بسم الله الرحمن الرحيم
خطوط رئيسية لبعث الأمة الإسلامية
مقدمة الطبعة الثانية
الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، وبعد فمنذ ثلاث عشر سنة تقريباً كتبت هذه الرسالة والتي كنت أهدف من ورائها تحديد نقطة البدء للشباب المسلم الذي بدأ يسأل أين الطريق، وذلك بعد الهزيمة الماحقة في عام 1967م هذه الهزيمة التي أحدثت دوياً هائلاً، وزلزلة عظيمة في نفوس أبناء الأمة، وأرجعت الجم الغفير منهم إلى صوابهم ورشدهم. وأحمد الله سبحانه وتعالى فقد ساعدت هذه الرسالة بما قدره الله لها. في وضع كيفية البداية لشباب الأمة، وقد تلقفها الشباب في أماكن كثيرة بالدراسة وقامت جهات عديدة بطبع هذه الرسالة مرات عديدة وانتشرت بحمد الله على نطاق واسع. وشغلت أنا عن إعادة طبعها بكتابات أخرى ملحة. وكانت هذه الكتابات بحمد الله في عمومها بياناً لخطوات أخرى على طريق بعث الأمة الإسلامية. أعني أنها كانت استكمالاً لهذه الخطوط الرئيسة لتحقيق البعث الكامل للأمة الإسلامية. وكان من أهم هذه الكتابات -بحمد الله وتوفيقه- فصول من السياسة الشرعية في الدعوة إلى الله، والطريق إلى ترشيد حركة البعث الإسلامي، والمسلمون والعمل السياسي.
ولقد آتت هذه الكتابات بحمد الله ثمارها وأسهمت بحمد الله في حركة التوجه الإسلامي المعاصر بما شاء الله لها أن تسهم وهذه آثار هذا التوجه -بحمد الله- قائمة شاهدة.
ولما كانت حركة البعث الإسلامي المعاصر في حاجة دائمة إلى كل هذه الخطوط الرئيسة، وكانت هذه الرسالة التي تمثل الخطوة الأولى في الطريق قد نفدت منذ زمن طويل، فإننا نقدم لأبنائنا اليوم هذه الرسالة كما صدرت في أول صدورها ونعتقد أن الزيادة التي كان يجب أن تزاد عليها هي ما كتبناه منفصلاً بعدها في هذا الخط وأهم ذلك ما ذكرناه آنفاً.(1/1)
وإني لأسأل الله سبحانه وتعالى أن يهيئ لأمتنا سبيل العز والنصر والتمكين، إنه هو السميع العليم، وأن يجعل هذا العمل خالصاً من أجل وجهه وفي سبيل مرضاته وإعلاء كلمته والحمد لله أولاً وأخيراً، وصلاة وسلاماً على المبعوث بأقوم سبيل، والمخرج لأعظم أمة في التاريخ.
عبدالرحمن عبدالخالق
الكويت في 18 من رمضان المبارك سنة 1406هـ
الموافق 26-5-1986م
مقدمة الطبعة الأولى
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على عبده ورسوله محمد وآله وبعد:
فقد كنت ألقي خطبة الجمعة في بعض مساجد الكويت، وكان من عادتي أن أعيش مع المصلين في مشاكلهم الحاضرة وأن أبين ما ينبغي على المسلم عمله ليفوز برضوان الله في الآخرة، وليحيا الحياة الطيبة الطاهرة.
وقبل حربنا الأخيرة مع اليهود في عام 1967 وقفت في الجمعة التي سبقت بدء الحرب مباشرة، وقلت للناس: لا شك أن الجميع إلا ما قل من الناس اليوم -في بلاد العرب- ينتظر للعرب نصراً مؤزراً، وذهاباً لليهود في البحر، ولا شك أن هذا، أمنية كل مسلم، ولكن أحب أن أقول إن المطلع البصير على أحوالنا، وأحوال أعدائنا يجزم بأننا لن ننتصر!! وشده الناس!! وحملقوا!!
فقلت إن لله سنناً في الأرض لا تتغير، ولا تتبدل. ومن درس هذه السنن وعرفها علم يقيناً أن النصر في هذه المعركة سيكون من نصيب أعدائنا. وإليكم بياناً لبعض الأسباب التي من أجلها نهزم ومن أجلها أيضاً ينتصر عدونا.
إننا ندخل هذه الحرب بكل تفرقنا، وشتاتنا، وتناقضاتنا، -وقد كان هذا جلياً قبل المعركة بأيام- ولا يمكن أن يكون نتيجة الفرقة والشتات نصر لأن هذا يخالف سنة الله في أرضه وعدونا يدخل وقد رص صفوفه، وألف بين فصائله، وهذا ينتج قوة وعزماً.(1/2)
إننا ندخل المعركة وليس لجنودنا عقيدة دافعة، ولا هدف سام إلا مجرد الفخر والظفر والكلمة الجوفاء (العزة للعرب) هذه عقيدة تذوب إذا قابل جنودنا أي (سخونة) من رصاص الأعداء. وعدونا يدخل بعقيدة (الشعب المختار) الذي خلقه الله ليسود ويعلو وأنه لا بد له من ذلك، وأن يستعيد مجده وتراثه وتراث آبائه الذين وعدهم الله هذه الأرض. وهذه العقيدة -مع ضلالها- أقوى من عقيدة جنودنا.
إننا ندخل المعركة مع مذيعين قد عودونا أنهم يكذبون وينافقون ويخادعون، ويقولون ما لا يفعلون!! فلماذا لا يكون تضخيمهم لقوة أنفسهم تغريراً بنا، وما قالوه من ضعف عدونا كذباً علينا! لماذا نصدقهم الآن وقد بلونا الكذب عليهم مراراً.
كيف ننتصر يا قوم وضباطنا يستعدون لليلة ساهرة ترقص فيها الراقصات، وتشرب فيها الخمور فرحاً بالنصر المحقق لا محالة!! والعدو على الأبواب!!
ثم قلت: أنا أعتقد أنه وإن كان هناك نصر فقد تغيرت سنن الله -وهي لا تتغير- أو أن عقلي قد ذهب - وما أظنه كذلك -أو أنها فتنة عظيمة- نسأل الله منها العصمة.
وإن هزمنا -وهذا هو المنتظر- ولا حول ولا قوة إلا بالله - فما هو إلا نتيجة حتمية لمقدمات نسير فيها. وخاتمة لطريق نسعى فيه سعياً حثيثاً..
وفي يوم الأثنين -أي بعد يومين من الخطبة- قامت المعركة وتسمر الناس حول المذياع، وسهروا الليالي الأولى حتى يسمعوا دخول الجيوش العربية (تل أبيب). وقال الزوجة التي تعبت من السهر لزوجها الذي يحيا بجوار المذياع بكل أحاسيسه وعواطفه:- "إذا دخل العرب (تل أبيب) فأيقظني!".
وكنت فيمن سهر -للأسف- وعقلي يقول لي: (لا نصر ولا مخالفة لسنن الله) وعاطفتي تشدني وتقول لي: (انتظر فقد تتبدل السنن، وقد تكون مخطئاً في تقديراتك).(1/3)
ولاحت أمارات الهزيمة يوم الأربعاء، ثم تتابعت حتى ظهرت للعيان يوم الخميس ثم انجلت صبيحة الجمعة لكل ذي عينين، ولكن الدهماء والعامة -وما أكثرهم- أبت أن تصدق وقالت هي خطة!! ولا بد بعدها من كرة!!
وجاء يوم الجمعة ولم أحضر خطبة! وماذا عساي أن أقول أكثر مما قلت في الخطبة السابقة! وماذا أقول! والهزيمة الشرسة تحطم قلبي!! والضياع البعيد يلف أمتي!! وعلى القلوب أقفالها، وعلى العيون غشاوة!! وفي الأسماع أثقال لا ينفذ الكلام بين طياتها!!
ووقفت أمام الناس لأخطب لهم فحمدت الله، وأثنيت عليه. ثم قلت ما معناه:
أيها الناس لقد حدثتكم -في الخطبة السابقة أننا لن ننتصر في هذه المعركة- ولم أكن متنبئاً بغيب، فلا يعلم الغيب إلا الله!! ولست عميلاً لأحد إلا للإسلام، وإنما هو القرآن فيه الهداية، ومن قرأه قراءة الفاحص المدقق فإنه حتماً سيعرف ما عرفت!!
مضت هذه الحقبة، وظننت أن الناس بعد الهزيمة الماحقة التي لا مثيل لها في تاريخ الأمم قديماً وحديثاً -اللهم إلا أن يجتاح جيش الإيمان جيش الكفر!!- سيرجعون إلى الله، وأنهم قد عرفوا أخطاءهم، وأن الأمة ستباشر فوراً تصحيح الأخطاء، وتقويم المعوج - وكان ظني هذا ساذجاً وسطحياً إذ قامت أبواق الشر أولاً من علماء الدين! وخطباء المساجد لتقول: وماذا في الهزيمة! لقد هزم الرسول في أحد!! وهزيمتنا هزيمة جزئية كهزيمته {ولا تهنوا، ولا تحزنوا، وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين}!.
وتملكني الغضب، وأخذت أنظر في إشفاق وحنين لهذه الأمة. التي يكذب عليها ناصحوها. أو من فرض فيهم أن يكونوا ناصحيها.
فسرت في سلسلة طويلة من الخطب لأبين فيها أن هزيمتنا ليست نكسة بعدها نسترد قوتنا ونحارب. وإنما هي هزيمة محتمة لطريق ندفع للسير فيه. ولا يمكن أن يكون هناك نصر إلا بأخذ أسبابه. وشرعت في سلسلة ثانية أبين هذه الأسباب.
وماذا تصنع خطب كهذه في مساجد يحضرها غثاء من المسلمين وقليل من المصلين الحقيقيين!!(1/4)
وظننت أيضاً أننا سنعرف الصديق الحقيقي -من دول العالم- والعدو في ثياب الصديق بعد أن كشف الغطاء، وظهر المكتوم. ولكن كنت أيضاً ساذج الظن، لأن الضلال البعيد الذي تعيش فيه الأمة يحرمها الرؤية الصحيحة وإن ظهرت الشمس.
وبعد أن كادت الأمة أن تفيق فتكشف الكاذبين، وتعلم المنافقين الخادعين!!
وإذا بها تنام مرة ثانية على هدهدة الغشاشين الذين باتوا يفتلون في غاربها ويؤملونها في النصر القريب!! وصرخت على منبري الصغير في زاوية من زوايا عالمنا العربي الإسلامي. فوصلت بعض الأسماع فوعت والحمد لله وصرح غيري ممن عرف الحق فأسمع من كتب لهم الهداية، ولكن سواد الأمة ما زال يعيش في حيرة وضلال: لماذا هزمنا؟! وما طريق النصر!!؟
والكل من أمتنا المبتلاة يفتي ويجيب!! وكل العرب مفتون وفقهاء وسياسيون وخطباء!! وقليل من يعرف الطريق ويتبين الصواب!!
واليوم وقد مضت خمس سنوات ونصف ما زال السؤال قائماً! وما زال الجواب غائباً!! وما زالت الهزيمة واقعة وما زالت تطرح الحلول الهزيلة التي لا تؤدي إلا إلى الهزائم المكررة.
وأظن بل أعتقد وأؤمن أن ما أقدمه اليوم هو الحل -إن شاء الله- لبعث أمة طال نومها. ولإحياء جيل -تتبعه أجيال- وقد أذلته الهزيمة وأماته الهوان {وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب}.
اللهم فاجعل هذا خالصاً لوجهك. واهد قومي إلى الأخذ بأسباب قوتهم ومنعتهم حتى تعزهم كما أعززت أسلافهم، إنك أنت السميع العليم.
عبدالرحمن عبدالخالق
الكويت: المحرم لعام 1393
لمن أكتب هذه الرسالة؟(1/5)
أكتبها أولاً: للمؤمنين المخلصين الذين يعيشون في هذه الحقبة العصيبة من حياة أمة الإسلام. فأرض المسلمين مغتصبة، وكرامتهم في الرغام، وحكومة الإسلام -التي تجمع المسلمين تحت لواء واحد، فتنافح عن عقيدتهم، وتخلص مستضعفيهم الذين يستذلون في كل مكان، وتجعل كلمة الله هي العليا، وكلمة الذين كفروا السفلى- غائبة، وثرواتهم نهباً لأعدائهم، وأموالهم ومقدراتهم مضيعة. وأعداؤهم يهددون كل شبر من أرضهم حتى مثوى رسولهم صلى الله عليه وسلم. أكتبها مبيناً طريق الخلاص وخطة العمل.
ثانياً: للمسلمين الذين يقدرون وضع أمتهم، ويريدون عزتها، ونصرتها، ولكنهم يلبسون غير الإسلام لباساً ظناً منهم أنه واصل بهم طريق العز والرفعة، وهو غير ذلك. مبيناً الطريق السوي المستقيم.
ولا أكتب هذه الرسالة للغافلين الضالين، الذين لا يهمهم إلا أن يملأوا بطونهم، ويحيوا أي حياة رخيصة ولو في ظل أعدائهم، فهؤلاء لن يستفيدوا من كتابي شيئاً بل قد يبعث على سخريتهم واستهزائهم منه.
الباب الأول
منطلق أمتنا للنصر
1- هذا الباب هو بمثابة المقدمة لموضوع هذا الكتاب، والمسلمون المؤمنون بعقيدة الإسلام لا يخفى عليهم المنطلق الذي يبدأون منه، ولكن تعوزهم الرؤية الواضحة له، ولكن أغلب المسلمين الذين ورثوا الإسلام فقط ولم تتحرك قلوبهم بالإيمان به لا يعلمون منطلقهم إلى النصر وبهذا تاهوا في خضم العقائد الزائفة التي زينها لهم أعداؤهم. ولذلك فإن هذه المقدمة من أجل أولئك الذين ضلوا بداية الطريق. ولن أستقصي براهين هذا الأمر والشبهات التي ترد عليه، ولكني سأكتفي بالعرض المدعم بالأدلة. دون إغراق في التفصيلات.(1/6)
2- السؤال الذي يطرح نفسه -في هذه المقدمة- ما هويتنا؟ هل نحن مسلمون فقط؟ أم عرب فقط؟ أم نحن مسلمون عرب؟ أم نحن أهل أوطان متفرقة، ولكل وطن شعبه الذي يجب أن يعيش له ويعمل من أجله ولصالحه أولاً؟ أم نحن أهل مذاهب وعقائد غير عقائد الإسلام؟ وبالإجابة على هذا السؤال نستطيع تحديد موقفنا، وبالتالي معرفة الذي يجب علينا.
3- أما كوننا عرباً فنعم نحن عرب ولكن العروبة لا تعطينا بذاتها عقيدة عن الحياة، ولا نظاماً لها، وما خلفته الجاهلية لا يعدو أن يكون ضروباً من الشعر والنثر والخطابة في أغراض تافهة محدودة وتاريخاً مليئاً بالفرقة والشتات مع بعض الأخلاق الحميدة التي تطغى عليها أضدادها من القبيح، ولقد جربنا أن ندخل حروباً -قديماً وحديثاً- باسم العروبة فقط فبؤنا في جميعها بالخيبة أمام القومية التركية والقومية اليهودية، والقومية الإيرانية، والقوميات الأوروبية، وأسباب هزيمة القومية العربية في كل حروبها كثيرة منها:
أ- أن الأصول لمن يتكلم العربية الآن مختلفة. فالقاطنون في البلاد العربية الآن منهم القبط (أهل مصر قبل الإسلام)، والبربر، والأكراد، والزنوج، والإيرانيون، والآشوريون، والبابليون، وبقايا الصليبيين، والترك، والمغول، ومن هؤلاء من يحن لقوميته القديمة، وخاصة بعد بعث الدعوة إلى القومية العربية، وهذه الأصول المختلفة لا شك أنها تجعل أهواءنا ورغباتنا وآمالنا مشتتة متفرقة.
ب- الناطقون بالعربية الآن يتبعون ديانات مختلفة منها: الإسلام والنصرانية واليهودية وغير ذلك، ولا شك أن جل هؤلاء ولاؤه لدينه أكبر من ولائه لعروبته، وإذا قرأنا التاريخ علمنا أن النصارى العرب فرحوا بالاستعمار ورحبوا به، وقاتلوا في صفوفه، وأن بعض اليهود العرب هربوا أموالهم إلى دولتهم في فلسطين، وهاجروا إليها، وحاربوا في صفوف أبناء قوميتهم ودينهم ضد أبناء أوطانهم ولسانهم.(1/7)
ج- القومية العربية لا تعطي أبناءها عقيدة يعيشون لها، ويموتون في سبيلها وإذا جردت عن الإسلام فليس لها تاريخ مشرف يبنى عليه، ويدفع أصحابه إلى احتذائه.
د- القومية العربية بالإسلام محتوى وعقيدة تكون أمراً ذا بال، ودعوة ذات كيان، ولكنها مع ذلك تحمل التناقض وبالتالي الخيبة.
التناقض لأن شعار العروبة أصغر من الإسلام فلا شك أن العرب هم مادة الإسلام وحاملوا لوائه، والمبشرون به قديماً وحديثاً، ولكنهم بالعروبة وحدها لم يكونوا شيئاً يذكر. فلما جاء الإسلام جعل منهم أمة واحدة، وهذه أولى درجات المجد والعز ثم وضع لهم ومن آمن معهم العقيدة الكاملة، والتشريع الكامل، ودفعهم إلى دعوة الناس جميعاً للإيمان بدعوتهم، وكانت هذه هي الدرجة الثانية في سبيل عزهم ومجدهم، وفي سبيل تحقيق ذلك أمرهم بالعلم والقوة، وكل ما يؤهلهم للسيادة، ففعلوا، وبذلك صاغهم الإسلام صياغة جديدة، وجعلهم على مستوى المسؤولية التي كلفهم بها، فلما رجعوا إلى شعار العروبة مرة ثانية -وهذا بدفع أعدائهم- وجدوا أنهم لا شيء مطلقاً، فكيف نقدم بعد هذا شعار العروبة على شعار الإسلام؟!!
إذن فنحن مسلمون أولاً لأنه بالإسلام كان عزنا ومجدنا، وعرب ثانياً، ويشرفنا ذلك لأن الله اختارنا لرسالته الخاتمة التي يؤهلنا بها لنكون هداة للعالمين جميعاً، ولم يكرم شعباً كما كرمنا، نحن مسلمون عرب هذه هويتنا، وليست العروبة عندنا عصبية نتعصب لها، فنظلم بها المسلم غير العربي أو نقدم بها الكافر العربي على إخواننا في الدين مهما كانت جنسيتهم ولونهم.(1/8)
4- أما كوننا أهل أوطان لا أهل وطن واحد فإنما كان ذلك بفعل أعدائنا، وتمزيقهم لأرض أمتنا التي قامت عليها. وما هذه الحواجز والسدود بين دولنا العربية، إلا أثر سيئ من آثار أعدائنا، وليس هناك مسلم حق يتعصب لهذه التجزئة، ويراها نهاية لمطاف أمته!! ولقد أثبت هذا التمزيق أنه أنفع سلاح في يد الأعداء، فلم تستطع ولن تستطيع دولة واحد منا أن ترد عن نفسها أي عدو من الشرق أو الغرب، والوقائع شاهدة بما أقول.
وإذا كنا نستطيع أن نحل دعوة الإسلام مكان الدعوة إلى القومية العربية بجهد قليل نسبياً، فإننا لن نستطيع أن نقضي على الدعوة للتعصب الوطني المخالف للإسلام إلا بعد جهد طويل، وجهاد شاق، وذلك أن للتعصب الوطني الآن دولاً وحكومات، وأعلاماً، وأناشيد وطنية، وشعوباً كاملة ترى في هذه التجزئة نفعها المادي، ومراكزها المرموقة، ولذلك فلا بد أن يسبق ظهور الوطن الواحد دعوة صادقة إلى الإخوة والمحبة، ووضع أسس ثابتة تحفظ لكل ذي حق حقه، وإلا كان الإندماج نوعاً من الاستغلال، والسيطرة، وبذلك يقع الظلم، وتتضرر دعوة الإسلام.
5- ولسنا، ولا ينبغي أن نكون أهل عقائد، ومذاهب، وأحزاب تخالف دعوة الإسلام فإن هذا إنسلاخ من الإيمان إلى الكفر وانسلاخ من العروبة أيضاً، فليس العربي إلا مسلماً، وكل عربي -غير مسلم- فإنما هو عربي لساناً فقط وأما جنساً فلا، فدعوة الإسلام صوت العرب جميعاً تحت لوائها ولم يبق عربي واحد في صدر الإسلام غير مسلم إلا ما ذكر عن نصارى تغلب من العرب، وقد فرض عمر بن الخطاب عليهم الجزية ولا شك أنهم آمنوا بعد ذلك ودخلوا دين الله أفواجاً بعد ما رأوا آيات صدق الإسلام. والدعوات الجديدة التي غرسها الأعداء في بلادنا هي تمزيق جديد لوحدة الأمة، ولا بد لها من الزوال إن أردنا العز والنصر، وشعار العروبة الذي تلبسه أحياناً شعار زائف لأنه سريعاً ما يظهر أنهم يعملون ضد العروبة وضد الإسلام لمصلحة أعداء هذه الأمة.(1/9)
6- وبهذا تتضح الآن هوية الأمة ومنطلقها نحو النصر إنه الإسلام -الأرض الصلبة التي نقف عليها- ثم العروبة - وهذا تشريف يحمل في طياته تكليفاً عظيماً لأن العرب اختارهم الله لحمل هذه الرسالة، فلا انفكاك لهم عنها إلا إلى الكفر والتمزق والضياع.
والأوطان المختلفة وضع شاذ يخالف طبيعة الأمة الواحدة ولا بد أن يعمل الجميع -مخلصين- القادة والشعوب للقضاء على هذا الشذوذ بما يحقق العدل والخير ويحفظ لكل ذي حق حقه ويجعل أمة الإسلام ذات وطن واحد.
7- وأعتقد أنني بهذا قد مهدت الطريق أمام وضع الأسس التي نستطيع بها أن نبعث أمتنا من جديد. وذلك بعد أن عرفنا المنطلق نحو النصر القريب بإذن الله سبحانه وتعالى.
الباب الثاني
أسباب انتصار الأمة الإسلامية قديماً
1- علمنا في الباب الأول أن الإسلام جعل من العرب، ومن انضوى تحت لوائهم أمة، وأنه هو الذي دفعهم إلى العز والمجد الذي حققوه في وقت قصير من الزمان، ولا بد أن نسأل أنفسنا هذا السؤال: كيف انتصر المسلمون في صدر الإسلام؟ في معاركه الشاملة حيث كانت الأمة جميعها معبأة للحرب، وفي معاركه الجزئية -كانتصارهم على الصليبيين- حيث لم تكن التعبئة عامة شاملة.(1/10)
2- وللجواب على هذا السؤال أقول ليس هناك إلا سببان رئيسيان للنصر. ثم أسباب ثانوية أخرى وهي نتائج للسببين الرئيسيين:- أما السبب الأول فهو أنه قام عهد بين من آمنوا برسالة الإسلام وبين الله سبحانه وتعالى يقوم المسلمون -وفاءً به- ببيع أنفسهم وأموالهم لله عز وجل، وأن الله تبارك وتعالى قد وعد في مقابل ذلك بالنصر والتمكين في الدنيا، والجنة في الآخرة. قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم تؤمنون بالله ورسوله، وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلك خير لكم إن كنتم تعلمون يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار ومساكن طيبة في جنات عدن ذلك الفوز العظيم وأخرى تحبونها نصر من الله وفتح قريب وبشر المؤمنين} (الصف: 10-13).
ولقد خاض صدر الإسلام غمار هذه التجارة، وربحوا ثمرتها العظيمة فلقد باعوا أموالهم وأنفسهم لله عز وجل، ولقد وفى الله سبحانه وتعالى وعده معهم فأتاهم النصر القريب، ولا شك أنه قد آواهم الآن في جنته.
3- لقد كان هذا العقد والعهد هو صلب عقيدة الإسلام وغايتها وثمرتها. فلئن كان الرسول صلى الله عليه وسلم قد دعا الناس في مكة إلى الإيمان بالله وتوحيده فإن ثمرة هذا هو بذل النفس والمال في سبيل الدعوة، بل إنه مجرد قبولها إبان دعوة الرسول كان معناه تعريض النفس والمال للخطر، ولقد كان هذا مفهوماً عند كل من دعاهم الرسول للإسلام. ولذلك قال وفد بني شيبان عندما دعاهم الرسول للإسلام في الموسم: "لقد جئتنا يا هذا بحرب الملوك، ولا طاقة لنا بذلك!!".(1/11)
وبيعة العقبة في حقيقتها كانت قبولاً بهذا العهد مع الله. فالبيعة التزام من الأنصار ببذل المال والنفس دفاعاً عن دعوة الإسلام ووعداً من الله بالجنة في مقابل ذلك. وكذلك بيعة الرضوان كانت على الموت في سبيل الله، ليس في المعركة المنتظرة والثأر لعثمان بن عفان الذي أشيع أنه قتل بمكة وإنما للدوام والاستمرار ولذلك ناداهم الرسول بهذه البيعة في غزوة حنين [يا أصحاب الشجرة!!] عندما فر المسلمون في أول المعركة.
ولقد أخبر الله أنه أنفذ هذا العقد وأبرمه، وأمضاه، عندما قال عز وجل: {إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعداً عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله، فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به، وذلك هو الفوز العظيم} (التوبة:111) وهذا يدل على أن من لم يدخل في هذا العقد فليس بمؤمن لأنه قال {من المؤمنين} بـ "أل" التي تستنفذ هذا الجنس.
4- ولك أن تنظر بعد أي عقيدة دافعة محركة للعمل والبناء هذه العقيدة التي يشعر المرء فيها أن طاقاته جميعاً مسخرة نحو هدف واحد وغاية واحدة!! إنها العقيدة التي تجعل المرء مسئولاً عن كل فلس يملكه وكل قطرة دم يريقها وانظر توضيحاً لهذه العقيدة في كلام الله عز وجل: {قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا من المسلمين} (الأنعام:162،163).
5- وبهذا نخلص إلى أن السبب الأول في انتصار المسلمين قديماً وحديثاً هو إيجاد الفرد المستعد لأن يبذل دمه وماله في سبيل غايته. وليس هناك عقيدة في الأرض أقوى من هذا، ولا فرد في الأرض أقوى من هذا لفرد، الذي يؤمن بهذه العقيدة.
6- وأما السبب الثاني: فهو ما يأتي:(1/12)
لقد وجد الفرد المؤمن ذو العقيدة الدافعة القوية وهذا عمل عظيم جداً!! ولكن هذا الفرد وحده لا يصنع شيئاً ذا بال في تغيير مصير أمة بل أمم ولذلك كانت الخطوة الثانية هي تآخي هؤلاء الأفراد في وحدة جامعة لم يعرف لها التاريخ مثيلاً قبل ذلك. وحدة متماسكة يفدي فيها الأخ أخاه بنفسه وماله.
إذن لقد كان السبب الثاني هو الوحدة الجامعة والرابطة القوية التي ربطت بين المسلمين جميعاً وبهذا وجدت الأمة.
وهذه الوحدة لم تكن بنت يوم وليلة، ولا وليدة خطبة حماسية وإنما كانت وحدة وأخوة مبنية على قواعد ثابتة من صنع الله تبارك وتعالى، قال تعالى: {وألف بين قلوبهم، لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم، ولكن الله ألف بينهم إنه عزيز حكيم} (الأنفال:63) وهذه القواعد معلومة مدونة: وهي باختصار عقيدة كاملة واحدة ونظام تشريعي كامل موحد، ونظام أخلاقي اجتماعي فريد يقدم العفو على المقاصة، ويأمر بالفضل والإحسان قبل المماثلة في العقوبة ويجعل الذي يقابل السيئة بالحسنة في أعلى درجات الناس. والذي يؤثر غيره على نفسه أعظم شأناً، وأعلى مكاناً من الذي يقدم نفسه عليهم، ثم هو نظام كامل في رفض الفرقة والشتات وتحريم كل ألوان الخلاف: الصغير منها والكبير.
7- وماذا تنتظر بعد من أمة تكونت على هذا النحو: عقيدة دافعة متأججة، وأخوة غامرة حانية. إن أمة هذه حالها لا تقف أمامها سدود ولا يعوزها مفقود، ولا ينتصر عليها أحد. وقد كان!! لقد ساحت هذه الأمة بمجرد تكونها على النحو السابق في الأرض شرقاً وغرباً، وهي تتوقد حماسة، وتمتلئ رقة وعطفاً ورحمة، تشتد فتكون ناراً محرقة، وتلين فتكون ماء عذباً زلالاً، وتصفو وتشف وتكون نوراً وهداية ورحمة، ولذلك لم يقف أمامها سد من السدود، ولا استطاع ملاقاتها أمة من الأمم، وذلك بالرغم من قلة العدد والعدة.(1/13)
8- لا شك أنه كانت هناك أسباب أخرى لانتصار المسلمين كتعلمهم فنون أعدائهم في القتال، ولكن هذا السبب وغيره من الأسباب الصحيحة إنما كان نتيجة للسببين السابقين، وأكرر القول أن الأمة التي تتكون على ذلك النحو لا يعجزها شيء مما قدر للبشر أن يبلغوه: لا يعوزها علم، ولا قوة، ولا سلاح، ولا خبرة لأنها بذاتها ستوجد ذلك وفي أسرع وقت ممكن، وتفعل العصا في يد أحدهم ما لا يفعل السيف في يد غيرهم.
9- ولا أنكر بعد أن قوة الله وإمداده كانت فوق ذلك، ولكن هل العقيدة الصحيحة في القلب المؤمن إلا قوة من قوة الله لا تقهر ولا تغلب، هل العقيدة السليمة إلا لقاء وموالاة بين البشر والملائكة والشمس والأرض. لقد نزلت الملائكة في حروب المسلمين لأن هناك التقاء على عقيدة واحدة؛ قال تعالى: {الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا} لقد استغفروا لارتباطهم بالمؤمنين برابطة الإيمان، والحب في الله، والشمس وقفت للعبد المؤمن يوشع لأنها مأمورة وهو مأمور، وقد وقع لكثير من الصحابة في فتوحاتهم شيء يشبه هذا، وسيقع هذا مع المؤمنين عندما يفتحون فلسطين ويستردونها من أيدي اليهود: [لتقاتلن اليهود حتى يقول الشجر والحجر: يا مسلم، يا عبدالله، هذا يهودي ورائي فاقتله]، وما زال كثير من هذا يقع لكثير من المؤمنين في حروبهم.
إن العقيدة في الله قوة لا تعدلها قوة لأنها تستمد قوتها من خالق السموات والأرض سبحانه وتعالى.
10- وأرجو أن أكون بهذا قد بينت الأسباب الحقيقية لانتصار المسلمين في صدر الإسلام وبعده، والذي يريد تفصيلاً لهذا فليقرأ التاريخ الذي سطرته أيدي المسلمين، أو الكفار المنصفين وسيرى مصداق ما قلت، ولتقرأ أولاً كتاب الله ولننظر أي قوة غرسها هذا الكتاب في صدور أتباعه، وأي نظام وضع لهم، وأي أخوة ومحبة سجلها وكتبها لتلك الطائفة الطيبة التي عاشت والقرآن ينزل.
الباب الثالث(1/14)
أسباب الهزيمة في الوقت الحاضر
1- سنعجب جداً عندما نرى أن هذا الغثاء من المسلمين، الذين ضربوا أبشع الأمثلة في الهزيمة، والخزي والعار، هم من سلالة أولئك الفاتحين، وهم وارثوا هذا التاريخ المجيد المشرف. وهنا يبرز أمامنا هذا السؤال: كيف وصلنا إلى هذا الحال؟ وما هي أسباب هذه الهزيمة؟
2- وللإجابة على هذا السؤال أقول: لقد كانت الهزيمة نتيجة حتمية لنقض سببي النصر، وهذا أمر منطقي، فإن الأمة انتصرت بأسباب، وغياب هذه الأسباب لا شك أنه يؤدي إلى غياب النصر. وباختصار: لقد فقدت الأمة عقيدتها الدافعة، وأخوتها ووحدتها. وهذا ماثل أمامك تماماً، فحب الدنيا وكراهية الموت والبخل بالمال والشح أصبح صفة غالبة على الناس (المسلمين) في زماننا. وليس بين أمة في الأرض (الآن) من التمزق والتشتت ما بين أمتنا -للأسف- فكيف يكتب النصر لأمة هذه حالها: حب للحياة، وبخل ببذل المال، وفرقة وشتات وخلاف.
3- وكل الأسباب التي ستذكر بعد هذين السببين إنما هي نتائج لهذين السببين: فالضعف، والجهل، والتردي الخلقي والجبن كل ذلك كان نتيجة لذهاب العقيدة الدامغة، والأخوة الموحدة الضامة المؤلفة.
4- وحتى يكون هذا الأمر جلياً واضحاً أقول: لقد أدرك أعداء هذه الأمة قديماً سر قوتها، ومنعتها وأنه ذلك العهد الذي بايعت ربها عليه، وأنه ذلك الإخاء البديع والنظام المحكم الذي تآلفت عليه. فجعلت غايتها: أن تفرط هذا النظام أولاً ثم تقطع هذه الصلة بين الله والأمة - ثانياً.. أما لماذا اختارت فرط النظام أولاً ثم بعد ذلك إضعاف العقيدة، فلأن فرط النظام وإذهاب الإخوة أيسر منالاً من إضعاف العقيدة، فالعقيدة تغرس في القلب، وتكتسب ببطء شديد وممارسة طويلة، وأما التفريق فإنه ينبعث سريعاً بقليل من الشرر وقليل من الخلاف.(1/15)
ألم تر كيف كاد الأنصار من الأوس والخزرج أن يقتتلوا عندما ذكر اليهودي أمامهم شعراً من شعر جاهليتهم وحروبهم في (بعاث) وألم تر كيف كاد المهاجرون والأنصار أن يقتتلوا في إحدى الغزوات على سقاية بعض الماء، وألم تر كيف كادوا أن يقتتلوا أمام الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يخطب طالباً منهم أن يكفوا عنه شر عبدالله بن أبي الذي آذى رسول الله بسبب زوجته، وألم تر كيف تخاصم عمر بن الخطاب وأبو بكر الصديق يوماً في حياة الرسول حتى أنه غضب وقال: [أما أنتم بتاركي لي صاحبي].
إن الخلاف والشقاق أسرع انتشاراً في النفوس من النار في الحطب، فإن عَزَّ الماء أتت النار على كل شيء، ولذلك يستطيع الفرد الواحد من الأعداء أن يأتي على أمة بأكملها شقاقاً، وتفريقاً وتمزيقاً. وأما العقائد فلا لأن إخراجها من النفوس يحتاج إلى أجيال متطاولة، حتى لو كانت العقيدة باطلة!! فكيف بعقيدة الإسلام القوية الساطعة النيرة!!(1/16)
وهذا الذي كان من أمر تمزيق الأمة وإذهاب عقيدتها لقد استطاعت قوى الشر أن تبذر بذور الشقاق في الأمة وأن تثمر هذه البذور في أقل من خمس وعشرين سنة من وفاته صلى الله عليه وسلم (أشد ثمارها مرارة) حيث قتل عثمان بن عفان رضي الله عنه. وهذا ما حذر منه صلى الله عليه وسلم حيث قال بعد أن أرسى قواعد العقيدة: [إن الشيطان يئس أن يعبد بأرضكم هذه! ولكنه قنع بالتحريش بينكم] ويا لها من قناعة شيطانية. لقد علم الشيطان أن العقيدة لن تزول سريعاً وخاصة من الذين تلقوا الوحي غضاً طرياً، وعاينوا الآيات على صدق الرسول عياناً، ولكنه قنع بما يستطيعه -في هذه الأمة- من الشر وهو التحريش بينهم. (ويا له من تحريش!!) بلغ من فظاعة آثاره تلك الحروب الطويلة القاسية التي طحنت كثيراً من أصحابه صلى الله عليه وسلم! والتي تقشعر أبداننا اليوم ونحن نطالعها. والذي سيطالعها بعين الحق والنزاهة وترك التعصب والجهل سيعلم أن هناك يداً خفية كانت تشعل الفتنة من وراء ستار، وتشفي قلوبها الجريحة الحاقدة وهي ترى آثار الدماء التي تخلفها هذه الفتنة.
والقارئ لسيرة اليهودي (عبدالله بن سبأ) الذي ادعى الإسلام بعد مقتل عمر بن الخطاب وحضر المدينة من اليمن سيعلم أن بذور الشر التي غرسها في أهل الحج من المصريين والعراقيين وأهل الشام البعيدين عن دار الخلافة. قد آتت ثمارها بمقتل عثمان بن عفان رضي الله عنه بحجة عجيبة وهي: الغيرة على خلافة الإسلام أن تنحرف وأن تخالف سنة الشيخين أبي بكر وعمر وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.(1/17)
ولست في هذه الرسالة مؤرخاً ولكني فقط أحب أن أضع يد قومي وأبناء أمتي في وقتنا الحاضر على موطن الداء من علتهم المزمنة (الفرقة) حتى يتبينوا طريق خلاصهم. ولقائل أن يقول: لقد خالف عثمان شيئاً من سنة سابقيه. وأقول مهما كانت هذه المخالفة فإن عقوبتها لا يجوز بتاتاً أن تكون قتلاً لهذا الخليفة الراشد رضي الله عنه، ويا له من قتل غادر يدعي فيها المجرم أنه بذلك يحافظ على نظافة الخلافة!!
وإن تعجب من شيء فليكن عجبك أشد من أستاذ للتاريخ بإحدى جامعاتنا يشكك في وجود رجل اسمه (عبدالله بن سبأ) يزعم أن هذه شخصية أسطورية لا يمكن لرجل أن يصنع كصنيعه، ولو علم هذا المسكين الذي يدرس لأبنائنا التاريخ الإسلامي أن أمماً انهارت بكاملها بفعل جاسوس واحد لصدق ما كتب عن عبدالله بن سبأ، ولو قرأ أيضاً عن تنظيمات اليهود السرية قديماً وحديثاً لعرف كيف يستطيع رجل واحد أن يهدم أمة بكاملها. ولو قرأ شيئاً صالحاً عن النفس البشرية وكيف أن الشقاق أسرع إليها من سرعة النار إلى الهشيم لعلم أي محنة من الممكن أن تقع فيها أمة إذا بذرت بينها بذور صغيرة من الشحناء والبغضاء.(1/18)
5- ولم يقف أعداء الأمة عند حد في تمزيقها، بل داوموا هذا التمزيق والتشتيت منذ ذلك الوقت وحتى زماننا حتى أصبح للتمزيق قواعد وأصول يكاد الدهر أن يزول ولا تزول. أليس مما يقتل القلب كمداً وحسرة أن يطلع المسلم على مقدار الهوة السحيقة بين مذاهب المسلمين العقدية حيث أن لكل مذهب أصوله وأركانه وفلسفته وتاريخه وبنيانه الذي ينهدم الزمان ولا ينهدم. وأليس مما يذهب النفس حسرة وراء حسرة أن نرى لكل مذهب من المذاهب الفقهية الفرعية عند أهل السنة وحدهم أصوله الخاصة التي ينبني عليها مئات بل آلاف الفرعيات التي تخالف ما عند الآخرين، وسيقول قائل جاهل - إن الخلاف في الفروع لا يضر، ولو اطلع لعلم أن آثار هذا الخلاف الفرعي الفقهي اليسير قد أضحت تشريعات مستقلة ومناهج منفصلة يكاد بها أن يكون كل مذهب شريعة مستقلة.
ولقد كان من آثار ذلك ترك العمل بالشريعة جملة وتفصيلاً ثم استيراد الشرائع الكافرة، ثم ضياع العقيدة الإسلامية بالتالي. وإنني بهذا البيان القصير لأطوي الحوادث طياً، وأجملها إجمالاً وسيكون للتفصيل في هذا الأمر مجال آخر -إن شاء الله تعالى- والمهم الآن في هذا المقام هو أن نفتح الأعين على مقدار هذا الركام من الخلاف الذي لم يترك اثنين من أمتنا على قلب رجل واحد.
6- ثم جاء بعد هذا كله العقائد (الأيدلوجيات) الوافدة من الأعداء فنقلت الأمة أو كادت عن عقيدتها، وقطعتها عن تاريخها، ثم أعملت فيها التمزيق والتشتيت، حتى انقسم أبناء الرجل الواحد، ولعن بعضهم بعضاً بل وقتل بعضهم بعضاً، ناهيك عن أبناء البلد الواحد والوطن الواحد. وبذلك أصبحنا مضرب المثل في التفرق والتمزق والضياع.
7- وبهذا كانت الهزيمة أو الهزائم المتكررة أثراً لازماً لهذا التفكك والخلاف والتمزق. وهذا سبب ثان رئيسي يضاف إلى السبب الأول الآنف وهو فقد العقيدة الواضحة النيرة الواحدة التي توحد الغاية وتجمع الصفوف.(1/19)
وبهذا نصل إلى السؤال الآتي: كيف ونحن على هذا الحال - نستطيع أن نبعث الأمة من جديد؟
وقد خصصت -بمشيئة الله- الباب الآتي للإجابة على هذا السؤال..
الباب الرابع
الطريق إلى بعث الأمة الإسلامية
لا نستطيع أن نتصور أمة صالحة كاملة إلا بتصور جماعة لها عقيدة واحدة ومنهج واحد في الحياة، وبهذا تتحدد مقومات الأمة على النحو التالي: الجماعة، العقيدة (الإيمان)، والمنهج (التشريع).
أما الأفراد المسلمون فهم كثير والحمد لله فهم يعدون بمئات الملايين. ولكن حالهم فكما عرفت في الفصلين السابقين، وأما العقيدة الواحدة فموجودة باقية ولكنها تحتاج إلى أمرين:
الأمر الأول: تخليصها مما علق بها عبر القرون من الانحراف والتأويل السخيف المشوه لحقيقتها، والخرافة.
الأمر الثاني: نقلها من بين الآيات والأحاديث وبطون الكتب إلى الصدور.
وأما المنهج الواحد فموجود أيضاً باق إلى يوم القيامة ولكنه يحتاج إلى أمرين أيضاً:-
الأمر الأول: تنقية هذا المنهج من البدع والانحراف، والتأويل الباطل، والغلو والتفريط.
الأمر الثاني: وضع هذا المنهج موضع التنفيذ.
وبهذا سيتحدد العمل في ثلاث دوائر أساسية ولكنه سيتفرع إلى شعب كثيرة:
الدائرة الأولى: تحديد العقيدة الواحدة وتصفيتها من الشوائب.
الدائرة الثانية: تخليص الشريعة الإسلامية وتنقيتها من البدع والغلو والتفريط.
الدائرة الثالثة: تهيئة الفرد المسلم ليقبل العقيدة الناصعة الواضحة والشريعة الغراء السمحة الكريمة.
وهذا الكلام فيه إجمال واختصار وهنا ترد هذه الأسئلة:
ما صفات هذه العقيدة الواحدة وكيف نحكم بأن هذا تأويل باطل؟ وهذا حق؟ وما المنهج لتنقيتها وتصفيتها؟ وما صفات الشريعة السمحة وكيف نستطيع أن نجمع المسلمين على كلمة سواء في العمل بالشريعة وقد اختلفت الآراء، والمذاهب والفتاوى؟! وما المنهج والضابط لهذا التميز بين ما هو من صلبها وما هو خارج عنها؟(1/20)
وما الطريق لوضع هذه العقيدة والشريعة موضع التنفيذ؟؟ وللإجابة على هذه الأسئلة أقسم هذا الموضوع إلى ثلاثة فصول:
الفصل الأول
العقيدة الواحدة (مسائل الإيمان)
1- ليس هناك في الأرض اليوم عقيدة واحدة ناصعة واضحة في عقول أتباعها إلا العقيدة الإسلامية وذلك لأن مصدرها الأول (القرآن الكريم) ما زال موجوداً على النحو الذي نزل عليه والحمد لله {إنا نحن نزلنا الذكر وإن له لحافظون}، ومصدرها الثاني (الحديث الشريف) ما زال محفوظاً والحمد لله مع ما ناله من اختلاطه بالضعيف والموضوع، ومع ذلك فمقدار الاختلاف والتفرق الذي يصل إلى حد التمزيق والشتات حاصل وحادث بين أفراد هذه الأمة، وما دمنا نسعى إلى التوحيد الكامل للأمة فلا بد من انتزاع الخلاف، والقضاء عليه مهما كان صغيراً لا يؤبه له.
2- والمسلمون الذين خلفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا أصحاب عقيدة واحدة (في الله، والكون، والجنة، والنار، والملائكة والرسل والقضاء والقدر..الخ). وإنما حصل الخلاف بعد ذلك.
3- ولست هنا مؤرخاً لكيفية الخلاف وتطوره وإنما يهمني أسبابه وطريق القضاء عليه.
4- وقبل أن أشرع في ذلك أود أن أوضح ماهية العقيدة الإسلامية.
أولاً: العقائد قسمان: قسم من صنع الإنسان ونظره وفكره سواء كان في شيء غيبي كالبوذية والوثنية والمجوسية..
أو ما كان في شيء مادي بحت كالشيوعية التي تنادي بنظام للحياة -تراه صالحاً- وتنزل يقينها في صحة هذا النظام وعدالته منزلة الإيمان الغيبي.
ولا شك أن هذا القسم بشقيه خرافة وتحكم وقصور نظر. فالغيب مصدره الله وليس الإنسان. والحكم على نظام للعدل -من وضع البشر- تحكم وقصور فالإنسان دائماً يهدم اليوم ما بناه الأمس من نظريات وقوانين والحياة شاهدة.(1/21)
والقسم الثاني: عقيدة من تنزيل الله تبارك وتعالى وقد أنزلها على رسله الذين اختارهم لإبلاغها للناس، وهذه حق وصدق ما دمنا قد تحققنا من صدق الواسطة التي بلغتها وهي (الرسول) وهذا القسم يلحقه تحريف الناس وأوهامهم وخرافاتهم وتأويلاتهم الباطلة كما صنع اليهود بعقيدتهم، والنصارى بعقيدتهم، وجهال المسلمين بعقيدتهم.
5- فإذا وضح هذا، وهي أن مسائل الإيمان (العقيدة الإسلامية) وحي من الله تبارك وتعالى، وعلمنا أن هذا الوحي محفوظ مضبوط والحمد لله أولاً وأخيراً، وأنها تخالف عقائد البشر التي صنعوها لأنفسهم، وظنوها حقاً بلا برهان ولا دليل. فإن الخلاف في هذه العقيدة قد نشأ بأسباب أجملها فيما يلي:
أ- قياس أمور الغيب على أمور الحياة المشاهدة.
ب- اعمال العقل في غير مجال عمله.
ج- محاولة تكييف أمور الغيب الآخرة. وأعني بالتكييف إعطاء صورة مماثلة للغيب حسب الصور المشاهدة في الدنيا. (قياس الآخرة على الدنيا).
والحق أن السببين الأخيرين راجعان إلى السبب الأول، وهما من آثاره. فكيف يعمل الإنسان في غير مجاله؟
العقيدة الإسلامية (الإيمان) لا بد لها من العقل والفهم، وهي تبنى على قضايا منطقية كقضايا الحساب الذي لا شك فيه، وذلك عند من يفهم ويدرك ويعي. وحقائقها الأولية تبدأ كما يلي:
1- الإيمان بخالق هذا الكون. وهذا شيء فطري لا يحتاج إلى كبير نظر وتأمل طويل فما على أي إنسان عاقل إلا أن يفكر في نفسه وما حوله ليعلم يقيناً أن هذا الكون ليس فلتة، ولا صدفة، ولا مخلوقاً خلق نفسه، وإنما هو عن تدبير مدبر، وإحكام حكيم. وهذا القدر من الإيمان لا يجوز مطلقاً أن يختلف فيه عاقلان على سطح الأرض وأما (جهال الناس، ودواب البشر) الذين يخالفون هذه العقيدة الفطرية الساذجة السهلة الميسور الوصول إليها فللكلام معهم مناهج وطرائق أخرى، ومجال غير هذا المجال.(1/22)
2- الإيمان (بالواسطة) الرسول الذي يختاره هذا الإله لإبلاغ الناس ما يريد ربهم منهم، والشأن الذي خلقهم له، ومبدئهم ونهايتهم. وهذه (الواسطة) الرسول لا بد من وضعه تحت مجال البحث والتدقيق في أمره، واختياره بكل الطرق حتى يثبت يقيناً صدقه فيما بلغه عن ربه جل وعلا. ولا يمكن أن نصل إلى ذلك إلا بإعمال طويل للعقل حيث سنبحث سيرته، ونتعمق في كلامه، ونختبر معجزته وآية صدقه حتى يتبين لنا أمره على الحقيقة إذ مجال الرسالة من الممكن أن ينتحله ويدعيه الكاذبون.
وإلى هنا ينتهي مجال التدقيق والتشريح فيما يقوله الرسول، ويبدأ العقل مرحلة أخرى هي مرحلة الفهم والتطبيق. إنها مرحلة {سمعنا وأطعنا} فإذا أخبر الرسول بالجنة ونعيمها، والنار وأهوالها، وعذاب القبر وعجائبه، فليس أمامنا قياس ولا تشبيه ولا إجراء لسنن الحياة على سنن الآخرة فإن الأمر مختلف. وإذا أخبرنا الرسول عن ربنا تبارك وتعالى وصفاته وكلامه، وضحكه، وفرحه، واستوائه، وغضبه، ورضاه، وحبه لأناس ومقته لآخرين، قلنا {سمعنا وأطعنا} دون إعمال للعقل بالتشبيه والقياس أو بالنفي والتعطيل، أو بالرد والتأويل البعيد السخيف. وإعمال العقل في هذه الأخبار الغيبية قياساً وتشبيهاً، أو نفياً وتعطيلاً، وتأويلاً يجر إلى الكفر وتمزيق العقيدة وبالتالي تشتيت المسلمين وضياعهم.
6- وبهذا يظهر جلياً -إن شاء الله- أن العقيدة التي تجمع المسلمين ولا تفرقهم، وتوحدهم ولا تشتتهم هي عقيدة السلف التي جمع الرسول صلى الله عليه وسلم الصحابة عليها. وعلمهم إياها. وأنه ليس أمامنا خيار في انتحال غيرها، أو فتح المجال لسواها. (وعقيدة السلف) تقوم على الأسس السهلة التي قدمتها آنفاً والتي لا يأباها عقل سليم. وهي الحق من الله تبارك وتعالى لأنه ليس فيها شيء من صنع الإنسان.(1/23)
7- وأما التأويل الذي حدث في العقيدة بعد فإنما هو محاولة إنسانية في الغيب يجب علينا رده مهما كان مصدره فلسفة يونانية، أو فكراً وثنياً برهمياً، فيحارب عقلية لعلماء سموا أنفسهم بالفلاسفة المسلمين. ويكفينا ويكفي المسلمين تلك العقيدة السهلة السمحة الميسورة القريبة الفهم من الناس جميعاً على اختلاف مستوياتهم.
8- ولا شك أن المسلم سيفهم هذه العقيدة فهماً كاملاً سليماً حكيماً إن هو قرأ كتاب الله القرآن، وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم وكان له حظ من فهم لغة العرب، ولم يتدنس بدنس المحاولات البشرية لفهم الغيب دون اللجوء إلى الرسل وهذه المحاولات البشرية هي ما سميت بالفلسفة.، وقد سميتها دنساً لأنها تشوه الذهن والفطرة السليمة بكثرة ما فيها من التناقضات والأغاليط والاختلاف والقضايا التي تعد مسلمات وليست هي كذلك. وأمثال هؤلاء الذين تدنسوا -باعتناق هذه الثقافات- لا بمجرد قراءتها والإطلاع عليها - يصعب عليهم فهم عقيدة الإسلام السهلة الميسورة. إلا بكثير من العناء، والمجاهدة، والتخلص مما علق بالذهن من هذا الركام.
9- ولا شك أن إبراز هذه العقيدة وإفرادها للقراءة والبحث بأسلوب العصر سيعد عملاً جليلاً، وهذا هو أول عمل فكري يجب أن تتوجه الأقلام بالكتابة فيه (تصنيف العقيدة الإسلامية كاملة في مصنفات بلغة العصر، على منهج السلف الصالح الذي يجمع ولا يفرق، والذي هو منهج العلم والحكمة والسلامة من كل العيوب والنقص).
وكل منهج غير هذا المنهج في كتابة العقيدة فإنه سيبقي الفرقة قائمة، والشحناء مستحكمة.(1/24)
10- وهناك أمور أخرى ما كانت في أصل وضعها من أمور الإيمان والغيب ولكنها أضحت كذلك بعد الخلفاء الراشدين، وهذه الأمور هي خلافة المسلمين، ومن الأحق بها، وتسلسلها وطريقة تحقيقها. فبالرغم من أن هذه الأمور هي من الأحكام الشرعية العملية إلا أنها تطورات في الفكر والعمل والاستدلال حتى أضحت قضايا عقدية مزقت المسلمين قديماً وما زال هذا على صورة رهيبة إلى اليوم. فالذي قسم المسلمين إلى سنة وشيعة، وقسم الشيعة إلى مذاهب وعقائد مختلفة وجعل بين هؤلاء وأولئك أخاديد من الفرقة وركاماً هائلاً من الخلاف والشقاء وشحناء طويلة وحروباً ودماء إنما هو الخلاف في أمر (الإمامة والخلافة..) وهذا الخلاف وإن كان قد بدأ يسيراً زهيداً إلا أنه قد تعمق مع الأيام وتأصل وتباعد حتى لكأن السنة والشيعة أصحاب دينين مختلفين.
أقول هذه المسائل من الخلاف بدأت في العمل ثم تعمقت حتى وصلت إلى مسائل العقيدة والإيمان، وهذا شأن الخلاف دائماً يبدأ يسيراً في أمر قد يكون تافهاً ثم يتطور ويتأصل ويتفرع حتى يصبح عميقاً بعيداً (أذكر وأنا في رحلة في السودان مع طائفة من الإخوة طلاب الجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية وكان معنا الأستاذ والمربي الفاضل محمد عبدالوهاب البنا. نزلنا في -بور سودان- ووجدنا الجماعة التي تدعو للإسلام في هذه المدينة منشقة على نفسها انشقاقاً عجيباً.(1/25)
قال لي أحدهم: - إن هؤلاء- يعني إخوانه الذين فارقهم يحكمون على أهل بور سودان بأنهم يعاشرون نساءهم في الحرام، وأن أولادهم أولاد زنا، فعجبت جداً وقلت له: أسمعت هذا منهم؟ قال: نعم. قلت: وفي أي مناسبة قيل هذا الكلام؟ قال: في المسجد. قلت: يا أخي، أنا لا أتصور كلاماً كهذا يصدر من داع إلى الله! قال لي: إنهم يقولون بأن تارك الصلاة كافر كفراً يخرج من الملة، ومعنى هذا أن زوجته تطلق منه إذ هي مسلمة وهو كافر، فإن لم تطلق فهو يعاشرها بالحرام، وأولاده من زنا وليسوا من نكاح صحيح. فقلت به: عجباً يا أخي قد وصلت إلى هذا التسلسل الغريب العجيب الذي فهمته من كلام إخوانك ولم يقولوه نصاً. قال: إنه لازم كلامهم، قلت: إنهم عندما أطلقوا كلمة الكفر على تارك الصلاة ما عنوا ما ذهبت أنت إليه، وإنما أطلقوا في حقهم ما أطلقه رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: [بين المرء والكفر ترك الصلاة]، ولقد اختلف الإمام أحمد مع صديقه الإمام الشافعي في هذه المسألة وقال أحمد: تارك الصلاة كافر كفراً مخرجاً من الملة. وقال الشافعي: بل لا يخرج من الملة ويدفن مع المسلمين، ويقتل حداً لأنه أقر بالتوحيد. ومع ذلك ما ألزم الإمام أحمد الشافعي وأتباعه ومالك وأبوحنيفة وأتباعهما بما ألزمته أنت إخوانك. أما يسعنا أن نطلق الحديث كما أطلقه رسول الله صلى الله عليه وسلم. ونعمل على أن يكون للزوجة المصلية المؤمنة زوج بار مصل. وللزوج المصلي المؤمن زوجة بارة مصلية، وأن نحاول الإصلاح في ذلك ما استطعنا، وألست تتفق مع إخوانك في شئون كثيرة من أمور الإسلام ألا يكفي ما تتفقان فيه لتكونا يداً واحدة في وجوه أعدائكم. وأعداء الإسلام!!).
الفصل الثاني
الشريعة الواحدة(1/26)
1- قيل بأن الخلاف في الفروع لا يضر. وقيل بأن الخلاف في الفروع رحمة وتوسعة و(اختلاف الأئمة رحمة)! ومثل هذه الأقوال تحجب الرؤية الصحيحة للوضع المتردي الذي وصل إليه التشريع الإسلامي في عصوره المتأخرة. والذي ورثناه بكل تبعاته وأوزاره.
فأما أن الخلاف الفقهي يضر فنعم والوقائع شاهدة. وهذه الوقائع أكثر من أن تحصى وحسبك معرفة بعض آثارها السيئة فكم من مرة امتنع المتعصبون ممن يزعمون تقليد الإمام أبي حنيفة رحمه الله ورضي عنه الصلاة خلف إمام شافعي والعكس أيضاً. فما هو شعور إمام حنفي يصلي صلاة المغرب مثلاً وبعد أن ينهي الصلاة يقوم رجل شافعي فيعلن للناس أن هذه الصلاة باطلة لأن الإمام لم يجهر بالبسملة؟! وما الفرقة التي كانت في صلاة المسلمين قبل نصف قرن فقط –وما زالت بعض جيوبها إلى اليوم- إلا أثراً من آثار الخلاف الفرعي، وذلك أن عامة المسلمين كانوا يصلون في المساجد الشهيرة بأربع جماعات وأربعة أئمة!! شافعي، وحنفي، ومالكي وحنبلي. وكيف لا يضر الخلاف وهو يصل أحياناً حد التناقض حيث يوجب البعض ما يراه الآخر حراماً أو مكروهاً. فالرأي عند الأحناف أن قراءة الفاتحة للمأموم في السرية مكروهة كراهة تحريمية وغيرهم يرى قراءتها واجبة بل ركناً من أركان الصلاة إن تركها بطلت صلاته.
وليس هذا الخلاف في مسائل فرعية محدودة بل يكاد أن يكون في كل شيء تقريباً إلا فيما عرف من الدين ضرورة، وتضافرت الأدلة الكثيرة على بيانه وإثباته.(1/27)
وتعظيمنا لأمر الخلاف لسببين: أولهما: أنه يخالف بين القلوب -ولا شك- مهما كان يسيراً. وثانياً: أنه يكبر ويتأصل، ويتشعب مع مرور الزمن فيصبح الخلاف الفقهي العملي خلافاً عقدياً إيمانياً. كما رأينا في مسألة الإمامة. وفي فتنة التكفير والتجهيل والتبديع التي يتراشق بها المقلدون - المتعصبون، والسلفيون المتطرفون. فقد انتقل معهم أمر الخلاف الفقهي إلى أمر العقيدة والإيمان. وإذا كنا نريد أمة سوية يحب كل فرد فيها الآخر فيجب علينا أن نقطع دابر الخلاف مهما كان يسيراً صغيراً.
وسندنا في ذلك نهي الله عز وجل عن التفرق في الدين حيث يقول سبحانه وتعالى- {شرع لكم من الدين ما وصينا به نوحاً والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب} (الشورى:13) وكذلك تعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم لأمر الخلاف، وإنكاره عليه. حيث يقول: [اقرءوا القرآن ما اجتمعت عليه قلوبكم، فإذا اختلفت فقوموا] (رواه مسلم). وفعل الصحابة من بعده حتى إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه يسأل الصحابة في مسألة الغسل هل هو من لقاء الختانين أو الإنزال فيقول قوم بهذا وقوم بهذا، فيرسل إلى عائشة فتقول: قال رسول الله: [إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل] فيقول: والله لا يفتي أحد بغيره إلا جعلته نكالاً. أي لقد وضحت الحجة وظهر حكم الله في هذه المسألة بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم فلا يجوز لأحد -بعد- أن يفتي بخلاف ذلك.(1/28)
ومن تتبع هذا الأمر وجد كيف عظَّم الله أمر الخلاف في الدين ولام أهله، وبين أنه عقوبة وهلاك، وعلم كيف عظم سلف هذه الأمة أمر الخلاف، وذموا أربابه. ويكفينا في هذا قوله سبحانه وتعالى: {ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم} والنهي عن التنازع هنا إنما هو حول أمر شرعي عمل وهو من شئون القتال. ولا شك أنه من فروع الدين. فالأمة لا يمكن أن تكون يداً واحدة. وقلباً واحداً إلا إذا قضت على جميع أسباب الخلاف بينها.
1- وهنا سنصل إلى هذا السؤال وهي كيف تقضي على الخلاف في أمر التشريع؟
وللإجابة على هذا السؤال لا بد أن نعرف أولاً أسباب هذا الخلاف، وهذه الأسباب تنقسم إلى قسمين:
أ- خلاف معقول لا بد منه، وهذا الخلاف بعضه قد وقع كثيراً في الأمة، ولا بد أن يقع في أمور تستجد، ويجتهد لمعرفة أحكامها. وهنا لا بد من وضع ضوابط للقضاء على آثار هذا الإختلاف الذي يجب أن لا يتعدى الرأي والاجتهاد.
ب- وخلاف غير معقول، قد وقع في الأمة وقد ظهر لكل ذي عين سليمة أنه باطل، وهذا لا يجوز التمسك به، ولا حتى روايته، ويجب أن يدفن وينتهى منه ويصبح مقصوراً على دارسي تاريخ التشريع فقط.
3- فأما الخلاف المعقول فأسبابه غير محصورة، ومن ذلك علم أحد المجتهدين بالحديث -الذي ينص على الحكم- وجهل الآخر به فيفتي برأيه، والاختلاف في فهم المعنى اللغوي، واطلاع أحدهم على وجه من وجوه الرواية في الحديث الواحد واطلاع الآخر على وجه آخر واطلاع ثالث على الوجهين، والاختلاف في تقدير السنة والبدعة، وعدم العلم بالمخصص، والإفتاء بحديث ضعيف يحسبه المجتهد صحيحاً وهو غير ذلك. وتفاوت النظر في استنباط العلة، وعدم التوفيق في الجمع بين حديثين ظهر منهما التعارض، وعدم العلم بالناسخ والمنسوخ.. الخ.(1/29)
هذه الأسباب جميعها وغيرها كثير تجعل الحكم في المسألة الواحدة مختلفاً. وهذه الأسباب وغيرها هي التي من أجلها ظهر التفاوت والخلاف في فتاوى المفتين، واجتهادات المجتهدين. وكثير من هذه الأسباب أصبح القضاء عليه سهلاً ميسوراً بعد حركة الطبع والفهرسة والتنظيم للتراث الإسلامي والتي أصبح بواسطتها الاطلاع على مجموع الأحاديث المتفرقة في المسألة الواحدة، وكذلك الاطلاع على آراء المفتين وفتاواهم. ولا شك أن كثيراً من الآراء والفتاوى القديمة التي كانت تخالف الكتاب والسنة أصبحت مهملة الآن بفضل الاطلاع الجيد لعموم الناس على كتب الحديث والفقه. ولولا التعصب المشين الذي ظل عليه بعض المتفقهة والمتأكلين بالدين لكانت وحدة التشريع -وعلى الأقل في أمر العبادة- حقيقة قائمة بالفعل.
ب- وإذا كان الخلاف قديماً بأسبابه التي ذكرنا بعضها آنفاً خلافاً معقولاً ومقبولاً. فإن استمرار هذا الخلاف في أمور وضح فيها الحديث الصحيح، والفهم السليم للقرآن من غيره يصبح خلافاً غير معقول ولا مقبول بل هو تعصب مذموم - يؤدي كثيراً إلى تحريف كلام الله. ورد كلام رسوله صلى الله عليه وسلم وهذا أمر خطير جداً.
فلا عذر اليوم لعالم ينهى أتباعه عن قراءة الفاتحة في الصلاة السرية ولا عذر لإمام ينهى أتباعه عن وضع أيمانهم على شمائلهم في الصلاة، ولا لإمام يرى كراهية دعاء الاستفتاح والبسملة والاستعاذة في الصلاة، ولا عذر لعالم يفتي لأتباعه بجواز شرب قليل الخمر إذا لم تكن من غير العنب، ولا عذر لإمام يجيز لامرأة أن تتزوج بدون ولي مهما كانت شريفة، ولا لإمام أو عالم يسمح لامرأة أن تسافر مع غير محرم وقد وضحت الحجة في كل ذلك من الحديث الصحيح الصريح. محتجاً بأن كل هذه الفتاوى صدرت عن أئمة الفقه والاجتهاد!!
وليس معنى هذا أنه لن يكون هناك خلاف في أمور الشريعة إطلاقاً بل سيكون هناك خلاف ولكنه خلاف لا بد منه في أمور محددة نستطيع ضبطه أيضاً والقضاء عليه.(1/30)
سيكون هناك خلاف في الحكم على ما يستجد من أمور في حياة الناس: أطعمة وأشربة جديدة. ومعاملات مستحدثة اختلط فيها الحرام بالحلال ويختلف فيها نظر المجتهدين. وسيكون الضابط في الوصول إلى الحق في هذه المسائل: الرجوع إلى الكتاب والسنة، وعقد مؤتمرات للعلماء العاملين وهو أمر ميسور في هذه الأيام. وتقدير المنافع والمضار وذلك ميسور في عصر تقدم فيه فن الإحصاء ومتابعة النتائج.
سيكون الخلاف في مثل هذه الأمور منطقياً ومعقولاً ومقبولاً ولكن بقاء الخلاف في أمر العبادات التي لا تتطور ولا تتغير بتغير الزمان والمكان خلاف مذموم غير معقول ولا مقبول بل ويجب القضاء عليه، وجمع المسلمين جميعاً فيها -أعني العبادة- على كلمة سواء وفعل واحد. ونبذ تلك الصور المشينة للخلاف والتعصب فيها.
4- وليس القضاء على هذا الخلاف الفقهي شيئاً ميسوراً -وإن كانت بوادئ هذا الأمر قد ظهرت والحمد لله- ولكنه عمل يحتاج إلى جهد طويل وعمل متواصل وأستطيع أن أجمل طرائق القضاء على هذا الخلاف في الأمور الآتية:
أ- العمل على توحيد مصادر التشريع الإسلامي عليها. وهي: الكتاب والسنة، والإجماع والقياس.
فأما الكتاب فقد كفانا الله مئونة الخلاف فيه بأن حفظه سبحانه وتعالى من الضياع والشتات. ولقد كان للعمل العظيم الذي صنعه الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه وهو جمع المسلمين في الأمصار على حرف واحد من القرآن أطيب الأثر في جمع المسلمين. ولولا أمره رضي الله عنه بحرق كل ما يخالف القرآن الذي جمعه لكنا اليوم أمماً شتى، لكل أمة كتاب لا أمة واحدة ذات كتاب واحد.(1/31)
وإن تتمة هذا الأمر هو وضع موسوعة قرآنية تحرر فيها المعاني اللغوية لألفاظه، والمعاني الشرعية لأحكامه، والمعاني التاريخية لأخباره، والمعاني الصحيحة السليمة لعقائده ثم نبذ كل خلاف ورأي مجانب للصواب في كتاب الله وخاصة ما يسمى بالتفسير الباطني الذي لا ضابط له من لغة ولا شرع، وإنما هو ما تمليه الشياطين والوساوس. وقد سارع من يسمون أنفسهم بالمفسرين العصريين إلى النقل من هذه المباءات!!
وأما الأصل الثاني فهو الحديث الشريف، وهذا المصدر العظيم بالرغم من أنه يعادل القرآن في كثرة أحكامه واتساع بيانه إلا أنه قد اختلط بغيره مما افتراه أهل الأهواء الباطلة والسياسات الخبيثة والنحل المختلفة، وإن كان جهابذة العلم من أهل الحديث قد وضعوا الضوابط والقوانين لتمييز الصحيح من الضعيف وقام رجال مخلصون منهم بالتمييز والتنقية إلا أننا نحتاج اليوم إلى فصل كل ما ثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم من كل ما افتري عليه، ووضع الثابت من ذلك في موسوعة حديثية واحدة يقال للناس بعدها: هذا ما صح عن الرسول فاحفظوه وارووه واستشهدوا به، ثم نقوم بحرق وإتلاف كل ما سوى ذلك، وسيكون ذلك من أسعد أيام حياتنا عندما نرى أن سنة الرسول قد ضمها كتاب واحد كما ضم كلام الله المنزل على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم كتاب واحد. وعندها نستطيع أن نحكم على كل خطيب ومؤلف وفقيه هل استدل حقيقة بكلام الرسول أم لا. وقد كتبت في هذا الموضوع رسالة صغيرة سميتها: (حاجتنا إلى موسوعة حديثية) بينت فيها الأدوار التي مر بها تدوين الحديث، وكيف اختلط بغيره وواجبنا اليوم نحو حديث الرسول صلى الله عليه وسلم والطريق السليم لجمع حديث الرسول صلى الله عليه وسلم في كتاب واحد.(1/32)
وأما الأصل الثالث فهو الإجماع وهو مصدر من مصادر التشريع بعد الكتاب والسنة ومعناه: إجماع أصحاب رسول الله، أو علماء المسلمين ومن يعتد بقولهم في عصر من العصور على مسألة معينة من مسائل التشريع.
والإجماع حسم للخلاف في مسائل كثيرة، ولكنه يُدَّعي حيث لا يكون، ويُفتقد حيث ينبغي أن يكون. فكم من عالم ادعى الإجماع في مسائل ولم يكن هناك إجماع، وكم من عالم أنكر الإجماع وادعى الخلاف، وقد كان الإجماع.
وضبط هذا الأصل يحتاج إلى لجنة من علماء المسلمين تتبع كل ما ادعي فيه الإجماع ثم تقوم بتحقيق ذلك فإن كان ثابتاً أثبتته وإن كان مجرد دعوى نفته، ثم تصدر كتاباً تجمع فيه -مبوباً- كل المسائل التي كان فيها إجماع، وبذلك تحدد أيضاً هذا المصدر.
ولا شك أن الإمام المسلم في زماننا يستطيع استخدام هذا المصدر حديثاً للقضاء على كثير من الخلاف في المسائل الشرعية الحادثة كالأطعمة والأشربة الحادثة التي كثر حولها الجدل والخلاف وصنوف المعاملات الحادثة كالتأمين والمضاربات والسندات.. الخ وذلك بجمع العلماء المشهود لهم بالخيرية والعلم للنظر في هذه المسائل وإعطاء الرأي والحكم فيها وبذلك ينبذ الخلاف وينقطع الجدل.
وأما المصدر الرابع فهو القياس وهو أصعب المصادر ضبطاً وتطبيقاً ولكن من الممكن وضع ضوابط محددة لهذا المصدر وطرق محددة مبسطة لطريقة استخدامه في استنباط الأحكام الشرعية. وبذلك يصبح هذا الميزان صالحاً معلوماً مفهوماً للمجتهدين في شتى بلاد الإسلام.
ب- وأما الأمر الثاني فهو وضع مرجع فقهي ذي رأي واحد وحكم واحد يحوي جميع المسائل التي يتحدد فيها الحق والباطل وخاصة في مسائل العبادات. وتعميم هذا على شتى بلاد الإسلام.
وباختصار نحن في حاجة إلى توحيد المسلمين في عباداتهم حتى تصبح صلاتهم وصيامهم وزكاتهم وحجهم، ومناسكهم واحدة لا خلاف فيها.(1/33)
ج- ومما سيقف عقبة في سبيل هذه الوحدة التشريعية الواحدة هو كتب الفقه القديمة بمشاكلها وتناقضاتها، وفرضياتها ومخالفتها لروح العصر. والكتب في ذاتها أدوات صماء لا تشكل خطراً على سعينا في سبيل وحدة التشريع ولكن المتعصبين لها هم الذين سيعز عليهم ترك هذه الكتب التي حملوا شهاداتهم الباطلة من حفظها والتعصب لها - وتتوقف إمامتهم الدينية على بقائها وقدسيتها، ولا شك أن إطلاع المسلمين المخلصين في زماننا على ما في هذه الكتب من تعصب مشين، وترد في هاوية التقليد، ومخالفة لروح الدين وسماحته -مع احترامنا وتقديرنا لمؤلفيها- سيقلل من شأن هذه الكتب ومن المتعصبين لها، وسيرفع ولا شك من شأن الدعوة السليمة في العودة إلى الكتاب والسنة. وليس المقام هنا مقام بيان لهذا الإجمال وسيكون لهذا البيان مقام آخر إن شاء الله تعالى.
والقول بأن هذه الكتب سلم لمعرفة الكتاب والسنة قول باطل لا يستند إلى علم ولا خلق بل هي عوائق لفهم الكتاب والسنة. وأنا أرشد من يريد البرهنة على كلامي أن يقوم بتدريس (آية الوضوء وحديث عثمان بن عفان في الوضوء في صحيح البخاري) لمجموعة من الأطفال ثم يقوم بتدريس أي مختصر فقهي لأي مذهب من المذاهب لمجموعة أخرى في نفس السن والدراية وأنا جازم الآن أن الأول سيكون بدرس أو درسين ولن يكون الثاني إلا بشهور عديدة. وأنا أشهد أن كثيراً من المتعلمين الذي لم يقرءوا آية الوضوء ولا حديث الوضوء، وتعلموا الوضوء من كتب الفقه لا يحسنونه ولا يفهمونه على النحو الكامل النظيف الخالي من التعقيد.
وإنني في هذا الصدد لأحمد الله تبارك وتعالى إذ انتشر في المسلمين اليوم الدعوة إلى فقه الكتاب والسنة على النحو السهل الميسر الذي تعلم به السلف الصالح وأصبحت الدعوة إلى التمسك بالكتب الفقهية المعقدة قاصراً على طوائف تندثر تباعاً، ويندثر معها التعصب والتعقيد والجهالة.(1/34)
ولا شك أننا سنستفيد كثيراً عندما نطالع وندرس كتب الفقه التي صنفها أئمة المذاهب أو التي ألفت بعد عهدهم بقليل، هذه الكتب التي ذكر الإمام فيها رأيه ودليله من الكتاب والسنة وناقش الآخرين في آرائهم وأدلتهم.
وارتضى ما وفقه الله له. إننا بذلك سنطلع على مبلغ علم من سبقنا بالإيمان والعلم والعمل وسيكون لآرائهم النيرة هداية لنا في مشاكلنا الحاضرة. ولكنها لن تكون جميعاً كذلك فإن ظروف البيئة التي عاشوا فيها جعلتهم يفتون في كثير من المسائل بآراء لا يمكن لنا الآن قبولها. ولا العمل بها. وكيف نقبل اليوم بأنه لا يجب على الزوج تكفين زوجته المتوفاة!! لأن الاستمتاع بها انقطع بالوفاة!! وقد كان الإنفاق للاستمتاع!! بل وكيف نقبل إجبار الزوجة على ما يسمى ببيت الطاعة وهو إرغامها على حياة لا تريدها ونجبرها على قص شعرها وإعطائه لزوجها حتى تسمح له بفسخ عقد تبينت هي فيما بعد أنه لا طاقة لها على الحياة مع هذا الرجل لأنها كرهته!! وغير ذلك كثير يطول حصره ولا ينبغي أن تقف هذه الآراء عقبة في سبيل وحدتنا التشريعية وبقاء ديننا. وإبقاؤنا لها إنما هو إحترام لقائليها من الأئمة والفقهاء!!
نحن نحترمهم ونقدرهم ونجلهم ولكننا لا نزعم العصمة لهم ولا نقول بأن جميع أقوالهم حق يجوز الأخذ به. بل بعض أقوالهم باطل لا يجوز الأخذ به وقد وضحت الحجة وظهر السبيل وبان الدليل. والله المستعان.
5- وبعد إذا استطعنا توحيد مصادر الشريعة وضبطها ووضع النظم والقواعد للاستفادة من تراثنا الفقهي التشريعي. فإن الخطوة التالية هي الجهاد لإحلال هذه الشريعة الغراء مكان الفوضى التشريعية التي نستوردها من الشرق والغرب. وهذا واجب دعاة الإسلام الذين سيبتلون ويحاربون في سبيل ذلك. وستكون الغلبة لهم إن شاء الله.(1/35)
وإن واجب واضعي المناهج في الجامعات الإسلامية التي تدرس الدين فقط أن يحلوا تدريس القوانين والمعاملات المدنية الإسلامية بتوسع وشرح مقارنة بين الإسلام والكفر أن يقتصدوا جداً في تعليم الطلاب آداب الحاجة، وشروط المياه، ومذاهب العلماء فيمن قال لزوجته (أنت طالق مرتين إلا واحدة هل تطلق ثلاثاً أم تكون طالقة مرة واحدة!!) كفانا إغراقاً في النوم وسعياً في الفوضى. وعماية وجهالة!! درسوا أبناء المسلمين في الجامعات. أحكام الإسلام وحدوده في القتل والزنا وشرب الخمر والسرقة والحرابة. وقارنوا لهم بين نظافة الإسلام وقذارة أعدائه ودرسوا لأبناء الإسلام قوانين السلم والحرب والمعاهدات ونظام السياسة الشرعية بين الحاكم والمحكوم وبين الدولة الإسلامية ودول الكفر.
وأما جامعاتنا المدنية التي اقتصرت على تعليم شئون الدنيا فإن واجب القائمين عليها هو إدخال تعليم الدين من الكتاب والسنة بنظافته وطهارته وسموه فإن فيه حلاً لمشاكلنا الحاضرة، وتقريباً لوجهة النظر وتوحيداً لأمتنا التي يلعب الموج بسفنها في كل اتجاه.
إننا إن فعلنا ذلك فإنه سيخرج في وقت قصير من الزمان علماء أجلاء يفهمون الشريعة الإسلامية على مستوى العصر. ورجال -أجلاء من أهل الدنيا- مهندسون وأطباء وصيادلة وتجار وأدباء يفهمون الدين على مستوى العصر أيضاً وبذلك يجد الجميع بغيتهم في الوحدة.(1/36)
واليوم للأسف نملك شيوخاً يفهمون قشور الإسلام على مستوى عصور قديمة تغير بعدها نظام حياة الناس وطرائق معاملاتهم. ما قيمة عالم يقرأ آيات الربا ولا يفهم نظام المعاملات الربوية القائم الآن وما قيمة عالم لا يستطيع الرد على ملحد يزعم أن قطع اليد في السرقة وحشية، وأن الزواج بأربع نساء همجية ورجعية؟ وما قيمة عالم بالشريعة يزعم أن السياسة ليست من الدين وأنها وقف على هذا الطابور الجاهل من محترفي السياسة ولصوصها؟! وما قيمة عالم بالشريعة لو دعي إلى نداء الجهاد وحمل السلاح يقول: ليس هذا من شأن رجال الشريعة إننا نستطيع فقط الفتوى في الحلال والحرام والحيض والنفاس والطلاق!!
إننا نريد علماء على مستوى العصر علماً وثقافة وأدباً وخلقاً وشجاعة وإقداماً وفهماً لأساليب الكيد والدس على الإسلام، ولا نريد هذا الطابور من العلماء المحنطين الذين يعيشون بأجسادهم في عصرنا ولكنهم يعيشون بعقولهم وفتاواهم في غير عصورنا.
لو وجد هذا الصنف من العلماء فإنه سيكون الرباط القوي الذي يحزم هذه الأمة المفككة في رباط تشريعي وخلقي واحد.
وهذه دعامتنا الثانية نحو وحدة أمتنا الشريعة الواحدة التي يقوم عليها ويحرسها علماء أجلاء يعيشون على مستوى عصرهم فهماً وعلماً وعملاً.
6- لعلي بهذا الاستطراد السابق لم أشط بك أيها القارئ الكريم فما زلنا في سعينا نحو تحقيق وحدة شريعتنا. وقد ذكرت في الفقرة السابقة إن ذلك لن يكون إلا برجال على مستوى عصرهم فهماً وعلماً وذلك أن (الحكم على الشيء فرع عن تصوره) ومعنى هذه العبارة: إنك لا تستطيع أن تحكم على شيء إلا إذا تصورته تصوراً صحيحاً. والعلماء الذين يراد منهم الحكم على ما جد من أمور في حياة الناس لا بد أن يعلموا أن هذه الأمور والأحكام الإسلامية تشمل السياسة والمعاملة.(1/37)
ومعاملات الناس في عصرنا متشعبة معقدة وما لم يوجد لدينا رجال للإسلام يفهمون السياسة الحاضرة بدروبها ومنحدراتها والتوائها ليحكموا عليها، وليوجهوها نحو الإسلام فلا أمل في خلاص هذه الأمة مما هي فيه. وأولى أمور الناس في الشريعة بالبحث والحكم هي أمور السياسة التي يحتكرها اليوم أناس ليسوا من أهلها بأي حال. وأهل السياسة الحقيقيون هم رجال الإسلام وعلماء الأمة الذين سيحققون العدالة الحقة والمساواة الحقة، ويقودون الأمة بشجاعتهم وشهامتهم نحو النصر. والحكم على المعاملات الجارية من بيع وتجارة ورهن وضمان وتأمين يجب أن يكون لرجال الإسلام الذين يفهمون الموازين العادلة التي أنزلها رب السموات والأرض. وإذا كان هؤلاء العلماء أصحاب مصادر واحدة للحكم، وثقافة واحدة للحياة فإن أحكامهم على هذه الأمور ستكون متقاربة إن لم تكن واحدة. وهذا ما نفقده ونسعى إليه. ونصرخ في أذن الأمة لتسعى إلى إيجاده.
7- وحتى نصل إلى ذلك وقد يكون بعيداً نسبياً فإن ثمة موازين عاجلة إن استعملناها في وقتنا الحاضر يسرت علينا سبيل هذه الوحدة وجعلت أحكامنا على الأمور صائبة:
أ- الأمر الأول الذي أنصح به علماء المسلمين الذين يتصدرون للفتيا والتشريع أن يطلعوا على آراء غيرهم وأدلتهم قبل أن يفتوا فقد يكون الحق والحجة مع غيرك.
ب- والأمر الثاني أنه لا يجوز أن يفتي الناس من لا يعرف دليل فتواه من كتاب أو سنة. ولا يكفي أبداً أن يفتي المفتي بقول ينسبه إلى أحد الأئمة المجتهدين وقد قال الإمام العظيم رحمه الله ورضي عنه أبو حنيفة النعمان: "حرام على من لم يعلم دليلي أن يفتي بقولي" فلنتق الله ولا ننشر رأياً في الناس إلا بعد علم دليله من كتاب الله أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم.(1/38)
ج- وأما الأمر الثالث: فإن واجب العلماء أن يتهموا آراءهم في الدين فكم من قائل رأياً اليوم عائد عنه غداً. فلنتهم آراءنا، ويكفينا في ذلك كلام عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: "أيها الناس اتهموا الرأي في الدين. فوالله لقد كدت أن أرد على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره يوم حادثة أبي جندل) وكان ذلك في فتح الحديبية عندما وقع الرسول شروطاً لم يرتضها المسلمون وظنوها ظلماً لهم، ورضي بالدنية والذل، وقد كانت بفضل الله غير ذلك بل كانت أعظم فتح في الإسلام. فالواجب على كل عالم من علماء المسلمين إتهام رأيه في الدين وخاصة في أمور السياسة الشرعية والدعوة إلى الله تبارك وتعالى، وما يستجد من أمور في حياة الناس فيسارع إلى التكفير بغير دليل، أو التفسيق أو التحليل أو التحريم فيقول الله له: كذبت لم أحرم هذا!! أو يقال له كذبت لم يكفر فلان بهذا الفعل بل كفرت أنت!! ومن قال لأخيه المسلم يا كافر فقد باء بها أحدهما.
د- وأما الأمر الرابع فإن الواجب على كل مسلم أن يعذر أخاه ويسامحه في الأمور الخلافية التي لا يتحدد فيها معنى النص تحديداً يجعل ما سواه باطلاً، وكم من وقائع كان فيها خلاف بين الصحابة، ولكن بعضهم عذر بعضاً، وسامحه. وترك له رأيه.
هـ- ولم يبق بعد إلا أمر أخير وهو أن يتقي الله امرؤ يتكلم عن الله وعن رسوله!! يتكلم باسم الله وباسم رسوله!! فليحذر من الكذب عليه.
هذه موازين خمسة أرجو إن وزن بها علماؤنا أن يوفقوا دائماً إلى الحق وبذلك نحقق الشريعة الواحدة ونخرج مما نعيش فيه من فوضى تشريعية في جميع نواحي حياتنا.
بعث آداب السلوك والخلق(1/39)
1- لو قيل إننا أمة بلا أخلاق لما كان هذا القول كذباً! ولو قيل إن من أسباب نكبتنا الحاضرة ضعف أخلاقنا لكان هذا قولاً صواباً، ولو قلنا إننا في نهضتنا الحاضرة يجب أن نسعى إلى بناء أخلاقي متين لكانت هذه الدعوة واجبة بل هي دعوة الإصلاح الحقيقية. فما الأخلاق؟ وما منزلتنا منها؟ وكيف نكون أمة ذات خلق؟
2- لن أبحث هنا بحثاً فلسفياً عن الأخلاق وموازينها وأهدافها وغاياتها وإنما أريد أن أبحث حيث يكون الإتفاق عاماً، والقضايا لنصل إلى ما نريد دون عناء وإعنات.
أ- لا ينكر أحد أن أخلاق علمائنا -إلا من شاء الله منهم- وقادتنا ومفكرينا وأصحاب الأقلام منا في غاية السوء. فالصدق والشجاعة وهما دعاماتا الأخلاق كلها تكادان أن تكونا مفقودتين بين أولئك وبين عامة الشعب إلا أفراد قلة - يهمل حكمهم لقلتهم وندرتهم.
ب- ولا ينكر قيمة الأخلاق في ميزان الواقع إلا جاهل وأعني بذلك أن فائدة الأخلاق وقيمتها المادية قد تكون أكبر من المال والعلم والشهادة والخبرة. ومثال ذلك تاجر يملك مائة دينار وهو ذو خلق وتاجر يملك مائة دينار وهو خلو من الأخلاق الطيبة، في ميزان الواقع والمادة لو كانت خبرتهما بالتجارة سواء لربح الأول أضعاف ما يربح الثاني. ولأفاد مجتمعه أضعاف ما يفيده الثاني بل التاجر الخالي من الأخلاق قد يضر مجتمعه بالإحتكار والغش وغير ذلك.
وجندي ذو خلق أفضل في الميدان من مائة جندي بلا خلق فمن الأخلاق الشجاعة وهي مطلوبة في الميدان، ومن الأخلاق الأمانة. وإذا لم يكن الجندي أميناً فهو عدو. ومن الأخلاق الإيثار والتضحية ولا ينتصر جيش إلا بإيثار وتضحية، وأما جيش يحرص كل فرد فيه على حياة نفسه، فإنه لا يذوق طعم النصر.
وعالم ذو خلق سيكون تأثيره في مجتمعه أضعاف أمثاله الخائفين المماثلين المنافقين بل إن أولئك وإن حملوا العلم وحفظوا المسائل هم دعاة إلى الشر صادون بفعلهم وقولهم وسيرتهم عن سبيل الله.(1/40)
وحاكم ذو خلق - هو رحمة الله في الأرض ولا أقول هو خير من حكام غيره ليس عندهم أخلاق بل الحاكم إذا عري عن الصدق والشجاعة والأمانة والرحمة فلن يكون إلا ذئباً جائعاً مسلطاً على رقاب الناس وأعراضهم. وأظن بعد ضربي لهذه الأمثلة أنه لا ينكر فضل الأخلاق - إلا جاهل غبي ورحم الله شوقي إذ يقول:
وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن همو ذهبت أخلاقهم ذهبوا
وإن من الشعر لحكمة!! فأمتنا ذهبت يوم ذهبت أخلاقها. ولن تعود للحياة إلا يوم تعود هذه الأخلاق التي جعلت منا أمة في السابق.
3- قد يقال إننا في حاجة إلى علم وتقدم مادي وسلاح وخبرة ولا ننكر هذا ولكنه دون سعي إلى بناء أخلاقي فإنه ضائع ذاهب، فنظرة واحدة إلى طبيب قد كفلت له المقدرات المادية. والمقدرة العلمية الطيبة وهو عار من الأخلاق سترينا كيف تهدر نقودنا هباء، ويعود مرضانا بعلل أكبر من التي ذهبوا بها إلى مستشفياتنا. ونظرة أخرى إلى مهندس حاذق قد أؤتمن على مشاريع الأمة وأموالنا سترينا كيف ضاعت هذه الأموال هدراً، وكيف فقد سيادة المهندس حذقه وتجربته وعلمه يوم فقد أمانته وأمانة أمته. كيف غشها لنفسه، وسرق مالها لجيبه.
ونظرة ثالثة -مقنعة- سترينا كيف إن قوادنا ورؤساءنا الذين كان الأمل فيهم أن يسهروا لننام!! وأن يخاطروا بأنفسهم لننجو نحن. وأن يقدموا أرواحهم لتحيا أمتهم. كيف أنهم آمنين محاطين بالحراس!! ونمنا خائفين متوجسين من أعدائنا. وكيف شبعوا وجاعت بطون شعوبهم. وكيف قدمونا للموت وجلسوا خلفنا يرسلون الدموع.
نحن في حاجة إلى أخلاق!! أستوردوا الأخلاق الجيدة قبل أن تستوردوا السلاح الجيد وعلموا شعوبنا الخلق قبل الطب والهندسة وفنون الحرب والقتال!! نحن في حاجة إلى بعث خلقي كامل من الرأس إلى القدم من السيد إلى الخادم . فكيف نبني هذه الأخلاق؟؟!!(1/41)
4- في مطلع هذه الرسالة انطلقنا من منطلق محدد وهو الإسلام وأحب أن أذكر به ثانياً حتى لا نتيه بفعل ثقافتنا المتغايرة ونظرتنا المختلفة إلى الأخلاق إذ ما من حق كثر حوله الخلاف ما كثر حول الأخلاق فالنظرة إلى الخلق مختلفة باختلاف العقيدة، والمذهب والإتجاه، وتبعاً لذلك البيئة حيث يتجمع أناس تسود بينهم عقيدة واحدة. وأمثلتي السابقة التي شرحتها وبينتها لن تفيد جاهلاً يقول: الأخلاق نظام برجوازي وضعه الأغنياء ليستذلوا به الفقراء فيعلموهم الأمانة حتى يحافظوا على أموالهم والصدق حتى يسودوا عليهم.. ولن تفيد ساقطاً آخر يقول ما للجنس والأخلاق تلك حاجات وحريات شخصية لا دخل للأخلاق بها. ولن نذهب لنناقش هؤلاء وهؤلاء ما هم فيه من عماية وجهل. وقد كتبت رسالتي هذه لأبناء أمتي التي لم تتدنس فطرهم بعد والذين يملكون قدراً سوياً من الفهم والخلق والذين يشتاقون إلى رفعة أمتهم وعزتها ولكنهم يجهلون الطريق إلى ذلك.
وأعود بعد هذا الاستطراد إلى الجواب عن السؤال الذي طرحته آنفاً ما الأخلاق؟ وأقول لقد كفانا الله مئونة هذا البحث الذي وصل فيه الناس قديماً وحديثاً. الأخلاق التي نريدها هي تلك التي بينها الله في كتابه وبينها رسول الله بقوله وعمله.(1/42)
وليست رسالته إلا تتميماً لمكارم الأخلاق. ويكاد أن يكون الدين كله خلق فتوحيد الله خلق لأنه اعتراف بالحق وشكره خلق لأنه عرفان بالجميل، وعبادته خلق لأنه مجازاة للإحسان بالإحسان، وضوابط المعاملات خلق، لأنها أخذ بالعدالة، والشجاعة خلق وقد أمر بذلك والأمانة خلق وقد أمر بذلك، وليس هناك من نهي إلا وهو نهي عن خلق سيئ. فديننا دين أخلاق ومن كان عارياً منها فليس بمسلم قطعاً. هذه قاعدتنا التي نقف عليها، أخلاق الإسلام الحميدة من شجاعة وتراحم وأمانة وصدق وعرفان بالجميل وشكر على الإحسان، وعفو عند المقدرة، وصبر على البلاء ومجالدة الأعداء وغير ذلك من أخلاق لن يحوي دستور العالم أجمع قطرة من بحر دستور الإسلام في الأخلاق.
5- ولكن يا حسرة على المسلمين. إنهم أكثر الأمم عرياً من الأخلاق وانغماساً في الرذيلة، وإغراقاً في الفوضى والقذارة والانحطاط!! والله إن الإسلام من هذا براء!! فمن هذا شأنه ليس من الدين في شيء.
6- وهنا يبرز هذا السؤال. عرفنا الخلق الذي نريد بعثه ونشره وعرفنا حال الأمة. عرفنا الدواء وعرفنا المريض فكيف نعالج كيف نصيب هذه الأخلاق المكتوبة لتكون نماذج حية متحركة؟ كيف نبعث أخلاق أمتنا من جديد؟ وتفصيلات هذا الجواب ليست من موضوعات هذه الرسالة، ولقد بحثت هذا الأمر مفصلاً في (أصول الدعوة وقواعدها "الأصول العلمية للدعوة السلفية") أرجو أن أوفق إلى نشره قريباً -إن شاء الله- وسأكتب هنا بياناً مجملاً للجواب على هذا السؤال:
هناك ثلاث دعائم رئيسة لتعليم أي سلوك أو خلق أو عقيدة أما الدعامة الأولى فهي البيان. ونعني بالبيان إيضاح الفكرة المقصورة سواء كانت عقيدة أو سلوكاً أو خلقاً. وللبيان أساليبه الكثيرة المتعددة.
وأما الدعامة الثانية فهي بيان الغاية والمقصد لهذه الفكرة وبيان الغاية بمثابة الحافز للعمل. وبدون هذا الحافز لا تندفع النفس للعمل والامتثال.(1/43)
وأما الدعامة الثالثة: فهي امتثال الداعي إلى الخلق بما يقول به، والتزامه بكلمته.
وعلى الأسس السابقة سنبين دعوتنا إلى الأخلاق، بيانها أولاً من الكتاب والسنة بأي أسلوب سواء كان خطابة أم كتابة شعراً أو نثراً أو مقالة أو تأليفاً. وثانياً قرنها بالغاية والهدف منها، وبيان آثارها في النفس والمجتمع والحياة الدنيا والآخرة. وثالثاً امتثالنا نحن لما نقول به، فلا يصدر منا إلا ما نستطيع فعله، وما نقدر نحن على أدائه.
وعلى أساس من القواعد السابقة سنحاسب أنفسنا على ما نقول ونفعل ونحاسب غيرنا على ما يقول ويفعل؛ سنحاسب أنفسنا على الأخلاق سواء كانت شيئاً هاماً عظيماً كأمانة الحاكم وصدقه وشجاعته، أو شيئاً يسيراً كإلقاء قارورة فارغة في الطريق أو تقذير مكان عام!!
وعلى أساس من القواعد السابقة سنعاقب على مخالفة مبادئ الأخلاق كما نعاقب على مخالفة لوائح القوانين. ويجب عندئذ أن نقدر الغرامات المادية والأدبية لكل مخالفة لخلق نتفق عليه.
لماذا لا نفرض عقوبة مقدرة لمن يسب الأعراض؟ ويلعن الوالدين؟. بل ويلعن الدين والرب والرسول! وأي مقدرات لنا بعد انتهاك حرمات الدين والعرض والرسالة والألوهية!! أيسن القانون لسب الحكام وتقدر العقوبات الزاجرة لذلك ولا يسن القانون لمن يهدم عقيدة الأمة وخلقها وعرضها وتاريخها ودينها!.
يجب أن نطالب بوضع قانون أخلاقي كامل يقدر العقوبة على إساءة الخلق من سب الرب ابتداءً إلى البصق في الشارع انتهاءً ويحق أن يكون كل فرد فينا حارساً لهذا القانون ابتداءً من الحاكم المنصب وانتهاءً بأقل من عامة الناس.
لست أدري كيف نرشح للطب والهندسة والقيادة الحربية والتربية والتعليم والوعظ والإرشاد والخطابة أناساً غير ذي خلق؟ لماذا لا يوضع قانون أخلاقي يحاسب كل أولئك على أخلاقهم وسيرتهم قبل أن يحاسبهم على عملهم وثقافتهم؟!(1/44)
ولست أريد بذلك أن أجعل السيف مسلطاً على رقاب الناس عند كل صغيرة وكبيرة. كلا! بل أريد أن نلتزم بتنفيذ فقط ما نتفق عليه وذلك أن تساهلنا في صغائر الأمور يجرنا إلى التساهل في عظائمها.
لقد أصبحنا ننظر إلى كذب الحاكم على شعبه بنفس النظرة التي ننظر بها إلى أب يكذب على ابنه، ويوم نلوم أباً يكذب على ولده لحرصنا أن لا يتعلم طفل من أطفال الأمة الكذب. فإننا سنعظم هذا الأمر من المسئول والحاكم.
إن الجريمة الخلقية جريمة سواء ارتكبت مع فرد واحد أو أمة وشعب ويجب أن تعظم الجريمة لذاتها قبل أن نعظمها لآثارها المباشرة. فالله سبحانه وتعالى يدخل إمرأة النار في هرة لأنها حبستها حتى ماتت جوعاً، لأن هذا الفعل في ذاته جريمة خلقية بصرف النظر عن أثر هذه الجريمة المباشرة وأنه موت قطة!!
7- إن أول عمل سنقوم به لننشر الأخلاق الكريمة هو استنكار ما نراه من إساءة للخلق بأي صورة من الصور ومن أي فرد من الأفراد.(1/45)
8- إن أبناء أمتنا يزورون بلاد الغرب، ويكون جل حديثهم وإعجابهم على ما شاهدوه من حسن المعاملة، لا ما شاهدوه من تقدم وحضارة. وبعد أن فتحت الضفة الغربية ليزورها أبناء العرب فإنهم يشدهون بحسن معاملة الجندي الإسرائيلي لامرأة عربية تحمل طفلاً فيحمل عنها طفلها حتى تنجز معاملاتها ويعطي طفلها الحلوى والبسكوت ويهش له - ثم يودعها بكلمة طيبة. فإذا انتقلت إلى الشاطئ الآخر شاطئ العرب سمعت الإهانة، ورأت الشماتة، وعطش وليدها ولم يجد شربة ماء، ولم تنجز معاملتها إلا بعد أن ينفد صبرها!! وهذا هو الخلق الحسن يحمل عدوك على احترامك وهذا هو الخلق السيء يحمل صديقك على عداوتك، وكيف تعيش أمة وتحيا يسود بين أفرادها مثل هذه الأخلاق التي نعرفها جميعاً. إننا جميعاً مطالبون باستنكار كل صور الإهانة الخلقية لأي فرد منا في أي موطن من المواطن، وإن كل فرد منا مطالب بأن يسلك أمثل الأخلاق في معاملته لإخوانه، ليس مسلماً من يتعدى الصفوف ليقطع تذكرة! أو ليدخل على طبيب، أو ينجز معاملة!! وإخوانه ينتظرنه في ذلة مهينة، وفوضى مخزية، فمتى نفيق لتغيير هذا الواقع المرير.
9- إن بعث هذه القضايا الخلقية سيجعلنا نضع حساباً لكل مسئول يستخدم المسئولية التي أناطتها الأمة به في سبيل مصلحته ومصلحة معارفه وأقاربه. إن الأمة لا تستفيد من مقدراتها، ومالها وإمكانتها إلا بجزء يسير وأما الباقي فإنه يصرف في المصالح الخاصة وهذه قضية خلقية خطيرة يجب أن نضع لها حساباً وقانوناً فليس خلقاً أن تؤمر الشعوب بعيش الكفاف والتقشف ويعيش الملوك وأشباه الملوك في الحرير والديباج.(1/46)
10- وفي نهاية هذا الفصل أقول: نحن بحاجة إلى وضع قانون أخلاقي للأمة بأسرها، فلا نرفع إلى مستوى المسئولية إلا من هو أهل أخلاقياً وننحي بواسطة هذا القانون عن المسئولية من ينتهك حرمة هذه الأخلاق، وبذلك نضع الأمة جميعها في موضع الحارس لأمانة الأخلاق التي بدونها لا نستطيع النهوض والحياة مرة ثانية.
من هم أعداؤنا؟
1- إذا استطاعت أمتنا أن تعرف منطلقها نحو النصر، وأرضها التي تقف عليها وأنها الإسلام، واستطاعت في ظل الإسلام أن توحد عقيدتها، وأن تنظم تشريعها وتوحده، وتنزل به إلى واقع الحياة، واستطاعت بعد أن تبني أخلاقها بناءً سوياً متكاملاً فليس أمامها بعد إلا إن تعرف أعداءها، لتحذرهم ولتواصل سيرها نحو العز والمجد. فمن أعداء هذه الأمة الإسلامية؟
وقبل أن أجيب على هذا السؤال، أحب أن أبين القاعدة التي يبنى عليها اعتبار العداوة وانتفاؤها.
إن أسباب العداوة بين الأمم غير الإسلامية كثيرة منها العداوة من أجل الجنس، والعداوة بسبب اللون، والعداوة بسبب المصالح ومناطق النفوذ، والعداوة بسبب الدين. وكل هذه الأسباب تؤجج حروباً، وتدمر بلاداً. وتفني شعوباً. وقد يتفق هؤلاء الأعداء الذين فرقتهم الأسباب السابقة إذا وصلوا إلى حلول رضيها الجميع وهنا ينمو ما يسمى بالتعايش السلمي. وقد تكون هذه الحلول تنازلاً من كلا الطرفين عن جزء مما يعتقد به، ويسعى من أجله. ولكل ما سبق أمثلة كثيرة يعلمها من اطلع على تاريخ الأمم وحروبها ومشاكلها.(1/47)
والأمة الإسلامية ينبع اعتبارها للأعداء ابتداء من عقيدتها. فأعداء هذه الأمة هم أعداء دينها، وكذلك من يساعدهم ويظاهرهم ويشد أزرهم في حربها. وعلى هذا الأساس، لا نقبل صداقة أمة وشعب يتودد إلينا بالمساعدة المادية ويحارب ديننا وعقيدتنا. وبالمفهوم السابق تصبح كلمة (كافر) في الشريعة تعني (عدواً) بالصفات المذكورة لذلك. فالكفار المحاربون لعقيدتنا. ولمن ينتمي إليها أيا كانوا لا يجوز اعتبارهم أصدقاء إلا أن اردنا انسلاخاً من رسالة الإسلام.
وهؤلاء الكفار في وقتنا الحاضر المحاربون لنا ولعقيدتنا هم الشيوعيون الملحدون، والنصارى المتعصبون الداعون لحرب الإسلام وقتل المسلمين، واليهود المتعصبون المحاربون، وطوابير المنافقين المنبثين في صفوفنا. والوثنيون المتعصبون المحاربون للإسلام.
أما اعتبار كون هؤلاء أعداء لنا شرعاً فلا مجال للنقاش فيه لأنه حكم يعلمه كل مسلم مطلع على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
ومن الأدلة على ذلك قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين} (المائدة:51).
وقوله تبارك وتعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق يخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا بالله ربكم إن كنتم خرجتم جهاداً في سبيلي وابتغاء مرضاتي تسرون إليهم بالمودة وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم ومن يفعله منكم فقد ضل سواء السبيل} (الممتحنة:1).
وقوله تعالى: {لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها رضي الله عنهم ورضوا عنه أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون} (المجادلة:21).(1/48)
ولقد كان تفكك صف المسلمين وضعف قوتهم من جراء موالاة أعداء الله تبارك وتعالى والبوح بأسرار المسلمين لهم، والتاريخ القديم والحديث شاهد أمين على ذلك.
وإن أعظم خطر على الأمة هو هؤلاء العملاء الذين ينبثون في صفوفنا باسم (الخبراء) وخاصة في شئوننا العسكرية والحربية ولقد كان البلاء كل البلاء من اطلاعهم على عوراتنا، وتسلمهم زمام أمورنا، واستشارتهم وطلب نصحهم في حربنا مع بعض أعدائنا وهم من ألد أعداء أمتنا.
ولست أعني بذلك أن نعلن الحرب منذ البدء على كل أولئك، وإنما أردت اعتبارهم من البدء أعداءً -مهما بالغوا في إظهار عطفهم ومحبتهم- ثم اتخاذ السياسة الشرعية في حربهم، فلا هجوم على عدو إلا باستعداد مماثل لإستعداده، وبقوة مقاربة لقوته، وتقديم الأهم على المهم واجب، والعدو الملاصق قبل العدو البعيد ولا شك أن المسلمين في أثناء ذلك لا بد لهم من مهادنة بعض الأعداء ليتفرغوا إلى بعضهم، ويحدد هذا السياسة الشرعية الواعية المرحلية.
وعندما ذكرت اليهود والنصارى والمجوس فإني ذكرت فقط المتعصبين منهم الداعين لمذهبهم الباطل، المريدين للمسلمين الكفر الساعين بينهم بالفساد والإفساد، واما المعتدلون منهم. الذين يعيشون في أوساطنا، وقد انتموا إلى عروبة هذه الأمة. ولم يكرهوا دينها، ولم يحاربوا رسالتها فلهم حقوقهم وعليهم واجباتهم، ولهم منا كل بر وإقساط وعدل ومرحمة.(1/49)
ولن تفلح الوسائل السطحية التافهة، والخطب الرنانة الجوفاء -بعد- في حرب المتعصبين للمذاهب الباطلة من أعدائنا. فإن المكر والخداع والخبرة الطويلة في قرون متعاقبة - لحرب الإسلام والمسلمين من أولئك قد مكنهم من معرفة الأساليب الخبيثة. والمفرقة في الكيد والمكر. ولذلك لا بد من دراسة واعية مستفيضة لكل أساليب حرب الإسلام والمسلمين، وإذلال دولته حتى يكون التصدي لهذه الأساليب على مستواها، وإلا كان جهاداً هزيلاً يظهر للعالم ضعف الإسلام لا ضعف المسلمين، وما هابه الإسلام في أعين كثير من الناس إلا يوم هابه المسلمون عن رد كيد أعدائه، وضعف شأنهم في رد مكرهم. وقد يكون الرد الساذج التافه على أعداء الإسلام، والتصدي الضعيف الواهن، والجهاد الخاطئ أشد إفساداً لرسالة الإسلام وإضعافاً للمسلمين من كيد الأعداء أنفسهم.
ولذا لا بد وأن يكون المسلمون على مستوى مسئولياتهم في العصر الحاضر.
فعلماؤنا الفضلاء الذين لا يدرون شيئاً عن الجمعيات السرية للأعداء، ولا يدرون كثيراً عن مخططاتهم، ولا يدرسون شبهات أعدائهم، ودسهم لن يصلحوا بتاتاً في الرد على كيد أعدائهم، ولن يستطيعوا تخليص شباب الأمة من مخالب هذا الكفر البغيض.
وقد أُلِّفَتْ والحمد لله عدة مؤلفات تبين كثيراً من هذا الدس الخبيث قديماً وحديثاً أذكر منها على سبيل المثال لا الحصر ليستنير بها دعاتنا الكرام، وعلماؤنا الأفاضل في حربهم لأعدائهم: (التبشير والاستعمار، والغارة على العالم الإسلامي، حصوننا مهددة من داخلها، وفي وكر الهدامين، وبروتوكولات حكماء صهيون، واليهودي العالمي، الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر). هذا بالإضافة إلى كتب الجاسوسية الأمريكية، وفضائح المذابح الشيوعية وحرب الإبادة للمسلمين في بلادهم، ومنشوراتهم الرهيبة لحرب الإسلام والمسلمين.(1/50)
إن هذه المعرفة بهؤلاء الأعداء ستنير لنا الطريق، وتوضح لنا معالمه، وبذلك نأمن في مسيرتنا نحو النصر هذه الأفاعي الخبيثة المبثوث بعضها في طرقنا بل وفي بيوتنا وداخل حصوننا.
وما لم تكن هذه الكتب وأمثالها مدروسة مقروءة على المستوى الإلزامي العام، ومقروءة على المستوى الشعبي الجماهيري، ومفهومة لدى الداعين الواعين فإن هذه الأمة ستظل في التيه والحيرة لا تدري من العدو ومن الصديق، ومن الذي يصادق، ومن الذي يحذر.
والمشكلة في هذا أن العدو الداس الواحد يستطيع تفريق الأمة، وتشتيت رجالها إن هو أحسن استخدام أساليب المكر والخداع وكم من أعدائنا من يحسن ذلك!!
ما حجم قواتنا؟
لم يبق في هذه الرسالة إلا هذا الفاصل، أحببت أن أختم به نفيري لأمتنا العزيزة معرفاً رجالها وقادتها -وكثير منهم يعلم- حجم قوتهم، ومقدرتها.
وإذا كانت الفصول السابقة من رسالتي هي بناء أو محاولة لبناء الجانب العقدي الإيماني في رجالنا. فإن هذا الفاصل المجمل هو لبيان الجانب المادي، المقومات المادية لأمتنا.
وإذا كانت أمتنا تحتاج -حتى تكون على مستوى سوي أفراداً وجماعات- العقيدة الواحدة الدافعة (الإيمان) والتشريع الواحد، والخلق الكامل. فإنها تحتاج كذلك في بنائها المادي إلى التنظيم الشامل الكامل.
فما مقدرات أمتنا المادية؟ وما مقدرتنا نحن على استخدامها؟
لن أطيل كثيراً في هذا فليس هذا من اختصاصي ولكني سأذكر خطوطاً عريضة فيه أراها لازمة لقيام أمتنا وبعثها من جديد.(1/51)
فأما الله سبحانه وتعالى فإنه قد مَنَّ على هذه الأمة بكل مقومات القوة: فالموقع الهام في العالم، والمناخ الأفضل، والأنهار الجارية. والمياه المتوفرة، والتربة الصالحة، والأرض الخالية، والرجال الأقوياء، والكنوز المدفونة، والعدد الصالح العظيم، والاستجابة للحق عند رجالها، والشهامة والمروءة، كل هذا والحمد لله متوفر، لم يحرم الله منه أمتنا. ولكن كلنا يعلم أن جميع هذه المقدرات ضائعة تالفة.
فموقعنا الممتاز أصبح نهباً للأعداء، وأرضنا، وأنهارنا بلا استغلال أو باستغلال تافه، وأموالنا في مصارف أعدائنا. وفي أيدي سفهائنا، ورجالنا في شتات وضياع فأهل العلم المادي والخبرة منا يهملون في أوطانهم ويهانون، ويكرمون عند أعدائنا فيهربون إليهم ويكونون عوناً لهم علينا، وكنوزنا من الذهب الأسود لا نستفيد منها إلا قليلاً لعدم قدرتنا على التحكم في استخراجها والهيمنة على شركاتها وكنوزنا من الذهب الأصفر والعملة السائلة مودعة بمصاريف أعدائنا يستغلونها كل الاستغلال حتى في حربنا وإنهاك قوتنا ومساعدة عدونا.
ولست أدري كيف كان يمكننا أن نحارب إسرائيل، ومالنا ليس بأيدينا، والمال عصب الحرب الطويلة الناجحة. إننا نحتاج قبل هذه الحرب إلى أن تكون أموالنا بأيدينا، وأعني بهذه الكلمة أن يكون حفظ غطائها الذهبي - ببلادنا، وأن يكون لنا عملة معترف بها دولياً، وأن تكون استثماراتنا لنا، ونحن الذين نهيمن على أموالنا، وبالطبع لن نستطيع فعل ذلك إلا إذا استقر الأمن والنظام ببلادنا، وانتهت مظالم تأميم الأموال والشركات، وأصبح رأس مال الأغنياء الشرفاء يتمتع بالحماية والأمن. وبذلك تبرز رؤوس الأموال المخبوءة ببلادنا، ويفد إلينا ما غاب عنا بمصارف أعدائنا. وبالطبع سيعمل هذا على رواج الصناعة والزراعة في مجتمعاتنا المنكوبة. وسيكون هذا عماداً لحرب طويلة مع العدو.(1/52)
وأما الرجال فنحن نملك منهم ما نستطيع أن نسود به الدنيا لو ربوا التربية الإسلامية العسكرية الجادة، وعلموا كيف يبذلون أرواحهم ودماءهم لا يبغون إلا أن تكون كلمة الله هي العليا، وكلمة الذين كفروا هي السفلى. ولكن لا يقف دون هذه الغاية إلا خوف ضعاف حكامنا على مراكزهم، ولكن ليعلموا أن تسليح شعوبهم، والنهوض بها عسكرياً وإيمانياً هو أقوى الدعائم التي تحفظ لهم ملكهم وعزهم، وذلك أن الشعوب والأمم مفطورة على حب وتعظيم الحكام المخلصين الصادقين.
وأما الخبرة العلمية فهي متوفرة في رجالنا المسلمين المخلصين ولكنهم يحاربون في أرزاقهم ونبوغهم من ذوي النفوس الضعيفة الذين يحبون السيطرة بجهلهم ولذلك يعادون العلم وأهله، ويقدمون المنافقين المتزلفين، ولذلك يرحل أهل الخبرة والعلم المادي من بلادنا إلى بلاد الكفر حيث يلاقون هناك التكريم والتبجيل والدرجات العلمية، والثراء!! ولكن إذا سرت الروح التي أرجو أن أكون قد أوضحت طريقها في هذه الرسالة -في أمتنا- فإننا سنعرف لأهل الفضل فضلهم، وسنكرم علماءنا، وأهل الشجاعة والقوة منا،! وسيعود إلينا أبناؤنا المغتربون إذا علموا أن بلادهم وأمتهم أصبحت حيث يستطيعون أن يفدوها بأرواحهم. ولا تعجب إن رحل إليك من يشرح الله صدره من علماء الذرة الذين يشرح الله صدورهم للإسلام، وهم موجودون ولكنهم يريدون فقط الأمة التي يبذلون لها أرواحهم وأنفسهم.
لقد سرق الغرب (أمريكا) والشرق (روسيا) أسرار القنبلة الذرية من العلماء الألمان، واستطاعت الصين وفرنسا بطرقهما سرقة ذلك أيضاً، واستطاعت إسرائيل أيضاً الحصول على شيء من هذا، ولا تعجب إن كانت تملك القنبلة الذرية الآن. فلماذا نكون أقل حتى من إسرائيل. والحرب خدعة.(1/53)
إنني لن أطيل في هذا الفصل ولكني أضع خطوطاً عريضة فيه، وذلك أنه ثمرة حتمية لبعث روح هذه الأمة، وجمع صفوفها فما علينا إلا أن نبعث الروح وإذا بهذا الجسم الخامد الخامل ينتفض عملاقاً لا يستطيع أحد أن يقف في طريقه بعون الله، وذلك أن روح هذه الأمة نابعة من نور الله، وأن حبلها موصول بالسماء، وأمة هذه روحها لا تغلب، وأمة هذا حبلها لا ينقطع. ولقد انتصر سلف هذه الأمة على قلة وضعف وهزموا أضعاف أضعافهم قوة وجمعاً، فكيف ولدينا القوة والجموع؟
من أين نبدأ وكيف نبدأ
أظن أنني بما قدمت -في رسالتي هذه- قد أوضحت الإطار العام الذي يجب أن نعمل فيه لبعث أمتنا من جديد وهو باختصار يشمل ناحيتين:
الأولى: بعث روح الأمة، وتوحيد صفوفها: وذلك ببث العقيدة الواحدة الدافعة (الإيمان الكامل) ووضع التشريع الإسلامي الواحد موضع التنفيذ، وبناء الخلق الكامل في رجال أمتنا ونسائها.
الثانية: البناء المادي الكامل للأمة وذلك باستغلال الأمة ما وهبها الله من مميزات جغرافية، وبشرية، واستعادتها لثرواتها الضائعة، وكنوزها المنهوبة.
وبذلك يصبح البناء كاملاً: الجسم والروح.
وهنا سيأتي هذا السؤال: من أين نبدأ، وكيف نبدأ؟
أما نقطة البدء للعمل في بعث أمتنا فلا يجوز أن تكون ناحية واحدة من النواحي السابقة تعطل لأجلها النواحي الباقية. فبعض المصلحين المخلصين يقولون: ندعو إلى الإيمان أولاً فإننا أشبه ما نكون بالعصر المكي من دعوة الرسول! وآخرون يقولون القوة المادية أولاً. وآخرون يقولون بل نحرر الأرض المحتلة أولاً!! ولقد وضعت الرسالة خصيصاً لمن يقول نحرر الأرض أولاً ومبيناً أنها نتيجة لبعث الأمة، ولا يمكن أن تحرر أرضنا المحتلة أمة بهذا الموات والتفكك والضعف.(1/54)
والحق أن نقطة البدء في الإصلاح لا يجوز أن تكون في ناحية واحدة ولكنها يجب أن تبدأ حيث يوجد كل فرد فينا. فأهل الحكم مطلوب منهم إصلاح حكمهم ليكون إسلامياً، وأهل المال مطلوب منهم إصلاح نظام ثرواتهم واستثماراتهم حتى يكون إسلامياً. وأهل العلم الديني مطلوب منهم إصلاح أنفسهم ومعاملاتهم. وتوحيد فتاواهم واجتهاداتهم وترك تعصبهم المذموم لما عرفوه، ومعاداتهم الجاهلة لما جهلوه، وجمع الناس على كلمة سواء، وشعراؤنا وكتابنا مطلوب منهم أن يبعثوا روح الأمة بالكلمة الطيبة، سواءً كانت قصةً أم شعراً، أم مقالة..
إن الإصلاح يجب أن يكون دعوة عامة تسري في الأمة جميعها سريان الدم من القلب في جميع الأعضاء لتحيا الأمة كلها.(1/55)
وأحب وأنا أعين نقطة البدء أن أقول وأكرر أن تحرير فلسطين يستحيل عقلاً وعادة أن يكون نقطة بدء لحياة الأمة ولكنه سيكون ثمرة من ثمرات حياتها وسأسوق الأمثلة والبرهان. لقد دخلت الجيوش العربية المعركة الأولى في فلسطين ولقد كانت أقوى من جيش اليهود بعشرات المرات ولكنها هزمت للأسباب التي يعرفها الجميع وكان من هذه الأسباب ما قال عنه جمال عبدالناصر في كتابه فلسفة الثورة: "إني أيقنت أن تحرير فلسطين لن يأتي إلا بإصلاح الحكم". ولقد عاد هو ورفاقه بعد أن أسروا في (الفالوجة)، وذاقوا مرارة الهزيمة ليشعلوا ثورة 23 يوليو سنة 1952، وقد مكنهم الله من الحكم ولقد كان الهدف الأول لهم هو تحرير فلسطين ولكنهم خابوا في ذلك بعد عشرين عاماً مضت لهم فيه، والسبب في ذلك أن الإصلاح لم يكن شاملاً، لقد كان الإصلاح للجيش أولاً ولقد ظنوا أن إصلاح الجيش هو العتاد الجيد، فلما جاءت المعركة لم يغن العتاد الجيد من بأس العدو شيئاً إذ سرعان ما تصدع هذا الجيش في ساعات قليلة، وترك ما خوله الله من هذا العتاد في أرض سيناء للعدو، ولم يقف أمام اليهود على القتال إلا أفراد قلائل باعتراف جمال عبدالناصر نفسه. ثم ظهرت بعد ذلك مشاكل عظيمة في الجبهة الداخلية وفي النظام الأخلاقي المتردي الذي مارسته أجهزة الدولة وخاصة المخابرات والأمن العام. وعدنا من حيث بدأنا نبحث عن الحل!!
ولقد دخل مع الجيوش العربية جماعات من المتطوعين كان من أكبرها جماعة الإخوان المسلمين. وظنوا أنهم سيستطيعون تحرير فلسطين، وأن ملائكة الله ستنزل عليهم لأنهم مؤمنون ولكنهم سرعان ما أيقنوا أيضاً أنهم لن يستطيعوا ذلك لأنهم عادوا إلى المعتقلات والسجون.(1/56)
وها نحن نعيش تجربة المقاومة الفلسطينية. لقد قامت فتح في عام 1965 سرية تغافل حراس الحدود العرب، وتدخل أرض العدو، ثم تعود جماعات منها فرحة بما قدمت من تضحية وما حققت من رعب للعدو ولكنها كانت تلاقي القتل برصاص إخوانها العرب في سوريا، والأردن، وتمنع منعاً باتاً من الدخول من مصر. ولقد كانت فرحة منظمة فتح باشتعال حرب سنة 1967 لا توصف لأنها ظنت أنه بمجرد أن تقوم المعركة فإننا سننتصر على العدو، ولكن الجميع خابت آمالهم بعد الهزيمة الماحقة التي أصابتنا، ثم أصبح العمل الفدائي علنياً، وانطبعت عليه مشاكل الأمة، ونزاعاتها، وفرقتها، وخلافاتها فكان ما كان في الأردن، وها هي المقاومة تتقلص شيئاً فشيئاً، وتعود تجربتها إلى الخيبة والتمزق والضياع، وذلك أن الإصلاح لا يكون من هناك، من فلسطين، ففلسطين قد ضاعت لأن الأمة قد ماتت وكان من الممكن أن يضيع جزء آخر غير فلسطين لو كان لأحد غيرنا أطماع فيه وهذا هو المشاهد الآن في كل جزء لنا فيه مشكلات. فنحن نرى دائماً أننا أعجز من أن نحارب أي عدو يغزونا.
والآن تتفجر علينا المشكلات من الشرق والغرب: من شمال العراق وجنوب الجزيرة وشرقها، وشمال إفريقيا، وقلب مصر، وجنوب السودان، وإن لم تصح الأمة فسيكون مصير كل ذلك هو مصير فلسطين.(1/57)
إن الإصلاح يجب أن يعم كل زاوية وناحية من نواحي مجتمعنا الإسلامي، ولا يجوز أن يقتصر على جانب دون جانب، وإن الذين يملكون هذا الشمول هم الحكام لو أرادوا، وأخلصوا النية لله، وأحبوا أن تجعلهم الأمة مع سلفها الصالح المجاهد وأما الأفراد والجماعات فإنهم لا يملكون إلا نواح ضيقة من الإصلاح والبناء عدا عن وسائل الهدم والتخريب التي لا يستطيعون إيقاف هدمها وتخريبها. ولذلك فكل دعائنا أن يكون في حكام المسلمين من يصلح الله بهم الأمة. ولكن الأفراد والجماعات لا ينبغي أن تنتظر ذلك، بل لا بد من بعث لروح الأمة، وإيقاظ لرجالها وتوجيه لمصلحيها في الوجهة الصحيحة، وهنا تتحدد نقطة البدء حيث يكون الفرد. فالعالم المسلم يستطيع أن يحدد نقطة بدئه في مجال الإصلاح -حسب هذه الخطة الشاملة- حيث تهيئ له نفسه وإمكانياته وما خول الله فيه، والمهم أن ينسجم هذا العمل مع خطة البعث الكامل وأن لا تتضارب معه، والتضارب مع الخطة يأتي مثلاً من الدعوة إلى العصبيات المذهبية، أو التعقيدات العقدية، أو الخوض فيما لا يعلم.. والعالم (الدنيوي) المسلم يجب أن يكون داعياً بعمله وخلقه إلى عزة الإسلام، وتطبيق شريعته التي هي ثمرة النظر في السموات والأرض، مسخراً علمه في رفع شأن أمته، وعلو رايتها، وكذلك الأديب المسلم - شاعراً أو قاصاً أو كاتباً، يجب أن يكون بدؤه للإصلاح من كتابته وشعره وقصته فيسخر ذلك في توجيه الأمة لدينها، وحضها على حمل رسالتها، وغسل العار عنها، وهكذا..
وعلى هذا الأساس سنبني، وسيصبح التخصص هاماً ولازماً لكل داع إلى الله عز وجل، لأن بالتخصص يكون الإبداع والعناية، وسيفيدنا هذا التخصص ما دام أن الخطة الكاملة العامة ملتزم بها. فكل هذه الخطوط ستلتقي عند غاية واحدة وهي البعث الجديد لأمة الإسلام.(1/58)
ولا يبقى بعد إلا أن أحذر مما يقع فيه كثير من الدعاة إلى الله وهو هدم بعضهم البعض، وذلك لسبب نظرتهم السطحية الجزئية إلى الإصلاح، فالبعض يظن أن الإصلاح لا يأتي إلا من إصلاح الحكم فقط فيجعل همه ذلك ويحطم كل إصلاح قبل هذا وهذا خطأ فاحش، وآخر يظن الإصلاح إنما هو إزالة بدعة ما، أو منكر ما، فيدعو لذلك، ويسفه أحلام من دعا إلى غير ذلك بل قد يحول دعوته من غايتها الجزئية إلى تحطيم من يخالفونه الرأي ويختلف معه في الطريقة. وآخرون يأكل قلوبهم الغيرة والحسد إذا رأوا أن الإصلاح سيأتي عن غير طريقهم فيقللون من شأن الآخرين، ويهدمون ما بنوه ولهذه الأسباب وغيرها يتفرق عمل المصلحين ويتشتت سعيهم ويكون أغلب همهم حربهم لبعضهم البعض فيغفلون عن غايتهم الواحدة، وطريقهم الواحد.
وأخيراً إن الدعوة لبعث الأمة وإحيائها يجب أن تكون في كل نواحي حياتها، وقد بينت هذا الطريق آنفاً، وإن نقطة البداية يحددها الموقع الذي يكون فيه المصلح، والذي يملك الشمول هم الحكام -هداهم الله- ولا يجوز بتاتاً أن يهدم مصلح عمل آخر بل يجب أن يتم البناء في جميع النواحي دون هدم من بعضنا البعض.(1/59)
وأما الإجابة على السؤال الثاني، وكيف نبدأ؟ فهي إجابة سهلة متيسرة لأنه متروكة للاجتهاد والظروف، فلنجاهد في الله حسب الخطة السابقة وليكن الله هو هادينا ومرشدنا إلى كيفية العمل وهذا فضل الله يؤتيه من يشاء، وهذه وسائل ولا يجوز أن تحجر في طريقة ما، ولا في وسيلة ما. ولكن السمة التي يجب أن تطبع دعوتنا إلى إحياء الأمة هي (السلمية والعلنية) نحن دعاة سلم لأمتنا وحرب على أعدائنا فقط وأعداؤنا هم أعداء ديننا فليس لنا مطامع خاصة، ولا مآرب ذاتية، وإنما مطمعنا ومأربنا هو وحدة أمتنا وعزتها، ومأربنا هو إرضاء ربنا والفوز برضوانه. والعلنية طريقنا فليس عندنا ما نتستر به، أو نخاف من أجله، ليس عندنا إلا قال الله، قال رسوله فقط وكل قول يخالف هذا فباطل، وما زال في صدور أبناء أمتنا فسحة لتسمع عن الله وعن رسوله.
خاتمة(1/60)
لا يسعني بعد وأنا أودعك -أخي القارئ- إلا أن أحمد الله إليك وأشد على يديك، وأقول لك: لقد أهديتك زهرة شبابي، وثمرة عمري، صغتها في كلمات أرجو أن يشرح الله صدرك لها فإن وجدت فيها بغيتك، وخلاص أمتك، فاعلم أنك قد حملت بذلك أمانة عظيمة يسر الله لك سبيل حملها والسير فيها. وإن لم تكن قد أعجبتك. فأرجو أن تعاود الكرة فتقرأها مرة ثانية -فوالله ما افتريت فيها شيئاً- وإن كنت قد رأيت ذلك أملاً بعيداً، ومنالاً لا يوصل فاعلم أن أمتك قد بلغت بمثل هذه الخطة آمالها؛ ولن تبلغ أملها الحاضر إلا بها، واعلم أن حياة الأمة بالإسلام أسرع من حياة زرع قد اشتد عطشه بالماء، فالرجل الكافر بكل ما في الكفر من موت ومتناقضات كان يقول لا إله إلا الله فيكون رجلاً آخر، والأمة العربية كانت ما تعلم من التمزق والضياع فبلغت في أقل من مائة سنة حدود فرنسا والقرم شمالاً وبلاد الصين شرقاً والمحيط غرباً وأواسط أفريقيا والمحيط الهندي وبحر العرب جنوباً، وإياك وقول العوام (نحن في آخر الزمن) يعنون أنه لا فائدة من الإصلاح، فذلك باطل، بل الجولة القادمة لنا، ولا بد لنا والله من إخراج يهود من فلسطين طال الزمن أم قصر بهذا أخبر الصادق المصدوق رسول الله: [لتقاتلن اليهود حتى يقول الحجر والشجر يا مسلم يا عبدالله ورائي يهودي فاقتله] فليشدك الحنين إلى رفعة أمتك أن تكون فرداً من جنودها يسير في هذا الركب المظفر: {ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم}.
وختاماً، "إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب".
************
*******
***(1/61)