فيه، بل ربما فارقه وزايله، وإن شارك شارك بمثل قول القائل:
إن صحّ عقلك فالتفرد نعمةٌ ونوى الأوانس غاية الإيناس
أبلست من وسواس حُليٍ خلته إبليس وسوس في صدور الناس
ما شمت من شيماء قط وهل نأت خنساء عن شيطانها الخناس
فلما كثرت عليه التساؤلات، ولاحظ من بعضنا علامات الاستغراب، كتب كاشفاً عن آفته، مبيناً علة تصرفه، فقال:
يا عاذل المشتاق دعه فإنه يطوي على الزفرات غير حشاكا
لو كان قلبك قلبه ما لمته حاشاك مما عنده حاشاكا
إخوتي: لست ممن تسطو عليه نزوته، أو تطغى عليه شهوته، فيطلب هذا الأمر نزقاً وشبقاً، فما عرف الهوى من عشق صورة، وجهل معنى الحب من تعلق بجسد، فما الملامح والقسمات إلا عرض زائل، وظاهر متغير حائل.
@إن حباً للملامح ليس إلا ترهات
@ليس صدقاً في المشاعر أن تحب القسمات
@ما ترى القلب بفاعل إن تقضت سنوات
@أتراه واجداً للحب بعضاً من رفات؟
كلا، فهاك أخي صفة من أهوى، وسأسهب قدر الإمكان، مفصحاً عما في القلب والجنان، مجتنباً ما يلهب غيرتي ويستثير حفيظتي، ومع ذلك سأحتفظ بجانب لا أبديه وسرٍ لا أفشيه.
بيننا عهدٌ على أن لنا موعداً نلقى به من نصف
غير أن الشرط في الوفاء إبقاؤنا للسر في الخفاء
فانظر أخي إليها؛ بل إياك إياك، أفقأ عينك وأقطع رأسك.
ها هي ذي: تخطو في تؤدة، وتجر ذيلها في سكينة، تنطق في خفاء، وتمشي على استحياء، تنظر إلى الأرض ولا تجيل طرفها في السماء
(لقد أعجبتني لا سقوطًا قناعها إذا ما مشت ولا بذات تلفُّتِ
كأنَّ لها في الأرض نسياً تقصه على أمِّها وإن تكلَّمك تبلِتِ)
فنفسها تقية وطويتها نقية، أما أخلاقها:
فعدد وقل ما شئت من فضائل تجد خلالاً فوق وصف الواصف
تسدل ثوبها من كل جانب، وتخفي مفاتنها إخفاء غيرها للمعايب، ومع ذلك؛ يشع حسنها من وراء الحجاب، ولها من ألق الطهر هالةٌ من سحاب، تنطق فضائلها وتصرخ أن هيت لك وإن غلقت الأبواب.
ظاهرها عن باطنها ينبئ، صدف ومحار ولؤلؤ ومرجان، تسفر في خلوتها عن وجهٍ قد صبغته براءة الأطفال، وانعكست عليه محاسن النفس والجنان.
(كأنّ البدر ليلة أربعٍ وعشرٍ عليه ناصلاً قد تهمما)
قارئة للقرآن، عابدةٌ مخبتة لربها الرحمن، تحث زوجها على الطاعات وتؤزُّه إلى القربات. لم تستخفها أحلام بنات جنسها الطائشة، أو تستحوذها أعراض الدنيا الزائلة.
فهمها في العلا والعز ناشئةً وهمُّ لداتها في الحُلي والذهب
فأين من كانت الزهراء قدوتها ممن تقفّت خطى حمالة الحطب
لم تُتخذ جليسة، وما كانت في يوم للصٍ من لصوص الأعراض أنيسة، حصان رزان، وقرّة الدار.
تشتاقها جاراتها فيزرنها وتعتل عن إتيانهن وتعذر
وليست من اللاتي يكون حديثها على عتبات الحيِّ أمّا وإنما
همتها لا كهمة ربات الحجال (الملبس والزينة، والمركب والعِينة) بل همة نفوس ترتقي سلم الكمال، تتعلق الثريا وتراها قريبة المنال.
لها نفسٌ تحلُّ بها الروابي وتأبى أن تحلَّ بها الوهادا
الحياء لها سجية، والصدق فرعٌ عن شجرةٍ من الأخلاق الزكية، قنوعٌ خَضوع، وليس في صوتها خُضوع، هي لزوجها أمةٌ مطيعة، لسانها له بالشكر يلهج، قليله في نظرها كثير، وعينها عنه لا تزيغ، أبواه بمنزلة السيدين، وبنوه قرَّةُ العينين، فهو في حسِّها جنتها ونارها، تسهر على راحته، وتنصب في حاجته، وتصبر على شدته:
جعلت من الصبر الجميل غذاءها ورأت رضا الزوج الكريم رضاها
فمها يرتل آي ربك بينما يدها تدير على الشعير رحاها
بلّت وسادتها لآلئ دمعها من طول خشيتها ومن تقواها
فهي في رعايتها لزوجها خديجة، وفي صبرها على شدة العيش معه أسماء، وفي حسن التبعل له والفهم عنه عائشة، وفي القيام بحقه وواجبه فاطمة (رضي الله عنهن أجمعين).
إن نطقت فهي الأديبة الأريبة، أو صمتت فالوقار لها دثار، والحسن لها خمار: (والسحر في صمتٍ تدفق حرفه قد نمَّ عن عقلٍ وفطنة)
وحديثها السحر الحلال لو أنه لم يجن قتل المسلم المتحرز
إن طال لم يملل وإن هي أوجزت ودّ المحدَّثُ أنها لم توجز
تفهم عني دونما كلمات، وأفهم عنها وتغنينا النظرات، تتوافق أهواؤنا، وتتحد آمالنا، بل وتتشابه في المنام أحلامنا:
روحها روحي وروحي روحها ولها قلبٌ وقلبي قلبها
فلنا روحٌ وقلبٌ واحدٌ حسبها حسبي وحسبي حسبها
إن رأت مني ما لا يحمد؛ أحسنت الإشارة والتنبيه عليه، بأدبٍ جم وحياءٍ وفير وإشارةٍ لطيفة، وكأنها من قارف الخطأ
يا حبذا صنوٌ لروحي إن رأت عيباً خفياً من خصالي أو خلل
كان المقضُّ لنومها، أرقاً يساكن ليلها، هماً يجافيه الملل
وتشير لي أن ربما ولعلّ ما وكأنها قد قارفت خطباً جلل
أما إن كانت المخطئة وحاشاها، سارعت بالاعتذار، وطلب الصفح والغفران، ولم يغمض لها جفنٌ إلا ويدها في يدي تقول: لا أذوق غمضاً ولا أهنأ بنومٍ حتى ترضى.
فيّ قصورٌ تعمل على تكميله، وفتورٌ هي عونٌ على نفيه، أجد منها حنوَّ الأم على صغيرها، وصبر الوالدة على لأواء طفلها، تشحذ همتي إلى كل فضيلة، وتسابقني إلى قطاف كل حميدة، لا ترى في الدنيا سواي، ولا يجنح لحظها طرفة عينٍ إلى غيري، فهي توأم روحي ونصفي المفقود.
هذه يا أخي هي آهة قلبي وعلة نفسي، بعضٌ من سري المكنون، وهواي المدفون
فرفقاً بنفسٍ شوقها قد شاقها يا حبذا الوادي الذي قد شاقها
وفي رفع الأكف بالدعاء عزاء، وفي أمل إجابته سلوةٌ ورجاء:
(رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً).
ــــــــــــــــــــ(67/101)
إلى دعاة الترقيع
وراد مدني*
يصف الله سبحانه وتعالى هذا الدين بالحبل المتين، بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها، ويحث المؤمنين بل الأنبياء والمرسلين على صدق الاستمساك به وأخذه بقوة: (يا يحيى خذ الكتاب بقوة) يصف الله سبحانه وتعالى هذا الدين بالحبل المتين، بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها، ويحث المؤمنين بل الأنبياء والمرسلين على صدق الاستمساك به وأخذه بقوة: (يا يحيى خذ الكتاب بقوة)، ويمدح سبحانه وتعالى الذين يمسّكون بالكتاب وأولئك (الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا)، كما يذم من تشكّكوا (وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يتردّدون)، ويجعل الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم الجنة جزاءً لمن قال لا إله إلا الله خالصاً من قلبه... فما حقيقة هذا الاستمساك؟! وكيف يكون صدق الأخذ بالدين؟!
العقيدة هي ما يعقد عليه الإنسان قلبه من رأي، هي الإيمان الجازم الذي لا يتطرق إليه الشك عند معتقده، فالمؤمن يعبد الله، على نور من الله، يرجو ثوابه ويخاف عقابه. غايته جلية وهدفه واضح، لا تتزعزع مبادئه ولا تتغير ثوابته، ملء عطفيه الإيمان والثقة بموعود الله، حاله كحال رسول الله صلى الله عليه وسلم .. تحزبت عليه الأحزاب وضاقت الأرض بما رحبت وقال المنافقون (ما وعدنا الله ورسوله إلاّ غروراً)، ومع هذا..
يهبط باسم الثغرِ يدكّ الصخر بالمعول
يناجي واثقاً ربه يبشّر صحبه العزّل
بفتح ممالك القيصر
نعم.. هكذا يكون ثبات أهل العقائد في أحلك المواقف وأشدّها، فالطمأنينة ملء جوانحهم لاستهدائهم بكتاب الله وما فيه من وعد بالتمكين والغلبة.. لاسترشادهم بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم واستيقانهم بما ورد فيها من بشارات، فغايتهم ليست الغلبة في الدنيا والرفعة الوضيعة على أهلها.. بل الغاية رضا الله. فإن كان ذلك بالموت فحيّهلاً، وإن كان سبيل ذلك تنكيلاً وتعذيباً فمرحباً وأهلاً. يفعل واحدهم ذلك وهو يردد:
ولست أبالي حين أُقتل مسلماً على أيِّ جنبٍ كان في الله مصرعي
هذا هو الفرق بينهم وبين متبني الآراء الذين لهم في كل يوم موقف، تجدهم اليوم يخاصمون من كانوا بالأمس يضاحكون ويحالفون، ليس لهم لون مميز ولا طعم ولا رائحة، فصاحب الرأي سهل أن يتحوّر وأن يتحوّل، هو عند المصلحة تصاغ في شكل دليل، ظاهر النتائج يتحكّم فيه؛ فليس له هادٍ من الشرع يعصمه، أو دليل من السنة يطمئنّ إليه، لذلك تجده ييمِّم اليوم شطر ما كان بالأمس يوليه ظهراً وقفا. ثم يتولّى من بعد ذلك قبلةً أخرى و"قفاه على الإقدام للوجه شاتم". فهو يدور في دائرة ما يستجدّ له من آراء وما تضطره إليه الظروف، فله في كل حين وجهة، يدور حول الرحى ويمشي مكباً على وجهه غافلاً عن مراد ربه، شتان بينه وبين من وضع نصب عينيه قول إمامه وقدوته: (لو وضعوا الشمس في يمين والقمر في يساري على أن أدع هذا الذي جئت به ما تركته).
تعترض كلا الاثنين العقبات والشهوات، ويطول الطريق إلى الأهداف ويكون ذلك من باب البلاء والتمحيص، (ليميز الله الخبيث من الطيب)، فما يكون موقف كليهما؟!
صاحب الرأي سريع الانزلاق؛ لأنه أصالةً قد وضع الاحتمال وترك للنكوص مجالاً، فليس للرأي عليه سلطان ولا يتعلّق رأيه بأحكام، فغايته تبرر الوسيلة، وهدفه قد تُحطّم في سبيله فحواه! أمّا صاحب العقيدة فلديه من الحق وازع، وله من إيمانه ركن وثيق، لا يرى في الباطل مركباً يقوده إلى الحق؛ وذلك أنه يتعبّد الله بالوسائل كما يتعبّده بالغايات، يتذكّر قوله تعالى: (وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خيرٌ لكم) فينتصر على القلق والتردد ولا يستعجل النتائج، تقع عليه النكبات ويُبتلى في دنياه فيستبشر ويعلم أنه قد سُلِك به طريق الأنبياء والصالحين، تتكالب عليه الدنيا ويجتمع عليه المنافقون والكفار ويرمونه عن قوسٍ واحدةٍ فيزداد يقيناً أنه على الحق، تكاد تزهق روحه فيظلّ في طريقه باسماً لأنه يعلم أنه ليس محور الرسالة بل هو حامل لها مدافعٌ عنها؛ فإن سقط هو أقام الله سواه، فالملة منصورة به أو بغيره. والعاقل من جعل لنفسه في هذه النصرة حظاً ونصيباً؛ فثباته محيِّر ووضوح عقيدته يبهر الأبصار. وإليك المثال:
الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم يموت عمه وحاميه وكنفه ومؤويه أبو طالب، فتفرح قريش بذلك وتقول من لمحمد بعد عمه وزوجه؟!، فتأخذ الحمية أبا لهبٍ ويجعل من نفسه له بمكان من مات، فتندم قريش إلاّ أنها تمكر وتحتال وتطلب من أبي لهب أن يسأله عن مآل من بذل نفسه دونه: أفي الجنة هو أم في النار؟ فما كان ردّه عليه الصلاة والسلام؟! هل حار جواباً والتمس عن الردّ ملاذاً؟ هل باع عقيدته ليحافظ على مكتسبات المرحلة؟ كلا والله! فالأمر أمر دين وعقيدة، جدٌّ لا هزل فيه وأمانةٌ لا بد من أدائها، مصيرٌ ينبغي أن يعلمه كل أحدٍ حتى يحدّد موقفه، مبتدأه ومنتهاه.
الثلة الكريمة السابقون إلى الإيمان يشتدّ بهم الأذى فيهاجرون إلى الحبشة ويدخلون في حمى النجاشي فيؤمّنهم ويأبى أن يردّهم، فيأتيه عمرو بن العاص –وكان كافراً- بالقول الذي ظنّه سيستأصل شأفتهم: إنهم ليقولون في عيسى قولاً عظيماً! فيُستدعوْن ويعلمون أنهم بين الأمرّين؛ إمّا فقد الدين وتلبيس العقيدة وإمّا أن يردّوا إلى مكة حيث فرّوا. فما تراهم فاعلين؟ أيلجئون إلى فقه الاستضعاف ويلتمسون المعاذير لأنفسهم؟ كلا بل يقول قائلهم: ما نقول فيه إلاّ ما قال الله ورسوله: هو عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول.
هذه المواقف تُهدى إلى المسلمين بعامة وإلى العاملين في حقل الدعوة خاصةً، إلى الذين يسعون لنيل رضا اليهود والنصارى فيستحون من قول: لا إله إلا الله، إلى دعاة الترقيع وتوحيد الرايات المتباينة، ألا فليعلموا أن الاتفاق على حساب العقيدة ما هو إلاّ وأدٌ لها وقتلٌ.. ونختم بقول أحد من أسلم حديثاً: "على الذين يريدون الدعوة إلى الله أن يقدّموا الإسلام على حقيقته بدون أيّ تنازلات، لأن عرض الإسلام على حقيقته واجبٌ ويدلّ على إيمان الداعي بما يدعو إليه، وفي هذا قوةٌ يراها الآخرون بخلاف العكس".
ــــــــــــــــــــ(67/102)
كلمات
وراد مدني*
كلمات من مشفق محب، كلمات دافعها المحبة الحقة والنصيحة المحضة، محبة الولاء في الدين لا محبة الشهوات والنزوات: (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض ).
كلمات من نفس آسية وروح حاسرة، تتمزق ألما وتتفطر حسرة وهي ترى من تحب يتخبط يمنة ويسرة، تتقاذفه أمواج الشهوات، وتتلاعب به رياح الأهواء، وهي ترى من تحب يجرى لاهثاً وراء سرابٍ من الأماني الكاذبة والرؤى الخادعة، وهي ترى من تحب وقد استخفته شياطين الإنس والجن، وهي ترى الدّرة المصونة واللؤلؤة المكنونة وقد ابتذلت قيمتُها، وأُرخص ثمنُها، تتناولها من الأيادي من ليست لها بأهل، تقلبها ببين كفيها، تشبع منها ناظريها..
ثم بزهد تلقيها.. دون مبالاة ترميها..
وبيسر تتناول أخرى
فالكم كبير.. والعرض كثير..
حسبك أن تهمس وتشير..
أي أخيه.. ألا تعجبين ممن شرفه مولاه، وأعظم قدره من براه، فأمر بصيانته، وألزم برعايته، وحذر من مضايقته، فالترفق به أمر (رفقا بالقوارير)، وملامسته معصية(لأن يطعن في رأس أحدكم بمخيطٍ من حديد خير له من أن يمس امرأة لا تحل له)، والنظر إليه بغير حق خطيئة (النظرة سهم من سهام إبليس)، ألا تعجبين منه يراد له موضع النجم في علو سماواته واللؤلؤ في أعماقه، لا يناله إلا من جد صادقا في طلبه.. فيأبى إلا حال الكلأ المباح والحمى المستباح، يمكّن الهوام والحشرات من أزهاره والأنعام من ثماره..
أي أخيه.. ما أحمق من قصر فحواك في الطرف الآسر والقد المائل، إنها لأنفس مريضة جديرة بالاحتقار والازدراء تلك التي تنظر إلى المرأة على هذا النحو، فكيف بها هي وهي ترضى لنفسها دور الدمية البلهاء والصورة المومياء.
(هلا نظرت إليها) مشورة أشار بها الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم عليه وسلم على رجل من صحبه تزوج دون أن يرى مخطوبته، ولتستوقفنا هنا تلك التي دفعت بحسنها وبهائها إلى ذيل قائمة المؤهلات والمغريات، فإذا به أمراً هامشيًا يلفت نظر الخاطب إليه، ألا ترين أنه عندما كملت الأخلاق، وفاحت الآداب، تحدثت عن نفسها من وراء الحجاب، فجذبت الزوج والخاطب قبل أن تجذبه العيون النجلاء والخدود المتوردة الحمراء.
ألا ترين أن في هذا المعنى إغلاء لقيمة المرأة، أليس فيه انتصار أيما انتصار لإنسانيتها وروحها على جسدها وظاهرها، بلى وربي ما تماري في ذلك ذات عقل.
أختاه.. ما الذي أوقع بالمرأة اليوم تحت رحمة قانون العرض والطلب، ما الذي ألقى بها سلعة بائرة ينادى عليها في مدارج الطرق والأسواق: العيون الكحيلة، الخدود الوردية، الشفاه الياقوتية، الثغور اللؤلؤية..
أليس هذا هو حالها اليوم بعد أن باينت حياءها، ونبذت حجابها ومعاني حجابها من وراء سور ليس له باب.. وانطلقت فتاتنا العصرية..
انطلقت جاهلة كنه ذاتها، غافلة عن غاية خلقها ومعنى حياتها، لا ترى من أنعم الله التي حباها إلا الطرف الكحيل والجسد الجميل، تظل على إظهار حسنها عاكفة، وفي سعر جمالها مغالية، تصبغ وجهها بألوان التصوير المختلفة، وتفرغ الثوب على جسدها إفراغ الهندسة الوصفية فما يفتأ يصرخ قائلا هذا الموضع اسمه"كذا".
انطلقت تستعطف الأبصار وتستجدي النظرات، بحسن تبديه، وصوت تخضع فيه، بثوب يرخى من جانب ليسفر عن آخر، بدُلٍ تتصنعه وظرفٍ تتكلفه.
انطلقت وأزيل عن الشجرة العبقة المثمرة لحاؤها، ومنح جذرها الحرية والضوء، فكان أن منح مع ذلك الضعف والذبول، وأسباب الموت والسقوط، فخرجت من طبيعتها تبعاً لخروجها من خلقها وحجابها، فآلت منظر شجرة دون ثمر، ومظهر إنسان دون جوهر.
فما الحجاب وما معناه وما كنهه ومغزاه؟
ما الحجاب إلا حفظ لروحانية المرأة وصون لها من التبذل الممقوت، ارتفاع بها من أن تكون مرتعاً للنظرات الفاحشة المتعطشة، سموٌ بها عن عالم ما يراها إلا منالاً لشهوة أو قضاءً لوطر.
ما الحجاب إلا كالرمز لما وراءه من أخلاق ومعانٍ وروح دينية، هو كالصدفة لا تحجب ما بداخلها بقدر ما تربيه في الستر تربية لؤلؤية.
ما الحجاب إلا دفع للمرأة إلى السمو بأفكارها واهتماماتها عن وهدة الأحمر والأخضر "والبدكير والمنكير" استنفار لكل المزايا الجميلة التي خص الله بها المرأة من حس مرهف وعاطفة نبيلة، تمكين لأخلاقها الفاضلة من أن تفعل فعلها وتظهر نتاجها.
ثم بعد ذلك ما التبذل والسفور؟ ما هما إلا إرخاص للقدر وإشباع للبهيمية وانزلاق في حمأة الحيوانية، إفساد لتدبير الشرع وتمكين لإرجاف الظنون وإساءة الرأي. ما التبذل والسفور؟ خواء باطن وتفاهة رأي، خوار جسد ليست به روح، شعار رذيلة ومعنى مرقص وحانة.
أختاه.. كلما زاد اهتمام المرأة بظاهرها كلما زاد خواء باطنها، المرأة إن جَعَلت مدار جاذبيتها على حسنها وجمالها اضطرت- حتى تظل محط الأنظار ومثار الإعجاب - أن تغير من ملبسها وقصة شعرها حينا بعد حين، فما تفتأ تبتكر حيلة وراء أخرى، وتعيش في عالم من القلق والاضطراب، والزيف والخداع.
فاحذري أختاه، احذري من يريدونك حديقة من غير سياج، ومدينة بلا أسوار، تسلية لنزواتهم، وتمضية لأوقاتهم، معسول الكلام يرددون، وبدعاوى التحرر يتشدقون، تحررٌ من تكاليف الشرع وتعاليم الدين وعبودية الله ولكن.. إلى أين؟! إلى عبودية الشهوات و أغلال الأهواء، إلى مستنقع الإباحية، ودركات البهيمية، أنت بينهم فتاة مستنيرة لا تعرف العُقَد، زميلة مستطابة، وعشيقة مستهامة.
أي أخيه.. إن لكل دين خلقا وخلق الإسلام الحياء، المرأة مع الحياء كائن سماوي، لا تستوفى معانيه، تُعجز النظم وتُذهل القلم، والمرأة دونما حياء مسخ في عالم الأحياء، قدحها مدح، قاموس الذم حيال وصفها قاصر، والعقل أمام كنهها حائر.
أي أخيّه.. ما الإنسان إلا بعقله وروحه وخُلُقه، فان عاش لجسده وبجسده شابه العجماوات، وانحط دونها منزلة، فقد خيِّر وما خيِّرت، فاربئي بنفسك أن تكوني كالذباب يأبى الطاهر العبق وينكب على الآسن القذر.
[بعض المعاني مقتبسة من مقال للأستاذ الرافعي
-رحمه الله- في كتابه وحي القلم]
ــــــــــــــــــــ(67/103)
تأصيل ختان الإناث
د. فتحية حسن ميرغني*
الحمد لله والصلاة والسلام على أفضل خلق الله سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد...
فالختان خصلة من خصال الفطرة الثابتة بالسنة النبوية الصحيحة، وهو عادة قديمة معروفة عند العرب، وعند غيرهم قبل الإسلام.. سأتناول في هذه المقالة المحاور التالية:
أولاً: معنى الختان في اللغة والاصطلاح:
مادة ختن، الغلام والجارية يختنهما، والاسم الختان والختانة، وهو مختون. وقيل الختن للرجال، والخفض للنساء، والختان موضع الختن من الذكر، وموضع القطع من نواة الجارية، قال أبو منصور هو موضع القطع من الذكر والأنثى. ومنه الحديث الشريف: ((إذا التقى الختانان وجب الغسل))[أخرجه أحمد في مسنده 6/239،2/178 إسناده صحيح]. فلفظ الختانان مثنى حقيقي وليس تغليباً[جنى الجنتين في تمييز نوع المثنيين – محمد أمين بن فضل الله المحيي، ص 44 وما بعده].
ويقال لقطعهما الإعذار، عذر الغلام والجارية يعذرهما عذراً، وأعذرهما ختنهما، أما الخافضة فهي الخاتنة، يقال خفض الجارية يخفضها خفضاً هو كالختان للغلام، وقيل خفض الصبي خفضاً ختنه، فاستعمل في الرجل فالأعرف أن الخفض للمرأة[لسان العرب لابن منظور، مادة ختن، عذر، خفض].
معنى الختان في الاصطلاح:
قال ابن حجر: "الختان مصدر ختن أي قطع، والختن قطع بعض مخصوص من عضو مخصوص"[فتح الباري شرح صحيح البخاري 10/340، كتاب اللباس]. وقال الماوردي: "ختان الذكر قطع الجلدة التي تغطي الحشفة، وقال في ختان الأنثى أنه قطع جلدة تكون في أعلى فرجها فوق مدخل الذكر كالنواة أو كعرف الديك، والواجب قطع الجلدة المستعلية منه دون استئصال".
وقال ابن تيمية في ختان الأنثى: "ختانها أن تقطع أعلى الجلدة التي كعرف الديك"[الفتاوى الكبرى، ابن تيمية].
ووافق هذا التعريف محمد علي البار بقوله: "الختان هو أخذ القلفة التي تكون على القضيب، أو الغشاء الذي يكون على بظر الأنثى"[الأمراض الجنسية، محمد علي البار]، وأيضاً د. محمد بن محمد المختار الشنقيطي في جراحة الختان: "وهي الجراحة التي يقصد منها قطع الجلدة التي تغطي الحشفة (رأس الذكر) بالنسبة للرجال، أو قطع أدنى جزء من جلدة أعلى الفرج بالنسبة للنساء"[ أحكام الجراحة الطبية والآثار المترتبة عليها، الباب الثاني، الفصل الأول، المذهب الرابع].
وذكر د. حامد رشوان وغيره من الأطباء أن "خفاض السنة يعني قطع الجلدة، أو الغلفة التي تغطي البظر"[أسباب محاربة الخفاض في السودان، د. عبد السلام وجريس ود. آمنة الصادق بدري].
وبهذا يتضح أن ختان الأنثى في الشرع مثل ختان الذكر، وهو قطع القلفة التي تغطي الحشفة عند الذكر، وتغطي البظر عند الأنثى.
ثانياً: الأصل في مشروعية الختان وكيفيته:
(أ) الأحاديث الواردة في الختان عموماً للذكور والإناث معاً منها:
1. ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة رواية: ((الفطرة خمس أو خمس من الفطرة: الختان، والاستحداد، ونتف الإبط، وتقليم الأظافر، وقص الشارب))[فتح الباري، 10/349 كتاب اللباس، وصحيح مسلم، شرح النووي 3/146].
2. ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله عزّ وجل: (وإذ ابتلى إبراهيمَ ربُّه بكلمات فأتمهن..)[سورة البقرة: 124]، قال: ((ابتلاه الله بالطهارة، خمس في الرأس وخمس في الجسد، في الرأس: قص الشارب والمضمضة والاستنشاق والسواك وفرق الرأس، وفي الجسد تقليم الأظافر وحلق العانة والختان ونتق الإبط وغسل مكان الغائط والبول بالماء))[المستدرك للحاكم 2/266. وقال على شرط الشيخين ووافقه الذهبي، وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى]. هذه النصوص تدل على أن الختان من خصال الفطرة وهو عام في الذكور والإناث معاً، ولم يرد نص بتخصيصه في الذكور فقط.
(ب) الأحاديث والآثار الواردة في ختان الإناث خاصة:
1. عن أم عطية الأنصارية أن امرأة كانت تختن بالمدينة، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا تنهكي فإنه أحظى للمرأة وأحب إلى البعل))[أخرجه أبو داود في كتاب الأدب 4/368 حديث رقم 5271]. قال أبو داود الحديث ضعيف برواية محمد بن حسان الكوفي، وهو ضعيف، وقد ورد هذا الحديث برواية العلاء بن العراء وهو صحيح الإسناد، وقد أخرجه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة تحت الرقم (922).
2. وللحديث شاهدان من حديث أنس، ومن حديث أم أيمن عند أبي الشيخ في كتاب العقيقة، وآخر عن الضحّاك بن قيس [خصال الفطرة، رسالة ماجستير، الأستاذة فاطمة كرار]. وجاء في المستدرك للحاكم قوله عليه الصلاة والسلام: ((اخضبن غمساً وأخفضن ولا تنهكن))، وهو صحيح وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد وأورده الطبراني.
ومن الشواهد التي تقوي حديث أم عطية أيضاً رواية البخاري في الأدب المفرد عن أم مهاجر رضي الله عنها قالت: ((أسرت ونساء من الروم، فعرض علينا عثمان بن عفان الإسلام، فأسلمت وجارية، فقال اخفضوهما أو طهروهما قال فطهرنا، وكن نخدم عثمان رضي الله عنه)).
أما تضعيف ابن المنذر للأحاديث الواردة في الختان بقوله: "ليس في الختان خير يرجع إليه ولا سنة تتبع" [نيل الأوطار للشوكاني، 1/138] تدحضه رواية العلاء بن العراء وجملة الأحاديث والشواهد المذكورة التي تقوي رواية محمد بن حسان الكوفي التقريرية، فقد أقر النبي صلى الله عليه وسلم ختن الإناث، ولم يمنع الخاتنة من الختن، وأمرها بالإشمام أي القطع من أعلى فقط، ونهاها عن الإنهاك أي ألاّ تبالغ في القطع. وقد قال ابن قيم الجوزية: "وفي الحديث ما يدل على الأمر بالإقلال من القطع"[تحفة المودود بأحكام المولود، ابن القيم].
ثالثاً: حكم الختان وأقوال أهل العلم فيه:
ذكر أهل العلم في حكم الختان ثلاثة أقوال:
القول الأول: الختان واجب على الذكر والأنثى، وهو الصحيح المشهور عند الشافعية والحنابلة وابن تيمية وابن قيم الجوزية. قال الشافعية هو واجب، وقال عطاء: "لو أسلم الكبير لم يتم إسلامه حتى يختن". وقالوا إن للرجل إجبار زوجته المسلمة عليه كالصلاة، واستدلوا على الوجوب بالآتي:
(أ) قوله تعالى: (أن اتبع ملة إبراهيم)[سورة النحل: 123]. وقد ورد في الصحيحين مرفوعاً: ((ختن إبراهيم وهو ابن ثمانين سنة بالقدوم))، وأخرج أبو الشيخ في العقيقة من طريق موسى بن علي بن رباح عن أبيه أن إبراهيم عليه السلام أمر أن يختن وهو حينئذ ابن ثمانين سنة فخجل واختتن بالقدوم، فالأمر يدل على الوجوب.
(ب) الختان فيه إيلام، والإيلام لا يكون إلاّ لواجب.
(ج) الختان فيه كشف عورة، وكشف العورة محرم، ولو لم يكن واجباً لما كشف له..[فتح الباري شرح صحيح البخاري، فقد أسهب في سرد أدلة الوجوب ومناقشتها ومن أراد التفصيل فليرجع إليه].
القول الثاني: الختان سنة للذكر والأنثى، وهو مذهب الحنفية وبه قال الإمام مالك وأحمد في رواية عنه. الأوطار للشوكاني 1/139].
القول الثالث: الختان واجب على الذكور مكرمة للإناث وهو رواية عن الإمام أحمد بن حنبل، وقال به بعض المالكية والظاهرية واستدلوا بحديث شداد بن أوس: ((الختان سنة للرجال مكرمة للنساء))[أخرجه البيهقي 8/325، الحديث ضعيف لكن الشواهد التي ذُكِرَتْ تُقَوِّيه]. قال البيهقي هو ضعيف منقطع لأن فيه الحجاج بن أرطأة وهو مدلس، وللحديث شاهد عند الطبراني، وفي مصنف عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن عمر قال في الختان: ((هو للرجال سنة وللنساء طُهرة))[رواه البيهقي 11/174].
قال النووي والصحيح في مذهبنا الذي عليه جمهور أصحابنا أن الختان جائز في حال الصغر وليس بواجب.
كما قال الشوكاني في الترجيح: "والحق أنه لم يقم دليل صحيح يدل على الوجوب، والمتيقن السنّة، والواجب الوقوف على المتيقن إلى أن يقوم ما يوجب الانتقال عنه"[نيل الأوطار للشوكاني 1/139-141].
مما سبق يتضح لنا اتفاق الفقهاء بجواز الختان عموماً واختلفوا في وجوبه للذكور والإناث معاً أو سنيته في الذكور والإناث، أو وجوبه في الذكور وأنه مكرمة في الإناث.
ولم يقل أحد منهم بمنعه في الإناث، حتى ابن المنذر فقد ضعف الحديث ولم يقل بمنعه في الإناث دون الذكور.
أنواع ختان الإناث ووقته والدعوة إليه وأجرة الختان:
ينقسم ختان الأنثى إلى قسمين:
1. الختان الشرعي: وهو قطع القلفة التي تغطي بظر الأنثى وهو شبيه لختان الذكور، ويعرف بالسنة.
2. الختان غير الشرعي: وهو قطع أي جزء زيادة على قلفة البظر ويشمل الختان الفرعوني (الكامل) والمتوسط والفرعوني المحسن وغيرهما.
وعليه فإن الختان الذي يقطع فيه جزء من البظر يدخل في الختان غير الشرعي فهو من درجات الفرعوني وليس من السنة.
اختلف الفقهاء في وقت الختان. قال الماوردي له وقتان، وقت وجوب ووقت استحباب، فوقت الوجوب البلوغ، ووقت الاستحباب قبله، والاختيار في اليوم السابع من بعد الولادة فإن أُخِّر ففي الأربعين، فإن أُخِّر ففي السنة السابعة، وقال إمام الحرمين لا يجب قبل البلوغ لأن الصبي ليس من أهل العبادة المتعلقة بالبدن فكيف مع الألم. وقال أبو الفرج السرخسي في ختان الصبي وهو صغير مصلحة من جهة الجلد بعد التمييز يغلظ ويخشن فمن ثم جوز الأئمة الختان قبل ذلك، وقال الإمام مالك: يحسن إذا أصغر من ذلك، يكون في السبع سنين وما حولها [فتح الباري 10/349 وما بعدها].
وقد قالت الدكتورة آمال أحمد البشير في وقت ختان الإناث: "أن يكون في السن التي يسهل فيها على الطبيبة أو القابلة المدربة فصل القلفة عن حشفة البظر وقطعها دون أن تأخذ معها أي جزء آخر من المنطقة المجاورة. ويختلف ذلك بين طفلة وأخرى لذلك يجب أن يكون هناك كشف على العضو التناسلي لكل طفلة بواسطة الطبيبة المختصة قبل تحديد وقت ختانها"[ختان الأنثى في الطب والإسلام بين الإفراط والتفريط ص38].
الدعوة إليه وأجرة الخاتن:
ورد في الأدب المفرد من رواية عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت ((دعيت إلى وليمة، ولما علمت أن الوليمة ختان جارية قالت لم نكن نعلن له)).
قال ابن الحاج المالكي في كتابه المدخل: "والسنة في ختان الذكر إظهاره، وفي ختان النساء إخفاؤه"[فتح الباري، والأدب المفرد].
وختان الإناث كان معروفاً، والإنكار للإعلان فقط [راجع أبواب الوليمة من كتاب النكاح – في المذاهب المختلفة].
أجرة الخاتن:
الاستئجار على الختان جائز، قال ابن قدامة: لا نعلم فيه خلافاً ومأذون فيه شرعاً.
من يدفع الأجرة؟
ذهب جمهور الفقهاء أن تكون من مال المختون إن كان له مال، أو على أبيه، ومن تجب عليه النفقة [المغني والشرح الكبير، ابن قدامة].
فوائد الختان الشرعي:
1. تثبيت شرع الله سبحانه وتعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.
2. تثبيت البديل الشرعي لمحاربة عادة ضارة (الختان الفرعوني)، مع مراعاة النواحي الاجتماعية والنفسية الناتجة عن التخلي المطلق عن الختان.
3. إعلاء شعيرة العبادة (الختان الشرعي) لا العادة (الختان الفرعوني).
4. مزيد الطهارة والنظافة، فإن القلفة من المستقذرات عند العرب. وقد كثر ذم الأقلف في أشعارهم، فهي تحبس النجاسة، فيصعب نقاء دماء الحيض والبول مما يؤدي إلى الروائح الكريهة ووجود النجاسة [فتح الباري، ص10].
5. ذهاب القلفة والشبق، وهي تعني شدة الشهوة والانشغال بها والإفراط فيها فذهابها يعني تعديل الشهوة عند المختونين من الرجال والنساء.
6. انخفاض حدوث السرطان للمختونين من الرجال والنساء.
7. التخفيض من كثرة استعمال العادة السرية لدى البالغين. لأن إفرازات القلفة تثير الأعصاب التناسلية حول الحشفة وتدعو المراهق إلى حكها والاستزادة من مداعبة عضوه.
8. منع التهابات نتيجة تجمع اللخن والميكروبات تحت قلفة الذكور والإناث [ختان الإناث في الطب والإسلام د. آمال أحمد البشير ص 24، وتأصيل ختان الإناث د. ست البنات خالد ص 9 – ورقة طبية قدمت في سمنار ختان الإناث بجامعة أم درمان الإسلامية وبالمجمع الفقهي].
أضرار الختان غير الشرعي (الفرعوني):
1. مخالفة الشرع في كيفيته.
2. تشويه وتغيير لخلق الله بقطع جزء أو أجزاء من أعضاء المرأة التناسلية. قال تعالى: (لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم)[سورة التين: 4]. وقد لعن النبي صلى الله عليه وسلم المُغيِّرات خَلْقَ الله.
3. الأضرار الصحية التي تتمثل في النزيف، الالتهابات، الأكياس والخراج، احتباس البول في الأيام الأولى، تعسر الولادة، تأثر الجنين بتعثر الولادة، حمى النفاس بعد الولادة، تهتك العجان، تكرار العدل.
4. الأضرار النفسية، الصدمة النفسية، الخوف والهلع عند الزواج والإنجاب مع صعوبة المعاشرة الزوجية.
5. الأضرار الاجتماعية؛ للزواج بالأجنبيات، الطلاق [الأبعاد النفسية والاجتماعية لختان البنات، د. آمنة عبد الرحمن. تأصيل ختان البنات (ورقة طبية) د. آمنة خالد].
وبالنظر لواقع مجتمعنا السوداني اليوم نجد الآتي:
1. من أفرط في جانب الأخذ بالختان وتجاوز حد الشرع بممارسة الفرعوني.
2. من أهمل ختان الإناث، ودعا لمنعه للأضرار الناتجة عن الإفراط فيه.
3. من قام بالختان الشرعي ووقف عند حد الشرع في كيفيته على أنه عبادة يتقرب بها إلى الله تعالى. وهذا هو الحق الصواب، فلا يقبل شرعاً ولا عقلاً ممارسة الفرعوني ولا منع ما هو شرعي وعبادة للأضرار الناتجة عن غيره (الخفاض الفرعوني).
ختان الإناث في القوانين السودانية:
1. بالرجوع إلى قانون العقوبات لسنة 1925 وسنة 1974 الفصل الثاني والعشرين في الجرائم الماسة بجسم الإنسان نجد الآتي:
المادة 284 (أ) الختان غير المشروع:
"فيما عدا الاستثناء المشار إليه فيما بعد، يعد مرتكباً جريمة الختان غير المشروع كل من يسبب عمداً أذى عضو من الأعضاء التناسلية الخارجية للأنثى".
استثناء: مجرد إزالة الجزء الناتئ المدلى من بظر الأنثى لا يعد جريمة طبقاً لهذا النص.
2. كل من يرتكب جريمة الختان غير المشروع يعاقب بالسجن مدة لا تتجاوز خمس سنوات أو بالغرامة أو بالعقوبتين معاً.
شرح: تعد الأنثى مرتكبة الجريمة المنصوص عليها في هذه المادة إذا أحدثت الأذى لنفسها[قانون العقوبات الاجتماعية لسنة 1925 المادة 284/أ وقانون العقوبات لسنة 1974، 284/أ].
قسّم القانون السوداني لسنة 1925 وسنة 1974 الخفاض إلى نوعين: أحدهما مشروع والآخر غير مشروع، واعتبره فعلاً مجرّماً فقد استثنى من نطاق التجريم الفعلي المتمثل في إزالة الجزء الناتئ من بظر الأنثى.
وقال القاضي ضرار: "أنه وفقاً لنص المادة 130 (1) (د) من قانون الإجراءات الجنائية لسنة 1974 فأنه لا يجوز فتح الدعوى الجنائية متعلقاً بالمادة 284/أ إلا بناء على إذن من المحافظ"[ورقة عمل حول التطور التشريعي وأثره على الخفاض الفرعوني، القاضي ضرار يوسف سيد أحمد ص 14-15/أبريل 2001م].
موقف قانوني العقوبات لسنة 1983 وسنة 1991م:
لم يرد في قانون العقوبات لسنة 1983 ولا في القانون الجنائي لسنة 1991م نص يماثل المادة 284/أ من قانون 1925 و 1974 إذ حُذفت المواد التجريمية للخفاض منذ سن قانون 1983. وقال القاضي ضرار: "إن المعلوم في فقه القانون الجنائي أن الجرائم تتكون من ركنين: هما الركن المادي والركن المعنوي. فإذا ما نظرنا إلى مكونات الركن المادي للخفاض مقارناً بالركن المادي لجريمة الأذى أو قطع الأعضاء نجد أنها تماثلها تماماً، إلاّ أن الأمر يختلف في الركن المعنوي إذ فيما يتشكل القصد الجنائي في جرائم الأذى من القصد الأصيل المباشر أو القصد الاحتمالي، ففي قصد الفاعل في جريمة الخفاض لا يكون بهذه الصورة الآثمة. إذ الأصل أن الفاعل يتفيأ مصلحة (المختونة) سواء أكانت اجتماعية أو صحية. ومن ثم يصعب استكمال أركان الجريمة وإدخال الفعل في دائرة التجريم.. وحسب المبادئ العامة في تفسير النصوص القانونية فإن حذف نص التجريم بهذه الكيفية مؤشر على إرادة واضع التشريع في حذف الفعل من نطاق التجريم".
أما نص المادة 272/2 من قانون العقوبات لسنة 1983م كالآتي:
يعتبر قطعاً لعضو كل أذى يؤدي إلى:
أ. إزالة أي عضو من أعضاء الجسم أو إلى تعطيله كلياً أو جزئياً..
ب. شل حاسة السمع أو البصر أو النطق أو الشم أو الذوق أو إزالة الصوت أو إزالة القدرة على الجماع أو إزالة القدرة على القيام أو الجلوس أو إزالة أي منفعة للبدن أو لعضو منه كلياً أو جزئياً.. فهو يختص بالقصاص في جرائم الأذى فكل من كتب فيها وشرح مضامينها لم يدخل فيها الختان.. فالأصل في القانون الجنائي عدم التوسع في تفسير نصوصه، (فلا جريمة ولا عقوبة إلا بنص).
علماً بأن أحكام القانون الجنائي لسنة 1991م وقانون العقوبات لسنة 1983م لا تتعارض مع أحكام الشريعة الإسلامية، حيث أن القانون مأخوذ بكلياته وفروعه من الفقه الإسلامي، وبالتالي فإنه لا يجوز تفسير أي نص في القانون بما يتعارض مع أحكام الشريعة الإسلامية، ومعلوم أن الختان الشرعي ثابت بالسنة النبوية للشريعة، فتغير نصوص القانون يجب أن تتسق وتتطابق مع روح القانون.
فعليه؛ إن نص هذه المادة لا يسعف القائل بتجريم الختان الشرعي في القانون السوداني ولا العقوبة عليه من حيث النظرية.
الخلاصة:
1. الختان خصلة من خصال الفطرة ومن شعائر الإسلام، فقد اتفق الفقهاء على جوازه واختلفوا في حكمه (واجب، مسنون، مكرمة)، ولم يقل أحد منهم بمنعه.
2. أدلة مشروعية الختان عامة للذكور والإناث معاً.
3. إحياء لواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويجب التمييز والتفريق بين الختان الشرعي وغيره للعامة حتى ينتهوا عن المنكر (الفرعوني) ويأتمرون بالمعروف (الشرعي). فلا إفراط ولا تفريط في ختان الإناث الشرعي..
4. الختان الشرعي ليس وأداً للبنات وإنما هو تمسك بالسنة النبوية الشريفة، فلا دليل ولا مصلحة ولا مبرر لمنع ختان الإناث الشرعي، بل هو تعد على السنة النبوية الشريفة.
5. الاعتماد على تضعيف الأحاديث الشريفة لا يرقى أن يكون دليلاً لمنع ختان الإناث الشرعي وذلك للآتي:
أ. ورود الأحاديث الصحيحة كأحاديث خصال الفطرة التي تثبت مشروعية الختان.
ب. الأحاديث الضعيفة: بعضها وردت بطريقة أخرى صحيحة، والبعض الآخر وردت شواهد تقويها.
ج. الأصل في الأشياء الإباحة.. ومن ثم فإن البحث في أدلة التحريم أدعى من البحث في أدلة الإباحة.. فلم يرد نص شرعي ولا قانوني يمنع أو يحرم الختان الشرعي.
6. التأكيد على محاربة ومنع كل أنواع الختان غير الشرعي، فالضرر يُزال ولا ضرر ولا ضرار. مع تثبيت الختان الشرعي.
ــــــــــــــــــــ(67/104)
الحركة النسوية والخصم في مواجهة الشمس!!
أحمد إسماعيل*
الفتوى التي صدرت عن مجمع الفقه الإسلامي حول قضية (ختان الإناث) أثارت حفيظة النسويين إلى أقصى درجة؛ فتم تحريك بعض الأقلام الصحفية لتثير الغبار، وتدق على الطبول بكثافة؛ بعضها أقلام ليبرالية؛ عرفت بالانعطاف النسوي السافر!!.. والبعض الآخر تستخفه ضوضاء الاستنارة والفكر الحر؛ من غير وعي وبصيرة.. فمضى في الركاب!!..
ولكنك حين تتأمل هذه القضية تتعجب: أليس للحركة النسوية قضية ترفع فيها رايات الحرب سوى (ختان الإناث)؟!..
ألأجل محاربة الخفاض نصبوا خيام كل هذه المنظمات والجمعيات؟!..
لماذا يتعمدون شحن الأجواء في هذه القضية بالذات؟!..
ولكني أعود وأسأل نفسي سؤالاً آخر؛ أوجهه إلينا نحن؛ الذين نقف في صف فتوى المجمع الفقه؛ التي فصلت في الأمر؛ وأقرت الخفاض الشرعي بطريقته المعروفة، مأمونة العواقب؛ حسب إفادات الأطباء؛ وبينت الحكم الشرعي الذي يرفض الخفاض الشائه المسمى فرعوني، وما يتبعه من أشكال أخرى، وعَدَّتْها في حكم (المثلة)!!.. أسأل سؤالاً؛ وأرجو أن يتبصر فيه الصالحون بعمق: هل نجح خصمنا في أن يختار لنا موقعنا في المعركة.. لنبدو في خانة الأضعف؟!..
اعتادت الحركة النسوية منذ بدايتها أن تختار بعناية نقطة البداية التي تجعل فيها خصمها في خانة الأضعف (في مواجهة الشمس)؛ فحينما بدأت حركة تحرير المرأة معركتها في مصر اتخذت من قضية تعليم البنات رأسا للرمح؛ فهي تعلم أن كمًّا من التقاليد الشائهة مرتبط بهذه المسألة، وحين ينتصب أهل الصلاح ليفضحوا ما تريده من إفساد في هذه الناحية يتم تصنيفهم (مدافعين عن تجهيل المرأة)!!.. وهذا ما يحدث الآن؛ حيث إن الممارسة الشعبية لختان الإناث ما زالت حتى الآن شائهة إلى حد كبير، والطريقة السنية الشرعية توجد في نطاق محدود جداً؛ فعندما تدعوا النسويات إلى تحريم كافة أشكال (ختان الإناث)، وينهض منا من يقول: (إن في الدين ختانا للإناث)، يتم تصنيفه لدى المثقفين على أنه مدافع عن (تشويه المرأة)!!.. وهكذا تنهار صورة المتصدين لدعاوى النسويين الكارثية التي تسعى إلى ما هو أخطر.
إيها السادة! إن في جراب النسويين أفاعي كثيرة؛ تتحرك بهدوء؛ مستغلة الضجة المثارة حول (ختان الإناث)!!.. وحتما ستبرز إلى العلن؛ بعد أن يسقط لواء الصالحين؛ متلطخا بآثار معركة الختان؛ فهناك أفعى (الجندر) - الذي تخصص له مراكز الدراسات، وتقام له ورش العمل - ليُقضى عن طريقه على كل الفوارق التي أوجدها الله بين الذكر والأنثى، ويصبح أمر الجنس محلا للميول الذاتي!!.. وهناك أفاعي تستهدف دين الله عز وجل مثل (المطالبة بمساواة المرأة بالرجل في الميراث)!!.. وهناك أفاعي تستهدف الأخلاق؛ وتسعى إلى إشاعة الفاحشة؛ مثل (برامج كسر الحواجر النفسية بين الجنسين مثل الخجل)!!.. وغير ذلك كثير.. فلينتبه الصالحون.
ــــــــــــــــــــ(67/105)
مؤامرات في طريق الأسرة المسلمة
حسن عبد الحميد*
مؤامرات الأسرة الطريق إلى المجتمع الإسلامي المنشود يمر عبر محطتين رئيستين؛ أولى هذه المحطات: الفرد المسلم الذي يمثل اللبنة الأولى ومادة البناء، وهذه المحطة قد استغرقت جهود الدعاة والمصلحين، ونالت كثيراً من والاهتمام.
أمَّا المحطة الأخرى الرئيسة فهي: الأسرة المسلمة؛ وهي على أهميتها وخطورتها، لم تحظ بما تستحقه من عناية من قِبَل الدعاة؛ ومن ناحية أخرى صارت هدفاً وغرضاً يتناوشه المخرِّبون وأحزاب الضلالة ومناهج الفسق والفجور.
تقوم الأسرة على ركيزتين كبيرتين، هما الأب والأم، وقد انصرفت عناية الإسلام إلى التأكُّد من هاتين الركيزتين قبل أن تنشأ الأسرة، فأمر بتزويج من يُرتضى دينه وخُلُقه، وحثَّ على الظفر بذات الدين؛ وبذا يغلق الباب من البداية على مداخل الشيطان وثغرات الفتن والهلاك. ومن هذا الباب بدأت المؤامرات والخطط لتحطيم الأسرة المسلمة؛ وذلك بإحلال مقاييس جديدة ومعايير حديثة ـ أو مستحدثة ـ لزوج المستقبل أو فتاة الأحلام، فمع تيار التغريب والعولمة وغلبة النزعة المادية في ديار الإسلام، أصبح الرجل يُقاس بماله وأملاكه، أو نفوذه وسلطته، وتأخرت ـ أو استُبعدت ـ مقاييس الدين والخُلُق، كما أصبحت الفتاة تُطلب لجمالها أو جرأتها "وتحررها"، وتأخرت ـ أو انتهت ـ اعتبارات والتديُّن والحياء، أو العفة والنقاء.
وبعد تكوين الأسرة فإن سلطة الأب في رعاية وتوجيه الأسرة ـ الأبناء والزوجة ـ تمثل صمام أمان الأسرة من الانحراف والضياع، فالرجال قوَّامون على النساء، والرجل راعٍ في بيته وهو مسئول عن رعيته. وتنشأ المخاطر وتطل الفتن، حينما يتخلَّى الرجال عن أدوارهم في إدارة أسرهم ورعايتها رعايةً كاملة، ويستوي أن يكون التخلِّي بسبب الانشغال خارج البيت بأمور السعي والرزق ـ أو بأشياء أخرى ـ أو يكون الانشغال بسبب خلل في التصوُّر للدور الحقيقي للرجل، كأن يترك مسئولية الفتيات ـ مثلاً ـ للأم دون أن يتدخل في شؤون اللباس، أو ما يتعلق بالسلوك كالخروج الكثير ـ لغيرما غرض ـ من المنزل، أو اختيار الصديقات والرفيقات، فإذا كانت الزوجة ـ أو الأم ـ هي نفسها بحاجة إلى قوامة، فهي لن تستطيع بالتالي القوامة على غيرها، ومن هذا الباب دخلت شرور كثيرة، فالأم بضعفها ـ وأحياناً جهلها ـ وعاطفتها، لا تكاد ترفض رغبة للبنت الناشئة أو المراهقة، فتنشأ الفتيات على التبرُّج و"التحرُّر" وفعل ما تشاء دون رقيب ولا حسيب، كما أن الفتيان ليسوا بأحسن حالاً، إذا انشغل عنهم الأب، وأمنوا الرقيب، فرفاق السوء، وأجهزة الإعلام ـ الفاسدة ـ والشارع، يتلقفونهم ويصيغونهم بعيداً عن هدي الشريعة وتوجيهاتها الغرَّاء.
ومجمل القول أن الاختيار السليم للزوج والزوجة، وقيام الرجال بواجباتهم تجاه أسرهم، يمكن أن يُحبط الكثير من المؤامرات التي تُحاك ضد الأسرة المسلمة، وهذا باب آن للدعاة والمصلحين، أن يبذلوا جهودهم، ويركِّزوا نشاطهم، لإصلاحه وتقويمه، إذا كنا ننشد مجتمعاً مسلماً.
ــــــــــــــــــــ(67/106)
المرأة ومغالطة الحقائق
د. مصعب الطيب*
يقول المتنبي:
أومن يغالط في الحقائق نفسه ويسومها طلب المحال فتطمع
ما علاقة قضية المرأة بهذا البيت المعبِّر؟! .. ببساطة شديدة –أيها الكرام- أحاول أن أجيب.
عندما تتأمل مجموعة كبيرة من المنشورات في ساحة النشاط الطلابي –مثلاً- أو حزمة مقالات صحفية أو بعض الكتابات التي تطرق قضية المرأة تجد نفسك (محاصَراً!) بنمط وحيد تجاه المرأة يتحدث عن ضرورة (إقحام!) المرأة في كل الأعمال –والموضوعيون جداً ربما يضيفون على استحياء.."التي تناسبها"!!- ويتحدثون عن مفاسد تعطيل نصف المجتمع والتنفس برئة واحدة! هذا النمط لا يملّ ترديد الدعوة للرجل بفك أسر المرأة وتحريرها وعدم هضمها حقها، ويحذّر بالويل والثبور وعظائم الأمور من عودة التخلّف والرجعية التي تسجن المرأة وتنتهك إنسانيتها!! موجز ما يدعو إليه هؤلاء هو (المساواة) بين الرجل والمرأة، وأن على الرجل أن يمنح المرأة ما استلب (عنوةً) من حقوقها.
وحتى لا يكون لقارئ تلك (الأراجيف) أي فرصة للبحث والتمحيص والتدبر فإنه لا تكاد تمر مقالة إلاّ بعد أن تشن هجوماً كاسحاً وإرهاباً فكرياً عنيفاً على كل من تسوّل له نفسه التشكيك في صحة تلك الدعوى.
وبناءً على الحيثيات أعلاه فإن:
أولاً: (وإجمالاً) هذه دعوى تحمل في سردها ما يكفي لردّها بحمد الله.
ثانياً: نبرة (التنازل والمنح) التي يطالبون بها الرجل، أليس فيها حجة ضد زعمهم هذا؟ وإلاّ فوفق أي منطق يكون الرجل دائماً –عبر كل صفحات التاريخ والمجتمعات- هو الظالم المهيمن؟! كان يجب ألاّ يكون كذلك لو صحّ ادّعاء هؤلاء.
ثالثاً: أمّا (المساواة) فهي خدعة سخيفة تنهار عند أول اختبار عملي؛ فلا شك أبداً أن مطالبة المرأة بالوقوف في صفوف الإجراءات الحكومية –مثلاً- في وهج الهجير مع الرجال، أو نشر إعلان وظائف (لأعمال شاقة) للنساء فقط، أو التصرف معها على نحوٍ لا يليق إلا مع الرجال.. لا شكّ أن هذا إهانة وتحقير لها.. لماذا؟ لأن الأمر بداهةً لا فلسفة فيها هو "المرة ما زي الراجل.." كما تعبّر السجية السودانية ببراءة.
رابعاً: لم يزعم أحدٌ البتة أن (العدل والإنصاف) دائماً في مطلق التسوية! بمعنى أنه يجب أن يساوى بين (المتماثلات) فقط لا غير! ويُفرَّق بين المختلفات.
والتماثل إنما يكون في أسس وأصول الحكم الموجبة للتساوي لا مجرد التشابه في بعض المظهر والمخبر، وإلاّ عُدّ جوراً وظلماً كبيراً وانتهاكاً للحقوق. وأي ظلم أعظم من تكليف النحيل من الناس كلفة الجسيم أو العجوز كلفة الشاب الطرير، ولا حاجة في تقرير حاصل مؤدّاه أن المرأة ليست كالرجل في خلقته وطباعه.
خامساً: ماذا لو تبنّى أحدٌ رأياً يقضي بضرورة (إقحام) المهندسين في مهنة التطبيب بحجة استثمار إمكانيات المجتمع فيما هو أجدى وتشغيل الطاقات المعطّلة والبناء والتعمير، ألا يُعَدّ هذا سفاهةً وسذاجةً منقطعة النظير تستدعي منا دوراتٍ تثقيفية عن "أهمية التخصص" واحترامه، ونتحدث في الصحف عن مخاطر "تقمّص وانتحال الأدوار" في انهيار بنيان المجتمع. وتستدعي منا نشر كتب تنظر في قضية "تنويع التخصصات والمهام" وتعدد مزاياها، ونشجب بشدة –عبر كل أجهزة الإعلام- أي محاولاتٍ للحد من قدر أي تخصص ما، أو تحقير أي وظيفة كانت. ولربما نطالب بأن يُحاكَم صاحب هذه (الخرافة!) بتهمة "الخيانة العظمى" للمجتمع المتحضر!! وإن يكن فما بال أقوامٍ يصرّون على تبخيس دور المرأة في إنشاء الأجيال وصيانة بيت الزوجية؟ وقديماً قيل: (إذا كان الرجال هم الذين يصنعون الحضارة؛ فإن النساء هنّ اللاتي يصنعن الرجال)، ولماذا يتمسك أولئك بزج المرأة في مهام تخرجها عن حياتها وأنوثتها، وتعكّر عليها عفتها، وتُطْمِع في نفسها مَن في قلبه مرض وتخرجها –من قبل- من أنبل وأشرف الوظائف التي هي أهلها:
الأم مدرسةٌ إذا أعددتها أعددتَ شعباً طيّب الأعراقِ
سادساً: قضية المرأة (صناعة رجالية) تأليفاً وبطولةً وإخراجاً –وعلى حدّ زعمهم- فالرجال هم الذين تعسّفوا وظلموا ابتداءً، ثم تنادموا فأدانوا، ثم تواطئوا على لزوم (اقتلاع!) حقها منهم انتهاءً! بينما يبقى صوت المرأة مهما ارتفع على هامش الصراع. فماذا يعني هذا؟ نحيل السؤال بطبيعة الحال إلى أولئك النفر من (الرجال)..
سابعاً: زخم معركة المرأة.. (المفتعل) يوحي بشكل واضح (وفاضح) إلى أن ثمة "مآرب أخرى" تتخفى خلف ذلك الحماس الجهير للقضية وسيل دغدغة المشاعر الأنثوية والإطراء المنمّق والتشبث المريب لكل ما من شأنه توطيد العلائق خارج إطار الزوجية.
إن أكبر الإهانة والتحقير لمكانة المرأة يوم تكون (وسيلةً) لأغراض ساقطة ومرامٍ سافلة تمارس باسم الدفاع عن حقها و(أداةً) لإشباع الرغبات الحرام بدعوى (الصداقة البريئة !!) فأي مغالطة للحقائق أعظم من هذا؟! ولنا عودة.
ــــــــــــــــــــ(67/107)
من المقبرة إلى المحبرة
د. مصعب الطيب*
في حوار مع بعض الفضائيات العربية سئل (ضياء رشوان) -بصفته خبيرا عن الجماعات الإسلامية- عن نهاية ثورة المحاكم الإسلامية في الصومال بعد الاجتياح الإثيوبي فقال الرجل: إن الذي حدث هو شهادة ميلاد للمحاكم الإسلامية وليس نهاية لها، وإن المحاكم قد وضعت للتو بذرة مشروعها.
بعيدا عن الجدل البارد عن موقف ما يسمى بالحكومة الانتقالية، وظروف (تسويق) العدوان على الصومال؛ فإن الفكرة الممجوجة نفسها ما زالت تتوالد ويعاد إنتاجها.
الحملة الشرسة التي قادها أتاتورك ضد الدين الإسلامي ورموزه كانت البذرة الحقيقية لتصاعد المد الإسلامي نفسه ودخوله لعقر دار الحكومة (العلمانية) منفردا بالحكم.. لم تنجح الإعتقالات والقتل والتعذيب في سحل باقي البقية المترهلة من الإسلام في المارد المريض..
أكبر جميل صنعه جمال عبد الناصر لسيد قطب ومشروعه هو قرار الإعدام؛ الذي جعل فراسة سيد تتحقق تماما كما كتب: إن أفكارنا وكلماتنا تظل جثثا هامدة، حتى إذا متنا في سبيلها أو غذيناها بالدماء انتفضت حية، وعاشت بين الأحياء!!..
أعدم قطب، ولكن كل درّاسي الثورات والحركات الإسلامية يتداولون حتى اليوم دوره البارز في صناعتها وإلهامها.. لم ينجح الإعدام أبدا في صناعة النهاية!.
حتى حينما يكون الرباط الإسلامي، وإقامة الشريعة المخرج الوحيد من العنف والفوضى والدمار -الذي كان بين الفصائل المسلحة في أفغانستان، أو بين أمراء الحرب في الصومال، أو -ربما- في أي مكان ثالث ورابع؛ لن يستنكف أحدهم عن العمل على اقتلاع جذوة الأمل، وإعادة الخراب، وتنصيب الأجراء، وتسليح العملاء، وحماية الفساد؛ ليتهيأ المناخ مجددا لولادة المحذور.
اللائحة التبريرية الفجة -التي تصور همّ المواطن الصومالي أو الأفغاني وشواغله وكأنها تتمحور حول حضور فيلم أو سماع أغنية- نفس اللائحة القديمة؛ بعد أن يعاد إنتاجها وتكريرها ثم ترويجها مرة أخرى!!.
ليس مهمّا ما إذا كنت حزبا ضيقا، أو تحالفا فضفاضا.. تيارا منفتحا أو متطرفا.. تنظيما مسلحا أو مدنيا.. كيانا جماهيريا أو منبوذا.. بل ليس شيءٌ مهمٌّ أكثرَ من لحظة التشفّي الديني والسياسي، والرضا الكاذب بالإنجاز، والتبجّح الأبله بالقوة والدمار، وأن كل من كان خارج منظومتي فهو البؤس والفوضى.. (الفوضى الخلاّقة)؛ التي تجرجر المشروع الأمريكي كل يوم نحو العزلة والهزيمة.
ــــــــــــــــــــ(67/108)
الجواب عن الشبهات
د. عبد الحي يوسف*
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد..
فإن طرح الشبهات وإيراد المشكلات دأب أهل الضلالة من قديم، يفعلون ذلك صداً عن سبيل الله واستجابة لداعي الهوى في نفوسهم التي جبلت على الإعجاب بالرأي وإيثار العاجلة على الباقية، وفي القرآن الكريم نماذج لبعض تلك الشبهات التي طرحها المشركون الأولون على الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، كقولهم: (أنؤمن لك واتبعك الأرذلون)، وقولهم: (أنؤمن لبشرين مثلنا وقومهما لنا عابدون)، وقولهم: (أبشراً منا واحداً نتبعه إنا إذاً لفي ضلال وسعر)، وقولهم: (أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء)، وجماع ذلك قول الله في القرآن: (وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون)، قال أهل التفسير: نزلت الآية فيمن اعترضوا على تحريم الميتة بقولهم للنبي صلى الله عليه وسلم: ما قتله الله حرام وما قتلته بيدك حلال؟ وقوله سبحانه: (وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون)، وهم في هذا كله يدّعون أنهم أهل استقامة وسداد وأنهم يرومون الخير للناس: (وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون).
وهاهنا نعرض لبعض هاتيك الشبهات التي يروِّج لها الداعون إلى علمانية العاصمة القومية:
[1] قولهم: إن في العاصمة ناساً يدينون بغير الإسلام وفي الحكم بالشريعة تضييق عليهم:
والجواب أن وجود غير المسلمين في مجتمع يحكم بالإسلام ليس وليد اليوم، ولا هي مشكلة طارئة تحتاج إلى بحث، بل منذ أن بعث الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم وأنزل عليه القرآن وقامت للإسلام دولة في المدينة، وغير المسلمين ـ من اليهود وغيرهم ـ موجودون يعيشون بين ظهراني المسلمين ويمارسون شعائر دينهم؟ فما الجديد إذن؟ ومتى كان وجود الأقلية في أي مكان أو زمان يمنع الأغلبية من أن تطبق دينها؟ وهل عهد في تاريخ الإسلام كله إجبار غير المسلم على الدخول في الإسلام؟
يقول جوستاف لوبون في كتابه حضارة العرب: "وكان يمكن أن تعمي فتوح العرب الأولى أبصارهم وأن يقترفوا من المظالم ما يقترفه الفاتحون عادة، ويسيئوا معاملة المغلوبين ويكرهوهم على اعتناق دينهم الذي كانوا يرغبون في نشره في العالم، ولكن العرب اجتنبوا ذلك، فقد أدرك الخلفاء السابقون ـ الذين كان عندهم من العبقرية السياسية ما ندر وجوده في دعاة الديانات الجديدة ـ أن النظم والديانات ليست مما يفرض قسراً فعاملوا ـ كما رأينا ـ أهل سورية ومصر وإسبانيا وكل قطر استولوا عليه بلطف عظيم تاركين لهم نظمهم وقوانينهم ومعتقداتهم... فالحق أن الأمم لم تعرف فاتحين متسامحين مثل العرب، ولا ديناً سمحاً مثل دينهم".
وغير المسلمين ـ تحت حكم الإسلام ـ في حمايةٍ من كل ظلم داخلي أو اعتداء خارجي، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من ظلم معاهداً أو انتقصه حقه كنت أنا خصمه يوم القيامة))، بل إن الثابت ـ واقعاُ وتاريخاُ ـ أن المسلمين كانوا هم المتضررين من تطبيق غيرهم ما يحسبونه ديناً، حيث عانوا في القديم من محاكم التفتيش في الأندلس ـ وقد اعترف بذلك مفكرو الغرب ومؤرخوه ـ وفي التاريخ الحديث ما أمر البوسنة وكوسوفا عنا ببعيد؟ ونقول أيضاً: إن الالتزام بالتشريع الإسلامي لا يمس حقوق غير المسلمين؛ لأن الإسلام كفل لهم حرية الاعتقاد وتطبيق تشريعهم في الأحوال الشخصية، ومن المعلوم للكافة أن الإنجيل ليس فيه أحكام تشريعية في المسائل المدنية والتجارية، ولهذا يأخذ النصارى في كل دولة بتشريعها في هذا المجال، فضلاً عن ذلك فالقوانين الدولية قد تواترت على إقليمية التشريع في جميع التشريعات إلا في مسائل الأحوال الشخصية، وبمقتضى ذلك يخضع الشخص لقانون الإقليم الذي يعيش فيه.
ثم ماذا يضير النصارى أن تمنع الخمور ويحظر الفجور ويلغى الربا ويحارب البغاء؟ هل يزعم أحدهم أن ديناً نزل من السماء يبيح شيئاً من ذلك؟ اللهم لا. لكن منطق الإستبداد الأرعن الذي تمارسه أمريكا على سائر الأمم هو الذي يحملها ـ ومن وراءها من الأذناب كحركة التمرد ـ على أن يحاولوا منع المسلمين من تطبيق شرائع دينهم تحت ذرائع شتى، والحال كما قال ربنا: (ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء)، (ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفاراً حسداً من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق)، لكن العجب العاجب هو أن يرضى بعض من ينتسب إلى الإسلام لنفسه أن يكون مروّجاً لمثل تلك الأباطيل، واضعاً في طريق سيادة الشريعة شتى العراقيل.
[2] قولهم: إن تطبيق الأحكام الشرعية يحرم العاصمة من مجيء السائحين، وترك الأحكام الشرعية يجعلها عاصمة جاذبة:
والجواب: أن العقلاء وأهل المروءة متفقون على أن الغاية لا تبرر الوسيلة وأن ما عند الله لا يطلب بمعصيته، وقد قال العرب الأوّلون: "تجوع الحرة ولا تأكل بثدييها". ثم من الذي يقول: إن العاصمة لا تكون جاذبة إلا إذا أبيح فيها الحرام؟ لو أنصفوا لقالوا: إن الواجب علينا أن نرعى الأخلاق، ونحفظ حدود الله من أن تضيّع فنحلّ الحلال ونحرّم الحرام؛ حتى يأتي إلينا السائحون الملتزمون وهم آمنون على أموالهم وأعراضهم وأنفسهم، ولو أنصفوا لقالوا: إن الواجب أن تتضافر الجهود لترقية الخدمات وتأمين الماء والكهرباء، وتعبيد الطرق وتوسعة المطارات وتجميل المسارات وإنارة الشوارع حتى تكون الخرطوم عاصمة جاذبة، بدلاً من الدعوة إلى العلمانية المنكرة التي تبيح ما حرم الله فنكون ممن لم يحفظ ديناً ولم يصلح دنيا، (وشر الناس من خسر الدنيا والآخرة)، ونذكّر أنفسنا وهؤلاء بقول الله عز وجل: (يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء)، وبقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((ولا يحملنكم طلب الرزق على أن تطلبوه بمعصية الله))، ومن التاريخ القريب يعلم المنصفون أن الخرطوم كانت يوماً ما ـ بوجهها الشائه وخدماتها المتردية ـ عاصمة الموبقات المهلكات فهل جذب ذلك السائحين إليها؟ أو فتح أبواب الرزق عليها؟ اللهم لا هذا ولا ذاك. لكن..
يقضى على المرء في أيام محنته حتى يرى حسناً ما ليس بالحسن
ثم ألا يعتبر هؤلاء بحال أمم سارت في ذات الدرب فلم تحصد إلا المرّ والعلقم، فلا أزماتها الاقتصادية حلّت، ولا وحدتها الوطنية حققت، ولا مشاكلها الأمنية زالت، بل زادت، (لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثاً يفترى).
[3] قولهم: إن الاستمساك بهذا الأمر ـــ أي تطبيق الشريعة في العاصمة ـــ يفوّت فرصة تحقيق السلام الذي بات وشيكاً بزعمهم:
والجواب أن أهل الإسلام مجمعون على أن حفظ الدين مقدّم على حفظ النفوس والأعراض والأموال والعقول؛ وعليه فلو كان السلام في مقابل التنازل عن أحكام الله عز وجل فنقول: لا حيّاه الله ولا سقاه ولا مرحباً به ولا أهلاً، وحسبنا أن نذكّر أنفسنا؛ لتكف عن طاعة المبطلين، بتلك الدماء الزكية التي نزفت على أرض الجنوب والشرق لتكون كلمة الله هي العليا، فهل كان ذلك ليأتي آتٍ بعد زمان قريب ليقول: لابأس بالتنازل عن الشريعة في العاصمة من أجل تحقيق السلام، ولو أن امرءاً رضي لنفسه أن يتنازل عن دينه لينال سلاماً متوهماً؛ فلن يبالي بعد ذلك بالتنازل عن عرضه، ومن تتبع تاريخ المتمردين وزعيمهم في نقض العهود ازداد يقيناً بقول الله في القرآن: (أو كلما عاهدوا عهداً نبذه فريق منهم بل أكثرهم لا يؤمنون)، وبقوله سبحانه: (كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلاً ولا ذمة يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم وأكثرهم فاسقون اشتروا بآيات الله ثمناً قليلاً فصدوا عن سبيله إنهم ساء ما كانوا يعملون لا يرقبون في مؤمن إلاً ولا ذمة وأولئك هم المعتدون)، ومن أعطى الدنية في دينه فرضي بتغييب الشريعة في العاصمة اليوم فسيرضى بتغييبها في غيرها غداً.
[4] قولهم: إن علمانية العاصمة علاج للأوضاع وحماية لها من التعصب الديني:
والجواب هو أن العلمانية ما كانت في يومٍ من الأيام علاجاً للتعصب الديني أو الطائفي أو العرقي، ومن كان في شك من ذلك فليرجع إلى تاريخ بلاد ارتضت العلمانية مبدأً ومنهجاً من قديم ـ كالهند ولبنان وتركيا ـ هل حالت العلمانية دون قيام مذابح الهندوس ضد المسلمين في الهند؟ أم حالت دون قيام الحرب الأهلية التي استمرت سنين عدداً في لبنان؟ أم حالت دون اضطهاد الأكراد في تركيا؟ والتاريخ شاهد بأن حرب الجنوب قامت قبل أن تطبق الشريعة سواء في ذلك التمرد الأول أو الثاني، بل إننا نقول إن المسلمين هم الخاسرون من تطبيق هذا المبدأ الفاسد حيث عهدنا في أكثر البلاد علمانية ـ كفرنسا مثلاً ـ أن تمنع الفتاة المسلمة من ارتداء حجابها في المدرسة، وفي تركيا تمنع نائبة في البرلمان من الدخول إليه إلا بعد خلع حجابها فأين العلمانية هنا؟ إن علاج التعصب لا يكون إلا بنشر الوعي وبث العلم وتربية الناس على فن الحوار مع الغير واحترام النظام وأدب الكلام، ولا أنفع ولا أطيب ولا أحسن من هدي القرآن في ذلك، (وجادلهم بالتي هي أحسن)، (وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر)، (لا إكراه في الدين)، (إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم)، ولو أنصفوا لقالوا: إن العلاج يكمن في إعطاء كل ذي حق حقه، ورفع الظلم وبسط العدل بتطبيق الشريعة.
[5] قولهم: إن العلمانية هي المبدأ السائد الذي يحكم العالم الإسلامي كله، وما ينبغي أن نكون نشازاً بين الناس:
والجواب أنه قد أجمع علماء المسلمين من قديم على أن الشريعة حاكمة على جميع أفعال المكلفين، وأنها حجة عليهم لا العكس، وقد قال الله عز وجل في القرآن: (قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث)، (وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين)، وقال: (وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله)، وقال: (وإن كثيراً من الناس لفاسقون)، (وإن كثيراً ليضلون بأهوائهم بغير علم)، وأخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الإسلام ستنقض عراه عروة عروة فكلما انتقضت عروة تشبث الناس بالتي تليها، فأولهن نقضاً الحكم وآخرهن الصلاة، وأخبرنا أن الكتاب والسلطان سيفترقان وأمرنا ألاّ نفارق الكتاب، ثم أي عقل هذا الذي يحكم على المكلّف بأن يدع تعاليم دينه ويهمل شريعة ربه ويكون إمعة لأن الناس أو أكثرهم فعلوا ذلك؟ وقد علم الناس أجمعون أن العلمانية ما حكمت العالم الإسلامي برضى المسلمين ولا مشورتهم، بل فرضت بقوة الحديد والنار عن طريق الانقلابات العسكرية التي قام بها أذناب المستعمر ومن ثم مارسوا التضييق على الدعوة وأهلها، وعمدوا إلى تغييب الدين عن حياة المسلمين، ومنذ أن طبقت ما عرف المسلمون تقدماً ولا رقياً بل إن أعرق البلاد المسلمة علمانية ـ وهي تركيا ـ صار همُّ ساستها اللهاث خلف أوروبا، والتوسل من أجل أن يمنحوا عضوية في الاتحاد الأوروبي، وفشلوا في ذلك رغم قول قائلهم من قديم: "لا بد أن نأخذ بحضارة الأوروبيين حتى النجاسات التي في أمعائهم والأوبئة التي في أكبادهم".
[6] قولهم: إن الدين لله والوطن للجميع، فلا بد أن يتساوى الجميع في الحقوق والواجبات:
نقول: بل الدين لله، والوطن لله، والحكم لله، والخلق عباد الله، (ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين)، وماذا يضير غير المسلمين في أن تحكم الأغلبية بشريعتها وترجع إلى أحكام دينها في الأمر كله؟ ثم ماذا لو حدث العكس وكان المسلمون هم الأقلية هل كان يقبل منهم أن يطلبوا إلى الأكثرية التنازل عن هويتهم ومقدساتهم طلباً لمرضاتهم؟ وهاهم المسلمون يعيشون في البلاد الكافرة ـ في أوروبا وأمريكا ـ ويخضعون لأنظمة وتشريعات تتعارض مع بدهيات دينهم، ولا يجرؤون على المطالبة بتغييرها أو تعديلها، ولو فعلوا لقيل لهم: هذا هو حكم الأغلبية، إنه لا يقبل شرعاً ولا عرفاً بل ولا ديمقراطياً ـ وهم أكثر الناس تشدقاً بالدعوة إليها ـ أن تتخلى الأغلبية عن هويتها ومقدساتها وحضارتها طلباً لمرضاة الأقلية، لا سيما إذا كانت هذه المقدسات لا مساس لها بالحقوق الأساسية المشروعة لهذه الأقليات. ثم لماذا يتخلى القوم عن علمانيتهم القاضية بأن القانون الحاكم يجب أن يكون نابعاً مما ترتضيه الأغلبية؟
[7] قولهم: إننا متدينون نصلي ونصوم ومع ذلك نعتقد أن العلمانية هي العلاج الناجع والدواء الشافي:
نقول: إن العبادات والتشريعات وأحكام المعاملات من عند الله ولا يد فيها للبشر، والإسلام كل لا يتجزأ، فليس مسلماً من قال: أصلي على نظام الإسلام وأتخذ منهجاً سياسياً على نظام ميكافيللي، ونظاماً اقتصادياً ماركسياً، كيف يكون الشخص متديناً وهو يرفض حكم الله وحكم رسوله، وصريح القرآن يقول: (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالاً مبيناً)، ويقول: (إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون)، وهذا الفهم المغلوط للتدين هو الذي حمل بعضهم على أن يحج ويعتمر وينتسب إلى بيوتات دينية، ثم لا يبالي بالجلوس على مائدة يدار فيها الخمر أو يراقص الفتيات؛ لأن التدين في فهمه الكاذب الخاطئ قاصر على جانب الشعائر وحدها ولا علاقة له بمعتقد أو سلوك.
[8] قولهم: إن في تطبيق العلمانية ضماناً لعدم استغلال الدين في أغراض سياسية:
ولغرابة هذه الشبهة فإننا نستعمل معهم الدَّوْر فنقول: علينا ألا نطبق العلمانية لنضمن ألا تستغل في أغراض سياسية، وإن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستح فاصنع ما شئت. هل يعقل أن يمنع المسلمون من تطبيق أحكام دينهم بدعوى عدم استغلاله، ثم يجبرون على نظام مستورد يخالف دينهم وعقيدتهم بل يخالف رغبتهم واختيارهم؟ ما لكم كيف تحكمون؟ أم لكم كتاب فيه تدرسون؟ إن لكم فيه لما تخيرون.
إن العلمانية ضد الدين لأنها لا تقبل التعايش معه كما أنزله الله بل تريد إقصاءه عن الحياة وحصره في زاوية ضيقة منها، إنها ضد الدين لأنها تريد أن تأخذ منه ما يوافق هواها وتعرض عما يخالفه، ولأنها تؤمن ببعض الكتاب وتكفر ببعض، (أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون)، إنها ضد الدين لأنها تتعالم على الله عز وجل وتقول له: نحن أعلم منك بما يصلح للناس والقوانين الوضعية أهدى سبيلاً من حكمك.
إن العلمانية ضد إرادة الشعب في السودان كما أنها ضد إرادة المسلمين الذين رضوا بالله رباً وبالإسلام ديناً وبالقرآن إماماً، والقاعدة العريضة من مثقفي الأمة ـ الذين هم أنضج وعياً وأزكى خلقاً وأقوى إرادة ـ لا يبغون غير الله حكماً ودينه شرعاً.
[9] قولهم: إن الشريعة الإسلامية لا يمكن أن تستوعب ملايين القضايا والمشاكل الإنسانية المعقدة، أو أن تقدم حلولاً جاهزة لكل ما يستجد على مسرح الحياة:
والجواب: أن هذا التصور قائم على أساس أن الدين ثابت لا يتغير, وأن الحياة في تغير دائم، وأن الحكم بالأسلام من شأنه إلغاء كل اجتهادات البشر وتجاربهم، وإبطال كل عرف واجتهاد لم يرد من القرآن والسنة، وهذا تصور قد حكم الإسلام بفساده، فقد شرع الله تعالى للناس قواعد عامة للأمور التي حرمها الله وأمرنا باجتنابها، وأرشدنا أن ما سكت الله عنه فلم يبينه فهو مباح، لنا أن نجتهد فيه في حدود هذه القواعد العامة أي بما لا يحل حراماً. قال الله تعالى: (وقد فصّل لكم ما حرم عليكم)، وقد أوضح النبي صلى الله عليه وسلم أن الله سكت عن أمور رحمة بنا غير نسيان، وقال صلى الله عليه وسلم: ((أنتم أعلم بشئون دنياكم)).
فأمور المعاملات في جوانبها المختلفة من مدنية وجنائية ودستورية منها ما هو ثابت محكم، ومنها ما هو متجدد مرن، فالأسس والقواعد الكلية التي تشكل الإطار العام تتسم بالثبات والإحكام، وهي تلك التي جاءت بها الأدلة القطعية ثبوتاً ودلالة، ولا مجال فيها لتعدد الأفهام وتفاوت الاجتهادات، والفروع الجزئية والتفاصيل المتعلقة بالكيفيات والإجراءات ونحوها تتسم في أغلبها بالمرونة والتجدد، ويكفينا قول الله عز وجل: (والله يعلم وأنتم لا تعلمون).
إن المشكلة لا تكمن في وفاء الشريعة بحاجات الإنسان ومصالحه الحقيقة، ولكنها تكمن في كبحها لجماح الأهواء، ووقوف أحكامها عقبة في وجه دعاة العربدة والتحلل، إن أهل الفجور يتهمون الشريعة بالجمود لامحالة؛ لأنها لا تساير ما في نفوسهم من الشهوات والأهواء. فلا تبيح لهم الخمر ولا الرقص المختلط، ولا الردة ولا التبعية لكفار الأرض، ولا ترويج بضاعة المستشرقين باسم الفكر الإسلامي ولا تزييف التاريخ باسم حرية البحث، هذه هي المشكلة حقاً.
ــــــــــــــــــــ(67/109)
فيما يجب أن يكون عليه بيت المسلم
...
...
92
...
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
...
...
الآداب والحقوق العامة, قضايا الأسرة
...
صالح بن فوزان الفوزان
...
...
الرياض
...
...
...
البساتين
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- نعمة السكن والإقامة 2- صفات البيوت المؤمن سكنها 3- البيوت التي تهجرها الملائكة 4- الاستئذان في دخول البيوت
الخطبة الأولى
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله تعالى كما أمركم بتقواه، واشكروا نعمه عليكم. فما بكم من نعمة فمن الله.
عباد الله: إن نعم الله علينا كثيرة لا تعد ولا تحصى، ويجب علينا أن نقابل هذه النعم بالشكر، ونستعين بها على البر والتقوى لتستقر وتبقى وتزيد، قال تعالى: وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد [إبراهيم:7].
ومن أعظم نعم الله على بني آدم أن جعل لهم بيوتا ثابتة لإقامتهم في المدن وبيوتا متنقلة لأسفارهم في البراري، يسكنون فيها ويستريحون، ويستدفئون بها من البرد ويستظلون بها من الحر، ويستترون فيها عن الأنظار، ويحرزون فيها أموالهم ويتحصنون بها من عدوهم. وغير ذلك من المصالح.
قال الله تعالى – ممتنًا على عباد ه بهذه البيوت الثابتة والمنتقلة -: والله جعل لكم من بيوتكم سكناً وجعل لكم من جلود الانعام بيوتاً تستخفّونها يوم ظعنكم ويوم إقامتكم [النحل:80]، فذكر أولاً بيوت المدن لأنها الأصل. وهي للإقامة الطويلة. وجعلها سكنا: بمعنى أن الإنسان يستريح فيها من التعب والحركة وينعزل فيها عما يقلقه فيحصل على الهدوء والراحة، ثم ذكر تعالى بيوت الرحلة والنقلة فقال: وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتاً تستخفونها يوم ظعنكم ويوم إقامتكم ، يعني: وجعل لكم بيوتا خفيفة من الخيام. والبيوت المصنوعة من جلود الأنعام تستعملونها في حالة الإقامة المؤقتة في السفر.
فنعمة السكن في البيوت من أعظم النعم، وتأملوا من لا يجد سكنا يؤويه ماذا تكون حاله، وأنتم تسكنون في هذه البيوت الحديثة المزودة بكل وسائل الراحة من الانارة والتكييف الصيفي والشتوي والمياه المتدفقة العذبة الحارة والباردة، كل ذلك من نعم الله في المساكن وذلك مما يستوجب الشكر والثناء على الله بما هو اهله، لأن ذلك من منِّه و فضله.
عباد الله: إن بيت المسلم يجب أن يكون متميزا عن غيره من البيوت بفعل ما شرعه الله للمسلمين في بيوتهم من ذكر الله والاكثار من صلوات النوافل فيها، وقراءة القرآن وخلوها من وسائل الفساد.
عن أبي موسى – - قال: قال رسول الله – -: ((مثل البيت الذي يذكر الله فيه والبيت الذي لا يذكر الله فيه مَثَل الحي والميت )).
وعن ابن عمر – رضي الله عنهما – عن النبي – - قال: ((اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم ولا تتخذوها قبورا )). أي: صلوا فيها من النوافل ولا تجعلوها كالقبور مهجورة من الصلاة.
وعن أبي هريرة – - قال: ان رسول الله - - قال: ((لا تجعلوا بيوتكم مقابر ان الشيطان ينفر من البيت الذي تُقرأ فيه سورة البقرة )) وقال عليه الصلاة والسلام: ((عليكم بالصلاة في بيوتكم فإن خير صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة )). روى هذه الأحاديث مسلم في صحيحه، وهذه الأحاديث، وما جاء بمعناها تدل على مشروعية إحياء بيوت المسلمين وتنويرها بذكر الله من التهليل والتسبيح والتكبير وغير ذلكم من أنواع الذكر، وإحيائها، بالإكثار من صلاة النافلة فيها،لأن صلاة النافلة في البيوت أفضل من صلاتها في المسجد، وفيها النهي عن جعل البيوت مثل القبور مهجورة من صلاة النافلة فيها.
وفي الأحاديث الترغيب بقراءة القران في البيوت، ولاسيما سورة البقرة وإن قراءتها في البيت تطرد الشيطان، وإذا توفرت هذه الأمور في البيوت: ذكر الله فيها. صلوات النوافل، وقراءة القران أصبحت مدرسة للخير يتربى فيها من يسكنها من الأولاد والنساء على الطاعة والفضيلة. وتدخلها الملائكة وتبتعد عنها الشياطين، وإذا خلت البيوت من هذه الطاعات صارت قبور موحشة وأطلالا خَرِبة، سكنها موتى القلوب وإن كانوا إحياء الأجسام، يخالطهم الشيطان وتبتعد عنهم ملائكة الرحمن، فما ظنك بمن يتربى في هذه البيوت كيف تكون حاله وقد تخرج من هذه البيوت الخأوية الخالية من ذكر الله والتي هي مقابر لموتى القلوب. إن هذه البيوت ستؤثر تأثيرا سيئا على من تربى فيها وسكنها، فكيف إذا انضاف إلى خلوّها من وسائل الخير شغلها بوسائل الشر، وأسباب المعاصي بحيث يتوفر في تلك البيوت الفيديو بأفلامه الخليعة، التي تدعو إلى الفحشاء والمنكر، بما تعرضه من صور الفساد والدعارة أمام الأولاد والنساء.
وتتوفر في تلك البيوت أشرطة الأغاني الماجنة، التي تغري بالعشق والغرام، والطرب والإجرام، في تلك البيوت من يترك الصلاة ويتهأون بالجمع والجماعات. وقد همَّ النبي – - بإحراق مثل هذه البيوت بالنار على من فيها ممن يتخلفون عن صلاة الجماعة، فكيف بمن يتركون الصلاة نهائيا.
إن مثل هذه البيوت، وهي اليوم كثيرة، تكون أوكارا للشر، وجراثيم مرضية تفتك في جسم الأمة الإسلامية، يجب علاجها أو استئصالها حتى لا تؤثر على من حولها، كما همّ النبي – - بتحريق امثالها ولم يمنعه ذلك الا ما فيها من المعذورين ومن لا تجب عليهم صلاة الجماعة من النساء والذرية. قد يكون بعض هؤلاء له منصب كبير في المجتمع، بأن يكون من كبار الموظفين أو كبار الأثرياء. فيأتيه الشيطان فيقول له: أنت أكبر من أن تخرج إلى المسجد وتصلي مع الناس، لأن هذا يقلل من شأنك ويُضعف هيبتك، فيترك الصلاة في المسجد ترفعا وكبرا. وقد يكون بعضهم مشغولا بماله، وقد ورد في الحديث ان مثل هؤلاء يحشرون يوم القيامة مع نظرائهم من المتكبرين، فعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن النبي – - أنه ذكر الصلاة يوما فقال: ((من حافظ عليها كانت له نورا وبرهانا ونجاة يوم القيامة، ومن لم يحافظ عليها لم تكن له نورا ولا برهانا ولا نجاة، وكان يوم القيامة مع قارون وفرعون وهامان وابي بن خلف)) رواه الامام احمد في مسنده وابو حاتم وابن حبان في صحيحه. قال الإمام ابن القيم – رحمه الله: إنما خص هؤلاء الأربعة بالذكر لأنهم من رؤوس الكفرة.
وفيه نكتة بديعة، وهو أن تارك المحافظة على الصلاة إما ان يشغله ماله أو ملكه أو رئاسته أو تجارته، فمن شغله عنها ماله فهو مع قارون، ومن شغله عنها ملكه فهو مع فرعون، ومن شغله عنها رئاسة ووزارة فهو مع هامان، ومن شغله عنها تجارته فهو مع ابي بن خلف.
عباد الله، إن هؤلاء الذين جعلوا بيوتهم بهذه الصفة القبيحة، خالية من ذكر الله مشغولة بآلات اللهو ومواطن للكسالى والعصاة، والمتخلفين عن الصلاة، إن هؤلاء حقيقون بالعقوبة؛ بأن تنهدم عليهم تلك البيوت أو تحترق أو يشردوا منها على يد عدوهم فيبقوا بلا مأوى كما شرد خلق كثير من مساكنهم اليوم وأُبعدوا عن ديارهم، لأنهم لم يشكروا نعمة الله عليهم بهذه المساكن، وبارزوه فيها بالمعاصي، والمعاصي تدع العامر خرابا، وتحول النعمة عذابا.
عباد الله: ومما يجب أن يصان عنه البيت المسلم الصور والكلاب، لما روى ابو طلحة – ان رسول الله – قال: ((لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب ولا صورة)) رواه البخاري ومسلم، وفي رواية لمسلم: ((لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب ولا تماثيل )) وعن ابي هريرة – - قال رسول الله : ((أتاني جبريل عليه السلام،فقال لي: أتيتك البارحة فلم يمنعني أن أكون دخلت إلا أنه كان على الباب تماثيل، وكان في البيت قِرَام فيه تماثيل، وكان في البيت كلب، فمُرْ برأس التمثال الذي في البيت يقطع فيصير كهيئة الشجرة، ومُر بالستر فيقطع فيجعل وسادتين منبوذتين توطآن،ومر بالكلب فليخرج ))، رواه أبو داود والترمذي وقال: حسن صحيح، ورواه ابن حبان في صحيحه، وفي هذين الحديثين دليل على تحريم تعليق الصور على جدران الغرف والمجالس والمكاتب والاحتفاظ بها للذكريات ونحوها، وفيها دليل على عقوبة من فعل ذلك بحرمانه من دخول ملائكة الرحمن في بيته، وحينئذ يخسر خسرانا مبينا.
وقد ابْتُلِيَ بعض الناس اليوم بهاتين الظاهرتين السيئتين. فترى بعضهم يضع الصور في براويز ويعلقها على الجدران في الغرف والمكاتب. والبعض الآخر يحتفظ بالصور في صناديق خاصة من أجل الذكريات للأولاد والأصدقاء، والبعض الآخر ينصب تماثيل كبيرة أو صغيرة للآدميين أو الحيوانات للطيور ويجعلها على طاولات المجالس ونحوها للتجميل، وكل هذا من مظاهر الوثنية وفعل الجاهلية، لأن نصب الصور وتعليقها من وسائل الشرك كما حصل لقوم نوح وقوم إبراهيم من الشرك بسبب الصور والتماثيل. ولأن في تلك الصور مضاهاة لخلق الله –عز وجل- وذلك من أعظم الكبائر، ومن الناس من ابتلوا بتقليد الكفار واقتنوا الكلاب في بيوتهم وتباهوا بتربيتها وصحبتها لهم في بيوتهم وسياراتهم، وقد قال رسول الله – -: ((من اقتنى كلبا إلا كلب صيد أو ماشية فإنه ينقص من اجره كل يوم قيراطان ))، رواه مالك والبخاري ومسلم. والاحاديث في هذه كثيرة ومشهورة.
واقتناء الكلاب في البيوت واصطحابها خارج البيوت لغير الحاجة المرخص فيها شرعا (وهي حراسة الماشة والزرع واتخاذها للصيد )، واتخاذها لغير ذلك فيه محاذير:
أولا: أنه يمنع دخول ملائكة الرحمة في البيت: وأي مسلم يستغني عن ملائكة الرحمة؟!
ثانيا: ينقص من أجره كل يوم قيراطان، وهذا نقص عظيم ومستمر، والمسلم لا يفرط في اجره. والقيراط كما جاء تفسيره في بعض الاحاديث بأنه مثل الجبل العظيم.
ثالثا: في ذلك تشبه بالكفار الذين يربون الكلاب، والتشبه بهم حرام. قال النبي – -: ((من تشبه بقوم فهو منهم )).
رابعا: ما يحصل بها من الأضرار كأذية الجيران والمارة بهذه الكلاب وأصواتها. ولما فيها من النجاسة والأضرار الصحية في لعابها وملامستها.
فاتقوا الله – عباد الله – واعتنوا ببيوتكم وبمن فيها حتى تصير بيوتا إسلامية نظيفة حية بذكر الله وعبادته، وأبعدوا عنها كل ما يتنافى مع آداب الإسلام ويجر إلى الآثام.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً [الأحزاب:21].
بارك الله لي ولكم في القران العظيم . . .
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، لا نحصي ثناء عليه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله تعالى: واعلموا أن الله مع المتقين .
عباد الله: يجب أن يكون البيت المسلم مستورا مصونا على الأنظار المسمومة، يأمن من بداخله من الإطلاع على عوراتهم وأسرارهم لا يدخله غير اصحابه، الا باستئذان وإذن، قال تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها ذلكم خير لكم لعلكم تذكرون فإن لم تجدوا فيها أحداً فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم والله بما تعملون عليم [النور:27-28].
قال ابن كثير – رحمه الله – حتى تستأنسوا أي: تستاذنوا قبل الدخول، وتسلموا على أهلها أي: تسلموا بعد الدخول، وقال: ثم ليعلم أنه ينبغي للمستأذن على أهل المنزل أن لا يقف تلقاء الباب بوجهه، ولكن ليكن الباب عن يمينه أو يساره، وفي الصحيحين عن رسول الله – - أنه قال: ((لو أن امرءًا إطلع عليك بغير إذن فحذفته بحصاة ففقأت عينه، ما كان عليك من جناح)).
وعن عقبة بن عامر – - ان رسول الله – - قال: ((إياكم والدخول على النساء، فقال رجل من الأنصار: أفرأيت الحمُو؟قال: الحموُ الموت))، رواه البخاري ومسلم – والحمُ: قريب الزوج – أي: ان الخوف منه اكثر؛ لأنه يتساهل في دخوله اكثر من غيره، فدل هذا الحديث على تعظيم حرمات بيوت المسلمين ومحارمهم وخطر دخول الرجال الأجانب على النساء ولو كانوا من أقارب الزوج، وقد تساهل في هذا الأمر الخطير كثير من الناس اليوم، فبعض النساء لا تحتجب من أقارب زوجها، كأخيه وعمه. وبعض الناس جلبوا إلى بيوتهم الرجال الاجانب وخلطوهم مع نسائهم في بيوتهم باسم طباخين أو سائقين أو خادمين،. وبعض الناس جلبوا النساء الأجنبيات وجعلوهن في بيوتهم يدخلون عليهن ويخالطونهن وربما يخلون بهم كأنهن من محارمهم. وهذا ارتكاب لما نهى عنه الاسلام، ومدْعاة إلى الوقوع في الفحش والإجرام. وجلب النساء والرجال الأجانب إلى البيوت دليل على عدم الغيرة وقلة الحياء وعدم المبالاة، لأن المؤمن الغيور لا يرضى بدخول الاجانب في بيته. واختلاطهم بمحارمه، والمؤمن الغيور لا يرضى لزوجته أو بنته أن تركب وحدها مع سائق غير محْرم لها، والمؤمن الغيور لا يرضى بوجود امرأة أجنبية في بيته يدخل عليها كما يدخل على محارمه، وتمشي أمامه وتسكن معه ويخلوا بها كما يخلوا بزوجته.
فاتقوا الله – عباد الله – واحذروا شرور هذه الفتن. ولا تحملنكم المدنية الزائفة والتقليد الاعمى على هذه المغامرة الخطيرة، فتخربوا بيوتكم بأيدكم وأيد أعدائكم وأنتم لا تشعرون.
واعلموا أن خير الحديث كتاب الله
ــــــــــــــــــــ(67/110)
المرأة في الإسلام وغيره من المجتمعات
...
...
93
...
الأسرة والمجتمع
...
...
المرأة
...
صالح بن فوزان الفوزان
...
...
الرياض
...
...
...
البساتين
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- وضع المرأة في الجاهلية 2- مساواة المرأة للرجل في كثير من الواجبات الدينية 3- الإسلام يرد للمرأة حقوقها 4- واقع المرأة في المجتمع الغربي 5- الوصية بحسن تربية النساء
الخطبة الأولى
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله بامتثال أو امره، واجتناب ما نهاكم عنه لعلكم ترحمون وتفلحون.
عباد الله: سيكون حديثي معكم عن موضوع شغل بال الإنسانية قديما وحديثا، وقد جاء الإسلام بالفصل فيه ووضع له الحل الكافي والدواء الشافي، ألا وهو موضوع المرأة، لأن أهل الشر اتخذوا من هذا الموضوع منطلقا للتضليل والخداع عند من لا يعرف وضع المراة في الجاهلية ووضعها في الاسلام، ووضعها عند الامم الكفرية المعاصرة.
فقد كانت المرأة في الجاهلية، تعد من سقط المتاع لا يقام لها وزن، حتى بلغ من شدة بغضهم لها إنذاك أن أحدهم حينما تولد له البنت يستاء منها جدا ويكرهها ولا يستطيع مقابلة الرجال من الخجل الذي يشعر به.
ثم يبقى بين امرين اما ان يترك هذه البنت مهانة، ويصبر هو على كراهيتها وتنقص الناس له بسببها. وإما أن يقتلها شر قتله، بأن يدفنها وهي حية ويتركها تحت التراب حتى تموت، وقد ذكر الله ذلك عنهم في قوله تعالى: وإذا بشر أحدهم بالانثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم % يتوارى من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسّه في التراب ألا ساء ما يحكمون [النحل:58-59]. وأخبر سبحانه أنه سينصف هذه المظلومة ممن ظلمها وقتلها بغير حق، فقال تعالى: وإذا الموءدة سئلت بأي ذنب قتلت [التكوير:8-9]. وكانوا في الجاهلية إذا لم يقتلوا البنت في صغرها يهينونها في كبرها، فكانوا لا يورثونها من قريبها إذا مات، بل كانوا يعدونها من جملة المتاع الذي يورث عن الميت، كما روى البخاري وغيره عن ابن عباس قال: كانوا إذا مات الرجل كان أولياؤه أحق بإمرأته، إن شاء بعضهم تزوجها، وإن شاءوا زوجوها، وإن شاءوا لم يزوجوها فهم احق بها من أهلها، فنزلت: يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها [النساء:19]. وكان الرجل في الجاهلية يتزوج العدد الكثير من النساء من غير حصر بعدد ويسيء عشرتهن، فلما جاء الإسلام حرم الجمع بين أكثر من أربع نساء واشترط لجواز ذلك تحقق العدل بينهن في الحقوق الزوجية قال تعالى: فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم [النساء:3].
نعم لقد جاء الإسلام والمرأة على هذا الوضع السيء، فأنقذها منه وكرمها، وضمن لها حقوقها، وجعلها مساوية للرجل في كثير من الواجبات الدينية، وترك المحرمات وفي الثواب والعقاب، وعلى ذلك قال: من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون [النحل:97]. وقال تعالى: إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات والقانتين والقانتات والصادقين والصادقات والصابرين والصابرات والخاشعين والخاشعات والمتصدقين والمتصدقات والصائمين والصائمات والحافظين فروجهم والحافظات والذاكرين الله كثيرا والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما [الأحزاب:35].
وفضل الله الرجل على المراة في مقامات، ولأسباب تقتضي تفضيله عليها، كما في الميراث والشهادة والدية والقوامة والطلاق، لأن عند الرجل من الاستعداد الخلقي ما ليس عند المراة وعليه من المسؤولية في الحياة ما ليس على المراة، كما قال تعالى: الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم [النساء:34]. وقال تعالى: وللرجال عليهن درجة [البقرة:228]. جعل الله للمرأة حقا في الميراث فقال سبحانه: للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون مما قل منه أو كثر نصيبا مفروضا [النساء:7]، جعل الله لها التملك والتصدق والاعتاق كما للرجل قال تعالى: والمتصدقين والمتصدقات [الأحزاب:35]. جعل لها الحق في اختيار الزوج فلا تزوج بدون رضاها، صانها الله بالإسلام من التبذل، وكف عنها الأيدي الآثمة، والأعين الخائنة، التي تريد الإعتداء على عفافها، والتمتع بها على غير وجه شرعي، وهكذا عاشت المرأة تحت ظل الإسلام وكرامته. أما وزوجة وقريبة واختا في الدين. تؤدي وظيفتها في الحياة ربة بيت واسرة، وتزاول خارج البيت ما يليق بها منا الاعمال إذا دعت الحاجة إلى ذلك مع الاحتشام والاحتفاظ بكرامتها ومع التزام الحجاب الكامل الضافي على جسمها ووجهها، وتحت رقابة وليها. فلا تخلو مع رجل لا يحل لها الا ومعها محرمها. ولا تسافر الا مع محرمها. هذا وضع المراة في الاسلام الذي هو دين الرحمة والكمال والنزاهة والعدل، واوصى بها نبي الاسلام عليه الصلاة والسلام وصية خاصة حين قال في حجة الوداع: ((واتقوا الله في النساء فإنهن عندكم عوان))، أي اسيرات. هذا وصف تقريبي لوضع المرأة في الإسلام.
أما وضعها في المجتمعات الكافرة، والمجتمعات التي تتسمى اليوم بالإسلام، وهي تستورد نظمها وتقاليدها من الكفار، إن وضعها اليوم في هذه المجتمعات أسوأ بكثير من وضعها في الجاهلية الأولى، فقد جعلت فيها المرأة سلعة رخيصة تعرض عارية، أو شبه عارية أمام الرجال في مواطن تجمعهم على شكل خادمات في البيوت وموظفات في المكاتب، وممرضات في المستشفيات، ومضيفات في الطائرات والفنادق، ومدرسات للرجال في دور التعليم، وممثلاث في أفلام التلفزيون والسينما والفديو، وإذا لم يمكن ظهور صورتها في هذه الوسائل جاؤوا بصوتها في الراديو مذيعة أو مطربة، وإلى جانب اظهار صورتها المتحركة في وسائل الاعلام المرئية يظهرون صورتها الفوتوغرافية في الصحف والمجلات، بل وعلى أغلفة السلع التجارية، فيختارون أجمل فتاة يجدونها ويضعون صورتها على هذه الصحف والمجلات السيارة أو على غلفة السلع التجارية؛ ليتخذوا منها دعاية لترويج صحفهم وبضائعهم، وليغروا أهل الفساد الخلقي بفسادهم وليفتنوا الأبرياء، وهكذا أصبحت المرأة سلعة رخيصة تعرض في كل مناسبة، لقد ظلموا المرأة فسلبوها حقها الشرعي فمنعوا قوامة الرجل عليها بالإنفاق والرعاية. وعزلوها من ولايتها على البيت وتربية الأولاد وتكوين الأسرة، وهكذا قطعوا عنها كل الروافد التي تعينها على أداء وظيفتها في الحياة حتى اضطروها للخروج لطلب لقمة العيش ولو على حساب عفافها وانتهاك عرضها عند كل فاجر وماجن وحملوها القيام بعمل الرجل، وخلعوا عنها لبأس الستر، وتركوها عارية مظهرة لمفاتن جسمها، تنفذها سهام الأنظار المسمومة من كل جانب، كانت على شاطئ السلامة وبر الأمان، بعيدة عن متناول الأيدي ومماسة الرجال، فقذفوها في بحار الإختلاط المغرقة عرضة للأيدي الآثمة ومطمعا للنفوس الإمارة بالسوء، حرموا ما أحل الله وأحلوا ما حرّم الله في حقها، فمنعوا تعدد الزوجات، الذي هو عين المصلحة للنساء بحيث يتحمل الرجل القوامة على أكبر قدر ممكن منهن، إذ من المعلوم أن عدد النساء في المجتمعات أكثر من عدد الرجال مع ما يعتبر الرجال ويتعرضون له من الأخطار التي تقلل عددهم، فقصروا الرجل على واحدة وتركوا البقية منهن أيامى معرضات للفساد والافساد، قد يتأكلن بأعراضهن، أو يزاولن الأعمال الشاقة مشردات عن البيوت يبحثون عن العمل الذي يعشن من ورائة ولو في بلاد بعيدة عن أو طانهن.
فيسافرن بلا محارم ويعشن غريبات بين أجانب، ويتهددهن الخطر من كل جانب، وهكذا قطع أعداء الله وأعداء الإنسانية عن هذه المرأة المسكينة كل روافد الحياة السعيدة وجردوها من كل حقوقها الإجتماعية ليكونوا منها وسيلة للفساد،وآلة للدمار. وقد تعجبون حين تعلمون أنهم مع هذه الجرائم التي إرتكبوها في حق المرأة، يدعون أنهم أنصارهم والمدافعون عن حريتها والمنادون بالمطالبة بحقوقها مغررين بها كما غرر إمامهم إبليس بالأبوين عليهما السلام حين قاسمهما: اني لكما لمن الناصحين [الأعراف:21]. ويكون العجب أكثر إذا علمتم إن من بين المسلمين أبواقا تردد مقالات هؤلاء أو بعضهما وتروجها في بعض الصحف والمجلات: كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم تشابهت قلوبهم [البقرة:118]. إنهم يرددون أقوالا قيلت من قبلهم وقد لا يدركون معناها.
أيها المسلمون: تنبهوا لدسائس اعدائكم ولمخططاتهم للقضاء عليكم، ومن أعظم ذلك موضوع المرأة الذي اتخذوه سلاحا ضدكم يشهره في وجوهكم بعض المخدوعين من أبنائكم. فأخرسوا هذه الالسن الملوثة، وحطموا هذه الأقلام المشبوهة، التي تنفث هذه السموم بينكم، واعرفوا من أين جاءت فسدوا طريقها عنكم، فإن عندكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا ولن تغلبوا، وهو كتاب الله وسنة رسوله ودين الاسلام، وليس عندهم إلا الكذب والتدجيل والخداع، فاحمدوا الله على نعمه واسالوه الثبات على دينه والسلامة من شر الفتن. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا % وآتوا اليتامى أموالهم ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم إنه كان حوبا كبيرا % وإن خفتم إلا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم إلا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمنكم ذلك أدنى الا تعولوا % وآتوا النساء صدقاتهن نحلة فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا % ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما وأرزقوهم فيها وأكسوهم وقولوا لهم قولا معروفا [النساء:1-5].
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، هدانا للإسلام، وجعلنا به خير أمة اخرجت للناس إن نحن تمسكنا به، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه، وعلى آله وأصحابه، وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله تعالى في نسائكم، فانكم مستحفظون عليهن، وأي خلل يقعن فيه فإنتم المسؤولون عنه، إننا نرى ونسمع عن وضع النساء في مجتمعنا شيئا مؤسفا ومؤذنا بخطر كبير، من ذلك التساهل في أمر الحجاب خصوصا من الشابات اللآتي اعتدن الخروج، يخرجن في ملابس ضيقة ويكشفن عن أكفهن واذرعهن وربما عن وجوههن في معارض الاقمشة وعند الصاغة ومحلات تفصيل الملابس. كأن اصحاب هذه المحلات من محارمهن. وهذا منكر لا يجوز السكوت عليه. ومنهن من تضع على وجهها غطاء شفافا لا يستر ما وراءه.
وانتم – يا عباد الله – تعلمون ما اصاب بني اسرائيل من العقوبة بسبب اهمال نسائهم. وأمر اخر فشى في مجتمعنا وهو امر مخيف وهو عزوف النساء عن الزواج بحجة أن بعضهن تريد اكمال دراستها. وبعضهن قد توظفن ولا يردن التخلي عن وظائفهن، والبعض الآخر عزف عن الزواج تأثرا بالدعايات السيئة المرئية والمسموعة التي تنفر من تعدد الزوجات ومن تزويج كبار السن. وتزويج من له والد كبير السن أو والدة. وهكذا يصورون الزواج في هذه الحالات بصورة سيئة ويتخيلون له مشاكل مكذوبة، اضافة إلى أن من الأولياء مَن يمنع موليته من الزواج بكفئها، ومثل هذا قد يبتلى بتزويج من لا يصلح لموليته خلقيا ودينيا فتحدث المشاكل، وقد كثر تشكي النساء من بعض الازواج غير الأكْفاء،فهذه تقول: إن زوجها لا يصلي أو أنه يأمرها بخلع الحجاب، وأخرى تقول: إن زوجها يريد ان يستمتع منها في المحل الذي حرمه الله، وأخرى تقول: أن زوجها يجامعها في نهار رمضان. وكل هذه الجرائم سببها عدم اختيار الكفء الصالح عند التزويج.
فاتقوا الله – أيها المسلمون – في نسائكم واحفظوا فيهن وصية الله ووصية رسوله، قال تعالى: الرجال قوامون على النساء [النساء:34]. وقال النبي- -: ((إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فانكحوه، إلا تفعلوه تكن فتنة في الارض وفساد كبير، قالوا: يا رسول الله وإن كان فيه، قال: إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه ثلاث مرات)) رواه الترمذي.
ــــــــــــــــــــ(67/111)
العناية بالأولاد
...
...
142
...
الأسرة والمجتمع
...
...
الأبناء
...
عبد الله بن صالح القصير
...
...
الرياض
...
...
...
جامع الأمير متعب
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- تربية الأولاد واجب شرعي 2- طلب الزوجة الصالحة والزوج الصالحة 3- إلحاح الزوجين في الدعاء وسؤال صلاح الولد والذريّة 4- تعليم الرسول لعمر بن أبي سلمة 5- العدل بين الأولاد
الخطبة الأولى
أما بعد، أيها الناس، اتقوا الله في جميع أحوالكم؛ فإن تقوى الله خير ما اتصفتم به في حياتكم، وتزودوا به لمعادكم، واحفظوا وصية الله لكم في أولادكم؛ فإنهم من أعظم أماناتكم: وَالَّذِينَ هُمْ لاِمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [المؤمنون:8-11].
عباد الله، يقول الله ـ تعالى ـ: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِى أَوْلَادِكُمْ [سورة النساء:11]. ويقول ـ جل ذكره ـ: ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَّ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُون [التحريم:6].
ويقول ـ سبحانه ـ: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى [طه:132].
فأوصاكم الله في أولادكم وذويكم خيراً أن تنشئوهم على الطاعة، وأن تجنبوهم المعصية، وأن تأمروهم بالصلاة، وأن تشغلوا أوقاتهم بكل ما تحمد عاقبته، وأن تؤدبوا من خالف الحق واتبع الهوى، يقول : ((مروا أولادكم بالصلاة لسبع سنين، واضربوهم عليها لعشر، وفرقوا بينهم في المضاجع))[1].
عباد الله، إن أول العناية بالأولاد وحفظ الوصية فيهم، أن يسأل كل من الرجل والمرأة ربه أن يرزقه زوجاً يكون له قرة عين، ويطلب من الأزواج مرضيَّ الخلق والدين، يقول الله ـ تعالى ـ في محكم القرآن في معرض الثناء على عباد الرحمن: وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْواجِنَا وَذُرّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً [الفرقان:74].
وذكر ـ سبحانه ـ عن موسى عليه السلام، وقد رأى من بنات الرجل الصالح الأدب والعفة والبعد عن مظان الريبة، أنه قال: رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير [سورة القصص:24]. فهذا أصل في الضراعة إلى الله ـ تعالى ـ بطلب الزوج الصالح الذي يعين على الطاعة ويصون عن القبائح، وثبت أنه قال للزوج: ((فاظفر بذات الدين تربت يداك)) [2]، وقال لأولياء المرأة: ((إذا جاءكم من ترضون دينه ... ))[3] الحديث.
عباد الله، وثاني تلك الأمور التي هي من أسباب الغبطة والسرور، أن يلح كل من الزوجين على ربهما سؤال الأولاد الصالحين، كما حكى الله عن إبراهيم الخليل أنه قال: رَبّ هَبْ لِى مِنَ الصَّالِحِينِ [الصافات:100]. وقال: رَبّ اجْعَلْنِى مُقِيمَ الصلاةِ وَمِن ذُرّيَتِى [إبراهيم:40]. وقال هو وإسماعيل: رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ [البقرة:128]. وقال ـ سبحانه ـ عن زكريا: رَبّ هَبْ لِى مِن لَّدُنْكَ ذُرّيَّةً طَيّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاء [آل عمران:38]. وقبل ذلك ذكر ـ سبحانه ـ عن الأبوين ـ عليهما السلام ـ أنهما قالا: لَئِنْ ءاتَيْتَنَا صَالِحاً لَّنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ [الأعراف:189].
فدل ذلك على أن هبة الولد الصالح من أجلِّ النعم وأسبغ ألوان الكرم، كيف لا وابن آدم إذا مات: ((انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له)) [4].
عباد الله، ومِن حفظ وصية الله في الأهل والأولاد، أن تخلص الدعاء لهم بالخير جهدك، وأن لا تدعو عليهم أبداً ولو في حال سخطك؛ فإن دعاء الوالد للولد أو عليه مستجاب كما أخبر ـ سبحانه ـ عن إبراهيم أنه دعا له ولذريته فقال: وَاجْنُبْنِى وَبَنِىَّ أَن نَّعْبُدَ الاْصْنَامَ [إبراهيم:35]. فاستجاب الله له وجعل ذريته أنبياء هداة للأنام، وفي صحيح مسلم عن جابر قال: قال رسول الله : ((لا تدعوا على أنفسكم، ولا تدعوا على أولادكم، ولا تدعوا على أموالكم، لا توافقوا من الله ساعة يسأل فيها عطاء فيستجيب لكم)) [5].
أيها الآباء وأيتها الأمهات، اعتنوا بأولادكم وربوهم تربية صالحة تكونوا من الشاكرين، ويكونوا لكم ذخرا في الموازين. ولو كانوا في حال الصغر؛ فإن العلم في الصغر كالنقش على الحجر في الثبات وبقاء الأثر، فقد صح أن الحسن بن علي ـ رضي الله عنهما ـ كان طفلاَ صغيرا يحبو على الأرض، فأخذ تمرة من تمر الصدقة فجعلها في فيه، فقال : ((كخ كخ ارم بها، أما علمت أنا لا نأكل الصدقة)) [6].
وقال عمرو بن سلمة ـ رضي الله عنهما ـ: كنت غلاما في حجر رسول الله ، وكانت يدي تطيش في الصحفة، فقال لي رسول الله : ((يا غلام، سمِّ الله ـ تعالى ـ، وكل بيمينك، وكل مما يليك)) [7]، فما زالت تلك طعمتي بعد. وقال : ((مروا أبناءكم بالصلاة لسبع سنين، واضربوهم عليها لعشر وفرقوا بينهم في المضاجع)) [8].
وأمر ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يفرق بينهم في المضاجع دفعا للمفسدة، وحذرا من الفتنة، وتنبيها للأمة على واجب الصيانة وحفظ الديانة.
أيها المسلمون، ومن حق أولادكم عليكم أن تعدلوا بينهم في العطايا، قال : ((إن لبنيك عليك من الحق أن تعدل بينهم)) [9]، وكان السلف يستحبون أن يعدلوا بين أولادهم في القبلة، وأصل ذلك أن أحد الصحابة خص أحد أولاده بصدقة وأراد أن يشهد النبي عليها فقال له النبي : ((أفعلت هذا بولدك كلهم؟)) قال: لا، قال: ((أفتحب أن يكونوا لك في البر سواء؟)) قال: نعم، قال: ((فاتقوا الله واعدلوا بين أولادكم)) [10]، وفي رواية قال : ((أشهد على هذا غيري فإني لا أشهد على جور)) [11]، وفي لفظ: ((إلاَّ على الحق)) [12]. فرجع ذلك الرجل في صدقته وعدل بين أولاده في عطيته.
ألا فاتقوا الله معشر العباد، واحفظوا وصية الله لكم في الأولاد، وتذكروا موقفكم يوم المعاد يَوْمَ لاَ يُغْنِى مَوْلًى عَن مَّوْلًى شَيْئاً وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ [الدخان:41].
بارك الله لي ولكم في القرآن، ونفعنا بما فيه من الهدى والبيان.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المؤمنين والمسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه الغفور الرحيم.
[1] صحيح ، أخرجه أحمد (2/187) ، وأبو داود (495) ، والحاكم (1/197).
[2] أخرجه البخاري ح (5090) ، ومسلم ح (1466).
[3] حسن ، أخرجه الترمذي ح (1085).
[4] أخرجه مسلم ح (3084).
[5] صحيح مسلم ح (3014).
[6] أخرجه البخاري ح (1396) ، ومسلم ح (1069).
[7] أخرجه البخاري ح (4957) ، ومسلم ح (2022).
[8] تقدم تخريجه قريباً.
[9] أخرجه أحمد (4/269) ، وأبو داود ح (3542). وفي إسناده مجالد بن سعيد الهمداني قال الحافظ: ليس بالقوي. التقريب (6520).
[10] أخرجه البخاري ح (2398) ، ومسلم ح (1623) بنحوه,
[11] أخرجه البخاري ح (2456) ، ومسلم ح (1623).
[12] أخرج هذه الرواية عبد الرزاق في مصنفه ح (16496) ولكنها مرسلة.
ــــــــــــــــــــ(67/112)
هادم البيوت (الطلاق)
...
...
180
...
الأسرة والمجتمع, فقه
...
...
الطلاق, قضايا الأسرة
...
سعود بن إبراهيم الشريم
...
...
مكة المكرمة
...
...
...
المسجد الحرام
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- كلمة الطلاق وتعظيم شأنها وأثرها. 2- تكدر المعيشة بين الزوجين فرع عن الثأرة والأنانية. 3- الزواج من ذات يذلل سبل حل المشكلات والمنازعات. 4- تربية الإسلام للزوجة على محبة وطاعة زوجها. 5- الحياة الزوجية لن تخلوا بحال من كدر. 6- دور الإعلام في إفساد الحياة الاجتماعية. 7- قوامة الرجل وحقوق المرأة. 8- أسباب لكثرة الطلاق. 9- نماذج من نساء السلف اللاتي أحسن التبعل لأزواجهن. 10 وصية الله ورسوله بالنساء.
الخطبة الأولى
أما بعد:
فيا أيها الذين آمنوا اتقوا الله، اتقوه حق التقوى، واستمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى واحذروا المعاصي، فإن أقدامكم على النار لا تقوى، واعلموا أن ملك الموت قد تخطاكم إلى غيركم وسيتخطى غيركم إليكم فخذوا حذركم. الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من اتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني.
عباد الله، يحكي واقع كثير من الناس اليوم، صوراً شتى من اللامبالاة، بقيم الألفاظ ودلالات الكلام وثمراته، ترى الكلمة تخرج من فم المرء، لا يلقي لها بالا، ربما أهوت به في مسالك الضياع والرذيلة، استحقر بعضهم حجم الكلمات، واستنكف عن معانيها، وما علم أولئك،
أن النار بالعيدان تذكى وأن الحرب مبدأها كلام.
أيها الناس، أيستغرب أحدكم لو قيل له: إن كلمة من الكلمات تكون معولا صُلبا، يهدم به صرح أسر وبيوتات؟ أيستغرب أحدكم لو قيل له: إن كلمة من الكلمات تنقل صاحبها من سعادة وهناء، إلى محنة وشقاء؟ أيستغرب أحدكم لو قيل له: إن كلمة من الكلمات تحرك أفرادا وجماعات، وتنشئ تزلفا وشفاعات، لرأب ما صدعت وجمع ما فرقت؟ أتدرون أي كلمة هذه؟
إنها كلمة أبكت عيونا، وأجهشت قلوبا، وروعت أفئدة، إنها كلمة صغيرة الحجم، لكنها جليلة الخطب، إنها كلمة ترعد الفرائص بوقعها، وتقلب الفرح ترحا والبسمة غصة، إنها كلمة الطلاق، إنها كلمة الطلاق، وما أدراك ما الطلاق؟! كلمة الوداع والفراق، والنزاع والشقاق، فلله كم هدمت من بيوت للمسلمين! وكم قطعت من أواصر للأرحام والمحبين! يالها من ساعة رهيبة، ولحظة أسيفة، يوم تسمع المرأة طلاقها، فتكفكف دموعها، وتودع زوجها! يالها من لحظة تجف فيها المآقي، حين تقف المرأة على باب دارها، لتلقي النظرات الأخيرة، نظرات الوداع على عش الزوجية، المليء بالأيام والذكريات! يا لها من لحظة عصيبة، حين تقتلع السعادة أطنابها، من رحاب ذلك البيت المسلم المبارك!
عباد الله، العِشرة الزوجية ضرب خاص من المحبة في النفس، ليس له في أنواعه ضريب، فهو الذي يسكن به الزوجان، وهو الذي يلتقي به بشران، فيكون كل منهما متمما لوجود الآخر، ينتجان بالتقائهما بشرا مثلهما وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مّنْ أَزْواجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً [النحل:72].
إن اختلال العشرة بين الزوجين، يذكي نار الفرقة، وكثرة الخصام تضرم[1] أوارها[2]، ولو أحب الأزواج أنفسهم حبا صادقا، وسكن بعضهم إلى بعض، لود كل منها الآخر، وود لأجله أهله وعشيرته؛ لأن المودة بين الزوجين سبب من أسباب سعادة العشيرة، وسعادة العشيرة للأمة المؤلفة من العشائر، المؤلفة من الأزواج، فهذا التآلف والتأليف، هو الذي يتكون من مزاج الأمة، فما يكون عليه من اعتدال وكمال، يكون كمالا في بنية الأمة واعتدالا، وقرة عين لمجموعها، وما يطرأ عليه من فساد واعتلال، يكون مرضا للأمة، يوردها موارد الهلكة، فمن لا خير فيه لأهله لا خير فيه لأمته، قال رسول الله : ((خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي)) [أخرجه الترمذي بإسناد صحيح][3].
عباد الله، لقد قال المصطفى في الحديث المشهور: ((فاظفر بذات الدين تربت يداك)) [متفق عليه][4].
هذه هي الزوجة التي يحث الشارع على تحصيلها والرضا بها، ويدعو على من أراد غيرها، وزهد فيها ورغب عنها. ومن المعلوم بداهة؛ أنه لا يرغب في الظفر بذات الدين، إلا من كان قلبه معلقا بالدين، وكانت نفسه من النفوس الزكية، ومن هذه حاله، فلا غرو أن يرزق المودة بينه وبين زوجه؛ لأنها من ثمرات المشاكلة في السجايا والصفات الفاضلة، وعلى العكس من ذلك، المشاكلة في الصفات الرديئة، والسجايا الدنيئة، فهي لا تثمر محبة، ولا تورث توددا.
قال رسول الله : ((خير متاع الدنيا المرأة الصالحة)) [رواه مسلم][5].
إنه متى كان الدين بين كل زوج وزوجته، فمهما اختلفا وتدابرا، وتعقدت أنفسهما، فإن كل عقدة من العقد لا تجيء إلا ومعها طريقة حلها ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، وهو اليسر والمساهلة، والرحمة والمغفرة، وهو العهد والوفاء، وهو اتساع الذات، وارتفاعها فوق ما تكون به منحطة أو وضيعة.
ومن كانت هذه حاله، فلن يستنكف أن يكون ممتثلا لما خوطب به من قول المصطفى : ((لو كنت آمرا أحدا أن يسجد لأحد لأمرت الزوجة أن تسجد لزوجها)) [أخرجه الترمذي وهو صحيح][6]. وقوله : ((استوصوا بالنساء خيرا)) [متفق عليه][7].
وثمرة الدين في المرأة يظهر في مثل قول عائشة ـ رضي الله عنها ـ: (يا معشر النساء لو تعلمن بحق أزواجكم عليكن، لجعلت المرأة منكن تمسح الغبار عن قدمي زوجها بحر وجهها).
فما أحمق الرجل يسيء معاشرة امرأته! وما أحمق المرأة تسيء معاملة بعلها.
أيها الناس، الطلاق كلمة، لا ينازع أحد في جدواها، وحاجة الزوجين إليها، حينما يتعذر العيش تحت ظل واحد، وإذا بلغ النفور بينهما مبلغا، يصعب معه التودد، فالواجب أن يتفرقا بالمعروف والإحسان، كما اجتمعا بهذا القصد وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلاًّ مّن سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ واسِعاً حَكِيماً [النساء:130].
إن الله ـ عز وجل ـ لم يخلق الزوجين بطباع واحدة، والزوجان اللذان يظنان، أنهما مخلوق واحد، يعيشان في أوهام؛ إذ كيف يريد منها زوجها أن تفكر برأسه، وكيف تريد هي منه، أن يحس بقلبها وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِى عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ [البقرة:228].
إن النسيم لا يهب عليلا داخل البيت على الدوام، فقد يتعكر الجو، وقد تثور الزوابع، وإن ارتقاب الراحة الكاملة نوع وهم، ومن العقل توطين النفس على قبول بعض المضايقات، وترك التعليق المرير عليها. فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً [النساء:19]. وقال رسول الله : ((لا يفرك مؤمن مؤمنة إن كره منها خلقا رضي منها آخر)) [رواه مسلم][8].
ومن يتتبع جاهدا كل عثرة يجدها ولا يسلم له الدهرَ صاحبُ
بيد أن بيوتات كثيرة فقدت روح التدين، فهي تتنفس في جو من الشراسة والنكد، واكتنفتها أزمات عقلية وخلقية واجتماعية، فقد تطلق المرأة اليوم، في رطل لحم، علق الرجل به طلاقها إن قامت بشرائه، فيخبط هؤلاء خبط العشواء[9]، ويتصرفون تصرف الحمقى؛ فيقعون في الإثم والحيف[10].
عباد الله، لقد كثر الطلاق اليوم، لما فقدت قوامة الرجل في بعض المجتمعات، إبان غفلة تقهقر عن مصدر التلقي من كتاب وسنة، وركن فئام من الناس إلى مصادر مريضة، قلبت مفاهيم العشرة، وأفسدت الحياة الزوجية، من حيث يشعرون أو لا يشعرون، وتولى كِبْرَ[11] تلك المفاهيم الإعلام بشتى صوره، من خلال مشاهدات متكررة يقعِّد فيها مفاهيم خاطئة، ومبادئ مقلوبة في العشرة الزوجية، حتى وضع الزوجات تاريخهن.
ولرب منظر يشهده ألف امرأة بمرة واحدة، فإذا استقر في وعيهن، وطافت بهنّ الخواطر والأفكار، سلبهن القرار والوقار، فمثلنه ألف مرة، بألف طريقة، في ألف حادثة، فلا تعجبوا حينئذ إذا استأسد الحَمَل، واستنوق الجمل! والعجب كل العجب، أنه في ثنايا المناقشة يقرر الإعلاميون أن دور الإعلام مع المرأة، إنما هو كالتلقيح بمصل بعض الأدواء المعدية، والتسليم بميكروبها، بزعم أنها تكسب صاحبها مناعة، تقيه من أن يعي بوبائها.
وحقيقة الأمر أنهم بالذي وضعوا زادت العقد، وإن ما يذكره الإعلاميون، هو التعرض لعدوى الوباء في عنفوان شدته، وصدق من قال:
وكانت دوائي وهي دائي بعينه كما يتداوى شارب الخمر بالخمر
والواقع ـ أيها المسلمون ـ أن داخل البيت المسلم يتأثر بخارجه، وتيارات الميوعة والجهالة إذا عصفت في الخارج، تسللت إلى الداخل، فلم ينج من بلائها إلا من عصم الله.
الحياة الزوجية حياة اجتماعية، ولابد لكل اجتماع من رئيس يرجع إليه عند الاختلاف في الرأي والرغبة، والرجل أحق بالرياسة؛ لأنه أعلم بالمصلحة، وأقدر على التنفيذ، بما أودع الله فيه من ذلك. وإن ما تتلقنه المرأة من الأجواء المحيطة بها، على منازعة الرجل قوامته، لمن الانحراف الصَّرْف، والضلال المبين.
وإن قوامة الرجل في بيته لا تعني منحه حق الاستبداد والقهر، فعقد الزوجية، ليس عقد استرقاق، ولا عقد ارتفاق لجسد المرأة، إنه أزكى من ذلك وأجل.
وكل من الزوجين بشر تام، له عقل يتفكر به، وقلب يحب به ويكره، فوجب الحق للمرأة حتى مع قوامة الرجل وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِى عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة:228]. كما أن قوامة الرجل، لا تعني استغناءه عن زوجه، فالله ـ عز وجل ـ يقول: هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ [البقرة:187].
عباد الله، لقد كثر الطلاق اليوم، لما صار المطلق أحد رجلين: إما رجل أعمل سلطته وأهمل عاطفته؛ فكان في بيته سيدا، ولكنه لم يذق طعم المحبة والسعادة، ولا عرف الصفاء والهناء. وإما رجل تبع عاطفته فأطاعها، وأهمل سلطته فأضاعها، فعاش في داره عبدا رقيقا.
لقد كثر الطلاق اليوم لما كثر الحسدة والواشون، فنكسوا الطباع، وعكسوا الأوضاع، وصيروا أسباب المودة والالتئام، عللا للتباغض والانقسام. ولربما كان لأهل الزوجين مواقف ظاهرة، بدت سببا مباشرا في كثير من الخلافات، فقد يتدخل الأب، وقد تتدخل الأم أو الأخ، أو الأخت، فيحار الزوج من يقدم؟ والديه، الذين عرفاه وليدا، وربياه صغيرا؟ أم زَوْجَهُ التي هجرت أهلها، وفارقت عشها من أجله؟ إن هذه لمُرتَقَيَاتٌ صعبة، أهونها أصعب الصعاب، وأحلاها أمرّ من المر.
إن مثل هذه التدخلات في الحياة الزوجية، لهي مكمن الخطر لدى كثير من الأسر، فما بال أولئك يهجمون على البيوت؟ فيأتونها من ظهورها، ويمزقون ستارها، ويهتكون حجابها، وينتزعون الجرائد من أكنافها، والفرائد من أصدافها، ويوقعون العداوة والبغضاء بين الأزواج. ماذا يكون أثر هؤلاء في البيوت التي تتكون منها الأمة، في الأمة المكونة من البيوتات؟! إنه لا يغيب عن فهم عاقل، أن شرهم مستطير، وأن ما يفعلونه فتنة في الأرض وفساد كبير.
عباد الله، إن العلاقات الزوجية، عميقة الجذور، بعيدة الآماد، فرحم الله رجلا محمود السيرة، طيب السريرة، سهلا رفيقا، لينا رؤوفا، رحيما بأهله، لا يكلف زوجته من الأمر شططا، وبارك الله في امرأة لا تطلب من زوجها غلطا، ولا تحدث عنده لغطا، قال رسول الله : ((إن شر الناس عند الله منزلة يوم القيامة الرجل يفضي إلى امرأته وتفضي إليه ثم ينشرها)) [رواه أبو داود][12].
وقال : ((إذا صلت المرأة خمسها، وحصنت فرجها، وأطاعت بعلها، دخلت من أي أبواب الجنة شاءت)) [رواه ابن حبان][13].
وبهذا كله، يفهم الرجل أن أفضل ما يستصحبه في حياته، ويستعين على واجباته، الزوجة اللطيفة العشرة، القويمة الخلق، وهي التي تسره إذا نظر، وتطيعه إذا أمر، ولا تخالفه في نفسها ولا مالها بما يكره، إن هذه الزوجة هي دعامة البيت السعيد، وركنه العتيد.
فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَفِظَاتٌ لّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ [النساء:34].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
[1] تضرم: توقد (القاموس ، مادة ضرم).
[2] الأُوَار: حّر النار (القاموس ، مادة أور).
[3] صحيح ، سنن الترمذي ح (3895) وقال : حسن غريب صحيح ، وأخرجه ابن ماجه ح (1977).
[4] صحيح البخاري ح (5090) ، صحيح مسلم ح (1466).
[5] صحيح مسلم ح (1467).
[6] سنن الترمذي ح (1159) ، كما أخرجه أبو داود ح (2140) ، وابن ماجه ح (1852).
[7] صحيح البخاري ح (5186) ، صحيح مسلم : كتاب الرضاع ح (60).
[8] صحيح مسلم ح (1469).
[9] يقال: خطبه خبط عشواء أي : ركبه على غير بصيرة. والعشواء: الناقة لا تبصر أمامها (القاموس ، مادة عشو).
[10] الحيف: الجور والظلم (مختار الصحاح ، مادة حيف).
[11] كِبْر الشيء: معظمه (مختار الصحاح ، مادة كبر).
[12] سنن أبي داود ح (4870) ولفظه : ((إن من أعظم الأمانة عند الله يوم القيامة ...)) وفي إسناده : عمر بن حمزة العمري. قال الذهبي في الميزان . 3/192) : وضعّفه يحيى بن معين والنسائي ، وقال أحمد : أحاديثه مناكير)). وانظر آداب الزفاف للألباني ص 142-143.
[13] صحيح ، صحيح ابن حبان (الإحسان ح 4163).
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وصفيه وخليله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا أيها الناس، إن أحدنا لتمر عليه فترات، لا يرضى فيها عن نفسه، ولكنه يتحملها، يتعلل بما يحضره من المعاذير، وإذا كان الأمر كذلك، فليكن هذا هو الشأن بين الزوجين، يلتمس كل منهما لقرينه المعاذير فإن المؤمن يطلب المعاذير، والمنافق يطلب الزلات؛ ولابد من غض الطرف عن الهفوات والزلات، حتى تستقيم العشرة،
من ذا الذي ما ساء قط ومن له الحسنى فقط
ولا شيء يخفف أثقال الحياة، وأوزار المتاعب، عن كاهل الزوجين، كمثل أحدهما للآخر، ولا شيء يعزي الإنسان عن مصابه في نفسه وغيره مثل المرأة للرجل، والرجل للمرأة؛ فيشعر المصاب منهما بأن له نفسا أخرى، تمده بالقوة، وتشاطره مصيبته.
فهذه أم المؤمنين خديجة ـ رضي الله عنها ـ زوج النبي ، كانت له في المحنة قلبا عظيماً، وكانت لنفسه كقول: (نعم)، فكأنما لم تنطق قط (لا)، إلا في الشهادتين، وما زالت ـ رضي الله عنها ـ، تعطيه من معاني التأييد والتهوين، كأنما تلد له المسرات من عواطفها، كما تلد الذرية من أحشائها؛ بمالها تواسيه، وبكلامها تسليه (كلا والله لا يخزيك الله أبدا، إنك تصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتكسب المعدوم، وتعين على نوائب الحق) [1].
وحدث أنس بن مالك ، عن أمه أم سليم، بنت ملحان الأنصارية ـ رضي الله عنهما ـ قال: مرض أخ لي من أبي طلحة، يدعى أبا عمير، فبينما أبو طلحة في المسجد، مات الصبي، فهيأت أم سليم أمره، وقالت: لا تخبروا أبا طلحة بموت ابنه، فرجع من المسجد، وقد تطيبت له وتصنعت، فقال: ما فعل ابني؟ قالت: هو أسكن مما كان، وقدمت له عشاءه، فتعشى هو وأصحابه، ثم أتما ليلتهما على أتم وأوفق ما يكون، فلما كان آخر الليل قالت: يا أبا طلحة، ألم تر إلى آل فلان، استعاروا عارية فتمتعوا بها، فلما طلبت إليهم شق عليهم، قال أبو طلحة: ما أنصفوا. قالت: فإن ابنك فلانا، كان عارية من الله فقبضه إليه، فاسترجع وحَمِد الله وقال: والله لا أدعك تغلبينني على الصبر. حتى إذا أصبح، غدا على رسول الله فلما رآه قال: ((بارك الله لكما في ليلتكما)) [متفق عليه][2].
الله أكبر! بمثل هذا فلتكن العشرة أيها الأزواج، بمثل هذا فلتكن الحياة الهانئة السعيدة، في النفس والولد والمال.
ثم اعلموا ـ رحمكم الله ـ أن لكلا الزوجين حقا على الآخر؛ فحقٌ على الزوج أن ينفق عليها، ولا يكلفها من الأمر مالا تطيق، وأن يسكنها في بيت يصلح لمثلها، وأن يعلمها، ويؤدبها، ويغار عليها، ويصونها، وألا يتخونها، ولا يلتمس عثراتها، وأن يعاشرها بالمعروف، قال رسول الله : ((استوصوا بالنساء خيرا)) [متفق عليه][3].
وسئل : ما حق امرأة أحدنا عليه؟ قال: ((تطعمها إذا طعمت، وتكسوها إذا اكتسيت، ولا تضرب الوجه ولا تُقَبِّح، ولا تهجر إلا في البيت)) [رواه أبو داود][4].
ومن حق الزوج على زوجته، أن تطيعه في المعروف، وأن تتابعه في مسكنه، وألا تصوم تطوعا إلا بإذنه، وألا تأذن لأحد في بيته إلا بإذنه، وألا تخرج بغير إذنه، وأن تشكر له نعمته عليها ولا تكفرها، وأن تدبر منزله وتهيئ أسباب المعيشة به، وأن تحفظه في دينه وعرضه. قال رسول الله : ((أيما امرأة ماتت وزوجها عنها راض دخلت الجنة)) [رواه الترمذي والحاكم][5].
هذا وصلوا ـ رحمكم الله ـ على خير البرية وأفضل البشرية...
[1] أخرجه البخاري ح (3).
[2] صحيح البخاري ح (5470) ، صحيح مسلم ح (2144) ، وأخرجه أحمد (3/105-106) واللفظ له.
[3] تقدم تخريجه أول الخطبة.
[4] صحيح ، سنن أبي داود ح (2142). وأخرجه أيضاً أحمد (4/447) وابن ماجه ح (1850).
[5] سنن الترمذي ح (1161) وقال : حسن غريب ، ومستدرك الحاكم (4/173) وقال: صحيح الإسناد ، ووافقه الذهبي. ولكن الذهبي نفسه في ميزان الاعتدال (4/95) يقول عن مساور الحميري : ((مساور الحميري عن أمه عن أم سلمة ، فيه جهالة ، والخبر منكر)) . وقال ابن حجر في التقريب (6631) : مجهول. وانظر السلسلة الضعيفة للألباني (1426).
ــــــــــــــــــــ(67/113)
المرأة بين الحجاب والتبرج
...
...
252
...
الأسرة والمجتمع
...
...
المرأة
...
منصور الغامدي
...
...
الطائف
...
20/2/1420
...
...
أبو بكر الصديق
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
- نعمة الله على عباده باللباس والرياش – التلازم بين سَتر العورة والتقوى – العلاقة بين الدعوة إلى السفور والعُرْي ومخطط اليهود – أهمية الحجاب وشروطه – مظاهر التسيّب في حجاب المرأة اليوم
الخطبة الأولى
ثم أما بعد:
أيها المسلمون، لقد امتن الله على عباده بما جعل لهم من اللباس والرياش، قال الله ـ تعالى ـ: يَابَنِى آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوارِى سَوْءتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذالِكَ خَيْرٌ.
فاللباس، لستر العورات وهي السوآت، والرياش والريش ما يتجمل به ظاهرا، فالرياش من الضروريات، والريش: من التكملات والزيادة، ولباس التقوى هو الإيمان وخشية الله. قال عبد الرحمن بن أسلم: يتقي فيواري عورته، فذاك لباس التقوى.
أيها الاخوة الكرام، إن هناك تلازم بين شرع الله اللباس لستر العورات للزينة وبين التقوى، كلاهما لباس، هذا يستر عورات القلب ويزينه، وذاك يستر عورات الجسم ويزينه، وهما متلازمان، فمن الشعور بالتقوى والحياء ينبثق الشعور باستقباح عري الجسد والحياء منه ومن لا يستحي من الله ولا يتقيه لا يهمه أن يتعرى وأن يدعو غيره إلى العري، العري من الحياء والتقوى، والعري من اللباس وكشف السوأة.
إن ستر الجسد للذكر والأنثى ليس مجرد اصطلاح وعادات وعرف بيئي، كما تزعم الأبواق المسلطة على حياء الناس والنساء وعفتهم لتدمر إنسانيتهم، إنما هي فطرة خلقها الله في الإنسان، ثم هي شريعة أنزلها الله للبشر.
ومن هنا يستطيع المسلم الواعي أن يربط بين الحملة الضخمة الموجهة إلى حياء الرجال والنساء وأخلاقهم، والدعوة السافرة لهم إلى التكشف والانحلال باسم الزينة والحضارة والتطور من جهة، وبين الخطة اليهودية لتدمير إنسانيتهم، وجعلهم يتزينون بزي الحيوانية وهي زينة التكشف والعري.
إن المسلم الحق هو الذي يمتثل قول الله ـ عز وجل ـ: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ. وقد أمر الله سبحانه إماءه بالحجاب والستر، قال ـ تعالى ـ: ياأَيُّهَا النَّبِىُّ قُل لاِزْواجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذالِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً. قال ابن عباس: أمر الله نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن في حاجة أن يغطين وجوههن من فوق رؤوسهن بالجلابيب.
إن هذا الغطاء الذي يستر الوجه والبدن هو علامة المسلمة المحتشمة التي تدين الله بالخضوع والطاعة: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصلاةَ وَيُؤْتُونَ الزكاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ.
وقد ذكر العلماء شروطا للبس المرأة المسلمة العارفة لدينها الحريصة على حيائها الأول:
أن يكون ساترا لجميع البدن، الثاني: أن يكون كثيفا غير رقيق ولا شفاف، لأن الغرض من الحجاب الستر، فإذا لم يكن ساترا لا يسمى حجابا، لأنه لا يمنع الرؤية ولا يحجب النظر.
الثالث: ألا يكون زينة في نفسه أو مبهرجا ذا ألوان جذابة يلفت الأنظار لقوله تعالى: وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا، ومعنى (ما ظهر منها) أي بدون قصد ولا تعمد، فإذا كان في ذاته زينة فلا يجوز ارتداؤه، ولا يسمى حجابا، لأن الحجاب هو الذي يمنع ظهور الزينة للأجانب، ومن هنا يعلم أن كثيرا من العباءات التي تباع الآن وفيها من الزينة ما يلفت النظر لا يجوز ارتداؤه.
الرابع: أن يكون واسعا غير ضيق ولا يشف عن البدن، ولا يجسم العورة، ولا يظهر أماكن الفتنة.
الخامس: ألا يكون الثوب معطرا فيه إثارة للرجال لقوله : ((إن المرأة إذا استطعرت فمرت على القوم ليجدوا ريحها فهي زانية))[1].
السادس: أن لا يكون الثوب فيه تشبه بالرجال لحديث أبي هريرة : ((لعن النبي الرجل يلبس لبسة المرأة، والمرأة تلبس لبسة الرجل))[2]، وفي الحديث: ((لعن الله المخنثين من الرجال والمترجلات من النساء))[3].
السابع: أن لا يشبه ملابس الكافرات، قال : ((من تشبه بقوم فهو منهم))[4]، وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: رأى رسول الله علي ثوبين معصفرين، فقال: ((أن هذه من ثياب الكفار، فلا تلبسها))[5].
وقد حذر النبي من فتنة النساء قال عليه الصلاة والسلام: ((ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء))[6] متفق عليه، ولقد عرف أعداء الإسلام أن في فساد المرأة وتحللها إفساداً للمجتمع كله.
يقول أحد كبار الماسونية: كأس وغانية تفعلان في تحطيم الأمة المحمدية أكثر مما يفعله ألف مدفع، فأغرقوهم في حب المادة والشهوات.
وقال آخر: يجب علينا أن نكسب المرأة، فأي يوم مدت إلينا يدها فُزْنا بالمراد وتبدد جيش المنتصرين للدين.
ومن حينها باتت دور الأزياء وصيحات الموضة تنسج لنساء المسلمين كل ما يخدش لحياء ويفضي إلى التهتك، من الملابس الضيقة والعارية والقصيرة والمفتوحة، وأصبحت مجلات الأزياء وغيرها توجه الفتاة المسلمة بكل خبث إلى نوع ما ترتديه من ملابس في صيف عام كذا، أو في شتاء عام كذا، حتى غدت المسلمة أسيرة لآخر الموديلات وأحدث التقليعات التي فيها تشبه بالكافرات، ومحبتهم والإعجاب بهم، وهذا قادح في كمال عقيدة المسلمة.
لحد الركبتين تشمرينا بربك أي نهر تعبرينا
كأن الثوب ظل في صباح يزيد تقلعاً حينا فحينا
تظنين الرجال بلا شعور لأنك ربما لا تشعرينا
قال : ((صنفان من أهل النار لم أرهما، قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات مائلات مميلات، رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا))[7]، ولقد تحققت نبوة رسول الله فقد وصفهن وصف المشاهد لهن، فمعنى (كاسيات عاريات): يلبس ثيابا رقيقة تصف لون الجسد أو قصيرة، فهي كاسية في الاسم عارية في الحقيقة. ومعنى (مائلات): أي زائغات عن طاعة الله، وما يلزمهن من الحياء والتستر مائلات في مشيتهن. (مميلات): أي مميلات فيرهن فيعلمنهن التبرج والسفور بوسائل متعددة، مميلات لقلوب الرجال لفعلهن، ومعنى (رؤوسهن كأسنمة البخت): أي يعملن شعورهن بلفها وتكويرها إلى أعلى كأسنمة الإبل المائلة.
وقد سئل فضيلة الشيخ محمد ابن عثيمين عن اللباس الضيق والمفتوح للمرأة فقال: هذا اللباس لباس أهل النار، كما قال النبي : ((صنفان من أهل النار لم أرهما..))، وذكر الحديث السابق، فهذه المرأة التي تلبس هذا اللباس كاسية عارية، لأن اللباس إذا كان ضيقا فإنه يصف حجم البدن ويبين مقاطعه، وكذلك إذا كان مفتوحا، فإنه يبين ما تحته، لأنه ينفتح، فلا يجوز مثل هذا اللباس، وقال ـ حفظه الله ـ في موضع آخر: أرى إنسياق المسلمين وراء هذه الموضة من أنواع الألبسة التي ترد علينا من هنا وهناك، وكثير منها لا يتلاءم مع الزي الإسلامي الذي يكون فيه الستر الكامل للمرأة، مثل الألبسة القصيرة أو الضيقة جدا أو الخفيفة، ومن ذلك لبس البنطلون فإنه يصف حجم رِجل المرأة، وكذلك بطنها وخاصرتها وغير ذلك، فلابسته تدخل تحت الحديث الصحيح السابق، فنصيحتي لنساء المؤمنين ولرجالهن أن يتقوا الله ـ عز وجل ـ، وأن يحرصوا على الزي الإسلامي الساتر وألا يضيعوا أموالهم في اقتناء مثل هذه الألبسة، أما عن حكم لبس مثل هذه الملابس عند المحارم والنساء فقال: وأما بين المرأة والمحارم فإنه يجب عليها أن تستر عورتها، والضيق لا يجوز لا عند المحارم ولا عند النساء إذا كان الضيق شديدا يبين مفاتن المرأة انتهى كلامه ـ حفظه الله ـ.
بارك الله لي ولكم...
[1] حسن، أخرجه أحمد (4/418)، وأبو داود: كتاب الترجل، باب ما جاء في المرأة تتطيب للخروج، حديث (4173)، والترمذي: كتاب الأدب، باب ما جاء عن كراهية خروج المرأة المتعطرة، وقال: حسن صحيح، وحسنه الألباني في صحيح الجامع (2698).
[2] صحيح، أخرجه أحمد (2/225)، وأبو داود: كتاب اللباس – باب في لباس النساء، حديث (4098)، والطبراني في الأوسط (988)، والحاكم: كتاب اللباس (4/194)، وصححه ولم يتعقبه، وصححه الألباني في صحيح الجامع (4971).
[3] صحيح، أخرجه البخاري: كتاب اللباس – باب إخراج المتشبهين بالنساء من البيوت، حديث (5886).
[4] صحيح، أخرجه أحمد (2/50)، وابن أبي شيبة في المصنف: كتاب اللباس – باب في لبس الشهرة حديث (4031)، وحسّن ابن حجر إسناد أبي داود، فتح الباري (10/271)، وقال شيخ الإسلام في اقضتاء الصراط المستقيم (1/240): وهذا إسناد جيد، وانظر حجاب المرأة المسلمة للألباني (ص104).
[5] صحيح، أخرجه مسلم: كتاب اللباس – باب النهي عن لبس الرجل الثوب المعصفر، حديث (2077).
[6] صحيح، أخرجه البخاري: كتاب النكاح، باب ما يُتقيى من شؤم المرأة، حديث (5096)، ومسلم: كتاب الرقاق، باب أكثر أهل الجنة الفقراء ... حديث (2740).
[7] صحيح، أخرجه مسلم: كتاب اللباس والزينة، باب النساء الكاسيات العاريات... حديث (2128).
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين ولي الصالحين، والصلاة والسلام على إمام المرسلين صاحب المقام المحمود، والحوض المورود، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
أما بعد:
أيها الاخوة الكرام، لقد شاع في هذا الزمان بين أوساط كثير من النساء محاذير شرعية في لبسهن، جعل المرأة المسلمة تنحرف عن مسارها الصحيح، هاجرة تعاليم ربها، مقبلة على أهوائها وشهواتها، إن المرأة إذا خرجت من بيتها استشرفها الشيطان وزين لها الظهور أمام الرجال بمنظر لافت، وخدعها بأن تمشي فيهم بطريقة معينة، إلى غير ذلك مما يزينه لها الشيطان.
ومما شاع أيها الاخوة الفضلاء ما رأيتموه جميعا بل كل يوم يأتينا عنه نبأ، ألا وهي العباءة لا تحمل أي شكل من أشكال الإغراء، فتارة ترى عباءة مزينة بالقيطان أو مطرزة في موضع الأكمام أو الصدر أو الظهر، أو عبارة مكتوبة عليها بالذهبي عبارات ملفتة أو العباءة الفرنسية، أو موديل الدانتيل، أو موديل التخريم وغيرها وغيرها.
ومن مشاهد الضياع في ارتداء الحجاب، ما يفعله بعض النساء من وضع العباءة على كتفها ولف الطرحة على رأسها ليبدوا قوامها ويمتشق قدها، ولا شك أيها الإخوة أن هذا الفعل فتنة للمرأة وفتنة للرجل، وقد أفتى الشيخ عبد الله بن جبرين بحرمة هذا الفعل، سئل ـ حفظه الله ـ: إنه انتشر بين نساء المسلمين ظاهرة خطيرة وهي لبس بعض النساء العباءة على الكتفين وتغطية الرأس بالطرحة والتي تكون زينة في نفسها، وهذه العباءة تلتصق بالجسم وتصف الصدر وحجم العظام ويلبسن هذا اللباس موضة أو شهرة، ما حكم هذا اللباس وهل هو حجاب شرعي؟ وهل ينطبق عليهن حديث النبي : ((صنفان من أمتي من أهل النار لم أرهما..))؟
قال ـ حفظه الله ـ: قد أمر الله النساء المؤمنات بالتستر والتحجب الكامل قال ـ تعالى ـ: ياأَيُّهَا النَّبِىُّ قُل لاِزْواجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ. والجلباب: هو الرداء الذي تلتف به المرأة ويستر رأسها وجميع بدنها، فلبس المرأة للعباءة هو من باب التستر والاحتجاب الذي يقصد منه منع الغير من التطلع ومد النظر قال تعالى: ذالِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ، ولا شك أن بروز رأسها ومنكبيها مما يلفت الأنظار نحوها، فإذا لبست العباءة على الكتفين كان ذلك تشبها بالرجال، وكان منه إبراز رأسها وعنقها وحجم المنكبين، وبيان بعض تفاصيل الجسم كالصدر والظهر ونحوه، مما يكون سبباً للفتنة وامتداد الأعين نحوها وقرب أهل الأذى منها ولو كانت عفيفة، وعلى هذا فلا يجوز للمرأة لبس العباءة فوق المنكبين لما فيه من المحذور ويخاف دخولها في الحديث المذكور السابق ذكره، انتهى كلامه ـ حفظه الله ـ.
ومن مظاهر الحجاب العصري الفاسدة المنتشرة بين كثير من الفساد بداعي التقليد والإثارة أو الجهل، ما يفعله كثير منهن من إظهار العينين وجزء من الوجه وربما اكتحلت إحداهن أو وضعت الأصباغ على وجهها لتبدوا بشكل لافت ومثير.
أيها الاخوة الكرام، إن إطلاق المرأة لبصرها تنظر في الرجال وينظرون إليها، لهو فتنة لها ولقلبها، والنساء ضعيفات سريعات التأثر، فينتج عن ذلك فتنة وفساد كبير ـ أعاذنا الله وإياكم ـ.
وقد سئل فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين عن ما يسمى بالنقاب وطريقة لبسه، ففي بداية الأمر كان لا يظهر إلا العينان فقط، ثم بدأ النقاب بالاتساع شيئا فشيئا فأصبح يظهر مع العينين جزء من الوجه مما يجلب الفتنة، ولا سيما أن كثيرا من النساء يكتحلن عند لبسه. فأجاب فضيلته: في وقتنا هذا لا نفتي بجوازه بل نرى منعه وذلك لأنه ذريعة إلى التوسع فيما لا يجوز، ولهذا لم نفت امرأة من النساء لا قريبة ولا بعيدة بجواز النقاب أو البرقع في أوقاتنا هذه، بل نرى أنه يمنع منعا باتا، وأن على المرأة أن تتقي ربها في هذا الأمر وأن لا تنتقب، لأن ذلك يفتح باب شر لا يمكن إغلاقه، فيما بعد الأسواق والحدائق الأماكن العامة.
ومن مظاهر التناقص في لبس الحجاب، أن ترى المرأة المسلمة بلبس حجابها ولكن فوق ثوب مشقوق الجانبين أو فوق تنورة مفتوحة من الخلف، وربما تلبس عباءتها فوق بنطلون يكون في بعض الأحيان ضيقا، أو تسير بين الرجال ورائحة الطيب تفوح منها، وربما تجد امرأة قد أكملت حجابها ولمت عباءتها ولكنها تتحدث مع صاحب المحل بصوت متكسر يطمع الرجال فيها.
أيها الاخوة المؤمنون، إن هذه المظاهر الشاذة في مجتمعنا المسلم المحافظ لمما يبعث على الأسى والحسرة، ولكن ما هو واجبنا كرجال ملكنا القوامة على النساء، وحملنا مسؤولية التوجيه والتربية لزوجاتنا وبناتنا؟
إن الواجب أن نتقي الله ـ سبحانه ـ أولا وآخرا، وأن ننصح لزوجاتنا وبناتنا، ونعلمهن ما هو حلال ونعينهن عليه، وما هو حرام فنزجرهن عنه، لأن الرجل هو الذي يغار على أهله ويحفظهم من نظرات الساقطين والسافلين، فلنكن أيها الاخوة رسل هداية ومنابر توجيه لأهلينا، نسأل الله أن يوفقنا وإياكم لما فيه مرضاته.
ألا صلوا وسلموا..
ــــــــــــــــــــ(67/114)
المرأة بين جاهليتين
...
...
259
...
الأسرة والمجتمع
...
...
المرأة
...
منصور الغامدي
...
...
الطائف
...
14/1/1420
...
...
أبو بكر الصديق
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
- أهمية موضوع المرأة وخطورته – المؤامرة على المرأة المسلمة – وضع المرأة قبل الإسلام ( الهند – الصين – اليهود – النصارى ) – المرأة في ظل الجاهلية الحديثة
الخطبة الأولى
أما بعد:
فيا أيها الاخوة الكرام: أجد من الأهمية أن أتحدث عن موضوع يهم كل إنسان فينا، وكل شخص فينا تربطه علاقات حميمة مع موضوعنا، لأنه لا يمكن بحال من الأحوال أن ينفصل عنه كما أنه موضوع تساهل في النظرة إليه بجدية ثلة غير قليلة من الناس، واستغله فئة ماكرة فغدت تعيث فسادا .
إن موضوعنا يا عباد الله هو المرأة، نعم المرأة التي هي الأم والأخت ،البنت، والزوجة، فنحن محاطون بهذا المربع الصالح النافع، مما يجعلها مدار اهتمام المسلم .
أيها الاخوة الفضلاء : إن المرأة المسلمة هي أم المستقبل ومربية الليوث القادمة، والحصن المنيع ضد تيارات الفساد والتدمير، بل إنها نموذج الصبر والتضحية، إنها قبس في البيوت مضيء، وجوهرة تتلألأ .
ولكن لم يكن لأصحاب تيار الرذيلة والانحراف يد من نسف الحياة الطيبة التي تعيشها المرأة المسلمة في ظل دينها وإسلامها فأصبحت وسائل الإعلام بمختلف أنواعها توجه المرأة وغدت المنظمات الدولية والمؤسسات الحقوقية تتسابق في توجيه المسلمة وتعريفها بمسؤولياتها وواجباتهم وتتباكى على حال المرأة المسلمة ، بل زوجة الرئيس الأمريكي أصبحت تقوم بدور التوجيه للمرأة المسلمة من أجل ذلك كان لا بد من الحديث عن المرأة التي شرفها الإسلام وأكرمها .
أيها الاخوة المسلمون : وبضدها تتميز الأشياء، لنقف على نافذة التاريخ، لننظر كيف كانت المرأة تعيش، وأي منزلة ترتقي، وما هو دورها في الحياة، قبل أن تشرق عليها شمس رسالة محمد التي نزل بها الروح الأمين من عند رب العالمين .
فنجد الهنود في شرائعهم أنه : ليس الصبر المقدر، والريح والموت، والجحيم، والسم والأفاعي، والنار أسوأ من المرأة، ولم يكن للمرأة عندهم حق الاستقلال عن أبيها أو زوجها أو ولدها، فإذا مات هؤلاء جميعا وجب أن تنتمي إلى رجل من أقارب زوجها وهي قاصرة، طيلة حياتها، ولم يكن لها حق بعد وفاة زوجها، بل يجب أن تموت يوم موت زوجها، وأن تحرق معه وهي حية على موقد واحد .
أما في الصين : فللرجل حق بيع زوجته كالجارية، وإذا ترملت المرأة الصينية أصبح لأهل الزوج الحق فيها كثروة، وللصيني الحق في أن يدفن زوجته حية .
والمرأة عند الغرب مباح الزواج منها سواء أكانت أما أو أختا أو عمة أو خالة، إن بنتا للأخ، أو بنتا للأخت .
أما اليهود فكانوا يعتبرون المرأة لعنة، لأنها أغوت آدم، وعندما يصيبها الحيض لا يجالسونها ولا يؤاكلونها ولا تلمس وعاء حتى لا يتنجس.
أما حال المرأة عند الأمم النصرانية: فقد قرروا أن الزواج دنس يجب الابتعاد عنه، وأن العزب أكبر عند الله من المتزوج وكان الفرنسيون في عام 586م، يعقدون مؤتمرا يبحثون فيها هل تعد المرأة إنسانا أم غير إنسانا، وهل لها روح أم ليس لها روح، وإذا كانت لها روح هي روح حيوانية أم روح إنسانية وإذا كانت روحا إنسانية، فهل على مستوى روح الرجل أم أدنى منها، ويعد المداولات والمشاورات قرروا أنها إنسان، ولكنها خلقت لخدمة الرجل فحسب .
وتذكر بعض المصادر أنه قد شكل مجلس اجتماعي في بريطانيا خصيصا لتعذيب النساء ،و ذلك سنة خمسمائة، وألف من الميلاد، وكان من ضمن مواده: تعذيب النساء وهن أحياء بالنار.
وكان القانون الإنجليزي حتى عام 1805م يبيح للرجل أن يبيع زوجته وقد حدد ثمن الزوجة لستة بنسات .
هكذا كانت المرأة تعيش الذل والاضطهاد والاحتقار والبخس والتعذيب عند الأمم قبل الإسلام.
وتعالى معي لنرى كيف كان حالها في ظل الجاهلية العربية، ما هو موقعها، وأي قدر لها في النفوس .
لم تكن المرأة تأخذ شيئا من الإرث، كانوا يقولون لا يرثنا إلا من يحمل السيف، ويحمي البيضة، وكانوا إذا مات الرجل وله زوجته وأولاد من غيرها كان الولد الأكبر أحق بزوجة أبيه من غيره، فهو يعتبرها إرثا كبقية أموال أبيه .
ومن العادات القبيحة التي ذمها القرآن عادة وأد البنات قال تعالى: قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفهاً بغير علم وحرموا ما رزقهم الله افتراء على الله قد ضلوا وما كانوا مهتدين ، فكانت بعض القبائل تئد البنات والأولاد خشية الفقر، وبضعهم يئدها خشية العار، أو ما عسى أن يصيبها من ذل أو سباء.
روي أن رجلا من أصحاب رسول الله كان لا يزال مغتما بين يدي رسول الله فقال له رسول الله : ((مالك تكون محزونا، فقال: يا رسول الله إني أذنبت ذنبا في الجاهلية، فأخاف ألا يغفر الله وإن أسلمت، فقال له: أخبرني عن ذنبك، فقال : إني كنت من الذين يقتلون بناتهم فولدت بنت، فتشفعت لي امرأتي أن أتركها، فتركتها حتى كبرت، وأدركت، وصارت من أجمل النساء، فخطبوها، فدخلتني الحمية ولم يحتمل قلبي أن أزوجها، أو أتركها في البيت بغير زوج، فقلت للمرأة، إني أريد أن أذهب إلى قبيلة كذا وكذا في زيارة أقربائي، فابعثيها معي، فسرت بذلك وزينتها بالثياب، والحلي، فأخذت علي المواثيق بأن لا أخونها، فذهبت إلى رأس البئر فنظرت في البئر، ففطنت الجارية أني أريد أن ألقيها فالتزمتني وجعلت تبكي وتقول: يا أبت ماذا تريد أن تفعل بي فرحمتها، ثم نظرت في البئر فدخلت علي الحمية، ثم التزمتني وجعلت تقول: يا أبت لا تضيع أمانة أمي، فجعلت مرة أنظر في البئر، ومرة أنظر إليها وأرحمها، حتى غلبني الشيطان، فأخذتها وألقيتها في البئر منكوسة وهي تنادي في البئر، يا أبت قتلتني، فمكثت هناك حتى انقطع صوتها، فرجعت، فبكى رسول الله وأصحابه: وإذا الموءودة سئلت بأي ذنب قتلت . هذا هو حال المرأة في الجاهلية العربية، قبل الإسلام، منزوعة الرحمة من القلوب وعدت المرأة من سقط المتاع، قد ضلوا وما كانوا مهتدين .
أقول قولي هذا واستغفر الله العظيم . .
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، صلوات ربي وسلامه على المبعوث رحمة للعالمين، وآله وصحبه أجمعين .
وبعد:
أيها الاخوة الكرام: لا يزال الحديث موصولا عن واقع المرأة في ظل ثقافات وأفكار بعيدة عن الإسلام، واسمحوا لي أن أقفز عبر سنين التاريخ القديم والأوسط لأنقل لكم بعض مشاهد الحياة التي تعيشها المرأة، لقد جاءت الحضارة الغربية ورفعت شعارات براقة شعار تحرير المرأة، ومساواتها بالرجل، وعدم كبتها أو التحكم فيها، في ظل هذه الشعارات المزعومة خرجت المرأة من بيتها نعم، وتحررت من كل شيء لا يوافق هواها، فعاشت شقاء ولا يدانيه شقاء، واصطلت بنار هذه الحرية الشوهاء، المزعومة، لقد كتبت تقارير وإحصاءات، مذهلة عما تعانيه المرأة في الغرب فكان ما يلي:
لقد شاعت الفاحشة شيوعا لم يسبق له مثيل، فقد كان أول طوفان تحرير المرأة، لقد اكتسح الغرب التحرير، فلم يتعد مزاولة الفاحشة أجارنا الله وإياكم، مقصورة على دور البغاء، بل تجاوزت ذلك إلى الفنادق والمقاهي الراقصة والمنتزهات و على قارعة الطريق، ولم يعد من الغريب ولا الشاذ أن يقع الأب مع بناته، والأخ مع أخته، بل لقد أصبح ذلك في الغرب شائعا ومألوفا .
وأصبحت الخيانة الزوجية ظاهرة عامة، ففي أمريكا نسبة واحدة من كل أربع نساء أمريكيات تخون زوجها، فالمرأة تخون زوجها والرجل يخون زوجته مما أدى إلى الطلاق وتفكك الأسر وتبعثرها .
لقد غدت صورة الرجل في نظر المرأة أنه وحش مفترس يستأسد على من هو أضعف منه، إنه طفل، ويمكن أن يعتبر بطاقة للحصول على الرزق، كثير من النساء يبدين خوفهن، وقلقهن من الجانب العنيف في الرجال، وينظر الرجل إلى المرأة على أنها قطة متوحشة، يقول سلفستر ستالون :عندي كل الأسباب الوجيهة التي تجعلني أكره النساء .
أما الاغتصاب فإن معدله في الولايات المتحدة وحدها يزيد عن مثيلاتها في اليابان وإنجلترا وأسبانيا بعشرين ضعفا .
أما التفكير في الانتحار في ظل الرفاهية المزعومة، والحرية، وحقوق المرأة التي ينادون بها في الغرب، فإن أربعا وثلاثين بالمئة من النساء يفكرن في الانتحار، أما الأمراض التي ظهرت بسبب الفاحشة والشذوذ فقد انتشر الزهري، والسيلان وهما مرضان خيطران في قمة الأمراض الخطيرة في الغرب، وجاء دور الإيدز يقول جيمس باترسون مؤلف كتاب (يوم أن اعترفت أمريكا بالحقيقة): مئات الآلاف من الأمريكيين يكونون علاقات جنسية في كل ليلة من ليالي الأسبوع مع أشخاص يعتقدون أنهم مصابون بهذا المرض، ثم يقول : إن استقراء سريعا، لإحصائيات هذه الدراسة يشير إلى أن هناك ما نسبته، 2.2 مليون أمريكي على يقين بأنهم مصابون بمرض الإيدز، وسبعة ملايين يعتقدون أنهم في خطر كبير من الإصابة بهذا المرض، ومعظم هؤلاء المصابين بالإيدز أو الذين هم في خطر كبير بالإصابة به هم أشخاص أسوياء وغير شاذين، فكم تكون النسبة بين الشاذين ؟
أخي الكريم: تأمل معي فظاعة الأرقام التي سوف أنقلها إلى سمعك عن العنف بوسائل متعددة ضد المرأة في أكثر البلاد حضارة في أمريكا، ثلثا حوادث الاعتداء بالضرب ضد النساء تصدر من أقاربهن والباقي من غير الأقارب .
28 ثمانية وعشرين من حالات الاعتداء الجسمي على النساء تصدر من الزوج والصديق، و35 من أقارب كالأخ ولأب.
بلغ عدد حالات الاعتداء على النساء عام 94م أكثر من 572 ألف حالة وعلى الرجال 49ألف حالة، وفي عام 1965م كان ملجأ واحدا في أمريكا للنساء المعتدي عليهن، أما في عام 1995م فقد ارتفع عدد الملاجئ إلى 1500ملجأ .
هكذا أيها الاخوة الكرام تعيش المرأة في ظل الجاهليات وإنه لشيء حتمي بسبب البعد عن الله، وهكذا تعيش المرأة المتحضرة المتحررة التي يسعى المنافقون والعلمانيون وأصحاب الشهوات أن نساؤنا وبناتنا حياة ضنكا كما عاشت، وأن تصطلي بنار البعد عن الإسلام، وأن تغدو معذبة محطمة تفكر في الانتحار كل يوم وتعاني صنوف القسوة كل ذلك باسم الحرية، والمساواة والتقدم والانفتاح والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلاً عظيماً .
إنها الحرية العرجاء والتي ينادون بها، ويدعون إليها، يريدون إخراج المرأة من عفافها، من شرفها، من دينها، من مملكتها الأسرية، وجنتها الزوجية، مدعيين أنها في سجن وأن جلبابها هو خيمة سوداء ترتديها وأنها جاهلة ومتخلفة، ولن تعرف العلم حتى تلحق بركاب المرأة الغربية وتحذو حذوها: كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذباً ، والحديث متصل بمشيئة الله عن تكريم الإسلام للمرأة في الخطبة القادمة .
ــــــــــــــــــــ(67/115)
الإحسان بالوالدين
...
...
164
...
الأسرة والمجتمع
...
...
الوالدان
...
محمد بن علي السعوي
...
...
بريدة
...
...
...
جامع الراشد
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- فضيلة بر الوالدين 2- تقديم بر الوالدين على الجهاد 3- آداب للابن تجاه والديه 4- البر إنما يكون فيما خالف هواك 5- التحذير من كفران حق الوالدين 6- التحذير من تقديم أمور الزوجة على الوالدين 7- العقوق ذنب عقوبته في الدنيا قبل الآخرة 8- صور من بر السلف بوالديهم
الخطبة الأولى
أما بعد:
فيا أيها المسلمون: اتقوا الله تعالى، وأحسنوا ان الله يحب المحسنين.
معشر المسلمين: لقد أمر الله تعالى بالإحسان بالوالدين فقال تعالى بعد الأمر بعبادته وحده: وقضى ربك ألا تعبدوا إلا أياه وبالوالدين إحساناً إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولاً كريماً واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيراً [سورة الإسراء:22-24].
والإحسان بالوالدين – أيها المسلمون – يتضمن كل عمل من أعمال البر نحو الوالدين مع البعد عن كل ما يؤذيهما، وذلك من الشكر لهما، قال تعالى: أن اشكر لي ولوالديك [سورة الإسراء:24]. فلتكن أيها المسلم شاكرا لله ولوالديك بأن تطيعهما وتخدمهما، لأنهما بذلا من أجلك النفس والنفيس والصحة والراحة، فعليكم بالإحسان بهما لتكون من البارين.
أيها المسلمون: إن بر الوالدين يعتبر من أحب الأعمال إلى الله وأفضلها بعد الصلاة، سئل النبي – -: أي العمل أحب إلى الله، وفي رواية: أي العمل افضل، قال: ((الصلاة على وقتها، قيل: ثم أي؟ قال: بر الوالدين، قيل: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله)). رواه البخاري ومسلم – عليهما رحمة الله -.
فبر الوالدين مقدم حتى على الجهاد في سبيل الله، مما يدل على عظيم حق الوالدين، ليعرف المسلمون فضل والديهم وقدرهما، ولهذا جاء رجل إلى النبي – - يستأذنه في الجهاد فقال: ((أحي والدك؟ قال: نعم قال: ففيهما فجاهد)).
وفي رواية لمسلم: ((أقبل رجل إلى النبي – - فقال أبايعك على الهجرة والجهاد ابتغي الأجر من الله – عز وجل – قال: فهل من والديك أحد حي؟ قال: نعم، بل كلاهما، قال: فتبتغي الأجر من الله – عز وجل –؟ قال: نعم، قال: فارجع إلى والديك فأحسن صحبتهما)).
أيها المسلم: إن من الجهاد في الوالدين القيام بخدمتهما والإنفاق عليهما، خاصة إذا كنت قادرا وهما لا يستطيعان، وطاعتهما بحيث تكون رهن إشارتهما فيما يأمرانك به أو ينهيانك عنه، فإنهما أنصح لك من نفسك، فضلا عن رفاقك وجلسائك فلتستمع إلى توجيهات أبويك، ولتطعهما في المعروف وإذا أمرك أحدهما، فقل كما قال إسماعيل لأبيه إبراهيم – عليهما السلام -: يا أبت افعل ما تؤمر [سورة الصافات:102]. وعليك أن تخاطب والديك بلطف وأدب وأن تشاورهما في أعمالك وأمورك، وأن تكثر من الدعاء والاستغفار لهما، وأن لا ترفع صوتك عليهما، ولا تنظر إليهما بغضب أو احتقار، ولا ترفع يدك عليهما عند تكليمهما، ولا تقاطع حديثهما، ولا تجادلهما، ولا تكذب عليهما، ولا تسافر إلا بإذنهما ورضاهما، فإن ذلك من البر والإحسان بهما.
أيها المسلم: ومن البر بوالديك أن تقول لهما قولا كريما، أي حسنا طيبا مصحوبا بالتقدير والاحترام، وأن تخفض لهما جناح الذل من الرحمة في كل قول أو عمل تقوم به نحوهما، سواء أحببته أم كرهته، من غير ضجر ولا جدل ذلك أن كثيرا من الأولاد يظنون أن البر والإحسان بوالديهم هو فيما يوافق رغباتهم وما تهواه نفوسهم، والحق أن البر لا يكون إلا فيما يخالف أهواءهم وميولهم، ولو كان فيما يوافقها فقط لما سمي برا، فإذا علم أبوك أو أمك أيها الولد بسفرك مثلا إلى بلد ما أو مصاحبة رفقة ما، ونهياك عن ذلك أو نهياك عن السهر على اللهو واللعب، وكرهت نهيهما لأنه يخالف هواك، وسافرت واتبعت هواك وخالفت نهيهما، فقد اسأت إليهما ولم تحسن إليهما وعققتهما ولم تبر بهما، وإذا أمرك أبوك أو أمك أو جدك أو جدتك بمعروف أو بفعل خير وكرهت ذلك ولم تنفذه، فقد عصيتهم ولم تحسن إليهم وليس أصعب على الوالدين من أن يرفض الولد لهما طلبا أو يعصي لهما أمراً، إن والديك أيها المسلم هما أرحم الناس بك ومن اعذر الناس لك، فكم تخطئ على والديك وهما يصفحان عنك! يشقيان في هذه الحياة لتسعد، ويتعبان لتستريح يعطيانك من غير منٍّ ولا أذى، وهما يرجوان حياتك، وأنت إن أطعتهما وخدمتهما، فإنك تمن عليهما بذلك وترجوا موتهما.
أيها الشاب المسلم: يا من اشترى له أبوه أو أمه سيارة ولم يشكر الله ولا لوالديه، ألا تخشى عقوبة الله العاجلة؟! لقد تعاون والدك على شراء السيارة لك من أجل راحتك وتحقيق رغبتك، أفيكون الجزاء هو الكفر بالنعمة وعصيان أمر الوالدين وعدم الإلتفات عما ينهيانك عنه من مجالس السوء ومصاحبة الأشرار والسهر بالليل خارج الدار؟! فاتق الله واحذر من التعرض لغضب والديك، ومن ثم يدعوان عليك فينزل الله بك غضبه ويحل عليك نقمته، وأنت أيها الولد يا من تلح على أبويك بشراء سيارة، وأبواك يرفضان طلبك كن سامعا لأبويك فإنهما أدرى بالأحوال منك، ولا يرجوان لك إلا الخير، ولا يسعيان إلا لمصلحتك، فإنهما يخافان عليك ما دمت في هذه السن المبكرة، فاصبر وكن مطيعا لوالديك مجتهدا في أرضائهما ولا تسمع من الأصدقاء حثهم لك على المطالبة.
وأنت أيها الصديق اتق الله في أولاد المسلمين فلا تزجهم في المهالك بل كن ناصحا أمينا وخلاً تقياً، أيها الولد كن سامعا لوالديك، ممتثلا لأمرهما، ومجتنبا لنهيهما، فإذا نهاك أبوك عن الزيادة في الاهتمام بملابسك ومظهرك خوفا عليك فانتهِ، وقل سمعاً وطاعة ولتكن معتدلا في شأنك كله، وقد قيل:
وأطع أباك بكل ما أوصى به إن المطيع أباه لا يتضعضع[1]
بقي أنت أيتها الأم الحنون، احذري من الإلحاح على الأب من أجل شراء السيارة للولد، فكم حصل بسبب تلبية رغبة الولد من المصائب والمعائب ما الله به عليم .
أيها الشاب المسلم: احذر من عقوق أمك والإساءة إليها، فلقد أوصى النبي – - بالأم أكثر مما أوصى بالأب، وذلك لعظم حقها على أولادها، جاء رجل إلى النبي – - فقال من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: ((أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك؟ قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أبوك))[2].
إن أمك أيها المسلم لها حق عليك عظيم، فعليك أن تحسن صحبتها وأن تبرها ما استطعت إلى ذلك سبيلا، فإن ذلك سبب لسعادتك في الدنيا والآخرة، فبادر قبل فوات الأوان، إن كانت أمك موجودة قبل أن تضيع عليك الفرصة، قال ابن عباس – رضي الله عنهما -: ((إني لا اعلم عملا أقرب إلى الله من بر الوالدة))، وعن رفاعة بن أياس قال: ((رأيت الحارس والعكلي في جنازة أمه يبكي، فقيل له: تبكي! قال: ولم لا أبكي وقد أغلق عني باب من أبواب الجنة))[3].
وقال هشام بن حسان: قلت للحسن: إني أتعلم القرآن، وإن أمي تنتظرني بالعشاء، قال الحسن: تعش العشاء مع أمك تقر به عينها، فهو أحب إلي من حجة تحجها تطوعا[4].
أيها المسلمون: إن بعض الناس يسمع لزوجته، ويلبي مطالبها ويسعى لمرضاتها، وهذا حسن، ولكنه يسيء إلى أمه، فيهملها ولا يسأل عنها، ولا يجلس معها، وربما يسمع ما يقال فيها من قِبَل زوجته وأولاده فيغضب عليها ويتمنى فراقها، وهذا من أعظم العقوق والعياذ بالله، بل الواجب أن يسعى الإنسان إلى إرضاء والدته ولو غضب كل الناس، عليك أيها المسلم أن تمنع أولادك من أذية أمك بقول أو فعل، وألا تقبل بحال من الأحوال شكوى زوجتك نحو أمك، بل عليك بحض زوجتك على إحترام أمك والصبر على ما قد يصدر منها، فإن في ذلك خيرا كثيرا وبرا وفيرا، نسأل الله تعالى أن يوفقنا إلى البر بوالدينا والإحسان بهم، كما نسأله سبحانه وتعالى أن يغفر لوالدينا وأن يرحمهم يعفو عنهم، إنه هو البر الرحيم.
[1] لا يتضعضع أي لا يذل ولا يفتقر .
[2] رواه البخاري.
[3] بر الوالدين / لابن الجوزي :ص48.
[4] بر الوالدين / لابن الجوزي :ص48.
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي حكم بالخسران على العاقين بوالديهم وهم لا يظلمون، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يعلم ما تبدون وما تكتمون، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله – - وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا أيها المسلمون: اتقوا الله تعالى واعلموا أن البر والعقوق دين ووفاء، فإذا أطعت أيها المسلم والديك أطاعك أولادك، وإذا أكرمت والديك أكرمك أولادك، وبالعكس إذا توليت عن والديك وأعرضت عنهما سلط الله عليك من ذريتك من لا يراعي فيك عهدا ولا يحفظ لك وداً ولا يقيم لك وزناً ولا يعرف لك حق أبوة ولا واجب بنوة جاء في الحديث: ((بروا آباءكم، تبركم أبناؤكم)).
أيها المسلم: احذر عقوبة الله نتيجة لعقوقك، قال النبي – -: ((كل الذنوب يؤخر الله تعالى ما شاء منها إلى يوم القيامة، إلا عقوق الوالدين، فإن الله يعجله لصاحبه في الحياة قبل الممات))[1].
وقال النبي – -: ((رغم أنفه رغم أنفه رغم أنفه، قيل: من يا رسول الله؟ قال: من أدرك والديه عند الكبر أو أحدهما، ثم لم يدخل الجنة)).
وقال عمر بن عبد العزيز – رحمه الله -: (لا تصحب عاقا لوالديه، فإنه لن يبرك وقد عق والديه). فاحذر أيها المسلم من العقوق وتضييع الحقوق، قال عمر – -: ((إبكاء الوالدين من العقوق)) وقال مجاهد – رحمه الله -: ((لا ينبغي للولد أن يدفع يد والده إذا ضربه، ومن شد النظر إلى والديه لم يبرهما، ومن أدخل عليهما ما يحزنهما فقد عقهما))، وسئل كعب الأحبار عن العقوق فقال: ((إذا أمرك والدك بشيء فلم تطعمهما، فقد عققتهما العقوق كله))[2].
أيها المسلمون: وإليكم هذه النماذج من أحوال البررة بوالديهم لعلها تكون لنا عظة وأسوة، قال النبي – -: ((دخلت الجنة فسمعت قراءة))، فقلت: من هذا؟ فقيل: حارثة بن النعمان، فقال النبي – -: ((كذلك البر وكان برا بأمه))[3]. رحمه الله، قوله كذلك البر: أي مثل تلك الدرجة تنال بسبب البر، وذكر عنه أيضا أنه كان لا يستفهم أمه كلاماً تأمره به، حتى أنه ليسأل من عندها بعد أن يخرج، يقول ماذا أرادت أمي؟.
وكان الفضل بن يحي بارا بأبيه، وكان أبوه لا يتوضأ إلا بماء ساخن، فمنعه السجان حينما كان في السجن من الوقود في ليلة باردة فلما أخذ الأب مضجعه من النوم، قام الفضل إلى إناء من النحاس مملوء بماء فأدناه من المصباح حتى استيقظ والده فتوضأ بالماء الساخن، وروي أن السجان منعه من تسخين الماء بالمصباح، فعمد الفضل إلى الإناء فأخذه في فراشه والصقه بأحشائه حتى أصبح وقد فتر الماء. وكان ابن سيرين – رحمه الله – لا يكلم أمه بكل لسانه إجلالا لها. وقيل لعمر بن ذر – رحمه الله -: كيف كان بر إبنك، قال: ما مشيت نهارا قط إلا مشى خلفي، ولا ليلا إلا مشى أمامي، ولا رقى سطحا وأنا تحته.
وروى البخاري – رحمه الله – في صحيحه قصة الثلاثة الذين أووا إلى الغار وأنطبقت عليهم الصخرة، فدعوا الله بصالح أعمالهم، ثم فرج عنهم، ومنهم الذي قال: ((اللهم إني كان لي أبوان شيخان كبيران ولي صبية صغار كنت أرعى عليهم فإذا رحت عليهم فحلبت، بدأت بوالدي أسقيهم قبل ولدي وإنه نأى بي الشجر فما أتيت حتى أمسيت، فوجدتهما قد ناما فحلبت كما كنت أحلب، فجئت بالحلاب فقمت عند رأسيهما أكره أن أوقظهما من نومهما وأكره أن ابدأ بالصبية قبلهما والصبية يتضاغون عند قدمي فلم يزل ذلك دأبي ودأبهم حتى طلع الفجر))[4]. وعن محمد بن سيرين قال: بلغت النخلة في عهد عثمان بن عفان – - ألف درهم، قال: فعمد أسامة بن زيد – رضي الله عنهما – إلى نخلة فعرقها فأخرج جمارها فأطعمه أمه، فقالوا: ما يحملك على هذا وأنت ترى النخلة قد بلغت ألف درهم، والجمار لا يساوي درهمين، قال: إن أمي سألتنيه ولا تسألني شيئا أقدر عليه إلا أعطيتها[5].
أيها المسلم: يا من مات والداه أو أحدهما وقد قصر ببرهما في حياتهما وندم على ما فرط وخاف من عاقبة العقوق، اعلم أن باب الإحسان بهما مفتوح وبإمكانك أن تدرك شيئا ولو قليلا من البر بعد موتها لعل الله تعالى أن يعفو عنك ويرضى عنك والديك، من ذلك الدعاء لهما بالمغفرة والرحمة والصدقة عنهما وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما، وإكرام أصدقائهما وإنفاذ عهدهما، فإن هذه الأعمال مما يفرح به الوالدان بعد موتهما لتخفيف ما عليهما من سيئات وزيادة في الحسنات، وقد ورد في بعض الأحاديث: ((إن العبد ليموت والده أو أحدهما وإنه لهما لعاق فلا يزال يدعو لهما ويستغفر لهما حتى يكتبه الله بارا))[6].
عباد الله: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً .
اللهم وفقنا لصلة الرحم وبر الوالدين، وأرحمنا برحمتك يا أرحم الراحمين.
[1] رواه مسلم .
[2] البر بالوالدين لابن الجوزي.
[3] رواه النسائي.
[4] رواه البخاري :7/70.
[5] صفة الصفوة :1/522.
[6] رواه البيهقي في شعب الايمان
ــــــــــــــــــــ(67/116)
فضل رعاية البنات
...
...
1315
...
الأسرة والمجتمع
...
...
الأبناء, المرأة
...
وجدي بن حمزة الغزاوي
...
...
مكة المكرمة
...
...
...
الملك فهد
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- رعاية البنات حجاب للمرء من النار وأمان يوم القيامة وسبب لدخول الجنة. 2- الشروط التي يحصل بها هذا الأجر(الإيواء والكفاية والرحمة).3-إيواؤهن ،أنواعه وصوره. 4- رحمتهن،أنواعها وصورها. 5-كفايتهن، وأنواع ذلك.6-بين خيار الجاهلية والإسلام
الخطبة الأولى
حديثنا اليوم إن شاء الله وقدره سيكون حول عمل صالح، يفوز من يؤديه على وجه وبشروطه بثلاثة أمور:
أولها: يُحْجب عن النار، فلا يدخلها.
ثانيها: يحشر يوم الفزع الأكبر مع المصطفى .
ثالثاً: تجب له الجنة، بل ويكون فيها مع النبي .
فما أعظم هذا الأجر، وما أجلّ هذا الثواب، الذي لا يحرمه إلا محروم.
وهذا الجزاء العظيم أيها المؤمنون مقيد بشروط، لابد للحصول عليه أن تؤدى شروطه وتكمل جوانبه.
فما هو هذا العمل، وما هي شروطه؟
فأقول مستعيناً بالله عز وجل:
هذا العمل أيها المؤمنون:
هو رعاية البنات، والقيام عليهن وعلى مصالحهن، وهذا شأن ديننا مع المرأة يكرمها ويصونها ويحفظها ويرغب الرجال في الجنة وعظيم الثواب، إن هم قاموا على رعايتها وحفظها.
فما أعظم نعم الله عز وجل على بنات حواء، وما أكثر ما يكفرن بها وينكرنها!!.
يقول المصطفى في الحديث المتفق على صحته من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها: ((من ابتلي من هذه البنات بشيء فأحسن إليهن كُنّ له ستراً من النار)).
ويقول أيضاً: ((من كان له ثلاث بنات فصبر عليهن وكساهن من جدته كن له حجاباً من النار)).
فهذا هو الجزاء الأول، الذي تناله يا عبد الله، ستر وحجاب من النار، فمن زحزح عن النار وادخل الجنة فقد فاز.
جعلني الله وإياكم من الفائزين.
وأما الجزاء الثاني وهو الحشر مع النبي فعن أنس قال، قال رسول الله : ((من عال جاريتين حتى تبلغا جاء يوم القيامة أنا وهو كهاتين وضم أصابعه)) [رواه مسلم].
وأما الجزاء الثالث: فتأمل معي هذه النصوص:
عن جابر: ((من كان له ثلاث بنات يُؤويهن ويكفيهن ويرحمهن فقد وجبت له الجنة البتة، فقال رجل بعض القوم: وثنتين يا رسول الله، قال: وثنتين)) [أحمد / والبخاري في الأدب المفرد].
عن أبي سعيد: ((لا يكون لأحد ثلاث بنات أو ابنتان أو أختان فيتقي الله فيهن ويحسن إليهن إلا دخل الجنة)).
عن أنس قال: قال رسول الله : ((من كان له أختان أو ابنتان فأحسن إليهن ما صحبتاه كنت أنا وهو في الجنة، وفرق بين إصبعيه)).
فما أعظم هذا الأجر، وما أجلّ هذه المنزلة؟
ولكنها قيدت بقيود ثقال ومهمّات شاتة، تحتاج إلى جهاد وصبر حتى يحققها العبد، فيفوز بهذا الجزاء والأجر.
وتأمل قوله : ((من ابتلي من هذه البنات بشيء))، فسماهن بلية، قال القرطبي في تفسيره سماهن بلاءً لما ينشأ عنهن من العار أحياناً.
فما هي هذه الشروط والقيود التي قُيّد بها هذا الأجر العظيم؟!
الشروط اجتمعت في قوله : ((فأحسن إليهن)).
فالإحسان إلى البنات إحساناً يوافق الشرع، هو الشرط الجامع والقيد الأكبر.
وجاءت الروايات التي استمعتم إليها مفصلة هذا الإجمال، ومبينة له أيما بيان:
فقال : ((يؤويهن ويكفيهن ويرحمهن)).
قال الحافظ: وهذه الألفاظ يجمعها لفظ الإحسان.
فما معنى الإيواء؟ّ! وما المراد بكفايتهن ؟! وكيف نرحمهن؟!
أما الإيواء، فيكون على ثلاثة أحزب:
أولها: إيواؤها إلى أم صالحة، تكون قدوة لها فأول الإيواء، إيواء البنات إلى أم صالحة تقية عفيفة تصونهن وتحفظهن.
أما سمعت نصيحة المصطفى : ((فاظفر بذات الدين تربت يداك)).
ثانيها: إيواؤها في خدرها، في بيتها تعليمها أن تقر في بيتها ولا تخرج منه إلا لضرورة أو حاجة أو قربة أو طاعة ((يشهدن الخير ودعوة المسلمين)).
وهذا معنى قوله تعالى: وقرن في بيوتكن فأمر النساء بالقرار في البيت، فهو أستر لهن وأحفظ لحياتهن.
وانظر رحمك الله كيف أضاف الله عز وجل البيوت إلى النساء في ثلاثة مواضع من كتابه مع أنها تابعة لأوليائهن، فقال تعالى: واذكرن ما يتلى في بيوتكن .
وقال: لا تخرجوهن من بيوتهن وقال: وقرن في بيوتكن فاحرص على تربية بناتك على القرار في البيوت، وعليك بالحزم فإنه أنفع لدينهن وأعز لك في الدنيا والآخرة.
ثالثها: الإيواء إلى بيت عامر بالذكر والطاعة والعمل الصالح، فبعض النساء لا يخرجن من البيت؟! ولكن بيوتهن عامرة بشياطين الإنس والجن، بيوت لا يحتجب فيها النساء من الرجال الأجانب، فأولادهم والعمة والخال، والخالة من الطوافين الولاجين، لا غطاء ولا حجاب.
والسائق والخادم، كأنه قد شاركهن الرضاعة يدخل على نساء الدار دون حجاب، فدار كهذه لا تصلح أن تكون مأوى، بل هي دار تهتك فيها الأعراض.
وبعض النساء لا يخرجن من البيوت، ولكن بيوتهن عامرة بأجهزة الفساد، وقنوات الغناء والزنا فتتعلم الحرام وتشاهده وتسمعه، وتفتن في دينها وتضل وتفسد، أكثر مما لو كانت في الأسواق والأرصفة.
فهل هذا إيواء يا عباد الله؟!
إن الإيواء الحقيقي يكون في خدر ساتر يحافظ على عرضك ويصونه.
لبيت تخفق الأرواح فيه أحب إليّ من قصر منيف
ولبس عباءة وتقر عيني أحب إليّ من لبس الشفوف
((من كان له ثلاث بنات يؤويهن ويكفيهن ويرحمهن فقد وجبت له الجنة البتة)).
كان هذا هو الإيواء؟ فما المراد بقوله : ((يكفيهن؟!)).
المراد، قد فسره في رواية مسلم بقوله: ((من عال جاريتين حتى تبلغا)) قال النووي رحمه الله: عالهما قام عليهما بالمؤونة والتربية.
ويفسره أيضاً قوله : ((وكساهن من جدته)).
نعم عباد الله، كفاية المرأة حاجاتها الضرورية من طعام ولباس ومؤنة من الواجبات ومن أعظم القربات التي يشتغل بها الرجال.
يكفيهن هذه الأمور، فلا يحتجن إلى الخروج من الدار للعمل والكسب؟! يكفيهن هذه الضرورات فلا يفكرن في المعصية والانحراف؟ّ!
يكفيهن، ولم يقل يطغيهن، كما يفعل بعض الآباء – هداهم الله – فيبالغ في توفير طلبات ابنته، كلما اشتهت اشترى لها، وكلما صاحت تطلب أمراً، سارع بخيله ورجله مستجيباً لها مطيعاً أمرها، حتى إن بعض الآباء، اشترى لبناته في المرحلة المتوسطة جوالاً؟!
وأخرى لها سائق خاص وسيارة خاصة؟!
إن هذا الإغداق مهلك للفتاة موجب لقصر حياتها الزوجية، فما أن تنتقل هذه الفتاة إلى دار زوجها، وتفقد هذا الدلال إلا وتنشز على بعلها وتفتقد ما نشأت عليه.
ورحم الله أحد مشايخنا، كان يقتصر على نوعين من الفاكهة يقول: أخشى أن يتعودن على الأصناف المتعددة فتزوج إحداهن بفقير فتزهقه، تقول أبي كان يفعل كذا وكذا، ويشتري كذا وكذا.
وفي الطرف الآخر، نجد من الرجال من يقصر على النساء في تلبية ضروراتهن، بل ويصيح فيها: لماذا لا تخرجين وتعملين مثل فلانة؟!
فيضجر بتلبية حاجاتها وكفايتها. والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواماً.
القيد والشرط الثالث: الذي يندرج تحت معنى الإحسان إلى البنات، قوله وبرحمهن فما هي حقيقة الرحمة؟! وما المراد بها!!
المعنى الذي يتبادر إلى الذهن أول وهلة، هو المعنى الظاهر والعام للرحمة يرحمهن: أي يعطف عليهن ويشفق عليهن ولا يضربهن إلى غير ذلك من معاني الرحمة. ولا شك أنّ هذا حق. ولكن الرحمة الحقيقية بالبنات معاشر المؤمنين تتمثل في أمرين:
الأول: رحمتهن، بالسعي والعمل الجاد على تجنيبهن النار وبئس القرار. وذلك بتربيتهن على شعائر الإسلام وإقام الصلاة والحجاب والستر والعفاف. يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة.
فالرجل الذي يعطف على بناته ويدللهن ويحسن إليهن مادياً ومعنوياً ثم هو لا يأمرهن بصلاة أو صيام ولا ستر أو حجاب، فهذا جبّار، عدو مبين. لأنه لم ينصح لهن ولم يأخذ بأيديهن وحجزهن ويبعدنهن عند النّار.
فهذه هي الرحمة الحقيقية معاشر المؤمنين، يقول : ((إنما مثلي ومثل أمتي كمثل رجل استوقد ناراً فجعلت الدواب والفراش يقعن فيه، فأنا آخذ بحجزكم وأنتم تقتحمون فيه)).
النوع الثاني من الرحمة: رحمة غرائزهم ومشاعرهن فمن الآباء من لا يرحم مشاعر بناته ولا يراعي غرائزهن فيدخل في بيته ما يثير الشهوات ويحرك المشاعر، ويدفع إلى الفجور والبغاء، من مجلات هابطة وقنوات ساقطة، فترى الفتاة مناظر تحرك الجبال، فتقع في صراع داخلي بين شهوتها وغريزتها وبين دينها وخوفها من ربها، والبعض منهن ممن لا دين لها تصارع غريزتها وخوفها من العار والعادات، ثم لا يلبث داعي الشهوة والغريزة أن ينتصر ويتغلب ويأخذ بناصية المسكينة إلى شفا النار وغضب الجبَّار.
ما قولكم برجل يعرض ألذ المأكولات على بناته وهن جياع ثم لا يطعمهن، أرحيم هو أم جبّار؟!
إنّ غريزة الجنس، أشد وأقوى من غريزة حب الطعام والشراب. فالجائع أقل شيء يسد ريقه، وأمّا صاحب الشهوة، فإمّا أن يطفئها بالحلال أو بالحرام.
ومن مظاهر عدم رحمة مشاعر البنات، تأخير زواجهن حتى يبلغن سناً، يزهد فيه الشيوخ فضلاً عن الشباب وتذهب سنون هذه المسكينة حسرات عليها، وذلك بسبب تعنت والدها أو حتى كبْره، الذي يمنعه من عرضها على الأخيار والصالحين.
فاتقوا الله معاشر المؤمنين وأحسنوا إلى بناتكم.
واعلموا أنّ الأجر العظيم الذي استمعتم إليه مقيد بهذه القيود الثقال وهي يسيرة لمن يسرها الله عليها مقدورة على من اجتهد وحرص.
والله ولي التوفيق.
الخطبة الثانية
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد
فهذه صورة واحدة من صور شتى كرّم بها الإسلام المرأة ورفع قدرها. وأي رفعة وتكريم أعظم وأرفع من ترغيب الرجال بالجنة والحشر مع المصطفى وشرهم من النار إن هم أحسنوا إلى البنات، وقاموا عليهن بالرعاية الكاملة.
فما أزهد نساء اليوم في الإسلام، وما أكفرهن بهذه النعم، وما أعظم إحسان الشرع إليهن؟! يردنها جاهلية عمياء، تسير على خطى الجاهلية الأولى التي وصفها ربنا بقوله: وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسوداً وهو كظيم يتوارى من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب ألا ساء ما يحكمون.
فأخبر جل وعلا أن أهل الجاهلية الأولى كانوا يغتمون ويحزنون إذا بشّر أحدهم بالأنثى، ويضع هذا الجاهل لنفسه حلين لا ثالث لهما:
أيمسك هذه الأنثى ويبقيها على هون وذل، لما يتوقع منها ويفترض من عار وخزي.
أم يدسها ويدفنها في التراب ويرتاح من شرها .
فحكم الله عز وجل على هذين الخيارين بقوله: ألا ساء ما يحكمون.
والمرأة المسلمة، التي كرمها ربها وحماها وحث الرجال ورغبهم على حمايتها، تريد خطى الجاهلية.
تريد من يسلك بها مسالك الهوان والتبرج والسفور التي كان يقشعر منها جسد الأعرابي الجاهلي؟!
تريد أن تدس وتدفن، لا في تراب طاهر نقي، بل في أوحال الرذيلة والفاحشة.
ألا ساء ما يحكمون.
فاتق الله يا أمة الله، وكوني فخورة بهذا التكريم، وتذكري أن من أواخر ما تلفظ به المصطفى قبل أن يفارق الدنيا: ((استوصوا بالنساء خيراً)).
فأمرنا وأوصانا بك خيراً، فكوني خير معين لأوليائك على أداء هذه المهمة العظيمة، واعلمي أن عزك ومجدك وشرفك في تمسكك بدينك.
اللهم أصلح لنا ديننا. . .
ــــــــــــــــــــ(67/117)
حوادث السيارات
...
...
1456
...
الأسرة والمجتمع
...
...
قضايا المجتمع
...
عبد الرحمن بن عبد العزيز السديس
...
...
مكة المكرمة
...
17/8/1417
...
...
جامع الفرقان
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- إحصائية من حوادث السيارات في المملكة. 2- جاد سلفنا بأرواحهم ولكن في الجهاد في سبيل الله. 3- معارك الإسلام الفاصلة في عهد النبوة لم يسقط فيها مائة شهيد في حين ندفع في كل يوم بعشرة قتلى وآلاف الريالات. 4- حرمة دم المسلم ومسئولية الأرواح والمحافظة عليها. 5- أسباب كثرة الحوادث.
الخطبة الأولى
أما بعد:
فيا عباد الله: ثلاثة آلاف وسبع مائة وتسعة وثمانون قتيلاً، وواحد وثلاثون ألفا وثلاثة وثلاثون جريحا بجراح كثير منهم جراح بالغة، تلكم هي نتائج حوادث السيارات في المملكة في العام الماضي ألف وتسع مائة وخمس وتسعين للميلاد حسب الإحصائية الصادرة من الإدارة العامة للمرور، والتي نشرتها جريدة الشرق الأوسط في اليوم الثامن من شهر رجب من هذا العام وذكرت الإحصائية أن عدد حوادث السيارات مائة وثلاثة وعشرون ألف حادث وفي دارسة أخرى نشرتها الجريدة نفسه تذكر أن الحوادث المرورية في المملكة تكلف سنويا أكثر من ثمانية عشر ألف مليون ريال شملت الخاسر المادية في الممتلكات العامة والخاصة الناجمة عن الحوادث وكذلك تكاليف العلاج في المستشفيات والمدة التي يقضها المصاب في المستشفى حيث كشفت الدوائر أن ثلث أسرة المستشفيات في المملكة مشغولة بمصاب الحوادث المرورية وكذلك الخسائر الناتجة من التلف في المرافق العامة مثل الطرق والأرصفة والإشارات المرورية والسياجات المعدنية والأشجار وغيرها وكذلك المرتبات التي تصرف لأسرة المتوفي والمصاب وغير ذلك مما يشكل مجموعة أكثر من ثمانية عشر مليار ريال سنويا وبينت الدراسة أنه خلال الخمسة والعشرين عاماً الماضية وصل عدد القتلى في الحوادث المرورية ما يقارب خمسة وستين ألف قتيل ونصف مليون جريح، واعتمدت هذه الدراسة على الإحصائية الرسمية للإدارة العامة للمرور وإحصائيات المتشفيات والجهات الحكومية ذات العلاقة بموضوع الدراسة، وأضافت الإحصائية إلى أن عدد المخالفات في العام الماضي وصلت إلى مليون ونصف مليون مخالفة كان أكثرها يتعلق بتجاوز السرعة القانونية وتجاوز الإشارة الضوئية. انتهى.
فيال هول ما قرأنا ورأينا وسمعنا، إن لغة الأرقام حين تنطق تذهل السامع وتخرس المجادلين لا سيما إن كانت من قوم صادقين ولا مصلحة لهم في الكذب والتزوير قريباً من أربعة آلاف قتيل وأكثر من واحد وثلاثين ألف جريح كلهم حصاد مائة وثلاث وعشرين ألف حادث سيارة في عام واحد، خمسة وستون ألف قتيل وأكثر من نصف مليون جريح حصاد ربع مليون قرن مضت، ثمانية عشر مليار ريال التكلفة السنوية لحادث السيارات، ثلث أسرة المستشفيات يرقد عليها ضحايا حوادث السيارات يا لهول الأرقام وضخامتها، ويا ويحنا ونحن نجني مغبتها لو شئت لأقسمت باراً غير حانثاً أنه ما من أحد من الحاضرين معنا الآن إلا وله قريب أو حبيب أو صديق أو نسيب أو معرفة فذهب ضحية حوادث السيارات إما بموت أو إعاقة أو جراحة أو خسارة في نفسه أو ماله، فهلا كان ذلك باعثا لنا على التأمل والاعتبار؟ إلى هذا الحد تساهلنا بأرواحنا في هذا المضمار.
لقد جاد وأصحاب محمد بأنفسهم عن طوع واختيار لا عن كره وإضطرار ولكن في غير هذا المضمار بل في نصره العزيز الجبار حين ناداهم بقوله سبحانه: إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعداً عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم وبقوله سبحانه: انفروا خفافاً وثقالاً وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون فنفروا في سبيل الله مجاهدين ولشرعه ناشرين وعن دينه ذابين، فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين والله يحب الصابرين، كانت الحسرة تأخذ أحدهم أن لا يكون قتل في أرض المعركة شهيداً وما ذاك إلا لأن أهدافهم واضحة وغايتهم نبيلة وسعيهم مشكور وعملهم مبرور في مجاهدة كل كفور، فكان واحدهم يجود بالنفس إن ضن البخيل بها، والجود بالنفس أغلى غاية الجود، فقاتلوا وقتلوا وصابروا وصبروا، ولولاهم ما كان في الأرض مسلموا.
جاهدوا مع نبي الله عشرة أعوام في أرض المعارك وقتل منهم في سبيل نشر الدين وإعلاء كلمة الله عدد كبير لكنهم أقل من حوادث السيارات في أعوام عشرة في بلد واحد من بلاد المسلمين اليوم، إن ضحايا غزوة بدر وأحد والخندق وهي من معارك الإسلام الفاصلة لا يتجاوزون مائة شهيد عامتهم في أحد، وهم سبعون شهيداً، فبدر يوم الفرقان يوم التقى الجمعان وأحد تلك المدرسة الإيمانية والعسكرية والتربوية العظية أنزل الله في شأنها تسعة وخمسين آية والخندق التي قال النبي : ((بعدها اليوم نغزوهم ولا يغزونا)) فما جرؤا على غزوة بعدها كل أولئكم لا يتجاوز حصيلة شهدائها مائة شهيد ومثلها فتح مكة وغيرها كثير.
إن أول درس يجب أن نعيه من هذه الأرقام هو أننا أحيانا نستكثر حين نُدعى للإنفاق، نستكثر الإنفاق لنصرة الدين الإنفاق بكل معانيه إنفاق الوقت وإنفاق النفس وإنفاق الجهد وإنفاق المال ها أنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله فمنكم من يبخل ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه والله الغني وأنتم الفقراء وإن تقولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم نستكثر الإنفاق حين نُدعى إليه ونشح ونبخل ذاهلين أن ما قدر الله ذهابه منك فهو ذاهب شئت أم أبيت فخير لنا أن نبادر بالبذل والعطاء من أموالنا وأنفسنا وجهدنا وعلمنا ومالنا وكل ما منّ الله به علينا لنصرة هذا الدين وإعلاء كلمته ونشره لأهل الأرض قاطبة، فهو خير لنا في دنيانا وأخرانا.
ودرس آخر ينبغي أن نعيه ونتساءل لماذا كل هذه الأرقام وكل هذه الضحايا ومن المتسبب فيها وهل المتسبب يأثم عند الله إثم قاتل النفس الوارد في قوله تعالى: ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذاباً عظيماً. وفي قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((لزوال الدنيا أهون على الله من قتل رجل مسلم)) وفي رواية: ((لزوال الدنيا أهون على الله من قتل رجل مؤمن من غير حق)).
وفي قوله فيما صح عنه: ((لو أن أهل السماء والأرض اشتركوا في دم مؤمن لكبهم الله عز وجل في النار)) وهل من تسبب في قتل نفسه يلحقه الإثم الوارد في قوله : ((من قتل نفسه بحديدة، فحديدته في يده يجأ بها في بطنه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً)).
وهل من قتل في هذه الحوادث مظلوما بخطأ مروري اقترفه غيره هل يشمله قوله حين عد الشهداء من أمته وذكر منهم بقوله: ((والهدم شهيد)) وفي رواية: ((وصاحب الهدم شهيد)) ومهما يكن من شيء فإن الذي ينبغي أن نعيه ويعيه كل مسلم عاقل هو مسئوليته أمام الله عن نفسه التي بين جنبيه، إن نفسك يا عبد الله أمانة عندك لا يحل لك إزهاقها، فمن فعل فقد أتى جرماً عظيماً ينال عليه في الآخرة عذاب أليماً إلا أن يتوب الله عليه، ونفس غيرك عليك حرام إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا آلا هل بلغت؟ اللهم فأشهد أي والله لقد بلغ ولكن أين من يتعظ، صح عنه صلى الله عليه وآله وسلم: ((لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث الثيب الزاني والنفس بالنفس والتارك لدينه المفارق للجماعة)) هذا في النفس أما المال فهو حرام صح عنه : ((لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه)) فتأمل يا عبد الله كم من الأثام ستجني حين تفرط في أسباب السلامة فينتج من تفريطك قتل نفس بغير حق أو إتلاف للأملاك أو الأموال الخاصة أو العامة وكلها مما حرم الله إتلافه بغير حق وكم من الحسرة ستلاحقك طوال حياتك إن كان قلبك حي، حين تسبب في قتل عائل لإسرة كاملة ينتظره الشيخ الكبير والعجوز والطفل الصغير، فتكون سببا في هلاكهم وحرمانهم باستهتارك أو تفريطك بالأخذ في أسباب السلامة، نعم إن ما قدره لابد أن يكون ولكن حين يقع القدر، وقد عملت الأسباب يرحمك كل محب ويشفق عليك كل صديق ويعوضك الله خيراً.
ولكن حين يقع القدر وأنت مفرط بالأخذ بالأسباب تكون موضع اللوم والعتب في الآخرة والأولى، إن الله سبحانه وتعالى حين قال: ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله وقال: ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها حين قال ذلك قال معه: وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير فلنعي هذا جيداً ولنحذر التفريط فما ندم من عمل بالأسباب نفعني الله وإياكم بهدي كتابه وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فيا عباد الله إن عامة أسباب الحوادث يمكن تلافيها، فمنها تسليم السيارات لأطفال السن أو أطفال العقول، وقد رأينا هذا في هذه الأيام كثيرة ويعبثون بها بالتفحيط والتطعيص وغيرها من الأسماء التي عبروا بها عن عبثهم واستهتارهم بأنفسهم وبالآخرين، فهلا حزمنا أمرنا وكنا صارمين مع من ولانا الله رعايتهم فنمنعهم من القيادة إن رأينا منهم عبثا، ونسمح لهم بها إن أنسنا منهم رشداً.
ومن أسباب الحوادث النعاس حال القيادة ثم النوم، وهو أمر ممكن تلافيه بالوقوف والنوم ثم الاستيقاظ وإكمال المسير، ولكننا كثيراً ما نتساهل في الجرم مع أنفسنا في هذا الأمر فتقع أمور شنيعة وحوادث مريعة كان في وسعنا تلافيها لو أخذنا بأسباب السلامة.
ومن أسباب الحوادث السرعة الزائدة عن حد السيطرة على المركبة، ولست أريد تحديد رقم معين للسرعة، فلكل مقام مقاس، ولكل مركبة حد، ولكل سائق قدرة، ولكنني المنبغي في كل حال أن نلتزم بالسرعة المحددة، فهي أسلم إن شاء الله.
ومنها الصيانة الدورية للمركبة وتعاهدها وتعاهد إطارتها وعامة أمورها فهو أدعى للسلامة من الحوادث.
ومنه الالتزام بالإشارات المرورية فما وضعت إلا لضبط السير وتلافي الحوادث، وأكثر الحوادث هو بسبب تجاهلها أو تجاوز السرعة المعقولة.
وأسباب السلامة كثيرة وأصحاب الاختصاص من رجال المرور وغيرهم يعرفون منها ما لا نعرف ويرشدون بما يرون أنه أدعى لإبعاد الناس على الحوادث ومن طلب أسباب السلامة وجدها، والعاقل من وعظ بغيره.
اللهم صلِ وسلم وبارك على عبدك ورسولك نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
سبحانك ربنا رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين
ــــــــــــــــــــ(67/118)
الحقوق العامة للمرأة في الإسلام
...
مراد بن أحمد القدسي
... ...
1527
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية اضف إلى رف الخطب
ملخص المادة العلمية
1- الحقوق الإنسانية للمرأة. 2- الحقوق الاقتصادية للمرأة. 3- الحقوق الاجتماعية للمرأة. 4- الحقوق القانونية للمرأة.
1- حقوق الإنسانية:
1. حق الحياة: ولا تقتلوا النفس التي حرم الله وإذا الموؤدة سئلت بأي ذنب قتلت.
2. حق الكرامة: ولقد كرمنا بني آدم.
3. المساواة مع الذكر في الجزاء الدنيوي والأخروي: فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض.
ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيراً.
4. حق أبداء الرأي والمشاورة: قصة أم سلمة في الحديبية.
قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله.
2- الحقوق الاقتصادية: تملك، وتبيع، وتشتري.
3- الحقوق الاجتماعية:
أولاً: الحقوق الاجتماعية المعنوية:
أ - العشرة الحسنة هو ما جاء في حديث عائشة قالت: قال صلى الله عليه وسلم ((ليس أحد من أمتي يعول ثلاث بنات أو ثلاث أخوات فيحسن إليهن إلا كن له ستراً من النار)).
ووصينا الإنسان بوالديه إحساناً.
ب - حق التعليم: أوصى الرسول بتعليمهن قال صلى الله عليه وسلم:((ألا تعلميهن هذه – أي حفصة - رقية النملة كما علمتيها الكتابة)) [رواه أبو داود].
وروى الدارمي بسنده قال: قال صلى الله عليه وسلم ((إن خيركم التي تسأل عما يعنيها)).
وروى الترمذي من حديث أنس: قال: قال صلى الله عليه وسلم ((طلب العلم فريضة على كل مسلم)).
ج- حق اختيار الزوج روى البخاري: قال: قال صلى الله عليه وسلم ((الثيب أحق بنفسها من وليها، والبكر يستأذنها أبوها في نفسها، وإذنها صماتها)).
روى البخاري عن خنساء بنت خدام: زوجها أبوها وهي ثيب فكرهت، فرد الرسول نكاحها. وروى نحوه أحمد في جارية بكر.
د- حق طلب الفرقة لسبب مشروع:
ثانيا: الحقوق الاجتماعية المادية:
1- حق النفقة:روى البخاري: قال: قال صلى الله عليه وسلم ((خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف)).
وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف.
2- حق الميراث: للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون مما قلّ منه أو كثر نصيباً مفروضاً.
3-حق المهر: وآتوا النساء صدقاتهن نحلة.
4-حق الاستمتاع: للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر فإن فاءوا فإن الله غفور رحيم وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم.
قال صلى الله عليه وسلم ((إن لأهلك عليك حقاً)).
5-حق الرضاعة: والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة.
6- حق الحضانة: روى أبو داود: قال: قال صلى الله عليه وسلم ((أنت أحق به ما لم تنكحي)).
7-حق نفقة المعتدة.
8- حق المرأة في العمل روى البخاري ومسلم من حديث ابن عمر قال: قال صلى الله عليه وسلم ((والمرأة راعية في بيت زوجها)).
4- الحقوق القانونية في الدعاوي والشهادات.
أين تعمل المرأة؟
في مجال التعليم، في مجال الطب لبني جنسها، في دور الحضانة، في معامل خياطة. ... ما يتلاءم وحشمتها.
شروط العمل:
1- تقوى الله. 2- تلتزم بالحجاب. 3- تبتعد عن الاختلاط. 4- لا يؤثر على عملها في بيتها. 5-أن يكون العمل مباحاً. 6- إذن وليها.
ــــــــــــــــــــ(67/119)
صلة الأرحام
...
مراد بن أحمد القدسي
... ...
760
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية اضف إلى رف الخطب
ملخص المادة العلمية
1- منزلة صلة الأرحام في دين الإسلام. 2- كيف يصل المرء رحمه. 3- فضل صلة الرحم. 4- عقوبة قطع الرحم.
- من معالم البعثة:
روى الشيخان عن أبي سفيان في حديثه الطويل مع هرقل، وفيه أن هرقل قال له: ((فماذا يأمركم؟ قال: اعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئاً واتركوا ما يقول آباؤكم ويأمرنا بالصلاة والصدق والعفاف والصلة)).
2- يوصي بها في كل خطبة: يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجلاً كثيراً ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيباً.
روى ابن حبان وروى أنس مرفوعاً: ((أرحامكم أرحامكم)).
ابن عساكر عن ابن مسعود مرفوعاً: ((اتقوا الله وصلوا أرحامكم)).
وروى ابن حبان عن أبي هريرة مرفوعاً: ((أطب الكلام وأفش السلام وصل الأرحام وصلّ بالليل والناس نيام ثم ادخل الجنة بسلام)).
منزلة صلة الرحم عند رب العالمين:
وفي الحديث المتفق عليه من حديث أبي هريرة مرفوعاً: ((إن الله تعالى خلق الخلق حتى إذا فرغ منهم قامت الرحم، فقالت: هذا مقام العائذ بك من القطعية قال: نعم، أما ترضين أن أصل من وصلك واقطع من قطعك؟ قالت: بلى، قال: فذلك لكِ))، ثم قال الرسول: ((اقرؤوا إن شئتم فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم)).
روى أحمد عن ابن عباس مرفوعاً: ((إن الرحم شجنه آخذه بحجزة الرحمان تصل من وصلها وتقطع من قطعها)).
روى البخاري عن أبي هريرة مرفوعاً: ((الرحم شجنه من الرحمن قال الله: من وصلك وصلته، ومن قطعك قطعته)).
روى مسلم عن عائشة: قالت: قال صلى الله عليه وسلم ((إن الرحم أخذت بقائمة من قوائم العرش)).
((الرحم معلقة بالعرش تقول: من وصلني وصله الله، ومن قطعني قطعه الله)).
روى أحمد وأبو داود من حديث أبي هريرة مرفوعاً: ((قال الله تعالى: أنا خلقت الرحم، وشققت لها اسماً من اسمي، فمن وصلها وصلته، ومن قطعها قطعته، ومن بتها بتته)).
كيف يكون صلة الرحم؟
1- معرفة النسب - تصبح قريبة بالصلة.
روى الحاكم عن ابن عباس مرفوعاً: ((اعرفوا أنسابكم تصلوا أرحامكم فإنه لا قرب بالرحم إذا قطعت وإن كانت قريبة ولا بعد بها إذا وصلت وإن كانت بعيدة)).
2- بالأفعال:
وفي قصة أبي طلحة في الصحيحين وقد تصدق بستانه فقال : ((بخ ذلك مال رابح، ذلك مال رابح، وقد سمعت ما قلت، وإني أرى أن تجعلها في الأقربين، قال أبو طلحة: أفعل يا رسول الله، فقسمها في أقاربه وبني عمه)).
في الحديث المتفق عليه زينب زوج ابن مسعود قال الرسول : ((تصدقن يا معشر النساء ولو من حليكن)) قالت امرأة عبد الله بن مسعود فقلت: لعبد الله: سلْ رسول الله : امجزئ عني أن أنفق عليك وعلى أيتام في حجري من الصدقة؟ فقال: سلي أنتِ رسول الله ، فانطلقت فوجدت بلالاً فقالت له: سل رسول الله ايجزئ أن أنفق على زوجي وأيتام في حجري؟ فسأله، فقال : ((لهما أجران أجر القرابة وأجر الصدقة)).
3- بالإحسان إليها:
روى مسلم من حديث أبي ذر مرفوعاً: ((ستفتحون مصر وهي أرض يسمى فيها القيراط، فاستوصوا بأهلها خيراً فإن لهم ذمة ورحماً)).
روى الترمذي عن البراء بن عازب مرفوعاً: ((الخالة بمنزلة الأم)).
وفي الحديث المتفق عليه عن ميمونة: ((اعتقت وليدة قال: أما إنك لو أعطيتها أخوالك كان أعظم لأجرك)).
4- النصيحة:
وروى مسلم عن أبي هريرة: لما نزلت وأنذر عشيرتك الأقربين، دعا رسول الله قريشاً فعمّ وخصّ وقال: ((يا بني عبد شمس يا بني كعب بن لؤي: أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني مرة بن كعب.. يا بني عبد مناف.. يا بني هاشم.. عبد المطلب.. يا فاطمة.. فإني لا أملك لكم من الله شيئاً غير أن لكم رحماً سأبُلها ببلالها)).
5- السلام:
وفي مسند البزار عن ابن عباس مرفوعاً: ((بلوا أرحامكم ولو بالسلام)).
6- مقابلة الإساءة بالإحسان:
روى البخاري عن عبد الله بن عمرو مرفوعاً: ((ليس الواصل بالمكافئ، ولكن الواصل إذا قطعت رحمه وصلها)).
روى مسلم عن أبي هريرة مرفوعاً: ((أن رجلاً قال: إن لي قرابة أصلهم ويقطعونني، وأحسن إليهم ويسيئون إلي، وأحلم عنهم ويجهلون علي فقال: لئن كنت كما قلت: فكأنما تسفُّهم المل، ولا يزال معك من الله ظهير عليهم)).
وقال : ((صل من قطعك، وأحسن إلى من أساء إليك، وقل الحق ولو على نفسك)).
فضائل صلة الرحم:
وفي مسند أبي يعلى عن رجل من خثعم مرفوعاً: ((أحب الأعمال إلى الله إيمان بالله ثم صلة الرحم ثم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر..)).
روى البخاري عن أبي هريرة أن رسول الله قال: قال الله: ((أما ترضين أن أصل من وصلك)).
روى أحمد والترمذي عن أبي هريرة: قال: قال صلى الله عليه وسلم ((تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم، فإن صلة الرحم محبة في الأهل مثراة في المال منسأة في الأثر)).
وقال ابن مسعود مرفوعاً: ((صلة الرحم تزيد في العمر، وصدقة السر تطفئ غضب الرب)).
وروى أحمد وأبو داود عن أبي هريرة: قال: قال صلى الله عليه وسلم ((وإن أعجل الطاعة ثواباً لصلة الرحم، حتى إن أهل البيت ليكونوا فجرة فتنموا أموالهم ويكثر عروهم إذا تواصلوا)).
وروى البيهقي عن أبي هريرة مرفوعاً: ((ليس شيء أطيع الله تعلى فيه أعجل ثواباً من صلة الرحم)).
روى البخاري عن أبي هريرة مرفوعاً: ((من سره أن يبسط في رزقه وأن ينسأ في أثره فليصل رحمه)).
وروى أحمد والبيهقي في الشعب عن عائشة مرفوعاً: ((صلة الرحم وحسن الخلق وحسن الجوار يعمرن الديار ويزدن في الأعمار)).
وفي صحيح البخاري عن أبي أبو أيوب أن رجلاً قال: أخبرني بعمل يدخلني الجنة؟ فقال : ((تعبد الله لا تشرك به شيئاً وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصل الأرحام)).
عقوبة قاطع الرحم:
في مسند أبي يعلى عن رجل من خثعم مرفوعاً: ((وأبغض الأعمال إلى الله الإشراك بالله ثم قطيعة الرحم)).
روى البخاري عن أبي هريرة: قال: قال صلى الله عليه وسلم ((وأقطع من قطعك)).
وروى الطبراني عن عوف بن مالك قال : ((أخاف عليكم تسعاً: إمارة السفهاء، وسفك الدماء، وبيع الحكم، وقطيعة الرحم، ونشواً يتخذوا القرآن مزامير، وكثرة الشرط)).
روى الترمذي عن أبي هريرة مرفوعاً: ((إياكم وسوء ذات البين فإنها الحالقة)).
روى أحمد وأبو داود عن أبي بكرة مرفوعاً: ((ما من ذنب أجدر أن يعجل الله تعالى لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدخره له في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم)).
روى البخاري عن جبير بن مطعم مرفوعاً: ((لا يدخل الجنة قاطع)).
وروى البخاري في الأدب المفرد عن أبي هريرة مرفوعاً: ((إن أعمال بني آدم تعرض كل عشية خميس ليلة جمعة فلا يقبل عمل قاطع رحم)) [قال الألباني ضعيف].
وروى الطبراني عن ابن مسعود مرفوعاً: ((إن أبواب السماء مغلقة دون قاطع الرحم)).
وروى البخاري في الأدب المفرد عن ابن أبي أوفى مرفوعاً: ((إن الرحمة لا تنزل على قوم فيهم قاطع الرحم)) [قال الألباني ضعيف]
ــــــــــــــــــــ(67/120)
...
واجبات المرأة المسلمة
...
مراد بن أحمد القدسي
... ...
785
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية اضف إلى رف الخطب
ملخص المادة العلمية
1- وسائل التربية الإيمانية. 2- الحجاب الشرعي صفته وفوائده. 3- الاختلاط وأضراره. 4- حفظ المرأة لسانها عن المحارم. 5- طاعة المرأة زوجها.
أولاً: الإيمان بالله:
تعريف الإيمان : قول باللسان واعتقاد بالجنان وعمل بالأركان.
أثر الإيمان:
1. الهداية إلى الصراط المستقيم إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم.
من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن الذي كانوا يعملون.
2. الأخوة في الله:
واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم.
إنما المؤمنون إخوة.
3. يفتح أبواب الخير ويثمر العمل الصالح:
والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر.
وسائل التربية الإيمانية:
1- القرآن الكريم: إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم.
وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة.
يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور.
((وكان خلق النبي القرآن)) [رواه مسلم].
2- دراسة سيرة النبي.
3- وجود الفرد في الجماعة.
روى أبو داود في حديثه عن النبي قال: ((عليكم بالجماعة، فإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية)).
وجاء في حديث أبي داود والترمذي: ((المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل)).
4- لزوم العمل الصالح:
والعمل لا يقبل إلا بإخلاص وموافقة.
ثانياً: لزوم البيت:
أ - البيت هو أصل استقرار المرأة.
وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى.
ب -البيت هو ستر للمرأة وحجاب لها.
روى أبو داود عن سعيد بن زيد سمعت رسول الله يقول: ((من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد، ومن قتل دون دينه فهو شهيد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد)).
وهذا ابن مسعود: زوجته طلبت منه جلباباً فقال: خشيت أن اشتري لك جلباباً فتدعي جلباب الله الذي جلببك به وتلبسي جلبابي.
ج- البيت موقع أداء الواجبات ، إياك أن تتركي البيت والزوج والأولاد.
في الحديث المتفق عليه من حديث ابن عمر: ((كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته،. . والمرأة راعية في بيت زوجها)).
وفي الحديث المتفق عليه عن أبي هريرة مرفوعا: ((خير نساء ركبن الإبل صالح نساء قريش، أحناه على ولد في صغره، وأرعاه على زوج في ذات يده)).
ثالثاً: تحافظ على حيائها وحجابها إن خرجت:
ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى.
ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن.
يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين.
روى مسلم في صحيحه مرفوعاً: ((صنفان من أهل النار لم أرهما . . ونساء كاسيات عاريات مميلات مائلات مميلات رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها ، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا)).
شروط الحجاب الشرعي:
1. أن يستر جميع البدن يدنين عليهن من جلابيبهن.
2. أن لا يكون زينة في نفسه.
3. أن يكون صفيقاً لا يشف.
4. أن يكون فضفاضاً غير ضيق.
5. أن لا يكون معطراً: ((إن المرأة إذا استعطرت فمرت على القوم ليجدوا ريحها فهي زانية)) [رواه الترمذي].
6. أن لا يشبه لباس الرجال. روى البخاري بإسناده مرفوعاً: ((لعن الله المتشبهين من الرجال بالنساء ، والمتشبهات من النساء بالرجال)).
7- لا يشبه لباس الكافرات. وروى أحمد وأبو داود عنه أنه قال: ((من تشبه بقوم فهو منهم)).
8- أن لا يكون لباس شهرة. روى الدارقطني في سننه مرفوعاً: ((من لبس ثوب شهرة ألبسه الله يوم القيامة ثوباً مثله ثم يلهب فيه النار)).
فوائد الحجاب:
1. تحافظ على عفافها ويعطي لها المهابة والوقار.
2. تسلم من شباب السوء ومن النظرات المحرمة.
3. تنال الأجر العظيم عند الله لامتثال أمره.
4. بحجابها تحارب أعداء الإسلام ولا تستجيب لرغباتهم.
ويجوز للمرأة الخروج:
1. طلب العلم الشرعي.
2. الجهاد تطوعاً.
3. الصلاة في المسجد.
4. العرس.
5. قضاء بعض الحوائج التي لا يستطيع أن يقوم بها الرجل.
6. العمل خارج المنزل لضرورة أو حاجة وأبونا شيخ كبير.
7. زيارة الوالدين والأرحام والأقارب.
وتحذر من الاختلاط:
وفي حديث أحمد والترمذي مرفوعاً: ((ما خلا رجل بامرأة إلا وكان الشيطان ثالثهما)).
وفي الصحيحين أنه قال: ((إياكم والحمو والدخول على النساء..)).
وإذا سألتموهن متاعاً فاسألوهن من وراء حجاب.
أضرار الاختلاط:
1- معصية لله.
2- يؤدي إلى المحرمات النظرة.
3- ينعدم الحياء المغروس في المرأة.
رابعاً: المحافظة على لسانها:
وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة مرفوعاً: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت)).
وفي الترمذي من حديث معاذ قال: قال: ((ألا أخبرك بملاك وذلك كله؟ قلت: بلى يا نبي الله ، فأخذ بلسان نفسه ، قال: كفّ عليك هذا ، فقلت : يا نبي الله ، وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ فقال: ثكلتك أمك يا معاذ ، وهل يكب الناس على وجوههم أو على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم)).
فوائد حفظ اللسان:
أ- ضمان الجنة: وفي الحديث المتفق عليه مرفوعاً: ((من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة)).
ب- النجاة: روى الترمذي من حديث عقبة عامر قلت يا رسول الله ما النجاة؟ قال: ((أمسك عليك لسانك، وليسعك بيتك، وابكِ على خطيئتك)).
ج - استقامة الأعضاء:
روى الترمذي من الحديث مرفوعاً: ((إذا أصبح ابن آدم فإن الأعضاء كلها تكفر اللسان فتقول: اتق الله فينا ، فإنما نحن بك ، فإن استقمت استقمنا ، وإن اعوججت اعوججنا)).
د- الرفعة روى البخاري من الحديث مرفوعاً: ((إن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله تعالى لا يلقي لها بالاً يهوي بها في جهنم)).
هـ- علامة الإيمان: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت)) ((من حسن إسلام المرء قلة كلامه)).
و- المغفرة والصلاح يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم.
خامساً: اجتناب اللعن، يكثر اللعن في النساء
آثاره وعواقبه:
1. اللعانون ليس لهم منزلة عند الله.من حديث مسلم: ((لا يكون اللعانون شفعاء، وشهداء يوم القيامة)).
2. أنها قد ترد على صاحبها:من حديث أبي داود: ((إن العبد إذا لعن شيئاً صعدت اللعنة إلى السماء فتغلق أبواب السماء دونها ثم تهبط . . رجعت إلى الذي لُعِن فإن كان أهلاً وإلا رجعت إلى قائلها)).
3. فيها دليل ضعف الإيمان:في حديث أحمد عن ابن مسعود مرفوعاً: ((ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان والفاحش ولا البذيء)).
4. عظم إثمها: يقول سلمة بن الأكوع ((كنا إذا أرينا الرجل يلعن أخاه رأيناه أن قد أتى باباً من الكبائر)).
5. يوجب دخول النار: وفي حديث مسلم عن ابن عمر مرفوعاً: ((يا معشر النساء تصدقن وأكثرن من الاستغفار فإني رأيتكن أكثر أهل النار قالت: امرأة ما لنا أكثر أهل النار، قال: تكثرن اللعن وتكفرن العشير ما رأيت من ناقصات عقل ودين أغلب لذي لب منكن)).
علاج اللعن:
1- تذكر عواقبه وأضراره.
2- تعويد اللسان على الذكر.
3- الصمت حال الغضب.وفي حديث أحمد مرفوعاً: ((علموا ويسروا ولا تعسروا وإذا غضبت فاسكت)).
4- إن وقع فلابد من التوبة.
5- الإكثار من الصدقة.وفي حديث الطبراني مرفوعاً: ((إن صدقة السر تطفئ غضب الرب تبارك وتعالى)).
سادساً تحافظ على سَمعها:
الغناء حرام:((ومن يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله )).
وفي حديث البخاري مرفوعاً: ((ليكونن أقوام من أمتي يستحلون الحرَ والحرير والخمر والمعازف)).
سابعاً: طاعة الزوج:
وفي حديث الترمذي مرفوعاً: ((لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها)).
روى أحمد عن عمة حصين بن محصن أنه سألها الرسول : ((أذات زوج أنت؟ قالت: نعم، قال كيف أنت له؟ قالت: ما آلوه إلا ما عجزت عنه، فقال لها: انظري أين أنت منه، فإنما هو جنتك ونارك)).
وفي الحديث المتفق عليه مرفوعاً: ((لا تصم المرأة وبعلها شاهد إلا بإذنه، لا تأذن في بيته وهو شاهد إلا بإذنه)).
وفي الحديث المتفق عليه مرفوعاً: ((إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فلم تأته فبات غضبان عليها لعنتها الملائكة حتى تصبح)).
وفي حديث ابن ماجة: ((ما استفاد المؤمن بعد تقوى الله عز وجل خيراً له من زوجة صالحة، إن أمرها أطاعته وإن نظر إليها سرته، وإن أقسم عليها أبرته، وإن غاب عنها حفظته في نفسها وماله)).
ثامناً: طاعة الوالدين.
تاسعاً: الأمر بالمعروف كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر.
ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر. والمؤمنون والمؤمنات بعضهم من بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر.
ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً وقال إنني من المسلمين.
وفي حديث مسلم مرفوعاً: ((من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً)).
ــــــــــــــــــــ(67/121)
الحقوق الزوجية
...
...
1585
...
الأسرة والمجتمع
...
...
المرأة, قضايا الأسرة
...
خالد بن محمد الشارخ
...
...
الرياض
...
...
...
اللحيدان
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- تقصير الزوجين بحق بعضهما ينعكس على أبنائهما. 2- حقوق الزوجة على زوجها. 3- حقوق الزوج على زوجته. 4- الحقوق المشتركة.
الخطبة الأولى
أما بعد:
فقد تكلمنا في الخطبة الماضية عن الأسرة المسلمة ومكانتها في الإسلام، وتكلمنا عن مقومات الأسرة المسلمة والأخطاء التي تصدر من أفراد الأسرة.
ووعدتكم أن أتكلم في هذه الخطبة عن الحقوق الزوجية العامة والخاصة. فها أنا ذا أنجز لكم ما وعدت والله المستعان. وإن كان هذا الموضوع أيها الأخوة لا تكفيه خطبة واحدة ولكن سوف أجمل هذه الحقوق وأعلق على ما يحتاج إلى تعليق.
أيها الناس:
إن الإسلام قد وضع حقوقاً على الزوجين، وهذه الحقوق منها ما هو مشترك بين الزوجين، ومنها ما هو حق للزوج على زوجته، ومنها ما هو حق للزوجة على زوجها.
وإن الحياة الزوجية بحقوقها وواجباتها والتزاماتها لتمثل بناءاً ضخماً جميلاً يعجب الناس منظره.
وإن أي نقص في أي حق من الحقوق الزوجية سواء كان حقاً مشتركاً أو خاصاً يسبب شرخاً عظيماً في بناء الأسرة المسلمة.
وليت هذا النقص – أيها الأخوة – يعود أثره على الزوجين فقط.
بل إن أي تقصير أو نقص في واحد من هذه الحقوق وخاصة الحقوق الظاهرة التي يراها الأبناء والبنات سيكون أثره على الأبناء والبنات جميعاً على حد سواء.
فإن الولد سواءً كان ابناً أو بنتاً، إذا كان يصبح ويمسي على شجار وخلاف بين أبويه، وترى البنت أمها لا تقوم بحق والدها حق القيام ويرى الابن أباه لا يقوم بحق أمه حق القيام. لا شك أن هذا سيورث عندهما تصوراً خاطئاً وسيئاً ويجعل الأب والأم في قفص الاتهام دائماً من قبل الابن أو البنت.
وإن الزوجين إذا التزما منهج الإسلام الكامل في الحقوق الزوجية عاشا في ظلال الزوجية الوارف سعداء آمنين. لا تعكرهما أحزان المشاكل؛ ولا تقلقهما حادثات الليالي.
والحقوق الزوجية ثلاثة:
1- حق الزوجة على زوجها.
2- حق الزوج على زوجته.
3- حقوق مشتركة بينهما.
أما حق الزوجة على زوجها:
1- توفية مهرها كاملاً امتثالاً لقوله تعالى: وآتوا النساء صدقاتهن نحلة.
فلا يجوز للزوج ولا لغيره من أب أو أخ أن يأخذ من مهرها شيئاً إلا برضاها.
فإن طبن لكم عن شيء منه نفساً فكلوه هنيئاً مريئاً.
2- الحق الثاني: الإنفاق عليها:
وهذه النفقة تتناول نفقة الطعام والكسوة، والعلاج والسكن لقوله: وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف.
3- الحق الثالث: وقايتها من النار: امتثالاً لقوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً.
قال علي في قوله تعالى: قوا أنفسكم وأهليكم ناراً أدبوهم وعلموهم. أهـ.
وكذلك يخبر أهله بوقت الصلاة وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها.
وإذا كان الزوج لا يستطيع تعليم امرأته فلييسر لها أسباب التعليم، أعني بالتعلم تعلم أحكام الدين، ومعرفة ما أوجب الله عليها ومعرفة ما نهاها الله عنه.
لكن المصيبة إذا كان الزوج نفسه واقع في الحرام؛ فهي الطامة الكبرى، لأن الرجل قدوة أهل بيته، والقدوة من أخطر وسائل التربية.
عن فضيل بن عياض قال: رأى مالك بن دينار رجلاً يسيء صلاته، فقال: ما أرحمني بعياله، فقيل له: يا أبا يحيى يسيء هذا صلاته وترحم عياله؟
قال: إنه كبيرهم ومنه يتعلمون.
ومن المصيبة أيضاً ومن النقص العظيم أن يُنزل الرجل نفسه في غير منزلتها اللائقة بها، فإن الله تعالى جعل الرجال قوامين على النساء، ومن شأنه أن يكون مطاعاً لا مطيعاً، متبوعاً لا تابعا.
وما المرء إلا حيث يجعل نفسه فإن شاء أعلاها وإن شاء سفّلا
وقد استشرى داء تسلط المرأة وطغيانها في أوساطنا بسبب التقليد تارة، وبسبب ضعف شخصية الزوج أو التدليل الزائد تارة أخرى.
وهو من أخطر الأمور وأكثرها إيذاءً، فالكلمة الأولى والأخيرة بيد المرأة، والزوج مجرد منفذ لهذه الأوامر، ومن أجل ذلك تجد في صفات بعض المسلمين اليوم الميوعة والضعف والانهزامية واللامبالاة.
4- الحق الرابع: أن يغار عليها في دينها وعرضها، إن الغيرة أخص صفات الرجل الشهم الكريم، وإن تمكنها منه يدل دلالة فعلية على رسوخه في مقام الرجولة الحقة والشريفة.
وليست الغيرة تعني سوء الظن بالمرأة والتفتيش عنها وراء كل جريمة دون ريبة.
فعن جابر بن عتيك قال: قال رسول الله : ((إن من الغيرة غيره يبغضها الله وهي غيرة الرجل على أهله من غير ريبة)) [رواه أحمد وأبو داود، وحسنه الألباني في ال\رواء].
وقد نظم الإسلام أمر الغيرة بمنهج قويم:
1) أن يأمرها بالحجاب حين الخروج من البيت.
2) أن تغض بصرها عن الرجال الأجانب.
3) ألا تبدي زينتها إلا للزوج أو المحارم.
4) ألا تخالط الرجال الأجانب ولو أذن بذلك زوجها.
5) أن لا يعرضها للفتنة كأن يطيل غيابه عنها، أو يشتري لها تسجيلات الخنا والفحش.
5- الحق الخامس: وهو من أعظم حقوقها: المعاشرة بالمعروف.
والمعاشرة بالمعروف تكون بالتالي:
حسن الخلق معها، فقد روى الطبراني عن أسامة بن شريك مرفوعاً: ((أحب عباد الله إلى الله أحسنهم خلقاً)) [حديث صحيح].
ومن حسن الخلق أن تحترم رأيها وأن لا تهينها سواء بحضرة أحد أم لا. ومن حسن الخلق إذا صدر منك الخطأ أن تعتذر منها كما تحب أنت أن نعتذر منك إذا أخطأت عليك، وهذا لا يغض من شخصك أبداً، بل يزيدك مكانة ومحبة عندها.
ومن المعاشرة بالمعروف التوسيع بالنفقة عليها وعلى عيالها.
ومنها استشارتها في أمور البيت وخطبة البنات، وقد أخذ النبي بإشارة أم سلمة يوم الحديبية.
ومنها: أن يكرمها بما يرضيها، ومن ذلك أن يكرمها في أهلها عن طريق الثناء عليهم بحقٍ أمامها ومبادلتهم الزيارات ودعوتهم في المناسبات.
ومنها أن يمازحها ويلاطفها، ويدع لها فرصاً لما يحلو لها من مرح ومزاح، وأن يكون وجهه طلقاً بشوشاً، وأن إذا رآها متزينة له لابسة لباساً جديداً أن يمدحها ويبين لها إعجابه فيها، فإن النساء يعجبهن المدح.
ومنها التغاضي وعدم تعقب الأمور صغيرها وكبيرها، وعدم التوبيخ والتعنيف في كل شيء.
فعن أنس أن النبي لم يقل له قط أفٍ (ولا قال لشيء فعلته لم فعلته؟ ولا لشيء لم أفعله لا فعلت كذا) [رواه البخاري ومسلم].
ومن المعاشرة بالمعروف: أن يتزين لها كما يحب أن تتزين له، ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف.
ومنها أن يشاركها في خدمة بيتها إن وجد فراغاً.
فعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: (كان النبي يكون في مهنة أهله -يعني خدمة أهله- فإذا حضرت الصلاة خرج إلى الصلاة) [رواه البخاري].
تلكم كانت أهم الحقوق التي يجب أن تقوم بها الزوج تجاه زوجته كما أمر الإسلام.
بارك الله لي ولكم بالقران العظيم..
الخطبة الثانية
الحمد لله ذي الحمد والثناء، والمنع والعطاء والجود والحباء، وأصلي وأسلم على النبي النبيل صاحب الغرة والتحجيل، الذي علم ودعا وجاهد وأوذي في جنب الجليل، فلذلك قربه أحبه ورفعه فوق منزلة إبراهيم الخليل.
أما بعد:
فيا عباد الله:
كما أن للزوجة حقاً على زوجها، فللزوج حق على زوجته.
الحق الأول من الحقوق:
1- الحق الأول: طاعته بالمعروف: على المرأة خاصة أن تطيع زوجها فيما يأمرها به في حدود استطاعتها. وهذه الطاعة أمر طبيعي تقتضيه الحياة المشتركة بين الزوج والزوجة.
ولا شك أن طاعة المرأة لزوجها يحفظ كيان الأسرة من التصدع والانهيار.
وتبعث إلى محبة الزوج القلبية لزوجته، وتعمق رابطة التآلف والمودة بين أعضاء الأسرة.
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((إذا صلّت المرأة خمسها، وصامت شهرها، وحصنت فرجها، وأطاعت زوجها، قيل لها: ادخلي الجنة من أي أبواب الجنة، شئت)) [رواه ابن حبان ورواه الإمام أحمد من حديث عبد الرحمن بن عوف].
ولتعلم المرأة المسلمة أن الإصرار على مخالفة الزوج يوغر صدره، ويجرح كرامته، ويسيء إلى قوامته، والمرأة المسلمة الصالحة إذا أغضبت زوجها يوماً من الأيام فإنها سرعان ما تبادر إلى إرضائه وتطييب خاطره، والاعتذار إليه مما صدر منها. ولا تنتظره حتى يبدأها بالاعتذار.
2- الحق الثاني: المحافظة على عرضه وماله:
قال تعالى: فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله وحفظها للغيب أن تحفظه في ماله وعرضه.
فقد روى أبو داود والنسائي أن رسول الله قال: ((ألا أخبركم بخير ما يكنز المرء؟ المرأة الصالحة، إذا نظر إليها سرته، وإذا أمرها طاعته وإذا غاب عنها حفظته في نفسها وماله)).
3- الحق الثالث: مراعاة كرامته وشعوره:
فلا يرى منها في البيت إلا ما يحب، ولا يسمع منها إلا ما يرضى، ولا يستشعر منها إلا ما يُفرح.
والزوج في الحقيقة إذا لم يجد في بيته الزوجة الأنيقة النظيفة اللطيفة ذات البسمة الصادقة، والحديث الصادق، والأخلاق العالية، واليد الحانية والرحيمة فأين يجد ذلك؟
وأشقى الناس من رأى الشقاء في بيته وهو بين أهله وأولاده، وأسعد الناس من رأى السعادة في بيته وهو بين أهله وأولاده.
2- الحق الرابع: قيامها بحق الزوج وتدبير المنزل وتربية الأولاد.
قال أنس : كان أصحاب رسول الله إذا زفوا امرأة إلى زوجها يأمرونها بخدمة الزوج ورعاية حقه، وتربية أولاده.
3- الحق الخامس: قيامها ببر أهل زوجها:
وهذه من أعظم الحقوق على الزوجة، وهي أقرب الطرق لكسب قلب الزوج، فالزوج يحب من امرأته أن تقوم بحق والديه، وحق إخوانه وأخواته، ومعاملتهم المعاملة الحسنة، فإن ذلك يفرح الزوج ويؤنسه، ويقوي رابطة الزوجية.
4- الحق السادس: ألا تخرج من بيته إلا بإذنه حتى ولو كان الذهاب إلى أهلها.
5- السابع: أن تشكر له ما يجلب لها من طعام وشراب وثياب وغير ذلك مما هو في قدرته. وتدعو له بالعوض والإخلاف ولا تكفر نعمته عليها.
6- ومن حقه عليها ألا تطالبه مما وراء الحاجة وما هو فوق طاقته فترهقه من أمره عسراً بل عليها أن تتحلى بالقناعة والرضى بما قسم الله لها من الخير.
تلكم أهم الحقوق التي تجب على الزوجة مراعاتها والقيام بها:
• أما الحقوق المشتركة بين الزوجين فأجملها:
1- التعاون على جلب السرور ودفع الشر والحزن ما أمكن.
2- التعاون على طاعة الله والتذكير بتقوى الله.
3- استشعارهما بالمسؤولية المشتركة في بناء الأسرة وتربية الأولاد.
4- إلا يفشي أحدهما سر صاحبه، وألا يذكر قرينه بسوء بين الناس سواءً كان الشخص قريباً أم بعيداً.
حتى والديك أو والديها فإن المشاكل البيتية تحل بسهولة ويسرّ ما لم تخرج المشكلة خارج البيت حينها يصعب حلها وتتعقد أكثر وأكثر.
روى مسلم في صحيحه أن النبي قال: ((إن من شر الناس عند الله منزلة يوم القيامة الرجل يفضي إلى امرأته وتقضي إليه ثم ينشر أحدهما سر صاحبه)).
تلكم أيها الأزواج:
أبرز معالم المنهج الذي رسمه الإسلام في حقوق الزوجين.
وأؤكد لكم أنكم إذا التزمتموه في حياتكم الزوجية تطبيقاً وتنفيذاً، كانت المحبة رائدكم، والتعاون سبيلكم، وإرضاء الله سبحانه وتعالى غايتكم.
وتربية أولادكم على الإسلام هدفاً أساسياً من إهدائكم، بل عاش الواحد منكم مع زوجه في الحياة كنفس واحدة في التصافي والتفاهم والمودة.
على أني أُذكر الأخوة جميعاً أن الله تعالى أبى أن تكون هذه الدنيا كاملة في لذتها وفرحها ومتعتها وزينتها، فلابد أن يحصل شيء ما من الكدر والضيق، ولعل من حكمة الله تعالى في ذلك أن يتذكر المسلم بنقصان نعيم الدنيا كمال نعيم الآخرة.
والله اسأل أن يوفق الزوجين على القيام بحقوقهما. عسى أن يعيشا معاً في ظل الزوجية الوارف آمنين مطمئنين سعداء مكرمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين
ــــــــــــــــــــ(67/122)
التكافل الاجتماعي
...
مراد بن أحمد القدسي
... ...
756
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية اضف إلى رف الخطب
ملخص المادة العلمية
1- معنى التكافل. 2- أدلة التكافل. 3- صور في التكافل. 4- هدي الرسول وأصحابه في هذا الباب. 5- فضل التكافل والصدقة.
معنى التكافل:
لغة: من مادة كفل أو كفِل، والكفل: بمعنى الضعف والنصيب. يؤتكم كفلين، ويكن له كفل منها.
كَفَل: بمعنى الرقيب وقد جعلتم الله عليكم كفيلاً.
العائل: يكفل مريم .
اصطلاحا: أن يتضامن المسلمون أفرادا وجماعات على رعاية الفقراء والمحتاجين ودفع الضرر عنهم بدافع من العقيدة التي بينهم.
أدلة على التكافل:
واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم.
ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله والملائكة والكتاب والنبيين وآت المال على حبه، وابتغ فيما أتاك الله الدار الآخرة ولا تنسس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله اليك.
روى مسلم عن جرير: كنا عند رسول الله في صدر النهار فجاء قوم حفاة عراة مجتابي النمار أو العباء متقلدي السيوف عامتهم من مضر بل كلهم من مضر، فتمعر وجه رسول الله لما رأى بهم الفاقة فدخل ثم خرج فأمر بلالا فأذن وصلى ثم خطب فقال: يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة إلى آخر الآية: إن الله كان عليكم رقيباً والآية التي في الحشر: اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد.((تصدق رجل من ديناره، من درهمه، من ثوبه، من صاع بره، من صاع تمره حتى قال: ولو بشق تمرة.))
روى النعمان بن بشير عنه أنه قال: ((مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)) [رواه مسلم].
روى مسلم عن أبي سعيد: ((من كان معه فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له، ومن كان له فضل من زاد فليعد به على من لا زاد له)).
كيفيته:
رعاية الأطفال:
وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف.
روى البخاري ومسلم عن سعد أنه لما أراد أن يتصدق بثلثي ماله فلم يأذن له رسول الله فأستأذنه بالشطر فلم يأذن ، ثم قال سعد: والثلث: يا رسول الله قال: ((الثلث، والثلث كثير، إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس)).
كفالة الأيتام:
فأما اليتيم فلا تقهر، فذلك الذي يدع اليتيم.
روى البخاري عن سهل مرفوعاً: ((أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا))، وأشار بالسبابة والوسطى وفرج بينهما.
رعاية الأرامل والمساكين:
روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة: ((الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله)) وفي رواية: ((وأحسبه قال: وكالقائم الذي لا يفتر، وكالصائم الذي لا يفطر)).
رعاية المنكوبين:
روى البخاري ومسلم عن ابن عمر: ((المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه كربة من كربات يوم القيامة، ومن ستر مسلما ستره الله يوم القيامة)).
هدى الصحابة والرسول:
في حديث البخاري عن أبي هريرة: ((لو كان لي مثل أحد ذهبا ما يسرني أن لا يمر علي ثلاث وعندي منه شيء إلا شيء أرصده لدين)).
روى البخاري عن ابن عباس: (لرسول الله أجود ما يكون وأجود ما يكون في رمضان).
أبو بكر: تصدق بخمسين ألف درهم، وجهز جيش العسرة.
ابن عوف تصدق بأكثر ماله.
زينب: تصدقت مائة ألف دينار في يوم واحد.
عائشة: لم تبق لها ما تفطر به عندما أعطاها معاوية 4000 درهم.
عثمان: مر علي الخيار بن أبي أوفى واعطى له ولعياله.
الأشعريون: روى مسلم والبخاري عن أبي موسىأن النبي قال ((إن الأشعريين إذا أرملوا في الغزو أو قل طعام عيالهم بالمدينة جمعوا ما كان عندهم في ثوب واحد ثم اقتسموه بينهم في إناء واحد بالسوية، فهم مني وأنا منهم)).
فضل التكافل:
روى البخاري ومسلم: ((ما من يوم يصبح فيه العباد إلا مكان ينزلان يقول أحدهما: اللهم أعط منفقا خلفا ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكا تلفا)).
((أنفق يا بلال ولا تخشَ من ذي العرش إقلالا)).
روى أحمد والطبراني عن عائشة: ((إن الله ليربى لأحدكم التمرة واللقمة كما يربي أحدكم فلوه أو فصيله حتى تكون مثل أحد)).
((الأكثرون هم الأسفلون يوم القيامة إلا من قال بالمال هكذا وهكذا، وكسبه من طيب)).
عن ابن المبارك عن عكرمة مرسلا: ((تصدقوا ولو بتمرة فإنها تسد من الجائع وتطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار)).
روى الترمذي عن أنس: ((صدقة السر تطفئ غضب الرب)).
روى أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجة والحاكم عن قيس بن أبي غرزة : ((يا معشر التجار إن هذا البيع يحضره اللغو والحلف فشوبوه بالصدقة)).
روى أحمد والترمذي وابن ماجة والطبراني عن زيد بن خالد: ((من فطر صائما كان له مثل أجره غير أنه لا ينقص من أجر الصائم شيئا)).
ــــــــــــــــــــ(67/123)
وقفة مع عيد الحب
...
هشام بن محمد برغش
... ...
1627
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية اضف إلى رف الخطب
ملخص المادة العلمية
1- تعريف بعيد الحب وتاريخه. 2- حرمة المشاركة في أعياد الكفار وشعائرهم. 3- موقف الإسلام من الحب. 4- الحياة الزوجية والحب. 5- حقائق عن فشل ما يسمونه بزواج الحب. 6- حقائق عن موضع الزوجية في المجتمع الغربي. 7- واجب المسلمين تجاه هذا العيد.
ففي سلسلة من الهجمات الشرسة التي يشنها الكفار على الأمة الإسلامية لطمس معالمها والقضاء على قيمها يروج الإعلام الغربي وحلفاؤه لعيد خبيث، سموه باسم شريف، لينشروا الرذائل في أثواب الفضائل تلبيسًا وتدليسًا على المسلمين، ذلكم هو عيد الحب، أو عيد القديس فالنتاين!!
ماذا تعرفون عن يوم 14 فبراير؟!
ربما يقول البعض: لا نعرف عنه شيئاً، أو هو يوم كغيره من الأيام، ولكن الكثيرين سيقولون: إنه يوم الورود الحمراء والقلوب الحمراء والهدايا الحمراء... إنه عيد الحب ( Valantine’s day).
ولكن هؤلاء وأولئك ربما لا يدركون قصة هذا اليوم ولا سببه، ولا أنهم بذلك يشاركون النصارى في إحياء ذكرى قسيس من قسيسيهم.
ولكن ما قصة هذا اليوم وماأصله؟!
جاء في الموسوعات عن هذا اليوم أن الرومان كانوا يحتفلون بعيد يدعى (لوبركيليا) في 15 فبراير من كل عام، وفيه عادات وطقوس وثنية؛ حيث كانوا يقدمون القرابين لآلهتهم المزعومة، كي تحمي مراعيهم من الذئاب، وكان هذا اليوم يوافق عندهم عطلة الربيع؛ حيث كان حسابهم للشهور يختلف عن الحساب الموجود حالياً، ولكن حدث ما غير هذا اليوم ليصبح عندهم 14 فبراير في روما في القرن الثالث الميلادي.
وفي تلك الآونة كان الدين النصراني في بداية نشأته، حينها كان يحكم الإمبراطورية الرومانية الإمبراطور كلايديس الثاني، الذي حرم الزواج على الجنود حتى لا يشغلهم عن خوض الحروب، لكن القديس (فالنتاين) تصدى لهذا الحكم، وكان يتم عقود الزواج سراً، ولكن سرعان ما افتضح أمره وحكم عليه بالإعدام، وفي سجنه وقع في حب ابنة السجان ، وكان هذا سراً حيث يحرم على القساوسة والرهبان في شريعة النصارى الزواج وتكوين العلاقات العاطفية، وإنما شفع له لدى النصارى ثباته على النصرانية حيث عرض عليه الإمبراطور أن يعفو عنه على أن يترك النصرانية ليعبد آلهة الرومان ويكون لديه من المقربين ويجعله صهراً له، إلا أن (فالنتاين) رفض هذا العرض وآثر النصرانية فنفذ فيه حكم الإعدام يوم 14 فبراير عام 270 ميلادي ليلة 15 فبراير عيد (لوبركيليا)، ومن يومها أطلق عليه لقب "قديس".
وبعد سنين عندما انتشرت النصرانية في أوربا وأصبح لها السيادة تغيرت عطلة الربيع، وأصبح العيد في 14 فبراير اسمه عيد القديس (فالنتاين) إحياء لذكراه؛ لأنه فدى النصرانية بروحه وقام برعاية المحبين، وأصبح من طقوس ذلك اليوم تبادل الورود الحمراء وبطاقات بها صور (كيوبيد) الممثل بطفل له جناحان يحمل قوساً ونشاباً، وهو إله الحب لدى الرومان كانوا يعبدونه من دون الله!!وقد جاءت روايات مختلفة عن هذا اليوم وذاك الرجل، ولكنها كلها تدور حول هذه المعاني.
هذا هو ذلك اليوم الذي يحتفل به ويعظمه كثيرٌ من شباب المسلمين ونسائهم، وربما لا يدركون هذه الحقائق.
لماذا الحديث عن هذا اليوم؟
لعل قائلاً يقول: إنكم بذلك تروجون لهذا اليوم الذي ربما لم يكن يعرفه الكثير؟!
ولكن نقول لأخينا إن المتأمل في أحوال كثير من الشباب في هذا اليوم وكذلك الحركة التجارية والتهاني المتبادلة في هذا اليوم ليدرك مدى انتشار هذا الوباء وتلك العادة الجاهلية والبدعة المذمومة في بلاد الإسلام انتشار النار في الهشيم، وهي دعوة وراءها ما وراءها من أهداف أهل الشهوات وإشاعة الفحشاء والانحلال بين أبناء المسلمين تحت اسم الحب ونحوه.
ثم قد يقول قائل: أنتم هكذا تحرمون الحب، ونحن في هذا اليوم إنما نعبر عن مشاعرنا وعواطفنا وما المحذور في ذلك؟!
والجواب:
أولاً: من الخطأ الخلط بين ظاهر مسمى اليوم وحقيقة ما يريدون من ورائه؛ فالحب المقصود في هذا اليوم هو العشق والهيام واتخاذ الأخدان والمعروف عنه أنه يوم الإباحية والجنس عندهم بلا قيود أو حدود . . . وهؤلاء لا يتحدثون عن الحب الطاهر بين الرجل وزوجته والمرأة وزوجها.
ثانياً: ثم إن التعبير عن المشاعر والعواطف لا يسَوِّغ للمسلم إحداث يوم يعظمه ويخصه من تلقاء نفسه بذلك، ويسميه عيداً أو يجعله كالعيد فكيف وهو من أعياد الكفار؟! .
وقد تضافرت نصوص الكتاب والسنة وأقوال أهل العلم على التحذير من ذلك أشد التحذير:
فمن النصوص التي جاءت تحذر من المشاركة في أعيادهم:
1ـ قول الله تعالى في وصف عباد الرحمن : والذين لا يشهدون الزور[الفرقان:72]. قال ابن سيرين: "هو الشعانين" (عيد من أعياد النصارى). وقال مجاهد: "أعياد المشركين". وروي نحوه عن الضحاك.
2 ـ وقوله : لكل أمة جعلنا منسكاً هم ناسكوه[الحج: 67].
3- وقوله تعالى :لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا[المائدة: 48].
قال ابن تيمية: "الأعياد من جملة الشرع والمناهج والمناسك التي قال الله سبحانه لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا وقال: لكل أمة جعلنا منسكا هم ناسكوه كالقبلة والصلاة والصيام فلا فرق بين مشاركتهم في العيد وبين مشاركتهم في سائر المناهج فإن الموافقة في جميع العيد موافقة في الكفر، والموافقة في بعض فروعه موافقة في بعض شعب الكفر، بل الأعياد هي من أخص ما تتميز به الشرائع ومن أظهر ما لها من الشعائر، فالموافقة فيها موافقة في أخص شرائع الكفر وأظهر شعائره, ولا ريب أن الموافقة في هذا قد تنتهي إلى الكفر في الجملة بشروطه. وأما مبدؤها فأقل أحواله أن يكون معصية وإلى هذا الاختصاص أشار النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: ((إن لكل قوم عيدا وإن هذا عيدنا)) [البخاري 952، ومسلم 892ا"[الاقتضاء (1/471ـ472)].
كما أن الأعياد من خصائص الأديان:
جاء في حديث عائشة أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ((يا أبا بكر إن لكل قوم عيداً وهذا عيدنا)) [البخاري 952، ومسلم 892].
وفي حديث عقبة بن عامر مرفوعًا: ((يوم عرفة ويوم النحر وأيام منى عيدنا أهل الإسلام، وهي أيام أكل وشرب))[أبو داود 2419،وهو صحيح].
قال ابن تيمية: "هذا الحديث وغيره قد دل على أنه كان للناس في الجاهلية أعياد يجتمعون فيها، ومعلوم أنه لما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم محا الله ذلك عنه فلم يبق شيء من ذلك، ومعلوم أنه لولا نهيه ومنعه لما ترك الناس تلك الأعياد ..... وهذا يوجب العلم اليقيني بأن إمام المتقين صلى الله عليه وسلم كان يمنع أمته منعًا قويًا عن أعياد الكفار ويسعى في دروسها وطموسها بكل سبيل". [الاقتضاء (1/444 ـ 445)].
كما أنه جاءت نصوص كثيرة في الأمر بمخالفة الكافرين واجتناب أفعالهم الدينية والدنيوية:
1- قال النبي عليه الصلاة والسلام: ((إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم)) [البخاري 3462، ومسلم 2103].
2- وقال عليه الصلاة والسلام: ((خالفوا المشركين؛ أحفوا الشوارب وأوفوا اللحى)) [البخاري 5892، ومسلم 259].
3 ـ وقال عليه الصلاة والسلام: ((صوموا يوم عاشوراء وخالفوا فيه اليهود،صوموا قبله يوماً أو بعده يوماً)) [أحمد 1/241.قال أحمد شاكر (2154): إسناده حسن].
علة النهي عن التشبه بالكافرين:
من الحكم العظيمة التي من أجلها نهى الله عز وجل عن التشبه بالكافرين أن مشابهتهم تورث محبتهم وموالاتهم، وذلك ينافي الإيمان.
قال ابن تيمية: "لو اجتمع رجلان في سفر أو بلد غريب وكانت بينهما مشابهة في العمامة أو الثياب أو الشعر أو المركوب ونحو ذلك لكان بينهما من الائتلاف أكثر مما بين غيرهما، وكذلك تجد أرباب الصناعات الدنيوية يألف بعضهم بعضاً ما لا يألفون غيرهم".
هذا في المشابهة في الأمور الدنيوية، فكيف بمشابهتهم في الأمور الدينية؟ لاشك أن إفضاءها إلى المحبة والموالات أكثر وأشد.
وبعد أخي الحبيب وأختي الكريمة أما يكفينا معاشر المسلمين ما شرعه لنا رب العالمين وسنه لنا إمام المرسلين ؟!
اسمعوا لهذا الحديث لحبيبكم صلى الله عليه وسلم وهو ينهى الأنصار عن الاحتفال بعيديهم في الجاهلية: ((إن الله قد أبدلكما خيراً منهما: يوم الأضحى وعيد الفطر)) [أبو داود 1134، والنسائي 1556، وأحمد(3/103)، وهو صحيح].
ثالثاً:لا يوجد دين يحث أبناءه على التحابب والمودة والتآلف كدين الإسلام، وهذا في كل وقت وحين لا في يوم بعينه بل حث على إظهار العاطفة والحب في كل وقت كما قال عليه الصلاة والسلام: ((إذا أحب الرجل أخاه فليخبره أنه يحبه)) [أبو داود 5124، والترمذي 2392، وهو صحيح]، وقال: ((والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا أَوَلاَ أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم ، أفشوا السلام بينكم)) [مسلم54
بل إن المسلم تمتد عاطفته لتشمل حتى الجمادات فهذا جبل أحد يقول عنه عليه الصلاة والسلام : (( هذا أحد جبل يحبنا ونحبه)) [البخاري 2889، ومسلم 1365].
ثم إن الحب في الإسلام أعم وأشمل وأسمى من قصره على صورة واحدة وهي الحب بين الرجل والمرأة، بل هناك مجالات أشمل وأرحب وأسمى؟ فهناك حب الله تعالى وحب رسوله عليه السلام وصحابته وحب أهل الخير والصلاح وحب الدين ونصرته، وحب الشهادة في سبيل الله وهناك محاب كثيرة؛ فمن الخطأ والخطر إذن قصر هذا المعنى الواسع على هذا النوع من الحب.
الحياة الزوجية والأسرية الناجحة إنما تقوم على المودة والرحمة:
لعل البعض متأثراً بما تبثه وسائل الإعلام والأفلام والمسلسلات ليل نهار، لعله يظن أنه لا يمكن أن ينشأ زواج ناجح إلا إذا قامت علاقة حب كما يقولون بين الشاب والفتاة حتى يتحقق الانسجام التام بينهما ومن ثم تكون حياة زوجية – إن وجدت – ناجحة.
وناهيك عما في ذلك الكلام من دعوة للاختلاط والانحلال وكثير من الانحرافات الخلقية وما ينشأ عنه من فساد كبير وجرائم عظيمة وضياع للحرمات والأعراض، لن نتناول الرد على هذه الدعوى من هذا المنطلق ولكن من واقع الدراسات والأرقام:
ففي دراسة أجرتها جامعة القاهرة (وهي جامعة علمية محايدة وليست جهة إسلامية حتى يشكك فيها)حول ما أسمته زواج الحب، والزواج التقليدي، جاء في الدراسة:
الزواج الذي يأتي بعد قصة حب تنتهي 88من حالاته بالإخفاق. أي بنسبة نجاح لا تتجاوز 12%. وأما ما أطلقت عليه الدراسة الزواج التقليدي فقد حقق 70من حالات النجاح.
وبعبارة أخرى فإن عدد حالات الزواج الناجحة في الزواج الذي يسمونه تقليدياً تعادل ستة أضعاف ما يسمى بـ"زواج الحب".[رسالة إلى مؤمنة 255].
وهذه الدراسة أكدتها جامعة سيراكوز الأميركية في دراسة تبين منها بما لا يقبل الشك إطلاقاً أن الحب أو العشق ليس ضمانة لزواج ناجح بل في الأغلب يؤدي إلى الإخفاق، وما هذه النسب المخيفة في حالات الطلاق إلا تصديق لهذه الحقائق.
ويقول الدكتور صول جوردن الأستاذ المحاضر في الجامعة السابقة تعليقاً على هذه الظاهرة: "إنك حين تكون في حالة حب؛ فإن العالم كله بالنسبة إليك يدور حول شخص من تحب، ويأتي الزواج ليثبت عكس ذلك، وليهدم تصوراتك كلها، لأنك تكتشف أن هناك عوالم أخرى لابد أن ننتبه لوجودها ليس عوالم البشر فقط؛ بل عوالم المفاهيم والقيم والعادات التي لم تكن لتنتبه لوجودها من قبل". [المرجع السابق].
ويقول د.فريدريك كونيغ أستاذ علم النفس الاجتماعي بجامعة تولين: "إن الحب الرومانسي قوي وعاطفي جداً ولكنه لا يدوم، بينما الحب الواقعي مرتبط بالأرض والحياة ويستطيع أن يصمد أمام التجربة". ويضيف: "إنه من المستحيل أن يصل الإنسان إلى تطويع العواطف القوية في الحب الرومانسي؛ إن هذا الحب يبدو مثل الكعكة، يحس الإنسان بالمتعة وهو يتناولها، ثم يجيء زمن الهبوط، بينما الحب الواقعي هو الذي يعني تقاسم الحياة اليومية، والتعاون من أجل أن يستمر، وفي مثل هذا التعاون يستطيع الإنسان أن يصل إلى حاجته الإنسانية". [ملحق جريدة القبس 5537 نقلاً من رسالة إلى حواء 296].
وذلك الذي يتحدث عنه الكاتب ولا يدركه ويسميه الحب الواقعي هو ما عبر القرآن عنه بالمودة في قوله تعالى: ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة [الروم:21].
فالصلة بين الزوجين صلة مودة ورحمة وليست علاقة عشق وهيام وصبابة وغرام؛ فهي صلة محبة هادئة (مودة) وصلة (رحمة) متبادلة، لا أوهام عشقية لا تثبت على أرض الواقع، ولا خيالات غرامية لم يقم عليها أي زواج ناجح.
وما أفقه عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين قال ـ مخاطبًا النساء ـ: "إذا كانت إحداكن لا تحب الرجل منا فلا تخبره بذلك، فإن أقل البيوت ما بني على المحبة وإنما يتعاشر الناس بالحسب والإسلام".
ولكن لا يفهم أحد من كلامنا أننا ندعو إلى إغفال العواطف بين الأزواج أو جفاف المشاعر والأحاسيس بين الزوجين ...
وهذا رسولنا عليه الصلاة والسلام يضرب لنا أروع الأمثلة في محبته لأهل بيته كما جاء في السنة المطهرة :فيحرص عليه الصلاة والسلام أن يشرب من الموضع الذي شربت منه زوجه عائشة رضي الله عنها، وفي مرض موته يستاك بسواكها ويموت عليه الصلاة والسلام على صدرها،بين سحرها ونحرها فأي حب أشرف وأسمى من هذا؟!
ولكن هذا شيء وما يهدفون إليه من وراء دعوتهم هذه شيء آخر.
ثم أين دعوى الحب وتخصيصهم يوم عيد له، وهذا واقعهم كما تقول دراساتهم وإحصاءاتهم:
1 ـ في دراسة أمريكية عام (1407 هـ/ 1987م) جاء فيها:79من الرجال يقومون بضرب النساء، بخاصة إذا كانوا متزوجين ....!!
[جريدة القبس (15/2/1988)].
2 ـ وفي دراسة أعدها المكتب الوطني الأمريكي للصحة النفسية جاء فيها: 17من النساء اللواتي يدخلن غرف الإسعاف من ضحايا ضرب الأزواج أو الأصدقاء. 83دخلن المستشفيات سابقًا مرة على الأقل للعلاج من جروح وكدمات أصبن بها: كان دخولهن نتيجة الضرب. وأضافت الدراسة أن هناك نساء أكثر لا يذهبن إلى المستشفى للعلاج بل يضمدن جروحهن في المنزل.
3ـ وفي تقرير للوكالة الأمريكية المركزية للفحص والتحقيق F.P.T فإن هناك زوجة يضربها زوجها كل 18 ثانية في أمريكا.
4 ـ ونشرت مجلة التايم الأمريكية أن حوالي 4000 زوجة من حوالي ستة ملايين زوجة مضروبة تموت نتيجة ذلك الضرب!!
5 ـ وفي دراسة ألمانية: ما لا يقل عن 100 ألف امرأة تتعرض سنويًا لأعمال العنف الجسدي أو النفساني التي يمارسها الأزواج أو الرجال الذين يعاشرونهن مع احتمال أن يكون الرقم الحقيقي يزيد على المليون.
6 ـ وفي فرنسا تتعرض حوالي مليوني امرأة للضرب.
7 ـ وفي بريطانيا في أحد استطلاعات الرأي شاركت فيه 7 آلاف امرأة قالت 28منهن: إنهن يتعرضن للهجوم من أزواجهن أو أصدقائهن.
ما الواجب على المسلمين تجاه هذه الانحرافات:
أولاً: التأكيد على عقيدة الولاء والبراء، ولوازمها، والتحذير من مشابهة أهل الكتاب في مظاهرهم وأعيادهم وأيامهم.
ثانياً:التحذير من الانسياق وراء الشعارات البراقة والدعاوى الكاذبة والمظاهر الخداعة، والتي تهدف في حقيقتها إلى جر المسلمين إلى حمأة موبوءة وفساد عريض.
ثالثاً: نداء إلى القائمين على أجهزة الصحافة والإعلام والمسؤولين عن عرض تلك الأفلام والمسلسلات والتي تزين الحب بين الفتى والفتاة، وتصور العشق مقدمة لابد منها لأي زواج ناجح كما يزعمون، فهي مع كونها ترسخ في أذهان الفتيات الصغيرات أوهاماً وخيالات تجعلهن عرضة للخطأ، وصيداً سهلاً لشباك الشباب الزائغ الضائع، فإلى جانب ذلك تعمل على هدم المجتمع وترفع نسب الطلاق؛ فتهدم المجتمع بإثارة الفتنة والشهوات بين أبنائه، وترفع نسب الطلاق حين تحسب الفتاة بعد الزواج أن زواجها قد أخفق؛ لأن مشاعر العشق توقفت، وواقعية الزواج ظهرت، والمسؤوليات تسارعت؛ فتحسب المخدوعة أن زواجها أخفق.
وكذلك يحسب الفتى الذي يجد زوجته قد انشغلت ببيتها وأولادها، ولم تعد تظهر له العواطف القديمة ومشاعر العشق الوالهة، أن زواجه قد أخفق؛ فينشأ الشجار لأتفه الأسباب، وتشتد الخلافات، ويحتدم الشقاق، ليقع الطلاق أو يمسكه على هون!!.
رابعاً: نداء إلى أصحاب المحلات والتجار المسلمين ألا يدفعهم حرصهم على ربح عاجل يوشك أن يفنى ألا يدفعهم ذلك إلى مشاركة هؤلاء في أفعالهم وإعانتهم عليها ببيع ما يستعينون به على ذلك، وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "إن بيعهم في أعيادهم للأكل والشرب واللباس يكره كراهة تحريم؛ لأن هذه إعانة قد تفضي إلى إظهار الدين الباطل وكثرة اجتماع الناس لعيدهم وظهوره، وهذا أعظم من إعانة شخص معين" . [اهـ بتصرف يسير من الاقتضاء (1/251)].
وهذا المنع إذا كان يبيعه لأهل الكتاب ليستعينوا به على دينهم ؛ فكيف ببيعه للمسلم المأمور بعدم التشبه بهم أصلاً؟!
فتوى الشيخ عبد الله بن جبرين في الاحتفال بهذا اليوم
سئل فضيلته: انتشر بين فتياننا وفتياتنا الاحتفال بما يسمى عيد الحب (يوم فالنتاين)وهو اسم قسيس يعظمه النصارى يحتفلون به كل عام في 14 فبراير، ويتبادلون فيه الهدايا والورود الحمراء، ويرتدون الملابس الحمراء، فما حكم الاحتفال به أو تبادل الهدايا في ذلك اليوم وإظهار ذلك العيد جزاكم الله خيرًا. فأجاب حفظه الله:
أولاً: لا يجوز الاحتفال بمثل هذه الأعياد المبتدعة؛ لأنه بدعة محدثة لا أصل لها في الشرع فتدخل في حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)) أي مردود على من أحدثه.
ثانيًا: أن فيها مشابهة للكفار وتقليدًا لهم في تعظيم ما يعظمونه واحترام أعيادهم ومناسباتهم وتشبهًا بهم فيما هو من ديانتهم وفي الحديث: ((من تشبه بقوم فهو منهم)).
ثالثًا: ما يترتب على ذلك من المفاسد والمحاذير كاللهو واللعب والغناء والزمر والأشر والبطر والسفور والتبرج واختلاط الرجال بالنساء أو بروز النساء أمام غير المحارم ونحو ذلك من المحرمات، أو ما هو وسيلة إلى الفواحش ومقدماتها، ولا يبرر ذلك ما يعلل به من التسلية والترفيه وما يزعمونه من التحفظ فإن ذلك غير صحيح، فعلى من نصح نفسه أن يبتعد عن الآثام ووسائلها.
وقال حفظه الله: وعلى هذا لا يجوز بيع هذه الهدايا والورود إذا عرف أن المشتري يحتفل بتلك الأعياد أو يهديها أو يعظم بها تلك الأيام حتى لا يكون البائع مشاركًا لمن يعمل بهذه البدعة والله أعلم.
وبعد: أيها المسلمون، أما لكم في عيد الأضحى وعيد الفطر غنية وكفاية؟! أوليس دينكم هو دين السعادة والهداية؟! فاحذروا هذه الأعياد البدعية الكفرية، احذروها وحذِّروا الناس منها، واعتزوا بدينكم، وتميّزوا عن الضالين من غيركم، واربؤوا بأنفسكم عن أن تسيروا على آثارهم، أو تتأثروا بأفكارهم، فلأنتم أشرف عند الله من ذلك.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
ــــــــــــــــــــ(67/124)
...
الحجاب
...
...
1643
...
الأسرة والمجتمع
...
...
المرأة
...
عبد الله الهذيل
...
...
الرياض
...
8/2/1418
...
...
فيحان
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- الشيطان منذ أول لحظة في الصراع مع آدم وحواء يريد نزع لباسهما. 2- أهمية ستر العورات بحفظ أخلاق المجتمع ودينه. 3- جند الشيطان يحاولون كشف حجاب المرأة باسم الحرية والتقدم. 4- مؤامرة تحرير المرأة في مصر. 5- أقوال تدعوا المرأة لهتك حجابها. 6- ظهور الحجاب المتبرج.
الخطبة الأولى
قال تعالى: يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسًا يواري سواءتكم وريشاً ولباس التقوى ذلك خير ذلك من آيات الله لعلكم تذكرون يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوءاتهما إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون.
أيها الأحبة في الله:
إنها لنعمة عظمى, امتن الله تعالى بها على عباده أن أنزل عليهم لباسًا يواري سوءاتهم, ويحفظ أعراضهم, ويحصن الحياء في نفوسهم. فكان من شرعه وأمره سبحانه وتعالى أن تستر العورات, ولا يبدي منها إلا ما أباحه, ليبقى الحياء قائدًا في الناس, وتبقى الأعراض في حصن حصين دون العبث والانتهاك.
فشرع للرجال عورة تناسبهم, وشرع للنساء عورة تناسبهن, لا يجوز لأي الطائفتين أن يتجاوز حدود ما أمر به, وإن أي تجاوز لذلك لهو الخطوة الأولى إلى ميادين اللاحياء.
أيها المسلمون:
وحين نتأمل في الآية السابقة نرى أن الدعوى الأولى التي بدأ بها إبليس مسيرته في إضلال العباد, كانت إلى نزع اللباس, وإبداء العورة, وهو لم يبدأها بالأمر بها صراحة؛ لأنه موقن أنها كذلك لن تنال قبولاً, ولكنه زين لها القول, وذلل لها الطريق, وقال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين فأظهر لهما من نفسه حال المشفق الناصح, الذي لا يريد لهما إلا ما يعود بالخير عليهما, وقاسمهما على ذلك, فكان ما كان من مخالفة أمر الله تعالى, مما نتج عنه إخراج من الجنة, واهباط إلى هذه الأرض.
أيها الأحبة في الله:
وتلك الدعوة الأولى لإبليس في إظهار العورات, حمل على عاتقه بثّها بعد آدم في ذريته, وجنّد لذلك جنوده, لإدراكه بما تقود إليه, وإصابتها الأهداف التي يريدها فكانت دعوته للمجتمعات التي استجابت له هاوية مهلكة, ولججًا مظلمة في بحار الخنا والرذيلة.
أما المجتمعات التي استمسكت بأمر بها فهي في حصن حصين دون سهامه وشباكه, وهو لم ييأس في بث دعوته إليها بين الفينة والفينة, فإن ضعف استمساكها بشرع ربها, كان ذلك ثغرًا ينفذ منه الشيطان وجنوده سمومهم, فإن أدرك الخطأ, وسورع إلى سد الثغر عادت تلك السموم غصصًا في أجواف أصحابها.
وإن طغت الغفلة, فإن الثغر سيزيد, والخرق سيتسع على الراقع, ويكون للشيطان أبوابًا مشرعة إلى أنواع ضلالاته.
أيها الأحبة في الله:
وإن الحديث عن العورات وسترها لهو من الأهمية بمكان عظيم, لما لها من الأثر في مسيرة المجتمعات, وخاصة فيما يتعلق بالنساء, لما لهن من أثر وفتنة على الرجال, وبالتالي على المجتمع بأسره, فبصيانتها صون للمجتمع, وبإضاعتها إضاعة له, وقد حذر النبي من فتنة النساء فقال: ((واتقوا النساء, فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء)).
ولذا سأخص الحديث عن حجاب المرأة الذي هو عزها وجمالها وحريتها الحقيقية, التي تتحرر بها من كل شهوة ودعوة إلى الأغلال.
أيها المسلمون:
إن الله تعالى أراد من المرأة أن تكون في عزة وصيان, فشرع لها الحجاب, وأمرها به, لتكون في حمىً منيع, وحصن حصين, ولئلا تكون حقًا مشاعًا تتقلب في الاستمتاع بها كل عين, وتتأمل في جمالها كل نفس, بل إنها جوهرة مصونة, ودرة مكنونة, محفوظة أن تعبث بها الأيادي, ومستورة أن ترسل إليها السهام المسمومة, هكذا هي, حين تمسّك بأمر ربها. وتصون حجابها.
وأنعم من بنت صالحة, وأخت ناصحة, وزوج حافظة, وأم مربية, تظهر بصمات الخير التي أسدتها نورًا على جبين الجيل الذي تخرج على يديها.
أيها الأحبة في الله:
ولا يخفى عظيم ما يتركه الحجاب من أثر في المجتمعات, من طهر وصيانة, وحفظ للأعراض وطمأنينة للنفوس, والنهوض إلى الغايات السامية.
ولقد أدرك إبليس وجنده خطر ذلك الحجاب عليهم, ووقوفه عائقًا أمام مخططاتهم وأهدافهم التي يصبون إليها, فسعوا جاهدين في نزعه وإحلال السفور مكانه. متبعين بذلك طريقة قائدهم الأول إبليس في تزيين القول وتنميقه, فلا تراهم يدعون إلى السفور صراحة, ولا إلى الاغلال مواجهة, ولكن يدعون إليه باسم التقدم والحضارة, وباسم الحرية الشخصية, وباسم المساواة بين الرجل والمرأة, وهكذا يدقون على أوتار حساسة في النفوس الضعيفة حتى تنساق إلى دعوتهم, وتبارك خطوتهم.
أيها المسلمون:
وإن المتأمل في تاريخ الصدمات التي وجهها الغرب الكافر إلى كثير من ديار المسلمين يرى أن قضية السفور ونزع الحجاب من أولويات القضايا التي يبذلون لها كل جهد, ويجعلونها أساسًا في تحطيم كل مجتمع إسلامي, حتى قال بعضهم: "لا تستقيم حالة الشرق ما لم يرفع الحجاب عن وجه المرأة, ويغطى به القرآن".
وبهذه الطريقة نجحوا في كثير من مخططاتهم ووصلوا عن طريقها إلى كثير مما يصبون إليه, وهم لم ينتظروها ثمرة تقر بها أعينهم ما بين عشية وضحاها, ولكن خططوا لها على مدى سنين طوال.
ومن الأمثلة الصارخة بذلك ذلك المجتمع الذي كان الحجاب سائدًا على جميع نسائه, فأدرك الغرب أنهم لن يصلوا إلى نتيجة بالدعوة الصريحة إلى السفور, فكان أن أخذوا من أبناء ذلك المجتمع من يتربى في أحضانهم, ويستعظم حضارتهم الزائفة وتقدمهم المادي, حتى عاد أولئك الأبناء إلى مجتمعهم, ليكونوا أصواتًا تنعق باسم الغرب الكافر, وأقلامًا تكتب على حسابه, يعظمون في النفوس حضارته, ويباركون للناس خطاه, وأنه لن يكون هناك تقدم وتطور إلا بالأخذ بهديه وسبيله, وكانت قضية السفور هي أهم القضايا التي نالت أصواتًا في ندواتهم, وأقلامًا في صحفهم, حتى اغتر بذلك كثير من نساء ذلك المجتمع, ومع مرور الوقت أصبحن ينتظرن إشارة واحدة لينزعن الحجاب.
وهذا ما كان, لما أن جاء أحد أبناء ذلك المجتمع وهو زعيم فيه من ديار الغرب الكافر, وقد أخذت تلك التقاليد الغربية بمجامع قلبه, وكان في استقباله جموع من الرجال والنساء, فكان الرجال في سرادق خاص بهم, والنساء في سرادق آخر. فنزل من الباخرة, وأخذ طريقه إلى سرادق النساء وهن محجبات, فلما دخل عليهنّ استقبلته إحدى دعاة التحرير المزيف بحجابها المزوّر, فمدّ يده, فنزع الحجاب عن وجهها, تبعًا لخطة معينة, وهو يضحك, فصفقت تلك المرأة, وصفقت النساء لهذا الهتك المشين, ونزعن الحجاب, ومن ذلك اليوم أسفرت المرأة في ذلك المجتمع, حتى وصل إلى ما لم تحمد عقباه.
أيها الأحبة في الله:
وهكذا قلما قلّب المرء النظر في المجتمعات يرى أن ذلك الحجاب تحاربه أيدٍ مسمومة باسم التقدم والحضارة, وبأنه قيدٌ للمرأة, وذل لها.
حتى تجرأ أحدهم بخطاب إلى المرأة المسلمة يقول فيه:
مزقيه..
ذلك البرقع.. وارميه..
مزقيه...
أي شؤم أنت فيه؟
أي ليل أنت فيه؟
أي ذل أنت فيه؟
أي قبر أنت فيه؟
حطميه...
حطمي الخوف بعنف لا تأني
حطمي الصمت وقولي وتمني
حطمي السجن وقضبان التمني.
هكذا يرسمونها خُطًا مشؤومة في طريق المرأة لتنساق بضعفها إلى زينة القول, وزخرف الطريق, فإن لم تدرك حقيقة الأمر في بدايته, وانساقت وراء تلك الدعايات, فإنها ستدركه حتمًا حين تصل إلى نهاية الطريق, حين ترى عزتها نزعت من يديها, وأضحت ألعوبة, تتدافعها كل يد, ويتقلب فيها كل نظر.
أما المرأة المسلمة, المستمسكة بأمر ربها, فإنها كسرت كل يد امتدت لنزع حجابها, وصفعت كل وجه نادي إلى سفورها, وصدعت بما امتلأ به قلبها, فقالت:
أو ما كفاك به احتجابًا
اليوم واطرحي النقابا
يومه عنا وغابا
فمي ولم أعدم جوابًا
قد غركم إلا سرابا
غدا الرجال به ذئابًا
الأخلاق تنشعب انشعابًا
في الحشا جمرًا مذابا
صونًا وعيشًا مستطابًا
وارخوا عليهن النقابا
...
...
قالوا ارفعي عنك الحجابا
واستقبلي عهد السفور
عهد الحجاب لقد تباعد
فأجبتهم والضحك ملء
مهلاً فما هذا الذي
أولا ترون الغرب كيف
أولا ترون به عرى
كم نظرة للوجه تورث
إن ترغبوا لنسائكم
فدعوا السفور لأهله
ــــــــــــــــــــ(67/125)
الطلاق
...
...
1653
...
الأسرة والمجتمع, فقه
...
...
الطلاق, قضايا الأسرة
...
محمد بن محمد المختار الشنقيطي
...
...
المدينة المنورة
...
...
...
قباء
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- قصة بيت ينهدم بسبب كلمة. 2- السعادة الزوجية مرهونة بطاعة الزوجين لله. 3- كثر الطلاق عندما قل الخوف من الله بين الناس. 4- نصيحة إلى من يريد طلاق زوجته. 5- كلمة في فضل المدينة النبوية ، ودعوة للقيام بحق هذه البلدة المنورة.
الخطبة الأولى
أما بعد:
فيا عباد الله، اتقوا الله حقيقة التقوى واستمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى، واعلموا أن أجسادنا على النار لا تقوى، وأكثروا من ذكر الموت والبلى وقرب المصير إلى الله جل وعلا.
عباد الله:
كلمةٌ من الكلمات أبكت عيون الأزواج والزوجات، وروعت قلوب الأبناء والبنات، يا لها من كلمةٍ صغيرة، ولكنها جليلةٌ عظيمة خطيرة، الطلاق، الوداع والفراق والجحيم والألم الذي لا يطاق، كم هدم من بيوت للمسلمين، كم فرّق من شملٍ للبنات والبنين، كم قطّع من أواصر للأرحام والمحبين والأقربين، يا لها من ساعةٍ حزينةٍ، يا لها من ساعةٍ عصيبةً أليمة، يوم سمعت المرأة طلاقها، فكفكفت دموعها وودعت زوجها، ووقفت على باب بيتها؛ لتلقي آخر النظرات على بيتٍ مليءٍ بالذكريات، يا لها من مصيبةٍ عظيمةٍ، هُدمت بها بيوت المسلمين، وفُرّق بها شمل البنات والبنين.
الزواج نعمةٌ من نعم الله، ومنةٌ من أجلّ منن الله، جعله الله آية شاهدةً بوحدانيته، دالةً على عظمته وألوهيته، لكنه إنما يكون نعمةً حقيقية إذا ترسّم كلا الزوجين هدي الكتاب والسنة، وسارا على طريق الشريعة والملّة، عندها تضرب السعادة أطنابها في رحاب ذلك البيت المسلم المبارك، ولكن ما إن يتنكب الزوجان أو يتنكب واحدٌ منهما عن صراط الله حتى تفتح أبواب المشاكل، عندها تعظم الخلافات والنزاعات، ويدخل الزوج إلى بيته حزيناً كسيراً، وتخرج المرأة من بيتها حزينةً أليمةً مهانةً ذليلةً، عندها يعظم الشقاق ويعظم الخلاف والنزاع، فيفرح الأعداء ويشمت الحسّاد والأعداء، عندها – عباد الله – يتفرّق شمل المؤمنين، وتقطّع أواصر المحبين.
كُثر الطلاق اليوم حينما فقدنا زوجاً يرعى الذمم، حينما فقدنا الأخلاق والشيم، زوجٌ ينال زوجته اليوم فيأخذها من بيت أبيها عزيزةً كريمةً ضاحكة مسرورة، ويردها بعد أيام قليلة حزينة باكية مطلقة ذليلة.
كثر الطلاق اليوم حينما استخف الأزواج بالحقوق والواجبات، وضيّعوا الأمانات والمسئوليات، سهرٌ إلى ساعات متأخرةٍ، وضياعٌ لحقوق الزوجات، والأبناء والبنات، يُضحك الغريب ويبكي القريب، يؤنس الغريب يوحش الحبيب.
كثر الطلاق اليوم حينما كثر النمّامون، وكثر الحسّاد الواشون.
كثر الطلاق اليوم حينما فقدنا زوجاً يغفر الزلة ويستر العورة والهنّة، حينما فقدنا زوجاً يخاف الله ويتقي الله ويرعى حدود الله ويحفظ العهود والأيام التي خلت والذكريات الجميلة التي مضت.
كثر الطلاق اليوم حينما فقدنا الصالحات القانتات الحافظات للغيب بما حفظ الله، حينما أصبحت المرأة طليقة اللسان طليقة العنان، تخرج متى شاءت، وتدخل متى أرادت، خرّاجة ولاجة إلى الأسواق، إلى المنتديات، واللقاءات، مضيعة حقوق الأزواج والبنات، يا لها من مصيبةٍ عظيمةٍ.
كثر الطلاق اليوم حينما كثر الحسّاد والنمامون والواشون والمفرّقون.
كثر الطلاق اليوم حينما تدخّل الآباء والأمهات في شؤون الأزواج والزوجات، الأب يتابع ابنه في كل صغير وكبير، وفي كل جليل وحقير، والأم تتدخل في شؤون بنتها في كل صغير وكبير وجليل وحقير حتى ينتهي الأمر إلى الطلاق والفراق. ألم يعلما أنه من أفسد زوجةً على زوجها أو أفسد زوجاً على زوجته لعنه الله.
كثر الطلاق اليوم – عباد الله – لما كثرت المسكرات والمخدرات فذهبت العقول وزالت الأفهام، وتدنّت الأخلاق، وأصبح الناس في جحيم وألمٍ لا يطاق.
كثر الطلاق لما كثرت النعم وبطر الناس الفضل من الله والكرم، وأصبح الغني الثري يتزوج اليوم ويطلق في الغد القريب، ولم يعلم أن الله سائله، وأن الله محاسبه، وأن الله موقفه بين يديه في يوم لا ينفع فيه مالٌ ولا بنون ولا عشيرة ولا أقربون.
يا من يريد الطلاق، الطلاق الوداع والفراق، الطلاق جحيمٌ لا يطاق، الطلاق يبدد شمل البنات والبنين، ويقطّع أواصر الأرحام والأقربين.
الطلاق – عباد الله – مصيبة عظيمةٌ، فيا من يريد الطلاق اصبر فإن الصبر جميلٌ، وعواقبه حميدةٌ من الله العظيم الجليل.
يا من يريد الطلاق إن كانت زوجتك ساءتك اليوم فقد سرّتك أياماً، وإن كانت أحزنتك هذا العام فقد سرّتك أعواماً. يا من يريد الطلاق انظر إلى عواقبه الأليمة ونهاياته العظيمة، انظر لعواقبه على الأبناء والبنات، انظر إلى عواقبه على الذرية الضعيفة، فكم بُدد شملها، وتفرّق قلبها بسبب ما جناه الطلاق عليها.
يا من يريد الطلاق: صبرٌ جميلٌ فإن كانت المرأة ساءتك فلعل الله أن يخرج منها ذريةً صالحةً تقر بها عينك، قال ابن عباس في قوله تعالى: فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً.
قال: هو الولد الصالح. المرأة تكون عند زوجٍ تؤذيه وتسبّه وتُهينه وتؤلمه، فيصبر لوجه الله ويحتسب أجره عند الله ويعلم أن معه الله، فما هي إلا أعوامٌ حتى يقرّ الله عينه بذريةٍ صالحةٍ، وما يدريك فلعل هذه المرأة التي تكون عليك اليوم جحيماً لعلها أن تكون بعد أيام سلاماً ونعيماً، وما يدريك فلعلّها تحفظك في آخر عمرك، صبر فإن الصبر عواقبه حميدةٌ، وإن مع العسر يسراً.
عباد الله: اتقوا الله في الأزواج والزوجات ويا معاشر الأزواج تريثوا فيما أنتم قادمون عليه. إذا أردت الطلاق فاستشر العلماء، وراجع الحكماء، والتمس أهل الفضل والصلحاء، واسألهم عمّا أنت فيه وخذ كلمة منهم تثبتك، ونصيحةً تقوّيك.
إذا أردت الطلاق فاستخر الله وأنزل حوائجك بالله، فإن كنت مريداً للطلاق فخذ بسنة حبيب الله طلّقها طلقةً واحدةً في طهر لم تجامعها فيه، لا تطلّقها وهي حائضٌ فتلك حدود الله ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه، وإذا طلقتها فطلقها طلقة واحدةً، لا تزيد، جاء رجل إلى ابن عباس فقال: يا ابن عباس طلقت امرأتي مائة تطليقة. قال : (ثلاثٌ حرمت بهن عليك، وسبع وتسعون اتخذت بها كتاب الله هزواً). اللهم أصلح نياتنا، اللهم أصلح أزواجنا وذرياتنا وخذ بنواصينا إلى ما يُرضيك عنا.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي نزّل على عبده الفرقان؛ ليكون للعالمين نذيراً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إنه كان بعباده خبيراً بصيراً، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، أرسله بين يدي الساعة بشيراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فيا عباد الله أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل.
عباد الله: إن الله شرّف المدينة وكرّمها وعظّم شأنها وطيّبها، طيبةُ الطيبةِ مثوى رسول الله ، ودار المهاجرين والأنصار، دار الصفوة والخيرة والأبرار، يا لها من دارٍ إذا دخلها المؤمن تحرّكت في قلبه الذكريات من أخبار الصحابة والصحابيات، هنا كان مسجده، وهنا كان منبره، وهنا كان مصلاه، يا لها من دار تنبيك عن ملاحم الصفوة الأبرار، هذا أحدٌ جبلٌ يُحبّنا ونحبه، على سهله ملحمةٌ من ملاحم الإسلام ويومٌ من أيامه الجليلة العظام، سالت على ذلك السهل دماءُ الشهداء، وفاضت بجواره أرواح السعداء.
هذا بقيع الغرقد كم ضم في جنباته من الصحب الكرام، عشرة آلاف من أصحاب النبي عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام. كم ضمّ بين جوانحه من الأبرار والأخيار والعلماء الأعلام.
دارٌ وأي دار؟ أي دارٍ سكنتموها، وأي محلةٍ نزلتموها؟ إن لها عليكم حقاً كبيراً، دارٌ أحبّها رسول الله ودعا ربه أن يحببها إلى قلبه. قال فيه عليها الصلاة والسلام: ((اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا إلى مكة أو أشد)) قال فيها عليه الصلاة والسلام: ((اللهم إن عبدك وخليلك إبراهيم قد دعاك لمكة وإني أدعوك للمدينة: اللهم اجعل مع البركة بركتين، اللهم اجعل مع البركة بركتين)).
دار كان إذا أقبل عليها من السفر فبدت معالمها وبدا جبلُ أحدٍ من بعيدٍ أمام عينيه ضرب دابته وأسرع إليها صلوات ربي وسلامه عليه، أي دارٍ سكنتموها؟
فيا عباد الله: الله يعلم كم من قلوب حنّت وتمنت ركعة في مسجد رسول الله ، تمنت ألف صلاة في مسجده. تمنّت عمرة في هذا المسجد الطيب المبارك.
فيا عباد الله: إن لهذه الدار حقوقاً عظيمةً، طوبى لمن حفظ فيها حق الجوار، طوبى لمن خاف ربه ذا العزة والجلال الواحد القهار، طوبى لمن حفظ فيها الحرمات وابتعد عن الفواحش والمنكرات.
وهاأنتم اليوم – عباد الله – سكان طيبة الطيبة قد حل عليكم ضيفٌ كريمٌ، ضيفٌ ما وطئ الأرض أحب ولا أكرم على الله منه، حجاج بيت الله الحرام، ضيوفٌ على أهل طيبة الطيبة فافتحوا قلوبكم، وافتحوا صدوركم ودوركم، وخذوهم فإنهم ضيفٌ كريمٌ، ضيف يحبكم وتحبونه، ويجلّكم وتجلونه، فاظهروا لله ما يرضيه عنكم، ذكروا ناسيهم، ونبهوا غافلهم، وأطعموا جائعهم، واستروا عاريهم وأحسنوا إن الله يحب المحسنين.
صلوا وسلموا على خير الأنام، عليه من الله أفضل الصلاة وأزكى السلام، فقد أمركم الله بذلك حيث يقول ذو الجلال والإكرام: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً، وقال : ((من صلى علي مرة صلى الله عليه بها عشراً)) اليوم يوم الجمعة، يوم الصلاة والسلام على خير خلق الله، وإن صلاتكم معروضةٌ عليه، تسليماً، وزاده تشريفاً وتكريماً، اللهم ارض عن الخلفاء الراشدين
ــــــــــــــــــــ(67/126)
بركة الرزق
...
...
1665
...
الأسرة والمجتمع, التوحيد
...
...
الربوبية, قضايا المجتمع
...
محمد بن محمد المختار الشنقيطي
...
...
المدينة المنورة
...
...
...
قباء
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- الله خلق الخلق وقدر أرزاقهم. 2- البركة في الرزق تجعل القليل كثيراً. 3- التقوى سبب من أسباب البركة. 4- الدعاء سبب من أسباب البركة. 5- صلة الرحم سبب في البركة. 6- الإنفاق في سبيل الله من أسباب البركة. 7- الكسب الطيب كسب مبارك. 8- نصيحة عن الزواج وآدابه.
الخطبة الأولى
أما بعد:
فيا عباد الله اتقوا الله حقيقة التقوى، واستمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى، واعلموا أن أجسادنا على النار لا تقوى، وأكثروا من ذكر الموت والبلى وقرب المصير إلى الله جل وعلا.
عباد الله: إن الله أنعم علينا بنعم عظيمة ومنن جليلة كريمة. نعم لا تعد ولا تحصى ومنن لا تكافأ ولا تجزى، فما من طرفة عين إلا والعبد ينعم فيها في نعم لا يعلم قدرها إلى الله جل وعلا: وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين [هود: 6].
خلق الخلق فأحصاهم عددًا وقسم أرزاقهم وأقواتهم فلم ينس منهم أحدًا، فما رفعت كف طعام إلى فمك وفيك إلا والله كتب لك هذا الطعام قبل أن يخلق السموات والأرض، سبحان من رزق الطير في الهواء والسمكة والحوت في ظلمات الماء، سبحان من رزق الحية في العراء والدود في الصخرة الصماء، سبحان من لا تخفى عليه الخوافي فهو المتكفل بالأرزاق، كتب الآجال والأرزاق وحكم بها فلم يعقب حكمه، ولم يُردُّ عليه عدله، سبحان ذي العزة والجلال مصرف الشؤون والأحوال.
وإذا أراد الله بالعبد خيرًا بارك له في رزقه، وكتب له الخير فيما أولاه من النعم, البركة في الأموال، والبركة في العيال، والبركة في الشؤون والأحوال، نعمة من الله الكريم المتفضل المتعال, الله وحده منه البركة ومنه الخيرات والرحمات، فما فتح من أبوابها لا يغلقه أحد سواه، وما أغلق لا يستطيع أحد أن يفتحه.
لذلك عباد الله: إذا أراد الله بالعبد خيرًا بارك له في رزقه وقوته، إنها البركة التي يصير بها القليل كثيرًا، ويصير حال العبد إلى فضل ونعمة وزيادة وخير، فالعبرة كل العبرة بالبركة, فكم من قليل كثره الله، وكم من صغير كبره الله, وإذا أراد الله أن يبارك للعبد في ماله هيأ له الأسباب وفتح في وجهه الأبواب.
ومن أعظم الأسباب التي تفتح بها أبواب الرحمات والبركات تقوى الله جل جلاله، تقوى الله التي يفتح الله بها أبواب الرحمات ويجزل بها العطايا والخيرات ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض [الأعراف:66]. الخير كل الخير، وجماع الخير في تقوى الله جل وعلا، ومن اتقى الله جعل له من كل هم فرجًا ومن كل ضيق مخرجًا، ورزقه من حيث لا يحتسب، فلن تضيق أرض الله على عبد يتقي الله، ولن يضيق العيش والرزق على من خاف الله واتقاه.
عباد الله: ومن أسباب البركات ومن الأمور التي يفتح به الله أبواب البركات على العباد الدعاء والالتجاء إلى الله جل وعلا، فهو الملاذ وهو المعاذ, فإن ضاق عليك رزقك وعظم عليك همك وغمك وكثر عليك دينك فاقرع باب الله الذي لا يخيب قارعه، واسأل الله جل جلاله فهو الكريم الجواد، وما وقف أحد ببابه فنحّاه، ولا رجاه عبد فخيبه في دعائه ورجاه، "دخل النبي يومًا إلى مسجده المبارك فنظر إلى أحد أصحابه وجده وحيدًا فريدًا ونظر إلى وجه ذلك الصحابي فرأى فيه علامات الهم والغم رآه جالسًا في مسجده في ساعة ليست بساعة صلاة فدنى منه الحليم الرحيم صلوات الله وسلامه عليه ـ وكان لأصحابه أبر وأكرم من الأب لأبنائه ـ وقف عليه رسول الهدى فقال: ((يا أبا أمامة ما الذي أجلسك في المسجد في هذه الساعة؟)) قال: يا رسول الله، هموم أصابتني وديون غلبتني ـ أصابني الهم وغلبني الدين الذي هو همّ الليل وذل النهار ـ فقال : ((ألا أعلمك كلمات إذا قلتهن أذهب الله همك وقضى دينك)) صلوات ربي وسلامه عليه، ما ترك باب خير إلا ودلنا عليه, ولا سبيل هدى ورشد إلا أرشدنا إليه فجزاه الله عنا خير ما جزى نبيًا عن أمته ((ألا أدلك على كلمات إذا قلتهن أذهب الله همك وقضى دينك؟)) قال: بلى يا رسول الله، قال: ((قل إذا أصبحت وأمسيت اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، وأعوذ بك من العجز والكسل، وأعوذ بك من الجبن والبخل، وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال)) قال وأرضاه: فقلتهن فأذهب الله همي وقضى ديني"[1].
الدعاء حبل متين وعصمة بالله رب العالمين إياك نعبد وإياك نستعين [الفاتحة:5]. فإذا أراد الله أن يرحم المهموم والمغموم والمنكوب في ماله ودينه ألهمه الدعاء، وشرح صدره لسؤال الله جل وعلا من بيده خزائن السموات والأرض، يده سحاء الليل والنهار لا تغيضها نفقة.
ومن أسباب البركات، ومن الأسباب التي يوسع فيها على أرزاق العباد صلة الأرحام، قال : ((من أحب منكم أن يبسط له في رزقه، وأن ينسأ له في أثره، وأن يزاد له في عمره فليصل رحمه))[2].
صِلُوا الأرحام؛ فإن صلتها نعمة من الله ورحمة يرحم الله بها عباده، أدخل السرور على الأعمام والعمات، والأخوال والخالات، وسائر الأرحام والقرابات. فمن وصلهم وصله الله وبارك له في رزقه ووسع له في عيشه.
ومن أسباب البركات التي توجب على العباد الرحمات والنفقات والصدقات، فمن يسر على معسر يسر الله له في الدنيا والآخرة، ومن فرج كربة المكروب فرج الله كربته في الدنيا والآخرة، فارحموا عباد الله يرحمكم من في السماء، والله يرحم من عباده الرحماء، وما من يوم تصبح فيه إلا وملكان ينزلان يقول أحدهما: اللهم أعط منفقًا خلفًا، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكًا تلفًا[3].
يا ابن آدم أنفق ينفق الله عليك، وارحم الضعفاء يرحمك من في السماء، فرجوا الكربات وأغدقوا على الأرامل والمحتاجين، فإن الله يرحم برحمته عباده الراحمين، قال : ((يا أسماء أنفقي يُنفق الله عليك، ولا توعي فيوعي الله عليك))[4]امرأة يقول لها أنفقي ينفق الله عليك، فمن أنفق لوجه الله ضاعف الله له الأجر؛ فالحسنة بعشر أمثالها إلى سبع مائة ضعف إلى أضعاف كثيرة لا يعلمها إلا الله، ولك الخلف من الله، فما نقصت صدقة من مال. كان الناس إلى عهد قريب يعيشون حياة شديدة صعيبة، ومع ذلك فرج الله همومهم، ونفس الله غمومهم بفضله ثم بما كان بينهم من الرحمات، كانوا متراحمين متواصلين متعاطفين فجعل الله القليل كثيرًا، وانظر إلى أصحاب رسول الله كيف كانوا رحماء بينهم فرحمهم الله من عنده.
ومن الأسباب التي يبارك الله بها في الأرزاق، بل يبارك بها في الأعمار وفي أحوال الإنسان العمل والكسب الطيب، الإسلام دين العمل، دين الكسب، الحلال الذي يعف الإنسان به نفسه عن القيل والقال وسؤال الناس، فمن سأل الناس تكثرًا جاء يوم القيامة وليس على وجهه مزعة لحم[5] والعياذ بالله.
خذ بأسباب الرزق وامش في مناكبها فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور [الملك: 15]. بسط الله الأرض وأخرج منها الخيرات والبركات، وجعل الخير في العمل، والشر في البطالة والكسل، الإسلام دين الجهاد والعمل قال : يرشدنا إلى فضل الأعمال وما فيها من الخير في الأرزاق ((وجعل رزقي تحت ظل رمحي))[6].
فليست الأرزاق أن يجلس الإنسان في مسجده، فلا رهبانية في الإسلام فإن السماء لا تمطر ذهبًا ولا فضة، خذوا بالأسباب واطلبوا الرزق الحلال من أبوابه يفتح الله لكم من رحمته، وينشر لكم من بركاته وخيراته، الرجل المبارك يسعى على نفسه وأهله وولده، فيكتب الله له أجر السعي والعمل، ليس العمل بعار، فقد عمل أنبياء الله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، كان نبي الله داود يعمل صنعة لبوس فكان يعمل في الحدادة فكانت منة من الله على عباده.
ليس بعار أن تكون حدادًا أو نجارًا، ولكن العار كل العار في معصية الله جل وعلا والخمول والكسل والبطالة حين يعيش الإنسان على فتات غيره، حين يعيش الرجل على فتات غيره مع أنه صحيح البدن قوي في جسده، فهذا من محق البركة في الأجساد، فخذوا رحمكم الله بأسباب البركة بالعمل المباح والكسب المباح، فلن يضيق الرزق بإذن الله على من اكتسب, قال : ((لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصًا وتروحوا بطانًا))[7] فأخبر أنها تغدو وأخبر أنها تذهب، فمن ذهب للرزق يسر الله أمره، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون [الحشر:18].
اللهم بارك لنا في القرآن العظيم وانفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول قولي هذا واستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] رواه أبو داود في كتاب الوتر, باب في الاستعاذة (4/412) عون المعبود شرح سنن أبي داود، عن أبي سعيد الخدري.
[2] رواه البخاري في كتاب الأدب، باب من بسط له الرزق بصلة الرحم (10/429) فتح، ومسلم في كتاب البر، باب صلة الرحم وتحريم قطعها (16/114) بشرح النووي، عن أنس.
[3] رواه البخاري في كتاب الزكاة, باب قول الله تعالى: فأما من أعطى واتقى... (3/304) فتح، ومسلم في كتاب الزكاة، باب كل نوع من المعروف صدقة (7/95) بشرح النووي، عن أبي هريرة.
[4] رواه مسلم في كتاب الزكاة، باب الحث على الإنفاق وكراهة الإحصاء (7/118) بشرح النووي، عن أسماء.
[5] كما عند البخاري في كتاب الزكاة، باب الحث على الإنفاق وكراهة الإحصاء (7/118) بشرح النووي، عن أسماء.
[6] رواه البخاري تعليقًا في كتاب الجهاد, باب ما قيل في الرماح، ورواه أحمد (2/50) عن ابن عمر.
[7] رواه أحمد (1/30) والترمذي في كتاب الزهد، باب ما جاء في الزهادة في الدنيا، عن عمر بن الخطاب.
الخطبة الثانية
الحمد لله الواحد القهار، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، مقلب القلوب والأبصار، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله المصطفى المختار، صلى الله عليه وعلى آله الطيبين الأطهار وعلى جميع أصحابه الأبرار ومن سار على نهجهم واهتدى بهديهم ما أظلم الليل وأضاء النهار.
أما بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل.
عباد الله:
بعد أيام قليلة ينتهي هذا النصف من العام الدراسي وتُقبل العطل على الناس فيعيش الناس هذه العطلة والله أعلم بما غيبت لهم من الأقدار والأخبار, ولكنَّ كثيرًا من الناس قد يكرمهم الله عز وجل بفضله فيغتنمون هذه العطل في خير يعود عليهم بصلاح دينهم ودنياهم وأخراهم.
ومن الأمور التي يكثر وقوعها في هذه العطلة: الزواج: الرحمة العظيمة والمنة الجليلة الكريمة التي بها يضاف بيت مسلم إلى بيوت المسلمين فنسأل الله العظيم أن يبارك للمسلمين فيما يكون لهم من ذلك وأن يجعل أفراحهم عونًا على طاعته ومحبته ومرضاته، وأن يُخرجَ منها الذرية الصالحة التي تقر بها العيون.
فيا معشر الشباب، يا معشر الآباء والأمهات إن الزواج مسئولية عظيمة، فمن أراد أن يكرمه الله بنعمته فليأخذ بأسباب الخير في هذا الرباط العظيم خيرها وأفضلها:
أن يتقي الله عز وجل في نكاحه فلا تنكح إلا عبدًا صالحًا ولا تنكح إلا مؤمنة تتقي الله وتخافه قال رجل للحسن البصري رحمه الله: يا إمام إن لي ابنة لمن أزوجها؟ قال: زوجها التقي؛ فإنه إن أمسكها أكرمها وإن طلقها لم يظلمها.
فاتقوا الله عز وجل في اختيار الأزواج والزوجات، وإذا أكرمك الله فوجدت المرأة الصالحة وأردت أن تبني هذا البيت فابنه على تقوى من الله ورضوانه، فإنه الأساس المتين والحصن الحصين بإذن الله رب العالمين، فمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان أسعده الله في حياته وبارك له في نفقة الزواج, فخير النساء وأبركهن أيسرهن مئونة، فإياك والإسراف, إياك والبذخ, فإن الله لا يحب المسرفين، واشكر نعمة الله عز وجل عليك، وجليل منته لديك، إذ أعطاك المال وحرم غيرك، فاتق الله في مالك وما تنفقه في زواجك ونكاحك، واطلب اليسير فإن الله يجعله كثيرًا بفضله ورحمته.
لو كان التفاخرُ في المهور ومئونة النكاح خيرًا لفعله رسول الله والأخيار من بعده فخيرُ النساء وأبركهن أيسرهن مئونة.
الأمر الثالث: اتق الله في ليلة عُرسك، اتق الله أن تستفتح هذا الزواج بمعاصي الله، وانتهاك حدود الله ومحارم الله وجمع العباد على ما يسخط الله ويغضب الله، اللهَ اللهَ أن تستفتح هذا النكاح بما يوجب غضب الله عليك وسخطه عليك فإنه من يخادع الله يخدعه، ومن يكفر نعمة الله عز وجل فإن الله عزيز ذو انتقام.
عباد الله: إن الله أمرنا بالصلاة والسلام على خير الأنام رسول الخير والسل
ــــــــــــــــــــ(67/127)
صلاح الأبناء
...
...
1668
...
الأسرة والمجتمع
...
...
الأبناء
...
محمد بن محمد المختار الشنقيطي
...
...
المدينة المنورة
...
...
...
قباء
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- الولد الصالح زينة من زينة الحياة الدنيا. 2- الأنبياء يسألون الله صلاح ذرياتهم. 3- دور القدوة الصالحة للأب في صلاح الأبناء. 4- دور الموعظة والتربية في صلاح الأبناء. 5- ثمرات صلاح الأولاد. 6- واجبات على الأب تجاه ابنه وابنته.
الخطبة الأولى
أما بعد:
فيا عباد الله أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل.
عباد الله: صلاح الأبناء والبنات أمنية الآباء والأمهات، يا لها من نعمةٍ عظيمةٍ، يا لها من منةٍ جليلة كريمةٍ، يوم تمسي وتصبح، وقد أقرّ الله عينيك بالذرية الصالحة، ذرية تخاف الله، ذرية تقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة.
الولد الصالح بهجة الحياة، وسرورها، وأنسها، وفرحتها، تحبه ويحبك، توده، ويودك، وتأمره فيطيعك ويبرّك، الولد الصالح يفتقر أول ما يفتقر إلى دعوة صالحةٍ تهديه إلى الله، يحتاج أول ما يحتاج إلى صالح الدعوات إلى الله فاطر الأرض والسموات، مصلح الأبناء والبنات، قال الله عن عبده الخليل عليه من الله الصلاة والسلام: رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي ربنا وتقبل دعاء [إبراهيم:40]. وقال الله عن نبيه زكرياً: رب هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء آل عمران:8]. قل كما قال الأخيار، وصفوة عباد الله الأبرار: ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماماً [الفرقان:74].
علم الأخيار أنه لا صلاح للأبناء والبنات إلا بالله، وأنه لا يهدي قلوبهم أحدٌ عداه، فصدعوا إلى ربهم بالدعوات، ما أحوج بناتك وأبنائك إلى دعواتك الصالحة، سلوا الله للأبناء البنات الصلاح، سلوا لهم الخير، والسداد، والفلاح.
صلاح الأبناء والبنات يكون أول ما يكون منك، يكون من حركاتك وسكناتك، يكون من أقوالك وأفعالك، يوم ينشأ الابن وتنشأ البنت في أحضان أب يخاف الله، وفي أحضان أم تخشى من الله.
صلاح الأبناء والبنات يقوم أول ما يقوم على قدوة صالحة من الآباء والأمهات، إن رآك ابنك تخاف من الله خافه، وإن رآك ابنك تخشى من الله عظمه وهابه، إن رآك ابنك مع المصلين كان من المصلين. إن رآك ابنك من الأخيار والصالحين كان من الأخيار والصالحين.
القدوة الصالح نبراس للذريات، ودليلٌ يهدي قلوب الأبناء والبنات.
صلاح الأبناء والبنات يحتاج منك إلى كلمات نافعات وتوجيهات ومواعظ مؤثرات وإذ قال لقمان لابنه وهو يعظه يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلمٌ عظيم [لقمان:13]. أخذ بمجامع ذلك القلب البريء إلى الله، وعلمه توحيد الله والعبودية لله، فخذوا بمجامع لقلوبهم إلى الله خذوهم بنصيحة مؤثرة وموعظة بليغةٍ تأخذهم إلى محبة الله ومرضاة الله. كم من نصيحةٍ من أبٍ ناصح، وأم مشفقة ناصحة نفعت الأبناء والبنات ما عاشوا أبداً.
صلاح الأبناء والبنات يتوقف على أمرهم بالصلوات، الصلاة عماد الدين ومرضاة الله رب العالمين، فمروهم بها تصلح أحوالهم وتصلح شؤونهم أقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون [العنكبوت:45].
علم الخليل عليه الصلاة والسلام عظيم شأن الصلاة فرفع كفّه إلى الله داعياً سائلاً ضارعاً رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي [إبراهيم:40]. أي رب اجعل ذريتي تقيم الصلاة.
مروا أولادكم بالصلاة إذا بلغ الابن سبع سنين وبلغت البنت سبع سنين، فالله سائلك يوم القيامة هل أمرته بالصلاة، وليتعلقن الابن بأبيه بين يدي الله في يوم لا ينفع فيه مالٌ ولا بنون، يقول: يا رب ما أمرني بالصلاة، يا رب تركني نائماً، يا رب ما أمرني بطاعتك. وتتعلق البنت بأمها في يومٍ يفر فيه المرء من أخيه وأمه وأبيه، وصاحبته وبنيه.
صلاح الأبناء والبنات يتوقف على أمرهم بالأخلاق الفاضة، والآداب الكريمة يا بني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور ولا تصعر خدك للناس ولا تمش في الأرض مرحاً إن الله لا يحب كل مختال فخور [لقمان:17-18].
أمر الأبناء بالأخلاق الفاضة والآداب الجليلة الكاملة، يعوّدهم على الخير والصلاح، يقودهم إلى مناهج الفلاح، علّموهم إفشاء السلام وإطعام الطعام وخصال الكرام، وعوّدوهم على هدي أهل الإسلام يكن لكم في ذلك خيري الدنيا والآخرة.
عباد الله: من صلاح الأبناء والبنات، أمرهم بصلة الأرحام، وزيارة الأخوال والخالات والعمّات والأعمام، والله ما علمت ابنك صلتهم فرفع قدمه في ضياء نهار أو ظلمة ليل إلا كتب الله لك أجره، ما علّمته خصلة من خصال الخير إلا كتب الله لك أجره، ما عمل بها حياته أبداً.
صالح الأبناء والبنات تقر به العيون في الحياة وفي الممات، تقر به عينك في الدنيا، تراه عبداً ناصحاً، عبداً خيراً صالحاً، إن أمرته أطاعك، وإن طلبته برّك، وكان لك بعد الله نعم المعين، وكان لك الناصح الأمين.
صلاح الأبناء والبنات تقر به العيون في اللحود والظلمات يوم تغشاك منه صالح الدعوات وأنت في القبور وحيداً، وأنت في مضاجعها فريداً، يذكرك بدعوةٍ صالحة، ينعّمك بها الرحمن، ويغشاك منه الروح والريحان.
صلاح الأبناء والبنات تقرّ به العيون في الموقف بين يدي الديان، حجابٌ من النار، قال : ((من ابتلي بشيءٍ من هذه البنات فأدّبهن فأحسن تأديبهن ورباهن فأحسن تربيتهن كن له حجاباً من النار))[1].
اللهم يا مصلح الذريات أصلح ذرياتنا، اللهم أصلح شباب المسلمين، اللهم أصلح شباب المسلمين وشاباتهم يا أرحم الراحمين، اللهم خذ بنواصيهم إلى البر والتقوى، وألهمهم السداد والهدى.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] رواه البخاري في كتاب الزكاة ، باب اتقوا النار ولو بشق تمرة (3/283) فتح ، ومسلم في كتاب البر والصلة والآداب ، باب الإحسان إلى البنات(16/179) بشرح النووي ، عن عائشة ، ولفظه فيهما (من ابتلى من البنات بشيء فأحسن إليهن كن له ستراً من النار).
الخطبة الثانية
الحمد لله ذي العزة والجلال، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له العظمة والكمال، يصرّف الشؤون والأحوال، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، الذي أرسله بطيّب الخلال وكريم الخصال، صلى الله عليه وعلى جميع الصحب والآل، ومن سار على نهجهم إلى يومٍ تسيّر فيه الجبال.
أما بعد:
فيا عباد الله أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل.
أخي المسلم، أختي المسلمة: إن الله عز وجل إذا أنعم عليك بالذرية، ونظرت عيناك إلى ابنك وبنتك، فاعلم أن الله عليك حقاً عظيماً، وفضلاً جليلاً كريماً، فليكن:
- أول ما يكون منك أن تقول بلسان حالك ومقالك: الحمد لله، الحمد لله حيث لم يقطع مني نسلي، ولم يجعلني عقيماً لا ولد لي، فهو الذي وهبك وهو الذي تفضّل عليك، فاشكره فقد تأذّن للشاكرين بالمزيد.
- الأمر الثاني: أن تأخذ من نفسك أن يكون في نفسك الشعور بعظيم المسئولية، الأبناء والبنات ما هم إلا أمانة وضعت في عنقك إما أن تنتهي بك إلى جنةٍ أو إلى نار، أبناؤك وبناتك مسئوليةٌ قبل أن يكونوا أبناءً وبناتاً فإنهم واجب ومسئوليةٌ. قال : ((كلكم راعٍ وكلكم مسئولٌ عن رعيته))[1]. ولتقفن بين يدي الله فيحاجك الابن وتحاجك البنت، فإما أن يكونوا سبيلاً لك إلى الرحمة أو إلى العذاب، فاسأل الله خيرهم واستعذ بالله من شرهم، فما هم إلا فتنة وزينة في الحياة، واضرع إلى الله جل وعلا أن يعينك على إسداء الخير إليهم.
- الأمر الثالث: إن الله أمرك في أبنائك وبناتك أن تكون من العادلين اعدلوا بين أولادكم، اعدلوا بين أبنائكم وبناتكم، لا تفضلوا الأبناء الذكور، ولا تفضلوا البنات الإناث، واتقوا الله في الجميع، فإذا عدلت بين أبنائك وبناتك حللت منابر من نور في الجنان على يمين الرحمن في يوم يغبطك فيه الأنبياء والصديقون قال : ((إن المقسطين على منابر من نورٍ يوم القيامة يغبطهم عليها الأنبياء والشهداء الذين يعدلون في أهليهم وما ولوا))[2].
- فإياك أن تفضّل بعض أبناءك بالعطية، إياك أن تكتب أرضاً، أو تعطي مالاً، أو تهدي سيارة أو عقاراً إلى ابن أو بنتٍ، بل اتق الله فيهم واعدل بينهم، إن ظلم الأبناء والبنات يوجب الحقد والبغضاء ويوجب انتشار الشحناء، فتتفرق قلوبهم، وتتقطع أواصر المحبة بينهم. كان السلف الصالح رحمة الله عليهم يعدلون بين أولادهم حتى لو قبّل أحدهم ابناً ذهب إلى البنت وقبّلها، يخاف من الله عز وجل أن يكون مفضلاً لواحدٍ منهم على الآخر.
- الأمر الرابع: إياك أن يكون أبناؤك وبناتك سبباً في أذية المسلمين احفظهم عن أذية الأقرباء وعن أذية الجيران، وعن أذية المسلمين خاصة في بيوت الله، إذا دخلت بهم إلى المساجد فاجلعهم عن يمينك ويسارك، واجعلهم تحت نظرك وملاحظتك، خذهم بالتوجيه والإرشاد قبل أن تأخذهم دعوة عبدٍ صالح فتهلكهم. حافظوا على الأبناء والنبات في بيوت الله وامنعوهم من العبث والتشويش على المصلين الواقفين بين يدي الله.
- الأمر الخامس: إياك أن يكون أبناؤك سبباً في أذية المسلمين فتنجرّ وراء العواطف لتشتري لصغير السن والحدث سيارة تزهق بها الأرواح وتسفك بها الدماء، ويكون بها الشقاء والعناء، اتقوا الله في أولادكم، وإياكم والانسياب وراء العواطف.
ألا وصلوا وسلموا على خير خلق الله، فقد أمركم الله بذلك حيث يقول جل في علاه: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسيماً. وقال : ((من صلى علي مرة، صلى الله عليه بها عشراً)) اللهم صل وسلم وبارك وأنعم على خير خلقك وأفضل رسلك سيدنا ونبينا محمدٍ، اللهم ارض عن خلفائه الراشدين. .
[1] رواه البخاري في كتاب الجمعة ، باب الجمعة في القرى والمدن (2/141) فتح ، ومسلم في كتاب الإمارة ، باب فضيلة الأمير العادل (12/213) بشرح النووي عن ابن عمر.
[2] رواه مسلم في كتاب الإمارة ، باب فضيلة الأمير العادل (12/211) بشرح النووي ، عن ابن عمرو.
ــــــــــــــــــــ(67/128)
آداب الاستئذان
...
...
1760
...
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
...
...
الآداب والحقوق العامة, قضايا الأسرة
...
سعيد بن يوسف شعلان
...
...
جدة
...
...
...
عمار بن ياسر
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- وجوب الاستئذان قبل دخول البيوت. 2- الاستئذان ثلاثاً وإلا يرجع المستأذن. 3- كيفية الاستئذان وآدابه. 4- الاستئذان على المحارم وأهل بيته. 5- بعض الآداب التي فرط بها المسلمون. 6- الاستئذان في المكاتب الرسمية وأماكن النفع العام.
الخطبة الأولى
وبعد:
يقول الله تبارك وتعالى في سورة النور في الآية السابعة والعشرين إلى نهاية الآية التاسعة والعشرين أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتاًً غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها ذلكم خير لكم لعلكم تذكرون فإن لم تجدوا فيها أحداً فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم والله بما تعملون عليم ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتاً غير مسكونة فيها متاع لكم والله يعلم ما تبدون وما تكتمون هذه من الآداب الشرعية التي أدب الله تبارك وتعالى بها عباده المؤمنين، أمرهم أن لا يدخلوا بيوتاً غير بيوتهم حتى يستأنسوا أي يستأذنوا قبل الدخول ويسلموا بعده لإيناس من في البيت وإزالة الوحشة من نفوسهم ولتمكينهم من الاستعداد لاستقبالهم حتى لا يفاجئوهم على حالة لا يحبون أن يراهم عليها أحد، ولهذا فإن عليه أن يستأذن.
على الذي يريد الزيارة أن يستأذن ثلاث مرات، فإن أذن له وإلا رجع كما ثبت في صحيح البخاري عن أبي موسى حين استأذن على عمر بن الخطاب ثلاثاً فلم يؤذن له فرجع، فقال عمر بعد ذلك: ألم أسمع صوت عبد الله بن قيس يستأذن؟ ائذنوا له. فطلبوه فوجدوه قد ذهب ثم جاء بعد ذلك فقال له عمر: ما أرجعك؟ فقال: إني استأذنت ثلاثاً فلم يؤذن لي، وإني سمعت رسول الله يقول: ((إذا استأذن أحدكم ثلاثاً فلم يؤذن له فلينصرف)) فقال عمر: (لتأتيني على هذا بالبينة وإلا أوجعتك ضرباً) وهذا أسلوب كان يتبعه عمر بن الخطاب حتى لا يزين لكل امرئ أن يقول قولاً ثم يقول إن رسول الله هو الذي قاله، مع حسن الظن بخير خلق الله صحابة رسول الله ، ولكن كان هذا مسلكه فذهب أبو موسى إلى ملأ من الأنصار فذكر لهم ما قاله عمر فقالوا: (لا يشهد لك إلا أصغرنا: أبو سعيد الخدري فذهب معه فأخبر عمر بذلك فقال عمر: ألهاني الصفق بالأسواق) أي أن خروجي للتجارة والعمل كان يفوت علي أن أسمع بعض ما سمعتم.
ثم إن رسول الله نفسه وهو المرغوب في دخوله البيوت والجلوس والاجتماع معه لما في ذلك الخير والعلم والتأدب، هو نفسه كان يستأذن ثلاثاً فإن لم يؤذن له رجع، وفي ذلك ما رواه أحمد عن أنس قال: ((استأذن النبي على سعد بن عبادة فقال: السلام عليكم ورحمة الله فقال سعد: وعليك السلام ورحمة الله، فلم يسمع النبي ففعل ذلك النبي ثلاثاً ورد سعد ثلاثا،ً فرجع النبي فتبعه سعد وقال: يا رسول الله بأبي أنت وأمي ما سلمت تسليمة إلا وهي بإذني، وإنما أردت أن أستكثر من سلامك ومن البركة، ثم أدخله البيت فقرب إليه زبيباً فأكل ثم قال: أكل طعامك الأبرار وصليت عليكم الملائكة وأفطر عندكم الصائمون)) ورواه أبو داود والنسائي.
وعن قيس بن سعد بن عبادة أنه قال: زارنا رسول الله في منزلنا فسلم فرد سعد خفياً فقلت: ألا تأذن لرسول الله ؟ فقال: دعه يكثر علينا من السلام فلما سلم ثلاثاً، انصرف فتبعه سعد وأدخله البيت - كما عرفتم في الرواية الأولى- ثم قدم إليه غسلاً فاغتسل ثم ناوله سعد خميصة مصبوغة بالزعفران أو الورث فاشتمل بها ثم رفع يده فقال: اللهم اجعل صلاتك ورحمتك على آل سعد بن عبادة، ثم قرب إليه طعاماً فلما أصاب من الطعام دعا لسعد فلما أراد أن ينصرف قدم سعد وقرب حماراً عليه قطيفة ليركب رسول الله إلى بيته وقال: يا قيس اصحب رسول الله فقال له الرسول : إما أن تركب وإما أن تنصرف، فأبيت أن أركب، وانصرف عني.
هكذا رسول الله يستأذن ثلاثاً فإن لم يؤذن له رجع، لا كما يفعل بعضنا على باب إخوانه يطرق ويطرق ويطرق، ويأبى أن ينصرف أبداً، حتى يزعج أهل البيت فيفتحوا له، وإن لم يفتحوا له رجع مغضباً حزيناً ووجد في نفسه عليهم أشد الوجد والأثر، وجعلها سبباً من أسباب القطيعة والخصام أبداً.
ما حدث لنا ذلك في هذه الأيام والأوقات والعصور إلا لما وقع بيننا وبين آداب ديننا من جفاء ولِما أصبحنا عبيداً له وأسارى من أعراف وتقاليد خاطئة.
ثم على الذي يستأذن أن لا يستقبل الباب من تلقاء وجهه أن يكون عن يمين الباب أو عن يساره، فقد روى أبو داود عن عبد الله بشر قال: (كان رسول الله إذا أتى باب قوم لم يستقبل الباب ولكن من ركنه الأيمن أو الأيسر ويقول: السلام عليكم، السلام عليكم، ذلك أن الدور لم يكن عليها يومئذ ستور).
وروى كذلك أبو داود أن رجلاً جاء فقام على باب النبي وفي رواية أنه سعد فلما وقف على الباب استقبله استقبالاً فقال له النبي : ((عنك هكذا أو هكذا، فإنما الاستئذان من النظر)) ولهذا ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة أن رسول الله قال - انظروا إلى ما أراده الدين الحنيف للبيوت من حرمة لا يجوز أن يستبيحها أحد من الداخلين أو الناظرين - يقول رسول الله : ((لو أن أمراً اطلع في بيتك من غير إذنك فحذفته بحصاة ففقأت عينه ما كان عليك من جناح)).
وفي رواية الإمام أحمد والنسائي وابن أبي عاصم وصححها ابن حبان والبيهقي: ((فلا دية له ولا قصاص))، ((لو أن رجلاً اطلع)) أي أنه مثلاً وجد نافذة بيتك مفتوحة فوضع رأسه فيها ينظر أو كان في طاق فوضع عينه فيها ينظر ماذا بداخل البيت هل يأكلون، هل هم نائمون، هل يقولون كلاما لو سمعته أضيف إلى علمه جديد، هكذا لو أن هذا الناظر لحظه من في البيت فحذفوا عينه بحصاة ففقأت، فلا دية له ولا قصاص ((ما كان عليك من جناح)).
وروى الجماعة عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: ((أتيت النبي في دين كان على أبي فدققت الباب فقال: من ذا؟ قلت: أنا أنا، فقال النبي : أنا أنا، كأنه كرهه )) لأنه لو عبر كل أحد بلفظ: أنا، لم يحصل المقصود من الاستئذان ولما عرف الذي يستأذن حتى يتمكن أهل البيت من الإذن له أو لعلهم لا يرغبون في زيارته فيعتذرون، فأحب النبي لهذا المستأذن عليه أن يقول: فلان.
أما: أنا أنا، فكما سمعتم استنكرها النبي .
وروى أبو داود بإسناده إلى ربعي قال أتى رجل من بني عامر يستأذن على النبي فقال: أألج؟ أي أأدخل؟ فقال النبي لخادمه: ((اخرج إليه فعلمه قل له يقول: السلام عليكم أأدخل؟ فسمعها الرجل فقال: السلام عليكم، أأدخل؟ قال له النبي : ادخل)).
ثم نأتي بعد ذلك إلى ما نستفيده من آثار عديدة في الاستئذان على ذوات المحارم والقرابات وعموم الناس، فإن بعض الناس يفهمون أن المرأة ما دامت منه محرماً فليس عليه أن يستأذن عليها، ولماذا يستأذن؟ إنها محرم منه، ولكن قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (عليكم أن تستأذنوا على أمهاتكم وأخواتكم).
ثم قال عدي بن ثابت: جاءت امرأة من الأنصار إلى النبي فقالت: يا رسول الله إني أكون في منزلي على الحال التي لا أحب أن يراني عليها أحد، وإنه لا يزال يدخل علي رجل من أهلي فأنزل الله قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتى تستأنسوا الآية وقد رأيتم من سوق هذا الأثر أن الاستئذان على ذوات المحارم لسبب أنهن ربما يكن على حال لا يستحببن أن يراهن عليه أحد، كأن تكون عريانة، كأن تكون على هيئة معينة تستريح فيها ولا تحب أن يراها عليها أحد، لما في نفسها من حياء وخجل، فيفاجئها الرجل من أهلها باعتبار أنها محرم منه، فيدخل عليها على هذه الحالة.
لا ليس هذا من أدب ديننا ولا من أخلاقياته، ثم قال عطاء: قلت لابن عباس: أأستأذن على أخواتي: أيتام لي في حجري في بيت واحد؟ فقال ابن عباس: نعم، فرددت عليه ليرخص لي فأبى فقال: أتحب أن تراها عريانة؟ قلت: لا. قال: فاستئذن فراجعته أيضاً، فقال: أتحب أن تطيع الله؟ قلت: نعم، قال: فاستئذن.
فانتهى النقاش إلى هذا الحد، ما دام الأمر يتعلق بطاعة لا مجال بعد ذلك للنقاش والجدال، لا كما يفعله بعضنا من إرادة تغليب هواه على النصوص والآيات والأحاديث ليحقق ما تصبو إليه نفسه وتطلع إليه وترتاح فيه من هوى، لا والله، كانوا وقافين عند القرآن وعند السنة وعندما يعلمونه أنه أمر أو نهى من قبل الله أو رسوله كما قالت الآية الحادية والخمسون من سورة النور: إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون.
وهل لهم جزاء يساوي ما غالبوا به شهواتهم وهواهم وما في أنفسهم؟ نعم قال في الآية التالية: ومن يطع الله ورسوله ويخشَ الله ويتقه فأولئك هم الفائزون.
وقال طاووس رحمه الله: ما من امرأة أكره إلي أن أرى عورتها من ذات محرم. وكان يشدد في ذلك: إني لا أحب أبداً أن أرى عورة ذات محرم، هذا ما يتعلق بذات المحارم.
وقال ابن جرير: قلت لعطاء: أيستأذن الرجل على امرأته؟ قال: لا، وهذا محمول من عطاء على عدم الوجوب، ليس واجباً قطعاً أن يستأذن الرجل على امرأته، ولكن الأولى أن يستأذن عليها لا للوجوب ولكن للاستحباب، وليس منا من يفرط في الاستحباب إلا لضرورة أو لنسيان أو ما إلى ذلك، وقد روى ابن جرير بإسناد صحيح عن زينب امرأة عبد الله بن مسعود رضي الله عنهما أنها قالت: (كان عبد الله إذا جاء من حاجة فانتهى إلى الباب تنحنح وبزق كراهة أن يهجم منا على أمر يكرهه)، يفعل أي شيء ينبه به أهله قبل أن يدخل كراهة أن يهجم منا على أمر يكرهه. وقال أبو هبيرة فيما رواه عنه ابن أبي حاتم: كان عبد الله إذا دخل البيت استأنس.
كيف يستأنس قال: تكلم ورفع صوته وكل ذلك ليعلم أهل البيت، قال مجاهد: حتى تستأنوا قال: تنحنحوا أو تنخموا، وقال الإمام أحمد رحمه الله تبارك وتعالى: إذا دخل الرجل بيته استحب له أن يتنحنح أو يحرك نعليه.
وقد جاء في الصحيح أن رسول الله : ((نهى أن يطرق الرجل أهله طروقاً)) وفي رواية: ((ليلاً يتخونهم)) بمعنى أنه نهى أن يقدم رجل من سفر مثلاً في الليل فيطرق أهله تعمداً ليراهم في هذه الحالة ماذا يفعلون، تخوناً لهم لأنه لا يأتمنهم.
فعليه أن يبعث من ينبه أهل الدار وأن يمكنهم من الاستعداد، ومن ذلك من الأمور التي تحب المرأة أن تلقى زوجها عليها، نهى رسول الله عن ذلك، وهذا ما جعل العلماء يذهبون أن الأولى أن يؤذِن أهل بيته.
ثم جاء في الحديث الآخر أنه جاء المدينة نهاراً فأناخ بظاهرها وقال: ((انتظروا إلى العشاء إلى آخر النهار حتى تمتشط الشعثة وتستحد المغيبة)) أي حتى تتطيب النساء ويستعدن للقاء أزواجهن، هكذا لا ينبغي أن يهجم عليهن هجوماً، فما ظنك بالذين يدخلون على بنات أخوالهم أو عماتهم أو خالاتهم ويقولون: إننا تربينا معاً وما إلى ذلك، نحن إخوة. أي أخوة؟ هل هي ذات محرم منك؟ لو كانت ذات محرم لكان عليك أن تستأذن عليها كما استمعت الآن، هل يجوز لك أن تتزوجها: ابنة خالك أو ابنة عمك أو ابنة خالتك؟ ليست ذات محرم منك؟
فيدخل الرجل البيت فلا يأبه لزوج بنت خالته أو بنت خاله أو بنت عمته ويتركه ويبحث عنها في غرفتها أو في المطبخ أو في أي مكان، يبدأ يكلمها وقد يتكلم معها بكلام لا يجوز إلا مع ذوات المحارم وما إلى ذلك، أي أدب هذا؟ وأي خلق هذا؟ لا. فلنرجع إلى آداب ديننا وأخلاقياتنا، فيها الخير كل الخير، لا ينبغي هذا ولا يجوز أبداً.
وقال صاحب الظلال رحمه الله عقب سوقه لحديث أن النبي قال: ((انتظروا حتى تمتشط الشعثة)) قال عقبه: إلى هذا الحد من اللطف والدقة بلغ حرص رسول الله وصحابته بما علمهم الله من ذلك الأدب الرفيع الوضيء المشرق بنور الله، إلى هذا الحد بلغ حرصهم، ولكن نحن اليوم مسلمون - والكلام له - ولكن حساسيتنا بمثل هذه الدقائق قد تبلدت وغلظت.
وإن الرجل يهجم على أخيه في بيته في أي لحظة من لحظات الليل والنهار فيطرقه ويطرقه ويطرقه، فلا ينصرف أبداً حتى يزعج أهل البيت فيفتحوا له.
وقد كان بإمكانه أن يستأذن متابعة لأمر الله في القرآن، ويمكن أن يكون في بيته هاتف مثلاً كان يمكنه أن يستأذن عن طريقه ليحدد له موعداً يزورهم فيه. ولكنه يهمل هذا الطريق ليهجم في غير أوان وعلى غير موعد، ثم لا يقبل العرف أن يرد عن البيت، العرف الآن يقول: لا، لا، لا يصح هذا، أترده عن بيتك بعد أن جاءك، وربما كان قطع في ذلك ما قطع، هذا أمر الله تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها تستأذنوا ثلاثاً كما قال النبي .
ثم في الآية التي بعدها كما سنعلم وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم هو أطهر وأفضل ليس في ذلك شيء، لكنه العرف يرفض أن يرد عن البيت، وبعد ذلك يفتح له مهما كان في ذلك من كراهة أهل البيت تلك الزيارة المفاجئة بلا إخطار ولا إنذار، هكذا.
ثم يقول أيضاً: ونحن اليوم نطرق إخواننا في أي لحظة، في موعد الطعام مثلاً، وإذا لم يقدم لنا الطعام وجدنا من ذلك في أنفسنا شيئاً، ونطرقهم في الليل المتأخر، وإن لم يدعونا إلى المبيت وجدنا في ذلك من أنفسنا شيئاً دون أن نعذرهم في هذا أو ذاك.
ثم يقول: ونرى غيرنا ممن لا يعتنقون الإسلام يحافظون على تقاليد في سلوكهم تشبه ما جاء به ديننا في هذه الأمور: أمور الزيارات، فنعجب بها أحياناً ونتندر بها أحياناً ولا نحاول أن نعرف ديننا الأصيل فنفيء إليه مطمئنين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك سيدنا محمد وعلى آله وصحبه.
لأجل الأعذار والحاجات والأشغال التي يمكن أن يكون عليها الناس في بيوتهم راعى الإسلام هذه الظروف كلها وترك تقديرها لأهل البيوت، وأدب كل امرئ بهذا الأدب الرفيع حتى لا يباغت أهل البيوت كما كانوا يفعلون في الجاهلية كما قاله مقاتل بن حيان: كان الرجل يلقي صاحبه فلا يسلم عليه، ولكن يقول له: حييت صباحاً أو حييت مساءً، وكانت هذه تحيتهم ثم ينطلق إلى بيته فيدخل ثم يقول: قد دخلت هكذا، وقد يكون الرجل مع أهله، لعله يكون على هذه الحال مثلاً فيشق ذلك على الرجل، فغيّر الله تبارك وتعالى ذلك كله في ستر وعفة وجعله نقياً نزيهاً من الدرن والقذر والدنس هكذا.
أما أن يفعل الناس ما يفعلونه اليوم محتجين بالأعراف الخاطئة السائدة فيطرقوا البيوت في أي وقت ويتصلون على البيوت بالهاتف في أي وقت في منتصف الليل مثلاً، فيقول الواحد منهم: ليس في عيني نوم فقلت: أدردش معك، هكذا تدردش معي توقظني أو تسألني أو ما إلى ذلك في أوقات كان ينبغي أن يكون المسلمون متهجدين بين يدي الله تبارك وتعالى، ليس في عينك نوم، قم إلى صلاتك وصل واغتنم هذا الوقت الذي جعله الله تعالى أشد وطئاً وأقوم قيلاً كما قال في سورة المزمل، وقت عظيم فيه قرب من الله تبارك وتعالى على نحو لا يظفر به المسلم في وقت آخر، لأجل هذا وذاك غيّر الله تبارك وتعالى هذه الأخلاقيات الجاهلية وقيدها بهذه الآداب العالية الرفيعة.
ثم قال بعد ذلك في الآية الثامنة والعشرين: فإن لم تجدوا فيها أحداً فلا تدخلوها إذا استأذنتم فلم تسمعوا رداً ولم تجدوا أحداً فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم هو أطهر وأفضل لكم، ولهذا قال قتادة: قال بعض المهاجرين: لقد طلبت عمري كله في هذه الآية استأذن على بعض إخواني فيقول لي: ارجع فأرجع وأنا مغتبط. يعني قوله: حاولت عمري كله إذا استأذنت على بعض إخواني أن يقول لي منهم قائل مرة: ارجع حتى أختبر نفسي: هل أذعن في أمر الله تبارك وتعالى وأرجع وأنا مغتبط أم أجد من ذلك في نفسي حرجاً، والله بما تعملون عليم، أي والله عليم بظاهركم وخافيتكم وسركم وعلانيتكم، لا يخفى عليه من ذلك شيء.
ثم قال: ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتاً غير مسكونة فيها متاع لكم أي ليس عليكم حرج ولا إثم ولا ذنب أن تدخلوا البيوت التي ليس فيها أحد من غير إذن كالفنادق والبيوت المعدة للضيافة، فإن العلة من الاستئذان منتفية لأن الموظفين والقائمين على الأمر يستقبلون الداخل عند مدخل هذه الأماكن المعدة ويكونون دائماً مستعدين للاستقبال، فهذه البيوت فيها مصلحة لكم وفيها شيء يعود على أنفسكم بما تحبونه من الراحة، ليس عليكم إثم ولا ذنب ولا جناح أن تدخلوا بغير استئذان مادامت هذه البيوت منفصلة عن السكن، أما أن تدخلوا أماكن فيها سكن وفيها أهل بيت دون استئذان، فلا.
ثم قال الله تبارك وتعالى: والله يعلم ما تبدون وما تكتمون أي اطلاعه تبارك وتعالى على القلوب ضامن لطاعتها وامتثالها لأمر الله تبارك وتعالى ولأدبه الذي أدب به النفوس فيما جاء به كتابه الذي يرسم للبشرية نهجها الكامل المتكامل في كل اتجاه، فلندع تلك الأعراف والتقاليد التي تنافي ما أدبنا الله تبارك وتعالى، وأمرنا أن نتخلق به من آداب وأخلاق، في ذلك خير وسعادة في الدنيا والآخرة
ــــــــــــــــــــ(67/129)
بر الوالدين
...
...
1763
...
الأسرة والمجتمع
...
...
الوالدان
...
سعيد بن يوسف شعلان
...
...
جدة
...
...
...
عمار بن ياسر
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- فضل الوالدين على الأبناء ورعايتها له حال طفولته. 2- عظم حقهما يستوجب عظم شكرها وبرهما. 3- النصوص تأكد على منزلة الوالدين. 4- بعض صور عقوق الوالدين. 5- البر والعقوق للوالدين جزاؤها في الدنيا قبل الآخرة.
الخطبة الأولى
أما بعد:
فإن بر الوالدين فريضة عظيمة وعقوقهما حرام، والبر هو الصلة الحسنة والخير، وهو اسم جامع للخير.
وأما عقوق الوالدين فهو أذاهما ومعصيتهما والخروج عليهما، ولا ينكر فضل الوالدين إلا متوغل في النذالة، ولن يستطيع الأبناء والبنات مجازاة الآباء والأمهات على ما قاموا به نحوهم من الطفولة إلى الرجولة من عطف ورعاية وتربية وعناية إلا أن يجد الولد الوالدَ مملوكاً فيشتريه فيعتقه، ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((لا يجزي ولد والده إلا أن يجده مملوكاً فيشتريه فيعتقه)) لو صح أن يجد الولد والده عبداً ومملوكاً فيشتريه فيعتقه لجزاه بما فعله معه وبما قام به نحوه من التربية والعناية والعطف والرعاية على أن الفضل دائماً للمتقدم بالفضل، للذي تقدم وبدأ، فشكر المنعم واجب، ولله سبحانه على عباده نعم، لا تحصى كما قال سبحانه في سورة إبراهيم والنحل: وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها من ذلك نعمة الخلق والإيجاد، وجعل سبحانه وتعالى للوالدين نعمة الوِلاد والتربية الفالحة والعناية التامة بالأولاد، وأكثر الخلق وأفضلهم نعمة على الإنسان بعد رسل الله صلوات الله وسلامه عليهم الوالدان اللذان جعلهما الله سبباً لوجوده واعتنيا به منذ أن كان حملاً إلى أن كبر، فأمه حملته شهوراً تسعة في الغالب تعاني به في تلك الأشهر ما تعاني من آلام من مرض ووحم وثقل، وإذا حان وقت الوضع وجاءها المخاض شاهدت الموت وقاست من الآلام ما الله به عليم، فتارة تموت وتارة تنجو، ويا ليت الألم والتعب ينتهي بالوضع، كان الأمر إذاً سهلاً، ولكن يكثر النصب ويشتد بعده كما قال تعالى في سورة الأحقاف: حملته أمه كرهاً ووضعته كرهاً ثم ترضعه حولين كاملين غالباً فتقوم به مثقلة وتقعد به مثقلة، وفي أثناء ذلك صياح الليل يحرم الوالدين النوم، وكذلك بالنهار يقلق به راحتهما ويتعب قلبيهما ويذرف دموعهما، ومرض يصيب الولد من وقت لآخر ينخلع له قلبهما انخلاعا وتنهد به أبدانهما هداً، وتعهد من الأم لجسمه بالغسل ولثيابه بالغسل ولإفرازاته بالإزالة، ليس يوماً ولا يومين، ولا شهراً ولا شهرين، ولا سنة ولا سنتين، هما به في متاعب ليلاً ونهارً، ومشاق تصغر بجانبها متاعب المحكومين في الأعمال الشاقة، يضاف إلى ذلك امتصاص دمها الذي هو اللبن مدة الرضاع، ولو لم يكن منه إلا هدم بدنها وإضعافه وإذهاب قوتها لكفى، ومن أجل ذلك قدم بر الأم على بر الأب، وكان لها من البر ثلاثة أمثال ما للأب لأنها تشقى بالحمل والوضع والرضاع، ومما يدل على تقدمها عليه في البر ما جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة أن رجلاً جاء للنبي فقال يا رسول الله: ((من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أبوك)).
فإذا شب الولد وبرزت أسنانه وقويت معدته على قبول الطعام وهضمه وانفتحت شهواته له انفتح للوالدين باب فكر وكد لجلب طعامه وشرابه وسائر شئونه، وربما احتمل الوالد ألم الغربة والسفر إلى بلد بعيد لطلب المعيشة للأولاد، وكثيراً ما يضحي الوالدان في سبيل راحة الأبناء والبنات، وقد قال الشاعر:
أبى الله ألا تعبدوا غيره حتما فيا ويح شخص غير خالقه أمّاً([1])
فهذا تهديد لمن قصد غير خالقه.
ببرهما فالأجر في ذاك والرحما
وكم منحا وقت احتياج من نعما
تواصل مما شقها البؤس والغم
مشقا يذيب الجلد واللحم والعظم
وأكبادها لهفاً بجمر الأسى فحما
حنوا وإشفاقاً وأكثرت الضم
وضقت بها زرعاً وذوقتها سما
مكباً على اللذات لا تسمع اللوم
تلين بها مما بها الصخرة الصما
لأنت ذو جهلٍ وأنت إذا أعمى
...
...
وأوصاكم بالوالدين فبالغوا
فكم بذلا من رأفة ولطافة
وأمك كم باتت بثقلك تشتكي
وفي الوضع كم قاست وعند ولادها
وكم سهرت وقتا عليك جفونها
وكم غسلت عنك الأذى بيمينها
فضيعتها لما أسنّت جهالة
وبت قرير العين ريان ناعما
وأمك في جوع شديد وغربة
أهذا جزاها بعد طول عنائها
وفي القرآن الكريم آيات تدل على مكانة الوالدين أمر الله فيها بالإحسان إليهما، منها قوله تعالى في الآية السادسة والثلاثين من سورة النساء: واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً وقوله تعالى في الآية الحادية والخمسين بعد المائة من سورة الأنعام: قل تعالوا أتلو ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً وقوله تعالى في الآيتين الثالثة والعشرين والرابعة والعشرين من سورة الإسراء: وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولاً كريماً واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل ربي ارحمهما كما ربياني صغيراً.
وقوله تعالى في الآية الثامنة من سورة العنكبوت: ووصينا الإنسان بوالديه حسناْ وقوله تعالى في الآية الرابعة عشر من سورة لقمان: ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهناً على وهن وفصاله في عامين أن أشكر لي ولوالديك إلي المصير وقوله تعالى في سورة الأحقاف في الآية الخامسة عشر منها: ووصينا الإنسان بوالديه إحساناً حملته أمه كرهاً ووضعته كرهاً وقد فصل سبحانه وتعالى ما يجب من الإحسان للوالدين في الآيتين السابقتين من سورة الإسراء بقوله: إما يبلغن عندك الكبر إلى آخر الآيتين. والمعنى إذا وصل الوالدان أو أحدهما إلى الكبر حال الضعف والعجز وصارا عندك في آخر العمر كما كنت عندهما في أوله وجب عليك أن تحنو عليهما وتشفق عليهما وتلطف لهما وتعاملهما معاملة الشاكر لمن أنعم عليه، على أن الفضل للمتقدم كما سبق.
ويتجلى ذلك بأن تتبع معهما أموراً خمسة أذكرها بعد جلسة الاستراحة إن شاء الله وقدر.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
(([1] أمّ يأم أي قصد يقصد.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى أصحابه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فإن أول هذه الأمور الخمسة التي يجب عليك أن تتبعها مع الوالدين وفيها يتجلى إحسانك إليهما.
أولاً: ألا تتأفف من شيء تراه أو تشمه من أحدهما أو منهما مما يتأذى به الناس ولكن اصبر على ذلك منهما واحتسب الأجر عليه من الله جلا وعلا، واحذر الضجر والملل القليل والكثير وعليك بالرفق واللين معهما والله لا يضيع أجر من أحسن عملاً.
ثانياً: أن لا تنغص ولا تكدر عليهما بكلام تزجرهما وتنهرهما به، وفي هذا منع من إظهار المخالفة لهما بالقول على سبيل الرد عليهما والتكذيب لهما، يمتنع تماماً أن تخالفهما بقولك رداً عليهما أو مكذباً لهما. يمتنع هذا تماماً ويمتنع عليك أن تنغص وتكدر عليهما بكلام تنهرهما وتزجرهما به.
ثالثاً: أن تقول لهما قولاً كريماً حسناً طيباً مقروناً بالاحترام والتعظيم مما يقتضيه حسن الأدب وترشد إليه المروءة، كأن تقول: يا أبت ويا والدي أو يا أماه ويا والدتي، ولا تدعوهما بأسمائهما ولا ترفع صوتك أمامهما ولا تحدق فيهما بنظرك، بل يكون نظرك إليهما نظر لطف وعطف وتواضع.
رابعاً: أن تدعو الله أن يرحمهما برحمته الواسعة كفاء رحمتهما بك وجميل شفقتهما عليك.
خامساً: أن تتواضع لهما وتتذلل وتطيعهما فيما أمراك به ما لم يكن معصية لله وتشتاق وترتاح إلى ما يطلبانه وبذله وتشتاق وترتاح إلى ما يطلبانه منك من حطام الدنيا الفانية رحمة منك بهما وشفقة عليهما وعلى ضعفهما، فقد أكد جلا وعلا التوصية على الوالدين من وجوه كثيرة وكفاهما أن شفع الله الإحسان إليهما بالأمر بتوحيده، ونظمها في سلك واحد قضى بهما معاً.
وأما ما جاء في سنة رسول الله من الحث على بر الوالدين فهو كثيرٌ كثير، من ذلك ما رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((رغم أنف ثم رغم أنف ثم رغم أنف من أدرك والديه عند الكبر أحدهما أو كلاهما فلم يدخل الجنة)) أي رغم أنف من أدرك والديه في سن الكبر فلم يفعل معهما ما يوجب دخوله الجنة بل عقهما وفعل معهما ما يوجب تعذيبه وما يوجب سخط الله تبارك وتعالى وغضبه عليه. رغم أنفه إلى غير ذلك من الأحاديث التي أكد فيها رسول الله ما أكده الله عز وجل في الآيات السابقة من كتابه تبارك وتعالى من التوصية ببر الوالدين.
وليس بر الوالدين مقصوراً عليهما في الحياة فقط بل يتعدى إلى ما بعد وفاتهما، ففي سنن أبي داود وفي صحيح ابن حبان عن أبي أسيد مالك بن ربيعة الساعدي قال: بينما نحن جلوس عند رسول الله إذا جاء رجل من بني سلمة فقال: يا رسول الله هل بقي علي من بر والدي شيءٌ أبرهما به بعد موتهما؟ قال: ((نعم، الصلاة عليهما، يعني الدعاء لهما والاستغفار لهما وإنفاذ عهدهما وصلة الرحم التي لا صلة لك إلا من قبلهما وإكرام صديقهما)).
ولذلك جاء عن ابن عمر أنه وهو في طريقه إلى مكة ومعه من بين من معه من التابعين عبد الله بن دينار، فلقي ابن عمر أعرابياً، فنزل عن حماره، وأركبه إياه، وأعطاه عمامته،فقال له ابن دينار: يا أبا عبد الرحمن يرحمك الله إن هذا من الأعراب، وهم يكفيهم القليل. فقال له ابن عمر: إن أبا هذا كان وداً لعمر بن الخطاب، كان صديقاً له وصاحباً له وكانت بينهما مودة وإن رسول الله قال: ((من بر الولد لوالديه أن يبر أهل ودهما أو كما قال عليه الصلاة والسلام)).
فيا عباد الله أحسنوا إلى الوالدين ما أمكنكم الإحسان، وكونوا معهما في غاية الأدب والاحترام واحذروا سوء الأدب معهما وإلا هويتم في هوة شقاء ما لها من قرار، وكونوا معهما على أفضل ما يكون إجلالاً واحتراماً، وإن حصل منهما لكم ظلم فلا تبادلوهما بظلمهما، بل عليكم ببرهما مهما حصل منهما، إنما الذي يرخص لك يا عبد الله فيه ألا تطعهما إن أمراك بمعصية لله عز وجل، وما عدا ذلك فبرهما واجب لا يزول مهما حدث منهما، نعم، لأنهما هما اللذان لولا الله ثم إياهما لما خرجت إلى هذا الوجود، وهما اللذان سخرهما الله لك، فصبرا على ما لقيا من الأهوال، فالله الله في الوالدين وفي برهما، فمن كان الوالدان في حاجته اليوم منا، غداً يكون في حاجة أبنائه، وكما تدين تدان.
وقال الله في الآية الرابعة والأربعين من سورة الروم: من كفر فعليه كفره ومن عمل صالحاً فلأنفسهم يمهدون.
اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا ولا تجعل مصيبتنا في ديننا واغفر لنا ما مضى من ذنوبنا وارزقنا عملاً زاكياً ترضى به عنا وخذ إلى الخير نواصينا واختم لنا بخير واجعل عواقب أمورنا إلى خير وتوفنا وأنت راضٍ عنا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا وآمنا في أوطاننا ودورنا وانصر المجاهدين الذين يجاهدون في سبيلك في كل مكان واشف مرضانا وارحم موتانا وعليك بمن عادانا وبلغنا بما يرضيك آمالنا واختم بالباقيات الصالحات أعمالنا وصلِ وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه.
وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
ــــــــــــــــــــ(67/130)
دعائم البيت المسلم 2
...
...
1766
...
الأسرة والمجتمع
...
...
قضايا الأسرة
...
سعيد بن يوسف شعلان
...
...
جدة
...
...
...
عمار بن ياسر
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- النظر إلى المخطوبة. 2- خطبة المرء على خطبة أخيه المسلم. 3- نكاح الكتابية. 4- حديث المرأة التي عرضت نفسها على النبي والعبر والآداب المستخلصة من الحديث. 5- أحكام متعلقة بالمهر. 6- دعوة لتيسير أمور الزواج.
الخطبة الأولى
أما بعد:
فإنا كنا قد بدأنا في الجمعة الماضية الكلام على ما ورد في الكتاب والسنة بشأن الزواج، ومر بنا كيف أن الإسلام حث على الزواج وكره تركه لمن يقدر عليه ومر بنا كذلك بيان رسول الله لصفة المرأة التي تنكح لأجلها، وأنه رغب في المرأة ذات الدين، فذكر أن الرجل يعرض عن هذه الصفة غالباً ويقدم عليها الصفات الثلاث: الحسب والجمال والمال، وأرشد إلى أنه ينبغي أن يقدم الدين على هذه الصفات ومر بنا بيانه لصفة الرجل التي يقبل لأجلها زوجهاً وأنه قال: ((إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه)).
فبين أنه لابد من النظر في دين الرجل وخلقه، ولا ينبغي أن يقدم عليه ما سواه كما بين ذلك في أمر المرأة.
واليوم نستكمل بعض ما ينبغي علمه في أمور الزواج فنقول وبالله التوفيق: إذا تقدم الرجل إلى امرأة ليخطبها فلا ينبغي أن يحال بينه وبين النظر إليها، وقد شاع في بعض الناس كراهية ذلك ويحولون بين الرجل وبين النظر إلى مخطوبته فلا يراها إلا ليلة الزفاف، وكيف يكره الناس ما رضيه رسول الله وأرشد إليه بل أمر به، فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((إذا خطب أحدكم المرأة فإن استطاع أن ينظر منها إلى ما يدعوه إلى نكاحها فليفعل)) قال جابر فخطبت جارية - والجارية لا يراد بها الأمة إنما الأنثى حديثة العهد بالسن صغيرة السن - خطبت جارية فكنت أتخبأ لها حتى رأيت منها ما دعاني إلى نكاحها فتزوجتها. [رواه الإمام أحمد وأبو داود ورجاله ثقات].
وللحديث شاهد عن المغيرة بن شعبة قال فيه رسول الله لرجل خطب امرأة: ((انظر إليها فإنه أحرى أن يؤدم بينكما)) أي إن النظر إليها يكون سبباً في دوام العشرة بينكما وفي ارتياحك إليها. رواه الترمذي والنسائي.
وله أيضاً شاهد عن محمد بن سلمة عند ابن ماجه وابن حبان.
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة أن النبي قال لرجل تزوج امرأة: ((هل نظرت إليها؟ قال: لا، قال: اذهب فانظر إليها)).
ودلت الأحاديث على أنه يندب تقديم النظر إلى من يريد نكاحها وهو قول جماهير العلماء.
والنظر أيها الإخوة الكرام على الصحيح من أقوال العلماء يكون إلى الوجه والكفين لأنه يستدل بالوجه على الجمال أو ضده، وبالكفين على خصوبة البدن أو عدمها، وقال بعض العلماء: يستحب للرجل أن ينظر إلى المرأة قبل الخطبة، إن كرهها تركها من غير إيذاء يعني ينظر إليها من غير أن تعلم بذلك، فلا يشترط علمها لما جاء في حديث جابر فإن الأمر يكون بخلافه بعد الخطبة إذا نظر إليها وتركها قد يؤذيها ذلك.
ومما قالوا: إن عز عليه النظر إليها قبل الخطبة استحب له أن يبعث إليها امرأة يثق بها تنظر إليها وتخبره بصفتها ثم يمكنه بعد ذلك أن يذهب لينظر إليها نظر الخاطب بعد أن تكون المرأة قد أعلمته بما فيها من الصفات التي يحب أن تكون في زوجته.
ثم بعد الكلام على النظر إلى المخطوبة يأتي الكلام على ما ينبغي مراعاته من عدم جواز تقدم الرجل على أخيه في الخطبة.
إذا خطب رجل امرأة فلا ينبغي لمسلم أن يتقدم عليه بعد أن يجيب أهل الزوجة وأولياؤها الخاطب الأول لما رواه ابن عمر رضي الله عنهما والحديث متفق عليه واللفظ للبخاري قال رسول الله : ((لا يخطب أحدكم على خطبة أخيه حتى يترك الخاطب قبله أو يأذن له)) والمراد بالخطبة التي نهى المسلم أن يتقدم على أخيه فيها ما يتم بعدها ربط وإجابة بالقبول، فإذا لم يقبل وإذا لم يتلق رداً جاز أن يتقدم غير واحد كما جاء في حديث فاطمة بنت قيس الصحيح: أنه تقدم لها معاوية بن أبي سفيان وأبو جهم وأسامة بن زيد رضي الله عنهم جميعاً وأنها استشارت رسول الله واختار لها أسامة.
وهذا ما لم يكن أهل الزوجة قد ردوا وأجابوا الخاطب الأول.
وأفتى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تبارك وتعالى بأن من تقدم على خاطب أجيب وتلقى رداً بالقبول ثم عقد على هذه المرأة صح العقد على قول العلماء.
ولكن ينبغي أن يؤدب من أخل بحق الخاطب الأول بعقوبة تردعه وتردع أمثاله، لأن هذا على التحريم، يحرم على المسلم أن يتقدم على أخيه وأن ينازعه في حق له وأن ينافسه فيه إنما المؤمنون إخوة.
وأما الكافر فإذا تقدم إلى كتابية مع العلم أن الكتابية يجوز للمسلم أن يتزوجها، إذا تقدم الكافر لخطبة كتابية وأجيب وتلقى رداً فإنه يجوز للمسلم أن يتقدم عليه لأنه لا يدخل في لفظ أخيه: إنما المؤمنون أخوة وهذا ليس من المؤمنين.
وأما الفاسق فلا كفاءة، الكفاءة ينبغي مراعاتها في الدين، فإذا قبلت فلا كفاءة، ولهذا إذا وافق جميع الأولياء على هذا الفاسق إلا ولياً واحداً فيجوز لهذا الولي من أولياء الزوجة أن يرفض وأن يفسخ نكاح هذا الفاسق لما ينبغي مراعاته من الكفاءة في الدين.
ثم على الخاطب أن يقدم بين يديه إذا خطب المرأة تشهد الحاجة الذي علمه رسول الله لأصحابه كما روى الإمام أحمد وأصحاب السنن وحسنه الترمذي عن عبد الله بن مسعود قال: ((علمنا رسول الله التشهد في الحاجة: إن الحمد الله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا)) زاد ابن كثير في الإرشاد إلى النكاح ((ومن سيئات أعمالنا من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمد رسول الله)).
ويقرأ ثلاث آيات: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته، يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم، يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً.
يستحب له أن يقدم بين يديه هذا التشهد للحاجة، وقد روى البيهقي هذا الحديث بإسناده إلى شعبة رحمه الله أنه قال: قلت لأبي إسحاق: هذا في خطبة النكاح وغيرها؟ قال: في كل حاجة.
ويؤكد سنية ذلك في النكاح وغيره، وهذا من السنن المهجورة، هذا من السن الذي هجرت ولم يعد الخطاب يستعملونها، ولم يعودوا يقدمون بها بين أيديهم إذا تقدموا إلى أولياء أمور الزوجة.
ثم هذا أيها الأخوة الكرام حديث كثير الفوائد، أقرأ نصه فقط الآن، وأذكر فوائده بعد جلسة الاستراحة إن شاء الله وقدر: فعن سهل بن سعد الساعدي قال: ((جاءت امرأة إلى رسول الله فقالت يا رسول الله جئت أهب لك نفسي، فنظر إليها رسول الله ، فصعّد النظر فيها وصوبه ثم طأطأ رسول الله رأسه، فلما رأت المرأة أنه لم يقض فيها شيئاً جلست، فقام رجل من أصحابه فقال: يا رسول الله إن لم تكن لك بها حاجة فزوجنيها، قال: فهل عندك من شيء؟ قال: لا والله يا رسول الله، قال فاذهب إلى أهلك فانظر هل تجد شيئاً، فذهب ثم رجع، فقال: لا والله يا رسول الله ما وجدت شيئاً، فقال: اذهب فانظر ولو خاتماً من حديد فذهب ثم رجع فقال: لا والله يا رسول الله ولا خاتماً من حديد، ولكن هذا إزاري قال سهل بن سعد الراوي: مالَه رداء، إزار ليس له رداء فلها نصفه، فقال رسول الله : ما تصنع بإزارك إن لبسَته لم يكن عليها منه شيء وإن لبسْته لم يكن عليك منه شيء، فجلس الرجل حتى إذا طال مجلسه قام فرآه رسول الله مولياً فأمر به فدعي به، فلما جاء قال: ماذا معك من القرآن؟ قال: معي سورة كذا وسورة كذا. عدَدَها.
قال: اذهب فقد ملكتكها بما معك من القرآن)) [متفق عليه واللفظ لمسلم].
وفي رواية قال له: ((انطلق فقد زوجتكها فعلمها من القرآن)) وفي رواية للإمام البخاري: ((أمكناكها بما معك من القرآن)) وفي رواية لأبي داود عن أبي هريرة قال له : ((ماذا تحفظ؟ قال: سورة البقرة والتي تليها. قال: قم فعلمها عشرين آية)).
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين وأشهد أن نبينا وإمامنا وقدوتنا ورسولنا محمد عبد الله ورسوله خاتم الأنبياء وإمام المرسلين، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
في هذا الحديث جواز النظر إلى من يريد نكاحها كما تقدم فإن رسول الله صعد فيها النظر وصوبه،
وفيه من الفوائد أيها الأخوة الكرام:
الفائدة الأولى جواز عرض المرأة نفسها على الرجل الصالح.
والفائدة الثانية للإمام الولاية على المرأة التي لا قريب لها إذا أذنت، وأنه يعقد للمرأة من غير سؤال عن وليها هل هو موجود أم لا.
الفائدة الثالثة: لا تثبت الهبة إلا بالقبول فإنها لما وهبت نفسها ولم يقبل رسول الله ما ثبتت الهبة.
الفائدة الرابعة: لابد من الصداق في النكاح ويصح أن يكون شيئاً يسيراً لقوله ولو بخاتم من حديد، فيصلح بكل ما تراضى عليه الزوجان أو من إليه ولاية العقد بما فيه منفعة، وضابطه أن كل ما يصلح أن يكون قيمة وثمناً لشيء صح أن يكون مهراً.
الفائدة الخامسة: ينبغي ذكر الصداق في النكاح لأنه أقطع للنزاع وأنفع للمرأة، ولو عقد بغير ذكر الصداق صح العقد ووجب لها مهر المثل بالدخول، إذا لم يذكر صداقاً صح العقد ووجب للمرأة بعد الدخول مهر مثلها من النساء، ويستحب تعجيل المهر.
وهنا أقول يظن بعض الناس عندما يشترطون على الرجل عاجلاً من المهر وآجلاً أن العاجل هو المهر وأن الآجل عقاب رادع لكل من سولت له نفسه أن يطلق امرأته، وهذا شائع، ويغالون في تعين هذا القدر المؤجل ويبالغون مبالغة شديدة لكي لا يفكر أبداً مهما أساءت إليه امرأته أن يطلق، وهي نفسها تذكره كلما ضاقت نفسه أن يتخلص منها إذا كانت سيئة الخلق وغير ذات دين تذكره وتقول له: إذا أردت أن تطلق فعليك أن تتذكر أن عليك كذا وكذا من الأموال التي اشترطوها عليه. وهذا كلام غير صحيح بل الذي يتعين على كل زوج إن رضى بعاجل وآجل من المهر أن يعلم أن عليه أن يؤدي لزوجته هذا الآجل لا كما يظنون أنه لا يدفع إلا عند الطلاق.
إن اتفقا أن يكون العاجل ثلاثين ألفاً مثلاً والآجل عشرين ألفا فينبغي أن يعلم أن عليه أن يؤدي هذه العشرين متى استطاع.
ومما قال العلماء: يستحب تعجيل المهر يعني لو أراد خاطب أن يدفع المهر كله لأولياء الزوجة فليسوا لهم أن يمنعوا ذلك، وليس لهم أن يقولوا لا بل عاجل وآجل، لأن هذا يدل على أنهم عند نفس الظن بأن الآجل عقاب رادع لمن أراد أن يطلق، من أحب أن يعجل المهر فليسمح له بذلك، وينبغي أن تختفي هذه العادة، أي مال يساوي أن تعود المرأة بعد حين إلى بيت أبويها كأنها لم تكن بالأمس متزوجة.
وتبدأ المشاكل مشاكل الإنفاق عليها والأولاد إن كانت قد رجعت بأولاد وما ليس بخاف من المشاكل الكثيرة التي غصت بها بيوت المسلمين في هذه الأيام.
الفائدة السادسة: يجوز الحلف وإن لم يكن عليه يمين لأن الرجل كان يحلف لرسول الله من غير أن يستحلفه رسول الله ولم ينكر عليه ذلك، ويجوز أيضاً الحلف على ما يظنه لأن رسوله قال: ((اذهب إلى أهلك فانظر هل تجد شيئاً)) فدل هذا على أن الرجل حلف على ما يظن ولو كانت لا تكون إلا على العلم لما كان أمر رسول الله له بالذهاب إلى أهله.
الفائدة السابعة: لا يجوز للرجل أن يُخرج من ملكه ما لا بد له منه كالذي يستر عورته أو ما يسد خلته من الطعام والشراب، لأن رسول الله علل منعه عن قسمه ثوبه بأنها إذا لبسته لم يكن عليه منه شيء، فلا ينبغي أن يُخرج الرجل من ملكه ما لا بد له منه إلا أن يفرض عليه ذلك فرضاً، لأن هذا الرجل لو أراد أن يفيء لها بما اشترطه على نفسه وقسم الإزار بينهما وأعطاها النصف وبقي له النصف لما عاد النصف صالحاً لستر عورته فلا ينبغي.
الفائدة الثامنة: اختبار مدعى الإعسار فإن رسول الله لم يصدقه في أول دعواه الإعسار حتى ظهر له قرائن صدقه، وفيه دليل على أنه لا يسمع دليل مدعي الإعسار حتى تظهر قرائن إعساره، يعني الذي يقول: أنا في عسر، أنا في ضنك، أنا في فقر، أنا في ضيق، لا ينبغي أن يصدق حتى تظهر قرائن إعساره وقرائن فقره وضنكه، فإن النبي لم يوافقه عندما قال: لا أجد شيئاً. قال: ((اذهب إلى أهلك فانظر هل تجد شيئا))ً.
ومما ينبغي التحري في أمور الذين يتكففون الناس ويسألونهم كثيراً ويعتادون هذه المسألة فينبغي أن ينظر في أمورهم كي لا يكون عطاؤهم من باب الإعانة على البطالة وعلى استجلاب الأموال من غير تعب ولا جد ولا معاناة فيها، وهذه فائدة كما ترون مستنبطة من هذا الحديث العظيم وهي جلية وواضحة.
التاسعة: لا تجب الخطبة للعقد، فلو تم العقد من غير خطبة، من غير أن يتقدم الرجل ويقول: أخطب إليك ابنتك مثلاً، واتفقوا على أن يعقد مباشرة صح ذلك، لأن الخطبة لم ترد في شيء من طرق هذا الحديث، حديث سهل بن سعد .
ويجوز أن يكون الصداق منفعة كالتعليم لأن صداق هذه المرأة على الرجل أن يعلمها ما معه من القرآن، فيجوز أن يكون الصداق منفعة كالتعليم، ويدل عليه قصة موسى مع شعيب إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج.
الفائدة العشرة: قوله : ((ملكتكها وزوجتكها وأمكناكها))، هذه الروايات في حديث واحد دلت على أنه لا يشترط صيغة معينة للعقد، فإذا عقد بلفظ يفيد معنى النكاح صح النكاح، خاصة إذا قُرن به الصداق أو قصد به النكاح.
وأختم هذا الحديث أن أقول: ينبغي علينا جميعاً أن نعلم بأن من يسر الزواج فقد عسّر الزنا، ومن عسر الزواج فقد يسر الزنا، فمن يسر على المسلمين الزواج فقد أغلق الأبواب دون ارتكاب هذه الفاحشة ذات الأثر السيء على المسلمين، حيث تنذرهم ببطش الله وانتقامه وعقابه.
فمن يسر الزواج فقد غلق الأبواب على هذه الفاحشة المنكرة التي يكفينا من نكارتها أنها قرنت بالشرك في سورة النور حيث قال الله تبارك وتعالى: الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك الزاني لا تمكنه من الزنا إلا زانية أو مشركة، لا تمكنه من ذلك إلا من كانت فيها هذه الصفات الذميمة، وكذلك بالنسبة للزانية لا ينكحها إلا زان فيه هذه الخصال.
فمن عسر الزواج فقد فتح أبواب الزنا على مصراعيها لمن لا طاقة له بهذه الشروط يستسهل من خلالها تصريف غريزته التي أودعت فيه.
ومما قال النووي رحمه الله في الحديث المتفق عليه عن أنس بن مالك قال النبي : ((يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا)) قال النووي رحمه الله تبارك وتعالى قوله : ((يسروا)) مقترن بقوله: ((ولا تعسروا))، لأنه لو قال: يسروا فقط ولم يعطف عليها بقوله: ((ولا تعسروا)) لفهم المخاطبون أن من يسر مرة واحدة فقد نفذ أمر رسول الله ، فأضاف ((ولا تعسروا)) ليفيد منع التعسير مطلقاً، وأن على المسلم أن ييسر دائماً، وهذا من بلاغة كلام رسول الله ، لو قال يسروا واكتفى، لقال كل أحد: يسرت مرة، وتقال هذه الكلمات كثيرة: لقد أعطيت مرة، لقد تصدقت مرة، لقد فعلت مرة، لا تطالبوني بالمزيد، فقد فعلت هذا مرة سابقة وهنا لو قيل: يسروا فقط لكان الناس فيهم غلظة وشدة، ولاحتجوا أنهم قد يسروا مرة من المرات في حياتهم، ولسوف يكونون معسرين بعد ذلك ولا حجة عليهم.
لكن قوله ((ولا تعسروا)) منع منعاً باتاً.
وأقول أيضاً: من رمي بسهم مسموم من سهام إبليس فأصيب بداء العشق المحرم بسبب النظرة فإنه يوصف له الدواء الآتي: عليه أن يبادر إلى الزواج لأنه كما قال رسول الله ((أغض للبصر وأحصن للفرج)) وهذا لمن ليس بمتزوج.
وأما المتزوج فإن أصيب بنفس الداء فليعمل بما قاله رسول الله قال: ((فليأتي أهله فإن معها مثل الذي معها)).
ثم عليه أيضاً أن يحافظ على الصلوات الخمس، من أصيب بهذا الداء، داء العشق المحرم، عليه أن يبادر إلى الزواج، وإن كان متزوجاً عليه أن يأتي أهله عليه، كذلك أن يحافظ على الصلوات الخمس، فبالمحافظة عليها خير كثير خاصة إذا كانت في جماعة.
ثالثاً: عليه أن يكثر من التضرع وقت السحر بالدعاءين الصحيحين الواردين عن رسول الله : ((يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك))، ((اللهم مصرف القلوب صرّف قلبي إلى طاعتك)) عليه أن يكثر من هذا الدعاء ليصرف الله قلبه إلى طاعته، وليفرغ قلبه من محبة ما سوى الله إلا ما كان لله تبارك وتعالى كمحبة الزوجة لله والأهل لله والأخوة لله، نحبهم لأن الله أمرنا بمحبتهم والرفق بهم ونحبهم لأن بهم خصالاً يحبها الله تبارك وتعالى.
أسأل الله العلي العظيم أن يجعلنا جميعاً من يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
ــــــــــــــــــــ(67/131)
دعائم البيت المسلم 4
...
...
1767
...
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
...
...
اللباس والزينة, قضايا الأسرة
...
سعيد بن يوسف شعلان
...
...
جدة
...
...
...
عمار بن ياسر
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- صيغة تهنئة الزوجين على النكاح في الجاهلية والإسلام. 2- استحباب الوليمة في النكاح وآدابها. 3- ماذا يصنع من دعي إلى أكثر من دعوة في وقت واحد. 4- ماذا يصنع من دعي إلى وليمة وبها منكرات. 5- النهي عن التزين بالوشم والنمص. 6- آداب الجماع.
الخطبة الأولى
أما بعد:
فإنه لم يبق لنا في الإرشاد إلى هدي النبي في أمور الزواج إلا لقاءان، هذا أحدهما:
نستكمل ما قد مضى من الكلام على ما ينبغي مراعاته في أمور الزواج، فنقول وبالله التوفيق يستحب أن يدعى لمن تزوج بما كان النبي يدعو به، فعن أبي هريرة أن النبي كان إذا رفأ إنساناً إذا تزوج، أي كان إذا دعى للمتزوج بالالتئام وجمع الشمل قال: ((بارك الله لك وبارك عليك، وجمع بينكما في خير)) [رواه أحمد وغيره وصححه الترمذي].
وعن عقيل بن أبي طالب أنه تزوج امرأة من بني جشم فقالوا: بالرفاء والبنين، وهذا ما كان يقال في الجاهلية فقال: لا تقولوا هكذا، ولكن قولوا كما قال رسول الله : ((اللهم بارك لهم وبارك عليهم)) [رواه النسائي وابن ماجه وأحمد بمعناه].
وفي رواية له: ((لا تقولوا ذلك فإن النبي قد نهانا عن ذلك قولوا: بارك الله لها فيك وبارك لك فيها)) وإنما كره ما كان يقال في الجاهلية، لأنه ليس فيه حمد ولا ثناء على الله ولا ذكر له تبارك وتعالى، وخص البنين دون البنات فكرهه لذلك، واستبدل بهذا الدعاء الجامع الذي فيه خير كثير ((بارك الله لك وبارك عليك، وجمع بينكما في خير)).
وأما عن الوليمة واستحبابها فلقد كان النبي يولم وأكثر ما يولم به النبي شاة وأولم بما دون ذلك، فليس لأكثر ما يولم به الزوج حد ولا لأقله كذلك، كما سيأتي عن القاضي عياض وقال النبي لعبد الرحمن بن عوف كما أخرجه البخاري وغيره: ((أولم ولو بشاة)).
وعن أنس قال: ما أولم النبي على شيء من نسائه ما أولم على زينب، أولم بشاة.
وأما ما دون الشاة أيضاً فقد أولم به النبي كما رواه أنس في قصة زواج صفية رضي الله عنها وأخرجه الإمام أحمد ومسلم أن النبي : ((جعل وليمتها التمر والأقط أي اللبن المجفف والسمن)).
ولهذا قال القاضي عياض رحمه الله: أجمعوا على أنه لا حدّّ لأكثر ما يولم به، وأما أقله فكذلك، وبما تيسر أجزأ.
والمستحب أنها على قدر حال الزوج، ويجب على من دُعي أن يجيب خاصة إذا لم يخص بالدعوة الأغنياء دون الفقراء، وإذا لم تكن عند الداعي مناكر وما يتأذى به كما سيأتي في الشروط.
يجب الإجابة على من دعي إذا لم يكن له عذر، فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((شر الطعام طعام الوليمة تدعى لها الأغنياء وتترك الفقراء، ومن لم يجب الدعوة فقد عصى الله ورسوله)) [متفق عليه]. طعام الوليمة الذي يكون شراً الذي يدعى إليه الأغنياء ويترك الفقراء.
ففي رواية أخرى لمسلم قال رسول الله : ((شر الطعام طعام الوليمة يمنعها من يأتيها، ويدعى إليها من يأباها، ومن لم يجب الدعوة فقد عصى الله ورسوله)) يدعى إليها من يأباها قد لا تكون له رغبة في حضورها ويمنع منها من إذا دعي أجاب.
وأما إن كان المدعو صائماً ففي حاله ما رواه أبو هريرة أيضاً، عن النبي وأخرجه أحمد ومسلم وأبو داود قال: ((إذا دُعي أحدكم فإن كان صائماً فليصل)) أي فليدع لصاحب الدعوة وإن كان مفطراً فليطعم.
وشرط وجوب إجابة الدعوة ما يلي:
أن يكون الداعي مكلفاً حراً رشيداً وأن لا يخص بالدعوة الأغنياء دون الفقراء، وأن لا يظهر قصد التودد لشخص لرغبة فيه أو رهبة منه، وأن يكون الداعي مسلماً- على الأصح- وأن يختص باليوم الأول، فقد تكون الوليمة أياماً، فعلى المشهور إن دُعي في اليوم الأول منها وجب عليه أن يجيب وإن دُعي في الأيام التالية لم يتوجب عليه الإجابة.
وإن سبق داعٍ غيرَه وجبت إجابته دون الثاني لما أخرجه أحمد وأبو داود من حديث حميد بن عبد الرحمن الحميري عن رجلٍ من أصحاب النبي أن النبي قال: ((إذا اجتمع الداعيان فأجب أقربهما باباً فإن أقربهما باباً أقربهما دياراً، فإذا سبق أحدهما فأجب الذي سبق)) إذا دعاك اثنان أجب أقربهما باباً فله حق الجوار، وإذا سبق أحدهما فأجب الذي سبق ولو كان المسبوق جاراً والسابق غير جارٍ.
فإن استويا في القرب والبعد قال العلماء أقرع بينهما. وهذا الحديث أحد رجاله وهو أبو خالد بن زيد بن عبد الرحمن المعروف بالدالاني، وفيه مقال، ويشهد له ما أخرجه الإمام أحمد والبخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت سألت النبي : ((إن لي جارين فإلى أيهما أهدي قال: إلى أقربهما منكِ باباً)) ويشهد للحديث الأول وينبغي أن لا يكون عند الداعي من يتأذى من حضوره من منكر أو غيره من الشروط.
ولا ينبغي أن يلام المدعو في ذلك أو أن يقال له: سبقتنا بهذه المناكر لما تزوجت قبلنا وتنكر علينا، لا ينبغي أن يخاف اللوم، فمن هداه الله تعالى وبصره بالحق لا ينبغي أن يعير، وإن فُعل وعير بما كان يفعله سابقاً فلا عليه، لا عليه مطلقاً، وليس عليه أن يلتفت إلى ما يقال عنه إن كان هناك ما يتأذى بحضوره من منكر وغيره ليس له أن يحضر.
فإن قدر على إزالة المنكر وجب أن يحضر فلعله أن يكون مهاباً محترماً موقراً يزال المنكر لأجله، فإن ساعد على تغير المنكر فليحضر، وإن لم يتغير المنكر فليرجع، وأما إن فُعل المنكر بحضرته بعد حضوره فليخرج إلا إن خشي على نفسه من ضرر محقق.
ومن الشروط كذلك أن لا يكون له عذر، فإن كان معذوراً بسفر أو مرضٍ أو نحو ذلك فله أن يتخلف، وليس عليه حرج أن يتخلف.
ثم كان من هدي النبي إذا زفت المرأة إلى زوجها كما رواه عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وأخرجه ابن ماجه وأبو داود بمعناه أن النبي قال: ((إذا أفاد أحدكم امرأة أو خادماً أو دابة فليأخذ بناصيتها، وليقل: اللهم إني أسألك من خير ما جبلتها عليه، وأعوذ بك من شرها وشر ما جبلتها عليه)).
وهذا دعاء جامع لأن الإنسان إذا لقي الخير من زوجته أو خادمه ودابته وجنب الشر من تلك الأمور كان من ذلك جلب النفع واندفاع الضر، وعلى المرأة أن تتجنب أن تتزين بأي من الأمور التي نهى عنها النبي في ليلة زفافها وفي غيرها، فعن أسماء رضي الله عنها قالت أتت النبي امرأة فقالت يا رسول الله إن لي ابنة عريساً يعني عروساً تصغير، وإنه أصابها حصبة فتمرق شعرها أي فسقط شعرها أفأصله؟ أي: أفاصل الشعر بشعر أجنبي، شعر إنسان آخر فقال رسول الله : ((لعن الله الواصلة والمستوصلة)) [متفق عليه].
وقد لعن النبي النامصة والمتنمصة وهي التي تزيل الشعر من وجهها ويستثنى منه ما إذا نبت لها لحية أو شارب، هذا يزال طبعا، وأما ما عدا ذلك فإن النبي لعن النامصة والمتنمصة، وهي التي تزيل الشعر من وجهها، ولعن الواشرة والمستوشرة وهي التي تشر أسنانها حتى تكون حادة صغيرة، وهي المتفلجة التي تجعل فرجاً بين الأسنان تتشبه بالفتاة الصغيرة لتبدو في أعين الناس صغيرة حسناء، هذه لعنها أيضاً النبي ، ولعن كذلك القاشرة والمقشورة وهي التي تزيل الطبقة العليا من جلد الوجه لتبدو الطبقة التي تحتها، ولعن الواشمة والمستوشمة وهي التي تدق الوشم في يدها أو معصمها أو غير ذلك، هذا كله يسير تجنبه، وفيما أباحه الشرع كفاية وسعة، فللمرأة أن تتزين بالحناء والخضاب والذهب والحرير وغير ذلك، أسأل الله العلي العظيم أن يأخذ بناصيتنا للحق أخذاً جميلاً.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله خاتم الأنبياء، وإمام المرسلين، اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وثمة أيها الأخوة الكرام أمور قد يستحى من ذكرها لكن قد قالت عائشة رضي الله عنها كما أخرجه البخاري: ((نعم النساء نساء الأنصار، لم يمنعهن الحياء أن يتفقهن في الدين)).
وقال مجاهد – رحمه الله – تلميذ ابن عباس رضي الله عنهما وغيره من الصحابة: ((لا يتعلم العلم مستحٍ ولا مستكبر)). الذي يستحي أن يسأل لا يتعلم، والمستكبر لا يتعلم، ولولا أن الكثيرين أصبحوا يصدرون في أعمالهم التي تتعلق بالزواج عن مشكاة غير مشكاة النبوة، لولا أن الكثيرين أصبحوا يقلدون غير النبي ويسترشدون بغيره في هذه الأمور لما نبهت على هذه الأمور لما فيها من خروج عن بعض الحياء، لكن مشكاة النبوة فيها مصباح يستمد ضوؤه من أصلين عظيمين هما: القرآن والسنة.
فأرشد النبي الرجل إذا باشر أهله أن يقول هذا الذكر، ففيه خير كثير وعظيم، وربما حرمنا هذا الخير لما أصبحنا نجهل هذا الذكر وأصبحنا لا نكرره ولا يرد على الألسنة إلا القليلين ممن رحم الله تبارك وتعالى، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((لو أن أحدكم إذا أتى أهله قال: بسم الله، اللهم جنبنا الشيطان، وجنب الشيطان ما رزقتنا، فإن قدر في ذلك ولد لن يضر ذلك الولد الشيطان أبداً)) [رواه الجماعة إلا النسائي].
ولا يحل للزوجين أن يتجردا ولا يحل لهم التعري الكامل، ينبغي أن يستترا ولا يحل لهما بل يحرم عليهما تماماً أن يتحدث أي منهما عن حال الوقاع، هذا حرام فقد أخرج أحمد ومسلم عن أبي سعيد الخدري عن النبي قال: ((إن من شر الناس عند الله منزلة يوم القيامة الرجل يفضي إلى المرأة وتفضي إليه ثم ينشر سرها)) ولم يتوقف الأمر على نشر السر فحسب بل قد سمعتم، ولا يخفى على الكثيرين منكم أن الأمر قد ازداد سوءً إذا أصبح بعض الأزواج يسجلون ويصورون ما أمر الله بستره وما يستحي منه وما ينبغي أن يستعف عنه.
فالعفاف العفاف أيها المسلمون، والحياء الحياء أيها المسلمون استروا عن الناس ما أمركم الله بستره، الحياء رحمكم الله، والعفاف رحمكم الله.
ومما حذر منه النبي كذلك ما رواه عنه أبو هريرة وأخرجه أحمد وأبو داود أن النبي قال: ((ملعون من أتى امرأة في دبرها)) وفي لفظ لابن ماجه: ((لا ينظر الله إلى رجل جامع امرأته في دبرها)) وللحديث شواهد كثيرة تنهض للاحتجاج به فالزموا هذا العفاف وهذا الحياء وهذه التعاليم.
واعلموا أن الزواج مسؤولية عظيمة، ليس قضاء وطر فحسب، بل ينبغي على كل زوجين أن ينويا بزواجهما إقامة بيت مسلم يعرف كل منهما فيه ما لله من حق وما للآخر عليه من حقوق وما للناس عليهما من حقوق، وينبغي عليهما أن ينويا أن ينشآ ما يرزقهما الله تبارك وتعالى بهما من البنين والبنات تنشأة إسلامية سليمة، يعرف الأولاد بها أن لهم رباً يُخاف ويرجى ويعرفون أن لهم ديناً تلتزم تعاليمه منذ نعومة أظفارهم، وأن لهم نبياً يُحب أشد من حب المال والوالد والولد، وأن لهم إخواناً في الدين ينبغي الإحسان إليهم والرفق بهم ومواساتهم وسد خلاتهم وحاجاتهم
ــــــــــــــــــــ(67/132)
القوامة على النساء
...
...
1776
...
الأسرة والمجتمع
...
...
المرأة
...
فهد بن عبد الرحمن العبيان
...
...
الرياض
...
...
...
غير محدد
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- أن من حكمة الله أنه سخر بعض البشر لبعض وأنه جعل القوامة للرجل على المرأة. 2- تأثر بعض الناس اليوم بدعوة الكفار إلى ما يسمونه حقوق المرأة ومساواتها بالرجل. 3- أثر هذه الدعوة السيء على المجتمعات. 4- أقسام الناس في القوامة على المرأة. 5- معنى القوامة.
الخطبة الأولى
أما بعد:
فإن الله خلق الخلق من ذكر وأنثى وسخر بعضهم لبعض، وجعل بعضهم قائداً وسيداً وولياً على بعض، فبذلك استقامت شؤونهم واستمرت حياتهم قال تعالى: نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضاً سُخرياً ورحمة ربك خير مما يجمعون.
ولما كانت حياة الناس لا تستمر إلا بتسخير بعضهم لبعض جاء في الشريعة التأكيد على مراعاة جانب الولاية والسيادة.
ومن أنواع الولاية التي أولتها الشريعة بالاهتمام ولاية الرجل على المرأة وقوامته عليها.
وهي من فطرة الله للخلق أن جعل الرجل راعياً للمرأة قائماً على شؤونها. ولذا ركب الله في الرجل من خصائص القوامة والولاية ما لا يوجد عند المرأة.
قال الله تعالى: الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم.
عباد الله: إن قوامة الرجل على المرأة شرع الله الذي لا محيد عنه. ولا خيار لنا في العدول عنه. فمن أراد الفلاح والسعادة في الدارين فعليه بالتمسك به. فما من شيء شرعه الله إلا وفيه الصلاح والفلاح، حيث إنه الخالق سبحانه وهو أعلم بما يصلح عباده.
ولقد تأثر فئام من الناس بما يبثه الغرب الكافر من أفكار عفنة حول قوامة الرجل على المرأة ظاهرها الدفاع عن حقوق المرأة المضيعة والعدل والرحمة، وباطنها دفع الناس إلى حرية فاجرة حائرة ضاعت بسببها مجتمعاتهم وتخلخلت بها أسرهم، وأنتجت لهم هذه الحرية المزعومة مجتمعاً هوايته الإجرام، وتسليته الزنا، وتفثات غضبه القتل. مجتمع المواليد غير الشرعيين فيه يقارب أو يزيد أحياناً على مواليد النكاح الصحيح كما أثبتته إحصائياتهم. مجتمع تخالل فيه المرأة من تشاء وإن كانت متزوجة، وتدخل إلى بيتها من تشاء بل إلى قعر دارها من تشاء،مجتمع صغيرات السن فيه يعرفن ويعملن مثل أو أكثر مما تعرفه وتعمله المتزوجات. تقول إحدى إحصائيات واحدة من أكبر الدول الأوربية إن 9 آلاف فتاة صغيرة لم يتجاوزن سن 16 سنة حملن سفاحاً في عام 96 فقط، ويولد في هذه الدولة أيضاً نحو 43 ألف طفل من سفات لأمهات غير متزوجات تتراواح أعمارهن بين 15 - 19 سنة إذا فما حال من هن فوق هذا السن.
وأما حال العلاقات الزوجية فحدث ولا حرج عن عدد حالات الطلاق ونسبتها الكبيرة، إضافة إلى حالات الاعتداء من الطرفين بالجرح والضرب والقتل.
وإنك لتعجب مع هذا كله ممن هم من أبناء المسلمين أو من المحسوبين على الإسلام من قد تأثر بأفكار أولئك، فحذا حذوهم، فلا حسن إلا ما رأوه حسناً، ولا قبيح إلا ما رأوه قبيحاً.
فأجلب هؤلاء بخيلهم ورجلهم يشوهون ويسخرون من قوامة الرجل الشرعية فيتهمونها بالتخلف والتسلط. وينفثون في المسلمين ما تلقوه عن أسيادهم من الكفرة والملاحدة.
ولقد تولى نشر أفكارهم العفنة التي هي زبالة أفكار الغرب تلك المجلات العاهرة والقنوات الفضائية التي امتلأت بكل شيء إلا من الدين والأدب والفضيلة والفائدة.
فأخذت تطنطن بكل ما تزعمه من حقوق للمرأة مضيعة، ضيعتها قوامة الرجل الشرقي أي المسلم فحملوا الراية لمحاربة الفضيلة،وشعاراتهم التي يهتفون بها: أعتقوا المرأة. دعوها تنطلق. دعوها تعيش كما تشاء، تلبس ما تشاء. تعمل ما تشاء، تجالس من تشاء، تخالط من تشاء.
فلما أعياهم مخاطبة الرجل وإغراؤه بترك قوامته والتخلي عنها وجهوا خطابهم إلى المرأة الضعيفة،فأغروها ببعض الشعارات البراقة المخادعة حيث أظهروا لها المرأة المطيعة لزوجها الحافظة لحقوقه، القارة في بيته، بصورة المرأة المتخلفة الجاهلة ضيقة الأفق بخلاف ما عليه المرأة المتحضرة زعموا حيث جعلوا تفلتها عن قوامته وخروجها عن طاعته إثباتاً لذاتها وحريتها. وانعتاقاً من رق القرون المتخلفة.
ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين.
عباد الله: الناس في القوامة على المرأة طرفان ووسط.
- طرف ضيع القوامة ولم يرع الأمانة فألهته دنياه عن أن ينظر في حال بيته، ومن تحت يده من النساء.
فالمرأة عنده تخرج متى تشاء، إلى أي مكان تشاء، من غير إذنه، تلبس ما تشاء، بل وصل الأمر في بعض البيوت إلى أن الزوجة هي التي تأمر وتنهى، وتطاع فلا تعصى.
ولا عجباً أن النساء ترجلت ولكن تأنيث الرجال عجيب، ترى بعض الأزواج لا يشارك الرجال إلا في صورته الظاهرة، بينما المرأة تدبر أمر بيتها وتتحكم في مصير أولادها دون رجوع إلى رأي الزوج، بل ولا حتى مشاورته أو إشعاره بما عزمت عليه من الرأي والتدبير.
وما يلاحظ في المجتمع من منكرات في صفوف النساء ممثل السرف والبذخ في حفلات الزواج وما يلبس في هذه الحفلات من ألبسة تخل بالدين والأدب وكذا ما يحدث في الأسواق من تبرج وسفور وكشف للوجه أو بعضه كالعينين وغيرها، هذه المنكرات إنما منشؤها وأحد أسبابها التراخي في القوامة الشرعية التي وكلها الله إلى الرجل.
والطرف الآخر طرف استبدل القوامة الشرعية بقوامة بهيمية لا تمت إلى الإسلام بصلة، فالمرأة عنده بلا حقوق مرعية، مسلوبة الرأي والقدرة على المشاركة الزوجية. تواجه الضرب والشتم واللعن لأسباب واهية. ولئن قيل له: اتق الله تلا عليك قوله تعالى: الرجال قوامون على النساء.
وهناك قسم آخر هم أهل القوامة الشرعية التي أمر الله بها وشرعها في كتابه وعمل بها نبيه واقتدى به أصحابه من بعده.
وهذه القوامة هي التي يراعي فيها الزوج حق المرأة الشرعي في نفسها ومالها ورأيها. مع الإمساك بزمام الأمور. والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتربية الحسنة لها والمعاشرة بالتي هي أحسن.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون.
بارك الله لي ولكم. .
الخطبة الثانية
أما بعد:
أيها المؤمنون: إن القوامة التي جعلها الله بيد الرجل يجب أن يعمل بها وفق ما شرع الله وليست كما يظن بعض الناس أنها سلطة مطلقة لا يسأل فيها عما يفعل. فالقوامة مبناها على العدل وإعطاء كل ذي حق حقه، وهي كذلك ليست مقتصرة على الزوجة بل على كل من هم تحت يدك من أهل بيتك من النساء والصبيان. وليحذر من ضيعها قول النبي المتفق على صحته: ((ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة)).
وليحذر من استعملها في غير محلها قوله : ((اللهم من ولي من أمر أمتي شيئاً فشق عليهم فاشقق عليه)) أخرجه مسلم.
وكذلك قوله : ((اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة)) أخرجه مسلم.
عباد الله: إن شأن المسؤولية عظيم، فكل منا مسؤول عما ولاه الله تعالى من الذرية كما قال : ((الرجل راع في بيت أهله ومسؤول عن رعيته)). ومتى ما ضيع الرجل مسؤوليته أو وكلها إلى من ليس بأهل لها فقد عرض نفسه للإثم والعصيان، وكيف لا يكون ذلك وفيه ضياع لمصالح كثيرة وإحلال لمفاسد كثيرة.
فعليك أيها الرجل أن تتقي الله في نفسك وما تحملته ذمتك من الأمانة فإن ضيعت نفسك عن ذلك أو عن بعض ذلك فادع الله تعالى بطلب العون والتوفيق واستشر أهل الرأي والحزم، فلعل الله أن يعلم ما في قلبك من حب لإصلاح أهل بيتك والإحسان إليهم فيجعل لك من أمرك يسراً ومخرجاً.
ثم صلوا وسلموا عباد الله على الرحمة المهداة محمد بن عبد الله كما أمركم الله بالصلاة والسلام عليه فقال سبحانه: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا
ــــــــــــــــــــ(67/133)
العدل بين الأولاد
...
...
1827
...
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
...
...
قضايا الأسرة, مكارم الأخلاق
...
رضا بن محمد السنوسي
...
...
مكة المكرمة
...
...
...
السنوسي
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- الأبناء عطية وهبة من الله. 2- أنبياء الله يسألونه الولد الصالح. 3- مسئولية الوالدين في التربية. 4- العدل بين الأولاد ضرورة اجتماعية وفريضة شرعية. 5- تفضيل بعض الأولاد سبب للحقد والعداوة. 6- البعض يحرمون بناتهم من الميراث وسواه من الحقوق. 7- قصة والدي النعمان بن بشير. 8- جزاء العدل في الآخرة.
الخطبة الأولى
أما بعد:
أحبتي في الله: الأبناء هم عدة المستقبل ورجال الغد، وهم ثمار القلوب وعماد الظهور، وفلذات الأكباد، حبهم مغروس في النفوس، فالمرء يرى فيهم مستقبله المشرق وامتداده الطبيعي بعد الوفاة، وما من أحد من الناس إلا وهو يحب الأبناء، ويسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقه الأبناء والأحفاد.
وأنبياء الله المكرمون قد حرصوا على الذرية، وطلبوا من المولى سبحانه وتعالى أن يرزقهم الأبناء الصالحين الذين يكونون القدوة والأسوة لمن بعدهم، فهذا إبراهيم عليه السلام يسأل ربه الذرية الصالحة قائلاً: رَبّ هَبْ لِى مِنَ الصَّالِحِينِ [الصافات: 100]. وهذا زكريا عليه السلام يناجي ربه، ويسأله الولد ليكون وارثاً للنبوة من بعده قائلاً: فَهَبْ لِى مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً يَرِثُنِى وَيَرِثُ مِنْ ءالِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبّ رَضِيّاً [مريم:5-6].
والقرآن الكريم حينما تحدث عن صفات عباد الله الصالحين ذكر أن من دعائهم لربهم أن يهبهم الله الولد الصالح، قال تعالى: وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْواجِنَا وَذُرّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً [الفرقان:74].
ولما كان للأبناء هذا الدور في الحياة، فقد حرص الإسلام أشد الحرص على بناء الأبناء البناء السليم الذي يُقوم سلوكهم وأخلاقهم، وينشئهم النشأة الصالحة التي تعتمد على التربية والتوجيه وغرس الإيمان في القلوب وإقامة الدعائم الأخلاقية والقيم الاجتماعية في قلوب الأبناء.
وقد أناط مسئولية التربية والتوجيه إلى الوالدين، وخص الأب بعظيم المسئولية في هذا وجعل القوامة بيده ليحسن التصرف والتربية، وإن من مقتضى هذه القوامة أن يحسن تربية الأبناء التربية الإسلامية التي تقربهم إلى الله زلفى، وأن يحرص في ذلك على إقامة العدل بين الأبناء، فإنه إن أقامه بينهم فقد أحسن لهم، وأعانهم على البر، وحقق بينهم المحبة والأخوة.
وإن اندفع مع هواه واتبع عاطفته أو تأثر بأي عامل من عوامل التأثير، فمال إلى تفضيل بعض الأبناء على بعض بتفضيل الذكور على الإناث، أو الصغار على الكبار، أو أولاد الجديدة على القديمة، أو غير ذلك من ألوان التفريق، فقد أوقع نفسه في الظلم، وساق بها إلى الهلكة، وساهم في تصدع بناء الأسرة وتفكك أعضائها وإيجاد العداوة والبغضاء بين الأبناء، فأدى ذلك إلى عقوقه في الحياة وبعد الممات، وأدى ذلك إلى ظهور العدوان وكثرة الخصام والشقاق بين الإخوان.
وفي قصة يوسف مع إخوته عبرة وعظة لأولي الألباب لَّقَدْ كَانَ فِى يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ ءايَاتٌ لّلسَّائِلِينَ إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِى ضَلالٍ مُّبِينٍ اقْتُلُواْ يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ [يوسف:7-9].
إن مثل هذه التصرفات تجعل الأسرة في صراع دائم وتفكك مستمر، والسبب في ذلك عدم العدل بين الأولاد، واستبدال ذلك بالظلم الذي نهى الشارع عنه، إن بعض الرجال من الآباء الذين شذت طباعهم، وغلظت أكبادهم، وجمدت عواطفهم وغاب عنهم ما أمر الله به من العدل يقومون بحرمان البنات من المال وإيثار الذكور من الرجال بذلك، والحجة لهم في هذا أن الذكور امتداد لهم، فهم أولى بحمل الراية من بعدهم، فهم أولى بالمال من البنات، بل إن البنت إنما تأخذ مالها لتعطيه لزوجها الذي هو في نظر بعض الآباء غريب عن الأسرة، ليس له في المال من نصيب، وهذا الفعل من الظلم الذي نهى الله عنه، فإن الله سبحانه قد أعطى كل ذي حق حقه، فالواجب على الآباء تحقيق أمر الله، وترك الظلم الذي يقع على الأبناء والإنسان لا يدري أين الخير في الذكور أم في الإناث، ومولانا يقول: ءابَاؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً [النساء:11].
والحق أننا سمعنا من بعض الآباء الذين فعلوا ببناتهم مثل هذا، فخصوا الذكر بالأموال، ونال البنات القليل جداً من المال، ثم كانت عاقبة أمرهم خسراً، نعوذ بالله من الخزي والندامة في الدنيا وفي دار المقامة.
إخوة الإسلام: إذا كان الواحد منا يحب بعض أولاده أكثر من الآخرين فلا يجوز له أن يظهر هذه المحبة أمام أبنائه، فإن هذا يقتلهم، ويجعل الحقد في قلوبهم، ويزرع البغضاء في نفوسهم، فالأولى أن يجعل حبه هذا في قلبه حتى تسلم أخوة الأبناء من التصدع، بل من الواجب عليه لو قبل أحد أبنائه، وغيره ناظر إليه، أن يقبل الآخر حتى يكونوا في البر سواء، فالواجب علينا – إخوة الإسلام – أن نعدل بين أبنائنا في القسمة، وأن نجعلهم سواء في العطية والهبة، وأن نتركهم من بعدنا إخواناً متحابين، يعاون قويهم ضعيفهم، ويساعد قادرهم عاجزهم، ويشد ذكرهم أزر أنثاهم دون أن يكون هناك شقاق أو خلاف أو عداوة بينهم.
والشارع الحكيم حث على هذه المساواة في المعاملة بين الأبناء، واعتبر الخروج عن ذلك ظلماً وجوراً، لا يجوز لأبناء الإسلام أن يقعوا فيه، أخرج النسائي: (3681) بسنده عن النعمان بن بشير الأنصاري رضي الله عنه أن أمه ابنة رواحة سألت أباه بعض الموهبة من ماله لابنها فالتوى بها سنة، ثم بدا له فوهبها له، فقالت: لا أرضى حتى تشهد رسول الله ، فقال: يا رسول الله، إن أم هذا ابنة رواحه قاتلتني على هذا الذي وهبت له، فقال رسول الله : ((يا بشير، ألك ولد سوى هذا؟)) قال: نعم، فقال رسول الله : ((أفكلهم وهبت لهم مثل الذي وهبت لابنك هذا))؟ قال: لا، قال رسول الله : ((فلا تشهدني إذاً، فإني لا أشهد على جور)). وفي رواية (3680): ((فلا أشهد على شيء، أليس يسرك أن يكونوا إليك في البر سواء))؟ قال: بلى، قال: ((فلا إذاً)).
لقد عد رسول الله تلك العطية التي لم يتساوى فيها جميع الأولاد ظلماً، وكفى بالظلم بشاعة، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة.
فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن العدل بين الأولاد مما أمرنا به شرعنا الحنيف، فاسلكوا طريق ربكم تستقم لكم الحياة، ويكونوا لكم في البر سواء.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرّيَّةً ضِعَافاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُواّ اللَّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً [النساء:9].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، وسلك بي وبكم طريق عباده الصالحين، اللهم اجعلنا ممن يستمع القول فيتبع أحسنه، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه. . . أما بعد:
إخوة الإسلام:
أخرج مسلم: (1827) بسنده عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه قال رسول الله : ((إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن عز وجل، وكلتا يديه يمين، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا)).
إنه بيان من الرحمة المهداة يستنهض همم الرجال الصادقين السائرين إلى رضا الله ومرضاته، والراجين الفوز بالجنان، أن يحرصوا على العدل في كل أمر يوكل إليهم، ومن ذلك أمر أهليهم حتى يفوزوا بهذا الذي وعد به النبي من الجلوس على منابر عند الحق سبحانه في حضرته العلية.
فاتقوا الله عباد الله، وبادروا إلى إقامة العدل في أهليكم، وبين أبنائكم وبناتكم، واعلموا أن الظلم ظلمات، وأن العدل هو أساس النجاح والفلاح، فالبدار البدار إلى ذلك
ــــــــــــــــــــ(67/134)
الفرج بعد الشدة
...
...
1828
...
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
...
...
الفتن, قضايا المجتمع
...
رضا بن محمد السنوسي
...
...
مكة المكرمة
...
...
...
السنوسي
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- الدنيا دار ابتلاء وشدة. 2- لا يزيل الكروب إلا الله العظيم. 3- لابد أن يأتي بعد الشدة فرج. 4- الجزع لا يرد القضاء. 5- وسائل تفريج الكرب. 6- ضرورة الالتجاء إلى الله في تفريج الكروب. 7- فوائد من وقوع المصيبة.
الخطبة الأولى
أما بعد:
أحبابنا في الله: الحياة الدنيا مليئة بالمحن والمتاعب والبلايا والشدائد والنكبات، إن صفت يوماً كدرت أياماً، وإن أضحكت ساعة أبكت أياماً، لا تدوم على حال وَتِلْكَ الاْيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ [آل عمران:140].
فقر وغنى، عافية وبلاء، صحة ومرض، عز وذل، فهذا مصاب بالعلل والأسقام، وذاك مصاب بعقوق الأبناء، وهذا مصاب بسوء خلق زوجته وسوء عشرتها، وتلك مصابة بزوج سيء الأخلاق، فظ الخلق، سيء العشرة، وثالث مصاب بكساد تجارته وسوء صحبه الجيران، وهكذا إلى نهاية سلسلة الآلام التي لا تقف عند حد، ولا يحصيها عد.
ولا يزيل هذه الآلام، ويكشف هذه الكروب إلا الله علام الغيوب الذي يجيب المضطر إذا دعاه، والمسلم حاله في البأساء الصبر والإنابة إلى الله، يتوسل بالأسباب الموصلة إلى كشف المكروه، لا يستكين للحادثات، ولا يضعف أمام الملمات، يحاول التخلص منها في حزم الأقوياء وعزيمة الأصفياء، قدوته في ذلك سيد المرسلين، وإمام الصابرين، فقد حل به وبأصحابه الكرام من الشدائد والمحن والابتلاء ما تقشعر منه الأبدان، فما وهنوا، وما ضعفوا، وما استكانوا، بل قابلوا تلك الخطوب بالصبر والثبات الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَانْقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوء وَاتَّبَعُواْ رِضْوانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ [آل عمران:173-174].
وعن أبي عبد الله خباب بن الأرت رضي الله عنه قال: شكونا إلى رسول الله ، وهو متوسد برداً له في ظل الكعبة، وقد لقينا من المشركين شدة، فقلنا: ألا تستغفر لنا، ألا تدعو لنا، فقال: ((قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل، فيحفر له في الأرض، فيجعل فيها، ثم يؤتى بالمنشار، فيوضع على رأسه، فيجعل نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه ما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمن هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون)) [البخاري].
ولقد وعد مولانا – سبحانه وتعالى – عباده بالسعة بعد الضيق، وبالعافية بعد البلاء، وبالرخاء بعد الشدة، واليسر بعد العسر فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً [الشرح:5-6]. يقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: لو دخل العسر في جحر لجاء اليسر حتى يدخل عليه؛ لأن الله تعالى يقول: إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً [الشرح:6]. يقول : ((وأن الفرج مع الكرب، وإن مع العسر يسراً)) [أحمد].
ضاقت فلما استحكمت حلقاتها فرجت وكنت أظنها لا تفرج
يقول ابن رجب رحمه الله: كم قص الله سبحانه من قصص تفريج كربات أنبيائه عند تناهي الكروب بإنجاء نوح ومن معه في الفلك، وإنجاء إبراهيم من النار، وفدائه لولده الذي أمر بذبحه، وإنجاء موسى وقومه من اليم، وقصة يونس وقصص محمد – عليه وعلى جميع الأنبياء المرسلين أفضل الصلاة وأتم التسليم – مع أعدائه، وإنجائه منهم كقصة الغار ويوم بدر والأحزاب وحنين وغير ذلك.
صبراً جميلاً ما أقرب الفرجا من راقب الله في الأمر نجا
من صدق الله لم ينله أذى ومن رجاه يكون حيث رجا
أخي المسلم لا تجزع مما أصابك، ولا تحزن، فإن ذلك لا يرد فائتاً، ولا يدفع واقعاً، فاترك الحزن والهم، وكن مستعيناً بالله متوكلاً عليه، وخذ من الأسباب ما يفرج كربك، ويذهب همك من تقوى الله عز وجل والإنابة إليه والتوكل عليه والتعرف إليه في الرخاء، قال تعالى: وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلّ شَىْء قَدْراً [الطلاق:2-3].
يقول أبو الدرداء رضي الله عنه: إن من شأنه سبحانه أن يغفر ذنباً، ويكشف كرباً، ويرفع أقواماً، ويضع آخرين. ويقول الضحاك بن قيس رضي الله عنه: اذكروا الله في الرخاء يذكركم في الشدة، إن يونس عليه السلام كان يذكر الله تعالى، فلما وقع في بطن الحوت قال الله تعالى: فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبّحِينَ لَلَبِثَ فِى بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [الصافات:143-144].
وعليك بالاستغفار فإنه سبب لتفريج الكروب وإزالة الغموم، قال تعالى: فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبّى قَرِيبٌ مُّجِيبٌ [هود:61].
وجاء عن المعصوم قوله: ((من لزم الاستغفار – أو أكثر من الاستغفار – جعل الله له من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ويرزقه من حيث لا يحتسب)) [أبو داود].
وأكثر أخي من الأدعية التي وردت عن الحبيب فإن فيها ذهاب الهموم والغموم، ومن ذلك قوله: ((لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السموات ورب العرش الكريم، لا إله إلا الله الحليم الكريم)) [متفق عليه].
وأخرج أحمد بسنده عن النبي أنه قال: ((دعوة ذي النون عليه السلام إذ هو في بطن الحوت: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، لم يدع بها مسلم ربه في شيء قط إلا استجاب له)).
واعلم يقيناً أن الذي يكشف البلوى هو الله، فاعتصم به، واعتمد عليه وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنّى مَسَّنِىَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرّ وَءاتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَّعَهُمْ رَحْمَةً مّنْ عِندِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ [الأنبياء:83-84].
روى سعيد بن عنبسة قال: بينما رجل جالس، وهو يعبث بالحصى، ويحذف بها، إذ رجعت حصاة منها، فصارت في أذنه، فجهد بكل حيلة، فلم يقدر على إخراجها، فبقيت الحصاة في أذنه تؤلمه، فبينما هو ذات يوم جالس إذ سمع قارئاً يقرأ أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوء [النمل:62]. فقال: يا رب، أنت المجيب، وأنا المضطر، فاكشف ضر ما أنا فيه، فنزلت الحصاة من أذنه.
فراقب الله – أيها الأخ المسلم – وأكثر من الضراعة والالتجاء، وقل: يا حي يا قيوم، برحمتك أستغيث، كن قوي الإيمان بالله، قوي الثقة به، حسن الرجاء حسن الظن بمولاك، يكشف عنك ما نزل بك من الضر، ويبدل شدتك رخاء، ويجعل لك من همك فرجاً ومخرجاً، ومن عسرك يسراً، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلّ شَىْء قَدْراً [الطلاق:3].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، اللهم اجعل لنا وللمسلمين من كل ضيق مخرجاً، ومن كل هم فرجاً، اللهم فرج هم المهمومين، واقضِ الدين عن المدينين، واغفر لنا ولآبائنا ولأمهاتنا وللمسلمين.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه. . أما بعد:
إخوة الإسلام:
المسلم يتهم نفسه دائماً بالتقصير والتفريط، ويعلم أنه ما أصابه إنما كان من قبل نفسه وَمَا أَصَابَكُمْ مّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ [الشورى:30].
والمؤمن قد ينتفع بمصيبته، فيجعل من هذه المحن منحاً يترقى بها في طاعة الله، يقول ابن رجب رحمه الله: إن المؤمن إذا استبطأ الفرج، وأيس منه بعد كثرة دعائه وتضرعه، ولم يظهر له أثر الإجابة رجع إلى نفسه بالملائمة، وقال لها: إنما أتيت من قبلك، ولو كان فيك خير لأجبت، وهذا اللوم أحب إلى الله من كثير من الطاعات، فإنه يوجب انكسار العبد لمولاه، واعترافه له بأنه أهل لما نزل به من البلاء، وأنه ليس أهلاً لإجابة الدعاء، فلذلك تسرع إليه حينئذ إجابة الدعاء وتفريج الكرب، فإنه تعالى عند المنكسرة قلوبهم من أجله. يا حي يا قيوم رحمتك نرجو، فلا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين ولا أقل من ذلك، وأصلح لنا شأننا كله بعفو منك وعافية.
ثم صلوا وسلموا على البشير النذير والسراج المنير، فقد أمركم بذلك مولانا الكريم: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىّ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
ــــــــــــــــــــ(67/135)
تخفيف المهور وتيسيرها
...
...
1829
...
الأسرة والمجتمع
...
...
قضايا المجتمع
...
رضا بن محمد السنوسي
...
...
مكة المكرمة
...
...
...
السنوسي
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- الزواج نشاط فطري أحله الله عز وجل. 2- دفع المهر للمرأة جزء من تكريم الإسلام لها. 3- لم يحدد الإسلام قيمة معينة للمهر. 4- تفاوت مهور الصحابة على قلتها. 5- ظهور التغالي في المهور والمباهاة في نفقات الزواج. 6- من بركة المرأة قلة مهرها.
الخطبة الأولى
أما بعد:
أحبابنا في الله: الزواج طبيعة فطرية وارتباط حيوي وثيق يحفظ الله به النسل البشري في مجال الحياة، ويحقق به العفة والنزاهة والطهر لكلا الزوجين، وقد جعل الله لهذا الزواج أتم نظام وأكمله، حقق به السعادة لكلا الزوجين، وحفظ لهما الحقوق.
وفي طليعة هذا النظام أن فرض للمرأة حقاً على الرجل، ألا وهو الصداق الذي يعطيه لها دلالة صدق على اقترانه بها ورغبته فيها، وأنها موضع حبه وبره وعطفه ورعايته.
ولقد تفردت شريعة الإسلام على غيرها من الشرائع والقوانين، بأنها كرمت المرأة، وأحسنت إليها، وأثبتت لها حقها في التملك وحيازة المال بعد أن كانت في الجاهلية كسقط المتاع، تباع وتشتري، ولهذا أوجب الإسلام على من يتقدم لخطبة المرأة أن يدفع لها الصداق، وهو عبارة عن نوع من التقدير والاحترام، وليس ثمناً أو قيمة لها وَءاتُواْ النّسَاء صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَىْء مّنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً [النساء:4].
ولا يظنن أحد أن المهر ثمن للمرأة، أو ثمن لجمالها، أو للاستمتاع بها، أو ما يعتقده بعض العامة أنه قيمة لها، بل الحق أن المهر عطية من الله للمرأة، وهو حق لها تتصرف فيه كيف شاءت.
والإسلام لم يحدد مقدار المهر وكميته، وذلك لتباين الناس واختلاف مستوياتهم وبلدانهم وعاداتهم، ولكن الاتجاه العام في الشريعة الإسلامية يميل نحو التقليل فيه، فذاك أقرب لروح الدين، فيكون حسب القدرة وحسب التفاهم والاتفاق.
وقد كان السلف الصالح – رضوان الله عليهم – يتزوجون على القبضة من الطعام وعلى تعليم القرآن، أخرج البخاري: (5135) بسنده عن سهل بن سعد قال: جاءت امرأة إلى رسول الله ، فقالت: إني وهبت من نفسي، فقامت طويلاً، فقال رجل: زوجنيها إن لم تكن لك بها حاجة، فقال عليه الصلاة والسلام: ((هل عندك من شيء تصدقها))؟ قال: ما عندي إلا إزاري فقال: إن أعطيتها إياه جلست لا إزار لك، فالتمس شيئاً فقال: ما أجد شيئاً، فقال: ((التمس ولو كان خاتماً من حديد))، فلم يجد، فقال: ((أمعك من القرآن شيء))؟ قال: نعم سورة كذا وكذا وسورة كذا، لسور سماها، فقال: ((قد زوجناكها بما معك من القرآن)).
ولقد خطب أبو طلحة أم سليم فقالت: والله ما مثلك يرد، ولكنك كافر، وأنا مسلمة، ولا يحل لي أن أتزوجك، فإن تسلم فذلك مهري، ولا أسألك غيره، فكان كذلك، أسلم، وتزوجها رضوان الله عليهم أجمعين.
بل إن سعيد بن المسيب رحمه الله زوج ابنته على درهمين.
وعلماء الأمة يرون أن الشارع لم يقدر المهر بقدر معين، بل تركه إلى اتفاق الطرفين الأب والزوج، أو الزوج والزوجة، وتراضيهما في تحديده مع مراعاة حال الخاطب وقدرته، قال تعالى: وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِن بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً [النساء:24].
والصحابة – رضوان الله عليهم – كانوا يمهرون ملء الكف من الدقيق أو السويق أو التمر، أخرج أبو داود: (2110) بسنده عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي قال: ((من أعطى في صداق امرأة ملء كفيه سويقاً أو تمراً فقد استحل)).
وقد تزوج عبد الرحمن بن عوف على وزن نواة من ذهب، أخرجه أبو داود: (2019) بسنده عن أنس أن رسول الله رأى عبد الرحمن بن عوف ردعُ زعفران، فقال النبي : ((مهيم)) أي مالك ؟ فقال: يا رسول الله، تزوجت امرأة. قال: ((ما أصدقتها))؟ قال: وزن نواة من ذهب، قال: ((أولم ولو بشاة)).
ورسولنا هو الأسوة والقدوة لهذه الأمة فلم يكن يزيد في مهر نسائه أو بناته عن خمسمائة درهم، أخرجه أبو داود: (2106) بسنده عن أبي الجعفاء السلمي قال: خطبنا عمر رحمه الله فقال: ألا لا تغالوا بصداق النساء، فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا أو تقوى عند الله لكان أولاكم بها النبي ، ما أصدق رسول الله امرأة من نسائه، ولا أصدقت امرأة من بناته أكثر من ثنتي عشر أوقية.
ولقد ظهر في المجتمع اليوم التغالي في المهور والتباهي في نفقات الزواج، فهذه علبة مذهبة للمهر، وتلك ريالات فضة معقودة بشكل أنيق، وهذه أدوات تجميل، كل هذه زيادات على ما قرره الشارع الحكيم، وسرف بيّن وخيلاء ظاهرة، يضاف إلى ذلك الولائم المرهقة وقصور الأفراح الفخمة، كل هذا حدا بالشباب إلى العزوف عن الزواج والإعراض عنه، وما ظهر الفساد وانتشر الشر إلا يوم أن رأى الشباب أن مفتاح الزواج مسئولية ترهق كواهلهم، وأعباء ثقيلة لا طاقة لهم بها، فأحجموا عنه وتولوا عنه، وهم معرضون.
والناظر في حال الشاب حديث التخرج من أين له أن يأتي بآلاف الريالات حتى يكوّن أسرة وينشئ بيتاً حسب رغبة أهل الفتاة التي يخطبها وحسب العادات والتقاليد التي يحتكمون إليها؟ أليس من العقل بل من الدين أن يتعاون الآباء والأمهات، فيكونوا عوناً للشباب على الزواج، ويسعون بكل وسيلة إلى تسهيله وتيسيره والتخفيف من أعبائه؟ أليس من الأولى لهم من أن يساهموا في إحصان أبنائهم بدلاً من الانحراف والانجراف والسفر إلى خارج البلاد؟
إن المسئولية الملقاة على عواتق أهل الرأي والعلم في هذا المجتمع، تحتم عليهم القيام بواجب النصح والإرشاد وبيان الحق والتحذير من الآثار السيئة للمغالاة في المهور في تكاليف الأعراس التي أصابت مجتمعنا، أين التكافل الاجتماعي؟ أين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ لابد أن يوجد للعامة من الناس القدوة والأسوة من أهل الفضل والعقل في تخفيف المهور، وتيسير أمر الزواج، والبعد عن التكاليف التي ما أنزل الله بها من سلطان، وإنما هي إسراف وتبذير وتضييق لطلب الحلال وتيسير في سلوك طريق الحرام، فاتقوا الله – عباد الله – واحرصوا على أمر أبنائكم وبناتكم، وهيئوا لهم السبل الموصلة إلى سعادتهم في إقامة عش الزوجية سكناً ورحمة ومودة، واسلكوا من الوسائل ما يؤدي إلى إعفاف الشباب وإحصانهم من مغريات الفتن التي نعيشها في هذا الزمان، وأعينوهم بما عندكم حتى تستقيم لهم الحياة، وتسعدوا بهم في الدنيا والآخرة، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِ وَالتَّقْوَى [المائدة:2].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، اللهم اسلك بنا طريقك المستقيم، واجعلنا هداة مهتدين، اللهم يسر أمر كل مسلم ومسلمة، وأمر كل مؤمن ومؤمنة، اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه. . . أما بعد:
إخوة الإسلام:
الإسلام في حرصه على إقامة الحياة الزوجية الهانئة إنما يقيمها على الدين والخلق، أخرج الترمذي: (1085) بسنده عن أبي حاتم المزني قال رسول الله : ((إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد)) قالوا: يا رسول الله، وإن كان فيه؟ قال: ((إذا جاءكم من ترضون دين وخلقه فأنكحوه)) ثلاث مرات.
والإسلام اعتبر أن المرأة كلما كان مهرها قليلاً كان خيرها كثيراً، عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله : ((إن أعظم النكاح بركة أيسره مؤونة)) [مشكاة المصابيح: 3097].
وأخرجه أحمد: (6/91) عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله : ((يمن المرأة تيسير خطبتها وتيسير صداقها)).
فاتقوا الله – عباد الله – ويسروا أمر الزواج، واحرصوا على من ترضون دينه وخلقه، وإياكم من الرغبة في المال دون الدين، فالمال عرض زائل وعارية مستردة، والبقاء للدين، واحرصوا – رحمكم الله – على تيسير أموركم والبعد عن الإسراف والتبذير، فالأيام المقبلة أيام أعراس، فاحرصوا – رحمكم الله – على ما ترضون به ربكم وتسعدون به أنفسكم.
اللهم وفقنا لما تحبه وترضاه، واجعلنا ممن يستمع القول فيتبع أحسنه، ثم صلوا وسلموا على البشير النذير والسراج المنير، فقد أمركم بذلك مولانا الكريم: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىّ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
ــــــــــــــــــــ(67/136)
العادات السيئة والعنوسة
...
...
1866
...
الأسرة والمجتمع, فقه
...
...
النكاح, قضايا المجتمع
...
صالح الجبري
...
...
الطائف
...
...
...
جامع الحمودي
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- عادات سيئة تؤدي إلى عنوسة النساء. 2- الترغيب في نكاح المطلقة والأرملة. 3- أدب البحث عن الخاطب.
الخطبة الأولى
أما بعد:
فإن الناس بجهلهم وخضوعهم إلى عادات وتقاليد ما أنزل الله بها من سلطان وضعوا العوائق والحواجز في طريق الزواج حتى غدا صعباً وشاقاً على الكثيرين.
ومن هذه العادات: عدم أخذ رأي البنت عند الزواج إما لأن الوالد مستبد ظالم، وإما لأنه قد أُغْرِيَ بمبلغ كثير من المال قد يجعله يزوج ابنته رغماً عنها، بغرض حصوله على هذا المال.
وهذا الأمر بالطبع مخالف لأوامر الشرع ولأن الرسول قال: ((لا تنكح الأيم حتى تستأمر. ولا تنكح البكر حتى تُستأذن، قالوا: يا رسول الله وكيف إذنها قال: أن تسكت)).
وعن خنساء بنت خذام: أنّ أباها زوَّجها بدون إذنها - وهي ثيب - فأتت رسول الله فرد نكاحها. [أخرجه الجماعة].
هذا ليس من حق الأب أو المولى أن يزوج ابنته إلا برضاها، والشرع معها في ذلك.
ومن العادات القبيحة: عدم تزويج الأخت الصغرى إلا بعد أن تتزوج البنت الكبرى. ولا ندري من أين أتى الناس بهذه الأفكار العقيمة. ولنفرض أن الكبرى لم يأتها نصيبها بُعد، فما ذنب الصغرى، لكن بعض الناس يريد أن يعطل زواج الصغرى حتى تتزوج الكبرى. ثم نفاجأ بعد فترة بأن الاثنتين قد كبرتا معاً عن سن الزواج، ولو سُهِّل الأمر ويُسِّر لزُوِّجت الصغيرة والكبيرة، ولكنه الجهل وإلا فإننا نرى عندما عرض الشيخ الصالح على موسى عليه السلام الزواج بإحدى بنتيه لم يقل له: أزوجك الكبرى؟ ولم يشترط موسى الصغرى. وبهذا تحدث القرآن: قَالَ إِنّى أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَىَّ هَاتَيْنِ [القصص:26]. (إحدى ابنتي هاتين)، (إحدى ابنتي هاتين) فانظروا إلى الفهم العميق السليم.
ومن العادات والتقاليد المنكرة بل من البدع الشنيعة: تركُ بعض الناس لصلاة الاستخارة الشرعية واستبدالها بأخرى منكرة لاتمت إلى الدين والشرع بصلة؟ والغريب أن هذه العادة قد تسببت في تأخير زواج كثير من البنات. فما هذه التقاليد التي يتمسك بها بعض الناس؟
لكنها طقوس فرعونية جهنمية لهدم الأسرة وعرقلة زواج الشباب.فمتى يصحو البعض من هذه التقاليد الجاهلية؟
من يريد أن يستمر في أمر الزواج بل في كل أمر من الأمور فعليه أن يلتزم بصلاة الاستخارة الشرعية كما علَّمنا إيِّاها رسول الله .
فعن جابر بن عبد الله قال: كان رسول الله يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها كما يعلمنا السورة من القرآن يقول: ((إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة، ثم ليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك،وأسألك من فضلك العظيم:فإنك تقدر ولا أقدر وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب. اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ومعاشي، وعاقبة أمري. أو قال: عاجل أمري وآجله فاقدره لي، ويسره لي ثم بارك لي فيه، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني، ومعاشي، وعاقبة أمري، أو قال: عاجل أمري وآجله. فاصرفه عنه، واصرفني عنه، واقدر لي الخير حيث كان ثم رضني به)) [رواه البخاري وأبو داود والترمذي].
هذه هي الاستخارة الشرعية، وغيرها إنما هو شعوذة ودجل.
ومن العادات القبيحة: الامتناع عن الزواج بالأرامل والمطلقات: وهذا شيء جدير بالاهتمام. فهناك من المسلمات ومنهن شابات. بعضهن توفي أزواجهن، وبعضهن انفصلن عن أزواجهن لأسباب مختلفة فإذا حصل لهن ذلك. هل يكتب عليهن أن يجلسن في بيوتهن حتى الموت؟ مع أنهن لديهن الاستعداد للزواج وبأقل تكاليف ممكنة. فلماذا لا يفكر الشباب بالزواج من أمثال هؤلاء البنات تنفيذاً لأمر الله – سبحانه وتعالى- القائل: وَأَنْكِحُواْ الايَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمائِكُمْ [النور:32].
ويكفي أن نعلم أن سيد الخلق نبينا محمداً قد تزوج وهو في عنفوان شبابه، وفي سن الخامسة والعشرين قد تزوج بأم المؤمنين خديجة رضي الله عنها وهي أرملة، بل وهي تكبره بعشر سنوات على الأقل؟ وقد كان زواجاً ناجحاً بكل المقاييس كما يعلم الجميع.
لهذا فما الذي يمنع الشباب من اتباع هذا المنهج العظيم.
ومن هذه العادات الفاسدة تأخير بعض الشباب للزواج بدعوى عدم وقوع الحب وحصوله حتى الآن.
وهذا خطأ كبير، وساهمت في نشره بين الشباب الأفلام والمسلسلات الخبيثة التي تعلم الناس بأنه لابد من وقوع الحب بين الطرفين قبل الزواج، وأن هذا مهم جداً. وهذا خطأ كبير لأن الحب الحقيقي لا يأتي إلا بعد الزواج والواقع يشهد على هذا:فقد يحدث أن يحصل الزواج نتيجة حب عاطفي جارف، لا يلبث أن يفقد بعد الزواج بأشهر قليلة، وما يلبث أن يكتشف الزوجان أن بينهما فرقاً كبيراً في الأخلاق أو المزاج،أو الثقافة أو الميول من أجل هذا يقول سبحانه وتعالى: وَمِنْ ءايَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْواجاً لّتَسْكُنُواْ إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِى ذَلِكَ لايَاتٍ لّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الروم:21].
ويتضح لنا هنا أن الله جعل حصول الحب والمودة بعد الزواج وليس قبله فقال: وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً لهذا فليحذر الشباب ذكوراً كانوا أو إناثاً من التورط والانخداع بهذه الأفكار الهدامة.
ومن العادات التي تعوق حصول الزواج:أن بعض الناس قد يخفض من مهر البنت، وقد يجعله إلى أدنى مستوى لكن هناك مهر آخر يقدم للزوجة، وهو نفقات كثيرة يعجز عن حملها الخاطب المسكين.
ولو كان الأمر يقتصر على الأشياء الضرورية لقلنا حسن.ولكن المشكلة هي في الأمور التافهة ومنها هدايا الخطبة والشبكة، وهدايا المواسم والمناسبات: وحفلة العرس. وما فيها من لهو محرم. وهدايا الصبحية، ونفقات الحفلات والمهنئين والإسراف في شراء الأقمشة والذهب والجواهر، والمبالغة في تأثيث بيت الزوجية، وغير ذلك. فلا يجد الخاطب من أهل الزوجة إلا كلمة هات حتى يصل معهم الأمر إلى الاشتراط عليه لإحضار بعض الأشياء التي ما أنزل الله بها من سلطان مثل: لابد من أن يكون فستان الزواج أبيضاً ومثل عربة المِلْكَة، وعلب الحلوى، وغير ذلك ثم يختمونها بإقامة الحفلات في أرقى الأماكن مثل الفنادق الكبرى وغيرها. وقد يصاحبها ارتكاب المعاصي، من اختلاط وبلاوي وغيرها.
والسؤال هو: لماذا كل هذه التكاليف وما المقصود منها؟ هل المقصود هو إرضاء الناس؟
أولاً: العمل من أجل الناس هو رياء، والرياء تعرفون حكمه في الإسلام.
ثانياً: الناس لن يرضوا مهما حصل، ولابد من أن يبحثوا عن العيوب، بل وقد يختلقونها لأنه ثبت أن الناس لا يعجبهم شيء أبداً. أما إذا كان القصد هو إرضاء الله، فالله يكره هذا الإسراف وهذا البذخ، لأنه يقول: وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ [الأنعام:141]. ويقول: وَلاَ تُبَذّرْ تَبْذِيرًا إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبّهِ كَفُورًا [الإسراء:26-27]. لهذا نقول اتقوا الله أيها الناس. ولم هذا كله؟ وماذا يفعل الشاب المسكين صاحب الدخل المحدود؟ والراتب المقطوع؟ ماذا يفعل؟ إذا لم نسهل له الحلال فماذا سيفعل؟ هل يتجه إلى الحرام؟ فنكون قد ساهمنا في إفساده وإفساد بنات المسلمين.
إن الإسلام لم يشرع في نفقات العقد والزفاف، سوى المهر للمرأة والوليمة لحفلة العرس، وإكرام الضيف بما يناسب الحال.أما ما عداها من الهدايا والنفقات فهي ليست فرضاً واجباً وليست من شروط العقد والنكاح في شيء أبداً.
ومن العادات التي تعيق الزواج: هو ترك المجال للنساء في التصرف بأمور الخطبة والزواج. ولا شك أن المرأة بما جبلت عليه من الفعال وعاطفة، وبما تحبه من المظاهر والمفاخرة والرياء وحب الظهور أمام الناس، لا يمكن أن يتحقق على يديها خطبة أو زواج إلا إذا كانت رشيدة عاقلة مؤمنة تزن الأمور بميزان الشرع والدين.لهذا كم سمعنا عن أمهات يؤخرن زواج أبنائهن سنوات طويلة بدعوى عدم وجود الفتاة المناسبة حتى الآن، وبعضهن قد يفسدن زواج بناتهن لأن الواحدة منهن تدعي أن ابنتها ليست أقل من بنت فلان أو أن حفل زواج ابنتها يجب أن يكون أفضل حفل زواج في البلد، مما سبب إفساد الكثير من حالات الزواج.
لهذا على الرجل إذا رأى مثل هذا الانحراف عليه أن يتدخل ويحسم الأمور، لأن الله أعطاه حق القوامة كما قال: الرّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوالِهِمْ [النساء:34].
أخيرا: من العادات التي تعرقل الزواج: رفض البعض للخاطب أن يرى خطيبته، والعجيب أن هذه الفتاة قد تخرج متبرجة ويراها القاصي والداني. فإن أراد الخاطب أن يراها الرؤية الشرعية التي أمر بها الرسول قائلاً: ((إذا خطب أحدكم المرأة فإن استطاع أن ينظر إلى ما يدعو إلى نكاحها فليفعل)) [رواه أبو داود].
فإن أراد الخاطب أن يراها الرؤية الشرعية التي أمر بها رفض أباها عليه ومنعها منه، وللعلم فمن ظنّ أن في هذه الرؤية الشرعية عاراً، أو أن فيها عيباً أو عملاً لا يليق، فقد قبَّح ما استحسنه رسول الله ورفض ما أمر به، وظن أنه أغير منه على الشرف والأخلاق، ومن فعل ذلك فربما خرج من دين الإسلام.
فَلاَ وَرَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِى أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلّمُواْ تَسْلِيماً [النساء:65].
والغريب أن هناك من الناس من هو عكس ذلك تماماً:صنف تأثر بأخلاق الغرب وبأفكار الأفلام والمسلسلات. وظن بأن المخطوبة لا تعرف أخلاق الخاطب ولا تتعرف عليه، إلا إذا خرجت معه، وتنزهت معه، وربما سافرتِ معه، وبالطبع شابان وفي سن الشباب ويخليان ببعضهما البعض، فماذا ستكون النتيجة، النتيجة هي الزنا، وهذه هي نتيجة الخلوة المحرمة. لهذا يقول : ((لا يخلون رجل بامرأة إلا مع ذي محرم)).
ويقول: ((لا يخول رجل بامرأة إلا وكان ثالثهما الشيطان)).
الخطبة الثانية
من العادات التي تعرقل الزواج اليوم عضل الأولياء (وعضل الولي للمرأة منعها من الزواج ظلما). قال تعالى: فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ [البقرة:232]. ويقول: وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَا ءاتَيْتُمُوهُنَّ [النساء:19].
والعضل والإعضال من العادات الجاهلية التي بقيت في بعض المجتمعات الإسلامية،والتي تسببت في حرمان كثير من البنات بالتمتع بالحياة الزوجية بسبب أسباب تافهة مثل الاعتراض على النسب فلا تتزوج القبيلية من الحضري، ولا الشريفة من غير الأشراف. وكذلك بحجة المحافظة على العرق. فلا تتزوج العربية من العجمي، أو بحجة المحافظة على المال:فلا تتزوج الغنية إلا من غني، وهذا التعصب الأعمى مازال موجوداً بين بعض الأسر إلى الآن. والغريب أن هذا القانون الوضعي يسري على النساء فقط دون الرجال. لأن الرجال لهم الحق في الزواج ممن يريدون.
هل هذا إسلام؟ الله سبحانه يقول: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات:13]. ورسوله يقول: ((إن الله قد أذهب عنكم عبيّة الجاهلية (فخرها وتكبرها) وفخرها بالآباء، مؤمن تقي، وفاجر شقي، أنتم بنو آدم وآدم من تراب)) [رواه أبو داود] ولكن بعض الناس يرفض حكم الله ويريد أن يحكم بقوانين الجاهلية أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لّقَوْمٍ يُوقِنُونَ [المائدة:50].
ومن الإعضال أن يمنع الولي ابنته المطلقة طلاقاً رجعياً من الرجوع إلى زوجها بحجة جرح الكرامة أو الإهانة، وقد حدث على عهد الرسول : ((أن معقل بن يسار قال: زوجت أختاً لي من رجل فطلقها حتى إذا انقضت عدتها جاء يخطبها، فقلت له: زوجتك وأخدمتك وأكرمتك، فطلقها ثم جئت تخطبها، لا والله لا تعود إليك أبدا، وكان رجلاً لا بأس به، وكانت المرأة تريد أن ترجع إليه)) فنزل قول الله تعالى: وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ إِذَا تَراضَوْاْ بَيْنَهُم بِالْمَعْرُوفِ [البقرة:232]. فقلت: الآن أفعل يا رسول الله: قال فزوجها إياه.
ومن الإعضال: الحجر على البنت بدعوى حجزها لابن العم أو الخال، بحجة أنه أولى بها من الغريب، حتى لو لم يكن كفواً لها. وهذا ظلم عظيم للمرأة. يقول سماحة الشيخ ابن باز: "ومن المسائل المنكرة في هذا ما يتعاطاه الكثير من البادية وبعض الحاضرة من حجز ابنة العم ومنعها من التزوج بغيره، وهذا منكر عظيم وسنة جاهلية وظلم للنساء، وقد وقع بسببه فتن كثيرة وشرور عظيمة من شحناء وقطيعة رحم وسفك دم وغير ذلك ونريد أن ننبه هنا إلى ما يحدث من البعض مما يسمى بزواج الشغار وهو أن يقول الرجل للرجل: زوجني ابنتك أو أختك،على أن أزوجك ابنتي وأختي، وليس بينهما صداق أي مهر.
وهذا الزواج وللعلم زواج باطل لقوله : ((لا شغار في الإسلام)) وقال ابن عمر: (نهى رسول الله عن الشغار) وفعلاً فمن أعطى الولي الحق بأن يزوج وليته بدون مهر، من اعطاه الحق في ذلك. نسأل الله السلامة والعافية.
أيها الناس: ارجعوا إلى الدين الحق والإسلام الصحيح. وانبذوا هذه العادات والتقاليد وإن كنتم تعبدون الله فطبقوا أوامر الله وأوامر رسوله . وإن كنتم تعبدون العادات والتقاليد فليس هناك إلا الدمار في الدنيا والآخرة. وإذا أردتم لبناتكم السعادة.وللأخلاق أمنوا الحصانة، فسهلوا أمور الزواج.بل وابحثوا عن الخاطب المسلم والزوج الصالح. وهذا ليس عيباً أبداً. فهذا العمل هو سنة عمرية بدأها أمير المؤمنين عمر بن الخطاب عندما عرض ابنته أم المؤمنين حفصة على أبي بكر وعلي عثمان رضي الله عنهما. اللذين اعتذرا ثم تزوجها الرسول .
ولا تقولوا لقد عرض عمر ابنته على أبي بكر وعثمان اللذين ليس لهما مثيل اليوم من الرجال فنقول نعم إذا كان ليس هناك من الرجال من هم في مقام أبي بكر وعثمان، فإن بنات اليوم أيضاً ليس فيهن من هي في مقام أم المؤمنين حفصة. فالحال سواءً. وعلينا الحذر من المستقبل فقد تواتر في الأنباء بأن بعض البنات صرن يذهبن إلى المحاكم مباشرة ويطلبن أن يتزوجن فوراً ويشكين من ظلم آبائهن لهن من يرغب من الآباء أن يقف في مثل هذا الموقف، بل من يرغب من الآباء أن يقف أمام الله وابنته تشكي وتتظلم منه، وتطلب من الله أن ينصفها منه. من يرغب في هذا. ولا تظنوا أن حدوث هذا الأمر بعيد - فقد حدثت بعض الحوادث التي تدل على ذلك فهل يعتبر الآباء، هل يتعظوا، وهل يُسَّهِلوا أمور الزواج. نرجو ذلك ونتمناه
ــــــــــــــــــــ(67/137)
تربية البنات
...
...
1870
...
الأسرة والمجتمع
...
...
الأبناء
...
صالح الجبري
...
...
الطائف
...
5/4/1418
...
...
جامع الحمودي
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- كراهية البنت من صفات الجاهلية. 2- حرمة إكراه البنات على الزواج بغير الكفؤ. 3- التفريط في تربية البنات. 4- تربية البنات على الحجاب.
الخطبة الأولى
أما بعد:
أبناؤنا نعمة من الله علينا، ومنحة منه إلينا. لهذا فالواجب علينا أن نتقبلها منه شاكرين وأن نكون بما حبانا به راضين، سواء كان الموهوب لنا ذكرا أو أنثى.
فالخير كل الخير في الذي يختاره الله لنا، قال تعالى وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ [البقرة:216].
وإن مما يحز في النفس، أن نرى بعض الناس ممن هم في أشد الحاجة إلى تعليم الأدب والأخلاق نرى أحدهم حيثما يخبر بأن زوجته قد ولدت ذكراً فرح واستبشر، وتهلل وجهه وانفق الكثير من ماله ابتهاجاً بهذا المولود.مع أنه لا يدري، فربما يكون هذا الولد سببا في شقائه وطغيانه إذا ما كبر وترعرع. وأما إذا أخبر بأنها وضعت أنثى غضب واغتم وأظلمت الدنيا في وجهه، وأصابته كآبة شديدة، وانطوى على نفسه.ولا شك بأن هذا التصرف هو شبيه بما كان يحدث من أهل الجاهلية الأولى الذين قال الله فيهم: وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَّا يَشْتَهُونَ وَإِذَا بُشّرَ أَحَدُهُمْ بِالاْنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّا وَهُوَ كَظِيمٌ يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوء مَا بُشّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِى التُّرَابِ أَلاَ سَآء مَا يَحْكُمُونَ [النحل:57-59].
لكن رغم هذا التحذير فهناك الكثير من الرجال، لا يزال يستقبل قدوم البنات بالتجهم والعبوس، والمشكلة الكبرى هي إذا كانت البنت المولودة، هي الثالثة أو الرابعة، فتكون ولادتها مصيبة من المصائب خاصة على الأم المسكينة التي تعيش في خوف وقلق من ردة فعل الأب. وقد سمعنا عن أزواج طلقوا زوجاتهم بسبب هذا الموضوع. وكأن الزوجة هي المسؤولة الوحيدة. ونحب أن ننبه هنا إلى أن الطب الحديث قد أثبت أنه ليس للزوجة ذنب إذا أنجبت أنثى، لهذا ليس من حق الزوج أن يغضب أو يثور إذا حدث ذلك، لماذا؟ لأن الطب يقول: إن البويضة التي تحملها المرأة لها نوع واحد في كل نساء الأرض. بعكس الحيوان المنوي الذي يفرزه الرجل، فهو عند الرجل يحتوي على نوعين ولنقل عليها (أ + ب).
فإذا كان الحمل ناتجاً عن الرجل الذي يحمل النوع (أ) مثلاً كان المولود بنتا، وإذا كان ناتجاً عن النوع الآخر (ب)، كان المولود ذكرا، إذن الرجل هو المسؤول عن هذا الأمر، فَلِمَ التشنيع والظلم، لِمَ؟
ويروى في ذلك أنه كان لأبي حمزة الأعرابي زوجتان، فولدت إحداهما بنتا، فعز عليه ذلك واجتنبها، وصار يسكن في بيت الأخرى، فأحست الأولى به يوماً عند الثانية فجعلت تلاعب ابنتها الصغيرة وتقول:
ما لأبي حمزة لا يأتينا يظل في البيت الذي يلينا
غضبان أن لا نلد البنينا تالله ما ذلك في أيدينا
بل نحن كالأرض لزارعينا ننبت ما قد بذروه فينا
وإنما نأخذ ما أعطينا
فلما سمعها ندم على ما فعل ورجع إليها. لهذا فليتق الله أمثال هؤلاء وليعلموا أنه من الجحود والنكران أن يتكبروا على نعمة الله سبحانه وتعالى لأنه يقول: لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاواتِ وَالأرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاء يَهَبُ لِمَن يَشَاء إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَن يَشَاء الذُّكُورَ أَوْ يُزَوّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَن يَشَاء عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ [الشورى:49-50]. وليس هذا فقط بل إن واثلة بن الأسقع يقول: (إن من يُمنِ المرأة تبكيرها بالأنثى قبل الذكر لأنّ الله تعالى قال: يَهَبُ لِمَن يَشَاء إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَن يَشَاء الذُّكُورَ فبدأ بالإناث، والغريب أنّ مسلسل الظلم يعتمد عند بعض الناس. فبعدما تنشأ البنت تسمع أول ما تسمع كلمات الدعاء عليها بالموت، حتى ولو بالمزاح والمداعبة، فإذا طلبت شيئاً وألحت في طلبه أفهمت أنها أرخص من أن تعطى ما تطلب، وإذا اختصمت مع أخيها الولد، فضربته، ضُرِبَت وأُهِينَت على مسمع ومرآى من الولد حتى يشمت فيها ويرضى. وقد يعاملها إخوتها الذكور بالقسوة والشدة، والويل لها كل الويل إذا تأخرت في تلبية أي طلب لهم. فعندها قد يضربونها ويشتمونها ويحتقرونها وقد يكون هذا بمساعدة الوالد. أين هؤلاء عن ما رواه ابن عباس أن الرسول قال: ((من كان له أنثى فلم يئدها، ولم يصنها، ولم يؤثر ولده-الذكور- عليها، أدخله الله تعالى الجنة)) [أبو داود في الأدب 5146 باب فضل من عال يتيماً، والحاكم صححه ووافقه الذهبي].
وقد يزوّجها فاسقاً عاصياً أو يتاجر بها، أين هؤلاء عن معاملة الرسول لبناته فقد كان يستقبل ابنته فاطمة إذا دخلت عليه ويقبلها ويجلسها مكانه ويقول: ((مرحباً يا ابنتي)) [البخاري، كتاب الأنبياء، باب علامات النبوة في الإسلام][1].
وعن أبي قتادة قال: (خرج علينا النبي وأمامة بنت أبي العاص على عاتقه فصلى، فإذا ركع وضعها، وإذا رفع رفعها، حتى قضى صلاته يفعل ذلك بها)[2] [البخاري: (5650)].
فأين نحن من هذا المنهج النبوي العظيم؟ وبعضهم إذا بلغت سن الزواج يقطع الأمر دونها من قبل الأب أو الولي فيرد ذلك ويقبل. ويأخذ ويعطي، ويشترط من الشروط ما يشاء، ويطلب من المهر ما يريد فلا يؤخذ لها رأي ولا يعرض عليها أمر، رغم أن الرسول يقول: ((لا تنكح البكر حتى تستأذن ولا الثيب حتى تستأمر)) [البخاري ومسلم][3].
ورغم هذا إلا أن البعض لا يبالي بذلك، ولو حصل وأيدت الفتاة رأيها بالاعتراض أو الانتقاد على هذا الوضع فإنها تصبح عند ذلك الفتاة الوقحة السيئة الأدب التي لا تملك خلقاً ولا حياءً، رغم أن الإسلام يعطيها الحق في اختيار الزوج المناسب لها فعن ابن عباس: (أن جارية بكراً أتت النبي فذكرت له أن أباها زوجها وهي كارهة فخيرها النبي بين أن توافق أو ترفض) [صحيح ابن ماجة 1520].
إن علينا أن نعلم أن النتيجة المباشرة لهذه المعاملة السيئة، بالغة الخطورة في المجتمع. فهي أولاً تغرس في نفس البنت شعوراً بالمهانة والضعف، حتى إذا أصبحت أماً لم يكن في مقدورها أن تبث في نفوس أبنائها الشعور بالغيرة والاعتداد بالكرامة، وكيف تفعل ذلك وهي تفقد هذا الشعور أصلاً.
ثم إن البنت عندما تشعر أنها مظلومة مهضومة الحق. فإن هذا الشعور قد يولِّد لديها التمرد على أوامر الدين لأنها تظن أن هذه التصرفات هي من الدين، وهي ليست كذلك فتتمرد وتصبح ضحية للأفكار الهدامة التي بثها أعداء الإسلام عن المرأة المسلمة، فتتحيين أول فرصة تحصل عليها للانفلات والتسيب، ويتولَّد لديها الحقد والرغبة في الانتقام. فإذا تزوجت بعد ذلك فإنها لن تجد أمامها من تثأر منه وتنتقم إلا زوجها وأولادها، مما ينتج عنه حدوث الخصام والمشاكل التي لا تنتهي.
وإذا كنا نعترض على القسوة في تربية البنات. فهناك بالمقابل بعض الناس يفرض في تدليلهن والتساهل معهن إلى أقصى حد. فتنشأ الابنة مدللة خليعة لا هم لها إلا نفسها، أو الاهتمام بأخبار الموضات والتقليعات من الشرق والغرب أو إمضاء الساعات الطويلة أمام الهاتف، أو النزول للأسواق بصورة مستمرة لمتابعة كل ما يجد فيها من البضائع وغيرها.ويزداد الأمر سوءاً إذا كانت الأم مشغولة عن تربية البنات بزياراتها وخروجها الدائم من المنزل، والأسوأ من ذلك إذا كانت الأم من هذا النوع المستهتر بالدين والأخلاق كاللاتي يربين بناتهن على الطريقة الغربية، أو حسب ما يشاهدونه في الأفلام والمسلسلات، فيجنين على أنفسهن وبناتهن.
يقول لي طبيب فاضل: حَضَرَتْ إلى المستشفى فتاة شابة حاولت الانتحار عن طريق تناول بعض الأدوية، ويقول: بعد أن قمنا بإجراء الإسعافات اللازمة، وتم إنقاذها بفضل الله. سألت الأم التي كانت ترافقها عن سبب محاولتها الانتحار ثم يقول: إن الأم وللأسف الشديد أم متعلمة، وتحاول الظهور أمام الناس بمظهر الأم العصرية المتعلمة، يقول: فقالت لي: أنا أترك الحرية لابنتي تفعل ما تشاء، وقد حدث لابنتي أنها أحبت شاباً ولكنه لم يقابلها بالحب حتى بعد أن دعته للمنزل وأفهمته بذلك، ولكنه رفض فغضبت البنت وحاولت الانتحار.
ويضيف قائلاً: بعد هذا الكلام بيني وبين الأم بيومين جاءتني الأم مرة أخرى تسأل عن أحد الأطباء، عن اسمه، وعن ما يتعلق بحياته. لماذا؟ يقول: اكتشفت أن الابنة رأته فأعجبت به، فأرسلت الأم اللعوب كي تجمع المعلومات عنه تخيلوا الأم تفعل ذلك. سبحان الله.
مثل هذه الأم لا تُؤمن على تربية مجموعة من الأغنام، فكيف تُؤْمََن على تربية بناتها وهي تعيش بهذا الفكر المنحرف، كيف؟!
ومن التدليل عدم تدريب البنت على أعمال المنزل من طهي وتنظيف وترتيب مما يولِّد في نفس البنت نفوراً من دخول المطبخ، وأعمال البيت المختلفة. ويزداد الأمر سوءً عندما تتزوج البنت. فتذهب إلى منزل الزوج وهي لا تعرف شيئاً أو تعرف القليل فقط، فينشأ الصراع بينها وبين الزوج، خاصة إذا طلبت خادمة وكانت حالة الزوج لا تسمح بذلك، فتبدأ بالتمرد والاستكبار على الزوج وعلى حقوقه نتيجة لأنها لم تتربى في الأساس على الخلق الحسن وعلى التجهيز المبكر في أداء أعمال المنزل، وعلى التنبيه عليها بأن اهتمامها بمنزلها وبحقوق زوجها عليها. هو من أعظم الطاعات والقربات إلى الله كما جاء هذا في الحديث العظيم: فقد أتت أسماء بنت يزيد الأنصارية إلى النبي (فقالت: با أبي أنت وأمي يا رسول الله. أنا وافدة النساء إليك. إن الله عز وجل بعثك إلى الرجال والنساء كافة فآمنا بك وبايعناك. إنا معشر النساء مجهودات مقصورات، قواعد بيوتكم، وحاملات أولادكم وإنكم معشر الرجال: فضلتم علينا بالجمع والجماعات وشهود الجنائز والحج بعد الحج، وأفضل من ذلك الجهاد في سبيل الله، وإن أحدكم إذا خرج حاجاً أو معتمراً أو مجاهداً حفظناكم في أموالكم وغزلنا لكم أثوابكم وربينا أولادكم. أنشارككم في هذا الأجر والخير، قال الرسول : ((هل سمعتم مسألة امرأة قط أحسن من مقالتها في أمر دينها، فقالوا: يا رسول الله ما ظننا أن امرأة تهتدي إلى مثل هذا؟ فالتفت إليها : يا أسماء أبلغي من خلفك من النساء أن حسن تبعل المرأة لزوجها، يعدل ذلك كله)).
فأين بناتنا من هذه التربية، ألا ما أبعد المسافة بين بنات السلف وبنات الخلف.
[1] عودة الحجاب (ص:223).
[2] عودة الحجاب (ص:222).
[3] عودة الحجاب (ص:333).
الخطبة الثانية
أما بعد:
فإن الأخطار التي تواجه البنات في هذا العصر، هي أخطار عظيمة ورهيبة.وإذا لم تكن البنت قد ربيت تربية صحيحة فإنها قد تقع فريسة لإحدى هذه الأخطار المنتشرة في هذا العصر.
فعلى الأسرة مثلاً نصح البنات منذ الصغر على الحجاب وتدريبهن عليه.ثم إذا كبرن على الأسرة أن تلزمهن بالحجاب وبالحشمة وستر العورات لقوله تعالى: وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ [النور:30].
وتحذير البنت من التبرج من الأفضل أن يكون عن طريق الإقناع وغرس أوامر الله ورسوله في ذلك في نفسها. ونحن نقول هذا الكلام لأن هناك البعض من الفتيات قد دُرِبن على أن الحجاب عادة من العادات لذلك ترى بعضهن يخرجن من بيوت آبائهن بأكمل حشمة، حتى إذا ابتعتدن عن المنزل خلعن الحجاب رداء الحياء وظهرهن للأعين في أقبح صورة من الفتنة والإغراء.
إذن على الأسرة أن تعلم البنات أن الحجاب أمر من أوامر الله وأن التي لا تستجيب لهذا الأمر فهي منافقة لقوله : ((وشر نسائكم المتبرجات المتخيلات، وهن المنافقات، لا يدخل الجنة منهن إلا مثل الغراب الأعصم)). كذلك على اٍلأسرة أن توضح للبنت أن الحجاب لم يفرض لانعدام الثقة في النساء والبنات، وإنما هو حماية لهن من أصحاب القلوب المريضة، وحماية للرجال من ما يقع أبصارهم عليه من الفتنة والإغراء، لهذا يقول سبحانه وتعالى: وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْئَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ ذالِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ [الأحزاب:53].
كذلك على الأسرة إفهام البنات أن الأزياء الفاضحة هي من وسائل الإغراء والله ينادي ويقول: يَابَنِى آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوارِى سَوْءتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذالِكَ خَيْرٌ [الأعراف: 26]. ويقول : ((ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء)).
والتبرج فتنة من الفتن وعلى الأسرة أن تضرب بيد من حديد وتمنع البنات والنساء من التبرج، وعلى الوالد في ذلك مسؤولية عظيمة في أمرهن بالمعروف وينهيهن عن المنكر وإلا حق عليه قول النبي : ((والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله أن ينزل عليكم عقاباً منه ثم تدعونه فلا يستجاب لكم)).
كذلك على الأسرة منع البنات وتحذيرهن من مشاهدة واقتناء أفلام الحب أو العنف والتي تحرض البنت على أهلها، والمرأة ضد زوجها، وتبارك الحب الحرام، والعلاقات المشبوهة.
وعلى الأسرة أن توضح للبنت أن هذا الحب الذي تروجه الأفلام والمسلسلات والروايات إنما هو حب شهوة، وهو مرفوض ولو كان باسم الزمالة والخِطبة.
هذا الحب المشبوه بِحرّ الويلات ويفسد العلاقات، وتنتهك الأعراض، لهذا حذر القرآن من مثل هذا الحب ممثلاً في حب امرأة العزيز ليوسف، هذا الحب الشهواني الذي أدى بها إلى التصريح برغبتها الحرام، لكن الله ردها عن يوسف فقال: وَرَاوَدَتْهُ الَّتِى هُوَ فِى بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الاْبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبّى أَحْسَنَ مَثْوَاىَّ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبّهِ كَذالِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوء وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ [يوسف:23-24].
لهذا لا يصدق أحد أن في زماننا هذا حباً عفيفاً، أو كما كان يطلق عليه الحب العذري بين قيس وليلي، كلا فالشهوة عاتية ولا يمكن أن توضع النار بجانب البترول، وليس هناك إلاَّ طريق واحد، وهو الزواج الحلال.
كذلك على الأسرة أن تحمي بناتها من الصحف والمجلات التي تبرز الصور الخليعة، وتنشر قصص العبث واللهو والحذر من أولئك الذين ينشرونها بين الناس مما أفسد عقول البنات وأفكارهن، وصدق الله: إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِى الَّذِينَ ءامَنُواْ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِى الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ [النور:19].
أخيراً على الأسرة أن تربي في البنات الشعور بأنهن مسؤولات أمام الله عن أعمالهن وسلوكهن. وأن يشعرن برقابته الدائمة معهن في كل لحظة وأنه يعلم السر وأخفى، يَعْلَمُ خَائِنَةَ الاْعْيُنِ وَمَا تُخْفِى الصُّدُورُ [غافر:19]. لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِى السَّمَاواتِ وَلاَ فِى الأرْضِ وَلاَ أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرُ إِلاَّ فِى كِتَابٍ مُّبِينٍ [سبأ:3].
وأن تغرس الأسرة في بناتها أيضاً حب الله والخوف منه والرغبة في ثوابه، والرهبة من عقابه لقوله تعالى: نَبّىء عِبَادِى أَنّى أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذَابِى هُوَ الْعَذَابُ الاْلِيمُ [الحجر:49-50]. وقد ثبت - وهذا شيء ملاحظ - أن قلوب البنات والنساء أسرع إلى التأثر بالدين وتعاليمه من الرجال.
فهل نحن فاعلون، إن من يربي بناته ويجتهد في تربيتهن التربية العميقة على طاعة الله ورسوله ويتعب في ذلك ويصبر على صعوبة تربيتهن، فإنه يدخل في حديث النبي عن عقبة بن عامر الذي قال فيه: ((من كان له ثلاث بنات فصبر عليهن، وأطعمهن، وسقاهن، وكساهن من جِدته -يعني ماله - كن له حجاباً من النار)) [صحيح الجامع 5/34].
وقال أيضاً: ((من كن له ثلاث بنات يؤدبهن، ويرحمهن، ويكفلهن وجبت له الجنة البتة، قيل: يا رسول الله فإن كانتا اثنتين، قال: وإن كانتا اثنتين)) قال: فرآى بعض القوم أن لو قالوا له: واحدة، لقال: واحدة. [البخاري في الأدب وأحمد- الترغيب والترهيب]. إنه لفضل عظيم ولا شك في ذلك.
ونسأل الله العلي القدير أن يعيننا على تربية أنفسنا وأزواجنا وبناتنا وأولادنا.
ــــــــــــــــــــ(67/138)
حقوق الزوج على زوجته
...
...
1873
...
الأسرة والمجتمع
...
...
قضايا الأسرة
...
صالح الجبري
...
...
الطائف
...
...
...
جامع الحمودي
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- معرفة مكانته وأهميته لها في الآخرة.2- طاعة الزوجة له.3- حفظ عرضه.4- إكرام أهله.5- الاقتصاد في مطالبها المادية.6- أن تعينه على الخير وتدله عليه.7- التزين له.8- إجابة دعوته إذا دعاها.
الخطبة الأولى
إن الحمد لله :
أما بعد :
أول حق للزوج على زوجته، هو معرفة مكانته وأهميته بالنسبة لها. ومعرفة هذا الحق، هامة جداً.لأن مكانة الزوج في الإسلام هي مكانة تفوق كل تصور.ففي الحديث الذي رواه حصين بن محصن: قال(حدثتني عمتي قالت: أتيت رسول الله في بعض الحاجة، فقال: ((أذات زوج أنت؟))، قلت: نعم، قال: ((كيف أنت له؟))، قالت: ما آلوه إلا ما عجزت عنه (أي لا أقصر في طاعته وخدمته.قال: ((فانظري أين أنت منه، فإنما هو جنتك ونارك)) [أحمد والنسائي].
أي أن طاعتك له تدخلك الجنة، ومعصيتك له تدخلك النار.
وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: قال : ((أيما امرأة ماتت وزوجها عنها راض.دخلت الجنة)). [ابن ماجه والترمذي كتاب النكاح].
وقال فيما رواه عنه أبو هريرة ((إذا صلت المرأة خمسها، وصامت شهرها، وحصنت فرجها، وأطاعت زوجها، قيل لها: أدخلي الجنة من أي أبواب الجنة شئت)) [آداب الزفاف الألباني ص 286].
ومما يؤسف له أن الكثير من الزوجات يقمن بالصلاة والصيام وغير ذلك من أعمال البر لكنهن يهملن طاعة الزوج. مع أن الله عز وجل الذي أمر بالصلاة والصيام، هو سبحانه الذي أمر الزوجة بطاعة زوجها والعمل على رضاه. لذلك فينبغي عليها أن تحرص على رضا زوجها ولا تهمل حقوقه. وعلى كل فالزوجة الصالحة هي التي تفهم ذلك جيداً، وتتصرف على ضوء هذا الفهم، وتخشى الله في زوجها. لهذا يقول سبحانه وتعالى : فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَفِظَاتٌ لّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ [النساء: 34]. أي أن النساء الصالحات، مطيعات لله ولأزواجهن، حافظات لغيبتهم إذا غابوا، فيحفظن أنفسهن، ويحفظن أموال أزواجهن حتى يعودوا.
ومن الطاعة للزوج حسن المعاشرة.وحسن المعاشرة.ذوق وتربية، وبه دوام المحبة والرحمة. والمعاملة بالحسنى من طرف الزوجة هو دليل واضح على حسن تربيتها، وعلى استقامتها وصلاحها (عن أبي أمامة عن النبي أنه كان يقول: ((ما استفاد المؤمن – بعد تقوى الله عز وجل – خيراً له من زوجة صالحة إذا أمرها أطاعته، وإن نظر إليها سرته، وإن أقسم عليها أبرته، وإن غاب عنها حفظته في نفسها وماله)).
وكثيراً ما تحل المشاكل الكبيرة، بالبسمة الحلوة، والمجاملة الرقيقة، والأسلوب المهذب من طرف الزوجة، وحتى لو أغضبها زوجها وقسى عليها فإنها تستطيع أن تنهي المشاكل بمبادرة منها لو أرادت: لهذا أثنى على هذا النوع من النساء وأخبر عنهن أنهن من أهل الجنة فقال : ت((ألا أخبركم بنسائكم في الجنة))، قلنا: بلى يا رسول الله قال: ((ودود ولود)) الودود التي تتودد إلى زوجها، والولود: التي ليست بعقيم، بل هي كثيرة الولادة، ودود ولود،((إذا غضبت أو أُسيء إليها، أو غضب زوجها قالت: هذه يدي في يدك، لا أكتحل بغمض (أي لا أنام) حتى ترضى)) [الصحيحة 287].
ونحن نقول هذا الكلام لأن هناك من الزوجات من لا تبتسم لزوجها أو تراضيه، إلا في المناسبات، ولا تكلمه الكلمة الطيبة، إلا إذا كانت تود نزول السوق لشراء حاجة تخصها، أو تود الخروج في نزهة أو زيارة، ولو كانت تفهم جيداً لعرفت أنها كلما كانت لينة ومحبة وعطوفة على زوجها، فإنها هي المستفيدة الأولى بعد ذلك، لأن الزوج سيمنحها من تقديره وحسن معاملته الشيء الكثير، إضافة إلى تلبيته لرغباتها وطلباتها: أما وإن فعلت العكس وأغضبته وآذته فإنها ستتعرض أولاً لغضب الله وسخطه، فعن ابن عمر عنهما مرفوعاً: ((اثنان لا تجاوز صلاتهما رؤوسهما: عبد آبق من مواليه حتى يرجع إليهم، وامرأة عصت زوجها حتى ترجع)).
لهذا فلتحذر الزوجة من أن تكون من أولئك النساء المولعات بمخالفة أزوجهن، فلا تؤمر الواحدة منهن بشيء إلا سارعت إلى مخالفته حتى ولو كان في مصلحتها، إن هؤلاء يقعن في سخط الله، ويعرضن حياتهن للدمار، بل إن الحور العين تدعو عليهن إن فعلن ذلك، فعن معاذ بن جبل مرفوعًا: ((لا تؤذي امرأة زوجها في الدنيا إلا قالت زوجته من الحور العين: لا تؤذيه قاتلك الله، فإنما هو عندك دخيل ـ أي ضيف ـ يوشك أن يفارقك إلينا)). [الصحيحة 173].
ومن الطاعة للزوج أن لا تطيع أحداً في معصيته ولو كان أبويها. لأننا نسمع أن بعض الزوجات يطعن أمهاتهن في معصية أزواجهن، ويؤذين أزواجهن بناءً على توصيات الأمهات.وهذا العمل حرام ولا يجوز أبداً فحرام على الأم أن تحرض ابنتها على زوجها طالما كان الزوج متقياً لله فيها، وحرام على الزوجة أن تطيع أمها أو أي أحدٍ سواها، في معصية زوجها، دونما مبرر شرعي.لهذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية بأن المرأة إذا تزوجت كان زوجها أملك لها من أبويها، وطاعة زوجها أوجب وقال: "لا يحل لها أن تطيع واحداً من أبويها في طلاقه، إذا كان متقياً لله فيها" .
ومن الطاعة تنفيذ كل أوامر الزوج، في غير معصية الله.فلا تدخل أحداً بيته إلا بإذنه، ولو كان أقرب الناس إليها وإليه لقوله : ((لا يحل للمرأة أن تصوم وزوجها شاهد إلا بإذنه، ولا تأذن في بيته إلا بإذنه)).
ولا تخرج من بيته إلا بإذنه لو كانت ذاهبة إلى أبيها وأمها، حتى ولو كان إلى المسجد لقوله عن ابن عمر ((إذا استأذنت امرأة أحدكم إلى المسجد فلا يمنعها)) هذا يدل على أن عليها أن تستأذن بالخروج إلى أي مكان.
وأن لا تتصرف في ماله إلا بإذنه لقوله فيما رواه عنه أبو أمامة الباهلي قال: سمعت رسول الله يقول في حجة الوداع: ((لا تنفق امرأة شيئاً من بيت زوجها إلا بإذنه))، قيل: يا رسول الله، ولا الطعام؟ قال: ((ذاك أفضل أموالنا)).
ولا تصوم تطوعاً إلا بإذنه، ولو صامت ثم دعاها إلى فراشه، وجب عليها أن تستجيب له وتفطر.لأنه لما جاءت امرأة صفوان بن معطل تشكو إلى النبي أموراً ذكرت منها: أنه يفطرها إذا صامت فسأله عما قالت فقال"وأما قولها يفطرني إذا صمت، فإنها تنطلق فتصوم، وأنا رجل شاب لا أصبر، فقال يومئذٍ: ((لا تصوم امرأة إلا بإذن زوجها)).
وكذلك لا تعتمر ولا تحج تطوعاً إلا بإذنه، أما الحج الواجب فتستأذن مجاملة فقط فإن لم يأذن حجت بدون إذنه مع محرم، لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. وينبه هنا إلى أن الطاعة المطلوبة من المرأة لزوجها إنما هي في حدود الشريعة، وفي غير معصية الله.فمن أمرها زوجها بترك الحجاب، أو شرب المسكرات والمخدرات، أو التبرج أمام الرجال، أو التفريط بشعائر الدين، فمن أمرها زوجها بذلك فهي ليست ملزمة بطاعة زوجها، بل يجب عليها أن تعصيه لأنه كما قلنا: لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.وفي الحديث عن عائشة أن امرأة من الأنصار زوجت ابنتها فتمعط شعر رأسها.فجاءت إلى النبي فذكرت ذلك له: فقالت"إن زوجها أمرني أن أصل في شعرها فقال : ((لا؛ إنه قد لعن الموصلات)).
ومن الحقوق: حفظ عرض الزوج بعدم التبرج والتكشف على غير المحارم، والخلوة بالأجانب حتى ولو كان شقيق زوجها أو قريبه، وفي هذا يقول ((إياكم والدخول على النساء)) قيل: أرأيت الحمو يا رسول الله؟ قال: ((الحمو الموت)).
لهذا فعليها أن تصون سمعته فلا تجعلها مضغة في الأفواه خاصة بالنسبة للتبرج والسفور أمام الرجال أو في الأسواق أو عن طريق الهواتف وقد توعد أمثال هؤلاء بقوله: ((مثل نسائكم المتبرجات المتخيلات، وهن المنافقات، لا يدخل الجنة منهن إلا مثل الغراب الأعصم)).
ومن الحقوق: أن تكرم أهله وأقاربه خصوصاً الوالدين: فعليها برهما وإكرامهما، تقديراً لزوجها واحتراماً له. وما يذكر من الخلاف الواقع بين أم الزوج وبين الزوجة هو أمر مستغرب. وهو من كيد الشيطان وإغوائه لإفساد الحياة الزوجية، وحمل الزوج على عقوق والديه: وعلى الزوجة أن تتحمل وتصبر وأن تبتعد عن إثارة المشاكل مع أم زوجها. وعدم الشكوى إلى الزوج من والدته، حتى لا تفسد بيتها، وعليها أن لا تضع زوجها في خيارات صعبة مثل: التضحية بأمه أو بزوجته.لأنه عليها أن تعلم أن الأم هي أم،وهي أم واحدة ولا يمكن استبدالها حتى ترضى الزوجة. لهذا فالحذر من هذا الأمر.
وعلى الزوجة أن تقرب بين زوجها وأهله بدلاً أن تفرق بينهم، لأن عدم تقديرها لأهله وإبعاده عنهم جريمة تعاقب عليها الزوجة في الدنيا والآخرة، ويكفي في هذا قول النبي : ((ليس منا من لم يجل كبيرنا)) ليس منا من لم يوقر كبيرنا، وعلى الزوج أن يكون في هذا رجلاً وأن لا تسيطر عليه المرأة فتوقعه في عقوق والديه، ويكفيه قول النبي ((لا يدخل الجنة عاق)).
ومن حقوق الزوج أن لا تطالبه بما يرهقه وبما هو فوق طاقته، وأن تراعي ظروفه المالية وحالته الاجتماعية.فمثلاً بالنسبة للسكن يقول تعالى أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم مّن وُجْدِكُمْ [الطلاق: 6]. أي أن يكون السكن على قدر طاقة الزوج وليس شرطاً أن يكون قصراً أو فلة أو شقة فخمة كما تطالب به بعض الزوجات. والحقيقة أن بعض الزوجات لا يهمها إلا أن يوفر الزوج لها ما تريده من سكن فخم وحلي وملابس وغيرها من الطلبات، بغض النظر عن حالة الزوج. قد يستدين، قد يسرق قد ينهب، قد يرتشي هذا لا يهم. المهم لديها هو توفير طلباتها بأي شكل كان، وصدق الله إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ [التغابن:14] . وبعض النساء ترهق زوجها بكثرة شراء الحلي والذهب ولا تدري أنها بتصرفها هذا قد تخسر الدنيا والآخرة.
نحن نقول هذا الكلام لأن كثيراً من النساء تركن الاعتدال في الزينة وشراء الحلي والذهب. وذهبن يعبدن المظاهر والزخارف. لهذا بين أن تعلق النساء بالمظاهر والزينة من حرير وحلي سبب للهلاك في الدنيا والآخرة. أما في الدنيا فعن أبي سعيد أن نبي الله خطب خطبة فأطالها، وذكر فيها أمر الدنيا والآخرة، فذكر أن أول ما هلك بنو إسرائيل أن امرأة الفقير كانت تكلفه من الثياب أو الصفة، ما تكلف امرأة الغني.
أما في الآخرة فإن انشغال المرأة بالحرير والذهب عن طاعة ربها فإنه يعرضها للعقاب يوم القيامة قال : ((ويل للنساء من الأحمرين: الذهب والمعصفر)).
لهذا فالاعتدال والقناعة ضروريان وكافيان للزوجة في تحقيق مطالبها. وعليها أن ترضى بالقليل وأن تشكر زوجها على ما يقدمه لها من طعام وشراب وثياب، مما هو في قدرته، وأن تدعو له بالعوض ولو لم تحصل على كل ما تتمناه.
ونحن نقول هذا الكلام لأن بعض النساء يظل زوجها يحسن إليها فترة طويلة ثم إذا حدثت مشكلة بينه وبينها ولو حول شراء قطعة حلي أو أثاث ، فترى الزوجة تنكر فضل زوجها وإحسانه لها وتقول له: أنا لم أر منك طيباً أبداً منذ تزوجنا. أنت أنت وأنت، ولو علمت الزوجة بأن هذا الكلام من خطورة عليها لتمنت أن يقطع لسانها ولا تتكلم بهذا الكلام لأن النبي حذر من ذلك أشد التحذير قالت أسماء بنت زيد الأنصارية قال: ((إياكن وكفر المنعمين)) فقلت: يا رسول الله، وما كفر المنعمين؟ قال: ((لعل إحداكن تطول أيمتها بين أيوميها، ثم يرزقها الله زوجاً ويرزقها منه ولداً، فتغضب الغضبة فتكفر، فتقول: ما رأيت منك خيراً قط)).
إن مجرد تناسي الزوجة لفضل زوجها يعرضها إلى غضب الله وعقابه قال : ((لا ينظر الله إلى امرأة لا تشكر لزوجها، وهي لا تستغنى عنه)).
بل إن بعضهن قد يطالبن أزواجهن بطلاقهن عندما يغضبن، بسبب هذه الحاجات الدنيوية الفانية وفي هذا يقول : ((أيما امرأة سألت زوجها الطلاق من غير بأس)) أي من غير حالة شديدة تدعوها إلى ذلك كأن يتعلق الأمر بحدود الله؟ فيقول: ((أيما امرأة سألت زوجها الطلاق من غير بأس، فحرام عليها رائحة الجنة)).
نسأل الله السلامة والعافية وأن يجنبنا غضبه وعقابه.
ومن الحقوق أن تذكره بطاعة الله إذا نسي أو غفل: إذا نام من الفجر والعصر مثلاُ، إذا نسي أن يصل والديه, إذا ترك الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وهكذا من أجل هذا يقول : ((إن من أفضل ما يتخذه الإنسان: زوجة تعينه على إيمانه)) ثم يهيب بالزوجين معاً بأن يجتهد كل منهما في إعانة الآخر على طاعة الله فيقول ((رحم الله رجلاً قام من الليل فصلى وأيقظ امرأته، فصلت، فإن أبت نضح في وجهها الماء (رش في وجهها الماء) ورحم الله امرأة قامت من الليل فصلت وأيقظت زوجها فصلى، فإن أبى نضحت في وجهه الماء)).
ومن الحقوق أيضاً : أن تتزين لزوجها: وللأسف فبعض الزوجات لا يتزينّ ولا تتطيبن إلا عند خروجهن من المنزل وإلى الأسواق والشوارع. أما عندما تكون في المنزل فحدث ولا حرج فهي طوال الوقت بملابس المطبخ. ومحملة بروائح الطبخ والنفخ، وغير مهتمة بنظافة أو ترتيب.مما ينتج عنه نفور الزوج منها ، خاصة عندما يرى الكاسيات العريات في أتم زينة وأحسن هيئة، مما ينتج عنه حدوث المشاكل بينهما. وقد حث على أن تتزين النساء لأزواجهن ففي الحديث عن جابر قال كنا مع النبي في غداء، فلما قدمنا المدينة ذهبنا لندخل فقال : ((أمهلوا حتى تدخلوا عشاءً لكي تمتشط الشعثة وتستحد المغيبة)) والشعثة هي البعيدة العهد بالغسل وتسريح الشعر والنظافة والغيبة التي تغيب عنها زوجها.وفي هذا الحديث بيان على أن المرأة مادام زوجها حاضراً مقيماً فهي دائمة التزين، ولا تهجر هذه الخصلة إلا عند غياب زوجها لهذا على الزوجة الصالحة أن تتزين لزوجها وتتجمل له لأنه إذا لم تتزين وتتجمل لزوجها، فلمن تتزين. وبالطبع يدخل في هذا نظافة منزلها وترتيبه لأن هذه الأمور، من أهم أسباب دوام الحياة الزوجية واستمرارها.
ومن أهم الحقوق: إجابة دعوة الزوج إلى الفراش. فلا يحق لها أن تمنعه نفسها متى طلب منها ذلك لأن من أعظم غايات الزواج إحصان النفس بالجماع الحلال. وعدم استجابة الزوجة لزوجها قد يترتب عليه عواقب وخيمة وقد تتعرض الحياة الأسرية للهدم والتصدع. لأنه قد يخيل للزوج أن زوجته لا تحبه، أو قد يدفعه ذلك إلى قضاء شهوته بطريقة غير مشروعة.
لهذا قال ((والذي نفسي بيده ما من رجل يدعو امرأته إلى فراشه: فتأبى عليه إلا كان الذي في السماء ساخطاً عليها حتى يرضى عنها)).
وقال: ((إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه، فأبت أن تجيء، فبات غضبان، لعنتها الملائكة حتى تصبح)). لهذا على الزوجة الاهتمام بهذا الحق والاستجابة لزوجها. خاصة في هذا العصر الذي ينتشر فيه الإغراء والتبرج. فما يراه الرجل سواء في المنزل أو في الشارع أو في الأسواق من تبرج للنساء الجميلات، يؤدي به إلى الإثارة والشهوة. وقد نبه إلى هذا بقوله ((إن المرأة تقبل في صورة شيطان، وتدبر في في صورة شيطان، فإذا رأى أحدكم امرأة فأعجبته فليأت أهله، فإن ذلك يرد ما في نفسه)).
وليس لها أن تنشغل عن ذلك الواجب ولو بأي أمر من الأمور لقوله : ((إذا الرجل دعا زوجته لحاجته، فلتأته وإن كانت على التنور))، أي وإن كانت تخبز على الفرن.
وننبه هنا إلى عدم طاعة الزوج في هذا الأمر، إذا طلب من زوجته ما لا يحل له، كما لو طلب بطلب منها الوطء في زمان الحيض والنفاس، أو ففي غير محل الحرث، أو وهي صائمة صيام فريضة كرمضان، وذلك لقوله : ((لا طاعة لبشر في معصية الله، إنما الطاعة بالمعروف))..
ونختم الآن بذكر هذه القصة الجميلة والتي توضح كيف كان زوجات السلف الصالح كيف كن يعاملن أزواجهن فلعل زوجات العصر الحاضر يستفدن من ذلك.
قابل القاضي شريح الشعبي يوماً فسأله الشعبي عن حاله في بيته، فقال له: " من عشرين عاماً لم أر ما يغضبني من أهلي قال له : كيف ذلك؟، قال شريح " من أول ليلة دخلت على امرأتي، رأيت فيها حسناً فاتنا وجمالاً نادراً، فقلت في نفسي: فلأطهر وأصلي ركعتين شكراً لله، فلما سلمت، وجدت زوجتي تصلي بصلاتي، وتسلم بسلامي، يقول: فقمت إليها ومددت يدي نحوها: فقالت على رسلك يا أبا أمية كما أنت، ثم قالت: الحمد لله أحمده وأستعينه، وأصلي على محمد وآله، إني امرأة غريبة، لا علم لي بأخلاقك، فبين لي ما تحب فآتيه، وما تكره فأتركه.
وقالت: إنه كان في قومك من تتزوجه من نسائكم، وفي قومي من الرجال، من هو كفء لي ولكن إذا قضى الله أمراً كان مفعولاً، وقد ملكت فاصنع ما أمرك به الله، إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولك.
قال شريح: "فأحرجتني والله يا شعبي – إلى الخطبة في ذلك الموضع، فقلت: الحمد لله أحمده وأستعينه وأصلي على النبي وآله وأسلم وبعد: فإنك قلت كلاماً إن ثبت عليه يكن ذلك حظك، وإن تدعيه يكن حجة عليك، أما إني أحب كذا وكذا، وأكره كذا وكذا، وما رأيت من حسنة فانشريها، وما رأيت من سيئة فاستريها. فقالت: كيف محبتك لزيارة أهلي؟، قلت: ما أحب أن يملني أصهاري، فقالت: فمن تحب من جيرانك أن يدخل دارك فآذن له، ومن تكره فأكره؟، قلت: بنو فلان قوم صالحون، وبنو فلان قوم سوء. قال شريح: فبت معها بأنعم ليلة، وعشت معها حولاً لا أرى إلا ما أحب.
فلما كان رأس الحول، جئت من مجلس القضاء، فإذا بفلانة في البيت قلت من هي؟ قالوا (ختنك- أي أم زوجتك) فالتفتت إلي وسألتني: كيف رأيت زوجتك قلت: خير زوجة فقالت: يا أبا أمية إن المرأة لا تكون أسوء حالاً منها في حالين. إذا ولدت غلاماً، أو حظيت عند زوجها، فوالله ما حاز الرجال في بيوتهم شراً من المرأة المدللة، فأدب ما شئت أن تؤدب وهذب ما شئت أن تهذب. يقول : فمكثت معي عشرين عاماً لم أغضب عليها في شيء إلا مرة، وكنت لها ظالماً.
وهكذا فتلكن النساء، وهكذا فلتكن الزوجات: فهل تتعلم الزوجات في هذا العصر، هذه الأخلاق وهذه المكارم.إن مثل هذا يمكن أن يحدث لزوجاتنا في هذا العصر وهو ليس بمستحيل، ونحن نعرف أسراً تعيش هذه الحياة الطيبة التي ذكرناها.إن هذا ممكن ولكن بشرط واحد وهو أن يحول الإنسان بيته وزوجته وأولاده ونفسه، إلى الالتزام بشرع الله وإقامة أوامر الدين كاملة، وسيرى بعد ذلك تغير حياته وكيف تنتهي المشاكل الزوجية وكيف تصير الأمور.
ــــــــــــــــــــ(67/139)
مكانة المرأة في الإسلام
...
...
1878
...
الأسرة والمجتمع
...
...
المرأة
...
صالح الجبري
...
...
الطائف
...
...
...
جامع الحمودي
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- 1- نظرة الجاهلية إلى المرأة. 2- 2- أهمية المرأة في المجتمع المسلم. 3- 3- مساواة المرأة للرجل في الأمور الأخروية. 4- 4- بلقيس وسليمان. 5- 5- أمثلة لنساء فاضلات.6- 6- معنى نقصان المرأة عقلها ودينها. 7- 7- التحذير من ظلم النساء.
الخطبة الأولى
أما بعد :
إن الله أرسل محمداً ، والناس في جاهلية جهلاء ، وفي ضياع وعماء وشقاء ، وفي اضطراب فكري وارتباك اجتماعي ، وظلم سياسي ، وسحت مالي حتى أن الإنسان الذي ليس له بطش أو سلطان، لا يجد حماية لنفسه إلا إذا أذل نفسه لإنسان آخر.
وكان من الظلم الذي أحاق بالإنسان ، ظلم الإنسان للمرأة.فظلمها بنتاً ، وظلمها زوجة ، وظلمها أختاً، وظلمها أماً ، وظلمها في حياتها ، وظلمها بعد موتها.
وكان أكثر الناس في العالم ينظر إلى المرأة كأنها متاع ، إن اشتهاه استمتع به ، وإن استغنى منه رفسه وركله واحتقره وأبعده وهجره. لم تكن المرأة تورث بل كانت أحياناً تورث.
ولم تكن المرأة تختار لنفسها ، بل كان أبوها يختار لها ويفرض عليها ما يراه لها دون مراعاة لمشاعرها ورغبتها. وكان كثير من العرب يئد البنت وهي حية، فإذا جاء المرأة المخاض وأحست بآلام الولادة خرجت إلى الخلاء وحفر لها حفرة ثم إذا وضعت إن كان المولود ولداً فرحت واستبشرت ورجعت إلى أهلها ، وأقيمت الزينات والأفراح. وإن كان المولود بنتاً اسود وجهها من الغم ، وألقيت ابنتها في الحفرة وأهيل التراب عليها حية ، والأم يمزق قلبها ولا أحد يرق لها كما قال تعالى: وَإِذَا بُشّرَ أَحَدُهُمْ بِالاْنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّا وَهُوَ كَظِيمٌ يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوء مَا بُشّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِى التُّرَابِ أَلاَ سَآء مَا يَحْكُمُونَ [النحل: 58، 59].
فلما جاء الإسلام رفع الظلم عن البشر، وأعطى كل إنسان حقه، ووضع المرأة في مكانها الطبيعي ، وبين للرجل وللمرأة أن كلاً منهما في حاجة للآخر فقال للرجل وَمِنْ ءايَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْواجاً لّتَسْكُنُواْ إِلَيْهَا [الروم: 21] أي أن المرأة خلقت منك فقد خلقت حواء من آدم فهي جزء منك، وهي بعضك، ولا يستغني الكل عن البعض، ولا يستغنى الإنسان عن جزء منه ، فلا يستغنى الرجل عن المرأة.
كما بين للمرأة أنها جزء من الرجل، وأن الرجل أصلها، وأن المرأة لا تستطيع الحياة الجميلة، بدون الرجل، فهي أحوج ما تكون إليه كما يحتاج الفرع إلى الأصل هُوَ الَّذِى خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا [الأعراف: 189].
وبين تعالى في كتابه أن جميع الأوامر وجميع النواهي هي للرجال وللنساء على السواء، فالرسول أرسل إلى الرجال والنساء ، والقرآن أنزل للرجال والنساء، فالله ذكر كل ذلك في القرآن.
ففي الحديث عن المساواة في الحقوق المادية الخاصة قال تعالى لّلرّجَالِ نَصِيبٌ مّمَّا اكْتَسَبُواْ وَلِلنّسَاء نَصِيبٌ مّمَّا اكْتَسَبْنَ [النساء: 32]. وعند الميراث قال لّلرّجَالِ نَصيِبٌ مّمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالاْقْرَبُونَ وَلِلنّسَاء نَصِيبٌ مّمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالاْقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً [النساء: 7].
وعند الكلام عن جزاء أهل الإيمان فإنه سبحانه ذكر الجميع وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الانْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيّبَةً فِى جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوانٌ مّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذالِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة: 72].
إن الجزاء الحسن والحياة الكريمة ورضاء الله تعالى ، وسعادة الدنيا والآخرة ، كما يكون للرجل الصالح يكون للمرأة الصالحة ، والله رب الرجال ورب النساء ، ولا يميز أحداً على أحدٍ إلاَّ بالتقوى فربَّ امرأة تقية كانت أفضل من ألف رجل لأنهم ليسوا أتقياء إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات: 13]. ولما ذكر الله تعالى الإيمان والإسلام والصدق والذكر، فإنه ذكر المؤمنين والمؤمنات مع بعضهم ، في آية واحدة فقال إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدّقِينَ وَالْمُتَصَدّقَاتِ والصَّائِمِينَ والصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذكِراتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً [الأحزاب: 35].
نعم جمع الله الذكور والإناث في الفضائل ولما جاء الإسلام دعيت المرأة إلى الإيمان به كما دعي الرجل ، وجاهدت المرأة في الإسلام كما جاهد الرجل. وذكر القرآن في آياته نساءً مؤمنات ، تعدل الواحدة منهن ملايين الرجال ، فضرب لهن مثلاً بامرأة فرعون إِذْ قَالَتْ رَبّ ابْنِ لِى عِندَكَ بَيْتاً فِى الْجَنَّةِ وَنَجّنِى مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجّنِى مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [التحريم: 11].
وذكر الله سبحانه مريم أم عيسى عليه السلام ، وذكر أنها صديقة ، ولم يذكر الله اسم صديق واحد في القرآن؟سوى الأنبياء أما بالنسبة لغير الأنبياء فلم تذكر الصديقة في القرآن إلا مريم فقال : مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ [المائدة: 75].
إذن كرم الله النساء تكريماً ما بعده تكريم ، وأعطى الله المرأة حقها ، بل إنه لما ذكر قصص الرجال في القرآن وخاصة قصص الملوك ، كان أكثر الملوك المذكورين من الرجال في القرآن ممن ضل وكفر وخاب سعيه ، ولكنه ذكر ملكة واحدة كانت أفضل من ألوف الملوك والرجال الذين كفروا بالله، تلكم هي بلقيس ملكة سبأ التي قال الهدهد لسليمان عنها وفي أهل اليمن إِنّى وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلّ شَىْء وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ [النمل: 23] ثم قال وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ [النمل: 24] وكتب سليمان كتاباً حمله الهدهد إلى الملكة فيه إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَانِ الرَّحِيمِ أَلاَّ تَعْلُواْ عَلَىَّ وَأْتُونِى مُسْلِمِينَ [النمل: 30، 31]. فلما وصلها الكتاب كان موقفها أفضل ألف مرة من موقف فرعون ، لأن قومها أرادوا أن يأخذوا الأمر بقوة فقالت لهم وَإِنّى مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ [النمل: 35]. كانت عاقلة وذكية لأنها أرسلت الهدية لتختبر سليمان فلما رفض سليمان الهدية ، عرفت أنه نبي، فسارت بقومها إليه، ولما التقيا به ورأت آيات الله ورأت صدقه ، آمنت حين عرض عليها الإسلام وقالت قَالَتْ رَبّ إِنّى ظَلَمْتُ نَفْسِى وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ [النمل: 44]. لم تقل أسلمت لسليمان، لكن العظيمة المؤمنة قالت: أسلمت أي خضعت مع سليمان لله ، لا لأحد سواه ، هذا كان وصف القرآن للمرأة المؤمنة.
كما أن الإسلام يذكر للنساء في صدر الإسلام مواقف رائعة ومواقف مدهشة، فكما صبر المسلمون على العذاب من الرجال ، صبرت المسلمات من النساء ففاطمة بنت الخطاب تسلم قبل أخيها عمر، ولما عرف عمر بذلك ضربها فتقول في وجهه حين رأت الدم يسيل منها: نعم، يا ابن الخطاب أسلمت، فافعل ما بدا لك. فيصعق عمر من إجابتها، ويقول لها: جيئيني بالكتاب الذي تقرؤون منه، فتأتيه به، فلما قرأه، قال: "دلوني على محمد كي أسلم".
وإن أم شريك آمنت وعذبت وجوعت وعطشت وألقيت في الحرَّ، وهي في شبه إغماء من الجوع والعطش، ولما حاولوا ردها إلى الكفر، قالت : "اقتلوني، ولن أعود للكفر أبداً". وبينما هي في حالة إغماء أحست بشيء رطب على فمها وهي مقيدة ومربوطة في الشمس ، فنظرت فإذا دلو من السماء نازل لكي تشرب منه ، الله سقاها كرامة لها.ولما عرف قومها الحقيقة عرفوا أنها على الحق وأنهم على الباطل ، فكوا وثاقها وحبالها وقالوا لها:فلننطلق إلى رسول الله لنعلن إسلامنا.
وكذلك أم أيمن الحبشية:امرأة هاجرت وحدها في شدة الحر والعطش ، وكانت صائمة ولكن الله تعالى حين جاء وقت الغروب أنزل إليها دلواً من السماء فشربت منه، وكانت لا تحمل ماءً معها ولا تجده من حوليها تقول أم أيمن وهي مربية الحبيب محمد تقول بعد أن شربت من هذا الدلو كنت أصوم في اليوم الشديد الحر فلا أشعر بعطش أبداً.
ولا ننسى نسيبة الأنصارية والتي كانت مع النبي تدافع عنه في أحد حين انهزم كثير من الرجال وابتعدوا عنه حتى قال عنها : ((ما التفت يميناً وشمالاً إلا وأنا أراها تقاتل عني)).
هكذا كانت المرأة المسلمة وهكذا كان تكريم الإسلام لها. يمشي أمير المؤمنين عمر فتستوقفه المرأة فيقف لها، وتقول له: "يا عمر كنت تدعى عميرًا ، ثم قيل لك: عمر، ثم قيل لك: أمير المؤمنين ، فاتق الله يا عمر فإنه من أيقن بالموت خاف الفوت، ومن أيقن بالحساب خاف العذاب". وهو واقف يسمع لكلامها فقيل له: يا أمير المؤمنين .. رجال .. على هذه العجوز فقال: (والله لو حبستني من أول النهار إلى آخره ما تحركت من مكاني، أتدرون من هذه العجوز ؟، هي خولة بنت ثعلبة سمع الله قولها من فوق سبع سموات. أيسمع رب العالمين قولها ، ولا يسمعه عمر) الله أكبر هذا كله دليل على صدق هؤلاء النساء، وعلى عظم مكانة المرأة في الإسلام، فالله لم يعط الفضل للرجال فقط ، ولم يعط الشرف للرجال فقط ، ولم يعط العزة والكرامة للرجال فقط، إنما أعطاها لكل من آمن وصدق إيمانه وثبت على الحق ثبوتاً صادقًا.
أيها الأخوة إني ما ذكرت المرأة اليوم وحقها في الإسلام ، ومكانتها في الدين ، وذكر الله لها في القرآن وذكرها في السيرة وفي أخبار الصالحين ، إلا لتُعرف مكانتها.
فإن قلنا: إن النساء ناقصات عقل ودين فنقول لك:إن الحديث فسر نقص الدين ، بأن المرأة تحيض فإذا حاضت فإنها لا تصوم ولا تصلي، وليس أكثر من ذلك.
وإلا فقد ذكرت المرأة في القرآن ، متدينة كريمة عند الله.
أما عقلها فإن الله تعالى جعل عاطفتها أقوى، إن عاطفة المرأة هي التي تحنو بها على الابن في صغره، وتحنو على البنت ، وتحنو على الزوج، وتحنو على الأخ ، إن عاطفة المرأة تعرفها حين تجد الأب قد مات ، والذكور يقسمون مال أبيهم، والبنات يندبن أباهم ويبكين عليه، فعاطفة المرأة هي جمالها. بل العاطفة هي التي تجعل بيوتنا جميلة وتجعل حياتنا جميلة ، وجمال المرأة في رقتها ، في عذوبتها ، وفي كلمتها الحلوة ، ولذلك إذا خرجت المرأة عن طبعها لعنها الله، فقد لعن رسول الله المترجلة من النساء كما لعن المخنثين من الرجال. هذه حقائق يجب علينا جميعاً أن ندركها لكي نعرف قيمة المرأة في الإسلام.
إننا بعد الذي سمعناه ندرك أن الله الذي يأمر بالعدل أعطى كل ذي حق حقه ، سواء كان رجلاً أم امرأة ، وإن الواجب علينا أن نعطي الحقوق لأهلها ، وأن ندرك أن الله محاسبنا يوم القيامة رجالاً ونساءً، وأنه لا يرضى أن يعتدي أحد على أحد ، بل لا يرضى أن يعتدي إنسان على حيوان ، بل لا يرضى أن يعتدي حيوان على حيوان، فقد جاء في الحديث الصحيح أن الله يقتص يوم القيامة للشاة، والجماء من القرناء.
كذلكم الرجل الذي له عضلات ويظلم زوجته في كلماته ، أو نظراته ، أو عدم النفقة عليها ، أو في حرمانها من أهلها ، أو في ظلمها أو في جسمها أو في ضربها أو في احتقارها وازدرائها ، هذا إنسان ضحل الفكر ، بعيد عن الحق ، يأخذه الشيطان إلى طريق الجاهلية ، ومفاهيم الجاهلية ، وعليه أن يعلم أنه بظلمه لزوجته أو أخته ، أو ابنته عليه أن يعلم أنه ربما قد يأتي يوم القيامة بصلاة وزكاة وصيام وحج فيجعلها الله هباء منثوراً بسبب ظلمه وطغيانه، والله يقول والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتاناً وإثماً مبينًا. وسبحان الله أين أمثال هؤلاء عن وصية الرسول قبل موته حين أخذ يردد.اتقوا الله في النساء ثلاث مرات إنهن عوان عندكم بمعنى أسيرات عندكم.
إن الإساءة إلى المرأة إساءة عظيمة لماذا؟ لأنها ضعيفة ، ولأنها لا تستطيع أن ترد كيد الرجل أو تتظلم ، أو تجهر بالشكوى ، ولا أن تخرج فتسيح في الأرض ، لأنها عرض، إنها امرأة لذلكم كان ظلمها أشد الظلم، وكان إلحاق الضرر بها مصيبة أكبر من كل المصائب، فليتق الله إنسان عنده امرأة، فإن كانت أماً فالجنة تحت قدميها وإن كانت أختاً فدخول الجنة موقوف على الإحسان إليها ، وإن كانت بنتاً فمن حقها تربيتها وتزويجها باختيارها ، لا يرغمها على زوج لا تريده، وإلا فقد ظلمها وأساء إليها ، والويل له من ربه.
اتقوا الله ، اتقوا الله أيها الأخوة خاصة في الزوجات، فإن الشكاوى كثيرة ، وإننا مطالبون بالصبر على المرأة ، وبالحلم ، ومن أراد أن تكون امرأته على الصراط المستقيم فقد أخطأ خطأً مبيناً لأن النبي قال: ((إن المرأة خلقت من ضلع أعوج لن تسقيم لك على طريقة، فإن أردت أن تقيمها كسرتها، وكسرها طلاقُها)).
ثم قل لي أيها الرجل إذا أردت المرأة كاملة لا عيب فيها ، فالمرأة تريد رجلاً كاملاً لا عيب فيه، فهل يوجد رجل كامل لا عيب فيه؟
ثم لماذا لا ننظر في عيوبنا قبل أن ننظر في عيوب غيرنا ، لماذا لا نحاسب أنفسنا قبل أن نحاسب غيرنا ، أسأل الله أن يردنا إلى الحق ، وأن يأخذ بنواصينا إلى العدل ، وأن يوفقنا لما فيه رضاه.
ــــــــــــــــــــ(67/140)
حقوق الزوجة على زوجها
...
...
1874
...
الأسرة والمجتمع
...
...
قضايا الأسرة
...
صالح الجبري
...
...
الطائف
...
...
...
جامع الحمودي
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- حسن العشرة لها.2- النفقة عليها.3- عدم ضرب المرأة غير الناشر.4- العدل بين الضرائر.5- تعليم الزوجة أمر دينها.6- الغيرة عليها
الخطبة الأولى
أما بعد :
إن حقوق الزوجة على زوجها ، حقوق مهمة وعظيمة.ومن الملاحظ أن هناك من الأزواج من يريد من زوجته أن تعرف حقوقه ويهتم بذلك.ولكنه بالمقابل لا يريد أ ن يعرف حقوق زوجته عليه لماذا؟لأنه يظن أنه لو أعطاها حقوقها ،تعالت عليه وتكبرت.وهذا تفكير غير صحيح لأنه لو عرفها بحقوق الله عليها أولاً ، ثم أدى إليها الحقوق التي أمر بها الإسلام ، فإنها ستكون حريصة على معرفة حقوقه ، والقيام بها جيدًا.
فأول حق على الزوج ناحية زوجته هو:حسن المعاشرة، وفي هذا يقول سبحانه وتعالى وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ [النساء: 19]. فعلى الزوج أن يحسن خلقه مع زوجته فيتحدث معها برفق، ولين . ويحتمل الأذى منها ، ويوفيها حقها من المهر والنفقة ، وألا يعبس في وجهها من غير ذنب.
ويستحب أن يتزين لها كما تتزين له.فينظف نفسه ويزيل عرقه.ويتطيب ويلبس الملابس المناسبة قال ابن عباس (إني أحب أن أتزين لامرأتي كما أحب أن تتزين لي).
وكما قلنا فعليه أن يحتمل ما يبدر منها من أخطاء ، لأن الزوجة الكاملة ليست موجودة إلا في الجنة ، ولأن المرأة خلقت من ضلع أعوج كما قال : ((إن المرأة خلقت من ضلع ولن تستقيم لك على طريق فإن استمتعت استمتعت وبها عوج، وإن ذهبت تقيمها كسرتها، وكسرها طلاقها)) [مسلم/النكاح باب الوصية بالنساء].
لهذا فعليه أن لا يكثر من اللوم والتأنيب ، وإن حصل منها ما يغضبه ، فعليه أن ينظر إلى حسناتها ولا يركز على سيئاتها فقط ، هذا إذا أراد أن يعيش عيشة السعداء، إذن لابد من المعاشرة والابتعاد عن سوء المعاشرة ، يخطئ بعض الأزواج عندما يظن أنهم عندما يكرهون زوجاتهم بعض الأشياء أن ذلك يعطيهم الحق في شتم زوجاتهم واحتقارهن. لأن الإسلام لا يعتبر كره الزوج لزوجته سبباً في احتقارها وإهانتها. قال تعالى : فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً [النساء: 19]. وقد يكره الرجل زوجته لأنها ليست جميلة أو لأنها لا تحسن الطبخ ، ولأنها لا تحسن الكلمة الحلوة ، لكن هذا ليس مبرراً لاحتقارها أو تطليقها فعلاً، فقد تكون امرأة عفيفة ، أمينة على بيتها ، تحسن تربية أبنائها ، وإذا أصيب زوجها بمحنة فقد يجدها صابرة تقف بجواره في السراء والضراء.
ثم هذا الزوج هل نظر إلى نفسه ، هل فيه كل الأخلاق التي تحبها المرأة ، أم أن فيه أيضاً طباعاً سيئة. لهذا يقول تحذيراً من هذا النوع من الأزواج.يقول: ((لا يفرك مؤمن مؤمنة ، إذا كره منها خلقاً رضي منها آخر)) مسلم /النكاح باب الوصية بالنساء.
وليس معنى هذا أن يترك لها الحبل على الغارب ، ويوافقها حتى وإن أتت بعمل يخالف شرع الله، لا لكن المراد أن ينبسط معها في البيت ، ويستمع إلى حديثها.ويمازحها تقديراً لها أو تطييباً لخاطرها، وقد يظن البعض أن مداعبة الزوجة وممازحتها يتنافى مع الهيبة والوقار ، لكن هذا خطأ فاحش ، ويدل على الجهل ، لأن الرسول وهو بطل الأبطال وسيد الرجال والعابد الخاشع والقائد الحاكم والمربي المعلم.كان من أفكه الناس مع زوجاته وأحسنهم خلقاً معهن.
قالت أمنا عائشة رضي الله عنها :كنت أشرب وأنا حائض ، ثم أناوله النبي فيضع فاه على موضع في ، فيشرب، وأتعرق العرق (اللحم المختلط بالعظم) وأنا حائض ثم أناوله فيضع فاه على موضع فيّ) رواه مسلم.
وقالت: (كنت أغتسل أنا ورسول الله من إناء بيني وبينه ، تختلف أيدينا عليه ، فيبادرني حتى أقول:دع لي، دع لي قالت : وهما جنبان) [البخاري ومسلم].
وهذا أمير المؤمنين عمر ، وهو صاحب الشخصية القوية ، والذي كان الشيطان يهرب منه إذا رآه ، كان يقول:ينبغي للرجل أن يكون في أهله كالصبي (يعني في الأنس والبشر والسهولة) فإذا كان في الناس وجد رجلاً.
ويتصل بهذا الحق أيضًا. حق الزوجة في الاستمتاع بالنزهات والرحلات مع زوجها وأولادها. فليس لائقاً أن يمتع الزوج نفسه بالنزهة والرحلات إلى شتى الأماكن طلباً للراحة والاستجمام ، ثم يبخل عن زوجته برحلة يصطحبها معه لتأخذ حقها من الراحة والنشاط والتسلية ليس لائقاً أبداً هذا. ولنا في رسول الله أسوة حسنة فقد ورد أن عائشة كانت مع رسول الله في سفر وهي جارية، قالت: لم أحمل اللحم ولم أبدن (أي لم أسمن) فقال لأصحابه: ((تقدموا فتقدموا ، ثم قال: تعالي أسابقك فسابقته ، فسبقته على رجلي. فلما كان بعد ، خرجت معه في سفر ، فقال لأصحابه: تقدموا، ثم قال: تعالي أسابقك ، ونسيت الذي كان وقد حملت اللحم وبدنت (أي وسمنت) ، فقلت ، كيف أسابقك يا رسول الله وأنا على هذه الحال ، قال:لتفعلن ، فسابقته ، فسبقني. فجعل يضحك ويقول:هذه بتلك)) أي بتلك السبقة.
لهذا فعلى الزوج أن يمتع زوجته وأولاده ويرفه عنهم ، في حدود الشرع؟ومع الابتعاد عن التبرج والاختلاط.
ومن الحقوق أيضا:النفقة: وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا [البقرة: 233]. يقول الإمام ابن كثير "أي وعلى والد الطفل نفقة الوالدات وكسوتهن بالمعروف ، أي بما جرت به عادة أمثالهن ، من غير إسراف ولا إقتار".
إذن بالمطلوب في النفقة هو التوسط مع الأخذ بعين الاهتمام ، حال الزوج ومدى قدرته ، وللعلم فما من شيء ينفقه الرجل على زوجته أو أولاده ، إلا كان له به عند الله أجر وثواب. فقد قال : ((دينار أنفقته في سبيل الله.ودينار أنفقته في رقبة.ودينار تصدقت به على مسكين ، ودينار أنفقته على أهلك، أعظمها أجراً الذي أنفقته على أهلك)) [رواه مسلم عن أبي هريرة].
وعلى الرجل أن يتحرى الحلال في إنفاقه على أهله وأولاده ، ومن يعولهم ، وإلا محقت البركة ،وكان عليه إثم من أطعمهم حراما. ونريد أن ننبه هنا:أن الرجل الكريم هو الذي يكرم أهله وأولاده ولا يتركهم ينظرون إلى ما عند الناس من مال ومتاع. أما البخيل فهو الذي يبخل عليهم وهو قادر على الإنفاق، والغريب أن هناك من يبخل على زوجته وأولاده بالنفقة ، بينما هو يجود بماله على نفسه وعلى رفاق السوء وفي الليالي الحمراء وفي السفر وفي كل ما يغضب الله ، كما يقع كثيراً من لا خلاق لهم ولا مروءة.
ويكفي أمثال هؤلاء قول الرسول : ((كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يعول)) مسلم.
ومن الحقوق:أن لا يضرب الزوج زوجته إلا في حالة النشوز كقوله تعالى : وَاللَّاتِى تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِى الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً [النساء: 34].
والنشوز هو الارتفاع.والمرأة الناشز هي المرتفعة على زوجها ، التاركة لأمره ، المعرضة عنه.
فإذا ظهر هذا في المرأة.فليبدأ في وعظها.فإن لم تنفع الموعظة فليهجرها في فراشها.فإن لم تفد ضربها ضرباً لا يسيل دماً ولا يكسر عظماً. وأن لا يكون في الوجه.وأن يتجنب الشتم والسب واللعن كما يحدث الآن.فما أن تحصل أي مشكلة حتى تسمع السب والشتم واللعن بين الزوج وزوجته.ثم يتطور الأمر.فيقوم الزوج بضرب زوجته على أمر تافه.ثم يأتي ويتحدث بهذا الأمر أمام الناس بكل فخر وخيلاء، وكأنه قد انتصر على بطل من أبطال المصارعة العالمية، لهذا فليتق الله هؤلاء الأزواج ولتكم حياتهم كما قال الله فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ [البقرة: 229].
هذا وفي الحديث أن رسول الله (ما ضرب خادماً ولا امرأة قط). [رواه أبو داود] بل إنه عاب على من يضرب امرأته فقال: ((يعمد أحدكم فيجلد امرأته جلد العبد، فلعله يضاجعها آخر يومه)) [ البخاري].
ومن الحقوق: أن الزوج مطالب بإعفاف زوجته.لذلك قال الفقهاء"إذا ترك جماع زوجته المدة الطويلة أمر بالوطأ ، فإن أبى فلها فسخ النكاح.لهذا قال : ((وإن لزوجك عليك حقا)). [البخاري ] وانطلاقاً من هذا فرض الإسلام على الزوج أن يجامع زوجته بالقدر الذي يحفظ عفة المرأة ويصونها، قال تعالى فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ [البقرة: 222].
قال العلماء:وينبغي أن يأتيها في كل أربع ليال مرة فهو أعدل ، لأن عدد النساء أربعة مجاز التأخير إلى هذا الحد. ويمكن أن يزيد أو ينقص حسب حاجتها في التحصين ، فإن تحصينها واجب عليه.
ونحن ننبه إلى هذا لأن البعض يهملون زوجاتهم من هذه الناحية المهمة.ويتعذرون بأنهم مشغولون بأعمالهم وبعضهم فعلاً مشغول بعمله، لكن البعض الآخر يسهر الليالي الطويلة خارج منزله، أو يسافر أياماً كثيرة من أجل شهوته الحرام، وينسى أن له زوجة تنتظره فهل هذا معقول؟ إهمال الزوجة من هذه الناحية ليس مقبولاً أبداً حتى ولو بشغل الإنسان بالعبادة لله عن زوجته وإحصانها، فهذا مرفوض.فكيف بغير العبادة.
روى الشعبي:أن كعب بن سور كان جالساً عند عمر فجاءت امرأة فقالت:يا أمير المؤمنين ما رأيت رجلاً قط أفضل من زوجي والله ، إنه يبيت ليله نائماً، ويظل نهاره صائماً، فاستغفر لها وأثنى عليها، فاستحيت المرأة وقامت راجعة.
فقال كعب:يا أمير المؤمنين، هلا أعربت المرأة على زوجها ، فلقد أبلغت إليك في الشكوى، فأمره أن يقضي بينهما فقال:فإني أرى كأنها امرأة عليها ثلاث نسوة هي رابعتهن، وأقضي بثلاثة أيام ولياليهن يتعبد فيهن.ولها يوم وليلة. وهكذا قضى كعب على زوجها أن لا يتأخر عن وطئها أو مجالستها أكثر من ثلاثة أيام ، وأقره أمير المؤمنين على ذلك، أما ما زاد عن ذلك فإن اتفق الطرفان عليه كأن يكون الزوج مسافراً مثلاً. فلا بأس ، إذا تراضى ووافق الطرفان.
بقي أن نقول استكمالاً لهذه النقطة: أن على الزوج أن يكتم ما يحدث بينه وبين زوجته في الفراش.لأن بعض الرجال يحبون أن يتفاخروا في الكلام عن هذا الموضوع في المجالس والمنتديات.لأنهم يظنون مع جهلهم ونقص عقولهم أن هذه الصفة هي مفخرة لهم.وللعلم فهذه الأفعال ليست من المروءة في شيء.وليست من شيم الرجال.بل هي من خلق الفساق الذين لا يملكون من الحياء شيئًا لذا يقول عن أفعال هؤلاء: ((هل منكم رجل إذا أتى أهله فأغلق عليه بابه ، وألقى عليه ستره واستتر بستر الله ، ثم يجلس بعد ذلك ويقول:فعلت كذا وفعلت كذا)) ثم قال: ((هل تدرون ما مثل ذلك ، إنما مثل ذلك مثل شيطانة لقيت شيطاناً في السكة ، فقضى حاجته منها والناس ينظرون إليه)). فالحذر الحذر من الخوض في هذه الأمور ، والكلام موجه للرجال وللنساء جميعاً ، ونسأل الله الستر في الدنيا والآخرة.
ومن الحقوق العدل في القسمة بين أكثر من زوجة:فإذا كان للرجل زوجتان أو أكثر وجب عليه أن يعدل بينها في المبيت وفي النفقة وفي السكن، فإن ظلم إحداهن فلم يبت عندها ليلة أو أكثر وجب عليه أن يقضيها حقها ، فذلك دين عليه ، إلا أن تتنازل عنه كما فعلت أم المؤمنين سودة عندما تنازلت عن ليلتها لأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها.وكذلك أن أعطى واحدة دون الأخرى من ماله فإنه يعتبر ظالماً سواء كان العطاء نقوداً أو ملابساً أو حليًا أو غيرها، ففي مثل هذه الأمور العدل واجب عليه فيه.أما العدل المقصود في قول الله وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النّسَاء وَلَوْ حَرَصْتُمْ [النساء: 129]. فالمقصود أن الله لا يؤاخذ الزوج ولا يعاقبه في عدم تمكنه من العدل في المحبة والميل القلبي لأن هذه الأمور لا يمكن للإنسان أن يسيطر عليها.
ومن الحقوق المهمة:تعليم الزوجة أمور دينها ، فعليه أن يعلمها ما لم تتعلمه من الطهارة ، والوضوء ، والصلاة وأحكام الحيض والنفاس والاستحاضة وغيرها. وذلك لأن هناك من النساء من يصل عمرها إلى 30 أو 40 أو 50 سنة وهي لا تعرف قراءة الفاتحة ، ولا تعرف الوضوء الصحيح أو الصلاة الصحيحة،أو واجبها نحو أهليها وأقاربها، ولا كيف تلبس الملابس الشرعية ، أو كيف تجتنب الخلوة بالرجال ، أو كيف تخاطبهم إن دعا إلى ذلك داع. وهذا واقع وحاصل بين النساء، هناك من هن طالبات في الجامعات بل قد يكن من المدرسات أو المثقفات كما يقولون لكنهن لا يعلمن من أمور دينهن إلا القليل، وقد يكون زوجها أيضاً متعلماً بل قد يكون جامعياً ، ولكنه لا يهتم بتعليمها مع أنه هو المستفيد الأول. لماذا؟ لأن الزوجة التي تقف بين يدي الله خاشعة متعبدة، تكون من أبر الزوجات بزوجها وأولادها.وأسعد النساء في بيتها وأسرتها.لهذا عليه أن يعلمها فإن كان لا يعلم فعليه أن يأذن لها بالخروج إلى المساجد وحلق الذكر لحضور المحاضرات والخطب والدروس.أو يحضر لها الأشرطة والكتيبات النافعة الخاصة بتلك الأمور المذكورة سابقاً. المهم هذه مهمة عظيمة للزوج، والمرأة كما نعلم شديدة التأثر بزوجها وسلوكه فإن رأت منه حرصاً على التعلم والدين والستر والعفة،استجابت، وإن رأت منه تشجيعاً أو سكوتاً على الاستهانة بأوامر الدين واستهزاءً به استجابت أيضاً.وكم رأينا وسمعنا عن نساء يكفرن بسبب سب الدين أو سب القرآن أو إنكار الصلاة والزكاة أو الاستهزاء بالحجاب والمحجبات ، وقدوتهن في ذلك أزواجهن.وكم سمعنا عن زوجات خرجن من بيوتهن إلى بيوت أزواجهن عفيفات عابدات ، فما لبثن غير قليل حتى انحرفن عن ذلك كله بتأثير الزوج وانحرافه وتفريطه في حقوق الله.والغريب أن أمثال هؤلاء الأزواج مع تفريطهم في حقوق الله ، فإنهم لا يفرطون ولا يتهاونون في حقوقهم الخاصة مثل الغسيل والطبخ وغيره وقد يقيمون الدنيا ويقعدونها من أجل ذلك.أما حقوق الله فهم صم بكم عمي فلا يرجعون.
وآخر الحقوق:الغيرة على الزوجة:وكما قلنا إن الرجل مسؤول عن زوجته مسؤولية كاملة أمام الله وأمام الناس، ويوم يتخلى الرجل عن هذه المسؤولية، ويترك امرأته تفعل ما تشاء فإن الناس يسخرون منه ويتهمونه بأنه تبع لها وأنه بلا شخصية ، وأن الأمر والنهي ليسا بيده ، إلى آخر تلك العبارات التي تسمع من الناس، والعجيب أن المرأة تحتقر الزوج الضعيف الشخصية حتى ولو لم تصرح بذلك.لأنها تحب أن تشعر أنها تستند إلى رجل له شخصية قوية ، ومستقيمة ، ويمكن الاعتماد عليه بعد الله في مواجهة أعباء الحياة.وأهم ميزة من مميزات الرجولة والشخصية القوية هي ميزة الغيرة، ومعنى الغيرة أن تأخذ الإنسان الأنفة والحمية والغضب إذا شعر أن غيره يريد أن يشاركه في أهله ، ومن هم في حوزته ، والمقصود بالغيرة طبعاً هي التي يحكمها الدين وتدفع إليها الكرامة والحمية الإسلامية ، ومن غير تطرف أو مبالغة ، وعلينا أن نفرق بين الغيرة وبين سوء الظن ، فلا يكون الإنسان معدوم الغيرة والحمية على عرضه ، ولا يشدد فيها كل التشدد.
فلا هذا ولا ذاك، بل الاعتدال هو الصحيح والواجب كما يقول ((إن من الغيرة ما يحبه الله ومنها ما يبغضه الله.فأما الغيرة التي يحبها الله فالغيرة في الريبة ، والغيرة التي يبغضها الله فالغيرة في غير ريبة)). [أبو داود والنسائي].
لهذا كان الرجال الحقيقيون في الماضي يغيرون على من يعولونهم، ولا يسمحون لغيرهم أن يصل إلى أعراضهم ، ولو بنظرة عابرة.
فمثلاً دخل القتلة المجرمون على الخليفة عثمان بن عفان ، فنشرت زوجته نائلة شعرها وكأنها تستنصر بمروءة هؤلاء الظالمين القتلة ، وتستنجد ما عسى أن يكون بهم من شرف ، لكن أمير المؤمنين عثمان ، التفت إليها، وصرخ فيها وهو يقتل قائلاً: خذي خمارك فإن دخولهم علي ، أهون من حرمة شعرك. رضي الله عنه وعن الصحابة أجمعين.
حادثة أخرى:تخاصم رجل وزوجته في نفقة ، فاحتكما للقاضي ، فقال الوكيل للمرأة:قومي ، قال الزوج:ولم.قال الوكيل حتى ينظر إليها الشهود وهي مسفرة عن وجهها.فقال الزوج للقاضي:أنا أشهد القاضي أن لها علي المهر الذي تدعيه ، ولا تسفر عن وجهها فأجابت المرأة ـ والمرأة تحترم الرجل الذي يغار عليها ـ قالت: وأنا أشهد القاضي:أني قد وهبت له هذا المهر ، وأبرأته منه في الدنيا والآخرة.هكذا كان مفهوم الغيرة.
أما الآن : فالخطير في الموضوع أن مفهوم الغيرة ، انقلب عند الكثير من الناس اليوم: فالكثير يفهمون الغيرة بمعنى ضيق جداً ومحدود.لذلك نجد الرجل ينتظر أن يغازل امرأته أو قريبته أحد وهي معه في الشارع أو في السيارة ، حتى يغار ويتحرك.هل هذه هي الغيرة فقط؟ إن معنى الغيرة أوسع من ذلك بكثير.
فهذا الرجل الذي يغار لو تعرض له أحد في الشارع أو في السيارة.هذا نفسه لا يغار حين يمشي معه زوجته أو أخته أو ابنته وهي كاشفة وجهها ، أو ملثمة ، أو هي متبرجة ومتعطرة ومتزينة ، وتعرض نفسها لأعين الناس.
ولا يغار لو ذهبت وحدها مع السائق للسوق وللنزهة.ولا يغار حين تختلط مع الرجال على الشواطئ أو في الحدائق أو غيرها. ولا يغار حينما تصافح الرجال الغير محارم لها. ولا يغار إذا تكلمت مع الرجال ولاينتهم وضاحكتهم ومازحتهم. ولا يغار حين يراها تخرج من منزلها بالكعب العالي والملابس المثيرة ، وتخرج أمام الناس متراقصة كأنها طاووس تختال.ولا يغار بل هو الذي يطلب من زوجته أن لا تتحجب أمام أقاربه زاعماً أن تحجبها سيفرق بينهم.الحجاب يفرق بين الأهل؟!.الإسلام الذي أوصى بصلة الرحم يفرق؟!.لكنه انتكاس المفاهيم وانعدام الغيرة ، ولا يغار ولا يتنبه لما يحضره إليها إلى المنزل من مجلة خليعة ، أو شريط مفسد. وغيرها من مثل هذه الأمور التي ينبغي على الرجل فيها أن يكون رجلاً. رجلاً حقيقياً فعلاً.لأن الرجل الغيور هو الإنسان الطبيعي، والذي لا يغار إما أن يكون مخبولاً أو أن يكون منكوس النفس كما قال أحد السلف (ما من امرئ لا يغار إلا منكوس القلب). وما أجمل قول الرسول ((إن الله يغار والمؤمن يغار)).ويقول ((ثلاثة لا يدخلون الجنة ، العاق لوالديه ، والديوث ، ورجلة النساء)) ومعنى الديوث أي الرجل الذي لا يغار على عرضه والعياذ بالله. هذه أيها الأخوة حقوق الزوجة على الزوج. فليعرف الزوج حقوق زوجته جيداً، وليحذر ظلمها وإيذاءها ، فالله يعذب من يؤذي حشرة أو حيواناً. وجميعنا يعرف قصة المرأة التي حبست الهرة حتى ماتت فدخلت بها النار.فما بالكم بالذي يعذب إنساناً مثله ، فما بالكم بالذي يعذب أقرب الناس إليه وهي زوجته وأم أولاده.ولا تظنوا أني أتيت بهذه الحقوق من عندي فكل هذه الحقوق وغيرها هي من التي فرضها الله ورسوله للنساء. ولكن يجهل الكثير بدينهم فإنهم لا يعرفونها وإن عرفوها فهم لا يطبقونها التطبيق الصحيح الذي يرضي الله ورسوله.وسيكون كلامنا في الأسبوع القادم عن حقوق الزوج على الزوجة ، إن شاء الله تعالى.وفقنا الله جميعاً لما يحبه ويرضاه.
ــــــــــــــــــــ(67/141)
التبرج
...
...
1859
...
الأسرة والمجتمع
...
...
المرأة
...
صالح الجبري
...
...
الطائف
...
...
...
جامع الحمودي
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
- معنى التبرج.2- أحاديث في ذم التبرج.3- الخلاف في قضية كشف الوجه.4- مظاهر للتبرج.5- دعوى أن العفاف يغني عن الحجاب.6- أسباب انتشار التبرج.7- علاج هذه الأسباب.8- دور الرجل في العلاج.
الخطبة الأولى
أما بعد :
ما هو التبرج:ذكر العلماء أن التبرج هو كل زينة أو تجمل تقصد المرأة بإظهاره أن تحلو في أعين الأجانب ، حتى القناع الذي تستتر به المرأة إن كان من الألوان البارقة ، والشكل الجذاب لكي تلذ به أعين الناظرين ، فهو من مظاهر تبرج الجاهلية الأولى.
والتبرج معصية لله ورسوله فعن ابن مسعود أن نبي الله ((كان يكره عشر خصال)) وذكر منها : ((التبرج بالزينة لغير محلها)).
قال السيوطي: "والتبرج بالزينة أي إظهارها للناس الأجانب وهو المذموم، فأما للزوج فلا وهو معنى قوله ((لغير محلها)) بل إن التبرج كبيرة موبقة في الدنيا والآخرة، فقد جاءت أميمة بنت رقيقة إلى رسول الله تبايعه على الإسلام فقال: ((أبايعك على ألا تشركي بالله، ولا تسرقي ولا تزني ولا تقتلي ولدك ولا تأتي ببهتان تفترينه بين يديك ورجليك ولا تنوحي، ولا تتبرجي تبرج الجاهلية الأولى)).
بل إن التبرج يجلب لصاحبته اللعن والطرد من رحمة الله ، فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله: ((يكون في آخر أمتي نساء كاسيات عاريات على رؤوسهن كأسنمة البخت العنوهن فإنهن ملعونات)).
كما أن التبرج من صفات أهل النار ((صنفان من أهل النار لم أرهما.قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات مميلات مائلات، رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا)) [مسلم].
كذلكم اعتبر الشرع التبرج نفاقًا، وتعلمون ما قال الله في المنافقين والمنافقات ((شر نسائكم المتبرجات المتجملات، وهن المنافقات، لا يدخل الجنة منهن إلا مثل الغراب الأعصم)). والغراب الأعصم : أحمر المنقار والرجلين، وهذا الوصف في الغربان قليل.
بل إن التبرج تهتك وفضيحة واستجلاب لغضب الله ((ثلاثة لا تسأل عنهم: رجل فارق الجماعة وعصى إمامه فمات عاصياً ، وأمة أو عبد أبق من سيده فمات ، وامرأة غاب عنها زوجها وقد كفاها مؤنة الدنيا ، فتبرجت بعده ، فلا تسأل عنهم)) سبحان الله كانت المرأة الخائنة تنتظر غياب زوجها حتى تتبرج. فما عسانا نقول في نساء اليوم، وهن يرتكبن أقبح أنواع التبرج وأفحشها على مرأى ومسمع، بل ورضا من أزواجهن.
إن الأمر المؤسف الآن أن بعض النساء صرن يظهرن أمام الناس بصورة لم تكن موجودة من قبل، وأخطر ما في القضية مسألة كشف الوجه، وللعلم فأول الطريق نحو الفساد والدمار يبدأ من كشف المرأة لوجهها. صحيح أن بعض الفقهاء قد أجاز كشف الوجه ، لكن علماء الأمة ومنهم هؤلاء الفقهاء أيضاً متفقون جميعاً على وجوب تغطية الوجه عند حصول الفتنة ، وهو ما يحدث الآن بالضبط في هذا العصر ، ولنا في بعض بلدان العالم الإسلامي عبرة وعظة عندما نادى المنادون بسفور المرأة ، فبدأ الأمر بكشف الوجه ثم تطور إلى الرأس ثم إلى الذراعين ثم إلى الساقين ثم إلى الصدر والظهر ، ثم فلت الحبل ، وإخواننا هناك الآن يبكون الدم على ما حدث لهم، ويحذروننا من أن نقع في نفس الخطأ الذي وقعوا فيه وصدق من قال "السعيد من وعظ بغيره".
وهناك من النساء من لم يصلن بعد إلى كشف الوجه ولكنهن في الطريق فقد صار بعضهن يزين رؤوسهن بأغطية وطرح مزركشة وملونة، وتفنن في ربطها وإضافة الحلي إليها لتلفت الأنظار ، فمنهن من ترفعها إلى ركبتيها ، ومنهن من ترفعها إلى نصف جسمها، أو تضمها حتى تلتصق بجسدها، وتحدد أجزاء جسمها ، وقد ترتدي إحداهن فتساناً طويلاً ولكنه منقوش ومزين ، يلفت أنظار الناس أو ترتدي فستاناً آخر يحدد من شكل صدرها وخصرها ، والمصيبة العظمى في وجود الفتحات في اليمين أو اليسار أو الخلف ، والمصيبة الأعظم من ذلك أنها تظن بأنها متحجبة ، وهي فعلاً متحجبة ولكن عن الخير والعفة والحياء وصدق الله أَفَمَن زُيّنَ لَهُ سُوء عَمَلِهِ فَرَءاهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِى مَن يَشَاء [فاطر: 8].
والأسوأ من ذلك كله أن أنصار التبرج ، يحاولون الآن أن يجعلوا من الحجاب موضة وزياً من الأزياء حتى يجعلوه عرضة للتغيير والتنويع كلما أرادوا.
ومن أمثلة ذلك حجاب مصطنع يغطي جميع أجزاء جسم المرأة بما في ذلك الوجه ، ولكنه ضيق وقصير ويبدي قدمي المرأة وأسفل ما فيها، وقد تقوم المرأة بتغطيته ، ولكن بجوارب رقيقة وشفافة ومن نفس لون الجسم ، فبالله أهكذا يكون الحجاب أم هو التبرج بعينه؟
ومن صور التبرج أيضاً:خروج النساء وهن متعطرات أو قيام البعض منهن بتعطير ضيفتها أو بتبخيرها إكراماً لها، وهذا محرم ولا يجوز لأن النبي قال: ((أيما امرأة استعطرت ثم خرجت فوجد الناس ريحها فهي كذا وكذا)) يعني أنها في حكم الزانية ، لأنها سمحت للرجال بالتمتع برائحتها ... لقد قال رسول الله هذا الكلام في التي تخرج من منزلها وهي متعطرة فكيف بالتي تذهب إلى محلات العطور وتتعطر وتختار بنفسها بعد أن تجرب الأنواع المختلفة في يديها.
ومن صور التبرج ما تفعله بعض المنافقات من التزام بالحجاب في البيئات المحافظة حتى إذا وجدت فرصة للانفلات استغلتها فوراً ، كمثل اللاتي تراهن في المطارات ملتزمات بالحجاب حتى إذا ركبن الطائرة وطارت بهن في الجو ، طارت العباءة ، وكشف الوجه والشعر وبدأت الزينة وقد يكون معهن من أشباه الرجال من أوليائهن، ولكنهم لا يحركون ساكنًا، وكأن الأمر لا يعنيهم وصدق الله قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلاَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ [الزمر: 15].
ومن أخطر صور التبرج تبرج النساء في الأسواق وعرض أجسامهن أمام الرجال متأنقات ومتعطرات ، وقد يضعن على وجوههن أغطية شفافة من باب المخادعة ، أي البراقع ، مع تزيين الأعين بالكحل وتوسيع فتحة الأعين لتشمل جزء من الوجنتين ، وكثير منهن يكشفن عن وجوههن وأذرعهن أمام أصحاب معارض القماش والصاغة والخياطين ومحلات العطور ، وكأن هؤلاء محارم لهن، ناهيك عن التبرج بالكلام والضحك، وكأن الله لم يقل لهن فَلاَ تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِى فِى قَلْبِهِ مَرَضٌ [الأحزاب: 32].
لكن الأغرب من ذلك كله هو موقف الرجال الذين تركوا الحبل على الغارب للنساء حتى أصبحت المرأة تلبس ما تشتهي، وتخرج متى تشتهي، وتظهر على الناس كما تشتهي، والرجل ليس له حول ولا قوة، إنه لأمر عجيب
وما عجب أن النساء ترجلت ولكن تأنيث الرجال عجاب
ثم إن الأغرب من ذلك أنك لو لاحظت ملاحظة على المرأة المتبرجة وهمست في أذن زوجها، أو قريبها كأبيها أو أخيها بأن يلزمها الحجاب الشرعي والبعد عن التبرج ، فإنه سيقول لك: ماذا تقصد بذلك، زوجتي وابنتي وأختي يخرجن شريفات، ويرجعن شريفات وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِى اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ [الحج: 3]. من قال لك أيها المسكين أنهن لسن شريفات. لكن هل الشرف أن تحتفظ الفتاة بعذريتها حتى ليلة الزفاف فقط ، أم أن الشرف هو الحجاب والعفة والخجل والحياء كما قال تعالى ذالِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ [الأحزاب: 53].
أو يقول لك أحدهم: أنا لا أحجب نسائي، لأني أثق بهن - سبحان الله! - ومن قال لك أيها الذكي جداً أن الحجاب شرع من أجل نوع الثقة من النساء. إن الحجاب ليس الهدف منه تخوين المرأة ، أو نزع الثقة منها ، أو الشك في الأقارب والأصحاب ، أبداً.
إن الهدف الأساسي من الحجاب هو المحافظة على عفة الرجال الذين تقع أبصارهم على النساء لأن بلاء الشباب والرجال والمراهقين ، ناتج عن ما يرونه من تبرج النساء وفسقهن في كل مكان.
إننا كثيراً ما نسير في الطرق العامة والأسواق ، فنرى ما يدمي قلوبنا ويملأها بالحسرة.وإنه ليحق لنا أن نطرح هذا السؤال المهم وهو:لماذا كل هذا التبرج من النساء ، ولمن، إنه ليس للزوج أبداً لأنه إذا كانت هذه المرأة المتبرجة متزوجة، فهل مكان التبرج للزوج هو المنزل، أم السوق أو الشارع؟ هذا إن كانت متزوجة مع أنه من المؤكد أنها لا تتزين لزوجها كما تتزين عندما تخرج إلى الأسواق. هذه إن كانت متزوجة، وإن كانت غير متزوجة فلمن تتبرج، ولمن تتزين، إنه طبعاً للعيون النهمة والذئاب المفترسة، ثم هؤلاء وحدهم هذا التبرج والإغراء. لقد حدد الله - سبحانه وتعالى - لنا من هم الذين يجوز للمرأة أن تكشف زينتها ووجهها أمامهم كما قال تعالى وَقُل لّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ ءابَائِهِنَّ أَوْ ءابَاء بُعُولَتِهِنَّ [النور: 31]. وهو العم والد الزوج أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أو الابن أَوْ أَبْنَاء بُعُولَتِهِنَّ ابن الزوج أَوْ إِخْوَانِهِنَّ الأخ أَوْ بَنِى إِخْوَانِهِنَّ ابن الأخ أَوْ بَنِى أَخَواتِهِنَّ ابن الأخت أَوْ نِسَائِهِنَّ المسلمات أما الكافرات فلا أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ العبد المملوك لها أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِى الإِرْبَةِ مِنَ الرّجَالِ: التابع لأهل البيت من شيخ هرم أصابه الخرف، وعنين، ومعتوه.
أَوِ الطّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُواْ عَلَى عَوْراتِ النّسَاء كالطفل الصغير دون البلوغ ممن لا حاجة له في النساء لعدم الشهوة عنده.
وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُواْ إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ.
هؤلاء فقط هم الذين يجوز للمرأة أن تظهر بزينتها أمامهم، فهل منهم السائق أو الخادم، أو البائع أو الخياط أو الطبيب لغير ضرورة ، هل ذكر هؤلاء في الآية. إن الأمر واضح وضوح الشمس لمن أراد لنفسه النجاة في الدنيا والآخرة .
ترى ما هي أسباب التبرج وانتشاره ، والجواب: إن لذلك أسباباً كثيرة من أهمها الجهل بالله ، وضعف الوازع الديني الذي تسبب في تمرد كثير من النساء على شرع الله وجعلهن يقلدن ويمشين وراء كل ناعق يقول الله وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ. وعندما نزلت هذه الآية قالت أم المؤمنين عائشة: "والله ما رأيت أفضل من نساء الأنصار، أشد تصديقًا لكتاب الله وإيماناً بالتنزيل. فعندما نزلت الآية وتلى رجالهن الآية عليهن ، ما منهن امرأة إلا قامت إلى مرطها فأصبحن يصلين الصبح معتجرات، كأنَّ على رؤوسهن الغربان ، ولكم أن تقارنوا هذا الموقف بما يحدث من بعض نساء اليوم، فهذه لا شيء كالذي يأمرها بالحجاب والستر ، وتلك تدعي أنها متحضرة وأن الحجاب تزمت ، وأخرى تدعي أنها لم تقتنع بالحجاب بعد ، وأخرى تحتج بسلوك بعض المحجبات، وأخرى تقول: المهم الأخلاق. ولا يدرين كيف تكون المتبرجة صاحبة خلق ، إلى غير ذلك من الأعذار التافهة والتي لن تغني عنهن من الله شيئاً يوم يقفن أمامه، لأن الله يقول: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُّبِيناً [الأحزاب: 36].
أما السبب الثاني والثالث والعاشر أيضاً فنحن الرجال، نعم الرجال إن الله سبحانه يقول: الرّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوالِهِمْ [النساء: 34]. ومعنى أن الرجل قيم على المرأة أي هو رئيسها وكبيرها والحاكم عليها ومؤدبها إذا اعوجت ، بدون تسلط أو استبداد. هذه هي الرجولة.
أما الذين يظنون أنفسهم رجالاً وهم يساعدون نساءهم على التبرج فهم أبعد الناس عن صفة الرجولة. إنك تتعجب من أحوال هؤلاء فعندما تخرج نساؤهم، ألا ينظرون إليهن ، ألا يرون كيف يلبسن ، ألا يرون كيف يخرجن! وبعضهن من أهل المساجد وقد تراه ذا صورة وذا هيبة، ثم تفاجأ بأنه يمشي مع زوجته المتبرجة كالقط الأليف.
وقد يُظن أن الحجاب هو بتغطية الوجه فقط، وهذا غير صحيح فبالإضافة إلى تغطية الوجه وحتى لا تكون المرأة متبرجة فيجب أن يكون الحجاب مغطياً لجميع جسد المرأة وأن لا يكون فيه نوع من الزينة أو الزخرفة ، وأن لا يكون شفافاً بل سميكاً ، وأن لا يكون ضيقاً بل واسعاً، وألا يصدر عنه رائحة طيبة وأن لا يكون شبيهاً بملابس الكافرات وألا يكون ثوب شهرة.
فهل هناك من الرجال من يلاحظ هذه الأمور المهمة الآن ، يوجد، ولكن قليل ما هم.
ومما يساعد على انتشار التبرج كثرة خروج النساء لأقل سبب، والسبب في ذلك أيضاً الرجال، تصوروا أن كثيراً من الرجال ترك كل ما يتعلق بالبيع أو الشراء للمرأة ، فتخرج لأقل سبب لوحدها ، لماذا؟ لأن حضرته مشغول حتى صرنا نرى النساء في أسواق الخضار والفاكهة وكأن الرجل لا يعرف كيف يشتري الخضار والفاكهة.
والغريب أن أمثال هؤلاء يسمح لزوجته بالخروج إلى كل مكان، فإذا قالت المرأة: أريد الذهاب إلى المسجد ، ظهرت رجولته فجأة، وقال لها يقول : ((أفضل الصلاة للمرأة في بيتها))، ولو قلت له: هذا حق، ولكن لماذا لا تسمح لها بحضور المحاضرات والدورات والخطب؟ فإنه سيجيبك قائلاً: أنا لا أسمح بخروجها للمسجد منعاً للفتنة. - سبحان الله - إنك تسمح لها بالذهاب إلى الأسواق والحدائق والشوارع ، وقد تكون لوحدها أليست هذه فتنة إنك تحضر لها المجلات السخيفة التي تعامل المرأة معاملة جواري ألف ليلة وليلة بما فيها من الصور الخليعة والعناوين المثيرة (سيدتي ماذا تلبسين في رحلة بحرية) أو تتعلم منها بأن هناك فستاناً لفترة الصباح، وتسريحات لبعد الظهر، وأخرى للسهرة ، أليست هذه فتنة؟
إنك تحضر لها القصص الغرامية والأفلام الخليعة وقنوات البث الفضائية وغيرها من الوسائل التي تساهم في تعليم النساء التبرج والانحلال ، أليست هذه فتنة؟ ثم تأتي بعد ذلك وتقول لها:لا تذهبي إلى المسجد منعاً للفتنة ، وصدق الله وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِى الْحياةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِى قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ [البقرة: 204].
نعم إنه يتكلم بالإسلام وهو أبعد الناس، هذه يا أخوة بعض صورة التبرج وبعض أسبابها (وللعلم فلن ينصلح حال كثير من النساء إلا إذا قام الرجال بدورهم الصحيح في توجيه النساء وتربيتهن) والحقيقة أن أقسام الناس في استيعاب هذا الكلام اليوم ، لا يخرج عن أقسام ثلاثة:
القسم الأول: فهم واتعظ وأخذ وعداً على نفسه بأن يبدأ من الآن في معالجة هذه الظواهر السلبية إن كانت موجودة في منزله وبين أهله. ويحرص على أن ينتفع بما سمعه وعلمه، وهو ظننا بكم إن شاء الله، أنكم من هذا القسم.
أما القسم الثاني: قسم يسمع الكلام ويفهم، ولكنه لا يزيد على أن يقول: نسأل الله السلامة، ثم يهز رأسه، ويقول: الله لا تبتلينا ثم لا يزيد على هذا شيئاً ، لا يفتش في أحواله لا يتأكد من وضع أبنائه وبناته ، وأنا أريد أن قول شيئاً: إذا كنت تقول (الله لا يبتلينا) ثم لا تفعل شيئاً، وأنا أقول نفس الكلام ولا أفعل شيئاً، والآخر يقول نفس الشيء ولا يفعل شيئاً، فإذا كان هذا موقفنا فما هو الذي يحدث الآن في الأسواق والشوارع؟ من أين أتين هؤلاء النسوة؟ من المريخ أم من القمر؟ ألسن قد خرجن من منازلنا وبيوتنا، فهذا المجتمع يتكون مني ومنك ومن الآخرين فإذا صار الكل يتبرأ ويرمي بالخطأ على غيره، فأين هو المخطئ؟ إذن لهذا من كان منكم من هذا النوع فليراجع حساباته من جديد.
وهناك قسم ثالث أعاذني الله وإياكم أن نكون منهم وهم صنف من الرجال والنساء لا يحلون حلالاً ولا يحرمون حراماً ، ويزعمون أنما هي حياتهم الدنيا فقط وينكرون القيم والمبادئ الدينية بل ويصدون عن سبيل الله ولن يزيدهم كلامي هذا إلا عناداً وفسوقًا، بل سيخرجون من المسجد كما أتوا لأنه لا يفيد الكلام معهم شيئاً وأقول لهذا الصنف الذي لا ينفع معه الكلام. أنه ما عليهم سوى الانتظار زمناً قد لا يكون كبيراً ، حتى يوضعوا في أول منازل الآخرة وهو القبر حيث يرون ما لم يروه قط ويلاقون ما وعدهم ربهم حقاً. يقول تعالى وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مّنَ الْجِنّ وَالإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ ءاذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالانْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ [الأعراف: 179].
ويقول وَيْلٌ لّكُلّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يَسْمَعُ ءايَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا فَبَشّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [الجاثية: 7، 8].
فهل يتنبه هؤلاء، هذا ما نرجوه ونتمناه
ــــــــــــــــــــ(67/142)
الاختلاط
...
...
1858
...
الأسرة والمجتمع
...
...
المرأة
...
صالح الجبري
...
...
الطائف
...
...
...
جامع الحمودي
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- قصة موسى مع الفتاتين المدينيتين.2- احصاءات عن الغرب تنبئ بقرب انهياره.3- خروج المرأة للعمل.4- الخلوة بين النساء والرجال.5- حياء المرأة حين مخاطبة الرجال.6- التحذير من الاختلاط بين الأقارب.
الخطبة الأولى
أما بعد :
لنعلم جميعاً أن الخير كل الخير في الأخذ بهذا الدين العظيم والعمل به في كل جوانب الحياة، صغيرها وكبيرها كما يريد الله سبحانه وتعالى. وبالمقابل فإن الشر كل الشر ، والخطر كل الخطر ، والضياع والخسران هو في البعد عنه وتركه ، أو العمل ببعضه وترك بعضه ، لأن هذه صفات مذمومة ، وأهلها ممقوتون عند الله ، لأنه لا ينبغي للمسلم بأن يطيع الله فقط في الصلاة والزكاة والحج والعمرة والصيام ، بينما يعصيه في الأمور الأخرى التي تتعلق بالحياة. كالذي نراه من بعض الناس ومن أناسٍ يصلون ويصومون ويحجون ويزكون ، نراهم قد لا يطبقون أوامر الحجاب وعدم الاختلاط والتي أمر بها رب العالمين، ويتحايلون ويخضعون للعادات والتقاليد التي تسيرهم، وتتحكم فيهم. إن مثل هذا التصرف قد بين الله الحكم فيه بقوله أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذالِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْىٌ فِي الْحياةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدّ الّعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الْحياةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ [البقرة: 85، 86].
لهذا فالمطلوب منا هو الأخذ بالإسلام كله وليس لنا خيار في ذلك. قال تعالى يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السّلْمِ كَافَّةً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُواتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ [البقرة: 208].
ومن الأمور التي حذر الإسلام منها ونبه القرآن عليها: هذه المشكلة العظيمة. مشكلة الاختلاط التي تعاني منها الكثير من المجتمعات الإسلامية. هذه المشكلة تحدث عنها القرآن ونبه عليها، ولكن لأن الكثير من المسلمين لا يقرؤون القرآن، وإذا قرؤوه فإنهم لا يفهمونه ، لهذا فإنّهم تهاونوا في هذا الأمر حتى وقع المحذور ، وتكشف المستور.
قال تعالى : وَلَمَّا وَرَدَ مَاء مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأَتَينِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لاَ نَسْقِى حَتَّى يُصْدِرَ الرّعَاء وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظّلّ فَقَالَ رَبّ إِنّى لِمَا أَنزَلْتَ إِلَىَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ فَجَاءتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِى عَلَى اسْتِحْيَاء قَالَتْ إِنَّ أَبِى يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لاَ تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ[القصص: 23 ـ 25].
والمعنى فإن قصة الاختلاط مذكورة في هذه الآيات. فعندما خرج موسى عليه السلام من مصر وذهب إلى بلاد مدين حتى وصل إلى بئرها ، وجد جماعة كبيرة من الناس يسقون أنعامهم ومواشيهم ، ووجد امرأتين تذودان:أي تمنعان ماشيتها من الاختلاط بمواشي الناس فسألهما مَا خَطْبُكُمَا فأجابتاه: لاَ نَسْقِى حَتَّى يُصْدِرَ الرّعَاء :أي لضعفنا وعدم رغبتنا في الاختلاط فنحن ننتظر الرجال حتى ينتهوا ثم نسقي مواشينا.
تفكروا في هذا الموقف أيها الأخوة وقارنوه بما يحدث في هذه الأيام. ونحن لا نقصد بهذا الكلام الغرب فقط، لأن الغرب منحدر إلى هاوية لا يعلمها إلا الله نتيجة للاختلاط في بلد كبريطانيا. مثلاً فهناك حالة طلاق من كل حالتي زواج. وتقول الاحصاءات أن هناك 8 ملايين عانس. وجميعهن تقريباً يمارسن الزنا. ويستعملن وسائل منع الحمل ، ورغم هذا فقد أجريت في سنة واحدة فقط مائة وعشرون ألف حالة إجهاض ، نصفهن تقريباً دون العشرين ، ولا يزال العدد في ارتفاع.
أما بالنسبة للعالم الإسلامي فلا يخفى عليكم الحوادث التي تتحدث عن الغرام والحب الذي وقع نتيجة للاختلاط بل وحتى الجرائم. ولنأخذ مثالاً على ذلك مثلاً قيادة المرأة للسيارة في بلد عربي مجاور، تقول إحدى الصحف عن شكاوى الفتيات، إن إحداهن تقول: طاردني الشباب بسيارتهم حتى اصطدمت بسيارتي، ومكثت بعدها ثلاثة شهور في الفراش. وأخرى استعانت بأخيها ليحميها من المعاكسين.
أما الشباب فإنهم يعترفون بذلك ويقولون: هذه متعة لا حدَّ لها. وآخر يقول:أطارد الفتيات فأشعر أني في أوربا.
وتقول إحداهن:طاردني الشباب وصدموا سيارتي ونقلوني إلى المستشفى. وأخرى تقول:لم أستجب للمعاكسة وركوب السيارة فضربوني. وهكذا فهل نعتبر بما يحدث؟
لهذا يا أخوة أوضحت المرأتان لموسى عليه السلام أنهما لا تريدان الاختلاط بالرجال حتى لا تتعرضا للإغراءات والفتن.
ومن الآيات السابقة:يتضح لنا أن المرأتين خرجتا للعمل في السقيا ، ولكن خروجهما كان للضرورة لهذا قالت: وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ.
إذن يتضح لنا أن مسألة خروج المرأة للعمل؟ هي مسألة اضطرارية، وليس كما يحدث الآن: في كثير من البلاد الإسلامية صار النساء يخرجن للعمل بحاجة وبدون حاجة ، والنتيجة أن البطالة قد انتشرت بين الرجال ، الذين احتلت النساء أماكنهم فهل هذا معقول:ثم إننا نجد كثيراً من الموظفات يخرجن للعمل ، من أجل الصرف على اقتناء الكماليات ، وشراء الحلي والملابس وغيرها، بل من أجل ذلك يضحين بمنازلهن وبرعاية أزواجهن وأبنائهن. ويتركن للخادمات تربية جيل مهزوز منحرف.
إذن ما الحل. الحل ، هو كما قال الله سبحانه وتعالى الذي حدد العمل الإسلامي للمرأة وهو الاهتمام بشؤون بيتها وتربية أبنائها وذلك في قوله وَقَرْنَ فِى بُيُوتِكُنَّ [الأحزاب: 33] البيت هو مملكة الزوجة ولو اهتمت الزوجة ببيتها لما وجدت وقتاً لشيء آخر. وإن احتاجت المرأة للعمل فعليها أن تلتزم بشرع الله وبالحجاب وأن تبتعد عن الاختلاط وأن لا يؤثر عملها على مهمتها الأساسية في المنزل. وأن يكون العمل في أصله مباحاً كالتدريس والطب للنساء فقط ، والخدمة الاجتماعية والعمل الخيري للنساء.
أما إدارية ، أو سكرتيرة:فإن النتيجة هي كالتالي " في إحدى الجامعات الأمريكية أقرَّ أكثر من 70 من الموظفات بأنهن تعرضن لاعتداءات جنسية. وفي هيئة دولية هامة اعترفت 50 من السكرتيرات أنهن يتعرضن للاعتداءات الجنسية فمن يريد أن يصل إلى مثل هذه البهيمية.
ومن الآيات السابقة يتضح لنا أيضاً:أن موسى عليه السلام سقى لهما بنفسه ولم يتركهما تسقيان. إشارة إلى أن الرجل الفاضل عليه أن يقدم المساعدة والمعاونة للمرأة التي تضطر للعمل بحكم الضرورة قال تعالى : فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظّلّ فَقَالَ رَبّ إِنّى لِمَا أَنزَلْتَ إِلَىَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ. سقى لهما ثم جلس في الظل ودعا الله ، لأنه لم يؤد المعروف لحاجة في نفسه ، أو لحاجة جنسية كما يحدث في هذا العصر ، عصر الابتزاز الجنسي للمرأة العاملة.
تقول إحدى الدارسات الحاصلات على الدكتوراه في إحدى الجامعات أن رئيسها المباشر في الجامعة ابتدأ في معاكستها وهي لا تستطيع أن ترفض طلبه لأن مستقبلها الدراسي في يده. وهي لا يمكنها أن تضحي بمستقبلها فرضخت وتقول: ولولا رضوخي لما كانت هناك امرأة في هذه الدرجة العلمية، وهذا الابتزاز الجنسي نجده في كل مكان.فمن قبلته لها العلاوات والترقيات. ومن ترفضه فالخصم من راتبها واتهامها بالتقصير حتى تضطر في النهاية إلى الاستقالة من عملها ، لهذا فأين للمرأة العاملة في هذا العصر من أمثال موسى يعاملها بشرف وشهامة وهي تعيش في جحيم الاختلاط بالرجال.
وتلاحظ في الآيات وجود امرأتين (وأخبر الله عن ذلك للإشارة بأن المرأة إذا اضطرت إلى الخروج للعمل فإن عليها بعد اتخاذها الاحتياطات اللازمة ، عليها أن تسند نفسها بامرأة أخرى تجنباً للشبهة وحماية من الاغراءات.
أما أن تختلي المرأة برجل من الرجال أياً كان، فهذا لن يكون بعده إلا الدمار ، لأن الرسول قال: ((ما خلا رجل بامرأة إلا وكان الشيطان ثالثهما)).
وقد اعترفت بذلك إحدى طبيبات الغرب إذ قالت: إني أعتقد أنه ليس في الإمكان قيام علاقة بريئة من الشهوة بين رجل وامرأة ينفرد أحدهما بالآخر أوقاتاً طويلة، وكنت أسأل بعضهن ممن يتمتعن بالذكاء كيف أمكن أن يحدث ذلك ، أي الوقوع في الفاحشة فكانت الفتاة تجيب وتقول: لم أستطع أن أضبط نفسي.
لهذا فالحذر الحذر من الخلوة بالنساء ولو حتى من الأقارب أو الخدم والسائقين بالنسبة للنساء ، ولا ندري أين نحن من قوله تعالى وَرَاوَدَتْهُ الَّتِى هُوَ فِى بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الاْبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ [يوسف: 23]. فكيف يسمح بعض الذكور لنسائهم وبناتهم بالخلوة بالسائق أو الخادم. أين عقولهم؟ أين شرفهم؟ وأين شهامتهم؟ كذلك كيف يسمح بعض الرجال لأنفسهم بالخلوة بالخادمات والجلوس معهن؟ وكم سمعنا من حكايات غريبة في هذا المجال. نسأل الله السلامة والعافية.
ونلاحظ أيضاً : في الآيات السابقة أن الله يقول : فَجَاءتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِى عَلَى اسْتِحْيَاء [القصص: 25] لأنها تربت على الحياء لم تتكشف ولم تتبرج بل قالت له بحزم قَالَتْ إِنَّ أَبِى يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا. هكذا مباشرة قالت له المطلوب ، وبدون كثرة كلام. وقارنوا هذا بالذي يحدث من بعض النساء في عصرنا الحاضر. من حب الكلام الكثير مع الرجال : مع ما يصاحب هذا الكلام من تكسر وميوعة سواءً مع الأقارب أو مع الأصدقاء، وسواءً بشكل مباشر أو عن طريق الهاتف. رغم أنهن يعرفن قول الله سبحانه وتعالى فَلاَ تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِى فِى قَلْبِهِ مَرَضٌ [الأحزاب: 32]. وكم من رجل وقع ضحية كلمة مائعة أو ضحكة فاجرة سمعها من أمثال هؤلاء النساء. إذن على المرأة عندما تخاطب الرجال. فإن عليها أن تخاطبهم بجدية لا تصل إلى التشبه بالرجال ولا بميوعة وتكسر قد يفهم البعض منها أنها تقصد شيئاً ما. وعليها أن تتكلم بقدر الحاجة بدون زيادة أو نقصان. تماماً فهل تعي المرأة ذلك، نرجو ذلك ونتمناه.
إذا كان الغرب الكافر قد ولغ كثيراً في الانحراف نتيجة للاختلاط والتبرج. فإننا نجد كثيراً من المسلمين قد بدأوا ينحدرون أيضاً. ويقلدونهم. ويساعدهم في هذا الدعوة المتكررة لمشاهدة المسلسلات والأفلام والمسرحيات التي لا هم لها إلا التعليم بأسلوب خفي ، تعليمهم كيف ينحرفون. والطريف أننا صرنا نسمع البعض يقول:إن الأفلام والمسلسلات قد أفادتهم كثيراً ، ووسعت خبرتهم بالحياة.
وهي فعلاً قد وسعت خبرتهم ، في كل ما يؤدي إلى فسادهم وتحللهم من أخلاقهم.وإلا فمن أين تعلم الناس السماح للخاطب بالمصاحبة والمخالطة التي تجر إلى الخلوة ، ثم إلى ما لا يحمد عقباه ، بحجة التعارف ودراسة أخلاق بعضهم بعضاً. كيف حصل ذلك، والدين كما قال : ((لا يخلون رجل بامرأة إلا ومعها ذو محرم)).
وكيف صرنا نسمع عن البعض الذي يسمح لأمه أو أخته أو زوجته بمجالسة أصدقائه واستقبالهم. بل وحتى مصافحتهم.رغم أن الرسول يقول: ((لأن يطعن في رأس أحدكم بمخيط من حديد خير له من أن يمس امرأة لا تحل له)).
ولماذا صار البعض يتهاون في شأن اختلاط الذكور والإناث في المضاجع ، ولو كانوا إخوة ، رغم أن الرسول يقول: ((مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين ، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر وفرقوا بينهم في المضاجع)). فلماذا يحدث هذا.
وكيف يسمح البعض لبناتهم بحضور حفلات أعراس يدخل فيها العريس مع عروسته إلى داخل مكان فيه نساء أجنبيات وبكامل زينتهن.وقد يكون معه أقرباؤه. وقد يصور الحفل عن طريق الفيديو ، وقد ينشر الشريط بين الناس كما حدث من قبل.
ورغم هذا فبعضهم يعتبر الأمر عادياً جداً وقد يقول: هذا الأمر لا شيء فيه. لا شيء فيه.
والنبي يقول: ((إن الله يغار، وإن المؤمن يغار)) فأين الغيرة؟ شيء يؤسف ما يحدث في هذه الأيام بل إن الأمر وصل بالبعض إلى أنهم يتركون نساءهم يذهبن إلى الأطباء والباعة والخياطين ومن غير محرم ، وقد يحدث ما لا يحمد عقباه ، ووصل الأمر بالبعض إلى أن بعض الأسر يخرجون للنزهة نساءً ورجالاً ، وكأنهم أسرة واحدة ليس بينها حجاب أو ستر. وقد تسمح المرأة من هؤلاء ، للرجل الأجنبي أن يراقصها في الحفلات وغيرها على مرأى ومسمع من زوجها الخبيث الذي لا يبالي بذلك.
فمن أين تعلم الناس هذه الأمور الخطيرة. من الأفلام والمسلسلات: فهل نحن منتهون عنها.
أيضاً بالنسبة للسفر (كيف أصبح البعض يسمحون للمرأة أن تسافر وحدها، ومن أجل ماذا؟ من أجل النزهة ، وإذا كان الحج وهو ركن من أركان الإسلام لابد فيه من محرم. كما أخبر بذلك عند أمر الرجل الذي خرج للجهاد. وكانت امرأته تستعد للذهاب إلى الحج ، فأمره أن يترك الجهاد ويلحق بزوجته.
ثم ماذا عن اختلاط العوائل رجالاً ونساءً، وأحياناً بحكم القرابة خاصة من أقرباء الزوجة أو حتى الزوج كأخيه وابن عمه أليس ذلك حراماً. بل إنه في حق هؤلاء أشد، لما روى عقبة بن عامر أن رسول الله قال: ((إياكم والدخول على النساء فقال:رجل من الأنصار أفرأيت الحمو قال:الحمو الموت))، متفق عليه ، والحمو هو قريب الزوج.وذلك لأن التهمة في الغالب بعيدة عنه ، فهذا مما ينبغي الحذر منه.
هذه بعض صور الاختلاط الموجودة في كثير من المجتمعات المسلمة والتي تزيد يوماً بعد يوم ونقول لمن وقع في هذا الأمر: يا عباد الله لنكن مسلمين حقيقيين ولنطبق أحكام الإسلام في حياتنا كلها وبدون استثناء. ولنحذر من الاختلاط بأنواعه وأشكاله. ولنحذر أن نغتر بأحوال بعض الناس ووقوعهم في هذا البلاء الخطير. فمتابعة الناس في مثل هذه المعاصي أمرٌ خطير. لأن الرسول : ((لا يكن أحدكم إمعة ، إن أحسن الناس أحسن، وإن أساؤوا أساء، ولكن ليوطن نفسه على أن يحسن إذا أحسنوا. وعلى أن يمسك عن الإساءة إذا أساؤوا)). نسأل الله أن يصلح البلاد والعباد .
اللهم انا نعوذ بك من التبرج والاختلاط. ومن كل ما يغضب
ــــــــــــــــــــ(67/143)
الأسرة في الإسلام ـ أحكام المولود ـ
...
...
1899
...
الأسرة والمجتمع
...
...
الأبناء
...
سعيد بن يوسف شعلان
...
...
جدة
...
...
...
عمار بن ياسر
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1 ـ التهنئة بالمولود ذكرًا كان أم أنثى. 2 ـ حكم الأذان والإقامة في أذن المولود. 3 ـ التحنيك بعد الولادة. 4 ـ العقيقة عن الغلام والجارية وأحكامها. 5 ـ حلق رأس المولود
الخطبة الأولى
أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، أما بعد:
فما زلنا مع بعض الأحكام المتعلقة بالأولاد في الإسلام، والتي يلزم المسؤلان عن الأسرة المسلمة ـ أي الأب والأم ـ العلم بها ليقوما بتربية أبنائهم على ضوء منها، وليحسن إعدادهم لدورهم المنتظر منهم، واستكمالاً لما مضى من الكلام على البشارة بالمولود أقول:
كان الناس في الجاهلية يهنئون بولادة الذكر وبوفاة الأنثى دون ولادتها، وكانوا يقولون للزوج عند بناءه بزوجه: (بالرفاء والبنين) أي يدعون له بالالتحام والاتفاق، وبأن يُرزق البنين دون البنات، فيُهنئون بالبنين دون البنات، وقد تقدم ذكر قول الله تعالى في سورة النحل وفي سورة الزخرف إنكارًا على هؤلاء الذين كانوا يستبشرون بالذكر، وتسود وجوههم إذا بشروا بالأنثى، قال الله تعالى: وَإِذَا بُشّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّا وَهُوَ كَظِيمٌ يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوء مَا بُشّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِى التُّرَابِ أَلاَ سَآء مَا يَحْكُمُونَ .
وندب رسول الله المسلمين إلى أن يقولوا بدلاً من "بالرفاء والبنين" تلك التهنئة الجاهلية ندبهم إلى أن يقولوا: ((بارك الله لكما وبارك عليكما وجمع بينكما في خير)).
هكذا يُدعى للزوج.
وأما عن البشارة بالمولود فذلك يكون في حينه عندما يولد له فيبُشر سواء ولد له ذكر أو أثنى، ولهذا ذكر ابن المنذر عن الحسن البصري رحمه الله تعالى أن رجلاً هنأ رجلاً جالسًا عنده بالمولود الذكر فقال له: هنيئًا لك بالفارس أو كلمة نحوها. وعندها ظن الحسن البصري رحمه الله أن في الرجل بقية وآثارًا من الجاهلين ولهذا استعمل هذه التهنئة المبالغ فيها، فقال له، عندها خشية من الذين يهنئون بالذكر ويبالغون في ذلك ولا يهنئون بالأنثى، فقال له الحسن: "وما يدريك فارس هو أو حمار؟ فقال له: فكيف نقول؟ قال: قولوا: بورك في الموهوب، وشكرت الواهب، وبلغ أشده، ورُزقت بره" هذا هو آخر ما يتعلق بالبشارة بالمولود، ويبشر من ولد له بالولد الذكر أو الأنثى على السواء، ثم اعلموا أيها الأخوة الكرام رحمكم الله:
أنه يستحب التأذين في أذن الصبي اليمنى عند ولادته وقد جاء في ذلك حديث صحيح أذكره بعد قليل، وأما الإقامة فقد ورد فيها حديثان ضعيفان، فحديث الأذان هو القوي وهو الصحيح، وقد أخرجه أبو داود والترمذي، وقال الترمذي: "حديث صحيح" عن أبي رافع رضي الله عنه قال: (رأيت رسول الله أذن في أُذن الحسن بن علي حين ولدته فاطمة).
وقال ابن القيم رحمه الله تعالى عن التأذين وحكمته وسره قال:
"وسر التأذين والله أعلم أن يكون أول ما يقرع سمع الإنسان كلماته (أي كلمات الأذان) لا الطبول ولا الغناء ولا الموسيقى ولا الزغاريد ولا نحو ذلك من الأساليب التي اعتادها المسلمون في أعصارهم الأخيرة، التي طال العهد بينها وبين الصدر الأول خير القرون قرن رسول الله والقرنين اللذين بعده.
وسر التأذين والله أعلم أن يكون أول ما يقرع سمع الإنسان كلماته المتضمنة لكبرياء الرب (الله أكبر الله أكبر) وعظمته، والشهادة التي أول ما يُدخل بها في الإسلام، فكان ذلك كالتلقين له شعار الإسلام عند دخوله إلى الدنيا، كما يُلقن كلمة التوحيد عند خروجه منها، فكما هو من المسنون من رسول الله أن يُلقن المحتضر كلمة لا إله إلا الله عند خروجه من الدنيا لتكون كلمة الشهادة آخر ما يتوفى عليه المرء. فكذلك يُلقنها المولود عند دخوله إلى هذه الدنيا".
ثم يقول رحمه الله: "وغير مستنكر وصول أثر التأذين إلى قلبه وتأثره به وإن لم يشعر، لا يستنكر أن يصل أثر التأذين إلى قلب ذلك الصبي وأن يتأثر بذلك وإن لم يعرف ولم يدرك معنى ما يُصنع به ويُفعل به، مع ما في ذلك من فائدة أخرى، وهي هروب الشيطان من كلمات الأذان، وهو كان يرصده حتى يولد فيقارنه (كان الشيطان ينتظره حتى يولد ليقارنه) للمحنة التي قدرها الله وشاءها (من خروج الأبوين وهبوطهما من الجنة إلى الأرض، وإنظار إبليس إلى يوم القيامة، وهو الذي حلف ليجتهدن في إضلال بني آدم، إلا عباد الله المخلصين، فينتظر الشيطان المولود ليقارنه) فيسمع شيطانه ما يضعفه ويغيظه، (وهو الأذان) أول تعلقه به وفيه معنى آخر (أي في التأذين معنى آخر وما زال الكلام لابن القيم رحمه الله) وهو أن تكون دعوته إلى الله وإلى دين الإسلام وإلى عبادته سابقة على دعوة الشيطان (يؤذن في أذنه حتى يُدعى فورًا إلى الله الأكبر وأنه لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله يدعى إلى ذلك قبل أن يدعوه الشيطان ليكون من جنده وأحزابه وأولياءه). كما كانت فطرة الله التي فطر الناس عليها سابقة على تغيير الشيطان لها، ونقله عنها ولغير ذلك من الحكم".
ثم يستحب تحنيك الصبي وذلك أيضًا في لحظاته الأولى قبل أن ينزل إلى جوفه شيء يستحب أن يتولى من يُعرف بالصلاح مضغ تمرة في فمه ثم يضعها في فم الصبي ويديرها فيه ليكون ريقه أول ما يخالط ريق هذا الصبي[1] وذلك لما جاء في الصحيحين من حديث أبي موسى رضي الله عنه قال: وُلد لي غلام فأتيته النبي فسمّاه إبراهيم وحنّكه بتمرة. زاد البخاري رحمه الله: "ودعا له ودفعه إلي" وكان أكبر ولد أبي موسى رضي الله عنه.
ولما جاء في الصحيحين من حديث أنس ابن مالك في قصة الولد عبد الله بن أبي طلحة أخي أنس ابن مالك لأمه أم سليم، هذا الولد الذي حملت به أمه في ليلة مات لها فيها ولدٌ كان مريضًا وكان صغيرًا، وهو الطفل الذي كان رسول الله عليه وسلم يداعبه، ويقول له: أبا عمير، ما فعل النُفير؟ كان هذا الطفل يلعب بطائر يقال له النُفير وكان رسول الله الرحيم الرقيق اللطيف إذا مَرّ بذلك الطفل يداعبه ويلاطفه ويقول له: أبا عمير ما فعل النُغير؟ ثم توفي هذا الولد، وفي الليلة التي مات فيها لم يكن أبوه موجودًا فلما عاد سأل عنه فعرضّت أم سليم ـ لم تُجب صراحة ولكن عرّضت وفي المعاريض مجال وبديل عن الكذب، يقال كلام ويُحمل على أكثر من معنى فيكون صاحبه وقائله صادقًا ـ قال لها: كيف حال الغلام؟ فقالت له: هو أسكن ما يكون الآن. وأرجو أن يكون قد استراح (إلى آخر ما جاء من الروايات في الكلام الذي عَرّضت به) ثم هيأت له نفسها فجامعها. ثم قالت له بعد ذلك: وارِ الغلام: أي ادفنه. فذهب إلى رسول الله وقص عليه الخبر فدعا له النبي بأن يبارك الله لهما في ليلتهما، فولد له من هذه الليلة التي قدر فيها هذا المولود، ولد منها عبد الله هذا الولد الصغير الذي ثبت أن رسول الله حنكه بتمرة ودعا له وهو الذي كان قد دعا له قبل أن يخرج إلى الدنيا في ليلة قدره الله تعالى حملاً. ودعا له بعد خروجه إلى الدنيا، قال الرواة: فرؤيَ له تسعة من الأولاد كلهم يحفظون كتاب الله القرآن الكريم لعبد الله هذا المولود الذي عوض الله به أبويه عن أبي عمير الطفل الذي مات.
والشاهد أن رسول الله حنكه عند ولادته بتمرات، وكذلك روى أبو أسامة عن هشام بن عروة عن أبيه عن أسماء رضي الله عنها أنها حملت بعبد الله بن الزبير في مكة وولدته في قباء فجاءت به إلى الرسول في المدينة، ووضعته في حجره فتفل رسول الله في فيه وحنكه بتمرة، وهذا هو الذي يعم الجميع[2] وأما التفل بفعل رسول الله لا ينبغي أن يتفل أحد بعده في فم أحد أو على رأس أحد أو في وجه أحد احتجاجًا بفعل رسول الله فهذه خصوصيات له عليه الصلاة والسلام لا تتأتى لغيره، أمّا التحنيك فهو ثابتٌ للجميع. حنكه رسول الله بتمرة ودعا له بالبركة، فرح المهاجرون بعبد الله فرحًا شديدًا لأنه كان أول مولود يولد للمهاجرين في المدينة وكان قد قيل لهم: إن اليهود قد سحرتكم فلا يولد لكم، فلما ولد لهم هذا المولود استبشروا خيرًا وفرحوا به فرحًا شديدًا.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
[1] والصحيح أن التبرك بالريق من خصوصيات النبي ، ولا يشاركه فيها أحد مهما بلغت درجة صلاحه، لكن لو فعل ذلك بقصد تليين التمر كما تفعله الأم لولدها إذا أرادت أن تطعمه فهو أمر آخر ليس من هذا الباب ولا شك في جوازه (المنبر).
[2] انظر التعليق السابق.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله خاتم الأنبياء وإمام المرسلين، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك نبينا وإمامنا وقدوتنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد:
ويستحب أيها الأخوة الكرام أن يُعق عن المولود يوم سابعه بشاتين إن كان ذكرًا وبشاة إن كانت أُنثى لما قال الإمام مالك رحمه الله تعالى: وهذا الأمر الذي لا خلاف فيه عندنا. أمر العقيقة لا خلاف فيه عندنا في المدينة.
وقال يحيى بن سعيد الأنصاري رحمه الله:" أدركت الناس وما يدعون العقيقة عن الغلام والجارية، وهذا هو قول أئمة أهل الحديث قاطبة وفقهاءهم وجمهور أهل السنة، وإليه ذهب الإمام مالك والشافعي وأحمد وإسحاق فثبتت بذلك السنة، وإذا ثبتت السنة وجب القول بها بما أخرجه الإمام البخاري عن سلمان بن عامر الضبي رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((مع الغلام عقيقة فأهريقوا عنه دمًا واميطوا عنه الأذى)).
وقد جاء أنه صلى الله عليه وسلم كره تسميتها بالعقيقة في بعض الآثار. قال: ((لا أحب العقوق)). وإذا استبدلت بكلمة نسيكه كان أفضل إعمالاً لهذه الآثار.
((فأهريقوا عنه دمًا)) أي ذبيحة ـ نسيكه، ((وأميطوا عنه الأذى)) يفسر ذلك بحلق شعر رأسه يوم سابعه كما سيأتي ثم أخرج أهل السنن كلهم عن سمرة ابن جندب، وقال الترمذي حسن صحيح قال: قال رسول الله : ((كل غلام رهينة بعقيقته تذبح عنه يوم سابعه ويسمى فيه ويحلق رأسه)) رهينة بعقيقته أي حبيس الشيطان، وحبيس الشيطان لكي يفك أسره ولكي لا يستولى عليه الشيطان ينبغي أن يتقرب إلى الله سبحانه وتعالى بدم يذبح عنه قربانًا وشكرانًا على هذه النعمة المتجددة وفداءً من أسر الشيطان واستيلاءه، وصدقة على الفقراء والمساكين مع ما يقدم للأصحاب والأهل والأقارب في حضور الدعوة للعقيقة، وما في ذلك من إطعام الطعام الذي هو علامة المسرات .
((رهينه بعقيقته تذبح عنه يوم سابعه)) في اليوم السابع من ولادته فإن لم يستطع فيتحرى كل أسبوع يتم على ولادته فيه إن تيسر الأمر.
وجاء عن عائشة رضي الله عنها: "أنه إن لم يكن في الأسبوع الأول ففي الثاني فإن لم يكن ففي الثالث".
وقال بعض العلماء: "بل يكون في أي أسبوع من ولادته عندما يتيسر المال الذي يشتري به ما يذبح للمولود ذكرًا كان أو أنثى تذبح عنه يوم سابعه، ويُسمى فيه ويُحلق رأسه".
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله ((عن الغلام شاتان متكافأتان وعن الجارية شاة)) عن الجارية ـ يعني عن الأنثى يقال عنها الجارية. أخرجه أحمد والترمذي. وقال الترمذي: حديث صحيح.
وفي رواية أخرى أخرجها الإمام أحمد عن عائشة رضي الله عنها قالت: ((أمرنا رسول الله أن نعق عن الجارية شاة وعن الغلام شاتين.
وعن أم كُرز الكعبية رضي الله عنها أنها سألت رسول الله عن العقيقة فقال: ((عن الغلام شاتين وعن الأنثى واحدة ولا يضركم ذكرانًا كن أو إناثًا)) أي لا يضركم أن يكون المذبوح ذكرًا أو أنثى ليس هذا بمشترط ولا مهم.
والوقت الذي يستحب فيه العق قد تقدم الكلام عنه منذ قليل، ولا يصح الاشتراك في العقيقة. فلا يذبح بعير مثلاً عن سبعة من الأولاد كما يكون في الأضحية فإنه بكل عضو من الذبيحة يفتدي عضو من المولود من أثر الشيطان واستيلاءه عليه، لهذا وجب تخصيصه بذبيحة لا يُشترك فيها، والذبيحة خير من الصدقة بثمنها ولو زاد الثمن على ثمن الذبيحة لما عرفتم من أثر الذبح في التخلص من أثر الشيطان على الأولاد.
ثم إنه يستحب كذلك أن يدُعى إليها الجيران والأهل والأحباب، ويتصدق بشيء منها على الفقراء ويقال عند ذبحها ما جاء عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله قال: ((بسم الله اللهم لك وإليك هذه عقيقة فلان ابن فلان)) ومن ذبح سابقًا ولم يقل ذلك يكفيه النية في أنها عقيقة عن فلان هذا.
هذا بعض ما تيسر من أحكام العقيقة وهي كثير، والكلام عليها كثير ومُتشعب غاية التشعب. ثم إنه يُسن حلق رأس الصبي يوم سابعه أيضًا، وهذا هو المراد بقوله في حديث سلمان ابن عامر في البخاري ((وأميطوا عنه الأذى)) وهو صريح في حديث سمرة ((ويحلق رأسه)) وذلك لما فيه من الأثر الطيب على مسام الرأس، وخروج الأبخرة من الدماغ، وتقوية بصره وسمعه وشمه وظاهر هذا أنه لا فرق بين الذكر والأنثى لعموم هذه الفوائد في حق الجميع، وأما ما قاله بعض أهل العلم من التفريق بينهما فإنهم ذهبوا إلى أن الأنثى ترفل في الزينة وتنشأ في الزينة ومن تمام زينتها أن يترك شعرها. لكن الظاهر أن يسوى بينها وبين الذكر لهذه الفوائد المعلومة في حلاقة الرأس. وإلى هنا أتوقف عن ذكر بعض الأحكام الخاصة بالأولاد وعلى أمل اللقاء في جمعة قادمة لاستكمال ما بقى منها، وأهم ما ينتظره الجميع من الكلام على الأولاد وهو تربيتهم وكيفية هذه التربية والاعتناء بهم، فسوف يأتي بعد قليل إن شاء الله وقدَّر، ربما بعد جمعتين على الأكثر، وإنما أردت أن أذكر هذه الأحكام ولو بشيء من الاختصار لبيان العناية التي حظي بها المولود في الإسلام، ومن خلال ذكر هذه الأحكام يتبين لكم، كيف اعُتني بهذا الطفل وبهذا المولود من أول أيامه. بل منذ اللحظة الأولى التي يُرجى فيها وجوده عندما أوصى الإسلام بضرورة الاعتناء بالرجل الذي يزوج من مولياتنا وبناتنا وضرورة الاعتناء بالمرأة التي يختارها الرجل، كل هذا من الأسباب الممهدة للأولاد لكي يكونوا على أحسن حال، وأحسن وجه يؤهلهم للقيام بدورهم في عبودية الله تعالى والدعوة إليه والقيام بشريعته على الوجه الذي أمر به سبحانه، وأرشدت إليه الرسل والأنبياء، وأرشد عليه خاتمهم رسولنا وإمامنا محمد صلى الله عليه وسلم.
ــــــــــــــــــــ(67/144)
...
الأسرة في الإسلام ـ الختان ـ
...
...
1900
...
الأسرة والمجتمع
...
...
الأبناء
...
سعيد بن يوسف شعلان
...
...
جدة
...
...
...
عمار بن ياسر
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1 ـ معنى الختان ومقداره. 2 ـ أول من اختتن إبراهيم. 3 ـ خصال الفطرة. 4 ـ حكم الختان. 5 ـ المقدار الذي يقطع في الختان. 6 ـ متى يسقط الختان. 7 ـ يبعث الناس يوم القيامة غرلاً. 8 ـ كثرة وفيات حوادث السيارات.
الخطبة الأولى
أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله تبارك وتعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، أما بعد:
فهذا حكم آخر نضيفه إلى ما تقدم من أحكام الأولاد في الإسلام، هو حكم ختان المولود، وأتكلم عليه في اثنتي عشرة نقطة:
أولاً: في معنى الختان واشتقاقه ومسمّاه.
ثانيًا: في ختان إبراهيم الخليل والأنبياء من بعده عليهم صلوات الله وسلامه.
ثالثًا: في مشروعية الختان وأنه من أصل الفطرة.
رابعًا: في اختلاف أهل العلم في وجوبه واستحبابه.
خامسًا: في وقت وجوبه.
سادسًا: في اختلاف أهل العلم في الختان يوم السابع من الولادة. هل هو مكروه أم لا. وحجة الفريقان.
سابعًا: في بيان حكمة الختان وفوائده.
ثامنًا: في القدر الذي يؤخذ في الختان.
تاسعًا: في بيان أنه يعُم الذكر والأنثى.
عاشرًا: في المسقطات لوجوبه.
حادي عشر: في ختان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، والاختلاف فيه هل ولد مختونًا أم لا ومتى خُتن؟
ثاني عشر: في الحكمة التي من أجلها يُبعث الناس يوم القيامة غرلاً غير مختونين.
أولاً: في معنى الختان واشتقاقه ومسمّاه:
فالختان اسم فعل الخاتن، وهو مصدر كالنزال والقتال، ويسمى به موضع الختن أيضًا، ومنه الحديث الصحيح: ((إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل)).
ويُسمى في حق الأنثى خفضًا. يقال: ختنت الغلام ختنًا وخفضت الجارية خفضًا, والجارية كما سبق وأن أشرنا: كلمة لا تطلق على الأمة فحسب، ولكن تُطلق على الأنثى بصفة عامة. وتُعرف إن كانت أمة أو حرة بالقرينة وأكثر ما تُستعمل على العموم للصغار لصغار الإناث. ويقال لغير المختون الأقلف، والقُلفه والغرلة: هي الجلدة التي تُقطع. فختان الرجل بأن تُقطع الجلدة التي فوق الحشفة من فرجه، وختان المرأة بأن يُقطع جزء من الجلدة التي هي كعرف الديك فوق فرجها. والمقصود أن الختان اسم للمحل الذي يبقى بعده قطع الجلدة من الرجل والمرأة، واسم للفعل أيضًا وقد يطلق الختان على الدعوة إلى وليمته، كما تطلق العقيقة على ذلك أيضًا.
وأما عن ختان إبراهيم الخليل عليه السلام والأنبياء من بعده، ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((اختتن إبراهيم عليه السلام وهو ابن ثمانين سنة بالقدوم)) قال البخاري رحمه الله: والقدوم مخففة وهو اسم موضع، وقال غيره: إنه اسم للآلة.
فالختان كان من الخصال التي أمر الله بها إبراهيم خليله فأتمهن وأكملهن، فجعله إمامًا للناس. وقد رُوي أنه عليه السلام أول من اختتن ولكن الذي في الصحيح لا يفيد ذلك، فإن فيه: ((اختتن إبراهيم وهو ابن ثمانين سنة)) أخرجه البخاري (3356)، ومسلم (2270).
ثم استمر الختان بعده في الرسل وأتباعهم حتى في المسيح، فإنه اختتن والنصارى تُقر بذلك ولا تجحده، كما تُقر بأنه حرّم لحم الخنزير وحرم كسب السبت, وصلى إلى الصخرة ولم يصم خمسين يومًا، وهو الصيام الذي يسمونه الصوم الكبير. لم يصمه عليه السلام، وفي جامع الترمذي وقال عنه حسن غريب ومُسند الإمام أحمد عن أبي أيوب رضي الله عنه قال: قال رسول الله : أربع من سنن المرسلين: الحياء (وهذه الكلمة غلَّطها الإمام الشيخ الحافظ أبو الحجاج المزي وقال: بل هي الختان وليست الحياء ولا الحناء؛ لأن الحياء خلق والحناء ليست من السنن، ولا ذكرها رسول الله في خصال الفطرة بخلاف الختان، وقد روى المحاملي هذا الحديث عن الشيخ الذي رواه عنه الترمذي بعينه بلفظ الختان فوقعت النون في الهامش فذهبت واختلف في اللفظة فالصحيح الختان إذن: ((أربع من سنن المرسلين: الختان، التعطر، السواك، النكاح)).
وأما عن كون الختان مشروعًا وأنه من أصل الفطرة:
ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((الفطرة خمس: الختان، والاستحداد، وقص الشارب وتقليم الأظافر ونتف الإبط)).
فجعل الختان رأس خصال الفطرة وإنما كانت هذه الخصال من الفطرة؛ لأن الفطرة هي الحنيفية ملة إبراهيم، وهذه الخصال أمر بها إبراهيم عليه السلام، وهي من الكلمات التي ابتلاه ربه بهن كما ذكر عبد الرزّاق عن معمر عن أبي طاووس عن أبيه عن ابن عباس رضي الله عنهما في هذه الآية، قال في تفسير الكلمات التي ابتلى الله عز وجل بها إبراهيم خليله، قال: ابتلاه بالطهارة، خمسٌ في الرأس وخمس في الجسد. التي في الرأس: قص الشارب والمضمضة والاستنشاق والسواك وفرق الرأس. وفي الجسد: تقليم الأظافر وحلق العانة والختان ونتف الإبط وغسل أثر الغائط والبول بالماء) انتهى كلام ابن عباس، والفطرة فطرتان: فطرة تتعلق بالقلب وهي معرفة الله ومحبته وإيثاره على ما سواه، وهذا مما فطر الله الناس عليه، لولا أن الناس بدلوا بعد ذلك فمنهم من هودّ أبناءه، ومنهم من نصرّهم، ومنهم من مجسّهم.
وفطرة عملية: وهي هذه الخصال.
فالأولى تزكي الروح وتطهر القلب، والثانية تطهر البدن، وكل منهما تُمد الأخرى وتقويها. وكان رأس فطرة البدن: الختان.
وأما عن اختلاف أهل العلم في وجوبه واستحبابه: فقد اختلف الفقهاء في ذلك، فقال الشعبي وربيعة، والأوزاعي، ويحيى بن سعيد الأنصاري، ومالك، والشافعي، وأحمد: هو واجب، وشدّد مالك في ذلك حتى قال: "من لم يختتن لم تصح إمامته، ولم تُقبل شهادته".
وقال الحسن البصري وأبو حنيفة: "لا يجب بل هو سُنة"، وقال ابن أبي موسى من أصحاب أحمد: هو سنة مؤكدة، واحتج الموجبون بوجوه بلغت خمس عشرة وجهًا لا تتسع هذه الخطبة لبسطها كلها، فأذكر أول هذه الوجوه وأهمها، ثم أشير إلى خُلاصة بقيتها.
أما الوجه الأول الذي احتج به الموجبون على أن الختان واجب، فهو قوله تعالى في الآية الثالثة والعشرين بعد المائة من سورة النحل: ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [النحل: 123] والختان من ملته لما تقدم.
وخلاصة خمس وجوه أُخر أحاديثُ مرفوعات وموقوفات ومراسيل يشهد بعضها لبعض أن النبي أمر بالختان، والأمر للوجوب إذا لم تصرفه قرينة إلى أمور أخرى كالاستحباب والإباحة والإرشاد ونحو ذلك.
من المرفوعات: ما رواه الإمام أحمد عن عبد الرزاق ورواه أبو داود عن محمد بن مخلد عن عبد الرزاق ثم عبد الرزاق عن ابن جريج قال: أخبرني عثيم بن كليم عن أبيه عن جده أنه جاء إلى النبي فقال: قد أسلمت فقال: ((ألق عنك شعر الكفر)) أي احلق.
قال: وأخبرني آخر أن النبي قال لآخر: ((ألقِ عنك شعر الكفر واختتن))، ومن الموقوفات ما روى وكيع وأحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: الأقلف ـ وهو غير المختون كما عرفنا ـ لا تُقبل له صلاة ولا تُؤكل ذبيحته.
ومن المراسيل قول الزهري قال رسول الله : ((من أسلم فليختتن وإن كان كبيرًا)).
فهذه خلاصة خمس وجوه احتج بها الموجبون، وخلاصة ثلاث وجوه أخر: أنهم قالوا: الختان من أظهر الشعائر التي يُفرق بها بين المسلم والنصراني وغير النصراني من الكفار عباد الصليب وعُبّاد النار وغيرهم.
ولهذا قال الخطابي في أحد الوجوه: إن الختان وإن كان قد ذُكر في جملة السنن، إلا أنه عند كثير من العلماء على الوجوب لأنه من شعار الدين، وبه يُفرق بين المسلم والكافر. وعدم الاختتان من شعار عُبّاد الصليب وعُبّاد النار، والختان من شعار الحنفاء، وقد عرفنا أن إمامهم إبراهيم عليه السلام قد اختتن، فقال: شعارًا للحينفية، وتوارثه عنه بنو إسماعيل، وبنو إسرائيل صلوات الله على أنبياءه جميعًا وسلامه.
فلا يجوز موافقة عباد الصليب القَلْف في شعار كفرهم. ورد القائلون بالاستحباب على هذه الأدلة بكلام لا يدفعها واستدلوا هم أيضًا بأدلة منها:
ما يروى عن ابن عباس موقوفًا بإسناد ضعيف: "الختان سنة للرجال، مكرمة للنساء" وقد عرفتم أنه يروى بإسناد ضعيف موقوفًا عن ابن عباس رضي الله عنهما.
فأدلة الموجبين أظهر وقولهم في المسألة هو الحق إن شاء الله وقدّر.
وأما عن وقت وجوبه فهو عند البلوغ:عند التكليف بالعبادة، فلا يجب قبل البلوغ، ولما كان الواجب يؤدي إلى أن تتم أمور من باب تمامه، فما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. لما كان ذلك كذلك. كان من الأفضل أن يتم الختان قبل البلوغ. فإن أمر النبي لأصحابه أن يعلموا أبناءهم وأن يأمروهم بالصلاة لسبع وأن يضربوهم عليها لعشر دال على أنه لم يكن يسوع لهم ترك ختانهم حتى يجاوزا البلوغ، والله أعلم.
وأما عن الاختلاف في الختان يوم السابع من الولادة هل هو مكروه أم لا؟ وحجة الفريقين فالحق أنه لم يرد نهي عن الختان يوم السابع من الولادة يشهد لكراهة من كره ذلك من بعض أهل العلم.
ولم يرد في استحبابه خبر يرجع إليه؟ فبقي الأمر على التخيير والإباحة، غير أنه إذا فعل في ذلك اليوم (يوم السابع) من الولادة كان أرفق بالصبيان وكان تحريًا لبعض الصحابة الذي ورد أنهم ختنوا أبناءهم في هذا اليوم. وإذا تُرك الأولاد حتى تتقدم سنهم شق ذلك عليهم، وهذا معروف ومُجرب.
وأما عن حكمة الختان وفوائده:
فالختان من محاسن الشرائع التي شرعها الله سبحانه لعباده. وكمّل به محاسنهم الظاهرة والباطنة وهو مكمل الفطرة التي فطرهم عليها سبحانه، ولهذا كان من تمام الحنيفية ملة إبراهيم.
ولهذا قال هشام ابن العاص رضي الله عنه في وقعة أجنادين التي جرت بين المسلمين والروم: يا معشر المسلمين، إن هؤلاء القلف لا صبر لهم على السيف (أي الروم) وذكر المسلمين بشعار دينهم وصليبهم القلف: عدم الختان. وجعله مما يوجب إقدام الحُنفاء عليهم وتطهير الأرض منهم.
والمقصود أن صبغة الله هي الحنيفية التي صبغت القلوب بمعرفته ومحبته والإخلاص له وعبادته وحده لا شريك له، وصبغت الأبدان بخصال الفطرة من الختان والاستحداد وقص الشارب وتقليم الأظافر ونتف الآباط والمضمضة والسواك، ونحو ذلك من خصال الفطرة وظهرت فطرة الله على قلوب الحنفاء وأبدانهم، هذا مع ما في الختان من الطهارة والنظافة والتنزيه والتزيين وتحسين الخلقة، وتعديل الشهوة، التي إذا أفرطت ألحقت الإنسان بالحيوان، وإن عُدمت بالكلية ألحقته بالجمادات. هذا مع ما فيه أيضًا من بهاء الوجه وضياءه وفي تركه من الكسفة التي تُرى عليه.
وأما عن القدر الذي يؤخذ في الختان فتقدم أن ختان الرجل يكون بأن تٌقطع الجلدة التي تغطي الحشفة من فرجه، وأما في النساء فيقطع جزء منها ويبقى على جزء، لما رواه أبو داود عن أم عطية أن النبي أمر ختّانة تختن، وقال لها: ((إذا ختنتي فلا تنهكي فإنه أحظى للمرأة وأحب للبعل))[1].
ففي هذا إشارة كافية إلى القدر الذي يؤخذ في الختان، والمرأة في حاجة إلى ما الرجل في حاجة إليه من فوائد الختان، وبهذا تأتي النقطة التاسعة، وهي أن الحكم يعم الذكر والأنثى؛ لأنه قد جاء في الحديث الصحيح عن النبي ((إذا التقى الختانان)) ولا يقال ختان للمرأة إذا إذا خُتنت فعلاً، وهذا يدل على أن النساء كُن يختتن، والمرأة في حاجة إلى ما الرجل في حاجة إليه من فوائد الختان.
والنقطة العاشرة في مسقطات وجوب الختان: متى يسقط؟
يسقط لأربعة أمور مختصرة من أمور كثيرة: أولاً: أن يولد الصبي لا قُلفة له فهو مستغنٍ عن الختان إذ لم يُخلق له ما يجب ختانه، وهذا متفق عليه بين العلماء.
ثانيًا: ضعف المولود عن احتماله بحيث يخاف عليه من الختان، ويستمر به الضعف كذلك، فهذا يُعذر في تركه، إذ غايته أنه واجب فيسقط بالعجز عنه كسائر الواجبات.
ثالثًا: أن يسلم الرجل كبيرًا فيخاف على نفسه منه فيسقط عنه وهذا عند الجمهور وإن قال البعض بضرورة ختانه عملاً بما جاء من الأقوال والأحاديث المرفوعات والموقوفات والمراسيل، إلا أن الجمهور على أنه إذا خيف على نفسه من التلف إذا أسلم كبيرًا فإنه يسقط عنه.
رابعًا: الموت، فلا يجب ختان الميت باتفاق الأمة، وهل يُستحب ؟ الجمهور على أنه لا يستحب، حتى الاستحباب لا يذهب إليه جمهور أهل العلم، وهو قول الأئمة الأربعة أنه لا يستحب ختان من مات من المسلمين ولم يكن قد اختتن. وذهب بعض الأئمة المتأخرين إلى أنه يُستحب وقاسوا على إزالة شارب الميت إذا كان شاربه طويلاً، ولم يكن قد قصّه قبل وفاته، قاسوا على إزالة شاربه وحلق عانته وتقليم أظافره ونتف إبطه قاسوا الختان على هذه الأمور، وهذا مخالف لما عليه عمل الأمة، فهو قياس فاسد لأنه إزالة الشارب وحلق العانة تقليم الأظافر ونتف الإبط لتكميل الطهارة وإزالة: وسخه ودرنه، وأما الختان فهو قطع عضو من أعضاءه، والمعنى الذي شُرع لأجله في الدنيا قد زال بالموت، فلا مصلحة في ختانه، والله أعلم.
وأما ما جاء في ختان نبينا محمد والاختلاف في ذلك، هل ولد مختونًا أم لا؟ ومتى ختن؟
فالأحاديث التي وردت في أنه ولد مختونًا ضعيفة لا تصح، وتكلم العلماء فيها كلامًا وافيًا، وليس في ولادته عليه الصلاة والسلام مختونًا فضيلة أو خاصية يختص بها عليه الصلاة والسلام؛ إذ قد وجد من الناس من ولد مختونًا، ولو كان فضيلة أو خاصية لما شاركه فيها أحد ثم إن الختان ابتلاء وقد ابتلي به إبراهيم، وهو لرفع الدرجات ودرجته أعلى من درجات الأنبياء جميعًا فلا يخص عليه الصلاة والسلام من هذا البلاء لأنه من قبيل رفع درجاته .
وقال بعض أهل العلم قد ورد في بعض الروايات على ما فيها من ضعف أو كلام أو مقال أن عبد المطلب جد النبي ختنه في يوم سابعه وصنع له مأدبة ودعا إليها الناس وسماه محمدًا .
ثم قال هؤلاء العلماء: وهذا أشبه بالصواب وأقرب إلى الواقع والله أعلم.
ثم النقطة الأخيرة أيها الأخوة الكرام في الحكمة التي لأجلها يبعث الناس يوم القيامة غرلاً غير مختونين، فقد وعد الله تبارك وتعالى ـ وهو صادق الوعد ـ الذي لا يخلف وعده إِنَّ اللَّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ[آل عمران: 9] وعد أنه يعيد الخلق كما بدأهم أول مرة، ومن صدق وعده أن يعيده على الحالة التي بدأه عليها كما قال في الآية الرابعة بعد المائة من سورة الأنبياء: يَوْمَ نَطْوِى السَّمَاء كَطَىّ السّجِلّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ [الأنبياء: 104] وقال في الآية الثلاثين من سورة الأعراف: كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ [الأنعام: 29].
وأيضًا: فإن القلفة لا حاجة إليها في الجنة؛ لأن أهل الجنة لا يبولون ولا يتغوطون، فليست هناك نجاسة يُصب الغُرلة فيلزم التحرز منها، وليست القلفة مما يعوق لذة الجماع ويمنعه، ثم إن هذا كله إن قُدّر استمر الخلق على ما يبعثون عليه بعد خروجهم من قبورهم فإنه من المعروف أنه تغير أحوالهم وتمد في خلقهم ويزاد في خلق أهل الجنة وخلق أهل النار في الصحيحين وغير الصحيحين، يُمد في الخلق ويزاد فيه لتكمل متعة أهل الجنة بالنعيم مع ضخامة أجسامهم بخلاف ما هم عليه عندما ماتوا فيبعثون على خلق أبيهم آدم (على طوله) على ثلاثة وستين ذراعًا وغير ذلك من الأوصاف، وأنهم يحشرون على صورة القمر، أول زمرة تدخل الجنة وجوههم على صورة القمر، ومن بعدهم وجوههم على صورة أضوأ كوكب دري في السماء, أهل النار يزاد في خلقهم كذلك حتى يصير الضرس كالجبل ليزداد إحساسهم بالعذاب إذا جحدوا وكفروا وفسقوا ولم يستجيبوا للفطرة التي فطرهم الله عليها، فإنَّ الناس يحشرون حفاة عراة، وبعد ذلك يكسون ويزاد ويمد في خلقهم فمن الجائز أيضًا أن تزال الغرلة والقلفة بعد ذلك ومن الممكن أن تستمر وتدوم، وليس هناك خبر يُعلم يجب المصير إليه في هذه المسألة والله سبحانه وتعالى، أعلم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
[1] رواه أبو داود
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله خاتم الأنبياء والمرسلين، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك نبينا وإمامنا وقدوتنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أحتاج إلى أن أنبه إخواني أهل السنة الذين هم حريصون على سماع الحق والعمل به إلى ضرورة الاحتراز مما يبتدع في النصف من شعبان من الصلوات التي ليس عليها دليل من كتاب الله ولا من سنة رسوله ، ولا من فعل أصحابه رضي الله عنهم، فإن في الحديث الذي جاء فيه نزول الله عز وجل ليلة النصف من شعبان على القول بتحسينه عند بعض العلماء لا يبرر هذه العبادات التي ليس عليها دليل يرجع إليه ويُستند إليه، فمدار العبادات أيها الأخوة الكرام على الاتباع وليس على الابتداع.
ثم أحب أن أنبه أيضًا إلى أن الإحصاءات في الوفيات قد أفادت أن خمسة وثمانين بالمائة ممن يتوفون، يموتون بسبب حوادث السيارات في هذا البلد، وخمسة عشر بالمائة منهم يموتون بأسباب أخرى، فأوجه إخواني إلى أن يراعوا القواعد المرعية في قيادة السيارات وألا يلقوا بأنفسهم في المهالك إلقاءً ، وأن يراعوا أن أحوال هذه الآلات لا تنضبط ولا تضمن، فالأولى بهم أن يحافظوا على أنفسهم وأن يسيروا على القدر الذي يسمح لهم بتدارك الأمور إن حدث خلل. نسأل الله أن يُسلم الجميع من الشرور والبلايا، ونسأل الله تعالى لنا ولكم حيثما كنا من أرض الله من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، والموت راحة لنا من كل شر، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، وأمننا في أوطاننا ودورنا، وانصر اللهم المجاهدين الذين يجاهدون في سبيلك في أفغانستان وفلسطين وفي كل مكان يجاهد فيه في سبيلك يا رب العالمين، اللهم اشف مرضانا وارحم موتانا، وعليك بمن عادانا، وبلغنا مما يرضيك آمالنا، واختم بالباقيات الصالحات أعمالنا، وصلى اللهم وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه آمين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله خاتم الأنبياء والمرسلين، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك نبينا وإمامنا وقدوتنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أحتاج إلى أن أنبه إخواني أهل السنة الذين هم حريصون على سماع الحق والعمل به إلى ضرورة الاحتراز مما يبتدع في النصف من شعبان من الصلوات التي ليس عليها دليل من كتاب الله ولا من سنة رسوله ، ولا من فعل أصحابه رضي الله عنهم، فإن في الحديث الذي جاء فيه نزول الله عز وجل ليلة النصف من شعبان على القول بتحسينه عند بعض العلماء لا يبرر هذه العبادات التي ليس عليها دليل يرجع إليه ويُستند إليه، فمدار العبادات أيها الأخوة الكرام على الاتباع وليس على الابتداع.
ثم أحب أن أنبه أيضًا إلى أن الإحصاءات في الوفيات قد أفادت أن خمسة وثمانين بالمائة ممن يتوفون، يموتون بسبب حوادث السيارات في هذا البلد، وخمسة عشر بالمائة منهم يموتون بأسباب أخرى، فأوجه إخواني إلى أن يراعوا القواعد المرعية في قيادة السيارات وألا يلقوا بأنفسهم في المهالك إلقاءً ، وأن يراعوا أن أحوال هذه الآلات لا تنضبط ولا تضمن، فالأولى بهم أن يحافظوا على أنفسهم وأن يسيروا على القدر الذي يسمح لهم بتدارك الأمور إن حدث خلل. نسأل الله أن يُسلم الجميع من الشرور والبلايا، ونسأل الله تعالى لنا ولكم حيثما كنا من أرض الله من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
ــــــــــــــــــــ(67/145)
الأسرة في الإسلام ـ تسمية المولود ـ
...
...
1902
...
الأسرة والمجتمع
...
...
الأبناء
...
سعيد بن يوسف شعلان
...
...
جدة
...
...
...
عمار بن ياسر
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1 ـ تسمية المولود ومتى تكون. 2 ـ حسن اختيار الاسم للمولود. 3 ـ الأسماء المستحبة والأسماء المحرمة. 4 ـ الأسماء المكروهة. 5 ـ التفاؤل والتشاؤم بالأسماء. 6 ـ تكنية المولود. 7 ـ في يوم القيام ينادى الناس بأسمائهم وأسماء آبائهم.
الخطبة الأولى
أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله تبارك وتعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، أمّا بعد:
فقد مرّ بنا في الخطب الماضية بعض الأحكام المتعلقة بالأولاد في الإسلام، وذلك في إطار خطب عن الأسر المسلمة، وأستكمل اليوم شيئًا مما بقى من هذه الأحكام، فأتكلم إن شاء الله عن حكم تسمية المولود في الإسلام.
وهذا الباب ينقسم الكلام فيه على خمسة أمور اختصارًا لأمور كثيرة تكلم عليها العلماء وأفاضوا فيها، فاختصرتها في هذه الأمور الخمس:
أولها: وقت التسمية، فمتى يسمى المولود؟ وجاء في ذلك أحاديث ما يقتضي جواز تسميته يوم ولادته وبعد ثلاثة أيام، ويوم سابعه يوم العقيقة عنه.
أما ما جاء في جواز تسميته يوم ولادته ففي الصحيحين عن أبي موسى رضي الله عنه، وقد تقدم الحديث في الجمعة الماضية قال: "ولد لي مولود فأتيت به النبي فسماه إبراهيم وحنكه بتمرة".
وكما أن التحنيك لا يكون إلا بعد الولادة مباشرة وقبل أن يصل إلى جوف المولد شيء، فذكر التسمية معه يفيد حصول ذلك يوم ولادته.
وفي صحيح مسلم من حديث سليمان بن المغيرة عن ثابت عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((ولد لي الليلة مولود فسميته باسم أبي إبراهيم عليه السلام)).
وأما ما جاء في تسميته بعد ثلاثة أيام فقد أجاب الإمام أحمد رحمه الله وأفاد بأن ثابتًا روى عن أنس أنه يُسمى بعد ثلاثة أيام وأمّا ما جاء في تسميته يوم سابعه فقد مرّ بنا حديث سمره ابن جندب، وفيه أنه عليه الصلاة والسلام قال: ((يعق عن المولود ويسمى ويحلق رأسه يوم سابعه)).
وقد جمع ابن القيم رحمه الله بين هذه الأخبار فقال: "إن التسمية لما كانت حقيقتها تعريف الشيء المسمى لأنه إذا وجد وهو مجهول الاسم لم يكن له ما يقع تعريفه به، جاز تعريفه يوم وجوده،وجاز تأخير التعريف إلى ثلاثة أيام، وجاز إلى يوم العقيقة عنه، ويجوز قبل ذلك وبعده والأمر فيه واسع. والحاصل أن هذا المولود الذي ولد لا بد أن يعرف باسم خاص به فيمكن بناءًا على ذلك أن يُعرف في يوم وجوده، يقال هذا فلان، ومن الممكن أن يؤخر إلى ثلاثة أيام عملاً بحديث أنس أو إلى سبعة أيام عملاً بحديث سمرة، والأمر في ذلك كما قال رحمه الله.
والأمر الثاني من الأمور التي يتكلم من خلالها عن التسمية:
بيان ما يستحب من الأسماء وما يحرم منها وما يُكره، وهذا باب عظيم يحتاج من المسلمين إلى أن يعتنوا به غاية العناية، فقد شاع في المسلمين مما يحرم من الأسماء الكثير والكثير، ولا ينتبهون إلى ما جاء عن الرسول في هذا الباب.
فقد روى أبو داود بإسناد حسن عن أبي الدرداء رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((إنكم تدعون يوم القيامة بأسمائكم وأسماء آبائكم فأحسنوا أسماءكم)).
فينبغي على الوالد أن يُحسن اختيار أسماء أولاده لأنهم يدعون بها يوم القيامة، ويدعون بأسماء آبائهم ومن ثم لا ينبغي أن يُدعى يوم القيامة باسم محرم أو قبيح سُمي به في الدنيا.
وأمّا فيما يتعلق بالمستحب من الأسماء:
فكل ما أضيف إلى الله عز وجل وعُبِّد لله عز وجل أو سُمِّى بأسماء الأنبياء فإنه حسن، اتفق العلماء على استحسان تلك الأسماء: كعبد الله وعبد الرحمن ونحو ذلك، وكأسماء الأنبياء كمحمد وإبراهيم وموسى وعيسى ونوح ونحوهم من أسماء الأنبياء صلوات الله عليهم.
وقد روى مسلم في صحيحه عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((إن أحب أسمائكم إلى الله عبد الله وعبد الرحمن))، وقال في حديث أبي وهب الحشمي قال عليه الصلاة والسلام: ((تسموا بأسماء الأنبياء)). فكل ما أضيف إلى الله تعالى أو رُوِعي فيه أن يكون موافقًا لاسم نبي فهو حسن.
وأما ما يحرم من الأسماء: فيحرم كل ما عُبِّد لغير الله تبارك وتعالى، كعبد العزى وعبد الكعبة وعبد عمرو وعبد هبل ويدخل فيها طبعًا قياسًا عليها ما لم يكن معروفًا سابقًا وعرف بعد انقضاء قرون الخير الثلاثة الأولى، كعبد الرسول وعبد النبي وعبد الحسين، وغير ذلك من الأسماء التي تُعبّد لغير الله عز وجل.
ويدخل في الأسماء المحرمة ما يُسمى: بملك الملوك أو سلطان السلاطين أو شاه شاه، بل يحرم تسمية أحد بهذا الاسم أن يكون اسمه المعروف به ملك الملوك أو سلطان السلاطين أو شاه شاه.
لما جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إنّ أخنع اسم (وفي رواية: أخنى وأضع بمعنى أوضع وأحط) إن أضع اسم عند الله تبارك وتعالى رجل تسمى ملك الملوك، وفي رواية لمسلم (لا ملك إلا الله).
وفيما يدخل في التحريم كذلك أن يُسمى أحد: سيّد الناس أو سيّد الكل. قياسًا على سيد ولد آدم؛ فإنها لا تحل إلا لرسول الله ، هذه التسمية سيد ولد آدم خاصة به عليه الصلاة والسلام فيُمنع منها كل أحد. أما أن يقال له ذلك من باب الإطراء أو المدح أو المداعبة من غير أن يُسمى بذلك، فيقال له يا سيد الكل مثلاً أو يا سيد الناس كأن يقول الرجل لابنه ذلك مداعبة أو لابنته يا سيدة الكل أو نحو ذلك، فإن ذلك لا يدخل في التحريم ويمنع أن يطلق هذا الاسم عليه، وأن امتُنع من إطلاق الاسم أو حتى المداعبة بمثل هذه الألفاظ، فرارًا من الدخول في التحريم لكان أحسن وأوجه.
وأما ما يكره فيمكن حصره تحت سبعة أنواع من الأسماء المكروهة:
أولها: ما جاء النص به عن رسول الله ويقاس على ما جاء به النص أسماء أُخر:
فقد روى مسلم في صحيحه عن سمرة بن جندب رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((لا تُسمين ولدك يسارًا ولا رباحًا ولا نجاحًا ولا أفلح؛ فإنك تقول: أثم هو؟ فلا يكون، فيقال: لا)) إذن فالعلة في ذلك أن القلوب تشمئز عندما يسأل أحدنا عمن يسمى بيسار أو رباح أو نجاح أو أفلح، فيرد عليك أحدهم مجيبًا لا، فتتشاءم أو تتطير أو تشمئز من الإجابة، بل ويقع في نفسك عدم وجود اليسار أو الفلاح أو النجاح أو نحو ذلك، فلذلك كره ذلك ولم يحرم بسبب ما قد يوقعه في القلوب من الاشمئزاز والتطير، وتدخل في باب المنطق المكروه، ولا أريد بكلمة المنطق إذا رددتها في هذه الخطبة المنطق المعروف الذي هو قسيم الفلسفة وهذه العلوم، إنما أريد المنطق أي النطق، فهذه تدخل في ضمن المنطق المكروه ويقاس عليها: سرور وخير ونعمة ومبارك ومفلح، كما قال العلماء من باب اشمئزاز القلوب وتطيرها إذا سُئل عن هذه الأسماء فأجيب بعدم وجودها.
ويكره أيضًا التسمية بالأسماء التي فيها تزكية للنفوس أن يسمى الولد أو البنت باسم فيه تزكية لصاحبه كما جاء في صحيح البخاري وأبي داود عن أبي هريرة أن زينب كان اسمها (بَرّة) من البر فغيره النبي إلى زينب وقال في رواية أبي داود ((لا تزكوا أنفسكم الله أعلم بأهل البر منكم)).
ثم ننتقل إلى النوع الثاني من أنواع الأسماء المكروهة وهو التسمية بأسماء الشياطين، وورد في ذلك أسماء في السن كشيطان الصلاة وشيطان الوضوء والماء ونحو ذلك.
ورد تسمية شيطان الصلاة خنزب، والولهان شيطان الوضوء، والأجزع والأعور هذه أسماء شياطين يكره ما اسمك؟ قال: مسروق ابن الأجدع. فقال له عمر رضي الله عنه: سمعت رسول الله يقول: ((الأجدع شيطان)).
والنوع الثالث من أنواع الأسماء المكروهة:
يكره أن يسمى الولد بأسماء الفراعنة والجبابرة، كفرعون وهامان وقارون؛ لأنها أسماء أناس عذبهم الله تبارك وتعالى ونتظرهم من العذاب يوم القيامة ما لا يعلمه إلا الله عز وجل جزاءً وفاقًا على عتوهم وكفرهم.
وتكره التسمية أيضًا بأسماء الملائكة كجبريل وميكائيل وإسرائيل، وقد أورد البخاري في تاريخه حديثًا فيه: ((ولا تسموا بالملائكة)) [أخرجه البخاري في التاريخ الكبير 5/35، والبيهقي في شعب الإيمان 6/394، وقال البخاري في إسناده نظره، وقال الألباني في ضعيف الجامع (3283): ضعيف جدًا] وقال: لا يصح هذا الحديث بغير هذا الإسناد، يعني الصحيح فيه إسناده الذي عنده في التاريخ ولا يصح إسناده بغير هذا الإسناد.
كما أن تسمية الأولاد بهذه الأسماء قد تعرض هذه الأسماء للامتهان، فيُلعن الولد أو يشتم بهذا الاسم اسم الملك الذي تسمى به، ولا يُحترم فمن هنا كُره وإلا فإن احترم فقد خرج من هذه الكراهة، ثم إن من أنواع الأسماء المكروهة أيضًا الأسماء التي لها معان تكرها النفوس ولا تلائمها، وهذا النوع أطيل فيه الكلام شيئًا ما، أكثر من الأنواع السابقة لأنه ، وقد كان عليه الصلاة والسلام يشتد عليه الاسم القبيح ويكرهه جدًا من الأشخاص والأماكن والقبائل والجبال.
وهذه الأسماء كحرب ومُرة وكلب وحية ونحو ذلك.
وقد مَرّ عليه الصلاة والسلم في مسير له بين جبلين فقيل له: أحدهما اسم فاضح والآخر اسمه مُخزِ فعدل عليه الصلاة والسلم عن المسير بينهما.
ولا يتصورن أحد أن هذا يدخل في باب التشاؤم، إنما يدخل في اختيار الأسماء الطيبة والتفاؤل بها، فإنه لما لم تكن هذه الأسماء طيبة فعُدل عنها للمسير في طريق يحمل اسمًا طيبًا، وهذا أمر فيه وجاهه لمن تأمله، فكان عليه الصلاة والسلام يكره هذه الأسماء القبيحة، وتشتد عليه جدًا.
وقد أورد مالك في موطئه أثرًا أن النبي أمر بشاة أن تُحلب فقام رجل يريد أن يحلبها فقال له عليه الصلاة والسلام: ((ما اسمك؟)) فقال:مُرّة، قال: ((اجلس))، فقام آخر: فقال: ((ما اسمك؟)) قال: حرب، قال: ((اجلس))، فقام ثالث: فقال: ((ما اسمك؟)) قال: يعيش. قال: ((احلبها)).
فكان عليه الصلاة والسلام يحب الأسماء التي فيها الخير، ويشتد عليه جدًا الأسماء القبيحة، ومن تأمل ذلك وجده كثيرًا في حال النبي ؛ فإنه قال عن بعض القبائل: ((أسلم ـ قبيلة أسلم ـ سلّمها الله، وغِفار غفر الله لها، وعُصيّة عصت الله ورسوله))، وقال يوم صلح الحديبية لما تقدم سهيل ابن عمر وليتولى الصلح مع النبي ، قال عليه الصلاة والسلام: سهل أمركم، وقال لبريدة ابن الحصين الأسلمي لما قدم عليه مُسلمًا: ما اسمك؟ قال: بريدة. قال: يا أبا بكر برُد أمرنا. ثم قال له ممن؟ قال: من أسلم. قال له: يا أبا بكر سلمنا. قال له ممن أيضًا من أسلم؟ قال: من أسلم، قال: من سهم. قال عليه الصلاة والسلام: ((خرج سهمك)) وهذا كثير لمن تأمله في السنة وجده جليًا وواضحًا، ومن أراد أن يعرف تأثير الأسماء في مسمياتها، للاسم تأثير في مُسماه، فإن سَمّيت ولدك باسم قبيح كان له تأثير في شخصه.
ويدل على ذلك ما رواه البخاري بإسناده إلى سعيد بن المسيب في صحيحه: سعيد بن المسيب بن حَزن، أن جده حَزنا أتى إلى النبي فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: ((ما اسمك؟)) فقال: حَزن، فقال: ((بل أنت سهل)) نغير اسمك من حَزن إلى سهل. فقال حَزن: لا أُغير اسمًا سمّانيه أبي. قال سعيد حفيده: فما زالت تلك الحزونة فينا بعد. الحزونة ورثناها عن جدنا الذي رفض أن يُغير اسمه من حزن إلى سهل. الحزونة يعني الغلظة. فما زالت تلك الحزونة نجدها في أنفسنا، وهذا من تأثير الأسماء في مسمياتها.
وقد روى مالك في موطئه عن يحيى ابن سعيد ورواه الشعبي أيضًا عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال لرجل: ما اسمك؟ فقال له: جمرة. فقال: ابن من؟ قال: ابن شهاب. قال: ممن؟ قال: من الحرقة. قال: أين مسكنك؟ قال: بحرة النار. قال: بأيتها؟ قال: بذات لظى. قال عمر رضي الله عنه: أدرك أهلك فقد هلكوا واحترقوا. وكان الأمر كما قال عمر رضي الله عنه.
وهنا يقول ابن القيم رحمه الله: "وقد استشكل هذا من لم يفهمه، كيف يعيش هذا الرجل فترة من زمانه واسمه لم يتغير ولم يتسم به لحظة قال عمر هذا الكلام. اسمه جمرة بن شهاب من الحرقة يسكن في حرة النار بذات لظى. كيف يحصل ذلك له عندما سأله عمر عن اسمه؟! قال: وليس بحمد الله مشكلاً (ابن القيم يقول هذا).
وليس بحمد الله مشكلاً فإن الوجه موجبًا له، وأخّر اقتضاءها لأثرها إلى أن تكلم به من ضُرِبَ الحق على لسانه، وكان الملك ينطق على لسانه، وهو عمر رضي الله عنه، أخر سبحانه اقتضاء هذه المناسبات (التسمية بهذه الأسماء القبيحة)، أخر اقتضاءها لأثرها، إلى أن سأل عمر فأجيب فتكلم بما تكلم به عمر رضي الله عنه؛ لأن الله ضرب الحق على لسانه، وكان الملك ينطق على لسانه، كما جاء ذلك عنه ومن مناقبه، فحين اجتمعت رتب سبحانه عليها الأثر، ومن كان له في هذا الباب فقه نفس انتفع به غاية الانتفاع؛ لأن البلاء موكل بالقول. إذا قلت قد يقع البلاء موكلاً ومرتبًا على قولك أنت، فحفظ المنطق وتخير الأسماء من توفيق الله للعبد، وقد أخرج ابن عبد البر هذا كله في استذكاره، وروى عن النبي قوله: ((البلاء موكل بالقول)) ولهذا كان أبو بكر يتأمل كثيرًا ويتمثل كثيرًا بالبيت الذي يقول
احذر لسانك أن تقول فتُبتلى إن البلاء موكل بالمنطق
ومن هنا نسمع كثيرًا من الناس يقول أحدهم: أشعر بأن هذه السنة لن تمر بخير عليّ، لن تمر هذه السنة وأنا بخير أبدًا، أو يقول مثلاً:أشعر أنني سأبتلى ببلاء عظيم، ومصيبة تقصم فقار ظهري، وأشعر أن هذا الولد سيكون فاسقًا فاسدًا عاتيًا مجرمًا، وأشعر أن هذه البنت لن يكون فيها خير ونحو هذا من الكلام. وإن البلاء متوقف على مثل هذه الأقوال، إن قيلت وقع بسببها البلاء، وله بذلك اتصال وتعلق، ومن البلاء الحاصل بالقول قول الشيخ البائس ـ نضرب مثلاً بوقوع البلاء على القول وترتبه عليه ـ ومنه قول الشيخ البائس الذي عاده النبي فقال له النبي والرجل مريض: ((لا بأس طهور إن شاء الله)) ـ وقد كان مصابًا بالحمى ـ فقال له الرجل: بل حُمى تفور على شيخ كبير تزيره القبور، فقال له النبي : ((فنعم إذن)).
أنت وشأنك، وأنت وما تراه. أنا أقول لك لا بأس طهور إن شاء الله، وأنت تقول حُمى تفور على شيخ كبير تزيره القبور، فأنت وما تراه.
والحاصل أن هذا أمر ينبغي أن يهتم به الناس وأن يلتفت إليه وأن يعتنوا به غاية العناية، فإنه مهم، ومن كان له فقه نفس كما قال ابن القيم رحمه الله انتفع به غاية الانتفاع. وإنه ليقول: "وإنا لرأينا من ذلك عبرًا فينا وفي غيرنا، والذي رأيناه قطرة في بحر، أن يقول الإنسان كلامًا فيُبتلى بسبب كلامه ويكون البلاء مناسبًا لما قاله من الكلام السيء، ومن الكلام القبيح، الذي تكلم به عن نفسه أو توقعاته لنفسه، فلا ينبغي أن يقول المرء إلا خيرًا عملاً بقول رسول الله : ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت)).
والنوع السادس الذي يدخل في أنواع الأسماء المكروهة:
التسمية بأسماء الرب تبارك وتعالى: الأحد والصمد؛ فإن هذا لا ينبغي إلا لله تبارك وتعالى، وأما الإخبار عن الإنسان بأنه سميع أو بصير أو رؤوف رحيم، وهي من أسماء الله عز وجل فهذا ليس مكروهًا. أن تقول: أن فلان سميع، أو أنه رؤوف بالناس رحيم بهم، أو أنه بصير بحاله وحال من معه.
أما أن يسمى بها فيقال له: يا سميع يا بصير يا رؤوف تعال. يا رحيم اذهب، فهذا مكروه لنفس الأمر الذي تكلمنا عليه في التسمية بأسماء الملائكة، وهو تعريض هذه الأسماء للامتهان ونحو ذلك.
وتكره أخيرًا التسمية بأسماء سور القرآن الكريم: كطه وياسين وحم، وليس الأمر كما هو مشهور عن العوام من أن الرسول له من الأسماء طه وياسين، فليس في ذلك حديث صحيح ولا حسن ولا مرسل ولا أثر عن صحابي، لا يسمى النبي بهذه الأسماء. ليس من أسمائه طه وياسين، وإنما هي حروف كـ(ألم) و(ألر)، ونحوها. أقول قول هذا وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله وصفيه من خلقه وخليله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا، أمّا بعد:
فإنه ينبغي تأديب الأولاد وتعليمهم لقوله تعالى في سورة التحريم:
يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً [التحريم: 6]، قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "علموهم وأدبوهم"، وقال الحسن البصري رحمه الله: "مروهم بطاعة الله وعلموهم الخير".
وفي المسند وسنن أبي داود من حديث عمر وابن شعيب عن أبيه عن جده قال رسول الله : ((مروا أبناءكم بالصلاة لسبع واضربهم عليها، لعشر وفرقوا بينهم في المضاجع))، ففي هذا الحديث ثلاثة آداب: أمرهم بالصلاة وضربهم عليها، والتفريق بينهم في المضاجع.
وفي معجم الطبراني عن جابر ابن سمرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((لأن يؤدب أحدكم ولده خير له من أن يتصدق كل يوم بنصف صاع على المساكين)).
وقال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أدّب ابنك فإنك مسؤول عنه، ماذا أدّبته؟ وماذا علمته؟ وهو مسؤول عن برك وطواعيته لك.
وقال سعيد بن منصور: حدثنا حزم قال: سمعت الحسن البصري رحمه الله وسأله كثير ابن زياد عن تفسير قوله تعالى: رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْواجِنَا وَذُرّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ [الفرقان:74].
فقال يا أبا سعيد: أفي الدنيا أم في الآخرة؟ هذا المسؤول في الآية ربنا هب لنا يكون في الدنيا أم في الآخرة؟ قال الحسن: "لا والله بل في الدنيا أن يُري العبد من زوجته من أخيه من حميمه طاعة الله" لا والله ما شيء أحب إلى المرء المسلم من أن يرى ولدًا أو والدًا أو حميمًا أو أخًا مطيعًا لله عز وجل!!.
وفي صحيح البخاري من حديث نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((كلكم راعٍ ومسئول عن رعيته، فالأمير راع على الناس ومسؤول عن رعيته، والرجل راع على أهل بيته وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة راعية على بيت بعلها وولده وهي مسؤولة عنهم، والعبد راع على مال سيده وهو مسؤول عنه)) ألا فكلكم راع ومسؤول عن رعيته، وحسبكم بذلك تنبيهًا وإيقاظًا وإرشادًا إلى ما أنتم بصدده من سؤال الله عز وجل عما استرعاكم إياه.
ومن حقوق الأولاد العدل بينهم في العطاء والمنع، ففي السنن والمسند وصحيح ابن حبان من حديث النعمان ابن بشير رضي الله عنهما قال قال رسول الله : ((اعدلوا بين أبناءكم، اعدلوا بين أبناءكم، اعدلوا بين أبناءكم)).
وفي الصحيح من حديث النعمان بن بشير أيضًا رضي الله عنهما أن أباه أتى به النبي , (بشير بن سعد أتى بابنه النعمان النبي ) فقال: إني نحلت ابني هذا غلامًا كان لي ـ نحلته أي أعطيته ومنحته ـ غلامًا أي عبدًا ليكون ملكًا له. فقال عليه الصلاة والسلام: ((أكل ولدك نحلت مثل هذا؟)) (أعطيت كل واحد من أولادك غلامًا كما أعطيت النعمان). قال: لا. فقال: ((أرجعه)). وفي رواية لمسلم ((فعلت هذا بولدك كلهم؟)) قال: لا. قال: ((اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم)) قال النعمان بن بشير: فرجع أبي في تلك الصدقة.
وفي الصحيح أنه قال لبشير أيضًا ـ في رواية أخرى ـ : ((أشهد على هذا غيري)) وهذا أمر تهديد لا للإباحة. النبي يهدد لا يبيح له أن يُمضي هذه العطية ولكن بشهادة غيره، فإن تلك العطية كانت جورًا بنص الحديث في روايات أخرى، قال عليه الصلاة والسلام: ((هذا جَور)) كانت جورًا بنص الحديث، والرسول لا يأذن لأحد أن يشهد على صحة الظلم، ومن ذا الذي كان يشهد على عطية أبى رسول الله أن يشهد عليها، وأخبر أنها لا تصلح، وأنها جورًا، وأنها خلاف العدل.
وإلى هذا الحد أصِل إلى آخر ما أمكنني أن أذكره حول موضوع الأسرة في الإسلام زوجًا وزوجة وأولادًا. سائلاً ربي عز وجل أن يجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
ــــــــــــــــــــ(67/146)
الأسرة في الإسلام ـ ثقب الأذنين ـ
...
...
1903
...
الأسرة والمجتمع, سيرة وتاريخ
...
...
الأبناء, تراجم
...
سعيد بن يوسف شعلان
...
...
جدة
...
...
...
عمار بن ياسر
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1 ـ ثقب أذن المولود. 2 ـ ثقب آذان الأبناء من معتقدات الجاهلية. 3 ـ ابن راهوية ولد مثقوب الأذنين. 4 ـ سيرة إسحاق بن راهوية.
الخطبة الأولى
أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله تبارك وتعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، أمّا بعد:
فقد مرت بنا فيما مضى بعض الأحكام المتعلقة بالأولاد في الإسلام، ونعود اليوم لنضيف إليها حكمًا آخر من الأحكام ألا وهو حكم ثقب أذن الصبي، أما أذن البنت فيجوز ثقبها للزينة نص عليه الإمام أحمد رحمه الله تعالى، ونص على كراهته في حق الصبي والنصوص التي استند إليها فيما ذهب إليه من جوازه للأنثى وكراهته للصبي منها ما ثبت في صحيح البخاري وغيره من حديث أم زرع، ومنها ما ثبت في الصحيحين، وسيأتي ذكره فيما يتعلق بتحريضه للنساء على الصدقة والفرق بين الذكر والأنثى، أن الأنثى محتاجة للحلي فثقب الأذن مصلحة في حقها بخلاف الصبي وقد قال النبي لعائشة رضي الله عنها في حديث أم زرع الصحيح، هذا الحديث الذي يحكي قصة إحدى عشرة امرأة اجتمعن وتعاهدن على أن تقص كل امرأة منهن خبر زوجها، ولما جاء دور أم زرع أثنت على زوجها خيرًا، وكانت مما أثنت به على زوجها أنه أناس من حلي أذنها فقالت: أناس من حُلي أذني، أي: ملأ أذنها من الحلي.
ولقد قال النبي لعائشة رضي الله عنها: كنت لك كأبي زرع لأم زرع، ولم يستثن من ذلك وضع الحلي في الأذن، وهذا واضح الدلالة في جوازه.
قالت أم زرع: أناس من حلي أذني، أي: ملأ أذنها من الحلي حتى صار ينوس فيها، أي: تحرك فيها ويجول.
وفي الصحيحين: لما حرض النبي النساء على الصدقة جعلت المرأة تلقي خرصها (الحديث) والخرص: هو الحلقة الموضوعة في الأذن، ويكفي في جوازه بفعل الناس له وإقرارهم على ذلك. فلو كان مما ينهى عنه لنهى عنه القرآن أو السنة.
فإن قيل: فقد أخبر الله سبحانه وتعالى عن عدوه إبليس أنه قال: وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتّكُنَّ ءاذَانَ الأَنْعَامِ [النساء: 119] ، فإن قيل البتك الذي أمر إبليس به الناس في الجاهلية هو القطع، أي: يقطعون آذان الأنعام. وهذا يدل على أن قطع الأذان وشقها وثقبها من أمر الشيطان، وثقب الأذن قطع لها فهذا ملحق بقطع أذن الأنعام، إن قيل ذلك، قيل: هذا من أفسد القياس؛ فإن الذي أمر الشيطان به أنهم كانوا إذا ولدت لهم الناقة خمسة أبطن فكان البطن السادس ذكرًا شقوا أذن الناقة في الجاهلية وحرّموا ركوبها والانتفاع بها، ولم تطرد عن ماء ولا عن مرعى وقالوا: هذه بحيرة. فشرع لهم الشيطان في ذلك شريعة من عنده فأين هذا من ثقب أذن الصبية ليوضع فيها الحلي التي أباح الله لها أن تتحلى به، أين ذلك من ذاك؟!
وأما ثقب أذن الصبي فلا مصلحة له فيه، وهو قطع عضو من أعضاءه لا لمصلحة دينية ولا دنيوية، فلا يجوز.
ومن أعجب ما في هذا الباب ما قال الخطيب في تاريخه؛ حيث قال: "أخبرنا الحسن بن علي الجوهري قال: أخبرنا محمد بن العباس الخزّاز، قال: أخبرنا أبو عمر عثمان بن جعفر المعروف بابن الكبار، قال: حدثنا أبو الحسن علي بن إسحاق بن راهوية ابن الإمام الحافظ المحدث الكبير يقول علىٌ هذا: ولد أبي من بطن أمه مثقوب الأذنين، قال: فمضى جدي راهوية إلى الفضل بن موسى السيناني فسأل عن ذلك، وقال: ولد لي ولد خرج من بطن أمه مثقوب الأذنين! فقال الفضل بن موسى: "يكون ابنك رأسًا إما في الخير وإما في الشر. وكأن الفضل ابن موسى والله أعلم تفرَّس فيه أنه لمّا تفرد عن المولودين كلهم بهذه الخاصية أن ينفرد عنهم بالرياسة في الدين أو الدنيا، إما أن يكون رأسًا في العلم فتكون هذه رياسة في الدين، أو أن يكون رأسًا في الدنيا بتولي وتبوء أعظم المناصب، هذا والله أعلم.
وقد كان رحمه الله تعالى ـ أي إسحاق ـ رأسًا في الخير. رأس أهل زمانه في العلم والحديث والتفسير والسنة والجلالة والنهي عن المنكر والأمر بالمعروف، وكسر الجهمية نفاة الصفات التي وصف الله بها نفسه في كتابه ووصفه بها رسوله في سنته، والمعروفين بالآراء الضالة والمقالات الفاسدة، كان رأسًا في كسرهم وكسر أهل البدع ببلاد خراسان، وهو الذي نشر السنة في بلاد خراسان وعنه انتشرت هناك. وقد كانت له مقامات محمودة عند السلطان يبصره الله بها بأعداءه ويخزيهم على يديه حتى تعجب منه السلطان والحاضرون، حتى قال محمد بن أسلم الطوسي: "لو كان الثوري حيًا لاحتاج إلى إسحاق فأخبر بذلك أحمد بن سعيد الرباطي فقال: والله لو كان الثوري وابن عيينة والحمادان (أي: حماد بن زيد وحماد بن سلمة) في الحياة لاحتاجوا إلى إسحاق"، فأُخبر بذلك محمد بن يحيى الصفّان فقال: "والله لو كان الحسن البصري حيًا لاحتاج إلى إسحاق في أشياء كثيرة".
وكل ذلك لا لسبب إلا لعلمه وإمامته وجلالته وورعه وأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر حتى قال هؤلاء العلماء الأجلاء: "إن السابقين المعروفين بالإمامة والجلالة والفقه والعلم والتقوى والورع لو أدركوا هذا الإمام لانتفعوا منه ومن علمه"، وسأذكر إن شاء الله وقدّر بعد جلسة الاستراحة شيئًا مما يدل على إمامته وظفره عند السلطان وخزي أعداء السنة على يديه لنبين من خلال ذلك أنه كان ـ رحمه الله ـ رأسًا في العلم كما تفرس فيه الفضل بن موسى عندما أُخبر بأنه ولد مثقوب الأذنين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أمّا بعد:
فقد روى الحاكم أبو عبد الله في تاريخ نيسابور قال: أخبرني أبا محمد بن زياد قال: سمعت أبا العباس الأزهري قال: سمعت علي بن سلمة يقول: "كان إسحاق (وهو صاحبنا الإمام الجليل المعروف). كان إسحاق عند عبد الله بن طاهر (يعني الأمير) وعنده إبراهيم بن صالح فسأل الأمير إسحاق عن مسألة فقال إسحاق ـ رحمه الله ـ: السنة فيها كذا وكذا، وأما النعمان وأصحابه فيقولون بخلاف هذا. قال إبراهيم بن صالح. لا يقول النعمان بخلاف هذا، فقال إسحاق: حفظته من كتاب جدك، (يقول للذي يعارضه حفظته من كتاب جدك، يعني عيبٌ عليك ألا تحفظ ما قاله جدك في كتابه وأحفظه أنا وتُعارض وتدرأ السنة بالرأي وبالهوى). فقال إبراهيم للأمير: أصلحك الله، كذب إسحاق على جدي. فقال إسحاق: ليبعث الأمير إلى جزء كذا وكذا من الجامع فليُحضر. فأُتي بالكتاب فجعل الأمير يقلب الكتاب. فقال إسحاق للأمير: عُدّ من الكتاب إحدى وعشرين ورقة ثم عُدّ تسعة أسطر، ففعل فإذا المسألة على ما قال إسحاق: فقال الأمير: ليس العجب من حفظك إنما العجب من مثل هذه المشاهدة، (هذا الاستحضار العجب منه، وليس العجب من حفظك)، فقال إسحاق: ليوم مثل هذا. (يعني: إنما وفقني الله في ذلك ليوم مثل هذا ليخزي الله على يدي عدوًا للسنة مثل هذا).
وقال عبد الله بن طاهر لإسحاق: "قيل لي إنك تحفظ مائة ألف حديث، فقال إسحاق: مائة ألف لا أدري ما هو؟ لا أدري مائة ألف قد يكون أكثر، قد يكون أقل لكني ما سمعت شيئًا إلا حفظته، ولا سمعت شيئًا فنسيته.
والمقصود صحة فراسة الفضل بن موسى وأن إسحاق يكون رأسًا في الخير وفي العلم.
يا طلاب العلم إن الذي كان عليه إسحاق بن راهوية وغيره من الأئمة في العلم لا ينال بالتمني ولا بالعجب وإطراق الرؤوس ومصمصة الشفاة، إنما يُنال ذلك كله بالإخلاص لله عز وجل في طلب العلم، واجتناب الغرور والكبر ولزوم التواضع ودوام الطلب والمذاكرة والصبر على ذلك، فصححوا النيات وأخلصوا لرب الأرض والسماوات، يوفقكم ويبؤكم في الآخرة أعلى الدرجات، كما قال عز وجل في سورة المجادلة في الآية الحادية عشرة: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ ءامَنُواْ مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ.
ــــــــــــــــــــ(67/147)
الخِطْبَة
...
...
1965
...
الأسرة والمجتمع, فقه
...
...
النكاح, قضايا الأسرة
...
سعد بن عبد الله العجمة الغامدي
...
...
الطائف
...
...
...
سعيد الجندول
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- الفرق بين الخِطبة والخُطبة. 2- الحث على نكاح ذات الدين. 3- التحذير من تقديم الجمال أو المال أو النسب على الدين. 4- الصدق في وصف الخاطب والمخطوبة. 5- خطبة الرجل على خطبة أخيه حرام. 6- البحث عن الكفء من الرجال وتزويجه. 7- آداب الخطبة. 8- منكرات تحصيل في الخطبة.
الخطبة الأولى
أما بعد:
فهناك أمور تسبق الزواج قد يخفى على بعض المسلمين حكم الإسلام فيها أو قد يتهاونون فيها ويعيشون بين الإفراط والتفريط بين عادات الكفار والتشبه بهم وبين العادات التي ورثوها عن الآباء والأجداد.
والخِطبة بكسر الخاء خِطبة الرجل للمرأة لينكحها، وقد شرعها الله قبل الارتباط بعقد الزوجية، ليتعرف كل من الزوجين على صاحبه، كما قال تعالى: وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِسَاء أَوْ أَكْنَنتُمْ فِى أَنفُسِكُمْ [البقرة:235].
أما الخُطبة، بضم الخاء فهي حمد الله تعالى والثناء عليه والتشهد والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ثم ذكر الكلام بعدها سواء كان قليلاً أو كثيراً، ومنها خُطبة الجمعة والعيدين وخطبة الاستسقاء وخطبة الحاجة والخطبة التي تسبق عقد الزواج عند الخِطْبة التي يتقدم بها الرجل إلى أولياء المخطوبة وغير ذلك من أنواع الخطب.
ويتفاوت المسلمون في هدفهم وغرضهم من الزواج وخاصة في هذه الأيام سواء كان الرجال أو النساء، مع أن ذلك وغيره قد حُدِّد في الإسلام وضبط بضوابط لو طبقت بعد الرضا والتسليم لعم الرخاء والأمن وصلح المجتمع بإذن الله.
أما بالنسبة للرجل فعند ما يريد اختيار الزوجة فعليه أن يبحث عن ذات الدين والخلق ويظفر بها وإن كانت دميمة أو ليست على درجة من الجمال أو مما يسعى إليه معظم الناس اليوم بالنسبة للمال أو الحسب والنسب أو الجمال، فكل هذه المطالب سريعة الزوال لأدنى وأتفه الأسباب وإن كان لا بأس بتلك المطالب مجتمعة أو بأحدها، فهي خير إلى خير ولكن التركيز على غير الدين مما هو ذاهب لا محالة، وقد تكون له عواقبه ونتائجه الوخيمة، أما الدين فهو الدعامة الراسخة الكفيلة بإذن الله بإرساء دعامات الأسرة المسلمة ورسوخ قواعدها وهذا المطلب ثبتت خيريته وفضله في القرآن الكريم، وفي الصحيح من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: وَلامَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ [البقرة:221]. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((تنكح المرأة لأربع: لمالها، ولحسبها، ولجمالها، ولدينها. فاظفر بذات الدين تربت يداك)).
نعم إن هذه الأمور الأربعة هي التي تدفع الرجل إلى الزواج من المرأة وقد تكون مجتمعة فيها وقد يجتمع فيها أمران أو ثلاثة أو واحد، وقد يكون غير ذلك، وما نسمعه من سنوات وخاصة في هذه الأيام أن الذي يقدم على الزواج من الشباب لا يريد إلا المرأة الحسناء على حد تعبيره أي الجميلة بمعنى أصح ولا يهمه الدين، وقد يتجه بعضهم إلى الرغبة في المال وقد يسعى آخرون إلى الحسب والنسب والجمال، وهذه الأمور ليست محرمة لكنها أهداف ومطالب قصيرة الأمد والأجل تنتهي وتتوقف في أي لحظة من اللحظات القريبة أو البعيدة، ولكن الدين قليل من يبحث عنه مع أن السعادة فيه في الدنيا والآخرة، فالمرأة الصالحة أرض طيبة للأولاد، والأولاد الصالحون من خير الأعمال الصالحة التي ينقطع عمل ابن آدم منها بعد موته وتبقى بعده، يصله ثوابها بإذن الله بعد الممات، والمرأة الصالحة إن نظرت إليها سرتك بكلامها ومنطقها وحسن معاشرتها وإن لم تكن جميلة فجمال خلقها يغطي النقص في جمال خلقتها، وإن اجتمع الأمران فالحمد لله وذلك خير على خير، وإن غبت عنها حفظتك في مالك وولدك وعرضها، وإن أمرتها أطاعتك، فهي خير متاع الدنيا كما قال صلى الله عليه وسلم: ((الدنيا متاع، وخير متاعها المرأة الصالحة)) [رواه مسلم].
وقد ورد: ((لا تزوجوا النساء لحسنهن فعسى حسنهن أن يرديهن، ولا تزوجوهن لأموالهن فعسى أموالهن أن تطغيهن، ولكن تزوجوهن على الإيمان، ولأمة خرماء سوداء ذات دين أفضل)). وكما أن الدين مطلوب من المرأة عند البحث عنها من قبل الرجل فكذلك هو مطلوب أن يوجد في الرجل المتقدم للزواج من النساء لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه، إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير)). وفي رواية ((عريض)) بدل ((كبير))، و((فزوجوه)) بدل ((فأنكحوه))، ولننظر إلى دقة اللفظ في الحديث من حيث الدين والخلق، فالمعلوم أن الخلق من الدين، والدين يشمل ذلك، ولكن قد يكون الشخص صاحب دين وصلاح ولكنه فيه من الطباع والصفات والأخلاق أمور غير مرغوب فيها لدى المرأة وخاصة التي سوف تعيش معه وتعاشره، مثل: البخل والشح والجبن والغلظة والفظاظة وضرب النساء وغير ذلك من الطباع والأخلاق التي قد لا تحتملها المرأة ولا ترضاها في الزوج الذي تريده، ولذلك جاء في الحديث: ((إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه)).
ولا بد للخاطب إذا كان غير الزوج نفسه أو الوسيط المسؤول عن حال المتقدم للمرأة أن يكون أميناً صادقاً واضحاً فيما ينقله عن الرجل الذي يتقدم لخطبة أي امرأة، لأن غالبية من يتم سؤالهم عن حال أي متقدم للزواج وخاصة بعض الناس الذين تأخذهم الحمية لزواج صاحبهم حتى يوقعوا تلك المسكينة فغالبيتهم إلى الغش والتدليس والكذب أقرب منهم إلى الصدق والأمانة، وخاصة من أقربائه أو زملائه في العمل لأنه يطلب منهم تزكيته وذكره بما ليس فيه من الأخلاق والمعاملة الحسنة حتى يظفر بتلك المرأة.
فليتق الله كل مسلم ويعطي ما يعرفه من معلومات حقيقية سواء كانت إيجابية أو سلبية لا ما يظنه أو يكون مبنياً على التخمين أو يختلف سواء في صالح الخاطب أو ضده، فلا بد أن يكون أميناً صادقاً ناصحاً، ولا حرج عليه فيما يذكره من حقائق عنه للأمانة وليس ذلك من باب الغيبة إلا أن يكون قاصداً للغيبة متنقصاً لأخيه المسلم.
جاء في الحديث أن فاطمة بنت قيس رضي الله عنها قالت: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: إن أبا الجهم ومعاوية خطباني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أما معاوية فصعلوك لا مال له، وأما أبو الجهم فلا يضع العصا عن عاتقه)) [متفق عليه]. وفي رواية لمسلم: ((وأما أبو الجهم فضراب للنساء)). وهو تفسير لرواية: ((لا يضع العصا عن عاتقه)). وقيل معناه: كثير الأسفار. فعلى المسلم أن لا يزكي أحداً إلا بما يعلم من حاله وواقعه فعلاً، ولا يشهد إلا بما يعرفه حقيقة لا ظناً أو تخميناً، وإذا لم يخالط الشخص ويتعامل معه في تجارة أو عمل أو سفر أو غير ذلك فليبتعد عن تزكيته أو مدحه بما يظهر منه لأنه قد يكون تصنعاً عند غالب الناس فيما يظهر منهم، والله أعلم بالحقائق، فلا يشهد إلا بما يعلم، فعلى ولي أمر المرأة أن يتقي الله تعالى في حسن اختيار الزوج الصالح صاحب الدين لموليته وألا يجبرها على زوج لا تريده في الوقت نفسه لأنها هي التي سوف تعيش معه ولها حق الرفض أو الموافقة، لأن بعض الأولياء يرغمون المرأة على الزواج ممن لا تريد، وهذا فيه من المحاذير العظيمة والعواقب الوخيمة ما الله به عليم، فعلى الولي أن يستشير المرأة التي يتولى أمر تزويجها سواء كانت بنتاً أو أختاً أو أماً أو غير ذلك ممن كانت له ولاية عليها. سواء كانت بكراً أم ثيباً على خلاف في البكر لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تنكح الأيم حتى تستأمر، ولا تنكح البكر حتى تستأذن، قالوا: يا رسول الله كيف إذنها؟ قال: أن تسكت)) [رواه البخاري]. وفي رواية: ((إذنها صِماتها)).
ومن الأمور الواجب معرفة الحكم فيها عند الخطبة / حرمة خطبة الرجل على خطبة أخيه المسلم إذا علم بذلك، أما إذا لم يعلم فلا حرج عليه لأن الشخص يأتي لخطبة المرأة وهو لا يعلم غالباً هل هي مخطوبة أم لا؟ وخاصة في المدن، أما في القرى والهجر فإذا خطبت المرأة فإنه ينتشر الخبر ويعلم بذلك مجتمعها الذي تعيش فيه، أما الخاطب من بعيد فلا يعلم غالباً إلا بالسؤال، لأن في إقدام الخاطب الثاني إذا علم ذلك إفساداً على الخاطب الأول وإيقاعاً للعداوة بين الناس وإيغاراً للصدور وإثارة للفتن، وقد نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن ذلك في أحاديث صحيحة منها حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخطب الرجل على خطبة أخيه ولا يبيع على بيع أخيه إلا بإذنه)). قوله صلى الله عليه وسلم: ((المؤمن أخو المؤمن فلا يحل للمؤمن أن يبتاع على بيع أخيه، ولا يخطب على خطبة أخيه حتى يذر)). ومن حديث أبي هريرة مرفوعاً: ((لا يخطب الرجل على خطبة أخيه حتى ينكح أو يترك)). فعلم من ذلك تحريم خطبة الرجل على خطبة أخيه، فكيف بمن يتكلم في الخاطب الأول بما ليس فيه ويلصق به من العيوب ما الله به عليم ليفسد هذا الزواج ويظفر هو بتلك الزوجة ويمدح نفسه ويظهر بمظاهر زائفة لا شك أن التحريم أشد، وبهذه المناسبة فإن بعض المفسدين لأي أمر من الأمور بينهم وبين الخاطب يسعون لإلصاق التهم به والعيوب وسبّه والتكلم في عرضه، بل البهتان والافتراء عليه لكي يفسدوا ذلك الزواج لمرض في نفوسهم، فهذا للأسف منتشر في مجتمعات المسلمين، ولا يكاد يصدق أحد وجوده بين المسلمين وما ذلك إلا لضعف الإيمان والنفاق نعوذ بالله من ذلك، وقد يفسد بعضهم عند العقد أو الدخول بالمرأة أو قبل أو بعد بأشياء تباعد بين الناس.
وأما عن سعي الرجل لاختيار الزوج الصالح لموليته فلا حرج في ذلك ولا غضاضة بل هو من كمال الاختيار وحسنه، فقد ورد في القرآن الكريم ما يدل على ذلك وفي الأحاديث الصحيحة، فورد في القرآن أن شعيباً _ عندما وصفت له بنته موسى عليه السلام وهي لا تعرفه من قبل، ولكنها وصفته بالقوة والأمانة، وكذلك أخبره هو عن قصته عندما سأله عن ذلك فقد عرض عليه وخيره من الزواج بإحدى ابنتيه، وعلم موسى أيضاً عليه السلام من صلاح أبيهما ومن صلاحهما وخاصة من تلك التي جاءت تمشي على استحياء، والحياء مطلوب من المرأة، وعرف أيضاً قبل ذلك ابتعاد البنتين بعيداً عن الذين يسقون وعدم اختلاطهما بالرجال وانتظارهما انتهاء أولئك الرجال لتردا الماء وتسقيا الماشية _ فعملهما ذلك كان له أثر أيضاً في نفس موسى عليه السلام إلى جانب الأسباب الدينية الأخرى، قال تعالى مخبراً عن ذلك: فَجَاءتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِى عَلَى اسْتِحْيَاء قَالَتْ إِنَّ أَبِى يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لاَ تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ قَالَتْ إِحْدَاهُمَا ياأَبَتِ اسْتَجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَجَرْتَ الْقَوِىُّ الامِينُ قَالَ إِنّى أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَىَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَن تَأْجُرَنِى ثَمَانِىَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِندِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِى إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ [القصص:25-27]. وقال تعالى: وَأَنْكِحُواْ الايَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِن يَكُونُواْ فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [النور:32]. قال تعالى: وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ [البقرة:221]. وفي الحديث الصحيح ورد أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين تأيمت حفصة بنت عمر من خنيس بن حذافة، وكان من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم فتوفي بالمدينة، فقال عمر بن الخطاب: أتيت عثمان بن عفان فعرضت عليه حفصة فقال: سأنظر في أمري، فلبث ليالي ثم لقيني فقال: قد بدا لي أن لا أتزوج يومي هذا، قال عمر: فلقيت أبا بكر الصديق فقلت: إن شئت زوجتك حفصة بنت عمر، فصمت أبو بكر فلم يُرجع إلي شيئاً، وكنت أوجد عليه مني على عثمان _أي أن عمر غضب عليه أكثر من غضبه على عثمان رضي الله عنهم جميعاً، فلبثت ليالي ثم خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنكحتها إياه، فلقيني أبو بكر فقال: لقد وجدت علي حين عرضت علي حفصة فلم أرجع إليك شيئاً، قال عمر: نعم، قال أبو بكر: فإنه لم يمنعني أن أرجع إليك فيما عرضت علي إلا أنني كنت علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ذكرها، فلم أكن لأفشي سرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو تركها رسول الله صلى الله عليه وسلم لقبلتها.
والروايات عن السلف الصالح في هذا الباب كثيرة ولكن المقام لا يسمح بذكرها وتكفي الإشارة إلى ذلك لمن أراد الاقتداء ولا حرج في ذلك ولا غضاضة، بل إن البحث عن الرجل الصالح للبنت سواء بالتصريح أو التلميح أو إرسال أحد بأي طريقة للدلالة على إقدام ذلك الرجل على خطبة تلك البنت من وليها فذلك أمر حسن، وكما أن الرجل يبحث لابنه عن امرأة صالحة فإن للبنت حقاً أيضاً في اختيار الزوج الصالح سواء تقدم هو بنفسه أو يبحث عنه بأي طريقة تحفظ للجميع كرامتهم وتخدم مصالحهم.
الخطبة الثانية
الحمد لله كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه أحمده سبحانه وتعالى وأشكره وأؤمن به وأتوكل عليه وأثني عليه الخير كله وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن سيدنا محمداً عبد الله ورسوله، اللهم صلّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله.
أما بعد:
فإن واقع المسلمين بالنسبة لنظر الخاطب إلى مخطوبته بين الإفراط والتفريط، كما هو واقعهم في كثير من الأمور أيضاً، مع أن الخير كله في اتباع منهج الإسلام، ففي بعض البلاد يخلو الشاب بالشابة ويتنقلون من مكان إلى آخر في الجامعات وقاعات الدرس والأسواق والمتنزهات والملاهي وغيرها تقليداً منهم وتشبهاً بالكفار وابتعاداً عن روح الإسلام ومعانيه السامية، وفي بعض البلاد لا يعرف الزوج زوجته إلا ليلة الزواج، يحرّمون عليه النظر إليها حتى بعد العقد، وليس ذلك تحفظاً منهم وتمسكاً بالدين والحجاب فقد تكشف على من لا يحل له النظر إليها من أبناء العم والخال والعشيرة إنما هو التمسك بالعادات الجاهلية، وقليل من يعمل بالإسلام وتعاليمه، فالمشروع أن ينظر الرجل إلى المرأة إذا اتفق هو وأهل الزوجة على الأمور المبدئية ولم يبق إلا النظر وعرفوا صدقه وإقدامه على الزواج فإنه يباح له النظر إليها للأحاديث الواردة المبيحة للنظر للمخطوبة، وذلك بعد الاتفاق على جميع الشروط بينهم والسؤال الذي يريدونه جميعهم وبعد معرفتهم لمطالبه من أوصاف المرأة إن كانت موجودة في ابنتهم أو لا، لئلا تكون البنت سلعة ينظر إليها كل من يتقدم سواء كان صادقاً أو كاذباً ولئلا تحصل أمور أخرى لا تحمد عقباها، وخاصة في نقل الأوصاف بين مرضى النفوس وضعيفي الإيمان _ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا خطب أحدكم المرأة فإن استطاع أن ينظر إلى ما يدعوه إلى نكاحها فليفعل)). وقال أيضاً عليه الصلاة والسلام: ((إذا خطب أحدكم امرأة فلا جناح عليه أن ينظر إليها إذا كان إنما ينظر إليها لخطبته وإن كانت لا تعلم)) وقال صلى الله عليه وسلم للمغيرة وقد خطب امرأة: ((انظر إليها فإنه أحرى أن يؤدم بينكما)). وقال صلى الله عليه وسلم لرجل أتاه فأخبره أنه تزوج امرأة من الأنصار: ((أنظرت إليها؟ قال لا. قال: فاذهب وانظر إليها فإن في الأعين الأنصار شيئاً)). قيل: عمش، وقيل: صغر، وقيل: زرقة.
فالمشروع أن يرى الخاطب بنفسه مخطوبته لأنه سوف تكون العشرة بينهما مستمرة بإذن الله، فلا تبنى على غرر ولا غش ولا خداع، وليس كما يفعله بعض الناس من نظر الأم أو إحدى القريبات فلسن هن اللائي سوف يتزوجن المرأة أو يعشن معها، ولكل إنسان نظرته وإن كان ذلك أفضل في البداية لوصفها للخاطب ليقدم أو يحجم ثم هو ينظر إليها بعد الإتفاق فيما بينهم وبعد السؤال، والغريب في أمر الناس اليوم أنهم لا ينكرون على أحد يريد شراء سلعة مهما قل ثمنها وإن كانت معيبة عندما لا تعجبه ويتركها فترى أحدهم يقلب البضاعة من أعلاها إلى أسفلها ليأخذ رغبته وما يريد، ويقلب في الأغنام والبهائم ويتجول يمنة ويسرة في السوق ليحصل على طلبه وفي السيارات والمعارض والأراضي والعقارات وقد يبيعها بعد ساعة، فلا أحد ينكر عليه ذلك وهو أمر مباح، ولكن عندما يريد امرأة تشاركه حياته وتكون أرضاً طيبة لأولاده يعيش معها حياة طويلة لا يُمكَّن من ذلك بحكم العادات والتقاليد، أو يكون على العكس من ذلك حيث يقدم بعضهم صورة المرأة ليراها الرجل، وهذا أمر محرم لما له من عواقب سيئة وخطيرة على المرأة خاصة إذا سلمت الصورة للخاطب أو أحد أقربائه، والمرأة لا تتصور في هذا البلد إلى الآن والحمد لله ولم تلجئها الضرورة إلى ذلك ما دامت داخل هذه البلاد وهذا من فضل الله علينا إلا في حالات الضرورة المعروفة مع أن دعاة الشر يطالبون بذلك من عشرات السنين ولن يملّوا حتى تتحقق مآربهم مع سعيهم الدؤوب وتهاون أهل الخير وتساهلهم في الأمور حتى يتسع الخرق على الراقع وعندها تتفاقم الأمور وتكثر الشرور، فكيف يبيحون تقديم صورة البنت مع حرمة ذلك التصوير ويحرمون المباح والحلال وهو النظر مباشرة إلى المرأة. ومن الأمور المبتدعة التي لم ينزل الله بها من سلطان وقد جاء النهي عنها بالتصريح أو التلميح في القرآن أو السنة أو هما معاً عدة أمور أكتفي بالإشارة إليها لضيق الوقت.
خاتم الخِطبة وخاصة من الذهب، فالذهب محرم على الرجال سواء في الخِطبة أو غير ذلك من الأحوال، وكذلك التكاليف الباهظة التي قد يستأجر لها أبو الزوجة أو الزوج قصور الأفراح ليتم العقد بين الزوجين وقد تصل التكاليف إلى عشرات الآلاف من الريالات بل مئات الآلاف، وهذه التكاليف في العقد من ضمن العقبات والمعوقات التي وقفت سداً وحاجزاً في طريق زواج الشباب وعدم تيسير الزواج وتسهيله، مع أن العقد يتم بحضور شاهدين والولي والزوج أو وكيله ويعقد بالإيجاب والقبول بعد الرضا وتسمية المهر حتى ولو لم يوجد كأس من الماء، فضلاً عما يفعل في هذا الزمان، حتى لو لم يوجد عاقد للنكاح، لأن المأذون الرسمي ليس شرطاً في صحة عقد النكاح وإنما هو لأمور تنظيمية رسمية تثبت ذلك العقد رسمياً ولا بد منه في هذا الزمن نظراً لما يترتب على عدم الإثبات الرسمي من محاذير وعواقب سيئة، ومع أنه يوجد نماذج طيبة وقدوة حسنة لا يعملون تلك الأعمال ولا يقدمون عليها ويمقتونها ولكن العادات الدخيلة أو المتأصلة في النفوس والمنتشرة بين الناس تجعلهم لا يقلعون عنها، مع أن الخير في الابتعاد عنها.
ومن الأمور المحرمة تصوير المرأة والرجل معاً أو مع مجموعة من النساء ودخول العريس على النساء ونظره إليهن ونظرهن إليه من غير المحارم وعمل ما يسمى بالنَّصَّة وغير ذلك من عادات جاهلية هذا القرن والتي انتشرت في مجتمعات المسلمين دون وعي وتفكير في العواقب. فهل بعد هذا نستيقظ من غفلتنا ونسأل عن أمور ديننا ونتبع منهج نبينا وسلفنا الصالح أم أننا نستمر في الغي ونوجد المبررات والتعليلات الباردة والحجج والواهية ونتشبه بأعداء ديننا ونرضى بالدنية في ديننا.
ــــــــــــــــــــ(67/148)
النكاح وتذليل العقبات التي تحول دونه (1)
...
...
1971
...
الأسرة والمجتمع, فقه
...
...
النكاح, قضايا المجتمع
...
سعد بن عبد الله العجمة الغامدي
...
...
الطائف
...
...
...
سعيد الجندول
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- الزواج نعمة إلهية. 2- نهي الإسلام عن التبتل والرهبانية. 3- فوائد النكاح. 4- بعض العقبات التي تحول دون تيسير النكاح. 5- تأخر سن الزواج. 6- عضل البنات عن الزواج.
الخطبة الأولى
أما بعد:
فإن الزواج نعمة عظيمة منّ الله بها على عباده ذكورهم وإناثهم أحله لهم، بل أمرهم ورغبهم فيه، قال تعالى: وَمِنْ ءايَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْواجاً لّتَسْكُنُواْ إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِى ذَلِكَ لايَاتٍ لّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الروم:21]. وقال تعالى: فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مّنَ النّسَاء مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَواحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذالِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُواْ [النساء:3]. وقال تعالى: وَأَنْكِحُواْ الايَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِن يَكُونُواْ فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [النور:32]. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء)).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الرد على النفر الثلاثة الذين قال أحدهم: أنا أصلي الليل أبداً وقال الثاني: وأنا أصوم الدهر ولا أفطر أبداً، وقال الثالث: أما أنا فأعتزل النساء ولا أتزوج أبداً. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أما والله إني لأخشاكم وأتقاكم لله، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني)).
وكما أن النكاح سنة خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم فهي سنة المرسلين من قبله، قال الله عز وجل: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرّيَّةً [الرعد:38]. ففي النكاح فوائد دنيوية وأخروية وأجر عظيم من الله سواء فيما يأتي المسلم أو فيما يخلّف بعده، ففيه امتثال أمر الله ورسوله، وبامتثال أمر الله ورسوله حصول الرحمة والفلاح في الدنيا والآخرة، وفيه اتباع سنن المرسلين، ومن اتبع سنن المرسلين في الدنيا حشر معهم في الآخرة، وفي النكاح حصول السكن والمودة والأُلفة والرحمة بين الزوجين كما في الآية السابق ذكرها وهي قوله تعالى: وَمِنْ ءايَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْواجاً لّتَسْكُنُواْ إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِى ذَلِكَ لايَاتٍ لّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الروم:21].
وصدق الله العظيم الذي جعل في الزواج آية وعلامة واضحة من آياته الكونية، فتجد الشاب والشابة الذكر والأنثى في اضطراب وفي قلق، كل منهما يبحث عن النصف الآخر ليسكن إليه من هذا الاضطراب والتوتر، وخاصة في مرحلة المراهقة، وما إن يجد أحدهما الآخر بالزواج الشرعي إلا وقد هدأ وسكن من اضطرابه وخفت حدته وزال توتره ووجد كل منهما الأُلفة والمودة والرحمة، فينبغي أن يتنبه لهذا الأمر الإلهي كل مسلم ويعي ذلك تماماً ويسعى إلى تزويج أولاده ذكورهم وإناثهم بقدر الاستطاعة ويعي الآية القرآنية السابق ذكرها ويفكر كثيراً في آخرها ويتأمل جيداً قول الله تعالى: إِنَّ فِى ذَلِكَ لايَاتٍ لّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ.
وفي النكاح أيضاً قضاء الوطر وفرح النفس وسرور القلب، وتحصين الفرج وحماية العرض للرجل والمرأة على حدٍ سواء، لأنه يعف نفسه ويعف زوجته ويغض كل منهما بصره عن الحرام ويبتعد عن الفتنة ويحصل الأجر على قضاء الشهوة، كما ورد في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: ((وفي بضع أحدكم صدقة، قال أيأتي أحدنا شهوته ويكون له في ذلك أجر؟ قال: نعم، أرأيت لو وضعها في حرام أكان عليه وزر؟ قال: نعم: قال: كذلك إن وضعها في الحلال كان له أجر)).
ومن فوائد النكاح المبكر للرجل والمرأة ما إن يصل أحدهما إلى سن الأربعين إلا ولديهما ولد بإذن الله يبلغ من العمر عشرين عاماً يقوم على خدمتهما، ومنها أيضاً تكثير الأمة، وبالكثرة تقوى الأمة أمام أعدائها وتهاب بين الأمم، وكذلك تحقيق مباهاة النبي صلى الله عليه وسلم بأمته يوم القيامة حيث قال صلى الله عليه وسلم: ((تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة)).
وفي النكاح تكوين الأسرة وتقريب الناس بعضهم لبعض فإن الصهر شقيق النسب، قال تعالى: وَهُوَ الَّذِى خَلَقَ مِنَ الْمَاء بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيراً [الفرقان:54].
وفيه حصول الأجر والثواب في القيام بحقوق الزوجية والأولاد والإنفاق عليهم، وكذلك حفظ وصيانة المجتمع من التدهور الأخلاقي وفساد البيوت والأعراض، فالنكاح أو ما يسمى بالزواج صلاح للفرد وصلاح للمجتمع في الدين والأخلاق في الحاضر والمستقبل، وهو كذلك درء للمفاسد الناتجة عن تركه وعدم المبالاة به وفيما يحول دونه من عقبات، وكل شخص لديه معلومات كافية في هذا المجال ولا تخفى على أحد، وما يحصل من مفاسد وارتكاب للزنا والفواحش والموبقات هو بسبب عدم الزواج في السن المبكر، وخاصة بين الشباب الذين يعيشون في اضطراب واكتئاب نفسي حتى يحصل كل منهم على النصف الآخر لتكمل له السعادة ويجد السكن والمودة والرحمة بمعناها الرحب الواسع، وهناك عقبات تحول دون الزواج.
منها: عزوف كثير من الشباب ذكورهم وإناثهم عن الزواج أي أنهم لا يرغبون فيه في سن المراهقة وما بعدها إلى أن يبلغوا الثلاثين من أعمارهم، أو قد لا يرغب بعضهم فيه للأفكار الدخيلة عليهم بأن الزواج قيد وارتباط عائلي وأسري، أو أن يريد أحدهما إكمال دراسته ولا يرغب أن يخلف أطفالاً في سن مبكرة لأنه لا يستطيع الإنفاق عليهم أو أنهم يتعبونهما في التربية والرعاية، إلى غير ذلك من الحجج الواهية، وما ذلك إلا للغزو الفكري والعقدي واهتزاز العقيدة وضعف الإيمان والقصور في التصور الإسلامي الواضح والتقليد الأعمى لأعداء ديننا، إن الزواج لا يمنع من المضي في الدراسة والنجاح فيها والتحصيل العلمي والمعيشي بل هو عون على ذلك خاصة مع الاستطاعة وممن وسع الله عليهم في المعيشة، الاستطاعة التي حددها رسول الله صلى الله عليه وسلم كما وردت في الحديث السابق ذكره، لأن الشاب أو الشابة في سن المراهقة وما بعدها إذا لم يكونا متزوجين فإن كل واحد منهما مشغول بالآخر، وسبب رسوب وفشل كثير من الشباب الذكور والإناث في المراحل الثانوية والجامعية هو ذلك التفكير الذي أشغلهم وربما خرج بهم عن الطريق السوي، مع أنه لو حصل الزواج الشرعي لخلا فكر كل منهما ووجدا السعادة والراحة والسكن والأمن والطمأنينة واشتغلا بدراستهما وبأمورهما في جوٍ مريح وهادىءٍ تغمره السعادة التي يبحثان عنها، وخاصة عندما يجد كل منهما الزوج الصالح والزوجة الصالحة عندها يكون كل منهما عوناً للآخر على دراسته وعلى مشاكله، وما أكثر الذين تكللت زيجاتهم بالتوفيق ولله الحمد والمنة ولم يجدوا العقبات والجبال الشاهقة التي صورها لهم شياطين الإنس والجن عن الزواج المبكر، وأما عن الغنى فسوف يغنيهم الله وينجز لهم ما وعدهم إياه، قال تعالى: وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الأرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا [هود:6]. وَفِى السَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ فَوَرَبّ السَّمَاء وَالأرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ [الذاريات:22-23]. ثم تأتي الآية التي تبعد عن المسلم ذلك التصور المادي الذي دخل إلى ضعيفي التوكل على الله وهو خاص في الزواج والنكاح، قال تعالى: وَأَنْكِحُواْ الايَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِن يَكُونُواْ فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [النور:32]. وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((ثلاثة حق على الله عونهم: الناكح يريد العفاف، والمكاتب يريد الأداء، والغازي في سبيل الله)). وقال أبو بكر رضي الله عنه: أطيعوا الله فيما أمركم به من النكاح ينجز لكم ما وعدكم من الغنى، وقال ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير المقطع التالي من الآية: رغبهم الله تعالى في التزويج وأمر به الأحرار والعبيد ووعدهم عليه الغنى فقال تعالى: إِن يَكُونُواْ فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ [النور:32]. وهذا مرهون ببساطة الناس وتسهيل أمور الزواج وتكاليفه وليس فيه مطامع وإثقال كاهل الزوج بالديون ومن ثم الحكم عليه بالسجن، وأما عن المرأة فقد دخل أكثر النساء المتعلمات موجة من أعداء دين الله بطريقة الاستعمار الفكري يردن أن يخضن تجربة قد مجّتها وسئمتها نساء الغرب، فتجد العوانس اللائي بلغن الأربعين سنة وأكثر، ولم يتزوجن، ومنهن من قاربها، والموجة الطاغية الآن سائرة في الطريق، بحجة إكمال الدراسات العليا، ثم يفوتها الركب، أو بحجة العمل والوظيفة لأن والدها يريد راتبها لتبقى تكدح وتعمل له وتعوله، أو أنها لا تريد القيود على حد زعمها وهي تقضي شهوتها كيف تشاء ولا داعي للارتباط الأسري عياذاً بالله من ذلك، وهناك إحصاءات دقيقة في العالم كله تفيد بأن ما يقارب أكثر من نصف النساء غير متزوجات.
أيها المسلمون: إنه ينبغي التفكير وإعادة النظر وإمعانه في هذه القضية الخطيرة التي غزت مجتمعنا وأن يعمل كل فرد منا في البحث عن الحلول المناسبة، كل بحسبه. وأسوق إليكم قصة ترويها أستاذة جامعية نشرتها إحدى الصحف قبل أربعين سنة تقريباً، ونحن مع ذلك لا زلنا نخوض التجارب التي قد مرَّ بها غيرنا ولم نستفد منها، وأورد ذلك استشهاداً ليكون الجميع على بصيرة من أمرهم:
جاء في الصحيفة: أستاذة جامعية في إنجلترا وقفت عام 1961م أمام مئات من طلبتها وطالباتها تلقي خطبة الوداع بمناسبة انتهاء خدمتها من التدريس، قالت: أنا قد بلغت الستين من عمري وصلت فيها إلى أعلى المراكز، نجحت وتقدمت في كل سنة من سنوات عمري، وذكرت أشياء إلى أن قالت: هل أنا سعيدة الآن بعد أن حققت كل هذه الانتصارات؟
لقد نسيت في غمرة انشغالي في التعليم والتدريس والسفر والشهرة أن أفعل ما هو أهم من ذلك كله بالنسبة للمرأة .. نسيت أن أتزوج وأن أنجب أطفالاً وأن أستقر. إنني لم أتذكر ذلك إلا عندما جئت لأقدم استقالتي، شعرت في هذه اللحظة أنني لم أفعل شيئاً في حياتي، وأن كل الجهد الذي بذلته طوال هذه السنوات قد ضاع هباءً، وتمضي في كلامها إلى أن تقول: لو كنت قد تزوجت وكوّنت أسرة كبيرة لتركت أثراً أكبر وأحسن في الحياة، إن وظيفة المرأة الوحيدة هي أن تتزوج وتكوِّن أسرة، وأي مجهود تبذله غير ذلك لا قيمة له في حياتها هي بالذات، إنني أنصح كل طالبة تسمعني أن تضع هذه المهام أولاً في اعتبارها وبعدها تفكر في العمل والشهرة. انتهى كلامها.
والاستدلال بهذا الكلام للاعتبار والاتعاظ وخاصة لأولئك الذين تخمرت في رؤوسهم فكرة تأخير الزواج أو عدمه البتة لتتضح الرؤيا ولئلا يخضن تجربة قد خاضها الغرب والشرق وجنوا الويلات وانحلت بسببها الأخلاق وتدهورت المجتمعات، قال تعالى عنهم: يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مّنَ الْحياةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ [الروم:7]. وإن كانت هذه الظاهرة قد غزت بلاد المسلمين بشكل ملفت للنظر ولم يسلم منها أي بقعة من العالم فإن واجب المسلمين أن يتأملوا هذا الواقع ويفكروا تفكيراً جاداً ويضعوا الحلول العاجلة لمجتمعاتهم وصيانة أعراضهم وحمايتها وإبعادها عن كل ما يدنسها من حيث الصحة والأخلاق وهدم البيوت وتشتيت الأسر بسبب انحراف تلك الفئات عن منهج الإسلام ودين الفطرة السليمة والأخلاق الحميدة، ولا يظن أولئك المفسدون المنحرفون أن عامة الناس لا يعلمون ما هم عليه مكبون، وعما هم عليه مدمنون من تدمير المجتمع وهتك أعراضه، فإذا كان هذا أمر العامة من عدم علمهم ومعرفتهم فهناك من الخاصة من يعرف ذلك تماماً ولكنهم يريدون الستر على العباد وعدم إشاعة الفاحشة ولعلهم يتوبون ويرجعون عن غيّهم وفسادهم، ولو أن لديهم قليلاً من التفكير في العواقب في الدنيا والآخرة لسلكوا الطريق القويم، والله عز وجل يمهل ولا يهمل، ولو يؤاخذنا عز وجل بذنوبنا أو بما هو منتشر من الزنا والانحرافات الخطيرة لعجل لنا العقوبة، ولكنه الرؤوف الرحيم اللطيف بعباده العليم بضعفهم وغلبة شهواتهم عليهم وتسلط شياطين الإنس والجن عليهم قال تعالى: وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُواْ مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ وَلَاكِن يُؤَخّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيراً [فاطر:45]. ظَهَرَ الْفَسَادُ فِى الْبَرّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِى النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِى عَمِلُواْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الروم:41]. وقال تعالى: وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُم بِمَا كَسَبُواْ لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَل لَّهُم مَّوْعِدٌ لَّن يَجِدُواْ مِن دُونِهِ مَوْئِلاً [الكهف:58].
قال إبراهيم بن ميسرة رحمه الله قال لي طاووس: لتنكحن أو لأقولن لك ما قال عمر لأبي الزوائد: ما يمنعك من النكاح إلا عجز أو فجور. إن هذه العبارة الجميلة تعطي معاني كثيرة ويقف المتأمل لأحوال عدم الراغبين في الزواج وقفة تدبر وتأمل وتعجب عند هاتين الكلمتين: عجز أو فجور، نعم إنه لا يعدل عن سنة الزواج وهو قادر على تكاليفه إلا من به عجز من الناحية الجنسية أو العجز عن السعي والكسب لمن يعول أو العجز عن التربية والتعليم لمن تأخر سنه إلى غير ذلك من أنواع العجز، أو الفجور والانحراف عن الطريق المستقيم لأن الفاجر لما يرى مسايرة الفاجرات مثله يشك في أنه سوف يرتبط بامرأة عفيفة، ولا يرضى مع فجوره أن تكون له امرأة شرعية وهي فاجرة مثله، فلذلك يعرض عن الزواج لفجوره وقضائه شهوته من الفاجرات وبالطرق الأخرى.
والعجز والفجور ينطبق على الجنسين، وقد انتشر في المجتمعات بسبب تأخر سن الزواج الذي له أسباب عدة منها ما ذكرناه ومنها ما هو نابع من كثرة التكاليف للوصول إلى الزواج الشرعي المباح، وفي المقابل سهولة الوصول إلى الحرام.
فلينتبه الناس من غفلتهم ورقدتهم ويفيقوا من نعاسهم ونومهم، فالأمر في غاية الخطورة وإن قلل من شأنه من لا يعلم ما الناس عليه وما يدور حوله.
أما عدم زواج قليل من العلماء في القديم والحديث لانشغالهم بالعلم وإفادة الناس والعبادة فعملهم هذا وإن كان مبرراً بما سلف ولكنه مخالف للقرآن والسنة ولهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليسوا في ذلك بقدوة وإنما قدوتنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يدخلون في تلك العبارة التي أُثرت عن عمر بل هي لعامة الناس ممن لم تكن حالهم كحال هؤلاء، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الاْخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً [الأحزاب:21]. فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور:63]. وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [الأنفال:25]. وما أجمل السياق القرآني والتعقيب الإلهي بهذه الآية التي جاءت بعد آيات الحجاب والنكاح وقبلها آيات أحكام في الحياة الزوجية وهي قول الله تعالى في سورة النور: وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ ءايَاتٍ مُّبَيّنَاتٍ وَمَثَلاً مّنَ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لّلْمُتَّقِينَ [النور:34].
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي خلق الناس من نفس واحدة وخلق منها زوجها ليسكن إليها والحمد لله الذي يسر لعباده كل طريق يتمتعون به فيما أباح لهم من الطيبات في المناكح والأقوات واللباس والمساكن لتتم بذلك النعمة ويحصل الابتلاء والاختبار، فمن شكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فكفره على نفسه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة أدخرها ليوم تجزى فيه النفوس بما لها وما عليها وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وخليله وأمينه على وحيه وخيرته من خلقه صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان وسلم تسليماً.
أما بعد:
فإن من العقبات والمعوقات والعراقيل الكثيرة التي تحول دون الزواج ومصالحه عضل النساء أي منع المرأة من الزواج بكفئها، واحتكار بعض الأولياء لبناتهم أو من لهم ولاية تزويجهن، أولئك الأولياء الذين لا يخافون الله ولا يرعون أماناتهم ولا يرحمون من تحت أيديهم من النساء، فإذا تقدم للمرأة خاطب كفؤ منعت منه سواء كانت هذه المرأة بنتاً أو أختاً أو أماً أو غيرها ممن هي تحت ولاية هذا الرجل، وقد يكون المنع من قبل الولي أو لتدخل قصّار النظر من النساء والسفهاء والمنافقين والحاسدين لهذا الزوج بحجج فاسدة يقتنع بها الولي أو المرأة لئلا يتم ذلك الزواج كأن يقولوا: هذا كبير في السن، أو فقير، أو متدين متشدد، إلى غير ذلك مما يقدحون به في هذا الخاطب، وما آفته عندهم في الحقيقة إلا أنه لا يوافق مزاج أولئك السفهاء، وعندما يتم رد هذا الكفؤ بعد التفكير والتقدير وتداول الآراء الفاسدة يقولون الكلمة الأخيرة له: البنت قد خطبت، أو هي مخطوبة، أو شاورناها فأبت، أو البنت صغيرة، يقولون أقوالاً هي في الحقيقة كذب، فقد يأتي في اليوم الثاني أو بعد ساعات من يخطب من الفسقة أو كثير المال أو الذي يدخل مزاج هؤلاء الذين تدخلوا، فتتم الموافقة وترغم البنت على الزواج منه وهي لا ترضى به، فسبحان الله بين عشية وضحاها وخلال ساعات كبرت البنت وأصبحت مناسبة للزواج، بينما كانت مخطوبة عند الرد الكاذب للأول إذا هي غير مخطوبة للثاني، وبينما هي لم تشاور في الحقيقة على الخاطب الأول إذا هي ترغم على الثاني، انتكاس في الفطر، ويوم يتولى السفهاء زمام أمر النساء ولا يخافون الله ولا يحكمون شرعه عندها تضيع المسئولية وتهدر المصالح ويفسد الأمر، إنه يجب على ولي المرأة الرشيد الحازم إذا اقتنع من صلاحية الخاطب ورضيته المخطوبة أن يقدم على التزويج ولا يدع فرصة للمغرضين والعابثين والمفسدين وليتبع قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا أتاكم من ترضون خلقه ودينه فأنكحوه إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير)).
إن في منع المرأة من التزويج بكفئها في الدين والخلق بمثل هذه الأقوال الكاذبة معصية لله ورسوله وخيانة للأمانة وجناية من الولي على نفسه بمعصية الله ورسوله، وجناية على المرأة حيث منعها وعضلها من كفئها وفوّت عليها فرصة الزواج الذي هو عين مصلحتها، وأيضاً هو جناية على الخاطب حيث منعه من حق أمر الشارع إعطاءه إياه، فمثل هذا الولي تسقط ولايته على المرأة وتنتقل إلى من هو أصلح منه ولاية عليها من القرابة لدرجة أنه إذا عضلها الجميع فإن السلطان وليها والقاضي يزوجها، وهذا الولي الذي يتكرر منه العضل يصير فاسقاً ناقص الإيمان والدين، لا تقبل شهادته عند جمع من العلماء.
أيها المسلمون: إن أمر الزواج والعقبات التي تحول دونه أمر يهم الجميع، وهناك عقبة كؤود مهمة لم يستطع كثير من الشباب صعودها لصعوبة الوصول إلى الحلال عن طريقها والسير في دروبها ومسالكها وطرقها ووقفت غصة في حلوقهم وحاجزاً وسداً منيعاً أمام تحقيق فطرتهم حسب منهج دين الإسلام، وسوف تكون محور خطبة قادمة إن شاء الله.
ــــــــــــــــــــ(67/149)
الحجاب (1)
...
...
1987
...
الأسرة والمجتمع
...
...
المرأة
...
سعد بن عبد الله العجمة الغامدي
...
...
الطائف
...
...
...
سعيد الجندول
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- أدلة وجوب تغطية المرأة وجهها. 2- حكم البرقع.
الخطبة الأولى
أما بعد:
فلقد بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق ليخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد، بعثه الله لتحقيق عبادة الله عز وجل، وذلك بتمام الذل والخضوع له تبارك وتعالى بامتثال أوامره واجتناب نواهيه وتقديم ذلك على هوى النفس وشهواتها، وبعثه الله متمماً لمكارم الأخلاق داعياً إليها بكل وسيلة، فجاءت شريعته صلى الله عليه وسلم كاملة من جميع الوجوه لا تحتاج إلى مخلوق في تكميلها أو تنظيمها لأنها من لدن حكيم خبير عليم بما يصلح عباده رحيم بهم.
وإن من مكارم الأخلاق التي بعث بها رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم خلق الحياء الذي عدَّه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الإيمان وشعبة من شعبه، وإن من الحياء احتشام المرأة وتخلقها بالأخلاق الكريمة الفاضلة التي تبعدها عن مواقع الفتن ومواضع الريب، وأكبر احتشام تفعله وتتحلى به ويصون عرضها ويحفظ لها كرامتها ويبعدها عن الفتنة هو الحجاب الشرعي وتغطية وجهها وكفيها عن الأجانب فضلاً عما هو فوق ذلك مما يُعلم تحريم إبدائه وإظهاره لغير المحارم.
ولقد كان الناس في هذه البلاد المباركة إلا ما ندر على الطريق الصحيح في أمر الحجاب ونرى بوادر طيبة للأخذ بالأمر الواجب نحو النساء في أمر الحجاب، وقد حصل جدل كثير ولا زال حول الحجاب وجواز إظهار المرأة لوجهها وكفيها أمام الأجانب عنها من غير المحارم، وقالوا بأنه لا بأس بعدم تغطية الوجه وهؤلاء منهم من ساء فهمه لنصوص الكتاب والسنة فأخطأ في المسألة، ومنهم من اتبع هوى الأنفس في ذلك، لذلك وجب إظهار الحق وإزالة الشك وذلك بإيراد الأدلة من القرآن الكريم وسنة النبي محمد صلى الله عليه وسلم ليتبين وجوب احتجاب المرأة على الرجال الأجانب عنها وتغطية وجهها ليكون المسلم على بصيرة في معرفة الأدلة الموجبة لذلك، وليلزم أهله بالحجاب طاعة له سبحانه وعبادة له ولتفعله المرأة المؤمنة تقرباً إلى الله عز وجل وامتثالاً لأمره ولتنال رضاه عز وجل ولتثاب على ذلك وتنال الأجر من الله، وليس للعادة ومجاراة الناس، فإن فعلته عادة فليس لها من الأجر شيء لأن الأعمال بالنيات.
قال الله تعالى: وَقُل لّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ ءابَائِهِنَّ أَوْ ءابَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِى إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِى أَخَواتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِى الإِرْبَةِ مِنَ الرّجَالِ أَوِ الطّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُواْ عَلَى عَوْراتِ النّسَاء وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُواْ إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور:31].
وبيان دلالة هذه الآية على وجوب الحجاب على المرأة عن الرجال الأجانب من عدة وجوه: أولا: أن الله تعالى أمر المؤمنات بحفظ فروجهن عن الزنا، والأمر بحفظ الفرج أمر بحفظ واجتناب كل الوسائل المؤدية للوقوع في الزنا من نظر واختلاط وسفور وإبداء زينة للأجانب وسماع الأغاني والصور وخضوع في القول وضرب بالأرجل ليعلم ما يخفى من الزينة. وفي الحديث: ((العينان تزنيان وزناهما النظر)) إلى أن قال: ((والفرج يصدق ذلك أو يكذبه)). فإذا كان تغطية الوجه من وسائل حفظ الفرج كان مأموراً به، لأن الوسائل والأسباب لها أحكام المقاصد والغايات.
ثانياً: قوله تعالى: وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ. إذا كانت المرأة مأمورة بأن تضرب الخمار على جيبها _ والخمار ما تخمر به المرأة رأسها وتغطيه به _ فإنها مأمورة بستر وجهها. لأنه إذا وجب ستر النحر والصدر والرأس كان وجوب ستر الوجه من باب أولى لأنه موضع الجمال والفتنة، والناس الذين يطلبون جمال الصورة لا يسألون إلا عن الوجه وأوصاف ما فيه من حواس وجمال، فإذا كان الوجه جميلاً لم ينظروا إلى ما سواه نظراً ذا أهمية، ولو نظر أي إنسان إلى امرأة فجأة أو نظر تأمل فإن أول ما يقع عليه نظره هو وجه المرأة، ومنه يعرف جمالها أو دمامتها ولا يقع نظره لأول وهلة على رجليها.
ثالثاً: إن الله تعالى نهى عن إبداء الزينة مطلقاً إلا ما ظهر منها وهي التي لابد من أن تظهر كظاهر الثياب، أو ظهرت من المرأة بدون قصد وتعمدٍ منها، ولذلك قال تعالى: إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا ولم يقل سبحانه وتعالى إلا ما أظهرن منها، فالفرق بين أن تُظْهِرَ المرأةُ الزينةَ بنفسها غير أن تَظْهَرَ الزينةُ عن غير عمد إما لريح أظهرت الزينة بإسقاط ما عليها من لباس وحجاب أو سقطت من غير عمد وقصد.
وقيل بأن النهي عن الزينة الأولى غير الزينة الثانية، فالأولى هي زينة الظاهر سواء في الملابس الخارجية التي تستر بها جسمها وعليها أن تسترها بالعباءة، أو ما تتجمل به من ذهب وغيره أو الوجه والكفين إذا ظهرت من ريح وخلافها من غير تعمد لإظهارها، ولو كانت هي الزينة نفسها في الموضعين فإنما هي للتأكيد ولمعرفة الفرق في الحاليتين، ولا تعارض بينهما أبداً لمن يفهم اللغة الفهم الصحيح كما سبقت الإشارة إليه بأن الفرق واضح بين ظهر وأظهر، فلو أن شخصاً لديه شاة وأخرجها هو وأظهرها من مكانها، أو خرجت هي بنفسها وظهرت من مكانها أفلا يختلف التعبير في الحالتين؟ مع أن الظهور حصل في كلتيهما وإلا لو كانت الزينة الأولى والثانية واحدة لاستوى في ذلك المحارم وغير المحارم لمن قال بالاختلاف في الموضعين، مع أن الراجح في التكرار هو لوجود الجملة الاعتراضية التي تؤكد إسدال الخمار من فوق الرأس فجاء بعدها التفصيل في ذكر المحارم ليتضح لمن تبدي المرأة زينتها، ولو أن الزوج والأب والأخ والابن وغيرهم من المحارم ينظرون إلى الوجه والكفين من المرأة وكذلك الأجنبي على حد سواء، لما كان لذكر المحارم فائدة في الآية. قال تعالى: وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ ءابَائِهِنَّ أَوْ ءابَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِى إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِى أَخَواتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِى الإِرْبَةِ مِنَ الرّجَالِ أَوِ الطّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُواْ عَلَى عَوْراتِ النّسَاء وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُواْ إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور:31].
وكذلك قول الله عز وجل في سورة الأحزاب: لاَّ جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِى ءابَائِهِنَّ وَلاَ أَبْنَائِهِنَّ وَلاَ إِخْوانِهِنَّ وَلاَ أَبْنَاء إِخْوانِهِنَّ وَلاَ أَبْنَاء أَخَواتِهِنَّ وَلاَ نِسَائِهِنَّ وَلاَ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلّ شَىْء شَهِيداً [الأحزاب:55]. فلو أن هؤلاء المحارم للمرأة الذين ذكروا في هاتين الآيتين يستوون مع غيرهم في النظر إلى وجه المرأة وكفيها وزينتها الظاهرة لما تم استثناؤهم ولما كان في الاستثناء فائدة تذكر، ولو أن لهم حدوداً أخرى يمكن تجاوزها والنظر إليها من المرأة غير ذلك لتم ذكرها في القرآن الكريم والسنة المطهرة، علماً بأن هذه الآية في سورة الأحزاب جاءت بعد آية الاستئذان في الدخول وأدب الطعام والجلوس في بيوت النبي محمد صلى الله عليه وسلم، كما هو الحال أيضاً في آيات سورة النور.
ومن ضمن الأوامر والنواهي الواردة في الآيات الأمر بالسؤال والطلب لأي شيء من وراء حجاب، كما قال تعالى: وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْئَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ ذالِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تؤْذُواْ رَسُولَ اللَّهِ وَلاَ أَن تَنكِحُواْ أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذالِكُمْ كَانَ عِندَ اللَّهِ عَظِيماً [الأحزاب:53]. ثم أعقبها سبحانه بعد عدة آيات بالأمر الذي يقتضي وجوب الحجاب والذي لا إشكال فيه ولا مراء، قال تعالى: يأَيُّهَا النَّبِىُّ قُل لاِزْواجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذالِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً [الأحزاب:59].
رابعاً: رخص الله تعالى للمرأة بإبداء زينتها للتابعين غير أولي الإربة من الرجال وهم الخدم الذين لا شهوة لهم البتة، وللأطفال الذين لم يبلغوا الشهوة ولم يطلعوا على عورات النساء ولا يعرفون وصف المرأة، فهؤلاء الأجانب الذين استثناهم الله عز وجل بشروطهم يحل للمرأة أن تكشف وجهها لهم وما عداهم فلا، أما السائق والخادم والعامل وغيرهم من الموجودين في البيوت الآن فلا يجوز للمرأة المسلمة أن تكشف وجهها وكفيها لهم فضلاً عن أكثر من ذلك من جسمها كما هو واقع ومنتشر في بعض بلاد المسلمين.
خامساً: إذا كانت المرأة منهية عن الضرب برجلها على الأرض لئلا يعلم أحد بما تخفيه من الخلاخل ونحوها مما تتحلى به لزوجها خوفاً من افتتان الرجال بها وما يسمع من صوت خلخالها ونحوه إذا كانت منهية عن ذلك فكيف بكشف الوجه؟ وأي شيء أعظم فتنة من أن يسمع الرجل خلخالاً في قدم امرأة لا يدري أشابة هي أم عجوز؟ أجميلة هي أم دميمة؟ فأي شيء أعظم فتنة النظر إلى وجه سافر جميل ممتليء شباباً ونضارة وحسناً وتجملاً؟ أم النظر إلى قدم امرأة؟ وأيهما أحق بالستر والإخفاء الوجه والكفان أم القدمان والزينة التي عليها ومنهية عن إظهارها؟ قال تعالى: وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ [النور:31]. فالكعب العالي وما يقوم مقامه من الأحذية التي تدق به المرأة الأرض خاصة على البلاط ليعلم مشيها ولفت الانتباه إليها منهي عنه أيضاً.
سادساً: تعقيب من الله تعالى في نهاية الآية الكريمة لمن كان في صدر الإسلام وإلى أن تقوم الساعة ينطبق عليهم جميعاً سواء امرأة لم تعرف الحجاب من قبل أو رجل لم يعرف الحكم ولم يُلزم أهله ومن تحت يديه من النساء بذلك، التعقيب بالأمر بالتوبة مما هو مخالف لذلك الأمر في بداية الآية، ومما هو معلوم أن الأمر يقتضي الوجوب، والنهي في بداية هذه الآية وفي غيرها يقتضي التحريم المخالف لذلك، وهذا عام في كل أمور الشريعة، ولنستمع إلى قوله تعالى: وَتُوبُواْ إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور:31]. ولا يقل أحد لم تفعله زوجتي وابنتي فيما سلف، أو ولا يصح أن تقول امرأة: إنني كنت سافرة ولم يعد الحجاب صالحاً بعد أن رآني الناس، كلا؟ فالأمر من الله بالتوبة يقتضي وجوب التوبة والإقلاع عما سلف لينال الفلاح كل مؤمن ومؤمنة، والأمر بتحجب النساء عن الرجال الأجانب لم ينزل القرآن به في مكة المكرمة مع أن المؤمنين والمؤمنات جلسوا فيها ثلاثة عشر عاماً لا تحتجب النساء عن الرجال وكذلك الحال في المدينة لم تنزل فرضية الحجاب إلا في السنة السادسة من الهجرة أي قرابة تسعة عشر عاماً بعد البعثة النبوية، ومع هذا فلم تقل امرأة مؤمنة بأن الرجال كانوا يرونني قبل ذلك فلن أتحجب عنهم، ولم يقل مؤمن أن فلانة لم تكن متحجبة من قبل فلن أتزوجها لأن الرجال قد رأوها، بل الكل خاضع لله وحده مطيع لأمر ربه ومنيب إليه، ويتوب الله على من تاب.
ولفتة يسترشد بها أهل العقول والفطر السليمة ليعلموا وجوب وفرضية الحجاب على النساء المؤمنات. فالآية المذكورة هي في سورة النور مع أن وجوب الحجاب يؤخذ من الآية نفسها ابتداءً من قول الله عز وجل: وَقُل لّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ إلى نهاية الآية في قوله تعالى: وَتُوبُواْ إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور:31].
مع أن الأمر الذي يقتضي الوجوب يؤخذ من هذه الآية من أول كلمة فيها وآخر جملة والآية جميعها عندما يتدبرها من يريد الشرع المطهر ومع هذا فهناك أمر بفرضية الحجاب وغيره من الأحكام في بداية السورة، وكذلك في نهاية السورة نهي من الله عز وجل بعدم مخالفة أمر الرسول صلى الله عليه وسلم وإلا فإن العقاب ينتظر من يخالف أمره في الدنيا والآخرة، ولنستمع إلى قول الله عز وجل في بداية السورة قال تعالى: سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَا ءايَاتٍ بَيّنَاتٍ لَّعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النور:1].
فالكلام بلغة عربية واضحة حيث قال الله تعالى: وَفَرَضْنَاهَا بعد قوله سورة أنزلناها ولم يقل آية أو آيات منها ثم عقب سبحانه بقول: وَأَنزَلْنَا فِيهَا ءايَاتٍ بَيّنَاتٍ. أي آيات واضحات لا لبس فيها ولا غموض لَّعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ.
ثم لنعلم وجوب دليل الاتباع للرسول محمد صلى الله عليه وسلم وعدم مخالفة أمره سواء في هذه الأحكام في هذه السورة أو في غيرها قال الله تعالى: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور:63]. فكانت هذه الآية في نهاية السورة وتلك في أول آية من السورة التي ذكر فيها الحجاب وغيره من أحكام تجدر العناية بها من قبل كل مؤمن ومؤمنة.
وتنبيه لطيف إلى سياق آية الحجاب عن غير المحارم حيث جاءت تلك الآية بعد أن ذكر الله عن حد الزاني والزانية وعن اللعان وحادثة الإفك وعقوبة رمي المحصنات الغافلات المؤمنات في الدنيا والآخرة وعن حكم دخول بيوت الغير ثم عقب سبحانه بما يحفظ للمؤمنين أنسابهم وأعراضهم وعدم وقوعهم في الفواحش أو القرب منها، وبعد آية فرض الحجاب على المسلمات جاء الأمر بتزويج الصالحين من العباد والإماء والاستعفاف ممن لا يستطيع النكاح حتى الغنى وأعقب ذلك عز وجل بقوله تبارك وتعالى في منتصف السورة: وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ ءايَاتٍ مُّبَيّنَاتٍ وَمَثَلاً مّنَ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لّلْمُتَّقِينَ [النور:34].
الخطبة الثانية
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه أحمده تعالى وأشكره وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن سيدنا وحبيبنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله اللهم صلّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه.
أما بعد:
فإن إيراد الأدلة من الكتاب والسنة على وجوب الحجاب يحتاج إلى خطب عديدة لتوضيح الغامض وليعرف ذلك كل مؤمن، لكني أقتصر إن شاء الله تعالى على خطبة قادمة أكمل فيها إيراد الأدلة، أما الآن فمع الدليل الثاني من القرآن الكريم وهو قول الله عز وجل: يأَيُّهَا النَّبِىُّ قُل لاِزْواجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذالِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً [الأحزاب:59]. عن أم سلمة رضي الله عنها أنها قالت: لما نزلت هذه الآية خرج نساء الأنصار كأن على رؤوسهن الغربان من السكينة وعليهن أكسية سود يلبسنها. وقال ابن عباس رضي الله عنهما في تفسيره لهذه الآية: أمر الله نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن في حاجة أن يغطين وجوههن من فوق رؤوسهن بالجلاليب ويبدين عيناً واحدة، وقوله رضي الله عنه: ويبدين عيناً واحدة إنما رخص في ذلك لأجل الضرورة والحاجة إلى نظر الطريق عند المشي لثقل الجلباب وسماكته، أما إذا لم تكن حاجة فلا موجب لإظهار العين الواحدة فضلاً عن العينين، وما هذه البراقع بالحجاب المأمور به، بل هي الفتنة والداء العضال حيث تفتن المرأة الرجال بإظهار وجنتيها وحاجبيها وعينيها وجزء من أنفها ووجهها، فالبراقع الحالية لا يجوز للمرأة المسلمة استعمالها لأنها الفتنة بعينها، ومن تستعملها فليست بمتحجبة بل هي متبرجة لأنها حجاب المتبرجات الآن، والفرق بين الثقب في الحجاب لإظهار عين واحدة لترى المرأة الطريق من سماكة الحجاب غير البراقع الفاتنة التي تعدت حدقات العينين وليس العين الواحدة فليتنبه للتوسع الحاصل في أمر البراقع التي فتنت الرجال وفتنت النساء أيضاً حيث التفنن في أشكالها وأنواعها وطرق لبسها وغير ذلك.
والجلباب: هو الرداء فوق الخمار، وهو بمنزلة العباءة التي تلبس في هذا الزمن. ولنتأمل قول الله عز وجل حين صدّر الخطاب والأمر بالنداء للرسول صلى الله عليه وسلم وأعقبه بفعل الأمر الذي يقتضي الوجوب، ثم ذكر عز وجل النساء المأمورات بذلك بدءاً بأزواجه عليه الصلاة والسلام وبناته ثم نساء المؤمنين وليس نساء الكافرين لتتضح الحقيقة وتتجلى لمن كان لديه أدنى شك قال تعالى: يأَيُّهَا النَّبِىُّ قُل لاِزْواجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذالِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ [الأحزاب:59]. أقل أمر وأدناه من وراء الحجاب عدم معرفة الأشرار من المنافقين وغيرهم في كل زمان ومكان لئلا تؤذى المرأة المسلمة، وما أجمله من تعقيب كالسابق في سورة النور، فالله يعلم من المرأة فيما سبق أنها غير متحجبة فلا تحتجّ أو يُحتجّ عليها بأنها لم تكن تلبسه من الصغر فالله هو الغفور الرحيم سبحانه حيث قال تعالى: وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماًً [الأحزاب:59]. وما أجمل سياق الآيات قبل هذه الآية وبعدها فلنتدبره لنعلم حال المنافقين المغرضين الذين في قلوبهم مرض من زمن الرسول صلى الله عليه وسلم إلى قيام الساعة حول حجاب المرأة المسلمة. فالآية التي قبل آية الحجاب هي قول الله تعالى: وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُواْ فَقَدِ احْتَمَلُواْ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً [الأحزاب:58]. أما الآيات بعدها فهي قول الله عز وجل: لَّئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِى الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلاَّ قَلِيلاً مَّلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُواْ أُخِذُواْ وَقُتّلُواْ تَقْتِيلاً سُنَّةَ اللَّهِ فِى الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً [الأحزاب:60-62]. والآيات التي قبلها وسبق الإشارة إليها وفيها قول الله عز وجل: وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْئَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ ذالِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ [الأحزاب:53]. وقوله تبارك وتعالى: لاَّ جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِى ءابَائِهِنَّ وَلاَ أَبْنَائِهِنَّ وَلاَ إِخْوانِهِنَّ وَلاَ أَبْنَاء إِخْوانِهِنَّ وَلاَ أَبْنَاء أَخَواتِهِنَّ وَلاَ نِسَائِهِنَّ وَلاَ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلّ شَىْء شَهِيداً [الأحزاب:55].
فلتنظر ولتتأمل كل مسلمة هذه الجملة الأخيرة: إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلّ شَىْء شَهِيدا
ــــــــــــــــــــ(67/150)
تكملة عن الحجاب (2)
...
...
2023
...
الأسرة والمجتمع
...
...
المرأة
...
سعد بن عبد الله العجمة الغامدي
...
...
الطائف
...
...
...
سعيد الجندول
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- أدلة وجوب النقاب على المرأة المسلمة من القرآن. 2- أدلة وجوب تغطية المرأة وجهها من السنة النبوية.
الخطبة الأولى
أما بعد:
فقد سبق الكلام في الخطبة السابقة عن وجوب الحجاب على المرأة المسلمة وأوردت دليلين فقط من القرآن الكريم وهما أعظم الأدلة وأوضحها لمن أراد العلم والعمل وأعيدهما أيضاً لإتمام الفائدة وهما قول الله عز وجل في سورة النور: وَقُل لّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ ءابَائِهِنَّ أَوْ ءابَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِى إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِى أَخَواتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِى الإِرْبَةِ مِنَ الرّجَالِ أَوِ الطّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُواْ عَلَى عَوْراتِ النّسَاء وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُواْ إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور:31]. وفي سورة الأحزاب قول الله عز وجل: يأَيُّهَا النَّبِىُّ قُل لاِزْواجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذالِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً [الأحزاب:59]. وكفى بهذين الدليلين إقناعاً لمن أراد الامتثال والطاعة لله ولرسوله، ومع هذا فأورد ما تيسر من الأدلة أيضاً.
الدليل الثالث: قول الله عز وجل: وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْئَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ ذالِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ [الأحزاب:53]. فهذه الآية نص واضح في وجوب تحجب النساء عن الرجال وتسترهن منهم، والحجاب هنا أعم وأشمل من غطاء الوجه والكفين، فالسؤال يكون من وراء ساتر وما نع من جدار أو باب أو حجاب أو ما تتغطى به المرأة وتستتر وتمنع الرجال من رؤيتها بأي حاجب وساتر، وقد أوضح الله سبحانه وتعالى في هذه الآية أن التحجب أطهر لقلوب الرجال والنساء وأبعد عن الفاحشة وأسبابها، وفي هذا إشارة إلى أن السفور وعدم التحجب خبث ونجاسة وأن التحجب طهارة وسلامة.
الدليل الرابع: قوله تعالى: وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النّسَاء الَّلَاتِى لاَ يَرْجُونَ نِكَاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرّجَاتِ بِزِينَةٍ وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَّهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عِلِيمٌ [النور:60]. يخبر سبحانه أن القواعد من النساء وهن العجائز اللاتي لا يرغبن في الزواج لا جناح عليهن أن يضعن ثيابهن عن وجوههن وأيديهن إذا كن غير متبرجات بزينة، فعلم بذلك أن المتبرجة بالزينة ليس لها أن تضع ثوبها عن وجهها ويديها وغير ذلك من زينتها، وأن عليها جناحاً في ذلك ولو كانت عجوزاً لأن لكل ساقطة في الحي لاقطة، ولأن التبرج يفضي إلى الافتتان بالمتبرجة ولو كانت عجوزاً، فكيف يكون الحال بالشابة والجميلة إذا تبرجت؟ لا شك أن إثمها أعظم، والجناح عليها أشد، والفتنة بها أكبر، وشرط سبحانه في حق العجوز ألا تكون ممن يرجو النكاح _ أي لا ترغب في الزواج ولا تريده _ وما ذاك والله أعلم إلا لأن رجاءها النكاح يدعوها إلى التجمل والتبرج بالزينة طمعاً في الأزواج فنهيت عن وضع ثيابها عن محاسنها صيانة لها ولغيرها من الفتنة، ثم ختم الآية سبحانه بتحريض القواعد على الاستعفاف، وأوضح عز وجل بأنه خير لهن وإن لم يتبرجن، فظهر بذلك فضل التحجب والتستر بالثياب ولو من العجائز وأنه خير لهن من وضع الثياب، فوجب أن يكون التحجب والاستعفاف عن إظهار الزينة خيراً للشابات من باب أولى وأبعد لهن عن أسباب الفتنة.
وتنبيه لطيف يجدر بنا إيضاحه عندما نهى الله عز وجل المؤمنات عن إبداء الزينة من المرأة، ومعلوم أن الزينة من ذهب وفضة وجواهر ثمينة وكحل وحناء وغيرها من الأصباغ إنما تتجمل به المرأة وتضعه على وجهها ويديها لتجذب به الرجال إليها من زوج وغيره، فإذا نهيت عن إبدائه وأمرت بستره وإخفائه فلا يكون ستره إلا بستر الوجه والكفين.
الدليل الخامس: قول الله عز وجل: لاَّ جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِى ءابَائِهِنَّ وَلاَ أَبْنَائِهِنَّ وَلاَ إِخْوانِهِنَّ وَلاَ أَبْنَاء إِخْوانِهِنَّ وَلاَ أَبْنَاء أَخَواتِهِنَّ وَلاَ نِسَائِهِنَّ وَلاَ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلّ شَىْء شَهِيداً [الأحزاب:55]. قال ابن كثير رحمه الله: لما أمر الله النساء بالحجاب عن الأجانب بين أن هؤلاء الأقارب لا يجب الإحتجاب عنهم كما استثناهم في سورة النور عند قوله تعالى: وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ ءابَائِهِنَّ... الآية، فبين تعالى أن المرأة المسلمة لا جناح ولا إثم عليها في هؤلاء الأصناف من الأقارب في أن تبدي وجهها وكفيها وزينتها الظاهرة لهم، وكذلك الخال والعم لورود الأدلة من السنة بذلك، وزوج الأم قبل أبيها أو بعده، أما من عداهم فالآية صريحة في ذلك حيث تكرر هؤلاء الأصناف في سورة النور وسورة الأحزاب، فالإثم واقع عليها لا محالة إن هي أبدت وجهها وكفيها وزينتها الظاهرة لهم وإن كان لأخي الزوج أو أبناء عمه أو الأرحام والأصهار فيما جرت به العادة عند كثير من المسلمين حيث تكشف المرأة وتظهر سافرة أمامهم، فهذا لا يجوز فعله أبداً، فالحمو هو الموت كما ورد في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم لما سئل: أفرأيت الحمو؟ قال: ((الحمو الموت)).
ثم لنتأمل التعقيب الإلهي بعد ذكر من يجوز للمرأة أن تكشف لهم عن وجهها وكفيها لئلا تسول لها نفسها الأمارة بالسوء وكذلك شياطين الإنس والجن عند غياب زوجها عنها أو من يأمرها بالحجاب، فعند غياب الآمر لها بالحجاب قد يدخل عليها الحمو أو ابن العم أو ابن الخال أو الصهر أو غيرهم من القرابة بحضرة الأم أو الأخت أو قد يكون أحد أقربائها الرجال ويقولون لها: اكشفي عن وجهك لا شيء في ذلك، إن زوجك غائب أو أباك غير موجود أو من يأمرها بالحجاب، وتنخدع بكلامهم ويقع الجميع في الإثم وفي سخط الله عز وجل، وقد يجر ذلك إلى وقوع الفاحشة بعد مدة سواء طال الزمن أو قصر، ولكن لنستمع إلى التعقيب الإلهي من الله عالم الغيب والشهادة الذي: يَعْلَمُ خَائِنَةَ الاْعْيُنِ وَمَا تُخْفِى الصُّدُورُ [غافر:19]. حيث قال سبحانه: وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلّ شَىْء شَهِيداً [الأحزاب:55]. فعلى المؤمنات أن يتقين الله تعالى ولا يبدين زينتهن إلا لمن رخص لهن الله تعالى فيهم، وما عداهم فإن الله سيحاسبهنّ عليهم، فهو على كل شئ شهيد مهما اختفين عن أعين الناس من أولياء أمورهن الذين لا يرضون ذلك، ومهما تسترن أو دلّس عليهن مدلس أو مدلسة من أهل القلوب المريضة فإن الله تعالى بالمرصاد، فعلى كل مؤمنة بالله أن تحتجب عن كل أجنبي يجوز له الزواج منها سواء كان قريباً أو بعيداً، وعلى كل مؤمن ولي أمر امرأة مؤمنة أن يلزمها الحجاب الشرعي ويعودها عليه من سن مبكرة حتى تعتاده وتلتزم به.
تلك هي أدلة القرآن الكريم، أما السنة المطهرة فمنها ما يلي:
1- أن النبي صلى الله عليه وسلم لما رغب في إخراج النساء حتى الحائض إلى مصلى العيد ليشهدن الخير ودعوة المسلمين، قلن: يا رسول الله: إحدانا لا يكون لها جلباب فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لتلبسها أختها من جلبابها)) [رواه البخاري ومسلم وغيرهما]. فهذا الحديث يدل على أن المعتاد عند نساء الصحابة أن لا تخرج المرأة إلا بجلباب، وعند عدمه لا يمكن أن تخرج بغير جلباب إلى مصلى العيد أو غيره، وقد سبق تعريف الجلباب.
2- قوله صلى الله عليه وسلم: ((إذا خطب أحدكم امرأة فلا جناح عليه أن ينظر منها إذا كان إنما ينظر إليها لخطبة _ وإن كانت لا تعلم)). فنفي النبي صلى الله عليه وسلم الجناح وهو الإثم عن الخاطب خاصة إذا نظر إلى مخطوبته بشرط أن يكون نظره للخطبة فيه الدلالة على أن غير الخاطب آثم بالنظر إلى الأجنبية بكل حال، وكذلك الخاطب إذا نظر لغير الخطبة كالتلذذ والتمتع بالنظر إليها. ومعلوم أن النظر إلى الوجه هو الأساس وما سواه تبع ولا يقصد غالباً، وقد وردت عدة أحاديث في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
3- عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الفجر فيشهد معه نساء من المؤمنات متلفعات بمروطهن ثم يرجعن إلى بيوتهن ما يعرفهن أحد من الغلس، وقالت: لو رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم من النساء ما رأينا لمنعهن من المساجد كما منعت بنو إسرائيل نساءها.
4- وورد أيضاً عن عائشة رضي الله عنها قولها: ((رحم الله نساء الأنصار لما نزلت آيات الحجاب في الليل شهدن صلاة الصبح مع النبي صلى الله عليه وسلم وكأن على رؤوسهن الغربان)) وهذا دليل على سرعة الامتثال لأمر الله وأمر رسوله وأن الحجاب لم يفرض عليهن في مكة وإنما كان في المدينة في السنة السادسة من الهجرة كما ثبت في السنة.
5- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة)) فقالت أم سلمة رضي الله عنها: فكيف يصنع النساء بذيولهن؟ قال: ((يرخينه شبراً)) قالت: إذاً تنكشف أقدامهن قال: ((يرخين ذراعاً ولا يزدن عليه)). ففي هذا الحديث دليل على وجوب ستر قدم المرأة، ومعلوم أن القدم أقل فتنة من الوجه والكفين، فالتنبيه بالأدنى تنبيه على ما فوقه وما هو أولى منه بالحكم. فدل ذلك على وجوب ستر الوجه والكفين.
6- ثبت في الصحيحين وغيرهما أن المرأة المحرمة بحج أو عمرة تنهى عن لبس النقاب والقفازين، فالنقاب الغطاء المخرق منه للعينين وتضعه المرأة على وجهها، والقفاز: ما تلبسه المرأة على كفيها لتستر به كفيها عن الأجانب، وهذا دليل على أن لبس القفاز للنساء كان معروفاً من زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس مبتدعاً الآن كما يعتقده بعض الناس ويتكلم فيه قليلو الفقه في الدين، بل إن ذلك معمول به في الزمن الأول منذ عهد الرسول صلى الله عليه وسلم.
الخطبة الثانية
الحمد له حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه أحمده تعالى وأشكره وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن سيدنا محمداً عبد الله ورسوله، اللهم صلّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه.
أما بعد:
فالدليل السابع عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان الركبان يمرون بنا ونحن محرمات مع الرسول صلى الله عليه وسلم فإذا حاذونا سدلت إحدانا جلبابها على وجهها من رأسها، فإذا جاوزونا كشفناه). فقولها رضي الله عنها: (سدلت إحدانا جلبابها على وجهها من رأسها) هذا توضيح لما يتمسك به المشككون في وجوب الحجاب على المرأة المسلمة توضيح لا إشكال فيه بأن الجلباب المقصود به غطاء الوجه الذي تسدله المرأة من فوق رأسها وتضعه على وجهها وهو دليل على وجوب ستر الوجه حتى ولو في الإحرام، لأن المشروع بل الواجب في الإحرام كشف الوجه بالنسبة للمرأة ما لم تكن بحضرة أجانب عنها، فلولا وجود مانع قوي من كشفه حينئذٍ لوجب بقاؤه مكشوفاً حتى ولو مرَّ بهم الركبان، فمع أن كشف الوجه في الإحرام واجب على النساء عند أكثر أهل العلم إلا أن الواجب لا يعارضه إلا ما هو أوجب منه فلولا وجوب الاحتجاب وتغطية الوجه عن الأجانب وكان أعظم وجوباً ما ساغ ترك الواجب الآخر وهو كشفه حال الإحرام. فهذا دليل قاطع إلى جانب الأدلة السابقة واللاحقة.
8- ثم يأتي دليل آخر من عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها في حديث الإفك حينما روت قصة ذلك بنفسها في عدة روايات عنها في صحيح البخاري رحمه الله، منها لما قالت عن صفوان بن المعطل: ((فعرفني حين رآني، وكان قد رآني قبل الحجاب، فاستيقظت باسترجاعه، فخمرتُ وجهي بجلبابي)) وفي رواية أخرى: ((فعرفني حين رآني، وكان قد رآني قبل أن يفرض علينا الحجاب)) وفي رواية: ((قبل أن يضرب علينا الحجاب)). فقولها رضي الله عنها قبل أن يفرض علينا الحجاب وتخميرها لوجهها بجلبابها دليل على أن تغطية الوجه في بداية الإسلام لم تكن واجبة إنما كان الوجوب بعد نزول آيات الحجاب، ودليل قاطع لمواجهة المشككين في وجوب تغطية وجه المرأة عن الأجانب عنها ولا يستطيعون القدح فيه وفي عباراته وجمله التي منها: ((فعرفني حين رآني وكان قد رآني قبل أن يفرض علينا الحجاب)). ((فخمرت وجهي بجلبابي وكان قد رآني قبل الحجاب)). نسأل الله أن لا يجعلنا ممن عناهم بقوله تعالى: هُوَ الَّذِى أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فى قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ ءامَنَّا بِهِ كُلٌّ مّنْ عِندِ رَبّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الالْبَابِ رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ [آل عمران:7-8].
9- دليل آخر روته السيدة عائشة رضي الله عنها حيث قالت: (خرجت سودة بنت زمعة بعد ما ضرب الحجاب لحاجتها. . إلى آخر الحديث الطويل). فالشاهد قولها رضي الله عنها بعد ما ضرب الحجاب أي أنه لم يكن الحجاب مأموراً به في بداية الإسلام وإنما جاء الأمر من الله عز وجل فيما بعد ولم يفرضه رسول الله صلى الله عليه وسلم من عند نفسه بل كان التشريع من الله تعالى، مع أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه من شدة غيرته قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يدخل عليك البر والفاجر، ألا تأمر نساءك بالحجاب؟ فلم يجبه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ذلك، لأن التشريع من عند الله تعالى وليس من عنده صلى الله عليه وسلم فنزلت آيات الحجاب بعد ذلك، وكانت تلك من موافقاته لأمر ربه التي رويت عنه رضي الله عنه.
فيا أيها المؤمنون: إن الأدلة كثيرة ولا يتسع المقام لذكرها وتفصيلها بل الإجمال فيها كان أقرب فيما ذكر فقط، فمن أراد الامتثال لأمر الله ورسوله فيكفيه دليل واحد من القرآن أو السنة، وعليه أن يلزم أهله ومن تحت يده من النساء بالحجاب الشرعي وليكن غيوراً عليهن، ويخبرهن ويفهمهن بأن ذلك أمر الله وأمر رسوله، ويبتغين به وجه الله ليكون لهن الأجر العظيم من الله جل جلاله، وأن يقبلن ذلك عن رضا وقناعة وحب الله ورسوله لا أن يعملن به عن كراهية وبغض أو عن عادة يسايرن فيه غيرهن، فمتى كان عن كراهية وبغض ولو عملن به فإن ذلك من نواقض الإسلام، ومثلهن في ذلك من يربي لحيته وهو كاره ومبغض لعمله ذلك، فمع أنه عمل بالواجب ولكن الكراهة والبغض في قلبه تحبط عمله ويصبح منافقاً لأنه لم يفعلها طاعة لله ورسوله وحباً وتقرباً وعبادة لله تعالى، وأعظم من ذلك وأشد جرماً من يربي لحيته للتدليس والتستر لفعل الجرائم والموبقات مع أنه قد لا يصلي أو يصلي ويفعل ذلك لإيهام الناس والتغرير بهم أو الاصطياد في الماء العكر أو لقضاء حاجات بلحيته تلك صغرت أو كبرت، فإذا خفي مقصده عن البشر فلا يخفى على الله الذي يعلم السر وأخفى.
فعلى كل مؤمن أن يلزم أهله بالحجاب الشرعي طاعة وعبادة لله ليحوزوا جميعاً على الأجر العظيم من الله جل وعلا لأن الدال على الخير، والداعي إلى الهدى له من الأجر كأجور من عمل به. فمتى كان العمل كذلك تظهر آثاره الطيبة في المجتمع وفي الأسر، ومتى كان العكس فالشر والوبال على أصحابه أولاً ثم يسري ذلك على المجتمع عياذاً بالله من كل سوء.
ــــــــــــــــــــ(67/151)
الأسرة في الإسلام
...
...
2062
...
الأسرة والمجتمع
...
...
قضايا الأسرة
...
عبد الباري بن عوض الثبيتي
...
...
المدينة المنورة
...
15/4/1422
...
...
المسجد النبوي
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- الأسرة نواة المجتمع. 2- اهتمام الإسلام بالأسرة. 3- الأسس التي تقوم عليها الأسرة. 4- أسباب تفكك الأسرة. 5- رسالة الأسرة المسلمة ووظائفها. 6- دعاة تحديد النسل. 7- مسؤولية الأسرة المسلمة. 8- نتاج الأسرة المسلمة. 9- الحملات على الأسرة المسلمة. 10- الاستعداد لقيادة الأسرة. 11- حقيقة القوامة.
الخطبة الأولى
أما بعد:
فأوصيكم ونفسي بتقوى الله، قال تعالى: ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران:102].
الأسرة المسلمة نواة المجتمع الصالح، فصلاح الفرد من صلاح الأسرة، وصلاح المجتمع بأسره كذلك من صلاح الأسرة.
اهتم الإسلام اهتماماً لا مزيد عليه بشأن الأسرة، وأُسُسِ تكوينها، وأسباب دوام ترابطها، لتبقى الأسرة المسلمة شامخة يسودها الوئام، وترفرف عليها المحبة، وتتلاقى فيها مشاعر المودة والرحمة، قال تعالى: وَمِنْ ءايَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْواجاً لّتَسْكُنُواْ إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً [الروم:21]، ولتعيش الأسرة المسلمة وِحْدة شعور ووِحدَة عواطف قال تعالى: هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ [البقرة:187].
بيَّن القرآن للأزواج أن كلا منهما ضروري للآخر ومتمم له، قال تعالى: هُوَ الَّذِى خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا [الأعراف:189]، ولا يتصور أن تقوم حياةٌ إنسانية على استقامة إذا هُدمت الأسرة، والذين ينادون بحلّ نظام الأسرة لا يريدون بالبشرية خيراً، وقد كانت دعوتهم ولا زالت صوتاً نشازاً على مرّ التأريخ.
تقوم الأسرة على أساس التفاهم، وتمارس أعمالها بتشاور، ويبني حياتها على التراضي، هذا بيان قرآني بليغ يجلي هذه المبادئ السامية؛ فعند رضاع الأولاد، وفطامهم ولو بعد الانفصال يقول تعالى: وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَاد أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ، إلى قوله: فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا [البقرة:233].
الأسرة التي تروم السعادة، وتبحث عن الاستقرار، تبني حياتها على أسس راسخة، أبرزها رعاية واحترام الحقوق بين الزوجين، المعاشرة بالمعروف، فتح آفاق واسعة من المشاعر الفياضة، ليتدفق نبع المحبة وتقوى الرابطة، وهنا يجد الأزواج السكن النفسي الذي نصّ عليه القرآن.
بمثل هذا الرسوخ تؤمّن الأسرة من التصدّع، وإذا نشأ خلاف فإن المحبة الصادقة والمودة ستذيبه.
إن الحكيم الخبير علم أن النفس قد تثور فيها أحياناً وفي أجواء الخلاف مشاعر الكراهية، فيجد الشيطان ضالته المنشودة لهدم كيان الأسرة، فكان التوجيه القرآني لتنقية المشاعر وليعود للحياة صفاؤها، وللأسرة بهاؤها، قال تعالى: وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً [النساء:19]، ولذلك قال الإمام ابن كثير في تفسيره لهذه الآية: "أي فعسى أن يكون صبركم في إمساكهن مع الكراهية فيه خير كثير لكم في الدنيا والآخرة"[1].
قد يجني الجاهل على نفسه، ويدمّر حياته بطوعه واختياره، حين يستبدل المحبة والمودة والرحمة بالعناد والتحدي، وهذا نذير شؤم، وبداية تصدع، ولا يدمر الأسرة شيء كما يدمرها العناد والتحدي. فالخلافات الصغيرة تصبح بالعناد كبيرة، والخلافات الكبيرة تغدو باللين والصبر صغيرة.
كم نسمع ونشاهد تصدّع أسر وهي في مهدها، ولما يكتمل نباؤها، نتيجة لهذه الاعتبارات.
وقد قرر كثير من الباحثين أن التفكك الأسري سببٌ رئيس في انحراف الأهداف والسلوك من طريق الجنوح، ولهذا فإن الأسرة مطالبة بحماية نفسها قبل حدوث الشقاق، ولا يخفى أن الحياة لا تصفو دائماً، بل هي معرضة للسراء والضراء.
كل شيء في هذا الكون مهما صغر شأنه له حكمة ويؤدي وظيفة، فما رسالة الأسرة المسلمة؟
للأسرة المسلمة في المجتمع المسلم وظائف، أهمها: إقامة حدود الله، وتطبيق شرعه ومرضاته بتأسيس البيت المسلم، قال تعالى: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ [البقرة:229]، تكثير نسل الأمة المسلمة، قال : ((النكاح من سنتي، فمن لم يعمل بسنتي فليس مني، وتزوجوا فإني مكاثر بكم الأمم)) [أخرجه ابن ماجه من حديث عائشة رضي الله عنها][2].
تكثير النسل قوة للأمة، وعزةٌ، وحسن ذكر بعد الموت.
ودعاة تحديد النسل لا يرومون للأمة الخير، وحججهم الواهية تدل على أنهم قد أصيبوا بانهزامية نفسية مع ضعف يقين وتوكلٍ على الله.
إعداد النسل المسلم وتربيته من وظائف الأسرة، بل هي المدرسة الأولى التي يتلقى الولد في جنباتها أصول عقيدته، ومبادئ إسلامه، وقيمه وتعاليمه، ولا يقوم مقامها دور الرعاية والخادمات، فالطفل الذي يرضع حليب أمه، ويرضع معه حنانها ودفأها لن يساويه ذلك الطفل الذي يعيش بين أكناف المربيات والخادمات، دون عطف ولا رعاية ولا حنان ولا مشاعر.
الأسرة المسلمة مسؤولة أمام الله عن تنشئة الأبناء على الإسلام، فهل تمارس أسرنا اليوم رسالتها التربوية؟ هل هي من القوة والمكانة والرسوخ ما يؤهلها لمقاومة العلمنة والتغريب؟ هل يجلس أفراد الأسرة على موائد القرآن أم على مشاهد العصيان؟ هل يتلقى أولادنا في بيوتنا التذكرة النافعة، والعظة الرشيدة، والآداب الرفيعة؟
إن أي تقصير أو إخفاق في قيام الأسرة بدورها التربوي ستكون له عواقب وخيمة على سلوك الأبناء والبنات، ومن ثم على المجتمع في بنائه وفكره وأمنه.
القيام بالواجبات الأسرية أمانة سيسأل عنها الزوجان يوم القيامة، كما أخبر بذلك الصادق المصدوق : ((كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، الإمام راع ومسؤول عن رعيته، والرجل راع في أهله وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها)) [أخرجه البخاري ومسلم من حديث ابن عمر رضي الله عنهما][3].
من الأمانة تطهير البيت من المنكرات، وإلزام أهل البيت بالفرائض والواجبات، وحثهم على الفضائل والمستحبات.
من الأهداف الرئيسة لأسرتك أيها المسلم إقامة رابطة قوية بين أبناء الأسرة والمسجد، ذلك أن المسجد في حياة المسلم جوهريّ وأساس، والتردد على المسجد عمل تربوي جليل القدر، عميق الأثر، يغرس في النفوس الفضائل والقيم والآداب.
لقد استطاعت الأسرة المسلمة التي قامت على الإيمان بالله، وتمسكت بأخلاق الإسلام، وتعقلت بالمساجد، استطاعت بنور القرآن أن تخرّج للحياة أبطالاً شجعاناً، وعلماء أفذاذاً، وعباداً زهاداً، وقادة مخلصين، ورجالاً صالحين، ونساء عابدات، كتبوا صفحة تأريخ مجيدة في حياة المسلمين.
وهي اليوم تواجه حملة شرسة لزعزعة أركانها، وإلغاء كيانها، بفكّ رباط الأسرة، وإفساد أخلاق المرأة، ونبذ قيم الأسرة، والدعوة الى العهر والاختلاط والإباحية.
وإذا تحطمت الأسرة، هل يبقى ثم أمة؟! وإن بقيت، فهل ستكون إلا على هامش الحياة؟!
لقد تفككت عرى الأسرة في بعض بلاد المسلمين نيتجة السقوط في حمأة التقليد الأعمى للغرب، والانسياق وراء كل نحلة ترد منه، فكثرت حالات الطلاق، وتدمرت الحياة، وأضاع المجتمع، وعزف كثير من الشباب عن الزواج، تبع ذلك انطلاق محموم وراء الشهوات البهيمية.
إن الدور القادم - عباد الله – دور خطير ومؤثر، فقد أسهمت التغيرات الاجتماعية في تقليص دور الأسرة، واستولت أجهزة البث الفضائي وغيرها على وقت الأسرة، وأثرت في مسارها، وخلخلت قيمها، ففقدت الأسرة في بعض المواضع تأثيرها، وشيئاً من فاعليتها.
إن هذه الأجهزة وغيرها، زاحمت الأسرة في توجيه الأبناء والبنات، داخل المعقل الحصين بجاذبية مدروسة، وغزو مستور ومكشوف، لتقطع صلتهم بأمتهم، وتضعف عقيدتهم، وتنسف غيرتهم.
لكن المؤلم حقاً أن بعض الأسر قد تخلت عن دورها في مهمة التربية العقدية والفكرية، وأسلمت أولادها لأجهزة البث الفضائي وغيرها، تصنع ما يحلو لها من هدم ومكر.
إخوة الإسلام:
بناء الأسرة على الوجه السليم الرشيد ليس أمراً سهلاً، بل هو واجب جليل يحتاج إلى إعداد واستعداد، كما أن الحياة الزوجية ليست لهواً ولعباً، وليست مجرد تسلية واستمتاع، بل هي تبعات ومسؤوليات وواجبات، من تعرض لها دون صلاح أو قدرة كان جاهلاً غافلاً عن حكمة التشريع الإلهي، ومن أساء استعمالها أو ضيّع عامداً حقوقها استحق غضب الله وعقابه، ولذلك ينبغي أن يكون الإنسان صالحاً لهذه الحياة، قادراً على النهوض بتبعاتها، قال الله تعالى: ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً [التحريم:6].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] تفسير القرآن العظيم (1/442).
[2] أخرجه ابن ماجه في كتاب النكاح [1846]، وفي سنده عيسى بن ميمون وهو ضعيف، وله شواهد تقوية، انظر : التلخيص الحبير (3/116-117).
[3] أخرجه البخاري في كتاب الجمعة [853-البغا-]، ومسلم في كتاب الإمارة [1829].
الخطبة الثانية
الحمد لله الَّذِى خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِى قَدَّرَ فَهَدَى [الأعلى:2-3].
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له العلي الأعلى.
وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْىٌ يُوحَى [النجم:3-4].
صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أهل الخير والوفا.
أما بعد:
فاتقوا الله حق التقوى، قال تعالى: ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب:70-71].
إخوة الإسلام:
إن حياة الأسرة حياة عمل، وللحياة أعباؤها وتكاليفها، لذا فهي تحتاج إلى ربّان[1] يوجه حركتها ويشرف على سلامتها، هذه القيادة يسميها القرآن قوامة، وهي من نصيب الرجل، والرئاسة ليست للاستعباد والتسخير، وإنما هي رئاسة إشراف ورعاية، لا تعني إلغاء شخصية الزوجة وإهدار إرادتها أو طمس معالم المودة والألفة في الأسرة.
لقد هيأ الله المرأة لوظائف وأحالها لأدائها، وهيأ الرجل لوظائف وأحاله لأدائها، بحكم التكوين الجسدي والنفسي والاجتماعي، فإذا تحوّلت القوامة من الرجل إلى المرأة كلّفت المرأة ما لا تطيق، وانحرفت الأسرة عن مسارها.
إن سلب الرجل قوامته على زوجته وأسرته ليعرّض الأسرة لمتاعب ومشكلات، إن هناك فروقاً بين الرجل والمرأة تجعل كلا منهما صالحاً لأداء وظيفته التي هيئ لها دون سواها، وإن أي انتقاص من مفردات هذه القوامة سيضر بالأسرة، ثم بالمجتمع كله، والذين ينادون بسلب الرجل قوامته، إنما هم أصحاب هوى وهوس، وهم سفهاء لأنهم يتحدون شرع الله تبارك وتعالى.
إن القوامة أيها المسلم تعني أن رب الأسرة مسؤول عن كل ما يوفر سلامة الأبدان والأديان، يجنّب الأسرة مصارع السوء، يجنب الأسرة طرق الانحراف، يعطي من نفسه القدوة المثلى في الوقوف عند حدود الله وتعظيم شعائر دينه، مع سعة صدر وحسن خلق، فهو كالراعي الذي يحمي الحمى.
رب الأسرة – عباد الله – مطالب بالتوازن بين مهام العمل والعبادة والتفرغ لمهام الأسرة، ليعطي كل ذي حق حقه ؛ حق الزوجة، حق الأولاد، رعاية الأسرة، التربية.
وإذا كان رب الأسرة عاجزاً عن توفير الوقت الذي يجتمع فيه مع نفسه أو بأفراد أسرته، يوجههم، يحدثهم، يستمع إليهم، يربيهم، يهذب أخلاقهم، إذا كان عاجزاً عن توفير هذا الوقت فسيندم ولات حين مندم.
عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال لي رسول الله : ((يا عبد الله بن عمرو، بلغني أنك تصوم النهار، وتقوم الليل، فلا تفعل فإن لجسدك عليك حظاً، ولعينك عليك حظاً، وإن لزوجك عليك حظاً، صم وأفطر، صم من كل شهر ثلاثة أيام فذلك صوم الدهر)) [أخرجه البخاري ومسلم] [2].
[1] الربّان هو من يقود السفينة.
[2] أخرجه البخاري في كتاب الصوم [1874]، ومسلم في كتاب الصيام [193/1159]، وهذا لفظ مسلم.
ــــــــــــــــــــ(67/152)
منكرات الأفراح
...
...
2081
...
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
...
...
الكبائر والمعاصي, قضايا المجتمع
...
حسين بن شعيب بن محفوظ
...
...
صنعاء
...
20/10/1420
...
...
غير محدد
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1-أهمية النصيحة. 2- بعض منكرات الخطبة. 3- من منكرات الأعراس الغناء.
الخطبة الأولى
فقد اعتاد كثير من الناس في زماننا هذا أن يقيموا أفراح الزواج بعيداً عن شرع الله، وأن يقيموها حسب العادات التي تعارف عليها الناس اتباعاً لأهوائهم وصدوداً عن شرع الله.
وإن الواجب على المسلم أن يسأل عن حكم دينه، ولا يقدم على شيء إلا بعد أن يعرف موقف الشرع منه، فإن كان مما يرضي الله عز وجل أقدم عليه، وإن كان مما يغضب الله ابتعد عنه.
وإذا كان المنكر لا يخلو منه مجتمع، ومهما كان المجتمع من الطهر والعفاف والالتزام بالدين، فإنه لابد وأن يوجد مفسدون في الأرض، فإن واجب النصح يملي على المسلم أن يبين للناس ما هم واقعون فيه من المنكرات والمخالفات الشرعية، فعن تميم بن أوس الداري أن النبي قال: ((الدين النصيحة، قلنا لمن؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم)) [رواه مسلم]. وعن جرير بن عبد الله البجلي قال: ((بايعت رسول الله على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والنصح لكل مسلم)) [متفق عليه].
وقد أمر رسول الله المسلمين أن يتناصحوا فيما بينهم ويذكر بعضهم بعضاً، وأن يقوموا بتغيير المنكرات التي متى ما عمت وفشت بين الناس، فإن المسؤولية يتحملها الجميع، فعن أبي سعيد الخدري ، قال: سمعت رسول الله : ((من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان)) [رواه مسلم].
وإن الواجب على المسلمين إنكار هذه المنكرات التي تحدث في الأفراح والأعراس وأن يتناصحوا فيما بينهم، وأن يتعاونوا على تغيير تلك المنكرات.
ومن هذه المنكرات العزوف عن ذات الدين في الزواج فعن أبي هريرة أن رسول الله قال: ((تنكح المرأة لأربع لمالها ولحسبها ولجمالها ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك)) [متفق عليه].
ومن منكرات الزواج أيضاً رفض تزويج صاحب الدين وقد قال رسول الله : ((إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه، إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير)) [رواه الترمذي بإسناد حسن].
ومن هذه المنكرات كذلك التي شاعت في الزواج مسألة الخطبة ونظر الخاطبة إلى خطيبته والناس في الخطبة طرفان ووسط، فالطرف الأول وهم الذين تعصبوا ومنعوا الخاطب أن ينظر إلى مخطوبته مع أن النبي قال للمغيرة بن شعبة حين خطب امرأة: ((انظر إليها فإنه أحرى أن يؤدم بينكما)) [أخرجه البخاري والترمذي والنسائي وابن ماجه].
والطرف الثاني وهم على النقيض من الطرف الأول وهم الذين تركوا الحبل على الغارب للخاطب ومخطوبته فيخلو بها ويتفسح معها وقد يقع المحذور الشرعي بعد ذلك، ورسول الله يقول: ((ألا لا يخلون رجل بامرأة إلا مع ذي محرم، ولا تسافرن امرأة إلا مع ذي محرم)) [متفق عليه].
ومن المنكرات أيضاً لبس الدبلة من الذهب من قِبل الرجال، والذهب زينة النساء وهو حرام على ذكور أمة محمد ، فعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله نظر إلى رجل وفي يده خاتم من ذهب فنزعه وقال: ((يعمد أحدكم إلى جمرة من نار فيجعلها في يده)) فقيل للرجل: خذ خاتمك وانتفع به فقال: والله لا آخذ شيئاً وضعه رسول الله [رواه مسلم].
وأما ما اعتاده الناس من أن يلبس الخاطب خطيبته الدبلة يوم إعلان الخطبة أو يوم إعلان النكاح أو الزواج فإنه من التشبه بالنصارى – لعنهم الله – وقد أشار الشيخ محمد ناصر الدين الألباني إلى ذلك في كتابه آداب الزفاف ص212، فقال: "ويرجع ذلك إلى عادة قديمة لهم ما كان العريس يضع الخاتم على رأس إبهام العروس اليسرى ويقول: باسم الأب ثم ينقله واضعاً له على رأس السبابة ويقول: باسم الابن ثم يضعه على رأس الوسطى ويقول: باسم الروح القدس، وعندما يقول: آمين، ويضعه أخيراً في الخنصر حيث يستقر.
فهذه مع كونها بدعة خبيثة أحدثها الفساق بين المسلمين هي أيضاً تشبه بالكفار، وقد نهانا عن التشبه بهم في الاعتقادات والعبادات والعادات.
فيا أيها المسلمون: اتقوا الله ولا تتشبهوا بالكافرين في عاداتكم وتقاليدكم، والواجب عليكم أن تجعلوا العادات موافقة لشرع الله، واعلموا أن مخالفة شرع الله نذير شؤم على المسلمين، وما حلت المصائب بالمسلمين إلا لمخالفتهم شرع الله في كثير من أمور دينهم ودنياهم.
أسأل الله العلي القدير أن يجعلنا من الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر. أقول ما تسمعون ادعوا الله واستغفره.
الخطبة الثانية
إن من منكرات الأفراح كذلك - ما سموه: إحياء الأفراح - باستضافة المطربين والمطربات والمغنيين والمغنيات، ومن الناس من يتباهى بذلك، وقد عمت البلوى بالأغاني في هذا الزمان حتى صار ديدن كثير من الناس.
ومن المعلوم شرعاً أن الأغاني حرام ولا يجوز سماعها، قال الله تبارك وتعالى: وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ [الإسراء:64].
(قيل: هو الغناء قال مجاهد: باللهو والغناء، أي استخفهم بذلك) [تفسير ابن كثير:3/70].
وقال تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِى لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ [لقمان:6]. فهذه الآية بيان لـ(لحال الأشقياء الذين أعرضوا عن الانتفاع بسماع كلام الله وأقبلوا على استماع المزامير والغناء بالألحان وآلات الطرب كما قال ابن مسعود في قوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِى لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ قال: هو والله الغناء، وكذا قال ابن عباس وجابر وعكرمة وسعيد بن جبير ومجاهد ومكحول وعمرو بن شعيب وعلي بن بذيمة، وقال الحسن البصري: نزلت هذه الآية: وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِى لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ في الغناء والمزامير [تفسير ابن كثير:3/583].
فالغناء يورث النفاق في القلب وهو بريد الزنا، والواجب على المسلمين إنكار هذه المنكرات التي شاعت بينهم في هذه الأزمنة، فإنك لا تدخل محلاً ولا بيتاً إلا وتسمع فيه الطرب واللهو والغناء.
والعجب من هؤلاء الذين يستفتحون أول أيام حياتهم بمعصية الله فيرضون الشيطان الرجيم، ويغضبون الرحمن الرحيم.
ولذلك ما تفاقمت الشرور بين المسلمين إلا بسبب هذه المعاصي التي جاهروا بها، ولما كان الغناء والمزمار صوت الشيطان، ترى انتشار حالات الطلاق بشكل مذهل، ومن أراد أن يعلم صدق ما أقول فلينظر إلى المحاكم والدعاوى المرفوعة فيها، فإن أكثرها في المنازعات الزوجية، وسبب ذلك كله يكمن في هذه المعاصي والمنكرات التي يستفتح بها الناس حياتهم الزوجية في أول ليلة من ليالي حياتهم.
فيا أيها المسلمون: احذروا هذه المنكرات واتقوا الله في سركم وعلانيتكم، واعلموا أن الله سبحانه وتعالى حرم عليكم الوقوع في المنكرات والمعاصي، فاقترافها وفعلها والمجاهرة بها سبب من أسباب الشقاء في الدارين، قال تعالى: وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ
ــــــــــــــــــــ(67/153)
مفهوم الأمن في الإسلام
...
...
2094
...
الأسرة والمجتمع, العلم والدعوة والجهاد
...
...
قضايا المجتمع, محاسن الشريعة
...
سعود بن إبراهيم الشريم
...
...
مكة المكرمة
...
29/4/1422
...
...
المسجد الحرام
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- أهمية الأمن والأمان في رخاء الشعوب واستقرارها. 2- الإخلال بالأمن إخلال بحياة المجتمع وهدم لأركانه. 3- وقفة مع مزعزع الأمن. 4- جاءت الحدود والعزيرات في الشريعة الإسلامية لحفظ أمن المجتمعات واستقرارها. 5- شريعة الإسلام وحقوق الإنسان. 6- شمولية مفهوم الأمن في الإسلام. 7- أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في حفظ الأمن. 10 ـ أحاديث العقل كلها كذب. 11 ـ للعقول حدود. 12 ـ أصناف المخالفين للوحي. 13 ـ موافقة صحيح المنقول لصريح المعقول.
الخطبة الأولى
أما بعد:
فأوصيكم أيها الناس ونفسي بتقوى الله سبحانه، فإنها الأمن عند الخوف والنجاة عند الهلاك، بها يشرف المرء وينبل، وبالنأي عنها يذل العبد ويسفل، هي وصية الله للأولين والآخرين، فاتقوا الله يا أولي الألباب لعلكم تفلحون.
أيها الناس:
في ظل الأمن والأمان تحلو العبادة، ويصير النوم سباتاً، والطعام هنيئاً، والشراب مريئاً، الأمن والأمان، هما عماد كل جهد تنموي، وهدف مرتقب لكل المجتمعات على اختلاف مشاربها.
بل هو مطلب الشعوب كافة بلا استثناء، ويشتد الأمر بخاصة في المجتمعات المسلمة، التي إذا آمنت أمنت، وإذا أمنت نمت؛ فانبثق عنها أمن وإيمان، إذ لا أمن بلا إيمان، ولا نماء بلا ضمانات واقعية ضد ما يعكر الصفو في أجواء الحياة اليومية.
إطراء الحياة الآمنة هو ديدن كل المنابر، لما للأمن من وقع في حس الناس، من حيث تعلقه بحرصهم على أنفسهم، فضلاً عن كونه هبة الله لعباده، ونعمة يغبط عليها كل من وهبها ولا غرو في ذلك.
وقد صح عنه أنه قال: ((من أصبح آمناً في سربه، معافىً في بدنه، عنده قوت يومه؛ فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها)).
بضعف الأمن وانحلاله؛ تظهر آثار خبث الشيطان، وألاعيبه هو وجنده من الجن والإنس، وإقعاده بكل صراط، يوعد بالأغرار من البشر، ويستخفهم فيطيعونه؛ فيبين حذقه وإغواؤه، محققاً توعده بقوله : لاقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ [الأعراف:16-17].
إن المزايدة على الأمن والأمان في مجتمعات المسلمين بعامة، لهو مدعاة للسخرية والفوضى، المفرزين للممارسات الشاذة والإخلال المرفوض بداهة، والمهدد لسفينة الأمان الماخرة، كل ذلك غير مستساغ شرعاً ولا عقلاً، ولا قبول له تحت أي مبرر كان.
بل كل مزايدة في اختلال الأمن والأمان، إنما هو من نسيج الأعداء المتربصين بنا، وإن استعملوا في نفاذ اختلاله، اللهازم من أبناء أمتنا وأغرارهم؛ من أجل سلب أمن الأمة المسلمة ومقدراتها بكل ما تعنيه الكلمة.
إن المرء المسلم في فسحة من دينه، عن أن يزج بنفسه في مهاوي الرذيلة ومحال الريب.
ومزعزع الأمن ومخلخله إنما هو بادي الرأي يزعزع أمن نفسه ووالديه وبقية أسرته، قبل أن يزعزع أمن غيره من الناس.
كل هذا يبدو واضحاً جلياً، في مثل كأس خمر، أو قتل نفس، أو جرعة مخدر، أو هتك عرض، أو إحلال فساد بين الخلق، بمثل ذلك ينسلخ مواقع مثل هذه الأمور عن إنسانيته وإسلاميته، ويتقمص شخصية الإجرام والفتك، والفاحشة والإضلال بالمسلمين؛ فيشل الحياة، ويهدم صرح الأمة، ويوقع مجتمعه وبني ملته في وهدة الذل والدمار؛ فيخل بالأمن ويروع المجتمع، ويبدد أمنهم شذر مذر.
إنه متى امتد شذوذ المرء ليشمل الآخرين، ويمس من أهله ومجتمعه فإنه لا محالة، يعرض نفسه لحتفه بالغاً ما بلغ من العنفوان والشجاعة، وإلا لو فكر مزعزع الأمن ملياً في مصير والده ووالدته حينما تأخذهما الحسرات كل مأخذ، وهما اللذان ربياه صغيراً، يتساءلان في دهشة وذهول، أمِن المعقول أين يكون من ولدناه تحت ناظرنا معول هدم لأمن المجتمع وصرحه؟!!
أما يفكر مزعزع الأمن في زوجه وأولاده الذين يخشى عليهم الضياع من بعده والأسى من فقده؟! ألا يشعر بأن زوجه أرملة -ولو كان حياً؟!-.
أو ما يشعر بأن أولاده أيتام ولو كان له عرق ينبض؟!
وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرّيَّةً ضِعَافاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُواّ اللَّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً [النساء:9].
أولا يفكر مزعزع الأمن كيف يحل عليه الضعف محل القوة، والهم من نفسه محل الفرح، والكدر مكان الصفاء؟!
حيث لم يعد يؤنسه جليس ولا يريحه حديث، قلق متوجس، كثير الالتفات. فكيف يصل إلى منشوده ومبتغاه؟! بعد أن يسأم الحياة بفعله الشاذ، والذي سيجعله قابعاً في غياهب السجون بسبب جرمه ، فضلاً عما يخالج أنفاسه وأحاسيسه، من ارتقاب العقوبة كامنة عند كل طرقة باب، لا سيما إن كان في هذه العقوبة حتفه وتغييبه من هذه الحياة.
ولا غرو في ذلك، فإن في قتل مجرم واحد حياة هنيئة لأمة بأكملها وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حياةٌ يأُولِي الالْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:179].
وقديماً قيل: القتل أنفى للقتل.
أيها المسلمون: من أجل استتباب الأمن في المجتمعات جاءت الشريعة الغراء بالعقوبات الصارمة، وحفظت للأمة في قضاياها ما يتعلق بالحق العام والحق الخاص.
بل إن من المسلّم في الشريعة، قطع أبواب التهاون في تطبيقها أياً كان هذا التهاون، سواء كان في تنشيط الوسطاء في إلغائها، أو في الاستحياء من الوقوع في وصمة نقد المجتمعات المتحضرة.
فحفظاً للأمن والأمان؛ غضب النبي على من شفع في حد من حدود الله بعدما بلغ السلطان، وأكد على ذلك بقوله: ((وأيم الله، لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها)).
وما ذاك أيها الناس، إلا من باب سد الذريعة المفضية إلى التهاون بالحدود والتعزيرات، أو التقليل من شأنها.
وإنه حين يدب في الأمة داء التسلل الأمني؛ فإن أفرادها بذلك يهيلون التراب على تراث المسلمين، ويقطعون شرايين الحياة عن الأجيال الحاضرة، والآمال المرتقبة.
وهم يخدمون بمثل هذا - عن وعي أو عن غباء – الغارة الاستعمارية على ديار المسلمين، من خلال أعمال خرقاء تزيد السقم علة، والطن بلة؛ فيطاح بالمسلمين، وتوصد أبوابهم أمام الحياة الهانئة الآمنة.
ومثل هذا ظاهر جلي في طرح الدعوات الصارخة لما يسمى بمبادئ حقوق الإنسان، والتي تجعل من فتح الحريات، وعتق الرغبات، رفضاً باتاً للفطر السليمة، وسبباً مباشراً تدمر به الأخلاق المستقيمة؛ ومن ثم يزعمون أن من خالف ذلك فهو ضد الإنسان والإنسانية، وضد الحقوق الشخصية والرغبات الفردية، وهي في الحقيقة ليست من الإنسانية في شيء، ولا هي من بابتها، فلا تمت لها بخيط رقيق، ولا حبل متين.
بل إن ما ينمق حول ذلك ويذوق مُرّ العاقبة وإن حلا ظاهره، وصعب المرتقى وإن سهل ترويجه، وذميم الطرح مهما بدت للاهثين دماثته.
لقد سفهت دعوات حقوق الإنسان أحكام الشريعة، فوصفت إقامة الحدود بالسفه والحطة والغلظة. دعا أهلها إلى حفظ حقوق الإنسان فقتلوه من حيث أرادوا حفظ حقه، أخرجوه من القيود الشرعية حرصاً عليه، فإذا بهم في نهاية المطاف يدركون أنهم إن ما كانوا ينادون بحفظ حقوق الإنسان المجرم، فإلى الله المشتكى.
أيها المسلمون: القاعدة المقررة تقول: إن الحكم على الشيء فرع عن تصوره، ولأجل أن نعرف حقيقة الأمن وصورته فلابد أن تكون هذه المعرفة متصفة بالشمولية، وأن لا تكون ضيقة العطن، مستهجنة الطرح، من خلال قصر بعض الأفهام حقيقة الأمن على ناحية حماية المجتمع من الجرائم فحسب، وأن يقصر مفهوم حمايته على جناب الشرط والدوريات الأمنية في المجتمعات بعامة. كلا، فالحديث عن الأمن ليس مقصوراً على هذا التصور البسيط، إذ الحقيقة أشد من ذلك والخطب أعظم.
بل إن المواطن نفسه – رجلاً كان أو امرأة – ينبغي أن يكون رجل أمن، ورجل الأمن ما هو إلا مواطن صِرْف.
فإذا استحضرنا هذا التصور بما فيه الكفاية، وجب علينا بعد ذلك أن نعلم شمولية الأمن، وأنه ينطلق بادي الأمر في عقيدة المجتمع، وارتباطه الوثيق بربه، والبعد عن كل ما من شأنه أن يوقع أفراده في الخوف بدل الأمن، والزعزعة بدل الاستقرار.
فأول الواجبات الأمنية : البعد عن الشرك بالله في ربوبيته، أو ألوهيته، أو حكمه، أو الكفر بدينه، أو تنحية شرعه عن واقع الحياة، أو مزاحمة شرع غير شرعه معه بالغة ما بلغت المبررات المغلوطة. الَّذِينَ ءامَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الاْمْنُ وَهُمْ مُّهْتَدُونَ [الأنعام:82].
الأمن بهذه الصورة هو المطلب الأول، وهو الذي تتحقق به الصلة بالله جل وعلا، والتي بسببها يعم الأمن إرجاء المجتمعات، وتتحقق وعد الله لها بقوله: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءامَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِى الأرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِى ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدّلَنَّهُمْ مّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً [النور:55]. فكان الجواب التالي لذلك يَعْبُدُونَنِى لاَ يُشْرِكُونَ بِى شَيْئاً [النور:55].
والشرك هنا غير مقصور على مجرد عبادة الأصنام، كما يتصوره البعض، فيخرجون معنى هذه الآية عن صور شتى في هذه الأزمنة.
فكلمة شَيْئاً نكرة في سياق النهي؛ فتعم جميع صور الشرك مهما قلّت، ألا تسمعون قول الله تعالى: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور:63].
وقد ذكر الإمام أحمد -رحمه الله -: أن الفتنة هنا هي الشرك.
ثم إن مما ينبغي علينا اتجاه مفهوم الأمن ألا ننحيه عن مراكز القوى في مجتمعاتنا، أو نتجاهل أثر هذه المراكز في تحقيق معنى الأمن بصورته الأساس.
فهناك ما يسمى بالأمن الغذائي، وما يسمى بالأمن الصحي الوقائي، وهناك ما يتعلق بالضوابط الأمنية في مجال التكافل الاجتماعي، وتهيئة فرص العمل والإنتاج، والقضاء على البطالة المثمرة الخلل والفوضى، إضافة إلى النواح الأمنية المنبثقة من دراسة الظواهر الأسرية وما وما يعتريها من ثقوب واهتزاز في بُنيتها التحتية، لأن الأمن بين الجنسين وبالأخص بين الزوجين هو سبب ولاشك من أسباب أمن العشيرة، وأمن العشيرة أمن للأمة، المؤلفة من العشائر، المؤلفة من الأزواج.
فهذا الأمن المترابط هو الذي يتكون منه مزاج الأمة الأمني.
كما يجب علينا أن لا نغفل عما لا يقل أهمية عن ما مضى، بل إنه في هذه العصور يعد هاجساً أمنياً لكل مجتمع، ألا وهو الأمن الفكري، الأمن الفكري الذي يحمي عقول المجتمعات ويحفظها من الوقوع في الفوضى، والعَبِّ من الشهوات بنهم، أو الولوغ في أتون الانسلاخ الأخلاقي الممزق للحياء الفطري والشرعي.
الأمن الفكري – عباد الله – ينبغي أن يتوج بحفظ عنصرين عظيمين؛ ألا وهما: عنصر الفكر التعليمي، وعنصر الأمن الإعلامي، إذ يجب على الأمة من خلال هذين العنصرين ألا تقع في مزالق الانحدار والتغريب، والتي هي بدورها تطمس هوية المسلم، وتفقده توازنه الأمني والاعتزاز بتمسكه بدينه، إذ إن الأمن على العقول، لا يقل أهميته عن أمن الأرواح والأموال، فكما أن للبيوت لصوصاً ومختلسين، وللأموال كذلك؛ فإن للعقول لصوصاً ومختلسين.
بل إن لصوص العقول أشد خطراً، وأنكى جرحاً من سائر اللصوص.
فحماية التعليم بين المسلمين من أن يتسلل لِواذاً عن هويته، وحماية التعليم في إيجاد الآلية الفعالة في توفير سبل العلم النافع؛ الداعي إلى العمل الصالح، والبعد عن التبعية المقيتة، أو التقليل من شأن العلوم النافعة، والتي لها مساس أساس في حياة الأمم، من الحيثية الشرعية الدينية، التي يعرف بها المرء ربه، وواجبه المفروض عليه، أو التهوين من شأن علوم الدين أو استثقالها على النفوس، لمن شأن ذلك كله أن تضعف المجتمعات بسببه، وأن تندرس معالم الأمن الفكري فيه إبّان عصر التحكم المعرفي، والاتصالات العلمية والثقافية التي غلبت على أدوار الأسر والبيئات، التي تنشد الصلاح العام.
أما الفكر الإعلامي – عباد الله – فهو مقبض رحى المجتمعات المعاصرة، وأقنومها الأساس، به يبصر الناس وبه يغربون، به تخدم قضايا المسلمين وتنصر، وبه تطمس حقائقها وتهدر.
بالفكر الإعلامي تعرف المجتمعات الجادة من المجتمعات المستهترة، المجتمعات المثلى من المجتمعات الناكبة.
فما يكون في الفكر الإعلامي من اعتدال وكمال، يكون كمالاً في بنية الأمن الإعلامي واعتدالاً، وقرة عين لمجموع الأمة بأكملها، وما يطرأ عليه من فساد واعتلال فإنه يكون مرضاً للأمة، يوردها موارد الهلكة والتيه.
وحاصل الأمر – عباد الله – أنه ينبغي علينا جميعاً، أن ننظر إلى الحقيقة الأمنية من أوسع أبوابها، وأقرب الطرق الموصلة إليها، بل لا نُبعد النجعة إن قلنا : ينبغي على المسلمين جميعاً ألا يغفلوا جانب أسلمة الأمن الفكري.
فالإسلام هو دين السلام، وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِى الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ [آل عمران:85].
ولله، ما أعظم قول النبي لعظيم الروم: ((أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم، أسلم تسلم)).
بارك الله لي ولكم في القران العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
قد قلت ما قلت، إن صواباً فمن الله وإن خطأً فمن نفسي والشيطان، وأستغفر الله إنه كان غفاراً.
الخطبة الثانية
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله أيها المسلمون.
ثم اعلموا أن من أهم الوسائل الموصلة إلى الراحة الأمنية من كافة جوانبها، دون كلفة أو تجنيد وإعداد؛ هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والنصح لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم.
فإن ذلك عماد الدين الذي فضلت به أمة الإسلام على سائر الأمم، والذي يسد من خلاله خوخات كثيرة من مداخل الشر على العباد.
بالنصح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تتكاتف الجهود، ويلم الشعث، ويرأب الصدع، وتتقى أسباب الهلاك، وتدفع البلايا عن البشر.
وبفقد ذلك أو تزعزعه من نفوس الناس، يعني بداهة حلول الفوضى، وانتشار اللامبالاة المولدة للأمن العكسي، وهو الأمن من مكر الله، أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللَّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ [الأعراف:99].
بالأمر والنهي – عباد الله – يصلح المجتمع، ويقوم الفرض الكفائي الذي يسقط التبعة والإثم عن بقية المجتمع، وإلا يتحقق فينا قول الباري جل شأنه: وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ [هود:117]. ولم يقل وأهلها صالحون؛ لأن مجرد الصلاح ليس كفيلاً بالنجاة من العقوبة الإلهية الرادعة.
الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر بين المسلمين، إنما هم في الحقيقة يقومون بمهام الرسل في أقوامهم وذويهم.
فبقدر الاستجابة لنصحهم تكون الحجة والنجاة، والعكس بالعكس، وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِى أُمّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ ءايَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِى الْقُرَى إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ [القصص:59].
إن انعدام النصح بين المسلمين سمة من سمات اليهود، ومعرة من معراتهم الخالدة، فقد كانت مواقفهم في الصيد يوم السبت عن طريق الحيلة مشهورة، حتى أعلن الفسقة منهم بصيده؛ فنهضت فرقة منهم ونهت عن ذلك، وجاهرت بالنهي واعتزلت، وفرقة أخرى لم تعص ولم تنه، بل قالوا للناهين: لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيدًا [الأعراف:164].
فلما لم يستجب العاصون أخذهم الله بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون، فنص الله على نجاة الناجين بقوله: فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوء [الأعراف:165]. وسكت عن الساكتين.
روى ابن جرير بسنده عن عكرمة، قال: دخلت على ابن عباس – رضي الله عنهما – والمصحف في حجره، وهو يبكي، فقلت: ما يبكيك يا ابن عباس؟ جعلني الله فداك، فقال: (هؤلاء الورقات)، وإذا هو في سورة الأعراف، فقال: (ويلك، تعرف القرية التي كانت حاضرة البحر؟ فقلت : تلك أيلة، فقال ابن عباس : لا أسمع الفرقة الثالثة ذكرت! نخاف أن نكون مثلهم، نرى فلا ننكر، فقلت: أما تسمع الله يقول: فَلَمَّا عَتَوْاْ عَن مَّا نُهُواْ عَنْهُ؟ [الأعراف:166]. فسري عنه، وكساني حلة).
إذاً ينبغي لأفراد الناس عموماً، وأهل العلم بخاصة؛ أن يقوموا بواجب النصح لمجتمعاتهم وأسرهم ومنتدياتهم، على الوجوه التي جاءت بها الشريعة الإسلامية، حكمة، وموعظة حسنة، ومجادلة بالتي هي أحسن، وإن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن.
ثم إنه لا يمنع من التمادي في الوعظ والنصح والإصرار عليه عدم قبول الحق منه؛ لأنه فرض فرضه الله علينا جميعاً، قُبل أو لم يُقبل، فإن هذا هو الذي يحفظ للأمة كيانها بأمر الله، وبه تكون المعذرة إلى الله، ويكون الخروج من التبعية وسوء المغبة.
والله الهادي إلى سواء السبيل.
ــــــــــــــــــــ(67/154)
أحكام تسمية المولود
...
...
2112
...
الأسرة والمجتمع
...
...
الأبناء, قضايا الأسرة
...
سعيد بن عبد الباري بن عوض
...
...
جدة
...
...
...
سعد بن أبي وقاص
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- الأسماء التي لا يجوز التسمي بها. 2- أهمية الاسم للمسمى. 3- أحب الأسماء إلى الله. 4- شروط التسمية وآدابها. 4- التحذير من الأسماء الأعجمية والدخيلة.
الخطبة الأولى
أما بعد:
فإن الله ائتمننا على هذه الذرية التي رزقنا إياها واسترعانا لها وأمرنا بالقيام بحق تلك الرعاية، وهو سائلنا عن هذه الذرية يوم القيامة هل قمنا برعايتها أم لم نقم؟ ومحاسبنا على ذلك.
وإن لهذه الذرية من أبناء وبنات حقوقاً كثيرة تحتاج إلى خطب عديدة للحديث عنها. لكننا اليوم نقف مع حق واحد من حقوق هذه الذرية، وهذا الحق هو حق التسمية. وأعني بذلك حق اختيار الاسم الحسن للمولود.
ولكن... لماذا الحديث عن هذا الأمر في خطبة جمعة؟ ولعلنا نجد الإجابة على هذا السؤال المهم في ثنايا الخطبة.
إخوتي في الله لنعلم أن الاسم عنوان المسمى ودليل عليه وضرورة للتفاهم معه ومنه وإليه، وهو للمولود زينة ووعاء، وشعار يدعى به في الآخرة والأولى وإشارة إلى الدين و إشعار بأنه من أهله، وانظر إلى من يدخل في دين الله ـ الإسلام. كيف يغير اسمه إلى اسم شرعي لأنه شعار لصاحبه. ثم هو رمز يعبر عن والده ومعيار دقيق لديانته.
ولهذا صار من يملك حق التسمية وهو الأب مأسوراً في قالب الشريعة ولسانها العربي المبين حتى لا يجني على مولوده باسم يشينه.
ومن أبرز سماته أن لا يكون في الاسم تشبه بأعداء الله، ذلك النوع من الاسماء الذي تسابق إليه بعض أهل ملتنا نتيجة اتصال المشارق بالمغارب وغفلة بعض المسلمين وجهل آخرين، وسبحان الله كم وقع في حبائل مثل هذه التسميات من أناس. إلا أنه يرثى لحالهم إذ كيف تراه متسلسلاً من أصلاب إسلامية كالسبيكة الذهبية ثم تموج به الأهواء فيصبغ مولوده بهدية أجنبية، مسمياً له بأسماء قوم غضب الله عليهم من اليهود والنصارى وغيرهم من أمم الكفر.
فعلى المسلمين عامة العناية بتسمية مواليدهم بما لا يخالف الشريعة بوجه ولا يخرج عن لغة العرب. أما تلك الأسماء الأعجمية المولدة لأمم الكفر المرفوضة لغة وشرعاً فينبغي علينا البعد عنها والتحذير منها.
وعلينا جميعاً أن نتقي الله ونلتزم بأدب الإسلام وسنة النبي صلى الله عليه وسلم وأن لا يؤذوا السمع والبصر بتلكم الأسماء المرذولة وأن لا يؤذوا أولادهم بها، فيحجبوا بذلك عنهم زينتهم من الأسماء الشرعية.
وعجيب والله أن ترى الآباء المسلمين يتهافتون على تسمية الأبناء بأسماء أعداء الله. وإذا كان الكتاب يقرأ من عنوانه فإن المولود يعرف دينه من اسمه، فكيف نميز أبناء المسلمين وفينا من يسميهم بأسماء الكافرين.
وعجيب اختيار تلك الأسماء الأعجمية والخروج عن لغة العرب ولغة القرآن وكأنها ضاقت علينا لغتنا نحن العرب لغة القرآن فلم نجد فيها ما يتسع لاسم مولود.
وقديماً قال بعضهم يهجو رجلاً اسمه خنجر: أمن عوز الأسماء سميت خنجراً. ونحن نقول للمتهافتين على تلك الأسماء:
أمن عوز الأسماء سميت فالياً وشر سمات المسلمين الكوافر
وأعجب من هذا أنك لا ترى منتشراً في الكافرين من يتسمى بالأسماء الخاصة بالمسلمين إلا أن هذه عزة الكافر وهي مرذولة، أما عزة المسلم فهي محمودة فكيف نفرط فيها.
وعليه فهذه كلمات ضابطة نهديها لكل مسلم له مولود لتدله على هدي النبوة وأنوارها وميدان العربية ولسانها في تسمية المولود وله من عاجل البشرى في ذلك أجر ومثوبة على حسن الاختيار وفضل الاقتداء بالإسلام والسنة لكي ننتشله من دائرة التبعية الماسخة والمتابعة المذلة في أدواء المشابهة والأسماء الغثة المائعة، وتلك التي قد يبدو لها بريق وجرس وهي تحمل معاني سيئة مخذولة.
وأول الأصول في تسمية المولود: أهمية الاسم. وقديماً قيل الأسماء قوالب للمعاني ودالة عليها. ومن المنتشر قولهم: "لكل مسمى من اسمه نصيب".
واعلم أخي الكريم أن للاسماء تأثيراً في المسميات من الحسن والقبح والخفة والثقل. فأحسن بارك الله فيك في اختيار اسم حسن لمولودك في لفظه ومعناه. والاسم يربط المولود بهدي الشريعة وآدابها ويكون الوليد مباركاً فيذكر اسمه بالمسمى عليه من نبي أو عبد صالح يحصل فضل الاقتداء بالسلف الصالح.
وفيه إشباع لنفس المولود بالعزة والكرامة فإنه إذا كبر وسأل: لماذا سميتني بهذا الاسم؟ ولماذا اخترت هذا الاسم؟ وما معناه؟ وجدت لذلك جواباً شافياً إن كنت أحسنت الاختيار أو تقع في ورطة إن كنت أسأت الاختيار.
الأصل الثاني في التسمية وقت التسمية: وقد جاءت السنة في ذلك على ثلاثة وجوه:
1- تسميته يوم ولادته.
2- تسميته إلى ثلاثة أيام من ولادته.
3- تسميته يوم السابع.
وهو اختلاف تنوع يدل على أن في الأمر سعة.
الأصل الثالث: التسمية حق للأب وكم وقع البلاء بسبب تسمية النساء.
الأصل الرابع: مراتب الأسماء في الأفضلية .. ((أحب الأسماء عبد الله وعبد الرحمن)) التسمي بأسماء الأنبياء ورد الحديث بذلك عند أبي داود والترمذي. التسمي بأسماء الصالحين من المسلمين (الصحابة والتابعين).
الأصل الخامس: شروط التسمية وآدابها:
الشرط الأول: أن يكون عربياً.
الثاني: أن يكون حسن المبنى والمعنى، وهذا أخذ من تغيير الرسول صلى الله عليه وسلم لأسماء كثير من أصحابه.
الأصل السادس: الأسماء المحرمة.
1- كل اسم عبد لغير الله.
2- التسمية باسم من أسماء الله تبارك وتعالى مما يختص به الرب سبحانه مثل: الرحمن الرحيم الخالق البارئ، وقد غير النبي صلى الله عليه وسلم ما وقع من التسمية بذلك.
3- التسمية بالأسماء الأعجمية المولدة للكافرين الخاصة بهم.
4- التسمي بأسماء الأصنام المعبودة من دون الله ومنها: اللات، العزى، إساف، نائلة، هبل.
5- كل اسم فيه دعوى ما ليس لمسمى فيحمل الدعوى والتزكية والكذب. ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: ((إن أخنع اسم عند الله رجل تسمى ملك الأملاك)) [في الصحيحين].
6- التسمية بأسماء الشياطين مثل: خنزب والولهان والأعور والأجدب.
الأصل السابع: المخرج من الأسماء المحرمة والمكروهة التغيير.
هذه عباد الله معالم في تسمية الأبناء وأنتم أيها الأباء مسئولون عن هذا أمام الله جل وعلا وتلك أمانة ائتمنكم الله عليها، فإياكم والتفريط.
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، والحمد لله على ما قدره بحكمته من دقيق الأمر وجله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك كله، وله الحمد كله، وبيده الخير كله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان وسلم تسليماً.
وبعد:
فإن مما ابتليت به هذه الأمة في زماننا هذا ذلك التقليد المقيت والمتابعة المذمومة لأمة الكفر في لهفة عجيبة وسعار غريب لكل ما يرد إلينا من تقاليد وعادات، وأفكار وترهات، يندفع إليها أبناء أمتنا اندفاع الظمآن للماء البارد في القيظ. ومما حصل فيه المتابعة تلك الأسماء المرذولة المبنى، الخالية من المعنى، التي إن دلت على شيء فإنما تدل على فقد الشخصية الإسلامية عند من سمى أو تسمى.
إخوة الإيمان، لقد انتشرت أسماء أعجمية غريبة عند بعض المسلمين هداهم الله، ولا سيما في أوساط النساء من مثل شيريهان، شيرين، جولي، ديانا، سوزان، لارا. وطائفة أخرى تافهة لا معنى لها من مثل زوزو، فيفي، ميمي، وغير ذلك. كل تلك الأسماء لم تكن لتوجد لو أن الأب - وهو الذي سمى- التزم بالأدب الشرعي في تسمية مولوده.
وهذا البلاء اخوة الإيمان هو أحد إفرازات التموجات الفكرية التي ذهبت ببعض الآباء كل مذهب، كل بقدر ما تأثر به من ثقافة وافدة.
أيها المؤمن، إن حجب الاسم الشرعي عن المولود سابقة لتفريغه من ذاتيته، وانقطاع للعنوان الإسلامي في عمود نسبه، فضلاً عما يتبع ذلك من الإثم والجناح.
إننا عباد الله نحمل تراثاً مجيداً في هذا الجانب المهم الذي هو جزء من الهوية الإسلامية التي يتميز بها المسلم. فكيف نرضى بالتنازل عن هويتنا فنلبس لباس غيرنا ونتدثر بدثار عدونا.
فأين اليوم تلك الأسماء التي دلنا عليها رسولنا ، ثبت في سنن أبي داود والترمذي وابن ماجه من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((أحب الأسماء إلى الله عبد الله وعبد الرحمن)) وعند أبي داود عن أبي وهب الجشمي وكانت له صحبة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((تسموا بأسماء الأنبياء وأحب الأسماء إلى الله عبد الله وعبد الرحمن وأصدقها حارث وهمام وأقبحها حرب ومرة)).
فأين هذه الأسماء اليوم؟ أين عبدالله؟ وأين عبدالرحمن؟ وأين الحارث؟ وأين همام؟ وأين أسماء الأنبياء عليهم صلوات الله وسلامه.
وأين في أسماء النساء خديجة وعائشة وحفصة وميمونة وفاطمة وغيرها من أسماء الصحابيات رضي الله عنهن وأرضاهن؟
لقد اختفت هذه الأسماء من واقعنا اليوم وحلت محلها تلك الأسماء الرخوة التافهة معنى ومضموناً.
فيا أيها الآباء هذه مسئوليتكم وتلك مهمتكم فاتقوا الله في هذه الذرية واختاروا لهم الأسماء الإسلامية العربية التي تحمل المعنى الجميل وتدل على الهوية الإسلامية، وفقنا الله وإياكم لما يحبه ويرضاه.
ــــــــــــــــــــ(67/155)
حرب الأعداء (2)
...
...
2119
...
الأسرة والمجتمع
...
...
المرأة, قضايا المجتمع
...
سعيد بن عبد الباري بن عوض
...
...
جدة
...
...
...
سعد بن أبي وقاص
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- تعدد الزوجات شريعة معروفة عند الأمم قبل الإسلام. 2- الإسلام يقر هذه الشريعة ويضع ضوابطها. 3- الإٍسلام راعى فطرة الإنسان وحاجته فأباح التعدد. 4- تعدد الزوجات علاج لظاهرة العنوسة. 5- صور أخرى من مؤامرة الأعداء على المرأة. 6- رفض تعدد الزوجات ومناقشة أنوع من الحرب مع الله.
الخطبة الأولى
أما بعد:
معاشر المؤمنين: إن أعداء الإسلام قد شككوا في دين الله عز وجل من خلال بعض قضايا المرأة وقد أشرنا إلى بعضها فيما سبق ونشير اليوم إلى بقيتها.
اعلموا وفقكم الله أن مما أثاره أعداء ديننا من كفار ومنافقين قضية تعدد الزوجات. ولقد وجد التعدد في الشرائع السابقة وفي المجتمعات البشرية القديمة، فكان في اليهود والنصارى كما وجد عند الصينيين والبابليين والآشوريين والهنود وغيرهم كما كان عند العرب قبل الإسلام إلا أنه كانت تبرز فيه ناحيتان:
الأولى: أنه لا حد له.
الثانية: أن المرأة تتعرض فيه للظلم.
ولما جاء الإسلام وأباح التعدد حدده بأربع ورفع الظلم عن المرأة. ويجب أن نعلم عباد الله أن الله عز وجل عندما أباح التعدد حرم الظلم، أما اليوم فقد اقترن التعدد بالظلم، وهل هذا عيب في ديننا أم أنه عيب في المسلمين الذين أخطئوا في تطبيق شرع الله. إنه عيب في التطبيق يلام فيه المعدد الظالم، لا عيب في التشريع. إن الذين يتزوجون الثانية والثالثة والرابعة ثم يظلمون لا يطبقون أمر الله.
إننا يجب أن نعلم ونوقن أن الله عز وجل حكيم خبير، وقد ذكر الله ذلك في مواضع كثيرة من القرآن. إن المؤمن منا لا يقبل أن يناقش في قضية التعدد من حيث ثبوتها لأنها قد ثبتت في القرآن ولا من حيث صلاحيتها للمجتمع ونفعها لأن الذي شرعها هو الحكيم الخبير. فهل يشك مسلم مؤمن في حكمة الله؟ ... كلا إنه كفر. إذاً فكيف يرضى مسلم أن يناقش هذه القضية وأن توضع كما يقال على مائدة البحث للنظر في صلاحيتها؟! كيف يكون ذلك والله عز وجل قد قرر ذلك منذ ما يزيد على أربعة عشر قرناً في كتابه فقال: فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مّنَ النّسَاء مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ [النساء:3]. إنها والله قضية من أخطر القضايا أن نجر من حيث نشعر أو لا نشعر إلى نقاش لا يحق لنا الخوض فيه.
هناك ضرورات من جانب الرجال قد تدعوهم إلى التعدد كأن يجد الرجل زوجته عقيماً فهل إن تزوج طلباً للولد يكون خائناً، لا شك أن هذا لا يقوله عاقل. أو قد تكون المرأة مريضة أو ناشزاً أو أن تكون غير كافية لقضاء وطره، فهل الأفضل لمثل هؤلاء الزوجات أن يتزوج أزواجهن بزوجات ثانية أم يطلقونهن ثم يتزوجون غيرهن؟ وهل إذا أراد الرجل إشباع الرغبة التي فطره الله عليها بزوجة ثانية بطريق حلال أحله الله له، يعاب عليه ذلك؟!
كما أن هناك حاجة وضرورة من جانب النساء، فالملاحظ أن عدد النساء يفوق بصورة مطردة عدد الرجال في أكثر المجتمعات، ولكي تحفظ للمرأة كرامتها وعفتها فلا بد من التعدد.
إن المجتمع اليوم يمتلئ بالشابات العوانس اللاتي تجاوزن سن الزواج، وكثير منهن يعتصرها الألم ويلفها الحزن وهي ترى عقارب الزمن تمضي دون أن يتقدم إليها من يطلب خطبتها. وإذا كانت هناك بعض الفتيات يرددن ببلاهة ما تنعب به غربان السوء في مضار التعدد وهن في أعماقهن يتقن إلى الزواج لأنه حاجة فطرية فإن هناك الكثير من الفتيات يتمنين نصف الزوج وربع الزوج إن صح التعبير.
ولو فكرنا قليلاً لرأينا كم يمثل تكدس البنات في البيوت بلا زواج من خطر لا يعلمه إلا الله. وأما قضية الظلم الذي يحدث من المعددين للزوجات فليس ذلك ذنب الإسلام لأن الإسلام قد حرم الظلم بل وهدد من ظلم في هذه القضية أن يأتي يوم القيامة وشقه مائل. عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من كان له امرأتان يميل لإحداهما على الأخرى جاء يوم القيامة أحد شقيه مائل)) [رواه أبو داود والنسائي].
ومن القضايا التي يطرحها أعداء الإسلام قضية الحجاب وهذه القضية قد أقلقت راحتهم وأقضت مضاجعهم فتراهم لا يهدأ لهم بال ولا يفترون عن الكلام عنها ذماً وقدما.
يصفون الحجاب بأنه.. حبس للمرأة ..وأنه تخلف ورجعية.. وأنه دلالة على عدم صفاء قلوب الذين يطالبون به، ويقولون بأن المرأة العفيفة لا تحتاج إلى الحجاب وأن حجابها هو حياؤها. وهذا من أعجب العجب!! وهل يبقى للمرأة حياء إذا خرجت متكشفة متبرجة أمام الرجال؟ هذا ما لا يقبله العقل، لكن أعداء الله يكذبون ويخادعون لكي يصلوا إلى ما يريدون وهو إفساد المرأة، ولو أنهم آمنوا بالله وبرسوله لعلموا أنه أمر الله الذي أمر به المرأة المسلمة فقال تعالى: ياأَيُّهَا النَّبِىُّ قُل لاِزْواجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذالِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً [الأحزاب:59]. إنه أمر الله وليس أمر أحد من البشر فهل يصدقهم بعد ذلك مؤمن. ثم بعد ذلك ينادون بالاختلاط. لكن أعداء الإسلام أذكياء فهم يخططون شيئاً فشيئاً، طلبوا من المرأة أولاً نزع الحجاب ثم الخروج مع الرجال ومخالطتهم وتلك هي خطوات الشيطان، وقد حذرنا الله منها في غير موضع من كتابه فقال: وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُواتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ [البقرة:168].
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي اهتدى بهديه ورحمته المهتدون، وضلّ بعدله وحكمته الضالون، لا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلّغ الرسالة، وأدّى الأمانة، ونصح الأمّة، وجاهد في الله حقّ جهاده، وتركنا على المحجّة البيضاء، ليلُها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك. صلى الله عليه، وعلى آله وصحبه وأتباعه، وسلّم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا عباد الله، اتقوا الله تعالى حقّ التقوى، فهي وصيّة الله لكم في محكم كتابه، حيث قال جل من قائل عليم: ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران:102].
وبعد عباد الله فهذه بعض القضايا التي أثارها أعداء الإسلام من كفار ومنافقين وهناك غيرها من القضايا لا نريد الإطالة بذكرها كقضية الطلاق وقضية الميراث وكذلك دية المرأة وغيرها من القضايا.
لكننا نقول: إننا مؤمنون بأن الله عز وجل الذي شرع هذه الأمور لنا، وهو الحكيم الخبير العليم اللطيف قال تعالى: وَخَلَقَ كُلَّ شَىْء فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً [الفرقان:2]. يعلم سبحانه وتعالى ما يصلح عباده وما يفسدهم قال تعالى: أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك:14]. هو الحكيم سبحانه فيختار لهم بحكمته ما فيه خيرهم وصلاحهم ولا يمكن أن يشرع لهم أمراً فيه ضرر.
أيها المؤمنون إن إيماننا بذلك يقطع الطريق على أولئك المشككين من أعداء هذا الدين، ولا يمكن أن يصلوا إلى ما يريدون من تشكيكنا في كتاب ربنا ما دمنا مؤمنين موقنين بحكمته سبحانه وتعالى. والحكيم هو الذي لا يقول ولا يفعل إلا الصواب. قال ابن كثير رحمه الله: "الحكيم في أقواله وأفعاله فيضع الأشياء في محالها بحكمته وعدله".ا.هـ.
أيها المسلمون، إن الذين يرضون بأن يناقش كتاب الله وما فيه من أوامر وأحكام صادرة من الله عز وجل لم يفقهوا ذلك، وقد وقعوا في خلل كبير من حيث يشعرون أو لا يشعرون. إن المؤمن الحق يرفض ذلك.. نعم، فمن ذا الذي يتجرأ على البحث في قضية التعدد مثلاً من حيث صلاحيتها أو عدم صلاحيتها وهي قضية قد حكم فيها ربنا من فوق سبع سماوات وأباحها لخلقه وقال: فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مّنَ النّسَاء مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ [النساء:3]. وعلى ذلك فقِس، كل من يريد مناقشة قضايا قد قررها الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم. فماذا يقول لربه تبارك وتعالى يوم القيامة إذا أوقف بين يديه؟!
هل شك في عدل الله أم في رحمة الله بعباده؟
عباد الله، يجب أن نفهم وأن نعي جيداً أن القضية ليست قضية ميراث ولا حجاب ولا تعدد، وإنما هي حرب بين الإيمان والكفر، وأنهم لا يريدون منا أن نقف عند هذا الحد بل يطمعون في إخراجنا من ديننا بالكلية. نعم هذا ما يسعون لتحقيقه. إنها حرب على الإسلام وأهله، وإننا والله وإن وافقناهم في كثير مما يقولون فلن يرضوا بذلك منا ولن يكفيهم إلا أن نكون مثلهم عياذاً بالله. قال تعالى: وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [البقرة:120]. إذاً فلو تركنا التعدد ولو جعلنا النساء يخرجن متبرجات، ولو فعلنا ما فعلنا فلن يهدأ لهم بال ولن يطمئنوا حتى نصبح مثلهم قال تعالى: وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَاء [النساء:89]. هكذا يجلي ربنا القضية بكل وضوح ليتبين لنا ما يريده منا أعداؤنا.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين. اللهم أعز الإسلام والمسلمين. اللهم أعز الإسلام والمسلمين. وأذل الشرك والمشركين ودمر أعداء الدين وأهلك الزنادقة والملحدين وآمنا في أوطاننا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا واجعلهم هداة مهتدين واجعل اللهم ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا أرحم الراحمين. اللهم أصلح حال المسلمين. اللهم أصلح حال المسلمين. اللهم أصلح حال المسلمين. اللهم اجمع كلمتهم على الحق وردهم إلى دينك رداً جميلاً. اللهم ارفع علم الجهاد وانصر المجاهدين. اللهم ارفع علم الجهاد وانصر المجاهدين. اللهم انصر المجاهدين الذين يجاهدون في سبيلك ولإعلاء كلمتك، اللهم ثبت أقدامهم واربط على قلوبهم وقوِّ شوكتهم وأنزل السكينة عليهم وانصرهم على عدوك وعدوهم إنك على كل شيء قدير. اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك ويذل فيه أهل معصيتك ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر. اللهم من أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بسوء فأشغله بنفسه واجعل تدبيره تدميره يا سميع الدعاء.
ــــــــــــــــــــ(67/156)
يا شباب
...
...
2174
...
الأسرة والمجتمع
...
...
قضايا المجتمع
...
بندر بن خلف العتيبي
...
...
الدمام
...
3/2/1422
...
...
أبو بكر الصديق
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- الذرية والنسل نعمة من نعم الله. 2- أهمية الشباب للأمة. 3- نصيحة النبي لأحد الشباب. 4- الرياضة تشغل الشباب عن المعالي. 5- قصص من شباب السلف. 6- صور من شباب الصحوة اليوم.
الخطبة الأولى
أيها المسلمون: زينة الحياة الدنيا. وعدة الزمان بعد الله شباب الإسلام. الناشئون في طاعة ربهم، لا تكاد تعرف لهم نزوة, أو يعهد عليهم صبوة، يستبقون في ميادين الصالحات، أولئك لهم الحياة الطيبة في الدنيا، ولهم الظل الظليل يوم القيامة يوم لا ظل إلا ظل المولى عز وجل.
إن العناية بالنشء مسلك الأخيار وطريق الأبرار ولا تفسد الأمة وتهلك في الهالكين إلا حين تفسد أجيالها، ولا ينال الأعداء من أمة إلا نالوا من شبابها وصغارها، وفي كتاب الله إخبار من أنبياء الله حين توجهوا إلى ربهم بصلاح ذرياتهم من قبل وجودهم ومن بعد مجيئهم، فمن دعاء زكريا عليه السلام رَبّ هَبْ لِى مِن لَّدُنْكَ ذُرّيَّةً طَيّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاء [آل عمران:38]. ولا خير في ذرية إن لم تكن طيبة، ويقول إبراهيم عليه السلام وَاجْنُبْنِى وَبَنِىَّ أَن نَّعْبُدَ الاْصْنَامَ [إبراهيم:35]. وفي دعاء آخر له رَبّ اجْعَلْنِى مُقِيمَ الصلاةِ وَمِن ذُرّيَتِى رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاء [إبراهيم:40]. وكل صالح من عباد الله يبتهل إلى ربه رَبّ أَوْزِعْنِى أَنْ أَشكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِى أَنْعَمْتَ عَلَىَّ وَعَلَى والِدَىَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِى فِى ذُرّيَّتِى إِنّى تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنّى مِنَ الْمُسْلِمِينَ [الأحقاف:15].
أيها الأحبة:
من الشباب ينشأ العلماء العاملون، والجنود المجاهدون وفيهم الصناع والمحترفون، إذا صلحوا أسعدت بهم أمتهم، وقرت بهم أعين آبائهم وأمهاتهم، وامتد نفعهم وحسنت عاقبتهم جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ ءابَائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرّيَّاتِهِمْ وَالمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مّن كُلّ بَابٍ سَلَامٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ [الرعد:23-24].
ولقد رسم النبي صلى الله عليهم وسلم فيما رسم منهجاً واضحاً لشباب الأمة المحمدية ممثلاً في ابن عمه الغلام عبد الله بن عباس رضي الله عنهما حيث قال: ((يا غلام إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك بشيء إلا بشيء قد كتبه الله لك...)) الحديث.
إن أول لبنة في بناء الشباب لبنة العقيدة، ورسوخ الإيمان وصدق التعلق بالله وحده والاعتماد عليه، إن أولها حفظ الله بحفظ حقوقه وحدوده، ومن ثم الاستعانة به وحده في الأمور كلها والتوكل عليه واليقين الجازم بأنه بيده سبحانه الضر والنفع، يأتي كل ذلك أيها الأخوة ليكون دافعاً للشباب، وهو في فورته وطموحه وتكامل قوته، ليكون قوي العزيمة عالي الهمة.
وإن شباب الإسلام اليوم بحاجة إلى المعرفة التامة بالعزائم من الأمور، والعالي من الهمم، إن قوي العزيمة من الشباب - أيها الشباب- من تكون إرادته تحت سلطان دينه وعقله، ليس عبداً لشهواته، فتعس عبد الدنيا والدرهم.
أيها الشباب: إن الشهوات والعواطف، وحب الراحة وإيثار اللذات هو الذي يسقط الهمم، ويفتر العزائم، فكم من فتيان يتساوون في نباهة الذهن وذكاء العقل، وقوة البصيرة، ولكن قوي الإرادة فيهم وعالي الهمة فيهم، ونفاذ العزيمة فيهم هو الكامن المتفوق يجد ما لا يجدون، ويبلغ من المحامد والمراتب ما لا يبلغون.
بعد ذلك أقول يا شباب كم أحزنني وآلمني منظر متكرر لشباب المسلمين وهم يتجمهرون أمام الجامع بين أذان وصلاة المغرب خارجين من ملعب الكرة والناس يمرون عليهم خارجين من بيوتهم إلى بيوت الله، وكأن الأمر لا يعنيهم، بل تجدهم في لهو وصفير وضياع وغفلة، عندها تذكرت حال شباب الأمة الصادقين وعلمت علم اليقين نجاح أعداء الملة في الكيد لشبابنا وإبعادهم عن معالي الأمور إلى سفاسفها والله المستعان.
الناس تسهر عندها مبهورة حتى الصباح
غط الجميع بنومهم فوز الفريق هو الفلاح
كرة القدم
أمضى الجسور إلى العلا بزماننا كرة القدم
تحتل صدر حياتنا وحديثها في كل فم
وهي الطريق لمن يريد خميلة فوق القمم
أرأيت أشهر عندنا من لا عبي كرة القدم
أهم أشد توهجاً أم نار برق في علم
لهم الجباية والعطاء بلا حدود والكرم
لهم المزايا والهبات وما تجود به الهمم
كرة القدم
الناس تسهر عندها مبهورة حتى الصباح
وإذا دعا داعي الجهاد وقال حي على الفلاح
غط الجميع بنومهم فوز الفريق هو الفلاح
فوز الفريق هو السبيل إلى الحضارة والصلاح
كرة القدم
صارت أجل أمورنا وحياتنا هذا الزمن
ما عاد يشغلنا سواها في الخفاء وفي العلن
أكلت عقول شبابنا ويهود تجتاح المدن
آه ثم آه، ماذا يراد بشباب الأمة: يا شباب أتدرون من أول من سل سيفه في سبيل الله. اسمع رعاك الله.
قال الذهبي في سير أعلام النبلاء: "عن عروة قال: أسلم الزبير ابن ثمان سنين، ونُفخت نفخة من الشيطان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أُخذ بأعلى مكة، فخرج الزبير وهو غلام ابن اثنتي عشرة سنة بيده السيف، فمن رآه عجب وقال: الغلام معه السيف، حتى أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((ما لك يا زبير، فأخبره وقال: أتيت أضرب بسيفي من أخذك، فدعا له ولسيفه))"، يا شباب: على مثل سير هؤلاء فلتكن التربية، فلتكن القدوة، فلتكن الهمة، فليكن الشموخ والاستعلاء.
ذهب اللذين نحبهم فعليك يا دنيا السلام
لا تذكري العيش عندي بعدهم فالعيش بعدهم حرام
إني رضيع وصالهم والطفل يؤلمه الفطام
يا شباب: ما كان يشغل بال ابن عباس رضي الله عنهما وهو صبي (ابن عشر سنين) إلا معرفة كيفية قيام النبي صلى الله عليه وسلم, وأعد يوماً وضوء النبي صلى الله عليه وسلم لصلاة الليل فدعا له: ((اللهم فقهه في الدين)) وصار بهذا الدعاء- الذي ناله وهو صبي- حبر الأمة وترجمان القرآن.
ويا شباب الإسلام: يقول سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: لقد شهدت بدراً وما في وجهي شعرة واحدة أمسحها بيدي.
وقد كان سعد من السابقين إلى الإسلام، وقد كان قتل فرعون هذه الأمة أبو جهل لعنه الله على يد غلامين من الأنصار.
وتذكر يا شباب الإسلام ما فعله محمد بن القاسم الثقفي ابن السابعة عشرة من العمر الذي فتح بلاد الهند والسند:
ساس الجيوش لسبع عشرة حجة ولداته عن ذاك في انشغال
فغدت بهم أهواؤهم وسمت به همم الملوك وسورة الأبطال
وهذا عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز، ابن الخليفة رحم الله تلك العظام، كان نعم المعين لوالده على مرضاة الله, وعلى تحمل هموم الأمة وتبعات الخلافة.
ذكر الآجري رحمه الله: (في كتاب فضائل عمر بن عبد العزيز) أن عمر لما دفن سليمان بن عبد الملك خطب الناس ونزل ثم ذهب يتبوأ مقيلاً، فأتاه ابنه عبد الملك، فقال: يا أمير المؤمنين من لك أن تعيش إلى الظهر؟ قال: ادن مني أي بني، فدنا منه والتزمه، وقبل بين عينيه، وقال: الحمد الله الذي أخرج من صلبي من يعينني على ديني، فخرج ولم يقيل.
جمع عمر بن عبد العزيز قراء أهل الشام وفيهم أبو زكريا الخزاعي فقال: إني جمعتكم لأمر قد أهمني، هذه المظالم التي في أيدي أهل بيتي (يعني بذلك عطايا لأهل بيته قد أعطيت لهم من أبناء عمه من الخلفاء قبله).
يقول رحمه الله: قد أهمتني هذه المظالم التي في أيدي أهل بيتي، ما ترون فيها؟ قالوا: ما نرى وزرها إلا على من غصبها، قال: فقال لعبد الملك ابنه: ما ترى أي بني؟ قال: ما أرى من قدر على أن يردها فلم يردها والذي اغتصبها إلا سواء.
فقال: صدقت أي بني، ثم قال: الحمد الله الذي جعل لي وزيراً من أهلي، عبد الملك ابني.
هذا العابد الرباني مات وعمره تسعة عشر عاماً، مات شاباً في زهرة شبابه قال ابن رجب رحمه الله "لقد كان رحمه الله مع حداثة سنه مجتهداً في العبادة، ومع قدرته على الدنيا وتمكنه منها راغباً عنها مؤثراً للزهادة، فعسى الله أن يجعل في سماع أخباره لأحد من أبناء جنسه أسوة، لعل أحداً كريماً من أبناء الدنيا تأخذه بذلك حمية على نفسه ونخوة، وأيضاً ففي ذكر مثل أخبار هذا السيد الجليل مع سنه، توبيخ لمن جاوز سنه وهو بطّال، ولمن كان بعيداً عن أسباب الدنيا وهو إليها ميال".
بارك الله لي ولكم في كتابه العظيم وجعلنا الله وإياكم من أهل القرآن العاملين إنه جواد كريم بر رؤوف رحيم، والحمد لله رب العالمين.
الخطبة الثانية
يا شباب الإسلام: اعلموا أنكم في زمن فتنة وبلاء، واعلموا أن بعض الآباء قد شغلوا عنكم بل ربما أعانوكم على الوقوع في الفتنة والحرام، ولكن اعلم رعاك الله أن عليك مسؤولية عظيمة، فنحن نعيش في زمن سلبت فيه أغلى المقدسات وتسلط فيه الأعداء، فمتى يفيق النائمون؟! وهل بقي شيء من الذل لم نتجرعه على أيدي إخوان القردة والخنازير؟! وا لهفي على الأرض المباركة وعلى الأقصى السليب في الوقت الذي تدك الدبابات أرض الإسراء والمعراج صباح مساء، ويعاني إخواننا في الدين هناك أشد ألوان الحصار والبلاء، ويتسارع الأطفال العزل من السلاح لمقارعة اليهود بكل بسالة وتضحية وفداء.
أخرج من بيتي فأرى بين الأحياء فئاماً من شباب الأمة يسهرون على المنكرات والعبث واللهو فيالجراحات المسلمين، وعلى قدر حال شباب الأمة توزن الأحوال والله المستعان.
يا شباب الإسلام: أدهى من ذلك وأمر ما كنا لنصدق لو لا أنها حقائق، أن من أحفاد العظماء النجباء من وقع في حبائل وشباك المخدرات فلا تسل بعد ذلك عن ضياع الدين والعقل والمروءة والحياء.
يا شباب: مازلت متفائلاً وسأظل متفائلاً مهما عظم كيد الأعداء، فالجبار جل جلاله يقول: بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ [الأنبياء:18]. وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِى ضَلَالٍ [غافر:25]. نعم من آلامنا تبزغ آمالنا، والرجال تصنعهم المحن، وابتسامة الفجر الوليد تبزغ من أشد ظلمة في الدياجي.
يا شباب: أعرف بعض إخوانكم من شباب هذا العصر ممن جرفه تيار الشهوات لكنه استفاق سريعاً يوم أن سمع صوت النذير ويوم أن رأى وسمع بواقع أمته الجريحة، فما أحوج الأمة اليوم إلى نهضة شبابها، ما أحوج الأمة إلى المجاهدين الصادقين والعلماء المخلصين والدعاة المتجردين.
نعم أيها الشباب: استيقظ هؤلاء الشباب واستيقنوا بما يكاد لهم وما يخطط لتغييبهم عن دينهم وواقع أمتهم الجريحة، انتبه أولئك الأبطال فغاروا لمحارم الله وغاروا لأعراض المسلمين، فعادوا إلى حيث الأصل، إلى الراحة والطمأنينة، إلى العزة والشموخ، وسبحان ربي، إن الإيمان يصنع الرجال ويسمو بهم صعداً، منهم من أوقف حياته في سبيل الدعوة إلى الله يجوب الأرض شرقاً وغرباً، ومنهم من فتح الله عليه علماً وفضلاً، فنفع الله به البلاد والعباد، ومنهم من نفر للجهاد في سبيل الله، فسطروا على أرض الشيشان وكشمير وغيرها صوراً عظيمة وجميلة للتضحية والفداء، وتلك الأشبال من أولئك الأسود، وليس ذلك بغريب على أمة الجهاد والإٍيمان.
أعرف من قتل منهم وهو يودع الدنيا بابتسامة عريضة جميلة ظلت على محياه آية وعبرة وكرامة، وأعرف من ودع الدنيا منهم في عز شبابه في التاسعة عشرة من عمره، والنور يشع من على وجهه وإصبع اليد المسبحة يشهد لله بالوحدانية، فيجد أخوه بجانبه ورقة من المصحف فيقرؤها فإذا فيها قوله تعالى: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ [الأنعام:90]. إي والله إنها حقائق، فسبحان من عظم كرمه وجوده أن يحيط به الخلائق، وسبحان من يري عباده عجائب قدرته وغير ذلك كثير وكثير.
إنهم فتية الإسلام:
وقفوا على هام الزمان رجالا يتوثبون تطلعاً ونضالا
وحي السماء يجيش في أعماقهم ونداؤه من فوقهم يتعالى
باعوا النفوس لربهم واستمسكوا بكتابه واستقبلوا الأهوالا
في وقدة الصحراء في فلواتها حملوا تكاليف الجهاد ثقالا
تشوي على رمضائها أجسامهم لكنهم لا يعرفون محالا
يا شباب: تذكروا قول الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم: ((لا تزول قدما ابن آدم يوم القيامة من عند ربه حتى يسأل عن خمس، عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيم أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه، وفيم أنفقه، وماذا عمل فيما علم)) وعن حفصة بنت سيرين قالت: يا معشر الشباب اعملوا فإني رأيت العمل في الشباب هو القوة "
ــــــــــــــــــــ(67/157)
الحجاب
...
...
2182
...
الأسرة والمجتمع
...
...
المرأة
...
سعيد بن يوسف شعلان
...
...
جدة
...
...
...
عمار بن ياسر
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- تحذير الله ورسوله للمؤمنين من اتباع أهل الكتاب ومشابهتهم. 2- الدعوة للسفور والرد عليها بنصوص الكتاب والسنة. 3- شرح آيات الحجاب. 4- الكشف بين الأقارب من غير المحارم. 5- تحذير النبي النساء. 6- النقاب والرد على دعاة كشف الوجه. 7- مصافحة الأجنبية. 8- آداب خروج المرأة من بيتها.
الخطبة الأولى
فلما انتهينا من أدب الاستئذان على البيوت، وأتبعناه بالأيتين الكريمتين الآمرتين بغض البصر وحفظ الفرج، وقفنا في الآية الثانية -وهي الخاصة بالنساء- على مسائل مهمة، منها: مسألة الحجاب، ولم يكن الوقت وافيًا بالكلام عليها، فأردنا أن نفردها بخطبة خاصة نظرًا لتكرر السؤال في حقها. ما هو الحق في هذه المسألة؟
ونظرًا لما شغلت به هذه المسألة مجالس بعض الناس مناظرة وجدالاً وكلامًا كثيرًا حولها.
والحق أن هذه المسألة لم تكن لتشغل الناس على النحو الذي شغلتهم به، لولا رؤوس أطلت على المسلمين في الأزمنة الأخيرة تدعوهم إلى التشبه بمن نهانا الله ورسوله عن مشابهتهم، فأما نهي القرآن فهو في آيات كثيرة، منها أنه تهددنا بالخسران إن أطعنا الذين كفروا، قال في الآية التاسعة والأربعين بعد المائة من سورة آل عمران.
يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِن تُطِيعُواْ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنقَلِبُواْ خَاسِرِينَ [آل عمران:149].
وقال في حق اليهود والنصارى خاصة في الآية الحادية والخمسين من سورة المائدة: ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء [النساء:144].
وقال في الآية الموفية للمائة من سورة آل عمران: ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِن تُطِيعُواْ فَرِيقاً مّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ [آل عمران:100].
وأما السنة المطهرة: فلقد ثبت عن أبي سعيد في الصحيح عن النبي قال: ((لتتبعن سنن من كان قبلكم حذوا القذة بالقذة ـ الخطوة بالخطوة والشبر بالشبر، وما إلى ذلك في أحاديث أُخر ـ حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه)) قالوا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: ((فمن!)) من إذن؟ هم بأعينهم. أطلت هذه الرؤوس على المسلمين تدعوهم إلى مشابهة الكفار. وعلى أن نأخذ عنهم مبادئهم ومناهجهم. فكانت النتيجة ركامًا تافهًا ضحلاً من المبادئ التي أخذناها لنستر بها عُرينا فَعَرِينا، ومن المناهج التي اقتبسناها لننسج منها آمالنا فنسجنا منها أكفاننا. دَعَوْا المسلمات المؤمنات بحجة التحرر، وبحجة إطلاقها من عقالها، وما كان إلا عقال العفة والحياء، ما كان عقال ظلم ولا عقال أسر. ما كان إلا عقال عفة وحياء، دعوها إلى الخروج لتساهم في خضم الفتن التي أقبلت على المسلمين من كل صوب وحدب، فخرجت وما أدراك خروج المرأة تبرج وسفور، وجرأة على أحكام القرآن والسنة، فأصبحت تمشي مِشية الرجل، تتجرأ جرأة الرجل، وتتصرف تصرفات أصبحت وبالاً وعارًا وشناراً على الأمة الإسلامية.
ورحم الله القائل الذي رد على أحدهم فقال:
نص الكتاب على الحجاب ولم يُبح للمسلمين تبرج العذراء
ماذا يريبك من حجاب ساتر جيد المهات وطلعة الزلفاء
ما يريبك من إزار مانع وزر الفؤاد وضلة الأهواء
ما في الحجاب سوى الحياء فهل من التهذيب أن يهتكن ستر حياء؟
هل في مجالسة الفتاة سوى الهوى لو أصدقتك ضمائر الجلساء
شيّد مدارسهن وارفع مستوى أخلاقهن لصالح الأبناء
أسفينة الوطن العزيز تبطئ بالقعر لا يغررك سطح الماء
وقال آخر:
بأبي وأمي ضاعت الأحلام أم ضاعت الأذهان والأفهام
من حاد عن دين النبي محمد أله بأمر المسلمين قيام
إلا تكن أسيافهم مشهورة فينا فتلك سيوفهم أقلام
ودعت الحاجة والضرورة إلى ذكر الدليل من القرآن والسنة على وجوب الحجاب، ودعت إلى ذكر مناقشة العلماء لأدلة القائلين بكشف الوجه والكفين.
فأما أدلة القرآن الكريم فقد مر بنا أحدها قوله تعالى في الآية الحادية والثلاثين من سورة النور: وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ [النور:31]. وستأتي بعض الأحاديث التي توضح كيف أن نساء المهاجرين والأنصار امتثلن لهذه الآية فبادرن سريعًا على مروطهن فشققنها فاختمرن بها.
ثم قال الله تعالى في الآية الثالثة والخمسين من سورة الأحزاب: وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْئَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ ذالِكُمْ [الأحزاب:53].
الحاجة الجميع إلى أطهرية القلوب ودوامها وبقائها.
وللنساء المسلمات في نساء النبي أمهاتهن المسلمات أسوة حسنة في الآداب الكريمة والأخلاق المستقيمة المقتضية للطهارة التامة بعيدًا عن التدنس بأنجاس الريبة ثم قال الله تبارك وتعالى في الآية التاسعة والخمسين من نفس السورة: قُل لاِزْواجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ [الأحزاب:59].
والأمر بإدناء الجلابيب هو الأمر بستر الوجه كما فهمه غير واحد، منهم ابن مسعود وابن عباس وعبيدة السلماني[1] من صحابة رسول الله . ثم ممن بعدهم من التابعين فهموه، وقالوا: تستر وجهها وتبدي عينًا واحدة، هذا وقرينة أخرى في هذه الآية تدل على خلاف ما ذهب إليه المبيحون، حيث قالوا: لم تدل هذه الآية على وجوب ستر الوجه لغة، ولم ينهض نص من كتاب ولا سنة ولا إجماع على أن الأمر بإدناء الجلابيب يقتضي ستر الوجه في الآية قرينة واضحة تدل على ذلك إذ قال الله لرسوله : قُل لاِزْواجِكَ ولم يقل ولا أحد من هؤلاء المبيحين المجيزين إن نساء النبي لم يؤمرن بستر الوجه. فلما ذكر الله تعالى أزواج النبي وبناته وأتبعهن بذكر النساء المسلمات فُهِم أنّ عليهن أن يكن على الوجه الذي عليه أزواج النبي وبناته من ستر الوجوه، ثم قالوا: أما قوله تعالى: ذالِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ [الأحزاب:59]. فهو ظاهر في كشف الوجه، وإلاَّ فكيف تُعرف المرأة إن لم تُظهر وجهها، وليس الأمر كذلك فالصحابة والتابعون فسروا هذه الآية على أن النساء كن يخرجن بالليل لقضاء الحاجة، فكان بعض الفُسّاق بالمدينة يتعرضون للإماء بالأذى، ولما كان بعض نساء المؤمنين لا يتميزن في زيِّهن عن زيّ الإماء كن يتعرضن لبعض ما تتعرض له الإماء. فأمرت نساء المؤمنين والحرائر بأن يتميزن عن زي الإماء، وليس في ذلك موافقة على أذى الفساق للإماء، بل دفع ذلك له سبيل وأدلة أخرى. لكن أمرن أن يتميزن حتى لا يتعرض لهن الفساق، وكان الفساق لا يتعرضون للحرائر ذالِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ بأنهن حرائر فَلاَ يُؤْذَيْن.
ثم قال الله تعالى كذلك في سورة النور في الآية الستين: وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النّسَاء الَّلَاتِى لاَ يَرْجُونَ نِكَاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرّجَاتِ بِزِينَةٍ [النور:60]. والقواعد أي العجائز اللاتي انقطع طمعهن في التزويج لا حرج عليهن، ولا جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ وهي في الأظهر من الأقوال ما يكون على الخمار، والقميص من الجلابيب، لا جناح عليهن أن يضعن الثياب عن الوجه غَيْرَ مُتَبَرّجَاتِ مع ذلك بِزِينَةٍ إن وضعن الثياب، فلا يتبرجن بزينة بالحلي والخضاب وما إلى ذلك مما نتزين به المرأة إن وضعت ثيابها فلا تكون سببًا في إغراء ولا فتنة ولا تحريض على فاحشة ودعوة إليها.
فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرّجَاتِ بِزِينَةٍ [النور:60]. ثم قال لهن: وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَّهُنَّ [النور:60]. وأن يبقين بالثياب على وجوههن خَيْرٌ لَّهُنَّ إلا أن القرآن رفع عنهن الحرج والمشقة إن كن يشعرن بها بعد بلوغ هذه السن، فإن أرادت ما هو أفضل من حيث العفة فلتُبقِ على ثيابها على خمارها وعلى وجهها، فإنّ ذلك كما قال القرآن: خَيْرٌ لَّهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عِلِيمٌ [النور:60].
وكان من أظهر الأدلة قوله تعالى: وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ [النور:31]. لأن عائشة رضي الله عنها وهي التي فسرت هذه الآية كما في صحيح البخاري من طريق عروة مرة عليها ومن طريق صفية بنت شيبة أنها قالت: (يرحم الله النساء المهاجرات الأُول لما أُنزلت سورة النور: وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ [النور:31]. قمن إلى مروطهن فشققنها فاختمرن بها)، شرح ذلك الحافظ ابن حجر رحمه الله في شرح الحديث فقال: تأتي بالخمار فتضعه على رأسها ثم ترمي بجانبه الأيمن على عاقتها الأيسر، -وهو التقنع- ترمي بجانب الخمار الأيمن على عاتقها الأيسر، وقالت كذلك في صحيح البخاري عن نساء الأنصار لمّا ذُكر نساء قريش، قالت: (إن لنساء قريش لفضلاً، ولكن ما رأيت أشد تصديقًا لكتاب الله وإيمانًا بالتنزيل من نساء الأنصار لما أُنزلت سورة النور انقلب رجالهن إليهن يتلون عليهن ما أُنزل فيها فما منهن امرأة إلا قامت إلى مرطها فأصبحن يصلين خلف رسول الله معتجرات (أن مختمرات) كأن على رؤوسهن الغربان.
هكذا كانت المسارعة والمبادرة إلى امتثال أمر الله تعالى حتى ولو لم يكن عندهن ثياب تصلح للوفاء بما أُمرن به، قُمن فشققن ما عندهن من ثياب -هي لأغراض أخرى- فاتخذن منها خمرًا يسترن بها الوجوه. رضي الله عنهن وجزاهن خيرًا عن هذه المسارعة والمبادرة إلى امتثال أوامر الله خالقنا ورازقنا ومن له حق علينا، يأمرنا فنمتثل، وينهانا فننتهي تبارك وتعالى.
ثم إن في سنة رسول الله من التحذير من الدخول على النساء ما جاء عن عقبة ابن عامر في الصحيحين ما جاء عن رسول الله قال: ((إياكم والدخول على النساء)) هذا الأمر الذي فرطنا فيه كثيرًا وأصبح بيننا وبينه بونًا بعيدًا وفرقًا شاسعًا هائلاً، تنظر إلى أهل البيت الواحد فيهم من هو محرم، ومن ليس بمحرم، لكنهم ينظرون إلى البيت على أنه ما دامت الحياة فيه مشتركة فلا فرق. تكشف المرأة على زوج أختها وعلى أخ زوجها وغير ذلك، والحديث صريح؛ ((إياكم والدخول على النساء)) فقال رجل: يا رسول الله، أفرأيت الحمو؟ قال: ((الحمو الموت)).
والحمو هو قريب الزوج، كأخيه وابن أخيه وعمه وابن عمه وغيرهم.
وانظروا إلى الوعيد الشديد والتهديد البالغ، والتعبير الدقيق عن دخول هؤلاء النساء بأن هذا هو الموت، وهو أعظم مصيبة تأتي على الإنسان في حياته، قال: الموت، ((الحمو الموت))، دخول هؤلاء على من لا يحل من النساء هو الموت.
ثم جاء عند البزار وأخرجه الترمذي والطبراني وقال الهيثمي: رجاله موثوقون ما يدل أيضًا على وجوب الحجاب وعلى ضرورة إنكفاف المرأة في بيتها إلا لحاجة وضرورة.
عن ابن مسعود عن النبي قال: ((إن المرأة عورة فإذا خرجت استشرفها الشيطان)) وزينها للناظرين حتى ولو كانت محتجبة، فبقاءها في بيتها وانكفافها فيه أصون وأعون على العفة وعلى الحياء. هذا ما ورد في القرآن وفي السنة مما يوجب الحجاب على النساء المؤمنات. ثم جاءت بعد ذلك أدلة أخرى احتج بها المبيحون والمجيزون نذكرها بعد قليل إن شاء الله وقدّر.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
[1] عبيدة السلماني ليس معدوداً في الصحابة (الفريق العلمي).
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله خاتم الأنبياء وإمام المرسلين، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه.
في صحيح مسلم، عن جابر رضي الله عنه قال: شهدت الصلاة مع رسول الله صلاة العيد بغير أذان ولا إقامة قبل الخطبة ثم قام متوكئا على بلال يعظ النساء، وأخذ في الحث على تقوى الله تبارك وتعالى وطاعته وقال: ((وتصدقن فإني رأيتكن أكثر أهل النار)) فقامت امرأة من وسط النساء سفعاء الخدين، قالت: ولم يا رسول الله؟ قال: ((لأنكن تكثرن الشكاة وتكفرن العشير)) تكثرن من الشكاية وتكفرن العشير.
فجعل النساء يتصدقن بالحلي فيلقين بأقراطهن وخواتمهن، وبلال يأخذ في طرف ثوبه، يفتدين أنفسهن من النار بمجرد أن علمن أنهن أكثر أهل النار بسبب ما يُقْدِمن عليه من كثرة الشكوى، ومن جحود فضل الزوج، والشاهد من الحديث الذي احتجوا به "سفعاء الخدين".
قالوا: لو لم يكن كشف الوجه جائزٌ لما رأى جابرًا خديها، وسفعاء الخدين: أي في وجهها سواد يعبر عنه أيضاً بالقبح.
لكن الإجابة على هذا الدليل تتلخص في أن النبي لم يسكت أبدًا، وليس في مُكنة المبيحين أن يدعوا ذلك، لم يكن النبي ليرى ذلك. ما رآه ولا أقره ولا وافق عليه، إنما الذي ثبت أن جابرًا رأى ذلك، ويُحتمل أن يكون ذلك مما يحدث لبعض النساء من سقوط الخمار أحيانًا، وهذا وارد.
قال النابغة:
سقط النصيف ولم ترد إسقاطه فتناولته واتقتنا باليد
قد يسقط ولا تريد إسقاطه، ثم إنّ هذا الحديث رواه أبو سعيد وابن عباس وابن عمر كما أخرجه مسلم رحمه الله فلم يذكروا ما ذكره جابر، فلعل ذلك وقع لجابر ولم يقع لهن. ثم لعل هذا القبح وهذا السواد في الخدين موافق ومقارن لتقدم في السن وطعن فيه. فلم يؤبه له ولم ينكر ذلك عليها، والله أعلم.
وأمّا حديث ابن عباس رضي الله عنهما في المرأة الخثعمية أن الفضل بن عباس جعل ينظر إليها وتنظر إليه، وكان الفضل رجلاً وضيئًا، وكانت المرأة وضيئة ففيه ما في الحديث الماضي، وزيادة على ما فيه أن النبي لما لاحظ أن الفضل ينظر إليها جعل يصرف وجهه إلى الشق الآخر، ويكفي ما في ذلك من عدم موافقة النبي على تبادل النظرات بين الرجل الأجنبي والمرأة الأجنبية، وربما كان الفضل يعرفها قبل ذلك كما قال العلماء، أو وقع لها ما وقع للمرأة الأخرى، أو لأجل أن إحرام المرأة في وجهها وكفيها، وعلى المرأة أن تفعل كما فعلت عائشة وغيرها من النساء أن يكشفن إذا لم يمر بهن رجال أجانب، فإذا مروا بهن فليسترن وجوههن.
هذا ثابت عن عائشة رضي الله عنها وعن غيرها من النساء، فهذا هو ما في هذا الحديث.
وأما حديث أسماء فقد مر بنا في الأسبوع الماضي.
والكلام للمُنصفين، هل يقاوم ذلك ما في الأحاديث الثلاثة: حديث أسماء وحديث جابر وحديث ابن عباس؟ هل يقاوم الأوامر الصريحة في القرآن الكريم في غير ما آية وفي سنة رسول الله في أحاديث صحيحة مفهومها، واضح من النهي عن الدخول على النساء والنظر إليهن والاختلاط بهن، وما إلى ذلك.
المنصف يقول: لا والله لا تقاوم هذه هذه، التي احُتج بما فيها. وليس في واحد منها أن رسول الله رأى ذلك. هل نسب أحد الصحابة شيئاً من ذلك إلى النبي وأفاد بأنه أقر النساء على ذلك. أبدًا ما وقع ذلك.
ثم إن هناك بعض الأحكام نُشير إليها لتأخذ بها النساء المسلمات المؤمنات:
فعلى النساء والرجال الذين بينهم حُرمة، نساء أجانب ورجال أجانب ألا يصافح الرجل المرأة الأجنبية لما ثبت عن النبي أنه قال: ((إني لا أصافح النساء)).
وقال الله في الآية الحادية والعشرين من سورة الأحزاب: لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب:21].
فالتأسي به يقتضي ألا يمس الرجل الأجنبي بشيء من بدنه بدن المرأة الأجنبية، وكذلك شاع في بعض البلاد الإسلامية، وعند بعض المسلمين أن الرجل يُقبل أخت زوجته في فمها، ويُسمى هذا التقبيل الحرام بالإجماع سلامًا، فينبغي التباعد عن كل ما من شأنه إباحة وتعدي حرمة بين الرجل الأجنبي والمرأة الأجنبية.
وكذا على المرأة إذا خرجت ألا تتطيب وألا تستعطر لما جاء عند الترمذي من حديث أبي موسى بسند حسن صحيح عن النبي : ((إذا خرجت المرأة فاستعطرت ومرت بمجالس القوم فهي كذا وكذا)) يعني زانية.
وثبت عن أبي هريرة أنه أمر امرأة كما عند أبي داود أن ترجع فتغتسل، لأنها خرجت فاستعطرت ومرت بالقوم وقال لها: يا أُمية الجبار هل جئت المسجد؟ فقال: نعم. هل تطيبت؟ قالت: نعم. فقرأ عليها أنه سمع رسول الله نهى عن ذلك.
ومما ينبغي أن تراعيه المرأة أيضًا كما ثبت عند أبي داود من حديث أبي أسيد النصاري أن عليها ألا تمشي في وسط الطريق إن خرجت إلى الشارع فإن ذلك من التبرج كما قال العلماء بل عليها أن تأخذ حافة الطريق، فعن أبي أسيد النصاري أنه سمع النبي وقد خرج من المسجد، واختلط الرجال بالنساء، فقال النبي للنساء: ((استئخرن فإنه ليس لكن أن تحتضن الطريق، عليكن بحافة الطريق)) فكانت المرأة تلتزم بحافة الطريق حتى إن ثوبها ليتعلق بالجدار من لصوقها به.
هذه بعض الأحكام التي ينبغي أن تأخذ بها المرأة، وينبغي أن تتحلى به حتى تلحق بالخُيِّرات من نساء المسلمين والمؤمنين الأوائل.
أسأل الله العلي العظيم أن يجعلنا ممن يستمع القول فيتبع أحسنه.
رسائل أخوية إلى الشباب
...
...
2194
...
الأسرة والمجتمع
...
...
قضايا المجتمع
...
مازن التويجري
...
...
الرياض
...
11/8/1420
...
...
جامع حي النزهة
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- الشباب عماد الأمة. 2- أمثلة من التاريخ القديم لإقبال الشباب ودورهم. 3- أسئلة محاسبة للشباب. 4- من تصاب أيها الشاب. 5- لماذا لم يسلم أبو طالب. 6- الاهتمامات الوضيعة. 7- معيار الرجولة عند شبابنا. 8- التحذير من سوء الخاتمة. 9- أين تجد السعادة الحقيقية. 10- دعوة للتوبة.
الخطبة الأولى
ما من أمة بادت .. وأخرى قامت، إلا ولها شعار ترفعه، ووسام تفتخر به، به ترتقي وتزدهي، وبه تجالد أعداءها وخصومها، كان وما زال محط أنظار الدول والممالك، ومصدر قوتها وعزتها، هم شريحة من أي مجتمع عماده، وسلاحه، بدونهم لا تقوم لأمة قائمة، وبفقدانهم حسًا أو معنىً تبقى الأمة حبيسة التخلف والضعف، قابعة في مؤخرة الركب، لابسة أثواب الذل والصغار ..
إنهم .. الشباب .. عماد الأمم، وسلاح الشعوب، يؤثرون في الأمة سلبًا أو إيجابًا، يدفعون عجلة التأريخ نحو أمل مشرق، ومستقبل مضيء، أو يديرونها إلى الوراء جهلاً وحمقًا .
والتاريخ يشهد على هذه الحقيقة، وأيام الزمن صور وعبر ..
إبراهيم عليه السلام .. واجه قومه وأنكر عليهم عبادة الأوثان بل وكسرها وهو شاب يافع قَالُواْ سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْراهِيمُ [الأنبياء:60].
ومؤمن آل فرعون يصدح بالحق وينادي وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مّنْ ءالِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبّىَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءكُمْ بِالْبَيّنَاتِ مِن رَّبّكُمْ [غافر:28]. يقولها في وجه فرعون كبير المتغطرسين المتجبرين ..
والفتى الداعية غلام الأخدود يسعى للموت، ويطلب القتل، ترخص عليه روحه إذا كان في إزهاقها إيمان أمة، وصلاح شعب وَالسَّمَاء ذَاتِ الْبُرُوجِ وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ قُتِلَ أَصْحَابُ الاْخْدُودِ النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ [البروج:1-6].
وفي خبر أصحاب القرية يرسل الله إليهم ثلاثة من الأنبياء فكذبوهم وقتلوهم، فأضحى من آمن من قومهم يخفي إيمانه خوفًا على نفسه وأهله، واحتوى الرعب نفوس البشر، وتمكن الذعر من القلوب، واكتسى الأفق ثوب الصمت والوجوم، إذا بصوت حافي يقطع ذلك الصمت الرهيب، ويشق سماء الركود والهدوء، ليقشع غيوم الكفر والفسوق وَجَاء مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ ياقَوْمِ اتَّبِعُواْ الْمُرْسَلِينَ اتَّبِعُواْ مَن لاَّ يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُّهْتَدُونَ وَمَا لِىَ لاَ أَعْبُدُ الَّذِى فَطَرَنِى وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [يس:20-22].
وهكذا يكون الشباب قوة الأمم، وفخارها وذخرها وسندها، ولذا كان لا بد من حديث خاص نخاطب فيه الشباب، شعاره الصدق والمحبة، وعنوانه الصراحة والتجرد ..
فإليك أيها المبارك .. إليك يا أمل الأمة .. إليك يا سليل المجد .. يا حفيد العز ..
كلمات ملؤها الصدق والوفاء، دفعني لها حبك وحب الخير لك، وجعلني أتطفل وأكسر تلكم الحواجز الوهمية، كرمك الفطري، وعقلك الثاقب ..
فأملي أن تعيرني منك مسمع، ليكون الحديث حديث القلب إلى القلب، ونداء الروح للأرواح، يسري في الأعماق بين الجوانح، فتعال معي إلى هناك .... هناك بعيدًا عن الأصدقاء بعيدًا عن التعلق برواسب الدنيا وملذاتها، دعنا نتحدث بكل وضوح وصراحة وموضوعية ..
الرسالة الأولى:
لماذا خلقت؟ ما الغاية من وجودك؟ .. اعلم أن الإجابة واضحة بدهية، خلقنا لعبادة الله.. ولكن السؤال الأهم، هل حياتنا، أفعالنا، أقوالنا، أخلاقنا، مشاعرنا، أفراحنا، وأحزاننا، آلامنا، وآمالنا .. هل هي لله، وفي مرضاة الله؟..
هل مسألة العبودية حكرًا على المساجد والطاعات فحسب أم أن القضية لها أبعاد أخرى وآفاق أرحب؟..
اسمع إلى الحكم الفصل في ذلك قُلْ إِنَّ صَلاَتِى وَنُسُكِى وَمَحْيَاىَ وَمَمَاتِى للَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذالِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [الأنعام:162-163].
انظر في نفسك .. ماذا يملئ قلبك؟ ماذا تحب؟ ومن تحب؟ ولماذا تحب؟ متى تفرح وتسر؟.. ولماذا ولمن؟ ..
أين تحب الجلوس؟ مع من؟ ماذا تسمع؟ بماذا تتحدث؟ أقوالك أفعالك.. لمن تصرفها؟ وما الذي يحركها؟ ...
أسئلة كثيرة تحتاج منك أيها المبارك وقفة جادة للمحاسبة والاسترجاع.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يبَنِى ءادَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ الشَّيطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ وَأَنِ اعْبُدُونِى هَاذَا صِراطٌ مُّسْتَقِيمٌ [يس:60-61].
كن مع الله يكن الله معك .. أحبب لله يحبك الله .. اعبده، اذكره، اشكره، ناده وقل: ((اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، وأبوء لك بنعمتك عليَّ، وأبوء بذنبي، فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت)).
قل وردد: ((اللهم إني عبدك، ابن عبدك، ابن أمتك، ناصيتي في يدك، ماضٍ فيَّ حكمك، عدل فيَّ قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتبك أو علمته أحدًا من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن ربيع قلبي ونور صدري وجلاء همي وغمي)).
الرسالة الثانية:
قل لي من تصاحب؟ أقول لك من أنت؟ ..
إنها قاعدة عظيمة تقرها فطرة الإنسان وطبيعته، فالنفس تؤثر وتتأثر سلبًا أو إيجابًا، وكلما كثرت الخلطة وطالت .. كثر ذلك التأثر وزاد ..(67/158)
والناس على اختلاف، فمن مقل ومكثر، أوما سمعت إلى قول نبيك صلى الله عليه وسلم: ((المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل))..
ومن ينكر هذه الخصلة في بني البشر أو يشككها فيها .. فهو مكابر، إنما يخالف عقله وفكره..
وإذا كان لا بد من دليل، فانظر إلى نفسك، نفسك أنت، كم من الخصال والطباع التي لم تكن عليها من قبل ..
ها أنت ذا تمارسها شيئًا فشيئًا حتى غدت عادة لك ..
فالمدخنون .. مثلاً .. كان أول عود أحرقوه تقليدًا ومحاكاة، إن لم يكن أُحرق لهم من جليس أو صاحب، والآن أضحت عادة وطبعًا ..
وإن السؤال الذي يتحرج من طرحه كثير من الشباب على نفسه، ولا يرغبون سماعه، ويتهربون منه حتى في صراعهم مع أنفسهم، هل أصدقاؤك أحبابك، خلانك ؟ أصدقاء سوء أم صلاح..؟
روى البخاري ومسلم عن أبي موسى رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إنما مثل الجليس الصالح، والجليس السوء كحامل المسك، ونافخ الكير، فحامل المسك، إما أن يحذيك، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحًا طيبة، ونافخ الكير، إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد منه ريحًا خبيثة)).
ماذا يقولون؟ ماذا يفعلون؟ آراؤهم .. طباعهم .. هل توافق الشرع؟ هل ترضي الله؟ هل جلوسك معهم يقربك من ربك مولاك؟ أم على العكس من ذلك؟ .. إضاعة للصلاة .. رقص وغناء .. تسكع في الشوارع .. إيذاء لخلق الله .. شتم ولعن ..
نعم .. أيها الحبيب .. قد تعلو مجالسكم الضحكات والنكات، ولكنك توافقني أن بعدها من الهموم والحسرات، والغموم والآهات ما لا يعلمه إلا رب الأرض والسموات.
وأخيرًا .. أقول لك وأجبني بكل تجرد ووضوح، من تحب؟ من تجالس؟ من تصاحب؟ أولئك الذي تعلق قلبك بهم .. هل ترضى أن تحشر معهم يوم القيامة؟ .. أن تكون في منزلتهم وحزبهم ...؟؟
أترك الجواب لك .. ولكني أذكرك وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يالَيْتَنِى اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً ياوَيْلَتَا لَيْتَنِى لَمْ أَتَّخِذْ فُلاَناً خَلِيلاً لَّقَدْ أَضَلَّنِى عَنِ الذّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءنِى وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنْسَانِ خَذُولاً [الفرقان:27-29].
أبو طالب حُرم الإيمان وجنة الرحمن بسبب رفقة السوء والفسوق .. فتصور حال النبي صلى الله عليه وسلم وهو فوق رأسه يقول: ((يا عم، قل: لا إله إلا الله، كلمة أحاج لك بها عند الله))، والشياطين يرددون: أترغب عن ملة عبد المطلب ..
فتمثل نفسك وقد تحشرجت روحك وأنت عند رفقائك .. هل سيذكرونك الشهادة أم ستبقى تصارع خروج الروح دون مذكر أو معين؟.
الرسالة الثالثة:
أي الاعتزاز بدينك وشخصيتك ..
لم نزل نراك في موقف تلو موقف يفت الفؤاد فتًّا وأنت تتنازل عن دينك ومبادئك وما عليه أهلك وقومك.
ها نحن نراه يخرج في كل أسبوع أو أقل .. إلى ذلك الحلاّق السمج، ليصفصف شعيراته بطريقة مزرية، يلبس البنطال الضيق، والقميص الناعم، يمشي بتكسر وتميع .. لماذا كل هذا...؟
ماذا جرى ... ؟ أسفي أن تكون الإجابة .. لأن مغنيًا قص تلكم القصة، أو راقصًا لم يستبن إلى الآن .. هل هو ذكر أم أنثى؟ لبس قميصًا، وشدّ عصابة على رأسه ... أسفي .. أن تكون الإجابة: أمشي كما يمشي ذلك اللاعب، وأتكلم كما يتحدث الممثل .. أين شخصيتك؟ أو مروءتك ؟..
أنت الذي لا ترضى أن يمس كيانك، أو تؤذى مشاعرك، أنت صاحب الشخصية القوية، والعزم الأكيد، الذي إذا قررت شيئًا فعلته، تحركك كلمات مغني، وتقودك تصرفات راقص، وتأسرك طباع لاعب أو ممثل ....
أنت سفلي الاهتمام .. ضعيف الإرادة، لا هدف لديك، حقير الشخصية، تُقاد ولا تقود .. أترضى هذا؟ أترضى أن توصف به؟ .. أنا والله لا أرضاه لك !، ولكن كيف وقد حكى الواقع آلامًا، وروى أحزانًا ..
روى البخاري في صحيحه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( لتتبعنَّ سننَ من كان قبلكم شبرًا شبرًا، وذراعًا ذراعًا، حتى لو دخلوا جحر ضب تبعتموهم))، قلنا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟، قال: ((فمن!)) ..
أيها الشاب المسلم:
أنت والله العزيز وهم الأذلون .. أنت الشريف وهم الوضعاء وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الاْعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ [آل عمران:139]. فأنت على مر العصور قائدٌ لا مقود، رأسٌ لا ذنب.
الرسالة الرابعة:
عشيقتك؟!
في ليلة هادئة تسير في سيارتك إذا بهم من كل صوب، تجمعوا، تسارعوا، تراقصوا، صفقوا، يرفعون أعلامهم، ينشدون أحلامهم، تعالى صياحهم، ترامى صراخهم، توقفوا، ترجلوا، أغلقوا الطرقات، تعالت هتافات، وتوالت رقصات ... ماذا يجري؟! ..
أعاد القدس .. كلا .. أنُصر الإسلام ..؟ كلا .. أهُزم الأعداء ..؟ كلا .. تلي القرآن ..؟ عاد الناس ..؟ عمرت المساجد ..؟ كلا ... كلا ... كلا !!
ولكن هزمنا المنافس وحزنا الكأس الغالية!..
يا شباب الأمة .. يا أيها العاقل، رفقًا بنفسك، شيئًا من التعقل .. هل يصح هذا؟ وهل الرياضة بهذه المنزلة .. حتى نصرف كل هذا؟ هل انتهت الهموم والغموم؟ وهل تقضت الآمال والأفراح، حتى تعلق بفوز فريق أو خسارته؟ إذا كان لذلك النادي الحب، وللاعبيه التعلق، إذا ربح، دامت الأفراح وزالت الأتراح، وبُلغ المنى، وراج السعد في الربوع، وإذا خسر سكبت العبرات، ونزلت الهموم، وأحاطت الغموم ...
ناهيك عن معاني الحب تصرف لمن أحب فريقي، وشباك العداء تنصب لمن عشق المنافس..
أيها الناس: لست مبالغًا إنه واقع مرير نعيشه ..
فإن لم تصدق فسلهم عن الحب والبغض والتفكير والنقاش .. عن ماذا؟ وفي ماذا؟ ..
فعند جهينة الخبر الأكيد .
ثم تذكر أيها الأخ الحبيب .. يا صاحب الفطرة النقية، والقلب الرقيق، هل ترضى أن تأتي يوم القيامة بصحيفة أعمال، صرف فيها الحب والبغض والولاء والبراء .. صرف فيها الجهود والطاقات والمشاعر والعلاقات .. لأجل كرة وفريق ..
أترك الجواب لك .. يا من تريد النجاة وترجو الفوز والفلاح.
الخطبة الثانية
الرسالة الخامسة:
هل أنت رجل بحق؟
عذرًا أيها الحبيب .. فقد يكون السؤال ثقيلاً نوعًا ما، ولكن هذه هي الحقيقة ..
ما هو معيار الرجولة عندك، وكيف تقيسها من وجه نظرك ..؟
ما هي الرجولة في قاموس فهمك ..؟
هل الرجولة في الاهتمام بالملبس والمظهر، والوقوف أمام المرأة لتصفيف شعرك ..؟
هل هي في ملاحقة الطاهرات العفيفات، ورمي الأرقام، والأحاديث الوردية في آخر الليل..؟
هل الرجولة في سماع الأغاني ورفع صوت جهاز التسجيل والتراقص بالسيارة ..؟
هل الرجولة في التفحيط والتهور ..؟
هل هي في تقليب القنوات والنظر إلى ما حرم الله ..؟
هل هي في السفر إلى بلاد العهر والضلال والتبجح بالحديث عن المغامرات والموبقات..؟
اسمع أين هي الرجولة ؟ في ماذا تكون؟
لا أحكم بها أنا ولا أنت .. بل هي حكم أحكم الحاكمين سبحانه فِى بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوّ وَالاْصَالِ رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصلاةِ وَإِيتَاء الزكاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالاْبْصَارُ [النور:36-37].
يا حبيبي .. أيسرك أن تقبض روحك وأنت تقلب قنوات الفضاء ..؟!
أترضى أن يفجأك ملك الموت وأنت ممسك بسماعة هاتفك تخاطبها وتغرر بها ..؟!
ماذا لو أتاك الموت وأنت تسمع الغناء .. وأنت ترقص .. وأنت ترى فلمًا أو تنظر في مجلة..؟!
ماذا لو نزل بساحتك ويراعك تسطر رسالة الحب والغرام إلى عشيقة أو عشيق ..؟
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الْمَاء أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ x الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحياةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَاء يَوْمِهِمْ هَاذَا وَمَا كَانُواْ بِئَايَاتِنَا يَجْحَدُونَ [الأعراف:50-51].
الرسالة الأخيرة:
أيها الأخ المبارك .. يا أمل الأمة ويا كنزها الغالي:
هل أنت راضٍ عن نفسك، عن واقعك، عن علاقتك بربك، عن أصدقائك، عن تعاملك، هل تجد طعم الراحة والسعادة ..
أخبرنا .. هل وجدتها في الملهيات، في السهر والمعاكسات في الضحك والسمر في الذهاب والسفر ...؟
دُلّنَا بصرنا .. هل وجدت الطمأنينة والأنس في السيارات، في المال، في الغناء، في رفقاء السوء ..؟
ماذا عن نومك، يقظتك .. ليلك .. نهارك؟.
هل تشعر بالراحة والسرور، هل تشعر بانشراح الصدر وأمن النفس ...؟
لو قلت فصدقت .. لقلت: لا، وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِى فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمَى [طه:124]. فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلَامِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِى السَّمَاء [الأنعام:125].
إني أُراك جربت كل شيء .. كل شيء تبحث عن السعادة والراحة ..
اسمعها .. إن السعادة والفرح في سجدة لله تبكي بها على ذنوبك وتندب تقصيرك ..
إن السعادة الحقة في التوبة النصوح ..
إنها هناك .. في المسجد حيث الهدى والنور، في الصلاة، في الدعاء والخضوع، في رفقة الصلاح، فلا هموم إلا هم الإسلام، لا تسمع إلا حقًا، ولا تمشي إلا إلى خير، تجد الضحك ممزوجًا بالحب الصادق، والأنس متعلقًا بالنصح والإنابة ..
فمتى .. متى تكون أكثر جرأة في اتخاذ القرار، أعظم قرار في حياتك؟ متى ستطلّق حياة اللهو والعبث بلا رجعة لتجرب حياة الإيمان والسعادة ..؟.
ماذا تنتظر؟ .. قلها واسمعها الدنا .. أنا مؤمن، لله حياتي، كلماتي، حركاتي، سكناتي، خفقان قلبي، وجريان الدم في عروقي.
عد إلى الله .. وتب إليه، مهما كانت ذنوبك، أو عظمت عيوبك ...
روى مسلم عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أن الله عز وجل يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها)).
وعند ابن ماجه بإسناد جيد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لو أخطأتم حتى تبلغ خطاياكم السماء، ثم تبتم لتاب عليكم)).
وفي الخبر الذي رواه البخاري ومسلم عن الرجل الذي قتل مائة نفس فولّى إلى قرية ليعبد الله مع أهلها حتى إذا بلغ نصف الطريق أتاه الموت، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فقالت ملائكة الرحمة: جاء تائبًا مقبلاً بقلبه إلى الله، وقالت ملائكة العذاب: إنه لم يعمل خيرًا قط، فأتاهم ملك في صورة آدمي فجعلوه بينهم، فقال: قيسوا ما بين الأرضين، فإلى أيتهما كان أدنى فهو له، فقاسوه فوجدوه أدنى إلى الأرض التي أراد، فقبضته ملائكة الرحمة.
فاقبل وأمل وتب فالله يفرح بتوبتك.
ــــــــــــــــــــ(67/159)
عيد الفطر 1422هـ: سوء الظن
...
...
2257
...
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
...
...
أمراض القلوب, قضايا المجتمع
...
عبد الباري بن عوض الثبيتي
...
...
المدينة المنورة
...
1/10/1422
...
...
المسجد النبوي
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- العيد مناسبة لتوطيد العلاقات. 2- مفاسد سوء الظن ومظاهره وآثاره. 3- التماس الأعذار. 4- حمل كلام الناس على أحسن المحامل. 5- العبرة بالظاهر والبواطن موكولة إلى الله. 6- أسباب سوء الظن. 7- علاج هذه الظاهرة. 8- ضوابط الفرح بالعيد. 9- تذكر مآسي المسلمين في العالم وفي القدس. 10- نصيحة للنساء.
الخطبة الأولى
أما بعد:
فأوصيكم ونفسي بتقوى الله، قال تعالى: ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران:102].
لقد استروحنا في الأيام الماضية نسمات موسم من مواسم الخير من أجمل لحظات العمر، وهل هناك ألذّ من مناجاة الله والوقوف بين يديه وسماع آياته التي تشنِّف الآذان، وتطهّر القلوب وتزيد الإيمان. هنيئاً للمحسن القبول والفوز والغفران، وحريّ بالمسيء أن يُعزَّى على الحرمان، وعليه أن يتدارك ما فات قبل الممات، يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء:88، 89].
العيد مناسبة عظيمة لتوطيد العلاقات بين الناس التي هي من مقاصد الإسلام، سلامةُ الصدر الودّ التراحم الأخوة، والتعاطف، وإن علينا لِتبقى علاقاتنا مثبَّتة الجذور قوية البنيان، أن نقبل على الناس وصدورنا سليمة، نقبل عليهم بنفوس صافية، ووجه باشّ، وأن نحسن الظن في التعامل مع بعضنا، ونخلع المنظار الأسود عند النظر إلى أعمال الناس ومواقفهم وأقوالهم، حين نتأمل كثيراً من علاقات المسلمين ينقلب بصرك خاسئاً حسيراً على روابط تمزّقت وعرًى تخلخلت، لظنون وريب وشكوك وأوهام. كثيراً ما يطرق سمعك في مجالس المسلمين العامة والخاصة: فلان قصد كذا، وفلان نوى كذا، وفلان أراد من فعله أو قوله كذا، سوء ظن مقيت، يؤجِّج مشاعر الحقد والكراهية، يهدم الروابط الاجتماعية، يزلزل أواصر الأخوة، يقطع حبال الأقربين، ويزرع الشوك بين أفراد المجتمع، بل كم رأينا وسمعنا أحداثاً جساماً، وكوارث سودٍ نتيجة سوء ظن جاء في غير محله. إذا تسرّب سوء الظن إلى النفوس أدّى بها إلى الاتهام المتعجل، وتتبع العورات، وتسقّط الهفوات، والتجسّس الدنيء، ولذا ترى من يسيء الظن يقول: سأحاول أن أتحقق، فيتجسس وقد يغتاب، وقد يذكر أخاه بسوء، فيرتكب ذنوباً مترادفة ومعاصي قاصمة، وهنا مكمن الخطر، أن تُبْنى على أوهام سوء الظن علاقات المسلمين، وتُؤسَّس ولاآتُهم، فتغدو الظنون والأوهام محور الحب والبغض، وهذا وأد لمشاعر الود وهدمٌ لمعاني المحبة. إن شيوع سوء الظن يؤدي إلى أن يتراشق الناس بالتهم، ثم يسحبون الثقة من بعض، فيتباغضون ويتدابرون ويتقاطعون، الأمر الذي يؤدي إلى ذهاب ريحنا وفشلنا.
الظن – عباد الله – مبني على التخمين، بسبب كلمة أو عمل محتمل، والظن يجعل تصرف صاحبه خاضعاً لما في نفسه من تهمة لأخيه المسلم، فيتحكم الظن في التسويلات النفسية والاتجاهات القلبية، حتى تجد من يظن السوء يحمل لمن يظن به أطناناً من التهم بناها خياله، وكلّستها أوهامه نتيجة سوء ظنه بأخيه، بل إن تحيّة الإسلام إن كانت محفوفة بسوء الظن كانت شتيمة منكرة، وإن الابتسامة إن كانت مقرونة بسوء الظن فُسرت استهانة واستهزاءً، والعطاء والمدح يُفسران على وجه قد يقود إلى المعارك والاصطدام.
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد. قال تعالى: ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اجْتَنِبُواْ كَثِيراً مّنَ الظَّنّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنّ إِثْمٌ [الحجرات:12]. دل سياق الآية على الأمر بصون عرض المسلم غاية الصيانة لتقدُّم النهي عن الخوض فيه بالظن، فإن قال الظان: أبحث لأتحقق، قيل له: وَلاَ تَجَسَّسُواْ، فإن قال: تحققتُ من غير تجسس، قيل له: وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً.
ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اجْتَنِبُواْ كَثِيراً مّنَ الظَّنّ، نداء للمؤمنين، يأمرهم أن لا يتركوا أنفسهم نَهْباً لكل ما يهجس فيها حول الآخرين من ظنون وشبهات، وبهذا يطهّر القرآن الضمير من داخله أن يتلوّث بالظن السيئ فيقع في الإثم، ويدعه نقيًّا بريئاً من الهواجس والشكوك، أبيض يُكِنّ لإخوانه المودة التي لا يعكّرها ظن السوء، والبراءة التي لا تلوّثها الريب والشكوك، وما أروع الحياة في مجتمع بريء من الظنون، قال بعض العلماء: والذي يميز الظنون التي يجب اجتنابها عما سواها أن كل ما لم تعرف له أمارةً صحيحة وسبباً ظاهراً كان حرامًا واجب الاجتناب، وذلك إذا كان المظنون به ممن شوهد منه الستر والصلاح، وأُونست منه الأمانة في الظاهر، فظنُّ الفساد والخيانة به محرم؛ بخلاف من اشتهر عند الناس بتعاطي الريب والمجاهرة بالخبائث. ولذا ذهب كثير من العلماء إلى أن الظن القبيح بمن ظاهره الخير لا يجوز، وأنه لا حرج في الظن القبيح بمن ظاهره القبح، عن سعيد بن المسيب قال: كتب إلي بعض إخواني من أصحاب رسول الله أن ضع أمر أخيك على أحسنه ما لم يأتك ما يغلبك، ولا تظنن بكلمة خرجت من امرئ مسلم شرًا، وأنت تجد لها في الخير محملاً[1].
إن هذا المنهج يتأكد مع أهل الفضل والخير، وهذا من فقه المقاصد والنيات الذي قد يفوت إدراكه على بعض الناس، حين يحكمون على أخطاء الآخرين دون اعتبار حال الشخص ونيته ومقصده، فربما تكون زلةَ لسان ولا يقصد المعنى الخبيث، كما بين ذلك ابن القيم رحمه الله حيث يقول: "والكلمة الواحدة يقولها اثنان يريد بها أحدهما أعظم الباطل، ويريد بها الآخر محض الحق، والاعتبار بطريقة القائل وسيرته ومذهبه، وما يدعو إليه ويناظر عنه"[2]، ولهذا لم يُحكم بالكفر على الذي أخطأ من شدة الفرح فقال: اللهم أنت عبدي وأنا ربك[3]؛ لأنه لم يقصد تأليه نفسه. هذا شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ينقل مقالة بعض المخالفين له ثم يقول: "هذا الكلام فيه إجمال، والمحق يحمله محملاً حسنًا، وغير المحق يدخل فيه أشياء"[4] انتهى كلامه رحمه الله.
هذا هو المنهج السامق[5] والتجرد الكامل الذي تربى عليه السلف الصالح، عدلٌ وإنصاف، رسمه للأمة علماء الملة، لقد حملوا العبارات المحتملة على الوجه الحسن، يغذي ذلك صدر سليم، وتجرد من الهوى مع سخاء نفس ونصح للأمة، فأين المسلمون من هذا المنهج؟!
ليس من منهج السلف الصالح تأويل الألفاظ، وليّ المعاني، والفرح بالعثرات، ومعاملة المسلمين بسوء الظن، ورحم الله القلاعي إذ يقول: "فقد يوحش اللفظ وكله ود، ويُكره الشيء وليس من فعله بد، هذه العرب تقول: لا أبا لك في الأمر إذا همّ، وقاتله الله، ولا يريدون الذم، وويل أمِّه للأمر إذا تم، ومن الدعاء: تربت يمينك، ولذوي الألباب أن ينظروا في القول إلى قائله، فإن كان وليًا فهو الولاء وإن خشن، وإن كان عدوًا فهو البلاء وإن حَسُن"[6] انتهى كلامه رحمه الله.
من سوء الظن ـ عباد الله ـ حمل أقوال الآخرين وأفعالهم على محمل سيئ بتضخيم السيئات، والنظر إليهم بمنظار الاتهام والإدانة دون البحث عن الأسباب أو التماس المعاذير، وتفسير كل قول أو فعل يحتمل وجهين: وجهَ خير ووجهَ شر بوجه الشر، فسبحان الله كيف يحكمون على النيات والمقاصد؟! إن علم خبايا النفوس وأسرارها والمحاسبة عليها من خصائص الله سبحانه وتعالى الذي يعلم السر وأخفى، أما الإنسان فليس له من أخيه إلا الظاهر من عمله، وهذا ما كان عليه سلف الأمة الصالح، الذين أشربت قلوبهم تعاليم الإسلام الصافية النقية، أخرج عبد الرزاق عن عبد الله بن عتبة بن مسعود قال: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: (إن ناسًا كانوا يؤخذون بالوحي في عهد رسول الله ، وإن الوحي قد انقطع، وإنما نأخذكم الآن بما ظهر من أعمالكم، فمن أظهر لنا خيرًا أمنَّاه وقربناه، وليس لنا من سريرته شيء، والله يحاسبه على سريرته، ومن أظهر لنا شرًا لم نأمَنه ولم نصدقه، وإن قال: إن سريرته حسنة)[7]، فعلى المسلم أن يحاسب نفسه عن كل كلمة يتفوه بها أو حكم يطلقه، وليستحضر قوله تعالى: وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولائِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً [الإسراء:36].
الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
لسوء الظن أسباب عباد الله، أبرزها نشوء الفرد في بيئة معروفة بسوء الخلق وسوء الظن، من بيت أو أصدقاء، فيصبح سيئ النية خبيث الطوية، ومن اتبع هواه وقع في الظنون الكاذبة؛ لأن حب الشيء يعمي ويصم، فإذا مال الإنسان بهواه إلى آخر فإن هذا الميل ينسيه أخطاءه، ويحمله على تحسين الظن به، وإن كان مخطئًا في الواقع، وإذا أبغض إنسانًا آخر فإنه لا يميل إليه بهواه، فيحمله هذا على سوء الظن، وما يتبعه من التماس العثرات وتصيّد الأخطاء، وإن كان مصيبًا في الواقع.
بعض الناس يغتر بشخصه ويُعجب بنفسه فيرى نفسه دائمًا على حق والآخرين على باطل، يزكي نفسه، ويحتقر الآخرين، فيورثه ذلك سوء ظن مقيت.
إن ظاهرة إساءة الظن بالمسلمين قد انتشرت في زماننا، وأصبحت آفة تهدد الترابط والوحدة بين أفراد المجتمع المسلم، وهذا يؤثر سلبًا على قوة المجتمع وقدرته على مواجهة التحديات الداخلية والخارجية.
إن الظن السيئ والاتهام والتسرع رُوِّع به أناس، وظُلِم به أقوام، وهُجِر به صلحاء دون مسوِّع شرعي، كما قال الأول: وأرى العداوة لا أرى أسبابها، كل ذلك بسبب أسانيد منقطعة، وسلاسل مظلمة، ظنٌّ آثم، فغيبة نكراء، فبهتان وافتراء، قال تعالى: وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُواْ فَقَدِ احْتَمَلُواْ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً [الأحزاب:58].
إخوة الإسلام، إذا تقرر لدينا أن سوء الظن آفة مهلكة، فلا بد من العمل على العلاج لئلا يستشري الداء ويهلك الحرث والنسل، ومن العلاج إحسان الظن بالناس، تجنّب سوء الظن بهم، فكّر طويلاً قبل أن تحكم أو تتهم، ولأن تخطئ بحسن الظن أفضل من أن تخطئ بالتسرع بسوء الظن، قال عمر رضي الله عنه: (ولا تظنن بكلمة خرجت من أخيك المؤمن إلا خيرًا، وأنت تجد لها في الخير محملاً)[8].
من العلاج التماس المعاذير للناس، ترك تتبع العورات والتماس الزلات، التنشئة على الالتزام بآداب الإسلام في الحكم على الأشياء والأشخاص من الاعتماد على الظاهر وترك السرائر إلى الله وحده الذي يعلم السر وأخفى.
الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
إن هذا العيد يوم فرح وسرور، يظهر فيه البشر والحبور، ويتجمل فيه بأحسن الملابس مع التمتع بالحلال. العيد مظهر من شعائر العبودية لله سبحانه، يأتي تتويجًا لعبادة الصوم التي من أبرز مدلولاتها الولادة الجديدة للمسلم بلا آثام ولا خطايا، فليس من العيد عباد الله، ليس من العيد والفرح المحمود التلذذ بالمعاصي والخروج على القيم، ليس من العيد كسر الموازين الاجتماعية والعبث الماجن.
إن عيد المسلمين لا بد أن يكون منضبطًا بقيم الشرع وأخلاق الإسلام كي لا تتحول الأعياد في مجتمعات المسلمين إلى سهرات محرمة، ورقصات ماجنة، وتضييع لأوقات الصلوات، فتمحو الذنوب أثر الصيام والقيام من النفوس.
الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
وفي العيد لا نملك مقاومة آلامنا بمآسي المسلمين التي أحدثت جرحًا غائرًا في جسد الأمة المكلوم، فكم من بقعة ساخنة، دماء أهلها مسفوحة، ها هي الأنباء صباح مساء تحمل إلى كل مسلم تلك المآسي، فيعتصر القلب ألمًا ويُكوى الكبد أسى.
ومن بين ركام المأساة تبلغك شكوى الشيوخ، وبكاء الأطفال، وصيحات اليتامى، وصرخات الأمهات، هناك من إخوانكم من ينشد الأمن والطمأنينة، هناك من يتحسس حنان الأمومة وعطف الأبوة، هناك من يحنّ إلى من يمسح رأسه، ويخفف بؤسه، لكن هيهات هيهات، فالمأساة أكبر من أمانيهم. نسأل الله أن يرفع عن المسلمين البلاء والضراء.
تذكروا هؤلاء وأولئك بنصرة قضاياهم، والدعاء لهم، وتفريج كربهم، وكفالة أيتامهم، ومواساة الثكالى وأصحاب الحاجات.
أما القدس فهي في القلوب والعقول والمشاعر، بل هي فوق كل الاعتبارات الآنية والمصالح الدنيوية، لن تفرِّط الأمة في ذرة من ترابها، ولا سلامَ ولا استقرار بدونها، وكل الممارسات التي يمارسها العدو من استيطان وتهويد هي أمور غير شرعية، ترفضها الأمة كما ترفض الاحتلال ذاته. صبر ذلك الشعب طويلاً، وقدم تضحيات جسيمة، ودماؤه تراق على أرض فلسطين، وهم بأحجارهم وعصيهم وقفوا ضد اعتداء الغاصبين الذين نهبوا الأموال، وقتلوا الأبرياء، ونقضوا العهود والمواثيق. سجَّل أبناء تلك الأرض بطولات وتضحيات لا تتوقف أمام الصلف اليهودي الذي أقدم - وما زال - على أبشع ما عرفت البشرية من وحشية، لماذا يحجم العالم عن ردع المعتدي، والأخذ على يديه؟! كيف يتأتى السلام، وهذه المذابح والبنادق والصواريخ تخرب الديار، وتحرق القلوب والأجساد، أجساد الشيوخ الركع والأطفال الرضع؟! قضية القدس ليست قضية تتعلق بالأرض، بل إنها تبقى قضية إسلامية تعني الأمةَ كل الأمة، والمسلمون لن يهدأ لهم قرار إلا باستعادة المدينة التي تشرفت برحلة الإسراء والمعراج، وإعادتها إلى سيادة المسلمين، وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ [الصف:8].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البيهقي في الشعب (6/323).
[2] مدارج السالكين (3/521).
[3] إشارة إلى حديث فرح الله بتوبة عبده، أخرجه البخاري في: الدعوات، باب: التوبة (6309) مختصراً، ومسلم في: التوبة، باب: في الحض على التوبة، والفرح بها (2747). من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
[4] الاستقامة (1/92).
[5] أي: العالي والسامي. انظر: القاموس.
[6] انظر: تنوير الحوالك للسيوطي (1/55).
[7] أخرجه البخاري في: الشهادات، باب: الشهداء العدول (2641).
[8] أخرجه ابن حبان في روضة العقلاء (ص89،90) مطوّلاً من طريق يحيى الأنصاري عن ابن المسيب عن عمر، وفي سنده إبراهيم بن موسى المكي وهو الدمشقي، لم يرو عنه غير هشام بن عمار مجهول كما في الميزان، ورواه المحاملي في أماليه (1/395).
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وإخوانه.
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
أما بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله.
معشر النساء، اتقين الله، وَقَرْنَ فِى بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأولَى [الأحزاب:33]، أقمن الصلاة، آتين الزكاة، أطعن الله ورسوله، أطعن أزواجكن بالمعروف، كنَّ من الصالحات القانتات، احذرن الألبسة المخالفة لشرع الله التي تظهر الزينة، أو تتضمّن تشبهاً بالكافرات، وتعوُّدًا على ترك الحياء وإظهار الفتنة.
هذه ـ عباد الله ـ شمس العيد قد أشرقت، فلتشرق معها شفاهكم بصدق البسمة، وقلوبكم بصفاء البهجة، ونفوسكم بالمودة والمحبة، جددوا أواصر الحب بين الأصدقاء، والتراحم بين الأقرباء، والتعاون بين الناس جميعًا. في العيد تتقارب القلوب على الود، وتجتمع على الألفة، ويتناسى ذوو النفوس الطيبة أضغانهم، فيجتمعون بعد افتراق، ويتصافحون بعد انقباض، ويتصافون بعد كدر، فتكون الصلات الاجتماعية أقوى ما تكون حبًا ووفاء وإخاءً.
ألا وصلوا عباد الله على رسول الهدى فقد أمركم الله بذلك في كتابه فقال: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىّ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:65].
اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد...
ــــــــــــــــــــ(67/160)
التحذير من جلساء السوء
...
...
2302
...
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
...
...
الآداب والحقوق العامة, قضايا المجتمع
...
عكرمة بن سعيد صبري
...
...
القدس
...
...
...
المسجد الأقصى
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1 ـ سبب نزول قوله تعالى: ويوم يعض الظالم على يديه.... 2 ـ الأخوة الحقيقية. 3 ـ الأخ الصادق . 4 ـ صداقة المصالح. 5 ـ الجليس السوء. 6 ـ أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بمجالسة الأخيار. 7 ـ الاعتداءات الإسرائيلية. 8 ـ وجوب النهي عن المنكر.
الخطبة الأولى
أما بعد: فيقول الله سبحانه وتعالى في سورة الفرقان: وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يالَيْتَنِى اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً ياوَيْلَتَا لَيْتَنِى لَمْ أَتَّخِذْ فُلاَناً خَلِيلاً لَّقَدْ أَضَلَّنِى عَنِ الذّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءنِى وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنْسَانِ خَذُولاً [الفرقان: 27، 28].
أيها المسلمون، لهذه الآيات الكريمة سبب نزول ذكرته كتب التفسير والسيرة النبوية، ومفاده أن عقبة بن أبي معيط من زعماء قريش كان جارًا للرسول صلى الله عليه وسلم، وحصل أن أقام عقبة وليمة دعا إليها الرسول عليه الصلاة والسلام، فعرض الرسول صلى الله عليه وسلم على عقبة الإسلام فاستجاب عقبة بالشهادتين بقوله: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله، فعلم بذلك أبي بن خلف من زعماء المشركين، وكان صديقًا لعقبة، فجاء إليه وقال له: وجهي من وجهك حرام إذا لم تطأ عنق محمد وتبصق في وجهه، فاستجاب عقبة لما أمره به صديقه الشرير وفعل فعلته النكراء تجاه حبيبنا ورسولنا محمد صلى الله عليه وسلم، وارتد عن الإسلام، فنزلت هذه الآيات الكريمة[1] لتصف عقبة بالظالم، وأنه سيندم على فعلته النكراء يوم القيامة، كما سيندم على صحبته لأبي بن خلف الذي هو بمثابة الشيطان الظالم، وكان مصير عقبة في الدنيا أن وقع أسيرا في يد المسلمين في معركة بدر، وقد أمر الرسول عليه السلام بقتله، فضربت عنقه؛ لأنه قد قام بأعمال بشعة نكراء وشارك في معركة بدر مع المشركين، وأما مصير صديقه أبي بن خلف فقد قتله الرسول عليه الصلاة والسلام بطعنة في معركة أحد؛ لأن أبيًا كان يقصد قتل الرسول عليه السلام، فعاجله بطعنة في معركة أحد، ولم يقتل الرسول بعده أو قبله أحدًا.
أيها المسلمون، إن الأخوة الحقيقية والصداقة المرضية هي التي تُبنى على تقوى الله وعلى الحب في الله، فلم نجد اثنين تحابا في الله ويطيعان أمره ويتعاونان على فعل المعروف ودفع الأذى عن الناس إلا وقد أعزهم الله بعزته التي لا تضام، وكتب لهم القبول بين الأنام، وأظلهم الله بظله الظليل يوم الزحام، لقول رسولنا الأكرم صلى الله عليه وسلم: ((سبعة يظلهم الله بظله يوم لا ظل إلا ظله)) وذكر منهم: ((رجلان تحابا في الله، اجتمعا عليه وتفرقا عليه))[2].
أخي المسلم، إن أخَا الصدق الذي يقدم النصح ويرشدك إلى الخير ويحذرك من مواطئ الناس، هو الذي يساعدك بيمينه ويرفع عنك الأذى بشماله، هو الذي يحافظ على الود والوفاء في الشدة واللين، في الفقر والغنى، في المرض والصحة، هو الذي تجده بجانبك في الملمات، وهو يشاركك في أفراحك، ويواسيك في أحزانك، وهو الذي يحفظ غيبتك، وهو الذي يذكرك في ظهر الغيب ويدافع عنك ولا يطعنك من الخلف، فأقول: أين هم هؤلاء الأصدقاء المخلصون في هذه الأيام؟! إنهم كالكبريت الأحمر في الندرة، وإنهم في النائبات قليل.
أخي المسلم، لا تكترث بالصداقة التافهة التي تقوم على المصالح المؤقتة، فتزول الصداقة بزوالها، وهي تعرف بصداقة المصلحة، ومنها الزمالة والمعرفة في العمل والوظيفة، وسرعان ما تزول هذه المعرفة مع انقضاء عملك، أما الصداقة الخالصة فهي الصداقة والصحبة التي تقوم على المحبة في الله، وتبنى على تقوى الله، وكان أبو بكر الصديق رضي الله عنه يرمز له بالصديق لصداقته الإيمانية للرسول عليه السلام.
أخي المسلم، كن على بينة وحذارِ من الأشرار، حتى لا تصاحبهم ولا تخالطهم، فهم أعداء لك لقوله سبحانه وتعالى: الأَخِلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ [الزخرف: 67]، ويقول رسولنا الأكرم صلى الله عليه وسلم: ((المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل))[3]، وإن جليس السوء يؤذي الآخرين بسلوكه وبأخلاقه وبطباعه وبآرائه وأفكاره، وإنه يمثل الأزمة في المجتمع، أما الجليس الصالح فيفيد الآخرين، وينشر المحبة والمرح بينهم، والإصلاح فيما بين الناس، وإنه يمثل البناء في المجتمع، لقول رسولنا الأكرم صلى الله عليه وسلم في حديث مطول: ((ومثل الجليس الصالح كمثل صاحب المسك، إن لم يصبك منه شيء أصابك من ريحه، ومثل الجليس السوء كمثل صاحب الكير، إن لم يصبك من شرره أصابك من دخانه))[4].
أيها المسلمون، في هذا المقام يجب أن نوضح الحكم الشرعي في مجالسة الأشرار، فيقول رسولنا الأكرم صلى الله عليه وسلم في هذا المجال: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يقعدن على مائدة يدار عليها الخمر))[5] فلا يجوز شرعا للمسلم أن يجلس في مجلس تقدم فيه الخمور والمشروبات المحرمة، وكذلك لا يجوز الجلوس مع أناس يرتكبون أي محرم من المحرمات الشرعية، وروي عن الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز الخليفة الراشد الخامس رضي الله عنه أنه يجلد شاربي الخمر كما يجلد من يشهد مجالسهم، وإن لم يشربوا، فقد أتوا له بقوم شربوا الخمر فأمر بجلدهم، فقيل له: إن فيهم فلانا وقد كان صائما، فقال عمر بن عبد العزيز: ابدؤوا به، أي ابدؤوا بجلد الذي كان صائما، واستدل بقوله سبحانه وتعالى في سورة النساء: وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِى الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ ءايَاتِ اللَّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِى حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مّثْلُهُمْ [النساء:140].
أيها المسلمون، من هنا كان التوجيه الإلهي الرباني لعبده المصطفى محمد عليه أفضل الصلاة وأكرم التسليم بأن يجالس الصحابة المؤمنين ولو كانوا ضعافا أو فقراء، أمثال خباب بن الأرت وعمار بن ياسر وعبد الله بن مسعود وبلال بن رباح وصهيب الرومي وسلمان الفارسي، وأن لا ينشغل عنهم في بمجالسة زعماء قريش المشركين الذين ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة، أمثال عتبة بن ربيعة وأمية بن خلف وحيينة بن حصن، فيقول الله عز وجل في سورة الأنعام: وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِىّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مّن شَىْء وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مّن شَىْء فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ [الأنعام: 52]، ويقول سبحانه وتعالى في سورة الكهف: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِىّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحياةِ الدُّنْيَا وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا [الكهف: 28].
أيها المسلمون، نريد شبابًا يتآخون في الله، ويهتدون بسيرة محمد عليه الصلاة والسلام، نريد شبابًا تتعلق قلوبهم بالمساجد، شبابًا متمسكين بدينهم واعين مدركين لإسلامهم، نريد إيمانا يهيمن على قلوبهم وجوارحهم، غير آبهين للصعاب والعقبات التي تصادفهم في طريق دعوتهم، وذلك ليخرج جيل صالح قادر على اختيار الطريق المستقيم لاستئناف حياة كريمة، جاء في الحديث النبوي الشريف عن الله عز وجل: ((قد حقت محبتي للذين يتحابون من أجلي، وقد حقت محبتي للذين يتزاورون من أجلي، وقد حقت محبتي للذين يتباذلون من أجلي، وقد حقت محبتي للذين يتناصرون من أجلي))[6] صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة.
[1] أخرجه ابن جرير الطبري في تفسيره (11/8) عن مجاهد مرسلاً.
[2] أخرجه البخاري في الأذان، باب: من جلس في المسجد ينتظر الصلاة، وفضل المساجد (660)، ومسلم في: الزكاة، باب: فضل إخفاء الصدقة (1031) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[3] أخرجه أحمد (2/303)، والترمذي في: الزهد، باب: ما جاء في أخذ المال بحقه (2378)، وأبو داود في الأدب، باب: من يؤمر أن يجالس (4833) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. قال الترمذي: "حسن غريب" وصححه الحاكم (4/188) وحسنه الألباني في الصحيحة برقم (927).
[4] أخرجه البخاري في الذبائح والصيد، باب: المسك (5534)، ومسلم في: البر والصلة، باب: استحباب مجالسة الصالحين ومجانبة قرناء السوء (2628) من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه بنحوه.
[5] أخرجه الترمذي في: الأدب، باب: ما جاء في دخول الحمام (2801)، والطبراني في الأوسط (1/186) من حديث جابر رضي الله عنه، قال الترمذي: "حديث حسن غريب لا نعرفه من حديث طاووس عن جابر إلا من هذا الوجه". وصححه الحاكم (4/320) وجود سنده ابن حجر في الفتح (9/250)، وصححه الألباني في الإرواء (1949) بشواهده.
[6] أخرجه أحمد (4/ 386)، وابن المبارك في الزهد (716)، وعبد بن حميد في مسنده (304)، والطبراني في الأوسط (9076) والبيهقي في الشعب (8996) من حديث عمرو بن عبسة السلمي رضي الله عنه بنحوه. قال المنذري في الترغيب (4/11): "رواه أحمد ورواته ثقات، والطبراني في الثلاثة". وقال الهيثمي في المجمع: "رواه الطبراني في الثلاثة وأحمد بنحوه ورجاله ثقات".
الخطبة الثانية
أحمد الله رب العالمين، حمد عباده الشاكرين الذاكرين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا محمد صلاة وسلام دائمين إلى يوم الدين، اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد، كما صليت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم، وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد، كما باركت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد.
أيها المصلون، أقدم جيش الاحتلال الإسرائيلي الليلة الماضية على هدم ثلاثة وسبعين منزلا في منطقة رفح مما أدى إلى تشريد ما يزيد عن سبعمائة شخص من الأطفال والنساء في هذه الأيام الباردة والليالي القارصة، أليس هذا الهدم إرهابًا؟! وأين حقوق الإنسان التي تزعم محاربتها من أجل الإنسان؟! أم أن الإنسان الفلسطيني ليس بإنسان. إن ما يقوم به الجيش الإسرائيلي من القتل والتشريد أمر منكر لا نرضى به، وإنه إرهاب في إرهاب، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
أيها المصلون، إن رفاق السوء يهدمون أخلاق الشباب، ويوقعونهم في مهاوي الظلام وفي مسالك المخدرات، وذلك باستعمال أساليب الإسقاط أو الإغراء أو الخداع، وحينما يبتلى بها الشباب فإنه يصعب عليهم التخلص من هذه السموم، لأنهم يفتقرون إلى الإرادة الإيمانية لردعهم عن تعاطي المخدرات وارتكاب المحظورات، والأشد إجراما أولئك الذين يتاجرون بالمخدرات، وإن بعض الدول العربية والإسلامية قد قررت بإعدام الذين يتاجرون بالمخدرات، ونحن نؤيد هذا القرار وتنفيذه.
هذا, ويلاحظ في هذه الأيام نشاط تجار المخدرات لتسويق هذه السموم وبخاصة في مدينة القدس، هذه المدينة المقدسة المباركة، إنهم أي تجار المخدرات يسوقون هذه المخدرات بصورة علنية مستغلين انشغال الناس بالأحداث العامة.
أيها المسلمون، لا يخفى عليكم بأن المدمن على المخدرات معرض لارتكاب جرائم متعددة، ومنها جريمة السرقة، وهذا ما يحصل يوميا في هذه المدينة المباركة المقدسة، حيث يستغل هؤلاء اللصوص انشغال النساء في دوائر البريد والأسواق فيسطون على حقائبهن اليدوية على مرأى ومسمع من الناس، والناس لا يحركون ساكنا.
أيها المسلمون، إن رفقاء السوء يهدمون ولا يبنون، إنهم يهدمون الإنسان بقيمه وأخلاقه وعرضه وكرامته، فالذي يقع في شراك هؤلاء الرفاق السيئين فإنه يكون قد حكم على نفسه بالموت البطيء، ورفضه المجتمع، ويصبح عضوا مشلولا فاسدا، فعلى الشباب أن يتعظوا بما حل بغيرهم، والسعيد من اتعظ بغيره، والشقي من اتعظ بنفسه.
أيها المسلمون، إننا نحذر الشباب من الاحتكاك أو الاقتراب من رفاق السوء، ومن الجواسيس، أولئك الذين يتسكعون في الشوارع العامة ويؤذون الناس بتصرفاتهم وتعليقاتهم على الطالبات وهن منصرفات إلى بيوتهن من المدارس، هذه الظاهرة أخذت تستفحل في مدينة القدس، ولا بد أن يتعاون الجميع لمعالجتها، ومكافحة المخدرات والحد من انتشارها، والله سبحانه وتعالى يقول: وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [الأنفال: 25]، ويقول رسولنا الأكرم صلى الله عليه وسلم: ((والذي نفسي بيده، لتأمرنَّ بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابًا من عنده، ثم تدعونه فلا يستجاب لكم))[1]، ويقول في حديث شريف آخر: ((إذا رأى الناس المنكر فلم يغيروه أوشكوا أن يعمهم الله بعقاب من عنده))[2].
ربنا عليك توكلنا، وإليك أنبنا، وإليك المصير، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
[1] أخرجه أحمد (5/388)، والترمذي في: الفتن، باب: ما جاء في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (2169) واللفظ له، والبيهقي في الكبرى (10/93) من حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه. قال الترمذي: "حديث حسن" وكذا حسنه الألباني في صحيح الترمذي برقم (1762).
[2] أخرجه أحمد (1/2)، والترمذي في التفسير، باب: سورة المائدة (3057)، وأبو داود في الملاحم، باب: الأمر والنهي (4338)، وابن ماجه في: الفتن، باب: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (4005) من حديث أبي بكر رضي الله عنه. قال الترمذي: "حديث حسن صحيح". وصححه ابن حبان (1/539 ـ 304) والضياء في المختارة (1/145)، والألباني في صحيح الترمذي برقم (1761).
ــــــــــــــــــــ(67/161)
الرجولة: أمنية عمرية
...
...
2324
...
الأسرة والمجتمع, الإيمان, العلم والدعوة والجهاد
...
...
التربية والتزكية, فضائل الإيمان, قضايا المجتمع
...
ماجد بن عبد الرحمن الفريان
...
...
الرياض
...
...
...
سليمان بن مقيرن
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1 ـ عمر يتمنى رجالاً كأبي عبيدة. 2 ـ نماذج من الرجولة الفريدة. 3 ـ المعنى الحقيقي للرجولة. 4 ـ مثالين للرجولة في الأمم السابقة. 5 ـ كيف تنمي عوامل الرجولة في شخصيات أولادنا.
الخطبة الأولى
أما بعد : فيا عباد الله اتقوا الله حق التقوى .
معاشر المسلمين، في دار من دور المدينة المباركة جلس عمر إلى جماعة من أصحابه فقال لهم: تمنوا ؛ فقال أحدهم: أتمنى لو أن هذه الدار مملوءةٌ ذهباً أنفقه في سبيل الله. ثم قال عمر: تمنوا، فقال رجل آخر: أتمنى لو أنها مملوءة لؤلؤاً وزبرجداً وجوهراً أنفقه في سبيل الله وأتصدق به. ثم قال: تمنوا، فقالوا: ما ندري ما نقول يا أمير المؤمنين؟ فقال عمر : ولكني أتمنى رجالاً مثلَ أبي عبيدة بنِ الجراح، ومعاذِ بنِ جبلٍ، وسالمٍ مولى أبي حذيفة، فأستعين بهم على إعلاء كلمة الله.
رحم الله عمر الملهم، لقد كان خبيراً بما تقوم به الحضارات الحقة، وتنهض به الرسالات الكبيرة، وتحيا به الأمم الهامدة.
إن الأمم والرسالات تحتاج إلى المعادن المذخورة، والثروات المنشورة، ولكنها تحتاج قبل ذلك إلى الرؤوس المفكرة التي تستغلها، والقلوب الكبيرة التي ترعاها والعزائم القوية التي تنفذها: إنها تحتاج إلى الرجال.
أيها المسلمون، لرجل أعز من كل معدن نفيس، وأغلى من كل جوهر ثمين، ولذلك كان وجودُه عزيزاً في دنيا الناس، حتى قال رسول الله : ((إنما الناس كإبل مائة، لا تكاد تجد فيها راحلة)) رواه البخاري.
الرجل الكفء الصالح هو عماد الرسالات، وروح النهضات،و ومحور الإصلاح. أعدَّ ما شئت من معامل السلاح والذخيرة، فلن تقتل الأسلحة إلا بالرجل المحارب، وضع ما شئت من مناهج للتعليم والتربية فلن يقوم المنهج إلا بالرجل الذي يقوم بتدريسه، وأنشئ ما شئت من لجان فلن تنجز مشروعاً إذا حُرمتَ الرجل الغيور!!
ذلك ما يقوله الواقع الذي لا ريب فيه.
إن القوة ليست بحد السلاح بقدر ما هي في قلب الجندي، والتربية ليست في صفحات الكتاب بقدر ما هي في روح المعلم، وإنجاز المشروعات ليس في تكوين اللجان بقدر ما هو في حماسة القائمين عليها.
فلله ما أحكم عمر حين لم يتمن فضة ولا ذهباً، ولا لؤلؤاً ولا جوهراً، ولكنه تمنى رجالاً من الطراز الممتاز الذين تتفتح على أيديهم كنوز الأرض، وأبواب السماء.
معاشر المسلمين، إن رجلاً واحداً قد يساوي مائة، ورجلاً قد يوازي ألفاً، ورجلاً قد يزن شعباً بأسره، وقد قيل: رجل ذو همة يحيي أمة.
يعد بألف من رجال زمانه لكنه في الألمعية واحد
حاصر خالد بن الوليد ( الحيرة ) فطلب من أبي بكر مدداً، فما أمده إلا برجل واحد هو القعقاع بن عمرو التميمي وقال: لا يهزم جيش فيه مثله، وكان يقول: لصوت القعقاع في الجيش خير من ألف مقاتل!
ولما طلب عمرو بن العاص المدد من أمير المؤمنين عمر بن الخطاب في فتح مصر كتب إليه : (أما بعد : فإني أمددتك بأربعة آلاف رجل، على كل ألف : رجل منهم مقام الألف : الزبير بن العوام، والمقداد بن عمرو، وعبادة بن الصامت، ومسلمة بن مخلد).
معاشر المسلمين، ولكن ما الرجل الذي نريد ؟
هل هو كل من طَرَّ شاربه، ونبتت لحيته من بني الإنسان؟ إذن فما أكثر الرجال!
إن الرجولة ليست بالسن المتقدمة، فكم من شيخ في سن السبعين وقلبه في سن السابعة، يفرح بالتافه، ويبكي على الحقير، ويتطلع إلى ما ليس له، ويقبض على ما في يده قبض الشحيح حتى لا يشركه غيره، فهو طفل صغير ... ولكنه ذو لحية وشارب.
وكم من غلام في مقتبل العمر، ولكنك ترى الرجولة المبكرة في قوله وعمله وتفكيره وخلقه.
مر عمر على ثلة من الصبيان يلعبون فهرولوا، وبقي صبي مفرد في مكانه، هو عبد الله بن الزبير، فسأله عمر: لِمَ لَمْ تعدُ مع أصحابك؟ فقال: يا أمير المؤمنين لم أقترف ذنباً فأخافك، ولم تكن الطريق ضيقةً فأوسعها لك!
ودخل غلام عربي على خليفة أموي يتحدث باسم قومه، فقال له: ليتقدم من هو أسن منك، فقال: يا أمير المؤمنين، لو كان التقدم بالسن لكان في الأمة من هو أولى منك بالخلافة.
أولئك لعمري هم الصغار الكبار، وفي دنيانا ما أكثر الكبار الصغار؟ وليست الرجولة ببسطة الجسم، وطولِ القامة، وقوةِ البنية، فقد قال الله عن طائفة من المنافقين: وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ [المنافقون:4] ومع هذا فهم كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ [المنافقون: 4] وفي الحديث الصحيح: (( يأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة فلا يزن عند الله جناح بعوضة))، اقرءوا إن شئتم قوله تعالى: فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً [الكهف: 105].
كان عبد الله بن مسعود نحيفاً نحيلاً، فانكشفت ساقاه يوماً - وهما دقيقتان هزيلتان - فضحك بعض الصحابة: فقال الرسول : ((أتضحكون من دقة ساقيه؟ والذي نفسي بيده لهما أثقل في الميزان من جبل أحد)).
ليست الرجولة بالسن ولا بالجسم ولا بالمال ولا بالجاه، وإنما الرجولة قوة نفسية تحمل صاحبها على معالي الأمور، وتبعده عن سفسافها، قوةٌ تجعله كبيراً في صغره، غنياً في فقره، قوياً في ضعفه، قوةٌ تحمله على أن يعطي قبل أن يأخذ، وأن يؤدي واجبه قبل أن يطلب حقه: يعرف واجبه نحو نفسه، ونحو ربه، ونحو بيته، ودينه، وأمته.
الرجولة بإيجاز هي قوة الخُلُق وخُلُق القوة.
إن خير ما تقوم به دولة لشعبها، وأعظم ما يقوم عليه منهج تعليمي، وأفضل ما تتعاون عليه أدوات التوجيه كلها من صحافة وإذاعة،ومسجد ومدرسة، هو صناعة هذه الرجولة، وتربية هذا الطراز من الرجال.
ولن تترعرع الرجولة الفارعة، ويتربى الرجال الصالحون، إلا في ظلال العقائد الراسخة، والفضائل الثابتة، والمعايير الأصيلة، والتقاليد المرعية، والحقوق المكفولة. أما في ظلام الشك المحطم، والإلحاد الكافر والانحلال السافر، والحرمان القاتل، فلن توجد رجولة صحيحة، كما لا ينمو الغرس إذا حرم الماء والهواء والضياء.
ولم تر الدنيا الرجولة في أجلى صورها وأكمل معانيها كما رأتها في تلك النماذج الكريمة التي صنعها الإسلام على يد رسوله العظيم ، من رجال يكثرون عند الفزع، ويقلون عند الطمع، لا يغريهم الوعد، ولا يلينهم الوعيد، لا يغرهم النصر، ولا تحطمهم الهزيمة.
أما اليوم، وقد أفسد الاستعمار جو المسلمين بغازاته السامة الخانقة من إلحاد وإباحية، فقلما ترى إلا أشباه الرجال، ولا رجال.
تعجبنا وتؤلمنا كلمة لرجل درس تعاليم الإسلام السمحة الشاملة فقال في إعجاب مرير: " يا له من دين لو كان له رجال "!!
وهذا الدين الذي يشكو قلة الرجال يضم ما يزيد على ألف مليار مسلم، ينتسبون إليه، ويحسبون عليه، ولكنهم كما قال رسول الله ((غثاء كغثاء السيل)) أو كما قال الشاعر:
يثقلون الأرض من كثرتهم ثم لا يغنون في أمر جلل
ألف مليار مسلم كغثاء بشط يم
أيها المسلمون، وماذا يغني عن الإسلام رجال أهمتهم أنفسهم، وحكمتهم شهواتهم، وسيرتهم مصالحهم، فلا وثقوا بأنفسهم، ولا اعتمدوا على ربهم،رجال يجمعهم الطمع، ويفرقهم الخوف، أو كما قيل: يجمعهم مزمار وتفرقهم عصا!
أما والله لو ظفر الإسلام في كل ألف من أبنائه برجل واحد فيه خصائص الرجولة، لكان ذلك خيراً له وأجدى عليه من هذه الجماهير المكدسة التي لا يهابها عدو، ولا ينتصر بها صديق:
فليت لي بهمُ قوماً إذا ركبوا شنوا الإغارة فرساناً وركبانا
لا يسألون أخاهم حين يندبهم في النائبات على ما قال برهانا
أيها المسلمون، إن الرجل الواحد قد ينقذ الموقف بمفرده بما حباه الله من الخصائص الإيمانية والمواقف الرجولية التي ربما عملها بمفرده، وفي القرآن الكريم في قصة موسى حين قتل القبطي،تجد قول الله تعالى: وَجَاء رَجُلٌ مّنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى [القصص:20]. وفي سورة يس في قصة أصحاب القرية إذ جاءها المرسلون تجد قوله تعالى: وَجَاء مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى [يس: 20].
وفي سياق هاتين القصتين تجد أن النص يبرز كلمة (رجل) وهي تعني شخصاً مفرداً ، فهو رجل واحد ينقذ الموقف بخصائصه الذاتية والإيمانية ، ولا يستوحش من غربته بين أهله أو تفرده في طبقته ، فيحيط موسى علماً بالمؤامرة الدنيئة التي يحيكها القصر الفرعوني للقضاء عليه وعلى دعوته، ويقترح عليه الحل ، وهو الخروج من قريته والفرار بنفسه ، وفي قصة (يس) يعلن أمام الملأ نصرة المرسلين ويدعو إلى اتباعهم متحدياً بذلك رؤوس الضلالة صارخاً به في وجه الجمهور التابع .
معاشر المسلمين، وعلى رغم أهمية العمل الجماعي والعمل المؤسسي ، وأهمية التعاون على البر والتقوى ، والتناوب في أداء فروض من الكفايات ، إلا أن الواقع كثيراً ما يفتقر إلى الفردية خاصة في مثل فترات الضياع التي تمر بها الأمم وتوشك أن تأتي على وجودها وتميزها ، حيث لا يبقى ثَمَّ جهة مسؤولة بعينها عن اكتشاف المواهب أو عن تحديد الأدوار، وهذا هو الحال الذي يعيشه المسلمون الآن في كثير من بلادهم، هنا تبرز الحاجة إلى تكثيف المبادرات الفردية من الداعية والتي لا بد وأن تسد بعض النقص، وأن تتلاقى يوماً ما على خطة راشدة يكون فيها للمسلمين فرج ومخرج.
ليس هذا تقليلاً من أهمية تضافر الجهود وتكاتفها ، ولا تهويناً من شأن المبادرات الجماعية التي آتت وتؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ، ولكنه تأكيد على الدور الفردي المساهم في إيجادها وعلى الدور الفردي الذي لا يقف عندها.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب وخطيئة وعصيان فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه وصلاة الله وسلامه على أشرف المرسلين.
أما بعد فيا عباد الله، فإنّ مما يعاني منه كثير من الناس ظهور الميوعة وآثار التّرف في شخصيات أولادهم، ولمعرفة حلِّ هذه المشكلة وتداركِ الأجيال القادمة التي تعقد الأمة عليهم خناصرها لابد من الإجابة عن السّؤال التالي : كيف ننمي عوامل الرّجولة في شخصيات أولادنا؟
إن موضوع هذا السؤال هو من المشكلات التّربوية الكبيرة في هذا العصر، وهناك عدد من الحلول الإسلامية والعوامل الشرعية لتنمية الرّجولة في شخصية الطّفل، ومن ذلك ما يلي :
التكنية: أي مناداة الصغير بأبي فلان أو الصغيرةِ بأمّ فلان، فهذا ينمّي الإحساس بالمسئولية، ويُشعر الطّفل بأنّه أكبر من سنّه فيزداد نضجه، ويرتقي بشعوره عن مستوى الطفولة المعتاد، ويحسّ بمشابهته للكبار، وقد كان النبي يكنّي الصّغار؛فعَنْ أَنَسٍ قَال :"كَانَ النَّبِيُّ أَحْسَنَ النَّاسِ خُلُقًا، وَكَانَ لِي أَخٌ يُقَالُ لَهُ أَبُو عُمَيْرٍ قَالَ : أَحسبُهُ فَطِيمًا وَكَانَ إِذَا جَاءَ قَالَ : ((يَا أَبَا عُمَيْرٍ، مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ؟))! وهو طائر صغير كان يلعب به. رواه البخاري. وعَنْ أُمِّ خَالِدٍ بِنْتِ خَالِدٍ قالت : أُتِيَ النَّبِيُّ بثِيَابٍ فِيهَا خَمِيصَةٌ سَوْدَاءُ صَغِيرَةٌ ( الخميصة ثوب من حرير ) فَقَالَ: مَنْ تَرَوْنَ أَنْ نَكْسُوَ هَذِهِ؟ فَسَكَتَ الْقَوْمُ، قَالَ : ائْتُونِي بِأُمِّ خَالِدٍ . فَأُتِيَ بِهَا تُحْمَلُ ( وفيه إشارة إلى صغر سنّها ) فَأَخَذَ الْخَمِيصَةَ بِيَدِهِ فَأَلْبَسَهَا وَقَالَ: (أَبْلِي وَأَخْلِقِي)، وَكَانَ فِيهَا عَلَمٌ أَخْضَرُ أَوْ أَصْفَرُ فَقَالَ : (يَا أُمَّ خَالِدٍ، هَذَا سَنَاه)، وَسَنَاه بِالْحَبَشِيَّةِ حَسَنٌ [ رواه البخاري.
ومما ينمي الرجولة في شخصية الطفل: أخذه للمجامع العامة وإجلاسُه مع الكبار؛وهذا مما يلقّح فهمه ويزيد في عقله، ويحمله على محاكاة الكبار، ويرفعه عن الاستغراق في اللهو واللعب، وكذا كان الصحابة رضي الله عنهم يصحبون أولادهم إلى مجلس النبي ومن القصص في ذلك : ما جاء عن مُعَاوِيَةَ بن قُرَّة عَنْ أَبِيهِ قَالَ: "كَانَ نَبِيُّ اللَّهِ إِذَا جَلَسَ يَجْلِسُ إِلَيْهِ نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَفِيهِمْ رَجُلٌ لَهُ ابْنٌ صَغِيرٌ يَأْتِيهِ مِنْ خَلْفِ ظَهْرِهِ فَيُقْعِدُهُ بَيْنَ يَدَيْهِ .. الحديث" رواه النسائي وصححه الألباني في أحكام الجنائز.
ومما ينمي الرجولة في شخصية الأطفال: تحديثهم عن بطولات السابقين واللاحقين والمعارك الإسلامية وانتصارات المسلمين؛ لتعظم الشجاعة في نفوسهم، وهي من أهم صفات الرجولة، وكان للزبير بن العوام طفلان أشهد أحدهما بعضَ المعارك، وكان الآخر يلعب بآثار الجروح القديمة في كتف أبيه كما جاءت الرواية عن عروة بن الزبير ، وروى ابن المبارك في الجهاد عن هشام بن عروة عن أبيه عن عبد الله بن الزبير "أنه كان مع أبيه يوم اليرموك , فلما انهزم المشركون حمل فجعل يجهز على جرحاهم" وقوله: " يُجهز " أي يُكمل قتل من وجده مجروحاً, وهذا مما يدل على قوة قلبه وشجاعته من صغره .
ومما ينمي الرجولة في شخصية الطفل: تعليمه الأدب مع الكبار،ومن جملة ذلك ما رواه أَبو هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيّ قَالَ:يُسلِّمُ الصَّغِيرُ على الكبِير، والمارُّ على القاعِدِ، والقليلُ على الكثِيرِ"رواه البخاري.
ومما ينمي الرجولة في شخصية الطفل: إعطاء الصغير قدره وقيمته في المجالس، ومما يوضّح ذلك الحديث التالي : عن سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: أُتِيَ النَّبِيّ بِقَدَحٍ فَشَرِبَ مِنْهُ، وَعَنْ يَمِينِهِ غُلامٌ أَصْغَرُ الْقَوْمِ، وَالأَشْيَاخُ عَنْ يَسَارهِ فَقَالَ : يَا غُلامُ، أَتَأْذَنُ لِي أَنْ أُعْطِيَهُ الأشْيَاخَ؟ قَال: ((مَا كُنْتُ لأوثِرَ بِفَضْلِي مِنْكَ أَحَدًا يَا رَسُولَ اللَّهِ فَأَعْطَاهُ إِيَّاهُ)) رواه البخاري.
ومما ينمي الرجولة في شخصية الطفل: تعليمهم الرياضات الرجولية؛كالرماية والسباحة وركوب الخيل وجاء عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلٍ قَالَ : كَتَبَ عُمَر إِلَى أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ أَنْ عَلِّمُوا غِلْمَانَكُمْ الْعَوْمَ . [ رواه الإمام أحمد في أول مسند عمر بن الخطاب ] .
ومما ينمي الرجولة في شخصية الطفل: تجنيبه أسباب الميوعة والتخنث؛ فيمنعه وليّه من رقص كرقص النساء، وتمايل كتمايلهن، ومشطة كمشطتهن، ويمنعه من لبس الحرير والذّهب ونحو ذلك مما يخص النساء.
ومما ينمي الرجولة في شخصية الطفل:
تجنب إهانته خاصة أمام الآخرين وعدم احتقار أفكاره وتشجيعه على المشاركة إعطاؤه قدره وإشعاره بأهميته، وذلك يكون بأمور مثل :
إلقاء السّلام عليه، وقد جاء عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ مَرَّ عَلَى غِلْمَانٍ فَسَلَّمَ عَلَيْهِم. رواه مسلم.
ومثل استشارته وأخذ رأيه، ,أيضاً توليته مسئوليات تناسب سنّه وقدراته وكذلك استكتامه الأسرار ، ويصلح مثالاً لذلك حديث أَنَسٍ قَالَ : أَتَى عَلَيَّ رَسُولُ اللَّه وَأَنَا أَلْعَبُ مَعَ الْغِلْمَانِ قَالَ : فَسَلَّمَ عَلَيْنَا فَبَعَثَنِي إِلَى حَاجَةٍ، فَأَبْطَأْتُ عَلَى أُمِّي، فَلَمَّا جِئْتُ قَالَتْ : مَا حَبَسَكَ؟ قُلْتُ : بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّه لِحَاجَةٍ . قَالَتْ : مَا حَاجَتُهُ؟ قُلْتُ : إِنَّهَا سِرٌّ . قَالَتْ : لا تُحَدِّثَنَّ بِسِرِّ رَسُولِ اللَّهِ أَحَدًا ". رواه مسلم. وفي رواية عن أَنَس قال : انْتَهَى إِلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ وَأَنَا غُلامٌ فِي الْغِلْمَانِ فَسَلَّمَ عَلَيْنَا، ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِي فَأَرْسَلَنِي بِرِسَالَةٍ وَقَعَدَ فِي ظِلِّ جِدَار- أَوْ قَالَ إِلَى جِدَار - حَتَّى رَجَعْتُ إِلَيْهِ". رواه أبو داود .
وعن ابْن عَبَّاسٍ قال : كُنْتُ غُلامًا أَسْعَى مَعَ الْغِلْمَانِ فَالْتَفَتُّ فَإِذَا أَنَا بِنَبِيِّ اللَّه خَلْفِي مُقْبِلاً فَقُلْتُ : مَا جَاءَ نَبِيُّ اللَّهِ إِلا إِلَيَّ، قَالَ : فَسَعَيْتُ حَتَّى أَخْتَبِئَ وَرَاءَ بَابِ دَار، قَالَ : فَلَمْ أَشْعُرْ حَتَّى تَنَاوَلَنِي فَأَخَذَ بِقَفَايَ فَحَطَأَنِي حَطْأَةً ( ضربه بكفّه ضربة ملاطفة ومداعبة ) فَقَالَ : اذْهَبْ فَادْعُ لِي مُعَاوِيَةَ. قَالَ : وَكَانَ كَاتِبَهُ فَسَعَيْتُ فَأَتَيْتُ مُعَاوِيَةَ فَقُلْتُ : أَجِبْ نَبِيَّ اللَّهِ فَإِنَّهُ عَلَى حَاجَةٍ" رواه الإمام أحمد في مسند بني هاشم .
وهناك وسائل أخرى لتنمية الرجولة لدى الأطفال منها :
• تعليمه الجرأة في مواضعها ويدخل في ذلك تدريبه على الخطابة .
• الاهتمام بالحشمة في ملابسه وتجنيبه الميوعة في الأزياء وقصّات الشّعر والحركات والمشي، وتجنيبه لبس الحرير الذي هو من طبائع النساء .
• إبعاده عن التّرف وحياة الدّعة والكسل والرّاحة والبطالة،وقد قال عمر : (اخشوشنوا فإنّ النِّعَم لا تدوم).
• تجنيبه مجالس اللهو والباطل والغناء والموسيقى؛ فإنها منافية للرّجولة ومناقضة لصفة الجِدّ .
هذه طائفة من الوسائل والسّبل التي تزيد الرّجولة وتنميها في نفوس الأطفال،ذكرها فضيلة الشيخ محمد المنجد حفظه الله في مطوية خاصة بذلك.
أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل الطاعة ويعافُ فيه أهل المعصية ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر وتقال فيه كلمة الحق يا سميع الدعاء.
ــــــــــــــــــــ(67/162)
مقوّمات الحياة
...
...
2399
...
الأسرة والمجتمع, العلم والدعوة والجهاد
...
...
أحاديث مشروحة, قضايا المجتمع
...
سعود بن إبراهيم الشريم
...
...
مكة المكرمة
...
1/1/1423
...
...
المسجد الحرام
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- دعوة للتأمل في قوله: ((من أصبح آمناً...)) الحديث. 2- نعمة الله في الأمن والأمان. 3- دور الشريعة في نشر الأمن والمحافظة عليه. 4- فقد بعض بلاد المسلمين هذه النعمة ومنها أرض فلسطين. 5- نعمة العافية من البلاء والأمراض. 6- حكمة الله بالغة حتى فيما يصيب المسلم من الأذى والمرض. 7- الصحة بلا إيمان هواء بلا ماء. 8- طلب المال بالطرق المشروعة. 9- موقف الإسلام من الفقر والمرض.
الخطبة الأولى
أما بعد:
فأوصيكم ـ أيها الناس ـ ونفسي بتقوى الله سبحانه، فإنها دليل الحيران، ورِيّ الظمآن، وأنيس الولهان. بها يسمو المرء ويرتفع، وتُصقَل النفس وتنتفع، هي الحق وماذا بعد الحق إلا الضلال.
أيها الناس، إن إعطاء المرء المسلم نفسه شيئاً من فرص المناصحة وأوقات مراجعة وسط دواوين من السنة والمطهرة، ومن ثمَّ حمل نفسه على أن يقف وقوفاً دقيقاً عند حديث رسول الله المنبعث من مشكاة النبوة؛ ليعرف أسراره، ويستضيء بأنواره، حتى تنشرح النفس وتصفو، فتؤمن بالنبي المصطفى والرسول المجتبى صلوات الله وسلامه عليه، وتتَّبعُ النور الذي أنزل معه.
إنه ـ ولا شك ـ سيقرأ أو يسمع كلاماً صريحاً لا فلسفة فيه ولا تعقيد، كلاماً يقرِّر أن حقيقة الإنسان المسلم ومكانته العالية وحياته المستقرة الخالصة من المكدّرات المزمنة والشوائب العالقة لن تكون فيما ينال من لذة عارضة أو صبوة سانحة أو انفِلاتٍ من مسلّماتٍ يظنها الأغرار نوعاً من القيود والتحجير، كلا فالأمر ليس كذلك عباد الله، بل إن المطلع في سنة المصطفى لن يجد إلا ما يسرّه، ويرسم له طريق الحياة المختصر الذي يسرع بوصوله إلى الغاية العظمى ورؤية الرب تبارك وتعالى.
يقول المصطفى في الحديث الصحيح: ((من أصبح آمناً في سربه، معافىً في جسده، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها)) رواه الترمذي وابن ماجه والبخاري في الأدب المفرد[1].
الله أكبر، إنها كلماتٌ يسيرات، لكنها حوت معنى الحياة الحقة والاستقرار الدائم، بل إنها كلمات ترسم للمرء صورة الحياة بقضِّها وقضيضها، وحلوها ومرها، وسهلها وصعبها، على أنها لا تتجاوز هذه المعايير الثلاثة، والتي لا يمكن لأيِّ كائن بشري عاقل أن يتصوّر الحياة الدنيوية الهانئة بدون توافرها، إنه أمن المرء في سربه أي في بيته ومجتمعه، ومعافاته في بدنه، وتوفّر قوت يومه.
إنها عبارات سهلة على كل لسان، غير أن وصف النبي لها بكونها تعادل حيازة الدنيا بحذافيرها يجعل كل واحد منا يتأمّل ويدقق النظر في أبعاد هذه المعاني، وتنزيلها على واقع حياتنا جميعاً، ومدى تأثيرها فينا وجوداً وعدما، إيجاباً وسلباً.
أمن المرء في سربه ـ عباد الله ـ مطلبُ الفرد والمجتمعات على حدّ سواء، وهو الهدف المرتقب لكل المجتمعات بلا استثناء على اختلاف مشاربها، ثم إن إطراء الحياة الآمنة هو ديدن كافة المنابر للصلة الوثيقة بينه وبين إمكانية استقرار المجتمعات، وإلا فما قيمة لقمة يأكلها المرء وهو خائف، أو شربة يشربها الظمآن وهو متوجِّس قلِق، أو نعسة نوم يتخللها يقظات وسنان هلع، أو علم وتعليم وسط أجواء محفوفة بالمخاطر؟!
إن كل مجتمع يفقد الجانب الأمني في ثناياه إنما هو في الحقيقة فاقد لمعنى الحياة لا محالة، حتى يكون تِكْأََةً لنهب الناهبين وتفريط المقصرين، فيذهب أقساماً بين أشتات المطامع والأهواء.
ومن أجل الأمن ـ عباد الله ـ جاءت الشريعة الغراء بالعقوبات الصارمة والحدود الرادعة تجاه كل مُخلٍ بالأمن كائنا من كان، بل وقطعت أبواب التهاون في تطبيقها، أيّا كان هذا التهاون، سواء كان في تنشيط الوسطاء في إلغائها أو في الاستحياء من الوقوع في وصمة نقد المجتمعات التي تدعي الحضارة، ومعرّة وصفهم للغير بالتخلف.
وحين يدبّ في الأمة داء التسلّل الأمني فإن المتسببين في ذلك يهيلون التراب على تراث المسلمين، ويقطعون شرايين الحياة الآمنة على الأجيال الحاضرة والآمال المرتقبة.
ثم إنه يجب علينا أن لا نقصُر جانب المفهوم الأمني على الفرد وحده، ولا على معنى واحد من معانيه فحسب، كأن يُقصَر على ناحية حماية المجتمع من الجرائم لا غير، أو أن يُقصر مفهوم حمايته على جناب الشُرط والدوريات الأمنية دون سواها، بل إن شمولية مفهوم الأمن تنطلق باديَ الرأي في عقيدة المجتمع، وارتباطه الوثيق بربه، والبعد عن الشرك وسبله، والذي هو الظلم بعينه، كما قال الله تعالى: الَّذِينَ ءامَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُّهْتَدُونَ [الأنعام:82].
ناهيكم ـ عباد الله ـ عن المجالات الأمنية المتكاثرة في المجتمعات، كالأمن الغذائي والأمن الصحي والوقائي والأمن الاقتصادي، والأمن الفكري، والأمن الإعلامي، والأمن الأدبي. فعلى الأمة برمتها أن لا تقع في مزالق الانحدار والتغريب تجاه أي معنى من المعاني الأمنية الآنفة، وأن لا تقترف خيانات أمنية في أي لون من ألوانه، فالأمن على مثل هذا لا يقلّ أهمية عن أمن الأرواح والأموال، فكما أن للبيوت لصوصاً ومختلسين وللأموال كذلك، فإن للعقول لصوصاً ومختلسين وللأفئدة لصوصاً ومختلسين، بل إن لصوص العقول والقلوب أشد خطراً وأدهى وأمرّ.
إن إصباح المرء المسلم آمنا في سربه لهو من أوائل بشائر يومه وغده، وما صحّة البدن وقوت اليوم إلا مرحلة تالية لأمنه في نفسه ومجتمعه، إذ كيف يصحّ بدن الخائف؟! وكيف يكتسب من لا يأمن على نفسه وبيته؟!
ولأجل هذا ـ عباد الله ـ كان لزاماً علينا أن نقدر حقيقة الأمن، وأن نستحضرها نصب أعيننا بين الحين والآخر، حتى لا نكون مع كثرة الإمساس لها فاقدي الإحساس بها، ولا سيما حينما نشخص بأبصارنا يمنةً ويسرة لنرى بعض الأقطار الملتهبة بالصراع، والتي يطحن بعضها بعضاً من داخلها، أو بما هو أدهى وأمر من خلال سطوة البغاة عليها واجتياح العدوان المسلّح، استباحةً لأرضها، وقطعاً لحرماتها.
ألا من مشاطر لنا أحزان ما يجري في مسرى رسول الله وثالث المسجدين؟! يصاب المسلمون فيه بالذعر عند كل زفرة نفس من أنفاسهم، يستيقظون عند كل رمية برصاص، أو حركة مجنزرات ظالمة. إنهم يرجون الأمن والأمان، يناشدون العدالة والإنصاف، ينادون المتخصِّصين فيما زعموه مكافحة الإرهاب، لقد ناشدوا وناشدوا وناشدوا، حتى لربما انطلقت صيحات الغير تصفهم بالغباء حينما يناشدون بمدمعهم لا بمدفعهم، أو يطالبون بالعدل من حيث لا يوجد إلا الجور، أو بالسلم من حيث لا توجد إلا الحرب.
أين المتحدثون عن الإرهاب، وخطورة الإرهاب، واجتثاث الإرهاب؟! أين المتعاطفون مع الأبرياء؟! أين ما يسمَّى بالحقوق الإنسانية؟! أين وأين وأين؟! ألا يكون قتل المسلمين إرهاباً؟! ألا يكون ترويعهم إرهاباً؟! ألا يكون اجتياح أرضهم إرهاباً؟! ألا ليت شعري من يدري لعل دلالة اللفظ في حق ثالث المسجدين لا تسمَّى عند البعض إلا تِرحاباً، وأما فيما عداها فإنها لا تسمّى عندهم إلا إرهاباً، وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُواْ ءامَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ [آل عمران:119]، ولقد صدق رسول الله حيث يقول: ((ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن)) قالوا: وما الوهن؟ قال: ((حب الدنيا وكراهية الموت)) رواه الإمام أحمد وأبو داود[2].
ألا إن الله غالب على أمره عباد الله، وَلَاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ [يوسف:21]، لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِى الْبِلَادِ مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلاٍ مّنْ عِندِ اللَّهِ وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ لّلأَبْرَارِ [آل عمران:196-198].
أيها المسلمون، لقد أتبع النبي أمنَ المرء في سربه بكونه معافىً في جسده، وجعل المعافاة في الجسد ثلث حيازة الدنيا بحذافيرها، وهذا أمر واضح جلي؛ لأن الصحة تاج فوق رؤوس الأصحاء لا يراه ويحسّ به إلا المرضى من الناس.
الصحة والعافية ـ عباد الله ـ محلّ لأن يُغبن فيها المرء على حد قول النبي : ((نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ)) رواه البخاري[3] وغيره.
السلامة لا يعدلها شيء، والصحة التامة والسلامة من العلل والأسقام في البدن ظاهراً وباطناً لهو من مكامن الحياة الهانئة المستقرة؛ إذ فيها عون على الطاعة، والقيام بالتكاليف الشرعية على أحسن وجه كان، ناهيكم عن أثر الصحة والبسطة في الجسم في نواحي الحياة المختلفة، و((المؤمن القوي خير من المؤمن الضعيف، وفي كل خير))[4].
والبسطة في العلم والجسم مما تُنال به معالي الأمور، كما قال الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ [البقرة:247]، وقال سبحانه عن موسى: إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَجَرْتَ الْقَوِىُّ الأمِينُ [القصص:26].
الأمراض والأسقام ـ عباد الله ـ أدواء منتشرة انتشار النار في يابس الحطب، ومن هنا تكمن الغبطة للأصحاء، غير أن هذه الأسقام هي وإن كانت ذات مرارة وثقل واشتداد وعرك إلا أن الله جل شأنه جعل لها حكماً وفوائد كثيرة، علمها من علمها، وجهلها من جهلها، ولقد حدّث ابن القيم رحمه الله عن نفسه أنه أحصى ما للأمراض من فوائد وحكم فزادت على مائة فائدة[5]، وقد قال رجل لرسول الله : أرأيت هذه الأمراض التي تصيبنا ما لنا بها؟ قال: ((كفارات)) قال أبي بن كعب: وإن قلَّت؟! قال: ((وإن شوكة فما فوقها)) رواه أحمد[6]، وعند البخاري ومسلم أن رسول الله قال: ((ما من مسلم يصيبه أذىً من مرض فما سواه إلا حطَّ الله به سيئاته كما تحطّ الشجرة ورقها))[7].
غير أنه لا يُظن مما سبق ـ عباد الله ـ أن المرض مطلب منشود أو بلاء يتطلع إليه العبد المسلم، كلا بل هو محنة يكون الصبر مطلباً عند وقوعها، والمرء المؤمن لا يتمنّى البلاء؛ إذ رسول الله يقول: ((سلوا الله العفو والعافية فإن أحداً لم يُعط بعد اليقين خيراً من العافية)) رواه النسائي وابن ماجه[8]، وقال مطرف رحمه الله: "لأن أعافى فأشكر أحب إلي من أن أُبتلى فأصبر"[9].
وعلى كلا الأمرين ـ عباد الله ـ فإن الصحة بلا إيمان هواء بلا ماء، والمرض بلا صبر ورضا بلاء يتلوه بلاء، وجماع الأمرين دين وإيمان بالله، يقول ابن مسعود رضي الله عنه: (إنكم ترون الكافر من أصح الناس جسماً وأمرضهم قلباً، وتلقون المؤمن من أصح الناس قلباً وأمرضهم جسماً، وايم الله لو مرضت قلوبكم وصحت أجسامكم لكنتم أهون على الله من الجعلان)[10].
كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ [العنكبوت:57].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، قد قلت ما قلت، إن صواباً فمن الله، وإن خطأً فمن نفسي والشيطان، وأستغفر الله إنه كان غفاراً.
[1] سنن الترمذي في الزهد، باب: التوكل على الله (2346)، وابن ماجه في الزهد، باب: القناعة (4141)، والأدب المفرد (300)، وكذا أخرجه الحميدي في مسنده (439)، من حديث عبيد الله بن محصن الأنصاري. قال الترمذي: "حديث حسن غريب". وله شواهد من حديث أبي الدرداء، وابن عمر، وعلي رضي الله عنهم. انظر: الصحيحة للألباني (2318).
[2] مسند أحمد (5/378)، وأبو داود في الملاحم (4297)، وكذا أخرجه الطبراني في الكبير (1452)، والبيهقي في الدلائل (6/534) من حديث ثوبان رضي الله عنه. وصححه الألباني في الصحيحة (958).
[3] صحيح البخاري كتاب الرقاق، باب: لا عيش إلا عيش الآخرة (6412) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
[4] لفظ حديث أخرجه مسلم في القدر، باب: في الأمر بالقوة وترك العجز والاستعانة (2664) بنحوه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[5] انظر: شفاء العليل (ص250).
[6] مسند أحمد (3/23)، وكذا أخرجه النسائي في الكبرى (7489) وأبو يعلى (995) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. وصححه ابن حبان (2928)، والحاكم (4/308). قال الهيثمي في المجمع (2/301-302): "رواه أحمد وأبو يعلى، ورجاله ثقات".
[7] صحيح البخاري، كتاب: المرض، باب: شدة المرض (5647)، ومسلم في البر والصلة والآداب (2571) واللفظ له، من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.
[8] النسائي في عمل اليوم والليلة (882)، وابن ماجة في الدعاء، باب: الدعاء بالعفو والعافية (3849)، وكذا أحمد في المسند (1/3)، والترمذي في الدعوات، باب: في دعاء النبي (3558) واللفظ له، والبزار (75)، والطيالسي (5)، والحميدي (7)، وأبو يعلى (121) من حديث أبي بكر رضي الله عنه . قال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه". وصححه الضياء المقدسي في المختارة (1/156)، والألباني في صحيح ابن ماجه (3104).
[9] أخرجه معمر في جامعة (11/253)، وهناد في الزهد (442)، والبيهقي في الشعب (4435).
[10] أخرجه هناد في الزهد (427)، وأبو نعيم في الحلية (1/135).
[11] أخرجه أحمد (2/540)، والنسائي في الاستعاذة، باب: الاستعاذة من الفقر (5464)، وابن ماجه في الدعاء، باب: ما تعوذ منه رسول الله (3842)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وصححه ابن حبان (1003)، والحاكم (1/531)، والألباني في الصحيحة (1445).
[12] مسند أحمد (5/36)، وكذا أخرجه النسائي في السهو، باب: التعوذ في دبر الصلاة (1347)، والبزار في المسند (3675)، من حديث أبي بكرة رضي الله عنه، وصححه ابن حبان (1028)، والحاكم (1/35)، والألباني في صحيح النسائي (1276).
[13] مسند أحمد (4/197) وكذا البخاري في الأدب المفرد (299) والطبراني في الأوسط (3213)، من حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه. وصححه ابن حبان (3210)، والحاكم (2/236)، والألباني في غاية المرام (454).
الخطبة الثانية
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه وخليله، وخيرته من خلقه، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا أيها الناس، المال في الإسلام وسيلة لا غاية، وطلبه من طريق حلِّه وطيبه أمر مشروع لكل مكتسب، والنبي حِينما قال: ((من أصبح آمناً في سربه، معافى في جسده، عنده قوت يومه)) أراد بقوت اليوم الحال الوسط بين الضدين، إما حال الأثرياء المترفين الذين ضعف عند بعضهم الخلُق والدين، وإما حال المفلسين القعدة الذين استمرؤوا الكسل والبطالة والتشرد.
إن الذين يكسلون ولا يربحون، ثم يتسولون، أو يحتالون باسم التكسب، أو العيش ليسوا على سواء الطريق، والذين يحبون المال حباً جماً حتى يُعميهم عن دينهم وأخلاقهم، وخلواتهم القلبية وجلواتهم الروحية ليسوا على سواء الطريق أيضاً، فكلا طرفي قصد الأمور ذميم.
فعن الأول يقول النبي : (( تعوّذوا بالله من الفقر والقلة والذلة))[11]، ويقول: ((اللهم إني أعوذ بك من الكفر والفقر)) رواهما الإمام أحمد[12].
وعن الآخر يقول الله تبارك وتعالى: كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى أَن رَّءاهُ اسْتَغْنَى [العلق:6، 7].
وخير الأمور ـ عباد الله ـ هو الوسط، فإن الفقر كاد يكون كفراً، بل هو مظنة الاتكال على الغير، وربط الأمور مع الناس بما يملكون من مال، لا ما يملكون من خلُق، فتختل عند الفقير المعايير، كما أن الغنى مظنة الطغيان، والوقوع في طرق الكسب المحرمة بحثاً عن المال بنهَم، أو هو مظنة الفرار من الحقوق كالصدقة والزكاة وأوجه البر، ولهذا فإن من ملك قوت يومه فإنه يكون في منأًى عن بطر الغنى وهوان الفقر، فيكون كافاً عافاً، ومن هنا جاءت حيازة الدنيا.
فالفقر دونٌ برمّته، والغنى يُحمد في الخير، ويُذم في الشر، فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسّرُهُ لِلْيُسْرَى وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسّرُهُ لِلْعُسْرَى [الليل:5-10]، وصدق رسول الله إذ يقول: ((نِعم المال الصالح للرجل الصالح)) رواه أحمد[13].
نقول مثل هذا ـ عباد الله ـ لأجل أن نذكر كلَّ ذي نعمة بنعمته، ولنعلم جميعاً أن هناك من المسلمين ـ عن اليمين وعن الشمال عزين ـ من يصبح لا يدري مصير أمنه، ولا قوت يومه، ولا معافاة بدنه، يعيشون أجواء مقلقة وحياة متقلبة، ما عند يوم أحدهم ثقة له بغده، شيوخ ونساء وأطفال، برآء ما جنوا ذنباً، أطهار ما كسبت أيديهم إثماً، سقوفهم واكفة، وجدرانهم نازّة، وجبالهم تسيل حُمما وشظايا، حتى غدت أوديتهم بمآسيهم أباطح، فلم تعد الدور دوراً، ولا المنازل منازلاً، إِنَّ فِى ذالِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ [ق:37].
هذا وصلوا ـ رحمكم الله ـ على خير البرية، وأزكى البشرية محمد بن عبد الله بن عبد المطلب صاحب الحوض والشفاعة، فقد أمركم الله بذلك فقال في كتابه الكريم: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىّ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم...
ــــــــــــــــــــ(67/163)
مقومات اختيار الزوج لزوجته
...
...
2424
...
الأسرة والمجتمع, فقه
...
...
النكاح, قضايا المجتمع
...
ماجد بن عبد الرحمن الفريان
...
...
الرياض
...
...
...
سليمان بن مقيرن
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1 ـ أهمية الحديث عن آداب الخطبة. 2 ـ عناية الإسلام بالأسرة المسلمة وكيفية تكوينها. 3 ـ أسس ومعايير اختيار الزوجة. 4 ـ الجمال ودوره في اختيار الزوجة. 5 ـ آداب الخطبة.
الخطبة الأولى
أما بعد: فيا عباد الله اتقوا الله حق التقوى.
معاشر المسلمين:تكمن أهمية الموضوع اليوم في حساسيته وكثرة التعرض له، وهو وإن تجاوزه البعض في خاصة نفسه إلا أن الكثير لم يتجاوزه في ذريته أو من حيث هو مستشار فيه ومؤتمن عليه.
وتكمن أهميته أيضاً من حيث ما يترتب عليه في العاجل والآجل من صلاح المجتمع أو فساده، فعن طريقه يتكون المجتمع على أساس صحيح أو أساس باطل.
أيها المسلمون:
ومن المعلوم لديكم أن المجتمع يتكون من الأسر، والأسر تتكون من الأفراد، كالبناء الذي يتكون من الأساس واللبنات، وبقدر قوة الأساس وقوة اللبنات وانتظامها، يكون البناء صرحًا شامخًا، وحصنًا راسخًا، كذلك المجتمع الإنساني إنما يكون صالحًا بصلاح الأسر التي يتكون منها، ولهذا شبه النبي المجتمع المسلم بالبنيان الذي يشد بعضه بعضا، وبالجسد الواحد الذي يتألم كله بتألم عضو من أعضائه، ولهذا عني الإسلام عناية تامة بتكوين الأسرة المسلمة، واستصلاحها، وبنائها على أسس سليمة، ولما كان تكوين الأسرة يبدأ من اتصال الذكر بالانثى عن طريق الزواج، أمر الشارع باختيار الزوج الصالح والزوجة الصالحة.
أيها المسلمون: إن الاختيار السليم من الزوج لزوجته، وأيضاً من قبل الزوجة لزوجها يترتب عليه أمور كثيرة جداً، لسنا بصدد الحديث عنها، لكن من أهمها سلامة المجتمع وكماله بسلامة الأسر وكمالها، فمن الأسر يتكون المجتمع، ولم تقتصر توجيهات الشرع في هذا الجانب على الوصية بالدين فقط، كلا، بل إن الشارع الحكيم نظر إلى كل شيء هو في صالح طرفي عقد النكاح دينياً ونفسياً واقتصادياً واجتماعياً، فلا حجة لزاعم أنه حريص على ابنته وتأمين مستقبلها في تركه توجيهات الشرع الكثيرة في جانب الاختيار ذلك أن الشارع الحكيم أحرصُ من هذا الرجل على ابنته، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
أيها المسلمون: وهناك أسس نوصي بها الزوج في اختياره لزوجته، وأسس أخرى نوصي بها المرأة ووليها وكل من له علاقة في شأن المرأة، ولعلي أبادر إلى الدخول في الأسس والمعايير التي يوصى بها الزوج عند اختياره لزوجته، فمنها:
أولاً:الدين قال تعالى: وَلاَ تَنْكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلامَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ [البقرة: 221]، وقال تعالى: وَالطَّيّبَاتُ لِلطَّيّبِينَ [النور: 26]، ولقد عدد النبي الأسباب التي تنكح المرأة لأجلها ثم أو صى بالظفر بذات الدين فقال: ((تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لأَرْبَعٍ لِمَالِهَا وَلِحَسَبِهَا وَلِجَمَالِهَا وَلِدِينِهَا، فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ)) رواه البخاري.
ومع كثرة ما في هذه الدنيا من متعة وأنس خص النبي من بين متاعها وأنسها شيئاً واحداً هو المرأة الصالحة فقال : ((الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَخَيْرُ مَتَاعِ الدُّنْيَا الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ)) رواه مسلم.
وعلى كثرة الأمور التي يكنزها المرء استعداداً لكل أمر مهم وخطب مدلهم أوصى النبي بادخار المرأة الصالحة للعسر واليسر فقال لعمر بن الخطاب : ((أَلا أُخْبِرُكَ بِخَيْرِ مَا يَكْنِزُ الْمَرْءُ؟.....الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ.... إِذَا نَظَرَ إِلَيْهَا سَرَّتْهُ وَإِذَا أَمَرَهَا أَطَاعَتْهُ وَإِذَا غَابَ عَنْهَا حَفِظَتْهُ)) رواه أبوداود.
إنه كلما عظم عقل الإنسان ازداد قناعة بأهمية المرأة الصالحة، لأنها والله شراكة عُمُر وتربية أولاد وصيانة ديانة وحفظ أمانة، لا يليق أن يكون فيها غير القوي الأمين صاحب الدين المتين والخلق القويم.
معاشر المسلمين، ومن معايير اختيار الزوجة أيضاً، أن تكون ودوداً، ولوداً ويعرف ذلك من أهل بيتها، وإذا تيقن أن المرأة لا تلد بزواج سابق ونحوه فإنه لا يتزوجها إلا من هو مثلها، عَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ : قَالَ إِنِّي أَصَبْتُ امْرَأَةً ذَاتَ حَسَبٍ وَمَنْصِبٍ إِلَّا أَنَّهَا لا تَلِدُ أَفَأَتَزَوَّجُهَا؟ فَنَهَاهُ ثُمَّ أَتَاهُ الثَّانِيَةَ فَنَهَاهُ ثُمَّ أَتَاهُ الثَّالِثَةَ فَنَهَاهُ فَقَالَ: ((تَزَوَّجُوا الْوَلُودَ الْوَدُودَ فَإِنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمْ الأمم يوم القيامة)) رواه أبو داود والنسائي
وعند البيهقي بسند صحيح قال : ((خير نسائكم الودود الولود المواسية المواتية إذا اتقين الله)).
فالوصية المبذولة لكل شاب أن يتزوج المرأة الودود الولود ؛ لأن في ذلك تحقيقاً لرغبة النبي في مكاثرة الأمم بأمته .
معاشر المسلمين، ومن معايير اختيار الزوجة أيضاً، الجمال وحسن المظهر وهو أمر فطر الله النفوس على الرغبة فيه، وهي رغبة شريفة لا يلام عليها الإنسان وجاءت أصول الشرع مؤيدة لها، فالله جميل يحب الجمال، ولم تشرع رؤية الرجل لمخطوبته إلا والتأكد من الجمال من أهم مقاصدها، وقال النبي لرجل تزوج امرأة من الأنصار: ((هل نظرت إليها؛ فإن في عيون الأنصار شيئاً)) رواه مسلم وقال : ((خير النساء التي تسره إذا نظر، وتطيعه إذا أمر، ولا تخالفه في نفسها وماله)).
لكن الأمر الذي ينبغي أن يعلم ويتنبه إليه جيداً هو أن الجمال أمر نسبي لا تترك النساء بسببه وتختلف فيها وجهات النظر كثيراً كثيراً، والحديث عن الجمال يدعونا إلى ثلاثة تنبيهات مهمة:
أحدهما: بسبب تفاوت الناس في معيارية الجمال فإن ما لا يعجب الأهل قد يعجب الشاب، وما لا يعجب الشاب قد يعجب الأهل، وصاحب القرار هو المتزوج،وعليه فإنا نقول:الأولى أن يكون النظر خاصاً بصاحب الشأن ولا تتدخل النساء في الموضوع، فكم تركت من فتاة جميلة صالحة بسبب نظرات تعسفية من بعض النساء ثم يتزوج الشاب صاحب الشأن امرأة مثل التي ترك أو أقل منها مستوى، فلماذا لا يترك الأمر لرؤيته أولاً ثم رؤية أهله تبعاً.
الأمر الثاني: نقول ومن الجمال شيء معنوي لا علاقة له بظاهر المرأة وشكلها بل هو كامن في خلقها وطبعها وإليه الإشارة في قول النبي : ((خير نسائكم الودود الولود المواسية المواتية إذا اتقين الله)).
وكذلك في قوله: ((إِذَا نَظَرَ إِلَيْهَا سَرَّتْهُ، وَإِذَا أَمَرَهَا أَطَاعَتْهُ، وَإِذَا غَابَ عَنْهَا حَفِظَتْهُ)) فهذا جمال في الطبيعة، وهو أمر معتبر جداً عند الرجال؛ فالرجل لا يحب المرأة المترجلة ولوكانت جميلة، بل يريد المرأة الرقيقة الودود المواسية المواتية.
وكذلك الرجل لا يحب امرأة تخالفه في كل شيء وتراغمه في أهم مزاياه وهو جانب القوامة عليها، فهي لا تطيعه إذا أمر، وإذا غاب عنها لم يأمنها على نفسها أو ماله أو ولده، فهذه لا يرغبها الرجل ولو كانت جميلة بل يرغب المرأة التي تكون أقل منها جمالاً في الشكل إذا كان يتوفر فيها الجمال المعنوي المذكور، وما ذكرته لكم في الجمال المعنوي أمر يخفى على كثير من الناس فيجب تنبيه الشباب عليه وتعليمهم به، وتوضيح الموازين التي يعرفها المجربون من الذين تزوجوا قديماً وعرفوا المرغوبات الحقيقة للرجال.
ثالث التنبيهات: نقول فيه: ولأن طلب الجمال أمر فطري فنقول لك يا أيها الشاب سل عن جمال المرأة قبل أن تسأل عن دينها.
سيقول قائل: سبحان الله يسأل عن الجمال قبل الدين والنبي يقول: ((فاظفر بذات الدين تربت يداك)).
نقول نعم: ينبغي أن يسأل عن جمال المرأة قبل سؤاله عن دينها، ودليلنا في ذلك هو هذا الحديث الذي احتججت به، فكيف احتججنا به ؟؟
نقول: إن المرء الراغب في الزواج إذا سأل عن ذات الدين فوجدها ثم سأل عن جمالها فلم يعجبه ثم تركها بسبب الجمال، وهي ذات دين يكون قد وقع في مخالفة المنهج النبوي وهو الظفر بذات الدين.
ولكن نقول له: ابحث عن ذات الجمال فإذا صلح لك جمالها فسل عن دينها فإذا كانت ذاتَ دين فتوكل على الله وخذها، وإن لم تكن ذات دين فتوكل على الله ودعها، ويكون المؤثر في هذه الحال هو الدين وتكون بذلك قد عملت بوصية النبي : ((فاظفر بذات الدين تربت يداك)) وهذا هو قول الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله.
أيها الشاب، ولا يستخفنك بعد وجود الجميلة غير الدينة من يشجعك على الزواج منها فإنك تكون بذلك قد خالفت الوصية ووقعت فيما حذر منه النبي عندما قال: ((إياكم وخضراء الدمن)) فسئل عنها فقال: ((المرأة الحسناء في المنبت السوء)) رواه القضاعي والدارقطني وغيرهما بسند ضعيف
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم...
الخطبة الثانية
أما بعد:
معاشر المسلمين، ومن معايير اختيار الزوجة أيضاً:
البكارة في المرأة إذا كان الشاب بكراً عن جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ فَلَقِيتُ النَّبِيَّ فَقَالَ: ((يَا جَابِرُ، تَزَوَّجْتَ؟)) قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: ((بِكْرٌ أَمْ ثَيِّبٌ؟)) قُلْتُ: ثَيِّبٌ قَالَ: ((فَهَلا بِكْرًا تُلاعِبُهَا وتلاعبك)) رواه البخاري، وفي رواية له: ((مالك وللعذارى ولِعابِها)) فأوصى النبي جابراً بنكاح البكر وكان شاباً لم يتزوج، أما الرجل المتزوج الذي يريد أن يعدد أو الشيخ الكبير الفاني فلم يوصهم النبي بنكاح الأبكار إلا في وصية عامة عندما قال : ((عَلَيْكُمْ بِالْأَبْكَارِ فَإِنَّهُنَّ أَعْذَبُ أَفْوَاهًا وَأَنْتَقُ أَرْحَامًا وَأَرْضَى بِالْيَسِيرِ)) رواه ابن ماجه.
معاشر المسلمين، ومن معايير اختيار الزوجة أيضاً: اليسر وقلة المؤونة قال : ((خير النكاح أيسره)) رواه أبوداود، وقال : ((إن من يمن المرأة تَيْسِيرُ خِطْبَتِهَا وَتَيْسِيرُ صَدَاقِهَا)) رواه أحمد.
ونهى النبي عن المغالاة في صدقات النساء لأن المسألة ليست تجارة وليست بيعاً، ولما سئل سيد التابعين سعيد بن المسيب رحمه الله عن قوله : ((خير النساء أيسرهن مهورًا)) فقيل له: كيف تكون حسناء ورخيصة المهر ؟ فقال: يا هذا، انظر كيف قلت؟ أهم يساومون في بهيمة لا تعقل ؟؟ أم هي بضاعة طمعُ صاحبها يغلب على مطامع الناس ثم قرأ: وَمِنْ ءايَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْواجاً لّتَسْكُنُواْ إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِى ذَلِكَ لايَاتٍ لّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الروم:21] ثم قال رحمه الله: إنه إنسان مع إنسانة، وليس متاعًا يطلب مبتاعًا ا.هـ. كلامه رحمه الله.
معاشر المسلمين: ومن معايير اختيار الزوجة أيضاً،
أن يختار المرأة التي نظر إليها حتى ولو بلغه من شأن المرأة ما بلغه، فإن هذا لا يغني عن النظر، وليس مقصود النظر هو المعرفة عن حالها فقط بل إنه كما قال النبي : ((أحرى أن يؤدم بينكما)) عن الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ خَطَبْتُ امْرَأَةً عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أَنَظَرْتَ إِلَيْهَا؟)) قُلْتُ: لا، قَالَ: ((فَانْظُرْ إِلَيْهَا فَإِنَّهُ أَجْدَرُ أَنْ يُؤْدَمَ بَيْنَكُمَا)) رواه النسائي وغيره
وعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِذَا خَطَبَ أَحَدُكُمُ الْمَرْأَةَ فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى مَا يَدْعُوهُ إِلَى نِكَاحِهَا فَلْيَفْعَلْ)) رواه مسلم.
فالسنة أن ينظر الرجل إلى مخطوبته ليزيل بذلك قدراً كبيراً من الحواجز بين المرأة وزوجها، ويكون أدعى إلى الرغبة من الطرفين، وهذا هو المقصود بقوله: ((يؤدم بينكما)).
وإلى أي شيء ينظر منها ؟ ذهب جمهور العلماء إلى أنه لا ينظر منها إلا الوجه والكفين، وذهب الإمام أحمد والأوزاعي إلى أنه ينظر منها ما يدعوه إلى نكاحها مما يظهر منها غالباً، وهذا هو المعمول به عند الأكثر، وهو الأقوى دليلاً لقوله في الحديث المتقدم: ((فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى مَا يَدْعُوهُ إِلَى نِكَاحِهَا فَلْيَفْعَلْ)) ولا شك أن ما يدعوه إلى نكاحها أمر زائد على الوجه والكفين بل ما يظهر منها غالباً من الوجه والشعر والعنق وأعلى الصدر وأطراف اليدين والقدمين من الأمور التي تظهر منها غالباً.
إخوة الإسلام: وهذا النظر الذي أبيح قبل العقد للحاجة والمصلحة الراجحة له ضوابط تضبطه كيلا يؤدي إلى أمور لا تحمد عقباها، فمن هذه الضوابط: أمن الفتنة عليهما.
ومن الضوابط ثانياً:عدم الخلوة، يقول النبي : ((ما خلا رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما)).
ومن الضوابط ثالثاً: أن يكون الخاطب عازماً على الزواج، وقد سأل وتحرى عن كل شيء، فلم يبق له إلا النظر، أما أن يستغل ذلك بعض الشباب للاطلاع على مكنونات البيوت، وكسر قلوب العذارى، فلا تنظر أيها الشباب إلا بعد أن تكون عازماً على الزواج من هذه المرأة ولم يبق لك إلا التأكد من جمالها وتطبيق السنة في النظر إليها لأنه أحرى أن يؤدم بينكما.
تلك أسس في اختيار الزوج لزوجته تنبغي مراعاتها من قبل الراغبين في الزواج وذويهم.
وثمة أسس نوصي بها المرأة ووليها وكلَّ من له علاقة في شأن المرأة، أن تكون لهم معايير في قبول المتقدم للزواج أو رده نفيض الحديث عنها في خطبة قادمة بإذن الله تعالى
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد...
-ــــــــــــــــــــ(67/164)
مقومات اختيار الزوجة لزوجها
...
...
2425
...
الأسرة والمجتمع, فقه
...
...
النكاح, قضايا المجتمع
...
ماجد بن عبد الرحمن الفريان
...
...
الرياض
...
...
...
سليمان بن مقيرن
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1 ـ أمور هامة في تزويج البنات ينبغي التنبه لها. 2 ـ معايير اختيار المرأة لزوجها. 3 ـ واجبات الولي تجاه موليته.
الخطبة الأولى
أما بعد، فيا عباد الله اتقوا الله حق التقوى.
معاشر المسلمين، تقدمت أسس ومعايير في اختيار الزوج لزوجته تنبغي مراعاتها من قبل الراغبين في الزواج وذويهم، وثمة أسس نوصي بها المرأة ووليها وكلَّ من له علاقة في شأن المرأة، أن تكون لهم معايير أيضاً في قبول المتقدم للزواج أو رده.
وقبل الدخول فيها لا بد من التنبيه إلى أمر مهم، هو أن المرأة هي الطرف الأضعف في باب النكاح، وذلك لأمور أربعة:
أحدها: أن المرأة تعتبر أسيرة عند الرجل بدليل قوله : ((َاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا فَإِنَّمَا هُنَّ عَوَانٌ عِنْدَكُمْ)) رواه الترمذي وغيره، ومعنى عوان عندكم أي: أسيرات.
ثانياً:ولأن القوامة بيد الرجل لقوله تعالى: الرّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوالِهِمْ [النساء: 34].
ثالثاً:ولأن المرأة مرهفة المشاعر والأحاسيس فهي لا تحتمل رجلاً دنيئاً في الصفات والأخلاق، يؤذيها في نفسها ومشاعرها ويلوث فضاء بيتها بالبذيء من العبارات والساقط من القول.
رابعاً:ولأن المرأة لا تستطيع أن تبين حجتها في الخصومة، فقد يظلمها ولا تستطيع أن تجابهه كما قال تعالى: أَوَمَن يُنَشَّأُ فِى الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِى الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ [الزخرف:18] أي لا يستطيع أن يظهر حجته في الخصومة.
لهذه الأمور الأربعة التي تدل على ضعف المرأة ينبغي لها ووليها الاهتمام البالغ بأمر قبول الخاطب أو رده.
معاشر المسلمين، فمن معايير اختيار الزوجة لزوجها:
أولاً: الدين فينبغي أن يكون صاحب ديانة، والمراد بذلك الزيادة على الواجبات، لا ما يدخله في الدين فقط، قال تعالى: وَأَنْكِحُواْ الايَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِن يَكُونُواْ فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [النور:32] وقَالَ رَسُولُ الهدى صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِذَا أَتَاكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ خُلُقَهُ وَدِينَهُ فَزَوِّجُوهُ إِلا تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ عَرِيضٌ)) رواه الترمذي وابن ماجه والحاكم بسند حسن
فقد أمر النبي في هذا الحديث بتزويج من كان مَرْضِي الدين والخُلُقُ، وهذا يدل على أنه من كان فاسد الدين سيئ الخلق لا ينبغي تزويجه، ففيه حث على اختيار الأزواج، واعتبار المؤهلات الشرعية، وكثير من الأولياء لا يُعِير هذا الجانب اهتماما عند تزويج موليته، فلا يختار لها الرجل الذي أرشد إليه الرسول ، وإنما يختار لها الرجل الذي يهواه هو، حتى ولو كان فاسدًا في دينه، سيئًا في خلقه، لا مصلحة للمرأة من الزواج به، فكم سمعنا من مشاكل النساء اللاتي وقعن في سوء الاختيار، هذه تقول: إنها بليت بزوج لا يصلي، وهذه تقول: إن زوجها يشرب المسكرات ويتعاطى المخدرات، وهذه تقول: أن زوجها أمرها بالسفور وإلقاء الحجاب، وهذه تقول: إن زوجها يستمتع بها في غير ما أحل الله، يجامعها في نهار رمضان، أو يجامعها وهي حائض، أو في غير المحل الذي أباح الله. وهذه تقول: إن زوجها لا يبيت عندها لأنه يسهر مع الفسقة، والمسؤول عن ذلك هو وليها الذي أساء الاختيار لها، وخان أمانته عليها.
ومن المعلوم أيها الإخوة أن اختيار الولي للزوج الصالح هو اختيارٌ لصلاح البنت وأولادها، واختياره للزوج الفاسد هو اختيار أيضاً لفساد البنت وأولادها ؛ ذلك أن تأثير الزوج كبير، وهو مؤثر في تنشئة ذريته على الصلاح أو الفساد، وتنشئة الفاسد لذريته على الفساد أمر معهود كما قال تعالى: إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّواْ عِبَادَكَ وَلاَ يَلِدُواْ إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً [نوح:27] إذا علمت ذلك جيداً أيها الولي فاعلم أنك مسؤول أيضًا عن فساد موليتك وفساد ذريتها بسبب هذا الزوج الذي غششتها به وأنت تعلم أن الفاسد لا يلد إلا فاسداً في الأغلب، إلا أن يشاء الله رب العالمين.
معاشر المسلمين، ومن معايير اختيار الزوج أيضاً، الخلق الطيب كما قال تعالى: وَالطَّيّبَاتُ لِلطَّيّبِينَ [النور: 26] وأوصى النبي بقبول من اجتمعت فيه صفتان هما:الدينُ والخلقُ فقال: ((إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه)) ولما استشير النبي في ثلاثة خُطاب ذم أحدهم بأنه ((ضراب للنساء لا يضع العصا عن عاتقه)) متفق عليه.
وإذا تفاوت الرجال في الصفات فلا شك أن من أقربهم منزلة إلى قلوب الناس مرضي الدين والخلق كما أنه هو الأقرب منزلاً يوم القيامة من النبي عَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((إِنَّ مِنْ أَحَبِّكُمْ إِلَيَّ وَأَقْرَبِكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَحَاسِنَكُمْ أَخْلاقًا)).رواه الترمذي وغيره
إخوة الإسلام، ألا وإن الخلق الطيب هو من أبرز معالم الدين، ولذا قرنه النبي به فقال: ((من ترضون دينه وخلقه)) وحصر النبي البر في حسن الخلق فقال: ((البر حسن الخلق)) رواه مسلم، ويتبين بذلك أن الخلق الحسن من بدهيات الدين القويم وأساسياته، ولم نفرد الحديث عن الخلق الطيب مع دخوله في الدين دخولاً أولياً إلا لأن النبي أفرده فقال: ((من ترضون دينه وخلقه)) وذلك احتياطاً منه للنساء من الأنذال من الرجال الذين جبلوا على سوء الخلق وسيء الطباع، فيؤذون المرأة في نفسها بالضرب في الوجه وتقبيح صورتها ونحو ذلك مما يؤذي المرأة جداً.
وأمر آخر في إفراد الخلق عن الدين هو أن مفهوماً سيئاً منتشراً يقضي بأن صاحبَ الدين هو صاحبُ الخلق مباشرة دون سؤال عن خلقه، والحقيقة أنه لا تلازم بين الدين والخلق عند البعض من الناس في هذا الزمان، فكان لزاماً على كل ولي أن يسأل عن توفر الشرطين وهما الدين والخلق ولا يغني أحدهما عن الآخر خاصة في هذا الزمن الذي انتشر فيه الجهل وامتلأ بالمتناقضات.
معاشر المسلمين، ومن معايير اختيار الزوج أيضاً، حسن الهيئة في الرجل كما طلب الرجل الجمال في المرأة، وهذا أمر أيضاً جبلت النساء عليه، وأمر الله الأزواج بمراعاته وإليه الإشارة في قوله تعالى: وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِى عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة: 228] قال ابن عباس إني لأحب أن أتزين للمرأة كما أحب أن تتزين لي المرأة لأن الله يقول وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِى عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ رواه ابن جرير وابن أبي حاتم.
ومما يدل على أن النساء أيضاً فطرن على الاهتمام بمظهر الرجال ما ورد في قصة حبيبة بنت سهل عندما اختلعت من زوجها ثابت بن قيس .
فجاءت إلى النبي فقالت يا رسول الله لا يجتمع رأسي ورأسه أبداً؛ إني رفعت جانب الخباء فرأيته أقبل في عدَّة (يعني رجال) إذ هو أشدهم سواداً وأقصرهم قامة وأقبحهم وجهًا، وفي رواية (فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَاللَّهِ لَوْلا مَخَافَةُ اللَّهِ إِذَا دَخَلَ عَلَيَّ لَبَصَقْتُ فِي وَجْهِهِ).
ولكن الأمر الذي يجدر التنبيه عليه هنا هو أن المعيار عند النساء يختلف عنه عند الرجال، فالمطلوب عندهم حسن المظهر من تفوقه عليها في الطول والجسم ونحو ذلك وليس المطلوب عندهم الجمال والوسامة ونحو ذلك.
معاشر المسلمين، ومن معايير اختيار الزوج أيضاً،
أن تأخذ المرأة الرجل الذي نظرت إليه لأن ذلك أقرب للنفوس وأحرى في التوافق كما قال النبي : ((فهو أجدر أن يؤدم بينكما)) وتكون الرؤية بنفس الضوابط المتقدمة في نظر الرجل إلى مخطوبته.
ومن المعايير أيضاً، القدرة على تحقيق النفقة عليها وحوائجها، فالقدرة المالية معتبرة شرعاً، ولذلك فإن النبي لما استشارته فاطمة بنت قيس في ثلاثة نفر تقدموا لها عاب أحدهم بأنه ((صعلوك لا مال له)) متفق عليه.
ومع اعتبار القدرة المالية في النكاح إلا أنها أيضاً لا تكون مبرراً في ترك النكاح إلا عند العجز التام كما هي الحال في بعض أصحاب النبي الذين كانوا لا يجدون شيئاً من متاع الدنيا فلم يجد أحدهم خاتماً من الحديد فزوجه النبي على ما معه من القرآن كما في الصحيحين من حديث سهل بن سعد ، وزوج آخر بنعلين فعن عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنهما أَنَّ امْرَأَةً مِنْ بَنِي فَزَارَةَ تَزَوَّجَتْ عَلَى نَعْلَيْنِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أَرَضِيتِ مِنْ نَفْسِكِ وَمَالِكِ بِنَعْلَيْنِ؟)) قَالَتْ: نَعَمْ. قَالَ: فَأَجَازَهُ النبي رواه الترمذي وغيره
معاشر المسلمين، ومن معايير اختيار الزوج أيضاً: أن يكون قادراً على الإنجاب، فإذا علم أن الرجل لا يولد له، فلا تتزوجه المرأة التي تنجب لأن في هذا تفويت لوصية النبي في المكاثرة بأمته يوم القيامة، ولما فيه من الإضرار بالمرأة وفطرتها، فكل إنسان مجبول على حب الولد.
عَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ : قَالَ إِنِّي أَصَبْتُ امْرَأَةً ذَاتَ حَسَبٍ وَمَنْصِبٍ إِلَّا أَنَّهَا لا تَلِدُ أَفَأَتَزَوَّجُهَا؟ فَنَهَاهُ ثُمَّ أَتَاهُ الثَّانِيَةَ فَنَهَاهُ ثُمَّ أَتَاهُ الثَّالِثَةَ فَنَهَاهُ فَقَالَ: ((تَزَوَّجُوا الْوَلُودَ الْوَدُودَ فَإِنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمْ الأمم يوم القيامة)) رواه أبو داود والنسائي.
وهذا في حق الرجال الذين بمقدورهم الزواج من ثانية وثالثة ورابعة إذا كانت زوجاتهم لا ينجبن فكيف بالمرأة التي لا تعدد، وليس لها خيارٌ آخر إلا طلب الطلاق، فالمرأة في هذا الشرط من باب أولى لأنه ليس لها طريق إلى الولد إلا بأبغض الحلال إلى الله وهو الطلاق.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم
الخطبة الثانية
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه وصلاة الله وسلامه على أشرف المرسلين
أما بعد، معاشر المسلمين، يفرط كثير من الأولياء في أمر الخاطب ثم ينتج عن ذلك تفرق أسر وتشتتها، فكم سمعنا وقرأنا عن أسر تم عقد الزواج والترابط بينها ثم لا تلبث إلا الأيام اليسيرة أو الأشهر القليلة حتى ينحل ذلك العقد وينقلب الترابط على تفرق ؛ فترجع الفتاة على أهلها كسيرة حسيرة ثم تجلس في انتظار الطارق الآخر، وقد يطول الزمن بها، بل قد يعزف عنها الخطاب.
وبكل حال فلو بحثنا سبب ذلك التفرق فلربما يتحمل الولي جزءاً كبيراً منه، ولذا لا بد من القول بصراحة تامة: إن ذمة الوالد أو الولي لا تبرأ من الإثم حتى يخلص النصح لابنته وينتهج المنهج الشرعي في التعامل مع الخاطبين، ولا بد من التنبيه في هذا المقام على أمور مهمة باختصار لعل الله أن ييسر الوقت الذي نبسط فيه الكلام عنها:
الأمر الأول: يحصل من بعض الآباء إذا تقدم الخاطب إلى بيته أن يصم أذنيه ويغمض عينيه عن كل طارق إلا عن قريب له كائناً ما كان، صالحاً أو طالحاً، تقياً أو شقياً، لا يهمه ذلك كله إنما همه الأول والأخير أن يكون المتقدم لابنته قريباً في النسب وهذا والله من الظلم كيف يجعل ابنته وقفاً على ابن عم أو قريب لها بغض النظر عن صلاحه وحسن سيرته ؟
الأمر الثاني: لا بد من استشارة الفتاة في خطيبها وعدم إجبارها، فعليك أيها الولي أن تستشير ابنتك في خطيبها، هذا إذا كان المتقدم مرضي السيرة، أما إذا كان سيء السمعة والسيرة فلا مرحباً به ولا كرامة، بل إن من تمام المسؤلية عدم استشارتها في أمره، ويجب عليك أن تصرف ذلك الخاطب عنها.
الأمر الثالث: وقد يكون غريباً عند البعض ومستشنعاً عند آخرين، ولك الحق أحب إلى الجميع إن شاء الله.
قد يترك بيت من بيوت المسلمين لا يطرقه خاطب وقد يكون في ذلك البيت فتاة أو أكثر شاهد القول أن تلك الفتاة قد تمكث أزماناً ولم يتقدم إليها أحد أو يتقدم لها من لا يصلح فتتعذب المسكينة في داخلها لكن الحياء يمنعها من إظهار ذلك !!!
أيا ترى وفي مثل هذه الحال هل يمكن للولي أن يقوم بشيء في مصلحة ابنته ؟؟
وجواب ذلك نقول: نعم ويؤجر عليه أجراً عظيماً ويثاب عليه وله سلف في ذلك.
يمكنه أن يقوم بالبحث عن زوج يرضاه لابنته فيذكر له ذلك أو يوسط من يذكر له أن عنده فتاة في سن الزواج فلو تقدمت إليها، فإن رغب الشاب وإلا بحث عن غيره.
ولا يقال: إن هذا من العيب ونحو ذلك، دع عنك هذا الكلام واستمع إلى ما قاله الإمام البخاري رحمه الله في الصحيح: باب عرض الرجل ابنته أو أخته على أهل الخير ثم ساق خبراً فيه أن عمر بن الخطاب عرض ابنته حفصة على عثمان فلم يرغب ثم عرضها على الصديق فلم يرغب فتزوجها النبي بعد ذلك فدخلت باب التشريف، وسميت بأم المؤمنين رضي الله عنهم أجمعين.
ولما رأى صاحب مدين ما في موسى من الصفات الحسنة عرض عليه الزواج من احدى ابنتيه فقال: إِنّى أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَىَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَن تَأْجُرَنِى ثَمَانِىَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِندِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِى إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ [القصص: 27].
قال ابن باز رحمه الله تعالى: ليس من العيب أن يبحث الرجل عن زوج صالح لابنته أو أخته. أ.هـ رحمه الله.
الأمر الرابع: من براءة الذمة أن يخبر الولي الخاطب بما يكون في تلك المخطوبة من الأمور التي قد تحل عقد الزوجية إذا علم بها الزوج وذلك مثل العيب الخلقي الواضح أو المرض الخطير ونحو ذلك.
الأمر الخامس: السؤال والبحث عن حال الخاطب، وهذا من المسؤلية بمكان عظيم، فبعض الأولياء قد يتقدم إلى ابنته خاطب لم يكن عنده سابق علم به فيكتفي ببحث يسير أو معرفة عامة عن ذلك الخاطب، وهذا لا يكفي في هذا المقام، بل عليك أيها الولي أن تتحرى وتسأل حتى يتبين لك حاله أتم بيان فإما أن تقبله براحة أو ترده بقناعة.
الأمر السادس: يتهاون كثير من الأولياء في شأن الخاطب الذي يتهاون بالصلاة بحجة أن غيره كانوا على شاكلته ثم منَّ الله عليهم بالهداية، ولا ريب أن هذا من تلبيس الشيطان عليهم، وإلا فبأي وازع يسمح الولي لنفسه أن يزوج ابنته من رجل يتهاون بالصلاة؟ فمن لم يراقب الله ويقوم بما أوجب الله عليه فمن باب أولى ألا يقوم بحقوق زوجته وأولاده
ــــــــــــــــــــ(67/165)
تعليم المرأة وأقلام السوء
...
...
2441
...
الأسرة والمجتمع, العلم والدعوة والجهاد
...
...
الإعلام, التربية والتزكية, المرأة
...
عبد المحسن بن عبد الرحمن القاضي
...
...
عنيزة
...
15/1/1423
...
...
جامع السلام
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- حديث الأقلام العلمانية عن إلغاء رئاسة تعليم البنات في السعودية. 2- مكر العلمانيين ومحاولتهم إفساد المرأة بدعوة تحريرها. 3- تناسي إيجابيات الرئاسة والتركيز على بعض الهنات. 4- دور الإعلام الماكر في استغلال الحدث ونشر السموم. 5- دعة الغيورين لإنكار المنكر. 6- أحوال المسلمين في فلسطين.
الخطبة الأولى
أما بعد، فيا عباد الله اتقوا الله تعالى وتوبوا إليه.
إن البناء وإن تسامى واعتلى ما لم يُشتِّد بالتقى ينهار
تبقى صروح الحق شامخةً وإن أرغى وأزبد حولها الإعصار
قد يحصد الطغيان بعض ثماره لكن عقبى الظالمين دمار
سيل من السهام .. وزحام من الأقلام .. وظنون كاذبة .. وأراجيف مبطلة .. وفرية شنيعة.. وأكاذيب فظيعة .. ونفوسُُ مريضة أعماها الحقد وأعشاها الحنق . فانطلقت تهذي بما لا تدري وتهرف بما لا تعرف.
إذا ساء فهم المرء ساءت ظنونه وصدق ما يعتاده بالتوهم
أيها الإخوة المؤمنون، أحدهم يقول: إن قرار الدمج للتعليم بجرأته ينهي قروناً من التخلف والجهل والتشدد في مجتمعنا وينتظره قرارُُ جرئ آخر بخلط البنين مع البنات في المرحلة الابتدائية وأن تفتح للبنات النوادي الرياضية.
وكتب آخر: إنه قرار يخلِّص المجتمع من تسلط الرجل وذكوريته على المرأة في مجتمعنا، وإني أتطلع ليوم أرى فيه الوزيرات مع الوزراء.
وقالت كاتبة: ليس المطلوب إقالة رجل أو رئيس، بل المطلوب إقالة عقلية ورؤيةٍ سيطرت على مجتمعنا.
وكتب أحدهم: يجب على المسؤولين أن يضعوا حداً لهذه المغالاة والتخفيف من عقدة انفلات النساء وأن نخرج من مأزق (فُرُويْد) هذا .. وأن نتغلب عليه، كما أن غالبية العالم الإسلامي تغلًّبُوا عليها وتحرروا من تلك الشدة.
وكتب أحدهم عن هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: إن مهمة الهيئة الأمر بالموت والنهي عن الحياة.
أيها الإخوة المؤمنون، لعلًّ أسماعكم المؤمنة تثاقلت ما سمعته الآن ..!! لكنًّه كلامُ مكتوبُُ في صحفٍ .. ولم يكتب ذلك اليهود والنصارى الذين ما فتئوا يهاجموننا ويهاجمون ديننا وبلادنا وأخلاقنا بعد الأزمات الأخيرة .. لم يكتبه أقوامُُ خارج بلادنا تشبًّعوا بأفكار بعثية أو شيوعية بل هو منشور مع الأسف في صحف بلادنا وبأقلام كتابنا، أسماء إسلامية كمحمد وأمجاد وعبد الله وسعيد وداود وغيرهم، كثيرُُ ممن تفرز سطورهم مقتاً للأصيل من أُصولهم والمجيد من تراثهم يهشون للمنكر، ويودُّون لو نبتَ الجيلُ في حمأتِه.
أيها الإخوة المؤمنون، لا نقول كلامنا هذا جزافاً، وتقولاً عليهم، بل إن ما يكتب في صحفنا هذه الأيام واستغلالهم الدائم لكل تصريحٍ أو قرارٍ أو حتى مصيبة ليُثبت لنا كيف امتلأت قلوب هؤلاء حقداً على ما تمًّيز به مجتمعُنا من تماسكٍ وتكاتف ودين ميًّزه عن غيره، وكذلك ما تميًّزت به المرأة المسلمة من استقلاليةٍ تحفظ دينها وكرامتها.
إن تاريخ المرأة في الإسلام تاريخُُ حافل بالعطاء .. وسجل لها التاريخُ أروع القصص في نصرة الإسلام والمسلمين .. وكانت تشارك بدورها في حمل رسالة الإسلام والذودِ عنْه محتفظةً بعفافها .. معتزة ً بحجابها .. ملتزمةً بدينها فخورةً بحيائها .. فشاركت في بناء المجتمع .. لكن شعار تحرير المرأة المدَّعى بحداثته يريدون وأد رسالة المرأة الحقيقة وأفكارها وأخلاقها، فأصبح السفور والقدح والتحللُ والاختلاط المحرم تحريراً للمرأة.
بل ويحرف هؤلاء الإسلام وشواهده في سبيل ذلك .. ثم ترعاهم صحفنا وتقدم لهم المساحات والزوايا والأعمدة مشجعةً لهم على انحرافهم هذا .. إن تلك الطائفة من أبناء المسلمين أو من المحسوبين على الإسلام استغلوا قضية المرأة وتعليمها في بث شبهتهم وشهواتهم، فتارة يظهرون بمظهر الناصح من خلال أقوالهم وكتاباتهم، ومرة يبثون شبهتهم على أنهم يطلبون الحق في الإجابة عنها وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ [الأنفال:30]، فتراهم يبتسمون تارة، ويصمتون تارة ويتظاهرون بالتعاطف تارةً أخرى، فإذا سنحت لهم فرصة كهذه الأيام كشروا عن أنيابهم كشفوا عن قناعهم، وجاهروا بخبث مقصدهم ومرادهم، وتعلّقوا بالقادة وقرارهم .. تراهم يتقمصون شخصياتٍ عدة، ويستغلون المناسبات والقرارات لإبراز كيدهم للمرأة والمجتمع.
إنهم أشبهوا الطابور الخامس في الأمة الذي يسعى من ورائها لإفساد المجتمع .. يشوهون الحجاب ويطالبون بتطويره .. يحاربون قوامة الرجل الشرعية على المرأة .. يستغلون التعليم في الدعوة إلى خلط البنات مع الأولاد ودمجهم .. إلى غير ذلك من شبهات وشهوات في مقالاتهم المرئية والمسموعة والمكتوبة .. يجمعون أخبث الكلام وأسقطه، فإذا فضحوا خفضوا رؤوسهم ودسوها في التراب إلى حين حتى لا يعرفوا.
إن أولئك النشاز ما كتبوا كتاباتهم .. ونشروا مقالاتهم حباً للحق وطلباً له .. أو إصلاحاً لتعليم المرأة كما يزعمون أو طلباً لكوادر وظيفيةٍ لرزق المرأة كما يدعون وكما يظن ذلك بعض الجهلة ممن يحسنون بهم الظن .. إن أكثرهم أبعد ما يكون عن الحق وأهله، بل مراده شن حرب شعواء على تعاليم هذا الدين الحنيف ودعوة لدين مشوه يتلون ويتغير حسب الظروف والدين في زعم بعضهم فيه كبت للحريات، وقيد للشهوات .. وهم يدسون السم الزعاف في ثنايا كتاباتهم تلك، إن هذه الكتابات تجلب لنا الخوف والقلق من خطوة قد تأتي وراءها لأولئك الخفافيش الذين يعملون بالليل وهم لا يريدون خيراً بالأمة والمجتمع ولهم قدرة عجيبة في إلباس أهوائهم وشهواتهم ثوب الحق والعمومية وتحقيق مآربهم باسم الوطنية والمصلحة الاجتماعية وإنقاذ وضع التعليم ألا ساء ما يزعمون.
أيها الإخوة الأعزاء، إذا كانت الصحافة تلعب دوراً مهماً في المجتمع في بث المعلومات إلى الناس والمجتمع فإنها تتحمل مسؤولية كبرى أمام الله والناس بما تضخه من معلومات وتبثه من أخبار وأفكار لقرائها ومشاهديها .. والصحافة مؤشر على وعي الأمة وتتبنى قضاياها وتساند طموحها .. الصحافة الناجحة هي التي تطرح هموم الأمة وأوجاعها ورؤاها للمناقشة الموضوعية من كل الأطراف .. فلا تكيد في الخفاء وخلف السطور .. ولا تهمز ولا تلمز .. بل تحب أن تكون خير من يمثل الأمة ويبرزها خيراً في الداخل والخارج، فلسنا ضد الصحافة وإعلامها حين يكون متميزاً متديناً مكملاً للمسيرة التعليمية والتربوية في المجتمع .. لكننا نتكلم عمن خالفوا أمانة الصحافة واستغلوا حريتها ليبثوا شرهم من خلالها. كما رأيناه هذه الأيام بعد هذه القرارات حين يفسرونها تفسيرات غريبةً مستهجنةً ويحملونها ما لم تحتمل من مدلولات .. وسب وتشهير للمشايخ والمسؤولين، ساهموا بالرئاسة بعد فضل الله تعالى في تربية بناتنا وتعليمهن وتنمية وحماية ما في قلوبهم من الإيمان في عالم يتاجر بروح المرأة ويقامر بجسدها، ولا ينظر إليها ولا بوصفها سلعة تباع في أسواق الانحراف والرذيلة.
ولم تكن رئاسة تعليم البنات معصومةً من الخطأ أو مبرأةً من السلبيات، ولكن لم النظر إليها وكأنها لم تُصب قط أو لم توبخ أبداً؟إنه من الجحود بمكان والنفي والإقصاء الكريه يزعمه هؤلاء أن الرئاسة لم تقدم شيئاً فإن ما قدمته الرئاسة في الجملة هو مفخرةُُ، فنحن ننعم بنهضة تعليمية نسائية رائعة وجميلة لم تتلوث بما عانت منه مجتمعاتُُ عربية وإسلامية، وحققت نساؤنا وبناتنا إنجازات مشرفة في كل الميادين رغم كل الأخطاء.
أين الحديث أو الكتابة بمثل هذا الجهد أو الغض عن أخطاء أخرى في عدد من الدوائر المؤثرة على المجتمعات قد يكون بعضها أهم من الرئاسة، لكنه دليل لا محالة على أن هؤلاء الكتبة لا يريدون بكتاباتهم الخير والإصلاح.. كما أنهم لا حق لهم أن يشنعوا على آراء مستمدة من الشرع الحنيف ورضيها المجتمع وقبلها وعاش عليها .. كما أنه أغلب هؤلاء ليس لهم رصيد شعبي يأوون إليه، ولا علم شرعي يعولون عليه .. ومواقفهم ليست ثابتة بل متأرجحة حسب المصلحة الشخصية والمنافع المادية ومكاسب التزلف لديهم، وهم أقلية نخبوية كما يزعمون، متسلطون يدعون تمثيل الجماهير في حين أنهم لا يمثلون إلا أشخاصهم وفكرهم، اعتادوا التزمير والتصفيق المنحرف، وإذا نظرت إلى حال كثير منهم فإذا هم يبعدون عن الدين، اكتسبوا ثقتهم من الغرب الكافر.. شهواتُُ تحركهم وشبهاتُُ تعبث بعقولهم.. وأفكارُُ دخيلةٍ عششت في صدورهم فهل هذه هي أمانة الصحافة؟وهل هي مسؤولية الكلمة الملقاة على الناس والمكتوبة لهم.
أيها الأحبة، إننا حين نطالع تاريخهم الإعلامي وما يكتبونه وما يبثونه فلا تستغرب ذلك عليهم بقدر ما نستغرب حين يؤخذ بآراء هؤلاء الشذاذ ويعول عليها ويعتمد على ما يقولون فيما يهم الأمة من أمور مجتمعها وتعليمها .. نستغرب ذلك عليهم ونحن نرى أن كثيراً من الناس ممن عاش في المجتمع ورأى خيره تنطلي عليه الحيلة ويغفلون عن المكر المدسوس ضمن سطور هذه المقالات وفي ثنايا تلك البرامج، ويبدأ بعض البسطاء بالتعامل بسهولة حيال أمورٍ مهمة ومؤثرة في المجتمع لا ينكرها، ويقلل من خطرها.
نستغرب والله حين نرى تقصير الخيرين عن إبداء وجهة نظرهم والكتابة عنها والرد المفحم على هذه الكتابات، لاسيما وبعضهم قادر على الكتابة والإجادة فيها، ثم هم يقصرون في ذلك مما ترك المجال مفتوحاً أمام هذا الركام الشنيع الذي تمتلئ به صحفنا، نستغرب ونحن نرى صراخ وضجيج المنابر الإعلامية المحتكرة التي تسيطر عليها الأقلية، حين يلغي هذا كله رأي الخيرين والصالحين في المجتمع ويمنع بعضهم من قول كلمة الحق والنصح للمسؤول، نستغرب حين يكتب هؤلاء كل ذلك ويفتون تطاولاً على الدين ويستهزئ بعضهم بشيء من شعائر الإسلام صراحةً أو ضمناً ثم لا يجدون محاسبة ولا محاكمة ولا إيقافاً أو منعاً، هذا إن لم تقم بعض الصحف بتكريمهم وصرف الأوسمة والجوائز لهم، فإلى الله المشتكى من كيد الفاجر وضعف وعجز المؤمن.
أيها المؤمنون، إن المسؤولية العظمى تقع على عاتق كل واحد منا في أن يحدد دوره ويبدي رأيه الموافق لشرع الله وألا يكون كثيرُُ منا سلبياً في حياته، لا هم له إلا مأكله ومشربه ومنامه وأمور دنياه فإذا لم يمس من ذلك شيء سكت وكأن التطاول على الدين والخلق لا يهمه في قليل أو كثير.. أين دورنا في الرد على هؤلاء وتنبيه المسؤولين على خطرهم المحدق بالأمة والمجتمع.. و لنعلم أننا محاسبون والله على التقصير وأن خطر هؤلاء الذين يجوسون خلال الأمة بأفكارهم وكتاباتهم التدميرية ليس متعلقاً بهم وحدهم بل ستنالنا العقوبة إن سكتنا عن إنكاره وكما جاء في الحديث الحس عن الترمذي والبيهقي عن حذيفة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقاباً منه فتدعونه فلا يستجيب لكم)).
أيها الإخوة في الله، إن الحصن الحصين، والدرع الواقي، والسياج الحامي بإذن الله من كل هذه الدعوات للإفساد والفساد المبطنة والظاهرة والمستقبلة هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إنه الوثاق الذي تتمسك به عرى الدين، وتحفظ به حرمات المسلمين، يحمي أهل الإسلام من نزوات الشياطين ودعوات المبطلين، بفشّوه وتأييده تظهر أعلام الشريعة في البلاد، ويكون السلطان لأحكام الإسلام على العباد.
إنه مجاهدة دائبة دائمة، يقوم بها كل مسلم حسب طاقته في بيته وسوقه وفي كل مرفق، يقوم من أجل بقاء أعلام الدين ظاهرةً والمنكرات قصية مطمورة، وهو فيصل التفرقة بين المنافقين والمؤمنين الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُواْ اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [التوبة:67]، ثم يقول ربنا جل وعلا بعد ذلك بآيات: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصلاةَ وَيُؤْتُونَ الزكاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [التوبة:71].
إن بارتفاع راية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يعلو أهل الحق والإيمان وينحسر أهل الباطل والفجور، ولا يضعف هذا الركن العظيم إلا حين تستولي على القلوب مداهنة ومجاملة الخلق، وتضعف مراقبة الخالق، ويسترسل الناس في الهوى وينقادون للشبهات.
أيها الإخوة المسلمون، إن أملنا في الله عظيم وتوكلنا عليه كبير في أن يحمي مجتمعنا من غوائل السوء، وأن يحفظ نساءنا من المكر المبيت لهن والمسوق عبر ما نراه ونسمعه ونقرأه هذه الأيام قبل ذلك من أطروحات لا تلبث أن تظهر بين فنية وأخرى، وإننا على ثقة بإذن الله أن بلدنا ومجتمعنا الذي نشأ على الدين وارتضاه منهجاً وسياسة وشرعاً سيقف درعاً حصيناً أمام كل الهجمات عليه الظاهرة والخفية .. وإن علة العلل وأسوأ الأدواء حين يتطرق اليأس إلى بعض القلوب فيصبح أصحابها مخذلين في المجتمع ومتخاذلين عن الإصلاح.
ورجاؤنا في الله كبير أن قيادة بلدنا التي ارتضت الدين شعاراً والعقيدة الربانية منهجاً ستكون مع علماء البلاد وصلحائها مفتاحاً لكل خير مغلاقاً لكل شر ومعدلة لكل خطاً ومحاسبة لكل من سخر قلمه وإعلامه للنيل من خير هذه البلاد ودينها وشعبها .. وإن دعوات الشر والإرجاف والفتنة لن تؤثر علينا مادمنا متمسكين بدين الله راضين بمنهجه القويم في كل ميادين الحياة .. وليعلم الحاقدون أنهم خاسرون بإذن الله في مجتمعنا وبلادنا التي انطلق منها الإسلام ناشراً لواءه في سائر البلاد وهي مأرز الإسلام ومأواه .. ولكن الله غالب على أمره ولن يصلح عمل المفسدين بحوله وقوته.
اللهم إنا نسألك أن تحفظ بلادنا وبلاد المسلمين من شر الأشرار وكيد الفجار، اللهم من حارب الإسلام بقلمه أو لسانه فأبطل كيده، واكف المسلمين شره .. اللهم احفظ نساءنا وبناتنا من كل من أراد بهن كيداً أو سوءً وفتنة واختلاطاً واجعل كيده في نحره واجعل تدبيره سبباً في تدميره إنك سميع مجيب.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْواهِهِمْ وَمَا تُخْفِى صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الاْيَاتِ إِنْ كُنتُمْ تَعْقِلُونَ [آل عمران:118].
الخطبة الثانية
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده نبينا محمد عليه وعلى آله وصحبه أفضل الصلاة وأزكى التسليم أما بعد فيا عباد الله اتقوا الله تعالى وتوبوا إليه.
أحديث اللسان يجدي وينفع وحديث العدو سيف ومدفع
و دوي الرشاش يسمع في الكون وقول الخطيب ما عاد يسمع
باطل لليهود قد حفظوه لهف نفسي والحق فينا يضيع
أيها الأحبة، اليوم صباحاً إخوانكم في فلسطين محاصرون في بيوتهم ومدنهم ومخيماتهم..
اليوم صباحاً توغل اليهود بدباباتهم وأسلحتهم واستدعوا جيشهم في مدن رام الله ونابلس والبيرة وطولكرم والدور على الباقي.
اليوم يتوعد الصهاينة إخوانكم في الدين هناك بحرب شعواء تطالب الشعب ورئاسته ومقدراته وبنيته التحتية، اليوم وليس غداً، إخوانكم هناك في ثغور دائمة مطيبين بالكفاح مثخنين بالجراح.
اليوم الدماء مهدرة .. والبيوت مهدمة .. الجرحى يتساقطون في الشوارع كما ذكرت ذلك الوكالات، ولا أحد ينقذهم أو يسعفهم.. أطفال أبرياء يقتلون .. وسيدات مسنات تذبح ومساجد تدنس.. ويهود متسلطون.. والله إن الخطب جسيم .. والمأساة أليمة .. ونحن والله ثم والله ثم والله مسؤولون عن مناظر القتل والحصار التي يمارسها الصهاينة، وكثير منا لا يحرك ساكناً، فهل هذا هو الشعور بالأخوة الإسلامية بل العربية، هل يعقل أن يتحرك البوذيون أو الأوربيون لاستنكار ما حدث ثم ترى العرب والمسلمين لا يحركون ساكناً .. إن إخواننا في فلسطين يؤدون عنا الواجب بنصرة إخوانهم وحماية المقدسات ثم نحن نقصر بدعمهم بالمال ..حتى الدعاء بخلنا به حتى القنوت في المساجد تركه كثير منا بالرغم من الأمر به من ولاة الأمر فأي ذلة وخورٍ هذا الذي نراه.
وإن عمل الصهاينة هذا لهو أكبر رد على ما يسمى بمشروع السلام العربي ووضح لنا أن اليهود قوم جبناء لا يهمهم من السلام إلا ما يتوافق مع مصالحهم وما يسوق بضائعهم وتجارتهم فهل نعي ذلك؟!
هل نعي الدور الإجرامي القذر الذي يمارسه الصليبيون في دولة تسمى زوراً راعية السلام (أمريكا) وهي تقر اليهود وتسمح لهم بكل تلك الممارسات؟
أيها الإخوة، ما بالكم .. أين غيرتكم .. أين حسكم .. أين الشعور بالجسد الإسلامي الواحد.. أين عاطفتكم، ألا تتحرك وهي ترى هذه الدماء، وهذه التهديدات والله إننا نخشى أن يعمنا الله بعقوبة من عنده ونحن نتلهى عن مصاب إخواننا هذا اليوم وقبله وبعده .. وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرّجَالِ وَالنّسَاء وَالْوِلْدانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَاذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَّنَا مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً وَاجْعَلْ لَّنَا مِن لَّدُنْكَ نَصِيراً الَّذِينَ ءامَنُواْ يُقَاتِلُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يُقَاتِلُونَ فِى سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُواْ أَوْلِيَاء الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً [النساء:75، 76].
اللهم بارك بالقرآن العظيم وانفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم وصلوا عباد الله وسلموا على خير البرية وسيد البشرية كما أمركم الله بذلك حيث قال عز من قائل عليماً: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىّ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56]، اللهم صل وسلم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
ــــــــــــــــــــ(67/166)
الإسلام بين الثوابت ودعاوي التطوير
...
...
2449
...
الأسرة والمجتمع, العلم والدعوة والجهاد
...
...
المرأة, محاسن الشريعة
...
عبد الباري بن عوض الثبيتي
...
...
المدينة المنورة
...
22/1/1423
...
...
المسجد النبوي
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- اتصاف الإسلام بالثبات والخلود والمرونة. 2- ثوابت الإسلام. 3- مظاهر عنصر الثبات في الأمة. 4- كثرة الدعوات إلى التغيير والتطوير والتقدم. 5- معنى التطور وحقيقته. 6- الدين الحق لا يمنع التطور النافع. 7- التطوير الحق. 8- التطوير الباطل. 9-ما وراء هذه الدعوة. 10- الأهداف التي ينبغي مراعاتها في كل تقدم. 11- مأساة فلسطين.
الخطبة الأولى
أما بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله، قال تعالى: ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران:102].
إن الإسلام الذي ختم الله به الشرائع والرسالات السماوية أودع الله فيه عنصر الثبات والخلود وعصر المرونة، وهذا من واقع الإعجاز في هذا الدين، وآية من آيات عمومه وخلوده وصلاحيته لكل زمان ومكان.
فمن الثوابت التي لا تقبل التطوير ولا الاجتهاد ولا الإضافة مسائل الإيمان والعقائد، فصفات الله سبحانه والملائكة والجنة والنار واليوم الآخر وعذاب القبر وغير ذلك من مسائل الغيب لا تقبل الإضافة مطلقاً. والصلوات من فرائض ونوافل لا تجوز الزيادة فيها على المشروع، فلا جديد على الصلاة والصوم والزكاة والحج.
ومن الثوابت في حياة الأمة المحرمات اليقينية من السحر وقتل النفس والزنا وأكل الربا وأكل مال اليتيم وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات والسرقة والغيبة والنميمة.
ومن الثوابت أمهات الفضائل من الصدق والأمانة والعفة والصبر والوفاء بالعهد والحياء.
ومن الثواب أن الإسلام قد حرص على إقامة مجتمع العفاف والطهر، وقضى على انحرافات الجاهلية، فمنع الاختلاط ودواعيه، وحرم الخلوة بالمرأة الأجنبية ومصافحتها، وحث على غض البصر، وأمر بلباس شرعي ساتر للمسلمة.
ومن الثوابت الأحكام القطعية في شؤون الأسرة والمجتمع التي ثبتت بالنصوص المحكمة، مثل إباحة الطلاق وتعدد الزوجات وإيجاب النفقة على الزوج وإعطائه درجة القوامة على الأسرة، فلا يسوغ لأحد تقييد الطلاق وتقييد تعدد الزوجات والدعوة إلى الاختلاط وترك الحجاب بحجة تحرير المرأة والتمدن والتحضر والاستنارة.
ومن الثوابت أن مبادئ ومناهج وأساليب التربية مستقاة من شريعة الله، والتي من شأنها أن تصوغ كل جيل يعتنقها من أجيال البشرية صياغةً ربانية، تكفل له السعادة.
ومن الثوابت أن الرجل والمرأة في ميزان الإسلام جناحان لا تقوم الحياة ولا ترقى إلا في ظل عملية مواءَمة بينهما، فالله خلق المرأة للمهمة ذاتها التي خلق من أجلها الرجل، قال تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56].
المرأة في ميزان الإسلام كالرجل، فرض الله عليها القيام بالتكاليف الشرعية، لها أن تتعلم ما ينفعها من علوم الدنيا والآخرة.
ومن الثوابت أن الخالق جل وعلا زوّد كلاً من الرجل والمرأة بخصائص تتوافق والمهمة التي يقومان بها، وجعل فروقاً بينهما، فالمرأة تختلف عن تكوين الرجل في بنائها الجسمي وتكوينها الجسدي، ومما تتميز به خصائص الأنوثة سرعة الاستجابة، رقة العاطفة، غلبة الحياء، كثرة الخجل، قلة التحمل، والظروف الطارئة الطبعية، اقتضت حكمة العليم الخبير ذلك، لتؤدي دورها المرسوم في الحياة بما يتلاءم مع فطرتها، والزجّ بها في الميادين الخاصة بالرجل انتكاسة للفطرة ومصادمة للواقع خِلقةً وحكماً وشرعاً.
عنصر الثبات يتجلى في رفض المجتمع المسلم للعقائد والمبادئ والأفكار والقيم والشعارات التي تقوم عليها المجتمعات الأخرى غير المسلمة؛ لأن مصدرها غير مصدره، وجهتها غير وجهته، وسبلها غير صراطه، ولذلك حرص رسول الله على تميّز المسلمين في كل شؤونهم عن مخالفيهم، فتميّز المجتمع المسلم أمر مقصود للشارع.
من الثوابت أن الإسلام لا يمكن تجزئته، فلا بد أن يؤخذ كله كما أمر الله، عقيدةً وعبادة، أخلاقاً ومعاملةً، تشريعاً وتوجيهاً. الإسلام ليس مجرد عقيدة بلا عبادة وعمل، وليس عبادة بلا أخلاق، أو أخلاقاً بلا تعبد، وليس عقيدة وعبادة وأخلاقاً بلا تشريع ونظام يسود الحياة.
نتحدث عن الثوابت في حياة الأمة لأننا في عصر حفل بألوان من العلوم والمعارف راجت فيه مفاهيم متنوعة وتصورات مختلفة، عصرٌ يموج بالأحداث الجسام والأطروحات المستجدة، وبرز التأثير فاعلاً، فقد التقى العالم مشرقه بغربه، وجنوبه بشماله، ولا يكاد يمر يوم ولا تمر ساعة بل ولا تمر لحظة لا يُذكر فيها لفظ التغيير والتقدم والتطور، من أقصى الأرض إلى أقصاها الآخر، وغدت قضية التطوير القضية كبرى في حياة المسلمين.
التطور هو التحول من طور إلى طور، وفي القرآن الكريم قال تعالى في سورة نوح: وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً [نوح:14]. والتطور لغوياً هو الانتقال من طور إلى آخر، وقد يكون من سيئ إلى حسن أو العكس.
وفي عصرنا اختلط مفهوم التطور بفكرة الارتقاء إلى الأفضل، فصار التطور يعني التقدم. أما في ميزان الإسلام فالتغير والتطور والتقدم معان قد تكون باتجاه الأحسن، وقد تكون باتجاه الأسوأ، فهذه البنية الجسدية مثلاً في سن الكهولة تستمر في تطورها نحو الشيخوخة ثم الموت.
إن الدين الحق ـ عباد الله ـ لا يمكن أن يقف ضد التطور النافع السائر في إطار الشريعة، ولهذا لا عجب أن تجد الإسلام يحث على العلم النافع والعمل والحركة، لا عجب أن نجد كتاب الإسلام الخالد يحدثنا في قصة آدم عليه السلام عن العلم، وفي قصة نوح عن صناعة السفن، وفي قصة داود عن إلانة الحديد، يحدثنا عن التخطيط الاقتصادي في قصة يوسف، وعن صناعة السدود في قصة ذي القرنين، ويقرّ الرسول نتائج الملاحظة والتجربة في شؤون الحياة كما في مسألة تأبير النخل فيقول: ((أنتم أعلم بأمور دنياكم))[1].
هذا هو الإسلام، لا يعوق سير الحياة، ولا يؤخر نموها، بل فيه الدافع الذي يحفز على السعي والحركة مع الضمان أن تضل أو تنحرف عن الطريق.
إن التحديث الحق والتطور النافع هو السعي للتقريب بين واقع المجتمع المسلم في كل عصر وبين المجتمع النموذجي الأول الذي أنشأه رسول الله ، يكون ذلك بإحياء مفاهيم ذلك المجتمع وتصوراته للدين، يكون ذلك بإحياء مناهج في فهم النصوص وبيان معانيها، يكون ذلك بإحياء مناهج في تدوين العلوم والتعلم واقتباس النافع الصالح من كل حضارة وتنقية المجتمع من شوائبها. أما مفهوم التحديث والتجديد الخاطئ فهو ذلك المفهوم الذي يقدَّم فيه الإسلام خليطا من مبادئ غير المسلمين.
إن مما أرهق المسلمين وأساء إلى الإسلام هو الانحراف مع دعوى التطوير في ثوابت الدين، وركائز الإسلام في العقيدة والقيم، مما ينتهي بالأمة لو استجابت لها إلى الانسلاخ من العقيدة والتحلل من الأخلاق والذوبان في الثقافات البشرية الأخرى.
والأدهى ـ عباد الله ـ أن يُنظر إلى ما له صلة بالدين وهدي المرسلين أنه رجعي قديم يجب التحلل منه لمسايرة ركب الحضارة ـ زعمواـ. إن من رجع بأفكاره وعقيدته إلى الجيل الأول لا يُعد رجعياً، بل هو مسلم صادق يطلب الطهر والعفاف، وهنا تتبين مسألة شرعية أن رمي المسلمين بالرجعية لأنهم تمسكوا بشريعة رب العالمين ردّة عن الإسلام.
إذا كان التقدم والتطور والتغير على زعمهم نبذ الخلق والفضيلة وتسهيل مسلك الرذيلة فبئست هذه التقدمية، فليس كل تقدم محموداً. والتقدم نحو السلب والنهب والعري والخمر والفسق والفجور، التقدم لنبذ الفضيلة وارتكاب الرذيلة لا يُعد محموداً، التقدم نحو تهييج الشهوات وإثارة الأهواء وتقوية النفس الأمارة بالسوء تقدم نحو الدمار والهلاك.
فقضية التقدم تكشفه غاية مسيرته، فإن كانت الغاية سعادة وخيراً كان التقدم فضيلة وعقلاً، وإذا كانت الغاية شقاء وشراً كان التقدم رذيلة وجهلاً.
من الأمور المنكرة ـ عباد الله ـ تحت شائر التقدم والتطور والتنوير تبرير قيم غير المسلمين باسم سماحة الإسلام وتطوير الإسلام وانفتاحه أو تطوير الشريعة الإسلامية، ولا ريب أن باب الاجتهاد مفتوح للعلماء المجتهدين الربانيين فحسب، إلا أن هناك قواعد كلية لا يجوز الاجتهاد فيها، وأصولاً ثابتة لا تتغير بتغير الزمان.
كل الأمم تبتغي الرقي والنجاح، ولخصوصية الأمة الإسلامية فإن نجاحها ورقيها بمستجدات العصر العلمية والعملية لا يكمن في أنها استطاعت أن تفعل ما يفعله الآخرون، وإنما في قدرتها على الانفتاح على الآخرين، مع ضبط حركتها على الكتاب والسنة، وتحقيق واجب الاتباع، مع صياغة و[تأطير] ما تقتبسه بما يلائم خصوصيتها، فتعطي الأولوية للدين على الدنيا، وللمبدأ على المنافع الدنيوية، وللجوهر على المظهر، وللنمو الإيماني على النمو المادي، فنحن لا شيء بلا عقيدة، وأساس التطور النافع والتقدم الصحيح ترسيخ العقيدة والقيم والأخلاق، وهذا يعني أن نُعدّ المسلم التقي النقي المتعلم؛ لا الإنسان المتساهل بشأن المحرمات، المضيع للواجبات، الذي ينطلق في علمه وتعلمه بلا ضوابط ولا أطر شرعية، ونُعِدّ المسلمة التقية النقية المتعلمة في محضن يعتزّ بالحجاب، ويأبى الاختلاط، وتصان فيه كرامتها، ويُكرم عفافها، ويحفظ عرضها، بتربية وتعليم ومناهج تتلاءم مع فطرتها وأنوثتها. فهي جوهرة مكنونة، ودرة مصونة، هي أم، هي زوجة، هي صانعة رجال ومربية أجيال.
إن قيمنا الراسخة المستمدة من الكتاب والسنة هي الضمان الأوحد لإعداد جيل المستقبل، وإن البعد عن الصراط المستقيم تنكُّب للطريق، حتى لو قلنا: إنه مسايرة لطبيعة العصر الحديث. هناك فرق شاسع في المفهوم الانفتاحي على الآخرين وتبعية الأمة، ذلك أن عزة الأمة تأبى التبعية كي لا تذوب في المجتمعات الأخرى، وتتبع أهواءها، ولا تقلدها ولا تتشبه بها، فتفقد بذلك أصالتها وشخصيتها المتميزة، فيضيع الدين والدنيا معاً.
أليس قد أنيط بهذه الأمة مهمة إنقاذ البشرية من سُعار الحضارة المادية؟! إنها لن تستطيع ذلك إذا أصابها هي من شررها وشرورها ما أصاب الآخرين من أدواء المادية والإباحية.
أليست هذه الأمة مطالبةً بأن تقدم البديل للحضارة المعاصرة؟! إنها لن تستطيع ذلك إذا هي قلدت غيرها، واتخذتها مثلَها الأعلى، واتبعت سننها شبراً بشبر وذراعاً بذراع.
أي نمو وتقدم للمجتمعات المسلمة يُعدّ محموداً إذا كان يحقق الأهداف الأساسية لحياة المسلم، وأبرزها: العبادة لله رب العالمين، خلافة الله في الأرض، عمارة الأرض. وبقدر ما يحقق الإنسان هذه المقاصد أو الأهداف يُعد تقدمه حقاً ونافعاً، قال تعالى: ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْاْ عَنْهُ وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ قَالُواْ سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ إِنَّ شَرَّ الدَّوَابّ عِندَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْء وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِى الأرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مّنَ الطَّيّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُون [الأنفال:20-26].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه مسلم في الفضائل (2363) من حديث عائشة وأنس رضي الله عنهما.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، أحمده سبحانه وأشكره ولي الصابرين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله إمام المتقين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فاتقوا الله حق التقوى، وراقبوه في السر والنجوى.
حين نتحدث عن فلسطين والأقصى نجد أنفسنا أمام مأساة تعجز الكلمات عن وصفها، اختلطت فيها العبرات بالعبارات.
عم نتحدث؟ عن شعب أعزل يواجه مجزرة جماعية بشعة، أم عن أقصى ينتهك، أم عن صمت عالمي، أم عن حقوق مضيَّعة، أم عن أمة مخدّرة، أم عن إرهاب أهوج لا مثيل له.
إن المؤامرة على المسجد الأقصى وفلسطين أولى القبلتين مسرى رسوله أصبحت حقيقة واقعة ظاهرة للعيان، تتسارع خطواتها يوماً بعد يوم، بل لحظة بعد لحظة. وكل مسلم مطالب بأن تكون له سُهمةٌ في إيقاظ الأمة، كل مسلم مطالب بأي عمل يخدم قضية القدس والمسجد الأقصى، ورفع الظلم عن الشعب المسلم، ودعم صمود المسلمين في فلسطين والقدس.
ومع ذلك نعلم يقيناً أن قضية فلسطين لن تموت؛ لأنها عقيدة في قلب كل مسلم، فهل سمعتم أو هل قرأتم عن عقيدة يحملها في قلبه ألف مليون يمكن أن تموت؟! إن الناس يموتون في سبيل العقيدة وما ماتت عقيدة من أجل حياة إنسان.
القدس وفلسطين أرض الإسراء والمعراج بذل فيها المسلمون دماءهم وتضحياتهم، وقدموا ملايين الشهداء منذ فجر الإسلام، وما زالوا. وإنك لتعجب اليوم لتلك البسالة المستميتة والمقاومة العنيدة والتضحية البليغة، فئةٌ مؤمنة وفتية صابرة وهبت حياتها وكل ما تملك لقضيتها، وهي من بشائر النصر التي نرقبها تشرق من رحم المأساة.
ــــــــــــــــــــ(67/167)
واجب الآباء نحو الأبناء في الغرب
...
...
2454
...
الأسرة والمجتمع, العلم والدعوة والجهاد
...
...
الأبناء, التربية والتزكية, المسلمون في العالم
...
أحمد بن عبد الكريم نجيب
...
...
دبلن
...
15/1/1423
...
...
مسجد دبلن
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- أهمية اختيار الزوجة الصالحة. 2- تربية الأبناء واجب شرعي. 3- هدي النبي صلى الله عليه وسلم في تربية الأطفال. 4- واجب من تربية الأبناء وبذل المستطاع في ذلك. 5- خطر وجود الأبناء في مدارس نصرانية. 6- الحزبية المقيتة التي تنتشر بين المسلمين.
الخطبة الأولى
أما بعد:
أمّة الإسلام، إن ممّا ابتلينا به وأُلجِئنا إليه لسبب أو لآخر، أن نعيش غرباء في مجتمعات ننكر فيها أكثر ممّا نقر، فتجتمع علينا غربة الدار وغربة الدين، في زمن الضعف والدعة الذي آلت إليه أمّتنا .
وانطلاقاً من يقيننا في أنّ صلاح آخر هذه الأمّة لا يكون إلا بما صلح به أوّلها، وأن السبيل إلى ذلك هو التربية والتخلية والتحلية، لبناء مجتمع مسلم مؤهل للتمكين في الأرض، نرى لزاماً علينا أن نحرص على أولى لبنات هذا المجتمع، وهو الأسرة التي تصلح بصلاح أفرادها وتفسد بفسادهم .
وأوّل ما يجب على المرء لإقامة تلك اللبنة اختيار الأم ذات الدين، لقوله صلّى الله عليه وسلّم: ((اظفر بذات الدين تربت يداك)).
تُرجى النساء لأربعٍ في ذاتها فيها المناقب والمثالب والبَلا
في الدين أوّلها تليه نضارة في الوجه أو مالٌ وأصلٌ في المَلا
فإذا ابتغيتَ من الأنام حليلةً فاظفَر بذات الدينِ شرطاً أوّلا
وإنّ أعظم مسؤوليات المسلم تجاه أسرته بعد اختيار الزوجة تكمن في تربية أبنائه التربية الصالحة، ورعايتهم الرعاية الشرعيّة التي كلّفه الشارع بها، وهذا مضمار ابتلاء وامتحان للعباد، لا يجوزه إلا من وفقه الله وأراد به خيراً .
قال تعالى: إِنَّمَا أَمْوالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ [التغابن:15]، أي سبب في امتحان آبائهم واختبارهم.
وفي حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها المتفق على صحته يقول المصطفى صلى الله عليه وسلّّّم: ((من ابتلي من هذه البنات بشيء فأحسن إليهن كُنّ له ستراً من النار)).
وتأمل قوله: ((من ابتلي من هذه البنات بشيء))، قال القرطبي في تفسيره: "سماهن بلاءً لما ينشأ عنهن من العار أحياناً".
ومن أراد النجاة، سلك سبلها، ومن سبلها الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلّم ولزوم غرزه في تربية الناشئة، وتعاهدهم بالعناية والرعاية .
ومن ذلك تهيئة الطفل لما ينبغي أن يكون عليه، أو يصير عليه في كبره كالقيادة والريادة والإمامة، وكفى دليلاً على ذلك تأمير رسول الله صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد ذي السبعة عشر ربيعاً على جيش يغزو الروم في بلاد الشام، وفيه كبار الصحابة كأبي بكر وعمر رضي الله عنهم أجمعين، وبعثه معاذ بن جبل رضي الله عنه أميراً على اليمن وهو في التاسعة عشرة من العمر .
ومن هذا القبيل ما يدل عليه ما رواه البخاريّ في صحيحه عن عمرو بن سلمة رضي الله عنه أنه قال: لَمَّا كَانَتْ وَقْعَةُ أَهْلِ الْفَتْحِ بَادَرَ كُلُّ قَوْمٍ بِإِسْلاَمِهِمْ، وَبَدَرَ أَبِي قَوْمِي بِإِسْلاَمِهِمْ، فَلَمَّا قَدِمَ قَالَ: جِئْتُكُمْ وَاللَّهِ مِنْ عِنْدِ النَّبِي صلى الله عليه وسلم حَقًّا، فَقَالَ: ((صَلُّوا صَلاَةَ كَذَا فِي حِينِ كَذَا، وَصَلُّوا كَذَا فِي حِينِ كَذَا، فَإِذَا حَضَرَتِ الصَّلاَةُ، فَلْيُؤَذِّنْ أَحَدُكُمْ، وَلْيَؤُمَّكُمْ أَكْثَرُكُمْ قُرْآناً)) . فَنَظَرُوا فَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ أَكْثَرَ قُرْآناً مِنِّي، لِمَا كُنْتُ أَتَلَقَّى مِنَ الرُّكْبَانِ، فَقَدَّمُونِي بَيْنَ أَيْدِيهِمْ، وَأَنَا ابْنُ سِتٍّ أَوْ سَبْعِ سِنِينَ وَكَانَتْ عَلَيَّ بُرْدَةٌ، كُنْتُ إِذَا سَجَدْتُ تَقَلَّصَتْ عَنّي، فَقَالَتِ امْرَأَةٌ مِنَ الْحَيِّ: أَلاَ تُغَطُّوا عَنَّا إسْتَ قَارِئِكُمْ . فَاشْتَرَوْا فَقَطَعُوا لِي قَمِيصاً، فَمَا فَرِحْتُ بِشَيءٍ فَرَحِي بِذَلِكَ الْقَمِيصِ.
فانظروا رحمكم الله كيف حفظ من أفواه الركبان قسطاً من كتاب الله فاق ما حفظه بنو قومه رغم تلقيهم عن خير الخلق صلى الله عليه وسلّم، والأغرب من ذلك أنّه تصدّر لإمامة قومه في الصلاة رغم حداثة سنّه إلى حدّ لا يُعاب عليه فيه انحسار ثوبه عن سوأته .
ومن هديه صلى الله عليه وسلم في تربية الأطفال: تعويدهم على فعل الخيرات، ومنه ارتياد المساجد للصلاة والتعلّم والتعبد.
روي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قوله: (حافظوا على أبنائكم في الصلاة، وعوّدوهم الخير فإنّ الخير عادة).
ولهذا القول ما يؤيده في السنّة فقد روى ابن ماجه بإسناد صحيح عن مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ رضي الله عنهما عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: (( الْخَيْرُ عَادَةٌ وَالشَّرُّ لَجَاجَةٌ، وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ في الدِّينِ)).
وقد ورد في السنّة ما يدل على مشروعية تعويد الصغار على الصيام وصلاة الجماعة واصطحابهم للحج صغاراً ومن ذلك: روى الشيخان عَنِ الرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذٍ قَالَتْ أَرْسَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم غَدَاةَ عَاشُورَاءَ إِلَى قُرَى الأَنْصَارِ: (( مَنْ أَصْبَحَ مُفْطِراً فَلْيُتِمَّ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ، وَمَنْ أَصْبَحَ صَائِماً فَلْيَصُمْ)). قَالَتْ: فَكُنَّا نَصُومُهُ بَعْدُ، وَنُصَوِّمُ صِبْيَانَنَا، وَنَجْعَلُ لَهُمُ اللُّعْبَةَ مِنَ الْعِهْنِ، فَإِذَا بَكَى أَحَدُهُمْ عَلَى الطَّعَامِ أَعْطَيْنَاهُ ذَاكَ، حَتَّى يَكُونَ عِنْدَ الإِفْطَارِ.
قال ابن حجر: "في الحديث حجة على مشروعيّة تمرين الصبيان على الصيام".
- ومن هديه عليه الصلاة والسلام أيضاً ربط الأبناء بالمساجد وتوجيههم إليها، بل كان يذهب أكثر من ذلك فيتجوز في صلاته مراعاة لحال الصبية الذين تصطحبهم أمهاتهم إلى المسجد .
روى البخاري في صحيحه عَنْ أَبِي قَتَادَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ((إِنِّي لأَقُومُ فِي الصَّلاَةِ أُرِيدُ أَنْ أُطَوِّلَ فِيهَا، فَأَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ، فَأَتَجَوَّزُ فِي صَلاَتِي كَرَاهِيَةَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمِّهِ)) .
فالمسجد إذاً روضة يجتمع فيها الصغير والكبير ويرتادها الرجل والمرأة، وإن كان بيت المرأة خير لها، وقد كان السلف الصالح رضوان الله عليهم في ارتيادها يستبقون الخيرات فيذكرون ربهم، ويأخذون العلم عن نبيهم الذي قال: ((من جاء مسجدنا هذا يتعلم خيراً أو يعلمه، فهو كالمجاهد في سبيل الله))، وهذا حديث حسن بشواهده: أخرجه ابن ماجه وأحمد وابن حبان في صحيحه والحاكم في المستدرك، وقال عنه: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ؛ فقد احتجا بجميع رواته، ولم يخرجاه، ولا أعلم له علة .اهـ .
لذلك كان المسجد المدرسة الأولى، والجامعة الأم التي تنشر العلم، وتشيع المعارف بين الناس، وهو المكان الأفضل والأمثل لهذا المقصد العظيم، وينبغي أن لا يعدل به شيءٌ في تعليم الناس والدعوة إلى الله إلا لضرورة.
وما تنكبت الأمة ولا امتهنت علوم الشريعة، ولا جفت منابعها إلا بعد أن أغفل دور المسجد في التعليم.
أيها المسلمون، إن المسؤولية تقع على كواهلنا جميعاً، فعلى البيت مسؤولية، وعلى المدرسة ومناهج التعليم فيها مسؤولية، وعلى الإعلام والقائمين عليه مسؤولية، وعلى البيئة والمجتمع مسؤولية .
وليس في تقصير البعض ما يبرر إعراض الآخرين عن القيام بالواجب أو تقصيرهم فيه، لأن الخطأ لا يبرر خطأً آخر .
وإذا كان الوالدان من الصالحين فاجتهدا في تربية أبنائهما تربية ترضي الله سبحانه، خرّجا جيلاً سويّاً رشيداً، أمّا إن قصّرا في ذلك فربّما تمخّض غرسهما عن عاق أو معوّق ينحرف عن الطريق، ويصير وبالاً على نفسه وأسرته ومجتمعه .
ولا يتعارض هذا مع قوله تعالى: يُخْرِجُ الْحَىَّ مِنَ الْمَيّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيّتَ مِنَ الْحَىّ [يونس:31]، الذي قيل في تفسيره: إن الله تعالى يُعقب الكافر بابن مؤمن، والفاسق بابن صالح، كما قد يُعقِب الصالح والمؤمن بابن فاسق أو كافر .
وبرهان ذلك جليٌّ واضح في قصة نبي الله نوح عليه السلام وابنه الذي كابر وأصر على الكُفر حتى مات عليه، وكان من الهالكين .
فتحمّل أخي المسلم مسؤوليتك كاملةً وكن لابنك كما كان نبيّك لأولاده وأولاد المسلمين، أباً رحيماً ومربّياً حكيماً.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو التوّاب الرحيم .
الخطبة الثانية
أما بعد:
إخوة الإسلام، لو عُدنا إلى واقعنا المعاصر، ووضعنا أيدينا على موطن المعاناة وسبب البلاء، لوجدنا أنّ لإقامتنا في مجتمع غربي الثقافة، مادي النزعة، فاسد العقيدة ثمن باهظ ندفعه، وأثر سيءٌ في تربية أبنائنا شئنا أم أبينا .
وهنا لا بد من التحذير من لوثتين يعاني منهما الكبار قبل الصغار في ديار المهجر وهما :
أوّلاً: الافتقار إلى منارات تربويّة تجمع بين سلامة المعتقد وأصالة المنهج، كمدارس تحفيظ القرآن الكريم، ودور الرعاية والحضانة والتربية والتعليم، وإن وجد شيء من ذلك فهو على علاته لا يفي بالمطلوب، ولا يرقى إلى المستوى المنشود، ممّا يزيد من مسؤولية الآباء والدور المناط بهم لأداء الواجب .
وإنني لأعجبُ غاية العَجب ممّن يزجّ بأبنائه في مدارس غير إسلاميّة تدرّس العقيدة النصرانيّة وتبدأ دروسها بالصلاة الصليبيّة والترانيم الدينيّة الباطلة، وربّما ظنّ بعضهم أنّه حصّن أبناءه من هذا البلاء بتسجيل ابنه في مدرسةٍ على هذه الحال شريطة عدم مشاركته في أنشطتها الدينيّة والتعبّديّة، وهذا المسكين قد أُتي من قبل فهمه وأخلّ به تفرّسه، فما ظنك بمستقبل طفل ينشئ على قرع النواقيس وترانيم الكنائس ويفتتح بها كلّ صباح قبل دخول فصله المدرسي، وينزوي في زاوية من زوايا المدرسة كالفريد الطريد، وتعتلج الشكوك والظنون والتساؤلات الملحة في نفسه، فيخرج وقد استمرأ الضلالة، ولم يعد وجهه يتمعر غضباً لله تعالى إذا مرّ بها وببعضها، فأيّ نجاةٍ من الفتن أدرك، وأي علم وتربية أحرز .
وهنا أقول لأولياء الأمور :علّموا أولادكم في بيوتكم أو وجهوهم إلى المدارس الإسلامية والقرآنيّة في هذه البلاد على قلّتها وعلاّتها، فما لا يُدرك كلّه لا يُترك جلّه .
ولا يقولنّ قائلٌ: إن في هذا موازنة بين مصالح المدارس ومفاسدها، أو خيرها وشرّها، فإن بعض الشر قد أطل على الأمّة وأضر بالصحوة من سوء وضع الأمور في موضعها أو تقديرها قدرها، أو الموازنة في الحكم عليها، وما رافق ذلك من إفراطٍ وتفريط .
وثانياً: إنّ الكثير من المراكز والمدارس الإسلاميّة في الغرب تئط وتئن تحت آصار حزبيّة مقيتة، وتدور في فلك جماعات وأحزاب ترسم سياساتها، وهذا قد يغرس في أذهان الطلاّب الجنوح إلى التحزّب أو الانتساب إلى بعض الجماعات العاملة في الساحة، ما عُرف منها وما لم يُعرف، وكما أنّنا دَأَبْنا على الدعوة إلى التعاون الشرعي بديلاً عن التعصّب الحزبي، وحذّرنا ونحذّر أنفسنا وإخواننا من الأحزاب والتحزب والتحزيب، والتعصب والموالاة والمعاداة على الأسس الحزبية، وفي أُطُرٍ جماعيّة فاسدة ما أنزل الله بها من سلطان، فإننا ندعو الآباء ليأخذوا بحُجَز أبنائهم عن ذلك كلّه، بتحصينهم وتوجيههم إلى منهج أهل السنّة والجماعة كما عرفه ولزمه السلف الصالح وأوصوا وتواصوا به .
ولا أقول هذا من فراغ، كما لا أختلق قضيّةً لا وجود لها، فأنا أحد أطراف المعاناة، وقد بكيت ـ وحق لي أن أبكي ـ وأنا أسمع سؤال ابنتي ذات السنوات الثمان وهي تقول لي: أبتاه! يسألني الطلاّب: هل أنا قطبيّة أو سروريّة أو إخوانيّة أو سلفيّة أو غير ذلك، ماذا أقول؟
فوا حرّ قلبي على هذا الواقع، وأنى لي ولإخواني أن نحرز النجاة في زمن الفتنة .
فاتقوا الله عباد الله، وراقبوه مراقبة من يعلم أنّه يراه، وصلّوا وسلّموا على عبده ورسوله محمّد وآله وصحبه ومن والاه.
ــــــــــــــــــــ(67/168)
تعريف المسلمين بسبيل النصر والتمكين
...
...
2469
...
الأسرة والمجتمع, العلم والدعوة والجهاد
...
...
قضايا المجتمع, قضايا دعوية
...
صلاح بن محمد البدير
...
...
المدينة المنورة
...
6/2/1423
...
...
المسجد النبوي
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- الأمة الواعية تستفيد من التغيرات والتقلبات. 2- ما تعيشه الأمة الإسلامية اليوم من العدوان السافر. 3- وقفات اعتبار واتعاظ. 4- أسباب الذل والهوان. 5- طريق النصر والعزة والتمكين. 6- ضرورة الإصلاح الشامل المستمر. 7- تخطيط اليهود والنصارى لإقصاء الإسلام عن الحياة. 8- التحذير من العلمانيين والمستغربين. 9- الالتفاف حول العلماء والحذر من الرويبضة والفويسقة. 10- وجوب تقديم مصلحة الدين على جميع المصالح. 11- الأخذ بسد الذرائع في المسيرة الإصلاحية.
الخطبة الأولى
أما بعد: فيا عباد الله، اتقوا الله فإن تقواه أفضل زاد، وأحسن عاقبة في معاد.
أيها المسلمون، الأمم تتقلب في أطوار وأطباق، ما بين عزة وذلة، وكثرة وقلة، وغنىً وفقر، وعلم وصناعة، وجهل وإضاعة، وأحوال متقبلة مشاعة. والأمة الواعية مهما عانت من ضراء, وعالجت من بلاء، وكابدت من كيد أعداء، فإنها سرعان ما تُفيق من غفلتها، وتصحو من رقدتها، فتقيم المائد، وتقوِّم الحائد، وترتق الفتق، وترقع الوهى والخرق، لتعود عزيزة الجانب لا يتجاسر عليها غادر، ولا ينالها عدو ماكر.
والأمة المسلمة اليوم تعايش حروباً ثائرة وشروراً متطايرة، تشتت نظامها، وتشعب التئامها، حروب قذرة، يقودها قوم كفرة فجرة، غدرة مكرة، خونة خسرة، لا يرقبون في مؤمن إلا وذمة. هذه فلسطين المباركة، تصبح وتمسي تحت مرارة الفادحة، وألم الفازعة، وصور المأساة، ومشاهد المعاناة، وصرخات الصغار، وصيحات التعذيب والحصار، ولوعات الثكالى، وآهات اليتامى، تصبح وتمسي على صفوف الأكفان المتتالية، وتشييع الجنائز المحمَّلة، والبيوتات المهدَّمة، والمساجد المنتهَكة، أحداثٌُجسام، تُدمي القلوب وتفطِّر الأكباد، ويقشعر لهولها الفؤاد. أحداثٌ تنادي المسلمين وتستنفرهم، تستصرخهم وتستنصرهم، فهل من مجيب لهذا النداء؟! وهل من مغيث لتلك الدماء والأشلاء؟! هل يليق بالمسلمين ـ وهم أكثر الناس عدداً وأغناهم موارد ـ أن يُسلموا إخوانهم لعُصبة الضلال ويهود البغي والاحتلال، النفوسِ الغاوية، والذئاب العاوية، ليصبحوا هدفاً للدبابات والبارجات، وصدفاً للصواريخ والطائرات، وطعمة للكافرين ونهبة للجائرين؟!
أيها المسلمون، إن تلك الأحداث والصور ما هي إلا صرخات إيقاظ واعتبار واتعاظ، ليعرف المسلمون واقعهم ومواقعهم، ويفيدوا من مآسيهم الدروس والعبر، ويقفوا على أسباب النصر والظفر، بعيداً عن ردود الفعل الوقتية التائهة، والهتافات الضعيفة الضائعة، ويصلحوا المسار، ويتجنبوا أسباب الذل والخسار.
أيها المسلمون، إن الواجب على الأمة أن تعلم أن ما أصابها فإنما هو بسبب تقصيرها في جنب ملك الملوك، وتفريطها في الحكم بشريعته، واحترام أحكامها ومعالمها، والوقوف عند حدودها، وعدم تصدِّيها لرياح الإفساد ومسيرة التغريب التي نخرت في الأمة وشبابها وفتياتها، حتى صارت تعاني ويلات الانحراف المرّ في صفوف ناشئتها، بعد أن خان المستأمن، وفرط المستحفَّظ، وغش المستودَع، ودلَّس المستشهَد، في أعظم وديعة وأغلى أمانة، وهي حفظ الدين وتحصين مجتمعات المسلمين من عاديات التغريب وحملات التخريب.
أيها المسلمون، إن الناظر بعين البصر والبصيرة يرى الفرق الشاسع والبون الواسع بين مبادئ الإسلام وقيمه ونظمه كما حددتها نصوصه وموارده، ورسمتها مصادره، وبين واقع المسلمين اليوم. وإن من أمانة الكلمة وصدق الحديث وصراحة المنطق وواجب النصح والبيان القولَ بأن الأمة ما لم تعترف بتقصيرها الكبير وتفريطها الخطير وأثره المستطير على حاضرها ومستقبلها، وتقم بواجب المراجعة والمعالجة والإصلاح، فإن الحديث عن استرداد ديارها المستباحة وأموالها المجتاحة وإيقاف مسلسل الاعتداءات الآثمة لا يعدو أن يكون إمعاناً في الوهم، وإسرافاً في الظن، ومغالطة فاحشة، تجرُّ على الأمة آثاراً سيئة لا يُعرف مداها ولا منتهاها. وإذا كان أصحاب رسول الله قاموا بمخالفةٍ واحدة لأمره في غزوة أحد، فأصابهم ما أصابهم، فما بالكم بجملةٍ لا تُحصى من المنكرات الفاضحة، والمخالفات الواضحة، التي نخشى ـ والله ـ من عاقبتها وعقوبتها.
أيها المسلمون، إن أرادت الأمة نصر الله وتأييده، وأن يعود لها التأثير في مجريات الأحداث، فعليها أن تُعيد صياغة الحياة في بلادها وفق رسالة الإسلام، وأن تسوس الدنيا بالدين، وتمحو آثار المفسدين، وتجفِّف منابع الشر، وتحسِم مواد الإفساد، وأن تعمل على تحقيق أهدافها، وبناء قوتها واستعدادها، وأن تسعى لإصلاح أوضاعها إصلاحاً شاملاً كاملاً، عقدياً وأخلاقياً وسلوكياً واجتماعياً واقتصادياً، حتى لا تتحول جهودها في مواجهة التحدِّيات والمؤامرات سلسلةً من الذل والإحباطات، والصدمات والانتكاسات، وإن الإصلاح الصادق ليس إصلاحاً تحرِّكه بواعث وقتية، أو ملابسات ظرفية، وإنما هو إصلاح صادر عن إيمان راسخ وعقيدة صادقة، واستشعار بأنها مسؤولية أمام الله عز وجل، يوم يسأل كل عبد عما استرعاه مولاه: أدَّى أم تعدي؟ يقول رسول الله : ((كلكم راع ومسؤول عن رعيته، فالأمير الذي على الناس راعٍ عليهم وهو مسؤول عنهم، والرجل راع على أهل بيته وهو مسؤول عنهم، والمرأة راعية على بيت بعلها وولده وهي مسؤولة عنهم، والعبد راع على مال سيده وهو مسؤول عنه، ألا فكلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته)) أخرجه البخاري[1].
أيها المسلمون، إن أعداء الدين من اليهود والنصارى والملحدين لا يألون إقداماً ولا ينكسون إحجاماً في التخطيط لإقصاء الإسلام عن الحياة، وإزاحته عن أرض الواقع، ومحاولة تهميشه وحصره وقصره، وتطويع العالم الإسلامي بتبعية الحياة الغربية، يساندهم في ذلك فسّاق مستغربون، ومنافقون علمانيون، تارةً بتأويل نصوص الوحيين ولوي أعناقها، وتارةً بالنيل من علماء الإسلام، وتارة بالنيل من الدعاة الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، وغمزهم ولمزهم والتطاول عليهم، واتهامهم بما ليس فيهم، وتارةً بالدعوة إلى الاختلاط، وتحرير المرأة، ونبذ قوامة الرجل عليها، جهالاتٌ مطبقة، وأفكار موبقة، تثير البلبلة، وتخلق الخلخلة، وتزرع بذور الفرقة، يلبسون ثياب الإصلاح على أفئدة عشعش فيها النفاق، فهم كالثمرة الفجَّة الملقاة، انفصلت من شجرة الطهر والعفاف والحياة، فسقطت وتعفّنت، وأنتنت وفسدت، فأنَّى يستفاد منها، يُفسدون في الأرض ولا يصلحون، وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِى الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَاكِن لاَّ يَشْعُرُونَ [البقرة:11، 12].
فعلى الأمة وهي تتلمَّس معالم الإصلاح ومنهجيته ومقوِّماته وأسسه ووسائله أن تحذر أدعياء الإصلاح الذين تربَّوا في حجر الأعداء، فلم تجن الأمة من جهودهم إلا كل حنظل، ومن أفكارهم إلا الأحساك والأشواك والهلاك. وعلى الأمة أن تأخذ الرأي والمشورة من علمائها الأمناء الذين ليس لهم بائقة، ولا يُخاف منهم غائلة، وهم ضمير الأمة وغيظ عدوِّها، وحُرّاس عقيدتها والفضيلة فيها، حتى يصدر التدبير عن دين مشروع، وتجتمع الكلمة على رأي متبوع، يقول الله عز وجل حكاية عن ملكة بلقيس: قَالَتْ ياأَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِى فِى أَمْرِى مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ [النمل:32]، وفي صحيح البخاري: كانت الأئمة بعد النبي يستشيرون الأمناء من أهل العلم في الأمور المباحة، ليأخذوا بأسهلها، فإذا وضح الكتاب أو السنة لم يتعدَّوه إلى غيره اقتداءً بالنبي [2]. ويقول عمر بن الحطاب رضي الله عنه: (رأي الواحد كالخيط الواحد، والرأيان كالخيط السحيل، والثلاثة كالحبل).
أيها المسلمون، إن معرفة مكامن الداء وبواعث التجاوزات والأخطاء، مع العمل على سدها وصدّها من أعظم وسائل الإصلاح والبناء، وإن استعمال غير الأكفاء الأمناء الأقوياء وإسداء الأمور والثغور إلى من لا يُؤْمَنُ في توجُّهه وأفكاره وولائه وانتمائه هو جرثومة الفساد، وخراب العباد والبلاد، وقد قال رسول الهدى : ((إذا ضُيِّعت الأمانة فانتظر الساعة)) قيل: كيف إضاعتها يا رسول الله؟ قال: ((إذا أسند الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة)) أخرجه البخاري[3]. يقول ابن بطال: "معنى ((وأسند الأمر إلى غير أهله)): أن الأئمة قد ائتمنهم الله على عباده، وفرض عليهم النصيحة لهم، فينبغي لهم تولية أهل الدين، فإذا قلَّدوا غير أهل الدين فقد ضيَّعوا الأمانة التي قلَّدهم الله تعالى إياها"[4].
وعلى كل من ولاه الله أمراً من أمور المسلمين خلافةً أو وزارة أو أمارة أو قضاءً أو رئاسة أو قيادةً أن يتخذ بطانة صالحة وجماعة ناصحة، تحثه على الخير والرشاد، وتنهاه عن البغي والفساد، يقول رسول الله الهدى : ((ما بعث الله من نبي ولا كان بعده من خليفة إلا له بطانتان: بطانة تأمره بالمعروف، وتنهاه عن المنكر، وبطانة لا تألوه خبالاً ـ أي: لا تقصِّر في إفساد أمره ـ فمن وُقي شرها فقد وقي)) أخرجه البخاري والنسائي[5] وزاد: ((وهو إلى من يغلب عليه منهما))[6].
أيها المسلمون، وعلى الأمة أن تعمل جاهدةً وهي تلتمس الحلول والمخارج أن لا تنطق الرويبضة أو الفويسقة من الناس في أمورها العامة, وأحداثها الهامة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((سيأتي على الناس سنوات خداعات، يُصدَّق فيها الكاذب، ويكذَّب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن، ويخوَّن فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة))، قيل: وما الرويبضة؟ قال: ((الرجل التافه يتكلم في أمر العامة)) أخرجه ابن ماجه[7].
أيها المسلمون، إن الواجب على الأمة أن تقدِّم مقتضيات العقيدة وموجبات الشريعة ومصلحة الدين وحب الله ورسوله على كل أواصر القربى ومناصب الدنيا ولذائذها، في كل مواقفها وعلائقها، وفي جميع أمورها وشؤونها، وأن تكون على يقين لا يساوره شك أن ذلك سبيل صلاح دنياها وانكشاف بلواها. وإن لا تفعل ذلك فهي على خطر أن ينالها ذلك الوعيد الذي تنقدُّ منه الضلوع والتهديد الذي تنمات منه القلوب وتسيل الدموع، الوارد في قوله جل في علاه: قُلْ إِن كَانَ ءابَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِىَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [التوبة:24]، وقوله : ((من كانت الآخرة همَّه جعل الله غناه في قلبه، وجمع له شمله، وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن كانت الدنيا همه جعل الله فقره بين عينيه، وفرَّق عليه شمله، ولم يأته من الدنيا إلا ما قدِّر له)) أخرجه الترمذي[8].
ومن نقض عهد الله وعهد رسوله سلط الله عليه عدوه فأذلّه وأخذ بعض ما في يده، يقول رسول الهدى : ((يا معشر المهاجرين، خمسٌ إن ابتلِيتم بهن ونزلن بكم أعوذ بالله أن تدركوهن: لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا ظهر فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم، ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وشدة المؤونة وجور السلطان عليهم، ولم يمنعوا الزكاة إلا مُنعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا، ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط الله عليهم عدوَّهم من غيرهم، وأخذوا بعض ما كان في أيديهم، وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله إلا ألقى الله بأسهم بينهم)) أخرجه الحاكم والبيهقي[9].
فاتقوا الله عباد الله، وكونوا ممن آمن بربه حق الإيمان وأسلم، وفوَّض أمره إلى مولاه وسلَّم، وانقاد لأوامره واستسلم، فقد أسال عليكم من وابل الآلاء وأزال عنكم من وبيء اللأواء وأسبل عليكم من جميل الغطاء وواسع العطاء ما يوجب الخجل منه والحياء.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في العتق (2554) ، ومسلم في الإمارة (1829) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
[2] صحيح البخاري: كتاب الاعتصام، باب قول الله تعالى: وأمرهم شورى بينهم.
[3] صحيح البخاري: كتاب العلم، باب من سئل علماً وهو مشتغل في حديثه فأتم (59) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[4] انظر: فتح الباري (11/334).
[5] أخرجه البخاري في الأحكام (7198)، والنسائي في البيعة (4202) من حديث أبي سعيد رضي الله عنه بنحوه.
[6] هذه الزيادة عند النسائي في البيعة (4201) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[7] أخرجه أحمد (2/291)، وابن ماجه في الفتن (4036) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وصححه الحاكم (4/465)، ووافقه الذهبي، وقد تُعقِّبا، لكن للحديث طريق أخرى وشواهد يتقوى بها، ولذا حسنه الألباني في السلسلة الصحيحة (1887).
[8] أخرجه الترمذي في صفة القيامة (2465) من طريق يزيد بن أبان الرقاشي عن أنس رضي الله عنه، ويزيد ضعيف، قال المنذري في الترغيب (4/82): "قد وُقّق، ولا بأس به في المتابعات"، وهو قد توبع على حديثه وله ما يشهد له. انظر: السلسلة الصحيحة (949، 950).
[9] أخرجه ابن ماجه في الفتن (4019) ، والبيهقي في الشعب (3/197)، من حديث ابن عمر رضي الله عنه ، وصححه الحاكم (4/540)، ووافقه الذهبي، وصححه الألباني بمجموع طرقه في السلسلة الصحيحة (106).
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: فيا أيها المسلمون، اتقوا الله وراقبوه، وأطيعوه ولا تعصوه، يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ [التوبة:119].
أيها المسلمون، إن الأمة المسلمة لا يجوز أن تقيس مسيرتها السلوكية والتربوية والأخلاقية بمن هم دونها من حثالة البشر، ولا يجوز لها أن تبرِّر تقصيرها بذلك، ولكن عليها أن تعرض أوضاعها الحاضرة وحياتها المعاصرة على نصوص الوحيين الشريفين؛ لأنها الميزان الحق والمقياس الصدق على تقدّم الأمم وتأخرها، وزينها وشينها، قال بعض أهل العلم: من لم يزن أفعالهُ وأحواله في كل وقت بالكتاب والسنة فلا تعدّه في ديوان الرجال. وعن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: قام رجل فقال: يا رسول الله، إن حمدي زين وإن ذمِّي شين، فقال النبي ُ: ((ذلك الله عز وجل)) أخرجه الترمذي وغيره[1].
أيها المسلمون، وواجب على الأمة أن ترعى في مسيرتها الإصلاحية المباركة قاعدة سدّ الذرائع والوسائل المفضية للمفاسد، سواءً كانت موضوعةً للإفضاء إلى مفسدة، أو موضوعةً للمباح قُصد بها التوصل إلى مفسدة، أو موضوعةً للمباح لم يُقصد بها التوصل إلى مفسدة، ولكنها مفضية إليها غالباً، ومفسدتها راجحة على مصلحتها.
أيها المسلمون، ليَقُم كل واحد منكم بواجبه في مسيرة الأمة الإصلاحية، بإصلاح نفسه؛ لأن مسيرة الإصلاح تبدأ بإصلاح الذات، ثم تنصدّ إلى إصلاح الأهل والقرابات، ومن ثم إلى سائر الفئات والطبقات، وعلى العلماء والدعاة والمصلحين أن يقوموا بدورهم في نشر العلم، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بهمَّة لا تعرف الفتور، وعزيمة لا تعرف العجز، وقوة لا تعرف الضعف، وحكمة وحنكة لا تعرف التهور.
وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [التوبة:105].
وصلوا وسلموا على خير البرية، وأزكى البشرية، فقد أمركم الله بذلك فقال: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىّ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم...
[1] أخرجه الترمذي في التفسير (3267)، والروياني في مسنده (207)، وابن جرير في تفسير سورة الحجرات (26/121)، وقال الترمذي : "حديث حسن غريب"، وصححه الألباني في صحيح السنن (2605).
ــــــــــــــــــــ(67/169)
آفة السهر
...
...
2582
...
الأسرة والمجتمع
...
...
قضايا المجتمع
...
صلاح بن محمد البدير
...
...
المدينة المنورة
...
17/4/1423
...
...
المسجد النبوي
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1 ـ نعمة الليل والنوم. 2ـ الليل بين الزمن الماضي والحاضر. 3 ـ مشكلة السهر في الإجازات الصيفية. 4 ـ أضرار السهر ومفاسده. 5 ـ ليلة في بيت النبي صلى الله عليه وسلم . 6 ـ تحذير السلف من السمر والسهر. 7 ـ فضل ساعات الأسحار. 8 ـ انتشار شياطين الجن والإنس عند غروب الشمس. 9 ـ منكرات الأفراح.
الخطبة الأولى
أما بعد: فيا أيها المسلمون، إن مننَ الله على عباده لا تُحصى، ونعمَه عليهم لا تستقصى، وإن من نعمه وآياته ومننه وأُعطياته أن جعل النوم سباتًا للناس، وجعل الليل لهم خير سكن ولباس، يقول الملك المنان في معرض الامتنان: وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً وَجَعَلْنَا الَّيْلَ لِبَاساً [النبأ: 9، 10]، ويقول في ذكر الإنعام في سورة الأنْعَام: وَجَعَلَ الَّيْلَ سَكَناً [الأنعام: 96]. ليلٌ تهدأ به الأنفاس، وتسكن فيه الأعضاء والحواس، وتحصل فيه الراحة والإيناس، جعله الله برحمته وفضله وقت منام ودعة وإجمام وهدوء عام، وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [القصص: 73].
أيها المسلمون، كان الليل في زمن مضى ميدانَ سَبْق ومطيةَ مجد ومضمار صدق وجد، لا ترى فيه إلا مصليًا أو باكيًا أو تاليًا أو داعيًا، وكان السلف رحمهم الله تعالى يرونه أعظم مطية إلى الجنة العلية، أما اليوم فقد أصبح الليل لدى كثير من الناس لحظات طيش وضلال عيش، وصار السهر اليوم في الأعم الأغلب منبعًا للمعار ومجمعًا للأخطار وطريقًا للمهالك والمضار ومسرحًا للمواد المتلفة والبرامج المحرمة، بعد أن شحنه الشيطان بأوكار حزبه وأفكار جنده. سهرٌ على الجيَف وسمرٌ على المعاطب والتلف، سهرٌ دخيل وغريب، وسمر مخيف مريب، مرتع لكل فاسق وموبوء، ومجلبة لكل شر وسوء، من رأى نأى، ومن أبصر أقصر، ومن عاين باين، موارد مقتٍ وغضب وسخط وعتب، تمرض القلوب، وتولد الجرأة على الذنوب، ومع تلك المصائب والمعائب لا نرى له في الغالب إلا مغلوبًا لا غالب، ومصاحبًا لا مجانب، وما ذاك إلا نتاج إرضاع أجيال الأمة من لبان الحياة الغربية، وإطعامهم من ثمار شجرتها المذمومة، تلك الحياة التي من أعظم صفاتها وسماتها البعد عن الله تعالى والتمرد على القيم الروحية والانقياد للحياة الشهوانية البهيمية، وهو السم الذي سقتها إياه العلمانية بكفر أفكارها وفجور آرائها. فواجب على أمة الإسلام بجميع فئاتها وطبقاتها وخاصة ولاة أمرها حماية أجيالها من عنفوان بركان هائج لا يأتي على شيء إلا دمره وأفسده.
أيها المسلمون، عند إجازة الدارسين وعطلة العاملين يصبح السهر مشكلة ومعضلة، وآفة مستشرية مضللة، يلغي أكثر السمار فيها الوجود، ويهجرون الرقود، مروجًا في مروج العطلة، وولوجًا في رهوج المعصية، وما علموا أن أيام الصيف ما هي إلا طيف وضيف، أيامٌ ثم تنتهي، وليالٍ ثم تنقضي، فطوبى لعبد أخذ من حر لهيبها ولفح سمومها ويحموم ظلها وحميم مائها عظة رادعة وذكرى وازعة، تكفه عن قضاء ليله في معصية الخالق، وتزجية وقته عند المحرمات والبوائق، وقتل ساعاته عند هدامة الفضائل ومفسدة الأجيال والأسر والعوائل، وطوبى لعبد زمَّ نفسه عن غيها، وقضى وقته فيما فيه نفعها، بين حلقات قرآنية، أو دروس علمية، أو دورات مهنية، وتنمية قدرات فكرية وعقلية، أو فسحة مباحة تقية نقية، من المحرمات برية.
أيها المسلمون، إن سهر الليل إلى أسحاره ومسامرته إلى إدباره ومدافعة المرء النومَ عند الحاجة إليه وتمنُّعه منه عند هجومه عليه ومغالبته إغفاءات عينية بالتصبر والتجلد أو باستخدام منبهات محرمة أو تعاطي حبوب مسهِّرة يورث آفات عظامًا وأخطارًا جسامًا، وينطوي على أضرار صحية واضطرابات نفسية وعقلية، من سوء مزاج الساهر ويبسه، وانحراف قلبه ونفسه، وجفاف رطوبات جسمه، ويصبح الساهر عديم الحماسة، منهوك القوى، كسولاً خمولاً، ذا نفس كالَّة مالةٍ لا يستطيع معها النهوض بعبء ولا الاضطلاع بواجب ولا القيام بتكليف، وذلك يفضي إلى تضييع الحقوق الواجبة بالنهار؛ لأن السهر جهد وبلاء وثقل وشقاء، يقول رسول الهدى : ((إن هذا السهر جهد وثقل)) أخرجه الدارمي[1].
يقاوم الساهر المنام ليربح ساعة ويخسر بعدها ساعات وأيامًا. والسهر ـ يا عباد الله ـ سببٌ رئيس لكثير من الجرائم الأخلاقية والمشاكل الاجتماعية والحوادث المرورية والزعازع الأمنية، يسهِّد أحدُهم فؤادَه ويطيِّر رقاده فيما يسبب انحرافه وفسادَه.
أيها المسلمون، تعالوا إلى بيت النبوة، لنقف على المنهج السني والهدي النبوي، فنقتفي ونقتدي، ونهتدي ونحتمي بسنة النبي محمد ، نحتمي بها من تزيين الشياطين وتلبيس المفسدين، تقول عائشة رضي الله عنها: ما نام رسول الله قبل العشاء ولا سمر بعدها. أخرجه ابن ماجه[2]، وحين سمعت رضي الله عنها عروة يتحدث بعد العشاء قالت: ما هذا الحديث بعد العتمة؟! ما رأيت رسول الله راقدًا قط قبلها ولا متحدثًا بعدها، إما مصليًا فيغنم أو راقدًا فيسلم. أخرجه عبد الرزاق[3]. وعن الأسود قال: سألت عائشة رضي الله عنها: كيف كانت صلاة النبي ؟ قالت: كان ينام أول الليل ويقوم آخره. متفق عليه[4].
أيها المسلمون، إن النوم في أول الليل فيه خيرات وبركات، وإن راحة الجسد وحصول السعد متحقق لمن نام في أول الليل وأخلد، مقتديًا بالنبي محمد ، يقول عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: بتُّ عند خالتي ميمونة زوج النبي فاضجعت في عرض الوسادة واضطجع رسول الله وأهله في طولها، فنام رسول الله حتى إذا انتصف الليل أو قبله بقليل أو بعده بقليل استيقظ رسول الله ، فجلس يمسح النوم عن وجهه بيديه، ثم قرأ العشر الآيات الخواتيم من سورة آل عمران، ثم قام إلى شنّ معلقة فتوضأ منها فأحسن وضوءه، ثم قام يصلي. متفق عليه[5]. هكذا كان ليله بأبي هو وأمي صلوات الله وسلامه عليه، فأين الاهتداء والاقتداء؟
أيها المسلمون، إن عليكم ملكين يصحبانكم طول دهركم، ويكتبان كل أعمالكم، فأريحوا كتابكم من السمر الممنوع والسهر غير المشروع، فعن هشام بن عروة عن أبيه قال: سمعتني عائشة وأنا أتكلم بعد العشاء، فقالت: يا عري، ألا تريح كُتَّابك؟! فإن رسول الله لم يكن ينام قبلها، ولا يتحدث بعدها. أخرجه ابن حبان[6].
وأخرج مالك في الموطأ أنه بلغه أن عائشة رضي الله عنها زوج النبي كانت ترسل إلى بعض أهلها بعد العشاء فتقول: (ألا تريحون الكتاب؟!)[7]، يقول الزرقاني: "قال أبو عبد الملك: أرادت بذلك ـ والله أعلم ـ أصحاب الشمال؛ لأنها كارهة لأعمال ابن آدم السيئة، فإذا تركها فقد أراحها من كراهتها"[8].
وكان عليه الصلاة والسلام يذم السهر ويحذر منه ويزجر عنه، فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: كان رسول الله يجدب لنا السمر بعد العشاء. أخرجه أحمد وغيره[9]. ومعنى (يجدب) أي: يذم ويعيب ويحذر. وقال عليه الصلاة والسلام: ((إياك والسمر بعد هدأة الرجل))، وفي رواية: ((بعد هدأة الليل، فإنكم لا تدرون ما يأتي الله في خلقه)) أخرجه الحاكم وغيره[10]، وعن أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه أن رسول الله كان يستحب أن يؤخر من العشاء، وكان يكره النوم قبلها والحديث بعدها[11].
قال ابن حجر في فتح الباري معللاً: "لأن النوم قبلها ـ أي العشاء ـ قد يؤدي إلى إخراجها عن وقتها مطلقًا، أو عن الوقت المختار، والسمر بعدها قد يؤدي إلى النوم عن الصبح أو عن وقتها المختار أو عن قيام الليل، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يضرب الناس على ذلك ويقول: (أسمرًا أولَ الليل ونومًا آخرَه؟!) وإذا تقرر أن علة النهي ذلك فقد يفرق فارق بين الليالي الطوال والقصار، ويمكن أن تحمل الكراهة على الإطلاق حسمًا للمادة لأن الشيء إذا شرع لكونه مظنة قد يستمر فيصير مئنة" انتهى كلامه رحمه الله تعالى[12].
ويقول الإمام النووي رحمه الله: "واتفق العلماء على كراهة الحديث بعد العشاء إلا ما كان في خير" انتهى كلامه[13].
وقد كان رسول الله يسمر أحيانًا في بعض مصالح المسلمين، يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: كان رسول الله يسمر عند أبي بكر الليلة في الأمر من أمور المسلمين وأنا معه. أخرجه أحمد والترمذي[14]. وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((لا سمر إلا لأحد رجلين: لمصلٍ أو مسافر)) أخرجه أحمد[15]، وأخرج أبو يعلى عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (السمر لثلاثة: لعروس أو مسافر أو متهجد بالليل)[16]، وقد بوب البخاري في صحيحة: بابًا في السمر مع الأهل والضيف، وبابًا في السمر في الفقه والخير.
وجملة القول في هذه المسألة أن الحديث بعد العشاء مكروه إلا ما كان في خير أو ما لا بد منه من الحوائج، وكل سهر أدى إلى تضييع واجب شرعي فإنه يكون سهرًا محرمًا، حتى ولو كان في طاعة وعبادة ومطالعة واستفادة، وكل سهر أدى إلى الوقوع في محرم فهو سهر محرم، والسهر في طاعة الله إذا لم يترتب عليه ضياع واجب أو فوات مصلحة شرعية أعلى وأرجح منه فإنه سهر محمود.
أيها المسلمون، لقد استمرأ كثير من الناس السهر المحرم الذي أدى بأكثرهم إلى تضييع صلاة الفجر حتى خروجها عن وقتها، وصار الذين يشهدونها في جماعة المسلمين في المساجد أفرادًا معدودين محدودين، وأصبح هذا السهر أمرًا عاديًا وطبعيًا لا تنكره أكثر القلوب مع أنه قال: ((أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر ولو يعلمون ما فيهما من الرغائب لأتوهما ولو حبوًا)) متفق عليه[17]، وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق. أخرجه مسلم[18].
فاتق الله يا عبد الله، وإياك والسمر المذموم والسهر المشؤوم، ولا تكن من الغافلين، وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [الأنعام: 68].
واحذر أن تطوي الليالي عمرك طيًا طيًا وأنت في لهوك لا تزداد إلا غيًا، واعلم أن اللحظات والخطرات واللفظات والخطوات كلها مكشوفة لا يخفى على الله منها شيء، وأصخ السمع لقول المصطفى : ((ما من قوم يقومون من مجلس لا يذكرون الله تعالى فيه إلا قاموا عن مثل جيفة حمار وكان عليهم حسرة)) أخرجه أبو داود[19]، وقوله : ((ما جلس قوم مجلسًا لم يذكروا الله تعالى فيه ولم يصلوا على نبيهم فيه إلا كان عليهم ترة، فإن شاء آخذهم به وإن شاء عفا عنهم)) أخرجه أحمد[20].
أيها المسلمون، ساعات الأسحار ساعات توبة واستغفار وتضرع وانكسار، يقول عليه الصلاة والسلام: ((ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر، يقول: من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له)) متفق عليه[21]، ويقول عليه الصلاة والسلام: ((أقرب ما يكون الرب من العبد في جوف الليل الآخر, فإن استطعت أن تكون ممن يذكر الله تعالى في تلك الساعة فكن)) أخرجه الترمذي[22].
أيها المسلمون، أفيليق بمسلم أن يقضي هذه الأوقات الجليلة مع المزامير والطنابير وما يهيج لواعِج الغرام ويحرك سواكن الوجد والهيام.
أيها الأولياء والآباء، إنكم مأمورون بكف صبيانكم عن الخروج إذا أقبل جنح الليل بقوله : ((احبسوا صبيانكم حتى تذهب فوعة العشاء، فإنها ساعة تخترق فيها الشياطين)) أخرجه الحاكم[23]، وقوله عليه الصلاة والسلام: ((إذا كان جنح الليل أو أمسيتم فكفوا صبيانكم، فإن الشياطين تنتشر حينئذ، فإذا ذهب ساعة من الليل فخلوهم)) متفق عليه[24]، وقوله : ((لا ترسلوا فواشيكم وصبيانكم إذا غابت الشمس حتى تذهب فحمة العشاء، فإن الشياطين تُبعث إذا غابت الشمس حتى تذهب فحمة العشاء))[25]، وفي لفظ: ((فإن للجن انتشارًا وخطفة))[26].
أيها المسلمون، وإذا كان لشياطين الجن انتشارًا وانبعاثًا في تلك الساعة اقتضى كفَّ الصبيان وحبسهم؛ فإن لشياطين الإنس في هذا الزمان انتشارًا وخطفة وانبعاثًا طوال ساعات الليل، يحاولون جر الشباب والأولاد وفلذات الأكباد إلى أوضار الانحراف والفساد، عبر مغريات وملهيات لا يحصرها حاصر، مما يوجب اليقظة والحيطة، فكونوا على حذر، فقد نجى أخو الحذر، وكفوا أولادكم عن الضياع، فإنهم أغمار أغرار لا حنكة لهم ولا تجربة، وكونوا حراسًا أمناء وأولياء أوفياء وفطناء حكماء، وإياكم والإهمال، فإن نتائجه ضر وثماره مر وعاقبته خسر ومغبته نكر، إِنَّ هَاذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبّهِ سَبِيلاً [المزمل: 19].
بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة، ونفعني وإياكم بما فيهما من الآيات والحكمة، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] سنن الدارمي، كتاب الصلاة، باب: في الركعتين بعد الوتر (1594) من حديث ثوبان رضي الله عنه، وأخرجه أيضا الروياني (644)، والطحاوي في شرح المعاني (1/341)، والطبراني في الكبير (2/92)، والدارقطني (2/36)، والبيهقي (3/33)، وصححه ابن خزيمة (1106)، وابن حبان (2577)، وصححه الألباني في المشكاة (1238).
[2] سنن ابن ماجه: كتاب الصلاة، باب النهي عن النوم قبل صلاة العشاء (702)، وهو في صحيح ابن ماجه (576).
[3] مصنف عبد الرزاق (2137)عن ابن جريج قال: حدثني من أصدق عن عائشة أنها سمعت عروة يحدث بعد العتمة..، وتوبع ابن جريج عليه، فأخرجه البيهقي في الشعب (4935) من طريق يحيى بن سليم عن هشام بن عروة عن أبيه قال: سمعتني عائشة وأنا أتكلم بعد العشاء..، وله متابعة أخرى ولكن ليس فيها القصة، أخرجها أبو يعلى (4878)، والبيهقي (1/452) من طريق ابن وهب عن معاوية بن صالح عن أبي حمزة عنها، قال الهيثمي في المجمع (1/314): "رجاله رجال الصحيح". وانظر التخريج رقم (6).
[4] أخرجه البخاري في الجمعة (1146)، ومسلم في صلاة المسافرين (739).
[5] أخرجه البخاري في الوضوء (183) ، ومسلم في صلاة المسافرين (763).
[6] أخرجه ابن حبان (5547), وانظر التخريج رقم (3).
[7] الموطأ: كتاب الجامع، باب: ما يكره من الكلام بغير ذكر الله (1785).
[8] شرح الزرقاني (4/519).
[9] أخرجه أحمد (1/388، 410)، وابن ماجه في الصلاة (703)، والبزار (1741)، والشاشي (614، 615) من طرق كثيرة عن عطاء بن السائب عن أبي وائل عن ابن مسعود رضي الله عنه، وصححه ابن خزيمة (1340)، وابن حبان (2031)، وهو في صحيح ابن ماجه (577).
[10] المستدرك (4/316) من حديث جابر رضي الله عنهما وصححه على شرط مسلم، ولم يتعقبه الذهبي. وأخرجه أيضا الحميدي (1273)، والبخاري في الأدب المفرد (1235)، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة (1752).
[11] أخرجه البخاري في مواقيت الصلاة (547)، ومسلم في المساجد (647).
[12] فتح الباري (2/73).
[13] شرح صحيح مسلم (5/147).
[14] أخرجه أحمد (1/25)، والترمذي في الصلاة (169)، والبيهقي (1/452)، وحسنه الترمذي، وصححه ابن خزيمة (1156)، وابن حبان (2034)، والحاكم (2893)، وهو في صحيح الترمذي (143).
[15] أخرجه أحمد (1/379، 463)، والطيالسي (365)، وأبو يعلى (5378)، والطبراني (10/217)، والحارث في مسنده (864- الزوائد-)، والبيهقي (1/452)، وقال الهيثمي في المجمع (1/314-315): "فأما أحمد وأبو يعلى فقالا: عن خيثمة عن رجل عن ابن مسعود، وقال الطبراني: عن خيثمة عن زياد بن حدير، ورجال الجميع ثقات، وعند أحمد في رواية: عن خيثمة عن عبد الله بإسقاط الرجل"، ورمز السيوطي لحسنه، وصححه الألباني بمجموع طرقه، السلسلة الصحيحة (2435).
[16] أخرجه أبو يعلى (4879)، قال الهيثمي في المجمع (1/314): "رجاله رجال الصحيح".
[17] أخرجه البخاري في الأذان (657)، ومسلم في المساجد (651) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بنحوه.
[18] أخرجه مسلم في المساجد (654).
[19] أخرجه أبو داود في الأدب (4855) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وهو أيضا عند أحمد (2/389، 515، 527)، والبيهقي (6/108)، وصححه الحاكم (1808)، والنووي في الأذكار وفي الرياض، وهو في صحيح أبي داود (4064).
[20] أخرجه أحمد (2/453، 481)، والترمذي في الدعوات (3380) واللفظ له من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وقال الترمذي: " هذا حديث حسن صحيح، وقد روي من غير وجه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومعنى قوله: ((ترة)) يعني: حسرة وندامة، وقال بعض أهل المعرفة بالعربية: الترة هو الثأر"، وصححه الحاكم (1826)، وهو في صحيح الترمذي (2691).
[21] أخرجه البخاري في الجمعة (1145)، ومسلم في صلاة المسافرين (758) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[22] أخرجه الترمذي في الدعوات (3579)، والنسائي في المواقيت (572) من حديث عمرو بن عبسة رضي الله عنه، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه"، وصححه ابن خزيمة (1147)، والحاكم (1162)، وهو في صحيح الترمذي (2833).
[23] أخرجه الحاكم (7763) من حديث جابر رضي الله عنهما وصححه على شرط مسلم، وهو أيضا عند أحمد (3/362)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (905).
[24] أخرجه البخاري في بدء الخلق (3304)، ومسلم في الأشربة (2012) من حديث جابر رضي الله عنهما.
[25] أخرجه البخاري في بدء الخلق (3280)، ومسلم في الأشربة (2013) واللفظ له من حديث جابر رضي الله عنهما، والفواشي كل ما ينتشر من الدواب كالإبل والغنم.
[26] أخرج هذه الرواية البخاري في بدء الخلق (3316).
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فيا أيها المسلمون، اتقوا الله وراقبوه، وأطيعوه ولا تعصوه، يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ [التوبة: 119].
أيها المسلمون، إن مما يذيب القلبَ كمدًا ويعتصر له الفؤاد ألمًا تجاوز كثير من الناس المباح إلى غير المباح في الأعراس والأفراح، وعدم اكتفائهم بما شرعه الله لهم من إعلان النكاح والتفريق بينه وبين السفاح من الضرب بالدف والغناء الذي ليس فيه دعوة ولا مدح لمحرم للنساء خاصة، حيث تجاوزوا ذلك إلى سهر لا خير فيه، ولا تحصى مساويه، أفراحٌ تضج وتعج بالمخالفات والمنكرات، استئجارٌ للمغنين والمغنيات والمطربين والمطربات الذين يغنون بأشعار الفسق والفجور، ويستخدمون آلات الموسيقى والطبول، بمبالغ باهظة وتكاليف عالية، سفه وإضاعة للمال في قبيح الفعال، وإيذاء واعتداء ناتجان عن رفع الصوت بالغناء، وبذل طائش وإسراف فاحش في المآكل والمشارب التي لا يخفى مصيرها، وتنافسٌ محموم في غلاء مذموم في ثياب الأعراس، ونساءٌ متبرجات يلبسن ثيابًا شفافة وضيقة ومجسِّمة وكاشفة وعارية وشبه عارية، ورقصات وإمالات كرقص العاهرات والكافرات، وربما حصل اختلاط للرجال بالنساء، فتنٌ مظلمة وأمور مخجلة سرت إلى صفوف بعض المسلمين بطريق العدوى والتقليد الأعمى.
فاتقوا الله عباد الله، وانتهوا عما نهيتم، وكفوا واقصروا وسيروا على ما سار عليه الأسلاف واستدركوا الفائتات بالتوجع للعثرات والخروج من التبعات يبدل الله سيئاتكم حسنات، ويغفر لكم والله غفور رحيم.
واعلموا أن ثمرة الاستماع الاتباع، فكونوا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
وأعلموا أن الله أمركم بأمر بدأ فيه بنفسه، وثنى بملائكته المسبحة بقدسه، وثلث بكم ـ أيها المؤمنون ـ من جنه وإنسه، فقال قولاً كريمًا: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىّ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب: 56].
اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد، وارض...
ــــــــــــــــــــ(67/170)
بر الوالدين
...
...
2556
...
الأسرة والمجتمع
...
...
الوالدان
...
زياد بن محمد الصغير
...
...
فروتسوان
...
...
...
مسجد فروتسوان
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- منزلة برا لوالدين في الإسلام. 2- التحذير من عقوق الوالدين. 3- لماذا وصى الله بالوالدين ولم يوصي بالأبناء. 4- الوصية بالوالدين حال الضعف والكبر. 5- فضل بر الوالدين وذكر بعض صور البر. 6- التواصي ببعض صور البر.
الخطبة الأولى
أما بعد:
فحديثنا اليوم يدور حول موضوع مصيري بالنسبة لنا جميعاً، موضوعاً هاماً كثيراً تنسينا إياه زحمة الحياة وصرف الهموم في التمتع بملذاتها وشهواتها، هذا الموضوع هو بر الوالدين.
قال تعالى: وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَاناً [الأسراء:23].
وَاعْبُدُواْ اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَاناً [النساء:36]
وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوالِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً [الأحقاف:15].
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه ابن مسعود: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي العمل أحب إلى الله؟ قال: ((الصلاة على وقتها)) قلت ثم أي؟ قال: ((بر الوالدين)) قلت: ثم أي؟ قال: ((الجهاد في سبيل الله))[1].
هذه هي منزلة بر الوالدين في الإسلام، منزلة سامية وطريق سهل إلى جنة الخلد.
أما الذين لا يبرون آباءهم فمصيرهم ذُكر في أحاديث نبوية كثيرة نذكرها:
قال صلى الله عليه وسلم: ((ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ـ ثلاثاً ـ؟)) قلنا: بلى يا رسول الله، قال: ((الإشراك بالله، وعقوق الوالدين)) وكان متكئاً فجلس قال: ((ألا وقول الزور، ألا وشهادة الزور)) فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت. متفق عليه[2].
ويقول صلى الله عليه وسلم: ((رغم أنفه ثم رغم أنفه ثم رغم أنفه من أدرك أبويه عند الكبر أحدهما أو كلاهما فلم يدخل الجنة))[3].
ويقول صلى الله عليه وسلم منبهاً إلى أمر خطير نقع فيه جميعاً وهو من الكبائر يقول: ((من الكبائر شتم الرجل والديه)) قالوا: يا رسول الله وهل يشتم الرجل والديه؟ قال: ((نعم، يسب الرجل أبا الرجل، فيسب أباه، ويسب أمه, فيسب أمه))[4].
فلم يكن الصحابة يتصورون رجلاً ـ بما تعنيه كلمة رجل ـ يسب أباه مباشرة وجهاً لوجه كما يحدث كثيراً الآن.
والملاحظ في القرآن الكريم أن الله تعالى يوصي الأبناء بآبائهم ولا يوصي الآباء بأبنائهم، ذلك لأن الآباء يهتمون بأبنائهم فطرة، وقلما يُوجِه الناس اهتمامهم إلى الوراء, إلى الجيل الذاهب.
إن الوالدين يندفعان بالفطرة إلى رعاية الأولاد وإلى التضحية بكل شيء في سبيل ذلك, حتى بالذات, وبذلك يمتص الأولاد رحيق كل عافية وكل جهد وكل اهتمام من الوالدين، فإذا هما شيخوخة فانية ـ إن أمهلهما الأجل ـ وهما مع ذلك سعيدان.
وهنا، يجيء الأمر بالإحسان إلى الوالدين في صورة قضاء من الله يحمل معنى الأمر المؤكد بعد الأمر المؤكد بعبادة الله.
وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِى صَغِيرًا [الأسراء:23، 24].
إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا والكبر له جلاله، وضعف الكبر له إيحاؤه، وكلمة عندك تصور معنى الالتجاء والاحتماء في حالة الكبر والضعف، فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا فلا يبدو من الولد ما يدل على الضجر والضيق، يوحي بالأهانة وسوء الأدب.
ولو أن ثمة كلمة أقل من أف لذكرها الله سبحانه.
وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا أن يشي كلامه معهما بالإكرام والاحترام.
وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلّ مِنَ الرَّحْمَةِ فهي الرحمة تزيد حتى لكأنها الذل، لا يرفع عيناً، ولا يرفع أمراًُ.
وَقُل رَّبّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِى صَغِيرًا فهي الذكرى الحانية ذكرى الطفولة الضعيفة يرعاها الوالدان وهما اليوم في مثلها من الضعف والحاجة إلى الرعاية والحنان.
وفي الحديث ـ وفيه ضعف ـ عن بريدة عن أبيه أن رجلاً كان في الطواف حاملاً أمه يطوف بها فسأل النبي صلى الله عليه وسلم هل أديت حقها؟ قال: ((لا، ولا بزفرة واحدة في حمل أو وضع؟!))[5].
وآخر كان يحمل أمه في الطواف وينظفها من الوسخ، فسأل ابن عمر هل أدى حقها؟ فقال له: (لا)، ولما سأله عن السبب قال: (لأنها كانت تفعل ذلك لك وأنت صغير وهي تتمنى لك الحياة، أما أنت فتفعل ذلك الآن وأنت تتمنى لها الموت).
وقد خرج علي وعمر من الطواف، فإذا هما بأعرابي قادم للطواف ومعه أمه يحملها على ظهره وهو يرتجز ويقول:
إني أنا مطية لا أنفر إذا الركاب ذعرت لا أذعر
لبيك اللهم لبيك
فقال علي: يا أبا حفص ادخل بنا الطواف لعل الرحمة تنزل فتعمنا، فدخل الرجل يطوف بأمه ويقول الرجز الماضي, وعلي رضي الله عنه يقول:
وإن تبرها فالله أشكر يجزيك بالقليل الأكثر
وبر الوالدين كفارة للذنوب والكبائر، فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل فقال: إني أذنبت ذنباً عظيماً فهل لي من توبة؟ فقال: ((هل لك أم؟)) قال: لا، قال: ((هل لك من خالة؟)) قال: نعم، قال: ((فبرها))[6].
ولبر الوالدين بركة، فعن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من سره أن يمد له في عمره ويزاد له في رزقه فليبر والديه وليصل رحمه))[7].
وعنه صلى الله عليه وسلم: ((دخلت الجنة فسمعت قراءة، فقلت: من هذا؟ فقيل: حارثة بن النعمان، فقال: كذلك البر، وكان أبر الناس بأمه))[8].
ومن عظم شأن بر الوالدين في الإسلام أن البر يمتد إلى أصدقاء الأب والأم وأحبائهم، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن أبر البر أن يصل الرجل ودّ أبيه))[9].
وروي أن رجلاً من الأعراب لقي عبد الله بن عمر بطريق مكة، فسلم عليه عبد الله وحمله على حمار كان يركبه، وأعطاه عمامة كانت على رأسه، فقال له عبد الله بن دينار ومن معه: أصلحك الله إنهم الأعراب وهم يرضون باليسير، فقال ابن عمر: إن أبا هذا كان وداً لعمر بن الخطاب, وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن أبر البر صلة الرجل أهل ود أبيه))[10].
فانظروا كيف يصنع الإسلام من المجتمع سلسلة من الصلات حتى يكون كالبنيان المرصوص.
[1] صحيح، أخرجه البخاري: كتاب مواقيت الصلاة – باب فضل الصلاة لوقتها، حديث (527)، ومسلم: كتاب الإيمان – باب كون الإيمان بالله تعالى أفضل الأعمال، حديث (85).
[2] صحيح، صحيح البخاري: كتاب الشهادات – باب ما قيل في شهادة الزور، حديث (2654)، صحيح مسلم: كتاب الإيمان – باب بيان الكبائر وأكبرها، حديث (87).
[3] صحيح، أخرجه مسلم: كتاب البر والصلة والآداب – باب رغم أنف من أدرك أبويه ... حديث (2551).
[4] صحيح، أخرجه البخاري: كتاب الأدب – باب لا يسب الرجل والديه، حديث (5973)، ومسلم: كتاب الإيمان – باب بيان الكبائر وأكبرها، حديث (90).
[5] ضعيف، عزاه الهيثمي في المجمع (8/137) للبزار ونحوه، وقال: رواه البزار بإسناد الذي قبله. وقال في الذي قبله: فيه الحسن بن أبي جعفر وهو ضعيف من غير كذب، وليس بن أبي سليم مدلس.
[6] صحيح، أخرجه احمد (2/13) والترمذي: كتاب البر والصلة – باب ما جاء في بر الخالة، حديث (3975)، وصححه ابن حبان (435) والحاكم (4/155)، والألباني، صحيح سنن الترمذي (1554)، صحيح الترغيب (2504).
[7] حسن بهذا اللفظ، أخرجه أحمد (3/229)، والبيهقي في شعب الإيمان حديث (7855)، وهو حسن من أهل ميمون بن سياه فهو صدوق يخطئ كما في التقريب (7094). قال المنذري: رواه احمد، ورواته محتج بهم في الصحيح، وهو في الصحيح باختصار ذكر البر الترغيب ((3/217)، وقال الهيثمي في المجمع: هو في الصحيح خلا بر الوالدين، رواه أحمد، ورجاله رجال الصحيح (8/136). قلت: أخرجه البخاري في كتاب البيوع – باب من أحب البسط في الرزق، حديث (2067)، ومسلم في البر والصلة والآداب – باب صلة الرحم وتحريم قطيعتها، حديث (2557).
[8] صحيح، أخرجه أحمد (6/36)، وأبو يعلى (4425)، وصححه ابن حبان (7014)، والحاكم (3/208). وقال الهيثمي: رواه أحمد وأبو يعلى ورجاله رجال الصحيح. مجمع الزوائد (9/313)، وصححه الألباني، السلسلة الصحيحة (913).
[9] صحيح، أخرجه مسلم: كتاب البر والصلة والآداب – باب فضل صلة أصدقاء الأب والأم ونحوهما، حديث (2552).
[10] انظر تخريج الحديث السابق.
الخطبة الثانية
أما بعد:
فقد رأينا كيف أوجب الإسلام بر الوالدين والإحسان إليهما في الحياة الدنيا وإن كانا مشركين وإنهما لا يطاعان إذا أمرا بمعصية مع الأدب التام معهما، فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق كما ورد في الحديث.
وعلمنا أن عقوق الوالدين من أكبر الكبائر وأن من عق والديه ملعون، أي مطرود من رحمة الله، والعقوق هو أحد الذنوب الذي تعجل عقوبته في الدنيا قبل الآخرة.
فعلينا جميعاً أن نتسابق لنيل فضل بر الوالدين، وأن نفر من معصية عقوقهما والإساءة إليهما، هيا بنا نحترمهما ونجلهما, ونكون خدماً تحت أقدامهما، لا نسيء إليهما ولو بنظرة أو كلمة، ولا نرفع في وجهيهما عيناً ولا نعصي لهما أمراً.
هيا بنا نفعل ما يسعدهما بالتفوق فيما يحبان أن نتفوق فيه، فهذا من البر بالوالدين، وإذا كان أحب الأعمال إلى الله تعالى سروراً تدخله على قلب امرئ مسلم فما بالنا بإدخاله على الوالدين.
هيا بنا ندعو لهما في كل صلاة وعقب كل صلاة وفي كل وقت وحين رَّبّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِى صَغِيرًا، ندعو لهما بكل خير وندعو لأنفسنا لِيوفقنا سبحانه لبرهما.
هيا بنا لا نتصرف تصرفاً – ولو في حياتنا الشخصية كالزواج مثلاً أو السفر للرزق أو العلم– إلا بعد إرضائهما واستسماحهما وموافقتهما, وإلا فالوبال والخسران في الدنيا والآخرة.
هيا بنا نبتعد عن المعاصي والموبقات؛ لأن ذلك يشينهما ويجلب لهما العار وهذا من عقوقهما.
هيا بنا نتواصى جميعاً بآبائنا وأمهاتنا ولا ندع فينا من يسيء إليهما.
هيا بنا نطمئن عليهما دائماً ولا نبخل عليهما بالرسائل؛ لأنهما لا يريدان منا سوى أن يطمئنا علينا.
هيا بنا نضيق على أنفسنا وبيوتنا إن كان والدينا في حاجة إلى المال الذي معنا (إن لي مالاً وأولاداً، وأبي يريد مالي) قال صلى الله عليه وسلم: ((اذهب، أنت ومالك لأبيك))[1].
وأخيراً هيا لنفوز بخيري الدنيا والآخرة: ((من سره أن يمد له في عمره ويزاد له في رزقه فليبر والديه وليصل رحمه))[2].
[1] صحيح، أخرجه أحمد (2/179، 204)، وأبو داود: كتاب البيوع – باب في الرجل يأكل من مال ولده، حديث (3530)، وابن ماجه: كتاب التجارات – باب ما للرجل من مال ولده، حديث (2291)، وصححه ابن حبان (410)، وقال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح، خلا شيخ الطبراني حبوش بن رزق الله، ولم يضعفه أحد بجمع الزوائد (4/155). وقال البوصيري في مصباح الزجاجية: هذا إسناد صحيح، رجاله ثقات على شرط البخاري (3/37). وذكره الحافظ في الفتح (5/211)، وصححه الألباني، إرواء الغليل (838).
[2] تقدم تخريجه، انظر الحاشية رقم (8).
ــــــــــــــــــــ(67/171)
البيت المسلم
...
...
2588
...
الأسرة والمجتمع
...
...
قضايا الأسرة
...
عبد الباري بن عوض الثبيتي
...
...
المدينة المنورة
...
2/5/1423
...
...
المسجد النبوي
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- من أغلى أماني الشباب والشابات. 2- نعمة البيت السعيد. 3- أساس البيت المسلم الزوجان. 4- البيت النبوي أسوة البيوت كلها. 5- سمة البيت المسلم الذي أقامه الرعيل الأول. 6- أهمية تربية الأولاد على الدين. 7- التربية بالقدوة الحسنة. 8- خطورة غياب البيت المسلم. 9- تسليم البيت المسلم لأمر الله. 10- البيت المسلم بيت الذكر والعبودية لله. 11- البيت المسلم بيت التعاون والتناصح. 12- أهمية العلم والعمل للبيت المسلم. 13- من سمات البيت المسلم الحياء. 14- حفظ الأسرار وإخفاء الخلافات. 15- علاقة البيت المسلم بالمجتمع. 16- التعاون في أداء الأعمال المنزلية. 17- كيف تتحقق السعادة؟
الخطبة الأولى
أما بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله، قال تعالى: ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران:102].
في مثل هذه الأيام من كل عام تكثر مناسبات الزواج التي يتحقَّق بها أغلى أمنياتِ الشباب من البنين والبنات، في إقامة بيتٍ مسلم سعيد، يجدون فيه المأوى الكريم، والراحة النفسية، والحلم السعيد، فيترعرع في كنَف هذا البيت وينشأ بين جنباتِه جيلٌ صالح فريد، في ظل أبوَّةٍ حاجبة وأمومة حانية. هذا البيت، ما هي سماته؟ وما منهجه؟ وكيف تتحقق سعادته؟ قال تعالى: وَمِنْ ءايَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْواجاً لّتَسْكُنُواْ إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَاتٍ لّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الروم:21].
البيت نعمةٌ لا يعرف قيمتَه وفضله إلا من فقده، فعاش في ملجأ مُوحش، أو ظلماتِ سجن، أو تائه في شارع أو فلاة، قال تعالى: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مّن بُيُوتِكُمْ سَكَنًا [النحل:80]، قال ابن كثير رحمه الله: "يذكر تبارك وتعالى تمام نعمته على عبده بما جعل لهم من البيوت التي هي سكن لهم يأوون إليها، ويستترون فيها، وينتفعون بها سائرَ وجوهِ الانتفاع"[1].
البيت المسلم ـ إخوةَ الإسلام ـ أمانةٌ يحمِلها الزوجان، وهما أساس بنيانه ودِعامة أركانه، وبهما يُحدِّد البيتُ مسارَه، فإذا استقاما على منهج الله قولاً وعملاً وتزيَّنا بتقوى الله ظاهرا وباطنا وتجمَّلا بحسن الخلق والسيرة الطيبة غدا البيتُ مأوى النور وإشعاعَ الفضيلة، وسَطع في دنيا الناس، ليصبح منطلَق بناءِ جيل صالح وصناعة مجتمعٍ كريم وأمَّة عظيمة وحضارة راقية.
أيها الزوجان، بيتُكما قلعةٌ من قلاع هذا الدين، وكلٌّ منكما يقِف على ثغرة حتى لا يبرز إليها الأعداء. كلاكما حارسٌ للقلعة، صاحبُ القوامة في هذا البيت هو الزوج، وطاعته واجبة، قال : ((كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته))، وقال: ((والمرأة في بيت زوجها راعية وهي مسؤولة عن رعيتها)) أخرجه البخاري[2].
إن البيت النبوي ومن فيه من أمهات المؤمنين هو أسوة البيوت كلها على ظهر الأرض، فهو بيت نبويٌّ ترفّع على الرفاهية والترَف، وداوم الذكرَ والتلاوة، ورسم لحياته معالمَ واضحة، وضرَب لنفسه أروعَ الأمثلة في حياة الزهد والقناعة والرضا. خيَّر رسول الله نساءَه دون إكراهٍ بعدما أعدّهنَّ إعدادا يؤهِّلهنَّ لحياة المثل العليا والميادين الخالدة. نزلت آية التخيير تُخيِّر زوجاتِ النبي بين الحياة الدنيا وزينتِها وبين الله ورسوله والدار الآخرة: ياأَيُّهَا النَّبِىُّ قُل لأَزْواجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحياةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتّعْكُنَّ وَأُسَرّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْراً عَظِيماً [الأحزاب:28، 29]، قالت عائشة وكل زوجاته رضي الله عنهن كلهن: نختار الله ورسوله والدار الآخرة[3].
إن البيت المسلم الذي أقامه الرعيل الأول جعل منهجَه الإسلام قولا وعملا، صبَغ حياته بنور الإيمان، ونهَل من أخلاق القرآن، فتخرج من أكنافه نماذجُ إسلامية فريدة، كتبت أروعَ صفحات التاريخ وأشدَّها سطوعاً. خرّج البيت المسلم آنذاك للحياة الأبطالَ الشجعان، والعلماءَ الأفذاذ، والعبَّادَ الزهاد، والقادة المخلصين، والأولاد البررة، والنساءَ العابدات. هكذا هي البيوت المسلمة لما بُنِيت على أساس الإيمان والهداية، واستنارت بنور القرآن.
إن البيت المسلم التقيّ النقي حصانةٌ للفطرة من الانحراف، قال : ((ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصِّرانه أو يمجِّسانه)) أخرجه البخاري[4].
يقول ابن القيم رحمه الله: "وأكثر الأولاد إنما جاء فسادهم من قبل الآباء وإهمالهم لهم وترك تعليمهم فرائضَ الدين وسننه، فأضاعوهم صغاراً، فلم ينتفعوا بأنفسهم، ولم ينفعوا آباءهم كباراً"[5].
ما أجمل أن يجمع سيدُ البيت أولادَه فيقرأ عليهم من القرآن، ويسرُد عليهم من قصص الأنبياء، ويغرس في سلوكهم الآداب العلية.
من أولى أولويات البيت المسلم وأسمى رسالة يقدمها للمجتمع تربية الأولاد، وتكوين جيل صالح قوي. ولا قيمة للتربية ولا أثر للنصيحة إلا بتحقيق القدوة الحسنة في الوالدين؛ القدوة في العبادة والأخلاق، القدوة في الأقوال والأعمال، القدوة في المخبر والمظهر، قال تعالى: وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْواجِنَا وَذُرّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً [الفرقان:74]، وتدبَّر دعوةَ إبراهيم عليه السلام: رَبّ اجْعَلْنِى مُقِيمَ الصلاةِ وَمِن ذُرّيَتِى رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاء [إبراهيم:40]، وقال تعالى: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى [طه:132].
في غياب البيت المسلم الهادئ الهانئ ينمو الانحراف، وتفشو الجريمة، وترتفع نسبة المخدرات، بل ونسمع بارتفاع في نسبة الانتحار.
إن البيت الذي لا يغرس الإيمان ولا يستقيم على نهج القرآن ولا يعيش في ألفةٍ ووئام ينجب عناصرَ تعيش التمزُّقَ النفسي، والضياعَ الفكري، والفسادَ الأخلاق، هذا العقوق الذي نجده من بعض الأولاد والعلاقات الخاسرة بين الشباب والتخلي عن المسؤولية والإعراض عن الله والتمرُّد على القيم والمبادئ الذي يعصِف بفريق من أبناء أمتنا اليوم، ذلك نتيجة حتمية لبيت غفل عن التزكية، وأهمل التربية، وفقد القدوة، وتشتَّت شمله.
البيت الذي يجعل شرائع الإسلام عِضين، يأخذ ما يشتهي، ويذر ما لا يريد، إلى شرقٍ أو غرب، يُنشئ نماذجَ بشرية هزيلة، ونفوسا مهزوزة، لن تفلح في النهوض بالأمة إلى مواقع عزها وسُؤددها.
البيت المسلم من سماته الأصيلة أنه يردُّ أمرَه إلى الله ورسوله عند كل خلاف، وفي أي أمرٍ مهما كان صغيراً، وكل من فيه يرضى ويسلِّم بحكم الله، وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُّبِيناً [الأحزاب:36].
حياة البيت المسلم ـ عباد الله ـ وسعادته وأنسه ولذتُه في ذكر الله، فعن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((مثل البيت الذي يُذكر الله فيه والذي لا يذكر الله فيه مثلُ الحي والميت)) أخرجه المسلم[6]، وقال : ((اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم ولا تتخذوها قبوراً))[7]، وقال: ((لا تجعلوا بيوتكم مقابر، إن الشيطان ينفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة))[8]، وقال: ((عليكم بالصلاة في بيوتكم، فإن خير صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة))[9].
هذه الأحاديث وغيرُها تدلّ على مشروعية إحياء بيوت المسلمين، وتنويرِها بذكر الله من التهليل والتسبيح والتكبير. إحياؤها بالإكثار من صلاة النافلة، وإذا خلت البيوت من الصلاة والذكر صارت قبورا موحشة وأطلالا خربة ولو كانت قصوراً مشيدة. بدون ذكر الله والقرآن تغدو البيوت خاملة ومرتعا للشياطين، سُكَّانها موتى القلوب وإن كانوا أحياءَ الأجساد.
من سمات البيت المسلم تعاون أفراده على الطاعة والعبادة، فضعْفُ إيمان الزوج تقوِّيه الزوجة، واعوجاج سلوك الزوجة يقوِّمه الزوج، تكاملٌ وتعاضُد، ونصيحة وتناصر، قالت عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله يصلي من الليل، فإذا أوتر قال: ((قومي فأوتري يا عائشة))[10]، وقال : ((رحم الله رجلاً قام من الليل فصلى، وأيقظ امرأتَه فصلت، فإن أبت نضح في وجهها الماء، ورحم الله امرأةً قامت من الليل فصلت، وأيقظت زوجها فصلى، فإن أبى نضحت في وجهه الماء))[11].
يدلُّ الحديثان على أن لكلٍّ من الرجل والمرأة دوراً في إصلاح صاحبه، وحثِّه على طاعة الله، ذلك لأن العلاقة بينهما في الأصل علاقةٌ إيمانية، تتشابك فيها الأيدي سعياً لطاعة الله، فإذا كلّت يدٌ ساعدتها الأخرى.
يُؤسَّس البيت المسلم على علم وعمل، علمٍ يدله على الصراط المستقيم، ويُبصِّر بسبل الجحيم، علمٍ بآداب الطهارة وأحكام الصلاة وآداب الاستئذان والحلال والحرام، لا يجهل أهل البيت أحكامَ الدين، فهم ينهلون من علم الشريعة في حلقة علم بين الفينة والأخرى.
من سمات البيت المسلم الحياء، وبه يُحصِّن البيت كيانَه من سهام الفتك ووسائل الشر التي تدع الديار بلاقع، لا يليق ببيت أسِّس على التقوى أن يُهتَك ستره، ويُنقض حياؤه، ويلوَّث هواؤه بما يخدش الحياءَ من أفلام خليعة وأغانٍ ماجنة، أو نبذٍ للحجاب وتشبه بأعداء الدين، كل ذلك ينخر كالسوس في كيان البيت المسلم، وبؤراً تفتح مغالق الشر وتدع العامر خرابا.
من سمات البيت المسلم أن أسراره محفوظة، وخلافاته مستورة، لا تُفشى ولا تستقصى، قال : ((إن من شر الناس عند الله منزلة يوم القيامة الرجل يفضي إلى امرأته وتفضي إليه، ثم ينشر سرّها))[12].
البيت المسلم ـ عبادَ الله ـ يقيم علاقاتِه مع المجتمع على أساس الإيمان، إنه يزداد نوراً بزيارة أهل الصلاح، فالمؤمن كحامل المسك؛ إما أن يعطيَك، وإما أن تشتريَ منه، وإما أن تجدَ منه ريحا طيبة، رَّبّ اغْفِرْ لِى وَلِوالِدَىَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِىَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلاَ تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ تَبَاراً [نوح:28].
لا يدخل البيتَ المسلم من لا يُرضَى دينه، فدخول المفسد فسَاد، وولوجُ المشبوه خطرٌ على فلذات الأكباد، بهؤلاء فسدت الأخلاق في البيوت، وفشا السحر، وحدثت السرقات، وانقلبت الأفراح أتراحا، بل إنهم معاول هدم للبيت السعيد.
البيت المسلم تتعمّق صلاتُه وتزداد رسوخاً بإحياء معاني التعاون في مهمات البيت وأعماله، ولنا في رسول الله أسوةٌ حسنة، لما سئلت عائشة رضي الله عنها: ما كان رسول الله يعمل في بيته؟ فأجابت: كان بشراً من البشر؛ يفلي ثوبَه، ويحلب شاتَه، ويخدم نفسَه. أخرجه أحمد[13]. وفي رواية: كان يكون في مهنة أهله أي: خدمة أهله، فإذا حضرت الصلاة خرج إلى الصلاة. أخرجه البخاري[14].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] تفسير القرآن العظيم (2/581).
[2] أخرجه البخاري في الجمعة (893) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، وهو أيضا عند مسلم في الإمارة (1829).
[3] أخرجه البخاري في التفسير (4786)، ومسلم في الطلاق (1475) من حديث عائشة رضي الله عنها.
[4] أخرجه البخاري في الجنائز (1358) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وهو أيضا عند مسلم في القدر (2658).
[5] تحفة المودود (ص229).
[6] أخرجه مسلم في صلاة المسافرين (779)، وهو عند البخاري في الدعوات (6407) بنحوه.
[7] أخرجه البخاري في الصلاة (432)، ومسلم في صلاة المسافرين (777) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
[8] أخرجه مسلم في صلاة المسافرين (780) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[9] أخرجه البخاري في الأدب (6113)، ومسلم في صلاة المسافرين (781) من حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه.
[10] أخرجه البخاري في الصلاة (512)، ومسلم في صلاة المسافرين (744).
[11] أخرجه أحمد (2/250) واللفظ له، وأبو داود في الصلاة، باب: قيام الليل (1113)، والنسائي في قيام الليل وتطوع النهار، باب: الترغيب في قيام الليل (1592)، وابن ماجه في إقامة الصلاة والسنة فيها، باب: ما جاء فيمن أيقظ أهله من الليل (1326)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وصححه ابن خزيمة (3/183-1148)، وابن حبان (6/307-3567)، والحاكم (1/309)، وهو في صحيح أبي داود (1287).
[12] أخرجه مسلم في النكاح (1437) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
[13] أخرجه أحمد (6/256)، والبخاري في الأدب المفرد (541)، والترمذي في الشمائل (343)، وأبو يعلى (4873)، وأبو نعيم في الحلية (8/331)، وصححه ابن حبان (5675)، وقال الذهبي في السير (7/158): "هذا حديث صالح الإسناد"، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (671).
[14] أخرجها البخاري في الأذان (676).
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وإخوانه.
أما بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله.
لو طُلب من أحدِنا أن يتمنّى في الدنيا، لكان مأمولُه وعظيم مطلوبه أن يعيش في كنف السعادة، وتغمرَ حقيقتُها أرجاءَ البيت.
هذه السعادة في البيت المسلم لا تتحقق بتوفُّر المسكن الفاخر والأثاث الفاخر والملابس الفاخرة، هذا فهمٌ خاطئ للسعادة.
السعادة تتوفَّر بتحقيق تقوى الله عند كلٍّ من الزوجين، ومراقبتِه في السر وفي العلن وفي الغيب والشهادة، تتحقق السعادة بأن ينظر كلُّ من الزوجين إلى الزواج على أنه عبادة يتقرب كلٌّ منهما إلى الله بحسب أداء واجباته الزوجية بإخلاص وإتقان.
في ظلِّ هذه المعاني يقوم البيت المسلم السعيد عامراً بالصلاة والقرآن، تظلِّله المحبة والوئام، وتنشأ الذرية الصالحة فتكون قرَّةَ عين للوالدين ومصدرَ خير لهما في الدنيا والآخرة، قال تعالى: مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حياةً طَيّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [النحل:97].
ألا وصلوا ـ عباد الله ـ على رسول الهدى، فقد أمركم الله بذلك في كتابه فقال: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىّ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم...
ــــــــــــــــــــ(67/172)
ظاهرة العنوسة والعزوبة
...
...
2591
...
الأسرة والمجتمع, فقه
...
...
المرأة, النكاح, قضايا المجتمع
...
عبد الرحمن السديس إمام الحرم
...
...
مكة المكرمة
...
9/5/1423
...
...
المسجد الحرام
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1ـ أهمية الترابط الاجتماعي. 2ـ أثر المتغيرات الحضارية في خلخلة الروابط الاجتماعية. 3ـ بعض الآفات الاجتماعية المنتشرة في هذا العصر. 4ـ استفحال ظاهرة العزوبة والعنوسة. 5ـ أسباب هذه الظاهرة: التذرع بإكمال الدراسة، عضل النساء، غلاء المهور، الإسراف في نفقات الزواج. 7ـ كلمة للدعاة والمصلحين ورجال الإعلام وغيرهم. 8ـ الحل والعلاج.
الخطبة الأولى
أما بعد: فأوصيكم ـ عباد الله ـ ونفسي بتقوى الله عز وجل، فإنها سبب التوفيق والنجاح، وطريق العز والصلاح، وينبوع الخير والفلاح.
أيها المسلمون، النسيج الاجتماعي المترابط في الأمة دعامة من دعائم سعادتها واستقرارها، وركيزة من ركائز نموها وازدهارها. والمنظومة الاجتماعية الخيِّرة في المجتمعات قاعدة كبرى في إرساء حضارتها وبناء أمجادها. والخلل الاجتماعي في أي أمة نذير خطر يهدد كيانها، لما يحدثه من شروخ عميقة في بنائها الحضاري ونظامها الاجتماعي، مما يهدد البنية التحتية الاجتماعية، ويستأصل شأفتها.
والمتأمل في الواقع الاجتماعي لكثير من المجتمعات يدرك ما أحدثه المتغيرات الحضارية من نقلة نوعية في حياة الأفراد والأسر والبيوتات، انعكست آثارها السلبية على كافة المستويات لا سيما في القضايا الاجتماعية. فبعد أن كانت قضايا الأمة الاجتماعية متَّسمة باليسر والسهولة انقلبت إلى صور جديدة متَّسمة بالعنت والمشقة والتعقيد، لتظهر أنماط جديدة وظواهر خطيرة، يُخشى أن تُسهم في خلخلة النظام الاجتماعي في الأمة، ويأتي الانفتاح العالمي والتواصل الحضاري بين الشعوب والمجتمعات ليُسهم في إضرام هذه الظواهر وإذكاء سعير هذه المظاهر، مما يتطلب التأكيد على التمسك بثوابت الأمة وأصولها وأخلاقها وقيمها ونُظُمها.
ولعل من أبرز الظواهر والسلبيات التي أذكتها المتغيرات والمستجدات تلك الظواهر الاجتماعية الخطيرة التي تعصف بكيان الأسر وتهِّدد تماسك المجتمع، حتى تقلَّصت وظائف البيت، وضعفت مسؤوليات الأسرة، وكثرت ظواهر العقوق، وتخلّى كثير من الأبناء والآباء عن أداء الحقوق، وعلت نسبة العنوسة، وكثرت المشكلات الاجتماعية، وارتفعت معدلات الطلاق، وتعددت أسباب الانحراف والجريمة والانتحار والمخدرات والمسكرات، وجنوح الأحداث وتشرد الأطفال، والعنف العائلي، وتفككت كثير من العلاقات الاجتماعية، وضعفت أواصر الأرحام وذوي القربى، وسادت القطيعة والجفاء، وعمّ الحقد والحسد والبغضاء، وأسنِدت مهمة البيت وتربية النشء للخدم والسائقين، وضعفت أواصر المودة ووشائح الأخوة، وانتشرت ظواهر البطالة والاستهلاك التفاخري بين مطرقة الديون وسِندان التقصير، وشاعت قيم الأحادية والأنانية محلّ القيم الجماعية والإيثارية، وأهمِلت قضايا المرأة في حجابها وعفافها، واشتكت كثير من المجتمعات من تبرجها وسفورها، مما يشكل أزمة اجتماعية وتربوية محدقة، ويفرز أجيالاً جديدة وسْط معطياتٍ ثقافية مخالفة لعقيدتنا، وقيمٍ مخالفةٍ لمجتمعاتنا المحافظة، مما يتطلب من الغيورين إيلاء القضايا الاجتماعية في الأمة حقها من العناية والتذكير والاهتمام والرعاية.
معاشر المسلمين، ولْنقِف وقفةً مع إحدى أبرز قضايانا الاجتماعية المتعلقة بقضايا الزواج، لنشخص فيها ظاهرة من أخطر الظواهر الأسرية التي لها آثارها وأخطارها على الفرد والمجتمع والأمة، إنها ظاهرة ما يُعرف بالعزوبة والعنوسة التي يئنّ من لأوائها فئام من الشباب والفتيات.
لقد أكّدت دراسات اجتماعية معاصرة نسبة الإحصاءات المذهلة في بعض المجتمعات لهذه الظاهرة، حيث بلغت في مجتمع واحد مليونا ونصف مليون من العوانس تنتظر كل واحدة منهن فارس أحلامها. ومن المحتمل أن يزيد العدد خلال خمس سنوات قادمة إلى أربعة ملايين أو أكثر لو استمرت معدلات الزيادة بنفس الوتيرة. ولا شك أنه مؤشِّر مزعج ينذر بشؤم خطير وضرر كبير ما لم تُتَدارك هذه الظاهرة وتُشخَّص داءً ودواءً بحلول عملية تطبيقية، لا نظرية فحسب.
أمة الإسلام، إن ظاهرة العنوسة في المجتمع وعزوف كثير من الشباب والفتيات عن الزواج له مضاره الخطيرة وعواقبه الوخيمة على الأمة بأسرها، سواء أكانت هذه الأخطار والآثار نفسية أم اقتصادية أم اجتماعية أم أخلاقية وسلوكية، لا سيما في هذا الزمان الذي كثرت فيه أسباب الفتن، وتوفّرت فيه السبل المنحرفة لقضاء الشهوة، فلا عاصم من الانزلاق في مهاوي الرذيلة والردى والفساد الأخلاقي إلا التحصّن بالزواج الشرعي. فالقضية إذًا ـ أيها الغيورون ـ قضية فضيلة أو رذيلة.
ومن المؤسف أن يصل بعض الشباب إلى سن الثلاثين أو أكثر، وهو لم يفكر بعد في موضوع الزواج، وما انفتحت أبواب الفساد إلا لما وضعت العراقيل أمام الراغبين في الزواج، بل لم ينتشر الانحلال والدعارة والعلاقات المشبوهة والسفر إلى بيئات موبوءة ومستنقعات محمومة إلا بسبب تعقيد أمور الزواج، لا سيما مع غلبة ما يخدش الفضيلة، ويقضي على العفة والحياء، مما يُرى ويُقرأ ويُسمع، مع ألوان الفساد الذي قذفت به المدنية الحديثة، وحدِّث ولا كرامة عما تبثه القنوات الفضائية، والشبكات المعلوماتية التي تفجِّر براكين الجنس، وتزلزل ثوابت الغريزة، وتوَجَّه ضدَّ قيم الأمة وأخلاقها، فإلى الله المشتكى، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
معاشر المسلمين، وإذا التُمست أسباب هذه الظاهرة نجد أن جملة منها لا تعدو أن تكون رواسب مرحلة تأريخية مرّت بها كثير من المجتمعات الإسلامية، أعقبها غزوٌ فكري كانت له آثار خطيرة على الأوضاع الاجتماعية في الأمة، مما أفرز عوامل نفسية وثقافية واقتصادية، منها ما يرجع إلى الشباب والفتيات، ومنها ما يرجع إلى الأولياء، ومنها ما يعود إلى المجتمع بأسره.
فأما الشباب والفتيات فبعضهم يتعلق بآمال وأحلام، وخيالات وأوهام، وطموحات ومثاليات، هي في الحقيقة من الشيطان، فبعضهم يتعلق بحجة إكمال الدراسة، زاعمين أن الزواج يحول بينهم وبين ما يرومون من مواصلة التحصيل، فمتى كان الزواج عائقًا عن التحصيل العلمي؟! بل لقد ثبت بالتجربة والواقع أن الزواج الموفق يعين على تفرغ الذهن، وصفاء النفس، وراحة الفكر، وأنس الضمير والخاطر، ونقولها بصراحة: ماذا تنفع المرأةَ بالذات شهاداتها العليا إذا بقيت عانسًا قد فاتها ركب الزواج، وأصبحت أيِّمًا لم تسعد في حياتها بزوج وأولاد، يكونون لها زينة في الحياة، وذخرًا لها بعد الوفاة، وكم من امرأة فاتها قطار الزواج، وذهبت نضارتها، وذبلت زهرتها، وتمنت بعد ذلك تمزيق شهاداتها، لتسمع كلمة الأمومة على لسان وليدها، ولكن بعد فوات الأوان، وكم هي الصيحات والزفرات الحرَّاء التي أطلقت من المجربات، فأين المتعقلات؟!
إن هذه المشكلة ومثيلاتها مردّها إلى غبش في التصور، وخلل في التفكير، بل لا نبالغ إذا قلنا: إنها إفراز ضعف المعتقد، وقلة الديانة، والخلل في الموازين، وسوء الفهم لأحكام ومقاصد الشريعة الغراء، إنه النظر المشوش حول المستقبل، والتخوف الذي لا مبرر له، والاعتماد على المناصب والماديات، والتعلق بالوظائف والشهادات، وتأمين فرص العمل زعموا، مما يزعزع الثقة بالله، والرضا بقضائه وقدره، ويضعف النظر المتبصِّر، والفكر المتعقل.
إن حقًا على الشباب والفتيات أن يبادروا عمليًا إلى الزواج متى ما تيسر لهم أمره، وأن لا يتعلقوا بأمور مثالية، تكون حجر عثرة بينهم وبين ما ينشدون من سعادة وفلاح، ويقصدون من خير ونجاح، وأن لا يتذرعوا بما يُعبَّر عنه بتأمين المستقبل، فالله عز وجل يقول: وَأَنْكِحُواْ الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِن يَكُونُواْ فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [النور:32]، ويقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (لو لم يبق من أجلي إلا عشرة أيام، أعلم أني أموت في آخرها، ولي طول على النكاح لتزوجت مخافة الفتنة)[1]، ويقول الإمام أحمد رحمه الله: "ليست العزوبة من أمر الإسلام في شيء، ومن دعاك إلى غير الزواج دعاك إلى غير الإسلام"[2].
إخوة الإيمان، ومن الأسباب الخطيرة في انتشار هذه الظاهرة واستفحالها عضل النساء من زواج الأَكفاء، والرسول يقول: ((إذا أتاكم من ترضون خلقه ودينه فزوجوه، إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد عريض)) خرَّجه الترمذي وابن ماجه والحاكم بسند صحيح[3].
فهناك بعض الأولياء ـ هداهم الله ـ قد خانوا الأمانة التي حُمِّلوها في بناتهم وفتياتهم، بمنعهنّ من الزواج من الأكفاء دينًا وخلقًا وأمانة، فقد يتقدم إليهم الخاطب الكفء فيماطلونه ويعتذرون له بأعذار واهية، وينظرون فيه إلى أمور شكلية وجوانب كمالية، ويسألون عن ماله ووظيفته ووجاهته ومكانته، ويغفلون أمر دينه وخلقه وأمانته.
بل لقد وصل ببعض الأولياء الجشع والطمع أن يعرض ابنته سلعة للمساومة وتجارة للمزايدة والعياذ بالله، وما درى هؤلاء المساكين أن هذا عضل وظلم وخيانة، وقد تكون مدرِّسة وموظفة فيطمع في مرتبها، ألم يعلم هؤلاء بالاعترافات والقصص الواقعية لضحايا هذه الظاهرة؟! ألم يسمعوا الرسائل المؤلمة المفجعة التي سطرتها دموع هؤلاء؟! إنها صرخة نذير في آذان الآباء والأولياء، ورسالة عاجلة إليهم أن يتداركوا شرفهم وعفتهم وعرضهم قبل فوات الأوان. أين الرحمة في هؤلاء الأولياء؟! كيف لا يفكرون بالعواقب؟! أيسرُّهم أن تلطَّخ سمعتهم مما يندى له جبين الفضيلة والحياء؟! سبحان الله، كيف يجرؤ مسلم غيور يعلم فطرة المرأة وغريزتها على الحكم عليها بالسجن المؤبد إلى ما شاء الله؟! ولو عقل هؤلاء لبحثوا هم لبناتهم عن الأزواج الأكفاء، فهذا عمر رضي الله عنه يعرض ابنته حفصة على أبي بكر ليتزوجها، ثم على عثمان رضي الله عنهم أجمعين[4]، وهذا سعيد بن المسيب رحمه الله يزوج تلميذه أبا وداعة[5]، وهذا ديدن السلف في عصورهم الزاهية.
إن تضييق فرص الزواج علّة خراب الديار، به تُقضّ المضاجع، وبه تكون الديار بلاقع[6]، وبه يقتل العفاف، وتوأد الفضائل، وتسود الرذائل، وتهتك الحرمات، وتنتشر الخبائث والسوآت.
فيا أيها الأولياء، اتقوا الله فيمن تحت أيديكم من البنات، بادروا بتزويجهن متى ما تقدم الأكفاء في دينهم وأخلاقهم، ((إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير)).
وعضل النساء ورَدُّ الأكفاء فيه جناية على النفس، وعلى الفتاة، وعلى الخاطب، وعلى المجتمع برمّته، والمعيار كفاءة الدين، وكرم العنصر، وطيب الأرومة[7]، وزكاء المعدن، وسلامة المحضن، وحسن المنبت، وصدق التوجه، ((فاظفر بذات الدين تربت يداك))[8].
أمة الخير والفضيلة، وسبب آخر لا يقل أهمية عن سابقه، ألا وهو مشكلة غلاء المهور والمبالغة في الصداق في بعض الأوساط، حتى صار الزواج عند بعض الناس من الأمور المستحيلة، وبلغ المهر في بعض البقاع حدًا خياليًا، لا يطاق إلا بجبال من الديون التي تثقل كاهلَ الزوج.
ويؤسف كلَّ غيور أن يصل الجشع ببعض الأولياء أن يطلب مهرًا باهظًا من أناس يعلم الله حالهم، لو جلسوا شطر حياتهم في جمعه لما استطاعوا، فيا سبحان الله، ءَإلى هذا الحد بلغ الطمع وحب الدنيا ببعض الناس؟! وكيف تُعرض المرأة الحرة الكريمة المحصنة العفيفة سلعة للبيع والمزايدة وهي أكرم من ذلك كله؟! حتى غدت كثيرات مخدَّرات في البيوت، حبيسات في المنازل، بسبب ذلك التعنت والتصرف الأرعن[9].
إن المهر في الزواج ـ يا رعاكم الله ـ وسيلة لا غاية، وإن المغالاة فيه لها آثار سيئة على الأفراد والمجتمعات لا تخفى على العقلاء؛ من تعطيل الزواج، أو الزواج من مجتمعات أخرى مخالفة للمجتمعات المحافظة، مما له عواقب وخيمة، فربّ لذة ساعة تعقبها حسرات إلى قيام الساعة.
ولم يقف الجشع ببعض الناس عند هذا الحد، بل تعداه إلى ما هو أبعد من ذلك مما هو خروج عن منهج السلف الصالح رحمهم الله، يقول الفاروق رضي الله عنه: (ألا لا تغالوا في صداق النساء، فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا، أو تقوى في الآخرة، لكان النبي أولاكم بها)[10]، وقد زوج النبي رجلاً بما معه من القرآن[11]، وقال لرجل: ((التمس ولو خاتمًا من حديد))[12]، وتزوج عبد الرحمن بن عوف على وزن نواه من ذهب[13]. فالله المستعان، كيف بحال المغالين اليوم؟! أما علم أولئك أنهم مسؤولون أمام الله عن أماناتهم ورعاياهم؟! هل نُزعت الرحمة من قلوبهم؟! ولا تنزع الرحمة إلا من شقي.
أمة الإسلام، وعامل مهم في رواج هذه الظاهرة ألا وهو ما أحيطت به بعض الزيجات[14] من تكاليف باهظة، ونفقات مذهلة، وعادات اجتماعية وتقاليد وأعراف جاهلية فرضها كثير من الناس على أنفسهم، تقليدًا وتبعية، مفاخرة ومباهاة، إسرافًا وتبذيرًا، فلماذا كل هذا يا أمة الإسلام؟!
فاتقوا الله عباد الله، وتناصحوا فيما بينكم، وتعقلوا كل التعقل في حلِّ قضاياكم الاجتماعية، لا سيما قضايا الزواج، ولا تتركوا الأمر بأيدي غيركم من السفهاء. والدعوة موجهة للمصلحين والوجهاء والعلماء والأثرياء وأهل الحل والعقد في الأمة أن يكونوا قدوة لغيرهم في هذا المجال، فالناس تبع لهم. وعلى وسائل الإعلام بكافة قنواتها نصيب كبير في بث التوعية والتوجيه في صفوف أبناء المجتمع، لعلاج هذه المشكلات الاجتماعية الكبيرة واختفاء هذه الظواهر الخطيرة.
وأنتم أيها الإخوة والأخوات، يا من ابتليتم بهذه الظاهرة، صبراً صبراً، وثباتاً واستعفافاً، ورضاً بقضاء الله وقدره، وعملاً بالأسباب الشرعية، وفتحاً لآفاق الآمال الكبرى، فما عند الله خير وأبقى.
وأنتم أيها الآباء والأولياء، الأمل فيكم كبير، إننا لمتفائلون كل التفاؤل أن تفتحوا قلوبكم، وتستجيبوا لما فيه صلاح أنفسكم وأبنائكم ومجتمعاتكم، وكان الله في عون العاملين المخلصين لما فيه صلاح دينهم وأمتهم.
بارك الله لي ولكم في الوحيين، ونفعني وإياكم بهدي سيد الثقلين، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولكافة المسلمين والمسلمات، فاستغفروه وتوبوا إليه، فهو أهل التقوى وأهل المغفرة.
[1] أخرجه عبد الرزاق (6/170) عن معمر عن أبي إسحاق عنه، وسعيد بن منصور في سننه (493) عن أبي عوانة عن المغيرة عن إبراهيم عنه، وعزاه الهيثمي في المجمع (4/251) إلى الطبراني وقال: "فيه عبد الرحمن بن عبد الله المسعودي وهو ثقة ولكنه اختلط وبقية رجاله رجال الصحيح"، فالأثر بهذه الطرق ثابت والله أعلم.
[2] انظر: المغني لابن قدامة (9/ 341).
[3] أخرجه الترمذي في كتاب النكاح (1084)، وابن ماجه في كتاب النكاح (1967) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وصححه الحاكم (2/ 164 ـ 165), وتعقبه الذهبي بأن فيه عبد الحميد بن سليمان قال فيه أبو داود: "كان غير ثقة"، وفيه أيضًا ابن وثيمة لا يعرف، ثم اختلف في إسناده، فنقل الترمذي عن البخاري أنه يرجح انقطاعه. ولكن للحديث شواهد يتقوى بها، ولذا حسنه الألباني في السلسلة الصحيحة (1022).
[4] القصة أخرجها البخاري في كتاب النكاح (5122)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
[5] انظر القصة في الحلية لأبي نعيم (2/167 ـ 168)، والسير للذهبي (4/233 ـ 234).
[6] البلاقع جمع بلقع وهي الأرض القفر.
[7] الأرومة بفتح الهمزة وضمها الأصل.
[8] أخرجه البخاري في النكاح (5090)، ومسلم في الرضاع (1466) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[9] الأرعن: الأهوج والأحمق.
[10] أخرجه أحمد (1/ 40 ـ 41، 48)، وأبو داود في النكاح (2106)، والترمذي في النكاح (1114)، والنسائي في النكاح (3349)، وابن ماجه في النكاح (1887)، وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وصححه ابن حبان (4620 ـ الإحسان ـ)، والحاكم (2/175ـ 176)، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (1852).
[11] أخرجه البخاري في النكاح (5121)، ومسلم في النكاح (1425) من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه.
[12] أخرجه البخاري في النكاح (5150)، ومسلم في النكاح (1425)، وهو نفس حديث سهل بن سعد رضي الله عنه المتقدم.
[13] أخرجه البخاري في النكاح (5167)، ومسلم في النكاح (1427) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
[14] الزيجات أي: الزواجات.
الخطبة الثانية
الحمد لله، خلق من الماء بشراً فجعله نسبا وصهرا، وكان ربك قديراً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له لم يزل بعباده خبيراً بصيراً، وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله، بعثه الله هادياً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ [البقرة:281]، واعلموا أن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة.
أيها الإخوة الأحبة في الله، وبعد تشخيص الداء يأتي وصف الدواء.
وإن الحل والعلاج لظاهرة العزوبة والعنوسة في المجتمع يكمن في تقوية البناء العقدي في الأمة، والتربية الإيمانية للأجيال من الفتيان والفتيات، وتكثيف القيم الأخلاقية في المجتمع، لا سيما في البيت والأسرة، ومعالجة الأزمات والعواصف والزوابع التي تهدد كيان المجتمع، وتيسير أمور الزواج، وتخفيف المهور، وتزويج الأكفاء، وترسيخ المعايير الشرعية لاختيار الزوجين، ومجانبة الأعراف والعادات والتقاليد الموروثة والدخيلة، وتحقيق التعاون بين أبناء المجتمع، وكذا قيام وسائل الإعلام بواجبها التربوي والتوجيهي. ينبغي العناية بجمعيات إعانة الشباب على الزواج والدلالة عليه، ومنحها فرصاً كبرى في أداء مهمتها العظمى، وكذا دعم ذوي اليسار لها، وأن يكون الوجهاء قدوة لغيرهم في هذا المجال، وكذا الاهتمام بالقضايا الاجتماعية عبر مؤسسات خيرية كبرى وهيئات خيرية عليا.
وثمَّت موضوع في علاج هذه الظاهرة، ألا وهو ضرورة أن تعيد المجتمعات النظر في قضية تعدد الزوجات على حسب الضوابط الشرعية، ومراعاة الحكمة التشريعية، فمن للعوانس والأرامل والمطلقات وذوات الأعذار والاحتياجات الخاصة؟! إنه تعدد المودة والرحمة والإحسان والعدل، لا الظلم والتسلط والحيف والجور، لا سيما للزوجة الأولى، وكم يُسمع من الشكاوى في ذلك، وقد قال : ((من كان له زوجتان فمال إلى إحداهما دون الأخرى جاء يوم القيامة وشقه مائل)) أي ساقط. رواه أحمد وأصحاب السنن[1].
ألا فاتقوا الله عباد الله، واتقين الله إماء الله.
ثم صلوا وسلموا جميعاً على الحبيب رسول الله، نبيكم محمد بن عبد الله، كما أمركم بذلك ربكم جل في علاه، فقال تعالى قولاً كريماً: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىّ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم وبارك على نبينا وحبيبنا وقدوتنا محمد بن عبد الله، وارض اللهم...
[1] أخرجه أحمد (13/320) (7936)، وأبو داود في النكاح (2133)، والترمذي في النكاح (1141)، والنسائي في عشرة النساء (3942)، وابن ماجه في النكاح (1969) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ، وصححه ابن الجارود (722)، وابن حبان (4207)، والحاكم (2/186)، ووافقه الذهبي، وقال الحافظ في البلوغ (1085): "إسناده صحيح"، وهو في صحيح الترمذي (912).
ــــــــــــــــــــ(67/173)
مقومات الحياة الزوجية السعيدة
...
...
2592
...
الأسرة والمجتمع, فقه
...
...
النكاح, قضايا الأسرة
...
عبد المحسن بن محمد القاسم
...
...
المدينة المنورة
...
9/5/1423
...
...
المسجد النبوي
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1ـ أهمية الأسرة. 2ـ فضل الزواج. 3ـ نصائح للأزواج. 4ـ نصائح للزوجات. 5ـ من منكرات الأفراح. 6ـ التحذير من ظاهرة العنوسة.
الخطبة الأولى
أما بعد: فاتقوا الله ـ عباد الله ـ حق التقوى، فمن اتقى ربه علا، ومن أعرض عنه غوى.
أيها المسلمون، الأسرة أساس المجتمع، منها تفترق الأمم وتنتشر الشعوب. نواةُ بنائها الزوجان، ياأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مّن ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُواْ [الحجرات:13]. والأسرة هي المأوى الذي هيأه الله للبشر يستقر فيه ويسكن إليه. وفي الزواج معمار الكون وسكن النفس ومتاع الحياة، بقيامه تنتظم الحياة ويتحقق العفاف والإحصان، يجمع الله بالنكاح الأرحام المتباعدة والأنساب المتفرقة. وعد الله فيه بالغنى والسعة في الرزق ولا خُلف لوعد الله: إِن يَكُونُواْ فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ [النور:32]. وفي اختيار لبنة النكاح تتسع الآفاق، فيقرب البعيد ويُبَرّ القريب. وهموم الزوجين عديدة ومتشعبة، ولكن حسن العشرة وطيب المودة يبددها، وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً [النساء:19]. وفي الأسرة عتاب ومودة، سخط ورضا، والرجل يرفعه الأدب ويزكيه العقل، يضع من المودة أعلاها ومن المحبة أسماها، يعفو عن الخطأ ويتجاوز عن الزلل، والمرأة خلقت من ضلع أعوج، وبمداراتها والصبر على ما يكرهه منها تستقيم الأمور، يقول المصطفى : ((استوصوا بالنساء خيرا، فإنهن خلقن من ضلع، وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه، فإن ذهبت تقيمه كسرته، وإن تركته لم يزل أعوج، فاستوصوا بالنساء خيراً)) متفق عليه[1].
ومن كرُم أصله لان قلبه، وزوجتك هي حاملة أولادك، وراعية أموالك، وحافظة أسرارك. اخفض الجناح معها، وأظهر البشاشة لها، فالابتسامة تحيي النفوس وتمحو ضغائن الصدور، والثناء على الزوجات في الملبس والمأكل والزينة جاذب لأفئدتهن، وقد أباح الإسلام الكذب مع الزوجة لزيادة المودة لها. والهدية بين الزوجين مفتاح للقلوب، تنبئ عن محبة وسرور، والتبسط معها ونبذ الغموض والكبرياء من سيما الحياة السعيدة، يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (ينبغي للرجل أن يكون في أهله كالصبي ـ أي في الأنس والسهولة ـ فإن كان في القوم كان رجلاً)[2]. وكن زوجاً مستقيماً في حياتك تكن هي بإذن الله أقوم، ولا تمدن عينيك إلى ما لا يحل لك، فالمعصية شؤم في بيت الزوجية، ومشاهدة الفضائيات يقبّح جمال الزوجة عند زوجها، وينقص قدر زوجها عندها، فتتباعد القلوب، وتنقص المحبة، وتضمحل المودة، ويبدأ الشقاق، ولا أسلم من الخلاص منها. وكن لزوجتك كما تحب أن تكون هي لك في كل ميادين الحياة، فإنها تحب منك كما تحب منها، يقول ابن عباس رضي الله عنهما: (إني أحب أن أتزين للمرأة كما أحب أن تتزين لي)[3]. واستمع إلى نقد زوجتك بصدر رحب وبشاشة خلق، فقد كان نساء النبي يراجعنه في الرأي فلا يغضب منهن، ومن علو النفس أن لا يأخذ الزوج من مال زوجته شيئاً إلا برضاها، فمالها ملك لها، وأحسن إليها بالنفقة بالمعروف ولا تبخل عليها، وتذكر أن زوجتك تود الحديث معك في جميع شؤونها فأرعِ لها سمعك، فهذا من كمال الأدب، ولا تعُد إلى دارك كالح الوجه عابس المحيّا، فأولادك بحاجة إلى عطفك وقربك وحديثك، فألن لهم جانبك، وانشر بين يديهم أبوتك، ودعهم يفرحون بتوجيهك وحسن إنصاتك، فقد كان النبي إذا رأى ابنته فاطمة قال لها: ((مرحباً بابنتي))، ثم يجلسها عن يمينه أو شماله. رواه مسلم[4]. والحنوُّ على أهل البيت شموخ في الرجولة، يقول البراء رضي الله عنه: دخلت مع أبي بكر رضي الله عنه على أهله فإذا ابنته عائشة مضجعة قد أصابتها حمى، فرأيت أباها أبا بكر يقبل خدها ويقول: كيف أنت يا بنية؟ رواه البخاري[5].
والقيام بأعباء المنزل من شيم الأوفياء، قيل لعائشة رضي الله عنها: ماذا كان يعمل رسول الله في بيته؟ قالت: كان بشراً من البشر، يفلي ثوبه ويحلب شاته ويخدم نفسه. رواه أحمد.
والكرم بالنفقة على أهل بيتك أفضل البذل، ولا يطغى بقاؤك عند أصحابك على حقوق أولادك، فأهلك أحق بك، ولا تذكِّر زوجتك بعيوب بدرت منها، ولا تلمزها بتلك الزلات والمعايب، واخف مشاكل الزوجين عن الأبناء، ففي إظهارها تأثير على التربية واحترام الوالدين، والغضب أساس الشحناء، وما بينك وبين زوجتك أسمى أن تدنسه لحظه غضب عارمة. وآثر السكوت على سخط المقال، والعفو عن الزلات أقرب إلى العقل والتقوى، يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (النساء عورة، فاستروهن بالبيوت، ودَاووا ضعفهن بالسكوت).
إن حق الزوجة على الزوج عظيم، أُسرت بالعقود وأوثِقت بالعهود. الزوجات يكرمهن الكريم، ويعلي شأنهن العظيم، تقول عائشة رضي الله عنها: كان النبي يكثر ذكر خديجة رضي الله عنها، وربما ذبح الشاة ثم يقطعها أعضاءً، ثم يبعثها في صدائق خديجة، فربما قلت له: كأنه لم يكن في الدنيا امرأة إلا خديجة!! رواه البخاري[6].
والزوجة الحاذقة تجعل قلبها لزوجها سكناً، وتجعل في نفسها له طمأنينة، وفي حديثها معه ابتهاجاً وزينة، تصحبه بالقناعة وطيب المعاشرة بحسن السمع والطاعة في غير معصية، تعترف بجميل الزوج وفضله، وتقوم بحقوقه، تؤمن بعلوِّ منزلته وعظيم مكانته، يقول عليه الصلاة والسلام: ((لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت الزوجة أن تسجد لزوجها))[7]، يقول شيخ الإسلام رحمه الله: "وليس على المرأة بعد حق الله ورسوله أوجب من حق الزوج"[8].
المرأة الصالحة إن رأت زوجها جنح ذكرته بالله، وإن رأته يكدح للفانية ذكرته بالآخرة الباقية، تعينه على نوائب الدهر، لا تفشي له سراً، ولا تعصي له أمراً في غير معصية الله، تعين زوجها على بر والديه، فمن تحت يديهما نشأ، وعلى أنظارهما ترعرع، تطلب رضا ربها برضا زوجها، لا تتتبّع هفواته، ولا تظهر زلاته، حافظة له في الغيب والشهادة، إن حضر أكرمته، وإن غاب صانته، لا تثقل على زوجها في النفقة، همُّها طاعة ربها برضا زوجها، وتنشئة أولادها على الصلاح والاستقامة، لا ترفع عليه صوتاً، ولا تخالف له رأيا. بشَّر النبي خديجة رضي الله عنها ببيت في الجنة من قصب اللؤلؤ لا صخب فيه ولا نصب قال ابن كثير: "لا صخب فيه ولا نصب لأنها لم ترفع صوتها على النبي ، ولم تتعبه يوماً من الدهر، فلم تسخط عليه يوماً، ولا آذته أبداً". وقد أوصت حكيمة من العرب ابنتها عند زواجها بقولها: "يا بنية، إنك لن تصلي إلى ما تحبين منه حتى تؤثري رضاه على رضاك، وهواه على هواك، فيما أحببت وكرهت".
والعفة محور الحياة الكريمة، وزينة الزوجة قرارُها في دارها، تقول عائشة رضي الله عنها: (إن خيراً للمرأة أن لا ترى الرجال ولا يروها).
ذات الدين مطيعة لربها ثم لزوجها، لا تتعالى عليه، ولا تتمرد على قوامته، ولا تسعى إلى منازعته، تراها ساعية في راحة زوجها، قائمة على خدمته، راغبة في رضاه، حافظة لنفسها، يدها في يد زوجها، لا تنام إذا غضب عليها زوجها حتى يرضى، كل ذلك ليقينها بأن فوزها بالجنة معلق بطاعة زوجها مع قيامها بما فرض الله عليها.
أيها المسلمون، النعمة لا تذكر بالخطيئة، وليلة زفاف الزوجة إلى زوجها من آلاء الله العظيمة، والابتهاج بها لا يكون بنزع الحياء فيها، فيحرم على النساء الملبس المتعري ليلة النكاح ولو بين النساء، لما فيه من الفتنة ومجانبة الستر والعفة، والمرأة مستضعفة، إن لم تؤخذ بيد وليها جنحت مع نفسها لهواها، والغناء والمعازف في ليالي الأفراح وغيرها محرمة، وفي الضرب بالدف ليلة النكاح للنساء سنة شرعها الإسلام، وفيه غنية عن الحرام من المعازف والغناء. والتصوير من كبائر الذنوب، متوعدٌ صاحبه باللعنة وولوج النار، يقول عليه الصلاة والسلام: ((كل مصور في النار))، وقد تسري صور النساء إلى غير المحارم من الرجال، فتنهار بذلك البيوت، وقد أفتى أهل العلم بحرمة إجابة دعوة فيها منكر لا قدرة على تغييره. وإن التبذير والمخيلة في الاحتفالات أثرة على الزوج وركضة من الشيطان، ولو جمع ما بُذخ من المال للزوج لبناء مسكن له أو قضاء دينه لكان خيراً.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَهُوَ الَّذِى خَلَقَ مِنَ الْمَاء بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيراً [الفرقان:54].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني الله وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في أحاديث النبياء (3331)، ومسلم في الرضاع (1468) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[2] أخرجه البيهقي في الشعب (6/292).
[3] أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (4/196)، والطبري في تفسيره (2/353)، والبيهقي في الكبرى (7/295).
[4] أخرجه مسلم في الفضائل (2450) من حديث عائشة رضي الله عنها، وهو أيضا عند البخاري في المناقب (3426).
[5] أخرجه البخاري في المناقب (3704).
[6] أخرجه البخاري في المناقب (3607).
[7] أخرجه أخرجه أحمد (4/381) من حديث عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه. وأخرجه الترمذي في الرضاع، باب: ما جاء في حق الزوج على المرأة (1159)، والبيهقي (7/291) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وصححه ابن حبان (4162)، والألباني في الإرواء (1998)، وذكر له شواهد عدّة.
[8] مجموع الفتاوى (32/275).
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكر على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه.
أما بعد:
أيها المسلمون، في النساء فئة أخرص الحياءُ لسانها عن الشكوى، صرخاتها مكتومة في أعماق جروح قلبها، تعيش صراعاً نفسياً في مجتمعها، تبيت مع القلق والحزن، يؤرقها الهم والفكر، أيامها غالية، وشهورها أغلى، كل يوم تغرب فيه الشمس تتبدّد أحلامها بحياة سعيدة، وتتألم خوفاً من دخول بوابة العنوسة، لم تنعم بالأمومة والزوجية، بددت حياتها بشروط وهمية في اختيار زوجها، وأخرى آثرت التعليم على بناء الأسرة، ففُجئت بإعراض الأزواج عنها لتقدم سنها، وما قيمة الشهادة مع الحرمان من الزوج والأبناء، وفي الآباء من ظلم بنته وأذاقها ألماً وحسرة بتأخير زواجها، جشعاً في وظيفتها ومالها، ومنهم من ظلمها بتزويجها ابن عمها قصراً جرياً وراء التقاليد والأعراف المخالفة للشرع. والزواج المبكر إغلاق لتلك البوابة الحزينة، وقد تزوج النبي عائشة رضي الله عنها وهي تلعب في أرجوحة لها، وهي بنت تسع سنين، وصغر سنها لم يحجزها عن الزواج بأعظم الرجال، وتحمل مهام بيت النبوة وواجباته وحقوقه، بل كانت تلك الصغيرة هي أحب نسائه إليه عليه الصلاة والسلام.
فلنتخذ من شريعتنا واقعاً لنا، ليسعد الفتيان والفتيات بزواجهم في سن مبكرة، وتيسير أموره لينهض المجتمع ويسلم من الانحراف، ومع بزوغ الفتن وتجددها يكون الأمر ألزم والحكم آكد.
ثم اعلموا أن الله أمركم بالصلاة والسلام على نبيه، فقال في محكم التنزيل: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىّ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم على نبينا محمد، وارض اللهم...
ــــــــــــــــــــ(67/174)
المرأة بين صيانة الإسلام وعبث اللئام
...
...
2617
...
الأسرة والمجتمع, العلم والدعوة والجهاد
...
...
المرأة, محاسن الشريعة
...
حسين بن عبد العزيز آل الشيخ
...
...
المدينة المنورة
...
21/6/1423
...
...
المسجد النبوي
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- منزلة المرأة في الإسلام. 2- النساء شقائق الرجال. 3- فضل المرأة الصالحة. 4- رعاية الإسلام للمرأة في جميع مراحل حياتها. 5- حقوق المرأة في الإسلام. 6- دعوات أعداء الإسلام في شؤون المرأة. 7- عمل المرأة في ظل الإسلام. 8- تحذير الإسلام من التبرج والسفور والاختلاط.
الخطبة الأولى
معاشر المسلمين، لم تعرف البشريةُ ديناً ولا حضارةً عُنيت بالمرأة أجملَ عناية وأتمَّ رعايةٍ وأكملَ اهتمام كالإسلام. تحدَّث عن المرأة، وأكّد على مكانتها وعِظم منزلتها، جعلها مرفوعةَ الرأس، عاليةَ المكانة، مرموقةَ القدْر، لها في الإسلام الاعتبارُ الأسمى والمقامُ الأعلى، تتمتّع بشخصيةٍ محترمة وحقوقٍ مقرّرة وواجبات معتبرة. نظر إليها على أنها شقيقةُ الرجل، خُلِقاَ من أصل واحد، ليسعدَ كلٌّ بالآخر ويأنس به في هذه الحياة، في محيط خيرٍ وصلاح وسعادة، قال : ((إنما النساء شقائق الرجال))[1].
المرأةُ في تعاليم الإسلام كالرجل في المطالبة بالتكاليف الشرعية، وفيما يترثّب عليها من جزاءات وعقوبات، وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتَ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيراً [النساء:124].
هي كالرجل في حمل الأمانة في مجال الشؤون كلها إلا ما [اقتضت] الضرورةُ البشرية والطبيعة الجِبليّة التفريقَ فيه، وهذا هو مقتضى مبدأ التكريم في الإسلام لبني الإنسان، وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى ءادَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِى الْبَرّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مّنَ الطَّيّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً [الإسراء:70].
إخوةَ الإسلام، لقد أشاد الإسلام بفضل المرأة، ورفع شأنَها، وعدَّها نعمةً عظيمةً وهِبةً كريمة، يجب مراعاتها وإكرامُها وإعزازها، يقول المولى جل وعلا: لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاواتِ وَالأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاء يَهَبُ لِمَن يَشَاء إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَن يَشَاء الذُّكُورَ أَوْ يُزَوّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً [الشورى:49،50]، وفي مسند الإمام أحمد أن النبي قال: ((من كان له أنثى فلم يئدها ولم يُهنها ولم يؤثر ولده عليها أدخله الله الجنة))[2].
المرأةُ في ظل تعاليم الإسلام القويمة وتوجيهاتِه الحكيمة تعيش حياةً كريمة في مجتمعها المسلم، حياةً مِلؤها الحفاوةُ والتكريم من أوَّل يوم تقدُم فيه إلى هذه الحياة، ومُرورًا بكل حال من أحوال حياتها.
رعى حقَّها طفلةً، وحثَّ على الإحسان إليها، ففي كتاب مسلم من حديث أنس رضي الله عنه أن النبي قال: ((من عال جاريتين حتى تبلُغا جاء يوم القيامة أنا وهو كهاتين)) وضمّ أصابعه[3]، وفي مسلم أيضاً أن النبي قال: ((من كان له ثلاث نبات وصبر عليهن وكساهن من جدته كُن له حجابا من النار))[4].
رعى الإسلام حقَّ المرأة أمًّا، فدعا إلى إكرامها إكرامًا خاصًّا، وحثَّ على العناية بها، وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَاناً [الإسراء:23]. بل جعل [حقَّ] الأمّ في البرّ آكدَ من حقِّ الوالد، جاء رجل إلى نبينا فقال: يا رسول الله، من أبرّ؟ قال: ((أمّك))، قال: ثم من؟ قال: ((أمّك))، قال: ثم من؟ قال: ((أمّك))، قال: ثم من؟ قال: ((أبوك)) متفق عليه[5].
رعى الإسلامُ حقَّ المرأة زوجةً، وجعل لها حقوقاً عظيمة على زوجها، من المعاشرة بالمعروف والإحسان والرفق بها والإكرام، قال : ((ألا واستوصوا بالنساء خيراً، فإنهن عوان عندكم)) متفق عليه[6]، وفي حديث آخر أنه قال: ((أكملُ المؤمنين إيماناً أحسنُهم خُلُقاً، وخيارُكم خياركم لنسائه))[7].
رعى الإسلامُ حقَّ المرأة أختًا وعمَّةً وخالةً، فعند الترمذي وأبي داود: ((ولا يكون لأحد ثلاثُ بنات أو أخوات فيُحسن إليهن إلا دخل الجنة))[8].
وفي حال كونِها أجنبيةً فقد حثَّ على عونها ومساعدتها ورعايتها، ففي الصحيحين: ((الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله، أو كالقائم الذي لا يفتُر، أو كالصائم الذي لا يفطِر))[9].
معاشرَ المسلمين، المكانةُ الاجتماعية للمرأة في الإسلام محفوظةٌ مرموقة، منحها الحقوقَ والدفاعَ عنها والمطالبةَ برفع ما قد يقع عليها من حرمان أو إهمال، يقول : ((إن لصاحب الحق مقالاً))[10].
أعطاها حقَّ الاختيار في حياتها والتصرّف في شؤونها وفقَ الضوابط الشرعية والمصالح المرعية، قال جل وعلا: وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ [النساء:19]، وقال : ((لا تُنكح الأيم حتى تُستأمَر، ولا البكر حتى تستأذَن في نفسها))[11].
المرأةُ في نظر الإسلام أهلٌ للثقة ومحلٌّ للاستشارة، فهذا رسول الله أكملُ الناس علما وأتمُّهم رأيًا يشاور نساءَه ويستشيرهن في مناسبات شتى ومسائل عظمى.
إخوةَ الإسلام، في الإسلام للمرأة حريةٌ تامة في مناحي الاقتصاد كالرجل سواءً بسواء، هي أهلٌ للتكسُّب بأشكاله المشروعة وطرقه المباحة، تتمتّع بحرية التصرف في أموالها وممتلكاتها، لا وصايةَ لأحدٍ عليها مهما كان وأينما كان، وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُواْ النّكَاحَ فَإِنْ ءانَسْتُمْ مّنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ [النساء:6].
بل إن الإسلامَ يفرض للمرأة من حيث هي ما يسمَّى بمبدأ الأمن الاقتصادي مما لم يسبق له مثيلٌ ولا يجاريه بديل حينما كفل للمرأة النفقةَ أمًّا أو بنتاً أو أختاً أو زوجةً وحتى أجنبية، لتتفرّغ لرسالتها الأسمى وهي فارغةُ البال من هموم العيش ونصب الكدح والتكسُّب.
معاشر المؤمنين، هذه بعضُ مظاهر التكريم للمرأة في الإسلام، وذلك [غيْضٌ من فيض] وقبضةٌ من بحر.
أيها المسلمون، إن أعداءَ الإسلام تُقلقهم تلك التوجيهاتُ السامية، وتقضّ مضاجعهم هذه التعليمات الهادفة، لذا فهُم بأنفسهم وبمن انجرّ خلفهم في حديث لا يكلّ عن المرأة وشؤونها وحقّها وحقوقها، كما يتصوّرون وكما يزعمون، مما يحمل بلاءً تختلف الفضائل في ضجَّته، وتذوب الأخلاق في أزِمّته، دعواتٌ تهدف لتحرير المسلمة من دينها والمروق من إسلامها، مبادئُ تصادم الطفرةَ وتنابذ القيمَ الإيمانية. دعواتٌ من أولئك تنبثق من مبادئَ مُهلكةٍ ومقاييسَ فاسدة وحضاراتٍ منتنة، تزيِّن الشرورَ والفساد بأسماء برّاقة ومصطلحات خادعة. وللأسف تجد من أبناء المسلمين من في فكره عِوَجٌ وفي نظره خلل ينادي بأعلى صوتٍ بتلك الدعوات، ويتحمّس لتلك الأفكار المضلِّلة والتوجُّهات المنحرفة، بل ويلهج سعياً لتحقيقها وتفعيلها. لذا تجد أقلامَهم تُفرز مقتاً للأصيل من أصولهم والمجيد من تراثهم.
إخوة الإسلام، لقد عرف أعداءُ الإسلام ما يحمله هذا الدين للمرأة من سموّ كرامةٍ وعظيم صيانة، علموا في مقرراته المأصَّلة أن الأصلَ قرارُ المرأة في مملكة منزلها، في ظل سكينة وطمأنينة، ومحيط بيوتٍ مستقرةٍ، وجوِّ أسرة حانية. رأوا حقوقَ المرأة مقرونةً بمسؤوليتها في رعاية الأسرة، وخروجها في الإسلام من منزلها يؤخَذ ويمارَس من خلال الحشمة والأدب، ويُحاط بسياج الإيمان والكرامة وصيانة العرض، كما قال تعالى: وَقَرْنَ فِى بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأولَى [الأحزاب:33]، وكما قال : ((وبيوتهن خير لهن))[12]. حينذاك ضاقوا من ذلك ذرعاً، فراحوا بكلِّ وسيلة وسعوا بكل طريقة ليخرجوا المرأةَ من بيتها وقرارِها المكين وظلِّها الأمين، لتطلق لنفسها حينئذ العنانَ لكل شاردةٍ وواردة، ولهثوا لهثاً حثيثاً ليحرّروها من تعاليم دينها وقيم أخلاقها، تارةً باسم تحرير المرأة، وتارةً باسم الحرية والمساواة، وتارةً باسم الرقي والتقدم الكاذب. مصطلحاتٌ ظاهرها الرحمة والخير، وباطنُها شرٌّ يُبنى على قلبِ القيم، وعكس المفاهيم، والانعتاق من كل الضوابط والقيم والمسؤوليات الأسَرِية والحقوقِ الاجتماعية، وبالتالي تُقام امرأةٌ تؤول إلى سلعةٍ تُدار في أسواق الملذَّات والشهوات.
فالمرأةُ في نظر هؤلاء هي المتحرِّرةُ من شؤون منزلها وتربية أولادها، هي الراكضةُ اللاهثة في هموم العيش والكسب ونصب العمل ولفْت الأنظار وإعجاب الآخرين، ولو كان ذلك على حساب تدمير الفضيلة والأخلاق, وتدمير الأسرة والقيم، فلا هي حينئذ بطاعة ربٍّ ملتزمةٌ، ولا بحقوق زوجٍ وافية، ولا في إقامة مجتمع فاضلٍ مُسهِمة، ولا بتربية نشءٍ قائمةٌ.
إخوةَ الإسلام، تلك نظراتُهم تصبُّ في بواثِق الانطلاق التامِّ والتحرُّر الكامل، الذي يُغرق الإنسانَ في الضياع والرذيلة وفقدان القيمة والهدف والغاية. أما في الإسلام فالمرأة أهمُّ عناصر المجتمع، الأصلُ أن تكون مربِّيةً للأجيال، مصنعاً للأبطال، ومع هذا فالإسلام ـ وهو الذي يجعل للعمل الخيِّر منزلةً عظمى ومكانةً كبرى ـ لا تأبى تعاليمُه عملاً للمرأة في محيط ما تزكو به النفس، وتُقوَّم به الأخلاق، وتحفظ به المرأة كرامتَها وحياءها وعفَّتها، وتصون به دينها وبدنَها وعرضها وقلبَها، وذلك من خلال ما يناسب فطرتَها ورسالتَها، وطبيعتَها ومواهبَها، وميولها وقدراتِها. ومن هذا المنطلق فالإسلام حينئذ يمنع المرأة وبكلِّ حزم من كلِّ عمل ينافي الدين، ويضادُّ الخلقَ القويم، فيشرط في عملها أن تكون محتشمةً وقورة، بعيدةً عن مظانِّ الفتنة، غيرَ مختلطة بالرجال، ولا متعرّضةٍ للسفور والفجور. ولئن أردنا حقيقةَ الواقع الذي يخالف ذلك المنهج الإسلامي فاسمع ـ يا رعاك الله ـ لأحد كُتَّاب الغرب وهو يقول: "إن النظام الذي يقضي بتشغيل المرأة في المعامل مهما نشأ عنه من الثروة للبلاد فإن نتيجتَه كانت هادمةً لبناء الحياة المنزلية؛ لأنه هاجم هيكلَ المنزل، وقوَّض أركانَ الأسرة، ومزَّق الروابط الاجتماعية"، وتقول أخرى وهي دكتورةٌ تحكي أزماتِ مجتمعها، تقول: "إن سبب الأزماتِ العائلية وسرَّ كثرةِ الجرائم في المجتمع هو أن الزوجةَ تركت بيتَها لتضاعفَ دخلَ الأسرة، فزاد الدخلُ وانخفض مستوى الأخلاق"، إلى أن قالت: "والتجاربُ أثبتت أن عودةَ المرأة إلى المنزل هو الطريقةُ الوحيدة لإنقاذ الجيل الجديد من التدهور الذي [هو] فيه" انتهى.
فيا أيها المسلمون، الحرصَ الحرصَ على تعاليم هذا الدين، والحذرَ الحذر من مزالق الأعداء الحاقدين.
بارك الله لي ولكم في القرآن، ونفعنا بما فيه من الآيات والبيان، أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه أحمد (6/256)، وأبو داود في الطهارة (236)، والترمذي في الطهارة (113)، وابن الجارود في المنتقى (91) من حديث عائشة رضي الله عنها، وهو في صحيح الترمذي (98)، وانظر السلسلة الصحيحة (2863).
[2] أخرجه أحمد (1/223)، و كذا ابن أبي شيبة في المصنف (5/221)، وأبو داود في الأدب (5146)، والبيهقي في الشعب (8699) من طريق ابن حدير عن ابن عباس رضي الله عنهما، وصححه الحاكم (7348)، وابن حدير لا يعرف كما في الميزان الاعتدال (7/449)، وقال الحافظ في التقريب: "مستور لا يعرف اسمه"، والحديث في ضعيف أبي داود (1104).
[3] أخرجه مسلم في البر (2631).
[4] هذا الحديث أخرجه أحمد (4/154)، والبخاري في الأدب المفرد (76)، وابن ماجه في الأدب (3669)، وأبو يعلى في مسنده (1764)، والطبراني في الكبير (17/299)، والبيهقي في الشعب (8688) من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه، وصحح إسناده البوصيري في الزوائد، والألباني في السلسلة الصحيحة (294).
[5] أخرجه البخاري في الأدب (5971)، ومسلم في البر (2548) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بنحوه.
[6] أخرجه البخاري في النكاح (5186)، ومسلم في الرضاع (1468) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وليس فيه ((فإنهن عوان عندكم))، وإنما هي عند الترمذي في الرضاع (1163)، وابن ماجه في النكاح (1851) من حديث عمرو بن الأحوص رضي الله عنه، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح، ومعنى قوله: ((عوان عندكم)) يعني: أسرى في أيديكم"، وحسنه الألباني في صحيح الترمذي (929).
[7] أخرجه أحمد (2/250)، وأبو داود في السنة (4682) مختصرا، والترمذي في الرضاع (1162)من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وصححه ابن حبان (4176)، والحاكم (2)، وهو في السلسلة الصحيحة (284).
[8] أخرجه أبو داود في الأدب (5147)، والترمذي في البر (1912) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، وأخرجه أيضا أحمد (3/42)، والبخاري في الأدب المفرد (79)، وصححه ابن حبان (446)، وحسنه الألباني في صحيح الأدب (59).
[9] أخرجه البخاري في الأدب (6007)، ومسلم في الزهد (2982) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[10] أخرجه البخاري في الهبة (2609)، ومسلم في المساقاة (1601) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[11] أخرجه البخاري في النكاح (5136)، ومسلم في النكاح (1419) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وليس فيه عندهما قوله: ((في نفسها)).
[12] أخرجه أحمد (2/76)، وأبو داود في الصلاة (567) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، وصححه ابن خزيمة (1684)، والحاكم (755)، وابن عبد البر في التمهيد (23/395)، وهو في صحيح أبي داود (530).
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إله الأولين والآخرين، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله سيّد الأنبياء والمرسلين.
أما بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل، فمن اتقاه وقاه، وأسعده وما أشقاه.
إخوة الإسلام، من أوجُه عناية الإسلام بالمجتمع حرصُه على منع الاختلاط بين الرجال والنساء في أيِّ مجال وفي أيِّ شأن، ذلكم أنه وباءٌ خطير، ما أصيبَ به مجتمع إلا ودبَّت فيه كلُّ بليَّة وعمَّ فيه الشرُّ والفساد، فما من جريمة نُهِش فيها العرض وذُبح العفافُ وأُهدِر الشرف إلا وكانت الخيوطُ الأولى التي نُسجت فيها هذه الجريمة، وسهَّلت سبيلها هي ثغرة حصلت في الأسلاك الشائكة التي وضعتها الشريعة في العلاقة بين الرجال والنساء، ومن خلال هذه الثغرة يدخل الشيطان ويقع الفساد.
ولنستمع لمقالة إحدى النساء التي عاشت في مجتمع الاختلاط، وهي تحكي تجرباتِ بنات جنسها في مقال أسمته "امنعوا الاختلاط" قالت: "إن المجتمعَ العربيَّ كاملٌ وسليم، ومن الخليق بهذا المجتمع أن يتمسَّك بتعاليمه وتقاليده التي تقيِّد الفتاةَ والشابَّ في حدود المعقول"، إلى أن قالت: "لهذا أنصح بأن تتمسَّكوا بتقاليدكم وأخلاقكم، وامنعوا الاختلاط، وقيِّدوا حريةَ الفتاة، بل ارجعوا إلى أصل الحجاب، فهو خيرٌ لكم من الإباحة والانطلاق والفجور" انتهى.
ألا فليتقِ اللهَ أهلُ الإسلام في مواليهم، وليحسِبوا خطواتِ السير في حياتهم، وليحفظوا ما استرعاهم الله عليهم من رعاياهم، والحذر الحذر من التفريط والاستجابة لفتنة الاستدراج إلى مدارج الغواية والضلالة.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْئَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ ذالِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ [الأحزاب:53].
ثم إن الله جل وعلا أمرنا بأمر عظيم ألا وهو الصلاة على النبي الكريم.
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين...
ــــــــــــــــــــ(67/175)
ظاهرة عضل النساء
...
...
2622
...
الأسرة والمجتمع, فقه
...
...
المرأة, النكاح, قضايا المجتمع
...
صالح بن عبد الله بن حميد
...
...
مكة المكرمة
...
28/6/1423
...
...
المسجد الحرام
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- المرأة في الجاهلية. 2- تكريم الإسلام للمرأة. 3- حقيقة العضل. 4- من صور العضل وأنواعه. 5- تصرفات تؤدي إلى العضل. 6- مفاسد العضل وما يقع به من جناية. 7- سقوط ولاية العاضل وتعرّضه للفسق.
الخطبة الأولى
أما بعد: فأوصيكم ـ أيها الناس ـ ونفسي بقوى الله عز وجل، فاتقوا الله رحمكم الله، فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الْحياةُ الدُّنْيَا وَلاَ يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ [لقمان:33]، النعيم في هذه الدار لا يدوم، والأجل فيها على الخلائق محتوم، انظروا مصارعَ المنايا، وتأمّلوا قوارعَ الرزايا، ورحم الله أمرأً عمّر بالطاعة لياليَه وأيامَه، وأعدّ العدّة للحساب يوم القيامَة، قدّم صالحَ الأعمال، وحاسب نفسَه في جميع الأحوال، ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحشر:18].
أيها المسلمون، حرَّر الإسلامُ العبادَ من رقِّ الجاهلية وأغلالها، وأنار عقولَهم من أوهامها وتقاليدها، نقلهم من ذلِّ الكفر وظلماته إلى عزّ الدين ونوره وبرهانه، بيَّن حقَّ كلِّ مسلم ومسلمة، ومنحها لهم كاملةً غيرَ منقوصة، أعطى كلاًّ ما يلائم فطرتَه وطبيعتَه.
كانت المرأة في جاهليات الأمم تُشتَرى وتُباع كالبهيمة وسائر المتاع، تُملَك ولا تَملِك، وتورَث ولا ترِث، بل لقد اختلفت أهلُ تلك الجاهليات: هل للمرأة روحٌ كروح الرجل؟ وهل خُلقت من طينة آدم أو أنها خُلقت من الشيطان؟ وهل تصحّ منها عبادة؟ وهل تدخل الجنة؟ وهل تدخل ملكوت الآخرة؟
حجروا عليها في تصرّفاتها، وجعلوا للزوج حقَّ التصرّف في أموالها من دونها، كم وضعت لها شرائعُ الجاهلية أحكاماً وأعرافاً أهدرت كرامتَها، وألغت آدميتَها، فعاشت بين تلك التقاليد الباليات بلا شخصية ولا ميزانٍ ولا اعتبار، قليلةَ الرجاء، ضعيفةَ الحيلة، كاسفةَ البال، ضاعت حقوقُها بين أبواب الذلّ والاحتقار، حتى حقّ الحياة كان محلَّ عبث؛ تُحرَق مع زوجها إذا مات، وتوأَد خشية الفقر والعار، جسّد ذلك القرآن الكريم في قول الله عز شأنه: وَإِذَا بُشّرَ أَحَدُهُمْ بِالأنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّا وَهُوَ كَظِيمٌ يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوء مَا بُشّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِى التُّرَابِ أَلاَ سَآء مَا يَحْكُمُونَ [النحل:58-59]، وفي قوله سبحانه: قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُواْ أَوْلَادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُواْ مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاء عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّواْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ [الأنعام:140].
أمَّا حقُّ المرأة في الزواج فحدّث عن الجاهليات ولا حرج، تُزوَّج على من لا ترتضيه، في أنواعٍ من أنكحة الشغار والبدل والاستبضاع والإكراه على البغاء، وإذا غضب عليها زوجها تركها معلَّقةً، لا هي بذات زوج ولا هي بمطلقة.
وحين أذن الله لشمس الإسلام أن تطلع، ولنور رسالة محمد أن يسطع، حينذاك أخذت ظلماتُ الجاهلية تتبدّد، وقوافل المظالم والبغي تتلاشى، والمواكب من التقاليد البالية يختفي، والأعمى من التقليد يتهاوى، ونادى المنادِي: إِنَّ الدّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلَامُ [آل عمران:18].
فجاءت التشريعاتُ العادلة، وتنزّلت الأحكام الحكيمة، وشاعت الأخلاق الرحيمة، رُسِمت الحقوق، وُحدّدت الواجبات في شمولٍ وكمال، يسري على الغني والفقير، والعظيم والصعلوك، والذكر والأنثى، يتحاكم به رعاؤهم كما تتحاكم إليه رعيتهم، الاحتكام به وإليه واجب، والوقوف عند حدوده فرض لازم، تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [البقرة:229].
دينٌ يُصلح ما أفسدته الأهواء، ويعالج ما أمرضته الجاهلية، صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدونَ [البقرة:138]، حكم الله وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لّقَوْمٍ يُوقِنُونَ [المائدة:50].
وطبقاً لهذا التشريع المحكَم والدستور الكامل جاء الحديث عن المرأة كما جاء الحديث عن الرجل: ياأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِى خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِى تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً [النساء:1]، فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنّى لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مّنْكُمْ مّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مّن بَعْضٍ [آل عمران:195]، لّلرّجَالِ نَصِيبٌ مّمَّا اكْتَسَبُواْ وَلِلنّسَاء نَصِيبٌ مّمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُواْ اللَّهَ مِن فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلّ شَىْء عَلِيماً [النساء:32].
أيها المسلمون، لقد قرّر الإسلامُ أن المرأة إنسانٌ مبجّل، وكيان محترَم، مشكور سعيُها، محفوظةٌ كرامتُها، موفورةٌ عزَّتُها، ردّ لها حقّها المسلوبَ، ورفع عنها المظالم، لا تُحبس كُرهاً، ولا تُعضَل كرهاً، ولا تورَث كرهاً، تُنزَّل منزلتَها اللائقة بها أمّاً وأختاً وزوجة وبنتاً، بل مطلوبٌ المعاشرةُ بالمعروف، والصبرُ على السيئ من أخلاقها، وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً [النساء:19].
معاشر الإخوة، وهذا حديثٌ عن مسألة من مسائل الزوجية، يتجلّى فيه موقف الجاهلية وموقف الإسلام، مسألةٌ كان للإسلام فيها موقفٌ حازم، مسألةٌ التزامُ حكم الإسلام فيها يقود إلى الطهر والزكاء في الدين والنفس والعرض، ويتجلى فيها مظهرٌ من مظاهر الإيمان بالله واليوم الآخر، والتقصيرُ فيها جنوحٌ إلى مسالك الجاهلية، وتغليبٌ للمصالح الشخصية. تلكم هي مسألة عَضْل المرأة ومنعِها من الزواج من الخاطب الكفء إذا تقدّم إليها أو طلبتْه، ورغِب كلُّ واحدٍ منهما في الآخر، يقول الله عز وجل في محكم تنزيله: وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ إِذَا تَراضَوْاْ بَيْنَهُم بِالْمَعْرُوفِ ذالِكَ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذالِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ [البقرة:232].
معاشر المسلمين، العضلُ تحكّمٌ في عواطف النساء ومشاعرهن، وإهدارٌ لكرامتهنَّ، بل هو إلغاءٌ لإنسانيتهنّ من غير خوف من الله ولا حياء من خلق الله، ومن غير نظرٍ في العواقب، ولا رعاية لحقوق الرحِم والأقارب، مخالفةٌ لدين الله والفطرة، ومجانبةٌ لمسلك أهل العقل والحكمة، ومجافاةٌ للخلق الكريم. وسمِّي العضلُ عضلاً لما يؤدّي إليه امتناع الأولياء من تزويج مولياتهم من الشدّة والحبس والتشديد والتضييق والتأثير المؤلم، بل المؤذي للمرأة في نفسها وحياتها وعيشها.
العضلُ مسلكٌ من مسالك الظلمةِ الذين يستغلّون حياءَ المرأة وخجلَها وبراءتَها وحسنَ ظنّها وسلامةَ نيَّتها، وما ذلك إلا لعصبيةٍ جاهلية أو حميَّة قبلية أو طمعٍ في مزيدٍ من المال أو أنانية في الحبس من أجل الخدمة. يجب على الأولياء أن تكون غايتهم تحقيقَ مصالح مولياتهم الدينية والدنيوية، مبتعدين عن المصالح الشخصية والأنانية الذاتية.
أيها المسلمون، العضلُ لا يزحف بظلّه الثقيل على المجتمع بصورةٍ واحدة، بل إنه يتلوّن بألوان شتى، ويتشكّل بأشكال عديدة، في صور قائمةٍ، وأحوال بشِعة، تُعلَم شناعتُها وتُدرَك دناءة غايتها من مجرّد تصوّرها.
معاشر الإخوة، من صور العضْل ما جاء في قول الله عز وجل: وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ إِذَا تَراضَوْاْ بَيْنَهُم بِالْمَعْرُوفِ، فإذا طُلِّقت المرأة أقلَّ من ثلاث طلقات ثم انتهت عدّتها وبانت بينونةً صغرى ورغِب زوجُها الذي طلَّقها في العودة إليها بعقدٍ جديد ورغِبت أن ترجع إليه قام وليُّها بمنعها من ذلك من غير سبب صحيح، لم يمنعه إلا التمسُّكُ ببعض رواسب الجاهلية والعادات البالية والعناد المجرّد.
ومن أنواع العضل ما بيَّنته الآية الكريمة الأخرى في قول الله عز وجل: وَيَسْتَفْتُونَكَ فِى النّسَاء قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِى الْكِتَابِ فِى يَتَامَى النّسَاء الَّلَاتِى لاَ تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ [النساء:127]، وفي هذه الصورة يمتنع وليّ اليتيمة عن تزوجيها لغيره لرغبته في نكاحها لنفسه من أجل مالها، ففي صحيح البخاري رحمه الله عن عائشة رضي الله عنها قالت: هذه الآية في اليتيمة التي تكون عند الرجل لعلها أن تكون شريكته ـ أي: في أمواله وتجارته ـ وهو أولى بها ـ أي: يريد أنه أولى بها في نكاحها ـ فيرغب أن ينكحها، فيعضلها ولا يُنكحها غيرَه كراهيةَ أن يشركَه أحد في ماله[1].
ومن صور العضل ما جاء في قول الله عز وجل: ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النّسَاء كَرْهاً وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَا ءاتَيْتُمُوهُنَّ [النساء:19]، ومعنى ذلك أن يضيّق الزوجُ على زوجته إذا كرهَها، ويسيء عشرتَها، أو يمنعها من حقِّها في النفقة والقسْم وحسن العشرة، وقد يصاحب ذلك إيذاءٌ جسدي بضربٍ وسبّ، كلّ ذلك من أجل أن تفتدي نفسَها بمال ومخالعة: لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَا ءاتَيْتُمُوهُنَّ أي: لكي تفتديَ المرأة نفسَها من هذا الظلم بما اكتسبته من مال المهر والصداق، وبهذا العضل اللئيم والأسلوب الكريه يسترجع هؤلاء الأزواج اللُّؤماء ما دفعوه من مهور، وربما استردُّوا أكثرَ ممَّا دفعوا، فكلّ ما أخذوه من هذا الطريق بغير وجه حقٍّ فهو حرام وسحتٌ وظلم.
ومن صور العضل المقيت أن يمتنع الولي عن تزويج المرأة إذا خطبها كفء وقد رضيته، وما منعها هذا الوليُّ إلا طمعاً في مالها أو مرتَّبها، أو طلباً لمهرٍ كثير، أو مطالبات مالية له ولأفراد أسرته. تلكم صورةٌ لئيمة يرتكبها بعض اللؤماء من الأولياء من أجل كسبٍ مادي، أو من أجل حبسها لتخدمه وتقوم على شؤونه.
أيها الإخوة المسلمون، وثمَّة تصرفاتٌ من بعض الناس قد تؤدِّي إلى عضل النساء وحرمانهن من الزواج وصرف الخُطاب عنهن، من ذلك تعزُّز وليّ المرأة واستكبارُه وإظهار الأنفة للخُطّاب، فيتعاظم عليهم في النظرات، ويترفّع عنهم في الحديث، فيبتعد الرجال عن التقدُّم لخطبة ابنته أو موليته، لشدّته وتجهُّم وجهه واغتراره بنفسه ومركزه وجاهه وثرائه، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "ومن صور العضل أن يمتنع الخطاب من خطبة المرأة لشدّة وليِّها".
ومن الأخطاء في هذا الباب حصرُ الزواج وحجرُه بأحدِ الأقارب من أبناء العم أو الخال أو غيرهم، والمرأة لا تريده، أو أن أقاربها لا يريدونها. وحصرُها في أقاربها أو حجرُها عليهم إما أن يكون بتكبُّر من العائلة وتعالٍ على الناس، أو أنه خضوع لعادات جاهلية وتقاليدَ باليةٍ، وحصرُ المرأة وحجرُها على أقاربها وهم لم يتقدموا إليها أو هي لا ترغب فيهم ظلمٌ وعدوان وتمسُّك بالعصبية الجاهلية، والحميَّة القبلية.
كما ينبغي الابتعادُ عن شروط تؤدِّي إلى تعليق الزواج أو تؤدِّي إلى تعليق الدخول إلى مُدَد طويلةٍ غير معلومة، بل قد تكون شروطاً لم تعلَم بها المخطوبة، أو غلبها فيه الحياء، وليس فيه مصلحة ظاهرة، كشرط تأخير الدخول بسنوات طويلة من إنهاءِ دراسةٍ بعيدة النهاية، أو بحثٍ عن عمل أو تجارة لا ترتبط بوقت محدَّد.
عباد الله، إن المطلوبَ المساعدةُ على الإحصان والعفاف، والحرصُ على الأكفاء ذوي الدين والخلق، وتحقيقُ الاستقرار النفسي.
إن من الظلم البيِّن حرمانَ الفتيات من الزواج بمثل هذه الأساليب والأعذار الباردة والحجج الواهية، حتى ضاع على كثير من البنين والبنات سنوات العمر، وعنس الكثيرون والكثيرات.
فاتقوا الله أيها المسلمون، واتقوا الله ـ أيها الأولياء ـ فيما ولاكم الله، إنكم إن لم تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير، تعرِّضون الفتيان والفتيات للزيغ والعنوسة، والولي راعٍ ومسؤول عن رعيته، فعليه تفقُّدُ أحوال مولياته، وتلمُّس حاجاتِهن، وتقديرُ مشاعرهن، وإيجاد الأساليب لحمايتهن ووقايتهن، وبذل ما يجلب الخير والسعادة لهن، بل لقد قال بعض أهل العلم: إن المرأة إذا اختارت كفئًا، واختار الولي كفئًا غيرَه، فيقدَّم الذي اختارته، فإن امتنع كان عاضلاً.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النّسَاء كَرْهاً وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَا ءاتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً [النساء:19].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في النكاح (5128)، ومسلم في التفسير (3018).
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدَ من خافه واتقاه، وأشكره على ما أفاض من نعمه وأولاه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له لا ربّ لنا سواه، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله شرع السبيل الواضحة، ودلّ على التجارة الرابحة، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله المطهرين من الأرجاس، وأصحابه المكرَّمين الأكياس، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: أيها المسلمون، إن في منع المرأة من تزويجها بالكفْء ثلاثَ جنايات:
جنايةَ الولي على نفسه بمعصية الله ورسوله.
وجنايةً على المرأة حيث منعها من الكفْء الذي رضيتْه.
وجنايةً على الخاطب حيث منعه من حقٍّ أمر الشارع بإعطائه إياه في قوله : ((إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه))[1].
وقد ذكر أهل العلم رحمهم الله أن الولي إذا امتنع من تزويج موليته بكفْءٍ رضيته سقطتْ ولايتُه، وانتقلت لمن بعده الأحقّ فالأحق، أو انتقلت إلى السلطان لعموم حديث: ((فإن اشتجروا فالسلطان وليّ من لا وليّ له)) أخرجه الترمذي من حديث عائشة رضي الله عنها وقال: "حديث حسن"[2]. كما قال أهل العلم: إذا تكرّر من الوليّ ردّ الخُطاب من غير سبب صحيح صار فاسقاً ودخل عليه النقصُ في دينه وإيمانه.
فاتقوا الله أيها الناس، واتقوا الله أيها الأولياء، واحذروا من أفعال بعض الجاهلية من بادية وحاضرة، من أمورٍ منكرة في دين الله، وأفعالٍ ممقوتة لدى العقلاء، في تقاليدَ باليةٍ ونظرات جاهلية وجفاءٍ في المعاملة وضيقٍ في التفكير.
ألا فاتقوا الله ـ رحمكم الله ـ جميعاً، وقوموا بمسؤولياتكم، وَأَنْكِحُواْ الأيَامَى مِنْكُمْ [النور:32].
ثم صلوا وسلموا على الرحمة المهداة والنعمة المسداة نبيكم محمد رسول الله، فقد أمركم بذلك ربكم فقال في محكم تنزيله وهو الصادق في قيله: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىّ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وارض اللهم على الخلفاء الأربعة الراشدين...
[1] أخرجه الترمذي في كتاب النكاح (1084)، وابن ماجه في كتاب النكاح (1967) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وصححه الحاكم (2/ 164-165), وتعقبه الذهبي بأن فيه عبد الحميد بن سليمان قال فيه أبو داود: "كان غير ثقة"، وفيه أيضًا: "ابن وثيمة لا يعرف"، ثم اختلف في إسناده، فنقل الترمذي عن البخاري أنه يرجح انقطاعه. ولكن للحديث شواهد يتقوى بها، ولذا حسنه الألباني في السلسلة الصحيحة (1022).
[2] أخرجه الترمذي في النكاح (1102)، وهو أيضا عند أحمد (6/47)، وأبي داود في النكاح (2083)، وابن ماجه في النكاح (1879)، وصححه ابن الجارود (700)، والحاكم (2706)، وصححه الألباني في الإرواء (1848).
ــــــــــــــــــــ(67/176)
صلة الرحم
...
...
2680
...
الأسرة والمجتمع
...
...
الأرحام
...
سعيد بن يوسف شعلان
...
...
جدة
...
...
...
عمار بن ياسر
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- وصاة القرآن والسنة بصلة الأرحام. 2- من هم الأرحام. 3- معنى صلة الأرحام. 4- الفرق بين المواصل والمكافئ. 5- التحذير من قطع الرحم.
الخطبة الأولى
وبعد, فمن توابع الكلام عن بر الوالدين وعقوقهما الكلام عن صلة الرحم, والرحم هي القرابة، سميت بذلك لأنها داعية التراحم بين الأقرباء, وصلة الرحم موجبة لرضا الله عن العبد، موجبة لثواب الله للعبد في الآخرة، وقد أمر الله بها عباده في كتابه العزيز فقال تعالى في سورة الإسراء: وَءاتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ [الأسراء:26].
أي قرابتك من أبيك وأمك, والمراد بحقهم برهم وصلتهم.
وقال في سورة النساء: اوَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِى تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامًَ [النساء:1].
أي اتقوا الأرحام أن تقطعوها.
وقال ذاكراً ـ في سورة الرعد ـ صفات أولي الألباب: وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ [الرعد:21].
والمراد ـ على أحد وجوه التفسير ـ في ذلك أن ما أمر الله به أن يوصل: الرحم والقرابة.
وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كذلك بصلة الرحم فقال في الحديث المتفق عليه عن أبي هريرة رضي الله عنه: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليصل رحمه, ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت)).
الشاهد من الحديث الجملة الوسطى: ((ومن كان يؤمن بالله اليوم الآخر فليصل رحمه)).
وكانت صلة الرحم من أول من أرشد إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما وصل المدينة بعد الهجرة فقال عليه الصلاة والسلام كما أخرجه الترمذي عن عبد الله بن سلام رضي الله عنه والحديث صحيح: ((أفشوا السلام وأطعموا الطعام وصلوا الأرحام وصلوا بالليل والناس نيام ، تدخلوا الجنة بسلام)).
والأرحام الذين جاء الأمر في القران والسنة بصلتهم هم الأقارب, وهم من بينه وبين الآخر نسب, سواءً كان يرثه أم لا، وسواءً كان محرماً أم لا، وقيل الأقارب: هم المحارم فقط، والأول هو المُرَجَّح لكون الثاني يستلزم خروج أولاد الأعمام وأولاد الأخوال من ذوي الأرحام وليس كذلك.
لو قيل إن المراد بهم المحارم فقط لخرج أولاد الأعمام وأولاد الأخوال من ذوي الأرحام، بل هم الأقارب سواءً كانوا ورثةً أو لا، وسواءً كانوا محارم أم لا.
وإنما يُوصَلُ الأرحام بحسب درجتهم في القرابة, فيُقَدَّم الأقرب فالأقرب كما جاء عند البخاري في الأدب المفرد وعند أحمد وابن ماجه وصححه الحاكم من حديث المقدام بن معد يكرب قال عليه الصلاة والسلام: ((إن الله يوصيكم بأمهاتكم ـ وأعادها ثلاثاً ـ ثم يوصيكم بآباءكم ثم يوصيكم بالأقرب فالأقرب)).
وروى الحاكم والحديث عند أصحاب السنن الثلاثة وأحمد وابن حبان عن أبي رتقة رضي الله عنه قال: انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسمعته يقول: ((أمك وأباك ثم أختك وأخاك ثم أدناك وأدناك)).
يعني: ابدأ في البر بالأم والأب ثم من يليهم ثم من يليهم هكذا بالأقرب فالأقرب.
والمراد بصلة الرحم يعني الأمر الذي يتحقق به صلة الأرحام موالاتهم، ومحبتهم أكبر من غيرهم لأجل قرابتهم وتأكيد المبادرة إلى صلحهم عند عداوتهم والاجتهاد في إيصال كفايتهم بطيب نفس عند فقرهم، والإسراع إلى مساعدتهم ومعاونتهم عند حاجتهم ومراعاة جبر قلوبهم مع التلطف بهم وتقديمهم في إجابة دعوتهم والتواضع لهم في غناه وفقرهم, وقوته وضعفهم. إذا كان هو غنياً وهم فقراء, وهو قوي وهم ضعفاء, لزمه أن يتواضع لهم ليكون بذلك واصلاً لأرحامه ومداوماً مودتهم ونصحهم في كل شؤونهم والبداءة بهم في الدعوة والضيافة قبل غيرهم وإيثارهم في الإحسان والصدقة والصلة على من سواهم فإن الصدقة عليهم صدقة وصِلة, والهدية في معناها ونحوها, ويتأكد فعل ذلك مع الرحم الكاشح أي المبغض, يفعل ذلك معه ويتأكد معه أكثر من غيره كما سيأتي من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم عسى أن يعود ويرجع عن بغضه إلى مودة قريبة ومحبة.
قال القرطبي رحمه الله: والرحم التي تُوصَلُ عامة وخاصة, والمراد بالعامة رحم الدين وهم إخوانك في هذا الدين العظيم وإن لم يكن بينك وبينهم قرابة, وتجب مواصلة هذه القرابة بالتوادد والنصح والعدل والإنصاف، والقيام بالحقوق الواجبة والمستحبة, وأما الرحم الخاصة وهي التي سبقت الإشارة إليها وإلى بيانها، فتزيد النفقة على القريب وتفقد أحوالهم والتغافل عن زلاتهم, وتتفاوت مراتب استحقاقهم في ذلك كما في حديث الأقرب فالأقرب وقد تقدم.
وقال ابن أبي جمرة رحمه الله: تكون صلة الرحم بالمال وبالعون على الحاجة وبدفع الضر وبطلاقة الوجه وبالدعاء وهذا إنما يستمر إذا كان أهل الرحم أهل استقامة، فإن كانوا كفاراً أو فجاراً فمقاطعتهم في الله هي صلتهم بشرط بذل الجهد في وعظهم ثم إعلامهم إذا أصروا أن ذلك بسبب تخلّفهم عن الحق.
تعلمهم بعد أن تنصحهم وتبذل الجهد في وعظهم إذا قررت هجرتهم لأجل كفرهم أو فجورهم أو فسقهم تعلمهم بالسبب المانع من صلتهم وأنه تخلفهم عن الحق ولا تسقط مع ذلك صلتهم بالدعاء لهم بظهر الغيب أن يعودوا إلى الطريق المُثلى.
ومن اللطائف ما كتب ابن المقري إلى والده حين امتنع من النفقة عليه فكتب إليه قال:
لا تقطعن عادة ولا تجعل عتاب المرء في رزقه
فإن أمر الإفك من مسطح يحط قدر النجم من أفقه
فقد جرى منه الذي قد جرى وعوتب الصديق في حقه
وهذا إشارة إلى ما وقع من خوض مسطح بن أثاثة في قصة الإفك في عائشة رضي الله عنها عندما خاضوا في عرضها وكان مسطح ابن خالة أبي بكر وكان أبي بكر يعطف عليه فيصله، ويحسن إليه, فلما كان من الواقعين في عرض ابنته وبرَّأ الله عز وجل عائشة من فوق سبع سماوات فقال: أُوْلَئِكَ مُبَرَّءونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ [النور:26] حلف أبو بكر رضي الله عنه لما علم بوقوع مسطح مع من وقع بأن يقطع عنه صلته، فعاتب الله تبارك وتعالى الصديق في ذلك وأمره أن يحسن إليه وألا يقطع صلته وصدقته فقال سبحانه في إطار نفس القصة: وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُواْ الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُواْ أُوْلِى الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ َالْمُهَاجِرِينَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُواْ وَلْيَصْفَحُواْ أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [النور:22].
لا يحلف أولو الفضل والسعة على عدم الإعطاء, وزاد سبحانه أن قال: وَلْيَعْفُواْ وَلْيَصْفَحُواْ أيضاً أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ.
فعاد أبو بكر إلى الصلة وزاد على ما كان يعطيه من قبل.
لكن والد هذا الكاتب المعاتب ـ ابن المقري ـ كتب إليه أيضاً مبيناً له السبب في المنع فقال:
قد يُمنع المضطر من ميتة إذا عصا في السير في طرقه
لأنه يقوى على توبة توجب إيصالاً إلى رزقه
لو لم يتب من ذنبه مسطح لما عوتب الصديق في حقه
قد يمنع المضطر من ميتة لأن أهل العلم لا يرخصون للمسافر سفر معصية إذا اضطر أن يأكل من الميتة، كما هو مرخص فيه للمسلمين عامة ، يقولون لأنه مسافر سفر معصية، فيقول البعض: هل نتركه يموت، أيهلك؟ فيقول: المانعون من الترخيص، لا، بل يتوب ويأكل، لهذا يقول الوالد لولده:
قد يُمنع المضطر من ميتة إذا عصى في السير في طرقه
لأنه يقوى على توبة توجب إيصالاً إلى رزقه
يعني عُد إلى الله في برِّك وأدبك وخلقك يعد إليك ما كنت أرسله إليك من الصلة والإحسان والنفقة وغير ذلك.
لو لم يتب من ذنبه مسطح لما عوتب الصديق في حقه
ومن الآثار المحمودة لصلة الرحم وفضلها وفوائدها:
أنها سبب لبسط الرزق والتوسيع فيه وطول العمر والبركة فيه, فيبارك لواصل رحمه ما لا يبارك لغيره, فيتمكن في عمر قصير من أداء أعمال كثيرة جليلة عظيمة بينما خذل غيره من الذين اشتغلوا بجمع حطام دنياهم، واشتغلوا بحظوظ أنفسهم العاجلة وشهواتها، فلم يعرفوا ربهم ولم يمتثلوا بالطاعة وأعرضوا عن ذكره وشكره.
ومن بين ما أعرضوا عنه صلة الأرحام فخُذِلوا, بينما وُفِق واصل رحمه وبُسِط له في رزقه ووُسِع عليه, وبُورِك له في عمره وعمله.
ويدل لذلك حديث أنس المتفق عليه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من أحب أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أجله فليصل رحمه)).
اللهم اجعلنا يا إلهنا من عبادك الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون وتوفنا وأنت راضٍ عنا وقد قبلت اليسير منا, واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله, خاتم الأنبياء وإمام المرسلين, اللهم صل وسلم وبارك على إمامنا وقدوتنا وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد, فاتقوا الله عباد الله واعلموا أنكم مأمورون بصلة أرحامكم منهيون عن قطيعتها ولو لم يبادلكم أرحامكم صلةً بصلة، وإحساناً بإحسان، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيما أخرجه البخاري عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ليس الواصل بالمكافيء، ولكن الواصل الذي إذا قُطعت رحمه وصلها)).
وياله من توجيه رفيع من رسول الله صلى الله عليه وسلم يوجه المسلم من خلاله إلى أن لا يريد في جميع أعماله إلا رضى الله عز وجل وحده وهذا يعرفه من عرف الإخلاص ومكانته وأثره، فلا يعبأ بقطيعة في مقابل صلة، وإساءة في مقابل إحسان، لأن الواصل ليس هو الذي يرد صلة بصلة وإحساناً بإحسان، بل الواصل الذي يصل, ويقطعه أرحامه, ويُحسن ويسيء إليه من أحسن إليهم، هذا هو الواصل من خلال بيان وكلام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلاً جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن لي قرابةً أصلهم ويقطعوني، وأحسن إليهم ويسيئون إلي، وأحلم عنهم ويجهلون علي، قال عليه الصلاة والسلام: ((لئن كنت كما قلت فكأنما تسفهم الملّ ـ والملّ: هو التراب ـ ولا يزال معك من الله ظهير عليهم مادمت على ذلك)).
وأخرج الطبراني وابن خزيمة والحاكم وقال على شرط مسلم عن أم كلثوم بنت عتبة رضي الله عنهما قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أفضل الصدقة على ذي الرحم الكاشح)) يا له أيضاً من بيان وتوجيه رفيع في غاية الرفعة حتى إنه صلى الله عليه وسلم ليجعل أفضل الصدقة ما كانت على رحم كاشح مُبغض مضمر للعداوة ولا يشكر لأحد فضلاً ولا يشكر لأحد إحساناً ولا يعرف لأحد معروفاً.
وقد روى البخاري في الأدب المفرد بسند صحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يشكر الله من لا يشكر الناس)).
ومع ذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم يوجه المسلم إلى أن لا يريد في جميع أعماله إلا رضى الله عز وجل فحسب وألا يلتفت إلى إرادة الجزاء من العباد, بل عليه أن يرغب في الثواب من رب العباد؛ لأنه هو الأكرم وهو الأوسع فضلاً, وهو صاحب الخزائن الملأى سبحانه.
فمن ذا الذي يستطيع من خلقه أن يُثيب بمثقال ذرة من جزائه وإثابته وفضله سبحانه ، فالعاقل الأريب صاحب اللب من اتجه إلى إرادة الثواب من الله عز وجل لأنه خير وأبقى.
ومن جميع ما تقدم تبين أهمية صلة الرحم ومكانتها وتأكد فضلها، فإن لم يكن فيما ورد من فضلها كفاية في الحث على هذه الصلة للناس فيكفي ما جاء من التحذير والوعيد والتهديد الشديد من قطع الرحم، يكفي ما جاء في ذلك للحث على تجنب القطيعة, ففي صحيح البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله لما فرغ من خلق الخلق قامت الرحم فقالت: هذا مقام العائذ بل من القطيعة، فقال سبحانه: أما ترضين أن أصل من وصلك وأن أقطع من قطعك، قالت: بلى، قال: فذلك لكِ)).
قال عليه الصلاة والسلام: ((فاقرؤوا إن شئتم: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ فِى الأَرْضِ وَتُقَطّعُواْ أَرْحَامَكُمْ أَوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ)).
وفي صحيح البخاري عن جبير بن مطعم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يدخل الجنة قاطع)) يعني قاطع رحم.
وعند الترمذي بسند حسن صحيح وابن ماجه وقال الحاكم: صحيح الإسناد عن أبي بكر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما من ذنب أجدر أن يعجل الله لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدخر له في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم)) ليس هناك ذنب يستحق العبد أن يعجل الله له العقوبة في الدنيا مع ما ينتظره في الآخرة من العذاب من البغي أي من الظلم ويدخل تحت الظلم أمور كثيرة منها:
أن تحيد عما جاء به الكتاب والسنة من معرفة الله عز وجل ووصفه بصفاته التي جاءت في الكتاب والسنة, وأيضاً إطلاق الأسماء عليه سبحانه الذي جاء بها الكتاب والسنة ونحو ذلك من الأمور التي تتعلق بالربوبية والألوهية. من حاد عن ذلك وخرج عن الجادة وأبى إلا أن يخالف سلفنا الصالح فيما علمونا إياه مما ينبغي لله عز وجل من إجلال وتعظيم وتوقير فهو ظالم. ويدخل تحت الظلم كما قلت أمور كثيرة ليس هذا موضع بسطها.
فالبغي هو الظلم وقطيعة الرحم قد علمتم ما ورد فيها فهذه الذنوب جديرة بأن يعجل الله لصاحبها العقوبة في الدنيا مع ما ينتظره في الآخرة بحسب الظلم الذي وقع منه ، وأيضاً بسبب قطيعة رحمه.
فيا أيها الأخوة الكرام, امتثلوا أوامر ربكم تبارك وتعالى بعبادته وطاعته وبر الوالدين وصلة الأرحام وإياكم والقطيعة, فإن فعلتم ذلك ـ أي إن امتثلتم لما أمركم الله به واجتنبتم ما نهاكم الله عنه ـ أفلحتم في الدنيا وفي الآخرة وكنتم من السعداء الذين قال الله عنهم في سورة هود: وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُواْ فَفِى الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاواتُ وَالاْرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ [هود:108] أي غير منقطع.
ــــــــــــــــــــ(67/177)
الوأد العصري
...
...
2671
...
الأسرة والمجتمع
...
...
المرأة
...
محمد بن حامد القرني
...
...
خميس مشيط
...
...
...
جامع ابن مثيب
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- وأد البنات في الجاهلية. 2- تكريم الإسلام للمرأة. 3- عضل البنات عن النكاح نوع جديد من الوأد. 4- منع المرأة من حقها في الميراث صورة عن ظلم المرأة في بعض المجتمعات الإسلامية. 5- الوصاة بالنساء.
الخطبة الأولى
أما بعد, عباد الله، أيها المؤمنون بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد عليه الصلاة والسلام رسولاً ونبياً:
في هذه الخطبة، وفي هذا الأسبوع أعرض لكم عبر هذا المنبر المبارك، مشكلة اجتماعية، تهم كل مسلم ومسلمة، تهم كل غيور وحائرة، إنها مشكلة طالما طُلب مني طرحها بين أيديكم، رغبة في إيجاد الحلول المناسبة، وإنتاج وقطف الثمار الطيبة، إنها مشكلة تهم الآباء و الأبناء، تهم الأمهات والبنات، والأخوة والأخوات، مشكلة تهم الأسرة كاملة، لذا فإني أحملكم أمانة تبليغ هذه الخطبة إلى من في البيوت من النساء والذرية، فهي قضيتهم كما هي قضيتكم، ومشكلتهم كما هي مشكلتكم، أسأل الله لي ولكم السداد والصواب.
عباد الله, عنوان هذه الخطبة الوأد العصري, نعم الوأد العصري! عادت بنا الأيام ودارت بنا الدنيا، ففي الجاهلية الجهلاء كان الوأد الجاهلي للمرأة، كان الرجل إذا ولد له أنثى اسود وجهه وغضب واحتار ما يصنع بها, أيمسكها على هون ومذلة من أقربائه وجماعته أم يدسها في التراب ويستريح منها إلى الأبد، وقد صور القرآن هذا المشهد أحسن تصوير بقوله تعالى: وَإِذَا بُشّرَ أَحَدُهُمْ بِالاْنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّا وَهُوَ كَظِيمٌ يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوء مَا بُشّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِى التُّرَابِ أَلاَ سَآء مَا يَحْكُمُونَ [النحل:58، 59].
لكن الإسلام دين الرحمة والسماحة، دين العدل والحكمة، رفض هذا الأسلوب المشين مع المرأة ودَسَهُ في التراب كما دسَ معه أفكار الجاهلية وإهانتها للمرأة فقال عليه الصلاة والسلام في صحيح مسلم: ((من عال جاريتين حتى تبلغا جاء يوم القيامة أنا وهو وضم أصابعه)) ـ أي معاً ـ وقال في الحديث المتفق عليه: ((من ابتلي من هذه البنات بشيء، فأحسن إليهن كن له ستراً من النار)) وعند أحمد وابن ماجه ((من كانت له ثلاث بنات، فصبر عليهن، وسقاهن وكساهن من جدته ـ أي من جهده وماله ـ كن له حجاباً من النار)).
فأصبحت المرأة عزيزة في الإسلام بعد ذل الجاهلية، كريمة في الإسلام بعد إهانة الجاهلية، محبوبة مرغوبة في الإسلام بعد بغض وطرد الجاهلية.
واستقرت مكانة المرأة مرموقة شريفة حتى تزلزلت قواعد الشريعة من قلوب بعض الناس في هذا الزمان، فكرهوا المرأة مرة أخرى، ونسوا أو تناسوا حث الشريعة على تربية البنات وإعالتهن، ولذا قال واثلة بن الأسقع: (إن من يمن المرأة تبكيرها بالأنثى قبل الذكر) يقول من بركة المرأة أن يكون بكرها أنثى، لأنها ستكون بذلك وفق ما جاء في كتاب ربها حيث قال تعالى: يَهَبُ لِمَن يَشَاء إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَن يَشَاء الذُّكُورَ [الشورى:49] فقدم الإناث تمييزاً لهن.
إن كراهية البنات وأد عصري تفشى في كثير من المجتمعات، وهذا أمر خطير يُودي بكثير من حقوق المرأة على مدى حياتها، وفي كل مرحلة من مراحل حياتها تجد المرأة من مجتمعها مضايقة وتضييعاً لحقوقها التي أقرها لها الدين والعقل. فما مضى من الحديث كان عنها وهي طفلة صغيرة فإذا ما شبت المرأة وأصبحت محل أنظار الخطاب، جاءت المصيبة الأخرى لها! يتقدم الشاب الملتزم العاقل فيرده الولي لبساطة دخله، ويتقدم الثاني فيرده لأنه يشترط راتب ابنته الموظفة له، ويتقدم الثالث فيرده لأنه من أسرة بعيدة أو قبيلة ثانية، وهكذا تستمر الأعذار والردود، حتى يفوت الشابة قطار الزواج؛ بسبب تعنت الولي وشروطه, فإذا جاوزت الثلاثين أغمضت عنها أعين الشباب، وأصبح محكوماً عليها بالبقاء وملازمة بيت والدها حتى يأتي أمر الله، فإذا أبصر الوالد خطأه في ابنته أراد أن يعالج الخطأ فزوجها من أي شاب، فتقع بين كفي شاب مفترس، ضائع في نفسه مضيع لغيره، لا يعرف للزوجة حقوقاً، ولا للحياة معنى، همه وحياته سهرة وسيجارة، فيدمر الوالد حياة ابنته، ويكتب عليها الشقاء الدائم مدى الحياة أو حتى يحكم الله.
وكم من القصص الواقعية التي يعرفها الناس حصلت وما زالت تحصل بين الفترة والأخرى, ولكن أين الذين يعتبرون ويأخذون العبرة بغيرهم قبل أن يأخذ الناس العبرة بهم، استمعوا لهذه القصة التي شاعت وانتشرت بين الناس, والكثير منكم يعرفها غير أني أسوقها لكم للذكرى والعبرة فقط:
شابة وبنت موظفة وقعت في مشكلة عدم البصيرة عند الوالد، فحكم عليها بعدم الزواج، رغبة في راتبها الشهري الذي يتمتع به، ولما كانت المرأة إنسانة لها من المشاعر والأحاسيس المرهفة، ترى زميلاتها وهن يلدن البنين والبنات، وهي تعيش في شقاء الوحدة وحرمان المتعة المباحة، وهي لا تستطيع أن تفتح فمها بكلمة ولا تستطيع أن تعبر عما في صدرها لحيائها وحشمتها، كتمت تلك البنت أمرها في صدرها، احتسبته عند الله، وشاء الله أن يمرض ذلك الوالد الظالم لحقها مرض الموت، فلما أحس بدنو أجله؛ أدرك فداحة خطئه في ابنته المسكينة، وأراد أن يطلب منها السماح، فناداها وطلب ذلك وهو في سكرات الموت، فردت البنت رد المتحسر على ضياع حياته، ردت رداً انطلق من قلبها قبل أن ينطلق من لسانها، ردت وهي تتقطع حسرات على ذهاب شبابها وحرمانها من أمومتها ردت: يا أبي, قل آمين. فقال الأب: آمين قالت: يا أبي حرمك الله الجنة كما حرمتني الزواج.
قالت ذلك؛ لأنها رأت زميلاتها وصديقاتها يتبادلن التهاني بمناسبة زواجهن، ويتبادلن التبريكات بمناسبة مواليد السعادة الذين رزقنهم، قالت ذلك لما أحست من الجميع نظرات الحزن على مستقبلها؛ قالت ذلك لما أدرجها الجميع في سجل العانسات.
أليس هذا وأدَ البنات العصري؟! أليس هذا ذبحاً للمرأة بغير سكين؟!
عباد الله, ثم تاتي مرحلة أخرى من حياة المرأة تتجرع فيها ألواناً من الإهانة والإذلال, إنها مرحلة الزوجية, تتزوج المرأة, وتترك بيت أمها وأبيها الذي طالما لعبت فيه ومرحت, تركته لأنها خرجت تبحث عن السعادة في مكان آخر, في عش الزوجية, تتصور أن تجد في ذلك العش الزوج الذي يحنو كأبيها ويعطف كأمها, وبعد أن تدخل هذا العش تجد فيه الوحش المفترس، والجمل الهائج الذي لا يعرف لقلبها طريقاً، ولا لودها سبيلاً، قد حول بيته لمقهى تدار فيه كؤوس الشاي على لعب [البلوت وصكيك الكيرم]، وسهرات الأفلام الرخيصة, وتظل المسكينة تندب حظها، وترجو ربها أن يفرج كربها.
أليس هذا من وأد البنات العصري؟! أليس هذا ذبحاً للمرأة بغير سكين؟!
سبحان الله, أما علم ذلك الزوج الفاشل أن لزوجه عليه حقاً! وأنه أخذها زوجة ولم يأخذها أسيرة ولا خادمة! أما علم أن الله جعل له هذه الزوجة ليسكن إليها، لا ليسكن إلى السهرات والضياع هُوَ الَّذِى خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا [الأعراف:189].
ثم تكبر تلك المرأة وتلد البنين والبنات، وتصبح أماً، فتجد نوعاً آخر من الإهانة والقهر والوأد، إنه عقوق الأولاد لوالديهم، فيتقطع قلبها حزناً، وتتفتت كبدها ألماً، فإذا ما شب الأولاد وتزوجوا، جعلوا رضا الزوجات نصب أعينهم، وألقوا بحب الأم وحنانها وراءهم ظهرياً، قتلوا أمهاتهم قتلهم الله.
أليس هذا من وأد البنات العصري؟! أليس هذا ذبحاً للمرأة بغير سكين؟!
إن مكانة المرأة مصونة محفوظة في الإسلام، محفوظة بالكرامة والاحترام، ولكنها امتدت إليها أيدي البطش والجهل، لتدنس مكانتها، ولتشوه الإسلام في نظرتها، مدعية أن ذلك منهج الإسلام أو أن ذلك من حكمة العقلاء، أومن أعراف الأجداد والآباء، اعتدوا على المرأة في كثير من حقوقها المشروعة، اعتدوا على حقها في الحجاب، حقها في الحشمة، حقها في الستر، فأخرجها الأب أمام أبناء أخيه وأبناء أخواته، وأخرجها الزوج أمام أخيه و أقربائه، وزعموا أن هذه الأعراف والتقاليد، تباً لها من أعراف، وسحقاً لها من تقاليد، أهانوا المرأة وأخرجوها وقد كانت درة مصونة في الإسلام, أخرجوها لتلامس الأيادي الظالمة فتتشوه بنجاستها, اعتدوا على حق آخر من حقوقها وهو حقها في الميراث، حقها من مال أبيها وأخيها وزوجها وابنها، زاعمين أن ذلك فضيحة وعار، والعار من عارض شريعة الجبار، العار من كره ما أنزل الله حتى أدخله الله النار، العار من حرم الأنثى الضعيفة، واستغل حياءها، وأكل أموالها ليقيم عليها تجارته ومشاريعه، ذاكم هو العار، أما مطالبة المرأة بحقها وإرثها فهو حق مشروع شرعه الله من فوق عرشه لّلرّجَالِ نَصيِبٌ مّمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالاْقْرَبُونَ وَلِلنّسَاء نَصِيبٌ مّمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالاْقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً [النساء:7].
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه.. أقول ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم ...
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، اللهم صل وسلم عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد, عباد الله, قبل جُمَعٍ, وبعد صلاة الجمعة مباشرة اتصلت بي امرأة تشكو أمرها إلى الله، وتحكي قصتها الحزينة، التي عانت فيها صنوفاً من وأد المرأة العصري، وقد استمرت تحكي قصة طويلة، غير أني أسوق مختصرها لكم، تقول تلك المرأة: توفي والدي وتركني وجمعاً من البنات وأخي وأمي، ولما كانت المرأة مجبولة على الضعف، عاجزة عن التصرف، فقد أعطينا لأخينا حق التصرف في ثروة الوالد الكبيرة بالوكالة الشرعية، ومرت السنون، ولم نطالب أخانا بشيء وتركناه يتمتع بهذه الثروة هو وزوجاته وأولاده، وفي رمضان الماضي أصبت بمرض في عيني واحتجت إلى إجراء عملية فيها تكلف بعض المال، وبما أن حالتي وزوجي المادية لا تسمحان لي بإجراء العملية، وجدت أخي هو الحل والملجأ بعد الله، فطلبته شيئاً يسيراً من المال لا يتجاوز الألف أو الألفي ريال ولو من تركة الوالد التي خلفها لنا واستحوذ عليها هو، ولكنه عد طلبي هذا فضيحة أستحق عليها العقاب، والعقاب هو قطيعتي حتى الموت، والتبرؤ مني, بل وتحريض والدتي ومنعي من زيارتها والتحدث معها وملء قلبها علي، وبعد أن أكثرت إرسال الرسل إليهم علّ الله يهديهم أخبروني بأن الوالد قبل وفاته قد تنازل عن كل ما يملك لأخي وكتبه باسمه فقط؟
قلت: والكلام لي أنا, قلت: إن كان ما ذكر صحيحاً فقد ارتكب الوالد في حق بناته ذنباً عظيماً وجوراً مستطيراً، فما كان ينبغي أن يختم حياته بهذا الجرم الخطير، ولا كان ينبغي أن يحتال على أحكام الله بهذه الفعلة السخيفة التي لا تنفذ شرعاً ولا عقلاً، وكان يجدر بذلك الابن أن يمنع والده من هذا التصرف الذي يحرم أخواته حقوقهن، فإن أصر الوالد، فما كان للابن أن يشارك أباه في الذنب، ويحرم البنات بحجة أن الوالد قد تنازل عن كل شيء باسمه.
عباد الله, إن التحايل على أحكام الله أشد جرماً من الذنب الصريح، لأن الذي يتحايل فكأنه يخادع ربه كما يخادع الصبيان يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ ءامَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ [البقرة:10,9].
أيها الأحبة, إنني من هذا المكان الطاهر أدعو كل قريب ظلم قريباً له أو قريبةً له أن يتقي الله، وأن يقوم بتأدية كل حقوقها، فقد أوصى عليه الصلاة والسلام بالنساء في أعظم يوم وفي أعظم مكان، في يوم عرفة، فقال عليه الصلاة والسلام: ((اتقوا الله في النساء)) وقال: ((استوصوا بالنساء خيراً)) وقال عليه الصلاة والسلام: ((خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي)) وروى ابن عساكر ورمز السيوطي لصحته في الجامع قوله عليه الصلاة والسلام: ((خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي، ما أكرم النساء إلاّ كريم، ولا أهانهن إلاّ لئيم)).
عباد الله, اتقوا الله، وقوموا بحق أهليكم عليكم، وإياكم ووأد النساء وقهرهن واستضعافهن، فإنهن خلقٌ من خلق الله، وأنتم مسئولون عنهن، وعن قوامتكم عليهن، وَتُوبُواْ إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور:31].
هذا وصلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه بقوله: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىّ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
ــــــــــــــــــــ(67/178)
الشفاء في منع اختلاط الرجال بالنساء
...
...
2726
...
الأسرة والمجتمع
...
...
المرأة, قضايا المجتمع
...
عبد الباري بن عوض الثبيتي
...
...
المدينة المنورة
...
12/8/1423
...
...
المسجد النبوي
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- موقف القرآن من الاختلاط. 2- فساد دعاة الاختلاط وإفسادهم. 3- شبهات وردود. 4- عقلاء الدول الغربية يحاربون الاختلاط. 5- مفاسد الاختلاط. 6- مظاهر الاختلاط. 7- تحريم الأسباب المفضية إلى الاختلاط. 8- الاختلاط أصل كل بلية.
الخطبة الأولى
أما بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله، قال تعالى: ياأَيُّهَا النَّبِىُّ قُل لأزْواجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذالِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً [الأحزاب:59].
موقف القرآن الكريم من اختلاط الرجال بالنساء ترسمُه هذه الآية، منهجٌ قرآني يبيّن ضوابطَ أمنية، ويحدّد أسباب السلامة، حفظاً لكيان الأسرة المسلمة، وسلامة أنسابها، وطهارة قلوب الرجال والنساء من الفتنة والانحراف.
أمر الله سبحانه وتعالى النساءَ بإدناء الجلابيب وغض البصر، وحرّم الاختلاط بين الرجال والنساء، كلُّ ذلك سداً للذريعة وحسماً للوسائل المؤدية إلى الفساد.
الاختلاط قضيةٌ قديمة تتجدَّد في هذا العصر، حيث يقف المروّجون له بالمرصاد لخيرية أمة الإسلام، ويحسدونها على ما كرّمها الله وفضلها به على سائر الأمم.
إن دعاة الاختلاط لا يهمّهم صيانة الأعراض، ولا يفهمون معنًى للشَّرف والعرض، إنما هي في نظرهم كلماتٌ فقدت معانيَها القديمة، ووأدتها الحضارةُ والانطلاق من القيود المتحجِّرة زعموا. أصواتٌ شاذة تدَّعي أن الاختلاط يساعد على إقامة علاقة نظيفة، وأنه ضرورةٌ نفسية واجتماعية واقتصادية، وبه يرشَّد الإنفاق، ونقول لهؤلاء جميعاً: اسألوا الحضارة الغربية المتهالكة: ماذا جنته من الاختلاط؟ ستجيبكم الإحصاءات المذهلة والأرقام المفجعة عن نسبة الحوامل من الزنا، وألوف الأطفال الذين وُلدوا بطرق غير شرعية، ناهيك عن حالات الإجهاض، ونسبة جرائم الخطف والاغتصاب، مع انحطاطٍ خلقي، وآثار مدمرة في الاقتصاد والاجتماع، تُنذر بانهيار المجتمعات، مع كثرة العوانس، ذلك أن وجود السبل الميسرة لقضاء الوطر صرفتهم عن تبعات الزواج وتكاليفه زعموا.
يدَّعي بعضُهم أن الاختلاط يكسر الشهوة، ويهذب الغريزة، ويقي من الكبت والعقد النفسية، وواقع الحال في البلاد الإباحية يكذّب ذلك وينقضه، فلم يزد الناس إلا سعاراً بهيمياً، وهتكاً للأعراض، وتوقّداً للشهوة، لا يرتوي ولا يهدأ، وينتهي إلى شذوذ لا يقيّدهُ قيدٌ ولا يقف عند حدّ.
ها هي الغرائز قد أطلقت، فلم تزد النفوس إلا تعقيداً، ولم تزد الأعصاب إلا توتراً، مع انتشار الأمراض الفتاكة، وأصبح القلق النفسي هو مرض العصر هناك.
كيف نلقي إنساناً وسطَ أمواج متلاطمة، ثم نطلب منه أن يحافظ على ثوبه من البلل؟! كيف نلقي إنساناً وسطَ نيران متوقدة، ثم نطلب منه أن يحافظ على جسمه من الاحتراق؟!
إن عقلاءَ البلاد الإباحية التي جربت الاختلاطَ وذاقت ويلاتِه وقاست مساوئَه ينادون بقوة إلى منع اختلاط الرجال بالنساء في بلادهم، بعد أن أحسُّوا بالخطر الداهم، وأعلنوها صريحةً مدوِّية بعد طول عناء أن التعليم غير المختلط أفضل بكثير من التعليم المختلط، لم يؤدِّ الاختلاط إلى تصريف النظير إنما أدَّى إلى بهيمية كاملة، لم تؤدِّ التجربة إلى تماسك البيوت ولا استقرار ولا ثبات، وإنما أدَّى إلى تفكك دائم وطلاق متزايد وجوع مستمر.
الاختلاط ـ عباد الله ـ متعةٌ مُغرية، تجعل الشباب لا يفكر في الزواج، وتُفقِد المتزوج رابطَ الزوجية، وقد يتفارقان إلى أخدان وخليلات. إنه عاملٌ هدّام فعَّال لحياة الأسرة، ومنغّص لاستقرارها؛ لأنه في المجتمع المختلط لن يقنع أحدٌ بما رزقه الله، وتكثر الشكوك والغيرة بين الأزواج، كما تكثر الخيانات الزوجية.
من الأسباب البينة التي أدَّت إلى فتنة امرأة العزيز بيوسف عليه السلام الاختلاط الذي أضرم كوامن الغريزة، فيأبى يوسف عليه السلام خوفاً من الله العليم القدير.
الاختلاط من أكبر الأسباب الميسِّرة للفاحشة وارتكاب جريمة الزنا، فهو يحرّك في النفس نوازع الشر، ويشعل نارَ الشهوات الجامحة، ويولد الإغراء والإغواء.
الاختلاطُ يصرف شبابَ الأمة عن المعالي، ويؤدِّي إلى اضمحلال قواهم، ويوقعهم فريسة الشهوات البهيمية، ويحوّل المجتمع إلى لهو وعبث ومجون وخلاعة، وهذا يولج المجتمع موالجَ الهلاك.
للاختلاط المحرّم في المجتمعات صورٌ، منها: اختلاط البنات مع ابن العم أو ابن العمة وابن الخال مع ابن الخالة، خلوّ خطيب الفتاة بها وخروجه معها وحديثه، وذلك قبل العقد بحجة التعارف ومدارسة بعضهم بعضاً، اختلاط النساء بالرجال الأجانب عموماً بحجة أن القلوب بيضاء، اختلاط الطالبات بالطلاب في صفوف الدراسة بالجامعات والمعاهد والمدارس كما في بعض المجتمعات، استقبال المرأة أقاربَ زوجها الأجانب أو أصدقاءه في حالة غيابه ومجالستهم والكلام معهم كما في بعض المجتمعات، خلوة المدرسين الخصوصيين بالطالبات بحجة التدريس، اختلاط النساء بالرجال في المعامل والصيدليات والمستشفيات والمكاتب بدعوى ضرورة ذلك في العمل، خلو الطبيب بالمريضة من غير محرم لها، وما يسمَّى بالجلسات العائلية، والتي يختلط فيها الرجال بالنساء وما يحدث فيها من تبادل الحديث.
إخوة الإسلام، جاءت أحاديث صحيحة صريحة في تحريم الأسباب المفضية إلى الاختلاط وهتك سنة المباعدة بين الرجال والنساء، ومنها تحريم الدخول على الأجنبية والخلوة بها، تحريم سفر المرأة بلا محرم، تحريم النظر العمد من أي منهما إلى الآخر، تحريم دخول الرجال على النساء، تحريم مسّ الرجل بدن الأجنبية حتى المصافحة للسلام، تحريم تشبّه أحدهما بالآخر.
ومن قواعد الشرع المطهر أن الله إذا حرّم شيئاً حرم الأسباب والطرقَ والوسائل المفضية إليه، تحقيقاً لتحريمه، ومنعاً من القرب من حماه، قال تعالى: وَلاَ تَقْرَبُواْ الزّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً [الإسراء:32]، يقول أحد العلماء: والنهي عن قربان الزنا أبلغ من النهي عن مجرّد فعله؛ لأن ذلك يشمل النهي عن جميع مقدماته ودواعيه، فإن من حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه، يقول ابن القيم رحمه الله: "واختلاط الرجال بالنساء سبب لكثرة الفواحش والزنا"[1].
عباد الله، إن من حرص الشارع عن التباعد بين الرجال والنساء وعدم الاختلاط بينهم أن رغّب في ذلك حتى في أماكن العبادة، كالصلاة التي يشعر المصلي فيها بأنه بين يدي ربه بعيداً عما يتعلق بالدنيا، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((خير صفوف الرجال أولها وشرها آخرها، وخير صفوف النساء آخرها وشرها أولها)) رواه مسلم[2]، وما ذاك إلا لقرب أول صفوف النساء من الرجال فكان شرَّ الصفوف، ولبعد آخر صفوف النساء من الرجال فكان خيرَ الصفوف، قال النووي رحمه الله: "وإنما فُضِّل آخر صفوف النساء الحاضرات مع الرجال لبعدهنّ عن مخالطة الرجال، وذُمّ أولُ صفوفهن لعكس ذلك"[3]. وعندما خرج رسول الله من المسجد فرأى اختلاطَ الرجال بالنساء في الطريق قال للنساء: ((استأخرن، فإنه ليس لكن أن تحْققن الطريق، عليكن بحافَّات الطريق))، فكانت المرأة تلتصق بالجدار حتى إن ثوبَها ليتعلق بالجدار من لصوقها به. رواه أبو داود[4]. وعلى هذا صارت نساء المسلمين لا عهد لهن بالاختلاط الرجال، وأخبر رسول الله أن صلاتها في بيتها خير من صلاتها في مسجدها فقال رسول : ((لا تمنعوا النساء أن يخرجن إلى المساجد، وبيوتهن خير لهن)) أخرجه أحمد من حديث ابن عمر رضي الله عنهما[5].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] الطرق الحكمية (ص407).
[2] أخرجه مسلم في الصلاة (440).
[3] شرح صحيح مسلم (4/159-160).
[4] أخرجه أبو داود في الأدب (5272) من حديث أبي أسيد الأنصاري رضي الله عنه، وهو أيضا عند الطبراني في الكبير (19/261)، وحسنه الألباني في صحيح أبي داود (4392).
[5] أخرجه أحمد (2/76)، وكذا أبو داود في الصلاة (567)، والبيهقي (3/131)، وصححه ابن خزيمة (1684)، والحاكم (755)، وابن عبد البر في التمهيد (23/395)، ونقل الشوكاني في النيل (3/95) تصحيح العراقي، وصححه الألباني في صحيح أبي داود (530). وأصل الحديث في الصحيحين وليس فيه: ((وبيوتهن خير لهن)).
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدَ الشاكرين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وليّ الصابرين، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله إمام المتقين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين.
أما بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله.
ومن حِرص الشارع على عدم الاختلاط منعُ المرأة إذا خرجت للمسجد أن تتطيَّب له، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((أيما امرأة أصابت بخوراً فلا تشهد معنا العشاء الآخرة)) رواه مسلم[1]، ولما رأت عائشة رضي الله عنها التغيّر الذي حدث في أحوال النساء بعد عصر النبوة قالت: لو أن رسول الله رأى ما أحدث النساءُ لمنعهنَّ المسجدَ كما مُنعت نساءُ بني إسرائيل. أخرجه مسلم[2]. وهذا في زمن عائشة رضي الله عنها وعهدُ النبوة قريب، فكيف بهذا الزمن الذي كثر فيه الفساد، وظهر فيه التبرج، وشاع فيه السفور، وقلّ فيه الورع؟! فلا حول ولا قوة إلا بالله.
يقول ابن القيم رحمه الله: "ولا ريبَ أن تمكينَ النساء من اختلاطهن بالرجال أصلُ كلِّ بلية وشر، وهو من أعظم أسباب نزول العقوبات العامة، كما أنه من أسباب فساد أمور العامة والخاصة، واختلاط الرجال بالنساء سببٌ لكثرة الفواحش والزنا، وهو من أسباب الموت العام، والطواعين المتَّصلة، ولمَّا اختلط البغايا بعسكر موسى وفشت فيهم الفاحشة أرسل الله عليهم الطاعون، فمات منهم في يوم واحدٍ سبعون ألفاً" انتهى كلامه رحمه الله[3].
ألا وصلوا ـ عباد الله ـ على رسول الهدى، فقد أمركم الله بذلك في كتابه فقال: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىّ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين...
[1] أخرجه مسلم في الصلاة (444).
[2] أخرجه مسلم في الصلاة (445)، وهو في البخاري أيضا: كتاب الأذان (869).
[3] الطرق الحكمية (407-408).
ــــــــــــــــــــ(67/179)
ظاهرة التفكك الأسري
...
...
2739
...
الأسرة والمجتمع
...
...
الأرحام, قضايا المجتمع
...
عبد الرحمن السديس إمام الحرم
...
...
مكة المكرمة
...
26/8/1423
...
...
المسجد الحرام
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- سر سعادة المجتمعات. 2- اختلال النظام الاجتماعي. 3- مظاهر هذا الاختلال. 4- خطر التفكك الاجتماعي. 5- فساد الحياة الاجتماعية في الغرب. 6- صور من جرائم العقوق. 7- مفاسد القطيعة. 8- أسباب القطيعة. 9- وعيد قطيعة الرحم. 10- وصف الدواء. 11- اغتنام فرصة رمضان لتقوية الأواصر وإصلاح الوشائج.
الخطبة الأولى
أما بعد: فأوصيكم ـ عباد الله ـ ونفسي بتقوى الله الملك العلام، فإن تقواه سبحانه عروةٌ ليس لها انفصام، وجذوة تنير القلوب والأفهام، وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِى تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ [النساء:1].
أيها المسلمون، القاعدةُ الكبرى في تحقيق سعادةِ المجتمع وضمان استقراره، والركيزة العظمى في إشادة حضارة الأمة وبناء أمجادها تكمُن بعد عقيدتها وإيمانها بربها في نسيجها الاجتماعي المترابط، ومنظومتها القيَميَّة المتألِّقة التي تنتظم عواطفَ الودِّ المشترَك والحبِّ المتبادَل والتضامن المشاع والصلة المستديمة، في بعدٍ عن الضغائن والبغضاء، وغوائل التقاطع والجفاء، وإثارة الأحقاد والشحناء.
معاشر المسلمين، إن المستقرئ للأوضاع الاجتماعية في كثير من المجتمعات الإسلامية ليدرك أنه في خضمِّ المتغيِّرات الاجتماعية وفي ظلِّ تداعيات النُقلة الحضارية وفي دوَّامة الحياة المادية ومعترَك المشاغل الدنيوية حدثت أنواعٌ من السلوكيات والأنماط الخطيرة التي يُخشى أن تؤثِّر في اختلال نظام الأمة الاجتماعي، ويأتي الانفتاح العالمي والأخطبوط العولمي ليذكي أوار هذه السلوكيات، ويُشعل فتيلَ هذه السلبيات، مما يؤكد أهمية تمسُّك الأمة بعقيدتها وقيَمها الحضارية وأخلاقها الاجتماعية الأصيلة.
ولعلَّ من أخطر الظواهر والمشكلات التي أذكتْها المتغيِّرات في الأمة ما يتعلَّق بالأوضاع الاجتماعية، وما جدَّ عليها من مظاهر سلبية، يوشك أن تعصف بالكيان الأسري، وتهدِّد التماسكَ الاجتماعي، فكثرت ظواهرُ عقوق الأبناء وتساهل الآباء، وتقلّصت وظائف الأسرة، وكثُر جنوح الأحداث، وارتفعت نسبُ الطلاق والمشكلات الاجتماعية، وتعدّدت أسباب الجريمة ومظاهر الانحراف والانتحار والعنف العائلي والمشكلات الزوجية، ووهن كثير من الأواصر، وضعُف التواصل بين الأقارب والأرحام، وسادت القطيعة والجفاء، وحلّت محلَّ الصلة والصفاء، وضعُفت وشائج الأخوة وروابط المودة، وشاعت قيم الأنانية والأحاديَّة بدلَ القيم الإيثارية والجماعية، مما ينذر بإشعال فتيل أزمة اجتماعية خطيرة، يجبُ المبادرة إلى إطفائها والقضاء عليها بإيلاء قضايانا الاجتماعية حقَّها من العناية والرعاية والاهتمام.
إخوة العقيدة، وهذه وقفة مع قضيةٍ من أخطر القضايا الأسرية، نشخّص فيها ظاهرةً من أخطر الظواهر الاجتماعية التي لها آثارها السلبية على الأفراد والأسر والمجتمع والأمة، تلكم هي ظاهرة التفكك الأسري والخلل الاجتماعي الذي يوجد في كثير من المجتمعات اليوم، مما ينذر بشؤم خطير وشرّ مستطير، يهدّد كيانَها، ويزعزع أركانَها، ويصدّع بنيانها، ويحدث شروخاً خطيرة في بنائها الحضاري ونظامها الاجتماعي، مما يهدِّد البُنى التحتية لها، وسيتأصل شأفتَها، وينذر بهلاكها وفنائها.
إخوة الإيمان، إن الترابطَ الأسري والتماسكَ الاجتماعي ميزةٌ كبرى من مزايا شريعتنا الغراء، وخصيصة عظمى من خصائص مجتمعنا المسلم المحافظ الذي لُحمته التواصل، وسُداه التعاون والتكافل. ويومَ أن زبعت زوابع العصرنة والتحديث على كثير من المجتمعات الإسلامية عاشت مرحلة انتقالية، افتقدت من خلالها ما كان يرفرف على جنباتِها من سلام أسري ووئام اجتماعي، مما أفرز جيلا يعيش على أنماط اجتماعية وافدة، وينحدر إلى مستنقع موبوء ووَحل محموم، من أمراض حضارة العصر التي سرت عدواها إلى بعض المجتمعات الإسلامية، فاجتاحت المثلَ الأخلاقية العليا والقيم الاجتماعية المثلى، وكأنها الإعصار المدمِّر لقيم الأمة ومُثلها.
أمة الإسلام، إن نظرةً فاحصة لما تعيشه المجتمعات الغربية لتؤكّد أن أقسى ما تعانيه هذه المجتمعات اليوم هو التفكك الأسري والفردية المقيتة التي ضاقت بها بيوتهم بعد أن ضاقت بها قلوبهم. ولا عجب أن يطلبَ أهل الحي فيهم الجهةَ الأمنية لأنَّ مسِنًّا قد مات فأزكمت رائحتُه الأنوف بعد تعفّنه دون أن يعلم بموته أحد، فسبحان الله عباد الله، إنها الماديات حينما تغلب على القيم والأخلاقيات، والأعجب بل الأدهى من ذلك والأمر أن يسري هذا الداء إلى بعض المجتمعات الإسلامية وهي ترى بأمِّ عينها كيف أوشكت الأسرة الغربية على الانقراض، فكم نسمع من مظاهر التفكك وصور الخلل والعقوق في بعض المجتمعات، فهذا أب لما كبرت سنّه ووهن عظمه واحتاج لأولاده لم يجد ما يكافئوه إلا بالتخلص منه في دور الرعاية، وكأنَّ لسانَ حاله يتمثل قول الأوَّل المكلوم:
غذوتُك مولوداً وعُلتك يافعًا تعُلُّ بما أجني عليك وتنهلُ
إذا ليلةٌ ضاقتك بالسقم لم أبت لسقمك إلا ساهراً أتململُ
فلما بلغت السنَّ والغاية التي إليها مدى ما كنتُ فيك أؤمِّلُ
جعلتَ جزائي غلظةً وفظاظةً كأنك أنتَ المنعم المتفضِّلُ
فليتك إن لم ترعَ حقَّ أبّوتي فعلتَ كما الجار المجاور يفعلُ
ولما سمع ذلك بكى، وأخذ بتلابيب الابن، وقال: ((أنت ومالك لأبيك))[1]. وهذا آخر طاعنٌ في السن يدخل المستشفى وهو على فراش المرض، ويعاني من مرارة العقوق والحرمان، ويقول: "لقد دخلتُ هنا منذ أكثر من شهر، ووالله ما زارني أحدٌ من أبنائي وأقاربي". بل تعدَّى الأمر إلى ما هو أفظع من ذلك، فهذا مأفون لمَّا بلغت أمّه من الكبر عتيا تبرّم وضاق بها ذرعاً، فما كان منه إلا أن أمر الخادمة فأخرجتها خارجَ المنزل، لتبيت المسكينة على عتبة الباب، حتى يُحسن إليها الجيران من الغد. وهذا آخر يطلق النارَ على أبيه فيرديه قتيلا، من أجل مشادّة كلامية. يا لله، رحماك يا إلهي، أيُّ جريمة ارتكبها هؤلاء العاقون في حق أعزّ وأقرب الناس إليهم؟! ويحهم على قبيح فعالهم حتى لكأن قلوبهم قُدَّت من صخر أو هُدّت من صلب، والله المستعان.
ونماذج العقوق والقطعية في زمن الأعاجيب كثيرة، فأين الرحمة عند هؤلاء والديانة؟! بل أين المروءة والإنسانية؟! وإذا كان هذا في حق الوالدين، فما بالكم بموقف هؤلاء من الأقارب والأرحام؟! فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ فِى الأَرْضِ وَتُقَطّعُواْ أَرْحَامَكُمْ أَوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ [محمد:22، 23].
لقد وصل الحال ببعض الناس أن يمتلئ قلبه غيظاً وحقداً على أقاربه وذوي رحمه، فيقاطعهم بل يعاديهم، ويخاصمهم بل يقاضيهم، ويتمنى لهم الموتَ الزؤام من أجل أمر تافهٍ حقير، يتعلَّق بحفنة من الحطام، أو وشاية غِرٍ لئيم، أو زلة لسان، أو شجار بين الأطفال، فتمرُّ الأشهر والسنوات وقلبُه يغلي عليهم، ونفسه تموج غلاّ ضدّهم كما يموج البركان المكتوم، فلا يستريح إلا إذا أرغى وأزبد، وآذى وأفسد، وانبلجت أساريرُه بنشر المعايب وإذاعة المثالب وسرد القبائح وذكر الفضائح، وتلك ـ لعمرو الحق ـ من دلائل الصغار واللؤم وخسّة الطبع وقلة المروءة لدى أقوام لا يتلذَّذون إلا بالإثارة والتشويش، ولا يرتاحون إلا بالتحريش والتهويش، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "المؤمن لا يطالب ولا يعاتب ولا يضارب"[2].
إن غليانَ مراجل القطيعة في المجتمع، لاسيما بين أبناء الأسرة وذوي الرحم والقربى، وطغيان المآرب الشخصية والمصالح الذاتية أدواءٌ فتاكة إذا تمكَّنت من جسد الأمة أثخنتها، فهي مصدر كلِّ بلاء، وسبب كل عداء، ومنبع كلِّ شقاء، بل هي السلاح البتار الذي يشهره الشيطان ضدّ القلوب فيفرّقها، والعلاقات فيمزِّقها، في غلياناتٍ شيطانية وهيجانات إبليسية، إن أُرخي لها الزمام وأطلِق لها الخطام قضت على حاضر الأمة ودمّرت متقبلَها، وإذا تنافر ودّ القلوب كُسرت زجاجات التواصل، وتمكَّن الشرّ في النفوس، وعاد الناس ذئابًا مسعورةً ووحوشاً كاسرة، وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِى الأرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوء الدَّارِ [الرعد:25].
أمة الإسلام، ويوم أن ضعُف التديّن في قلوب كثيرين وكثُر الجهل بالشريعة وطغت المادة ضعُفت أواصر التواصل، وتعددت مظاهر القطيعة، وإلا فلا تكاد فضائل الصلة وآثارها الخيرة تخفى على العاقل اللبيب، فهي صفة أهل الإيمان، وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوء الحِسَابِ [الرعد:21]. وهي ثمرة من ثمار الإيمان بالله واليوم الآخر، خرج الشيخان من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليصل رحمه))[3]. وهي سبب للبركة في الرزق والعمر، يقول : ((من أحبّ أن يُبسَط له في رزقه ويُنسأ له في أجله فليصل رحمه)) مخرّج في الصحيحين من حديث أنس رضي الله عنه[4]، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((إن الله خلق الخلقَ حتى إذا فرغ منهم قامت الرحم فقالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة، قال: نعم، أما ترضين أن أصل من وصلكِ وأقطع من قطعك؟! قالت: بلى، قال: فذلك لك))[5]، وعن جبير بن مطعم رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((لا يدخل الجنة قاطع))، قال سفيان: "يعني: قاطع رحم" رواه البخاري ومسلم[6].
إن حقاً على كل قاطعِ رحم أن يبادر بالصلة وهذا الوعيد يقرع سمعَه قبل فوات الأوان، ولا أظنّ أن أحداً يُعذر بعد خدمة الاتصالات الحديثة، فرحم الله عبداً يصِل رحمه وإن قطعوه، يتعهَّدهم بالزيارة، ويتخوَّلهم بالهدية وإن جفوه، يقول : ((ليس الواصل بالمكافئ، وإنما الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها)) خرجه البخاري[7]، وعند مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلاً قال: يا رسول الله، إن لي قرابةً أصلهم ويقطعوني، وأُحسن إليهم ويسيئون إلي، وأحلُم عنهم ويجهلون عليَّ، قال : ((لئن كنت كما قلتَ فكأنما تُسفّهم الملَّ، ولا يزال معك من الله ظهير عليهم ما دمت على ذلك))[8].
فهنيئاً لقريبٍ أعان على صلته بقبول العذر والصفح والعفو والتغاضي عن الهفوات والتغافل عن الزلات، إن أحسنَ فلا يمنّ، وإن أعطى فلا يضِنّ، لا يعرف السباب، ولا يُكثر العتاب، فليست تدوم مودةٌ وعتابُ، يتجنَّب المراء والجدال، ويحسن الأقوالَ والفعال، يشارك أقاربَه آلامهم وآمالهم، ويشاطرهم أفراحهم وأتراحهم، مفتاحٌ لكل خير، مغلاق لكل شرّ، ينصح ولا يفضح، ويستر ولا يعيِّر، وفي ذلك ذكرى للذاكرين وعبرة للمعتبرين، والله المسؤول أن يصلح الحال، وتسعد المآل، إنه جزيل العطاء والنوال.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولكافة المسلمين من كل ذنب، فاستغفره وتوبوا إليه، فيا لفوز المستغفرين، ويا لبشرى التائبين، اللهم أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا، وأنت خير الغافرين.
[1] أخرجه الطبراني في الصغير (947)، والأوسط (6570)، والبيهقي في الدلائل ـ كما في نصب الراية (3/338) ـ من حديث جابر رضي الله عنهما، قال الهيثمي في المجمع (4/155): "روى ابن ماجه طرفا منه، رواه الطبراني في الصغير والأوسط، وفيه من لم أعرفه، والمنكدر بن محمد ضعيف، وقد وثقه أحمد، والحديث بهذا التمام منكر، وقد تقدمت له طريق مختصرة رجال إسنادها رجال الصحيح".
[2] انظر: مدارج السالكين (1/523).
[3] جزء من حديث أخرجه البخاري في الأدب (6138)، وأخرج مسلم أصله في الإيمان (48) وليس فيه هذا الجزء.
[4] أخرجه البخاري في الأدب (5986)، ومسلم في البر والصلة (2557).
[5] أخرجه البخاري في الأدب (5987)، ومسلم في البر والصلة (2554).
[6] أخرجه البخاري في الأدب (5984)، ومسلم في البر والصلة (2556).
[7] أخرجه البخاري في الأدب (5991) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
[8] أخرجه مسلم في البر والصلة (2558).
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي هدانا للإسلام، وأمرنا بصلة الأرحام، وأشهد أن لا إله إلا الله الملك القدوس السلام، منَّ علينا بقرب حلول شهر الصيام والقيام، وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله بدر التمام، ومسك الختام، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله البررة الكرام، وصحابته الأئمة الأعلام، والتابعين ومن تبعهم بإحسان ما تعاقب النور والظلام.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ [البقرة:281]، واعلموا أن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة.
أيها الإخوة في الله، وبعد تشخيص الداء لظاهرة القطيعة والتفكُّك الاجتماعي يأتي وصفُ الدواء وأخذ التدابير الواقية للتصدي لهذه المشكلة الاجتماعية الخطيرة، ولعل أولى خطواتِ العلاج إصلاحُ النفوس بالخوف من الله ومراقبته، واستشعار معيَّته وتعظيم أمره ونهيه في ذلك، وتربية النفوس على التكافل والإحسان وحفظ اللسان والتثبت عند إطلاق الشائعات، والحذر من الغضب، وكظم الغيظ، والسعي في الإصلاح مع الصبر والتحمل والعفو والتجمّل واليقين بأن قوة الأمة إنما تكمن في تماسكها وترابط أبنائها.
أيها الأحبة في الله، ولعلَّ التذكير بهذه القضية والأمة على أبواب شهر الخير والبركة من أكبر الدوافع على الأخذ بالخطوات العمليَّة في إصلاح النفس والمجتمع، وبمثل هذا ينبغي أن تستقبل الأمة شهرَها الكريم، مع الحاجة الماسة في أن يولي المتخصِّصون هذه الظاهرةَ وأمثالها الدراسةَ الجادة والحلول العمليةَ الناجحة.
فيا أيها المسلمون، يا من هبّت رياحُ اشتياقكم لبلوغ شهر رمضان المبارك، ماذا أعددتهم لاستقباله؟ أوَلستم تريدون الفوزَ بالجنان؟! أين زادُكم وعدّتكم وقد قربت أيام المرابحة؟! أين تدريباتُ العزائم والاستعداد لأغلى المواسم؟! إن الكيِّس الصادقَ من أعدَّ للسباق والمنافسة، حتى إذا ما هلّ الهلال المبارك انطلق لا يلتفت، وشمّر لا يفتئت، عاليَ الهمة لبلوغ القمة، غايتُه نصبَ عينيه، وشوقُه حاديه على مواصلة الجدِّ في ميدان التسابق، حتى يفوزَ بالموعود، إذا نزل الناس إلى أسواق الدنيا لشراء ما لذّ وطاب من المطاعم والمشارب نزل إلى أسواق الجنان يرابح ويغالب.
ألا فلتهنأ الأمة بشهرها، ولتستعدَّ لحسن الاستقبال بتوبةٍ عامة وإنابة شاملة مخلصة في شتى المجالات، وفتح صفحة المحاسبة لمستقبل أفضل، تعالج فيها مشكلاتها، وتتوحد فيها كملتُها، وتنتصر بإذن الله على أعدائها، وما ذلك على الله بعزيز.
ألا وصلوا وسلموا ـ رحمكم الله ـ على النبي المصطفى والرسول المجتبى كما أمركم بذلك المولى جل وعلا، فقال تعالى قولاً كريما: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىّ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم على سيد الأولين والآخرين وأفضل الأنبياء والمرسلين نبينا وحبيبنا وقدوتنا محمد بن عبد الله، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين...
ــــــــــــــــــــ(67/180)
لزواج السري أو العرفي
...
...
2816
...
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
...
...
الكبائر والمعاصي, المرأة, النكاح
...
هيثم جواد الحداد
...
...
لندن
...
...
...
المنتدى الإسلامي
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- تحريم الزواج العرفي (بلا إذن ولي ولا إشهار). 2- أهمية عقد النكاح ودوره في بناء الأسرة السعيدة المتكاملة. 3- شروط النكاح الصحيح. 4- الزواج العرفي وبعض مآسيه. 5- انتشار الزواج العرفي. 6- مناقشة رأي الحنفية بصحة النكاح بغير ولي.
الخطبة الأولى
أما بعد:
فسنتحدث في هذه الخطبة عن مشكلة اجتماعية خطيرة، يصطلي بنارها شرائح عديدة من المجتمع، ويمتد أذاها ليشمل غالب أفراد الأمة، حتى إذا استشرى ضررها، واستطال لهيبها، آذنت للمجتمع بهلاك، ونادت على الأمة بنذر شؤم وشقاء.
هذه المشكلة ـ أيها الإخوة ـ هي ما يسميه البعض بالزواج العرفي، وما يسميه آخرون بالزواج السري، وإن سألتني عن اسمه فإني أتساءل، أهو زواج؟ فأقول: بل هو زنى.
أيها المؤمنون، إن الإسلام بتشريعاته المتكاملة، تكفل بحياة يحفها الأمن، وترعاها القدرة الإلهية، وترفرف في عليائها سعادة الإخلاد إلى التوحيد.
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى ءامَنُواْ وَاتَّقَوْاْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مّنَ السَّمَاء وَالأرْضِ وَلَاكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ [الأعراف:96].
أيها المؤمنون، إن من أشد نوازع الفطرة البشرية، الميول إلى الجنس الآخر، هذا الميول الذي أودعه الله في جذر القلوب، فلا ينفك عنه رجل أو امرأة، حتى نبينا المعصوم .
وحتى لا تكلف الشريعة البشر ما لا يطيقون، وقد جاءت بسعادتهم في الدنيا والآخرة، فقد شرعت لهم النكاح، وجعل الله الزواج والنكاح ديناً ورضيه حكماً وأنزله وحياً فقال جل من قائل: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مّنْ أَزْواجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُم مّنَ الطَّيّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ [النحل:72].
أيها المؤمنون، عقد الزواج لعله أخطر العقود التي تتم بين طرفين، ولذا فهو العقد الوحيد الذي سماه الله عز وجل عقداً غليظاً، قال جل وعلا سورة النساء: وَإِنْ أَرَدْتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وَءاتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مّيثَاقاً غَلِيظا [النساء:20، 21].
الزواج لقاء بين رجل أجنبي، وامرأة غريبة عنه ربما لم تره يوماً ما من الأيام، هذا العقد يبيح لكل من الزوجين من الخصوصيات ما يختصان به عن سائر الناس، بهذا العقد يقدر الله جل وعلا بين هذه الرجل وتلك المرأة مخلوقاً جديداً يجمع بين لحم هذا ودم هذه، لا هو خالص من الرجل، ولا هو خالص من المرأة، بهذا العقد يرث كل من الطرفين الآخر.
عباد الله، بهذا العقد يقوم بيت جديد، وتبدأ معالم مجتمع صغير في التشكل، هذا العقد ينشئ الأسرة التي هي اللبنة الأساس في بنيان هذه الأمة، حيث تنكشف جاذبية الفطرة بين الجنسين، لا لتجمع بين مطلق الذكران ومطلق الإناث، ولكن لتتجه إلى إقامة الأسر والبيوت: وقال جل من قائل: وَمِنْ ءايَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْواجاً لّتَسْكُنُواْ إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِى ذَلِكَ لايَاتٍ لّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الروم:21].
إن الزواج في روحه نظام اجتماعي يرقى بالإنسان من الدائرة الحيوانية والشهوات المادية إلى العلاقة الروحية، ويرتفع به من عزلة الوحدة والانفراد إلى أحضان السعادة وأنس الاجتماع، وهو عقد ارتباط مقدس بين رجل وامرأة يمضيه الشرع ويباركه الله تعالى.
لقد أمر الله سبحانه في النكاح بأن يميز عن السفاح والبغاء، فقال تعالى: فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَءاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَات غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلاَ مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ [النساء:25]، وقال جل شأنه: وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَا ءاتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ مُتَّخِذِى أَخْدَانٍ وَمَن يَكْفُرْ بِالإيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِى الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ [المائدة:5]، فأمر بالولي والشهود والمهر والعقد، والإعلان، وشرع فيه الضرب بالدف والوليمة الموجبة لشهرته.
إنها استجابة للفطرة تعمل، وهي الأسرة تلبي هذه الفطرة العميقة في أصل الكون وفي بنية الإنسان، ومن ثم كان نظام الأسرة في الإسلام هو النظام الطبيعي الفطري المنبثق من أصل التكوين الإنساني. بل من أصل تكوين الأشياء كلها في الكون. على طريقة الإسلام في ربط النظام الذي يقيمه للإنسان بالنظام الذي أقامه الله للكون كله. ومن بينه هذا الإنسان.
عباد الله، الأسرة هي المحضن الطبيعي الذي يتولى حماية الفراخ الناشئة ورعايتها؛ وتنمية أجسادها وعقولها وأرواحها؛ وفي ظله تتلقى مشاعر الحب والرحمة والتكافل، وتنطبع بالطابع الذي يلازمها مدى الحياة.
عباد الله، لما كان الزواج بهذه الخطورة، وتلك الأهمية، فقد أحاطه الله بقيود وشروط وضوابط، حتى تضفي عليه من المهابة والإجلال ما يجعله أهلاً لما يترتب عليه من آثار ونتائج، ولهذا فإننا نجد أن الشريعة الإسلامية اشترطت لهذا العقد أنواعاً من الشروط لم تشترطها في عقد غيره.
يقول ابن القيم رحمه الله: "وشَرَط في النكاح شروطًا زائدة على مجرد العقد، فقطع عنه شبه بعض أنواع السفاح بها، كاشتراط إعلانه، إما بالشهادة، أو بترك الكتمان، أو بهما معًا، واشترط الولي، ومنع المرأة أن تليه، وندب إلى إظهاره، حتى استحب فيه الدف والصوت والوليمة، وأوجب فيه المهر، ومنع هبة المرأة نفسها لغير النبي ، وسر ذلك: أن في ضد ذلك والإخلال به ذريعة إلى وقوع السفاح بصورة النكاح، كما في الأثر: "المرأة لا تزوج نفسها، فإن الزانية هي التي تزوج نفسها"، فإنه لا تشاء زانية أن تقول: زوجتك نفسي بكذا سراً من وليها، بغير شهود ولا إعلان، ولا وليمة، ولا دف، ولا صوت.
ومعلوم قطعًا أن مفسدة الزنى لا تنتفي بقولها: أنكحتك نفسي، أو زوجتك نفسي، أو أبحتك مني كذا وكذا، فلو انتفت مفسدة الزنى بذلك لكان هذا من أيسر الأمور عليها وعلى الرجل، فعظم الشارع أمر هذا العقد، وسد الذريعة إلى مشابهة الزنى بكل طريق"ا.هـ. إغاثة اللهفان.
أيها الإخوة، الزواج العرفي أو السري، هو الذي يتم الاتفاق فيه بين رجل وامرأة على لقاء يسمونه زواجاً، دون أن يكون للمرأة ولي مع إمكانية ذلك لها، ودون أن يكون هناك شهود عدول، أو إشهار لهذا الزواج، وإنما يتم في الخفاء بعيداً عن أعين الناس، وهذا هو السر الذي جعلنا نسميه زنا ولا نسميه زواجاً، ففي هذا الزواج لا توجد ألفة بين أسرتين، ولا إذن لولي، ولا مهر ولا نفقة، ولا مسكن ولا متاع، ولا أسرة ولا أولاد، ولا حياة مشتركة ولا قوامة للرجل، ولا طاعة من المرأة، ولا علم بين الناس، ولا يجري التوارث بين الخليلين... مما يجعلنا نجزم بأن هذا لا يعد زواجًا عرفيًا كما يدعون، ولا شرعيًا كما يريد الله تعالى.
أيها الإخوة، سأقف وقفة عجلى عند شرطين من شروط النكاح الشرعي، ألا وهما الإعلان، والولي.
إن الشريعة حينما شرعت إعلان النكاح، إنما شرعته لأنها تهدف من ورائه لحكم غاية في السمو، وأهداف لا يمكن لتشريع من التشريعات بلوغها، فمنها مثلاً أن هذا الإعلان يبعث رسالة مباشرة للفتاة التي سيدخل بها في تلك الليلة، ولكل فتاة تأمل في النكاح: إنك أيتها الفتاة حينما تسلمين عرضك لرجل أجنبي عنك، فإنما تسلمينه وسط هالة من المهابة، والإجلال، توازي فقدانك عذريتك بعد تلك الليلة، ثم إنه يقول لها: واحذري أن تمنحي عرضك وجسدك، وأغلى ما تملكين بعد دينك لأحد إلا في عقد شرعي يباركه وليك، وذووك، ويشهد عليه هذا الجمع المبارك.
ولهذا ورد في حديث حسن عن رسول الله : ((فصل ما بين الحلال والحرام ضرب الدف والصوت في النكاح) )[1].
أما اشتراط الولي، ففيه حكم يصعب جمعها في هذه الخطبة، ولعل أسمى هذه الحكم، هو قصد الشارع في جعل هذا القرار، قرار النكاح مشتركاً بين طرفين، كل منهما مكمل للآخر، فالولي، وهو الرجل البالغ الرشيد، الذي يغلب عليه العقل عند اتخاذ القرارات، لا بد أن يستأمر ابنته، بكراً كانت أو ثيباً، لا بد أن يستأمر الأنثى، التي تغلب العاطفة على قرارتها، فتكون النتيجة بعد هذه الاستشارة منبثقة من دراسة عاطفية عقلانية، وبهذا تكون أقرب إلى الصواب، أما إذا انفرد الولي الرجل العقلاني بالقرار، أو انفردت به المرأة العاطفية، فإن القرار سيكون ضعيف الأسس، متهاوي الرشاد، مصبوغاً بإحدى الصبغتين، فيكون أحرى بالخطأ منه بالصواب.
إن إعلان النكاح، وإحاطته بهذه المهابة من الشروط والشهود، يؤكد كل التأكيد مقدار ما أولته الشريعة لصيانة الأعراض، ويري كل صاحب عقل المكانة التي يعطيها الإنسان للمرأة، فليست المرأة مجرد محل لنزوة حيوانية، ينزوها فحل على أنثى في لحظة ثوران الشهوة، وانعدام العقل.
هذا هو النكاح الشرعي، فبالله عليكم يا عباد الله، أين هذا الزواج الذي يسمى عرفياً أو سرياً، أو أين ذلك العقد الذي لم تكتمل فيه الشروط المطلوبة من هذا.
لماذا يحرص كل من الطرفين على إخفائه حتى عن أهلهما، لماذا يحرص كل من الطرفين على أن لا ينتج بينهما ولد، فبالله عليكم أهو زواج أم زنا.
لينظر كل عاقل متأملاً: ما الفرق بينه وبين الزنا المقنن، يمكن للرجل أن يتفق مع امرأة على أن يزني بها، وحتى يحتال على الشرع، يقول لها: لنسميه زواجاً، ونحضر بعض الناس يشهدون هذه الجريمة، ونسميهم شهوداً، أو أن العاهر الذي جلبك لي، أو الذي يشتغل بمهنة الدعارة أحد الشهود، أو هو وليك، ثم يدخل الرجل بها، ويستمتع بها، ويتجنبان إنجاب الولد، ويكتمان هذا اللقاء المحرم، حتى إذا أشبع ذلك الذئب نهمته منها، وسلب كل ما لديها من معاني العفة والحياء، ركلها بقدمه، وداس على كرامتها بأوحال نجاسته، وتركها تتجرع غصص القهر، ومرارة الأسى، ليتلقفها شياطين الجن بخطوات أخرى لتصبح بغياً من البغايا، أما ذلك الوغد فإنه سيبحث عن أخرى لينقض عليها، ويفترس عفافها، ويلتهم أنوثتها، ويشبع نفسه الدنيئة، وهكذا تنتشر الرذيلة في المجتمع ويتناقل الأبناء هذا المرض من آبائهم.
عفوا تعف نساؤكم في المحرم وتجنبوا ما لا يليق بمسلم
إن الزنا دين فإن أقرضته كان الوفا من أهل بيتك فاعلم
يا هاتكاً حرم الرجال وقاطعاً سبل المودة عشت غير مكرم
لو كنت حراً من سلالة ماجد ما كنت هتاكاً لحرمة مسلم
من يزنِ يُزن به ولو بجداره إن كنت يا هذا لبيباً فافهم
لقد تفاقمت هذه المشكلة وأصبحت ظاهرة، بعد أن كانت مجرد حالات فردية، فلقد صرحت, وزيرة الشؤون الاجتماعية في جمهورية مصر العربية، في ندوة خاصة لمناقشة هذا الطاعون الفتاك تقيم ندوة خاصة لمناقشتها صرحت بأن عدد الزيجات العرفية بين طالبات الجامعات فقط وصل إلى 17، ويقال: إن عدد الطالبات في الجامعات المصرية حوالي مليون طالبة.. فهذا يعني أن هناك حوالي "170" ألف طالبة تزوجن من وراء ظهور أهلهن وعلى علاقة بطلبة زملاء لهن في الجامعة.
هذا أيها الإخوة ما تم إحصاؤه بين طلبة الجامعات، فكيف إذا عم الإحصاء جميع طبقات المجتمع.
وهكذا امتدت هذه الظاهرة، لتشمل الأردن، وبدأت تأخذ منحى في دولة الكويت، وغيرها من بلاد المسلمين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
إذا كان هذا هو حال بلاد المسلمين، فبالله عليكم كيف يكون الحال في هذه البلاد، التي تشجع على الرذيلة، وتشيع الفاحشة، وتدعو الناس إلى مهاوي الردى.
حسبي الله ونعم الوكيل، حسبي الله ونعم الوكيل، حسبي الله ونعم الوكيل ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] (حم ت ن هـ ك) عن محمد بن حاطب. تحقيق الألباني (حسن) انظر حديث رقم (4206) في صحيح الجامع.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، الصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
وبعد:
أيها الإخوة، حتى يتكامل طرح هذا الموضوع لا بد من الإشارة إلى شبهة تعرض على كثير من المسلمين لاسيما في هذه البلاد، ألا وهي رأي الأحناف في النكاح بغير ولي، فنقول والعلم عند الله تعالى:
أولاً: إن هذا الرأي مرجوح، لا نرى العمل به، لمخالفته للأدلة الصحيحة التي تشترط الولي لصحة النكاح، فمنها:
حديث أبي موسى الْأَشْعَرِيِّ أن رسول الله قال: ((لَا نِكَاحَ إِلَّا بِوَلِيٍّ))[1]، وهو حديث صحيح صححه غير واحد من أهل العلم.
قَالَ السُّيُوطِيُّ: حَمَلَهُ الْجُمْهُورُ عَلَى نَفْيِ الصِّحَّةِ, وَأَبُو حَنِيفَةَ عَلَى نَفْيِ الْكَمَالِ. انتهى.
قُلْت: الرَّاجِحُ أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى نَفْيِ الصِّحَّةِ , بَلْ هُوَ الْمُتَعَيِّنُ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ عَائِشَةَ عن رسول الله قالت: قَالَ: ((أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهَا، فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ، فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ، فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ، فَإِنْ دَخَلَ بِهَا فَلَهَا الْمَهْرُ بِمَا اسْتَحَلَّ مِنْ فَرْجِهَا، فَإِنْ اشْتَجَرُوا فَالسُّلْطَانُ وَلِيُ مَنْ لَا وَلِيَّ لَهُ)) قَالَ الترمذي: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ[2].
ومنها حديث َابْنِ عَبَّاسٍ عن رسول الله : ((لَا نِكَاحَ إِلَّا بِوَلِيٍّ. وَالسُّلْطَانُ وَلِيُّ مَنْ لَا وَلِيَّ لَهُ))[3].
ومنها حديث أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : ((لَا تُزَوِّجُ الْمَرْأَةُ الْمَرْأَةَ, وَلَا تُزَوِّجُ الْمَرْأَةَ نَفْسَهَا))[4].
فهذه الأحاديث الصحيحة الصريحة تدل على وجوب اشتراط الولي في النكاح المعتبر، وأن رأي الأحناف مع جلالة قدرهم غير صحيح في هذه المسألة.
ومن طريف ما يذكر أن أحد علماء الشافعية كان يقول لبعض علماء الحنفية: النكاح بغير ولي مسألة خلاف بين أبي حنيفة وبين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فإنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((إيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل)) وقال أبو حنيفة: بل نكاحها صحيح. [طبقات الحنفية (1/358)].
قال البخاري في صحيحه: بَاب مَنْ قَالَ: لَا نِكَاحَ إِلَّا بِوَلِيٍّ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ [النساء:19]، فَدَخَلَ فِيهِ الثَّيِّبُ وَكَذَلِكَ الْبِكْرُ وَقَالَ: وَلاَ تَنْكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ [البقرة:221]، وَقَالَ: وَأَنْكِحُواْ الايَامَى مِنْكُمْ [النور:32]، ولاحظوا أيها الإخوة أن الله عز وجل أسند النكاح في هذه الآيات لغير المرأة، فدل على أن المرأة لا تزوج نفسها.
ثانياً: من الملاحظات على الآخذين برأي الحنفية هذا: أنه حتى لو لم يكن رأي الأحناف هذا ضعيفاً، فلماذا يختار الناس هذا الرأي، ويتركون رأي الجمهور الذي تسنده الأدلة، والذي يسنده الواقع، وهو أحوط وأسلم لدين المسلمين وأعراضهم، أم أنه مجرد الهوى والشهوة التي قال الله عز وجل فيها: أَرَءيْتَ مَنِ اتَّخَذَ الههُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً [الفرقان:43].
وقال تعالى: فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [القصص:50].
ثالثاً: قال الترمذي: وَقَدْ احْتَجَّ بَعْضُ النَّاسِ فِي إِجَازَةِ النِّكَاحِ بِغَيْرِ وَلِيٍّ بحديث ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: ((الْأَيِّمُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا، وَالْبِكْرُ تُسْتَأْذَنُ فِي نَفْسِهَا، وَإِذْنُهَا صُمَاتُهَا))، وَلَيْسَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مَا احْتَجُّوا بِهِ، لِأَنَّهُ قَدْ رُوِيَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ : ((لَا نِكَاحَ إِلَّا بِوَلِيٍّ))، وَهَكَذَا أَفْتَى بِهِ ابْنُ عَبَّاسٍ بَعْدَ النَّبِيِّ فَقَالَ: ((لَا نِكَاحَ إِلَّا بِوَلِيٍّ))، وَإِنَّمَا مَعْنَى قَوْلِ النَّبِيِّ : ((الْأَيِّمُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا)) عِنْدَ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ الْوَلِيَّ لَا يُزَوِّجُهَا إِلَّا بِرِضَاهَا وَأَمْرِهَا، فَإِنْ زَوَّجَهَا فَالنِّكَاحُ مَفْسُوخٌ.
[1] الترمذي، وابن ماجه، والإمام أحمد وأبو داود.
[2] أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ وَصَحَّحَهُ أَبُو عَوَانَةَ, وَابْنُ خُزَيْمَةَ, وَابْنُ حِبَّانَ, وَالْحَاكِمُ كَذَا فِي فَتْحِ الْبَارِي.
[3] أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ وَفِي إِسْنَادِهِ الْحَجَّاجُ بْنُ أَرْطَاةَ وَفِيهِ مَقَالٌ.
[4] أَخْرَجَهُ اِبْنُ مَاجَهْ, وَالدَّارَقُطْنِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ. قَالَ اِبْنُ كَثِيرٍ: الصَّحِيحُ وَقْفُهُ عَلَى أَبِي هُرَيْرَةَ. وَقَالَ الْحَافِظُ: رِجَالُهُ ثِقَاتٌ كَذَا فِي النَّيْلِ، وأما زيادة, فَإِنَّ الزَّانِيَةَ هِيَ الَّتِي تُزَوِّجُ نَفْسَهَا فإن الألباني يضعفها.
ــــــــــــــــــــ(67/181)
في بيت النبي صلى الله عليه وسلم
...
...
2883
...
الأسرة والمجتمع, سيرة وتاريخ
...
...
الشمائل, قضايا الأسرة
...
عبد المجيد بن عبد العزيز الدهيشي
...
...
المجمعة
...
5/1/1422
...
...
الجامع القديم
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- لا يخلو بيت من مشكلات. 2- كيف كان يحل مشكلاته في بيته. 3- النبي زوجاً. 4- دعوة للتأسي به .
الخطبة الأولى
أما بعد: فيا عباد الله إن خير ما تزودنا به لسفر الدنيا والآخرة طاعة الله فيما أمر وترك ما نهى عنه، ومن أطاع فله الجنة ومن عصى فله النار تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنْهَرُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذالِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ [النساء:13، 14].
أيها المسلمون، للبيوت أسرارها، وللعلاقات الزوجية سماتها، وفي حياة كل زوجين أفراح وأتراح، فيوماً تطيب العشرة بين الزوجين فيصبحان وكأنهما أسعد زوجين، ينعمان بعيشة هنية وحياة زوجية هانئة هادئة، ويوماً يحدث في البيت ما يعكر صفوه ويكدر هناءه فتتباعد القلوب وتستوحش النفوس، ويضيق البيت على سعته بساكنيه، وبين هذين اليومين أيام وأيام تكون شوباً من المودة والبغض، وخليطاً من الحب والكراهية، فيا ترى هل هناك بيت يخلو من المشاكل والمنغصات بين الزوجين؟ ومن الزوج المثالي الذي يحسن إدارة منزله، ويجيد قيادة مركب العائلة حتى لا تغرقه أمواج الشقاق ويبتلعه طوفان المشكلات؟
أيها الأحبة ليس منا أحد يدعي أنه ذلك الرجل، ولكن دعونا نرحل إلى منزل زوج مثالي كان قدوة عظيمة في فن إدارة منزله، إنه زوج لا كالأزواج، رجل كان على خلق رفيع ومنهج حميد، استطاع بحكمته وبرفقه ولينه أن يدير منزله أحسن إدارة، لم يكن يماثله أحد في الخلق والعدل، ولم يكن أغنى الناس، بل كان من أفقرهم، تمضي عليه الأيام والليالي الكثيرة ولم يذق طعاماً مطبوخاً، كان بيته صغيراً لا باحات فيه ولا ساحات، ولا ملاحق ولا مقدمات، بل كان منزله مكوناً من حجرات قليلة، في كل حجرة منها تسكن إحدى زوجاته، هذا الرجل كان يحمل رسالة عظيمة، وقد وكلت إليه مهمة جسيمة، ولكن مهمته تلك لم تشغله عن إصلاح منزله ورعاية أسرته، والترفق مع مشاكل البيت، ومع أنه كان قمة في الخلق واللين والصفح عن المخطئ والعفو عن الجاهل، إلا أنه لم يخل بيته من المشكلات الزوجية، ولم يسلم بيته من حدوث المنغصات والمكدرات مثله مثل سائر بيوت الناس.
أعرفتم هذا الرجل يا عباد الله؟ إنه محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، هذا النبي الكريم الذي اصطفاه ربه من بين الخلائق أجمعين، زكاه ربه فقال: وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4]، أمرنا ربنا أن نقتدي به ونتأسى بعمله فقال: لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فصلى الله عليه وسلم ما تعاقب الليل والنهار.
عباد الله، تعالوا بنا نسائل زوجاته أمهات المؤمنين فنسمع منهن ما كان يقع في بيت محمد من بعض المكدرات والمشكلات، وكيف تعامل معها هذا النبي الكريم، عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، ولننظر ولنقارن بين ما قد نفعله نحن حيال ما يقع في بيوتنا وبين ما فعله محمد .
عباد الله، لو اكتشف أحدنا أن زوجته تشك في بعض تصرفاته وربما تلصصت على أقواله أو أفعاله أو تبعت خطواته هنا أو هناك، يدفعها إلى ذلك الريبة وسوء الظن، ماذا سيصنع بها زوجها؟ وما موقفه من هذه الأنثى الضعيفة التي تجرح كبرياءه بشكها، وتهدد قوامته برصدها ومتابعتها؟ أيلطمها ويسبها؟ أم يتفوه بطلاقها؟ أم يبادلها الشك والريبة ويضع تصرفاتها تحت مجهره وبين عينيه؟ ربما فعل أحدنا ذلك كله أو بعضه، ولكن دعونا نعرض ذلك على بيت محمد وهل وقع شيء من ذلك، وما الذي صنعه أفضل الخلق ؟
تحدثنا أمنا أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قائلة: أَلَا أُحَدِّثُكُمْ عَنِ النَّبِيِّ وَعَنِّي؟ قَالَتْ: لَمَّا كَانَتْ لَيْلَتِي الَّتِي كَانَ النَّبِيُّ فِيهَا عِنْدِي انْقَلَبَ فَوَضَعَ رِدَاءَهُ وَخَلَعَ نَعْلَيْهِ، فَوَضَعَهُمَا عِنْدَ رِجْلَيْهِ وَبَسَطَ طَرَفَ إِزَارِهِ عَلَى فِرَاشِهِ، فَاضْطَجَعَ فَلَمْ يَلْبَثْ إِلَّا رَيْثَمَا ظَنَّ أَنْ قَدْ رَقَدْتُ، فَأَخَذَ رِدَاءَهُ رُوَيْدًا وَانْتَعَلَ رُوَيْدًا، وَفَتَحَ الْبَابَ فَخَرَجَ ثُمَّ أَجَافَهُ ـ أي أغلقه ـ رُوَيْدًا، فَجَعَلْتُ دِرْعِي فِي رَأْسِي وَاخْتَمَرْتُ وَتَقَنَّعْتُ إِزَارِي ثُمَّ انْطَلَقْتُ عَلَى إِثْرِهِ حَتَّى جَاءَ الْبَقِيعَ، فَقَامَ فَأَطَالَ الْقِيَامَ ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ثُمَّ انْحَرَفَ فَانْحَرَفْتُ، فَأَسْرَعَ فَأَسْرَعْتُ فَهَرْوَلَ فَهَرْوَلْتُ، فَأَحْضَرَ فَأَحْضَرْتُ ـ أي أسرعت أشد من الهرولة ـ فَسَبَقْتُهُ، فَدَخَلْتُ فَلَيْسَ إِلَّا أَنِ اضْطَجَعْتُ فَدَخَلَ فَقَالَ: ((مَا لَكِ يَا عَائِشُ حَشْيَا رَابِيَةً؟)) ـ أي مالك ونفسك مرتفع من أثر الهرولة وأنت نائمة؟! ـ قَالَتْ: قُلْتُ: لَا شَيْءَ قَالَ: ((لَتُخْبِرِينِي أَوْ لَيُخْبِرَنِّي اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)) قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي فَأَخْبَرْتُهُ، قَالَ: ((فَأَنْتِ السَّوَادُ الَّذِي رَأَيْتُ أَمَامِي؟)) قُلْتُ: نَعَمْ، فَلَهَدَنِي فِي صَدْرِي لَهْدَةً أَوْجَعَتْنِي ثُمَّ قَالَ: ((أَظَنَنْتِ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْكِ وَرَسُولُهُ)) قَالَتْ: مَهْمَا يَكْتُمِ النَّاسُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ ـ ولم يكتف بهذا بل بين لها السبب الذي دعاه إلى ما صنع بكل أريحية وسعة صدر وفي آخر الليل ـ.
قَالَ: ((فَإِنَّ جِبْرِيلَ أَتَانِي حِينَ رَأَيْتِ، فَنَادَانِي فَأَخْفَاهُ مِنْكِ فَأَجَبْتُهُ فَأَخْفَيْتُهُ مِنْكِ وَلَمْ يَكُنْ يَدْخُلُ عَلَيْكِ وَقَدْ وَضَعْتِ ثِيَابَكِ وَظَنَنْتُ أَنْ قَدْ رَقَدْتِ، فَكَرِهْتُ أَنْ أُوقِظَكِ وَخَشِيتُ أَنْ تَسْتَوْحِشِي، فَقَالَ: إِنَّ رَبَّكَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَأْتِيَ أَهْلَ الْبَقِيعِ فَتَسْتَغْفِرَ لَهُمْ)) أخرجه مسلم في صحيحه.
ومثال آخر، لو طلبت زوجة أحدنا منه أن يساعدها في تنظيف المنزل أو ترتيب أركانه، فما عساه يقول في جوابها؟ أيوافق مستبشراً، أم يكشر غاضباً وكأن رجولته قد انتقصت؟ أما محمد بن عبد الله فتقول عنه زوجه عائشة رضي الله عنها فيما أخرجه البخاري عن الأسود قال: سألت عائشة ما كان النبي يصنع في بيته؟ قالت: كان يكون في مهنة أهله، تعني خدمة أهله، فإذا حضرت الصلاة خرج إلى الصلاة. ومن ظن أنه قد يخلو بيت من المشكلات فقد أبعد النجعة وطلب محالاً، فإذا كان محمد وهو سيد البشر وأفضلهم وأتقاهم، ونساؤه أمهات المؤمنين، ولم يكن لربه سبحانه أن يزوجه إلا من ذوات الفضل والخلق والمعدن الكريم، ومع ذلك لم يخل بيته من تلك المشكلات المعتادة في البيوت، فبيوت غيره من الناس أحرى. ها هو عمر بن الخطاب يحدثنا وهو والد إحدى زوجات النبي عما علمه وسمعه وشاهده فيقول فيما أخرجه البخاري: كنا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ نَغْلِبُ النِّسَاءَ فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى الْأَنْصَارِ إِذَا قَوْمٌ تَغْلِبُهُمْ نِسَاؤُهُمْ، فَطَفِقَ نِسَاؤُنَا يَأْخُذْنَ مِنْ أَدَبِ نِسَاءِ الْأَنْصَارِ فَصَخِبْتُ عَلَى امْرَأَتِي فَرَاجَعَتْنِي، فَأَنْكَرْتُ أَنْ تُرَاجِعَنِي قَالَتْ: وَلِمَ تُنْكِرُ أَنْ أُرَاجِعَكَ؟ فَوَاللَّهِ إِنَّ أَزْوَاجَ النَّبِيِّ لَيُرَاجِعْنَهُ، وَإِنَّ إِحْدَاهُنَّ لَتَهْجُرُهُ الْيَوْمَ حَتَّى اللَّيْلِ، فَأَفْزَعَنِي ذَلِكَ وَقُلْتُ لَهَا: قَدْ خَابَ مَنْ فَعَلَ ذَلِكِ مِنْهُنَّ ثُمَّ جَمَعْتُ عَلَيَّ ثِيَابِي فَنَزَلْتُ فَدَخَلْتُ عَلَى حَفْصَةَ ـ زوج النبي ـ فَقُلْتُ لَهَا: أَيْ حَفْصَةُ أَتُغَاضِبُ إِحْدَاكُنَّ النَّبِيَّ الْيَوْمَ حَتَّى اللَّيْلِ؟ قَالَتْ: نَعَمْ. فَقُلْتُ: قَدْ خِبْتِ وَخَسِرْتِ أَفَتَأْمَنِينَ أَنْ يَغْضَبَ اللَّهُ لِغَضَبِ رَسُولِهِ فَتَهْلِكِي.
ولم يكن بالذي يحول بين أهله وبين ما أباح الله تعالى من اللهو المباح، هذه عائشة تحدث قائلة: والله لقد رأيت رسول الله يقوم على باب حجرتي، والحبشة يلعبون بحرابهم في مسجد رسول الله ، وهو يسترني بردائه لكي أنظر إلى لعبهم ثم يقوم من أجلي حتى أكون أنا التي أنصرف، فاقدروا قدر الجارية الحديثة السن حريصة على اللهو. أخرجه مسلم في صحيحه.
بل إنه لم تمنعه هيبته ولا وقاره عن أن يسابق زوجه عائشة رضي الله عنها، فتسبقه مرة ويسبقها في المرة الأخرى، وهو رسول رب العالمين وسيد الأولين والآخرين، بل إن بيته لم يكن يخلو مما يكون بين الضرائر من النزاع والشقاق والتنافس، ومع هذا كان مثالاً للزوج الحكيم الحليم الذي لا تأخذه العزة بالإثم أو يعجل في العقاب، أخرج البخاري عن عائشة رضي الله عنها أن نساء رسول كن حزبين، فحزب فيه عائشة وحفصة وصفية وسودة، والحزب الآخر أم سلمة وسائر نساء رسول الله ، ثم ذكرت أن حزب أم سلمة أرسلن إلى النبي يبلغنه احتجاجهن على تعامله مع عائشة ثم أرسلن زينب بنت جحش فأتته ـ أي النبي ـ فأغلظت وقالت: إن نساءك ينشدنك الله العدل في بنت ابن أبي قحافة فرفعت صوتها حتى تناولت عائشة وهي قاعدة فسبّتها، حتى إن رسول الله لينظر إلى عائشة هل تكلم، فتكلمت عائشة ترد على زينب حتى أسكتتها قالت: فنظر النبي إلى عائشة وقال: ((إنها بنت أبي بكر)).
وأخرج مسلم في صحيحه عَنْ أَنَسٍ قَالَ كَانَ لِلنَّبِيِّ تِسْعُ نِسْوَةٍ، فَكَانَ إِذَا قَسَمَ بَيْنَهُنَّ لَا يَنْتَهِي إِلَى الْمَرْأَةِ الْأُولَى إِلَّا فِي تِسْعٍ فَكُنَّ يَجْتَمِعْنَ كُلَّ لَيْلَةٍ فِي بَيْتِ الَّتِي يَأْتِيهَا فَكَانَ فِي بَيْتِ عَائِشَةَ فَجَاءَتْ زَيْنَبُ فَمَدَّ يَدَهُ إِلَيْهَا فَقَالَتْ: هَذِهِ زَيْنَبُ، فَكَفَّ النَّبِيُّ يَدَهُ فَتَقَاوَلَتَا حَتَّى اسْتَخَبَتَا، وَأُقِيمَتِ الصَّلَاةُ فَمَرَّ أَبُو بَكْرٍ عَلَى ذَلِكَ فَسَمِعَ أَصْوَاتَهُمَا فَقَالَ اخْرُجْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِلَى الصَّلَاةِ وَاحْثُ فِي أَفْوَاهِهِنَّ التُّرَابَ، فَخَرَجَ النَّبِيُّ فَقَالَتْ عَائِشَةُ: الْآنَ يَقْضِي النَّبِيُّ صَلَاتَهُ فَيَجِيءُ أَبُو بَكْرٍ فَيَفْعَلُ بِي وَيَفْعَلُ، فَلَمَّا قَضَى النَّبِيُّ صَلَاتَهُ أَتَاهَا أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ لَهَا قَوْلًا شَدِيدًا، وَقَالَ: أَتَصْنَعِينَ هَذَا.
وأخرج البخاري عن أنس قال كان النبي عند بعض نسائه، فأرسلت إحدى أمهات المؤمنين بصَحْفَة فيها طعام، فضربت التي النبيُ في بيتها يدَ الخادم، فسقطت الصحفة، فانفلقت فجمع النبي فلق الصحفة ثم جعل يجمع فيها الطعام الذي كان في الصحفة، ويقول: ((غارت أمكم)). ثم حبس الخادم حتى أتي بصحفة من عند التي هو في بيتها، فدفع الصحفة الصحيحة إلى التي كسرت صحفتها وأمسك المكسورة في بيت التي كَسَرت.
الله أكبر، عدل في التعامل ورفق بالجاهل، لا صراخ ولا زعيق ولا تهديد ولا وعيد، فسبحان من أدب نبيه فأحسن تأديبه، وصورة أخرى تتجلى فيها مكانة المرأة عند النبي ، فحين منعت قريش النبي من دخول مكة عام الحديبية وتوالت الرسل بينه وبين قريش وحصل الاتفاق بين الطرفين، فلما فرغ من قضية الكتاب قال رسول الله لأصحابه: ((قوموا فانحروا ثم احلقوا)) قال ـ الراوي ـ: فوالله ما قام منهم رجل حتى قال ذلك ثلاث مرات، فلما لم يقم منهم أحد دخل على أم سلمة، فذكر لها ما لقي من الناس فقالت أم سلمة: يا نبي الله أتحب ذلك؟ اخرج ثم لا تكلم أحداً منهم كلمة حتى تنحر بدنك وتدعو حالِقَك فيحلقك فخرج فلم يكلم أحدا منهم حتى فعل ذلك، نحر بدنه ودعا حالقه فحلقه، فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا وجعل بعضهم يحلق بعضاً حتى كاد بعضهم يقتل بعضاً غماً. أخرجه البخاري.
فنبي الله يستشير زوجه ويأخذ برأيها، وقد كان نعم الرأي، ولم يأنف من ذلك، ولم يكن قدحاً في عقله ولا رأيه.
وبعد أيها المسلمون، هذا غيض من فيض، وتلك صور قليلة مما حفلت به كتب السنة موضحةً كيف كان النبي يتعاهد أزواجه ويصبر على ما قد يثرنه من المشكلات التي تقع في بيوته، ناهيكم عما ورد من أقواله الكثيرة في وجوب إحسان عشرة الزوجات وتحمل أذاهن، فقد كان كثيراً ما يوصي بهن ويبين حقوقهن وينهى عن ظلمهن، فليكن لنا فيه صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة، ومن أراد السعادة في حياته العملية والزوجية فليتق الله ربه وليقتد بنبيه لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الاْخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرا [الأحزاب:21].
أقول قولي هذا...
ــــــــــــــــــــ(67/182)
...
منكرات الأفراح (1)
...
...
2889
...
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
...
...
الكبائر والمعاصي, قضايا المجتمع
...
عبد المجيد بن عبد العزيز الدهيشي
...
...
المجمعة
...
28/3/1421
...
...
الجامع القديم
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- عقبات وضعها الناس في طريق النكاح. 2- عضل البنات والأخوات عن الزواج. 3- إكراه النساء على نكاح بعض الخطاب. 4- أظفر بذات الدين . 5- رؤية المخطوبة. 6- آداب حفل الزفاف. 7- منكرات حفل الزفاف.
الخطبة الأولى
أما بعد: فاتقوا الله ربكم أيها الناس واعلموا أنكم لم تخلقوا عبثاً ولم ولن تتركوا سدى، فأنتم في دار بلاء واختبار الَّذِى خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً [الملك:2]، فالسعيد من عرف الجادة وسلك الطريق المستقيم، والشقي من أتبع نفسه هواها فلم يلجمها بلجام الخوف من الله ولم يجعل نصب عينيه ما أمامه من الحساب والجزاء.
عباد الله، الزواج نعمة ربانية ومنحة إلهية، به يجتمع الزوجان على ما أباح الله ويشرعان في تأسيس بيت مسلم تظلله نسمات الإيمان وتحوطه عناية الرحمن، ولكن هناك عقبات وعراقيل وضعها الناس في طريق هذا المشروع الخير والحلم الجميل، فشوهوا صورة الزواج وكدروا على الراغبين في الظفر به، فانقلب الزواج إلى همٍّ لا ينقطع، وأمنية لا تكاد أن تتحقق إلا بشق الأنفس، ومن هنا كان واجباً على الجميع بحث هذه العراقيل ووضعها على ميزان الشرع، فما كان منها دخيلاً على المسلمين فلا عبرة به، وما كان له أصل في الدين ولكن الناس أساؤوا فيه وتعدوا، فالواجب مراعاة ما شرع الله دون إفراط أو تفريط.
فمن تلك العراقيل تأخير تزويج البنات والأخوات، إما عناداً ومكابرة أو طمعاً في مرتب أو انتظاراً لصاحب المال الوفير أو المنصب الأثير، وغفل أولئك عن قول الله تعالى وهو العليم الخبير بما يصلح الناس وَأَنْكِحُواْ الايَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمائِكُمْ [النور:32]، وأين هم من قول المصطفى : ((إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد قالوا: يا رسول الله وإن كان فيه؟ قال: إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه ثلاث مرات)) أخرجه الترمذي وقال: حديث حسن غريب.
وكم من فتاة بقيت حبيسة بيتها تنتظر نصيبها لتسعد كمثيلاتها من النساء، تطرب أذنها لسماع كلمة أمي، وتتمنى أن لو كان لها أولاد يملؤون حياتها ويبرون بها في حال كبرها، ولكن حال دون ذلك أب أو أخ قاسي القلب قد عضلها عن النكاح حمقاً وجهالة، وأي ظلم أشنع من ذلك يا عباد الله؟
إن الله تعالى قد أنزل آية تتلى إلى يوم الدين بسبب عضل ولي، فقد أخرج البخاري عن معقل بن يسار أنه قال: زوجت أختاً لي من رجل فطلقها حتى إذا انقضت عدتها جاء يخطبها فقلت له: زوجتك وفرشتك وأكرمتك فطلقتها ثم جئت تخطبها، لا والله لا تعود إليك أبداً، وكان رجلاً لا بأس به، وكانت المرأة تريد أن ترجع إليه فأنزل الله هذه الآية: فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ [البقرة:232]، فقلت: الآن أفعل يا رسول الله قال: فزوجها إياه.
وتزداد المصيبة حين تجبر الفتاة على الزواج من ابن عمها أو قريبها رغماً عنها، أخرج النسائي عن عائشة أن فتاة دخلت عليها فقالت: إن أبي زوجني ابن أخيه ليرفع بي خسيسته، وأنا كارهة، قالت: اجلسي حتى يأتي النبي ، فجاء رسول الله فأخبرته، فأرسل إلى أبيها، فدعاه فجعل الأمر إليها فقالت: يا رسول الله قد أجزت ما صنع أبي، ولكن أردت أن أعلم أللنساء من الأمر شيء.
وعند ابن ماجه جاءت فتاة إلى النبي فقالت: إن أبي زوجني ابن أخيه ليرفع بي خسيسته قال: فجعل الأمر إليها، فقالت: قد أجزت ما صنع أبي، ولكن أردت أن تعلم النساء أن ليس إلى الآباء من الأمر شيء.
فيا معشر الآباء إن بناتكم أمانة في أعناقكم، ولسن سلعاً تباع بأعلى سعر أو ينتظر بها المواسم، واحذر أيها الأب أن تكون فلذة كبدك خصماً لك يوم القيامة. ولا يعني ذلك تزويج أول خاطب يطرق الباب، ولكن متى تقدم صاحب الدين والخلق فمرحباً به وإن قلّ ماله، وليس للخلق والدين مقابل من الثمن، وما أكرم والد بنته بأكثر من زوج صالح، وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((لا يفرك مؤمن مؤمنة، إن كره منها خلقاً، رضي منها آخر))، وكم من المصائب التي تعانيها بعض النساء من أزواجهن، فهذه تشتكي زوجاً لا يصلي، وأخرى تعاني الأمرَّين من زوج سكير عربيد لا تأمنه على بناته ومحارمه، عياذاً بالله تعالى.
وأمر آخر يقع فيه البعض من المقدمين على الزواج حين يجعل للزواج حسابات مادية، فيبحث عن ذات الوظيفة والمرتب بغض النظر عن الخلق والدين، ونسوا المعيار الحقيقي الذي توزن به النساء، أخرج البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى اللهم عليه وسلم قال: ((تنكح المرأة لأربع لمالها ولحسبها وجمالها ولدينها فاظفر بذات الدين تربت يداك)).
((فاظفر)) كلمة جميلة تشي بمعاني الفوز والكسب، وما يصنع المال والجاه والنسب بالمرأة إن هي عريت عن الخلق والدين الذي يجملها ويحافظ على مكتسباتها، ولو خُيّر أحدنا بين مال الدنيا ونقص العقل أو الدين لما رضي بذلك، ثم إن المال غاد ورائح، وكرسي الوظيفة لا يدوم، وعنه غنى، ولكن لا غنى للبيت عن أم صالحة ذات خلق رصين تربي أولادها وتصون عرضها وتحفظ بيتها، وكم كان المال والجمال سبباً في نشوب المشاكل الزوجية، وهذا لا يعني العزوف عن الجميلة أو ذات النسب بشرط توفر الدين والخلق.
وثمة أمر آخر أرشد الشرع إليه، والناس فيه بين مفرط مقصر وآخر متشدد، فالشرع أباح للخاطب رؤية مخطوبته، وبين أن ذلك مظنة دوام العشرة، فعن المغيرة بن شعبة قال: خطبت امرأة على عهد رسول الله ، فقال النبي : ((أنظرت إليها؟ قلت: لا، قال: فانظر إليها فإنه أجدر أن يؤدم بينكما)) أخرجه النسائي.
فمن الناس من مانع من ذلك بحجة الحياء أو عدم الاعتياد، ومنهم في بعض البلاد من فتح الباب على مصراعيه وسمح لموليته بالجلوس والحديث مع خاطبها، وربما خلا أو خرج بها قبل عقد النكاح، وهذا محرم، وكثيراً ما أدى إلى نتائج لا تحمد عقباها.
وفي التزام حدود الله تعالى الخير والفلاح والستر والعافية في الدنيا والفوز بالجنة والنجاة من النار في الآخرة تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنْهَرُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذالِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ [النساء:13، 14].
أقول قولي..
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وبذكره تلين القلوب القاسيات، وفي التزام شرعه صلاح الأمم والمجتمعات، أما بعد، فاتقوا الله ربكم تفلحوا وتسعدوا.
أيها المؤمنون، لقد ندب الشرع إلى إعلان النكاح وعمل الوليمة فيه إظهاراً للفرح واغتباطاً بنعمة الله تعالى، وتمييزاً بين النكاح والسفاح، فعن محمد بن حاطب الجمحي قال: قال رسول الله : ((فصل ما بين الحرام والحلال الدف والصوت)). قال أبو عيسى: حديث حسن، عن أنس أن النبي رأى صبياناً ونساء مقبلين من عرس، فقام نبي الله ممثلا فقال: اللهم أنتم من أحب الناس إلي، اللهم أنتم من أحب الناس إلي. يعني الأنصار، رواه مسلم.
وفي صحيح البخاري جاء عبد الرحمن عليه أثر صفرة فقال رسول الله : ((تزوجت؟)) قال: نعم، قال: ((ومن؟)) قال: امرأة من الأنصار، قال: ((كم سقت؟)) قال: زنة نواة من ذهب أو نواة من ذهب فقال له النبي : ((أولم ولو بشاة))، ففي هذه الأحاديث دلالة على مشروعية إعلان النكاح وضرب الدف فيه للنساء، وفيه إشارة إلى حضور النساء والأطفال وليمة العرس، فيا ليت أولئك الذين يمنعون الصبيان من حضور الأعراس يدركون هذا، وقد علم أن أشد الناس فرحاً بالعرس هم الأطفال، وعلى صاحب الوليمة الحذر من داء الإسراف والتبذير، فهما داءان مقيتان وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ [الأنعام:141]، وَلاَ تُبَذّرْ تَبْذِيرًا إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوانَ الشَّيَاطِينِ [الإسراء:26، 27].
ولما كان غالب الولائم لا يخلو من آفة حذر النبي قائلاً: ((الطعام طعام الوليمة، يمنعها من يأتيها، ويدعى إليها من يأباها، ومن لم يجب الدعوة فقد عصى الله ورسوله)) رواه مسلم.
ألا وإن من علامات بركة النكاح خلوه مما حرم الله تعالى من إسراف وتبذير ولهو محرم، ومتى كان العرس كذلك سعد به الزوجان وضيوفهما، وأضحى الفرح شكراً لله بالقول والفعل، وإلا كان وبالاً وحسرة يبقى ألمها وإثمها.
نسأل الله تعالى أن يلهمنا رشدنا وأن يقينا شر نفوسنا..
ــــــــــــــــــــ(67/183)
...
المسلم بين الخُلطة والعزلة
...
...
2903
...
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
...
...
الآداب والحقوق العامة, قضايا المجتمع
...
صالح بن عبد الله بن حميد
...
...
مكة المكرمة
...
16/10/1423
...
...
المسجد الحرام
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- الإنسان اجتماعي بالطبع. 2- دعوة الإسلام إلى الاجتماع والائتلاف. 3- من مظاهر دعوة الإسلام إلى ذلك. 4- فضل الاجتماع والائتلاف. 5- ظاهرة الميل إلى الانعزال. 6- وسائل للمحافظة على الاجتماع والائتلاف. 7- فضل الخلطة. 8- تبريرات مختاري العزلة. 9- القول الفصل في مسألة العزلة والخلطة. 10- آداب الخلطة والصحبة.
الخطبة الأولى
أما بعد: فأوصيكم ـ أيها الناس ـ ونفسي بتقوى الله عز وجل، فاتقوا الله رحمكم الله، وعظموا أمرَه وحرماتِه، الزموا الإخلاص في الطاعة، وتمسّكوا بطريق أهل السنة والجماعة، وحافظوا على الجُمَع والجماعة، تفوزوا بأربح بضاعة، وإن امرأً تنقضي بالجهالة ساعاتُه وتذهبُ بالتقصير أوقاتُه لخليقٌ أن تجريَ دموعُه، وحقيق أن يقلّ في الدجى هجوعه.
أيها المسلمون، جرت سنةُ الله عز وجل في خلقه أن لا يقوم لهم معاش ولا تستقيم لهم حياة إلا بالاجتماع والتآلف، ياأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مّن ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُواْ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات:13].
إن نزعةَ التعرُّف إلى الناس والاختلاط بهم نزعةٌ أصيلة في التوجيهات الإسلامية. بالعيش مع الجماعة والانتظام وحسن العلاقة تستقرُّ النفوس، وتصحّ العلوم، وتنتشر المعارف، وتبلغ المدينة الفاضلة أشدَّها، فيُعبدَ الله على بصيرة، وتتَّضح معالم الدين، ويسودَ المعروف، ويقلّ المنكر.
إن إيثارَ الإسلام للاجتماع يظهر في كثير من أحكامه وآدابه، إن العبادات وهي من أشرف المطلوبات ليست انقطاعًا في دير، أو تعبداً في صومعة. لماذا شُرعت الجماعات في الصلوات؟ ولمن فُرضت الجمعات؟ وما الحكمة في العيدين والاستسقاء، والكسوف والجنائز، ثم إجابة الدعوات في الولائم والمناسبات، والاجتماع في أوقات السرور والمباهج، وفي أوقات الشدائد والمكاره، في الأعياد والتعازي، وعيادة المرضى، وتشييع الجنائز؟ إن ذلك كلَّه لا يتحقَّق على وجهه إن لم تتوثّق في الأمة العلاقات، وتُحفَظ حقوق الأخوَّة والجماعة.
إن أهلَ الإسلام إذا كثر عددُهم واجتمع شملُهم كان أمرُهم أزكى وعملهم أتقى، جاء في الحديث: ((صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده، وصلاته مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل، وكلما كثر كان أحبَّ إلى الله)) أخرجه ابن ماجه وابن حبان وغيرهما، وصححه غير واحد من أهل العلم[1]. ومن ذا الذي لا يرغب في تكثير سواد المسلمين، ورؤيتهم جموعاً متراصَّة لا فرادى متقطعين؟! يقال هذا ـ أيها الإخوة ـ والمراقب يلحظ أنَّ في بعض الناس وبخاصة بعض المنتسبين إلى العلم والفضل والصلاح عزوفاً عن الاجتماع والخلطة، وميلاً إلى الانفراد والعزلة، وقد يظهر منهم نحو إخوانهم جفاءٌ ونفرة. كيف تتحقق الأخوة الإيمانية في غير اجتماع؟! إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات:10]، وكيف تتحقق الشورى إذا اعتزل المسلم الجماعة؟! وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ [الشورى:38]، وحينما يدعو العبد من عباد الرحمن: وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً [الفرقان:74] متى يكون منعزلٌ عن إخوانه ـ مثلاً ـ إماماً في الدعوة والهداية، يشهد الناس سيرتَه، يتأسَّون بالحميد من فعاله، ويقتدون بالحسن من لحظه ولفظه؟!
أيها الإخوة في الله، من أجل المحافظة على الجماعة شُرعت في الإسلام أحكامٌ وآداب، شُرع إلقاءُ السلام وإفشاؤه، وجُعل ردّه واجباً، شرعت المصافحة والتبسم وطلاقة الوجه، أمِر بإظهار المحبة والتودّد، نُدب المؤمنون إلى تبادل الهدايا والإحسان لذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل، وحُرِّم عليهم أسبابُ النزاع وجالبات العداوة والبغضاء ومقتضياتُ التقاطع والتدابر من الخمر والميسر والغشّ في المعاملات والهجر في القول والخصومات الفاجرة.
إنَّ معظمَ خصال الشرف ومحاسن الأخلاق لا تكون إلا لصاحب الخُلطة وحسن العشرة، كيف يكون السخاءُ لمن لم يمدَّ يدَه شفقةً وإحساناً؟! وكيف يقع الإحسان موقعَه إن لم يسبق ذلك معرفةٌ بأحوال الناس؟! وهل يظفر الحلم والأناة إلا حين يقابل به صاحبُه أصحابَ الألسن الحداد والقلوب الغلاظ؟!
في العيش مع الناس يقول أهل الحق للمبطلين في موعظة وحكمة: الصوابُ في غير ما نطقتم، والحقّ في غير ما رأيتم، والخير في غير ما سلكتم. كيف يكون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوةُ والجهاد والإصلاح من أجل أن تكون أمةُ محمد خيرَ أمة أخرِجت للناس؟! ومن ثمَّ فإنك ترى الأخيار من أهل العلم والفضل يغشَون المجامع، ويحضُرون المنتديات، فيقولون طيِّباً، ويعملون صالحاً، وفي الحديث: ((المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خيرٌ من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم))[2]، ويقول ابن مسعود رضي الله عنه: (خالطِ الناس، ودينَك لا تَكْلِمنَّه)[3].
أيها الأحبة، قد يتذرّع بعضُ الأخيار بفساد الزمان وكثرة سبل الضلال ونشاط دعاة السوء، أما علموا ـ وفقهم الله ـ أن العزلةَ تزيد صَولاتِ الضلال، وتتَّسع بها ظلماتُ المجتمع؟! لماذا لا يكون التوجّه في مقاومة أصحاب الضلالات وذوي الأهواء؟ ومن وضع يدَه مع الجماعة وشدَّ أزر إخوانه فقد قام بنصيبه من الخير، وإذا اعتذر فضلاءُ آخرون بالرغبة في العزلة من أجل قضاء الوقت في العبادة والنظر في حظوظ النفس من الخير فليعلموا ـ رعاهم الله ـ أن حضورَ مجالس العلم إفادةً واستفادة هي من العبادة، وعيادة المريض عبادة، والقيام بحقوق الإخوان عبادة، وإرشاد الناس عبادة، ومدَّ يد العون والمساعدة لتقوى الشوكة ويتحقَّق المزيدُ من الألفة والقوَّة كلُّ ذلك عبادة، ولئن كان في العزلة تخلُّصٌ من الوقوع في الأعراض والسعي في النميمة والغيبة والتنابز بالألقاب وفساد الطبع بالأخلاق الرديئة، فإنَّ في مخالطة الصالحين ما يزجر عن هذه المعائب، ويبصِّر بتلك المثالب، وإن لم تُجدِ النصيحة في موقع فإنها مُجدية في موقع آخر، وإن لم ينفع التوجيه في وقتٍ فإنه نافع في وقت آخر، والمهمة في البلاغ، والهداية بيد الله، وَلَاكِن لّيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ [محمد:4]. وإن ما يُنقل من الرغبة في العزلة عن بعضِ من سلف فإنما هي أحوال خاصّةٌ تعرض لمن تعرِض له، فتجعل الاعتزالَ عنده أرجحَ، ولا يُمكن أن تكون العزلة مذهباً يسَع الناسَ كلَّهم. وحينما يكون الحثُّ على الجماعة والاجتمَاع فليس المقصود من ذلك صرفَ جميع الأوقات في التردّد على البيوت وغشيان جميع المجالس، فالحقّ أنّ كلَّ إنسان محتاجٌ لأوقات يخلو فيها بنفسه؛ ليقوم بواجبٍ خاص، أو يتقرَّب بنافلة، أو يقضيَ مصلحة، وفي مثل هذا يقول عمر رضي الله عنه: (خذوا حظّكم من العزلة)[4]. فالمسلك العدلُ والمنهج الوسط في تقسيم المسلم وقتَه بين خلطةٍ حسنة وخلوةٍ نافعة؛ ليخرج من الحالين بما يصلح به الشأن كلّه.
وفي الخلطة يتخيّر المؤمنُ إخواناً يصطفيهم لنفسه، يعيش في أكنافهم من أهل الصدق والصلاح والوفاء، فإنهم زينة في الرخاء، وعُدّة في البلاء، وقد قيل في الحكمة: مِن أعجز الناس من قصَّر عن طلب الإخوان، وأعجزُ منه من ظفر بذلك منهم فأضاع مودّتهم، وإنما يُحسنُ الاختيار لغيره من أحسن الاختيار لنفسه. ويقول علي رضي الله عنه: (شَرْطُ الصحبة إقالة العثرة، ومسامحة العِشرة، والمواساة في العسرة).
وعلى الإخوة في علاقاتهم الابتعاد عن التكلّف، وتجنّب التصنّع الثقيل، فإشاعةُ اليُسر في المسالك والبعدُ عن المواقف الحرجة والمداهنات البغيضة مما يوثِّق العرى، ويجلب المودّة.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يابُنَىَّ أَقِمِ الصلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ وَلاَ تُصَعّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلاَ تَمْشِ فِى الأرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ وَاقْصِدْ فِى مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ [لقمان:17-19].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم وبهدي محمد ، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه أحمد (5/140)، وأبو داود في الصلاة (554)، والنسائي في الإمامة (843) من حديث أبي بن كعب رضي الله عنه، وصححه ابن خزيمة كما في الفتح (2/136)، وابن حبان (2056)، والحاكم (904)، وحسنه الضياء في المختارة (1197)، وقال المنذري في الترغيب (1/161): "وقد جزم يحيى بن معين والذهلي بصحة هذا الحديث"، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب (411).
[2] أخرجه أحمد (2/43)، والبخاري في الأدب المفرد (388)، وابن ماجه في الفتن (4032) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، وحسن إسناده ابن حجر في الفتح (10/512)، ووافقه المناوي في الفيض (6/256)، وأخرجه الترمذي في الزهد (2507) من حديث صحابي لم يسمَّ وقال في آخره: "قال ابن أبي عدي: كان شعبة يرى أنه ابن عمر"، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (939).
[3] علقه البخاري بصيغة الجزم في كتاب الأدب، باب: الانبساط إلى الناس، ووصله بنحوه ابن أبي شيبة في المصنف (5/293)، والبيهقي في الزهد الكبير (2/109)، وقال الهيثمي في المجمع (7/280): "رواه الطبراني بإسنادين، رجال أحدهما ثقات".
[4] أخرجه ابن المبارك في الرقائق كما في الفتح (11/331)، وابن سعد في الطبقات (4/161)، وأحمد في الزهد (84)، والبيهقي في الزهد الكبير (2/93-94)، وابن عبد البر في التمهيد (17/445-446).
الخطبة الثانية
الحمد لله كثيراً، وسبحان الله بكرة وأصيلاً، أحمده سبحانه وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأكبِّره تكبيرا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بعثه بالحق بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلَّم تسليماً كثيراً.
أما بعد: أيها الإخوة، إنَّ من أدب الإسلام في التعارف وحسن العشرة أن يكون التواصل في وضوح وبيِّنة، حيث لا مانع أن يذكرَ الأخ لأخيه ما يكنُّه له من محبّة وتقدير، وفي الحديث: ((إذا أحبّ أحدكم أخاه فليخبره أنه يحبُّه)) أخرجه أحمد والترمذي وإسناده حسن[1]، وعن أنس رضي الله عنه قال: كان رجل عند النبي ، فمرّ رجل فقال: يا رسول الله، إني أحبّ هذا، قال: ((أعلَمْتَه؟)) قال: لا، قال: ((فأعلِمْه))، فلحقه فقال: إني أحبك في الله، فقال: أحبَّك الذي أحببتَني له. أخرجه أحمد وابن حبان والحاكم وصححه وأقره الذهبي[2].
ومن سنن الصداقة التزاورُ الخالي من الأغراض، ففي الخبر عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي : ((إن رجلاً زار أخاً له في قرية، فأرسل الله على مدرجته ملكاً، فلما أتى عليه قال: أين تريد؟ قال: أريد أخاً لي في هذه القرية، قال: هل لك عليه من نعمة تربُّها؟! قال: لا، غيرَ أني أحبّه في الله تعالى، قال: فإني رسول الله إليك بأن الله قد أحبَّك كما أحببتَه فيه)) أخرجه مسلم[3]، وفي خبر آخر: ((من عاد مريضاً أو زار أخا له في الله نادى منادٍ: طِبتَ وطاب ممشاك، وتبوّأتَ من الجنة منزلاً)) أخرجه الترمذي وقال: "حديث حسن"[4].
فاتقوا الله رحمكم الله، وأصلحوا ذاتَ بينكم، واحفظوا حقوقَ إخوانكم، واحرصوا على الجماعة والألفَة، ولا تتجشَّموا التكلّف، وأخلصوا في الودّ، واحفظوا العهد، فلقد قال الفضيل رحمه الله: "إنما تقاطَع الناس بالتكلّف، يزور أحدهم أخاه فيتكلّف له، فيقطعه ذلك عنه"، واحفظوا كلمةَ الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين قال: (لا تظنَّ بكلمة خرجت من مسلم شراً وأنت تجدُ لها في الخير محملا)[5].
هذا وصلوا وسلموا على خير البرية نبيكم محمد رسول الله فقد أمركم بذلك ربكم فقال عز من قائل: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىّ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وارض اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين...
[1] أخرجه أحمد (4/130)، وأبو داود في الأدب (5124)، والترمذي في الزهد (2392) من حديث المقدام بن معدي كرب رضي الله عنه، وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح غريب"، وصححه ابن حبان (570)، والحاكم (7321)، وهو في صحيح أبي داود (4273).
[2] أخرجه أحمد (3/140)، وأبو داود في الأدب (5125)، وصححه ابن حبان (571)، والحاكم (7321)، والضياء في المختارة (1547)، وحسنه الألباني في صحيح أبي داود (4274).
[3] أخرجه مسلم في البر، باب في فضل الحب في الله (2567).
[4] أخرجه الترمذي في البر (2008) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وكذا أحمد (2/344، 354)، والبخاري في الأدب المفرد (345)، وابن ماجه الجنائز (1443)، وصححه ابن حبان (2961)، وحسنه الألباني في صحيح الترمذي (1633).
[5] أخرجه العقيلي في الضعفاء (7/152)، والخطيب في المتفق والمفترق، وانظر: تفسير ابن كثير (4/213).
ــــــــــــــــــــ(67/184)
ضرورة العناية بالنشء
...
...
3212
...
الأسرة والمجتمع
...
...
الأبناء
...
عبد المحسن بن محمد القاسم
...
...
المدينة المنورة
...
29/3/1424
...
...
المسجد النبوي
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- النشء مناخ من سبق. 2- استهداف الأعداء للشباب المسلم. 3- حصن العلم الشرعي. 4- تعظيم العلماء وتوقيرهم. 5- فضل مجالسة العلماء. 6- ضرورة الابتعاد عن الفتن. 7- التحذير من ترك الواجبات وارتكاب المحرمات. 8- ضرورة تكثيف المناهج الدينية والعناية بها. 9- كلمة للإعلام. 10- فضل القرآن الكريم. 11- خطورة الفراغ. 12- عظم خطر الفجوة بين الولد ووالده. 13- الجليس الصالح والجليس السوء. 14- دور المرأة في رعاية الشباب. 15- مدرسة الأسرة.
الخطبة الأولى
أما بعد: فاتقوا الله ـ عبادَ الله ـ حقَّ التقوى، فتقوى الله نِعم الأمل، والإعراض عنها بِئس العمل.
أيّها المسلمون، لقد خلق الله عبادَه على الفطرة السليمة السويَّة، وبعث الرسلَ لتقريرها وتكميلها، والناشئةُ في بكور حياتِها ديوانٌ مفتوح وسجلّ ناصع، تتلقَّى ما يرد عليها من حقٍّ أو باطل، أرضٌ تُنبِت أيَّ غراس من صحيح العقائد وفاسدِها، ومن مكارم الأخلاق ومساوئها، ((كلُّ مولود يولَد على الفطرة، فأبواه يهوّدانه أو ينصّرانه أو يمجّسانه))[1].
وعقولُ الشباب هدفٌ لأعداء المسلمين الذين تنوّعت وسائلهم ليوقِعوا الشبابَ في شَرَكهم، وليزجُّوا بهم في وَحل الفتن تارة، ويلقوا عليهم الشبهاتِ تارةً أخرى، ليردّوهم ويورِدوهم مستنقعَ الهوى والشّهوات، ويغرِقوهم في الملهيات والمحرّمات، ولا أنفعَ بإذن الله للشباب من التحصُّن بعلم الشريعة، يزيدُ الإيمان، وينير البصيرةَ، ويهذِّب النفس، ويرفع عن دنيء الأفعال، طالبُه منظومٌ في سِلك العظماء، يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ ءامَنُواْ مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ [المجادلة:11]. سلوكُه توفيقٌ للخلود في الجِنان، والخلق عنهم راضون، ولصنيعهم مستغفِرون، والملائكة لمجالسةِ أهله راغبون.
ومِن تعظيم الشريعة والدّين تعظيمُ العلماء، فهم خلَف أنبياء الله في دعوتِهم، قال عليه الصلاة والسلام: ((وإنَّ العلماءَ ورثة الأنبياء)) رواه أحمد[2]. حقٌّ علينا تبجيلُهم وتوقيرهم، وعلى هذا سارَ أسلاف هذا الدين، يقول الربيع بن سليمان: "ما اجترأتُ أن أشربَ الماء والشافعيّ ينظر إليَّ هيبةً له"[3]. سؤالُهم عِلم، ومجالستهم سعادة، ومخالطتهم تقويمٌ للسّلوك، وملازمتُهم حفظٌ للشباب بإذن الله من الزّلل، يقول ميمون بن مهران: "وجدتُ صلاحَ قلبي في مجالسة العلماء"[4].
ثمرةُ مجالسة العلماء ليست في التزوّد من العلوم والمعارف فحسب، بل الاقتداء بهم في الهدي والسّمت وعلوّ الهمّة ونفع الآخرين علمٌ آخر نحتاج إليه، وبُعد ناشئة المسلمين عنهم يؤدِّي إلى تخبُّطِ في طلب العِلم وإعجابٍ بالرّأي وقلّة في التعبّد.
وواجبٌ على الشباب البعدُ عن مواطن الفتَن والشّبهات والشهوات، ونبيُّنا محمّد تعوَّذ من الفتن[5]، وأمر أصحابَه بالتعوّذ منها[6]، ومن مدَّ عينيه إلى الفتن وأرخى سمعَه لها وقع فيها، يقول عليه الصلاة والسلام عن الفتن: ((ومن استشرف إليها ـ أي : تطلَّع إليها ـ أخذته)) رواه البخاري[7].
والإسلامُ الحنيف جاء بلزوم النورَين الكتابِ والسنّة، ونهى عن ضدِّهما ممَّا يورث القلبَ الفساد، والشبهةُ إذا وردت على القلب ثقُل استئصالُها، يقول شيخ الإسلام رحمه الله: "وإذا تعرَّض العبد بنفسه إلى البلاء وكَله الله إلى نفسه"[8].
والتقصيرُ في أداء الواجبات والوقوع في المحرّمات وتشبُّث الناشئ بالفضائيّات ولهثُه وراءَ المنكرات بوَّابةُ فسادٍ للأخلاق ودنَس السلوك ومرتَعٌ للأفكار المنحرفة، والقلبُ إذا أظلم بكثرة المعاصي ثقُل عليه أداء المعروف، وسهُل عليه قبول المنكَر.
وتشكيكُ الناشئةِ في المناهج الدّراسيّة يُضعِف همَّتهم في التحصيل وأخذِ المعارف منها، ومتغيِّرات الزمان وتوالي الحوادِث وتعاقُب الأحداث وحلول الفِتن يُحتِّم تكثيفَ المناهج الدينيّة والتوسُّع فيها والبسطَ في شرحها وتسهيل فهومِها للناشئة، مع عدم إثقال كاهلِ الطّلاب بكثرة المواد غيرِ الدينيّة التي يغني بعضُها عن بعض، فالحاجة مُلحَّة إلى أمور الشريعة.
وبهذه المناهج المرتكزة على الدّين والعمل بالعلم أصبحت هذه البلاد بحمد الله تزخَر بالعلماء الذين يفهَمون أحكامَ الشريعة، ويُرجَع إليهم في الفتوى والمسألة، واكتسَبوا الثقةَ والتبجيلَ في التوجيه والإرشاد والدّعوة، وبفضلٍ من الله استوزَر ممَّن درس هذه المناهجَ الوزراء الناصحون، وبرع المستشارون المؤتمَنون، وتأدَّب الأدباء المثقَّفون، وبرز الصحفيّون الإعلاميّون، ونبغ الأطبَّاء الحاذقون، وتألّق الاقتصاديّون العارفون، وتخرّج منها مَن أسهَم في بناء وتنميَة الحضارة ومقوّمات الحياة في المجتمعات، ومِن الوفاء الثناءُ على المناهِج التي كان ثمرةَ علومها.
أيّها المسلمون، الإعلام نافذة واسعةٌ على المجتمع، والشّباب بحاجةٍ إلى نصيبٍ وافر منه في التوجيه والإرشاد وفي النّصح والفتوى، والتعرّض للدين المتين باللّمز أو لأهله بالسّخريّة والغَمز يوغِر الصدورَ ويؤجِّج المكامن، والثناءُ على الناشِئة واحتواؤهم وتوجيههم طريقٌ قويم يُسلَك حمايةً للشّباب لئلا يتَلقَّفهم الأعداء بحلاوة اللسان وحُسن البيان.
والقرآن العظيم كلام ربِّ العالمين، بتِلاوته تتنزّل السكينة، وبتدبُّره يزيد الإيمان، نورٌ يُبدِّد الظلمات، قال سبحانه: قَدْ جَاءكُمْ مّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ [المائدة:15]. وانتشار حلقات القرآن الكريم في بيوتِ الله في هذه البلاد ورعايةُ ولاّة الأمور لها أمرٌ يدعو إلى الفخر والاعتزاز، ولقد صان الله بها كثيرًا من الناشئة عن الانحراف، وحفِظ الله بها الدين، كَم انتفع بها من يتيم، وكم أسدَت للناشئة من معروف، وكم أوصدَت من أبواب الشرور، وكم وسَّعت من مدارِك، وكم فتحَت من آفاق، والقرآن الكريم أصلُ العلوم وأسُّها، ومنه تُؤخَذ الآداب والأخلاق. وتوجيهُ الآباء أبناءَهم لحفظ كتاب الله حفظٌ لهم من الشرور والفتن، وحصنٌ من توغُّل الأفكار المنحرفة إلى عقولهم.
والفراغ عامِل من عوامل الانحرافِ الفكريّ والسلوكيّ والأخلاقيّ، كما أنَّ الملهيات الحضاريّةَ المحظورة والمحطّات الفضائيّة لها قِسط مظلمٌ في انحراف الأفكار وتلويث المعتقدات وتسميم العقول من المتربِّصين بالشباب، والأبُ الحاذق من يمنع دخولَ تلك المحطّات والملهيات إلى داره قبل أن تذرف منه دمعة الحزن والأسى، وقبل أن يُفجَع بخبر فاجع.
أيّها المسلمون، الفجوةُ بين الوالد والولد عامِل من عوامل حَجب الابن عن إظهار مكنون صدره لوالدِه، فيبوح بما في سريرته إلى غير والده ممَّن قد لا يُحسن التربيةَ والتوجيه، ولا يحمِل له المودَّة والشفقة، وقربُ الأب من أبنائه والتبسُّط معهم في الحديث ومبادلة الرأيِ من غير إخلالٍ باحترام الوالدين سلامةٌ للأبناء وطمأنينة للآباء وقاعدةٌ في تأسيس برّ الوالدين.
والجليس سببٌ في الإصلاح أو الإفساد، ورُسُل الله عليهم الصلاة والسلام عظَّموا شأنَه، فنبيّ الله عيسى عليه السلام يقول: من أنصاري إلى الله؟ ونبيّنا محمّد اتّخذ له صاحبًا مُعِينًا له على طريق الدعوة، يقول عليه الصلاة والسلام: ((لو كنتُ متَّخِذًا من أمّتي خليلا لاتَّخذت أبا بكر خليلا، ولكن أخي وصاحبي))[9]، وعائشة رضي الله عنها تقول: لم أعقِل إلا وأبويَّ يدينان الدين، وكان النبيّ يأتينا وهو بمكّة أوّلَ النّهار وآخره[10].
الجليس الصّالح يهديك للخير، يذكِّرك إذا نسيت، ويحضُّك إذا غفَلتَ، يُظهر ودَّك إذا حضرت، ويحفظُك إذا غِبت. ورفيقُ السّوء يجري خلفَ ملذاتِه وأهوائه، وإذا انقضت حاجتُه منك نبَذك، من كلّ شرٍّ يدنيك، وعن كلّ خير ينأى بك، على أمور الدنيا لا يُؤمَن، وفي الآخرة تندَم على مصاحبتِه، قال جلّ وعلا: وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يالَيْتَنِى اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً ياوَيْلَتَا لَيْتَنِى لَمْ أَتَّخِذْ فُلاَنًا خَلِيلاً [الفرقان:27، 28]. فجالِس الصالحين واشرُف بصحبتِهم، وابتعِد عن مصاحبة من يسوؤك في دينك ودنياك.
للمرأة دورٌ مكين في الرعاية والتوجيه، وإذا تخلَّت المرأة في دارها عن مسؤوليّتها وأخْلَت مسكنَها من نفسِها بكثرة خروجِها من منزِلها لم يجِد الأبناء حنانَ الأمومة وعطفَ الحانيَة، ولا يجدون في المسكَن معهم سِوى مَن هو مِن غير جنسِهم مِن الخدم، فيفقِدون عطفَ الوالدَة ورأفة المُشفِقة، فلا يمنَعهم ذلك للتوجّه إلى من يتلقَّفهم بمخدوع الحديثِ وأماني المستقبل، والإسلامُ ألقى على الأمِّ مسؤولية كبيرةً مشرِّفة، يقول عليه الصلاة والسلام: ((والزوجة راعيةٌ ومسؤولة في بيت زوجها))[11].
مِن أحضان المرأة تخرَّج العلماء وبرز النّبلاء، ولا أعظم تكريمًا للمرأة ولا أنبلَ تبجيلاً لمكانتِها من إسداء مسؤولية العقول إليها في دارها، فواجبٌ عليها القيام بأعباء تكاليفها لئلاّ تذرف الدمعَ على أولادِها، وعليها عدمُ الإصغاء إلى أبواقٍ تدعوها إلى الخروج من مملكتِها وإهمال أولادِها.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: مَّنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدى لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً [الإسراء:15].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني الله وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كلّ ذنب فاستغفروه، إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في الجنائز (1385)، ومسلم في القدر (2658) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[2] أخرجه أحمد (5/196)، وأبو داود في العلم، باب: الحثّ على طلب العلم (3641)، والترمذي في العلم، باب: ما جاء في فضل الفقه على العبادة (2682)، وابن ماجه في العلم، باب: فضل العلماء (223) من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه، وفي سنده اختلاف، وصححه ابن حبان (88)، والألباني في صحيح الجامع (6297).
[3] أخرجه البيهقي في المدخل (684)، وانظر: تهذيب الأسماء للنووي (1/84).
[4] أخرجه أبو نعيم في الحلية (4/85).
[5] أخرج أحمد (1/292) عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي كان يتعوّذ في دبر صلاته من أربع يقول: ((أعوذ بالله من عذاب القبر، وأعوذ بالله من عذاب النار، وأعوذ بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأعوذ بالله من فتنة الأعور الكذاب))، وأخرجه مسلم في المساجد (590) بنحوه.
[6] أخرج مسلم في كتاب الجنة (2868) عن زيد بن ثابت رضي الله عنه أن النبي قال: (( تعوّذوا بالله من الفتن، ما ظهر منها وما بطن)).
[7] أخرجه البخاري في الفتن (7081)، ومسلم في الفتن (2886) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بنحوه.
[8] مجموع الفتاوى (10/577).
[9] أخرجه البخاري في الصلاة (466)، ومسلم في الفضائل (2382) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. وجاء من حديث ابن عباس وجندب وابن مسعود وأبي هريرة رضي الله عنهم.
[10] أخرجه البخاري في الصلاة (476).
[11] أخرجه البخاري في الجمعة (893)، ومسلم في الإمارة (1829) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشّكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن نبيّنا محمّدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه.
أمّا بعد: أيّها المسلمون، الأسرة مرتَكَز قويمٌ بالإسلام، في ظلِّها تلتقِي النفوس على المودّة والرحمَة والعفوِ والمحبّة، وقد أقسَم الله في كتابه بالأولاد والآباء فقال جلّ وعلا: وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ [الولد:3]، والعناية بصلاحِهم مَسلكُ الأخيار، وباستقامتِهم بهجَة الآباء والأمّهات، رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْواجِنَا وَذُرّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا [الفرقان:74].
وأوّل لبنةٍ في بناء الأبناء غرسُ مراقبةِ الله في نفوسهم، يقول النبي لابن عبّاس وهو غلام: ((يا غلام، احفَظ الله يحفظك، احفَظ الله تجدْه تجاهك))[1]. وهم بحاجةٍ إلى التربيّة على المعرفةِ بالعلوم واغتِنام الأوقَات، يقول عليه الصلاة والسلام: ((احرِص على ما ينفعُك))[2].
وعلى الوالِد أن يسعَى لجلبِ ما ينفع أبناءَه، وإبعادُ ما يضرّهم، واختيارُ الرفقةِ الصالحين لهم، وإنَّ حُسن تنشئتهم مرتبطٌ باستمساك والديهم بدينهم، وكلّما استقام الوالدان اقتدى بهم الأبناء وكانوا بمنجاة من عواملِ الضياع وأسباب الضّلال.
واعلم ـ أيّها الابن ـ أنّ أمَلَ والدَيك أن تكونَ ممَّن سِيَرهم فاضلة وأخلاقهم سامِية، مع الاستقامة والبُعد عن الرذائل والمهالك، وأن لا تقعَ فريسةً للانحراف، أو أسيرًا للملذّات والشّهوات، فلا تضيِّع أملك وأملَهم أمام لحظةٍ من شهوة أو ساعة من غفلة، وعليك بانتقاء الأصحابِ في المخالطة والمؤانسة، والزَم صحبةَ العلماء، وجالس الصالحين، تجنِي سعادةَ الدنيا والآخرة.
ثمّ اعلَموا أنّ الله أمركم بالصلاة والسلام على نبيه فقال في محكم التنزيل: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىّ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمَّ صلِّ وسلِّم على نبيّنا محمّد، وارض اللهمّ عن خلفائه الراشدين...
[1] أخرجه أحمد (1/293)، والترمذي في صفة القيامة (2516) عن ابن عباس رضي الله عنهما، وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وصححه الضياء المقدسي في المختارة (10/25)، وقال ابن رجب في جامع العلوم والحكم (1/460-461): "روي هذا الحديث عن ابن عباس من طرق كثيرة... وأصح الطرق الطريق التي خرجها الترمذي"، وصححه الألباني في صحيح السنن (2043).
[2] أخرجه مسلم في القدر (2664) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
ــــــــــــــــــــ(67/185)
...
همّ الفراغ وفقه الترويح
...
...
3230
...
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
...
...
اغتنام الأوقات, قضايا المجتمع
...
سعود بن إبراهيم الشريم
...
...
مكة المكرمة
...
4/5/1424
...
...
المسجد الحرام
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- الشواغل في حياة الناس. 2- من أضرار الحضارة الغربية. 3- مشكلة الفراغ. 4- مراعاة الإسلام لمطالب الفطرة البشرية. 5- الترويح في واقعنا. 6- الترويح في واقع السلف. 7- التحذير من التوسع في الترويح. 8- بيان خطر كثير من المسابقات الثقافية. 9- وسطية الإسلام وتوازنه.
الخطبة الأولى
أمّا بعد: فاتقوا اللهَ معاشرَ المسلمين، واعلموا أنّ أصدقَ الحديث كلام الله، وخيرَ الهدي هدي محمّد ، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلّ محدثة بدعة، وكلّ بدعةٍ ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإنّ يدَ الله على الجماعة، ومن شذَّ عنهم فمات فميتتُه جاهليّة.
أيّها المسلمون، إنّ حياةَ النّاس بعامّة مليئة بالشّواغل والصّوارف المتضخِّمة، والتي تفتقر من حيث الممارساتُ المتنوِّعة إلى شيء من الفرز والتّرتيب لقائمة الأولويّات منها، مع عدمِ إغفال النّظر حول تقديم ما هو أنفع على ما هو نافع فحسب.
ثمّ إنّ الضغوطَ النفسيّة والاجتماعيّة الكبيرة الناتجةَ عن هذا التضخّم ربّما ولَّدت شيئًا من النّهم واللّهث غير المعتاد تجاهَ البحثِ عمّا يبرِد غلّةَ هذه الرواسب المتراكمة ويطفئ أوارَها[1].
إنّ الحضارة العالميّة اليومَ قد عُنيت بإشعال السلاح ورفع الصّناعة وعولمةِ بقاع الأرض، تلكمُ الحضارة التي حوَّلت الإنسانَ إلى شِبه آلةٍ تعمَل معظمَ النهار ـ إن هي عملت ـ ليكون ساهرًا أو سادرًا[2] أو خامدًا ليلَه، هذه هي الثمرة الحاصلة، ليس إلا.
إنّ تِلكم الحضارةَ برمّتها لم تكن كفيلةً في إيجادِ الإنسان الواعي الإنسان العاقل الإنسان المدرك الموقِن بقيمةِ وجودِه في هذهِ الحياة وحكمةِ خلقِ الله له، بل إنَّ ما فيها من آلياتٍ متطوّرة وتقنيات كان سببًا بصورةٍ ما في إيجاد شيءٍ من الفراغ في الحياةِ العامة، ممّا ولَّد المناداةَ في عالم الغرب بما يسمَّى: "علم اجتماع الفراغ"، وإن لم يكن هذا الفراغُ فراغَ وقتٍ على أقلّ تقدير فهو فراغ نفس وفراغ قلبٍ وفراغ روح وأهدافٍ جادّة ومقاصدَ خاليةٍ من الشّوائب.
يأَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ [الانشقاق:6]، لاَ أُقْسِمُ بِهَاذَا الْبَلَدِ وَأَنتَ حِلٌّ بِهَاذَا الْبَلَدِ وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِى كَبَدٍ [البلد:1-4].
إنّ الحضارةَ العالميّة حينما توفِّر للإنسانِ بالتقدُّم العمليّ والجهد الصناعيّ قوّةَ الإنسان ونشاطَه، وتوفّر له مزيدًا من الوقت، ثمّ يكون في نفسِه وقلبه وروحِه ذلكم الفراغ، فهنا تحدُث المشكِلة ويكمُن الدّاء الذي يجعَل أوقاتَ الفراغ في المجتمعاتِ تعيش اتَّساعًا خطيرًا، حتّى صارت عبئًا ثقيلاً على حركتِها وأمنِها الفكريّ والذّاتيّ، ومَنفذًا لإهدارِ كثيرٍ مِن المجهودات والطّاقات المثمِرة.
إنّ غيابَ الضّبط والتّحليل والتّرشيد للظّاهرة الحضاريّة الجديدة المنشِئةِ أوقاتَ الفراغ ليمثِّل دليلا بارزًا على وجود شرخٍ في المشروع الحضاريّ والعولمَة الحرّة، غير بعيدٍ أن تؤتَى الأمّة المسلمة من قبله.
وإنّ عدمَ وعينا التامّ بخطورة هذا المسلك تجاهَ أوقات الفراغ وعدَم وعينا التامّ بالمادّة المناسبَة لشغل تلك الأوقات في استغلال العمليّات التنمويّة والفكريّة والاقتصاديّة البنَّاءة لجديرٌ بأن يقلِبَ صورتَه إلى مِعوَل هدم يضاف إلى غيره من المعاول، من حيثُ نشعر أو لا نشعر، والتي ما فتِئ الأجنبيّ عنّا يبثُّها ليلَ نهار، لنسفِ حضارة المسلمين على كافّة الأصعدة بلا استثناء، كيف لا؟! ورسول الله يقول: ((نعمتان مغبونٌ فيهما كثيرٌ من الناس: الصحّة والفراغ)) رواه البخاري[3].
إنّ الإسلامَ دينٌ صالح للواقع والحياة، يعامِل الناسَ على أنّهم بشر، لهم أشواقهم القلبيّة وحظوظُهم النفسية، فهو لم يَفترض فيهم أن يكونَ كلُّ كلامهم ذكرًا، وكلّ شرودهم فكرًا، وكلّ تأمّلاتهم عِبرة، وكلّ فراغِهم عبادة. كلاّ، ليس الأمر كذلك، وإنّما وسَّع الإسلام التّعاملَ مع كلّ ما تتطلَّبه الفطرة البشريّة السّليمة من فرح وترح، وضحكٍ وبكاء، ولهو ومرَح، في حدود ما شرعه الله، محكومًا بآداب الإسلام وحدودِه.
عبادَ الله، إنّ قضيّةَ إشغال الفراغ باللّهو واللّعب والمرح والفرح لهيَ قضيّة لها صِبغة واقعيّة على مضمار الحياة اليوميّة، لا يمكن تجاهلُها لدى كثيرٍ من المجتمعات، بل قد يشتدُّ الأمر ويزداد عند وجودِ موجبات الفراغ كالعُطَل ونحوِها، حتّى أصبَحت عند البعضِ منهم مصنَّفةً ضمنَ البرامج المنظّمة في الحياة اليوميّة العامّة، وهي غالبًا ما تكون غوغائيّة تلقائيّة ارتجاليّة، ينقصها الهدفُ السّليم، لا تحكمُها ضوابط زمانيّة ولا مكانيّة، فضلا عن الضّوابط الشرعية وما يحسُن من اللّهو وما يقبح.
التّرويح والتّرفيه ـ عبادَ الله ـ هو إدخال السّرور على النفس، والتنفيس عنها، وتجديد نشاطِها، وزمُّها عن السّآمة والمَلل.
وواقعُ النبيّ إبَّانَ حياتِه يؤكِّد أحقِّية هذا الجانب في حياة الإنسان، يقول سماك بن حَرب: قلتُ لجابر بن سمرة: أكنتَ تجالس رسول الله ؟ قال: نعم، كان طويلَ الصّمت، وكان أصحابه يتناشَدون الشعرَ عنده، ويذكرون أشياء من أمر الجاهليّة، ويضحكون فيبتسمُ معهم إذا ضحكوا. رواه مسلم[4].
وأخرج البخاريّ في الأدب المفرد عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال: لم يكن أصحاب رسول الله منحرفين ولا متماوتِين، وكانوا يتناشدون الأشعارَ في مجالسهم ويذكرون أمرَ جاهليتهم، فإذا أريد أحدُهم على شيءٍ من دينه دارَت حماليق[5] عينيه[6].
وذكر ابن عبد البر رحمه الله عن أبي الدرداء أنّه قال: (إنّي لأستجمّ نفسي بالشيء من اللّهو غيرِ المحرّم، فيكون أقوى لها على الحقّ)[7].
وذكر ابن أبي نجيح عن أبيه قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (إنّي ليعجبُني أن يكونَ الرّجل في أهله مثلَ الصبيّ، فإذا بُغي منه حاجة وُجِد رجلا)[8].
وذكر ابن عبد البرّ عن عليّ رضي الله عنه أنّه قال: (أجمّوا هذه القلوبَ، والتمِسوا لها طرائفَ الحكمة، فإنّها تملّ كما تملّ الأبدان)[9].
يقول ابن الجوزيّ: "ولقد رأيت الإنسانَ قد حُمّل من التكاليف أمورًا صَعبة، ومِن أثقل ما حُمّل مداراةُ نفسِه وتكليفها الصبرَ عمَّا تحبّ وعلى ما تكرَه، فرأيتُ الصّوابَ قطعَ طريق الصّبر بالتسلية والتلطّف للنّفس".
وبِمثل هذا تحدّث أبو الوفاء بن عقيل فقال: "العاقلُ إذا خلا بزوجاتِه وإمائه لاعبَ ومازح وهازل، يعطي للزوجة والنفسِ حقَّهما، وإن خلا بأطفاله خرجَ في صورة طفلٍ وهجَر الجدَّ في بعضِ الوقت".
هذه ـ عبادَ الله ـ بعضُ الشّذرات حولَ مفهوم اللّهو والتّسلية والترويح، يُؤكَّد من خلالِه أنّ الإسلام قد عُني بهذا الجانب حقَّ العناية، غيرَ أنّنا نودّ أن نبيّن هنا وجهَ الهوّة بَين مفهوم الإسلام للتّرويح والتّسلية وبين اللّهو والمرَح في عصرنا الحاضر، والذي هو بطبيعته يحتاج إلى دراساتٍ موسَّعة تقتنِص الهدف للوصول إلى طريقةٍ مثلى للإفادة منها في الإطار المشروع.
فينبغي دراسةُ الأنشطةِ الترويحيّة الإيجابيّة منها والسلبيّة، والربط بينها وبين الخلفيّة الشرعيّة والاجتماعيّة للطبقة الممارسة لهذا النشاط، ومدَى الإفادة مِن الترويح والإبداع في الوصول إلى ما يقرّب المصالحَ ولا يبعّدها، وما يُرضي الله ولا يسخطه، وتحليل الفِعل وردود الفِعل، بين معطيات المتطلّبات الشرعيّة والاجتماعيّة، وبين متطلّبات الرّغبات الشخصيّة المشبوهة، وأثرِ تلك المشاركاتِ في إذكاءِ الطاقات والكفاءات الإنتاجيّة العائدة للأسَر والمجتمعات بالنّفع في دينِهم ودنيَاهم.
إنّ علينا جميعًا كمسلمين أن نشدَّ عزائمَنا لصيانتها ما أمكنَ من أيِّ ضياع في مرحٍ أو لهو غير سليم، أو ممّا إثمه أكبرُ من نفعه، فلا ينبغي للمسلمين أن يطلِقوا لأنفسهم العِنانَ في التّرويح، بحيث يزاحِم آفاقَ العمل الجادّ واليقظة المستهدفة، ولا أن يشغلَ عن الواجبات أو تضيع بسبب الانغماس فيه الفرائضُ والحقوق، إذ ليست إباحة التّرويح وسطَ رُكام الجدّ إلا ضربًا من ضروب العَون وشحذِ الهمّة على تحمّل أعباء الحقّ، والصبر على تكاليفه، والإحساس بأنّ ما للجدّ أولى بالتّقديم ممّا للَّهو والتّرويح، وبهذا يُفهَم قول النبيّ لحنظلةَ بن عامر وقد شكا إليه تخلُّلَ بعض أوقاتِه بشيءٍ من الملاطفة للصّبيان والنّساء، فقال له : ((ولكن ساعة وساعة))[10].
أمّا أن يصبِحَ التّرويح للنفس طابعَ الحياة في الغدوِّ والآصال والخَلوة والجَلوة، وهمًّا أساسًا من هموم المجتمعات في الحياة، فهو خروجٌ به عن مقصده وطبيعته، واتّجاهٌ بالحياة إلى العبث والضّياع، والإنسان الجادّ عليه أن يجعلَ من اللّهو والترويح له ولمن يعوله وقتًا ما، ويجعل للعمل والجدّ أوقاتًا، لا العكس، لا سيّما ونحن نعيش في عصرٍ استهوت معظم النّفوسِ فيه كلّ جديد وطريف، حتّى صارت أكثرَ انجذابًا إلى احتضان واعتناقِ ما هو وافد عليها في ميدان اللّهو والمرح، ولا غروَ في ذلك عبادَ الله، فإنّ الاسترخاءَ الفكريّ وهشاشةَ الضابط القيمِيّ لدى البعضِ منّا هما أنسبُ الأوقات لنفاذ الطرائف والبدائع إلى النفوس، وهنا تكمن الخطورة ويستفحِل الداء.
فاللهوُ المنفتِح ـ عبادَ الله ـ والذي لا يضبَط بالقيود الواعيّة، إنّه ولا شكّ يتهدَّد الأصالةَ الإسلاميّة، لتصبح سبهللا بين خطرين:
أحدهما: خطرٌ في المفاهيم، إن كان هناك شيء من بعض المسابقات تُدعَى ثقافيّةً، تقوم في الغالب على جمع للتضادِّ الفكريّ، أو تنميّة الصراع الثقافي، أو تصديع الثوابت المعلوماتيّة لدى المسلمين، بقطعِ النظر عن التفسير الماديّ للتأريخ والحياة، أو على أقلِّ تقدير الإكثار من طرحِ ما علمُه لا يحتاج إليه الذكيّ، ولا يستفيد منه البليد.
والخطر الثاني ـ عباد الله ـ تلك التي تعَدّ وسائلَ للترويح والتسلية عبرَ القنوات المرئيّة التي تنتِج مفاهيمَ مضلِّلة، عبرَ طرق جاذِبة في الثقافاتِ والشهوات، لاسترقاق الفِكر من خلالِ فنونٍ أو أساطيرَ أو عروض لما يفتِن أو للسِّحر والشعوذة وما شاكلها.
ونِتاج الخطرين ولا شكَّ تمزُّق خطير، متمثِّلٌ في سوءِ عشرة زوجية، أو تباين أفراد أسرةٍ إسلامية، ناهيكم عن القتل والخطف والانتحار والتآمر والمخدّرات والمسكرات، وهلُمّ جرّا.
وما حال من يقَع في مثل هذا الترويح إلا كقول من يقول: "وداوني بالتي كانت هي الداءَ"[11]، أو كما يتداوَى شاربُ الخمر بالخمر، فلرُبَّ لهوٍ بمرّة واحدة يقضي على بُرج مشيّد من العِلم والتّعليم للنّفس، ويا لله كم من لذّة ساعةٍ واحدة أورثت حزنًا طويلا، وإِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ [النحل:95]، مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [النحل:96].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإيّاكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، قد قلت ما قلت، إن صوابا فمن الله، وإن خطأ فمن نفسي والشيطان، وأستغفر الله إنه كان غفارا.
[1] الأوار: حرّ النار والشمس.
[2] السادر: المتحيّر.
[3] أخرجه البخاري في كتاب الرقاق (6412) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
[4] أخرجه مسلم في كتاب المساجد (670) بنحوه، واللفظ الذي ذكره الخطيب في خطبته هو لفظ أحمد (5/86، 88).
[5] حماليق العين: هو ما يسوده الكحل من باطن أجفان العين، وهو كناية عن فتح العينين، والنظر الشديد.
[6] هو في الأدب المفرد (81)، وأخرجه أيضًا ابن أبي شيبة في المصنف (5/278)، وحسن إسناده الحافظ في الفتح (10/540)، والألباني في صحيح الأدب المفرد (432).
[7] ذكره ابن قتيبة في تأويل مختلف الحديث (ص274)، وابن عبد البر في بهجة المجالس (ص115)، والبغوي في شرح السنة (13/184)، والذهبي في السير (5/421).
[8] أخرجه البيهقي في الشعب (6/292).
[9] أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم (659)، وأخرجه أيضًا الخطيب في الجامع لأخلاق الراوي (2/129)، والسمعاني في أدب الإملاء (ص68) من طريق النجيب بن السري عن علي، وهذا سند منقطع، انظر: المراسيل لابن أبي حاتم (ص424-425).
[10] أخرجه مسلم في كتاب التوبة (2750) عن حنظلة الأسيدي رضي الله عنه.
[11] شطر بيت لأبي نواس، وشطره الأول: "دع عنك لومي فإن اللوم إغراءُ"، وهو في ديوانه (1/21), وانظر: نهاية الأرب (3/83).
الخطبة الثانية
الحمد لله الواحدِ الأحَد، الفردِ الصمَد، الذي لم يلِد ولم يولد. وأشهَد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله، صلوات الله وسلامُه عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أمّا بعد: فاتّقوا الله أيّها النّاس.
واعلموا أنّ شريعةَ الإسلام شريعة غرّاء، جاءت بالتّكامل والتّوازن والتّوسُّط، ففي حين إنّ فيها إعطاءَ النّفس حقَّها مِن التّرويح والتسلية، فإنّ فيها كذلك ما يدلّ على أنّ منه النافعَ ومنه دون ذلك.
فقد صحَّ عند النسائي وغيره أنّ النبيّ قال: ((كلّ لهوٍ باطل غيرَ تأديب الرجل فرسه، وملاعبته أهله، ورميه بسهمه)) الحديث[1].
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله معلِّقًا على هذا الحديث: "والباطل مِن الأعمال هنا ما ليس فيه منفعة ولم يكن محرّمًا، فهذا يرخَّص فيه للنفوس التي لا تصبِر على ما ينفع، وهذا الحقّ في القَدر الذي يُحتاج إليه في الأوقات التي تقتضي ذلك، كالأعياد والأعراس وقدوم الغائِب ونحو ذلك" انتهى كلامه[2]، ويقول ابن العربي رحمه الله عن هذا الحديث: "ليس مرادُه بقوله: ((باطل)) أي: أنّه حرام، وإنّما يريد به أنه عارٍ من الثواب، وأنّه للدنيا محض، لا تعلّقَ له بالآخرة، والمباح منه باطل" انتهى كلامه[3].
هذا في اللهو المُباح عباد الله، وأمّا اللّهو المحرّم أو اللهو المباح الذي قد يفضي إلى محرّم فاستمعوا ـ يا رعاكم الله ـ إلى كلام الإمام البخاريّ رحمه الله في صحيحه حيث يقول: "باب: كلّ لهوٍ باطل إذا أشغله عن طاعة الله"[4]، يعلِّق الحافظ ابن حجر على هذا فيقول: "أي: كمَن التهى بشيء من الأشياء مطلقًا، سواء كان مأذونا في فعله أو منهيًّا عنه، كمن اشتغل بصلاة نافلة أو بتلاوة أو ذكر أو تفكّرٍ في معاني القرآن مثلا، حتّى خرج وقت الصلاة المفروضة عمدًا، فإنّه يدخل تحت هذا الضابط، وإذا كان هذا في الأشياء المرغَّب فيها المطلوب فعلها فكيف حال ما دونها؟!"[5].
فالحاصِل ـ أيّها المسلمون ـ أنَّ الترويحَ والفرح ينبغي أن يخضعا للضوابِط الشرعيّة، وأن لا يبغيَ بعضها على حدود الله، والله يقول: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا [البقرة:229].
ألا وإنّ مَن أراد أن يفرحَ ويلهو فليكن فرحَ الأقوياء الأتقياء، وهو في نفس الوقت لا يزيغ ولا يبغي، بل يتّقي الأهازيج والضّجيج التي تقلق الذاكرَ وتكسِر قلبَ الشاكر، ولله ما أحسنَ كلامًا لحكيم من حكماء السّلف يصِف فيه الباغين في اللّهو العابّين منه كما الهيم[6]، دون رسم للحقّ، أو رعايةٍ للحدود، حيث يقول عن مرَحهم: "إنّه من مشوِّشات القلب إلاّ في حقِّ الأقوياء، فقد استخفّوا عقولَهم وأديانهم من حيث لم يكن قصدُهم إلا الرياء والسّمعة وانتشار الصّيت، فلم يكن لهم قصدٌ نافع ولا تأديب نافذ، فلبِسوا المرقّعات، واتّخذوا المتنزّهات، فيظنّون بأنفسهم خيرًا، ويحسبون أنّهم يحسنون صنعًا، ويعتقدون أنّ كلَّ سوداء تمرة، فما أغزر حماقةَ من لا يميز بينَ الشّحم والورم، فإنّ الله تعالى يبغض الشبابَ الفارغ، ولم يحمِلهم على ذلك إلا الشباب والفراغ"[7].
وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّواْ إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ مّنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرازِقِينَ [الجمعة:11].
هذا وصلُّوا ـ رحمكم الله ـ على خير البرية وأزكى البشرية محمد بن عبد الله بن عبد المطلب صاحبِ الحوض والشّفاعة، فقد أمرَكم الله بأمر بدأ فيه بنفسه، وثنّى بملائكتِه المسبّحة بقدسه، وأيّه بكم ـ أيّها المسلمون ـ فقال جلّ وعلا: ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمَّ صلِّ على محمّد وعلى آل محمّد، كما صلّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنّك حميد مجيد...
[1] أخرجه النسائي في كتاب الخيل من السنن (3578)، ولفظه: ((وليس اللهو إلا في ثلاثة....))، وأخرجه أيضًا أحمد (4/148)، وأبو داود في كتاب الجهاد (2513) من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه، وصححه الحاكم (2/95)، ووافقه الذهبي، وضعفه الألباني في ضعيف الترغيب والترهيب (821).
[2] الاستقامة (1/277).
[3] انظر: فيض القدير (5/402).
[4] وذلك في كتاب الاستئذان من صحيحه.
[5] فتح الباري (11/91).
[6] الهيم هي الإبل العطاش.
[7] إحياء علوم الدين (2/ 250) بتصرف.
ــــــــــــــــــــ(67/186)
شبابنا والإجازة
...
...
3234
...
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
...
...
اغتنام الأوقات, الأبناء
...
عبد الرحمن السديس إمام الحرم
...
...
مكة المكرمة
...
11/5/1424
...
...
المسجد الحرام
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- رغبة النفوس في الاستجمام والراحة. 2- نعمة الوقت والعمر. 3- ضرورة التخطيط لحفظ الأوقات. 4- ضرورة العناية بالشباب في الإجازة الصيفية. 5- خطورة الفراغ والبطالة. 6- العناية بتحصين مدارك الشباب. 7- ضرورة تيسير سبل الزواج. 8- وجوب تعاون جميع الجهات للحفاظ على الشباب. 9- الإشادة بالشباب المستقيم. 10- التحذير من السفر إلى الأماكن الموبوءة.
الخطبة الأولى
أمّا بعد: فأوصيكم ـ عبادَ الله ـ ونفسي بجماع الخير وملاكِ البرّ، وصيّةِ الله للأوّلين والآخرين وخير ذخرٍ للمؤمنين: وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللَّهَ [النساء:131]. ومَن كان من أهل التّقى نال الجنانَ العُلا وفاز وارتقى.
أيّها المسلمون، في زَحمة التطلُّعات المتطاولةِ للناس، وفي ظلِّ التّواصل الكونيّ السّريع الموّاجِ بألوانِ السّلوك والطّبائع، وعلى حين فُسحةٍ مِن الوقت ووفرةٍ وانعِطافِ الرّوح إلى جِبِلَّة التبسُّط المشروع تسعى النّفوس الكالّةُ من نمطيّة الأعمال اليوميّة ورتابَة المسؤوليّات الوظيفيّة إلى البَحث عن مواطن الإخلاد إلى الهَدأة والسّكون وارتيادِ مجالَي الاعتبار والادِّكار، إجمامًا للنّفوس واستبضاعًا لقوّتها ومتناهِي نشاطِها، ولئِن كانت أعلامُ الإجازة الصيفيّة قد رفرفت وبنودُها قد خفقَت وتفاوَتَ النّاس في اغتنامِ هذه الفرصةِ الذهبيّة بين ظالمٍ لنفسه وهم كثير ومقتصدٍ وسابِق بالخيرات بإذن الله، فجديرٌ أيّما جدارةٍ بالمسلم الضَّنين بدينِه الشَّحيح بعمره وهو يقابل برامجَ الحياة بين الفراغ والانشغال أن تستوقفَه هذه الدرَّة النفيسة من دُرَر جوامع كلمِه ، وأن تكونَ نصبَ عينَيه وملءَ روحه وشعوره، ألا وهي قوله : ((اتَّق الله حيثما كنتَ، وأتبع السيِّئةَ الحسنة تمحُها، وخالقِ الناسَ بخلُقٍ حسن)) خرّجه الترمذي وغيره بسند صحيح[1].
معاشرَ المسلمين، نِعَم الله على عباده لا تُعدُّ ولا تُحصى، وآلاؤه التي أفاضَها عليهم ـ شكرَها من شكرَها وغَفل عنها من غَفل ـ لا تُحَدّ ولا تُستقصَى، وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا [إبراهيم:34].
ومِن أصول هذه النّعم العُظمى نعمة الوقتِ والعمُر والزّمان، وهذه الكلماتُ التي طاش ميزانها عندَ كثير من النّاس هي التي أغلى الإسلام قيمتَها وثنى الأعناقَ السّادرة إلى أهميَّتها، يقول جلّ شأنه: وَجَعَلْنَا الَّيْلَ وَالنَّهَارَ ءايَتَيْنِ فَمَحَوْنَا ءايَةَ الَّيْلِ وَجَعَلْنَا ءايَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مّن رَّبّكُمْ وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ [الإسراء:12]، وما قَسَمُه سبحانه بأجزاءٍ من الزّمن إلا للفتِ الأنظار ونَهنَهة الأفكار لما اشتملت عليه مِن المنافع والآثار، كالفجر والضّحى والليل والنّهار والعصر.
وفي ذلك كلِّه دلالة واضحةٌ على أن لا شيءَ أنفس من الأعمار، ومَن أضاع وقتَه وتركه نهبَ العوادي كان كمَن بدّد عمرَه، فأفنى دنياه وخسِر آخرتَه، فلا أملاً حقَّق ولا حياةً حفِظ، وندِم حيث لاتَ ساعةَ مندَم، وتمنّى ساعةَ احتضاره ـ وربّما كانت في إقبال عُمُره لا إدباره ـ أن يؤخَّر حتّى يصلِح ما ثَلَم ويرتُقَ ما فتق، وأنّى له ذلك؟! حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبّ ارْجِعُونِ لَعَلّى أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ [المؤمنون:99، 100].
ويُعظم هذا الجللَ مَن يجمع إلى ذلك السطوَ على أوقاتِ الآخرين بالتُّرَّهات والسفاسف، يقول : ((نعمتان مغبونٌ فيهما كثيرٌ من النّاس: الصّحّة والفراغ)) أخرجه البخاريّ مِن حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما[2].
إخوةَ الإيمان، وممَّا يعين المسلمَ على صيانة وقتِه من الانسراب وحِفظِ عمره من البَعثرة والإهدار والخراب رسمُ خطّة عمليّةٍ تستغرق كلَّ أوقاتِه، مراعيًا الضرورات والحاجيّات والتحسينيّات، قاصدًا إلى مداراتِ الكمال، قاطعًا لنزعات النّفس اللّجوج، داحرًا لنزغات الشّيطان أن تثبّطَه، ومِن بدائع الإمام الشافعيّ التربويّة الحِكَميَّة قولُه رحمه الله: "إذا لم تشغل بفسَك بالحقّ شغلتك بالباطل".
ومَن اتَّخذ مِن حفظِ الوقت أساسًا ومِن اليقظة والاجتهاد نِبراسًا نال الرِّغاب، وولج رياضَ الحقّ والخير والصّلاح مِن أرحب باب، وقد وَرَد في مأثور الحِكم عن بعضِ السّلف رحمهم الله قوله: "مَن أمضى يومَه في غير حقّ قضّاه أو فرضٍ أدّاه أو مَجد أثَّله أو حمدٍ حصَّله أو خير أسَّسه أو علمٍ اقتبسَه فقد عقَّ يومَه وظلم نفسَه"[3].
فهذه إجازتُكم عبادَ الله، فاعمروها ولا تعبروها، اعمروها بالطّاعات، واحذَروا الغفلات المُهلكات. وها هي موارد الخير وميادينُ التّنافس مُشرَعَة كثيرة بحمد الله.
تلكم ـ يا رعاكم الله ـ شَذرة عن نفاسةِ الوقتِ وأهمّيَّته في حياة الفرد والمجتمع والأمّة، ونظرةٌ لما يمثِّله مِن مقياسٍ لارتقاء المجتمعاتِ في معارج الحضارة والعَطاء وسُلَّم الرقيِّ والمجد والنّماء. تلك المجتمعاتُ التي تتعامل مع الأحداث وتداعياتها بالدّقائق والثواني، لا بالتّهاون والتّواني.
إخوةَ العقيدة، ونعطِف بكم ـ يا رعاكم الله ـ لحديثٍ ذي صِلةٍ وثيقة بهذه الإجازة الصيفيّة، ألا وهي الحديث عن شريحة مهمّةٍ من شرائح المجتمَع، وفئة عزيزة غاليةٍ في الأمّة وهم شبابُها ونشؤها وجيلها، وضرورة العناية بتحصينِهم والاهتمام بهم، لا سيّما في أوقات الإجازات، بعدما أفرَزت الأحداث الأخيرة انخداعَ بعض شباب المجتمع بأفكار منحرفةٍ تفسد عقولَهم وتخِلّ بأمن بلادِهم، ممَّا يؤكّد ضرورةَ استثمار أوقاتِ الشّباب وملءِ وقت فراغهم بالبرامج النّافعة التي تعود عليهم وعلى مجتمعِهم بالنّفع في أمور دينهم ودنياهم، وتحذيرهم من مجالسة أصحابِ الأفكار المنحرفة أو السّفر إلى بقاع موبوءة، كما يحتِّم على أولياء أمورهم متابعةَ تحرُّكاتهم، ومراقبة تصرُّفاتِهم وما يطرأ عليها من جنوحٍ أو تغيير، بإيجاد آليّة للحوار البنَّاء معهم الممزوجِ بحدب وحنانِ الأبوّة، وفقًا للضّوابط الشرعيّة والإمكانات الاجتماعيّة والأسريّة.
أمّةَ الإسلام، إنّه نتيجةً للفراغ المستبدّ بكثير مِن أطياف المجتمَع وفئامِ الأمة وغياب الرّقابة الأسريّة ظهَرت انحرافات فكريّةٌ مقلِقة، أحدقت بالشّباب، وعصفت بكثيرٍ منهم في بيداء المسكِرات ومستنقعاتِ المخدِّرات واقتراف الجريمة، في لونٍ من ألوانِ التّغريب والتفلُّت من القيَم والثّوابت، وانسياقٍ محموم وراء شعاراتِ التقليد والتبعيّة بدعوى الحريّة والمدنيّة، واللّهث خلفَ سراب انفتاحٍ غير منضبط وعولمةٍ ثقافيّة مفضوحة. واستحوذَ على طائفةٍ أخرى الانحراف الفكريُّ الذريع، فعمدوا إلى الغلوّ والعنف والإرهاب، حتّى غدَوا كالدّاء العُياء في جسدِ الأمّة، وكالسّم الزّعاف في مطعمِها المَريء، بل وصل الإجرام ذِروتَه بتفخيخ المصاحف واستخدامِ المساجد عياذًا بالله. وممَّا زادَ الأمرَ ضغثًا على إبالَة الإرهابُ والإلحادُ في حِمى الحرمَين الشريفين حرسهما الله وأدام أمنهما. وإذا التاثت فطرةُ الشخص وبات صاحبُها مصدرَ عدوان وخلخلةٍ لأمن مجتمعه وزعزعةٍ لاستقراره الذي قابَل عدلَه بالظّلم وإصلاحَه بالفساد فلا غروَ أن يلقى جزاءَ الشّرع فيه، تحصينًا للمجتمع وأفراده مِن الجريمة، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "ولولا العقوبةُ التي فرضها الله على الجُناة والمفسدين لأهلك الناسُ بعضهم بعضًا، وهي لا تتمّ إلا بمؤلمٍ يردعهم، ويجعل الجانيَ نكالاً وعِظةً لمن يُريد أن يفعلَ مثلَ فعله".
يُساقُ ذلك ـ أيها المسلمون ـ بعد أن ضربتِ الفتنة بكلكَلِها المظلِم، فأسفرت عن الفواجع والجرائم والدواهي والعظائم التي قطّعت الأكبادَ وبخعتِ النّفوسَ وأدرّت ماءَ الشّجون، فنحورُنا منها بدموعِنا تتخضَّب. ومِن الأسَى العميق أن كان وقودها شبابًا أغرارًا، ممّا أهاج الغيورَ إلى القول بوجوب تحصين المجتمع بالأمن الفكريّ، وفي المقام الأعلى فئة الشّباب؛ لأنّهم الصّياصي الشاهقة للأمّة وحصونُها المنيعة، ولأنّ مرحلة الشباب كما أنّها من أبهى وأزهى مراحل العُمُر فهي مِن أخطرها وأمضاها كذلك.
وممَّا يجب الاهتمامُ به وإيلاؤه أوفرَ العناية في هذه الآونة العصيبة تحصينُ مدارك الشّباب وثقافاتهم بأحكامِ الحدود الشرعيّة، كتحريم قتل النفس المعصومة وحكمِ الاعتداء على المعاهدين وأهلِ الذمّة وخطورة أمرِ التّكفير وإطلاق الأحكام جُزافًا ومفاهيم الجهادِ الشرعيّ وعدم الخلطِ بينه وبين ما يُظَنّ منه من صُوَر الإفساد في الأرض وحكمِ ترويع الآمنين وانتهاك حرماتِهم وسلب أموالهم وحكمِ المخدِّرات وشربها وتعاطيها وترويجها، حمايةً لهم ولمجتمعاتِهم وأمّتهم من أَنصاف المتعلِّمين وسهام المغرضين وشِباك الخصوم الحاقدين.
وممَّا يعين على تحصين الشّباب ويُعَدّ من القضايا الاجتماعيّة المهمّة التي تُطلُّ بهامتِها في الإجازةِ الصيفيّة وتُسهِم انحراف الشّباب وزعزعة استقرارهم النّفسيّ والاجتماعيّ ما يتعلّق بموضوع الزّواج وما أُحيط به من عقباتٍ كأداء كغلاءِ المهور والتكاليف والسّهر إلى هزيعٍ مِن الليل والإسراف والتّباهي بالمظاهر البرّاقة، مع التمسُّك بالموروثات البائِدة ممّا لا يقرّه شرع ولا يقبله عقلٌ ولا منطِق، فالزّواج بلا ريب مدعاةٌ للمسؤولية والاتّزان، وكابحٌ لعنان الشّباب النَّزِق.
كذلك صيانتُهم من صُوَر التحلّل الأخلاقيّ كالدّعة والتّرف والمُيُوعة والارتماء على قارعةِ الأرصِفة والطّرقات وذرع المقاهي والشّوارع والتسكُّع في الأسواقِ كمَهَل النّعَم دونَ أزِمّة أو خُطُم، وترك الحبل على الغارب لهم في مشاهدةِ سموم وعَفَن الفضائيّات والاطّلاع على فضائح وقبائِح شبكاتِ المعلومات دون حسيبٍ ولا رقيب، سواءٌ الفتيان والفتيات، ممّا يجب تحصينُ الشّباب منه، وغيابُ الرّقابة الأسريّة عن هذا السّلوك المشين خطأٌ كبير، بل وقتّال ربَما، والله عزّ وجلّ يقول: ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا [التحريم:6]، والمصطفى عليه الصلاة والسّلام يقول: ((كلّكم راعٍ، وكلّكم مسؤول عن رعيّته)) خرجه الشيخان من حديث ابن عمر رضي الله عنهما[4].
أمّةَ الإسلام، وبعد تشخيصِ الدّاء فإنّ وصفةَ الدواء والعلاج للجنوح الشبابيّ الفكريّ والاجتماعيّ والأخلاقيّ تصرَف عبر مؤسّسات المجتمع العلميّة والإعلاميّة كلٌّ جَهدَ طوقِه وإخلاصِه، في ظلّ الدّعوة السلفيّة المعتدِلة، والعِبء في ذلك يقع على عاتق العلماء والدّعاة ورجال التّربية والإعلام وحملةِ الفكر والأقلام، انتشالاً للجيل من حَومَة التفسّخ والضّياع، وأخذًا بحُجَزهم عن الهُويِّ في سراديب الأفكار النّشاز، وإحباطًا لخُطَط الخصوم الذين يتّخذون الأحداثَ غَرضا وهدفًا لتحقيق مآربهم المشبوهة.
وبالتّوجيه الرفيق والتّرشيد اللطيف الرّقيق وتلاحُم أفرادِ الأسرة والمجتمع مع أبنائهم وفتح قنواتِ الحوار الهادئ الهادِف وتهيئة الفُرَص الوظيفيّة لهم حمايةً لهم مِن الفراغ والبطالة وتعاونِ الجهات المسؤولة مع ذوي اليَسار ورجال الأعمال واضطلاع وسائلِ الإعلام والقنوات الفضائيّة والشبكات المعلوماتيّة بدورها التربويّ في ذلك كلِّه يتحقَّق للمجتمع ما يصبو إليه من آمن واستقرارٍ ونماء وازدهار.
فإلى كلِّ أبٍ وأمّ ومُربٍّ وداعية ومعلِّمٍ وإعلاميٍّ، اللهَ اللهَ في تحصين الجيل واحتضان النشء وحِراسة الشباب من المؤثِّرات العقديّة واللوثات الفكريّة والتجاوزات السلوكية، نشِّئوهم على الحِفاظ على دينهم وصيانةِ عقيدتهم وسلامةِ أخلاقهم، عمِّقوا فيهم مفاهيمَ الولاء لدينهم والتّلاحم من ولاتِهم وعلمائِهم، وأن يكونوا أعيُنًا ساهرةً لحِفظ أمن بلادهم، مراعين في ذلك سلامةَ أسلوب الخِطاب وتوجيهه إلى العقول والمدارك، بكلّ منطِق وموضوعيّة ووضوحٍ وشفافيّة، في طرحٍ متَّزنٍ وفِكر نيِّر ونظرٍ ثاقب ورؤًى صادِقة، بعيدًا عن تشنّجات وعواصف العواطِف وقواصِم العواصم، رائدُ الجميع ذلك الإخلاص والصفاءُ وعُمق الولاء وصِدق الانتماء، وقبل ذلك وبعدَه عونُ الله وتوفيقه وفضله وتسديده، وحينئذ يسعَد الشباب ويُسعِدون، ويصلُحون ويصلِحون، ويحقِّقون لمجتمعِهم وأمّتهم ما إليه ترنو وإليه يصبون، وسنصِل وإيّاهم إلى موردٍ من الرِّيّ لا غُصَصَ فيه بإذن الله، وصمامٍ من الأمان لا خوفَ معه بتوفيق الله.
أيّها الأحبة الأكارم، وما كان بِدعًا أن نوليَ أحبّتنا الشبابَ هذا الحديثَ الممزوجَ بالألم والأمَل، وهم نشءُ الخير وعدّة الحاضِر وبسمة المستقبَل وشَذَاه العاطر، وإنَّ أمَّةً لا تولي قضايا شبابها جُلَّ اهتمامها فما هي في الحِرز الحريز، وأمّةً لا تسعى للحنُوّ والعطفِ على شبابها فليست في الذُّرى العزيز، وبالعمَل بهذه التّوجيهات المباركة يحصَّن الشباب في إجازاتِهم من لوثات الفِكر وتبديد الزّمان، وكان الله في عون المخلصين العاملين لخير دينهم وأمّتهم ومجتمعهم، إنّه خير مسؤول وأكرم مأمول.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولكافّة المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنّه كان للأوّابين غفورًا.
[1] أخرجه الترمذي في كتاب البر والصلة، باب: ما جاء في معاشرة الناس (1987)، والدارمي في الرقاق، باب: في حسن الخلق (2791) من حديث أبي ذر رضي الله عنه، وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، ثم أخرجه عن محمود بن غيلان، عن وكيع، عن سفيان، عن حبيب بن أبي ثابت، عن ميمون بن أبي شبيب، عن معاذ به. وقال: "قال محمود: والصحيح حديث أبي ذر". وهذا الاختلاف من سفيان الثوري، فقد أخرجه أحمد في المسند (5/153) عن وكيع، عن سفيان، وقال في آخره: "قال وكيع: وقال سفيان مرة: عن معاذ، فوجدت في كتابي عن أبي ذر، وهو السماع الأول". وروي من وجه آخر مرسلاً، ورجحه الدارقطني كما في جامع العلوم والحكم (1/395). ثم قال ابن رجب: "وقد حسن الترمذي هذا الحديث، وما وقع في بعض النسخ من تصحيحه فبعيد، ولكن الحاكم خرجه وقال: صحيح على شرط الشيخين، وهو وهم من وجهين" ثم ذكرهما رحمه الله. فالحديث حسن، وقد حسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (2655، 3160).
[2] صحيح البخاري: كتاب الرقاق، باب: لا عيش إلا عيش الآخرة (6412).
[3] انظر: فيض القدير (6/288).
[4] أخرجه البخاري في الجمعة، باب: الجمعة في القرى والمدن (893)، ومسلم في الإمارة، باب: فضيلة الإمام العادل وعقوبة الجائر... (1829).
الخطبة الثانية
الحمد لله، عالمِ السرِّ والخفيّات، وفَّق من شاء إلى اغتنام الأوقاتِ في الباقيات الصّالحات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً نتضوّع بها عبيرَ الجنان الخالدات، وأشهد أنَّ نبيَّنا محمّدًا عبد الله ورسوله خير الهداة والدّعاة، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الأئمّة الثقات، وسلّم تسليمًا كثيرًا.
أمّا بعد: فاتّقوا الله عبادَ الله، وليكن منكم على بالٍ أنّ سقطاتِ الشباب وعثراتِه لا تُحمَل قطعًا على العموم والشّمول، ولا تدعو إلى فَقد الثّقة والإحباط، بل يتعيّن هنا أن نذكرَ بكثير مِن الغبطة والابتهاج أنَّ الشباب المستقيم المستمسكَ بعُرى دينه السّائرَ على صراط الهدى والاعتدال هم الأكثر بحمد الله وفضلِه، ممَّا يؤكّد عدمَ الخلط بين مفاهيم الغلوّ المذموم والحرص المشروع على الالتزام بالسّنّة باطنًا وظاهرًا. وبهذا يُسَدّ الطريق أمام المرجفين والمخذِّلين ومَن يحاولون جرَّ الأحداث إلى خِدمة مآربَ مشبوهة، وقيعةً في الصالحين وسخريّة من المتديِّنين ونيلاً من مناهجنا الشرعيّة ومؤسّساتنا الاحتسابيّة، أو المساس بثوابت الأمّة وقيَم المجتمع. ولكُم في شباب هذه الدّيار المباركة وريثِي الدّعوة الإصلاحية السلفيّة المعتدلة والتفافِهم حول علمائهم وقادتهم خيرُ برهان في خير طَرَز وشامَة ومنظومة متألّقة في رغدٍ وعلوّ هامَة، منّةً من الله وفضلاً، وعند أهل الحديث: "الشاذّ يُحفَظ ولا يُقاس عليه".
أيّها المسلمون والأولياء، وجِّهوا الشبابَ إلى ميادين المجد والرّفعة، واعلموا جميعًا أنَّ الأصل في حياة المسلم الجدّ والحزم، ولا بأسَ بالترفيه المشروع والترويح المُباح في حدود الضّوابط الشرعيّة، ليعلمَ النّاس أنّ في ديننا فسحةً بحمد الله.
وممَّا يحسُن الإيصاء به تحذيرُ الأبناء من السّفر خارجَ هذه الجزيرة الفيحاء وديار الإسلام الشمَّاء التي حباها الباري جلّ في علاه بكلّ ما ترنو إليه النفوس من جمالِ الطبيعة الفتّان ومنتجعات الاصطياف العفيف، وأطرُهُم على ذلك أطرًا.
كذلك حثُّهم على تحصيل العلوم والمعارفِ والالتحاق بالدّروس العلميّة والدورات الشرعيّة والمراكز الصيفيّة التي يقوم عليها نخبةٌ وكوكبة من أهل الخير والصلاح، والاشتغال بحفظ كتابِ الله والسّنّة النبويّة العطرة، وثنيُهم إلى الانكباب على المطالعة الحرّة في كتُب السّيَر والتاريخ والآداب وغيرها، ونِعمَ الجليس والأنيس الكتاب، قيدُ الحِكَم وينبُوع المكارم، مع تشجيع ملكاتِهم وتنمية قدراتِهم وشغلِ طموحاتهم والسّعي في كلِّ ما مِن شأنه شغل أوقاتهم وإذكاء مواهبهم وطاقاتهم التي تعودُ عليهم وعلى مجتمعِهم بالنّفع والفائدة.
أيّها المسلمون، وممّا تتهلّل له سُبُحات وجوهِ المؤمنين أن يسّر الله سبحانه لكثير مِن المسلمين جعلَ زيارة الحرمَين الشريفين في أولوياتِ برامجهم الصيفيّة، وهذه منّةً عظمى، غيرَ أنّ ثمّة ملحظًا مهمًّا لزوّار المسجدِ الحرام في حثّهم على تعظيم هذا الحرَم المقدّس وهذه العرصات المباركة، والحفاظ على أمنِها واستقرارها، ولزوم السّكينة والآداب فيها، والمحافظة على طهارتها الحسيّة والمعنويّة، وتنزيهها عن كلّ المخالفات.
ونخصّ الأخواتِ المسلمات بلزوم الحجابِ الشرعيّ السابغ، واجتناب الطّيب والتبرّج بالزّينة، وامتثال الحياء والاحتشام، لتكونَ مأجورةً غير مأزورة، والله وحده وليّ التوفيق والسّداد.
هذا، واعلموا ـ رحمكم الله ـ أنّ أغضَّ الكلام على التّكرار لفظًا وأنفعَه وعظًا كلامُ مَن أنزل القرآن وتولاّه من التحريف حِفظا، القائل في محكَم قيله وأصدق تنزيله: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىّ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمَّ صلّ وسلِّم وبارك على سيِّد الأوّلين والآخرين، وخاتم الأنبياء والمرسلين نبيّنا محمّد بن عبد الله، وعلى آله الطيّبين الطاهرين وصحابته الغرِّ الميامين وأزواجِه الطاهرات أمّهات المؤمنين، والتّابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين...
ــــــــــــــــــــ(67/187)