بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله, والصلاة والسلام على رسول الله نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
فإن للكتابة والتأليف _على وجه العموم_ لذةً أي لذة.
كما أن في ذلك مشقة، ومعاناة، وكلفة؛ إذ القريحة لا تواتيك على كل حال؛ فتارة تتوارد عليك الأفكار، وتتزاحم لديك الخواطر، فتسمو إليك سُمُوَّ النَّفَس، وتهجم عليك هجومَ الليل إذا يغشى.
وتارة يتبلد إحساسُك، وتجمدُ قريحتك، ويكون انتزاعُ الفكرةِ أشدَّ عليك من قلع الضرس _كما يقول الفرزدق_.
وبين هذا وذاك برازخُ ومراحلُ.
ولما كان الأمر كذلك رأيت أنني أمام أحد أمرين: إما أن أُؤَلِّف كتباً، وأحتاج معها إلى معاناة، ونصب، وعزو، وتخريج، وما جرى مجرى ذلك.
أو أن أعطي القلم إجازةً مفتوحةً، فيخلدَ إلى الراحة، والدعة، ويُسْلِمَ قِيادَهُ إلى نومة كهفية.
ثم رأيت بعد ذلك أن أسلك طريقاً وسطاً؛ فآخذ في بعض الأحيان بطريقة تدوين بعض الخواطر، والكتابة في بعض الموضوعات التي لا تحتاج إلى طولِ نَفَسٍ، وكثرةِ تَشَعُّبٍ؛ ومعاناة عَزْوٍ؛ فاجتمع من جَرَّاء ذلك سوادٌ لا بأس به مما دُوِّن في فترات متباعدة؛ فكان هذا المجموع.
ولا ريب أن هذه الطريقة سهلة الهضم، قريبة التناول على الكاتب والقارئ.
ولقد كان كثير من العلماء والكتاب القدامى والمحدثين يأخذ بهذه الطريقة كما في صنيع ابن حزم في الأخلاق والسير، وابن عقيل في الفنون، وابن الجوزي في صيد الخاطر، وابن القيم في الفوائد، وعبدالوهاب عزام في الشوارد، ومحمد كُرْد علي في المذكرات، وغيرهم كثير.
وفي الغرب تَرَكَ كثيرٌ من الكتاب، والأدباء مدوَّناتٍ من هذا القبيل تحمل أسماءً مختلفة، مثل خواطر، ومذكرات، ونحو ذلك؛ مما يُقَيِّدُ ما يعلق بالذاكرة من انطباعات، ونظرات، وارتسامات.(1/1)
ولقد غدا ذلك النوع من الكتابة أدباً عالمياً مرموقاً في مختلف اللغات يُتهافت على قراءته؛ للتمتع بما يتضمنه من أفكار ناضجة، أو بيان رائع، أو تجارب نافعة.
ثم إن ما يحويه هذا الكتاب لا يسير على نمط معيَّنٍ من حيث الفكرة، أو الطول أو القصر؛ فتارة يكون خاطرة في سطر أو أقل أو أكثر، وتارة يكون عنواناً وتحته أسطر في صفحة أو أقل، وتارة في عدد من الصفحات، وهكذا...
وقد تكون الخاطرة ناتجة عن تأمل في آية، أو وقفة مع حديث، أو أخذ العبرة من حادثةٍ تاريخية، أو مثلٍ سائر، أو بيت شعر شارد، أو موقفٍ من المواقف العامة أو الخاصة، أو نظر في أحوال الناس، ومجريات الحياة، وهلم جرا.
وقد يُشار إلى فكرةٍ، أو خاطرةٍ إشارةً مقتضبة، ثم تُفَصَّل في موضع آخر، والعكس.
ثم إن الإنسان قد يكتب فكرة, أو تجول في باله خاطرة؛ فيظن أنه أبو عُذْرَتها(1) فما يلبث حتى يقف على من سبقه إليها؛ فكم من كلام تنشئه فترى أنه سبقك إليه متكلم, وكم من فهم تستظهره وقد تقدمك إليه متفهم, وقديماً قال عنترة:
هل غادر الشعراء من متردَّم(2)
وهذه الخواطر كُتبت في أحوال متنوعة؛ فبعضها كُتب في السفر، وبعضها في الحضر، وبعضها في الليل، وبعضها في النهار، وبعضها في الشتاء، وبعضها في الصيف؛ حيث اقترح بعض الإخوة أن تمر عليها فصول السنة؛ حتى تختمر، ويزداد نضجها.
وكم تمنيت أن أضع أمام كل خاطرة تاريخها، وساعة كتابتها، ولكن لم يكن في الحسبان _ابتداءً_ أنها ستخرج في كتاب.
وعلى كل حال فقد كُتبت هذه الخواطر ما بين عام 1417هـ إلى عام 1428هـ، وأكثرها ما بين 1426هـ إلى 1428هـ.
ولا يسعني وأنا أضع يدي عن شباة القلم إلا أن أُزجي الشكر والدعاء لكل من أعان على إخراج هذه الخواطر كتابة، وتصحيحاً، ومراجعة.
__________
(1) 1_ أبو عذرة: تطلق هذه العبارة على منشىء الشيء, ومخترعه, ومبتدعه.
(2) _ انظر تفسير التحرير والتنوير لابن عاشور1/7_8(1/2)
فإلى محتويات الكتاب، والله المستعان، وعليه التكلان.
محمد بن إبراهيم الحمد
الزلفي: ص.ب: 460
3/7/1428هـ
جامعة القصيم _كلية الشريعة وأصول الدين
قسم العقيدة
www.toislam.net
alhamad@toislam.net
1_ قد يكون الذمُّ منصباً على موقعك لا على شخصك.
2_ النارُ تَضْطَرمُ في الحشا؛ فإمَّا أنْ تُخْرِجَ طعاماً ناضجاً، وشراباً سائغاً، وإما أنْ تدفع نَيِّئاً، أو محترقاً أو حميماً.
3_ تتفاوت أقدار الرجال بقدر كَبْح الجِماح، ومخالفةِ الهوى.
4_ لا تبالغْ في إساءة الظن، وتضخيمِ حجمِ المشكلة، فلن تستفيدَ من ذلك، بل أنت مشارك في الخسارة.
5_ لا تُغْلِقِ البابَ أمام مَنْ له عندك بقيّةٌ مِنْ مودة.
6_ بادرْ ولا تعجلْ.
7_ إذا اختلف الناس في أمرٍ ما، أو قضية معيَّنة فلا تذكرْ رأيك عند مَنْ لم تتأكد مِنْ موقفه؛ فربما ذكرت ذلك؛ فصرت غرضاً مِنْ حيثُ لم تحتسب.
8_ لا يهولنّك أمرُ المفسد؛ فعاقبته إلى خسار؛ لأن الله لا يصلح عمل المفسدين.
9_ إذا غضبت فلا تتكلم, ولا تُشِرْ برأي، لأنّ صفحة عقلك قد تشوَّشت، فإذا صفا ماؤك أَرَتْك مرآةُ عقلِكَ الأمورَ على حقيقتها.
10_ إذا كنت متعباً فلا تأخذ كلَّ ما يَرِدُ على خاطرك بالقبول،لأنّ تَعَبَ البدنِ يصحبه تعبُ الهمّةِ والتفكير.
11_ في الناس أطفالٌ كبار، وفيهم كبار أطفال.
12_ لا تَلُمْ مَنْ إذا كنت مكانه عملت عمله.
13_ لن تندم على الحلم وضبط النفس، وإنما تندم على الطيش، والعجلة، والخُرْق.
14_ ليست المشكلةُ أنْ يساء إليك، وإنما كيف تستقبل الإساءة: ...
ما الخَطْبُ أنْ يلقاك ذو ... سفهٍ بقولٍ مقذع
كلُّ الأنامِ معرضٌ ... للجهل من وغد دعي
لكنّما الشهم الأَبـ ... ـيُّ كأنه لم يسمع
أَكْرِمْ به أعْظِمْ به ... ذاك الشجاعُ الألمعي
15_ رَدُّ النصيحةِ، والزرايةُ بالناصح دليلُ حمقٍ،وداعيةٌ إلى التمادي في الخطأ.
16_ اعترفْ بالخطأ إذا أخطأت، واقبلِ النصحَ إذا توجّه إليك_ يرتفعْ قدرك، وتقلَّ أخطاؤك.(1/3)
17_ افزع إلى الدعاء تُفتحْ لك الأبواب، وتزُلْ عنك الحيرةُ والاضطراب:
والجأ لسيدك الذي لا تأتلي ... أبداً بفيض حنانه تتمتّع
أو ليس ما تشكوه بعضَ قضائه ... فعلامَ تجزع للقضاء وتهلع
18_ النظرُ في العواقب يقود الحازم إلى الإقدام أو الإحجام.
19_ الناسُ منهم ظالمٌ لنفسه، ومنهم مقتصد، ومنهم سابق بالخيرات؛ فلا تبالغ في تطلب الكمال، فمن ذا الذي.....؟ وأي الرجال......؟
20_ ابذر الصالحات، وقم بالأعمال الزاكيات، ولا تستبطئ النتيجة؛ فالعمل الصالح يؤتي أكله بإذن ربّه.
21_ لا تَفْقِدْ ثقتك بنفسك إذا لم يُعرف قدرك، ولا تُعط نفسك فوق قدرها إذا بُولغ في مدحك.
22_ افرح بالنقد الهادف فَرَحَك بالثناء الصادق.
23_ الأعمال العظيمة، والمساعي الحميدة، والأخلاق الفاضلة _ تدافع عن صاحبها، وتنفي ما يُلصق به من ذمّ.
24_ الناس يحبون العظيم، ويتعشقون العظائم، ولكن قلّ من يقتدي بالعظيم، ويسعى للعظائم.
25_ العظيم يتواضع، ومَنْ حوله يتكبرون؛ فلماذا لا يقبسون من فضله، ويسيرون على نوله؟!
26_ عامل المسيء بما أنت أهله ، لا بما هو أهله، حينئذٍ تكسب الودَّ، وتستولي على الأمد.
27_ إذا أتقنت العمل، وأحسنت المعاملة، وأخلصت النيّة_ فلا تبالِ بالنقد الظالم؛ فالعيب في الناقد، وليس فيك.
28_ إذا امتلأ القلب من محبّة اللّه، وخوفه، ورجائه لم يعد فيه شاغرةٌ لمحبة غيره، أو خوفه أو رجائه، وإذا أخلص العبد عبوديته لربّه تحرر مِنْ عبودية مَنْ سواه.
29_ إذا أيقنت أن الجدال لن يأتي بنتيجة فأقْصِرْ عنه.
30_ خذ قسطاً من الراحة قبل أنْ يبلغ بك الإعياء مبلغه.
31_ إذا ادْلَهمَّت المصيبة فانتظر فَرَجَها؛ فإن مع العسر يسراً، إن مع العسر يسراً، ولن يغلب عسرٌ يسرين.
32_ لا يعظم عليك بخل الناس:
فليكن في الناس بخل إنني ... لست مّمن يشتكي بخل الورى(1/4)
33_ لا تظهر أخلاق المرء في تعامله مع الأكابر، فقد يكون مضطراً لذلك أو متصنعاً، وإنما يظهر فضله في تعامله مع منْ دونه، فهنالك يتَبيَّن نبلُهُ، و استواءُ طرائقه.
34_ إنما كبر العظيم في عينك بسبب نزوله إليك، ولن تعظم في عين من دونك إلاّ بنزولك إليه.
35_ جميلٌ أنْ تعتذر إذا أخطأت، وأجملُ من ذلك ألا تقع في ما يوجب الاعتذار؛ فإياك وما يُعتذر منه.
36_ كن سليم الصدر ولا تكن ساذجاً.
(العشر الأواخر من رمضان عام 1417هـ)
1_ لا بد من حل للمشكلة إذا كان هناك رغبة جادة في حلها من جميع الأطراف.
2_ من الناس من يمن عليك إذا ترك أذاك.
3_ قلت لصاحبي: انظر إلى الربيع حول جدار المقبرة، فقال لي: ولكن انظر إلى ما بعد الربيع!
4_ تبصر الحق من بعيد، فإذا دخلت المعمعة تغبّش منظارُك.
5_ طريق القمة واسع فلماذا نضيِّقه بالحسد.
6_ هذا يوقد نار الفتنة، وذاك يبذل ماله ودمه لإطفائها، وهذا يتفانى في الفساد والإفساد، وذاك يحترق لإنارة الطريق وتبصير العُمي؛ فكل يعمل على شاكلته،وقد علم كل أناس مشربهم.
ونفاسة الأشياء في غاياتها ... فاحمد رماءك إن أصبت نفيسا
7_ نتفق في الأكثر الأهم، ونختلف في القليل مما لا يضر معه الخلاف، ومع ذلك نُؤْثِرُ التدابر على التآخي؛ فتتسع الفجوة، وتزيد الجفوة.
8_ إذا كثرت البَطالة دب الخلاف.
9_ إذا رأيت الرجل أول وهلة ملأ إحدى عينيك ،فإذا تكلم ملأ الثانية ،أو سقط من الأولى؛ لسان الفتى نصف....
10_ ابدأ وستصل بعون الله.
11_ يستنكفون من إعارة المتاع للأمين الثقة، ويعيرون عقولهم للحمقى، والجهال، والدجالين، والمفسدين.
12_ الزرع يهيج، فتراه مصفراً، ثم يكون حطاماً، والإنسان يشب عن الطوق وتصلب قناته، ثم يبدأ بالضعف والهزال، ويرد إلى أرذل العمر.
وكذلك المصيبة تبدأ كبيرة، ثم تصغر شيئاً فشيئاً، والناس يهيجون في الشر، ثم يملون ويقصرون؛ فلا تستبطئ الفرج، ولا تعتقد أن الشر ضربة لازب.(1/5)
13_ إذا اشتد الكرب قَرُب الفَرَج؛ فبزوغ الفجر يسبق باشتداد حُلْكة الظلام.
وراءَ مضيقِ الخوفِ مُتَّسعُ الأمن ... وأولُ مفروحٍ به غايةُ الحزنِ
فلا تيأسنْ فالله مَلَّك يوسفاً ... خزائنَه بعد الخلاص من السجن
14_ هاج في جسده داء الحساسية، فترك حَكّها مع شدة توقانه لذلك؛ فما لبثت أن سكنت؛ فأيقن أن النارَ تُذكى بالعُودين.
15_ ليس ضرورياً أن يكون لك رأي في كل مسألة، وإذا كان لك رأي فليس ضرورياً أن تبديه، وإذا كان لابد من إبدائه فليس ضرورياً أن تبديه لكل أحد، أو أن تفصل فيه.
16_ قد يكون لمجموعة ما موقف ضدك؛ فإذا بحثت عن خصم منهم ربما لا تجده؛ فلا تَحْفَلْ بذاك الموقف؛ فالقضية ضد مجهول.
17_ لا بأس أن تكون مقلداً في الحب، أما في البغض فلا يحسن بك إلا أن تكون مجتهداً مطلقاً.
(العشر الأواخر من رمضان عام 1418هـ)
1_ للّه كم في هذا الدعاء من معاني العزة: =اللهم اجعلني أغنى خلقك بك،وأفقر خلقك إليك+.
2_ للّه هذا الدعاء: كم جمع من الفضائل؟ بل ماذا ترك منها؟ =اللهم إني أسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى+.
4_ ما أجمل أنْ تكون في منازعات الإخوان كالماء الذي يطفئ النار، لا الوقود الذي يسعرها، ويذكي أوارها .
5_ ليس لعتابك معنىً إذا كان عند كل صغيرة وكبيرة.
6_ من ارتفع على أكتاف الآخرين دون فضيلة يسمو بها كان على شفا جرفٍ هارٍ، فيوشك أن ينهار به.
7_ فلان يولي الجميل، ويسدي الإحسان، يبذل الندى، ويكف الأذى، ويحتمل الأذى؛ كيف تريد أنْ تصل إلى مرتقاه، وأنت لم تُكَلّفْ نفسَك أدنى معاناة؟!
8_ لك معيارك الخاص؛ فلماذا تقيس بمعيار غيرك؟! خصوصاً إذا لم يكن دقيقاً منضبطاً.
9_ سقط فلان من عينك بمجرد قَدْحِ شخص فيه مع أنك أعرف بالمقدوح فيه من القادح؛ كيف تلغي عقلك؟!
10_ هَجَرك بلا سبب؛ لا تتغير عليه؛ سيرضى بلا سبب.(1/6)
11_ أناس كالهواء العليل تحيا بهم الروح، ويشفى بهم العليل، وأناس كالعِثْيَر المشوم، تُحْرِقُك نارُهم،أو يصيبك غبارُهم،أو كالريح العقيم ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم.
12_ ليس الشأن بأنْ تأنس بأحد، الشأن أن يأنس بك كل أحد.
13_ كل له كيانه الخاص، وله شأنٌ عند نفسه؛ فلا تقصّر في حقه، ولا تصدع قناة عزّته.
14_ الذوق يُدْرَك، وقد لا يعبّر عنه، و لا يقاس عليه.
15_ لا تبالغ في القلق ممّا لا بد منه.
16_ حاول، ولا تيأس.
17_ ألذُّ ما في الأنس: ترقُّبُهُ وذكرياته.
18_ هذا منتهى توقيره وذوقه، وإن لم يقع منك موقع القبول؛فهذا دأبه حتى مع من يُحِبُّ ويُجِلُّ؛خُذْه على عِلاته.
19_ نأنس بمن يفارقنا أو نفارقه؛ أفلا نأنس بمن لا يفارقنا طرفة عين؟!
20_ تنزل المصيبة؛ فحيث وافقت محلاًّ قابلاً جثمت واستقرّت، وإلا ترحّلت ووَدَّعت أو ضعفت.
21_ لا تفقدْك المصيبةُ توازُنَك.
22_ لا تظهرِ الجزع أمام من تحت يدك،أو من يقتدي بك،اصبر يكونوا بك صابرين.
23_ شدَّةُ معاتبةِ الجاهلِ إذا قصّرتَ في حقّه دليل على صدق محبته لك.
24_ تريَّثْ في عتاب أو عقاب من أخطأ في حقك، وفي شأن من بلغك أنه أساء إليك _ تجد النتائج مذهلة.
25_ كن رسمياً مع بعض الناس.
26_ احْمِلْ مِجنَّك إذا لقيت السفهاء؛ لأنك لا تأمنُ رَشْقَ نِبالهم.
27_ لا تخشَ على الحق؛ ليكن همُّك أن تكون من أهله.
28_ سفينةُ نوحٍ تسير بأمان؛ فهل أنت من ركابها؟
29_ الحق واضح، وقد يكون ثقيلاً،إلا أنه مريءٌ حميدُ العاقبة، والباطل خفيف إلا أنه وبيل وبيء العاقبة.
30_ العبرة بالآثار والنتائج.
31_ إذا أعياك الدخول من باب العقل فادخل من باب العاطفة.
32_ لا تقارنْ بين من تصاحبه كثيراً،وبين من لا تراه إلا لماماً؛ فلو صاحبت الأخير لربما ترجحت كفة الأول عندك.
33_ قد يكون الممكن مستحيلاً إذا سوَّفت، وقد يكون المستحيل ممكناً إذا بادرت.(1/7)
34_ بعض الناس يظن أنه يأتي لعلاجك وهو مريض؛ فلا تلبث أن تسري عدواه إليك.
35_ المروءات تظهر في الأزمات.
36_ المجلس الطيب هو الذي تقوم منه منبعثاً إلى المعالي والمكارم.
37_ الكتاب النافع هو الذي يدنيك من خالقك، ويرفع من همتك، ويملأ عقلك علماً وحكمة، وقلبك عدلاً ورحمة.
38_ قد يصبر الإنسان مدةً طويلة جداً في انتظار أمر من الأمور، ولكن قد ينفد صبره في انتظار لمدة دقيقة أو أقل عند إشارة المرور، أو صرافة البنك، أو في انتظار صديق, وما جرى مجرى ذلك.
39_ فرقٌ كبيرٌ بين السرعة في إنجاز الأعمال مع الضبط والإتقان وبين العجلة التي تتسبب في الخطأ والإخلال؛ فالأولى معدودة في قبيل الحزم والفضائل، والثانية داخلة في باب التفريط والرذائل.
40_ ليس من شرط الصراحةِ الصفاقةُ، ولا من شرط اللطافةِ النفاقُ،؛ إذ قد يكون المرءُ صريحاً لطيفاً في حدود اللباقة واللياقة بعيداً عن الإسفاف والنفاق والصفاقة.
(العشر الأواخر من رمضان عام 1419هـ)
وقفت كثيراً عند هذه الآية الكريمة، فوجدت أنها بلسم نافع لكثير من المشكلات, ودواء ناجع لعديد من المعضلات.
وذلك أن كثيراً من الناس يروم الإصلاح, ويسعى لدرك النجاح سواء في شأنه الخاص، أو شأن غيره ممن حوله,أو شأن أمته جمعاء.
فتراه يمحضُ نصحه, ويبذل قصارى جهده، ويقدم عصارة فكره في سبيل إرشاد غاوٍ,أو دلالة حائر ,أو الارتقاء بمقصر، وهلم جرا.
فإذا لم يظفر ببغيته, ولم تحصل له طَلِبَتُه _ قَرَع سِنَّه, وقلَّب كفيه .
وترى من الناس من يعاني الأَمَرَّينِ من أُناس لا بد له من معاشرتهم ومداراتهم, فقد يبتلى بوالد شرس, أو رئيس متسلط, أو ولد عاق, أو أخ قاطع,أو تلميذ كسول أو شقي؛ فيحاول إصلاحهم, والنهوض بهم مرة إثر أُخرى, فإذا لم تأتِ الأحوال على ما يريد زادت حسراته, وتوالت أحزانه؛ فكان هو والزمان على نفسه.(1/8)
وربما استشار غيره ممن له دراية وعلم في هذه الشؤون, فأشاروا عليه بأن يأخذ بالأسباب, ويلج البيوت من الأبواب, فيجيبهم بأنه لم يدع سبيلاً إلا سلكه, ولا باباً إلا ولجه ومع ذلك لم يحصل على مراده بزعمه.
ولا يقف الأمر عند مجرد اجترار الأحزان والحسرات، بل قد يترتب على ذلك فوات خيرات كثيرة، وأبواب من البر متنوعة؛ حيث أشغل نفسه، وشتَّتَ قلبه، وأضاع وقته بما لا طائل تحته.
فما الحل في مثل هذه الأحوالِ وغيرِها مما يقاس عليها؟
هل يقف الإنسان واجماً أمامها؟ وهل يسترسل مع أحزانه إزاءها؟
الجواب: لا,والحل بأن يستحضر أنه محسن في عمله, مثاب على قدر احتسابه, وما عليه بعد ذلك إلا أن يستمر في صنيعه, ويمضي في مصالحه؛ فإذا قمت بما يجب عليك, وسلكت سبيل الحكمة في نصحك,وبذلت جهدك ومستطاعك, ثم أعيتك الحيلة في الوصول إلى مرادك [فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ] و [وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ*إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ].
يَرِدُ كثيراً آثارٌ عن السلف الصالح _ رضوان الله عليهم _ ويُروى عنهم كلمات في مناسبات؛ فهم يطلقونها _أحياناً_ عفو الخاطر, وعلى السجية, ومع ذلك تأتي حاملة في طياتها عُمْقاً وعبراً مع اختصارها وقصرها.
وما ذلك إلا أثر من آثار الاتباع الصحيح, وقرب العهد, وحسن التلقي من مشكاة النبوة.
وقلَّ أن تجد كتاباً من كتب السير إلا وقد خلَّد لأولئك السَّراة كلماتٍ خالدةً يتردد صداها إلى يومنا هذا.
ومن الناس من لا يحسن التعامل مع تلك الآثار؛ إذ منهم من يخالها بمنزلة النصوص الشرعية التي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها.
ومنهم مَنْ لا يعتدُّ بها, ولا يقدرها قدرها؛ فيفوته خير كثير, وتجارب نافعة.(1/9)
ومنهم مَنْ يسير بها على وَفْق طبيعته؛ فقد يكون ذا شدة وصرامة وإفراط في الحزم؛ فتراه يأخذ منها بحسب ما يوافق هواه, وما جبل عليه؛ فيجعلها مستنداً لِمَا هو بصدده.
ومنهم من هو متساهل مُفَرِّط مُغَلِّبٌ جانبَ اللين في شتى أموره؛ فتراه يجر تلك الآثار لما هو ملائم لطبيعته جراً, وهكذا...
ولعل الأنسب في التعامل مع تلك الآثار أن تؤخذ بمجموعها وإطارها العام؛ فيكون من جرَّاء ذلك منهج متكامل معتدل.
ولقد تواطأت وصايا السلف , وتتابعت كلماتهم في أمور يمكن أن يستخلص منها المنهج العام الواضح الذي يمكن الأخذُ به, والسير على منواله مما هو محل اتفاق, وإجماع, ومن ذلك ما يلي:
1_ آثار تحث على تعظيم الشريعة, واتباع السنة, والتحذير من البدعة.
2_ آثار تحث على الإخلاص لله, والمتابعة لرسوله ".
3_ آثار تحث على مكارم الأخلاق, وتنهى عن سفسافها, ومرذولها.
4_ آثار تحث على العزة والقناعة, وتحذر من الذلة والمهانة والشَّرَه.
5_ آثار تدعو إلى حسن السيرة, وصفاء السريرة, ومراقبة الخلوات.
6_ آثار تحذر من الكسل وطول الأمل, والاغترار بالدنيا, وتدعو إلى التشمير والاستعداد للرحيل.
7_ آثار جرت مجرى الحكمة, والأمثال السائرة كالتي تنتج عن تجربة, وحسن نظر في مجاري الحياة، وتقلبات الأحوال كالنظر في العواقب, وحسن التدبير للمال, وكيفية التعامل مع الناس على اختلاف طبقاتهم، وما جرى مجرى ذلك.
فما كان من هذا القبيل فهو محل القدوة, والاتفاق.
أما بعض الاجتهادات الواردة عن السلف مما قد يظهر فيها مخالفة لنص, أو ما قد يلائم وقتاً دون وقت, أو ما قد ينزل على أشخاص دون أشخاص,أو ما كان مجملاً محتملاً _ فإن ذلك يحتاج إلى نظر في صحة نسبته, فإذا صح فإنه يحتاج إلى تأويل سائغ, وإلى أن يُخَرَّج تخريجاً ملائماً.
وإذا لم يمكن ذلك عُدَّ اجتهاداً خاصاً بصاحبه, ولا يلزم قبوله والأخذ به على كل حال.(1/10)
كيف وقد تواطأت وصاياهم _ رحمهم الله _ على أن كُلاً يؤ خذ من قوله ويرد إلا النبي".
وبذلك يحفظ للقوم أقدارهم, وتُنَزَّل آثارُهم على أحسن المنازل, وأنفعها بلا وكس ولا شطط.
يذكر أن مريضاً نفسياً كان يتوهم أنه حَبَّةٌ؛ فإذا مرَّ به دجاجٌ فَرَّ منها؛ خشية أن تعدو عليه, وتأكله.
فلما رأى حالَه بعضُ محبيه ذهب به إلى طبيب نفسي؛ فشرح هذا المريض للطبيب مشكلته, وبعد جُهْدٍ ولأْيٍ أقنعه الطبيب بأنه إنسان سوي.
ولما هم المريضُ بالانصراف قال: أنا _أيها الطبيب_ اقتنعتُ بأنني إنسانٌ لا حَبَّةٌ, ولكن من يقنع الدجاج بذلك؟
هذه الحكاية تذكرك بأناس عقلاء أسوياء ذوي أخلاق كريمة, ونفوس مطمئنة؛ ولكنهم يُبْتَلون بأناس شرسين سيِّئي الظن؛ فإذا عاملهم العاقل السوي, المهذب الراقي بما تقتضيه طبيعته الطيبة ظنوا ذلك منه سذاجة أو بلاهة, وربما ظنوه تملقاً ومكراً, ومكايدة؛ فلهذا تراه يحار, ويقول: إنني على خطأ, وإن القوم ربما استضعفوني؛ فلا أريد أن يَشْمَتَ بي الأعداء, ويجعلوني سُبَّةً.
فتقول له:أنت اليد العليا, وأنت المحسن, وأنت الكريم.
فيقول لك: إذاً فمن يقنع هؤلاء بسلامة مقصدي, وطهارة سريرتي؛ فَدَعْنِي وشأني؛ فَسأُغَيِّرُ طباعي, وألبس لهم لَبُوسَهم متمثلاً بقول أبي العلاء:
ولما رأيت الجهل في الناس فاشياً ... تجاهلت حتى ظُنَّ أني جاهل
وبَعْدُ فهذه الحالة تعتري كثيراً من النفوس؛ فتهبط بها عن عليائها, ويصبح الناس بسببها قطعاناً من الذئاب الضارية؛ فلا مروءة, ولا تذمم, ولا رعاية, ولا تكرم.
فحق على الكريم العاقل أن يعتصم بالفضيلة, وألا يثنيه عنها جهل جاهل, أو تنكر حاسد.
وإذا اعترضتك مثل هذه الأحوال فاحتفظ بألمعيتك, وطهارة قلبك ومنطقك.(1/11)
وإذا لم يُعْرَفْ قدْرُك فيكفيك عِلْمُ الله بك, ولن تعدم مَنْ يقدرون المكارم قدرها؛ فـ [خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ] واستحضر أنك بإِحسانك إلى الناس, وإساءتهم إليك _ أنك كَمَنْ يُسِفُّهم الملَّ, ولا يزال معك من الله ظهير .
قد يكون للمرء مال وفير, وولد كثير.
وقد يكون ذا رئاسة, وتحته من يأتمر بأمره, وينتهي عن نهيه.
وقد يكون لديه ممتلكات من مزارع وعقارات، وأموال.
وقد يكون ذا علم, ولديه طلبة يتقلدون رأيه, ويصدرون عن قوله.
وقد يكون له أولاد وعشيرة يلبون رغباته، ويدفعون عنه السوء.
ولا ريب أن ذلك من النعم التي يستوجب شكرها, ويُسْتَنْكر كُنودُها.
ولكن يحسن بمن كانت هذه حاله ألا يركن إلى ما تحت يده, ويجدر به أن يوطن نفسه على ذهابه وزواله؛ ذلك أن هذه الأشياء التي تكون طوع يمينه وشماله, والتي يظن أنها سبيل سعادته _ قد تكون سبب شقاوته, وقد يتعلق بها؛ فَتَسترِقُّه, وتذله؛ فيكون أسيراً لها, مكبلاً في أغلالها؛ لأنه يُرى في الظاهر أنه هو السيد, وهو المالك بينما الحقيقة تقول غير ذلك؛ إذ هو المَسُودُ المملوك من جهة أنه لا يستطيع الاستغناء عن هذه الأشياء؛ فيكون فيه وجهُ عبوديةٍ لها من هذه الناحية.
ولهذا قال النبي"في الحديث الذي رواه مسلم: =ليس الغنى عن كثرة العَرَض, وإنما الغنى غنى القلب+.
وجاء في حكمة الحكيم اليوناني ديوجونيس الكلبي قوله: =ليس الغنى بكثرة ما تملك إنما الغنى بكثرة ما تستغني عنه+.
ولله در الإمام الشافعي إذ يقول:
رأيت القناعة كنز الغنى ... فصرت بأذيالها ممتسك
فلا ذا يراني على بابه ... ولا ذا يراني به منهمك
وصرت غنياً بلا درهم ... أمرُّ على الناس شبه الملك
ولله در أبي فراس إذ يقول:
إن الغنيَّ هو الغنيُّ بذاته ... وَلَوَ آنَّه عاري المناكب حافي
ما كل ما فوق البسيطة كافياً ... فإذا قنعت فكل شيءٍ كافي(1/12)
ولا سبيل إلى الوصول إلى هذا السر إلا بتجريد التوحيد لمن بيده ملكوت كل شيء؛ فذلك هو سر السعادة، وسبيل العزة، وطريق الحرية الأعظم.
كنت أقرأ بيت أبي تمام الذي يقول فيه:
من لم يُقَدْ فيطيرَ في خيشومه ... رهجُ الخميسِ فلن يقود خميسا
ولم أكن أفهم معناه, أو أدرك مرماه.
ثم بدا لي فيما بعد أن هذا البيت يحتوي على حكمة رائعة لا تُسْتَغْرَبُ على أبي تمام.
وفحوى هذا البيت أن من لم تقُدْه الرجال لا يمكن أن يقود الرجال.
فمن أعظم مقومات القائد المُحنَّك,والمربي الفاضل أن يكون قَدْ مَرَّ في مرحلةٍ يكون فيها مقوداً مأموراً مَسُوداً؛ فإذا مرَّ بهذه المرحلة استفاد مِنْ سَلَفِه, ووقف على وجه الصواب, وتعلَّم مُدارَاة الناس, وعلم كيف يأمر, وكيف ينهى.
بخلاف من جاء إلى القيادة دون مرور بهذه المرحلة؛ فإِنه قد يخفق, وقد يخاطر بمن تحت يده, وقد يفسد أكثر مما يصلح.
وإذا أردت ما يثبت فؤادك في هذا المعنى فانظر في سيرة الخلفاء الراشدين _رضي الله عنهم_ فلقد تربوا في ظل مدرسة النبوة, وأفادوا منها أيما فائدة, فساسوا الأمة خير سياسة, وقادوها إلى برالأمان، وأعلى مراتب المَجَادة.
وانظر في سيرة أمير المؤمنين معاوية ÷حيث أفاد ممن قبله, وتعلم حسن الطاعة لمن قد سبقه؛ فجمع الله عليه قلوب المهاجرين والأنصار, وصارت سيرته وحلمه مثلاً يحتذى, ونهجاً يقتفى.
وقل مثل ذلك في الخليفة الراشد أمير المؤمنين عمر بن عبدالعزيز×.
وإذا قطعت مراحل من التاريخ وأتيت على سيرة ليث الإسلام نور الدين محمود رأيت هذا المعنى واضحاً جلياً؛ فقد تربى في كنف والده عماد الدين زنكي, وأمر عمر بن حفص _المعروف بابن الملاء_ أن يكتب له سيرة عمر ابن عبدالعزيز ليقتفي أثره؛ فكان منه ما كان.
وقل مثل ذلك في شأن تلميذه صلاح الدين الأيوبي _ رحم الله الجميع _.
وقل مثل ذلك في سيرة المربين ممن تربوا تحت كنف العلماء الفضلاء,أو الآباء الحكماء.(1/13)
ربما يظن بعض الناس أن شدة العتاب تُقْصِر المقُصِّر عن تفريطه, وترجع الغاوي إلى رشده.
ولكن ضرر ذلك قد يكون أكثر من نفعه؛ إذ إن هذا الصنيع قد يقود المعاتَبَ الى التمادي في الغي, أو الاستخفاف بالعتاب.
فَدَعِ العتابَ فَرُبَّ شرْ ... ر هاج أولَه العتاب
وقد يريد الإنسان بلومه صاحبَه التخفيفَ عن نفسه، وقد يحصل له مراده، ولكن قد يحدث العكس؛ فقد ينثال عليه من العتاب أضعافُ ما عاتب عليه _ كما يقول الأحنف _ وعلى حَدِّ قول ابن الرومي:
لا تُطْفئن جوىً بلومٍ إنه ... كالريح تُغري النار بالإحراق
وقد يكون الرفقُ أحياناً أبلغَ أثراً من العتاب خصوصاً إذا لم يكن الخطأ من طبيعة الجاني، أو كان له وجه عذر.
ولله دَرُّ أبي الطيب إذ يقول:
ترفَّقْ أيها المولى عليهم ... فإن الرفقَ بالجاني عتابُ
وإذا احتاج الإنسان إلى العتاب فليكن ليناً رفيقاً، يشعر المخطئ بخطئه بألطف ما يكون، دون أن تُغلق أمامه الأبواب، وعليه يحمل قول القائل:
أعاتب ذا المودة من صديق ... إذا ما سامني منه اغتراب
إذا ذهب العتاب فليس ودٌّ ... ويبقى الود ما بقي العتاب
أما إذا رأيت من صاحبك انصرافاً عن المودة، وزهداً في الصداقة _ فإن العتاب لا يستدعي مودة، وعليه يحمل قول القائل:
أقلل عتاب من استربت بودِّه ... ليست تنال مودة بعتاب
كثير من أمراض البدن, وجراحاته تحتاج إلى وقت لكي تشفى وتندمل؛ إذ قد يُعَالَج المرضُ, ويداوى الجُرحُ, ويبقى البدن مع ذلك مدة تطول أو تقصر حتى يرجع إلى طبيعته الأولى.
وقل مثل ذلك في الأمراض والجراحات المعنوية التي تحصل من جراء الشحناء, والمراء, والإساءات؛ فهي تحتاج إلى علاج, وقد يكون مرور الزمن من بين هذه العلاجات الناجعة؛ فهو كفيل _ بإذن الله _ في تسوية النزاعات, وتهدئة الأنفس، ومراجعة الحسابات.
إذا تأملت القلوبَ وجَدْتَها كالأبواب من جهة أصحابها, أو من جهة مفاتيحها.(1/14)
فبابُ الكريم تلقاه مفتوحاً على مصراعيه، وربما كان كذلك في كل وقت؛ فلا يغلقُ أمام أي آتٍ أو زائر.
وقلبه كذلك؛ فهو مفتوح للشاكي, وللباكي, وللمنتقد, وللمادح والقادح.
وكلما زاد الكرم زاد ذلك المعنى.
وبابُ البخيلِ مغلق, وقلبه كذلك، وكلما زاد بخله أُحْكِمَ إغلاقه.
وهكذا المفاتيح؛ فلكل قلب مفتاح؛ فإذا عرفت المفتاح، وأحسنت طريقة الفتح _ حصلت على مرادك.
وإذا جهلت المفتاح, أو لم تعلم كيفية الفتح _ رجعت بالخيبة, وصِفْر العَيْبة.
ثم إن من الناس من تفتح قلبَه بالثناء الصادق, ومنهم من تفتح قلبَه بالتحية, ومنهم من تفتح قلبَه بتذكيره بأياديه البيضاء, ومنهم من تفتح قلبَه بذكر أسلافه الكرام, ومنهم من تفتح قلبَه بمزحة خفيفة, ومنهم من تَدْخُل عليه عبر السؤال عن الحال, ومنهم من تدخل عليه من باب تخصصه وهكذا...
وعلى كل حال فإن طلاقة المحيا, وطهارة القلب, وحسن التَّأَتِّي, ولطف المدخل _ مفاتيح عامة ملائمة لجميع الطبقات.
وبَعْدُ فإن التوفيق بيد الله, وله مقاليد السموات والأرض, والمفتاح بيده _ عز وجل _ وهو الفتاح العليم.
ما من مشكلة إلا ولها حل, وما من قفل إلا وله مفتاح وإلا فما هو بقفل _كما يقول الرافعي×_.
وما من متخاصمين إلا ويمكن الإصلاح بينهما, وإنهاء خصومتهما إلا حين لا يرضيان بذلك, أو حين يتعنت أحدهما، ويتعصب لرأيه.
قال الله _تبارك وتعالى_: [إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحاً يُوَفِّقْ اللَّهُ بَيْنَهُمَا] (النساء:35).
فمتى وُجِدت الرغبة من الطرفين، ودَفَعَ كلُّ واحدٍ منهما بالتي هي أحسن، وَوُفِّقا في حكيم ناصح يسعى لرأب صدعهما _ كان الإصلاح يسيراً، وفي وقت قصير.
وكذلك إذا كان أحدهما عاقلاً، ناظراً في العواقب، حريصاً على الصلح، متنازلاً عن بعض حقه _ قد يحصل الصلح، وتزول الإحن.
أما إذا كان العنادُ، والتعصبُ رائدَ الاثنين، وإمامَهما _ فدون الصلح خَرْطُ القتاد.(1/15)
قد تحصل خصومةٌ أو نزاع, أو بغْيٌ بين طرفين قريبين منك؛ إما قرابة رحم, أو قرابة صداقة, أو نحو ذلك.
وقد يكون الخصمان بعيدين عنك, أو أحدُهما قريباً والآخرُ بعيداً.
وإذا كان الأمر كذلك فلا يلزم أن تكون طرفاً في القضية.
بل يَسَعُكَ التوقفُ, والابتعادُ عن ذلك النّزاع.
وإن كان لا بد من الدخول في القضية فَيَسَعُكَ، بل يحسن بك أن تكون مصلحاً ناصحاً لا طرفاً, فتسعى لرأب الصدع, وجمع الكلمة, وتقريب الوجهة؛ فذلك أسلم لقلبك, وأدعى لقبول قولك.
وإذا أعيتك الحيلة, ورأيت من الخصمين لجاجاً وتمادياً فالنجاءَ النجاءَ, والسلامة لا يعدلها شيء.
وإن أبيت إلا أن تكون طرفاً في كل قضية _ فأبشر بكثرة خصومك, وتشتت قلبك، وضياع أوقاتك.
وكما أن هذا يقال في حق الإنسان البعيد عن المشكلة _ فكذلك يقال في حق أطرافها؛ حيث لا ينبغي لهما أن يمتحنا الناس فيما يجري بينهما؛ بحيث يجعلان الناس أمام خيارين إما معنا أو ضدنا.
بل يسَعُ الناس أن يكونوا محايدين؛ فليس من ضرورة الخلاف أن يُمتحن الناس فيه.
هذه المقولة لشيخ الإسلام ابن تيمية × والواقع والتاريخ يشهدان بذلك؛ فلو أَجَلْتَ النظر, واعتبرت كثيراً من نهايات الظالمين لرأيت ذلك رأي العين.
بل لعلها سُنَّةٌ ماضيةٌ, وعقوبةٌ قدرية تلحق بكل من اتصف بذلك؛ فهذا ابن العلقمي الذي كان أحد أسباب تقويض خلافة بني العباس وذلك بسبب خيانته, وممالأته لهولاكو _ كانت نهايته على يد هولاكو.
وهذا ثعلب الصحراء, القائد الألماني رومل الذي لمع نجمه إبان الحرب العالمية الثانية، وكان ذراع هتلر الأيمن, وقائده المظفر _ كانت نهايته على يد هتلر.
وها هم قواد الشيوعية من لدن لينين إلى جورباتشوف كلما دخلت أمة لعنت أختها.
والأمثلة على ذلك كثيرة, والغرض من ذلك التمثيل لا الحصر.
وليس الأمر يقتصر على الإعانة على الظلم بالقتل أو التدمير.(1/16)
بل يدخل في هذا القبيل إعانةُ الظالم على ظلمه في نحو الغيبة, والوقيعة؛ فيُبتلى هذا المعينُ بالظالم؛ حيث تُغرى بينهما العداوة والبغضاء, ويصبح همُّ كلِّ واحدٍ منهما إسقاطَ الآخر.
فلا تجزعن من سيرة أنت سرتها ... فأولُ راضٍ سُنَّةً من يسيرها
ا
وفي مقابل ذلك من أعان عادلاً على عدله, أو زجر ظالماً عن ظلمه فإن العاقبة تكون حميدة للطرفين، وسينال المعين على الخير جزاء فعله إنْ في الدنيا, أو في الآخرة, أو فيهما جميعاً.
بدا لي وأنا أقرأ قول الله _تعالى_: [وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً] معنى بديع, وهو أن التعبير بهذه اللفظة [وَصَاحِبْهُمَا] من ألطف ما يكون في الحث على بر الوالدين؛ ذلك أن الصحبة في هذه الآية تقتضي الملازمة, ومن شأن الملازمة الدوام على تقلب الأحوال؛ فالصحبة الطويلة يعتريها الملل, والفتور؛ فإذا استحضر الولد هذا الإرشاد الإلهي علم أن لوالديه حقاً عظيماً, فيلزم صحبتهما _ وهما أحق الناس بحسن صحابته _ بالمعروف.
وذلك يشمل الملاطفة, والمشاورة, والمداراة.
ويشمل كذلك مراعاة أدب المحادثة مع الوالدين؛ لأن طول الصحبة يفضي إلى الملل من جرَّاء تكرار الأحاديث, والوقائع؛ فيسمعها الولد بروايات كثيرة متنوعة, مما يضجره, ويجلب له السآمة؛ فإذا لزم حسن الصحبة لم يظهر الملالة سواء خصه الوالد بالحديث, أو كان حاضراً مع أناس يتحدث إليهم الوالد, حتى لو كان الحديث معلوماً للولد,مكروراً على سمعه.
ويشمل كذلك الإكرام بالمال خصوصاً إذا كان الوالد محتاجاً,فكم من الأولاد مَنْ يُقصِّر في هذا الحق إما تكاسلاً، أو غفلةً, أو بخلاً.
وكم من الأولاد من يقول: إن أبي, أو أمي لا يحتاجان إلى شيء؛ فَيَحْرِمُ نفسه من بركة الإنفاق على الوالدين.
وكم من الأولاد من يقول: إن إخواني أو أخواتي يرفدون والديَّ بما يحتاجان إليه؛ فليسا _ إذاً _ في حاجة إلي.(1/17)
وربما قال ذلك جميع الأولاد, فاعتمد كل واحد منهم على الآخر, فخلت يد الوالدين من أي معونة من الأولاد.
فحري بالولد ألا ينسى نصيبه من رفد والديه, ولو كانا غير محتاجين فضلاً عن كونهما كذلك.
وجدير به أن يبادر إلى ذلك ولو كان إخوانه يقومون به [وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَس الْمُتَنَافِسُونَ].
ومن حسن الصحبة أن يعين والده على البر والصدقات والإحسان؛ فيحدث أحياناً أن يكون الوالد ثرياً محسناً، ولكنه لا يوفق بأولاد يعينونه على البر والإحسان، بل ربما قطعوا عليه الطريق، وخذلوه عن الخير؛ فإذا هَمَّ بالمعروف قالوا له: مهلاً؛ إما خوفاً من ضياع مال والدهم _ كما يزعمون _ وإما رغبة في زيادة الميراث، أو شحاً بالخير، أو غير ذلك؛ فحقيق على الأولاد ألا يقفوا حجر عثرة في طريق والدهم، بل عليهم أن يعينوه على الخير.
ومن صور الصحبة السفر مع الوالدين.
ومن صورها الرحلة معهما؛ فماذا يضير الابن _ على سبيل المثال _ إذا جاء الربيع, أو نزل مطر أن يصطحب والده أو والدته أو كليهما ليريا المطر, ويمتِّعا ناظريهما برؤية جمال الطبيعة؟
أليس يقضي الوقت الطويل في صحبة الأصدقاء والمعارف؟
ومن صور المصاحبة في المعروف القيام بإكرام ضيف الوالد, والحرص على راحته حال قدوم الضيف.
ومن ذلك صحبة الوالد إذا طلب منك الصحبة لأي مكان، أو أناس ما لم يكن في ذلك مأثم.
ومن ذلك أن تُعرِّف أصحابك على والدك، حتى يطمئن على سيرك، ويأنس بأصحابك إذا زاروك.
ومن ذلك قضاء حوائج الوالد _ أباً أو أماً _ بكل ارتياح ونشاط وتَدَفُّع.
ومن ذلك ملاحظتُه في علاجه، ومراجعاته، ومرافقته في المستشفى إن احتاج إلى ذلك.
ومن ذلك ألا يتأفف الولدُ إذا أمره والده دون إخوانه، على حد قول الأول:
وإذا تكون ملمةٌ أدعى لها ... وإذا يحاس الحيس يدعى جندب
بل عليه أن يفرح بذلك، بل يجمل به أن يبادر إلى التنفيذ ولو لم يؤمر.
ويحسن به أن يتحمل جفوة الوالد، وقسوته، وتغير مزاجه.(1/18)
وجماع حسن الصحبة للوالدين أن يحرص الولد على إدخال السرور عليهما, وأن يبتعد عن كل ما يكدِّر خاطرهما.
فهذه إشارات مما حملته الآية الكريمة من معان, أما تفاصيل الحديث عن البر فليس هذا مجالها.
روى الإمام أحمد بسنده عن وكيع قال: =قالت أم سفيان لسفيان: يا بني! اطلب العلم وأنا أكفيك بمغزلي+.
وقالت له ذات مرة _فيما يرويه الإمام أحمد_: =يا بني إن كتبت عشرة أحرف فانظر هل ترى في نفسك زيادة في خشيتك وحلمك ووقارك، فإن لم ترَ ذلك فاعلم أنها تضرك، ولا تنفعك+.
في هذا الأثر نموذج عالٍ لتربية السلف لأولادهم؛ فأم سفيان _رحمها الله_ آنست من ابنها النجابة، والألمعية؛ فَعُنيت بتعليمه، وفَرَّغَتْهُ لذلك الغرض النبيل، وصارت تتعاهده بالنصح، وتتخوله بالموعظة، وتغاضت عن حقوقها التي تجب على ابنها نحوها؛ فلم يُخِيبِ اللهُ رجاءها؛ حيث أصبح سفيان الثوري فقيهَ العرب، وأميرَ المؤمنين في الحديث، وأحدَ أصحاب المذاهب الستة المتبوعة؛ فذاقت أمه بره، وصار ابنُها حسنةً من حسناتها التي تضاف _بإذن الله_ إلى رصيد أعمالها.
فهذه الحادثة ترشد الوالد إلى أن يُعنى بتربية ابنه على العلم وسائر الفضائل، ولو أدى ذلك إلى أن يتغاضى الوالد عن بعض حقوقه؛ فيحسن به إذا آنس من ابنه ذكاءً، وإقبالاً على العلم أن يعينه على نفسه، وأن يهيِّئ له الجو الملائم؛ فإذا كَبِرَ الولدُ، ونال من العلم ما نال ذاق والده من بره، ودعائه ما تَقَرُّ به عينُه في العاجل والآجل.
يقال هذا الكلام في حق بعض الوالدين الذين لا يرون البر إلا من خلال أمور تدور حول خدمة الوالد، والقرب منه.
ولا ريب أن هذه صور عظيمة من البر، وأنه من أوجب ما يجب على الولد تجاه والده.
ولكن إذا تيسر للوالد أن يقوم بشؤونه، ويتغاضى عن بعض حقوقه من أجل مصلحة تعود على الولد والوالد، بل والأمة _ فذلك خير وأبقى.
سئل حكيم: أيهما أحب إليك: أخوك أو صديقك؟ فقال: =أخي إذا كان صديقي+.(1/19)
هذه الإجابة الحكيمة تشير إلى أنه ينبغي أن يكون الأخ صديقاً لأخيه، دون أن يكتفي برابطة الأخوة وإن كانت من أعظم الروابط.
والمتأمل في أحوال الناس، وما يكتب في العلاقات عموماً يلحظ فتوراً في علاقات الإخْوة فيما بينهم، وقِلَّةً في الكتابات التي تتعرض لهذا النوع من العلاقات.
فالإخْوة _في كثير من الأحيان_ يميلون إلى طابَع الرسمية في علاقاتهم، وربما مالوا إلى جانب الندِّية، وربما كان بعضهم يحقر بعضاً، ولا يقضيه حق الاحترام والتقدير؛ فيخسر الإخْوَةُ خسارةً فادحة؛ إذ يفوتهم الأجر والتآزر، والتعاون على مرافق الحياة.
ويفوتهم _أيضاً_ جوانب كثيرة من السعادة والصداقة المؤسسة على الثقة والرابطة القوية.
ويُعرِّضون أُسَرَهُمْ، ووالديهم، وأولادهم لنكسات وعداوات ربما أكلت الأخضر واليابس.
والذي ينبغي في العلاقات بين الإخوة أن تقوم على الإيثار، والمحبة، والصفاء، وتدبر العواقب، و تقدير الصغير للكبير، ورحمة الكبير بالصغير، وإنزالِ ذي المنزلةِ مكانَهُ اللائق به،وتشجيعِ المتباطئ والمتكاسل حتى ينهض بنفسه، وأن يكمل بعضهم بعضاً حتى يُسعدوا أنفسهم، وأسرهم، وألا يجعلوا لقائل فيهم مقالاً.
وإذا قُدِّر للإنسان أن يكون ذا شهرة، أو علم، أو جاه، أو مال، أو نحو ذلك_ فيحسن به ألا ينسى نصيب إخوانه منه، وألا يتطاول عليهم.
كما ينبغي لمن كان لهم أخ قد نال ما نال مما ذُكر _ أن يعينوه على نفسه، وألا يقفوا أمام طموحاته، وأن يحملوا عنه ما يجب عليه من نحو بر الوالدين، وما جرى مجرى ذلك، فيكونوا بذلك شركاء له في الأجر والنجاح.
ومما يعين على شيوع روح الصفاء بين الإخوة أن يبادروا إلى قسمة الميراث؛ لكي يظفر كلُّ طرف بنصيبه، وليقطعوا دابر الفتنة وسوء الظن.(1/20)
ومما يصفي الودَّ بين الإخوة أن يحرصوا على الوئام والاتفاق حال الشراكة؛ فإذا كان بينهم شراكة في نحو تجارة أو غيرها _ فليحرصوا على ذلك، وعلى أن تسود بينهم روح الإيثار والمودة، والشورى، والرحمة، والصدق، والأمانة، وحسن الظن.
وأن يحب كلُّ واحدٍ منهم لأخيه ما يحبه لنفسه، وأن يعرف كل طرف ما له وما عليه.
كما يحسن بهم أن يناقشوا المشكلات بمنتهى الصراحة، والوضوح، وأن يحرصوا على التفاني والإخلاص في العمل.
كما يجمل بهم أن يكتبوا ما يتفقون عليه إذا كان الأمر يستدعي ذلك.
فإذا ساروا على تلك الطريقة حلَّت فيهم الرحمة، وسادت بينهم المودة، ونزلت عليهم بركات الشركة.
ومن الأمور التي تبقي على المودة بين الإخوة لزومُ التواضعِ، ولينُ الجانب، والتغاضي، والتغافل، والصفح، ونسيان المعايب، وترك المنِّة على الإخوة، والبعد عن مطالبتهم بالمثل، وتوطين النفس على الرضا بالقليل مما يأتي منهم، ومراعاة أحوالهم، وطبائعهم، وتجنب الشدة في العتاب حال وقوع الخطأ، وتجنب الخصام، والجدال العقيم، والمبادرة بالهدية والزيارة إن حصل خلاف.
ومن ذلك أن يستحضر المرء أن إخوانه لحمة منه؛ فلا بد له منهم، ولا فكاك له عنهم، والعرب تقول: أنفك منك وإن ذنَّ (1) وعيصك منك وإن كان أشَبَا(2).
ومن ذلك أن يستحضر المرء أن معاداة الإخوة شر وبلاء؛ فالرابح فيها خاسر، والمنتصر مهزوم.
ومن ذلك أن يربي الإخوة أولادهم على احترام أعمامهم، وتوقيرهم.
هذا وقد أرانا العيان نماذج رائعة، ومثلاً عليا من صداقات الإخوة، وقيامهم بالحقوق ما جعلهم مضرب مثل، وموضع أسوة.
وبعد، فهذه إلماحات وإشارات، ولعل الفرصة تواتي لمزيد من إلقاء الضوءِ على هذه المسألة.
كلمةٌ جميلةٌ, تحمل معانيَ ساميةً, وتَرِدُ في ثنايا كتب العلماء, ومنشآت الأدباء, ودواوين الشعراء.
__________
(1) _ ذنَّ: سال مخاطه.
(2) _ العيص: الشجر الكثيف، والأشب: شدة التفاف الشجر.(1/21)
كلمة تدورحول معاني الشهامة, والرجولة, والخدمة, والبذل, وما جرى مجرى ذلك من مكارم الأخلاق.
وكثيراً ما يُثني الشعراء على ممدوحيهم بوصفهم بالفتوة, وكثيراً ما يذكرون الفتوة في معرض الإعجاب.
قال أبو تمام في رثاء محمد بن حميد الطوسي:
فتى مات بين الضرب والطعن ميتة ... تقومُ مقامَ النصرِ إذ فاته النصرُ
وقال في ممدوح آخر:
فتى عيش في معروفه بعد موته ... كما كان بعد السيل واديه مُمْرِعا
وقال أبو الطيب المتنبي:
وأهوى من الفتيان كل سميذع ... نجيب كصدر السمهري المقوَّمِ
خَطَتْ تحته العيسُ الفلاةَ وخالطت ... به الخيلُ كُبَّات الخميس العرمرم
وقال الشوكاني:
ومن حاز الفضائل غير وانٍ ... فذاك هو الفتى كل الفتاء
وكلمة الفتيان أو الفتى عند الأوائل تعني الشهم, الكريم, السخي, البشوش, المتغاضي, الأَلُوف الذي يقوم بالخدمة بلا منة ولا تباطؤ.
ومن كانت هذه حاله كان جديراً بالمحبة, والاحترام, وكان ممن يُحرص على صحبته, والقرب منه.
وإذا جمع إلى ذلك حسنَ الديانة, وصلاحَ الأمر, ولزوم الاستقامة, وطلب العلم _ بلغ من العلياء كل مكان.
وإذا ثَكُل الفتوة هبطت منزلته بقدر ما فقد منها ولو كان ذا علم واستقامة.
قال سفيان الثوري ×: =من لم يتفتَّ لم يحسن يتقَّرى+.
قال الخطابي × معلقاً على كلمة سفيان: =إن من عادة الفتيان, ومن أخذ بِأَخْذِهم بشاشةَ الوجه, وسجاحةَ الخلق, ولين العريكة.
ومن شيمة الأكثرين من القراء الكزازة, وسوء الخلق؛ فمن انتقل من الفتوة إلى القراءة كان جديراً أن يتبقى معه تلك الذوقةُ والهشاشة.
ومن تقرَّأ في صباه _أي طلب العلم_ لم يَخْلُ من جفوة, أو غلظة.
وقد يتوجه قول سفيان إلى وجه آخر, وهو أنه إذا انتقل من الفتوة إلى القراءة كان معه الأسف على ما مضى, والندم على ما فَرُط منه؛ فكان أقرب له إلى أن لا يعجب بعمل صالح يكون منه.
وإذا كان عارفاً بالشر كان أشدَّ لحذره, وأبعد من الوقوع فيه+ ا_هـ.(1/22)
وقال سفيان الثوري×: =لأنْ أصحب فتىً أحبُّ إليَّ من أن أصحب قارئاً+.
قال أبو حيان التوحيدي: =سمعت برهان الصوفي الدينوري يقول:
لو صحبني فاجرٌ حسنُ الخلق كان أحبَّ إليَّ من أن يصحبني عابدٌ سيئ الخلق.
قال برهان: لأن الفاجر الحسن الخلق يصلحني بحسن خلقه, ولا يضرني فجوره, والعابد السيئ الخلق يفسدني بسوء خلقه, ولا ينفعني بعبادته؛ لأن عبادة العابد له, وسوء خلقه عليَّ, وفجور الفاجر عليه, وحسن خلقه لي+ا_هـ.
وللإمام ابن القيم×كلام جميل حول الفتوة في كتابه الماتع مدارج السالكين؛ حيث أفرد منزلة من منازل كتابه سماها منزلة الفتوة, وأفاض في الحديث عنها بما لا تكاد تجده عند غيره.
ومما قاله في ذلك: =ومن منازل: [إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِيْنُ] منزلة الفتوة.
هذه المنزلة حقيقتها هي منزلة الإحسان إلى الناس, وكف الأذى عنهم, واحتمال أذاهم؛ فهي استعمال حسن الخلق معهم؛ فهي _ في الحقيقة _ نتيجةُ حسنِ الخلق واستعماله.
والفرقُ بينها وبين المروءة أن المروءةَ أعمُّ منها؛ فالفتوة نوع من أنواع المروءة؛ فإن المروءة استعمال ما يجمل ويزين مما هو مختص بالعبد, أو متعدٍّ إلى غيره, وترك ما يدنس ويشين مما هو مختص _ أيضاً _ به أو متعلق بغيره.
والفتوة إنما هي استعمال الأخلاق الكريمة مع الخلق+.
وقال ×: =وهذه منزلة شريفة, لم تُعَبِّرْ عنها الشريعة باسم الفتوة, بل عبرت عنها باسم مكارم الأخلاق كما في حديث يوسف بن محمد بن المنكدر عن أبيه عن جابر÷عن النبي"قال: =إن الله بعثني لأتمم مكارم الأخلاق ومحاسن الأفعال+.
وأصل الفتوة من الفتى, وهو الشاب الحدث السن+.
إلى أن قال: =فاسم الفتى لا يُشعر بمدح ولا ذم كاسم الشاب والحدث.
ولذلك لم يجىء اسم الفتوة في القرآن ولا السنة ولا في لسان السلف.
وإنما استعمله مَنْ بَعدَهم في مكارم الأخلاق.
وأصلها عندهم أن يكون العبد أبداً في أمر غيره.(1/23)
وأقدم من عَلِمتُه تكلم في الفتوة جعفر بن محمد, ثم الفضيل بن عياض, والإمام أحمد, وسهل بن عبدالله, والجنيد,ثم الطائفة+
ثم أوردَ×جملة في الآثار في هذا السياق؛ فمن ذلك قوله =فيذكر أن جعفر ابن محمد سُئل عن الفتوة فقال للسائل: ما تقول أنت؟
فقال: إن أُعطيت شكرت, وإن منعت صبرت.
فقال: الكلاب عندنا كذلك.
فقال السائل: يا ابن رسول الله فما الفتوة عندكم؟
فقال: إن أُعطينا آثرنا, وإن مُنِعْنا شكرنا.
وقال الفضيل بن عياض: الفتوة الصفح عن عثرات الإخوان.
وقال الإمام أحمد÷في رواية ابنه عبدالله عنه وقد سئل عن الفتوة فقال: ترك ما تهوى لما تخشى.
وسئل الجنيد عن الفتوة فقال: لا تنافِر فقيراً, ولا تعارِض غنياً.
وقال الحارث المحاسبي: الفتوة أن تنصف، ولا تنتصف.
وقال عمر بن عثمان المكي: الفتوة حسن الخلق.
وقيل: الفتوة ألا ترى لنفسك فضلاً على غيرك.
وقال الجنيد: الفتوة كف الأذى, وبذل الندى.
وقيل: فضيلة تأتيها, ولا ترى لنفسك فيها.
وقيل: هي الوفاء والحفاظ.
وقيل: ألا تحتجب ممن قصدك.
وقيل: ألا تهرب إذا أقبل العافي؛ يعني طالب المعروف.
وقيل: إظهار النعمة, وإسرار المحنة.
وقيل: ليس من الفتوة أن تربح على صديقك+.
وبعد ذكر ابن القيم × هذه الأقوال في الفتوة, ساق قصصاً وأخباراً في هذا القبيل فقال: =قيل: تزوج رجل بامرأة, فلما دخلت عليه رأى بها الجدري فقال: اشتكيت عيني, ثم قال: عميت, فبعد عشرين سنة ماتت, ولم تعلم أنه بصير, فقيل له في ذلك, فقال: كرهت أن يحزنها رؤيتي لما بها, فقيل له: سبقت الفتيان.
واستضاف رجل جماعة من الفتيان, فلما فرغوا من الطعام خرجت جارية تصب الماء على أيديهم, فانقبض واحد منهم، وقال: ليس من الفتوة أن تصب النسوان الماء على أيدي الرجال, فقال آخر منهم: أنا منذ سنين أدخل إلى هذه الدار, ولم أعلم أن امرأة تصب الماء على أيدينا أو رجلاً.(1/24)
وقدم جماعة فتيان لزيارة فتىً, فقال الرجل: يا غلام قدم السفرة, فلم يقدم, فقالها ثانياً وثالثاً، فلم يقدم, فنظر بعضهم إلى بعض, وقالوا: ليس من الفتوة أن يستخدم الرجل من يتعاصى عليه في تقديم السفرة كل هذا, فقال الرجل: لم أبطأت بالسفرة؟
فقال الغلام: كان عليها نَمْل, فلم يكن من الأدب تقديم السفرة إلى الفتيان مع النمل, ولم يكن من الفتوة إلقاء النمل وطردهم عن الزاد, فلبثت حتى دب النمل, فقالوا: يا غلام, مثلك يخدم(1) الفتيان.
ومن الفتوة التي لا تلحق: ما يذكر أن رجلاً نام من الحاج في المدينة, ففقد همياناً فيه ألف دينار, فقام فزعاً, فوجد جعفر بن محمد, فعلق به, وقال: أخذت همياني, فقال: أي شيء كان فيه؟ قال: ألف دينار, فأدخله داره, ووزن له ألف دينار, ثم إن الرجل وجد هميانه, فجاء إلى جعفر معتذراً بالمال, فأبى أن يقبله منه, وقال: شيء أخرجته من يدي لا أسترده أبداً, فقال الرجل للناس: من هذا؟ فقالوا: هذا جعفر بن محمد ÷+.
هذا وإن الفتوةَ مراتبُ, ودرجاتٌ, وقد أشار إلى شيء من ذلك الإمام ابن القيم في كتابه مدارج السالكين في شرح منازل السائرين لأبي إسماعيل الهروي×.
قال ابن القيم×: =قال صاحب المنازل: (ونكتة الفتوة ألا تشهد لك فضلاً, ولا ترى لك حقاً).
يقول: قلبُ الفتوةِ, وإنسانُ عينها أن تفنى بشهادة نقصك, وعيبك عن فضلك, وتغيب بشهادة حقوق الخلق عليك عن شهادة حقوقك عليهم.
والناس في هذا مراتب فأشرفها: أهل هذه المرتبة, وأخسها: عكسهم, وهم أهل الفناء في شهود فضائلهم عن عيوبهم, وشهود حقوقهم على الناس عن شهود حقوق الناس عليهم.
وأوسطهم: مَن شَهد هذا وهذا, فيشهد ما فيه من العيب والكمال, ويشهد حقوق الناس عليه، وحقوقه عليهم+.
__________
(1) 1_ لعلها: يخدمه الفتيان، أو لعلها بصيغة الاستفهام: مثلك يخدم الفتيان؟ يعني أن الأولى أن يخدمك الفتيان.(1/25)
إلى أن قال×متحدثاً عن درجات الفتوة: =قال _أي أبو إسماعيل الهروي_: =وهي على ثلاث درجات: الدرجة الأولى: ترك الخصومة, والتغافل عن الزلة, ونسيان الأذيّة+.
ثم شرع ابن القيم في شرح هذه الدرجة قائلاً: =هذه الدرجة من باب الترك والتخلي, وهي ألا يخاصم أحداً, فلا ينصب نفسه خصماً لأحد غيرها؛ فهي خصمه.
وهذه المنزلة _أيضاً_ ثلاث درجات, لا يخاصم بلسانه, ولا ينوي الخصومة بقلبه, ولا يُخْطِرها على باله, هذا في حق نفسه.
وأما في حق ربه: فالفتوة أن يخاصم بالله وفي الله, ويحاكم إلى الله, كما كان النبي"يقول في دعاء الاستفتاح (وبكَ خاصَمْتُ وإليك حاكمتُ).
وهذه درجة فتوة العلماء الدعاة إلى الله _تعالى_.
وأما التغافل عن الزلة فهو أنه إذا رأى من أحد زلة يوجب عليه الشرع أخذه بها أظهر أنه لم يَرَها؛ لئلا يعرض صاحبها للوحشة, ويريحَه من تحمل العذر.
وفتوة التغافل أرفع من فتوة الكتمان مع الرؤية.
قال أبو علي الدقاق: جاءت امرأة فسألت حاتماً عن مسألة؛ فاتفق أنه خرج منها صوت في تلك الحالة, فخجلت, فقال حاتم: ارفعي صوتك؛ فأوهمها أنه أصم؛ فسُرَّت المرأة بذلك, وقالت: إنه لم يسمع الصوت؛ فَلُقِّب بحاتم الأصم, وهذا التغافل هو نصف الفتوة.
وأما (نسيان الأذية) فهو بأن تنسى أذية من نالك بأذى؛ ليصفو قلبك له, ولا تستوحش منه.
قلت: وهنا نسيان آخر _ أيضاً _ وهو من الفتوة, وهو نسيان إحسانك إلى من أحسنت إليه؛ حتى كأنه لم يصدر منك, وهذا النسيان أكمل من الأول, وفيه قيل:
ينسى صنائعه والله يُظهرها ... إنَّ الجميلَ إذا أخفيتَه ظَهرا+
ثم ساق ابن القيم كلام أبي إسماعيل الهروي في بيان الدرجة الثانية من درجات الفتوة, وهو قوله: =الدرجة الثانية: أن تُقَرِّب من يقصيك, وتُكرم من يؤذيك, وتعتذر إلى من يجني عليك, سماحة لا كظماً, ومودة لا مصابرة+.(1/26)
ثم شر ع ابن القيم في شرح هذه الدرجة قائلاً: =هذه الدرجة أعلى مما قبلها وأصعب؛ فإن الأولى: تتضمن ترك المقابلة والتغافل, وهذه تتضمن الإحسان إلى من أساء إليك, ومعاملته بضد ما عاملك به؛ فيكون الإحسان والإساءة بينك وبينه خطَّتين, فخطتُك: الإحسان, وخطَّته: الإساءة, وفي مثلها قال القائل:
إذا مَرضنا أتيناكم نعودُكم ... وتُذنِبون فنأتيكم ونَعْتَذِرُ
ومن أراد فَهْم هذه الدرجة كما ينبغي, فلينظر إلى سيرة النبي"مع الناس يَجدْها هذه بعينها, ولم يكن كمال هذه الدرجة لأحد سواه, ثم للورثة منها بحسب سِهامهم من التركة.
وما رأيت أحداً قط أجمع لهذه الخصال من شيخ الإسلام ابن تيمية _ قدس الله روحه _ وكان بعض أصحابه الأكابر يقول: وددت أني لأصحابي مثله لأَعدائه وخُصومه.
وما رأيته يدعو على أحد منهم قط, وكان يدعو لهم.
وجئتُ يوماً مبشراً له بموت أكبر أعدائه, وأشدّهم عداوةً وأَذىً له, فَنَهرني, وتنكَّر لي, واسترجع, ثم قام من فوره إلى بيت أهله فعزاهم, وقال: إني لكم مكانه, ولا يكون لكم أمر تحتاجون فيه إلى مساعدة إلا وساعدتكم فيه ونحو هذا من الكلام, فَسُرُّوا به, ودعوا له, وعظموا هذه الحال منه, فرحمه الله ورضي عنه, وهذا مفهوم.
وأما الاعتذار إلى من يجني عليك فإنه غير مفهوم في بادي الرأي؛ إذ لم يصدر منك جناية توجب اعتذاراً, وغايتك: أنك لا تؤاخذه, فهل تعتذر إليه من ترك المؤاخذة؟
ومعنى هذا: أنك تنزل نفسك منزلة الجاني لا المجني عليه, والجاني خليق بالعذر.
والذي يُشهدك هذا المشهد: أنك تعلم أنه إنما سُلِّط عليك بذنب, كما قال _تعالى_: [وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ] (الشورى:30).
فإذا علمت أنك بدأت بالجناية؛ فانتقم الله منك على يده _ كنت في الحقيقة أولى بالاعتذار.(1/27)
والذي يهون عليك هذا كله: مشاهدة تلك المشاهد(1) العشرة المتقدمة فعليك بها؛ فإن فيها كنوز المعرفة والبر.
وقوله: (سماحة لا كَظْماً ومَودَّة لا مصابرة).
يعني: اجعل هذه المعاملة منك صادرة عن سماحة, وطيبة نفس, وانشراح صدر, لا عن كظم, وضيق ومصابرة؛ فإن ذلك دليل على أن هذا ليس في خلقك, وإنما هو تكلف يوشك أن يزول, ويظهر حكم الخلق صريحاً, فتفتضح, وليس المقصود إلا إصلاح الباطن والسر والقلب.
وهذا الذي قاله الشيخ لا يمكن إلا بعد العبور على جسر المصابرة والكظم, فإذا تمكن منه أفضى به إلى هذه المنزلة بعون الله, والله أعلم+.
ثم انتقل بعد ذلك إلى شرح كلمات لأبي إسماعيل في شرح الدرجة الثالثة, ومنها قوله: =واعلم أَنَّ مَنْ أَحْوَجَ عدوَّه إلى شفاعته, ولم يخجل من المعذرة إليه لم يشم رائحة الفتوة+.
قال ابن القيم شارحاً هذه العبارة: =يعني أن العدو متى علم أنك متألم من جهة ما نالك من الأذى منه احتاج إلى أن يعتذر إليك, ويُشَفِّع إليك شافعاً ما قلبك منه.
فالفتوة كل الفتوة أن لا تحوجه إلى الشفاعة, بأن لا يظهر له منك عتب, ولا تغير عما كان له منك قبل معاداته, ولا تطوي عنه بِشْرَكَ ولا بِرَّكَ, وإذا لم تخجل أنت من قيامه بين يديك مقام المعتذر لم يكن لك في الفتوة نصيب.
ولا تستعظم هذا الخلق, فإن للفتيان ما هو أكبر منه, ولا تستصعبه؛ فإنه موجود في كثير من الشطار والعشراء الذين ليس لهم في حال المعرفة، ولا في لسانها نصيب؛ فأنت أيها العارف أولى به+.
وبعد: فهذه معالم, وإشارات في الفتوة؛ فما أحوجنا, وما أحوج شبابنا, ومربينا, وطلاب العلم منا إلى هذه الخصلة الحميدة, حتى يجمعوا إلى جانب العلمِ العملَ, وإلى جانب الدعوةِ الخلقَ, فيكونوا معالم هدى, ومصابيح دجى.
وأجدر بكل عاقل أن يأخذ بهذه الخلة الشريفة في تعامله مع والديه, وزوجه, وأولاده, وأرحامه, وأصدقائه, بل ومع الناس كل بحسبه.
__________
(1) 1_ لعله يقصد مشاهد المعصية. (م)(1/28)
وأن يكون ذلك ديدنه في حال إقامته أو سفره, وفي حال سرائه, وضرائه.
وأحْرِ بذي اللب أن يقوم بخدمة أقاربه, وأصحابه, ومخالطيه, وأن يطَّرح روح الكسل والبطالة.
وأَخْلِقْ بمن خُدِم, وأسدي إليه شيء من المعروف أن يطلق يده بالعطاء لمن خدمه وأسدى إليه.
وإذا لم يسعده ماله فليسعده لسانه بالشكر, والدعاء، والثناء.
وكم حصل من جراء التفريط في هذا المعنى من ضياع حقوق, وقيام مشاحنات, وغياب روح الألفة.
لو استعرضت كتب السير, أو التراجم, أو دواوين الشعر لوجدت مُرَّ الشكوى من الزمان, وتغير الأحوال يصدق عليهم قول الشاعر:
كل من لاقيت يشكو دهره ... ليت شعري هذه الدنيا لمن
بل تجد أن أكثرهم يثني على ما مضى من زمانه إبان طفولته, ويصف الناس بالبراءة والصفاء وطهارة القلب.
وبعد أن يبلغ من العمر ما يبلغ تراه يذم أحوال الناس, وأنها تغيرت, وأن القلوب ران عليها ما ران من أدران الحقد, والبغضاء, وما جرى مجرى ذلك.
وهذه الشكوى قديمة, ومن أشهر ما يُذكر في ذلك ما جاء عن أم المؤمنين عائشة _رضي الله عنها_ حين قالت: رحم الله لبيداً حين قال:
ذهب الذين يعاش في أكنافهم ... وبقيت في خَلْف كجلد الأجرب
تقول أمنا عائشة: فكيف لو أدرك لبيد زماننا ماذا سيقول؟
ثم توارد كثير ممن بَعْدَها على القول بمثل مقولتها.
وكم من الناس من يقول ذهب الناس وبقي النسناس, أو فسد الزمان ولا دواء له.
والحقيقة أن لتلك الشكوى حظاً من النظر من جهة العموم, ومن جهة الشاكي على وجه الخصوص, أما من جهة العموم فإنه لا يأتي زمان إلا والذي بعده شر منه؛ حيث تفتح على الناس أبواب من الشر لم تكن موجودة من قبل ذلك, ولهذا قال عمر بن عبدالعزيز×: =يحدث للناس أقضية بقدر ما يُحْدِثون من الفجور+.
ومن جهة الشاكي أنه في مقتبل عمره يعيش الطهر, ويأخذ الناس على ظواهرهم، فإذا أكثر من معاشرتهم, وأدمن النظر في تحليل الحوادث رأى ما لا يروقه من فساد بعض الطباع.(1/29)
ومهما يك من شيء فإن الشكوى ليست من الزمان, وإنما هي فينا؛ فنحن إذا قلنا: إن الناس فسدوا, وإن الأحوال قد تغيرت أَلَسْنا من الناس, أَلَسْنا ممن ساهم في هذا الفساد؟
أليس إيغالنا في الذنوب, وتفريطنا في جنب الله, وإخلالنا بما يجب علينا من الأخذ بأسباب النجاة, ومداراة الناس _ أليست تلك الأسباب وغيرها هي علة الفساد؟
إذاً فلماذا نهرب من واقعنا, ونتنصل من مسؤوليتنا, ونحاول إلقاء التبعة على غيرنا؟
نعيب زماننا والعيب فينا ... وما لزماننا عيب سوانا
ونَهجو ذا الزمانَ بكل حين ... ولو نطق الزمان _إذاً_ هجانا
أليس في مقدورنا تطهير قلوبنا من الحقد، والكراهية، وسوء الظن، والقطيعة؟
ألا نستحضر قوله _ تعالى _: [إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ].
تأمل لو أنك غضبت على إنسان أخطأ في أمر, أو قصَّر في عمل, سواء أكان صديقاً, أم ولداً, أم عاملاً, ثم زوَّرت في نفسك كلاماً طويلاً, وأردت من خلاله أن تفرغ جام غضبك عليه, ثم إذا قابلت هذا المخطئ أو المقصر, وبدأت في الكلام لم تجد منه مدافعة, بل وجدت التسليم, والاعتراف بالخطأ, والاعتذار عن التقصير؛ فماذا سيكون منك؟ هل ستواصل الكلام؟
الجواب: أنك ستقتصر على القليل مما زورت في نفسك, ولن تطيل في الكلام.
بل ستحمد لصاحبك حسن اعتذاره, ولطيف استقباله للعتاب.
ولكن ما مصيرك لو أنه دافع بالباطل, ورد عليك بمثل ما قلت أو أشد؟
لا شك أن غضبك سيزيد, وأن المشكلة ستكبر.
أفدت هذه الخاطرة من مواقف عديدة، ولعل أكثرها تأثيراً ما أفدته من طالبٍ مشاغب؛ فقد كنت في سنةٍ من السنوات وكيلاً للقسم الثانوي في المعهد العلمي في محافظة الزلفي، وكان من بين الطلاب طالبٌ مزعجٌ تأتينا الشكاوى منه بين الفينة والأخرى؛ فتارةً يُقَصِّر في أداء واجباته، وتارةً يتغيب بدون عذر، وتارةً يحصل بينه وبين أحد زملائه مشادة، وتارةً يشاكس معلميه وهكذا...(1/30)
وإذا أُحضر للمساءلة، أو العقاب، أو العتاب _ بادر باللطف، والاعتراف، والاعتذار؛ فمرةً يعد بأن تكون الأخيرة، وثانيةً يقول: أنتم الآباء، ونحن الأبناء، وثالثةً يقول: إن عاقبتم فبعدل، وإن عفوتم فبفضل، ورابعةً يقول: اطووا قيدي؛ فأنا لا أستحق الدراسة عندكم، وخامسةً يقول: أنا سأترك الدراسة من نفسي؛ لأنني خجلت من كثرة المطل في المواعيد، ولكن أمي مريضة في السكر، والضغط _وهو صادقٌ في ذلك_ فأخشى إذا رأتني وقد فُصلت من الدراسة أن يتضاعف مرضها؛ فأنتم وما ترون.
وهكذا استمر على هذا المنوال، ونحن وهو في شدٍّ وجذب حتى أنهى دراسته في المعهد.
تُرى لو كان هذا الطالب _ومن على شاكلته_ إذا أساء أصرَّ، و عاند، وكابر هل سيطاق منه ما يصدر عنه؟
الجواب: لا، بل سيزيد الطين بلة، والمرض علة.
إذاً ما المانع من الاعتذار حال الخطأ؟ وما الداعي لمزيد من التعاظم إذا وجه لنا لوم نستحقه؟ ولماذا لا نتقبل النقد البناء بصدر رحب, ونفس مطمئنة؛ حتى نضع أنفسنا مواضعها, ونسلم من تبعات اللجاج, والتمادي في الباطل؛ فما نحن إلا بشر, وما كان لبشر أن يدعي أنه لم ولن يقول إلا صواباً.
هذه كلمة تجري على ألسنة العامة, ولها نصيب من النظر؛ فالبخيل الذي يبالغ في إمساك ماله, وعلمه, وجاهه, ووقته حري بأن لا يجد من الناس إلا الإعراض والجفاء.
وإن من الناس من يستخدم أصدقاءه, وزملاءه, ومن تحت يده في العمل دون أي مقابل؛ فتراه _ على سبيل المثال _ إذا أراد عمل وليمة أو رحلة أوصى فلاناً أن يأتي بكذا, وفلاناً أن يأتي بكذا وكذا دون أن يعطيهم حقهم.
وبعض الناس يتهاون بأمور يظنها صغيرة؛ حيث يرسل فلاناً ليحضر له أقلاماً, أو أوراقاً، أو نحو ذلك, ثم يتهاون بدفع القيمة له بحجة أن هذه أمور لا تستحق الذكر.
وربما أرسل أحداً ليحضر له غرضاً من الأغراض أو سلعة من السلع؛ فإذا أحضرها له, وأخبره بقيمتها بدأ يتذمر, ويوبِّخ المُرْسَل, وربما شك في صدقه.(1/31)
وبعض الناس يأتي بعامل لإصلاح خلل في منزله, فإذا انتهى من عمله لم يعطه حقه إلا بشق الأنفس, وربما أعطاه أقل من حقه.
فهذه مظاهر تنم عن بخلٍ بغيض, وأثرة قبيحة يجدر بالعاقل أن ينأى بنفسه عنها, وأن لا يحتقر شيئاً منها.
وإلا فإن الناس سينفرون منه, ويحذرون من التعامل معه.
ورحم الله ابن فارس إذ يقول:
إذا كنت في حاجة مُرْسِلاً ... وأنت بها كَلِفٌ مغرمُ
فأرسل حكيماً ولا توصِه ... وذاك الحكيم هو الدرهمُ
إكرام الضيف عادة عربية, وشعبة إيمانية, وخصلة حميدة.
قال النبي": =من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه+.
وبعض الناس يظن أن إكرام الضيف يقتصر على إطعامه الطعام فحسب.
ولا ريب أن ذلك من أعظم حقوق الضيف.
ولكن مفهوم الضيافة أشمل, ومعاني الإكرام أوسع؛ إذ يدخل في إكرام الضيف ملاطفته وإيناسه, وحسن استقباله, والإقبال إليه بالوجه إذا تحدث, والحذر من الإشاحة عنه, أو السخرية بحديثه.
والعرب تجعل الحديث, والبسط, والتأنيس, والتلقي بالبشر _ من حقوق القِرى, ومن تمام الإكرام.
وقالوا: من تمام الضيافة الطلاقة عند أول وهلة, وإطالة الحديث عند المؤاكلة.
قال حاتم الطائي:
سلي الجائع الغرثان يا أم منذر ... إذا ما أتاني بين ناري ومجزري
هَلَ ابسط وجهي إنه أول القِرى ... وأبذل معروفي له دون منكري
وقال مسكين الدارمي:
لحافي لحاف الضيف والبيت بيته ... ولم يلهني عنه غزالٌ مْقَنَّعُ
أحدثه إن الحديث من القِرى ... وتعلم نَفسي أنه سوف يهجع
ويعني بالغزال المقنع: الزوجة.
وقال آخر:
وإني لَطلْقُ الوَجْهِ للمبتغي القِِرى ... وإن فنائي للقِرى لخصيب
أضاحك ضيفي قبلَ إنزال رَحله ... فيخصب عِندي والمكان جديب
وما الخِصب للأضياف أن يكثر القِرى القِرى ... ولكنما وجهُ الكريم خصيب
وقيل للأوزاعي×: ما إكرام الضيف؟
=قال: طلاقة الوجه, وطيب الكلام+.(1/32)
وقال ابن عباس _ رضي الله عنهما _: =أَعزُّ الناسِ عليَّ جليسي, الذي يتخطى الناس إليَّ, أما والله إن الذباب يقع عليه فيشق عليَّ!+.
=وعن ابن عباس أنه سئل: من أكرم الناس عليك؟
قال: جليسي حتى يفارقني+.
وقال معاوية÷لعرابةَ الأوسيِّ: بِمَ استحققت أن يقول فيك الشماخ:
رأيت عُرَابَةَ الأوسيَّ يسمو ... إلى الخيرات مُنْقَطِعَ القرينِ
إذا ما رايةٌ رُفِعَتْ لِمَجْدٍ ... تَلَقَّاها عُرابةُ باليمينِ
فقال عرابةُ: هذا من غيري أولى بك يا أميرَ المؤمنين.
فقال: عزمت عليك لتخبرني.
فقال: بإكرامي جليسي, ومحاماتي على صديقي.
فقال: إذاً استحققت+.
وقال الأحنف: =لو جلست إلى مائة لأحببت أن ألتمس رضى كلِّ واحدٍ منهم+.
وكان القعقاع بن شور إذا جالسه رجل, فعرفه بالقصد إليه _ جعل له نصيباً من ماله, وأعانه على عدوه, وشفع له في حاجته, وغدا إليه بعد المجالسة شاكراً.
ولقد كان رسول الله"أكرم الناس لجلسائه, فقد كان يعطي كل واحد من جلسائه نصيبه, ولا يحسب جليسه أن أحداً أكرم عليه منه.
ومن إكرام الضيف أن يقوم المُضيف على خدمته, وأن يتجنب تكليفه بأدنى عمل ولو قل؛ فبعض الناس إذا زاره أحد فجلس إليه _ أخذ يأمره, وينهاه, ويكلفه ببعض الأعمال.
وهذا الصنيع ليس من المروءة في شيء؛ إذ المروءة تقتضي القيام بخدمة الزائر, والمبالغة في إكرامه.
قال المقنع الكندي:
وإني لعبد الضيف ما دام نازلاً ... وما شيمة لي غيرها تشبه العبدا
وقال ابن حبان: =ومن إكرام الضيف طيب الكلام, وطلاقة الوجه, والخدمة بالنفس؛ فإنه لا يذل من خدم أضيافه, كما لا يعز من استخدمهم, أو طلب لِقِراه أجراً+.
ومن الاحتفاظ بالمروءة أن يتجنب الرجل تكليف زائريه ولو بعمل خفيف, كأن يكون بالقرب من الزائر كتاب، فيطلب منه مناولته إياه, أو أن يكون بجانبه الزر الكهربائي, فيشير إليه بالضغط عليه؛ لإِنارة المنزل.
أو أن يأمره بإدارة أقداح الشاي على الضيوف, أو نحو ذلك.(1/33)
قال عبدالله بن عمر بن عبدالعزيز: =قال لي رجاء بن حيوة: ما رأيت رجلاً أكمل أدباً, ولا أجمل عشرةً من أبيك؛ وذلك أني سهرت معه ليلة, فبينما نحن نتحدث إذ غشي المصباح, وقد نام الغلام, فقلت له: يا أمير المؤمنين, قد غشي المصباح, أفنوقظ الغلام؛ ليصلح المصباح؟
فقال : لا تفعل.
فقلت: أفتأذن لي أن أصلحه؟
فقال: لا؛ لأنه ليس من المروءة أن يستخدم الإنسان ضيفه, ثم قام هو بنفسه, وحط رداءه عن منكبيه, وأتى إلى المصباح, فأصلحه, وجعل فيه الزيت, وأشخص الفتيل, ثم رجع وأخذ رداءه, وجلس, ثم قال: قمت وأنا عمر بن عبدالعزيز, وجلست وأنا عمر بن عبدالعزيز+.
أما إذا قام الزائر, وتكرّم بخدمة مزوره فلا بأس في ذلك, خصوصاً إذا كان المزور له حق, أو كان من أهل الفضل والعلم والتقى، أو كان الزائر ممن تُلغى الكلفة بينه وبين المَزُور.
ويدخل في إكرام الضيف بسط العذر له إذا تأخر, فقد يحبسه حابس, فيتأخر قليلاً أو كثيراً؛ فإذا أخذت بالعدل كان لك أن تعاتبه على تأخره, وإذا أخذت بالإحسان والتكرم بسطت له العذر, ولقيته بوجه وضاح, وجبين طلق؛ فيكون ذلك إكراماً آخر, خصوصاً إذا كان كريم الطبع, أو ممن ليس من عادته التأخر.
وهب أنك أفرطت في عتابه, ثم أعطاك ظهره, وعاد أدراجه, ما مصيرك أنت؟
لا شك أنك ستندم, ولات ساعة مندم.
ومن حق الضيف تحمُّل بعض ما يصدر منه من جفاء, أو كثرة أوامر.
ومن تمام حقه إكرام صحبته, وملاطفتهم, واستعلامهم عن أسمائهم, والحذر من احتقار أي واحد منهم.
ومن إكرامه _كما تقول العرب_ إكرام دابته, والدابة في هذا الوقت السيارة, وذلك بوضعها في مكان ملائم, وظل ظليل.(1/34)
ومن لطائف الضيافة ألا ينسيك قيامُك في حق أكابر الضيوف أحداً من الأضياف الآخرين؛ فيحصل كثيراً أن يشتغل المُضيف بالضيف الكبير عن غيره, فربما سلَّم عليه أحدٌ من القادمين, فأشاح عنه, أو لم يقضه حق التحية والإكرام, فيكون ذلك سبباً في القطيعة وإساءة الظن, فحري بالمضيف ألا يغيب عنه ذلك المعنى, وجدير به أن يعتذر إن بدر منه جفاء أو تقصير في هذا الصدد, وحقيق على من وقعت له تلك الحال من الضيوف أن يعذر المُضِيفَ, وألا يؤاخذه في مثل تلك الحالات التي يذهل فيها الإنسان.
ومن تمام الإكرام شكر الضيف على الزيارة, والدعاء له, وطلب زيادة مكثه.
ومن تمام الإكرام تقريبُ الطعام له, وترغيبه فيه, على ألا يصل ذلك إلى حد الحرج, والإملال, والإثقال؛ وهذا راجع إلى ذوق المضيف, ولطفه, وألمعيته.
ومنها أن يحرص على تهيئة مكان لراحة الضيف, ونومه, وهدوء باله.
وفي المقابل فإنه يحسن بالزائرِ الجائي الضيفِ أن يراعي بعض الآداب، ومنها أن يأتي في الوقت المحدد, وألا يحبس الناس في انتظاره, وأن يبادر إلى الاعتذار إذا تأخر.
ومن آداب الضيف الزائر أن يدعو للمضيف, وأن يَنْزِل على حكمه, وأن يراعي عاداته ما لم تخالف الشرع.
ومنها أن يشكر المضيف, ويبادله عبارات الإكرام, وأن يحذر من انتقاد طعامه؛ فما عاب رسول الله " طعاماً قط.
ومن أعظم ما ينبغي استحضاره في باب إكرام الضيف أن يستشعر المضيف أن إكرام الضيف قربة إلى الله _عز وجل_ وأنه سنة المرسلين، وأنه اقتداء بهم؛ فأبونا إبراهيم _عليه السلام_ يُكنى بأبي الأضياف؛ لجوده، وكثرة إكرامه لضيوفه.
كما ينبغي للمضيف أن يحذر من المباهاة، والإسراف.
كما ينبغي له أن يحتسب بإكرامه إدخال السرور على إخوانه، وتقوية رابطتهم باجتماعهم وتآلفهم.
شريف النفس, عظيم الخلق، بعيد الهمة لا يسعى إلى الخصومة, بل يحرص كل الحرص على البعد عنها.(1/35)
ومن البلاء عليه أن يظن ظانٌّ أنه خصم له, فترى ذلك الخصم يسعى سعيه للنيل منه, وما علم أنه في واد, وصاحبه في واد آخر.
ولهذا ترى هذا الخصم يتعب, ويُجْلِبُ بخيله ورَجِلِه, وصاحبه خَلِيُّ الفؤاد, لا يخطر الشر بباله, ولا يمر بخياله على حد قول المتنبي:
وأتعب من ناداك من لا تجيبه ... وأغيظ من عاداك من لا تشاكل
وإذا اضطر شريف النفس إلى الخصومة لم يحد عن سبيل الحق والشرف قيد أنملة؛ فالخصومة الشريفة هي التي دعا إليها سبب معقول, وتبودلت فيها الحجج والبراهين من غير مهاترة أو مسابة, وقامت على الوسائل المكشوفة الظاهرة لا الخفية الدنيئة, وخرج كل خصم من الخصومة شريفاً لم تدنسه الخصومة؛ فهي كالصراع بين فارس نبيل وآخرَ مِثله, لا بد لحربها من سبب قوي؛ فإذا تحاربا خضعا لأدب الحرب, وترفعا عن الصغائر والسفاسف وأساليب الخداع والمراوغة, ثم إذا انتهى الصراع انتهت الخصومة.
جاء في كتب السير أن رجلاً في أيام صفين قام على معاوية÷ وقال له: اصطنعني فقد قصدتك من أجبن الناس, وأبخلهم, وألكنهم.
فقال معاوية: من الذي تعنيه؟
فقال الرجل: علي بن أبي طالب.
فقال معاوية: كذبت يا فاجر, أمَّا الجبن فلم يك قط فيه, وأمَّا البخل فلو كان له بيتان بيت من تبر وبيت من تبن لأنفق تبره قبل تبنه, وأما اللكن فما رأيت أحداً يخطب أحسن من علي إذا خطب, قم قبَّحك الله.
ومحا معاوية اسم الرجل من ديوانه.
وجاء في السير _أيضاً_ أنه أنشد في مجلس أمير المؤمنين علي بن أبي طالب÷ قول الشاعر:
فتى كان يدنيه الغنى من صديقه ... إذا ما هو استغنى ويبعده الفقر
كأن الثريا عُلِّقت بجبينه ... وفي خده الشِّعرى وفي الآخر البدر
فقال علي÷: =ذاك _ والله _ طلحة بن عبيد الله+.
وكان السيف في ذلك الوقت مجرداً بينهما؛ فانظر إلى شرف الخصومة, وعظمة الإنصاف.(1/36)
وبعد: فإذا لم نتخلق بأخلاق الأكابر والعظماء فلا أقل من أن نتخلق بأخلاق الملاكمين والمصارعين؛ حيث تبدأ الجولات بين الخصمين باللكمات والضربات، وتنتهي بالمصافحة والقبلات!
لا أعني بالجمال ههنا الجمال الحسي, وإنما أعني به الجمال المعنوي؛ فقد يكون الإنسان جميل الصورة، حسن الهيئة، وهو عريٌ من الفضائل، خال الوفاض من الأخلاق.
وهل ينفع الفتيان حسن وجوههم ... إذا كانت الأخلاق غير حسان
فلا تجعل الحسن الدليل على الفتى ... فما كل مصقول الحديد يماني
وقال ابن لنكك:
إذا أخو الشمس أضحى فعله سمجاً ... عَدَدْتَ صورتَه من أقبح الصور
وهبك كالشمس في حسن ألم ترنا ... نَفِرُّ منها إذا مالت إلى الضرر
ومعنى البحث عن الجمال ههنا أن تبحث عن المعاني الجميلة في الناس؛ فقد ترى الرجل بادي الرأي؛ فيخيل إليك أنه كزٌّ غليظ, لا يطاق, فإذا باثثته وكشفت عن جلية أمره، وأحسنت الدخول إلى قلبه _ وجدت نفساً رضية,وأخلاقاً مرضية, ومروءات كامنة, وإحساسات مرهفة؛ فتحمد الله _حينئذ_ أنك لم تستعجل في إصدار الحكم, أو تصديق الظن الأَوَّلي.
وبعدُ فابحث عن الحق, والخير, والجمال, ولا تظنن أن الناس متمحِّضون للشر؛ فكل مولود يولد على الفطرة، وغالباً ما يكون فيه بقايا من تلك الفطرة، وإن بلغ ما بلغ من الشر.
كثيراً ما تطرَّق النقاد والأدباء إلى تعريف الشعر, وحدِّه, ولا ريب أن التعريف يَضْبِطُ, ويُقَرِّب, ولكن الشعر قد يصعب أن يُعَامَل معاملة العلم؛ فَيُضْبطَ بالتعريفات المنطقية؛ ذلك أن المنطق جفاف، وجمود, وتقعيد, وربما تعقيد, والشعر شعور، وسيلان, وإشارات على حد قول البحتري:
كلفتمونا حدود منطقكم ... والشعر يغني عن صدقه كذبه
ولم يكن ذو القروح يلهج بالـ ... ــمنطق ما نوعه وما سببه
والشعر لَمْحٌ تكفي إشارته ... وليس بالهذر طُوِّلَتْ خُطَبُه(1/37)
ولقد تكلم الشعراء, والأدباء على وصف الشعر سواء أكان ذلك نثراً أم شعراً, ومن أبدع ما كُتِبَ في ذلك نثراً _ ما خطته يراعة البارودي في مقدمة ديوانه.
ومن أمتع ما قيل في ذلك شعراً ما قاله علامة العراق الأستاذ الشيخ محمد بهجة الأثري وذلك في قصيدته التي جاءت في ديوانه تحت عنوان: (الشعر كما أراه) حيث قال فيها:
الشعر ما روَّى النفوس معينُه ... وجرت برقراق الشعور عيُونُه
وصفت كََلأْلاءِ الضِّياءِ حروفُه ... وزهتْ بوضَّاء البيان مُتونُه
متألِّقُ القسمات، فتَّانُ الرُّؤا ... يزهو صِبا الفصحى الطريرَ رصِينُه
حرُّ المذاهبِ لا يشوبُ أصولَه ... كدَرٌ، ولا واهي اللغات يشينُه
ابنُ الحقيقةِ، والحقيقةُ نهجه ... والصدقُ في أَرَبِ الحياةِ خدينُه
العبقريَّةُ نفثُه، والبابليَّـ ... ــةُ فعلُه، وهوى الطرافة دينُه
تجري على سَنَنِ الجلال خِلالُه ... ويرودُ أوضاحَ الجمالِ يقينُه
وتُريغُ أسبابَ الحياة شمالُه ... وتروح صائنةً لهنَّ يمينُه
غَرِدٌ كصدَّاحِ الكنارِ، مُساوقٌ ... نغمَ الطبيعةِ، راقصٌ موزونُه
وكما تشفُّ عن الشراب كؤوسه ... لَمْحاً تُبينُ عن الضميرِ لحونُه
دلُّ الحِسانِ الغانياتِ فنونُه ... وخدُودهنَّ الناعماتُ فتونُه
يفْتَنُّ طلْقَ الروحِ في مضماره ... ويروح تلعبُ بالعقولِ فنونُه
مِزمارُ أوطارٍ، وحادي أمَّةٍ ... يحدو على شرف الحياة مُبينُه
إن راقص الآمالَ أنعشَ بائساً ... وارتاح مكروبُ الفؤادِ حزينُه
أو أنَّ مكتئباً ببرْحِ شُجونه ... أَوْرَى الجَوَى في سامعيْه أنينُه
أو حنَّ مُشتاقاً إلى أوطارِه ... بعثَ المِراحَ إلى النفوس حنينُه
أو رنَّ بالشَّدواتِ مِن تشبيْهِه ... أذكى أُوارَ العاشقينَ رنينُه
أو هاج غضبانَ الحفيظةِ ثائراً ... بعثَ الجبانَ إلى الوغى تلحينُه
حتْفُ الطُغاةِ إذا كوى مُتغطرساً ... ألْوى وأَهْطَعَ طرْفُه وجبينُه
يمضي وفي التاريخ باقٍ وسْمُه ... ويَظَلُّ وهْو طريدُه ولعينُه
يزكو ويخلُدُ من سرِيِّ حروفِه ... مأمونُهُ في صدقِه وأمينُه(1/38)
ويموت مخنوقَ الصَّدى من فوْرِه ... مكذوبُه ودعيُّه وأفينُه
راودتُ أحلامَ الشبابِ فلم أجد ... كالشِّعرِ تُدنيها إليَّ فنُونُه
بَرْدٌ على حرِّ الشَّغافِ وبلسمٌ ... كَيَدِ (المسيح) رَؤُمُه وحَنونُه
أتنوَّرُ الصَّبواتِ بينَ رياضِه ... وظلالُه ميَّادةٌ وغُصونُه
تَنْدَى فيُذْكي بردُهُنَّ حرارتي ... ويهيجُ بي شوقُ الهوى وجنُونُه
ويعودُ بي سحرُ الخيالِ إلى الصِّبا ... ويطيرُ بي من فتنةٍ مجنونُه
أنا والصِّبا والشِّعرُ حُلْمٌ حالمٌ ... مَرِحتْ بأهدابِ الجُفُونِ فُتُونُه
طيْفٌ أطافَ من الشبابِ مُلاوةً ... لو دامَ لي ذاك الشبابُ وحينُه
زمنٌ تبدَّدَ والشبابُ وراءَه ... جارٍ، وآفاتُ المشيبِ تخونُه
ولَّى كما خَفَقَ السَّرابُ فعادَ من ... أوهامِه مخدوعُه وغَبِيْنُه
وصحوْتُ أسْتَبقِي القريضَ لِوَاهنٍ ... في جانبِي يخلُو له ويُعينُه
أينَ الجديدُ البكرُ ليس بضالعٍ ... مَشْياً وليس بناصِلٍ تلويْنُه؟
الواثبُ الروحِ الأصيلُ شُعُورُه ... وخيالُه ونُزُوعُه ويقينُه
تمتصُّ من حرِّ البيانِ عُرُوقُه ... ويُجلُّه إيقاعُه ويَزينُه
زاهٍ بأبكارِ التَّخيُّلِ ثوبُه ... لا عُورُهُ تَنْتاشُهُ أو عُونُه
يَسْتَنُّ سِحرُ الحُسنِ في أعطافِه ... ويَتِيْهُ منه رقيقُهُ ومَتيْنُه
وكأنَّما سُقِيَ الرَّحيقَ مُعلَّلاً ... فتَوَرَّدتْ وَجَناتُه وعُيوُنُه
_ المتنبي قريب من أبي تمام من جهة الحكمة غير أن أبا تمام ينزع إلى الصنعة البديعية على حين أن المتنبي يُعنى بالفكرة أكثر من عنايته بالمحسنات.
_ يلاحظ أن بين الحطيئة والبحتري أوجه تشابه؛ فشعرهما من الناحية الفنية لا يشق له غبار من حيث السلاسة, والعذوبة, والرقة, والإطراب.
وهما _كذلك_ متشابهان في الطباع, والأخلاق, وعليك الباقي.
_ كثير من الشعراء الفحول علماء, غير أن الشعر غلب عليهم كبشار, وأبي نواس, وأبي تمام, والمتنبي وغيرهم.(1/39)
وكثير من العلماء شعراء غير أن العلم فيهم أغلب كالشافعي, وابن فارس, وابن دريد, وابن تيمية, وابن القيم, وابن حجر, والشوكاني وغيرهم.
ظاهرة منتشرة تشيع في أوساط الناس، وتتغلغل في كثير من الطبقات، تلكم هي ظاهرة التعميم.
ولأجل أن يتحدد الموضوع، وينحصر فإنه يحسن أن يقال: ظاهرة التعميم في الحكم.
هذه الظاهرة تأخذ صوراً شتى، منها التعميم في الحكم على الأشياء، أو الحكم على الأشخاص، أو الحكم على الأفكار، أو الحكم على البلدان، أو حتى الحكم على الأسماء إلى غير ذلك من صور التعميم.
ولا ريب أن التعميم في الحكم ليس من مسلك العقلاء الباحثين عن الحقيقة الذين يبنون أحكامهم على دراسة متأنية، ونظرة شاملة، وعدل وإنصاف بعيداً عن العجلة، والمجازفة، وغلبة الهوى.
فصحة التفكير، والحكم على الأشياء، وجودة التصور والتصديق ليست منوطة بموهبة الذكاء.
بل هي منوطة بتربية النفس منذ الصغر على حب الخير والحق، والتجرد من الشرور والأهواء، واهتمام بإدراك الأمور من جميع وجوهها، وإدراك الفروق بين المشتبهات عند التباسها.
وإذا تربى الفكر منذ الصغر على صحة التفكير نشأ صاحبه سديد الحكم، محباً للحق سواء أكان له أم عليه.
وإذا كانت الثانية بات الرجل وليس فيه من الرجولية إلا اسمها.
قال الله _ جل وعلا _: [وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا] وقال: [يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ]وقال:[وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى]
قال ابن حزم ×: =وجدت أفضل نعم الله _ تعالى _ على المرء أن يطبعه على العدل وحبه، وعلى الحق وإيثاره.
وأما من طبع على الجور واستسهاله، وعلى الظلم واستخفافه _ فلييأس من أن يصلح نفسه، وأن يقوم طباعه أبداً، وليعلم أنه لا يفلح في دين ولا خلق محمود+.(1/40)
وقال الشيخ محمد الطاهر بن عاشور ×: =والعدل مما تواطأت على حسنه الشرائع الإلهية، والعقول الحكيمة، وتمدَّح بادعاء القيام به عظماء الأمم، وسجلوا تمدُّحهم على نقوش الهياكل من كلدانية، ومصرية، وهندية.
وحسن العدل بمعزل عن هوى يغلب عليها في قضية خاصة، أو في مبدأ خاص، تنتفع فيه بما يخالف العدل بدافع إحدى القوتين: الشاهية، والغاضبة+.
ومن أجلى صور التعميم مما مر ذكره إجمالاً التعميم في الذم، فتجد من الناس من يَغْلِبُ عليه جانب المبالغة في إطلاق الأحكام؛ فتراه يعمم الحكم في ذم قبيلة، أو أسرة، أو جماعة، أو اسم من الأسماء، أو فكرة من الأفكار دونما بحث أو تحرٍّ أو إنصاف.
وهذا التعميم قد يزري به عند العقلاء، وقد يوقعه في حرج دون أن يتنبه له؛ فقد يكون من بين الحاضرين من يتناوله ذلك الذم العام الظالم؛ فلا يتنبه له المتكلم أو الكاتب إلا بعد أن تقع الفأس بالرأس.
بل ربما عرَّض ذلك الذامُّ المعممُ نفسه للإساءة، فقد يسيء بصنيعه إلى شخص غضوب لا يتحمل الإساءة، فيقوده ذلك الصنيعُ إلى الإساءة أو التشفي، وردِّ الإساءة بمثلها أو أشد.
ولهذا كان من الأهمية بمكان أن يتفطن المرء لهذا الأمر، وأن يتحفظ من سقطات لسانه، وكبوات يراعه، وأن يتجنب كلَّ ما يشعر بأدنى إساءة أو ظلم لمن لا يستحقه؛ فذلك أسلم له، وأحفظ لكرامته، وأقرب لتقواه لربه.
قال ابن المقفع: =إذا كنت في جماعة قوم أبداً فلا تعُمَّنَّ جيلاً من الناس، أو أمة من الأمم بشتم ولا ذم؛ فإنك لا تدري لعلك تتناول بعض أعراض جلسائك مخطئاً؛ فلا تأمن مكافأتهم، أو متعمداً؛ فتنسب إلى السفه.
ولا تذمن مع ذلك اسماً من أسماء الرجال، أو النساء بأن تقول: إن هذا لقبيح من الأسماء؛ فإنك لا تدري لعل ذلك غير موافق لبعض جلسائك، ولعله يكون بعض أسماء الأهلين، والحُرُم.
ولا تستصغرن من هذا شيئاً؛ فكل ذلك يجرح في القلب، وجرح اللسان أشد من جرح اليد+.(1/41)
وبناءً على ما مضى فإن التحري، ولزوم العدل، والسلامة من الهوى من أوجب ما يجب على المتكلم أو الكاتب؛ فلا يليق به أن يؤسس قاعدة عامة يبني عليها حكماً كلياً بسبب خطأ، أو سوء تصرف بدر من أحد أفراد ذلك العموم.
وقد يكون ذلك العموم يحمل قاسماً مشتركاً من ذلك الحكم، ومع ذلك فإنه يحسن التحري إذا أريد الحكم على واحد بعينه؛ فإن الجمع المرادَ ذمُّه قد يكون فيه خطأ أو ظلم، ومع ذلك فإن الخطأ والظلم قد يتفاوت قلة وكثرة.
ولعل من أسباب تلك الظاهرة قِصَر النظر؛ فبعض الناس قد يمر بموقف ما، سواء من أهل بلد أو طائفة، فيجعله ذريعة لتعميم النَّيْل من أهل ذلك البلد أو من تلك الطائفة، وغاب عنه [وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى] وأن [كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ].
يقول العلامة الأستاذ محمد كرد علي × في مذكراته: =وكثيراً ما رجوت بعض المتسرعين في أحكامهم ألا يُجْرُوا نقدهم بصورة عامة، وأن يخصوا بانتقادهم الفرد لا يؤاخذون المجموع بما ارتكبه واحد أو آحاد، وأقول: ليس المعيار في الرجل مذهبه،ولا بلده، ولا جنسيته.
وما المعيار إلا أخلاقه، والأخلاق تختلف من رجلٍ إلى رجل، كما تختلف صور الآدميين+.
كثيراً ما تتوارد خواطر الشعراء حول معنى واحد, ولا غرابة في ذلك خصوصاً إذا كان في معاني المدح أو الذم أو الفخر.
ولو قلبت النظر في كثير من الدواوين الشعرية لرأيت أن المعاني قريبة من بعض, ولكن قد يختلفون في حسن الصياغة.
وقد يكون التوارد من قبيل السرقات الشعرية, وهي فن من فنون الشعر لا يثرب على صاحبه, خصوصاً إذا ألبس المعنى ثوباً جميلاً ملائماً, بل ربما فاق من سبقه كما يذكر في شأن بشار, وسَلْم الخاسر, وذلك عندما قال بشار:
من راقب الناس لم يظفر بحاجته ... وفاز بالطيبات الفاتكُ اللهجُ
فأخذ سَلْمٌ هذا المعنى, وصاغه بعبارة أخصر وأجمل, فقال:
من راقب الناس مات هماً ... وفاز باللذة الجسور(1/42)
ولعل الأجمل في هذا الشأن _أعني توارد الخواطر, أو السرقات الشعرية_ ما كان حول معنى بديع غامض.
وهذا كثير في الشعر؛ حيث تجد أن الجاهلي يسوقه في معرض, ثم يأخذه الإسلامي ويورده في معرض آخر, ثم يأخذه العباسي أو الأندلسي ويعرضه بصورة ثالثة وهكذا...
ومن ذلك قول امرئ القيس:
سموت إليها بعدما نام أهلها ... سموَّ حبَاب الماء حالاً على حال
فأخذه عمر بن أبي ربيعة فقال:
ونفَّضت عني النوم أقبلت مشية الـ ... ـحباب وركني خيفة القوم أزور
ثم أخذه أحد الأندلسيين فقال:
دنوت إليه على بعده ... دنوَّ حباب درى ما التمس
أَدِبُّ إليه دبيب الكرى ... وأسمو إليه سموَّ النفس
ومن هذا القبيل معنى مطروق, وهو التفكير في احتمال الشر, والمبالغة في الخوف من وقوعه, مع أن مجرد وقوعه أخف وأيسر من مجرد انتظارهِ وكثرةِ التفكير فيه؛ فمن الحكمة والعقل ألا يجمع الإنسان على نفسه بين الألم بتوقع الشر, والألم بحصول الشر؛ فليسعد ما دامت أسباب الحزن بعيدة عنه, وإذا حدثت فليقابلها بشجاعة واعتدال.
وإلى هذا المعنى تواردت خواطر كثير من الشعراء, يقول البحتري:
لعمرك ما المكروه إلا ارتقابه ... وَأَبْرَحُ مما حلَّ ما يُتَوقَّعُ
ويشير إلى ذلك أبو الطيب المتنبي بقوله:
كل ما لم يكن من الصعب في الأنفس الأنفس ... سهل فيها إذا هو كانا
وكذلك أبو علي الشبل يقول:
ودع التوقع للحوادث إنه ... للحي من قبل الممات ممات
ومن المعاني اللطيفة التي يتوارد عليها الشعراء _ معنى لزوم الاعتدال حال السراء والضراء, قال عبد العزيز بن زرارة الكلابي:
قد عشت في الدهر أطواراً على طرق ... شتى فصادفت منها اللين والبشعا
كُلاًّ بلوت فلا النعماء تبطرني ... ولا تخشعت من لأوائها جزعا
وقال البعيث أو تأبط شراً:
ولست بمفراح إذا الدهر سرني ... ولا جازع من صَرْفه المتقلب
وقال علي بن المقرب العيوني:
فما أنا في السراء يوماً فروحها ... ولا أنا في الضراء يوماً جزوعها(1/43)
فهذه إشارات يسيرة في توارد الخواطر عند الشعراء، وكتب الأدبِ، والبلاغة حافلة بهذا الأمر، ككتاب الصناعتين لأبي هلال العسكري، والمثل السائر لابن الأثير، وغيرهما.
البساطة, وأخذ الأمور مأخذاً سهلاً بعيداً عن التعقيد, والرسمية _ يعطي الحياة رونقاً, ومذاقاً لذيذاً, ويقضي على جراثيم الأبهة, والعظمة الزائفة, ويريح من أعباء تنال نيلها من الصحة, والأعصاب, والمال.
ولا أعني بذلك الفوضى, وترك الحبل على الغارب على حد قول شاعر النيل:
ولذيذ الحياة ما كان فوضى ... ليس فيه مسيطر أو نظام
وإنما المقصود أن يكون هناك نوع من المرونة يكسر حدة الصرامة والجدية، ويضفي على الحياة شيئاً من اللطافة والبهجة.
ومن التكلف المذموم ما كان في الكلام، وذلك إذا كان مشتملاً على تقعُّرٍ، وتطلُّب للغريب.
والبلاغة تقتضي أن يكون الكلام من باب (السهل الممتنع) السهل فهمه، الممتنع رومُه والنسجُ على منواله؛ بل لقد قيل لأحد البلغاء: ما حدُّ البلاغة؟ قال: =التي إذا سمعها الجاهل ظنَّ أنه يقدر على مثلها، فإذا رامها استعصت عليه+.
قال أبو هلال العسكري × في كتابه الماتع (الصناعتين) ص62: =وقد غلب الجهل على قومٍ فصاروا يستجيدُون الكلامَ إذا لم يقِفُوا على معناه إلا بكَدّ, ويستفصحونه إذا وجَدُوا ألفاظَه كزَّة غليظةَ, وجاسِيةً غريبة, ويستحقِرُون الكلامَ إذا رأَوْه سَلِساً عذباً وسهلاً حُلْواً؛ ولم يعلموا أنَّ السهلَ أمنعُ جانباً, وأَعزُّ مَطْلَباً؛ وهو أحسنُ موقعاً, وأعذبُ مستَمَعاً.
ولهذا قيل : أجود الكلامِ السهلُ الممتنِع.
أخبرنا أبو أحمد قال: أخبرنا الصولي, قال: حدّثنا أحمد بن إسماعيل, قال: وصف الفضل بن سهل عمرو بنَ مسعدة فقال: هو أبلغُ الناسِ؛ ومِنْ بلاغَتِه أنَّ كلَّ أحدٍ يظنُّ أنه يكتُبُ مِثْلَ كُتُبِه, فإذا رَامَها تعذَّرَتْ عليه+.
ومن التكلف _كذلك_ التكلف في الملبس، والمشية، إلى غير ذلك من صنوف التكلف الذي نهينا عنه.(1/44)
الحزنُ يُقْلِقُ والتجمل يردع ... والدمع بينهما عصيٌّ طيِّعُ
يتنازعان دموعَ عينِ مسهَّد ... هذا يجيء بها وهذا يرجع
في يوم الجمعة الموافق 15/ 5/1423هـ ودعت محافظة الزلفي رجلاً يحار الواصف في تبيان حاله، وما أودع الله فيه من عجيب الحكمة، ولطيف السيرة، ونقاء السريرة؛ فمن هذا الرجل؟ إنه أبو حمد الشيخ المفضال علي بن حمد العتيق _ رحمه الله، وأسكنه فسيح جناته _(1).
لقد فارق الدنيا، وهو في السادسة والستين من عمره؛ حيث ولد عام 1357هـ، وكان متمتعاً بجميع قواه البدنية والعقلية.
لقد مات ميتةً ربما كان يتمناها؛ حيث لم يكن يعاني من أمراض، ولم يقعده ألم، بل إنه لم يذهب إلى المستشفى منذ ما يقرب من خمس عشرة سنة قبل وفاته.
لقد ودع الدنيا بصمت، وهدوء بعد أن ملأ عقول من يرتادون مجلسه، أو يحرصون على اللقاء به _ حكمةً، ورويةً، وحِنكةً وبعدَ نظرٍ.
لقد كان على طَرْزٍ نادر من حسن التبصر، والتحليل، والنظر في مجاري الأمور.
ولقد كان يملك قدرة عجيبة على حسن المحاضرة والحديث، وجميل الإلقاء، وقوة التأثير في السامعين؛ حتى إنه إذا تحدث أخذ بمجامع القلوب.
وكان إذا وعظ موعظة في الصدقة، أو الصلاة، أو الورع، أو الغيرة _ ذهبت تواً إلى القلوب.
وكان شديد الغيرة على محارم الله، شديد الغيرة لدين الله _عز وجل_.
وكان سريع الدمعة، قوي الخشية من الله، كثير الذكر والتعظيم لله _عز وجل_.
وإذا جلست بجانبه وهو يقرأ القرآن تعجبت لحسن تدبره، ووقوفه مع الآيات، وشدة تأثره بها.
وكان جليسه لا يمل حديثه حتى إنه ربما طال الحديث، وامتد إلى ساعات، ولسان حال جلسائه يقول: هل من مزيد؟
وكثيراً ما تكون لقاءاته وجلساته مع محبيه من بعد صلاة الفجر، ثم تمتد إلى أن يتعالى النهار دون أن يشعر الحاضرون بذلك.
__________
(1) 1_ كتبت هذه الخاطرة عنه بُعيدَ وفاته، وأضفتها إلى هذه الخواطر؛ لما فيها من العبرة، والفائدة.(1/45)
وكان عفَّ اللسان، طيبَ القلب، بعيداً كل البعد عن الحسد، والحقد، والأثرة، وسوء الظّنة.
وكان لا يضيق ذرعاً بمن يخالفه، ولا يسفهه، ولا يحتقره، فإن اقتنع محاورُه بما يقوله ويلقيه، ويبديه من آراء وإلا تركه وشأنه دون أن يتعصب لرأيه، أو يسيء إلى من يحادثه.
وكان ذا قدرة على مجاراة كافة الطبقات، فتراه يجالس الكبار العوام، ويجالس الشباب، ويجالس أهل العلم، فيأخذ بالألباب إذا تحدث، ويعطي كل طبقة ما يناسبها، ويلائم عقولها.
وكان ذا قدرة عجيبة على السبر، والتحليل، والنظر في العواقب.
وله _ في هذا الصدد _ نظرات ثاقبة، وآراء سديدة، وتحليلات بارعة، وأقوال سائرة في الناس، يتروَّاها ويتحدث بها من جالسه وخالطه.
وكان قلبه يفيض بالرحمة للمساكين، والفقراء، والمحتاجين، وكم كانت الدمعة تغالبه، والبكاء يعاجله إذا تحدث في هذا الشأن.
وكان يحسن الربط بين الماضي والحاضر، ويجيد النظر في المستقبل.
وكان يحرص في أحاديثه على ربط الشباب بالسلف الصالح الأوائل، وبالسلف الصالح القريب من عصرنا من الآباء الصلحاء، والأمهات الصالحات ممن كانوا ذوي تقىً وورع وكرم.
ويقول: إن هذا الجيل ربما استصعب الاقتداء بالأوائل، ورأى ذلك ضرباً من الخيال، أما إذا حُدِّث عن القريبين منه كان ذلك مدعاة لقبوله، وسرعة استجابته.
وكان يغتنم الفرص، ويراقب أحوال الناس، وقلما يمر حدث من الأحداث إلا ويتناوله بالتحليل، والنظر، والتأمل، والتعليق، سواء أكان الحدث كبيراً على مستوى الأمة، أم صغيراً لا يلفت النظر، ولا يستدعي الوقوف عنده.
وأذكر قبل سنتين من وفاته أني كنت بجانبه بعد صلاة الفجر، وكنا في مسجد بجانب منزل فيه نخيل، وداخله دجاج وغنم.(1/46)
وسمع صوت دجاجة، فالتفت إليَّ وكبر الله، وأخذ يبدي، ويعيد ويفرِّع على هذا الصوت، ويبين أن الدجاجة تؤدي رسالة منوطة بها؛ فهي تحرص على فراخها، وتحوطهن برعايتها، ثم انطلق من خلال ذلك إلى دقة خلق الله، وإلى أن هذا الكون مترابط، وأنه يسير بنظام عجيب محكم، وأنه لا يخل بنظام الكون إلا ابن آدم إذا عصى الله _ عز وجل _ وهكذا استرسل في موعظته المنسوجة إلى أن ارتفعت الشمس.
وقبل وفاته بأسابيع حدثني أنه شاهد في إحدى المزارع ديكاً رومياً، وقال: لقد رأيت فيه أكثر من سبعين آية.
وكان × على اطلاع في التاريخ القديم، والحديث.
وكان صاحب تنظير في الغذاء، وحفظ الصحة، وتدبير المعيشة.
وكان لا يبخل في المشورة، أو النصيحة لمن أرادها منه؛ بل كان يبتدر ذلك وإن لم يُسأل.
وكان له × مصطلحات، ورموز وإشارات يفهمها من يطيل مجالسته، ويعرف مراميَ كلامه.
وكان يبدع ويغرب في الحديث عن المكارم والمروءات، والشجاعة والعفة.
وله أخبار في ذلك يطول وصفها.
وله نظرات في المرأة، والتعامل معها، وما يحاك حولها، ومدى الفتنة الحاصلة بسببها إذا هي انحرفت، ومدى ما تجنيه الأمة من صلاح المرأة وعفتها وحيائها.
وأحفظ له في هذا الشأن قصصاً وأخباراً.
وكان × يحسن التعامل مع الأحداث و المتغيرات.
وكان يعطي كل ذي حق حقه، ولا يحتقر أي أحد كائناً من كان؛ فلا غرو _إذاً_ أن يكون جلساؤه من الكبار الذين يكبرونه في السن كثيراً، أو من هم في سنه، أو من هم أصغر منه بكثير.
وكان إذا جلس مجلساً وهم لا يدركون ما يقول اكتفى بالصمت، والاستماع.
وكان ذا ورع، وزهد، وبعد عن المشتبهات.
ومما يجدر التنبيه عليه أن الشيخ علياً × قد درس في كلية الشريعة، وتتلمذ على يد عدد من المشايخ في الرياض كالشيخ العلامة محمد الأمين الشنقيطي، والشيخ العلامة عبد الرزاق عفيفي، وسماحة الإمام الشيخ عبد العزيز بن باز _رحمهم الله_.
ودرس على سماحة الإمام الشيخ محمد بن إبراهيم ×.(1/47)
ودرس على يد كثير من العلماء لما كان في الرياض.
وكان محباً لهؤلاء المشايخ، ومحباً لغيرهم من أهل العلم كالشيخ العلامة عبدالرحمن الدوسري × حيث كان كثير الاستماع لأشرطته.
وقد عُرض عليه القضاء، فأبى، ولم يقبل مع كثرة الإلحاح عليه في ذلك.
وكان × لطيفاً في أمره ونهيه، وأذكر أنه لقي شاباً يشرب الدخان في أحد الأسواق، فسلم عليه، وقال له: من الأخ؟ فقال: أنا فلان بن فلان آل فلان، فقال الشيخ: والله لو تعلم ماذا كان عليه أجدادك من النخوة، والشيمة، والكرم والديانة لما كان هذا صنيعك.
وقد أراد الشيخ بهذا أن يحرك نوازع الخير في ذلك الشاب؛ فما كان من الشاب إلا أن ألقى السيجارة، وقال: جزاك الله خير الجزاء، وسأقلع عن التدخين _إن شاء الله_.
وهذا الأدب مقتبس من مثل قوله _ تعالى _: [يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ ] و [يَا أَهْلَ الْكِتَابِ] وغيرها من الآيات التي تستدعي الإيمان في الإنسان.
وكان يقول لي: الداعية العاقل في هذه الأزمان ينبغي ألا يقتصر على طريقة واحدة في الدعوة، بل ينبغي أن يكون له مليون طريقة _ هذا نص عبارته _.
قلت له: ولم ذلك؟ قال: لأن الناس تختلف مشاربهم، وأذواقهم؛ فلا يناسبهم طريقة واحدة.
ويقول لي: لقد اكتشفت أن بعض الناس لا تستطيع التأثير عليهم إلا من باب استثارة نخوتهم، وبعضهم من باب الدعابة، وهكذا...
وكان _حريصاً_ على إرجاع الشيء إلى أصوله، ولم يكن يكتفي في التحليلات أو العلاجات السطحية المباشرة.
يذكر الأخ الأستاذ سليمان بن موسى العمير _وهو من خاصة ندمائه_ أنه دار الحديث في يوم من الأيام عن حوادث السيارات، وعن أسبابها، وسبل علاجها، فقال الشيخ علي: علاجها يكمن في أمور منها: المحافظة على الصلاة، وترشيد المشاوير، واختصار الطريق إذا أراد الإنسان أن يقضي حوائجه، وترك الدخان.
ثم قال: وأم عُبَيَّة، فقيل له: ومن أم عبيَّة، وما شأنها في هذا؟(1/48)
قال: أم عبيَّة المرأة، وشأنها أن تلزم بيتها؛ لأنها تشغل المارة، وربما تسببت في الحوادث.
ولقد صدق × فلقد نشرت الصحف قبل فترة أنهم اكتشفوا في اليابان أن تبرج النساء، وكثرة خروجهن للأماكن العامة من أكبر أسباب حوادث السيارات خصوصاً في فصل الصيف؛ حيث يُشْغَل قائد السيارة بالنظر إلى النساء، ثم يغفل عن طريقه؛ فتقع الحوادث.
وكان يقول: لو كان الأمر بيدي لمنعت أكثر من 70% من المبيعات في الأسواق، كالمعلبات، والمشروبات الغازية، ونحوها؛ لما فيها من الضرر على الصحة.
وكان × من أشد الناس تحذيراً من المكيفات، وشدة تبريدها، وضررها على الصحة، بل لقد كان ذلك مستفيضاً عن جميع من يعرفه، وقلَّ أن يجلس في مجلس إلا ويتكلم في هذا الشأن، ويذكر أخباراً وأضراراً فيه.
وكان يعزو أسباب كثير من الأمراض كالجلطات، والشلل، ونحو ذلك إلى المكيفات.
ويقول لي ذات مرة: إنه دخل عند أحد الأطباء، فبدأ يحدث الطبيب عن المكيف وأضراره وبدأ يفرِّع ويسترسل في كلامه، فدهش الطبيب، واستمع إليه مدة تزيد على الساعة، حتى إن الطبيب نسي مراجعيه من شدة إعجابه بأبي حمد.
وأذكر أنني قابلته في أحد أيام القيظ الحارة جداً، وهو يريد الدخول إلى المسجد، وعليه عباءة _بشت_ من وبر، فقلت له: ما هذا يا أبا حمد؟ وكيف تلبس هذا البشت الغليظ في عزِّ هذه الهاجرة؟ فقال: هذا البشت يساوي عندي سيارتك، أما علمت أضرار المكيفات؟ ثم قال: هذا البشت ينطبق عليه قوله _تعالى_: [وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُم] وأشار إلى المكيف.
وكان دائماً يقول: الحَرُّ لا يضر، بل إنه ينفع، ويقول _ مؤيداً كلامه _: هل رأيت خبازاً يذهب إلى المستشفى يشتكي الحر، مع أنه يقابل الفرن ساعات طويلة؟!(1/49)
ولم يكن × يُحَذِّر من التبريد في الجملة، وإنما يحذر من المبالغة فيه، ويحبذ كثيراً تركه؛ لأنه _على قاعدته_ يحب أن يسير كل شيء على طبيعته، ويقول: إن الجسم بحاجة إلى الحر، ولا بد أن يعرق؛ حتى يتوازن، ويعتدل.
ولما قلت له: إن لابن الجوزي في كتاب صيد الخاطر كلاماً يؤيد كلامك هذا _ فَرِحَ، وانبلجت أساريره.
وكان ذا طرفة نادرة، ودعابة محببة، ونكتة حاضرة لا يتكلف ذلك، وإنما يأتي به عفو الخاطر.
وكان يتحسر إذا مات الصالحون، والكرام من الناس، وأذكر أنه لما مات أحد كبار السن المعمرين العقلاء العباد الزهاد، وهو الشيخ عبد الله بن عبد العزيز الرومي × قابلت الشيخ عليّاً في المقبرة أثناء تشييع الجنازة، فقال لي : لقد ذهب اليوم نصف العقل.
وكان يحث على ملاطفة النساء، والقيام بشأنهن مع المحافظة على حشمتهن وحيائهن.
وكان يقول: بعض الناس جلف جافي الطبع لا يعرف امرأته إلا في الفراش، والذي ينبغي أن يجعل يومه عامراً بالود مع أهله بالابتسامة، والبشاشة، والمزاح وما إلى ذلك.
ويذكر لي الشيخ عبد الله الموسى _وهو من أحب جيرانه إليه_ أن الشيخ علياً× يقول: الكريم قد يبخل أحياناً ويغتفر ذلك له، والشجاع قد يجبن أحياناً ويغتفر ذلك له، أما الشرف والعرض فلا تبعيض فيهما أبداً.
وكثيراً ما كنت أقول له: ليتك يا أبا حمد تكتب وتدوِّن نفيسَ خواطرك، وما يجول في ذهنك، فيقول: إنني أتمنى أن أكتب سلسلة عنوانها (أيام الله) فعسى الله أن ييسرها، فمات ولم يكتب شيئاً.
وكان يقول: أتمنى أن أعيش يوماً أحقق فيه الإسلام، فلا أُقَصِّر في واجب، ولا أرتكب منهياً.(1/50)
ودارَ الحديثُ في يوم من الأيام عن الدعوة إلى الله، وتعليم الإسلام لغير المسلمين، فقال: يكفي في تعليمه أن تصحب المدعوَّ في يوم من الأيام من أول الفجر إلى أن ينام فإذا أذن الفجر تعلمه كيف يجيب الأذان، وتتوضأ أمامه، وتعلمه كيف يصلي ثم تجعله يصلي معك، وهكذا تعلمه عمل اليوم والليلة تطبيقاً.
وكان لا يحتقر الفائدة ولو كانت على عجل، يحدثني أحد الإخوان، وهو الشيخ بدر الطوالة قائلاً: =إن الشيخ علياً × لقيه وهو على السيارة، والشيخ علي على سيارته في شارع، فأوقفني، وقال: أَعْلَمُ أنك على عجل، وأنا كذلك، ولكني أسألك: هل يليق بالرجل أن يسب مزرعته؟ فقلت له: لا، فقال: الدنيا مزرعتك؛ فازرع فيها ما شئت ودع عنك سبها، ثم ودَّعني+.
أما نظراته في السياسة فتحتاج إلى كتابة أطول من هذه، وأخباره في هذا المجال يصعب حصرها.
وأذكر مثالاً واحداً في هذا المجال، وهو أنه لما أقيم مؤتمر السكان في القاهرة قبل سنوات، وكان مؤتمراً خبيثاً يدعو إلى التحلل، والانطلاق، والإباحية.
لما كان ذلك قابلت الشيخ، وقلت له: ما رأيك في المؤتمر؟ فقال: لقد قرأت القرآن من الفاتحة إلى الناس، فوجدت آيات القرآن تبرأ من ذلك المؤتمر.
وكان له ميل إلى القراءة في الأدب, وكان يعجب ببعض الأبيات, وربما نقلها في أوراق خاصة, وأذكر أني كنت عنده في بيته في إحدى الليالي, وبدأ يستعرض بعض الكتب, وصار الحديث يدور حولها, ثم أخرج ورقة وفيها أبيات شعرية, فناولني إياها, وقال: هذه الأبيات أعجبتني, وقد جمعت السعادة بحذافيرها, وقد نقلتها من بعض الكتب, واحتفظت بها+.
والأبيات لأبي الفتح بن كشاجم, وهي قوله:
عجبي ممن تناهت حالُه ... وكفاه اللهُ ذلات الطلبْ
كيف لا يقسم شطري عمره ... بين حالين نعيم وأدب
ساعة يُمْتِع فيها نفسه ... من غذاء وشراب منتخب
ودنوٍّ من دمى هنَّ له ... حين يشتاق إلى اللعب لُعَبْ
فإذا ما نال من ذا حظَّه ... فحديث ونشيد وكُتُبْ(1/51)
مرة جدٌّ وأخرى راحةٌ ... فإذا ما غسق الليل انتصب
فقضى الدنيا نهاراً حقَّها ... وقضى لله ليلاً ما وجب
تلك أقسام متى يعملْ بها ... دهره يَسْعَدْ ويرشُدْ ويُصِبْ
وبالجملة فهذه لُمَعٌ من أخبار الشيخ علي العتيق الذي أحب الناس، وأحبه الناس، وحزنوا لفراقه؛ فلعل فيها شيئاً مما يبرز قيمة هذا الرجل، ويرد له بعض حقه، ويجعل فيها موضع قدوة وعبرة.
ولعل الله ييسر فرصة أرحب، ليكتب فيها عن الشيخ بشيء من التفصيل.
رحمك الله يا أبا حمد، وأسكنك الفردوس الأعلى، وأصلح عقبك، وبارك فيهم.
يبحث الأطباء في النوم، وفي مقدار ما يلائم منه للإنسان، ويتكلم أرباب الهمة على النوم، ويذمون إطالته، ويوصون بخفة الرأس، ويمدحون من كان كذلك، كما قال أحدهم في مدح ابنه:
أعرف منه قلة النعاس ... وخفةً في رأسه من راسي
ويشتكي المهمومون، والعشاق، وصرعى الغرام من الأرق والسهاد، كما قال امرؤ القيس:
ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي ... بصبحٍ وما الإصباح منك بأمثل
وكما قال الحصري القيرواني:
يا ليل الصب متى غده ... أقيام الساعة موعده
وهكذا يشكو من قلة النوم مَنْ أرَّقه الهم، وأضناهم الغم أياً كانت أسباب الأرق، كما قال المهلهل بعد مقتل أخيه كليب:
وصار الليل مشتملاً علينا ... كأن الليل ليس له نهار
ولقد كنت كغيري أنزعج إذا أَرِقْتُ، فيجتمع مع الأرق الهمُّ، حتى يسَّر الله لي الحج في عام 1402هـ مع مجموعة من الأقارب كهولاً، وشباباً.
وكان من بين المجموعة قريبٌ لي، اسمه: عبد الرحمن بن علي الحمد، ويُكَنَّى بأبي علي، وكان عمره آنذاك قريباً من الخمسين، وكان عامياً، ذا طرفةٍ، وظرفٍ، وشهامةٍ، وخدمةٍ للآخرين، وكان يجيد الطبخ، ويحرص على إيناس من معه بدون أدنى تكلف، وكان يقود إحدى السيارات، وكانت الرحلة للحج من أول يومٍ من عشر ذي الحجة.
ولا يخفى ما في ذلك من التعب في تلك الأيام من جراء طول المدة، وشدة الحرارة، ونقل الماء، والتنقل بين المشاعر وما جرى مجرى ذلك.(1/52)
ولما قضينا من منًى كل حاجة ... ومسَّح بالأركان من هو ماسح
سلكنا طريق المدينة النبوية قاصدين مسجد رسول الله"وكان الطريق آنذاك غير مزدوج، بل هو طريقٌ واحدٌ للذاهب والآيب، فحصل حادثٌ مروريٌ في منتصف الطريق، فتوقف السير، وكان الوقت منتصف الليل؛ فما كان منا إلا أن أخذنا ذات الشمال، وأنزلنا الفرش؛ كي نرتاح ريثما يفتح الطريق؛ فما إن نزلنا حتى أخلد الصحب إلى نومٍ عميق؛ لأن الإعياء قد بلغ بهم مبلغه.
أما صاحبنا أبو علي فله شأنٌ آخر؛ إذ يكاد يكون أشدهم إعياءً، وأكثرهم حاجةً إلى الراحة والنوم؛ فلما وضع رأسه على الوسادة ظن أن الفراش سيسلمه إلى نومٍ طويل، وأحلامٍ سعيدة.
ولكنه فوجئ بأن النوم بعيدٌ عنه، فحاول فلم يفلح.
حينها بدأ يخاطب نفسه بكلماتٍ يسمعها من بجواره، ويقول:
=يا جسمي: الفراش أمامك، والطريق واقف، والنوم مهيأ لك، وليس لديك أي شغل، وغداً أمامك طريق، فإذا أردت النوم، وكانت لك به حاجة فنم، وإلا فأنت وشأنك، واعلم بأن هذه فرصتك للنوم، أما إذا طلع الفجر، وصلينا فسنواصل السير، وإن بلغ بك التعب ما بلغ+.
سمعت منه هذه الكلمات، وإذا بها تحمِل حكمةً فطريةً رائعة لو تدبرها العاقل لأراحته من الهم إذا طار عنه النوم، وأرَّقه السهاد.
ولقد أفدت من فلسفة صاحبنا أبي علي هذه، فإذا تعاصى عليَّ النومُ تركته وشأنه، وأقصرت عن منته، والتذلل له؛ فأعمد إلى مطالعة، أو قراءة، أو تصحيح أبحاث، أو مراجعة كتاب، أو إكمال كتابة، أو نحو ذلك؛ فإن أتى النوم من تلقاء نفسه فبها ونعمت، وإن غادر كان فيما أنا بصدده خيرٌ وبركة.
وبعدُ فَجرِّب فلسفة أبي علي، وخذ بوصفته، فإذا طار عنك النوم فاشتغل بالذكر، أو قراءة القرآن، والصلاة، أو قم بما تريد القيام به من أعمالٍ تحتاج إلى تأملٍ، وهدوء بال.
ألست طيلة النهار تبحث عن جوٍّ هادئ، وتحاول إسكات الصغار في المنزل؛ ليصفو لك الجو، وتقوم بالبحث أو القراءة، أو التأمل؟(1/53)
ها هو الجو مهيأ لك، وهذه فرصتك التي ربما تكون خيراً لك، والصلاة خيرٌ من النوم.
هناك من يظن أن الرجل الصالح التقي لا يكون ذا دهاء وكياسة وفطنة، وإنما هو رجل ساذج، وإنسان طيب غافل، وربما استدلوا على ذلك بالحديث المروي عن النبي ": =المؤمن غرٌّ كريم، والفاجر خبٌّ لئيم+.
فما سبب ذلك؟ وهل يمكن أن يجتمع الدهاء مع الاستقامة والصلاح؟ وما التوجيه للحديث المذكور؟
أما سبب ذلك الظن فهو كثرة ما يصاحب الدهاء من المنكر، والنزوع إلى الشر؛ فلأجل ذلك توهم بعض الناس أنه لا يجتمع مع سلامةِ القلب، والحرصِ على فعل الخير؛ فتراهم يعدون غفلة الرجل عما ينطوي عليه الكلام من مغامز، وما يُراد به من مكايد _ أثر صلاحه، وطيب سريرته.
وأما إمكان اجتماع الدهاء مع الاستقامة والصلاح فممكن، بل كثيراً ما يجتمعان في أهل الإيمان؛ فالدهاء قد يقترن مع الاستقامة، فيُصْرَف في تدبير الوسائل التي تكفي شراً مقبلاً، أو تجلب خيراً متعسراً.
وقد يقترن الدهاء مع زيغ العقيدة، أو لؤم الطبيعة، فيندفع بصاحبه في شعاب الباطل، ويكون نصيبه في الإفساد فوق نصيب الغباوة.
وإذا اجتمع الدهاء والاستقامة في رجل كان عظيماً، وجديراً بأن يكون له أثر كبير.
وأما الحديث المذكور فقد تكلم الحفاظ في سنده، حتى ذهب بعضهم إلى أنه موضوع، وهو _بقطع النظر عن سنده_ قد وقع لفظ (الغِرِّ) فيه مقابلاً للفظ (الخِبّ) وهو الخَدَّاع؛ فيكون المراد بالغرارة، أو الغرِّية: أن من صفاته الصفحَ، والتغاضيَ حتى يُظن أنه غر؛ ولذلك عقَّبه بقوله: =كريم+ لدفع الغِرِّية المؤذنة بالبله؛ فإن الإيمان يزيد الفطنة؛ لأن أصولَ اعتقادِه مبنيةٌ على نبذِ كلِّ ما من شأنه تضليلُ الرأيِ وطمسُ البصيرةِ؛ فيكون المرادُ غفلتَه عن الشر؛ فإن كريمَ الأخلاقِ طيبُ السريرة لا يبحث عن الشر بحث من يريد التوغل في طرقه، والخوض في غماره.(1/54)
وهو مع كونه لا يبحث عن هذه الطرق بحث المولع بها _فإنه يأخذ بسنة الاحتراس؛ فلا ينخدع لخب يزخرف له القول مداهنة، أو ينصب في طريقه حِبَالةً؛ فغفلة الرجل عن وسائل الشر؛ لانصرافه إلى الخير لا تُنْقِصُ من كياسته في تدبير وسائل الخير، أو الاحتراز عما يُهيأ له أو لقومه من الشر.
فلا يصح أن يكون الإيمانُ الذي هو أساس استنارة الفكر سببَ الانخداع لتمويه مبطل، أو مخاتلة ذي مأرب.
قال المغيرة بن شعبة ÷: =كان عمر أفضل من أن يَخْدَع، وأعقل من أن يُخْدَعْ+.
أما إظهار الانخداع مع التفطن للحيلة إذا كان في غير مضرة، أو كان جالباً لمصلحة أخرى كتألف الناس _ فذلك من الكرم والحلم, قال الفرزدق:
استمطروا من قريش كل منخدع ... إن الكريم إذا خادعته انخدعا
وإلى هذا المعنى اللطيف أشار العلامة الشيخ: محمد الخضر حسين × في كتابه رسائل الإصلاح، والشيخ العلامة محمد الطاهر بن عاشور في تفسيره (التحرير والتنوير) عند قوله _تعالى_:[يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ].
في الناس من إذا تقدم به العمر, وكثر تقلبه في هذه الحياة الدنيا _ زادت شكواه من تلون أهل وده, وكثر عتبه على من كان ملء سمعه وبصره.
ولا ريب أن بقاء المودة, واستمرار رابطة الصلة نادر قليل، ومن ذا الذي يا عَزّ لا يتغير.
فلا بد _إذاً_ من توطين النفس على طروء التغير, وتلون المودة, وتقلب الأحوال؛ فالأيام دول، والدهر قُلَّب, والتقصير حاصل, والملل يعتري النفوس, والخلل قد يقع من غيرك عليك, ومنك على غيرك؛ فخذ العفو, والتمس العذر, وأمسك لسانك عن الوقيعة, ولا تكثر من تحميل غيرك التبعة, وفي الوقت نفسه لا تبالغ في لوم نفسك, ثم استغفر لذْنبك؛ وتب إلى ربك؛ لأن الجفاء، والتجني, والقطيعة _ عذابٌ, وهَمٌّ.
وذلك كله من جملة البلاء, وما نزل بلاء إلا بذنب, وما رفع إلا بتوبة واستغفار.(1/55)
وأخيراً خذ بوصية أسامة بن منقذ الذي عُمِّر طويلاً, فتجاوز التسعين, ومر بالتجارب, وعانى الخطوب, وخاض الحروب, وعركته الأيام بِمَيْسَمها, وذاق حلوها ومرها, ها هو يقول:
وما أشكُو تلَوُّنَ أهلِ وُدّي ... ولو أجْدَتْ شَكِيَّتُهم شكوْتُ
مَلِلْتُ عتابَهم ويئستُ منهُم ... فما أرجوهُمُ فيمن رَجوتُ
إذا أدْمَتْ قَوارِصُهُم فؤادي ... كَظَمتُ على أَذَاهم وانطويْتُ
ورُحتُ عليهِمُ طَلْقَ المُحَيَّا ... كأَنّي ما سمِعتُ ولا رأيتُ
تجنَّوْا لِي ذُنوباً ما جنتْها ... يَدايَ ولا أَمرتُ ولا نَهيتُ
ولا واللّهِ ما أضمرتُ غدْراً ... كما قد أظهَروهُ ولا نَويتُ
ويومُ الحشرِ موعدُنا وتَبدُو ... صحيفةُ ما جنَوْهُ وما جنيتُ
من الناس من يسيء إليك وكأنه محسن لك, فلا يريدك أن تعاتبه، أو ترد له إساءته.
ومنهم من لا يرضى بأن تقصر في حقه ألبتة, ومنهم من لا يرضيه إلا الإحسان المتتابع, ومنهم من لا يرضيه إلا أن تحسن إليه وحده، ولو علم أنك أحسنت إلى غيره لهان عليه كل ما قدمت له.
ومنهم من يرضيه أدنى إحسان منك, ومنهم من يكفيه أن تكون كفافاً لا له ولا عليه, ومنهم من يحسن إليك, ويتحمل جفوتك, وعتابك.
أعمى وأعشى ثم ذو ... بَصَرٍ وزرقاء اليمامة
فيا لله من لك بمن يعفو عن زلتك, ويرضيه اليسير من برك, ويصبر على الكثير من جفائك, ويعجبه أن تحسن إلى الناس, ويقبلك على علاتك, ويغض الطرف عن عيوبك.
فمن لي بهذا ليت أني لقيته ... فقاسمته ما لي من الحسناتِ
كلمة تجري على ألسنة الشعراء, ويكثر ذكرها بين الأحبة, والأُلاف والأصدقاء, فهم يفرحون باللقاء, ويرتقبونه بكل شوق, ثم ينقضي بسرعة البرق, وبقدر سرور التواصل تكون حسرة التفاصل.
ولهذا كان للوداع نصيب غير منقوص في أبيات الشعراء, ومنشآت الأدباء؛ فللوداع لوعته, ودموعه, وزفراته, وللشعراء مذاهبهم المختلفة في تصويره, ونظرتهم له.(1/56)
فهذا أحدهم يكره أيام الوصال؛ لأنها مؤذنة بالفراق والوداع, ويحب أيام الهجر والبعاد؛ لأنها قد تفضي إلى اللقاء, فيقول:
أحب لياليْ الهجر لا فرحاً بها ... عسى الدهر يأتي بعدها بوصال
وأكره أيام الوصال لأنني ... أرى كل وصل محكماً بزوال
وهذا ابن زريق يصور موقف الوداع فيقول:
أستودع الله في بغداد لي قمراً ... بالكرخ من فلك الأزرار مطلعه
ودَّعته وبودي لو يودعني ... طيب الحياة وأني لا أودعه
وكم تشبث بي يوم الرحيل ضحًى ... وأدمعي مستهلات وأدمعه
وهذا آخر يصور ذلك، فيقول:
ومما شجاني أنها يوم ودعت ... تولت وماء العين في الجفن حائر
فلما أعادت من بعيد بنظرة ... إليَّ التفاتاً أسلمته المحاجر
وهذا آخر يؤمل يوم الوداع بالرجوع, واللقاء, فيقلب كلمة الوداع, فتكون كلمة عادوا؛ تفاؤلاً بالاجتماع مرة أخرى, فيقول:
لا تأسَ يا قلبُ من وداع ... فإن قلب الوداع عادوا
ولأبي الطيب وقفات مع الوداع تملأ ديوانه؛ فها هو يصور لوعة الوداع، فيقول:
حُشاشة نفسٍ ودعت يوم ودعوا ... فلم أدرِ أيّ الظاعنين أشيعُ
أشاروا بتسليم فجُدْنا بأنفسٍ ... تسيل من الآماقِ والسِّمُّ أدمعُ
حشاي على جمر ذكي من الهوى ... وعيناي في روض من الحسن ترتع
ولو حُمِّلت صم الجبال الذي بنا ... غداة افترقنا أوشكت تتصدع
ويقول في موضع آخر:
شوقي إليك نفى لذيذ هجوعي ... فارقتني فأقام بين ضلوعي
أوما وجدتم في الصَّراة ملوحةً ... مما أرقرق في الفرات دموعي
ما زلت أحذر من وداعك جاهداً ... حتى اغتدى أسفي على التوديع
رحل العزاء برحلتي فكأنما ... أتبعته الأنفاس للتشييع
ويقول في موضع آخر:
ولم أرَ كالألحاظ يوم رحيلهم ... بعثن بكل القتل من كل مشفق
أدرن عيوناً حائرات كأنها ... مركبة أحداقها فوق زئبق
عشية يعدونا عن النظر البكا ... وعن لذة التوديع خوف التفرق
وبعد فهذا شيء من توديع قد يعقبه لقاء؛ فكيف بتوديع لا لقاء بعده في هذه الدنيا؟!(1/57)
كثيراً ما نسمع من يقول: قصر فلان في حقي, ولم يعرف فلان قدري, وضاع جميلي عند فلان, ولم يثمر صنيعي عند فلان وفلان.
وكثير من الناس يشتكي كنود صديقه, أو جحود رصيفه, أو تنكر ربيب نعمته.
فترى هؤلاء يلومون من لم يَقْضِهِمْ حقَّ الزيارة, أو التحية، أو الرفد, أو المواساة.
ولا ريب أن نسيان الفضل, ومقابلة الإحسان بالإساءة _ ثقيل على النفس، بل ربما كان ذلك سبباً في قطع الإحسان كما قال عنتره:
نبئت عمراً غير شاكر نعمتي ... والكفرُ مَخْبثةٌ لنفس المنعم
بل إنه لا يشكر الله من لا يشكر الناس، وقد قال الله _ عز وجل _ لنبيه _ عليه الصلاة والسلام _: [خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا] ثم قال: [وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ].
فأمر النبي" أن يدعو للأغنياء إذا أخذ منهم الزكاة، وفي ذلك شكر لهم، وتقدير لصنيعهم.
ومع ذلك فإنه يجدر بمن أسدى معروفاً، وقدَّم جميلاً أياً كان ألا ينتظر مقابله جزاءً ولا شكوراً، ولا حتى دعاءً.
وأن يستحضر _كذلك_ أنه قد يوجد في الناس من هو لئيم الطبع، قليل الشكر؛ بل منهم من يحسد حتى من يحسن إليه.
ولكن ليس بالضرورة أن يسمى تاركُ الشكر ناكراً للجميل؛ إذ قد يعترف بالجميل، ويضمر له المحبة، والدعاء، ولكنه قد يكون مشغولاً بأمور تلهيه عن تقديم الشكر، أو رد الجميل.
وقد يكون بارد الطبع، فقير المشاعر؛ فلا يعبر عن عواطفه المكنونة، وإن كان قلبه منطوياً على الشكر والعرفان.
ولهذا فإن القياس قد لا ينضبط في هذا الباب؛ فقد تُقَدِّم معروفاً واحداً لمجموعة من الناس؛ فيلقى أرضاً طيبة عند بعضهم، ولا يلقى شيئاً من ذلك عند آخرين.(1/58)
وبالجملة فإنه يحسن بالعاقل توطين نفسه على أن يعطي لله, وألا ينتظر المقابل من الناس, وأن يكون عفاً عن كل ما في أيديهم أياً كان ذلك؛ فإذا وطن نفسه على هذه الخُطة فسيعيش في سرور ونعيم, وسيتقلب في رخاء وهناء, وسيكون عزيز الجانب, موفور الكرامة؛ فلا يعظم عليك _إذاً_ بخل الناس, وتأمل هذه المقطوعة الجميلة التي تحوم حول هذا المعنى والتي جادت بها قريحة العلامة الأديب محمد الخضر حسين:
أَسْهَرُ الليلَ وإن طال ومَنْ ... يعشقِ المجدَ يلذَّ السهرا
لست ممن يفقد الأنس إذا ... أصبح الروض كئيباً أغبرا
لست آسى إن مضى ليل وما ... صاحب زار ولا طيف سرى
هو ذا الفكر يناجيني متى ... رُمْتُ أُنْساً ضحوةً أو سحرا
يتسامى بي إلى أُفْقٍ أرى ... في معاليه السُّها والقمرا
لي يراعٌ كلما استهديته ... جال في الطِّرس وأهدى دررا
فليكن في الناس بُخْلٌ إنني ... لست ممن يشتكي بخل الورى
القراءة غذاءٌ للعقل، ورفعٌ للجهل، وتوسيعٌ للمدارك، وإمتاعٌ للنفس.
وكثيراً ما يحصل التساؤل عن كيفية القراءة النافعة، وسبل تحصيلها.
وهناك أمورٌ كثيرةٌ تعين على محبة القراءة، وجعلها نافعة، ومما يحضر في هذا المقام ما يلي:
1_ استحضار قيمة الزمن وأنه محدود: قال الله _عز وجل_ منوهاً بالوقت: [وَالضُّحَى] وقال:[وَالْعَصْرِ].
وقال النبي ": =لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه...+ الحديث.
فإذا كان الأمر كذلك وجب أن يُحَافَظ عليه، وأن يُستَعمل خير استعمال.
قال ابن الجوزي ×: =فينبغي للإنسان أن يعرف شرف زمانه، وقدر وقته فلا يضيع وقته في غير قربه، ويقدم الأفضل فالأفضل في القول والعمل+.
والعرب تقول في أمثالها: =اسرِ وقمرٌ لك+ أي اغتنم ضوء القمر مادام طالعاً؛ فسرْ فيه.
ومما ينسب للإمام الشافعي × قوله:
إذا هجع النُّوام أسبلت عبرتي ... وأنشدت بيتاً وهو من ألطف الشعر
أليس من الخسران أن ليالياً ... تمر بلا علم وتحسب من عمري(1/59)
ولا ريب أن القراءة النافعة من خير ما تعمر به الأوقات.
2_ تحديد الهدف: فالقراءة فن، ومن أعظم ما يعين عليها تحديد الهدف، وما أضيع زمن قارئ لا يحدد هدفه؛ فالقراءة لا توزن بكثرتها، ولا بطول وقتها، وإنما توزن بدقتها وقيمتها؛ فالقراءة الصحيحة الممتعة قراءةٌ حُدِّد غرضها، وغاياتها؛ فيعرف القارئ ماذا يقرأ؟ ولماذا يقرأ؟ وكيف يقرأ قراءة يشعر معها أن موقفه مما يقرأ كموقفه مع الصديق؛ فلينظر إلى من يقرأ كما ينظر إلى من يصادق؛ فتحديد الهدف _إذاً_ يوفر الكثير من الزمن، ويورث الفائدة والمتعة؛ فدراسة مسألة خاصة، أو بحث موضوع معين مما يخدم الغرض، وينمي المعارف، كل ذلك داخلٌ في القراءة النافعة.
وكلما زادت قيمة الهدف زادت إثارته لصاحبه، وكلما زاد سمو الهدف زاد سمو صاحبه؛ فحدد هدفك، وسِرْ إليه ولو ببطء وستصل _ بإذن الله _ ولو كان صعب المنال، بعيد المرتقى.
3_ معرفة كيفية البدء: وهذه المسألة من أشق المسائل؛ فكم من الزمن ما يذهب سدى في التفكير في ذلك.
أضف إلى أن بدء الشيء صعب من جهة قلة المران والممارسة، أو لأن الإنسان ينتقل من راحة لذيذة إلى عمل شاق أو جديد.
وعلاج هذا بأمور عديدة أهمها الاستعانة بالله، والاستشارة، والاستخارة إن استدعى الأمر ذلك.
ثم يفكر قبل العمل في أولى الأشياء بالبدء، ويدرس وجوه الترجيح ثم يرتب ما يليه وهكذا...
وبعد ذلك يعزم عزماً قوياً لا يشوبه تردد.
وإذا رأى في نفسه انصرافاً فليقرأ ما يفيده، ويقوي عزمه كأن يقرأ فصلاً من كتاب يشجعه على العمل، وأن يستحضر نتائج الجد والكسل، وأن يتذكر أشخاصاً جدوا؛ فنبغوا في الحياة وهكذا...
فإذا بدأ _ولو كانت البداية ضعيفة_ فإنه قد قطع شوطاً بعيداً للنجاح؛ لأن البدء سيحيي روحه ويبعث همته، ويقوده إلى المزيد من الجد.(1/60)
وبعد ذلك عليه أن يستمر ويواصل في المسيرة؛ فالعمل _ وإن كان صعباً شاقاً في البداية _ يصبح سهلاً مع طول المثابرة والاستمرار؛ فإن استمرارك على تنفيذ عزمك ومواصلة مسيرتك _ يكسبك القوة ويورثك التغلب على ميولك السابقة، بل سترى أن عادة امتلاك النفس قد تأصلت فيك.
4_ تقييد الفوائد: وذلك بأن تضع لك سِجِلاًّ أوكُنَّاشةً تقيد فيها نفيس ما تقرؤه، أو أن تضع الفوائد في الصفحات الأولى من الكتاب الذي تقرؤه.
5_ فهرسة الفوائد: فيحسن الأخذ بهذه الطريقة أحياناً خصوصاً عند قراءة المطولات؛ فيعمد القارئ إلى استخلاص الفوائد والشوارد، فيضعها في دفترٍ خاص، ثم يرتبها ويصنفها حسب فنون العلم؛ لأن الكتب الطويلة، أو الموسوعية ككتب التراجم، أو الشروح، أو السير، أو التواريخ _ غالباً ما تحتوي على فنون شتى؛ فيحسن _إذاً_ أن تُصَنَّف الفوائد المختارة حسب الفنون؛ فإذا مر بالقارئ _على سبيل المثال_ فائدةٌ في التفسير، أو الحديث، أو العقيدة، أو اللغة عموماً، أو النحو، أو البلاغة، أو غير ذلك _ وضعها في مكانها المناسب حاملةً الجزء ورقم الصفحة، وهكذا...
فإذا انتهى من قراءة الكتاب خرج بفوائد كبيرة كثيرة متنوعة؛ فإذا رام البحث في موضوعٍ من الموضوعات _ رجع إلى فهرسه الخاص؛ فكانت تلك الفوائد منه على طرف الثُّمَام(1).
6_ القراءة الجماعية: فهي مفيدة، ومعينة على الاستمرار، والفهم؛ بحيث تتفق مع بعض زملائك على أن تجتمعوا مرة في الأسبوع، أو الشهر، أو غير ذلك؛ لقراءة بعض الكتب، ومحاولة فهمها.
__________
(1) _ الثُّمام: نَبْتٌ، ويقال لما لا يعسر تناوله: على طرف الثمام؛ لأنه لا يطول.(1/61)
7_ حصر الإشكالات في الكتاب المقروء: فمن أعظم ما يواجه القارئ، فيصده عن مواصلة القراءة ما يمر به من إشكالاتٍ، وكلماتٍ، ومصطلحاتٍ لا يفهمها؛ فتراه بعد ذلك قد ألقى ما بيده مما يقرأه إلى غير رجعةٍ؛ فيحسن به _والحالة هذه_ أن يحصر جميع ما يشكل عليه، ثم يحاول حلَّ تلك الإشكالات بالرجوع إلى كتبٍ أخرى، أو يعرضها على من يعنيه على ذلك.
فإذا فهم ما يقرؤه أحب القراءة، ووجد متعةً، ولذةً في الاستمرار، والمواصلة.
8_ النظر في سِيرِ النوابغ: وقد مرت الإشارة إلى ذلك، فالنظر في سيرهم تبعث الهمة، وتقود إلى الاقتداء، وإليك مثالاً واحداً وهو العالم أبو الوفاء ابن عقيل.
يقول × كما في ذيل طبقات الحنابلة (145_146): =إني لا يحل لي أن أضيع ساعة من عمري، حتى إذا تعطل لساني عن مذاكرة ومناظرة، وبصري عن مطالعة أعملت فكري في حال راحتي وأنا مستطرح؛ فلا أنهض إلا وقد خطر لي ما أسطره+.
وقال: =وأنا أقصر بغاية جهدي أوقات أكلي، حتى أختار سف الكعك وتحسِّيه على الخبز؛ لأجل ما بينهما من تفاوت المضغ؛ توفراً على مطالعة أو تسطير فائدة لم أدركها فيها+.
وقال: =وإني لأجد من حرصي على العلم وأنا في عشر الثمانين أشد مما كنت أجده وأنا ابن عشرين سنة+.
ولهذا خلف × آثاراً عظيمة؛ فله كتاب الفنون الذي قيل عنه: إنه بلغ ثمانمائة مجلدة.
9_ التدرج بالقراءة: بحيث يقرأ الأيسر فالأيسر مما يلائم حاله، وفهمه، وعمره؛ فلا يحسن بقارئٍ مبتدئ، أو قارئ لا يُحسن شيئاً من فنون العلم أن يبدأ بمطولاته.
بل اللائق به التدرج شيئاً فشيئاً.
10_ استعمال طريقة الامتحان: فكثيراً ما يورد القُرَّاء، وخصوصاً الشباب منهم _ إشكالاتٍ مفادها أن قراءاتهم تتفلت عليهم، وأنهم لا يكادون يُمسكون بشيءٍ منها.
وربما يقول هذا الكلام من قد أنهى دراسته الثانوية، أو الجامعية، أو أعلى من ذلك.(1/62)
ويقال لهم: ألم يمر بكم امتحانات في كثيرٍ من فنون العلم، ألم تجتازوها بسلام، بل ربما بتفوق؟
سيقولون: بلى، فيقال لهم: إذاً ليس مستحيلاً، ولا متعذراً أن تمسكوا بما تقرأون؛ ولكن الأمر يحتاج منكم إلى شيءٍ من المثابرة، والتكرار، والمراجعة.
وإن مما يعينكم على ذلك أن تضعوا لأنفسكم امتحانات.
ومن الطرق المجدية في ذلك أن تتفقوا مع أحد أساتذتكم أو زملائكم، وتقولوا له: إننا نريد قراءةً في ذاك الكتاب، ونريد أن تحدد لنا يوماً يكون فيه امتحان لنا فيما قرأنا، سواء كان ذلك شفوياً أو تحريرياً؛ فهذه طريقةٌ مجربةٌ مفيدة.
ثم إنه ليس بالضرورة أن يمسك الإنسان بكل ما مر به؛ فهذا لا يحصل إلا في أحوال نادرة؛ فلا يكبر عليك _أيها القارئ_ إذا مرت بك تلك الحال.
وإنما المقصود أن يحاول الإمساك بأكبر قدرٍ من المعلومات التي يقرأها.
11_ الدعاء، وإخلاص النية: فلذلك أثره البالغ في تحصيل العلم، ونيل بركة الوقت؛ فاستقم كما أمرت، وأخلص نيتك في قراءتك، واسأل ربك البركة في العلم والوقت.
كثيراً ما يرد السؤال عن كيفية الكتابة، وأدواتها، وسبل الترقي فيها إلى غير ذلك من الأسئلة التي لاتكاد تهدأ.
ولا ريب أن الحديث عن ذلك متشعب طويل, والمقام ههنا لا يسمح بالتفصيل، وإنما هي إشارات عابرة أشبه ما تكون بالمعالم العامة للكتابة الرصينة النافعة.
وقد أَفَدْتُها من خلال التجربة اليسيرة، ومن خلال ما مرَّ بي من كلام العلماء وأكابر الكتاب الذين حاموا حول هذا المعنى.
وقبل الدخول في ثنايا الموضوع يحسن التنبيه على أن صناعة الكتابة ليست كغيرها من الفنون لها قواعدها المضبوطة، ومسائلها المدونة يتدارسها الكتاب، فتنتهي بهم إلى إمداد اليراعة بالبراعة.
وإنما هي تنبيهات ترشد إلى الجهات التي تنمو بها قوى التفنن في تصاريف الألفاظ، والتأنق في تحسين هيآتها التأليفية.(1/63)
أما أسلوب المرء فهو الذي يخترعه صاحبه؛ فيكون عليه طابعه؛ فهو ابن مزاجه وتربيته، وبيئته، وذوقه, وفنه.
فالمعاني مطروحة، والألفاظ مطروقة، وإنما العبرة بالتراكيب، والتراكيبُ ابنةُ من يصوغها؛ فيزيدها جمالاً علمُ الكاتب، ووفرة اطلاعه، وأدب نفسه، واستكمالهُ أدواتِ الكتابة.
ولا تجود الكتابة إلا بما تحمل من الألفاظ، وبما تنطوي عليه من المعاني، وبالتلطف في أدائها، واطراح التكلف في إحكام نسجها.
ومهما يك من شيء فهناك أسباب تعين على الارتقاء بالكتابة، وتجعلها نافعة مؤدية لغرض منشئها، وإليك طرفاً من تلك الأسباب، فيما يلي:
1_ الإكثار من تلاوة القرآن وتدبره: فعلاوة على كون ذلك عبادة؛ فهو كذلك يقوي ملكة الكتابة؛ فالقرآن الكريم هو الذروة في البلاغة، وفيه اللفظ الجزل، والأسلوب الذي لا يدانيه أسلوب، وفيه الجمال والجلال، والبهجة، والرهبة والسلامة من الخطأ.
2_ الإكثار من مطالعة كتب السنة: كالكتب الستة وغيرها من الصحاح والمسانيد؛ فهي تمد الكاتب بالأساليب البيانية الراقية، وترفد مادته اللغوية والشرعية، فالنبي " أوتي جوامع الكلم، ودانت له نواصي البلاغة، ودنت له قطوف الحكمة؛ فهو يتكلم بالسهل الممتنع، وبالألفاظ المعبرة المأنوسة.
3_ مطالعة دواوين العرب في الشعر وحفظ ما تيسر منها، كأشعار الجاهليين وخصوصاً أصحاب المعلقات، وكأشعار المخضرمين كحسان وغيره، وأشعار الذين نشأوا في عصر صدر الإسلام كعمر بن أبي ربيعة، والأخطل، والفرزدق، وجرير، والراعي النميري، وذي الرمة.
وأشعار العباسيين كبشار، وأبي تمام، والبحتري، والمتنبي، وأشعار الأندلسيين كابن زيدون، وغيره.
ومما يفيد في هذا قراءة كتاب المفضليات، والأصمعيات، فهي مليئة بالقصائد الرائعة الرائقة.
وكذلك دواوين المعاصرين كالبارودي، وشوقي، وحافظ، وغيرهم.
4_ استكمال أدوات الكتابة: وذلك بالإلمام بقواعد اللغة، والبلاغة، وعلوم الشريعة، والثقافة العامة.(1/64)
ومن أعظم ما يعين على ذلك قراءة كتب النحو والصرف التي ترتقي بفصاحة قارئها، وتجنبه الخطأ في اللغة.
ومن أنفعها ألفية ابن مالك وشروحها، كشرح ابن الناظم، وشرح ابن عقيل، وشرح ابن هشام.
وكذلك كتاب قطر الندى وبل الصدى وشرحه لابن هشام.
وإن كان مبتدئاً فهناك الآجرومية ومن أحسن شروحها شرح الشيخ محمد محيي الدين عبدالحميد، والشيخ عبدالرحمن بن قاسم.
ومن أنفع الكتب في النحو والإعراب كتاب مغني اللبيب عن كتب الأعاريب لابن هشام.
وكذلك قراءة كتب اللغة عموماً كالكتاب لسيبويه، ومعجم مقاييس اللغة، والصاحبي وهما لابن فارس، وسر صناعة الإعراب، والخصائص وهما لابن جني.
وكتاب فقه اللغة وسر العربية للثعالبي، وكتاب المزهر للسيوطي وغيرها.
وكذلك قراءة الكتب التي تُعنى بالبلاغة، وترتقي بقارئها درجات في ذلك المضمار، ومن أشهرها دلائل الإعجاز، وأسرار البلاغة وهما للشيخ عبدالقاهر الجرجاني، وكتاب المفتاح في علوم البلاغة للقزويني، وموجز البلاغة لابن عاشور، وغيرها من كتب المعاصرين التي ربما تفتح للمبتدئ باب البلاغة كالبلاغة الواضحة لعلي الجارم، ومصطفى أمين، وكتابات د. عبدالعزيز عتيق، ود. بكري شيخ أمين، وغيرها.
وكذلك الاطلاع على الكتب التي أُلفت في علم الإملاء، ككتاب الإملاء للشيخ حسين والي، وعلامات الترقيم لأحمد زكي باشا.
ولا يخفى ما في سلامة الكتابة من الأخطاء الإملائية من الجمال والروعة.
بل إن علامات الترقيم من أعظم ما يبين المعنى, ويوضحه, ويفسره؛ فإغفالها في الكتابة خلل يحسن تلافيه.
وكذلك الاطلاع على الكتب التي تعنى بصناعة الكتابة، ككتاب أدب الكاتب لابن قتيبة، وأدب الكتاب للصولي، والمثل السائر لابن الأثير، وكتاب الصناعتين لأبي هلال العسكري، وأمراء البيان لمحمد كرد علي.(1/65)
5_ الانصباب على مطالعة المنشآت البعيدة الغور في بيانها، المنتمية إلى الطرف الأعلى في عذوبة ألفاظها ورشاقة معانيها ككتابات ابن المقفع، والجاحظ، وابن قتيبة، وسهل بن هارون، وعمرو بن مسعدة، وعبد الحميد الكاتب، وأبي حيان التوحيدي.
وقل مثل ذلك في كتابات كثير من الكتاب المُحْدثين على تنوع مدارسهم، كالمنفلوطي، والرافعي، والزيات، وشكيب أرسلان.
وكذلك كتب العلماء الذين يعنون بتحريراتهم؛ فيجمعون إلى العلم التمهرَ في الكتابة، وشدةَ الأسر، وجمال الأساليب كابن عبد البر، وابن الجوزي، وابن حزم، وابن تيمية، وابن القيم, والشاطبي، وابن حجر، والشوكاني.
ومن المعاصرين محمد الخضر حسين التونسي، ومحمد الطاهر بن عاشور التونسي، ومحمد البشير الإبراهيمي الجزائري.
وأما أشهر الكتب في هذا السياق _زيادة على ما مضى_ فأمهات الأدب والبيان، ككتاب الأدب الكبير والأدب الصغير، وكليلة ودمنة وهما لابن المقفَّع، والبيان والتبيين للجاحظ، والكامل للمبرد، والأمالي لأبي علي القالي، وعيون الأخبار لابن قتيبة، والعقد الفريد لابن عبد ربه، وزهر الآداب للحُصْري القيرواني.
ومن كتب المُحْدَثين والمعاصرين: النظرات، والعبرات، والمختارات للمنفلوطي، ووحي القلم، وتاريخ أدب العرب للرافعي، والارتسامات اللطاف، والحلل السندسية لشكيب أرسلان، والرسالة لأحمد حسن الزيات، وفيض الخاطر لأحمد أمين، ورسائل الإصلاح، والحرية في الإسلام، ومحاضرات إسلامية، والهداية الإسلامية، والسعادة العظمى لمحمد الخضر حسين، وأليس الصبح بقريب، وشرح ديوان بشَّار لمحمد الطاهر بن عاشور، وآثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي وهي في خمسة مجلدات.
6_ سلامة الذوق: وذلك بمراعاة حال القراء، واستشعار أنك أمامهم تنظر في تَلَقِّيهم لما تكتب.(1/66)
ولا يعني ذلك أن تجاملهم على حساب الحقيقة، وإنما تحسن المدخل، وتتلطف في الوصول إلى ما تريد؛ فذلك مما يأخذ بالألباب، ويجعل الكتابة تأخذ طريقها إلى القلوب.
7_ نبل الهدف، وسلامة القصد: بحيث يكون الباعث على الكتابة نية الإصلاح، ورغبة الوصول إلى الحق، لا أن يكون باعثها المراء، والجدال، وطمس الحق.
8_ مراعاة حال الخصوم وأتباعهم: خصوصاً إذا كانت الكتابة رداً على أحد؛ فيحسن أن يراعى حال الخصوم، وحال أتباعهم؛ فيحرص الكاتب على لزوم العدل، والرفق، والتدرج بالخصوم، وتقريبهم من الحق بلطف ويسر.
ويحرص _كذلك_ على طهارة المنطق، وطلاوة العبارة، والبعد عن الاستعلاء.
ويحرص _كذلك_ على اجتناب الكلمات الجافية المستكرهة، ويحذر من إطلاق عبارات السب، والتسفيه؛ فالكتابة التي تُحرَّر برحابة صدر تَلْقَى من القبول ما لا تلقاه الكتابة التي يخالطها السفه، والطيش.
9_ لزوم الاعتدال: وذلك بأن يكون الكاتب متزناً في طرحه، بعيداً عن التهوين والتهويل؛ فالحقيقة تضيع بين ذلك، والعرب تقول في أمثالها: =خير الناس هذا النمط الأول والأوسط+ يعني بين المقصر والغالي.
وذلك مما يدل على حكمة الكاتب، ورجحان عقله، وحرصه على الحقيقة.
ومن الاعتدال في الألفاظ أن تكون رشيقة واضحة، وأن يكون الكلام حالاً بين حالين: بين الوحشي الغريب، والسوقي القريب.
ومن الاعتدال أن يبتعد عن التكلف؛ فلا يبالغ في سجع، ولا يقصد إلى التعمية، ولا يأتي بالعبارات القلقة.
10_ توظيف الثقافة والمعارف لخدمة الموضوع: فمن أعظم ما يرتقي بالكتابة، ومن أجمل ما يحسن بالكاتب _ أن يوظِّف طاقاته وثقافته، ومعارفه لخدمة الغرض الذي يرمي إليه؛ لأجل أن يكون موضوعه متكاملاً مُشْبعاً من جميع الجوانب؛ فيجتمع فيه الدليل الشرعي، والشاهد التاريخي، والنكتة البلاغية، والنادرة الأدبية، والبيت الشارد، والمثل السائر، وهكذا...(1/67)
11_ العلم بموطن الشاهد، وإيراد النقول في مواطنها المناسبة: فيحسن به إذا اختار موضوعاً في أي شأن من الشؤون _ أن يجمع كل ما يخدم موضوعه، ثم ينتقي من ذلك ما يناسب المقام، ويلائم الأسلوب.
كما عليه أن يعرف موطن الشاهد، والمنزع؛ فلا يورد كلاماً في غير موضعه، ولا يستشهد بكلام في غير محله.
فإذا أخطأ السبيل في ذلك عرَّض نفسه للسخرية، كحال من يستشهد ببيت شعر وهو لا يعرف معناه، فيضعه في مكان مغاير تماماً لما أراد.
وذلك كحال أحدهم لمَّا كتب كلمة رثاء في أحد العلماء؛ حيث أفاض في مدحه، والثناء عليه، وأكثر من قول: =وكان ×+ حتى قال: وكان ×:
يمارس نفساً بين جنبيه كزَّة ... إذا همَّ بالمعروف قالت له: مهلاً
فعرض على صاحب له مقالته، فقال الصاحب: أتدري ما معنى البيت؟
فقال الكاتب: نعم، إنه بيت جميل، يتضمَّن مدحاً، وثناءً يناسب ذلك العالم الجليل.
فقال له صاحبه: إن معنى البيت يتضمَّن هجاءً مراً مقذعاً يكاد يكون من أعظم الهجاء، حيث وُصف المهجو بالبخل الشديد، والكزازة، ووصفت نفسه بأنها لا تطاوعه على المكارم.
فقال الكاتب _ وكان في نيَّته إرسال المقال إلى جريدة سيَّارة _: خرِّق، خرِّق!
وكحال أحد الطلاب في الجامعة، حيث أرسل رسالة إلى أستاذ يُجلُّه ويحبه، فأراد هذا الطالب أن يُعبِّر عن هذه المشاعر المكنونة، وأن يصف أستاذه بصفات تليق بمقامه العالي عنده، فأرسل رسالة عبر الجوَّال يقول فيها:
وصفت التقى حتى كأنك ذو تقى ... وريح المعاصي من ثيابك تنضح
فلما قرأها الأستاذ قال: صحيح إن ذنوبي كثيرة، ولو فاحت رائحتها لما جالسني أحد.
ثم اتَّصل على هذا المرسل وهو لا يعرفه، فلما تكلَّم كأنه عرفه، فقال له: ما هذا البيت؟ فقال الطالب: والله يا شيخ إنني أحبُّك في الله، وبين يدي أحد مؤلفاتك، وقد أفدت منه فائدة كبيرة، وخطر في بالي ذلك البيت، فأرسلته لك معبِّراً عن إعجابي وحُبِّي.
فقال له الأستاذ: أتدري معنى البيت؟(1/68)
فقال الطالب: لا شك أنه معنى جميل.
فقال الأستاذ: إن معناه كذا وكذا، فتلعثم الطالب، وقال: والله إنني لا أعلم أن معناه هكذا، فلعلك لم تعرفني أيها الأستاذ، فقال: لا عليك، الأمر أهون من ذلك، ولكن عليك بالتثبُّت، ومعرفة ما تكتب.
وربما قال بعضهم لزوجته مثنياً عليها:
أثني عليَّ بما علمتِ فإنني ... مثنٍ عليك بمثل ريح الجورب
وما علم أن ذلك منتهى الإقذاع والسب، والسخرية.
وكل ذلك ناتج عن سوء الفهم، ووضع الكلام في غير مواضعه.
12_ اختيار الورق الجيد, والقلم المناسب: وهذا مجرب فإذا كتبت بالقلم الذي تحبه, وكانت الأوراق مسطرة مريحة للنفس كان ذلك دافعاً للاسترسال في الكتابة.
ولهذا قيل لوراق: =ما السرور؟ قال: جلود وأوراق, وحبر براق, وقلم مَشَّاق+.
ولا يلزم ذلك بكل حال؛ فقد لا يتسنى في كل وقت.
ومن الأوراق ما يكون على هيئة كناشة بحجم اليد، توضع في الجيب، وتصحب الإنسان في حله وترحاله؛ حيث يقيِّد بها نفيس خواطره، وما يمرُّ به من فوائد.
13_ العلم بما يكتب: فلا يخوض الكاتب في موضوع إلا وقد أحاط به علماً، ودراسة، وإلا عرَّض نفسه للذم، واللوم، ومن تكلَّم بما لا يعلم أتى بالعجائب.
14_ مراعاة أغراض الكتابة والتأليف: فيحسن بالكاتب ألا يكتب في موضوع ما إلا بعد النظر في الحاجة إليه، ومدى ملاءمته لأغراض الكتابة التي بيَّنها العلماء، وجمعها الناظم بقوله:
ألا فاعلمن أن التآليفَ سبعةٌ ... لكل لبيبٍ في النصيحة خالصِ
فشرحٌ لإغلاقٍ وتصحيحُ مخطئٍ ... وإبداعُ حبرٍ مقدمٍ غير ناكصِ
وترتيبُ منثورٍ وجمعُ مُفرقٍ ... وتقصيرُ تطويلٍ وتتميمُ ناقصِ
ولا يلزم الكاتب أن يبرز في كل ميدان من ميادين الكتابة؛ فقد يُفتح عليه في غرض دون آخر، وقد يُفتح عليه في عدد من الأغراض وهكذا...
15_ مراعاة أدب النفس: وذلك بالتحلي بكل خلق جميل، والتخلي عن كل خلق رذيل.(1/69)
قال ابن قتيبة × في أدب الكاتب ص14: =ونحن نستحب لمن قبل منا، وائتم بكتبنا أن يؤدب نفسه قبل أن يؤدب لسانه، ويهذب أخلاقه قبل أن يهذب ألفاظه، ويصون مروءته عن دنايا الغيبة، وصناعته من شين الكذب، ويجانب _قبل مجانبته اللحن، وخطل القول_ شنيع الكلام، ورفث المزاح+.
وقال × بعد أن ساق جملة من آداب الكاتب، وما ينبغي أن يتحلى به، ويستكمله من أدوات: =فمن تكاملت فيه هذه الأدوات، وأمده الله بأدب النفس من العفاف، والحلم، والصبر، والتواضع، وسكون الطائر، وخفض الجناح _ فذلك المتناهي في الفضل، العالي في ذرا المجد، الحاوي قصب السبق، الفائز بخيري الدارين _ إن شاء الله تعالى _+ أدب الكاتب ص20.
16_ تخمير الكتابة: وذلك بألا تستعجل بإخراج ما تكتب؛ إذ يحسن أن تكتب، وتدع ما كتبت مدة، ثم ترجع إليه، وتعيد النظر فيه مرة بعد مرة، وتتعاهده بالتشذيب، والتهذيب، والإصلاح.
قال بعض رؤساء الكتاب: =ليس أحد أولى بالأناة والروية من كاتب يعرض عقله، وينشر بلاغته؛ فينبغي له أن يعمل النسخ، ويقبل عفو القريحة، ولا يستكرهها، ويعمل على أن جميع الناس أعداءٌ له، عارفون بكتابه، منتقدون عليه، متفرغون إليه+.
وقال آخر: =إن لابتداء الكلام فتنةً تروق، وجدةً تُعجب؛ فإذا سكنت القريحة، وعدل التأمل، وصفت النفس _ فليعد النظر، وليكن فرحه بإحسانه مساوياً لغمه بإساءته+.
وقالوا: =الكتاب يُتصفح أكثر مما يُتصفح الخطاب؛ لأن الكاتب متخير، والمخاطب مضطر.
ومن يَرِدْ عليه كتابك فليس يعلم أأسرعت فيه أم أبطأت.
وإنما ينظر أأخطأت أم أصبت؛ فإبطاؤك غير قادح بإصابتك، كما أن إسراعك غير مُغطٍّ على غلطتك+.
وقيل لبشار بن برد: =بِمَ فُقْتَ أهل عمرك، وسبقت أهل عصرك في حسن معاني الشعر، وتهذيب ألفاظه؟(1/70)
فقال: لأني لم أقبل كل ما تورد على قريحتي، ويناجيني ويبعثه فكري، ونظرت إلى مغارس الفِطن، ومعادن الحقائق، ولطائف التشبيهات؛ فسرت إليها بفهم جيد، وغريزة قوية؛ فأحكمت سَبْرَها، وانتقيت حُرَّها، وكشفت عن حقائقها، واحترزت من متكلفها، ولا والله ما ملك قيادي قطُّ الإعجاب بشيء مما آتي به+ انظر زهر الآداب للحصري 1/154_155.
17_ الحذر من الاستسلام للتثبيط: فكما أن الإنسان يُنصح بألا يستعجل، وبألا يعرض عقله على الناس إلا بعد التروي، واستكمال أدوات الكتابة _ فكذلك يحسن به ألا يتثبط أو يتوانى إذا كان مهيَّأً للكتابة.
بل عليه أن يُقْدِم، وألا يحتقر نفسه.
وما زال العلماء والحكماء يُحذِّرون من مقولة: =ما ترك الأول للآخر شيئاً+ ويوصون بالكلمة الأخرى وهي: =كم ترك الأول للآخر+.
18_ عرض الكتابة على الآخرين؛ لأخذ رأيهم، والاستماع إلى ملحوظاتهم؛ فذلك أدعى لإحكام الكتابة، والاطمئنان إليها خصوصاً إذا عُرضت على ذوي علم، ونظر، وبصيرة، وخبرة بالأساليب الراقية.
19_ معرفة قدر النفس، وانشراح الصدر للنقد: فإذا وفَّق الله الكاتب لإظهار ما عنده _ فليوطِّن نفسه على ما يُقال فيه، فمن ألَّف فقد استُهدف، فليعرفْ قدر نفسه، ولا يَطِشْ به مدح المادحين في زهو، ولا ينزل به قدح القادحين في حسرة.
ثم لينشرح صدره للنقد الهادف، بل عليه ألا ينزعج من النقد الظالم؛ لأن ذلك دليل على علو كعبه، وتأثير كلامه.
ولا يعني ذلك أن يكتب ما هب ودب، ثم إذا كثر انتقاده ظن ذلك دليلاً على مكانته، وإنما المقصود أن يمر بالخطوات الماضية، وأن يشهد له أهل الفضل والعلم بالتقدم، فإذا قيل فيه _بعد ذلك ما قيل_ فليأخذ بما مضى.
وبعدُ، فهذه أصول مجملة لصناعة الكتابة، وأسباب الترقي بها، وجَعْلِها نافعة خالدة _ بإذن الله _.(1/71)
وأما تفصيل ذلك فسيكون في موضع آخر(1).
كثير من الناس يظن أن هذه الكلمة لا تقال إلا لمن يتطاول إلى منزلة أرفع من منزلته, أو يدَّعي فضيلة ليس منها ولا هي منه؛ فيقولون له: اعرف قدر نفسك, أو رحم الله امرءاً عرف قدر نفسه.
وكثير من الناس يركن إلى هذا الخاطر؛ فإذا أُسند إليه عمل وهو قادر عليه، تنصل منه، وربما قال: رحم الله امرءاً عرف قدر نفسه.
والحقيقة أن هذه الكلمة وأمثالها تقال فيمن يرفع نفسه فوق قدرها، وتقال _كذلك_ فيمن ينزلها دون منزلتها؛ فالذي يرفع نفسه فوق قدرها إنما يرهقها، والذي ينزل نفسه أقل من قدرها يضيع إمكاناتها سدى.
وأما الذي يَقْدُرُ نَفْسَهُ حقَّ قدرها فإنه يضعها في مكانها دون إرهاق لطاقتها ودون إهدار لمميزاتها؛ فلا يقتصر على تذكر جوانب الضعف فيها؛ لأن ذلك يقود إلى المبالغة في احتقارها، وبالتالي تحجم ولا تقدم.
بل يتذكر مع ذلك جوانب القوة والإبداع فيها؛ حتى تنبعث إلى الإقدام على ما يليق بها.
والعاقل السوي الذي ينظر الأمور كما هي _ هو ذاك الذي يسير على حد الاعتدال؛ فلا يُغَرُّ بما أوتي من ذكاء، وعلم، وقوة؛ فيزعم لنفسه كل فضيلة، ويتطاول بغروره إلى كل منزلة.
ولا يركن في الوقت نفسه إلى جوانب الضعف فيه؛ فيقوده ذلك إلى المبالغة في احتقار نفسه، وازدراء إمكاناته؛ ومواهبه؛ فيقعد عن كل فضيلة، ويعيش في هذه الحياة وكأنه هملٌ مضاعٌ، أو لقىً مزدرى.
ولم أرَ في عيوب الناس شيئاً ... كنقص القادرين على التمام
يردد بعض الناس _أحياناً_ كلمات عامة تفيد بأن كُلاًّ يؤخذ من قوله ويرد إلا النبي " وأنه ليس أحد معصوماً إلا الأنبياء فيما يبلغون عن ربهم _جلَّ وعلا_.
__________
(1) _ لقد كتبت هذه الخاطرة بصورة مجملة، ثم خرجت مفصلة في كتاب مفرد يقع في 92 صفحة، وعنوانه (الارتقاء بالكتابة).(1/72)
وهذه الكلمات حق لا مرية فيه، ولكن قد يريد بها بعض الناس باطلاً؛ فيتخذها ذريعة للنيل من العلماء، والفضلاء، والعظماء، ويجعلها وسيلة للوقيعة فيهم، والحط من أقدارهم؛ فتراه يطعن بسلفه الصالح، ويزري بأكابر أهل ملته من علماء، وفضلاء، وعظماء أحياءً كانوا أم أمواتاً.
ولا ريب أن ذلك الصنيع نذير شؤم وبلاء، وعلامة سقوط وهوان.
وأجرؤ من رأيت بظهر غيب ... على ذكر العيوب ذوو العيوب
يقول الأستاذ العلامة محمد كرد علي: =دخل عليَّ مستشار المعارف, وأنا في مكتبي بالوزارة ظاهر الغضب على محرر جريدتنا المقتبس؛ لنشره في الجريدة تعريضاً ببعض رصفائي الوزراء؛ خدمة لأغراض من يخدمهم من حزبه؛ فسألني المستشار عن غضبي على خلاف عادتي, فذكرت له السبب, فقال: لا أعرف كيف أعلل هذه الأخلاق فيكم تسقطون أبداً رجالَكم من الأعين, ورجالُكُم قليلون مهما بلغ عددهم لا يتجاوز المائة؛ فإذا أسقطتموهم كلهم فمن يبقى يخدمكم في السراء والضراء, وينفعكم باسمه ومكانته؟!+.
وقال الأستاذ محمد كرد علي _أيضاً_ : =كان أستاذنا الشيخ طاهر الجزائري وهو على سرير الموت يقول لمن حوله من أصحابه: اذكروا مَنْ عندكم من الرجال الذين ينفعونكم في الشدائد, ودوِّنوا أسماءهم في جريدة؛ لئلا تنسوهم, ونوِّهوا بهم عند كل سانحة, واحرصوا عليهم حرصَكم على أعزِّ عزيز.
وأظنهم على كثرة ماكدوا حافظتهم وذاكرتهم لم يعدوا أكثر من خمسين رجلاً.
وكان يقول لنا _أي الشيخ طاهر_ تجاوزوا عن سيئاتهم, وانتفعوا بحسناتهم.
وشيخنا هذا قضى عمره في السعي إلى الإصلاح والتجديد+.(1/73)
تأملت في قوله الله _ عز وجل _ : [وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً (69) إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً] ( الفرقان: 68_69).
ووجدت أن العلماء قد اختلفوا في صفة تبديل السيئات حسنات.
قال ابن القيم ×: =واختلفوا في صفة هذا التبديل، وهل هو في الدنيا أو في الآخرة؟ على قولين: فقال ابن عباس وأصحابه هو تبديلهم بقبائح أعمالهم محاسنها، فبدلهم بالشرك إيماناً، وبالزنا عفة وإحصاناً، وبالكذب صدقاً، وبالخيانة أمانة+.
فعلى هذا معنى الآية: أن صفاتِهم القبيحةَ، وأعمالَهم السيئة بُدِّلوا عوضها صفاتٍ جميلةً، وأعمالاً صالحة، كما يبدل المريض بالمرض صحة، والمبتلى ببلائه عافية.
وقال سعيد بن المسيب وغيره من التابعين: =هو تبديل الله سيئاتهم التي عملوها بحسنات يوم القيامة، فيعطيهم مكان كل سيئة حسنة+.
ثم قال ابن القيم × بعد أن تكلم على القولين السابقين: =إذا علم هذا فزوال موجب الذنب وأثره تارة يكون بالتوبة النصوح وهي أقوى الأسباب، وتارة يكون باستيفاء الحق منه وتطهيره في النار؛ فإذا تطهر بالنار وزال أثر الوسخ والخبث عنه أعطي مكان كل سيئة حسنة، فإذا تطهر بالتوبة النصوح وزال عنه بها أثر وسخ الذنوب وخبثها كان أولى بأن يعطى مكان كل سيئة حسنة؛ لأن إزالة التوبة لهذا الوسخ والخبث أعظم من إزالة النار، وأحب إلى الله.
وإزالة النار بدل منها، وهي الأصل؛ فهي أولى بالتبديل مما بعد الدخول+.(1/74)
وقال: =التائب قد بدل كل سيئة بندمه عليها حسنة؛ إذ هو توبة تلك السيئة، والندم توبة، والتوبة من كل ذنب حسنة؛ فصار كل ذنب عمله زائلاً بالتوبة التي حلت محله وهي حسنة؛ فصار له مكان كل سيئة حسنة بهذا الاعتبار؛ فتأمّلْه؛ فإنه من ألطف الوجوه.
وبناءً على هذا فقد تكون هذه الحسنة مساوية في القدر لتلك السيئة، وهذا من أسرار التوبة ولطائفها+.
هذا هو محصل أقوال العلماء في صفة التبديل.
ولكن يبقى تساؤل يثار عن سبب تبديل السيئات حسنات، فيقال: هل يكون من كثرت سيئاته وعظمت أفضل ممن قلَّت سيئاته وخفَّت إذا هما تابا، وكيف يكون ذلك؟ وهل لكثرة السيئات مزية بعد التوبة النصوح؟
كان هذا التساؤل يرد علي كثيراً ولم أطَّلع _على قلة اطلاعي_ على شيء من كلام العلماء في ذلك، فخطر في بالي سببٌ لَعلَّه يجيب عن هذا التساؤل؛ فيقال: إن من أسباب مضاعفة الأعمال تركَ الإنسانِ ما تشتهيه نفسه من الشهوات المحرمة إذا هو تركها خالصاً من قلبه.
ولا ريب أن كثرة المعاصي تضعف القلب، وتحول دون التوبة الصالحة الخالصة النصوح؛ لأن الذي يقع في الذنوب الكثيرة الكبيرة يقوى تعلقه بها، ويصعب عليه الخلاص منها؛ فإذا أراد التوبة والإقلاع عنها _ كان محتاجاً إلى قوة إخلاص، وصدقِ عزيمة، وشدة قهر للنفس ومنازعة لها.
فإذا اقتحم تلك العقبة؛ فقدع نفسه، وقهرها، وتجرع مرارة الصبر، وغصص الحرمان _ كان جديراً بتلك الكرامة، ألا وهي تبديل السيئات حسنات.
أما من كانت سيئاته قليلة صغيرة فربما لا يحتاج إلى كبير عناء ومجاهدة؛ فيكون أجره على قدر مجاهدته، وقد يكون له أعمال صالحة تفوق أعمال غيره ممن له سيئات كبيرة كثيرة ثم تاب عنها توبة نصوحاً، فهذا مُلَخَّصُ ما خطر لي في هذا السياق.(1/75)
ثم قرأت بعد ذلك كلاماً لابن القيم في كتابه الفوائد ربما يعضد ذلك المعنى، يقول ×: =وقد كتبوا إلى عمر بن الخطاب يسألونه عن هذه المسألة أيهما أفضل: رجل لم تخطر له الشهوات ولم تمر بباله، أو رجل نازعته إليها نفسه فتركها لله؟ فكتب عمر: إن الذي تشتهي نفسه المعاصي ويتركها لله _عز وجل_ من الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى لهم مغفرة وأجر عظيم+.
وهكذا من عَرَف البدع والشرك والباطل وطرقه؛ فأبغضها لله، وحذرها، وحذَّر منها، ودفعها عن نفسه، ولم يدعها تخدش وجه إيمانه، ولا تورثه شبهة، ولا شكاً، بل يزداد بمعرفتها بصيرة في الحق ومحبة له، وكراهة لها، ونفرة عنها _ أفضل ممن لا تخطر بباله، ولا تمرُّ بقلبه؛ فإنه كلما مرَّت بقلبه، وتصوَّرت له ازداد محبة للحق، ومعرفة بقدره وسروراً به؛ فيقوى إيمانه به.
كما أن صاحب خواطر الشهوات والمعاصي كلَّما مرَّت به، فرغب عنها إلى ضدِّها ازداد محبةً لضدِّها ورغبة فيه وطلباً له وحرصاً عليه؛ فما ابتلى الله _سبحانه_ عبدَه المؤمن بمحبة الشهوات والمعاصي، وميل نفسه إليها إلا ليسوقه بها إلى محبة ما هو أفضل منها، وخير له، وأنفع، وأدوم، وليجاهد نفسه على تركها له _ سبحانه _ فتورثه تلك المجاهدةُ الوصولَ إلى المحبوب الأعلى.
فكلما نازعته نفسه إلى تلك الشهوات، واشتدَّت إرادته لها وشوقه إليها _ صرف ذلك الشوق والإرادة والمحبة إلى النوع العالي الدائم؛ فكان طلبه له أشد وحرصه عليه أتم، بخلاف النفس الباردة الخالية من ذلك؛ فإنها وإن كانت طالبة للأعلى لكن بين الطلبين فرق عظيم.
ألا ترى أن من مشى إلى محبوبه على الجمر والشوك أعظم ممن مشى إليه راكباً على النجائب! فليس من آثر محبوبه مع منازعة نفسه كمن آثره مع عدم منازعتها إلى غيره؛ فهو _سبحانه_ يبتلي عبدَه بالشهوات، إما حجاباً له عنه، أو حجاباً له يوصله إلى رضاه وقربه وكرامته+.
هذه الآية في شأن النساء، وإمساكهن بالمعروف، أو تسريحهن بإحسان.(1/76)
ولكن، لا يبعد أن يتعدى ذلك المعنى إلى معانٍ أخرى، فيشمل كل من يُتعامل معهم من الناس؛ فمن ذلك أن يعمل لديك موظف في شركة، أو مدرسة، أو أي قطاع؛ فيمكث عندك فترة من الزمن طالت أو قصرت، ثم بعد ذلك تقتضي مصلحته أن ينتقل إلى ميدان أو مجال آخر، وهذا من حقه مالم يخل بشرط من الشروط.
فهل يعني ذلك أن تصرم حبال الود معه؟ وهل يلزم أن تسيء إليه، وتفسر انتقاله بقلة المروءة، ونكران الجميل؛ إذ كيف يزهد بك، وقد أحسنت إليه، وارتقيت بكفاءته؟
وهل يلزم من الافتراق، والانتقال الذي تقتضيه سنة الحياة وطبيعة العمل _ أن يكون ذريعة لنشر الغسيل، ونيل كل واحد من الآخر؟
الجواب لا؛ فأهل الكرم، وأولو الألباب، وذوو المروءات يربأون بأنفسهم عن تلك الخُطَّة؛ فيحسنون إلى من تحت أيديهم، ويقضونهم حقهم كاملاً غير منقوص، ولا يرون أنهم حكر عليهم لا يفارقونهم إلا إلى القبور.
فإذا قضى الله بالفراق، أو الانتقال _ أَحْسَنُوا التسريح والتوديع، وأَشْعَرُوا من يعمل معهم ويريد الانتقال عنهم بمحبتهم له، وحرصهم على مصلحته؛ فينتقل صاحبهم بنفس رضية، وذكريات جميلة، ودعوات صادقة، وصفح عن الزلات، وتذكر للحسنات.
بل ربما كان ذلك دافعاً لهم للعدول عن رغبتهم، أو الرجوع مرة أخرى إذا الفرصة واتتهم.
وبذلك تطيب النفوس، ويحفظ الود، ولا ينسى الفضل.
أما إذا كانت الأخرى فإن الخسارة فادحة للطرفين، سواء كانت مالية، أو معنوية، أو كليهما.
إصلاح ذات البين شعبة إيمانية, وشرعة إسلامية, تُستل بها السخائم, وتصفو القلوب, وتخمد نيران الفتن.
قال الله _ عز وجل _ منوهاً بتلك الخصلة: [لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً] (النساء: 114).(1/77)
ولكن هذه الخصلة الكريمة، والقربة العظيمة تحتاج إلى ممارسة ودَرَبة، وألمعية مهذبة، كما تحتاج إلى نية صالحة، وقدرة على حسن الأخذ بالأسباب، ومعرفة لدخول البيوت من الأبواب؛ فهذه _على سبيل الإجمال_ أسس لابد للمُصْلِح من مراعاتها، والأخذ بها حال خوضه لغمار إصلاح ذات البين.
أما تفصيل ذلك فيحتاج إلى بسط، والمقام لايسمح إلا بأقل القليل.
وفيما يلي معالم بازرة في هذه الشأن هي أشبه بالإيضاح للأسس الماضية المجملة.
1_ احتساب الأجر: _ كما قال _ عز وجل _ [وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً] (النساء: 114).
فما ظنك بعمل صالح رتب الله عليه هذا الثواب الجزيل؟
إنه عمل عظيم وله _في نظر الشارع_ مقام جليل؛ فاحتساب ذلك على الله _عز وجل_ يبعث الهمم ، ويقود إلى المسارعة والمسابقة في ذلك السبيل، ويمد القائم به بالصبر، والروح، والطمأنينة.
2_ استشعار أن ذلك العمل استجابة لأمر الله، قال الله _عز وجل_: [وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ] ( الأنفال: 1).
3_ استحضار أنه سبب لقوة الأمة: لأن الأمة المتصارعة، المتفككة يوشك أن تنهار، وأن تلتهمها أمم أخرى؛ فإصلاح ذات البين سبب لقوة الأمة، وصلابتها، وهيبة أعدائها لها.
4_ شكر الله _ عز وجل _: فحقيق على المُصلِح بين الناس, المُيَسَّر لهذا العمل الجليل _ أن يشكر الله على هذه النعمة، وأن يعترف له بتلك المنة؛ فانشراح صدره لذلك العمل, وقبول الناس لإصلاحه, وإصغاؤهم لكلامه, وأخذهم برأيه _ إنما هو محض فضل الله _ عز وجل _.
قال الإمام الشافعي×:
الناس بالناس ما دام الحياة بهم ... والسعد لا شك تارات وهبات
وأفضل الناس ما بين الورى رجل ... تقضى على يده للناس حاجات
لا تمنعن يد المعروف من أحد ... ما دمت مقتدراً فالسعد تارات
واشكر فضائل صنع الله إذ جعلت ... إليك لا لك عند الناس حاجات(1/78)
5_ التحلي بالحلم وسعة البال: لأن المصلح _في الأغلب_ سيدخل بين أطراف يَقِلُّ عندها العدل والعقل، ويفشو فيها الظلم والجهل؛ فيحتاج _إذاً_ إلى ضبط النفس، وسعة الصدر، واحتمال ما يصدر من سفه، وتطاول، وترديد كلام، وإطالة في المقدمات.
فلا يحسن به أن يكون ضيق الصدر، قليل الصبر.
وليعلم أن مهمته مرهقة؛ فليوطن نفسه على عقبات الطريق، وليداوِ كلوم النفوس بالهدوء، وسعة الصدر، ولين الجانب، ومقابلة الإساءة بالإحسان؛ فإن تلك الصفات رقيةُ النفوس الشرسة، وبلسم الجراح الغائرة.
6_ التصور التام للقضية: فلا بد للمصلح إذا أراد الدخول في قضية ما _ أن يكون على تصور تام لها؛ فالحكم على الشيء فرع عن تصوره؛ إذ كيف يدخل في مجاهل، ومفاوز لا يدرك غورها، ولا يسبر مسالكها؟
فلا بد _ إذاً _ من تصور القضية، ومعرفة أطرافها، وأحوال أصحابها، وما يكتنفها من غموض، وظروف.
7_ النظر في إمكان الدخول في القضية: فإذا تصور المصلح القضية تماماً نظر في إمكان الدخول فيها، وجدوى السعي في حلها.
وربما احتاج إلى الاستشارة، والاستخارة؛ فربما تكون القضية فوق طاقته، وربما يكون دخوله فيها كعدمه، بل ربما لحقه ضرر دون أدنى فائدة.
ومن هنا كان التحري، والتروي، وحسنُ النظرِ _ متحتماً قبل الدخول في القضية.
8_ الدعاء وسؤال الله التوفيق: فمهما بلغ الإنسان من الكياسة والفطنة، والسياسة، وحسن التصرف _ فإنه لا يستغني عن توفيق الله ولطفه، وإعانته؛ فليلجأ المصلح إلى ربه وليسألْهُ التوفيق، والتسديد, واللطف، فإنه _عز وجل_ يجيب من دعاه، ويعين من استعان به [وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ] (غافر: 60).
9_ المحافظة على أسرار المتخاصمين: فذلك من الأخلاق التي يجب على المصلح أن يأخذ بها، وألا يسمح لنفسه بالتفريط في شأنها.
أما إذا احتاج إلى إفشاء شيء من ذلك لمن يعنيه الأمر، أو لمن يمكن الإفادة من رأيه _ فذلك داخل في الإصلاح.(1/79)
10_ الحذر من اليأس: فربما حاولت المحاولة الأولى، وبذلت وسعك في معالجة المشكلة _ فأخفقت؛ فإن كنت قصير النَّفَس، ضيق العطن أيست من العلاج، وتركت المحاولة إلى غير رجعة.
أما إذا أخذت بسياسة النفس الطويل، وتدرجت في مراحل العلاج مرحلة مرحلة _ أوشكت أن تصل إلى مبتغاك؛ فاحذر _إذاً_ من اليأس، وإن أعيتك حيلة فالجأ إلى أخرى، وإذا انسد عليك طريق فاسلك غيرها.
11_ الاستعانة بمن يفيد: سواء من أقارب الأطراف، أو من أصدقائهم، أو معارفهم، أو من له تأثير عليهم.
ولكن يراعى في ذلك أن يكون أولئك من ذوي الروية، والبصيرة، والحكمة.
12_ مراعاة الذوق العام: ويندرج تحت ذلك أمور كثيرة، وربما كان بعضها صغيراً، لكنه قد يغير مسار القضية تماماً، فيدخل تحتَ الذوقِ تجنبُ بعضِ الكلمات الجافية المثيرة، واستعمالُ العبارات اللائقة الجميلة التي تبهج النفس، وتشرح الصدر.
ويدخل في ذلك اللمسةُ الحانيةُ، والبسمةُ الصادقة، ويدخل فيه استثارة النخوة، وتحريك العاطفة، بل قد يدخل فيه العتب والغضب إذا كان ذلك في محله، وممن يليق منه ذلك.
ويدخل في ذلك مراعاة العادات، وفهم الطبائع والنفسيات.
فهذه الأمور، وما جرى مجراها من جملة ما يحتاجه المصلح مع مراعاة وضع كل أمر في نصابه دون وكس، ولا شطط، ولا تكلف.
13_ حسن الاستماع: لأن كلَّ طرف من الأطراف يزعم أنه على حق، وأن صاحبه على باطل؛ فيحتاج كلُّ واحد منهما إلى مَنْ يَستمع إليه، ويرفق به، ويأخذ ويعطي معه.
بل إن بعض الخصوم يكفيه أن يفرغ ما في نفسه من غيظ، أو كلام؛ فيشعر بعد ذلك بالراحة، ويكون مستعداً لما يراد منه.
14_ الانفراد بكل طرف على حدة: فاللقاء الفردي بكل واحد من الأطراف ربما يحسن في بعض الأحيان؛ حتى لا يحصل الصراع والعراك في بداية الأمر؛ فيتعذر الإصلاح.
فإذا حصل اللقاء الفردي كان ذلك سبباً لأن يقف المُصْلِحُ على حقيقة الأمر، وما يريده كل طرف من الآخر.(1/80)
15_ الرفع من قيمة المتخاصمين: وذلك بإنزالهم منازلهم، ومناداتهم بأحب أسمائهم إليهم، والحذر من انتقاصهم، أو الحط من أقدارهم.
16_ الحذر من الوقيعة بأحد الخصمين عند الآخر: لأن ذلك ضرب من الغيبة, ولأنهما ربما اصطلحا، فأخبر كل واحد منهما بما قلته في صاحبه؛ فتحصل على الضرر من غير ما فائدة، وقديماً قيل:
كم صاحبٍ عاديتَه في صاحبٍ ... فتصالحا وبقيتَ في الأعداء
17_ الوضوح، ولزوم الصدق، والصراحة: والمقصود بالصراحة ههنا ألا يساير المُصْلِحُ أحداً من الخصمين على باطل، وألا يَعِدَ أحداً منهما وعداً وهو غير قادر على إنفاذه، إلى غير ذلك مما يستلزم الوضوح والصدق.
وليس من شرط ذلك أن يشتد المصلح، أو أن يواجه الخصوم بما يكرهون بحجة أنه صريح، بل يحرص على أن تكون صراحته مغلفة بالأدب واللياقة، وأن تكون كلماته خفيفة الوقع على أسماع المتخاصمين.
كما لا ينافي الصراحةَ والصدق تنميةُ الخير, واستعمال المعاريض, والعبارات الواسعة التي تصلح وتقرب.
18_ تذكير الخصوم بالعاقبة: فيحسن بالمصلح أن يُذكِّر الأطراف المتخاصمة بالعاقبة؛ فيذكرهم بعاقبة الخصومة, وما تجلبه من الشقاق, وتوارث العداوات, واشتغال القلوب, وغفلتها عن مصالحها.
ويذكرهم _ كذلك _ بالعاقبة الحميدة للصلح في الدنيا والآخرة, ويسوق لهم الآثار الواردة في ذلك كقوله _تعالى_: [وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى] (البقرة: 237) وكقوله: [وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ] (آل عمران: 134) وكقوله: [فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ] (الشورى: 40).
ويسوق لهم قصصاً لأناس عفوا, فحصل لهم من العز, والخير ما حصل.
وهكذا...
فذلك يبعث النفوس إلى الإقصار عن التمادي في الخصام.
19_ إعطاء الوقت والفرصة الكافية: فإذا قام المصلح بما ينبغي له أن يقوم به فَلْيَدَعْ للزمن دوره, حتى تهدأ النفوس, ويختمر الرأي في الأذهان, ويبدأ الأطراف في المراجعة.(1/81)
20_ الحذر من إلحاق الضرر بأيٍّ من الخصوم: وذلك بالحرص على ألا يترتب على الإصلاح إضرار بأحد الأطراف، كحال من إذا رأى حادثاً مرورياً في طريقٍ ما _ بادر إلى حث الطرفين على الصلح، ويعني بذلك أن يمضي كلُّ واحدٍ منهما إلى سبيله دون أن يتحمل أيَّ تبعة.
وربما جامل صاحب الحق، وسكت، وعفا، وتحمل نتيجة الحادث، مع أنه قد يكون قليل ذات اليد، وقد يضطر إلى المسألة؛ ليصلح سيارته.
فلا بد _ إذاً _ من مراعاة هذا الأمر؛ فلا ضرر ولا ضرار، ولا بد في العفو من الإصلاح لا الإفساد.
وقس على هذه النبذة كثيراً مما قد يقع من الخلاف، والتنازع في الحقوق.
21_ ألا تدخل في قضية بشرط النجاح: بل عليك _أيها المصلح_ بذل الوسع، واستنفاد الطاقة، ثم بعد ذلك وطِّن نفسك على أن محاولاتك ربما لا تفلح؛ فلا يكبر عليك ذلك، واعلم بأنك مأجور مثاب، وليس من شرط الإصلاح إدراك النجاح، وليكن شعارك [إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ] ( هود: 88).
الحرص على إتقان العمل, والحذرُ من التقصير في الواجب _ فضيلة وأي فضيلة؛ إذ إن ذلك يحمل على الجد, والحزم, والقيام بالواجباتِ.
وإن الشعور بالذنب وتأنيبِ الضمير حالَ وقوع الخطأ دليلٌ على حياة القلب, ورعاية الأمانة.
كما أن التفريط بالواجب وقلة المبالاة بالتقصير _ بلادةٌ في النفس, واستكانة للهوى، وضرب من القِحة والصفاقة.
ومهما يَكُ من شيء فإن الاعتدال مطلوب في حال وقوع الخلل أو التقصير؛ فإذا كان الإهمال والتفريط وما جرى مجراهما مذموماً _ فكذلك المبالغة في لوم النفس ومحاسبتها مذموم؛ إذ إنه يقود إلى تحقير النفس, وقلة الثقة فيها.(1/82)
بل قد يقود إلى تفريط آخر, وهذا مشاهد محسوس؛ فتجد من الطلاب _ على سبيل المثال _ من يقصر في نحو الحضور, أو أداء الواجبات؛ وبدلاً من الاعتذار وتدراك التقصير تجده يتهرب, ويحذر من المواجهة؛ فيترتب على ذلك تقصير أعظم من الأول بمراحل وهكذا...
وتجد من الناس مَنْ يُسْنَدُ إليه عملٌ إما من قبل عمله الرسمي, أو من قِبَل من يتفق معه على عمل معين؛ فربما قصر في العمل, أو تأخر عن إنهائه في الوقت المحدد؛ فتراه بعد ذلك يبالغ في جلد ذاته, واتهام نفسه بالإخفاق, فينتج عن ذلك قطيعة, وترك للعمل, وحذر من المواجهة, بل ربما أدى ذلك إلى مرض نفسي مزمن يزيد مع الأيام.
وصفوة الكلام في هذا السياق أن يحرص المرء على أداء عمل بكل أمانة وإتقان، وإذا قصر فيه _وهو عرضة لذلك_ فليتدارك تقصيره, وليعتذر عن خطئه, ثم بعد ذلك يواصل عمله, ويحسن ظنه بنفسه, ويكف عن جلد ذاته, والمبالغة في تقريع نفسه [وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً] (النساء:29).
=وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن+.
يقول الله _ عز وجل _ في سورة الشورى: [وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (28)] الشورى.
هذه الآية واضحة في دلالتها؛ حيث يبين الله _عز وجل_ أنه ينزل الغيث عند اشتداد حاجة الناس، وعندما تبلغ بهم الشدة مبلغها، ويسيطر اليأس على القلوب؛ فتلك سنة الله _ عز وجل _ فإن مع العسر يسراً إن مع العسر يسراً.
هذا في شأن الغيث، وغيره، وهكذا الأمر في شأن الذنوب؛ حيث يبلغ اليأسُ بالعبد مبلغه عندما يتمادى فيها، وربما يوقعه الشيطان في القنوط من رحمة الله، فيرى ذلك المذنب أن لا سبيل إلى التوبة، وأنه ممن كتبت عليه الشقاوة؛ فما يلبث أن يتلافاه الله برحمته، ويمن عليه بنفحة من نفحاته؛ فإذا السعادة تقبل عليه، وإذا أنوار الهداية تملأ ما بين جنبيه.(1/83)
هذا في شأن الأفراد، وقُلْ مثل ذلك في شأن الجماعات؛ فالله _ عز وجل _ ينشر رحمته، وهو الولي الحميد.
جاء في الصحيحين من حديث النعمان بن بشير ÷ قول النبي ": =فإن الحلال بيِّن، وإن الحرام بيِّن، وبينهما أمورٌ مشتبهاتٌ لا يعلمهن كثيرٌ من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه+ الحديث.
هذا الحديث يطول شرحه، وقد اعتنى شرَّاح الصحيحين في ذلك.
والكلام في هذه الخاطرة إنما هو حول قوله _عليه الصلاة والسلام_: =كالراعي يرعى حول الحمى...+.
فقد بيَّن العلماء الأوائل من شرَّاح الصحيحين كالنووي، وابن رجب، وابن حجر _رحمهم الله_ أن النبي " مَثَّل المثلَ لمحارم الله بالحمى الذي يحميه المَلِكُ من الأرض، ويمنع الناس من الدخول فيه؛ فمن تباعد عنه توقى سخط الملك، وعقوبته، ومن رعى بقرب الحمى فقد تعرض لمساخط الملك، وعقوبته؛ لأنه ربما دعته نفسه إلى الولوج في أطراف الحمى.
قالوا: وفي هذا دليلٌ على سد الذرائع، والوسائل، والمحرمات، ثم ضربوا أمثلةً لذلك مما هو شائعٌ في وقتهم، فمثَّلوا بالخلوة بالمرأة الأجنبية، وبشرب قليل ما يسكر كثيره، وبالنهي عن الصلاة بعد الصبح، وبعد العصر؛ خشية الصلاة عند طلوع الشمس، وعند غروبها، وبمنع من تحرك القُبلة شهوته في صيامه، ومثلوا كذلك بما يُضَمَّن مَنْ سيَّب دابته نهاراً بقرب زرع غيره فتفسده، أو أرسل كلبه للصيد في الحل بقرب الحرم، فدخل الحرم فصاد؛ فإنه يضمن في الصورتين على الأصح.
وفي عصرنا هذا شاعت صورٌ كثيرةٌ من هذا القبيل، بل إن من الناس من ارتكس في الحمأة، وهو يحسب أنه يحوم حول الحمى.
فمن صور ذلك ما تراه من التحايل في أكل المال؛ حيث يبدأ الإنسان وهو يحاذر من الوقوع في الحرام، ثم يتدرج به الشيطان فيوقعه في المشتبه، ثم يوصله إلى الحرام المحض بعد أن يغرق في الدين إلى الأذقان.(1/84)
ومن صور ذلك ما تراه من بعض الناس؛ حيث يطلق بصره في النظر في القنوات الفضائية، ثم يتمادى به الأمر، فيدمن مشاهدة المناظر الخليعة التي تفتك بقلبه، وتطفئء نور بصيرته.
وقل مثل ذلك فيمن يتصفح مواقع الإنترنت؛ حيث يقلبها دون أن يكون له رغبة في الوقوع في الحرام، فما إن يلبث في تقليب بصره حتى يصل إلى ما لم يكن له في الحسبان.
وكذلك الشأن في حال من يرتاد المجالس التي تثار فيها الشبهات؛ حيث يعودها مرةً بعد أخرى حتى يتشرب الشبهة تلو الشبهة، فيظلم قلبه، ويفقد أنسه بربه، وربما انسلخ من دينه.
وربما دخل في مناقشات، وردود مع أرباب فكر منحرف، وهو خالي الوفاض من العلم والحجة؛ فما هي إلا أن تسري إليه عدواهم؛ فيصير من قبيلهم.
وبعد: فهذه القطعة من الحديث من علامات النبوة، ومن أعظم جوامع الكلم؛ إذ إن من اقترب من المحرم، وحام حول الفتن قرب منه البلاء، وبعدت عنه السلامة، وربما زال عنه اللطف الإلهي، ووكل إلى نفسه؛ فمهما بلغ الإنسان من التحرز، والعلم، والديانة _ فلا ينبغي له أن يُغَرِّر بنفسه، ولا يجوز له أن يُفْرِط في الثقة بما هو عليه من العلم والتقوى.
فإن أبى إلا الحوم حول الحمى فليعلم أنه على شفا جرف، فيوشك أن ينهار به؛ فليتدارك نفسه، وليصلح ما أفسد؛ فإن الحسنات يذهبن السيئات، ومن يعمل سوءاً، أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفوراً رحيماً.
قال أبو الخطاب أحمد بن محفوظ الكلوذاني ×:
من قارف الفتنة ثم ادعى الـ ... ـعصمة قد نافق في أمره
ولايجيز الشرعُ أسباب ما ... يورِّط المسلمَ في حظره
فانج ودع عنك صداع الهوى ... عساك أن تسلم من شره
هذا وإن من أعظم ما يعين على سلامة القلب، ونجاته من أسباب الردى _ البعدَ عن المثيرات؛ فيبتعدَ عن كل ما يثير فيه دواعي المعصية، ونوازع الشر، ويبتعدَ عن كل ما يثير شهوته، ويحرك غريزته من مشاهدة للأفلام الخليعة، وسماع للأغاني الماجنة، وقراءة للكتب السيئة، والمجلات الداعرة.(1/85)
كما عليه أن يقطع صلته بكل ما يذكره بالمعصية من أماكن الخنا، ومنتديات الرذيلة التي تغريه بها، وتدعوه إليها؛ فالشيء إذا قطعت أسبابه التي تمده زال واضمحل؛ فالقرب من المثيرات بلاء وشقاء، والبعد عنها جفاء وعزاء؛ فكل بعيد عن البدن يؤثر بعده في القلب؛ فليصبر على مضض الفراق صبر المصاب في بداية المصيبة، ثم إن مرَّ الأيام يهوِّن الأمر، خصوصاً إذا كان ذلك مما يثير العشق والغرام، قال زهير بن الحباب الكلبي:
إذا ما شئت أن تسلو حبيباً ... فأكثر دونه عدد الليالي
فما سلى حبيبك غيرُ نأي ... ولا أبلى جديدك كابتذال
وقال امرؤ القيس:
وإنك لم تقطع لبانة عاشق ... بمثل رواح أو غدوٍّ مأوِّبِ
ومن البعد عن المثيرات أن يبتعد الإنسان عن الفتن _كما مر_ لأن البعد عنها نجاة وسلامة، والقرب منها مدعاة للوقوع فيها.
قال ابن الجوزي×: =من قارب الفتنة بعدت عنه السلامة، ومن ادعى الصبر وكل إلى نفسه، وربَّ نظرةٍ لم تناظِر(1).
وأحقُّ الأشياء بالضبط والقهر اللسانُ والعينُ؛ فإياك أن تغتر بعزمك على ترك الهوى مع مقاربة الفتنة؛ فإن الهوى مكايد، وكم من شجاع في الحرب اغتيل، فأتاه ما لم يحتسب.
فَتَبَصَّرْ ولا تَشَمْ كلَّ برقٍ ... رب برق فيه صواعق حَيْنِ(2)
واغضضِ الطرفَ تَسْتَرح من غرام ... تكتسي فيه ثوب ذلٍّ وشين
فبلاء الفتى موافقة النفـ ... ـس وبدءُ الهوى طموح العين+
وقال×: =ما رأيت أعظم فتنة من مقاربة الفتنة، وقل أن يقاربها إلا من يقع فيها، ومن حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه+.
__________
(1) _ لم تناظر: أي لم تمهل، فأصابت بسهم، أو أوقعت في الفتنة.
(2) _ لا تشم: شام البرق: نظر إليه أين يقصد ويمطر. ومعنى حَيْن: أي هلاك، والمعنى تبصر، وتنبَّه، ولا تركن إلى ظواهر الأمور؛ فربما كان فيها هلاكك.(1/86)
ومن المثيرات التي يجدر بالإنسان تجنبها فضول الطعام، والمنام، ومخالطة الأنام؛ فإن قوة المعاصي إنما تنشأ من هذه الفضلات؛ فإنها تطلب مَصْرفاً، فيضيق عليها المباح، فتتعداه إلى الحرام.
ومن البعد عن المثيرات البعد عن الكتب التي تحرك نوازع الشر، وتحبب الفساد لقرائها، كما في بعض كتب الأدب التي تحتوي على الكلام البذيء، والأدب المكشوف الذي يستقر في الأدمغة استقرار البارود.
وهل الأدب المكشوف إلا سوءة من سوءات الفكر؟ حتى إن الخمر التي لا ينازِع في مفسدتها إلا مَنْ غرق بسكرة الجهل والغواية _ وجَدتْ من يصفها بأبدع الأوصاف؛ فكثير من الشعراء قد طغى به الإبداع في المقال إلى أن نسقوا في مديحها صفات الخيال، وضربوا للتنويه بشأنها الأمثال، فاستهووا لمعاقرتها عبيد الخيال، والشعراء يتبعهم الغاوون.
ومن أعظم المثيرات التي يجدر بالعاقل تجنبها _ المعاكسات الهاتفية؛ فهي من أشد ما يجر إلى البلايا؛ فقد تكون الفتاة حَصَاناً رزاناً لا تُزَنُّ بريبة، ولا تحوم حولها شبهة، وهي من بيت طهر وفضيلة، قد جلله العفاف، وأُسْدل عليه الستر.
فما هو إلا أن تتساهل في شأن الهاتف، وتسترسل في محادثة العابثين حتى تقع فيما لا تحمد عقباه؛ فربما وافقت صفيقاً يغْتَرُّها بمعسول الكلام، فَتَعْلَقُه، وتقع في أشراكه؛ ولا يخفى أن الأذن تعشق قبل العين أحياناً.
وربما زاد الأمر عن ذلك، فاستجر الفتاة حتى إذا وافق غِرَّتَها مَكَرَ بِها، وتركها بعد أن يلبسها عارها.
وربما كانت المبادرة من بعض الفتيات؛ حيث تمسك بسماعة الهاتف, وتتصل بأحد من الناس إما أن يكون مقصوداً بعينه، وإما أن يكون الاتصال خَبْطَ عشواء؛ فتبدأ بالخضوع له بالقول، وإيقاعه في حبائلها.(1/87)
والحامل على المعاكسات في الغالب تساهل كثير من الناس في شأن الهاتف، أو الجهل بعواقب المعاكسات، أو من باب التقليد الأعمى، أو حب الاستطلاع، أو غير ذلك من الأمور التي يجمعها الجهل، وعدم النظر في العواقب، وقلة المراقبة لله _تعالى_.
والحديث عن المعاكسات الهاتفية وما تجره من فساد يطول ذكره، وليس هذا مجال بسطه.
والمقصود من ذلك الإشارةُ إلى أن المعاكسات الهاتفية من أعظم الأسباب التي تقود إلى الشر العريض، والفساد الكبير.
وقل مثل ذلك وأشد في شأن المعاكسات عبر الإنترنت،وعبر الجوال، وتقنياته المتسارعة.
وبالجملة فإن مثلَ النفوس _بما جبلت عليه من ميل للشهوات، وما أودع فيها من غرائز تميل مع الهوى حيثما مال_ كمثل البارود، والوقود، وسائر المواد القابلة للاشتعال؛ فإن هذه المواد وما جرى مجراها متى كانت بعيدة عما يُشْعل فتيلها، ويذكي أوارها _ بقيت ساكنة لا يُخشى خطرها، والعكس.
وكذلك النفوس؛ فإنها تظل ساكنة وادعة هادئة، فإذا اقتربت مما يثيرها، ويحرك نوازعها إلى الشرور من مسموع، أو مشموم أو منظور _ ثارت كوامنها، وهاجت شرورها، وتحرك داؤها، وطغت أهواؤها.
قال ابن حزم×:
لا تلم مَنْ عَرَّض النفس لما ... ليس يرضي غيره عند المحن
لا تقرِّبْ عرفجاً من لهب ... ومتى قربته قامت دُخن
وقال:
لا تُتْبِع النفسَ الهوى ... ودع التعرض للمحن
إبليسُ حيٌّ لم يمت ... والعين بابٌ للفتن
عنوان هذه الخاطرة مأخوذ من كلمة للإمام سفيان الثوري ت 161 ×.
والكلمة بتمامها: =ما أعطي رجلٌ من الدنيا شيئاً إلا قيل له: خذْه ومثله حزناً+.
فهذه الكلمة _على وجازتها_ من هذا الإمام الكبير المتبوع تحمل في طياتها حكمةً بالغة، ولو تدبرها الإنسان لوجد مصداقها لائحاً في واقع الحياة؛ فما الذي يتمناه الناس كلهم؟ إنهم يتمنون السعادة؛ فالعالم بأسره مؤمنه وكافره، بره وفاجره يبتغي السعادة، ويروم طرد الهم والقلق.(1/88)
وما السعادة عند أكثر من في الأرض؟ إنها سعادة المال، والجاه، والشهرة؛ فلا سعادة عندهم إلا سعادة المشاهير من أهل الفن، والمال، والرياضة، والوجاهة، والرياسة وغير ذلك من الأمور التي تأخذ بالألباب.
ولا يعرفون السعادة إلا بإطلاق الشهوات، والتمتع بسائر الملذات، وإذا فاتهم ذلك قالوا: على الدنيا العفاء.
فهل تلك النظرة صائبة؟ وهل أهل الفن، والمال، والرياضة، والوجاهة، والرياسة، سعداء حقَّاً؟ وهل المجتمعات التي أطلقت لنفسها الشهوات، وتمتعت بسائر الملذات سعيدة حقَّاً؟
إنك لو تدبرت أحوال أولئك، واستمعت إلى أقوالهم لأدركت صحة قول سفيان ×.
وإليك نبذة عن أحوال وأقوال أولئك الذين يُظن أنهم أسعد الناس:
ها هو الملك حسين بن طلال الذي تربع على عرش الأردن مدة تزيد على خمس وأربعين سنة، قضى معظمها في ريعان شبابه؛ حيث تولى الملك وعمره ست عشرة سنة، وتوفي في الثالثة والستين من عمره بعد صراع مرير مع مرض السرطان، ها هو يقول في الفصل الأخير من كتابه (مهنتي كملك) الذي روى فيه ذكرياته، والأحداث التي مرت به في حياته حتى مرحلة السبعينات الميلادية:
=إنني أعتقد بأن من العسير جداً إدراك السعادة في هذه الدنيا سواء كان المرء ملكاً أم إنساناً عادياً؛ ما هي السعادة بالنسبة للأغلبية العظمى من الناس؟ إنها الحصول على عمل مغرٍ ممتع، وعلى راتب جيد، وأسرة لطيفة تستعذبها النفس، والقيام بالرحلات من وقت إلى آخر، وأن يكون للمرء بعض الأصدقاء، وأن يساعد الناس، ويساعدوه.
لقد نلت كل ذلك، وما زال كل ذلك في متناول يدي، ولكن هل يعني هذا حقاً أنني سعيد؟(1/89)
لا أعتقد ذلك، نعم لقد كانت حياتي خصبة مليئة _كما قلت_ ولربما لم يعرف مثلها إلا القليل من الناس، لقد عرفت السراء والضراء، ولعل الضراء رجحت على السراء، وعانيت لحظات في غاية الشدة، ومرت بي فترات في أقصى درجات الضيق، ومرت بي أوقات كنت أشعر فيها بأنني في منتهى العزلة، وعرفت الحداد والأحزان، والنادر من الفرح، والقليل من السعادة، لقد عرفت كل ما يمكن أن يعرفه كائن بشري: الجوع، والعطش، والإذلال، والهزيمة، والنادر من اليسار والبحبوحة، والقليل من السلام والراحة والابتهاج+.
إلى أن قال: =إن حياتي الخاصة والعائلية غير منظمة؛ فأعباء الدولة تحول بيني وبين أن أكون لهذه الكائنات الإنسانية العزيزة الغالية بالقدر الذي أرغب وأتوق إليه، وطالما اضطررت أن أخيب آمالهم في الوقت الذي ينتظرونني فيه؛ لتناول طعام الغداء معي، فأحتبس نفسي مع زائر أجنبي، أو سياسي أردني، ثم في حوالي الساعة الرابعة أو الخامسة بعد الظهر أطلب إحضار بعض الشطائر لآكلها وأنا منهمك في عملي.
أما في المساء فإنني أغادر مائدة العمل في الساعة الثامنة أو التاسعة، ويكون أولادي عندها قد استسلموا إلى الرقاد، وتبقى في انتظاري زوجتي وأولادي ليمنحوني الحرارة التي افتقدتها، والتي أشعر بأنني في مسيس الحاجة إليها+.
ثم إن نجوم الرياضة _وخصوصاً كرة القدم_ لهم القِدْحُ المعلى من الشهرة وبُعْد الصيت في هذا العصر.
وكثير من الناس يظن أن نجوم الرياضة أسعد الناس؛ لما ينعمون به من الشهرة، وحب الجماهير، وربما طغيان الغنى.(1/90)
والحقيقة المُبْصَرَةُ تقول غير هذا؛ فلو كشفت عن سالفة هؤلاء، وتبينت حقيقة أمرهم _ لعلمت أنهم في واد والسعادة الحقة في واد؛ ولأدركت أن ما هم فيه من إظهار للسرور والبهجة إنما هي سعادة عابرة مؤقتة تخفي وراءها الآلام، والمتاعب والأتراح؛ ذلك أن اللاعب ينتقل من معسكر إلى معسكر، ومن استعداد لمباراة إلى استعداد لأخرى، ومن سفر إلى بلد إلى سفر آخر.
وهذه إصابة تقض مضجعه وتؤرق جفنه، وتلك صحافة تقذع في نقده، وتبالغ في سبه، أو التعريض به، وهذه اضطرابات تصيبه قبل كل مباراة، وتلك كآبة تخيم عليه عند كل هزيمة، وذلك جمهور لا يرحمه إذا لم يقم بدوره كما ينبغي، وهؤلاء حسدة يكيدون له ويتربصون به الدوائر، وذاك خوف وقلق من فقدان مكانته.
ثم ما حال ذلك النجم اللامع إذا انخفض مستواه، وما حاله إذا اعتزل أو اضطر إلى ذلك؟
إنه يلاقي كل كنود وجحود حتى من أقرب الأقربين إليه.
ثم كم يحرم من الأنس بأهله؟ وكم يحرم أهله منه؟
إذاً فليست السعادة عند هؤلاء، وإن تظاهروا بها، وظن بعض الناس أنهم أحقُّ الناس وأهلُها، وإن كانوا _أيضاً_ متفاوتين في الشقاء وقلة السعادة.
وها هي مارلين مونرو ممثلة الإغراء الأمريكية التي تعد أشهر ممثلة في تاريخ هوليود، والتي يقولون عنها: إنها =أسطورة هوليود التي لا يخبو نورها، ولا ينطفىء وهجها، ولا ينقطع الحديث عنها+.
هذه المرأة تركت الدنيا في الخامس من أغسطس عام 1962م في ظروف غامضة؛ فماذا كانت حياة تلك المشهورة التي ملأت الدنيا وشغلت الناس في حياتها وبعد وفاتها، والتي تركت الدنيا في أوج شهرتها، وعزِّ بريقها، وشرخ شبابها، والتي لا يزال الحديث مستمر اً عنها؟
هل هي سعيدة في حياتها؟ وهل أغنت عنها شهرتها؟(1/91)
لعل حديثها عن نفسها يكون أبلغ وأوقع، تقول عن نفسها: =إنها نشأت في جو يخيم عليه الحزن، وتحاصره الكآبة، فلم تعرف لها أباً، ولم تجد لها أمَّاً حنوناً، ولم يُرَبِّتْ أحد على كتفها ليقول لها _كما يقال للصغار_: أنت طفلة جميلة.
وتعترف بأن الرجل الذي كتب اسمه في شهادة ميلادها على أنه أبوها _ هو أحد عشاق أمِّها الذي ربما اختارته بطريقة عشوائية كأب للمولودة الجديدة+.
وتؤكد مارلين أن أسوأ شيء في حياتها هو محاولة الكثيرين استغلالها، حتى أقرب الأقربين.
الجدير بالذكر أن حياة تلك المرأة كانت سلسلة من الفضائح التي كانت مسؤولة عن بعضها، ولا يد لها في بعضها الآخر.
وأشهر ما كان من ذلك علاقتها بالرئيس الأمريكي جون كنيدي، ثم تخليه عنها لما تولى الرئاسة، ثم علاقتها بأخيه روبرت كنيدي.
ولقد سببت لها تلك العلاقات متاعب كثيرة، بل لقد قيل: إن لآل كنيدي يداً في موتها.
وأخيراً كيف كانت نهاية تلك المرأة؟
لقد وجدوها جثة هامدة في منزلها، واكتشف المحقق الذي تناول قضيتها أنها ماتت منتحرة، ووجد رسالة محفوظة في صندوق الأمانات في مانهاتن في نيويورك، وهذه الرسالة ألقت بعض الضوء على انتحار مارلين مونرو؛ إذ وجد على غلافها كلمة تطلب عدم فتح الرسالة قبل وفاتها.
ولما فتح المحقق الرسالة، وجدها مكتوبة بخط مارلين مونرو بالذات، وهي موجهة إلى فتاة تطلب نصيحة مارلين عن الطريق إلى التمثيل.
قالت مارلين في رسالتها إلى الفتاة، وإلى كل من ترغب العمل في السينما: =احذري المجد، احذري كل من يخدعك بالأضواء؛ إني أتعس امرأة على هذه الأرض؛ لم أستطع أن أكون أماً، إني أفَضِّل البيت، والحياة العائلية الشريفةَ على كل شيء، إن سعادة المرأة الحقيقية في الحياة العائلية الشريفة الطاهرة، بل إن هذه الحياة العائلية لهي رمز سعادة المرأة، بل الإنسانية.(1/92)
وتقول في النهاية: لقد ظلمني الناس، وإن العمل في السينما يجعل المرأة سلعة رخيصة تافهة مهما نالت من المجد والشهرة الزائفة.
إني أنصح الفتيات بعدم العمل في السينما وفي التمثيل؛ إن نهايتهن إذا كن عاقلات كنهايتي+.
هذه هي حال تلك المرأة، وهذه نصائحها المجانية تقدمها في نهاية مطافها؛ فما أكثر العبر، وما أقل المعتبر؛ فهل من مدكر؟
وهذه الأميرة الليدي ديانا سبنسر تلك المرأة الإنجليزية التي نالت من الشهرة ما لم تنله امرأة في القرن العشرين، حيث تزوجت بولي عهد بريطانيا الأمير تشارلز عام 1980م_1400هـ، وأقيم حفل الزواج الكبير في قصر بكنجهام، وشاهد العالم ذلك الحفل عبر شاشات التلفاز.
ومنذ ذلك الحين والإعلام العالمي بكافة وسائله لا يفتأ يذكر اسمها، ويتابع أخبارها، وينشر صورها.
وظل الناس يتابعون كل دقيقة وجليلة من أمرها، حتى أصبح كثير من نساء العالم يقلدنها في شتى أحوالها، حتى في مشيتها، وتسريحة شعرها، وطريقة ابتسامتها، ونوع ملبوسها، ونحو ذلك من شؤونها.
وعلى مدى سنوات طويلة كان لدى الشعب البريطاني، وسائر شعوب العالم اعتقاد بأن ديانا وتشارلز هما أسعد زوجين على وجه الأرض، كيف لا وقد امتلكا جميع مباهج الحياة _في نظر الأكثرين_؟
فالشهرة، والمجد، والثراء، والنفوذ، والمستقبل الذي ينتظر الذرية كل هذه الأمور نصب أعين الزوجين.
ولكن هذا الاعتقاد لم يكن صائباً، وكل القصص والحكايات الوردية التي صنعها خيال الناس لم يكن لها أي نصيب من الواقع؛ فلقد استيقظ العالم ذات صباح من شهر مايو 1992م على فضيحة مدوية عصفت بتلك الخيالات، وطوحت بها مكاناً قصياً؛ فقد ظهر كتاب جديد في بريطانيا تحت عنوان (ديانا القصة الحقيقية).
وهذا الكتاب يروي قصة إخفاق ذلك الزواج التاريخي، ويكشف تعاسة ديانا وشقاءها، ومحاولتها الانتحار في عام 1989م بعد أن يئست من حياتها.(1/93)
ويذكر الكتاب أحد المواقف التي زلزلت كيان الأميرة، وجعلتها تحيا أسوأ أيامها؛ فعندما رآها تشارلز تبكي لوفاة والدها، وعدم وجوده بجانبها عنَّفها، ووبخها، وقال لها بمنتهى القسوة: اخرجي من أحزانك بسرعة؛ فلا وقت لدينا لهذه الأحاسيس.
ولم يكن هذا الموقف هو الأخير؛ فقد توالت عبارات الأمير تشارلز، وإهاناته البالغة لديانا، حتى قررت التخلص من حياتها، خاصة بعد الأنباء التي أشارت إلى وجود علاقة غرامية بين الأمير وبين سيدة أخرى تدعى كاميلا فلورز، ومن ثم ابتلعت ديانا كل ما لديها من حبوب مهدئة؛ رغبة في التخلص من حياتها، إلا أن قدرها لم يحن بعد، فنجت من الموت.
ولم يكن صدور ذلك الكتاب نهاية المطاف؛ فقد بدأت الصحف تكشف جوانب أخرى، وأسراراً جديدة تعكس إخفاق الزوجين في تجاوز خلافاتهما، واستعادة ما كان بينهما من صفاء في بداية حياتهما الزوجية.
وكشفت صحيفة صنداي إكسبرس النقاب عن أن الأميرة ديانا تعاني من كوابيس مرعبة، وأحلام مخيفة تداهمها ليلاً في نومها؛ لتحيل حياتها إلى عذاب لا يتوقف، وشقاء لا ينقطع.
وأضافت الصحيفة أن ديانا تتلقى العلاج؛ للتخلص من هذه الكوابيس والأحلام المزعجة التي يرى الطبيب المعالج أنها تعكس مدى ما تعانيه الأميرة في حياتها من مصاعب، وما تعجز عن تحقيقه من رغبات مكبوتة.
وقالت: إن الأميرة التعسة بلغت درجة من الشقاء والضيق الشديد اضطرت معها إلى اللجوء إلى طبيب نفسي كي يعالجها.
وأكدت الصحيفة أن الأميرة أسرعت عقب تدهور صحتها؛ بسبب الكوابيس والأحلام المزعجة إلى الطبيب النفساني الشهير آلان ماكجلاشان.
وتقول الصحيفة: إن ديانا ترى في نومها وحوشاً غريبة تثير الرعب والهلع، وترى مشاهد بحرية مخيفة تزلزل كيانها، وترتعد لها فرائصها.
وأكدت بأن الأمير تشارلز نفسه بدأ يشعر بالقلق إزاء ما يجري لزوجته التي أصبحت تقطع نومها؛ لتنهض مذعورة لما تراه.(1/94)
وبعد ذلك زادت المشكلات بينها وبين زوجها، وحاولت والدة تشارلز الملكة إليزابيث تهدئة الأمر، وحث الزوجين على تجاوز خلافاتهما، والتوقف عند هذا الحد.
ورغم ذلك فقد اتفق الطرفان على أن حياتهما على هذا النمط أصبحت مستحيلة، ولكن الطلاق ثقيل، خصوصاً على نفس تشارلز؛ لأنه سيؤدي إلى فقدانه وفقدان أبنائه من بعده حق الجلوس على العرش؛ حيث لا يجوز دستورياً أن يكون الملك مطلقاً.
ولأن الأمير عَيْنُه على العرش، وليس لديه أية فكرة للتنازل عنه _ فقد قرر ألا يطلق.
أما الأميرة التعيسة فلم يعد لديها سوى ولديها هاري وويليام يملآن الفراغ والوحدة التي تقاسيها، ولا تريد أن تُطَلَّق؛ حتى لا يفقدا حق الجلوس على عرش بريطانيا في المستقبل ومن أجل هذا قررا الانفصال دون طلاق؛ ليبدأ كل منهما حياته بالطريقة التي يحبها.
وبعد هذا اعترف الزوجان بالخيانة الزوجية، وأصبحت ديانا تترامى من أحضان عشيق إلى عشيق، إلى أن آل بها الأمر إلى آخر واحد منهم وهو عماد الفايد.
وآخر فصل من فصول حياة تلك المرأة هو تلك النهاية المؤلمة التي أودت بحياتها عندما كانت في فرنسا بصحبة عشيقها عماد الفايد، حيث ركبا في السيارة التي خرجت بهما من الفندق الذي كانا يقيمان فيه، فلما خرجا إذا بعدسات المصورين تضيق عليهما الطريق، فأسرع السائق هروباً من المصورين، فوقع الحادث الذي أودى بحياة ديانا وعماد الفايد.
فماذا أغنى الثراء؟ وماذا أغنت الشهرة؟ وماذا أغنى الجاه؟
ولا تزال الصحافة تأتيك بالأخبار، وتوافيك بالجديد من تعاسة المشاهير.
ومن آخر ذلك ما جاء في صحيفة الرياض 7 ربيع الآخر 1427هـ، الموافق: 5 مايو 2006م عدد13829 تحت عنوان: (أغنى رجلٍ في العالم يتمنى لو كان فقيراً).
وتحت هذا العنوان كتبت: =الثروة لا تكفي لجلب السعادة، وقد تكون وبالاً على صاحبها، هذا ما يقوله بيل غيتس الذي يوصف بأنه أغنى أغنياء العالم.(1/95)
ونسب راديو سوا إلى غيتس قوله: إنه يدعو على نفسه بالفقر، ويتمنى لو لم يكن أغنى بني البشر.
وأضاف أنه لا يشعر بأن ثروته الطائلة التي تقدر بالبلايين تحقق له ما يريد.
ويقول بيل غيتس: إنه يكره كونه من المشاهير، كما أنه لا يحب إثارة انتباه الآخرين، ويعتبر نفسه في محنةٍ؛ بسبب ثروته، وأنه يعيش وحيداً+.
ولو استرسل الكاتب في ذكر مثل تلك الأخبار، والأحوال لطال به المقام، وإذا أردت مزيداً من ذلك _ فارجع إلى كتاب (التوبة وظيفة العمر) لكاتب هذه السطور.
وأخيراً تذكَّر كلمة سفيان الثوري: =ما أُعطيَ رجلٌ من الدنيا شيئاً إلا قيل له: خُذْه ومثلَه حزناً+.
مرَّ في الخاطرة الماضية حديثٌ عن حال أكثر الناس مع السعادة؛ فهل يعني ذلك أن يتخلى الناس عن دنياهم، وجميع ملذاتهم، ووجاهاتهم، ورياساتهم؟
وهل يفهم من ذلك أن يعيش الواحد منهم مجانباً للزينة، ميت الإرادة عن التعلق بشهواته على الإطلاق؟
والجواب: لا؛ فليس الأمر كذلك؛ ولا بد للناس من دنياهم؛ فالإسلام أذن في اكتساب الأموال، وحث على العمل، ونعى البطالة، ولم يَحْرم الناس أن يستمتعوا بحياتهم، وأن يروحوا الخاطر بنعيمها؛ شريطة الاقتصاد.
قال _تعالى_: [قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنْ الرِّزْقِ] الأعراف: 32.
وقال في الآية التي قبلها: [يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ] الأعراف: 31.
فلا ينافي السعادة أن يستمتع الإنسان بما أباح الله له، وليس من شرط السعادة أن يتخلى الإنسان عن جميع شهواته.
وليس من شرطها _كذلك_ أن يتخلى الإنسان عن دينه، ويطلق العنان لنزواته وشهواته.
بل إن شرط السعادة الأعظم أن يكون الإنسان متمسكاً بدينه، عاضاً عليه بالنواجذ؛ فذلك سر السعادة، وينبوعها الأعظم.(1/96)
وحينئذ تكون الشهرة، والمال، والجاه، والرياسة أسباباً للسعادة، ومكملات لها؛ لأنها اعتمدت على ركن ثابت لا يتغير، ولا يحول؛ فلا يلام الإنسان بعد ذلك أن يكون ذا شهرة، أو مال، أو وجاهة، أو رياسة.
وإذا اطلعت على أثر يقتضي البعد عن الوجاهة _ فإنه مصروف إلى الحرص في طلبها، والتصنع لإحراز سمعة في المجامع الحافلة، والبلاد القاصية.
أما إذا اندفعت همة الرجل إلى المكارم؛ بجاذب ابتغاء الفضيلة، وطفق ذكره يتسع على حسب مساعيه الحميدة _ فذلك خير من العزلة، والاختباء في زوايا الخمول.
بل لا يلام الإنسان إذا سعى للرياسة إذا كان يرى من نفسه الكفاءة والقدرة، ولا يريد أن يتخذ من رياسته حِبَالَةً لا يتعدى نفعها إلى الأمة، وإنما يريد نشر الخير، وبسط العدل، ورفع الظلم؛ فذلك موعود بالتسديد والإعانة في الدنيا، وبالإظلال في ظل عرش الرحمن في الآخرة يوم لا ظل إلا ظله.
ثم إن الآياتِ الواردةَ في سياق التزهيد والحط من متاع الحياة الدنيا لا يقصد منها ترغيب الإنسان؛ ليعيش مجانباً للزينة، ميت الإرادة عن التعلق بشهواته على الإطلاق.
وإنما يقصد منها حكم أخرى، كتسلية الفقراء الذين لا يستطيعون ضرباً في الأرض، ومنْ قَصُرت أيديهم عن تناولها، لئلا تضيق صدورهم على آثارها أسفاً.
ومنها تعديل الأنفس الشاردة، وانتزاع ما في طبيعتها من الشَّرَه والطمع؛ لئلا يخرجا بها عن قصد السبيل، ويتَطَوَّحا بها في الاكتساب إلى طرق غير لائقة؛ فاستصغار متاع الدنيا، وتحقير لذائذها في نفوس الناس يرفعهم عن الاستغراق فيها، ويُكْبرُ بهممهم عن جعلها قبلة يولون وجوههم شطرها أينما كانوا.
ومتى عكف الإنسان على ملاذِّ الحياة، ولم يصْحُ قلبُه عن اللهو بزخارفها _ ماتت عواطفه، ونسي أو تناسى من أين تؤتى المكارم والمروءة، ودخل مع الأنعام في حياتها السافلة.(1/97)
وبالجملة فإن تقوى الله _عز وجل_ والإقبال عليه بالكلية _ هو أصل السعادة، وسرها، وكل سعادة بدون ذلك فهي مبتورة أو وهمية، وإن اجتمعت حولها أسباب السعادة الأخرى؛ فالسعادة ينبوع يتفجر من القلب لا غيث يهطل من السماء، والنفس الكريمة الراضية التقية الطاهرة من أدران الرذائل وأقذارها سعيدة حيثما حلت، وأنى وجدت: في القصر وفي الكوخ، في المدينة وفي القرية، في الأنس وفي الوحشة، في المجتمع وفي العزلة، بين القصور والدور وبين الآكام والصخور؛ فمن أراد السعادة الحقة فلا يسأل عنها المال والحسبَ، والفضة والذهب، والقصور والبساتين، والأرواح والرياحين.
بل يسأل عنها نفسه التي بين جنبيه؛ فهي ينبوع سعادته وهنائه إن شاء، ومصدر شقائه وبلائه إن أراد [قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا] الشمس: 9_10.
وما هذه الابتسامات التي تُرى متلألأة من أفواه الفقراء والمساكين، والمحزونين والمتألمين؛ لأنهم سعداء في عيشهم، بل لأنهم سعداء في أنفسهم.
وما هذه الزفرات التي تُسمع متصاعدة من صدور الأغنياء والأثرياء وأصحاب العظمة والجاه؛ لأنهم أشقياء في عيشهم، بل لأنهم أشقياء في أنفسهم.
وما كدَّر صفاء هذه النفوس، وأزعج سكونها وقرارها، وسلبها راحتها وهناءها _ مثلُ البعد عن الله _عز وجل_.
ولا أنار صفحتها، ولا جلَّى ظلمتها، ولا كشف غَمَّاءها كالإقبال على الله _تبارك وتعالى_.
فمن أراد السعادة العظمى فليقبل على ربه بكلِّيَّته، حبَّاً، وذكراً، وإنابة، وخوفاً، ورجاء، ونحو ذلك من سائر العبوديات.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية ×: =من أراد السعادة الأبدية فليلزم عتبة العبودية+.
نزول البلايا والمصائب لا يختص به أحد دون أحد؛ فقد تنزل بالبر والفاجر، والمسلم والكافر.
ولكنْ فرقٌ بين نزولها على البر المؤمن، وبين نزولها على الفاجر أو الكافر؛ فالمؤمن البر يستقبلها برضا وسرور؛ فترتفع بها درجاته في الدنيا والآخرة.(1/98)
وكلما زيد في بلاء المؤمن فصبر واحتسب ورضي _ أعانه الله، ولطف به، وأنزل عليه من السكينة والرضا، واليقين، والقوة ما لا يخطر ببال.
أما الفاجر والكافر، فيستقبلها بهلع، وجزع، فتزداد مصائبه، وتكون من عاجل العقوبة له.
قال عمر بن عبدالعزيز×: =أصبحت ومالي سرور إلا في مواضع القضاء والقدر؛ إن تكن السراء فعندي الشكر، وإن تكن الضراء فعندي الصبر+.
قرأت في ترجمة نابغة الخط التركي الشهير: محمد أسعد اليساري ما نصه: =هو: محمد أسعد اليساري؛ نسبة إلى أنه كان يكتب الخط بيده اليسرى، ولد في استانبول مصاباً بالشلل في جانبه الأيمن، وكان جانبه الأيسر هو الآخر مصاباً بالرعشة، فهو ذو بدنٍ وصفه القدماء بأنه =عبرة القدر+ ومع ذلك فقد استطاع بهذا الجسم العليل أن يفتح طريقاً جديداً في خط التعليق الفارسي.
ذهب ليتعلم فن الخط إلى أستاذ الخط المعروف ولي الدين أفندي؛ فنظر الأستاذ إليه، وحينما رأى حاله لم يتوسم فيه خيراً، فرفض طلبه؛ فتوجه اليساريُّ إلى أستاذٍ آخرَ، وبدأ يحضر دروسه، ويتعلم على يديه، وحال انتهاء الأسبوع الأول من دراسته، أوقع أستاذه في حيرةٍ، وحصل منه على الإجازة بجدارة؛ حيث أقيم حفلٌ كبيرٌ بهذه المناسبة، وكان ممن حضروا مراسيم الإجازة الأستاذ ولي الدين أفندي الذي لم يكترث لحاله من قبل؛ فقال آنذاك: =كنا سنحظى بهذا الشرف، فوا أسفاه لقد ضاع من يدنا+.
وقال في مناسبةٍ أخرى: =لقد أرسل الله هذا الرجل؛ ليحطم به أنوفنا+.
أصبح اليساري معلماً للخط في البلاط العثماني، ويعتبر أشهر من أجاد خط التعليق في الدولة العثمانية على الإطلاق بالرغم من أنه كان ضعيف الجثة، ضئيل الحجم، حتى إِنهم كانوا يحملونه بهذا البدن العليل في سلة؛ لينقلوه من مكانٍ إلى آخر، ولكنه مع التصميم، والإرادة، والهمة العالية أضحى ذكره خالداً، ولامعاً في تاريخ هذا الفن العظيم.
توفي × في 11 رجب 1213هـ، ودفن في حي الفاتح في استانبول+.(1/99)
قرأت هذه الترجمة، فبهرتني، ورأيت نماذج من خط ذلك الخطاط فرأيته آيةً في الإبداع، فأوحى لي ذلك بهذه الخاطرة، ألا وهي أن التعلل بالمعاذير، والتماس المسوغات من أعظم الأسباب التي نعلق عليها إخفاقنا، ونسوغ بها أخطاءنا، وعجزنا، وقعودنا.
وكثيراً ماتكون تلك المعاذير،والمسوغات مجرد أوهام لاحقيقة تحتها، فلا تزال تلك الأوهام تكبر شيئاً فشيئاً حتى تكون لنا سداً منيعاً، حجارتُه سوءُ الظن أحياناً، وتخذيلُ النفس أحياناً، والشك في النتائج والخوف من الإخفاق أحايين أخر.
وقد تكون تلك المعاذير حقيقة، كحال من يتعلل بقلة الذكاء، أوعدم النبوغ، وكحال من يتعلل بسوء الحظ، وقلة التوفيق، وبأن الظروف لم تُواتِه، ولم تأت على وَفْقِ ما يريد، وكحال من يتعلل بتربيته الأولى، وأنه قد قُصِّر فيها، فلم يُوَجَّهِ الوِجهةَ الصحيحة؛ فأخفق، ولم يعد قادراً على استدراك ما فات.
وكحال من يتعلل بالبيئة التي يعيش فيها، أو الصحبة التي ابتلي بها، وكحال من يتعلل بكبر سنه، أو بمرضه، وضعف قواه، وقلة تحمله؛ فيسوغ بذلك قعوده وعجزه؛ فمثل تلك الأعذار والأعاليل قد تكون سبباً حقيقياً لدنو الهمة؛ إلا أنه لا يليق بالعاقل أن يستسلم لها، أو أن يسترسل معها؛ فمهما يكن من شيء فإن الفرصة متاحة، وإن الباب لمفتوح على مصراعيه لمن أراد المعالي وسعى لها سعيها.
فالإنسان _بتوفيق الله، ثم بعزمه، وهمته، وتربيته لنفسه_ قادر على التغلب على كثير من العقبات والصعاب.
وما الصعاب في هذه الحياة إلا أمور نسبية؛ فكل شيءٍ صعب جداً عند النفوس الصغيرة جداً، ولا صعوبة عظيمة عند النفس العظيمة؛ فبينما النفس العظيمة تزداد عظمة بمغالبة الصعاب إذا بالنفوس الهزيلة تزداد سقماً بالفرار منها.
وإنما الصعاب كالكلب العقور؛ إذا رآك خفت منه وجريت نَبَحَك، وعدا وراءك،وإذا رآك تهزأ به، ولا تعيره اهتماماً أفسح الطريق لك، وانكمش في جلده منك.(1/100)
فإذا اعتقدت بأنك مخلوق للصغير من الأمور لم تبلغ في الحياة إلا الصغير،وإذا اعتقدت أنك مخلوق لعظائم الأمور، وسلكت السبل الموصلة لها _ شعرت بهمة تكسر الحدود والحواجز، وتنفذ منها إلى الساحة الفسيحة، والغرض الأسمى _كما يقول الأستاذ أحمد أمين في فيض الخاطر_.
ومصداق ذلك حادث في الحياة المادية؛ فمن عزم على المسير ميلاً واحداً أدركه الإعياء إذا هو قطعه، وإذا هو عزم على قطع خمسة أميال قطع ميلاً، وميلين، وثلاثة من غير تعب، لأن غرضه أوسع، وهمته المدخرة أكبر.
إذا كان الأمر كذلك فلا تقْنع بالدون، ولا تلتمسِ المسوغاتِ وتختلقِ المعاذير.
فلا تتعلل بقلة الذكاء، وإنما استعمل ذكاءك خير استعمال.
نعم إنك لا تقدر أن تكون في الذكاء مائة إذا خلقت وذكاؤك في قوة عشرين، ولكنك قادر على استعمال ذكائك خير استعمال حتى يفيد أكثر ممن ذكاؤه مائة إذا هو أهمله، كمصباح الكهرباء إذا نظف مما علق به، وكانت قوته عشرين شمعة _ كان خيراً من مصباح قوته خمسون إذا عَلَتْهُ الأتربة وأُهْمِل شأنه.
ولا تتعلل بأنك لست نابغة، ولا أن الظروف لا تواتيك، فالعالم لا يحتاج إلى النوابغ وحدهم، والنجاح ليس مقصوراً على النوابغ دون سواهم، ولا على من تواتيهم الظروف.
ولا تتعلل بسوء الحظ، فلا يوجد من منحوا قدرة على التفوق من غير جهد، وعلى الإتيان بالعجائب من غير مشقة، وعلى قلب التراب ذهباً بعصا سحرية؛ فلا يكن سوء الحظ _كما تزعم_ عائقاً لك عن النجاح.
ولا تعتذر بتربيتك الأولى، ولا بعامل البيئة أو الوراثة؛ فهذه لا تعوق الإنسان عن إسعاد حياته، وملئها بالجد والاجتهاد إذا مُنِح الهمة العالية، والإرادة القوية، والتفكير الصحيح.
ولا تتعلل بكبر السن، وضعف القوى، فتقعد عن كل فضيلة، وتقصر عن كل مكرمة، بل جدد نشاطك، واستثر همتك، واعمل ما في وسعك.
ولا يعني ذلك أنه يراد منك حال كبرك ما يراد منك حال شبابك واكتمال نشاطك وفتوتك.(1/101)
وإنما يراد أن تَجِدَّ في الاستفادة من طاقاتك الكامنة، وخبراتك السابقة قدر الإمكان؛ فلو سرت على هذا النحو لعادت لك الروح، ولتجدد فيك العزم.
على أن هناك من أصحاب الهمم العالية من يكبر وتكبر معه همته فهذا ابن عقيل الحنبلي × يقول: =وإني لأجد من حرصي على العلم وأنا في عشر الثمانين أشد مما كنت أجده وأنا ابن عشرين سنة+.
ولا تتعلل بسوء الصحة؛ فكثير من النوابغ كانوا من ذوي العاهات، والأمراض المزمنة، كحال صاحبنا الخطاط الذي مضى ذكره في أول الحديث.
الذوقُ كلمةٌ جميلة مُوْحِيَةٌ تَحْمِلُ في طياتها معاني اللطفِ، وحُسْنِ المعشر، وكمالِ التهذيبِ، وحسنِ التصرفِ، وتجنبِ ما يوقع في الإحراج وجرح الإحساسات بلفظ، أو إشارة، أو نحو ذلك.
فهذه المعاني وما جرى مجراها تُفَسِّرُ لنا كلمة الذوقِ، وإن لم تفسرها المعاجمُ بهذا التفسير الملائم لما تعارف عليه الناس، وجرى بينهم مجرى العرف؛ فتراهم إذا أرادوا الثناء على شخص بما يحمله من المعاني السابقة قالوا: فلان عنده ذوق، أو هو صاحب ذوق.
وإذا أرادوا ذمَّه قالوا: فلان قليل الذوق، أو ليس عنده ذوق، وهكذا...
فالذوق بهذا الاعتبار داخلٌ في المعنويات أكثر من دخوله في الحسِّيات كذوق الطعام والشراب.
وموطن الذوق في المعنويات يدور حول العقل، والروح، والقلب.
وموطنه في عالم الحسيات لا يتجاوز اللسان، أو إحساس البدن بالملائم، أو المنافر.
ولعلَّ لفظَ الذوقِ يَعْتَوِرُه ما يعتور بعضَ الألفاظِ في دلالتها، من حيث تطورُها، وانحطاطها؛ فهو بالمفهوم الذي مرَّ ذكره معنىً سامٍ راقٍ.
ونصوص الوحيين _وإن لم تُشر إلى الذوق بهذا اللفظ_ حافلةٌ بما يرعاه، ويُعلي منارَه، ويحذر مما ينافيه.
ولو ألقيت نظرةً عامةً عَجْلى على شرائع الإسلام، وأصوله العظام كالصلاة والزكاة، والحج والصيام _ لرأيت ذلك رأي العين.(1/102)
أليس المسلمُ مأموراً حالَ إتيانه إلى الصلاة أن يكونَ على طهارة، وأن يأخذ زينته عند كل مسجد، وأن يأتي وعليه السكينة والوقار؟ وأن يخفض صوته حال مناجاته لربه؟
أليس منهياً عن رفع الصوت في المسجد، وعن أن يأتي وقد أكل ثوماً، أو بصلاً، أو نحو ذلك مما يتأذَّى منه المصلون؟
ألم يكن من أدب الزكاة أن تُعطى للفقير خُفْيةً، وعلى وجه يرفع خسيسته، ولا يصدع قناة عزته؟
ألم يُؤمرِ الحجاجُ بالسكينة، ولزوم التؤدة، وترك أذية إخوانهم؟
أليس الصيامُ من أعظم ما يُرهف الحس، ويرتقي بالذوق، ويسمو بالروح؟
أليس فيه شعور بالآخرين، وإحساس بما يعانون من عوز الفقر، وذلة الحاجة؟
ألم تأتِ الأحاديثُ النبويةُ الشريفة منوهةً بخُلوف فَمِ الصائم، وأنه عند الله أطيب من ريح المسك، مع ما فيه من رائحة قد لا تروق؛ جبراً لخاطر الصائم، ونهياً لمن قد يجد في نفسه أذىً من هذه الرائحة، أو كراهة لمن صدرت منه _ أن يتفوه بما لا يليق؟
ثم إن الآثار الواردة في معاملة الناس على اختلاف طبقاتهم حافلةٌ بهذا المعنى، دالةٌ دِلالةً صريحةً على مراعاته.
وقل مثل ذلك في كثير من المناهي؛ فهي تحذر مما ينافي الذوق، أو يضعف جانبه.
ولا يقف الأمر عند سائر المعاملات حال السلم، بل يتعدى ذلك إلى حال الحرب؛ فيُراعى فيها جانبُ الذوق، وحسنِ المعاملة.
ولو ألقيتَ نظرةً في ما جاء في أدب الحرب في الإسلام لرأيت ما يقضي منه عجبك؛ فمن ذلك مجاملةُ رُسُل العدوِّ، وتركُ التعرض لهم بأذى؛ فقد يرسل العدوُّ رسولاً في شأن الصلح أو غيره مما فيه تخفيف شر الحرب؛ فَمِنْ حُسْنِ الرأي أن لا يُتَعَرَّض للرسل بأذى، وأن يكونوا في أمن حتى يعودوا إلى قومهم؛ فإن التعرض لهم بأذى يقطع صلة الرسالة بين الفريقين، ويسد طريق المفاوضات التي يُتَوسَّل بها إلى عدم الدخول في الحرب، أو إنهائها إذا كانت ناشبة.(1/103)
ومكارم الأخلاقِ تأبى أن يُتَعَرَّض لرسول بأذى ولو أرسله قومه لإبلاغ ما عزموا عليه من الحرب، أو صدر منه كلام في تعظيم أمر قومه بقصد الفخر أو الإرهاب.
وقد جرى نظام الإسلام في الحرب على هذا الأدب المقبول.
قَدِمَ أبو رافع ÷ بكتاب من قريش إلى رسول الله" فلما رأى رسولَ الله ألقِيَ في قلبه الإسلام، فقال: يا رسول الله: إني والله لا أرجع إليهم أبداً، فقال رسول الله": =أما أني لا أخيس بالعهد، ولا أحبسُ البُرُدَ، ولكن ارجع؛ فإن كان في قلبك الذي في قلبك الآن فارجع+.
قال: فرجعت، ثم أقبلت إلى رسول الله"، وأسلمت.
ومن ذلك تجنب قَتْل مَنْ لا يُقَاتِلُ؛ فالإسلام يحرم قَتْلَ نساء المحاربين، وصبيانهم، والطاعنين في السن منهم، ورهبانهم إن لم يحاربوا.
روى عبدالله بن عمر _ رضي الله عنهما _ أن رسول الله"نهى عن قتل النساء والصبيان.
وروى ابن عباس _ رضي الله عنهما _ أنه _عليه الصلاة والسلام_ كان إذا بعث جيوشاً قال: =لا تقتلوا أصحاب الصوامع+ يعني الرهبان.
وقال أبو بكر الصديق ÷ في وصيته لجيش أسامة ÷: =وسوف تمرون بأقوام قد فرّغوا أنفسهم في الصوامع؛ فدعوهم وما فرّغوا أنفسهم له+.
وقال: =ولا تقتلوا طفلاً، ولا شيخاً كبيراً، ولا امرأة+.
ومن وصايا عمر بن الخطاب ÷ لأمراء الجيش: =ولا تقتلوا هرِماً، ولا امرأة، ولا وليداً، وتوقوا قتلهم إذا التقى الزحفان، وعند شن الغارات+.
ويلحق بهؤلاء في تجنب قتلهم المريضُ، والمقعدُ، والأعمى، والمجنون.
وكذلك روي عن النبي" النهي عن قتل العسيف، وهو الأجير.
وبهذا يظهر أن الإسلام إنما يَقْصِدُ من الحربِ قِتَالَ مَنْ يَقْصِدون لأن يُقَاتِلوا، ولا يصح القَصْد لقتل من ليس شأنه القتال.(1/104)
ومن ذلك حسن معاملة الأسرى؛ فإذا وقعت طائفة من العدو المحارب في أسرنا لم يجز لأحد من الجنود أو غيرهم أن يمسهم بأذى، وإنما يرجع أمرهم إلى رأي ولي الأمر الواسع الخبرة بوجوه المصالح، فيعاملهم بما تقتضيه خطة الحزم، وما تمليه سماحة الأخلاق.
وذهب من علماء السلف الحسن البصري وعطاء بن أبي رباح _ رحمهم الله _ إلى أن ولي الأمر يخير في الأسرى بين أن يطلقهم على وجه المن، أو يطلقهم بفداء، وتمسكوا في هذا بقوله: [فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا] محمد:4.
فهذه إشارات سريعة تدل على عناية الإسلام بهذا الجانب.
وكتب التفسير، والفقه، والأحكام، والآداب مليئة بما يقرر هذا المعنى.
وهكذا نجد أن الإسلام يرتقي بذوق أهله، وينأى بهم عن كل خُلُقٍ أو تَصَرُّفٍ يعاكس سلامةَ الذوقِ، أو يوهي حبالها.
ومع ذلك كله فإنك تلحظ خللاً كبيراً في هذا الجانب، وتشهد مظاهر عديدة من هذا القبيل تَمُرُّ بك كثيراً في حياتك اليومية.
وقد يكون ذلك الخلل أو المظهر صغيراً في عين من يقع فيه، ولكنه يُحدث فساداً عريضاً، وربما لا يبقى للمودة عيناً ولا أثراً.
فجديرٌ بالمسلم العاقل أن يرعى هذا الجانبَ، وحقيقٌ عليه أن يحذر مما ينافيه من الجفاء، والكزازة، والغلظة وما جرى مجرى ذلك.
وإن من علامات السعادة للإنسان أن يرزق ذوقاً سليماً مهذباً؛ فإنه إذا كان كذلك عَرَفَ كيف يستمتعُ بالحياة، وكيف يحترمُ شعورَ الآخرين ولا ينغص عليهم، بل يدخل السرور عليهم؛ فصاحب الذوق السليم قادرٌ على استجلاب القلوب، وإدخال السرور على نفسه وعلى من حوله.
وإذا ساد الذوق السليم في أسرة أو مجتمع رأينا كلَّ فرد من هؤلاء يتجنب جرح إحساس غيره بأي لفظ، أو عمل، أو إشارة، أو أي شيء يأباه الذوق.
ورأينا كل فرد يقوم بما أسند إليه من مسؤولية على أكمل وجه وأتمه.(1/105)
إن الذوق السليم في الإنسان يرفعه إلى حد أن يتخير الكلمة اللطيفة، والتصرف الملائم الذي يمنع الإحراج، ويدخل السرور على الآخرين.
بل إن صاحب الذوق السليم يأبى النزاع، وحدة الغضب.
ولا يبالغ الإنسان إذا قال: إن رُقِيَّ الذوق أكثر أثراً في السعادة من رقي العقل؛ إن الذوق إذا رَقِيَ أَنِفَ من الأعمال الخسيسة، والأقوال النابية، والأفعال السخيفة.
أما من جفَّ طبعه، وكثفت نفسه، وقلَّ ذوقه _ فلا تَسَلْ عما سيحدثه من شرخ في الناس، وما سيجلبه من شقاء لنفسه وغيره، فتراه لا يراعي مشاعرَ الآخرين، ولا يأنف من مواجهتهم بما يكرهون؛ فإذا ما حضر مجلساً، وابتدر الكلام وضَعْتَ يَدَك على قلبك؛ خشيةَ أن يَزِلَّ، أو يَفْرُطَ على أحد من الحاضرين.
فإذا ما وجد مجالاً يشبع فيه طبيعتَه النَّزِقَةَ الجهولَ _ هام على وجهه، لا ينتهي له صياح، ولا تنحبس له شِرَّة.
فتارة يُذَكِّر الحاضرين بعيوبهم، وتارة يؤذيهم بلحن منطقه، وتارة يذكِّرهم بأمور يسوؤهم تَذَكُّرُها.
=أكب رجل من بني مرة على مالك بن أسماء يحدثه في يوم صيف، ويُغِمّه، ويثقل عليه، ثم قال: أتدري من قتلنا منكم في الجاهلية؟
قال: لا، ولكني أعرف من قتلتم منا في الإسلام.
و قال: من هم؟
قال: أنا قتلتني اليوم بطولِ حديثك، وكثرةِ فُضولك+.
وقال ابن القيم ×: =ومنهم مَنْ مُخالطتُه حُمَّى الروح، وهو الثقيل البغيض العقل، الذي لا يحسن أن يتكلم فيفيدك، ولا يُحْسِن أن ينصت؛ فيستفيدَ منك، ولا يعرفُ نفسه، فيضعُها في منزلتها.
بل إن تكلم فكلامُه كالعصى تنزل على قلوب السامعين مع إعجابه بكلامه وفرحه به؛ فهو يُحْدِثُ مِنْ فِيْهِ كلما تحدث، ويظن أنه مسك يطيب به المجلس، وإن سكت فأثقل من نصف الرّحا العظيمة، التي لا يطاق حملها ولا جرها على الأرض.
ويُذْكَرُ عن الشافعي × أنه قال: ما جلس إليّ ثقيل إلا وجدت الجانب الذي هو فيه أنزل من الجانب الآخر.(1/106)
ورأيت يوماً عند شيخنا (1) _قدس الله روحه_ رجلاً من هذا الضرب، والشيخ يحمله وقد ضعفت القوى عن حمله، فالتفت إليّ وقال: مجالسة الثقيل حمى الرَّبَع، ثم قال: لكن قد أدمنت أرواحنا على الحمى، فصارت لها عادة، أو كما قال+.
ولهذا فالرجل النبيل، ذو المروءة والأدب هو من يراعي مشاعر الآخرين، ويحفظ عليهم كرامتهم وماء وجوههم.
=قال بعضهم: صحبت الربيع بنَ خثيم عشرين عاماً ما سمعت منه كلمةً تعاب+.
وكذلك ترى قلة الذوق عند بعض الناس حتى في حال تأديتهم لشعائر الإسلام العظمى؛ فترى بعض الناس لا يراعي ذلك في الصلاة، فربما أتى ورائحته مؤذية كمن يأكل الثوم، أو البصل، أو يشرب الدخان.
وترى القلوب في بعض الأحيان في المساجد قد بلغت الحناجر، فلا يحتمل بعض الناس أدنى توجيه أو إشارة، أو طلب تقدم أو تأخر.
وترى العراك الذي قد يصل إلى حد الاشتباك حول التكييف وما شاكله.
وقل مثل ذلك وأشد في الحج، فكم هي المآسي عند الطواف، ورمي الجمار، وعند الحلق أو التقصير، أمور لا تخفى على ذي لب.
وأما ما يحصل في المقابر حال دفن الجنائز في بعض البلدان _ فحدث ولا حرج؛ فهذا يرفع صوته، وذاك يكثر من التدبير في غير محله.
ثم إن التزاحم حول القبر، ومضايقة من يقومون بالدفن أمر يحزن القلب، ويعطل الناس.
ومما يدخل في ذلك قلة الذوق حال قيادة السيارة، ويتجلى ذلك في التهور في قيادتها، وقلةِ المراعاة لقواعد السير، ولبقية الناس ممن يسيرون في الأماكن العامة، وأذيةِ الآخرين بالتفحيط، ورفع أصوات الغناء، ورمي المخلفات في الشوارع.
ويدخل في ذلك ما يفعله بعض سائقي السيارات؛ حيث يأخذ مكاناً كبيراً إذا أراد إيقاف سيارته في مكان عام، فَيُضَيِّق على الناس، ويحرمهم من حقهم، ولو أنه وقف كما ينبغي لاتسع المكان، واستفاد منه عدد أكبر.
__________
(1) _ يعني به: شيخ الإسلام ابن تيمية.(1/107)
ومن قلة الذوق ما تراه عند إشارة المرور من قطع للإشارة، وتسبب في الحوادث، وكذلك ما تراه مِنْ تَقدُّم بعض الناس على مَنْ له حقٌّ في السير كما هو الحال عند الأماكن التي يوجد فيها دوَّار؛ فتكون الأفضلية للقادم من الدوار، غير أن بعض الناس يجعل القاعدة في ذلك أن الأفضلية للجزوم!!
وكلمة (الجزوم) في العامية الدارجة تعني صاحب المغامرة الذي قد لا يبالي بالعواقب.
ومن قلة الذوق ما تراه عند صَرَّافة النقود؛ حيث ترى بعض الناس يتخطى مَنْ قَبْلَهُ، وترى منهم من إذا جاء دَوْرُه في الصرف اشتغل بمكالمة عَبْرَ جواله، وإذا فرغ من مكالمته بدأ يبحث عن بطاقته، ثم إذا صرف وقف ينظر في كشف حسابه، وربما أطال الوقوف.
كل ذلك والناس على أحر من الجمر ينتظرون فراغه.
ولو أنه استعد للصرف قبل أن يأتي دوره، وانصرف حال انتهائه من غرضه _ لكان خيراً له، وأكمل في أدبه.
بل يدخل في قلة الذوق ترك العناية بطريقة إلقاء السلام أو الدعاء؛ فربما يقولها بعض الناس بنبرة موحشة، موغرة للصدر؛ فتكون مجلبة للضغائن بدلاً من أن تكون برداً وسلاماً.
ومن قلة الذوق _وهو كثير_ ما يقع في البيع والشراء من كثرة المماكسة، وإذلال صاحب المتجر، أو صاحب الصنعة.
ومن قلة الذوق سوء طلب الحاجة؛ فبعض الناس لا يُحسن ذلك؛ فتراه يلحف، ويلح، ولا يراعي الوقت المناسب.
ومن قلة الذوق ما يقع في المكالمات الهاتفية، والرسائل الجوالية على وجه الخصوص؛ فقد تكون الرسالة الجوالية ملائمة لشخص، ولكنها غير ملائمة لآخر، وقد تكون صالحة لأن ترسل لكبير قدر أو سنٍّ، ولا تصلح أن ترسل إلى غيره، وقد يصلح أن يرسلها شخص ولا يصلح أن يرسلها آخر، وقد تصلح لأن ترسلها لمن يَعْرفك ويَعْرف مقاصدك، ولا يصلح أن ترسلها لشخص لا يعرف مقاصدك، أو لشخص شديد الحساسية سيء الظن؛ فمراعاة تلك الأحوال أمر مطلوب.
وكم حصل من جراء التفريط بذلك الأدب من إساءة ظن، وقيام لسوق العداوة.(1/108)
ومن قلة الذوق ما تراه من الكتابات البذيئة على جدران الأماكن العامة؛ فهي تشوه وجه البلد حساً ومعنىً، وتربي على قلة الحياء، وربما كانت سبباً في شيوع الفاحشة.
ومما يدخل في هذا القبيل قلةُ المراعاة لأدب المحادثة كالثرثرة، والاستئثار بالحديث، وكثرةِ الأسئلةِ وتَعَمُّد الإحراج فيها، والحديث بما لا يناسب المقام، والتعالي على السامعين، وترك الإصغاء للمتحدث، والاستخفاف بحديثه، والمبادرة إلى إكماله، والقيام عنه قبل إكمال حديثه، والمبادرة إلى تكذيبه.
ويدخل في قلة المراعاة لأدب المحادثة رفع الصوت بلا داعٍ، والشدة في العتاب، والغلظة في الخطاب، والجدال والمراء والخصومة، وبذاءة اللسان، والتفحش في القول، والتقعر في الكلام.
ومما يدخل في قلة الذوق قلة المراعاة لأدب المجالسة، كتتبع عثرات الجليس، وإظهار الملالة منه.
ومن ذلك تناجي الاثنين دون الواحد، والجلوس وسط الحلقة، والتفريق بين اثنين متجالسين دون إذنهما، وإقامة الرجل من مجلسه، والجلوس مكانه.
وبالجملة فالأمثلة على قلة الذوق كثيرة، وما مضى إنما هو إشارات ليس إلا.
فياليت جانب الذوق يلقى عناية ونصيباً من تعليمنا، ودروسنا، وخطبنا، وإعلامنا؛ لنتجنب كثيراً من الشرور التي ربما كان سببها التقصير في هذا الجانب(1).
جاء في كتب السير أن عجوزاً قالت لقيس بن سعد بن عبادة _وهو من الأجواد المعروفين_: =أشكو إليك قلة الجرذان+.
ففطن لمقولتها، وقال: =ما أحسن هذه الكناية؛ املأوا بيتها خبزاً، ولحماً، وسمناً، وتمراً+.
__________
(1) _ وإذا أردت مزيد بيان وإيضاح لما مضى ذكره فارجع إلى كتاب (سوء الخلق _ مظاهره _ أسبابه _ علاجه) وكتاب (أخطاء في أدب المحادثة والمجالسة) وكتاب (فقر المشاعر) وكتاب (رسائل في الزواج والحياة الزوجية) وجميعها للكاتب.(1/109)
وجاء في سيرة وزير الأندلس محمد بن الخطيب السلماني أنه قال عند سفارته من ملك غرناطة إلى ملك المغرب ابن عنان أبياته المشهورة التي ارتجلها عند الدخول إليه، والتي يقول طالعها:
خليفةَ اللهِ ساعَدَ القدرُ ... عُلاك ما لاح في الدُّجا قَمَرُ
ثم قال:
والناس طُرَّاً (1) بأرض أندلسٍ ... لولاك ما وطنوا وما عَمَروا
وقد أَهَمتْهُمْ نفوسُهُمُ ... فوجهوني إليك وانتظروا
فقال له ابن عنان: =ما ترجع إليهم إلا بجميع مطالبهم+.
وأذن له بالجلوس؛ فسلَّم عليه.
قال القاضي أبو القاسم الشريف قاضي غرناطة المتوفى سنة 760 _وكان من جملة الوفد_: =لم نسمع بسفير قضى سفارته قبل أن يسلم على السلطان إلا هذا+.
وجاء في سيرة القاضي أبي البركات التلمساني أنه لما عزم على الرحلة من المغرب إلى المشرق لما ضاق عليه العيش _ كتب إليه ابن خاتمة بالأبيات التالية:
أشمسَ الغربِ حقاً ما سمعنا ... بأنك قد سَئِمتَ من الإقامة
وأنك قد عزمتَ على طلوع ... إلى شرقٍ سموتَ به علامة
لقد زلزلتَ منا كلَّ قلبٍ ... بحق الله لا تُقِمِ القيامة
فحلف أبو البركاتِ ألا يرحل من إقليم فيه من يقول مثل هذا.
فتلك القصص، وغيرها كثير في كتب السير _ مما يؤكد صحة المقولة التي أطلقها الأوائل: =حسن طلب الحاجة نصف العلم+.
وكلما تقدم الإنسانُ في العمر، وتقلَّب في المشاهدات، ومجاري الأحداث _ رأى صحةَ تلك المقولة؛ فتجد من الناس من يحسن السؤال والطلب والعرض؛ فيجاب عن سؤاله، وتُلبى له طَلِبته، ويُشكر له حُسْنُ عرضه، أو يُعْتَذَر له اعتذارٌ يليق به، خصوصاً إذا صادف ذلك الحُسْنُ محلاً قابلاً، ووادياً ذا زرع.
ولقد كان الأكابرُ والعظماء يقدرون مَنْ يرعى هذا الجانب _كما مر_.
كما كانوا يعيبون مَنْ يُقَصِّر في هذا، ويعدُّونه زرايةً به، ومنقصةً في حقه.
ولهذا لما انتجع جريرٌ عبدَالملكِ بنَ مروانَ بقصيدتِهِ المشهورةِ التي يقول مطلعها:
__________
(1) _ طُرَّاً: يعني جميعاً.(1/110)
أتصحو أم فؤادُك غير صاحِ ... عَشِيَّةَ همَّ صحبُك بالرواح
قال له عبدُالملك: بل أنت فؤادك غير صاح.
وكان جريرٌ يَقْصِدُ نفسَه؛ حيث جرد منها ذاتاً أخرى، غير أن عبدالملك _وهو البصير النقَّادة الخبير_ أراد أن يلفت نظر جرير، وينبهه إلى سوء مطلعه.
ولما وصل جرير إلى قوله:
ألستم خير من ركب المطايا ... وأندى العالمين بطون راح
تهلل وجه عبدالملك، وبلغ به الارتياح إلى أن أمر لجرير بعطاء جزل قوامه مائة ناقة وزيادة.
ومن هذا القبيل ما عابوه على قول من قال في ممدوح له يجتديه:
فرشني بسيب لا أكونن ومدحتي ... كناحت يوماً صخرة بعسيل(1)
فمثل هذه السِّيَر ترشد السائل في مسائل العلم وغيرها، وترشد طالب الحاجة سواء كانت له أو لغيره، وسواء كانت في أمور خاصة أو عامة _ إلى أن يحسن العرض، ويتلطف في الطلب دون تكلف، أو تملُّق؛ فذلك أحرى لنيل بغيته، وإجابة طَلِبَتِه.
كنت كثيراً ما أحاول إقناع نفسي وغيري ممن أخالطهم ألا يبالغوا في الانزعاج من الأمور الصغيرة، والأخطاء غير المقصودة التي تتكرر من الطلاب، والأولاد الصغار، ومن بعض العوام، والعصاةِ، وناقصي المدارك.
ولا أعني بذلك أن يترك حبلهم على غاربهم دون توجيه أو إرشاد.
وإنما المقصود ألا يبالغ في التثريب عليهم.
وكنت أُكْبِرُ من يتغاضى، أو يُحسن التعامل مع تلك الفلتات والهِنَاتِ التي تصدر ممن مضى ذكرهم.
__________
(1) _ معنى قوله: (فرشني): أي أعطني، وقوله: (بسيب): أي بعطاء، وقوله: (بعسيل): العسيل ريشة المكحلة.
ومعنى البيت: أعطني عطاءً، ولا تجعلني كمن يبري صخرة صماء بريشة مكحلة؛ فمثل هذا لا يحصل على شيء.
وهذا البيت في غاية الجفاء وسوء الطَّلِبة.(1/111)
ذلك أن الإنسان قد مرَّ ببعض تلك الأطوار حال طفولته، أو دراسته، أو غفلته؛ فتراه إذا تذكَّر تلك الأيام السالفة، وما جرى فيها مما يُنكره حال اكتمال عقله _ تراه يُكبِر من كان يُحسن التعامل معه في تلك الأيام، ولا يروقه إلا ذاك المربي الحكيم الحليم الذي يتغاضى، ويَتَحَلَّم عن تلك الزلات التي يَعزُّ التخلص منها، والتي لا تصدر _في الغالب_ عن عناد، أو سوء طويَّة.
فإذا كان الأمر كذلك:
فلا تغضبنْ من سيرة أنت سرتَها ... فأول راضٍ سنةً من يسيرها
وقد وجدت أن القرآن الكريم قد أشار إلى هذا المعنى الجليل بألطف إشارة، وأجمل عبارة.
قال الله _عز وجل_: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمْ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً] النساء:94.
وقد أبدع العلامة الشيخ ابن عاشور في الوقوف عند قوله _عز وجل_: [كَذَلِكَ كُنتُمْ مِنْ قَبْلُ] في تفسيره التحرير والتنوير 5/168_169.
فقال ×: = أي كنتم كفاراً، فدخلتم الإسلام بكلمة الإسلام؛ فلو أن أحداً أبى أن يُصَدِّقكم في إسلامكم أكان يرضيكم ذلك.
وهذه تربية عظيمة، وهي أن يستشعر الإنسان عند مؤاخذته غيره أحوالاً كان هو عليها تساوي أحوال من يؤاخذه، كمؤاخذة المعلم التلميذ بسوء إذا لم يقصر في إعمال جهده.
وكذلك هي عظة لمن يمتحنون طلبة العلم؛ فيعتادون التشديدَ عليهم، وتَطَلُّبَ عثراتهم، وكذلك ولاة الأمور وكبار الموظفين في معاملة من لنظرهم من صغار الموظفين، وكذلك الآباء مع أبنائهم إذا بلغت بهم الحماقةُ أن ينتهروهم على اللعب المعتاد، أو على الضجر من الآلام.(1/112)
وقد دلت الآية على حكمة عظيمة في حفظ الجامعة الدينية، وهي بث الثقة والأمان بين أفراد الأمة، وطرح ما مِنْ شأنِه إدخالُ الشك؛ لأنه إذا فتح هذا الباب عَسُرَ سَدُّه، وكما يَتَّهِمُ المتهمُ غيرَه فللغير أن يَتَّهِمَ مَنِ اتَّهمه، وبذلك ترتفع الثقة، ويسهل على ضعفاء الإيمان المروق؛ إذ قد أصبحت التهمة تُظِلُّ الصادق والمنافق، وانظر معاملة النبي"المنافقين معاملة المسلمين.
على أن هذا الدين سريع السريان في القلوب؛ فيكتفي أهله بدخول الداخلين فيه من غير مناقشة؛ إذ لا يلبثون أن يألفوه، وتخالط بشاشته قلوبهم؛ فهم يقتحمونه على شك وتردد فيصير إيماناً راسخاً، ومما يعين على ذلك ثقة السابقين فيه باللاحقين بهم.
ومن أجل ذلك أعاد الله الأمر فقال [فََتَبَيَّنُوا] تأكيداً لـ[تَبَيَّنُوا] المذكور قبله، وذيَّله بقوله [إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً] وهو يجمع وعيداً ووعداً+.
كان الحديث عن السياسة لا يخوض فيه إلا فئة من المتخصصين أو المثقفين.
أما في عصرنا هذا عصر الإعلام فصار التحليلات السياسية كلأً مباحاً، فكل يُغَنِّي على ليلاه، وكل يهرف بما يعرف وما لا يعرف؛ فما يمر الحدث _وما أكثر الأحداث_ إلا وتسمع التحليلات تلو التحليلات.
وترى الأنظار تجاه ذلك الحدث تتباين؛ فهذا يرى بأن ما يجري إنما هو مؤامرة، وذاك يرى بأنه مناورة، وثالث يقول: بأن وراء الأكمة ما وراءها، ورابع يكتفي بالنظر القريب، وببادئ الرأي وأول النظر.
وقد قيل: إن السياسي هو الذي يتوقع حدثاً، أو يُحلل حدثاً بشرط أن يكون لديه التعليل الكافي إذا وقع الأمر بخلاف ما ارتآه.
وعلى كل حال فإن التحليل الأول للحدث هو ما يُرى، ويُشاهد، فهو بحد ذاته يعبر عما وراءه.
أما إذا صرنا نشك بأن وراء كل حدث مؤامرة، أو مناورة _ فإننا بذلك لن نصل إلى أي حقيقة، وستبقى الأمور عائمة، أو تكون الحقيقة نسبية.(1/113)
أما معاناةُ التأليف فمن وجوهٍ كثيرةٍ منها: كدُّ الذهن، ومعالجةُ العزو، والتأكد من صحة المعلومة، وكثرةُ المراجعة، والحذرُ من الزلل، والحرص على إبراز الأفكار في معرض حسن، وثوب مقبول.
ومنها ما يعتري المؤلف من الملل، والفتور، وصداع الرأس، وقلة النوم، وتعب الأعصاب، وآلام المفاصل والعينين، والانقطاع عن كثير من الملذات، والتقصير في بعض الحقوق؛ فهذه بعض معاناة التأليف.
أما لذته فَتَكْمُن بمناجاة الفكر، واصطياد الأوابد، ومعرفة أقدار المؤلفين السابقين واللاحقين، والتعود على طول النفس، والحرص على الوصول إلى الحقائق.
ومن أعظم لذات التأليف: استشعارُ نهايةِ البحث، والفرحُ بطبعه، ونشرِه، وإهدائه، وانتفاعِ الناسِ به؛ فإن نفع التصنيف _ كما يقول ابن الجوزي _ أكثر من نفع التعليم بالمشافهة؛ لأن الإنسان يشافه في عمره عدداً من المتعلمين، ويشافه بتصنيفه خلقاً لا يحصون، وخلقاً لم يوجدوا بَعْدُ؛ فيكون التأليف من الباقيات الصالحات.
وإن لانتظار مجيء الكتاب من المطبعة فرحةً تشبه فرحة انتظار المولود الجديد.
وتكمن لذة التأليف _كذلك_ باستجماع الخواطر، والخلوة عن الناس، وإلى هذا أشار بعضهم بقوله:
وأطيب أوقاتي من الدهر خلوةٌ ... يقرّ بها قلبي ويصفو بها ذهني
ويأخذ لي من سَورة الفكر نشوةً ... فأخرج من فنّ وأدخل في فنّ
ويفهم ما قد قال عقلي تصوري ... فنقلي عن أذني وسمعي بها مني
وأسمع من نجوى الدفاتر طُرفةً ... أزيل بها همي وأجلو بها حزني
ينادمني قومٌ لديّ حديثهم ... فما غاب منهم غير شخصهم عني
هذا وإن من أعظم نعم الله على المؤلف أن يرى عند عزمه على التأليف أنه سهلٌ ميسور، وأنه لا تَمُرُّ عليه مدة وجيزة إلا أنجزه وأتمه؛ فإذا ما ابتدأ فيه تفتَّق ذهنه عن مسائل لم يحلم بها، وطرأت عليه أبحاث لم يكن يتخيلها، وإذ هو في واد متشعب يرى أنه لا بد له من سلوكه.(1/114)
ولو علم بادئ الأمر ما سيلقاه من المشقة والتعب لأبعد عن فكره خيال التأليف، ونأى بنفسه عن مسالك التكليف، مفضلاً منادمة الأحباب، ودعةَ التنعم بمغتسل بارد وشراب.
وقد وجدت كلاماً جميلاً حول هذا المعنى للشيخ محمد بن طاهر الكردي في كتابه (مقام إبراهيم) حيث ذكر في خاتمة كتابه كلمة تدور حول التأليف ومعاناته ولذته، ومما جاء في ذلك الكتاب قوله: =هذا، ولما كنت مشتغلاً بالتصنيف، مخالطاً للعلماء أرباب التأليف يمكنني أن أقول: إنني لم أجد أصعب، ولا أتعب، ولا أشغل للإنسان من تأليف الكتب مهما تنوعت واختلفت.
ولئن كان شيء يُسْرع في ضعف الإنسان وهرمه فذلك الشيء إنما هو الاشتغال بالتأليف وحده، وفي الوقت نفسه تجد المؤلف _ مع وهنه وضعفه _ قوياً في معلوماته، راسخاً في دراساته ومراجعاته؛ فكل شيء ينقص إذا أنفقت منه إلا العلم؛ فكلما أنفقت منه لغيرك بالإفادة زادت معرفتك مهما تكررت منك الإعادة.
فالاشتغال بالتأليف، هو الشغل الذي لا شغل بعده، والعمل الذي ينقطع إليه المرء وحده، تجده يبحث عن مسألة إذا به يعثر على أخرى ولما يكمل الأولى بعد، تراه يحقق في بحث إذا به يصل إلى غيره؛ لتشعّب الكلام، وارتباط بعضه ببعض.
وإنه كثيراً ما تطرأ عليه المسائل، وتنكشف له الدقائق وهو يأكل أو يمشي، أو يريد النوم؛ لذلك يكون المؤلف الخبير بالأحوال لا يخلو عن القلم والورق أنّى سار، وحيثما كان؛ ليقيد رؤوس المسائل التي تطرأ على فكره بغتة، حتى إذا ما رجع إلى حالة الاشتغال قَتَلها بحثاً، وأشبعها درساً.
تجده يبتعد عن الأهل والولد؛ خوفاً من أن يقطع أحد عليه أفكاره، ينفرد عن الناس بنفسه، وقد يصطفي شخصاً من شكله وجنسه، يساعده في البحث والتنقيب، ويبيض له مسوداته بنظام وترتيب.(1/115)
ولست مبالغاً إن قلت: إنه يقضي الساعات الطوال، ويسهر غالب الليالي بالاشتغال في المطالعة والكتابة، لا يسأل عن أكل ولا شرب، ولا يصغي لحديث أو خبر، ولا تجد الراحةُ إلى جسمه سبيلاً، قد يعتريه الملل، وتتعب أعصابه، وهو مع ذلك يتطلب برهاناً، ويستنبط دليلاً، وقد يريد النوم؛ فيمتنع عليه؛ لشدة تعبه المتواصل؛ لإتمام ما لديه؛ فهو لذلك قد يكون مقصراً عن زيارات إخوانه وأحبائه؛ فإنه من لا يؤدي حقوق نفسه كيف يؤدي حقوق غيره؟
وهو في ذلك معذور مأجور، وفي عمله مغبوط مشكور.
مسكين المؤلف، يشغل حواسه الخمس، ويصل يومه بالأمس؛ ليريح طلاب العلم والفنون، ولأن يصل في بحثه إلى نتيجة مرضية، وخلاصة شافية، وأجوبة سديدة أحبُّ إليه من الدنيا وما فيها، وأشدُّ ما يكون فرحاً إذا ما اهتدى إلى حلّ مسألة عويصة كانت مستعصية عليه، أو أتى ببحث لم يسبقه إليه أحد.
أما ثوابه على عمله وجزاؤه فهذا موكول إلى الله _عز شأنه_ فهو الذي لا يَضيع عنده عَمَلُ عاملٍ من ذكر أو أنثى، على أنه _سبحانه وتعالى_ قد رفع ذكر العلماء، وأعلى شأنهم في الدارين، وحفظهم من التخريف مهما عمروا، وتقدموا في سن الشيخوخة.
وأما تقديره ومكافأته في المجتمع الإنساني فهذا راجع إلى الوسط الذي يعيش فيه، وإلى القوم الذين ينتمي إليهم؛ فعلى قدر مكانتهم في العلم والأدب، وثقافتهم في مختلف الفنون، وخلوّهم من المكر والحسد يكون تقديرهم لمنزلته، ومعرفته لمكانته، وأكثر المؤلفين لا يظهر فضلهم إلا بعد الممات.
هذه بعض حالات المشتغلين بالتأليف =ولا ينبئك مثل خبير+.
لا يعرف الشوق إلا من يكابده ... ولا الصبابة إلا من يعانيها+. ... ا_هـ
وبعد: فهذه معاناة التأليف، وتلك لذته، وستنقضي المعاناة واللذة بانقضاء عمر المؤلف، وبعد ذلك يكون له الغُنْم، أو عليه الغُرْم؛ فنسأل الله أن يجعل ما نكتب حجة لنا لا علينا، وأن ينفع به، ويجعله خالصاً لوجهه.(1/116)
أخرج ابن عساكر عن الشعبي قال: =دهاة العرب أربعة: معاوية، وعمرو ابن العاص، والمغيرة بن شعبة، وزياد، فأما معاوية فللحلم والأناة، وأما عمرو فللمعضلات، وأما المغيرة فللمبادهات، وأما زياد فللكبيرة والصغيرة+.
وقال الأصمعي: =كان معاوية × يقول: أنا للأناة، وعمرو للبديهة، وزياد للصغار والكبار، والمغيرة للأمر العظيم+.
وجاء في كتب السير والأدب أن عبد الله بن قاسم بن طولون كاتب العباس ابن أحمد بن طولون قال: =بعث إليّ أحمد بن طولون بعد أن مضى من الليل نصفُه، فوافيته وأنا منه خائفٌ مذعور.
ودخل الحاجب بين يديّ وأنا في أثره، حتى أدخلني إلى بيتٍ مظلم، فقال لي: سلِّم على الأمير!
فسلّمت، فقال لي ابن طولون مِنْ داخلِ البيت وهو في الظلام: لأي شيءٍ يصلح هذا البيت؟ قلت: للفكر، قال: ولِمَ؟
قلت: لأنه ليس فيه شيءٌ يشغل الطرف بالنظر فيه.
قال: أحسنت! امض إلى ابني العباس، فقل له: يقول لك الأمير اغدُ عليّ، وامنعه من أن يأكل شيئاً من الطعام إلى أن يجيئني؛ فيأكل معي، فقلت: السمع والطاعة.
وكان العباس قليل الصبر على الجوع؛ فرام شيئاً يسيراً قبل ذهابه إلى أبيه؛ فَمَنَعْتُه؛ فركب إليه، وجلس بين يديه، وأطال أحمد بن طولون عمداً، حتى علم أن العباس قد اشتدّ جوعه، وأُحْضِرت مائدةٌ ليس عليها إلا البوارد من البقول المطبوخة؛ فانهمك العباس في أكلها؛ لشدة جوعه، حتى شبع من ذلك الطعام، وأبوه متوقف عن الانبساط في الأكل، فلما علم أنه قد امتلأ من ذلك الطعام أمرهم بنقل المائدة، وأُحْضِر كلُّ لون طيّب من الدجاج، والبط، والجَدْي، والخروف؛ فانبسط أبوه في جميع ذلك، فأكل، وأقبل يضع بين يدي ابنه منه؛ فلا يمكنه الأكل؛ لِشِبَعه.(1/117)
قال له أبوه: إنني أردت تأديبك في يومك هذا بما امتحنتك به؛ لا تلق بهمَّتك على صغار الأمور بأن تسهِّل على نفسك تناول يسيرها؛ فيمنعك ذلك من كبارها، ولا تشتغل بما يقلّ قدرُه؛ فلا يكون فيك فضلٌ لما يَعْظُم قَدْرُه+. ا.هـ
فما مضى ذكره من الأخبار إنما هو نزرٌ يسيرٌ مما ورد من هذا المعنى في كتب السير والتراجم.
وهذه الأخبار تشير إلى معانٍ عظيمةٍ قد تغيب عن بال كثيرٍ من الناس؛ فتجد مَنْ يشغله أتفهُ سببٍ؛ فيغلق عليه ذهنه، ويأخذ بمجامع قلبه.
وقد يكون ذلك الإنسان عظيماً، أومؤهَّلاً للعظمة، ثم تراه يشغل نفسه بأمورٍ صغيرة، فتأخذ بلبِّه، وتشغل وقته، وتستنفد طاقته، وتقطعه عن مصالح كثيرة كبيرة، كحال بعض التجار _على سبيل المثال_ حيث تراه يشغل نفسه بأمورٍ صغيرةٍ في ميدان تجارته، فتنال نيلها من أعصابه، وجهده، ووقته.
ولو أنه وكَلَ تلك الأمورَ الصغيرةَ إلى غيره ممن هم تحت يده، لكان خيراً له، وأزكى لتجارته.
وقل مثل ذلك في شأن من يتولى ولاية؛ حيث ترى بعضهم يهلك نفسه في أمورٍ صغيرة، فإذا دهمته عظام الأمور لم يعد فيه بقيةٌ من جهدٍ لمواجهتها.
وترى في الناس من هو خلاف ذلك؛ فتجده لا يأبه للأمور اليسيرة، واللفتات الحانية، والجوانب الإنسانية التي ترفع من قدره، وتكمِّل عظمته، وتنهض بمروءته.
وترى مَنْ هذه حاله يعتذر لنفسه بأنه مشغول بأمورٍ عظيمةٍ كبيرة؛ لذا تراه لا يأبه بمحادثة الصغير، وملاحظةِ الغريب، والتواضعِ للمسكين.
والذي تقتضيه الحكمة أن يُفْرِغَ المرء نفسه لكبار الأمور، ولا ينسى _مع ذلك_ أن يقوم بصغارها، من غير أن يعطيها أكبر من حجمها.
وهكذا كان حال النبي " حيث كان يقوم بالمصالح العليا، ويُعنى بشؤون الأمة، وبتبليغ الدعوة، والجهاد في سبيل الله وما جرى مجرى ذلك من الأعمال الجليلة.(1/118)
ومع ذلك تراه يلاطف الصغير، ويجيب الدعوة، ويمازح أصحابه، ويكون في مهْنَة أهله؛ فقد أعطى كل ذي حقٍّ حقَّه، وجعل لكل مقامٍ ما يناسبه دون وكسٍ، ولا شطط.
ولم يكن أحدٌ يلهيه عن أحدٍ ... كأنه والدٌ والناسُ أطفالُ
ومن أعجب من رأيت في هذا العصر ممن يمثل هذا المعنى، ويسير على هذا النمط سماحة شيخنا الإمام الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز ×.
وهذا سرٌّ من أسرار عظمته وألمعيته، ولطائف سيرته، وأسباب تميزه، وحلوله في سواد العيون، وسويداء القلوب؛ ففي الوقت الذي يقوم فيه بجلائل الأعمال، من مراسلات لكبار المسؤولين، ومناصحة لرؤساء الدول، واستقبال للوفود من أعلى المستويات، وقيام بالدروس والفتوى، والردود على الأسئلة المتتابعة، ورئاسة الاجتماعات في الرابطة أو الهيئة أو غيرهما، ونحو ذلك من الأعمال التي يترتب عليها المصالح العامة للأمة _ لا تراه يهمل دقائق الأمور، وصغارها؛ بحجة اشتغاله بما هو أهم، بل تراه يسمع سؤال المرأة، ويستقبل الفقير المسكين، ويجيب عمَّا يُوْرَدُ عليه عبر الهاتف ولو كان يسيراً، بل تراه يداعب قائد سيارته، والعاملين معه، ويسألهم عن أحوالهم، وأحوال ذويهم، بل لا يُغْفِل الثناء على طباخ المنزل على الوجبات التي يعدها، ولا ينسى مداعبة الصغار، والقيام بحقوق الأهل، وهكذا كانت حاله مع الناس؛ فكل يعطيه حقه، وينزله منزلته.
و[ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ] [وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ].
جاء في كتب السير أنه لما قُتل مسعود بن عمرو العتكي _كبير الأزد_ هاجت الأزد، واتهمت بني تميم بقتل مسعود، وإنما قتله الخوارج.(1/119)
وركبت بنت مسعود إلى مربد البصرة تطالب بدم أبيها، وتوالت رجال من بني تميم ونساء من نسائهم على الأحنف بن قيس تستفزه؛ للأهبة، ولدفع الهائجين من الأزد وأنصارهم من ربيعة حتى أقاموا عنده البينة الشرعية على اعتداء الأزد على بعض الضعفاء.
وحصلت مداولات بين الأزد والأحنف يطول تفصيلها، واتفقوا على الدية، حيث قال معشرُ الأزد للأحنف: أتدون صاحبنا عشر ديات؟ فقال الأحنف: هي لكم.
ثم ندب الأحنف ابن أخته إياس بن قتادة بن موألة العبشمي _أحد بني عبد شمس بن سعد بن زيد مُناة بن تميم_ ليحمل من أغنياء تميم حَمَالاتِ تلك الفتنة: ديةَ مسعود المضاعفة عشرة أضعاف، وديات غيره من عامة الناس الذين ذهبوا ضحايا الفتنة.
قال إياس: فَجَهِدْت أن يقوم لي بهذه الحمالات أهلُ الحضر؛ فلم يفعلوا، ولم يغنوا فيها شيئاً، فخرجت إلى البادية؛ فحملوا يرمونني بالبَكْر _ أي بالبعير _ وبالاثنين، حتى اجتمع لي من حمالتي سوادٌ صالح، وصِرْتُ بالرمل إلى رجلٍ ذُكِر لي، فلما دفعتُ إليه إذا هو رجل أسَيود، أفيحج، أعيسر، أكيشف(1)، فلما انتسبت له، وذكرت له حمالتي قال: قد بلغني شأنك؛ فانزل!
قال إياس: فو الله ما قَرَاني، ولا برَّ علي، فلما كان من الغد أقبلت إبله لوردها، فإذا الأرض مُسْوَدَّةٌ، وإذا هي لا تَرِدُ في يوم لكثرتها، وقد ملأ غِلْمَانُه حياضَه، فجعل كلما ورد رِسْلٌ من إبله جاء يعدو حتى ينظر في وجهي فيقول: أنت حويمل بني سعدْ؟
ثم يخرج يَرْقُصُ؛ فأقول في نفسي: أخزى الله هذا، وأخزى من دلني عليه!
حتى إذا رويت الإبل وضربت بعطن _أي بركت بأعطانها_ نادى الرجل: أين حويمل بني سعد؟
قلت: قريب منك!
قال: هات حبالك!
__________
(1) _ الفحج: تباعد ما بين أوساط الساقين، والنعت منه (أفحج) والتصغير للتحقير، ولذلك قال: أسيود أي أسود، وأعيسر أي أعسر لا يستعمل يده اليمنى، والأكيشف تصغير الأكشف: وهو الذي له شعرات ثائرة في قصاص ناصيته، والعرب تتشاءم به.(1/120)
فما ترك حبلاً إلا ملأه بقرنين من إبله، ثم يقول: هات حبالك!
فجئنا بمرائر محالبنا، وأرشية دلائنا، وأروية زمائلنا، وما زال يقول: هات حبالك!
حتى حَلَلْنا عُصَمَ قِرَبِنَا، وعُقُلَ إبلنا، وخُطُمَها؛ فملأها لنا، ثم قال: حبالك!
قلت: لا حبال.
فقال إياس: قد عرفت من دقة ساقيك أنه لا خير عندك _ أي أن إياساً؛ لبخله يحسب الناس كلَّهم بخلاء؛ فلم يستعد الاستعداد الكافي لاستقبال الخير والكرم _.
وعاد إياس بن قتادة إلى خاله الأحنف في البصرة بما معه من الخيرات، فودَّى بنو تميم مسعودَ بنَ عمرو بعشر ديات، وباوؤوا بين القتلى، وتم الصلح.
والشاهد من هذه الحادثة التاريخية أن إياس بن قتادة أساء الظن باديَ الرأي بالرجل الذي ذهب إليه، وحكم عليه من أول وهلة، ولكن ذلك الرجل أخلف ظنه _كما مر_.
وهذه الحادثة تُذَكِّر بحال كثيرٍ من الناس، فتراه يعطي حكمه بادئ الرأي جزافاً، فيقطع بأن هذا الرجل فيه وفيه من العيوب، وذلك بسبب موقف واحد، أو اجتهاد معين، أو كلمة سمعها عنه؛ فيجعل ذلك ذريعة للزهد به، والوقيعة فيه، وَوَصْمِه بتلك النقيصة.
وبعد ذلك لا يقبل منه عدلاً ولا صرفاً.
ولا ريب أن هذا الحكم الظالم، والرأي الفطير لا يصدر من ذي عقل، وروية، وإنما هو دأب ذي العجلة، والتسرع، والنظر القاصر.
فالذي تقتضيه الحكمة أن يُبسط العذر لمن أخطأ، ويُفتح الباب لمن أراد معالجة خطئه، ويُنظر إلى الإنسان من كافة الوجوه، ويُغَلَّب جانبُ إحسان الظن، والنظر إلى المحاسن.
وقد يعذر الإنسان إذا وقع في قلبه ما وقع عن إنسان بسبب تصرف معين، وقد يكون ذلك التصرف علامة رامزة على ما يتصف به ذلك الإنسان.
ولكن التثبت والتأني هو المتعين في مثل تلك الأحوال.
خصوصاً إذا كان الشأن مع الأفاضل والأكابر والعلماء.
وقد لا يلام الإنسان إذا أثنى خيراً، ووصف بالفضل من رأى منه موقفاً حسناً.(1/121)
بل إن ذلك يعد من مكارم الأخلاق، ولأنْ تخطئ بالعفو خير من أن تخطئ بالعقوبة.
لو تأملت أكثر الناس لوجدت أن في داخل كثير منهم شعوراً بالهضم، وأنهم قد نِيْلَ منهم، ولم يُعرف قدرهم، وأنهم يستحقون أكثر مما هم فيه من المكانة.
والناسُ في ذلك ما بين مقل ومستكثر، وقلَّ من يسلم من ذاك الداء.
ولعل من أسباب ذلك الخاطر أن بعض الناس يبالغ في تقدير ذاته ومواهبه؛ فيتوهم أن غيره يسيء إليه حين لا يعطيه ما يستحقه من الإجلال والتقدير؛ لتلك المواهب الفذة النادرة التي قد لا يوجد لها مثيل _بزعمه_.
ولكن إذا أدرك الإنسان أن ذلك الظن ليس في محله، وأن الناس قد لا تعنيهم مواهبه وقدراته في قبيل ولا دبير وإن كانت تستحق الإشادة والتقدير _ خفَّ عليه ما يجده في نفسه، بل ربما زال ذلك بالكلية.
وإذا تكامل عقل المرء، وطمحت نفسه إلى المعالي _ لم يعد يبالي بأن يعرف قدره أو لم يعرف؛ لعلمه بأن جمال الشيء فيه لا فيما يقال عنه أيًّا كان القائلون.
بل إن العاقل المتواضع يشعر دائماً بأنه أعطي فوق قدره، ولو كان _في الحقيقة_ يستحق أكثر مما أعطي.
وإذا أراد الإنسان الراحة من ذلك؛ فليتعامل مع من لا يخفى عليه السرُّ وأخفى، ومن لا يضيع لديه عَمَلُ عامل، ومن يحفظُ للإنسان مثاقيل الذر.
فإذا استحضر هذا المعنى هان عليه ما يقال فيه، وانتظر ذلك الجزاء من الشكور الحليم الذي يضاعف أجر المحسنين، ويتجاوز عن تقصير المقصرين.
قد تمر بك لحظات ضعف؛ فيخيل إليك أن قواك قد خارت، وأنه لم يَعُدْ بك قدرة على المجاهدة، والصبر ومواصلة العمل؛ فلا تستسلم لهذا الخاطر؛ فإن للنفوس إقبالاً وإدباراً؛ فلعل ذلك الإدبار يعقب إقبالاً.(1/122)
وقد تشعر _أحياناً_ بإحباط، وقلة ثقة، وشعور بالنقص، وأنك لا تصلح لشيء من الأعمال _ فلا تستسلم لهذا الشعور، واستحضر بأن الإخفاق ليس عاراً إذا بذلتَ جهدك بإخلاص، وتَذَكَّرْتَ أن المرء لا يعد مخفقاً حتى يتقبل الهزيمة، ويتخلى عن المحاولة، فحاول مرة بعد مرة، وأعد الكرة بعد الكرة، وستصل إلى مبتغاك _بإذن الله_.
وقد يعتريك شعور بالزهو والإعجاب، فتشعر بأنك نسيج وحدك، وقريع دهرك؛ فلا تحتاج إلى ناصحٍ أو مشير.
فإذا مر بك ذلك الخاطر فلا تستسلم له، ولا تركن إلى ما أوتيت من ذكاء، وعلم، وانظر إلى ما فيك من نقص وضعف حتى تتعادل كفتا الميزان لديك.
وقد تهجم عليك الهموم، وتتوالى عليك الغموم، فيخيل إليك أنها ستلازمك طول عمرك، فتظن أن أيامك المقبلة سود لا بياض فيها؛ فلا تستسلم لهذا الخاطر، ولا تحسبن الشر لا خير بعده، أو أنه ضربة لازب لا تزول؛ فإن مع العسر يسراً، إن مع العسر يسراً.
وقد تتحرى الصواب، وتحرص كل الحرص على ألا تخطئ في حق أحد، ثم لا تلبث أن تقع في الهفوة والهفوة؛ فلا تظنن أن ذلك يبعدك عن الكمال، والسعي إليه، فمن الذي تُرضى جميعُ سجاياه؟ وأي الرجال المهذب؟
وقد تقع في الذنب إثر الذنب، فيلقي الشيطان في رُوعك أن الخير منك بعيد، وأنك ممن كتبت عليه الشقاوة؛ فلا تستسلم لهذا الإلقاء الشيطاني، واستحضر بأن كل ابن آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون، و[إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنْ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ] وبذلك تنقشع عنك غياهب اليأس.
السلامة من كلام الناس عزيزة المنال، وإن شئت فقل: هي ضربٌ من المُحال خصوصاً إذا كان المرء ممن يتصدر ويقوم بجلائل الأعمال.
قال ابن حزم × في كتابه الأخلاق والسير في مداواة النفوس: =من قدر أن يسلم من طعن الناس وعيبهم فهو مجنون+.
والكلام في هذه الخاطرة يدور حول المبالاة بكلام الناس وعدمها، وهل ذلك محمود أوْ غير محمود؟(1/123)
كما يدور حول التعامل الأمثل مع كلام الناس؛ إذ الأمر يحتاج إلى شيءٍ من التفصيل والبسط؛ فقد تكون المبالاة بكلام الناس ضرباً من الخور، وضعف الرأي، وضعة النفس، وذلك كحال من يدع الأعمال الجليلة، أو المشروعات النافعة بسبب نقد ظالم، أو كلمة ساخرة، أو جارحة، أو مخذلة.
وقد تكون المبالاة بكلام الناس دليلاً على القوة، وأصالة الرأي، والتجرد عن الهوى، كحال من يسمع نقداً هادفاً، أو تخطئة لعملٍ كان يقوم به، فجعل ذلك في حسبانه، وتقبله بقبول حسن، وتفادى خطأه، ولم يصرَّ على باطله.
وقل مثل ذلك في قلة المبالاة بكلام الناس؛ فقد تكون أثراً من آثار الصفاقة، والقِحة، والبلادة، وذلك كحال من لا يترفع عن المباذل، ولا يتحرج من وضع نفسه في مواضع الريب، ولا يأنف من المجاهرة بالفسوق، ولا يبالي بظلم الآخرين، والاستهانة بهم وما جرى مجرى ذلك، ثم إذا ولغ الناس في عرضه، ولاموه على سوء صنيعه، تمادى في غيه، ومشى في غلوائه غير مبالٍ بما يواجَه به، ولا عابئ بما يقال عنه؛ فذلك مذموم، ممقوت، معدود في جملة السِّفل.
وفي تفسير ابن عطية: =قيل للقمان: أي الناس شر؟ فقال: الذي لا يبالي أن يراه الناس محسناً أو مسيئاً+.
وقد تكون قلة المبالاة بكلام الناس محمودةً، دالةً على عظمةٍ وألمعية.
وذلك كما إذا كان الإنسان يقوم بما تقتضيه الحكمة من استفراغ الجهد، وتحري الصواب، ومداراة الناس، ونحو ذلك ثم ناله ما ناله من الطعن، والقدح، والنقد الظالم، فأعرض عن ذلك كله، ومضى فيما هو بصدده من الأعمال التي ترضي الله، وتنفع الناس، مستشعراً أن كلام الناس لا يضره إلا إذا اشتغل به، مستحضراً بأن النقد الظالم إنما هو اعتراف ضمني بقدرته، وعلوِّ كعبه؛ فذلك دليل كبر النفس، وسعة الصدر، وبعد الهمة، وحسن التدبر للعواقب.(1/124)
وعلى ذلك يحمل كل ما جاء من الوصايا والحكم التي توصي باطراح المبالاة بكلام الناس، وبألا يجعل الإنسان مراقبتهم، والحذر من لمزهم حائلاً بينه وبين تحقيق مآربه النافعة له، ولأمته، ووطنه.
قال بشار بن برد:
من راقب الناس لم يظفر بحاجته ... وفاز بالطيباتِ الفاتكُ اللَّهِجُ
وقال سَلْم الخاسر:
من راقب الناس مات همَّاً ... وفاز باللذة الجسور
وقال ابن حزم × في الأخلاق والسير: =العقل والراحة هو اطراح المبالاة بكلام الناس، واستعمال المبالاة بكلام الخالق _عز وجل_ بل هذا هو باب العقل والراحة كلها+.
ولا يعني اطراح المبالاة بكلام الناس أن يتقصد المرء مخالفة الناس أو أن يعمد إلى مخاشنتهم، والإغلاظ عليهم؛ لأن الحكمة _كما مر_ تقتضي مداراة الناس، ومعرفة أحوالهم، وإنزالهم منازلهم؛ فالحكيم الحازم العاقل يزن عقول من يلاقونه، ويحس ما تكن صدورهم، وتنزع إليه نفوسهم، فيصاحبهم وهو على بصيرة مما وراء ألسنتهم من عقول، وسرائر، وعواطف، فيتيسر له أن يسايرهم إلاَّ أن ينحرفوا عن الرشد، ويتحامى ما يؤلمهم إلاَّ أن يتألموا من صوت الحق.
فإذا قام المرء بما تقتضيه الحكمة _ فليقدم على ما قصد إليه دونما التفات أو مبالاة بكلام أحد؛ فلا لوم ولا تثريب عليه حينئذ.
ولا ريب أن توطين النفس على هذا الأمر يحتاج إلى دَرَبَة، وتمرين، وصبر.
ومن خير من أشار إلى هذا المعنى اللطيف الأستاذ محمد كرد علي 1293_1372هـ × في مذكراته، حيث أبدى وأعاد فيه وذكر عدداً من الوصايا التي أوصاه بها شيخه الشيخ طاهر الجزائري 1268_1338هـ × والتي تدور حول هذا المعنى، وإليك طرفاً من ذلك.
يقول الأستاذ محمد كرد علي: =النقد شيء, والطعن شيء آخر, وقلَّ أن رأيت أحداً من المنورين اتسع صدره لنقد الناقدين, ومن هنا جاء إمساك النقاد على النقد النافع؛ لئلا ينزعج المنتقد عليه, ويتخذ من ناقده عدواً له+.(1/125)
وقال: =وفي النقد حياة المجتمعات, والمنتقد يزيد قدره إذا ما تلقى الانتقاد بالقبول.
ولقد بلغت القحة ببعض أصحاب النفوس الصغيرة أن توهمت أن كل أعمالها سديدة لا تستحق إلا الإعجاب والتقريظ+.
وقال: =كثيراً ما سمعت من أستاذي الشيخ طاهر الجزائري أنه في اليوم الذي يجمع الناس على حبه يعتقد نفسه ساقطاً؛ ذلك لأن معنى الإجماع أن الممدوح ينافق كل إنسان, لا ينكر منكراً, ولا يدعو إلى معروف.
وصاحب الإصلاح في العادة يمقته فريق, ويرضى عنه آخر, ومن أراد تطبيق ما يعلم يتأفف منه السواد الأعظم+.
وقال: =ولقد نصحني أستاذي الشيخ طاهر الجزائري نصيحة وَقَتْ أوقاتي من الضياع, وفكري من البلبلة وكان ذلك لما بدأت بتحرير جريدة (الشام) قال: إذا أحببت النجاح في هذا البلد فلا تُلْقِ بأذنك لما يقال فيك من خير وشر, وارم ببصرك فقط إلى الهدف الذي يعنيك الوصول إليه, ولا تلتفت ذات اليمين ولا ذات الشمال، وإذا وضع لك واضع حجراً في طريقك فتنحَّ عنه, وعُدْ إلى سلوك محجتك.
تقبلت هذه النصيحة, وما عبأت بعدها بسماع أقوال المثبطين, ولا بمصانعة المداحين, وعرفت _مع الزمن_ أن أصواتَ أهلِ هذه الفئة تضيع في الهواء كالهباء, وأنهم كسالى لا يعملون, ويشق عليهم أن يروا أحداً يعمل.
وما كنت أردّ على من يناقشني؛ لئلا أدخل في أخذ ورد؛ فإن كان ما قاله مما ينفع أنقله وأنشره وأشكره عليه, وإن كان من الهُراء المعتاد أتحول عنه, ولا أشغل الوقت بما كتب.
وأكثر من جَرَوا على هذه الطريقة إنما يكتبون للشغب, والكشف عن المساوي, والظهور على الأقران, وكل صعلوك مغمور يحاول في العادة أن يشتهر بالنيل ممن هم أفضل منه.
وما أفلح من ساروا على هذه الطريقة, ودخلوا في الاعتراض, وبعدوا عن الاشتغال بخوَيصة أنفسهم.(1/126)
الثرثارون الطعانون يقضون أعمارهم في حسرة, ولا يأتون ما ينفعون به أنفسهم ولا غيرهم, ورأيت منهم جماعاتٍ ماتوا بغيظهم, وكان مَنْ نجحوا مِنَ الفريق الذي يقلل من الاعتراض+.
وقال: =ونصح لي أستاذي لما أصدرت مجلة (المقتبس) في القاهرة ألا ألتفت إلى المشاغبين ولا أكترث بهم, وإن جَلُّوا؛ فإن الحكيم من يسعى إلى تمام القصد, وأقل ما يستفيد المشاغبون إضاعة وقت من اكترث بهم وإن قلَّ؛ فالوقت ثمين.
قال: أقبل على شأنك واعرف مقتضى زمانك, ولا يمنعك تنكيت المنكتين المكبتين من تنبيهك على غلط فرط منك فيما سلف, وكلما عثرت على شيء من ذلك في عدد فنبه عليه فيما يلي؛ فإن ذلك أقرب إلى الاعتماد على ما تكتب، وأكثر العلماء الذين انتفع الناس بكتبهم كانوا على هذه الطريقة+.
وقال الأستاذ محمد كرد علي: =وإذا لاحظ الهجَّاؤون أَن هجاءهم مما تنخلع له قلوب المهجوين زادوا وأفرطوا، وإذا أيقنوا أن صاحبَ النَّفْسِ العظيمةِ لا يأبه كثيراً لما يقال فيه يحاذرون صَرْفَ أوقاتِهم فيما لا يجدي عليهم.
وقد رأينا العلي المنزلة النزيه في ذاته لا يعبأ بثرثرة الثرثارين مدحاً كان أم قدحاً، ورأينا هذا الضربَ من الأقوال خفَّ الاهتمامُ به في عهدنا؛ لأن الناسَ تعلموا، والمتعلمُ يخجل أَن يصفِّق للباطل، وأن يهرب من الحق+. ا.هـ
وهكذا يتبين أن المبالاة بكلام الناس أو عدمها ليس على وتيرة واحدة؛ وليس محموداً أو مذموماً بكل حال.
قال الله _تعالى_ في شأن المرأة المعلقة التي يهجرها زوجها هجراً طويلاً: [فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ] أي: لا متزوجة ولا مطلقة؛ وذلك لما في التعليق من المفاسد الكثيرة.
وفي هذا إشارة إلى المبادرة إلى الحسم، وإصلاح الشأن إما بالوفاق، أو الفراق، بعد أن تُتخذ الوسائل المشروعة.
ولعل ذلك المعنى لا يقف عند مسألة الزوجية، بل ربما يتعداه إلى أمورٍ كثيرة من شأنها أن تزيد المشكلات تعقيداً، أو تنشئها إن لم تكن موجودة أصلاً.(1/127)
وما سبب ذلك إلا التعليق الذي لا مسوغ له؛ فتجد أن أمراً ما بين اثنين كاتفاقٍ في شأنٍ، أو موعد، ويكون عند أحدهما القرار والحسم، والآخر ينتظر ما يُسفر عنه الأمر؛ فيتباطئ الأول، ويلتقي صاحبه دون أن يشعره بما كان، أو بما سيكون، وربما مضت الشهور، أو السنين والحال كما هي.
وقل مثل ذلك في شأن قضايا الميراث، والنزاعات حول العقار أو مجاري السيول، أو المشكلات بين الأقارب.
فاللائق في مثل هذه الأحوال التي لا يسوغ فيها التروي أن تحسم الأمور، وألا تظل معلقة؛ حتى يعرف كل طرفٍ ما له وما عليه، ولأجل ألا يبقى في النفوس أثرٌ يزداد مع الأيام سوءاً.
إن من أعظم نعم الله علينا في هذه الأزمان قيام كثير من الدورات العلمية في شتى الفنون سواء في العقيدة، أو الفقه، أو الحديث، أو التفسير، أو الأصول، أو العربية، أو ما جرى مجرى ذلك.
ولقد نفع الله بتلك الدورات، وصار الإقبال عليها يتزايد عاماً بعد عام.
والحديث في هذه الخاطرة سيدور حول بعض المقترحات للدورات العلمية؛ رغبة في النهوض بها، وعموم الفائدة منها.
وهذه المقترحات منها ما يعود على المنظمين المستضيفين لها، ومنها ما يعود على القائمين بها، والمشاركين فيها، ومنها ما هو مشترك بين أولئك وأولئك.
وإليكم هذه المقترحات دون ترتيب، أو تخصيص؛ إذ بعضها قد يكون داخلاً في بعض.
1_ العناية باختيار الموضوعات الملائمة، والكتب المناسبة، فلكل فئة ما يلائمها، ولكل بلد ما يناسب أهله.
2_ الحرص على تكثيف الدعاية للدورات؛ حتى يكثر مرتادوها.
3_ تسجيل الدورات، ونقلها عبر الإنترنت؛ لأن ذلك أبقى للأثر، وأعم للفائدة، وأدعى لمشاركة أهل الفضل؛ لأنهم ربما يعتريهم الملل إذا كان العدد قليلاً، فإذا علموا أنها تنقل عبر الإنترنت تشجعوا، ونشطوا.
4_ الحرص على التنسيق في الدورات؛ حتى لا يقع التكرار في دورات البلد الواحد، أو البلدان المتقاربة.(1/128)
5_ التجديد في الدورات، كعقد الدورات المتخصصة في بعض العلوم والموضوعات التي تدعو الحاجة إليها، ويقل الطرح لها، كوضع دورات في علوم البلاغة، ودورات في تصحيح النطق والقراءة والإملاء، ودورات في ممارسة الخطابة، ودورات في التدرب على الكتابة والأساليب الإنشائية الراقية، حتى يكون لدى المشاركين قدرة على الكتابة السليمة، والأساليب المحكمة، والتحريرات العالية، ويكون لهم قدرة على الخطابة، والإلقاء؛ إذ هي من أعظم أسلحة طالب العلم؛ فلا يليق به أن يعرى منها.
ثم إن في ذلك توسيعاً لدائرة الفائدة؛ حيث تحصل المشاركة من عدة طوائف من المتخصصين في شتى الفنون.
6_ حبذا أن توضع دورات متخصصة في البحث العلمي، وطرائقه، وكيفية التعامل مع الكتب، وما إلى ذلك.
7_ حبذا أن تكثف الدروس في أدب الطلب؛ إذ هو زينة الطالب، وبهجته؛ فلعل القائمين على الدورات يُعنون بهذا الجانب، ويجعلون له نصيباً من جهدهم المبارك؛ بحيث يكون ضمن موضوعات تلك الدورات في تدريس كتب في هذا الشأن مثل: اقتضاء العلم العمل للخطيب البغدادي، والجامع لأخلاق الراوي وأدب السامع للخطيب _أيضاً_ ومثل الأخلاق والسير لابن حزم، ورفع الملام لابن تيمية، وكتاب الجامع من بلوغ المرام لابن حجر العسقلاني، وكتاب أدب الطلب للشوكاني، وكتاب حلية طالب العلم للشيخ بكر أبو زيد، وغيرها من الكتب في هذا الشأن.
فتدريس مثل هذه الكتب ينير الطريق لطالب العلم، ويدله على أصول المكارم، ويضاعف فائدته ونفعه للناس؛ لأن أخلاقه أثر علمه، وموطن القدوة فيه.
8_ الإعلان عن وضع امتحان في نهاية الدورة لكل كتاب أو موضوع يلقى، ويكون الامتحان تحريرياً، ويتم تصحيح الأسئلة، أو يكون الامتحان شفهياً، ومن ثم يتم إعلان النتيجة، وإعطاء الإجازات العلمية على ذلك.
9_ تنظيم الحضور، والانصراف وذلك عبر الكشوفات التي يتم من خلالها كتابة اسم المشارك، حتى يُتأكد من حضوره.(1/129)
10_ يحسن بالمنظمين للدورات أن يرسلوا برنامجاً مقترحاً للشيخ المشارك قبل الدورة بفترة خصوصاً إذا كان قادماً من خارج البلد الذي تقام فيه الدورة؛ بحيث يُوْضَعُ له برنامجٌ مقترحٌ يفصَّل من خلاله ما سيقوم به من نشاط طيلة أيام الدورة، ويعطى فرصة التعديل، والزيادة والنقصان؛ إذ قد تكون مدة الدورة أسبوعاً أو أكثر أو أقل، ومع ذلك لا يكون للشيخ إلا ساعة من نهار أو ليل، وبقية الوقت يذهب دون استفادة منه.
11_ العناية براحة الشيخ، وإعداد السكن الملائم بحسب القدرة، والحرص على التنسيق معه، واستقباله، وإعداد كل ما يعينه على أداء ما هو بصدده.
12_ حبذا وضع المرغبات في الدورة خصوصاً إذا كانت الدروس متصلة ببعض، وذلك كإعداد وجبات خفيفة بين الدروس، وكالعناية بالقادمين من بعيد، على أن يضبط ذلك بأوقات محددة حتى لا يكون الأمر فوضى.
ومما يحسن في هذا الصدد أن تعد بعض الجوائز والمحفزات التي تتخلل الدرس، بحيث توضع أسئلة فيما مر ذكره في الدرس، ومن يجيب عليها يعطى جائزة؛ فذلك مما يطرد السآمة، ويبعث على حضور الذهن.
13_ يحسن بالآتي لإلقاء الدورة أن يتعدد نفعه في البلد الذي يَقْدُم إليه؛ فلا يقتصر على إلقاء الدروس فحسب، بل يحسن به أن يملأ وقته بنفع البلد وأهله؛ فإذا كانت الدورة في أيام الدراسة فليحرص على زيارة المدارس، وإلقاء الكلمات فيها، وإذا كانت في الإجازة فليحرص على زيارة الدوائر الحكومية، والمراكز الصيفية، والسجون، وغيرها من أماكن تجمعات الناس.
وليحرص على إلقاء خطبة الجمعة إن كان ممن يمارس الخطابة؛ لأن الناس يحضرون الجمعة بكثرة؛ فجميل أن يشارك القادم في هذا المجال.
14_ يحسن بالمنظمين أن يرتبوا للقادم زياراتٍ لأهل العلم، والفضل، والإحسان؛ لإشعارهم بمنزلتهم، وتشجيعهم على بذل المزيد من الجهد، والمال، وما إلى ذلك.
15_ يحسن بهم _أيضاً_ أن يعقدوا المجالس العلمية التي تكون فيها المشاورات والمطارحات.(1/130)
16_ يحسن بالشيخ القادم أن يصطحب معه بعض طلابه؛ لتدريبهم على إلقاء الكلمات، ونفع الناس على أن ينسق مع المنظمين للدورة؛ ليسهلوا مهمة أولئك؛ وبهذا تحصل الفائدة من جهتين: من جهة تدريب أولئك، ومن جهة نفعهم وتوجيههم للناس.
يكثر في الآونةِ الأخيرةِ الحديثُ عن ذوي المواهب، وعن وجوب العناية بهم، وحسن رعايتهم.
وهذا دليلُ خيرٍ، ومظنةُ أن يخرج للأمة رجالٌ أفذاذٌ ينفعونها، وترفع بهم رأسها، وتستغني عن أممٍ غيرها في شتى مناحي الحياة.
ولا ريب أن مجال التربية والتعليم أوسع المجالات وأرحبها للعنايةِ بذوي المواهب، ورعايةِ ذوي النبوغ من الطلاب؛ فشأن المربي الحكيم الناصح أن يقبل على التلميذ المتقد ذكاءً، ويأخذ بيده في طريق التحصيل، حتى يعرف كيف يكون عبقريًّا.
وإن مما يهيئ الطلاب ذوي المواهب لأن يكونوا من العباقرة النابغين، ويقيهم _بإذن الله_ من عِثار الطريق _ تقديرَ النوابغ، وإذكاءَ هممهم، وإعطاءَهم الفرصة للإبداع، ومراعاةَ التوازن في مديحهم، وإطرائهم، وملاحظة ميولهم، وتوجيههم لما يناسبهم.
هذا وإن مما ينبغي التنبيه عليه لمن أودع الله فيه خصلة من خصال النبوغ أن يشكر الله على هذه النعمة، وألا يصرفها في غير مرضاته _عز وجل_.
كما عليه أن يلزم التواضع، والاعتدال، وترك التطاول على الأقران خصوصاً، وعلى الناس عموماً؛ حتى يسلم من الحسد وغوائله، والغرور وآفاته.
كما عليه أن يحرص على الإفادة من كل أحد، ومن كل موقف من شأنه أن يرتقي بموهبته ونبوغه، وهذه مسألة مهمة في هذا الباب؛ فقد تساعف الإنسان الأمور، فتسير على نحو ما يريد، وقد تخالفه الأمور، فتجري على خلاف ما يشتهي.
وقد يوفق بمن يعينه ويأخذ بيده، وقد يُخْذَل فلا يجد إلاَّ من يعوقه ويقف في طريقه.
وكثير من الناس يفيد من الأمور التي تجري في صالحه، ولكنه يقف مكتوف الأيدي إذا وقف أمامه أمر، أو حال دون بغيته حائل.(1/131)
أما النابغة العاقل الحازم، ذو الهمة العالية، والبصيرة النافذة _ فيحرص كل الحرص على أن يوظف الأمور كي تسير في صالحه، وأن يفيد من جميع المواقف التي تمر به مهما اختلفت عليه، فتراه =ينتفع بكل من خالطه وصاحبه، من كامل، وناقص، وسيء الخلق، وحسنه، وعديم المروءة، وغزيرها.
وكثير من الناس يتعلم المروءة ومكارم الأخلاق من الموصوفين بأضدادها، كما روي عن بعض الأكابر أنه كان له مملوك سيء الخلق، فظ، غليظ، لا يناسبه.
فسئل عن ذلك، فقال: إني أدرس عليه مكارم الأخلاق !
وهذا يكون بمعرفة مكارم الأخلاق في ضد أخلاقه، ويكون بتمرين النفس على مصاحبته، ومعاشرته، والصبر عليه+(1).
قال ابن حزم×: =ولكل شيء فائدة، ولقد انتفعت بمحك أهل الجهل منفعة عظيمة، وهي أنه توقد طبعي، واحتدم خاطري، وحمي فكري، وتهيج نشاطي، فكان ذلك سبباً إلى تواليف لي عظيمة، ولولا استثارتهم نشاطي، واقتداحهم كامني ما انبعثت لتلك التواليف+(2).
وهذا الأديب الكبير عباس محمود العقاد يقول في صدد الحديث عن أساتذته، وعن استفادته منهم: =استفدت في مرحلة التعليم الابتدائي من أستاذين اثنين على اختلاف بينهما في طريق الإفادة؛ فإن أولهما قد كان قاصداً، والآخر أفادني على غير قصد منه، فحمدت العاقبة على الحالين.
كان أحد الأستاذين الشيخ فخر الدين محمد الدشناوي، وكان يميل إلى التجديد والابتكار في التعبير، ويمنح أحسن الدرجات للتلميذ المتصرف في مناحي الكلام، وأقلها للتلميذ الذي يقتبس من نماذج الكتب.
وكانت دروسه تلتهب حماسة ووطنية، ولها تأثيرها البليغ في نفوس التلاميذ، خصوصاً في زمن كانت تئن فيه البلاد من وطأة الاحتلال.
أما الأستاذ الثاني فمدرس الحساب+(3).
__________
(1) _ مدارج السالكين 2/335 .
(2) _ الأخلاق والسير ص48.
(3) _ ذكرياتي مع عباس العقاد، لطاهر الجبلاوي، إعداد عباس طاهر الجبلاوي ص25.(1/132)
ثم تحدث عن مدرس الحساب فقال: =كان يؤمن بالخرافات، وشفاعات الأولياء، وكان محدود الفهم في دروسه، ولا سيما المسائل العقلية في دروس الحساب+(1).
وبعد أن ذكر بعض المواقف مع ذلك الأستاذ قال: =ولكن الدرس الأكبر الذي أحسبه أكبر ما استفدته من جميع الدروس في صباي كان بصدد مسألة حسابية من تلك المسائل العقلية.
كنت شديد الولع بهذه المسائل، لا أدع مسألة منها دون حل مهما يبلغ من إعضالها.
وكان الأستاذ يحفظ منها عدداً كبيراً محلولاً في دفتره يعيده على التلاميذ كل سنة، وقلما يزيد عليه شيئاً من عنده.
وعَرَضَتْ في بعض الحصص مسألةٌ ليست في الدفتر، فعالَجْنا حلَّها في الحصة على غير جدوى، ووجب في هذه الحالة أن يحلها الأستاذ لتلاميذه فلم يفعل، وقال على سبيل التخلص: إنما عرضتها عليكم؛ امتحاناً لكم؛ لتعرفوا الفرق بين مسائل الحساب، ومسائل الجبر؛ لأنها تشتمل على مجهولين.
لم أصدق صاحبنا، ولم أَكُفَّ عن المحاولة في بيتي، وبقيت ليلة ليلاء حتى الفجر، وأنا أقوم وأقعد عند اللوحة السوداء حتى امتلأت من الجانبين بالأرقام، وجاء الفرج قبل مطلع النهار، فإذا بالمسألة محلولة، وإذا بالمراجعة تثبت لي صحة الحل، فأحفظ سلسلة النتائج وأعيدها؛ لأستطيع بيانها في المدرسة دون ارتباك أو نسيان.
قلت: لقد حللت المسألة.
قال الأستاذ: أية مسألة.
قلت: المسألة التي عجزنا عن حلها في الحصة الماضية.
قال: أو صحيح؟ تفضل، أرنا همتك يا شاطر!
وحاول أن يقاطعني مرة بعد مرة، ولكن سلسلة النتائج كانت قد انطبعت في ذهني؛ لشدةِ ما شغلتني، وطُوْلِ ما راجعتها، وكررت مراجعتها، وانتظرت ما يقال.
فإذا الأستاذ ينظر إليّ شزراً وهو يقول: لقد أضعت وقتك على غير طائل؛ لأنها مسألة لن تعرض لكم في امتحان.
__________
(1) _ ذكرياتي مع عباس العقاد ص25.(1/133)
وإذا بالتلاميذ يعقبون على نفحة الأستاذ قائلين: ضيعت وقتنا، ما الفائدة من كل هذا العناء؟+(1).
ثم عقب العقاد على هذا الحدث بقوله: =كانت هذه الصدمة خليقةً بأن تكسرني كسراً لو أن اجتهادي كان محلَّ شك عندي، أو عند الأستاذ، أو عند الزملاء.
أما وهو حقيقة لا شك فيه فإن الصدمة لم تكسرني، بل نفعتني أكبر نفع حمدته في حياتي، وصح قول (نيتشه): كل ما لم يقتلني يزيدني قوة.
لأني لم أحفل بعدها بإنكار زميل، ولا رئيس، وعلمت أن الفضل قيمته فيه، لا فيما يقال عنه أيا كان القائلون+(2).
بل إن كثيراً من العقلاء يتعلم من الحيوانات البهم أموراً تنفعه في معاشه، وأخلاقه، وصناعته، وحربه، وحزمه، وصبره.
قيل لرجل: من علمك البكور في حوائجك أول النهار لا تخل به؟
قال: من علَّم الطير تغدو خماصاً كل بكرة في طلب أقواتها على قربها وبعدها، لا تسأم ذلك، ولا تخاف ما يعرض لها في الجو والأرض.
وقيل لآخر: مَنْ علَّمك السكون، والتحفظ، والتماوت حتى تظفر بإربك، فإذا ظفرت به وثبت وثوب الأسد على فريسته؟
قال: الذي علم الهرة أن ترصد جحر الفأرة، فلا تتحرك، ولا تتلوى، ولا تختلج حتى كأنها ميتة، حتى إذا برزت الفأرة وثبت عليها كالأسد.
وقيل لآخر: من علمك حسن الإيثار والبذل والسماحة؟
قال: مَنْ عَلَّم الديك يصادف الحبة في الأرض، وهو يحتاج إليها ولا يأكلها، بل يستدعي الدجاج، ويطلبهن طلباً حثيثاً حتى تجيء الواحدة منهن، فتلتقطها وهو مسرور بذلك، طيب النفس به.
فإذا وضعت له الحب الكثير فرقه ههنا وههنا، وإن لم يكن له دجاج؛ لأن طبعه قد ألِفَ البذل والجود، فهو يرى أنه من اللؤم أن يستبد وحده بالطعام.
__________
(1) _ ذكرياتي مع عباس العقاد ص27 _ 28.
(2) _ ذكرياتي مع عباس العقاد ص28.(1/134)
وكذلك كرام الأسود وأشرافها يُتعلم منها الأنفة وعزة النفس؛ فهي لا تأكل إلاَّ من فريستها، وإذا مرت بفريسة غيرها لم تدن منها ولو جهدها الجوع(1).
ومن جميل ما ينبغي على النابغة في هذا الشأن أن يفيد من تجارب الآخرين؛ فالحياة كلها تجارب، واستفادة من التجارب، وميزة إنسان على إنسان، وأمة على أمة هي القدرة على الاستفادة من التجارب وعدمها؛ فالحادثة تمر أمام جمع من الناس فيستفيد منها أحدهم بمقدار مائة، وآخر بمقدار خمسين، وثالث تمر منه الحادثة على عين بلهاء، فلا يستفيد منها شيئاً؛ فكم من الناس من لهم أعين ولكن لا يبصرون بها، وآذان ولكن لا يسمعون بها، وقلوب ولكن لا يعقلون بها.
والفرق بين من يستفيد من التجربة ومن لا يستفيد أن الأول يستطيع أن ينتهز الفرص في حينها، وأن يتجنب الخطر قبل وقوعه، على حين أن الثاني لا ينتهز فرصة، ولا يشعر بالخطر إلاَّ بعد وقوعه.
وحينما تقرأ كتب التاريخ تقرؤها؛ لتستفيد من أعمال الناس، وما وقع لهم، وما صدر منهم، وما كان من نتائج أعمالهم، وتقرأ سير العظماء؛ لتتشبه بهم، وتدرك مواضع عظمتهم(2).
وأخيراً هذه همسة في أذن الموهوب وهي ألا يكثر من لوم أساتذته، أو أهل بيته، أو زملائه ممن يرى أنهم قصروا في حقه، ولم يقدروه قدره، أو يرعوه حق رعايته؛ فهؤلاء لم يعلموا بأنك موهوب، أو نابغة حتى يرعوك.
وقد يكون لديهم ما يشغلهم عنك، أو يكونون ممن لا يعنيهم نبوغك من عدمه.
رأيت من كان في ولايته وهو ملء السمع والبصر، لا تكاد تحظى منه بكلمة فضلاً عن مقابلة، أو إجابة دعوة؛ لكثرة أعماله، ودوام ارتباطاته.
وقد لا يلام على ذلك؛ فهذه طبيعة عمله؛ فإذا ما عزل، أو انتهت فترة خدمته تراه حرج الصدر، لهيف القلب، كاسف الوجه، ناكس الصدر، كثير الفراغ، دائم العتاب، تتناجى الهموم في صدره، فتقض مضجعه، وتؤرق جفنه.
__________
(1) _ انظر ذلك مفصلاً في شفاء العليل لابن القيم ص147_ 164.
(2) _ انظر فيض الخاطر 10/211.(1/135)
وإذا صحب ذلك مرضٌ زاد بلاؤه، وتوالت أحزانه.
ولا ريب أن للعزل بعد الولاية، وخمولِ الذكر بعد الشهرة وبُعْدِ الصيت _ أثرَه البالغ في النفس، فلا يحتمل ذلك إلا من كان ذا همة عالية، ومروءة صادقة، ونظر في العواقب بعيد.
قال عبدالعزيز بن زرارة الكلابي ×:
??كلاً بلوتُ فلا النعماء تبطرني ... ولا تخشعت من لأوائها جزعا
وقال ابن الجوزي ×: =من تلمح بحر الدنيا، وعلم كيف تتلقى الأمواج، وكيف يصبر على مدافعة الأيام _ لم يستهول نزول البلاء، ولم يفرح بعاجل رخاء+.
والذي تقتضيه الحكمة أن يوطن الإنسان نفسه على لزوم الاعتدال، وعلى حسن التعامل مع تلك الحال؛ بحيث يستحضر أن الأيام دول، وأن المنصب لو دام لغيره لم يصل إليه.
كما عليه ألا يستوحش من الوَحْدة، ولا يضيق ذرعاً بالفراغ، وإنما يبحث فيما يملأ فراغه من قراءة وكتابة، وتدوين خواطر وتجارب، وممارسة لبعض الرياضات التي تليق بحاله، وتعود عليه بالسرور، والصحة.
ومن ذلك أن يختار له صحبة فاضلة يختلف إليها، وتختلف إليه؛ ليتجاذب معها أطراف الحديث.
وإن خير ما يشغل فراغه، ويعود عليه بسعادة العاجلة والآجلة _ أن يَرْغَب إلى ربه _ جل وعلا _ بكثرة الذكر، والصلاة، وسائر القربات من صدقة، وبر، وصلة، وكثرة حج وعمرة، وأعمال خيرية ملائمة لحاله؛ فذلك هو العز بلا منصب، والغنى بلا مال، والسؤدد بلا عشيرة، ففي الله عوض عن كل شيء، وليس شيء عوضاً عنه _جل وعلا_.
هذا وإن مما يوصى من كان في منصب أن يبذل قصارى جهده في إتقان العمل، وإخلاص النية، وبذل الجاه والشفاعات فيما ينفع؛ فإذا كان كذلك ثم ترك العمل، أو عُزِل منه صارت حسناته وأياديه البيضاء تنمو، وتربو؛ فتتضاعف أجوره، ويتسلسل نفعه في حياته، وبعد مماته.(1/136)
أما إذا كانت الأخرى؛ حيث يجعل المنصب حِبَالَةً لأغراضه الخاصة، بحيث لا يتعدى نفعه إلى غيره، ولا تعنيه المصلحة العامة بحال من الأحوال _ فلا يلومن إلا نفسه إذا لقي الكنود والصدود من الناس.
ثم إن رحمة الله واسعة لمن أراد أن يستدرك ما فرط منه بالتوبة، والأوبة، وإصلاح ما أفسد بقدر المستطاع، وإن لم يستطع فإن عفو الله مأمول؛ فهو _عز وجل_ يتحمل التبعات، ويتجاوز عن السيئات.
وبالجملة فإنه يحسن بذي المروءة أن يلزم الاعتدال في حال ولايته وحال عزله؛ لأن الولاية قد تُحدث في الأخلاق تغيراً، وعلى الخلطاء تنكراً؛ إما من لؤم طبع، أو من ضيق صدر.
وكذلك العزل فإنه يسوء به الخلق _كما مر_ ويضيق به الصدر؛ إما لشدة أسف، أو لقلة صبر.
ولهذا قيل: =من تاه في ولايته ذل في عزله+.
وكان من مقومات صاحب المروءة ألا تطيش به الولاية في زهو، ولا ينزل به العزلُ في حسرة.
قال سالم بن قتيبة: =ما تكبر في ولاية إلا من كبرت عنه، ولا تواضع فيها إلا من كبر عنها+.
وقد كان للشافعي × صديق تولى إمرة بعض البلاد، فتغيرت عاداته عما كانت عليه، فكتب إليه الشافعي يقول:
??اذْهَبْ فَوِدُّك من فؤادي طالقٌ ... أبداً وليس طلاقَ ذاتِ البَيْنِ
فإذا ارعويت فإنها تطليقةٌ ... ويدوم ودُّك لي على ثنتين
وإذا رجعت شفعتُها بمثالها ... فتكون تطليقين في حيضين
ذ
وإذا الثلاث أَتَتْكَ مني بتةً ... لم تُغْن عنك ولاية السَيْبَيْنِ
قال يحيى بن الحكم: =والله لقد ولي الحجاج، وما عربي أحسن أدباً منه، فطالت ولايته، فكان لا يسمع إلا ما يحب، فمات وإنه لأحمق سيء الأدب+.
قد يكون الإنسان _بطبعه_ قليل الصبر، كثير التشكي، لا يحتمل أدنى أذى.
وقد يُفْطَر الإنسان على الصبر، والجلد، وقوة النفس، وتحمل الأذى.
ومع ذلك فقد تخور قواه، ويضعف جلده؛ إذ إن هذه الطباع قد لا تكفي في مقابلة الصعاب، والتعامل مع حوادث الحياة المختلفة إذا لم يسعَ المرء في تقوية نفسه، والرقي بطباعه.(1/137)
والذي يفيد في هذا الشأن أن يعَوِّد الإنسان نفسه على قوة الاحتمال، وترك الانزعاج العظيم للشيء الحقير، وأن يدربها على اكتساب تلك الخصال حتى تصبح ملكة في النفس أو تزيد ثباتاً ورسوخاً إذا كان ذلك من طبعها؛ فإذا كان الصانع يكتسب مهارته بالتمرين، والموظف يتقن عمله بالتمرين، والأخلاق الفاضلة أو المرذولة حسب الاستعداد والتمرين_ فكذلك الشأن في مقابلة الحياة بالحزن والألم، أو الابتهاج والسرور.
والنفس _بطبعها_ تهوى الثناء ولو كان بالباطل، وتنفر من النقد ولو كان بالحق، وترغب في الإخلاد إلى الراحة، وتهرب من الجد والعمل.
ولكنها _ بالتمرين، والنظر بالعواقب _ تألف ما يخالف هواها ولو كان لذيذاً، وتنزع إلى ما فيه مصلحتها في الآجل ولو كان مراً، وتحتمل ما يصيبها مما لا بد منه من الأذى.
ومن أجمل ما يعبر عن هذا المعنى قول موسى بن عبدالله بن علي بن أبي طالب:
??إذا أنا لم أقبَلْ من الدهر كلَّ ما ... تكرَّهتُ منه طال عَتْبي على الدهرِ
إلى الله كلُّ الأمر في الخلق كلهم ... وليس إلى المخلوق شيءٌ من الأمرِ
تعودْتُ مَسَّ الضرِّ حتى أَلِفْتُهُ ... وأسلمني طولُ البلاء إلى الصبر
ِ
ووسَّع صدري للأذى الأنسُ بالأذى ... وإن كنت أحياناً يضيقُ به صدري
وصيَّرني يَأسي من الناس راجياً ... لسرْعةِ لطف الله من حيثُ لا أدري
حدثني الشيخ محمد الموسى _مدير مكتب بيت سماحة الشيخ عبدالعزيز ابن باز ×_ أن سماحة الشيخ دخل المستشفى في يوم من الأيام لعارض عرض له، وقال: إن سماحة الشيخ قال: =إنني أول يوم دخلت فيه المستشفى جلست وحدي بعد الفجر فطال علي الوقت، وصار عندي ملل؛ لرغبته في الدرس والقراءة.
يقول: فجعلت أقرأ ما تيسر من القرآن، وأتذكر محفوظاتي من السُّنَّة، ومن ألفية ابن مالك، ومن غير ذلك+.
ولما اتصل عليه بعض المسؤولين في رئاسة الإفتاء، قال سماحة الشيخ: =هاتوا ما عندكم من المعاملات والكتب+ فلما قيل له: نريدك أن ترتاح.(1/138)
قال: =الراحة في العمل، والإنسان لا ينبغي أن يكون فارغاً؛ لأن الشيطان يتسلط عليه بخواطر السوء؛ فخيرٌ له أن يشغل نفسه بما ينفعه؛ كي لا تشغله نفسه بما يضره+. انتهى كلام الشيخ محمد الموسى _حفظه الله_.
فهذه الحادثة تعطي درساً في مواصلة العمل، والحذر من الركون إلى البطالة مهما كان مبلغ الإنسان من العلم والفضل؛ فهذا الشيخ عبدالعزيز× وهو هو فضلاً وعلماً وزهداً وورعاً ومع ذلك لم يركن إلى ذلك كله، بل أدرك أن الإنسان _أياً كان_ يعتريه ما يعتريه من الضعف، وتسلط النفس والشيطان؛ فكان يبادر إلى شغل نفسه بالخير حتى لا تشغله بالشر.
فالنفس _كما قال ابن القيم ×_: خلقت شبيهة بالرحى الدائرة التي لا تسكن، ولا بد لها من شيء تطحنه، فإن وُضع فيها حب طحنته، وإن وُضع فيها تراب أو حصىً طحنته؛ فالأفكار والخواطر التي تجول في النفس هي بمنزلة الحَبِّ الذي يُوضع في الرحى، ولا تبقى تلك الرحى مُعَطَّلَةً قَطُّ، بل لا بد لها من شيء يوضع فيها؛ فمن الناس من تطحن رحاه حباً يخرج دقيقاً ينفع به نفسه وغيره، وأكثرهم يطحن رملاً وحصىً وتبناً ونحو ذلك؛ فإذا جاء وقت العجن والخَبْزِ تبين له حقيقة طحينه.
ورحم الله الشيخ محمد الخضر حسين حيث قال في قصيدة عنوانها: (القلب كالرحى):
لا تخل نفسك من فكر تجول به ... في الصالحات فحبس الفكر يضنيها
والقلب إن لم يَدُرْ يوماً على رشد ... دارت عليه هموم عز راقيها
مثل الرحى إن تُدِرْها وهي خاويةٌ ... من الطعام فإن الطحن يرديها
لكل عبادة في الإسلام تؤدى على وجهها المشروع، أو بمعناها الحقيقي آثارٌ في النفوس تختلف باختلاف العابدين في صدق التوجه، واستجماع الخواطر، واستحضار العلاقة بالمعبود.
والعبادات إذا لم تعطِ آثارها في أعمال الإنسان الظاهرة، فهي عبادة مدخولة أو جسم بلا روح.
ومما يُلحظ على كثير منا، وفي كثير من أحوالنا أننا لا نحفل كثيراً بروح العبادة.(1/139)
والحديث _ههنا_ ليس في شأن من يُفَرِّط في الواجبات المفروضة؛ فَيُدْعى إلى فعلها، ويعاتب على تركها، بل هو حديث إلى من يبادر إلى النوافل بعد الفرائض، ويسارع إلى الخيرات؛ حيث تجد فئاماً من هؤلاء لا ينظر في روح العبادة، فتراه يقوم الليل، ويتصدق بجانب من ماله، ويصوم النفل، ويختلف كثيراً إلى البيت الحرام حجاً وعمرة.
ولكنه لا ينظر في أثر ذلك على قلبه، وزيادة إيمانه، وعلاقته بربه، واحتساب الأجر عنده.
وترى من هؤلاء _على سبيل المثال_ من إذا حج أو اعتمر كان همه الأكبر أن ينهي نسكه دون أن يستشعر عظم ما يقوم به، وأثر ذلك على قلبه؛ فينتهي من النسك وحاله هي هي.
واللائق بمن يريد سعادة العاجل والآجل أن يقبل على ربه بحضور قلب، واستحضار لشهود الله واطلاعه عليه، وحرصٍ على إيقاع العمل على أتم وجوهه، وأكمل صوره.
وهذا مقام عظيم يضاعف لأجله الثواب أضعافاً كثيرة، سواء كان ذلك في صلاة الإنسان، أو صدقته، أو صيامه، أو حجه، أو ذكره لله، أو قراءته للقرآن.
ومن أعظم ما يُعين على ذلك أن يستشعر المسلم عظمة العبادة، وفضائلها؛ فالعبادة في الإسلام هي الغاية المحبوبة لله، المرضية له التي خلق لأجلها الخلق وأرسل الرسل، وأنزل الكتب، ومدح القائمين بها، وذم المستكبرين عنها.
والعبادة في الإسلام لم تشرع للتضييق على الناس، ولا لإيقاعهم في الحرج، وإنما شرعت لحِكَمٍ عظيمة، ومصالح كثيرة، لا يحاط بعدّها وحصرها.
فمن فضائل العبادة: أنها تزكي النفوس، وتطهرها، وتسمو بها إلى أعلى درجات الكمال الإنساني.(1/140)
ومن فضائلها: أن الإنسان محتاج إليها أعظم الحاجة، بل هو مضطر إليها أشد الضرورة؛ فالإنسان بطبعه ضعيف، فقير إلى الله، وكما أن جسده بحاجة إلى الطعام والشراب _ فكذلك قلبه وروحه بحاجة إلى العبادة والتوجه إلى الله، بل إن حاجة قلبه وروحه إلى العبادة أعظم بكثير من حاجة جسده إلى الطعام والشراب؛ فإن حقيقة العبد قلبه وروحه _كما يقول ابن تيمية_ ولا صلاح لهما إلا بالتوجه إلى الله بالعبادة؛ فلا تطمئن النفوس في الدنيا إلا بذكر الله وعبادته، ولو حصل للعبد لذَّات أو سرور بغير الله فلا يدوم، وقد يكون ذلك الذي يتلذذ به لا لذة فيه ولا سرور أصلاً.
أما السرور بالله والأُنس به _عز وجل_ فهو سرور لا ينقطع ولا يزول؛ فهو الكمال، والجمال، والسرور الحقيقي؛ فمن أراد السعادة الأبدية فليلزم عتبة العبودية لله وحده؛ ولهذا فإن أهل العبادة الحقة هم أسعد الناس، وأشرحهم صدراً.
ولا يوجد ما يسكن إليه العبد، ويطمئن به، ويتنعم بالتوجه إليه حقاً إلا الله.
ومن فضائل العبادة: أنها تسهل على العبد فعل الخيرات، وترك المنكرات، وتسليه عند المصائب، وتخفف عليه المكاره، وتهون الآلام، فيتلقاها بصدر منشرح، ونفسٍ مطمئنة.
ومن فضائلها: أن العبد يتحرر بعبوديته لربه من رق المخلوقين، والتعلق بهم، وخوفهم، ورجائهم؛ وبهذا يكون عزيز الجانب، مرفوع الرأس، عالي القدر.
وأعظم فضائلها: أنها هي السبب الأعظم لنيل رضا الله، والفوز بالجنة، والنجاة من النار.
فإذا استحضر العبد هذه المعاني كان ذلك دافعاً له إلى استشعار روح العبادة، وإيقاعها على أحسن ما يكون.
أحياناً تطلب من أخ لك، أو قريب منك، أو أثيرٍ عندك _ أمراً ما، أو خدمةً في أي شأن، وقد تعودت منه المسارعة إلى مراضيك، والهَبَّة إلى إجابتك؛ فتجده يتقاعس، أو يكسل، أو يعتذر بأعذار قد لا تروقك.(1/141)
فماذا ستفعل حينئذٍ؟ ربما تحمل في نفسك عليه، وربما تبادره بالعتاب، وربما تهجره أو تتكدر عليه؛ فهذه هي الخيارات التي يأخذ بها كثير من الناس إذا مرَّت بهم تلك الحال.
ولكن هناك حالة هي أجدى نفعاً، وأطيب عائدة.
ألا وهي أن تدع هذه الحادثة تمر دون أن تتكدر على صاحبك، أو تنسى جميله السابق؛ فتلتمس له العذر، وتدرك أن التقصير وارد، وأنك ربما قصَّرت في حقه.
فإذا أخذت بذلك حفظت ودَّ صاحبك، وأزلت الوحشة من قلبه، وأمكنك الإفادة منه، والإبقاء على محبته.
أما إذا كانت الأخرى _ فربما أضعفت صلتك به، أو خسرته، وخسرت ما يأتيك من خير من قِبله دون فائدة أصلاً؛ وأعجز الناس من عجز عن اكتساب الإخوان، وأعجز منه من فرَّط فيمن ظفر به منهم.
ما أحسن أن يفي المرء بما يَعِدُ بِهِ، وأَحْسَنُ من ذلك أن يعجِّل به، وألا يكدره بمطل، أو تأجيل.
وما أجمل أن يعتذر المرء إذا لم يجد ما يُسعف به طالبَ الحاجة، أو لم يكن قادراً، أو مريداً لذلك.
وأقبِح بمن يَعِدُ وهو غير قادر على الوفاء؛ فتلك آفة تعتري نفراً من الناس؛ حيث يعلم من نفسه إذا تقدم إليه طالب حاجة أنه لن يستطيع القيامَ بتلك الحاجة.
ومع ذلك تجده يسوِّف، ويؤجل، ويَعِدُ صاحب الحاجة بالمواعيد المعسولة، ويمنيه بالآمال العراض إما تخلصاً من الإحراج، أو غير ذلك؛ فيبوء منه صاحبه بالخسارة المضاعفة؛ حيث لا يجد عنده بغيته، ولم يخبره بالحقيقة؛ فيجعله يسلك طريقاً أخرى؛ فينطبق على هذا المُخْلِف قول الأول:
إذا ما جئت أحمد مستميحاً ... فلا يغررك منظرُه الأنيقُ
له لطف وليس لديه عُرْفٌ ... كبارقةٍ تروق ولا تُريقُ
فما يخشى العدوُّ له وعيداً ... كما بالوعدِ لا يثق الصديقُ
وبعضهم أحسن حالاً من المُخْلِف، ولكنه مبتلىً بحب تردد الناس إليه؛ حيث تكون حاجة الطالب قريبة منه، وهو يريد إعطاءها إياه، ولكنه لا يرتاح حتى يردد طالب الحاجة مراراً.(1/142)
وهذا مما يكدِّر المعروف، ويُذلُّ طالب الحاجة، ويورثه الملل.
قال ابن عباس _رضي الله عنهما_: =لا يتم المعروف إلا بثلاث: بتعجيله، وتصغيره، وستره؛ فإذا عجَّله هنَّأه، وإذا صغره عظَّمه، وإذا ستره تمَّمه+.
وقال المثنى بن حارثة الشيباني: =لأن أموت عطشاً أحب إلي من أخلف موعداً+.
وقال بعض الحكماء: =وعد الكريم نقدٌ، ووعد اللئيم تسويفٌ+.
وقال زياد الأعجم زارياً على من يخلف:
لله درك من فتى ... لو كنت تفعل ما تقول
لا خير من كذب الجوا ... د وحبذا صدق البخيل
وقال آخر:
وإن جمع الآفات فالبخل شرُّها ... وشرٌّ من البخل المواعيد والمطلُ
وقال ابن حازم:
إذا قلت عن شيء: نعم، فأتمَّه ... فإن نعم دينٌ على الحرِّ واجبُ
وإلا فقل: لا، واسترح وأرح بها ... لئلا يظن الناسُ أنك كاذبُ
الإنسان في مقتبل عمره، وفي حال قلة تجربته، وممارسته _ يكثر نَقْدُه للأوضاع، ويقِلُّ رضاه وقناعته بما يتحقق من نجاحات.
وتراه مجنحاً في الخيال، مغرقاً في تطلب الكمال، مبالغاً في تصوير الأمور، معمماً حال إصداره الأحكامَ.
فإذا تكامل عقل المرء، وصقلته التجارب، وعركته الأيام، ووسمته بميسمها، وكان _مع ذلك_ ذا فطنة مستيقظة، تعتبر بتقلب الأحوال، وتنظر في عواقب الأمور _ كان أقرب للواقعية، وأكثر دقة في النقد، وأبعد عن التعميم، وأكثر رضاً بما يتحقق من نتائج؛ فهو يسعى للكمال، ولكنه لا يطالب بالمستحيل.
وصار من طبعه التماسُ العذر، والرحمةُ بالناس، والبعدُ عن كثرة العتاب، والحرص على النقد الهادف البناء.
أما إذا كان راضياً بحاله، غير ساع في تطوير نفسه، ولا معتبر بما يمر به في حياته _ فإنَّ مَرَّ الأيام لا يزيده إلا خموداً وركوداً، بل ربما تَكْبُرُ معه سيئاتُه ورعوناتُه.
ما أكثر ما في القرآن الكريم من الإشارات التي تفيد في طرد الهم، وجلب السعادة.(1/143)
والحديث في هذه الخاطرة عن آية في هذا الشأن، ألا وهي قوله _تعالى_ مخاطباً نبيه _عليه الصلاة والسلام_: [وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنْ السَّاجِدِينَ (98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ] الحجر.
فالنبي _عليه الصلاة والسلام_ يسوؤه إعراضُ المشركين، وصدُّهم عن الإيمان مع أنهم يرون أدلته كالشمس في رأْد الضحى، ويسوؤه ما يلقاه من السخرية، والأذى، ويسوؤه كونُ أكثرهم من عشيرته وقرابته، وممن يعرفون صدقه وأمانته، ويسوؤه _وهو الرؤوف الرحيم_ علمُه بمصيرهم إذا ماتوا على ذلك.
فهذه الأمور وغيرها من شأنها أن تضيِّق صَدْرَ النبي ".
ولكن الله _عز وجل_ في هذه الآية أرشده إلى ما يطرد به الهم، ويحل محله السرور والرضا؛ حيث أمره بخصوص، ثم عموم، ثم أعم، فأرشده إلى أمر يسير وهو ذكر الله وتسبيحه، وإلى الصلاة وهي أعم من الذكر المجرد، ثم أرشده إلى الإقبال على العبادة بمفهومها العام الشامل حتى يفارق الدنيا؛ ففي ذلك سلوته، وعزاؤه، بل فرحه، ونعيم قلبه.
فيا لها من وصفة عظيمة لو تدبرناها، وأخذنا بها.
في هذه السورة تعداد لمنن الله على موسى _عليه السلام_ وربما لم يُذكر في غيرها من السور أكثر مما ذُكر فيها من هذا القبيل؛ إذ لم تُذكر مجموعةً بهذا العدد في سورة كما ذُكرت في طه.
فمن تلك المنن الواردة في تلك السورة على سبيل الإجمال ما يلي:
1_ ذكر قصة موسى مجملة.
2_ ذكر مناجاة الله له.
3_ قوله _عز وجل_: [إِنَّنِيْ أَنَا اللهُ].
4_ قوله _عز وجل_: [وَأَنَا اخْتَرْتُكَ].
5_ قوله _عز وجل_: [فَاعْبُدْنِي].
6_ سؤاله عما في يمينه.
7_ أمره بالذهاب إلى فرعون.
8_ إجابتُه أدعيتَهُ العظيمةَ من قوله: [رَبِّ اشْرَحْ لِيْ صَدْرِيْ] الآيات.(1/144)
9_ ذكر منته _تعالى_ على موسى لما كان رضيعاً، وما كان من الإيحاء إلى أمه أن تقذفه في التابوت، وما صاحب ذلك من رعايته في أثباج البحر.
10_ قوله _تعالى_: [وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّيْ].
11_ قوله _تعالى_: [وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي].
12_ إرجاعه إلى أمه.
13_ إنجاؤه من الغم لما قتل النفس.
14_ فَتْنُه فتوناً.
15_ قوله _تعالى_: [وَاصْطَفَيْتُكَ لِنَفْسِي].
16_ قوله _تعالى_: [لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى].
17_ قوله _تعالى_: [لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الأَعْلَى].
18_ جعله البَحْرَ طريقاً يبساً لموسى وأصحابه، وإنجاؤهم من فرعون وقومه.
19_ إغراق عدوه وهو يرى.
20_ إنزال المن والسلوى على قومه.
21_ معاقبة السامري.
1_ سورة (البقرة) جامعة لكليات الدين، وأركان الإسلام والإيمان، ومجادلة أهل الكتاب.
2_ سورة (التوبة) تدور في مجملها حول النفاق، والمنافقين، والشرك، والمشركين.
3_ سورة (يوسف) تدور حول أصول الفضائل من الإيثار، والصبر، والعفة، والعفو، والحلم، والعدل، والتواضع، وإحسان الظن بالله، وانتظار فَرَجه، وأصول الدعوة فردية كانت أو جماعية.
4_ سورة (طه) تضمنت عدداً من المقاصد لعل أجلاها ذكر أصول السعادة؛ حيث ذكر في مفتتحها قوله _تعالى_: [طه (1) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى] ثم ذُكرت تفاصيل السعادة في تضاعيفها كتوحيد الله، والدعوة إلى سبيله، والإكثار من ذكره.
ثم أُجملت في آخرها في قوله _تعالى_: [فَمَنْ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى].
5_ سورة (الأنبياء) تدور في مجملها حول تقرير النبوات، وأصول دعوة الأنبياء.
6_ سورة (الحج) تدور حول تقرير التوحيد، ومناسك الحج، وتعظيم حرمات الله، وشعائره.(1/145)
لقد حظيت السيرة النبوية بما حفلت به من أقوال، وأفعال، وتقريرات بعناية العلماء قديماً وحديثاً.
ولقد كتب العلماء قديماً في السيرة وكانت كتاباتهم تحمل طابعاً يناسب عصورهم، ويناسب _كذلك_ كثيراً ممن جاء بعدهم، وتصلح لأن تكون مادة ومراجع أصيلة للسيرة.
غير أن هناك كثيراً من المسلمين في العصر الحديث يرغبون عن تلك الأساليب القديمة، ويرغبون في كتاباتٍ معاصرة تُكْتَبُ بأسلوب ملائم، وتعالج قضايا استجدت في موضوع السيرة.
ومن هنا قام كثير من الكتاب بتقديم دراسات في السيرة، فأدوا دوراً طيباً، وآثاراً حسنة في نفوس المسلمين.
ولكن تلك الكتابات لم تكن على وتيرة واحدة من جهة تقديرها للوحي، والغيبيات، والمعجزات، ومقام النبوة عموماً.
كما أنها لم تكن على نحوٍ واحد من جهة اختلاف توجهات أصحابها، وأهدافهم من كتابة السيرة، والمقام لا يسمح بمزيد من التفصيل.
وعلى كل حال فإن مناهج الباحثين في السيرة النبوية يمكن حصرها في ثلاثة:
المنهج الأول: منهج المبالغين الغالين: الذين يضفون على النبي" صفات لا تليق إلا بالله _عز وجل_.
فهؤلاء يبالغون في إطرائه ولا يبالون في صحة ما يرون أو ينقلون، ولايعتمدون على القرآن الكريم، والمصادر الأصيلة من كتب السنة والسيرة.
ولا يمتري عاقل أنه لا أفسد للتاريخ والسير من تلك الروايات المحلقة في سماء الخيال، والتي تنقل الحياة البشرية من عالم الواقع إلى جو الأساطير.
وليست هناك حياة كانت على الأرض هي أغنى بواقعها المجرد من حياة سيد الخلق محمد ".
فهي حياة تنطق كل حركة منها، ويشهد كلُّ موقف من مواقفها بأنها حياة بلغت في السلوك البشري حد الإعجاز.(1/146)
وإن خصائصه ومعجزاته التي نطقت بها آيات الكتاب المجيد، والسنن الصحيحة، والآثار المعتبرة لهي من الكثرة والوفرة بحيث لا تحتاج إلى تلك الزيادات التي يمجها الذوق السليم، وتعافها الفطرة السوية، والتي لا يشهد لها سند صحيح، ولا نقلٌ مُوثَّق، بل عامتها من وضع الزنادقة والمنحرفين(1).
المنهج الثاني: منهج الباحثين الغربيين ومن سار على طريقتهم: فهذا المنهج يسلكه أغلب المستشرقين ومن شاكلهم من الكتاب والمفكرين المنتسبين للإسلام.
فهؤلاء إذا تناولوا السيرة بالبحث والدراسة تعاملوا معها كما يتعاملون مع سيرة أي زعيم، أو بطل، أو قائد، أو فاتح؛ فيتحدثون عن النبي"كما يتحدثون عن هؤلاء، ويصفونه بالبطل، أو العبقري، أو الزعيم أو نحو ذلك من الألقاب التي لا تغني عن مقام النبوة.
وتراهم يتحدثون عن سيرته _عليه الصلاة والسلام_ حديثاً مادياً بحتاً مجرداً دون ربط لها بالوحي والغيب، والتأييد الإلهي، وكأنهم يتحدثون عن سيرة نابليون، أو هتلر، أو موسوليني.
ولا ريب أنهم قد يثنون على النبي " ويصفونه بأوصاف كبيرة، ويفضلونه على غيره.
ولكن الخطورة تكتنف هذا المنهج من جهة قطعه عن الصلة بالله، وعن الإيمان بالغيب؛ فتراهم ينكرون عدداً من المعجزات الثابتة بصريح القرآن، ومتواتر السنة، كنزول الملائكة في بدر، وطير الأبابيل، وشق صدر النبي"، والإسراء.
وترى بعضهم يرى أن (اقرأ) كانت مناماً، وأن الإسراء سياحة الروح في عالم الرؤى، ويَصِفُ الملائكة الذين أمد الله بهم المسلمين في غزوة بدر بالدعم المعنوي، ووصف الطير الأبابيل بداء الجدري، وأن شق الصدر كان شيئاً معنوياً، وأن لقاء جبريل بالنبي " في غار حراء كان مناماً، إلى غير ذلك مما جاء في ذلك السياق.
__________
(1) _ انظر مقدمة د. محمد خليل هراس على الخصائص الكبرى للسيوطي 1/4.(1/147)
وهكذا تُفرَّغ سيرة النبي " من الحقائق الغيبية، والمعجزات، والخوارق التي لا يمكن أن تتنافى في جوهرها مع حقائق العلم وموازينه التي يدَّعون أنهم يسيرون على وفْقها؛ لأن الله هو خالق النواميس، وهو القادر على خرقها متى شاء.
وربما استروح بعض أصحاب هذا المنهج إلى إحياء الأساطير في سيرة النبي "(1).
المنهج الثالث: وهو المنهج الصحيح: وهو الذي أنكر منهج الغلو والمبالغة في إطراء النبي " كما أنكر الأسلوب المادي الفلسفي في دراسة السيرة.
فالمنهج الصحيح هو الذي يقوم على الأصالة والسلامة، وهو الذي يعتمد في دراسة السيرة، واستلهام العبر منها على القرآن الكريم، والمصادر الأصيلة الصحيحة من كتب السنة والسيرة دون مبالغة في إطراء النبي " وإخراجه عن وصف العبودية في أعلى مقاماتها، ودون غمط لمقام النبوة الذي يعلوا به على سائر البشر.
وهو المنهج الذي يقوم _أيضاً_ على الإيمان بالغيبيات، والمعجزات، والأخبار القطعيات.
فهذا هو المنهج الحق، وإن كان أصحابه يتفاوتون في جودة الطرح، وقُوَّته، وعمقه.
السيرة النبوية حافلة بالأسرار، مليئة بالعبر، ولا يمكن لأحد مهما أوتي من البيان والعلم أن يعطي السيرة حقها، أو أن يتقصَّى كامل أسرارها.
ولعل من أعظم أسرار سيرة نبينا محمد " أنها تمتاز عن سير سائر العظماء بأنها لا تُسْتَنْفَد مهما كتب فيها من كتب؛ فسير العظماء _على الجملة_ يقوم بأمرها، ويغني في شأنها أن تكتب مرة أو مرات، ثم تستنفد معانيها، ويصير الحديث فيها معاداً مكروراً تغني فيه أعمال الأسلاف عن محاولات الأخلاف.
__________
(1) _ انظر البحث القيم الذي قدمه الأستاذ أنور الجندي لمؤتمر السيرة النبوية _ في مقدمة تحقيق كتاب (سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد) للإمام محمد بن يوسف الصالحي الشامي، تحقيق وتعليق الشيخين: عادل عبدالموجود، وعلي محمد معوض 1/17_35.(1/148)
أما سيرة نبينا محمد " فلقد عُني المؤرخون والرواة بها منذ صدر الإسلام حتى يومنا هذا، وصدر فيها كثير من الكتب في عدة لغات، ومع ذلك لم تخْلَق جِدَّتُها، بل إنها لتزداد _على كثرة ما يكتب فيها_ جِدَّة وَرُوَاءً.
ولقد عُنِيَ المؤمنون وغير المؤمنين بالسيرة عناية تختلف من حيث الحقيقة والخرافة، ومن حيث الإنصاف والجور.
والسيرة الشريفة _مع هذه العناية المتصلة_ جديدةٌ خصبة، ملهمة موحية؛ لأنها الترجمة الحية العملية لمبادئ الإسلام العليا، فهي تتراءى للعقول والنفوس قوية مشرقة لم يُبلِ جِدَّتها تقادمُ العهد، ولا تطاول الزمان.
ولعل من صلاة الله على نبيه أن أوزع الناس هذه العناية بسيرته سواء منهم من أقرَّ به، أو من أنكر نبوته؛ لأنه " نور، ومن عرف النور فقد شهد لنفسه بالاستبصار، ومن أنكره فقد شهد على نفسه بالعمى، والنور على الحالين نور.
وقد رفع الله ذكر محمد، فقرن اسمه باسمه في الأذان والصلوات، ووصفه في أكثر من موضع من القرآن بصفات تجعله في المرتبة التي لا تُنال.
وليس مصدرُ العناية بالسيرة إرضاءَ حاجةِ العلم والدرس فحسب؛ فحاجات المؤمنين إلى هذا الينبوع من الحب والهدى أشد من حاجات العلماء إلى البحث والدرس، وكلُّ من في قلبه نفحة إيمان يجد نفسه مهما فرّط في الدِّين مشدوداً إلى محمد، راغباً في أن تزداد هذه العلاقة وثاقة.
وحب رسول الله من حب الله، فليس محمد _على شأنه الأجل_ إلا بشراً رسولاً(1).
__________
(1) _ انظر مقدمة الأستاذ محمد فتحي عبدالمنعم لكتاب محمد رسول الله للعلامة أحمد تيمور باشا ص14_16.(1/149)
ومن أعظم أسرار السيرة النبوية أن لها أبلغَ الأثر في تقويم السلوك، وتربية العواطف الشريفة؛ فإنها المرآة التي تنعكس منها تلك الصورة التي تعد _بحقٍّ_ أرقى صورة للحياة البشرية؛ حيث كان النبي محمد _عليه الصلاة والسلام_ يرسم بأقواله، وأعماله، وسائر تصرفاته _ القدوة العليا التي يجب أن تهدف إليها جهود البشر في سيرهم نحو الكمال المنشود.
إن ثلاثة وعشرين عاماً هي جملة السنين التي عاشها محمد " نبياً رسولاً قد لا تكون في مقياس الزمن شيئاً مذكوراً إذا قيست إلى ما قضته البشرية من حقب متطاولة، وأجيال متعاقبة.
ولكنها في مجال التربية، والإصلاح، ورسم قواعد السلوك البشري الفاضل، ووضع المعالم، والحدود لحياة الإنسان كما يحب رب الإنسان، وبما يحقق الغاية من وجوده، ويكفل لها الحياة السعيدة الكريمة _ لأرجح في الميزان من كل ما غَبَر من حقب وأجيال؛ ذلك أن بركات هذا النبي لا تكاد تحصر ولا تحصى(1).
وإن منها لبركة الوقت التي نال أمته منها أوفر الحظ والنصيب؛ فنالت من الأعمال، والعلوم، والأخلاق، والحكمة _في وقت قصير_ ما لم تنله أمة من الأمم.
ومن أعظم ما امتازت به سيرة النبي " أنها معلومة للناس بجميع أطوارها، متجلية لهم دخائلها من كل مناحيها.
ولا ريب أن ذلك من أعظم أسرار عظمتها وخلودها؛ إذ لا يصح أن تكون سيرة أحد من الناس قدوة لغيره إلا أن تكون واضحة معلومة منزهة عن العيوب والمثالب.
ولقد ضبط العلماء سيرته _عليه الصلاة والسلام_ وأتوا على دقائق قد لا تخطر بالبال.
ولو استعرض القارئ فهرس أحد الكتب التي اعتنت بسيرته وشمائله لوجد ذلك واضحاً جلياً(2).
__________
(1) _ انظر مقدمة الدكتور محمد خليل هراس على الخصائص الكبرى للسيوطي 1/3_4.
(2) _ انظر الرسالة المحمدية للسيد سليمان الندوي ص102_104.(1/150)
ولهذا فإنه _عليه الصلاة والسلام_ لم يكن ليتحرج من نقل ما يقوم به من أعمال حتى في داخل منزله؛ فترى _من جراء ذلك_ كثرة الأحاديث التي ترويها أمهات المؤمنين عن النبي ".
ولم يكن ذلك إلا لأن سِرَّه كعلانيته، وظلمةَ ليلِه كضوء نهاره؛ فسيرته معلومة منذ ولادته إلى ساعة وفاته.
ومن أعظم أسرار السيرة النبوية أن الحملات الخاطئة الكاذبة التي تريد النيل من مقام النبوة الأعظم _ تكون سبباً في بعث فضائل النبي " وتجددها في الناس على حد قول أبي تمام:
وإذا أراد الله نشر فضيلة ... طويت أتاح لها لسانَ حسود
وفضيلة النبي " لم تطوَ، وإنما تتجدد، وتتلألأ كالبدر في سماء صاحية، وكالشمس في رائعة النهار.
قال الله _عز وجل_: [لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15)]. سبأ
قيل في تفسيرها: كان لكل رجل منهم في مسكنه جنتان جنة عن يمين المسكن وجنة عن يساره، فكانوا يتفيؤون ظلالهما في الصباح والمساء، ويجتنون ثمارها من نخيل، وأعناب، وغيرها.
وقيل: وكانت مدينتهم محفوفة عن يمينها وشمالها بغابة من الجنات يصطافونها، ويستثمرونها.
بل قيل: إن السائر لو وضع على رأسه مكتلاً لوجده قد مُلئَ ثماراً مما يسقط من الأشجار التي يسير تحتها.
وكان من تمام نعمتهم أن يسَّرَ الله لهم الأسفار، وعمران الديار، وكانوا إذا خرجوا من مأْرب إلى البلاد الشامية قوافل للتجارة، وبيع الطعام سلكوا طريق تهامة، ثم الحجاز، ثم مشارف الشام، ثم بلاد الشام، فكانوا كلما ساروا مرحلة وجدوا قرية أو بلداً أو داراً للاستراحة وتزودوا؛ فكانوا من أجل ذلك لا يحملون معهم أزواداً إذا خرجوا من مأرب.
وكانوا يسيرون غدواً وعشياً، فيسيرون في الصباح، ثم تعترضهم قرية فيريحون فيها ويَقِيْلون، ويسيرون في المساء، فتعرضهم قرية يبيتون بها.(1/151)
فمعنى [سِيْرُوا فِيْهَا لَيَالِيَ وأَيَّامَاً آمِنِيْن] أي سيروا كيف شئتم.
ولكنهم _مع ذلك كله_ لم يشكروا نعمة الله، بل أعرضوا، وقالوا [رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا].
وقد درج المفسرون على أنهم دعوا الله بذلك؛ فلم يقدروا نعمة الله العظيم قدرها؛ فسألوا الله أن تزول تلك القرى العامرة؛ ليسيروا في الفيافي، ويحملوا الأزواد من الطعام والشراب.
ثم يحتمل _كما يقول ابن عاشور_ أن يكون أصحاب تلك المقالة ممن كانوا أدركوا حال تباعد الأسفار في بلادهم قبل أن تؤول إلى تلك الحضارة، أو ممن كانوا يسمعون أحوال الأسفار الماضية في بلادهم، أو أسفار الأمم البادية، فتروق لهم تلك الأحوال.
وهذا من كفر النعمة الناشئ عن فساد الذوق في إدراك المنافع وأضدادها؛ لذا كانت النتيجة [فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ].
فصار أولئك القوم الذين يعيشون في بحبوحة من العيش أحاديث، أي لم يبق منهم أحد، فصار وجودهم في الأخبار والقصص؛ حيث تفرقوا بعد سيل العرم؛ فكان ذلك مُسْرِعاً فيهم بالفناء بالتغرب في الأوطان، والفاقة، وتسلط العوادي في الطرقات، حتى ضربت العرب بهم المثل في قولهم: ذهبوا أو تفرقوا أيدي، أو أيادي سبأ، كما قال ذو الرمة:
فيا لك من دار تفرق أهلها ... أيادي سباً عنها وطال انتظارها
والمقصود مما سبق إيراده من هذه القصة هو التنبيه على أمر يقع فيه بعض الناس من المسلمين ممن أدركوا شظف العيش، وشدة الفاقة، وتباعد الأسفار؛ فمنَّ الله بعد ذلك على الناس بوفرة المال، ورغد العيش، وكثرة وسائل الرفاهية، والمواصلات، وما جرى مجرى ذلك؛ فتجد من الناس من يتلهف على ماضيه، وسالف زمانِه.
والحنينُ إلى الماضي مروءة، قال ابن عبدالبر ×: =قيل لبعض الحكماء: بأي شيء يُعرف وفاء الرجل دون تجربة أو اختبار؟ قال: بحنينه إلى أوطانه، وتلهفه على ما مضى من زمانه+.(1/152)
وما أجمل أن تذكر الحالة السابقة حتى ينبعث الإنسان إلى مزيد من الشكر.
ولكن الذي يحصل _أحياناً_ أن تُذْكَرَ الحالةُ الماضيةُ مصحوبة بشيء من التنكر للنعمة الحاضرة؛ فتجد من يقول: هذه النعمة تسببت في الغفلة، والقطيعة، فياليت حالنا الأولى ترجع؛ حتى تعود الألفة، والترابط.
وقد يقول مثل ذلك مَنْ أبطرتْهُمُ النعمة، فتراهم يملُّون حياةَ الدعةِ، والراحة؛ فيقولون بمثل المقالة السابقة.
ولا ريب أن ذلك ضرب من الجهل، والتشبهِ بالذين مرَّ ذِكْرُهم في الآية.
وإلا هل يريد أولئك أن ترجع إليهم حياة الجوع، والفقر، والمرض، والسلب؟
أليس تيسُّرُ السبل، ووجود الكهرباء، ونعمةُ المساكن، وتوافر الدواء، وكثرة وسائل الاتصال _ من أعظم ما يبعث على الراحة، والطمأنينة، والأمن، والتفرغ للعبادة بمفهومها الشامل لمن أراد الآخرة، وسعى لها سعيها؟
فاللائق بالإنسان إذا كان في كل ضيق أن يتعبد الله بالصبر؛ فتلك عبودية الضراء، وإذا وسع له في الرزق أن يزيد من الشكر؛ فتلك عبودية السراء.
ولهذا انظر إلى الآيات السابقة كيف خُتمت بخاتمة عجيبة؛ حيث جمعت بين وصفين عظيمين قال _تعالى_: [إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ].
والجمع بين هذين الوصفين لإفادة أن واجبَ المؤمنِ التخلقُ بهذين الخلقين، وهما الصبر على المكاره، والشكر عند النعم.
فالصبار يعتبر من تلك الأحوال؛ فيعلم أن الصبر على المكاره خير من الجزع، ويرتكب أخف الضررين، ولا يستخفه الجزع، فيُلقي بنفسه إلى الأخطار، ولا ينظر في العواقب.
والشكور يعتبر بما أُعطي من النعم؛ فيزداد شكراً لله _تعالى_ ولا يَبْطَر النعمةَ، ولا يطغى؛ فيعاقب بسلبها كما سُلبت عن سبأ.
قرأت في كتاب الحديقة للشيخ محب الدين الخطيب × بيتين لشاعر لم أسمع به قبل ذلك، اسمه أحمد عبيد، يقول فيها:
بحثت عن الأديان في كل أمة ... وطفت بلاد الله غرباً ومشرقاً(1/153)
فلم أر كالإسلام أدعى لألفة ... ولا مثل أهليه هوىً وتفرقاً
فوجدت أن هذين البيتين يصوران الإسلام، وأهله في العصور المتأخرة أبلغ تصوير، فلو أجلت النظر في نصوص الوحيين لوجدتها حافلة بالأوامر الصريحة القطعية في وجوب الاجتماع، والتحذير من الافتراق.
وإذا نظرت في أحوال المسلمين رأيت العجب العجاب من جهة بعدهم عن هذا الأصل العظيم؛ فتراهم شَذَرَ مَذَرَ؛ حيث الفرقة، والخلاف، والتنازع، والتدابر، والابتداع.
وليس ذلك على مستوى الأمة بِفِرَقها التي تبعد عن السنة والمنبع الأول فحسب، بل إن ذلك ليشمل أهل السنة المحضة الذين هم نقاوة المسلمين، وخاصتهم.
وإذا بحثتَ عن أسباب تلك الفُرْقَة وجدتها كثيرة، فمنها نسيانُ الناس حظاً مما ذكروا به، وقد جرت سنة الله أن من كانوا كذلك أغرى الله بينهم العداوة والبغضاء بحسب نسيانهم.
ومنها البغي، والظلم، والحسد، والتنازع، والهوى.
ومنها تسلط الشيطان الذي أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب، ولكن في التحريش بينهم.
ومنها ضيق الصدر، وقلة العلم والحلم؛ لأن الإنسان كلما اتسع علمه اتسعت رحمته وحلمه.
ومنها كيد الأعداء الذين يعملون ليل نهار في سبيل تقطيع أوصال الأمة.
ومنها التعصب الأعمى، والجهل في عواقب الفرقة، وفضائلِ الاجتماع والألفة، وقلةُ المبادرات في سبيلِ رأبِ الصدع، وجمعِ الكلمة.
ومع هذا كله فإن الأمة بخير، وفيها من هو قائم بالعدل، متبع للسنة، بعيد عن الفرقة، لا يزالون على الحق ظاهرين لا يضرهم من خالفهم، ولا من خذلهم.
وإذا بحثت عن سبل الألفة والاجتماع وجدتها كثيرة جداً، والقرآن والسنة حافلان بذلك؛ فمنها: الاعتصام بالكتاب والسنة، والحذر من التنازع، ولزومُ العدل، واستشعار الأخوة الإيمانية، ونحو ذلك من أضداد ما مضى ذكره من أسباب الفرقة.(1/154)
هذا وإن من أعظم أسباب الألفة، وتضييق هُوَّةِ الفرقة _ حُسْنَ التعامل مع الخلاف والردود خصوصاً في وقت النوازل والفتن؛ فربما يحصل في تلك الأحوال اختلاف في النظرة إليها من قبل بعض أهل العلم وربما يحصل خلافٌ حول أمر ما؛ فيحسن _ والحالة هذه _ أن تنشرح صدورنا لما يقع من الخلاف؛ فما من الناس أحد إلا وهو راد ومردود عليه، وكلٌّ يؤخذ من قوله ويرد إلا الرسول ".
ويجمل بنا أن نحسن الظن بأهل العلم والفضل إذا رد بعضهم على بعض، وألا ندخل في نياتهم، وأن نلتمس لهم العذر.
وإذا تبين لنا أن أحداً من أهل العلم والفضل أخطأ سواء كان راداً أو مردوداً عليه فلا يسوغ لنا ترك ما عنده من الحق؛ بحجة أنه أخطأ.
وإذا كنا نميل إلى أحد من الطرفين أكثر من الآخر؛ فلا يجوز لنا أن نتعصب له، أو نظن أن الحق معه على كل حال.
وإذا كان في نفس أحدٍ منا شيء على أحد الطرفين _ فلا يكن ذلك حائلاً دون قبول الحق منه.
قال ربنا _ جل وعلا _:[وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى](الأنعام:152).
وقال:[وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى] (المائدة:8)، وقال:[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ](النساء: 135).
وإذا كان لدينا قدرة على رأب الصدع، وجمع الكلمة، وتقريب وجهات النظر فتلك قربة وأي قربة.
قال الله _ عز وجل _: [لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً] (النساء:114).(1/155)
وإذا لم نستطع فلنجتهد بالدعاء والضراعة إلى الله أن يقرب القلوب، ويجمع الكلمة على الحق، ولنحذر كل الحذر من الوقيعة بأهل العلم، أو السعاية بينهم، ولنعلم بأنهم لا يرضون منا بذلك مهما كان الأمر.
وإذا سلَّمَنا الله من هذه الردود، فاشتَغل الواحد منا بما يعنيه _ فهو خير وسلامة _إن شاء الله تعالى _.
والذي يُظَنُّ بأهل الفضل سواء كان الواحد منهم رادَّاً أو مردوداً عليه _ أنهم لا يرضون منا أن نتعصَّب لهم أو عليهم تفنيداً، أو تأييداً بل يرضيهم كثيراً أن نشتغل بما يرضي الله، وينفع الناس، ويؤسفهم كثيراً أن تأخذ تلك الردود أكثر من حجمها، وأن تفسر على غير وجهها.
هذا وإن العاقل المحب لدينه وإخوانه المسلمين ليتمنى من صميم قلبه أن تجتمع الكلمة، وألا يحتاج الناس أو يضطروا إلى أن يردوا على بعض، وما ذلك على الله بعزيز، ولكن:
فيا دارها بالحزن إن مزارها ... قريب ولكن دون ذلك أهوال
فمن العسير أن تتفق آراء الناس، واجتهاداتهم، ومن المتعذر أن يكونوا جميعاً على سنة واحدة في كل شيء، ومن المحال أن يُعْصَم الناس فلا يخطئوا.
ثم ليكن لنا في سلفنا الكرام قدوة؛ فهم خير الناس في حال الوفاق وحال الخلاف؛ حيث كانوا مثالاً يحتذى في الرحمة، والعدل، والإنصاف حتى في حال الفتنة والقتال.
ولا ريب أن هذه المعاني تحتاج إلى مراوضة للنفس كثيراً، وإلى تذكيرها بأدب الإنصاف، وإنذارها ما يترتب على العناد والتعصب من الإثم والفساد.
وإذا استقبلنا الخلاف والردود بتلك الروح السامية، والنفس المطمئنة صارت رحمةً، وإصلاحاً، وتقويماً، وارتقاءً بالعقول، وتزكية للنفوس.
وبهذا نحفظ لرجالنا، وأهل العلم منا مكانتهم في القلوب، ونضمن _ بإذن الله _ لأمتنا تماسكها وصلابة عودها، ونوصد الباب أمام من يسعى لتفريقها والإيضاع خلالها.(1/156)
والعجيب أن ترى أن اثنين من أهل العلم قد يكون بينهما خلاف حول مسألة أومسائل، وتجد أتباعهما يتعادون، ويتمارون، وكل فريق يتعصب لصاحبه مع أن صاحبي الشأن بينهما من الود، والصلة، والرحمة الشيء الكثير!
وأخيراً لنستحضر أن ذلك امتحان لعقولنا وإيماننا؛ فلنحسن القول، ولنحسن العمل، ولنجانب الهوى.
تعجب أشد العجب من كثير من المتخاصمين الذين يَرُدُّ بعضهم على بعض سواء عبر الكتب، أو الصحف والمجلات؛ حيث يستطيع الواحد منهم أن يقابل المخالف له، أو يتصل به، ثم لا يحصل شيء من ذلك.
وقل مثل ذلك في حقِّ من يكون بينهم مشكلة، أو عداوة؛ فينال كل واحد منهم نيله من الآخر.
ولو حصل اللقاء، وأُحيط بجوٍّ من الإخاء، وحسن الظن، وسماع كل طرف من الآخر _ لحصل خير كثير، ولربما خفَّت حدَّةُ الخلاف، أو تلاشت؛ لأن اللقاء _كما يقول ابن حزم×_ يُذهب السخائم.
ولكن الذي يحصل خلاف ذلك؛ حيث يستمر التنازع مدة طويلة دون وصولٍ إلى نتيجة، فيُشغل الناسُ بتلك الردود، وتتسع هوة الخلاف، وتدخل الأغراض الشخصية.
والأعجب من ذلك ألا ينبري _في الأغلب_ من يوقف ذلك النزيف، ويضمد تلك الجراح، ويدعو الأطراف إلى كلمة سواء.
ولو حصل ذلك لكان خيراً وأشد تثبيتاً.
اعتاد الناس إذا تحدثوا عن ماضيهم ولو كان قريباً أن يفضلوه على الحاضر بإطلاق؛ وذلك لحبهم الماضي، وحنينهم إليه.
والحنين للماضي _في الجملة_ معدود في خصال المروءة.
ولكن تفضيل الماضي على الحاضر بإطلاق ليس دقيقاً، ولا منضبطاً، ولا مطابقاً للواقع بكل حال.
وأذكر أن الحديث في يومٍ ما دار حول رمضان في الماضي والحاضر، وهل رمضان الآن خير مما كان في الماضي أو العكس؟
فكانت الإجابة المتوقعة أن يُقال: إن رمضان في الماضي خيرٌ منه في الحاضر.
ولا يُقصد _بالطبع_ برمضان ما كان عليه السلف الأوائل، وإنما المقصود به ههنا ما كان قبل سني الطفرة، أو بعد منتصف القرن الرابع عشر الهجري.(1/157)
وإذا أراد الإنسان النظر إلى هذا الأمر باعتدال، وشمول، ونظرة معتمدة على الواقعية _ فسيرى أن لرمضان السابق بعض المميزات؛ حيث كان أكثر هدوءاً، وأقل صخباً، والناس كانوا أقرب إلى البساطة، وأبعد عن الكلفة.
أما الآن فإن رمضان _وخصوصاً في الليل_ أكثر صخباً، وضجيجاً، بحكم كثرة الملهيات والمغريات.
غير أن ذلك لا يغمط رمضان في السنين المتأخرة حقه؛ حيث يمتاز عما كان عليه في الماضي بميزات كثيرة منها: إقبال الناس على صلاة التراويح والقيام؛ فتجد أن المساجد تكتظ بالمصلين على اختلاف طبقاتهم، رجالاً، ونساءًَ، شباباً، وكهولاً، وشِيباً.
وكذلك يُلاحظ كثرة المعتمرين والمصلين في المسجد الحرام، والمسجد النبوي، وشتى بقاع العالم الإسلامي.
على حين كانت المساجد قبل ثلاثين سنة خاوية لا يصلي فيها التراويح إلا عدد قليل من كبار السن.
وكذلك نجد العناية بصيام الصغار في هذه الأزمنة أكثر من ذي قبل.
بل حتى صيام النفل كصيام الست، ويوم عرفة، وعاشوراء، وأيام البيض، حتى إنك لتشعر في أيام عرفة وعاشوراء وكأنك في شهر رمضان من كثرة الصائمين، وما ينجم عن الصيام من سكينة ووقار.
على حين كان من الناس في الزمن الماضي من قد لا يصوم شهر رمضان.
ومن المظاهر الطيبة التي زاد انتشارها والعناية بها تفطير الصائمين، والعناية بالعمال، والفقراء، والجاليات.
وللقائمين على تلك الأعمال طرق شتى في ذلك كالإفطار في المساجد، والطرق العامة، ومراكز توعية الجاليات، وفي كثير من بيوت المحسنين.
ومن المظاهر الطيبة _أيضاً_ كثرة الكلمات والمواعظ التي تُلقى في المساجد، وعبر وسائل الإعلام مما يفيد عامة المسلمين، ويشرح لهم أحكام الصيام، وآدابه، ونوازله.
وقل مثل ذلك في تأليف الكتب، والنشرات.(1/158)
ومن المظاهر الطيبة كثرة الحَفَظة المتقنين الذين يؤمون الناس من ذوي الأصوات الطيبة، والأداء الحسن الذين يعينون الناس على أداء صلاة التراويح والقيام، وعلى الخشوع، والتدبر لما يُتلى من الآيات.
على حين كان عدد الحفظة قبل سنوات قليلاً، بلْ قلَّ من يتقن حتى مجرد التلاوة.
وهذا راجع _بعد توفيق الله_ إلى العناية بكتاب الله، وتحفيظه.
فهذه بعض الأمور التي يتميز بها رمضان في الزمن الحاضر.
فإذا نظرنا هذه النظرة كنا أقرب إلى التفاؤل، وتحري الخيرِ، وأبعدَ عن النظرة السوداء التي تقول: هلك الناس.
شأن الإخلاص عظيم، ومنزلته عالية في الدين؛ فهو شرط العبادة الأعظم؛ إذ العبادة تقوم على الإخلاص لله، والمتابعة للرسول ".
والحديث ههنا ليس عن تفصيلات الإخلاص وأدلته؛ إذ المقام لا يسمح بذلك.
ولكنه عن مسألة في هذا الباب تشغل بال كثير من الأفاضل من المحسنين، وممن يُقبل على العلم؛ حيث يجدون صعوبة بالغة في تحقيق الإخلاص؛ ذلك أن النفوس _في الأغلب_ تتطلع إلى الشرف، والشهرة، والمكانة، والمباهاة، والتعالي، وحب الثناء، ونحو ذلك مما يخطر بالبال، وينافي الإخلاص.
ومن هنا يجد المحسنُ المحبُّ للبذل، وطالبُ العلم الراغب في تحصيله _ مشقةً، وعنتاً، وربما وقفا أمام مفترق طرق، فيقول: ما لي وللإنفاق؟ ويقول طالب العلم: ما لي وللعلم؟
إذ كل واحد منهما يخشى تلك المزالق التي تعتري الإخلاص، فيدور في خلده أن ينجو بنفسه، وأن يدع ما هو بصدده من العلم والإنفاق بشتى ضروبه.
فهل هذا الخاطر صحيح؟ وهل يسوغ لطالب العلم ترك العلم، أو للمنفق أن يدع إنفاقه، وأن يترك كلُّ ذي نفعٍ متعدٍّ ما يقدمه من نفع؛ بناءً على هذا الخاطر.(1/159)
الجواب: لا؛ وإنما يُقال لمن وقعت له تلك الحال: إن هذا الذي يعتريك يعتري غيرك؛ فلا تحرم نفسك بَرَكَةَ ما تُقَدِّم، وجاهدْ نفسك على الإخلاص، واستغفر ربك عمَّا يبدر منك، واستحضر أن الله لم يكلفنا ما لا نطيق؛ فكما تجاهد نفسك على أداء الصلاة، وترك المحرمات من أكل الحرام، واتباع الشهوات _ فجاهدها على ترك الاسترسال مع خواطر الرياء؛ وجميع ما ينافي الإخلاص.
وكما تستغفر ربك عما يبدر منك من هفوات وهنات _ فليكن هذا دأبك في أمر الإخلاص.
ولا يكلِّف الله نفساً إلا وسعها: [الَّذِيْنَ جَاهَدُوا فِيْنَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا].
ولعل هذا الخاطر إنما يشتد في بداية الأمر، ثم لا يزال يخبو، ويخف شيئاً فشيئاً.
-المقدمة ... 3
1- خواطر قصيرة (1) ... 6
2-خواطر قصيرة (2) ... 10
3-خواطر قصيرة (3) ... 12
4-[فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ] ... 15
5-التعامل مع النصوص الواردة عن السلف ... 17
6-ولما رأيت الجهل ... 20
7-لا تستعبدك أشياؤك ... 22
8-من لم تقده الرجال قد لا يستطيع أن يقود الرجال ... 24
9-لا تفرط في العتاب ... 26
10-للزمن دَوْرُه في العلاج ... 27
11-للقلوب مفاتيح ... 28
12-متى يصلح المتخاصمان؟ ... 29
13-ليس بالضرورة أن تكون طرفاً في كل قضية ... 30
14-من أعان ظالماً بلي به ... 31
15-[وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً] ... 32
16-لطيفة في تربية الأولاد ... 35
17-أخي إذا كان صديقي ... 37
18-الفُتُوَّة ... 40
19-الشكوى من الزمان ... 51
20- فقه الاعتذار ... 53
21- لا يخدم بخيل ... 55
22-خواطر في الضيافة ... 56
23-خصومة الشرفاء العظماء ... 62
24-ابحث عن الجمال ... 64
25-رأي في الشعر ... 65
26-آراء في بعض الشعراء ... 68
27-التعميم في الحكم ... 69
28-توارد الخواطر عند الشعراء ... 73
29-نهينا عن التكلف ... 76
30-وداعاً أبا حمد ... 78
31-فلسفة أبي علي في النوم ... 88
32-المؤمن غِرٌّ كريم ... 91
33-تلون أهل الود ... 93
34-من لي بهذا؟ ... 95
35-الوداع ... 96
36-لا يعظم عليك بخل الناس ... 98
37-القراءة النافعة ... 100(1/160)
38-صناعة الكتابة ... 106
39-اعرف قدر نفسك ... 118
40-الزهد بالأكابر والعظماء ... 120
41-[فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات] ... 122
42 -[أو تسريح بإحسان] ... 126
43-معالم في إصلاح ذات البين ... 128
44-[إن الله كان بكم رحيما] ... 135
45-من بعد ما قنطوا ... 137
46-حول الحمى ... 138
47-خُذْهُ ومثلَه حزناً ... 144
48-تنبيه حول معنى السعادة ... 154
49-نزول البلايا بين المؤمن وغيره ... 158
50-لا تتعلل ... 159
51-سلامة الذوق وأثره في الأفراد والأمة ... 163
52-حسن الطلب للحاجة ... 173
53-كذلك كنتم من قبل ... 176
54-التحليلات السياسية ... 179
55-التأليف معاناة ولذة ... 180
56-صغار الأمور وكبارها ... 184
57-النظرة الأولى والحكم الفطير ... 188
58-لم يُعرف قدره ... 191
59 -لا تستسلم ... 192
60 -المبالاة بكلام الناس ... 194
61-كالمعلقة ... 199
62-مقترحات للدورات العلمية ... 200
63-العناية بالمواهب ... 204
64-الولاية والعزل ... 211
65-التدرب على التعامل مع الأذى ... 214
66-النفس كالرحى ... 216
67-روح العبادة ... 218
68-أحياناً ... 221
69-آفة الخُلْف ... 222
70-الخيال والواقع ... 224
71-وصفة ربانية في طرد الهم ... 225
72-منن الله على موسى في سورة طه ... 226
73-في مقاصد بعض السور ... 228
74-مناهج البحث في السيرة النبوية ... 229
75-أسرار السيرة النبوية ... 233
76-باعد بين أسفارنا ... 237
77-بيتان في وصف الإسلام وأهله ... 241
78-اللقاء يُذهب السخائم ... 246
79-رمضان بين الماضي والحاضر ... 247
80-مسألة في الإخلاص ... 250
-الفهرس ... 253(1/161)