خصوصية الشريعة الإسلامية
في
المفاهيم والتصورات
محاضرة ألقيت في غرفة أهل السنة والجماعة لدعوة النصارى ( Islam Or Christianity ) بالقسم العربي في البالتوك ، لدكتور / محمد جلال القصاص . والمحاضرة منقولة من موقع الغرفة
Islam Or Christianity.org
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا, من يهده الله فهو المهتد, ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ على محمدٍ النبي وأزواجه أمهات المؤمنين وذريته وأهل بيته كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله, وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم, وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة, وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار.
ثم أما بعد:
اللفظُ أو الكلامُ الذي نتكلمُ به يدور معناه على ثلاثة أشياء :
اللغة
والشرع
والعرف .
وغالبا ما يقف الشرع من اللغةِ موقف المخصص لها .
فالشرع الحنيف وإن كان قد استخدم اللغة العربية لبيان مراد الله من عباده على لسان رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلا أنه لم يستخدمها بذات المعاني اللغوية , وإنما بمعانٍ أخرى في الغالب .
- وغالبا - وأقول وغالبا - ما يخصص الشرع المعنى اللغوي .
فمثلا :
كلمة الآذان في اللغة : الإعلام .. مطلق الإعلام .
ومنه قول الشاعر :
آذنتنا بِبَينِها أسماء رب ثاوٍ يَمَلُّ منه الثِّواء 1
آذنتنا تعني أعلمتنا ، والبين هو الفراق والبعد ، والثاوي هو المقيم ، ومنه قول الله تعالى : " وما كنت ثاويا في أهل مدين تتلو عليهم آيتنا ولكنا كنا مرسلين " أي وما كنت مقيما بينهم كمقام موسى وشعيب ـ عليهما السلام ـ حتى تعرف هذه الأخبار التي نوحيها إليك ولكن إنما عرفتها عن طريق الوحي ، وهذا من نوع الإخبار بالغيب الدال على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم .(1/1)
هذا هو المعنى اللغوي لكلمة الآذان ... الإعلام .
أما في الشرع فقد خصص الشرع المعنى ، وجعله ( إعلام مخصوص عن شيء مخصوص بصيغة مخصوصة ) .
فإذا قلت لفظ الآذان ينصرف الذهن إلى الآذان الحالي بالصيغة الحالية ( الله أكبر الله أكبر . الله أكبر الله أكبر . أشهد أن لا إله إلا الله . أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن محمد رسول الله . أشهد أن محمد رسول الله . حي على الصلاة . حي على الصلاة . الله أكبر الله . أكبر لا إله إلا الله .
فحين ترد لفظة الآذان على ذهن المستمع ينصرف الذهن إلى الآذان المعروف بالصيغة المعروفة للإعلام عن شيء مخصوص وهو دخول وقت صلاة مخصوصة , يحددها وقت الآذان .
وكذا الصوم . مطلق الإمساك في اللغة ، ومنه قولِ الله تعالى على لسان مريمَ عليها السلام ( إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا ) [ مريم : 26 ] .
وفي الشرع : إمساك مخصوص ( عن الطعام والشراب والشهوة ) في وقت مخصوص ( من الفجر حتى غروب الشمس ) . بنية مخصوصة ، وهي نية القربى من الله تعالى .
وكذا التيمم في اللغة القصد . . . مطلق القصد .
ومنه قول الشاعر :
تيممتُ مصر أطلب الجاه والغنى *** فنلتهما في ظل عيش مُمنَّع
وزرت ملوك النيل ارتاد نيلهم * * * فأحمد مرتادي وأخصب مربعي
فكلمة تيممت هنا تعني قصدت .
وفي الشرع تستخدم كلمة التيمم للدلالة على أمر مخصوص ، وهو بديل الوضوء عند فقده حقيقة أو حكما ، وهو مشروح تفصيله في كتب الفقه .
أدلل على ماذا أنا الآن ؟
أدلل على أن الشرع وإن كان قد استخدم اللغة العربية لبيان مراد الله من عباده على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم إلا أنه لم يستخدمها بذات المعاني اللغوية ، وإنما بمعان أخرى وغالبا ما يخصص الشرع المعنى اللغوي .
وضربت مثالا على ذلك بكلمة الآذان ، وكلمة التيمم وكلمة الصوم .
وأزيد الأمر وضوحا بهذا المثال .(1/2)
كلمة الإيمان في اللغة التصديق الجازم ومنه قوله تعالى " وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين " قولةُ إخوةُ يوسف لأبيهم ، استعمل فيها الإيمان بمعناه اللغوي أي ( بمصدق لنا ) 2.
ولكن إذا أطلقت لفظة الإيمان في الشرع فإنها تدل على تصديق مخصوص . وهو التصديق بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم المستلزم للإذعان بالجوارح .
أو قل معرفة بالقلب والتي يسميها علماء العقيدة " قول القلب " تولد هذه المعرفة يقينا في القلب وهو ما يسمى بـ " عمل القلب " تنضبط بموجبه به الجوارح . قوة وضعفا . . . وجودا وعدما .
أو قُلْ الإيمان في الشرع : هو اعتقاد بالقلب ( قوله وعمله ) ، وقول اللسان ، وعمل الجوارح .
فهما ثلاثة أشياء :
المعرفة والقبول والعمل .
فجاهل الشيء لا يمكن أن يصدقه أو يكذبه ، ولا يمكن للمرء أن يمتثل للأمر وهو لا يعلمه ، أو ينتهي عن شيء وهو لا يعرف أنه حرام .
كونه معذور أو غير معذور هذه قضية أخرى ، ليست محل الكلام الآن .
وقد يعرف المرء ، ويصدق ويستيقن ولا يتبع ، كما هو حال فرعون " وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا فانظر كيف كان عاقبة المفسدين " [ النمل : 14 ]
" فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون " [ الأنعام :33] .
وهذا كله ليس من الإيمان في شيء ، بل لا بد من المعرفة والقبول والدخول في الأعمال بعد ذلك . ولا نقول بأن الأعمال كلها شرط صحة في الإيمان .
هذا هو دلالة لفظ الإيمان حين يستخدمه الشرع ( على تفصيل لا يناسبه المقام )
فهكذا ترى أن اللفظ وإن كان يستخدمه أهل اللغة , ويستخدمه الشرع إلا أن بينهما فرق , دلالته اللغوية غير دلالته الشرعية , وإن تقاطعت المعاني .
ولهذا أنكر فريق من العلماء ـ منهم شيخ الإسلام ابن تيميه في كتاب الإيمان وابن عثيمين رحمه الله في شرح نظم الورقات للعمريطي ـ المجاز . أنكرا المجاز هكذا بإطلاق وقالوا الكلام حقيقة في عرف المتكلم مجاز باعتبار آخر !(1/3)
فالمتكلم ملزم بظاهر كلامه ، ما لم تأت قرينة أخرى صارفة لهذا الظاهر .
وهذه من القواعد الأصولية .. . الكلام على ظاهرة ما لم تأت قرينة صارفة ، والقرائن معروفة والكلام فيها منضبط عند أهل الأصول .
وأهل الأصول يفرقون بهذه القاعدة بين الأمر والندب . . . بين المأمور به والمندوب إليه ، إذ الاثنان بصيغة الأمر ، ويفرقون بهذه القاعدة بين المكروه والمحرم ، إذ الاثنان بصيغة النهي . ولا أريد الاسترسال .
فقط أقول إن طبقت هاتين القاعدتين وهي ( النص على ظاهرة ما لم تأت قرينة صارفة ) ، و ( الكلام حقيقة في عرف المتكلم مجاز باعتبار آخر ) على النصوص الواردة في كتاب النصارى التي يصفون بها ربهم بأنه دودة ولبؤة ، وخروف ، وكذا على ما ورد في نشيد الإنشاد من بذاءة يدَّعون أنها وحي من الله ... وكذا النصوص التي تدل صراحة على أنه المسيح عبد الله ورسوله . تجد أنه لا يمكن قبول التأويل الذي يأتوننا به ، وأن سياق الكلام مُلزم لهم .
ومن أراد إثباتا لهذه القاعدة وشرحا أوفى فعند شيخ الإسلام بن تيمية في كتاب الإيمان ، وعند الشيخ بن عثيمين في شرح نظم الورقات .
إذا قلنا الآن أن هناك خصوصية للشريعة الإسلامية في استعمال الألفاظ . فهي وإن كانت تستعمل الألفاظ العربية إلا أن لها خصوصية في استعمال هذه الألفاظ .
وأحيانا يستعمل الشرع الألفاظ بذات الدلالة اللغوية لها ، فمثلا كلمة الآذان التي تكلمنا عليها ، جاءت بمعناها اللغوي في القرآن الكريم " فإن تولوا فقل آذنتكم على سواء ، وإن أدري أقريب أم بعيد ما توعدون " [ الأنبياء : 109] . فآذنتكم هنا بمعنى أعلمتكم ، استخدمت بمعناها اللغوي .
وقول الله تعالى " فأذنوا بحرب من الله " أي كونوا على علم . أو : أعلموا كل من لم يترك الربا بحرب من الله ورسوله . 3(1/4)
وكذا كلمة التيمم جاءت في سورة البقرة ، " يا أيها الذين أمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه واعلموا أن الله غني حميد " أي ولا تقصدوا الخبيث وتنفقوا منه ، .
وكلمة الصلاة " إن الله وملائكته يصلون على النبي . يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما "
قال بن كثر في تفسير هذه الآية ، قال البخاري : قال أبو العالية : صلاة الله تعالى ثنائه عليه ـ أي على النبي صلى الله عليه وسلم ـ ، وصلاة الملائكة الدعاء .
إذا كيف يتضح المعنى ؟
كيف أعرف أن المراد هو المعنى اللغوي أم المعنى الشرعي ؟
هذا يتبين من دِلالة السياق .
وخلاصة القول : أن للشرع استقلالية . . . خصوصية . . . في استعمالاته للألفاظ ،وهو ـ أي الشرع ــ قد يستعمل الألفاظ بذات المعاني أحيانا ، وقد يضيف عليها وقد يخصص . والمعول في ذلك على دِلالة السياق والقرائن اللفظية أو النصوص الصارفة .
ولذا يجب علينا :
الوقوف على المعنى الشرعي للفظ ، وعدم تفسير اللفظ بمعان لغوية أو عرفية ، أو الانضباط حين استعمال اللفظ . ووضوح المرجعية في المعنى المستخدم هل هو الشرع أم اللغة أم العرف .
وهذه القضية مهمة جدا يا إخوان ـ وهي ما أريد بيانه اليوم .
كل ما أردت أن أوصله لكم اليوم هو هذا المفهوم . . . أنه يحب علينا الوقوف على المعنى الشرعي للفظ ، وعدم تفسير اللفظ بمعان لغوية أو عرفية ، أو الانضباط حين استعمال اللفظ . ووضوح المرجعية في المعنى المستخدم هل هو الشرع أم اللغة أم العرف .
وحتى يتبين لك مرادي تدبر حال المرجئة تجد أن سبب ضلالهم هو أنهم اعتمدوا في تفسيرهم للفظ الإيمان على المعنى اللغوي مدعين بأن القرآن نزل بلسان عربي مبين .
استخدموا المقدمات المنطقية العقلية لإثبات باطلهم ، فقالوا القرآن نزل بلسان عربي مبين أليس كذلك ؟
بالطبع هو كذلك . لا أحد ينكر هذا .(1/5)
فقالوا إذا العرب تُعرف لفظ الإيمان بالتصديق الخبري أو ما يقولون عنه المعرفة .إذا الإيمان هو التصديق أو المعرفة ، وذهبوا إلى النصوص وحَمَلوها حملا على القول بباطلهم ، والنصوص من كلام العرب الذي ترد فيه الاحتمالات ويدخله التأويل بأدنى الحجج .
نقول : وهو حق أريد به باطل .
فنعم الشرع استعمل اللغة العربية في بيان مراد الله من عبادة ولكنه خصص وأضاف ، ولا بد من الوقوف عند المعنى الشرعي وعدم تجاوزه . ولست هنا معنيا بمناقشة مذهب المرجئة وإنما أريد أن أنبه على أنه لا بد من الرجوع للمعنى الشرعي في تفسير معان الكلمات ، وليس الاكتفاء فقط بالمعنى اللغوي أو العرفي .
والآن أريد أن يزيد الأمر بيانا بهذه النقطة ، وهي ما أسمية :
المناعة الفكرية :
أقول : يجب على المسلم أن يكون مستيقنا بأن الدين كامل " اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا " . وليس فقط بل عليه أن يستيقن من أن الأحكام الشرعية في غاية الحكمة ، وذلك لأنها من الله العليم الخبير الذي يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير .
وعليه أن يرد كل ما أشكل عليه لأهل العلم من العلماء الربانيين ،
" وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم " [ النساء : 83 ]
فهنا أمرٌ برد كل أمر سواء أكان فيه خوف أم كان فيه أمن . إلى الرسول وإلى أولي الأمر
" يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ، ذلك خير وأحسن تأويلا " . [ النساء : 83 ]
فهنا جعل الرد لله والرسول شرط لصحة الإيمان . . . " فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر .
والمعنى من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليرد الأمر لله والرسول .(1/6)
وليس هذا الرد مقتصرا على الأمور العظام بل على كل شيء . فانظر كيف أتى التعبير بكلمة شيء التي هي نكره ، وفي سياق الشرط لتفيد العموم . فكل شيء يجب أن يرد إلى الكتاب والسنة ، ومن لا يعرف يسأل .
ثم انظر بما ختمت الآية الكريمة ، " ذلك خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا "
فالخير وحسن العاقبة في الرد إلى الله ورسوله .. . في الوقوف عند قول العلماء الربانيين . الذين لا يخافون في الله لومة لائم .
حين يعرف المسلم هذا الأمر تتكون عنده مناعة فكرية ، فلا يقبل كل ما يسمع بل يكون عنده خاصية الانتقاء ... القبول والرد .
وللأسف نجد أن كثيرا من المسلمين يردد كثيرا من الكلمات وهي بمعان مستحدثه لا نعرفها . بل ننكرها .
مثلا كلمة ( الحرية ) و كلمة ( المساواة ) ، تردد على لسان كثير من أبناء الأمة الإسلامية , وهي كلمات غربية بدلالات غير إسلامية . هذا أقل ما يمكن أن يقال فيها .
فـ ( الحرية ) تعني حرية المرأة في التبرج والسفور بل والعري ، ومخالطة الرجال في أماكن العمل وفي أماكن اللهو بما لا يخفى ، والحرية عندهم تشمل حرية الكلمة وإن كانت سبا لله ورسوله وطعناً في الدين ،أو غمزا لعباد الله الموحدين .
وعندنا " ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد " " إن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلق لها بالا يكتب الله بها سخطه إلى يوم يلقاه ، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يلقي لها بالا يكتب الله به رضاه إلى يوم يلقاه "
و( المساواة ) عندهم تشمل تسوية الرجل بالمرأة في كل شيء . وعندنا للمرأة ما ليس للرجل ، وللرجل ما ليس للمرأة ، وعلى كلٍ من الحقوق ما ليس على الآخر ، تبعا للاختلافات الجسمية والنفسية .( ... وليس الذكر كالأنثى ..... ) حكمة العليم الحكيم الذي يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير ،(1/7)
والمساواة عندهم تعني أيضا مساواة أهل الكفر بأهل الإيمان ، وعندنا " أفنجعل المسلمين كالمجرمين . مالكم كيف تحكمون . أم لكم كتاب فيه تدرسون " ؟؟!!." .
فبينهما فرق : بين معاني الألفاظ الحديثة فيما هي مستعملة اليوم فيه , ومعناها في الشرع , فرق يجب الوقوف عليه , ولا يردد هكذا دون تدبر .
فلو علموا أن هناك هناك خصوصية للشريعة الإسلامية في المفاهيم والتصورات ، ما رددوا هكذا بدون وعي بل لرجعوا إلى الشريعة الإسلامية يستنطقونها ماذا تقول في كل ما يعرض عليهم .
وقبل أن أكمل الكلام في البرهان على أن للشريعة الإسلامية خصوصية في المفاهيم والتصورات ، وحيث أنني ذكرت أهل الإرجاء أريد الآن أن أقف مع رأس الإرجاء الجهم بن صفوان فهو نموذج يبين كيف أن الجهل بخصوصية الشريعة الإسلامية في المفاهيم والتصورات باب عظيم من أبواب الضلال والعياذ بالله .
الجهم بن صفوان نموذجا عمليا .
ولمن لا يعرف الجهم بن صفوان أقول هو :
أبو محرز الجهم بن صفوان السمرقندي مولى بني راسب . وبني راسب هؤلاء من ألازد ، ومنهم عبد الله الراسبي أول زعيم للخوارج .
كان يعمل كاتبا مع ( الحارث بن سريج التميمي وهو أحد من خرجوا على الدولة الأموية في أوائل القرن الثاني الهجري ) ، والحارث بن سريج هذا له قصة هو الآخر معروفة في كتب التاريخ الإسلامي .
لم يكن الجهم بن صفوان من أهل العلم والفضل ، بل تكلم أكثر من نفر ممن عاصره أنه كان من أجهل الناس بأمور الدين حتى البسيط منها ، فلم يكن يجلس إلى العلماء وإنما إلى أهل الأهواء والبدع .
الجهم بن صفوان هذا هو الذي قال أن الإيمان هو المعرفة ، وأن الكفر هو الجهل .
وهو الذي قال بنفي الصفات عن الله عز وجل ، فالله عند الجهم ومن تبعه ليس له صفة إلا ذاته ، لأن إثبات الصفات ــ على حد قول جهم يعني مشابهة الله للحوادث .(1/8)
وقال بأن الجنة والنار تفنيان, لأن ثبات البقاء الدائم لنعيم الآخرة وعذابها فيه مشاركة لله في اتصافه وحده بصفة البقاء والأزلية
من أين جاء الجهم بهذا الكلام ؟
كان هذا الرجل لسنا مجادلا ، مجبولا على الاعتراض والمراء ، وكان هذا الرجل لا يجلس إلى العلماء ، ولا يعرف بعلم ولا عبادة بل قيل أنه لم يحج البيت قط ، وكان يجلس إلى أهل الفلسفة والجدل ، اتصل ذات يوم بطائفة من الزنادقة الهنود ، يقال لهم : " السمنية " وراح جهم يجادلهم وهو صفر من العلم معتمدا فقط على عقله .
وابتدؤوا الكلام معه بالسؤال عن مصدر المعرفة ( و هي أكبر قضية فلسفية على الإطلاق ، وأصل كل بحث و نظر ) و كانت فلسفتهم تقوم على أن المصدر للمعرفة هو الحواس الخمس
ونحن نقول أن المصدر اليقيني في المعرفة هو الوحي ، وصدق الخبر نستدل عليه بصدق المخبر إن كتابا وإن سنة ، ونقول أن الحواس لا تدرك الأشياء على حقيقتها أحيانا بل غالبا ، فللعين مدى في الرؤيا لا تتجاوزه ، وللأذن مدى في السمع لا تتجاوزه ... وهكذا .
والعلم التجريبي نظريات يكذب بعضها بعضا ، فنظريات اليوم تعدل أو تكذب نظريات الأمس ، في الكمياء وفي الصيدلة وفي الطب وفي الفلك ... الخ .
فالمصدر الوحيد المتيقن للمعرفة هو الوحي .
ولما كان الجهم جاهلا سلم لهم بأصلهم الفاسد هذا ، فسألوه سؤالا آخر مبنيا على هذا الأصل ، وهو صف لنا ربك يا جهم ؟ بأي حاسة أدركته من الحواس ، أرأيته أم لمسته - أم سمعته ... الخ ؟!
و سقط فى يد هذا الضال المسكين ، وطلب منهم مهلة ليفكر في الأمر ، ولم يستطع أن يستلهم حجة ، و لم يسأل العلماء فيداووه ويلقنوه .
و قادته الحيرة إلى الشك في دينه ، فترك الصلاة مدة ، ثم استغرق فى التفكير و التأمل ، حتى انقدح في ذهنه جوابا خرج به عليهم قائلا : " هو هذا الهواء مع كل شيء وفي كل شئ و لا يخلو من شئ .!!(1/9)
وهذا الجواب الذي هو أساس نفي الصفات ، ومن يبحث يجد أن نفي الصفات هو من قول طائفة من زنادقة الهند .
ثم دخل الجهم في قضية أخرى كان الجدال محتدما حولها وهي قضية الإيمان ، واعتمادا على عقله أخذ يفكر ثم خرج بما قاله في الإيمان ، وهو أن الإيمان المعرفة فقط بالقلب ، فمن عرف الله بقلبه فهو مؤمن ، دونما حاجة إلى قول باللسان ولا عمل بالجوارح .
ومن يطالع في سيرة هذا الرجل وواقع عصره ، يعلم أنه أتى بهذا القول من كلام المتفلسفة من الزنادقة ، الذين لا يعدو الإيمان عندهم مجرد الإقرار النظري بوجود الله ، ومن كلام المرجئة الفقهاء الذين أصروا على نفي دخول الأعمال في الإيمان .
ثم خطا جهم خطوة أسوء من هذا كله ، وهي أنه تعصب لمذهبه هذا وأخذ يبحث في الشاذ والغريب من أقول العلماء ، ولوازم الأقوال ليثبت مذهبه .
فهاتان خطوتان :
الأولى : التكلم عن جهل ، أو أن يعتقد الرجل أن العلم كله عنده فحين يسأل يجيب بما عنده وهو قليل ولا يراجع أهل العلم ، أو يعتمد على عقلة وينشأ أقيسه مغلوطة .
الخطوة : الثانية وهي التعصب لهذا الرأي المنبثق أساسا من الجهل . ويذهب صاحبة للنصوص الشرعية ليحملها على القول بهذا الباطل .
وما أجمل ما قال الشاطبي - رحمه الله - وهو يفرق بين صاحب الحق وصاحب الهوى ، يقول أن صاحب الحق يذهب إلى النصوص الشرعية ينظر ماذا تقول ثم يمتثل ، أما صحاب الهوى فهو يذهب إلى النصوص الشرعية ليأتي بها على هواه .
أو بكلمات أخر . أن أصحاب البدع يعتقدون ثم يستدلون . كما يقول الشيخ بن عثيمين رحمه الله .
فعلى كل من يتصدر لأي قضية من قضايا الدين أن لا يقول على الله بغير علم ، وأن يرجع إلى الشرع موقنا بأن الشرع كامل ، وأن لا يرجع إلى عقله ولا إلى العرف ، ولا غير ذلك ذلك لأن للشرع خصوصية في المفاهيم والتصورات .(1/10)
ثم إن هناك خطوة ثالثة متممة لهذا الأمر وهي من فعل الأعداء ، يذهبون إلى هذه النماذج الشاذة ، ويلمعونها ، وينشرون فكرها . تماما كما حدث مع طه حسين ، ومحمد عبده ، وجمال الدين الأفغاني ، ونصر أبو زيد ، ودارون .
وخلاصة القول :
أنني في هذه المحاضرة كل ما أردته هو أ ن ترسيخ فكرة الخصوصية في المفاهيم ، حتى يرجع كل من أراد الكلام إلى الشرع الحنيف . . . هذا كل ما أردته اليوم ، ولك أن تتوسع في الموضوع ،
مثلا : مفهوم الرزق ... تحصيل الرزق .
الناس لهم أسباب مادية يسلكونها في تحصيل رزقهم .
والشرع له خصوصية في هذا الأمر ، فهو يتكلم عن أسباب أخرى مضافة إلى الأسباب المادية قال تعالى
" ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون " [ الأعراف : 96]
وقال تعالى : " إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بي أنفسهم " [ الرعد :: " ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم " [ المائدة : 66 ]
مثال آخر : من أين يأتي البلاء ؟
الناس يقولون كلاما كثيرا . . .
ولكن الشرع يعطي مفهوما آخر : " وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفوا عن كثير " [ الشورى : 30] " أو لما أصابتكم مصيبة قلت أنى هذا قل هو من عند أنفسكم " [ آل عمران : 165]
والنصر والتمكين كيف الوصول إليه " ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز "
وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض ... "
والأمر أوسع من هذا فهناك خصوصية في كل المفاهيم تقريبا . الكبر ... البر ... .. الخ .
وما أردت النبيه عليه هو التنبه لهذه الخصوصية ، والرجوع إليها واستنطاقها قبل التحرك حتى لا يكون حالنا كحال الجهم ومن على شاكلته والعياذ بالله .(1/11)
شكر الله لكم حسن استماعكم . سبحانك اللهم ربنا وبحمدك ، وتبارك اسمك وتعالى جدك ،ولا إله غيرك . والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر .
محمد جلال القصاص
1 مطلع معلقة الحارث بن أبي حلزة
2 وقد فرق شيخ الإسلام بن تيمية في كتاب الإيمان بين التصديق اللغوي وبين الإيمان من أربع وجوه . يرجع إليها من شاء .
3 لسان العرب جـ 13 ص 9
??
??
??
??
خصوصية الشريعة الإسلامية في المفاهيم والتصورات محمد جلال القصاص
16(1/12)