<3>
مقدمة
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، لا عدوان إلا على الظالمين. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وعلى آله وأصحابه وأزواجه أمهات المؤمنين، وعلى كل من سار على نهجه وسلك سبيله إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا رب العالمين.
وبعد..
فمنذ أن أشرقت شمس الإسلام على الدنيا وعطاؤه لا ينفد من القدوات الصالحات في شتى المجالات، وهو ما أشار إليه النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم بقوله: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك"(1)
(2) ومع كثرة هذه القدوات في كل عصر ومصر، فإن جيل الصحابة - رضوان الله عليهم - يبقى دائما هو أفضل تلك القدوات، وأسعدها بطاعة الله، وأكثرها عملاً بالإسلام، وهم أصحاب فضل على كل من دخل في الإسلام بعدهم، فبجهادهم عمَّ نور الله على
<4>
العالمين، وبدعوتهم دخل الناس في دين الله أفواجًا، وما من مكرمة ولا مصلحة يعود فضلها إلى أحد من البشر- بعد رسول الله صلى الله وسلم- إلا والصحابة الكرام يحوزون قصب السبق فيها، وقد عناهم الشاعر بقوله:
فَمَا العِزُّ لِلْإِسْلَامِ إِلَّا بِظِلِّهِمْ ... وَمَا المجدُ إِلَّا مَا بَنوْهُ فَشُيِّدا
وقد شهد لهذا الجيل رب العزة- تبارك وتعالى- في أكثر من موضع بكتابه الكريم، ومن ذلك قوله- تعالى (مُحمد رسُولُ اللهِ والذِينَ مَعَهُ أَشداء عَلَى الْكفار رُحَمَاءُ بَيْنهمْ تَرَاهُمْ رُكعًا سُجدًا يبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ الله وَرِضْوَانا سيمَاهُمْ في وُجُوهِهِم مِنْ أَثَرِ السجُودِ)(2)
__________
(1) أخرجه مسلم، واللفظ له جـ3، ص 1533، كتاب الإمارة، باب قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم؛ وأخرجه البخاري بنحوه جـ 2، ص 286, كتاب المناقب، الباب الأخير منه، وهو بدون عنوان
(2) سورة الفتح- آية رقم 29(1/1)
كما شهد لهذا الجيل كذلك رسول الدعوة ومبلغها الأول صلى الله عليه وسلم في العديد من الأحاديث، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم حين سئل: أي الناس خير؟ قال: قرنى، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يجيء قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه، ويمينه شهادته "(1)
يضاف إلى هذا شهادة الواقع لهذا الجيل، من حيث تمكين الله لهم في الأرض، وتحقيق الغلبة لهم على أعدائهم رغم قلة عددهم وعتادهم، مما يعد شهادة ضمنية من الله لهم بأنهم على الحق، فإن الله- تعالى قال: (إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ)(2) ، وهو
<5>
القائل سبحانه: ( وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ)(3) وإلى جانب تلك الشهادات كانت شهادة أعدائهم لهم كذلك، ويكفينا في هذا المقام قول الإمام "مالك بن أنس" - رضي الله عنه - : "بلغني أن النصارى كانوا إذا رأوا الصحابة الذين فتحوا الشام يقولون: والله لهؤلاء خير من الحواريين فيما بلغنا"(4) وإزاء هذا الفضل العظيم الذي حباه الله - تعالى - لصحابة النبي صلى الله عليه وسلم يجب على الأمة أن تبقى موصولة بهذا المنبع الصافي، تنهل من معينه الذي لا ينضب، وتغترف من بحره الذي لا ينفد.
وقد تناول علماء الإسلام في القديم والحديث حياة هؤلاء الصحابة الكرام بالتفصيل الدقيق، وعمرت المكتبة الإسلامية بمؤلفاتهم التي أبرزت فضائلهم وجهودهم، وجهادهم في سبيل نصرة الإسلام.
(
__________
(1) أخرجه البخاري بهذا اللفظ جـ4 ، ص 153، كتاب الأيمان والنذور، باب إذا قال أشهد بالله أو شهدت بالله، وأخرجه مسلم جـ4 ص،1963 كتاب فضائل الصحابة، باب فضل الصحابة، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم
(2) سورة يونس- الآية رقم 81
(3) سورة الحج - الآية 40.
(4) تفسير القرآن العظيم - الحافظ بن كثير جـ 4، ص 204 - طبعة عيسى الحلبي(1/2)
4) مع كثرة ما ألف حول الصحابة نرى قلة قليلة من هذه المؤلفات تناولت حياة النساء منهم على وجه الاستقلال، والذين تحدثوا عنهن - ضمن مؤلفاتهم أو خصوهن بالتأليف - ركزوا على ما تتميز به كل شخصية منهن على حدة، وخلت المكتبة الإسلامية من مُؤَلَّفٍ يجمع مواقف هؤلاء الصحابيات في سياق موضوعي، بحيث يتم التركيز على قيمة من القيم، وتساق عليها الأمثلة العديدة من حياة هؤلاء الصحابيات الكرام، وذلك على غرار ما فعله الشيخ "محمد يوسف الكاندهلوي، - رحمه الله - في كتابه "حياة الصحابة".
<6>
ومن هنا استعنت بالله - تعالى - في إعداد هذا البحث، والذي أسميته "صفحات مشرقات من حياة الصحابيات" حاولت فيه أن أركز على المبادئ والقيم بالتعريف بها، وبيان أهميتها - وبخاصة للنساء - ثم أتبع ذلك بسوق العديد من مواقف الصحابيات التي تدعم هذا المبدأ أو تلك القيمة، وأقدمها قدوة صالحة أضعها بين يدي نساء الأمة في العصر الحاضر؟ لتقتفي أثر هذا الجيل المبارك، فإن من تشبه بقوم فهو منهم، ومن أحبهم حشر معهم، وصدق من قال:
شَتَّانَ بَيْنَ مَنِ الزَّهْرَاءُ أُسْوَتُهاَ ... وَمَنْ تَقْتَفِي خُطَى حَمَّالَةِ الْحَطَبِ
(5) ولإن كانت الغاية من هذا البحث تقديم القدوات الصالحات لنصلح بذلك من أمر النساء المسلمات؛ فإن ذلك لا يعنى عدم انتفاع الرجال بمثل تلك القدوات الصالحات؛ فإن المرأة إما أن تكون أما أو زوجة أو بنتا أو أختا، فإذا صلحت انعكس ذلك بالإيجاب على حال الرجال، كما أن مطالعة الرجال لتلك القدوات الصالحات تولد فيهم الإحساس بالغيرة من تفوق النساء عليهم، مما يدفعهم إلى مزيد من الجهد والعطاء، وهو ما نتمناه من الرجال والنساء على السواء.
(6) هذا؛ وقد تم تقسيم البحث إلى: مقدمة، وتمهيد، وأربعة فصول، وخاتمة.
أما المقدمة فقد اشتملت على بيان أهمية الموضوع، وسبب اختياره، وعناصر البحث فيه.(1/3)
وأما التمهيد فقد اشتمل على بيان مكانة المرأة في الإسلام، ومظاهر العناية بها.
<7>
وأما الفصل الأول فقد جاء بعنوان (العبادة في حياة الصحابيات)، وقد اشتمل على ثلاثة مباحث:-
(1) ترك المعصية، والورع عن مواقعة الشبهات.
(2) المحافظة على أداء الفرائض، والإكثار من النوافل.
(3) الإكثار من ذكر الله تعالى.
وأما الفصل الثاني فقد جاء بعنوان (الجانب الاجتماعي في حياة الصحابيات) وقد اشتمل على أربعة مباحث:-
(1) مع الزوج
(2) مع الأولاد
(3) مع الأخوات المسلمات
(4) في مواجهة أعداء الإسلام
وأما الفصل الثالث فقد جاء بعنوان (العفة في حياة الصحابيات) وقد اشتمل على مبحثين:-
(1) المحافظة على ارتداء الحجاب.
(2) البعد عن الاختلاط بالرجال.
وأما الفصل الرابع فقد جاء بعنوان (العلم في حياة الصحابيات) وقد اشتمل على مبحثين:-
(1) الحرص على طلب العلم.
(2) توظيف العلم في خدمة الدعوة.
<8>
وأما الخاتمة فقد اشتملت على نتائج البحث، وأهم التوصيات.
وختامًا أسأل الله - تبارك وتعالى - أن يجعل هذا العمل خالصًا لوجهه الكريم، وأن يجزى عنا نبينا صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام- رجالا كانوا أو نساء- خير ما يجزى به عباده الصالحين، وأن يرزقنا حسن التأسي بهم والسير على دربهم، وأن يغفر لنا ولوالدينا ولمشايخنا، وأن يبارك لنا في زوجاتنا وذرياتنّا، إنه ولى ذلك والقادر عليه، وهو سبحانه وتعالى المستعان وعليه التكلان.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم
المؤلف
أ . د/ طلعت محمد عفيفي سالم
عميد كلية الدعوة الإسلامية بالقاهرة
جامعة الأزهر
<9>
تمهيد
(1) لم تحظ المرأة في شريعة من الشرائع، ولا في دين من الأديان، بمثل ما حظيت به من مكانة في ظل الإسلام وتعاليمه السمحة.
ويكفي للتدليل على ذلك أن نعقد مقارنة بين ما كانت عليه المرأة قبل الإسلام وما صارت إليه بعد مجيئه؛ وذلك لأن حسن الأشياء يبدو بأضدادها.
((1/4)
2) لقد حدثنا القرآن الكريم عما كان يتعامل به العربي إذا زفت إليه البشرى بولادة أنثى، فقال - تعالى - : (وَإذَا بُشَّرَ أَحَدُهم بِالأنثَى ظَل وَجْههُ مسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيم يَتَوارَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سوء مَا بشرَ به أَيُمْسِكُه عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسهُ في الترَاب أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ)(1)
وفي هذه الإشارة القرآنية ما يغني عن أي حديث آخر، حيث لا ينتظر في من يتعامل مع الأنثى عند ولادتها بهذا الأسلوب أن تكون محل تكريم أو إعزاز من أحد.
وقد أشار أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في عبارة موجزة إلى وضع النساء في مجتمع ما قبل الإسلام فقال: " والله إنا كنا في الجاهلية ما نعد للنساء أمرا حتى أنزل الله فيهن ما أنزل، وقسم لهن ما قسم " (2)
<10>
(3) ولم تكن المرأة في المجتمعات الأخرى غير العربية أحسن حالا، سواء منها ما له صلة بالأديان، أو ما هو نتاج فكر بشرى.
وفيما يلي نتعرف على بعض الأقوال الواردة في هذا الشأن:
أ- يقول "سقراط" الفيلسوف اليوناني المعروف مصوراً نظرة الحضارة اليونانية القديمة إلى المرأة: "إن وجود المرأة هو أكبر منشأ ومصدر للأزمة والانهيار في العالم، إن المرأة تشبه شجرة مسمومة، ظاهرها جميل، ولكن عندما تأكل منها العصافير تموت حالا"(3)(1)
ب- ويقول المؤرخ المعروف "وستر مارك " معبرًا عن وضع المرأة في الديانة البوذية: " في نظر البوذيين أن جميع النساء كالمصيدة، وضعن لإغواء وفتنة الرجال، وأن هذه القوة تجسدت بأخطر الأشكال في أصل المرأة بحيث تغوى الرجال، وهذا الإغواء هو الذي يعمى أفكار العالم)(4)
__________
(1) سورة النحل- آية رقم 58، 59 0
(2) المرأة ومكانتها في الإسلام ص 21، أحمد عبد العزيز الحصين، طبعة ثانية 1981 م، مكتبة الإيمان 0
(3) المرأة في التصور الإسلامي ص 155- 157، د/ عبد المتعال الجبري، طبعة عاشرة 1994م، مكتبة وهبة.
(4) نفس المرجع السابق ص 155- 177.(1/5)
ج- يصور الشيخ "أبو الحسن الندوى" وضع المرأة في المجتمع الهندي فيقول: "لقد نُزَّلَتْ النساء في المجتمع الهندي منزلة الإماء، وكان الرجل قد يخسر امرأته في القمار، وإذا مات صارت كالموءودة لا تتزوج، وتكون هدف الإهانات والتجريح، وكانت أمة في بيت زوجها المتوفى وخادم الأحماء وقد تحرق نفسها على إثر وفاة زوجها تفاديًا من عذاب الحياة وشقاء الدنيا" (1)
<11>
د- وفي الحضارة الرومانية المتألقة قبل الإسلام سلبت المرأة جميع حقوقها، فهي محرومة من كل حقوقها المدنية والقانونية والأخلاقية والاجتماعية والمالية، وكان الأب هو السلطان الحاكم على زوجته وأولاده، وله أن يحكم على زوجته بالإعدام في بعض التهم، كما أن له الحق في بيع أولاده أو قتلهم أو تعذيبهم، وأن يضم إلى أسرته من غير صلبه، أو ينفي من شاء من أبنائه عنه(2)0
هـ- والمرأة عند اليهود تكون فى أثناء حيضها نجسة، وكل ما تلمسه من طعام أو كساء أو إنسان أو حيوان ينجس، ولذلك يعزلونها بعيدًا عنهم، ويرون أن كل ما يفعله الرجل من أعمال لا أخلاقية مرده إلى المرأة.
وأما في النصرانية فالمرأة هي الباعثة على خطيئة آدم - عليه السلام - ولذا فإن الفضيلة لديهم هي في الفرار منها، وعدم الاقتران بها، ومن اقترن بها فهو يتعاطى شراً، لابد منه.
يقول "كدائى سوستام" - الذي يعد من أكبر أولياء الديانة المسيحية - في شأن المرأة: "هي شر لابد منه، ووسوسة جبلية، وآفة مرغوب فيها، وخطر على الأسرة والبيت، ومحبوبة فتاكة، ورزء مطلى مموه" (3)
والأقوال والمواقف في هذا كثيرة، لكنني أكتفي بما ذكرت، وأحيل من أراد الاستزادة من هذا إلى من أفاضوا في الكتابة فيها0
<12>
(
__________
(1) ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين (ص 60- ص 61)- طبعة عاشرة 1977- دار الأنصار بالقاهرة.
(2) المرأة ومكانتها في الإسلام ص 180، أحمد عبد العزيز الحصين.
(3) نفس المرجع والصفحة.(1/6)
4) فلما جاء الإسلام، وعمَّ نور الله العالمين، تغير كل شيء، ونالت المرأة في ظل تعاليمه من التكريم والتقديس ما رفع قدرها، وأعلى مقامها، ودفع بها إلى البذل والعطاء، شأنها في ذلك كشأن الرجال. وكدليل على تكريم الإسلام وتقديره للمرأة نذكر هذه الملاحظات الجديرة بالاعتبار.:
أ- تسمية الله- تعالى- لسورة من سور القرآن الكريم باسم سورة النساء وسورة أْخرى باسم امرأة منهن وهى السيدة مريم- عليها السلام-.
ب- لم يذكر القرآن الكريم صفة صالحة في الرجال إلا ذكر مثلها في النساء، وسوى الله بينهما في الأجر على الأعمال الصالحة، ومن أجمع الآيات الدالة علىِ ذلك آية سورة الأحزاب: (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا).(1)
ج- لكي يزيل الله من النفوس شبهة انتقاص المرأة قدمها على الأولاد في الذكر عندما بين فضله على عباده في هبته بالذرية، فقال سبحانه: (لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ)(2)
<13>
__________
(1) سورة الأحزاب- آية 35
(2) سورة الشورى- آية رقم 49(1/7)
د- اهتم القرآن الكريم - ضمن ما اهتم به - بكثير من الأحكام التي تخص النساء، وأفرد لذلك العديد من الآيات، كما اهتم بقضايا تخص بعضهن، كتزويج الله لنبيه بالسيدة "زينب بنت جحش"، ونزل القرآن بذلك، وحين افترى المنافقون على السيدة "عائشة" - رضي الله عنها - واتهموها بما هي منه براء، وذلك في قصه الإفك، نزل القرآن الكريم ببراءتها مما اتهموها به، وذلك في آيات تتلى إلى يوم القيامة.
هـ- وكما اهتم القرآن الكريم بشأن النساء اهتمت السنة بذلك، وورد على لسان النبي المصطفي صلى الله عليه وسلم من الأحاديث التي تتعلق بهن الكثير، كما وردت وصيته بإحسان المعاملة معهن في أكثر من موقف، ومن أشهر تلك المواقف ما ورد في خطبته له في حجة الوداع، حيث جاء فيها كما في صحيح مسلم: "اتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمان الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله"(1) وفي روايات أخرى لغير الإمام مسلم: (استوصوا بالنساء خيرًا، فإنهن عندكم عوان... "، وما ورد على لسان النبي - صلى الله عليه وسلم - من تكريم النساء، سواء كن أمهات وزوجات أو أخوات أو بنات؛ من الشهرة والوضوح بمكان.
يقول المفكر والقانوني الفرنسي المعاصر "مارسيل بوازار": "أثبتت التعاليم القرآنية وتعاليم محمد أنها حامية حقوق المرأة التي لا تكل " (2)
<14>
(5) وقد انعكس هذا الاهتمام بشأن النساء في وجود القدوات الصالحات منهن في كافة المجالات، ويكفينا - على سبيل المثال لا الحصر - أن نعلم أن أول من آمن برسول الله محمد صلى الله عليه وسلم على الإطلاق أم المؤمنين "خديجة" - رضي الله عنها - وأن أول من استشهد في سبيل الله السيدة "سمية" أم "عمار بن ياسر" - رضي الله عنها-.
__________
(1) أخرجه مسلم جـ2، ص889، كتاب الحج، باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم0
(2) قالوا عن الإسلام ص 410، د/ عماد الدين خليل، طبعة أولى 1992م. الندوة العالمية للشباب الإسلامي، الرياض0(1/8)
وقد أبلت النساء بلاء حسنًا في كثير من المواقف، وما من مكرمة أو فضيلة إلا وكانت فيها مع الرجال سواء بسواء، ولم تمنعها أنوثتها من التضحية في سبيل دينها، والحرص على مرضاة ربها، وسنرى من مواقفهن الكثير والكثير في الصفحات التالية بإذن الله تعالى.
(6) وقد غاظ أعداء الإسلام أن تتمتع المرأة بهذه الميزات، وأن تعيش على مبادئ الإسلام فتنجب أمثال خالد بن الوليد، وصلاح الدين، فعملوا على إفسادها بكل الوسائل الممكنة وصولا إلى إفساد الإسلام نفسه، ومن أقوالهم في هذا:
أ- يقول أحد كبراء الماسونية، وهى منظمة صهيونية عالمية، واسمه "بولة": (تأكدوا تمامًا أننا لسنا منتصرين على الدين إلا يوم تشاركنا المرأة فتمشى في صفوفنا"(1)
ب- وقالوا كذلك في مؤتمر عقد سنة 1899 م في بولونيا: "يجب علينا أن نكسب المرأة، فأي يوم تمد إلينا يدها نفوز بالمراد، ويتبدد جيش المنتصرين للدين "(2)
<15>
ج- وتقول المبشرة " آن ميلغيان" : "لقد استطعنا أن نجمع في صفوف كلية البنات في القاهرة بنات آباؤهن باشوات وبكوات، ولا يوجد مكان آخر يمكن أن يجتمع فيه مثل هذا العدد من البنات المسلمات تحت النفوذ المسيحي، وبالتالي ليس هناك من طريق أقرب إلى تقويض حصن الإسلام من هذه المدرسة"(3)
(7) وهكذا يتضح لنا - وبما لا يدع مجالا للشك - أن المرأة مستهدفة من أعداء الإسلام لإفسادها في ذاتها، وإشاعة الفساد عن طريقها، وصولا إلى هدم الإسلام وتقويض بنيانه.
__________
(1) المرأة ومكانتها في الإسلام ص 180، أحمد عبد العزيز الحصين 0
(2) نفس المرجع والصفحة.
(3) قادة الغرب يقولون: دمروا الإسلام أبيدوا أهله ص 60، جلال العالم، طبعة دار الاعتصام، بدون التاريخ0(1/9)
وإن أبلغ رد على تلك المحاولات الخبيثة أن نضع بين يدي نسائنا نماذج وأمثلة من نساء صالحات سبقوهن على الطريق في حمل رسالة الإسلام والتضحية في سبيله، فإن الإنسان دائمًا يتأثر بمن سبقه، ويسعى إلى تقليده والتشبه به، وفي هذا يقول الإمام "ابن القيم" - رضي الله عنه: "النفس تأنس بالنظائر والأشباه الأنس التام، وتنفر من الغربة والوحدة وعدم النظير،(1)
وفي هذا البحث سنتعرف على القدوات الصالحات فيمن كن حول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الصحابيات، سائلين الله - تعالى - أن يجمع بيننا وبينهن في الجنة، مع رسولنا وقدوتنا سيدنا محمد، وأصحابه الأطهار الأبرار
<16>
الفصل الأول:
(العبادة في حياة الصحابيات)
ويشتمل على المباحث التالية:
(1) ترك المعصية، والورع عن مواقعة الشبهات.
(2) المحافظة على أداء الفرائض، والإكثار من النوافل.
(3) الإكثار من ذكر الله تعالى.
<17>
(1) توضح آيات القرآن الكريم أن الغاية التي لأجلها خلق الله الإنسان هي عبادة الله وحده لا شريك له، وفي ذلك يقول ربنا تبارك وتعالى بأسلوب يفيد الحصر: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)(2)
(2) وهذه العبادة هي مناط الفلاح والنجاحِ في الدنيا والآخرة، وفي ذلك يقول رب العزة: (يَا أيهَا الذِينَ آمنوا ارْكَعُوا وَاسجُدُوا وَاعْبدُوا رَبكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيرَ لَعَلكُمْ تُفلِحُونَ)(3)
(3) والتكليف من الله تعالى للإنسان بأداء تلك العبادة لا يقتصر على زمن دون آخر، ولا يعفى منها الإنسان طالما نبض قلبه بالحياة وتمتع بعقل واع مدرك، وصدق الله إذ يقول: (وَاعْبدْ ربكَ حَتى يَأتِيَكَ الْيَقِين)(4) أي الموت.
(
__________
(1) أعلام الموقعين جـ1، ص 293 طبع مكتبة عبد السلام شقرون0
(2) سورة الذاريات الآية (56)0
(3) سورة الحج الآية (77)0
(4) سورة الحجر الآية (99)0(1/10)
4) وقد أشار القرآن الكريم إلى أن المرأة في وجوب القيام بتلك العبادات شأنها كشأن الرجال، وفي هذا يقول رب العزة لنساء النبي صلى الله عليه وسلم وِمن ورائهن كافة النساء: (وَأَقِمْنَ الصلاةَ وَءاتِينَ الزكَاةَ وَأَطِعْنَ اللهَ ورَسُولَهُ ....)(1)
(5) وفي الوقت نفسه تؤكد آيات القرآن الكريِم على أن الخيرية في
<18>
النساء لا تتحقق بمال وفير، أو كمال وحسن، أو بحسب ونسب، أو غير ذلك من عطاءات الدنيا، وإنما تتحقق بقدر ما تبذله الواحدة منهن في طاعة ربها، وفي هذا يقول ربنا: (عَسى ربهُ إِن طَلقَكن أَن يبدِلَهُ أَزْوَاجا خَيْرًا مِنكُن مُسْلمَاتٍ مؤْمنَاتٍ قَانتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيَباتٍ وَأَبْكارًا)(2)
(6) وقد ضربت الصحابيات المثل الأعلى في عبادة الله تبارك وتعالى ومحبته والتضحية في سبيل ذلك بكل غال ورخيص، فلم يكن عندهن أغلى من الإسلام، ولم يكن في حسبانهن شيء يفوق مرضاة الله تبارك وتعالى.
ولننظر في هذه الأمثلة من حياتهن للتدليل بها على تلك الحقيقة.
(1) عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "خطب أبو طلحة أم سليم، فقالت: والله، ما مثلك يا أبا طلحة يُردُ، ولكنك رجل كافر وأنا امرأة مسلمة، ولا يحل لي أن أتزوجك، فإن تسلم فذاك مهري، وما أسألك غيره، فأسلم فكان ذلك مهرها".
قال ثابت (راوى الحديث عن أنس): " فما سمعت بامرأة قط كانت أكرم مهرا من أم سليم: الإسلام، فدخل بها فولدت له "(3)
(ب) عن أنس رضي الله عنه قال: "لما انقضت عدة زينب (أي بنت جحش رضي الله عنها) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لزيد: فاذكرها علي. قال: فانطلق زيد حتى أتاها وهي تخمر عجينها، قال: فلما رأيتها
<19>
__________
(1) سورة الأحزاب الآية (33)0
(2) سورة التحريم الآية (5)0
(3) أخرجه النسائي (جـ6 ص 93) كتاب النكاح- باب التزويج على الإسلام0(1/11)
عظمت في صدري حتى ما أستطيع أن أنظر إليها وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكرها، فوليتها ظهري، ونكصت على عقبي، فقلت: يا زينب، أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرك. قالت: ما أنا بصانعة شيئا حتى أوامر ربى (أي أستخير ربى لأرى أمره)، فقامت إلى مسجدها، ونزل القرآن (أي بتزويجها للنبي صلى الله عليه وسلم في سورة- الأحزاب)، وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ،فدخل عليها بغير إذن. . . . إلخ الحديث "(1)
(جـ) ومما يقع في هذا المجال هجرة الصحابيات الأول إلى الحبشة ثم إلى المدينة رغبة منهن في المحافظة على دينهن.
فلنتأمل في هذه المواقف، وذلك لنستجلي حقيقة هذا الجيل العظيم الذي آثرت نساؤه طاعة الله تبارك وتعالى على كل شيء سواه.
(7) ومع كل هذا الاجتهاد والتفاني في الطاعة لم يتسرب الغرور أو العجب إلى هؤلاء الصالحات القانتات، وإنما عبرت مواقفهن عن التواضع في جنب الله، والإحساس بالتقصير في حقه، ولننظر في هذا الموقف:-
عن ابن أبي مليكة قال:- " كانت أسماء تصدع؛ أي يصيبها الصداع في رأسها) فتضع يدها على رأسها وتقول:- بذنبي، وما يغفر الله أكثر". (2)
وننتقل الآن بعد هذا الإجمال إلى التفصيل في مظاهر تلك الطاعة
<20>
وذلك في المباحث التالية:
أ) ترك المعصية، والورع عن مواقعة الشبهات.
ب) المحافظة على أداء الفرائض والإكثار من النوافل.
جـ) الإكثار من ذكر الله تعالى.
وفيما يلى نتعرف أهمية كل عنصر منها في مبحث خاص به، ونؤيده بنماذج من حياة الصحابيات يتعلق به، ويدل عليه.
<21>
المبحث الأول
ترك المعصية والورع عن مواقعة الشبهات
__________
(1) أخرجه مسلم (جـ 2- ص 1048)- باب زواج زينب بنت جحش ونزول الحجاب، وإثبات وليمة العرس.
(2) صلاح الأمة في علو الهمة (جـ 7- ص 166) د. سيد حسين العفاني- طبع ثانية سنة 1999- مؤسسة الرسالة.(1/12)
لا يحول بين الإنسان وبين الوصول إلى الله تعالى شيء كفعل المعاصي، ويكفي للتدليل على ذلك قول الحق جل وعز: (وَمَن يَعص اللهَ وَرَسُوله وَيَتَعَد حدودَه يُدْخِلْه نَارا خَالِدًا فِيهَاوَلَه عَذَاب مهِين)(1) وقوله صلى الله عليه وسلم في وصيته لمعاذ بن جبل - رضي الله عنه-: "إياك والمعصية، فإن بالمعصية حل سخط الله عز وجل.(2)
(2) ومن هنا تبدو أهمية البعد عن المعاصى، والتخلى عن مواقعة الذنوب، وهو ما أكدته أم المؤمنين عائشة- رضي الله عنها- حيث قالت: "إنكم لن تلقوا الله بشيء خير لكم من قلة الذنوب، فمن سره أن يسبق الدائب المجتهد فليكف نفسه عن كثرة الذنوب"(3)
وتقول في رسالة لها إلى معاوية بن أبى سفيان - رضي الله عنه - : (أما بعد، فإن العبد إذا عمل بمعصية الله - عز وجل - عاد حامده من الناس ذاما"(4)
(3) وقد أثمرت هذه التوجيهات ثمرتها في مجتمع النساء
<22>
الصحابيات، فكُنَّ من أطهر الناس ذيلاً، وأخلصهم قلوبا، وأحرصهم على طاعة الله تعالى والبعد عن معصيته.
ونبدأ بهذا المثل من حياة أمهات المؤمنين - رضي الله عنهن- .
أخرج البخاري في صحيحه عن أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءها حين أمر الله أن يخير أزواجه، فبدأ صلى الله عليه وسلم بالسيدة عائشة وقال لها: إني ذاكر لك أمرا فلا عليك أن تستعجلي حتى تستأمري أبويك، وقد علم أن أبوي لم يكونا يأمراني بفراقه قالت: ثم قال: إن الله قال: "يا أيها النبي قل لأزواجك..... إلى تمام الآيتين، فقلت له: ففي أي هذا أستأمر أبوي؟ فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة. قالت: ثم فعل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم مثلما فعلت".(5)
(
__________
(1) سورة النساء الآية (14).
(2) أخرجه أحمد في مسنده (جـ 5 ص 138) طبعة المكتب الإسلامي.
(3) صفة الصفوة (جـ 2- ص 32).
(4) نفس المرجع والصفحة.
(5) أخرجه البخاري (جـ 3- ص 175) كتاب التفسير - باب سورة الأحزاب.(1/13)
4) وتشير الأدلة التي بين أيدينا إلى أن من كانت تقع من الصحابيات في معصية ما - وهو أمر وارد - كانت تبادر إلى التوبة، ولو أدى ذلك إلى أن يكون ثمن هذه التوبة هو التضحية بحياتها.
وفي هذا المقام نذكر قصة المرأة الغامدية التي وقعت في جريمة الزنا، وجاءت بنفسها إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - قائلة له: إني قد زنيت فطهرني، فردها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعادت إليه ثانية، وأخبرته بحملها من هذا الزنا، فتركها حتى وضعت حملها وأرضعت صبيها، ثم أقام عليها الحد وقتلها، وقال عليه الصلاة والسلام في حقها: لقد تابت توبة لو قسمت بين سبعين من أهل المدينة لوسعتهم،
<23>
وهل وجدت توبة أفضل من أن جادت بنفسها لله تعالى"0(1) وفي قصة المرأة المخزومية التي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقطع يدها حين ثبتت عليها جريمة السرقة، وتم تنفيذ الحد عليها ورد في نهاية هذه القصة عبارات للسيدة عائشة، جديرة بالتوقف عندها لما لها من دلالة في موضوعنا هذا، فقد ورد عن عروة بن الزبير عن أم المؤمنين عائشة قالت بعد أن ساقت القصة بكاملها: (فحسنت توبتها بعد، وتزوجت، وكانت تأتيني بعد ذلك، فأرفع حاجتها إلى رسوله الله صلى الله عليه وسلم"0(2)
(5) وإذا ضعفت نفس امرأةٍ ما أمام إغراء المعصية كانت تجد في هذا المجتمع من يردها إلى صوابها، ويذكرها بالله تعالى.
__________
(1) أخرجه مسلم (جـ 3- ص 1323- ص 1324) كتاب الحدود - باب من اعترف على نفسه بالزنا.
(2) أخرجه مسلم جـ 3- ص 1315) كتاب الحدود- باب قطع السارق الشريف وغيره، والنهي عن الشفاعة في الحدود.(1/14)
ومن الأمثلة الشهيرة على هذا قصة المرأة التي قالت لابنتها: (قومي إلى اللبن فاخلطيه بالماء، فذكرتها بوصية أمير المؤمنين عمر - رضي الله عنه - بألا يخلط أحد اللبن بالماء، فقالت الأم: قومي إلى اللبن فاخلطيه بالماء، فإنك في موضع لا يراك عمر ولا منادي عمر، فقالت ابنتها: ما كنت لأطيعه في الملأ وأعصيه في الخلاء".
وقد سمع سيدنا عمر هذا الحوار بين الأم وابنتها، وحين علم أن
<24>
البنت لا زوج لها عرضها على أولاده، فتزوج بها ولده عاصم، وولدت هذه البنت بنتا أنجبت فيما بعد الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه –(1)
(6) وأما الورع فهو- كما عرفه العلماء- جعل الإنسان بينه وبين الحرام جانبا من الحلال، فيدع ما فيه شبهة خشية أن يكون حراما. يقول النبي صلى الله عليه وسلم "لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذرا لما به البأس" 0(2)
وفي فضل الاتصاف بالورع يقول الإمام الحسن البصري - رضي الله عنه -: مثقال ذرة من الورع خير من كف مثقال من الصوم والصلاة"(3)
وجاء رجل إلى عبد الله بن عبد العزيز العمري، وقال له: عظني. فأخذ العمري حصاة من الأرض وقال: "زنة هذه من الورع يدخل قلبك خير لك من صلاة أهل الأرض"0(4)
(7) ومن أمثلة الورع في حياة الصحابيات نختار هذين المثلين:-
(أ) عن عائشة أم المؤمنين - رضي الله عنها - قالت: - "كنت أدخل بيتي الذي دفن فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي فأضع ثوبي فأقول: إنما
<25>
__________
(1) انظر (صفة الصفوة) - ابن الجوزي (جـ2 - ص203، ص 204) .
(2) أخرجه الترمذي وحسنه (جـ4 - ص634) كتاب صفة القيامة - باب رقم 91 منه وأخرجه بن ماجه(ج2 -1409) كتاب الزهد باب الورع والتقوى.
(3) مدارج السالكين (جـ2 - ص16)- ابن قيم الجوزية ،طبعة أولى ،دار التراث العربى.
(4) صفة الصفوة (جـ2 - ص 183).(1/15)
هو زوجي وأبي، فلما دفن عمر معهم، فو الله ما دخلت إلا وأنا مشدودة علىَّ ثيابي حياء من عمر"0(1)
(ب) عن أم المؤمنين حبيبة رملة بنت أبى سفيان- رضي الله عنها- أنه لما جاءها نعى أبيها دعت بطيب، فمسحت ذراعيها وقالت: "مالي بالطيب من حاجة، لولا أنى سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تُحِد(2) على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا"(3)
<26>
المبحث الثاني
المحافظة على أداء الفرائض
والإكثار من النوافل
(1) إلى جانب ما أمر به المسلم والمسلمة من البعد عن المعاصي، والتحليِ بالورع عن موَاقعة الشبهات، وهو ما يسمى لدى بعضهم بالتخلية؛ تأتي أهمية الالتزام بالطاعات فرائضها ونوافلها - وهو ما يطلق عليه لفظ التحلية، وبذلك يكون المسلم أهلا لمعونة الله تعالى وتوفيقه. يقول الله تعالى في الحديث القدسي: "من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلىَّ عبدي بشيء أحب إلى مما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، ويصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ولإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه"(4)
(
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد في مسنده (جـ6 - ص202).
(2) الإحداد: ترك المرأة للزينة عند وفاة أحد الأشخاص الذين يمتون لها بصلة.
(3) أخرجه البخاري في صحيح (جـ3- ص285) كتاب الطلاق - باب والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا .. إلى قوله: بما تعملون خبيرا.
(4) أخرجه البخاري، واللفظ له (جـ4- ص 129) كتاب الرقاق- باب التواضع " وأخرجه أحمد بنحو. (جـ6 - ص256)0(1/16)
2) ولسائل أن يسأل: إذا كانت الفرائض هي أحب الأعمال إلى الله تعالى فلماذا كانت محبة الله تعالى - بنص الحديث - لمن يكثرون من النوافل ولم تكن على أداء الإنسان للفرائض فقط؟ والجواب أن الإنسان قد يحمله على أداء الفرائض خوفه من العقوبة، لكنه حين يكثر من النوافل يدفعه إلى ذلك مزيد من الحب لله تعالى، والرغبة في ثوابه، فيكون الجزاء من جنس العمل.
<27>
(3) وإذا كان الحديث قد أشار إلى أن الإكثار من النوافل يحقق محبة الله لعبده، فإن هناك حديثا آخر يشير فيه النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن النوافل تجبر ما قد يكون في الفريضة من نقص، وفي هذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة من عمله صلاته، فإن صلحت فقد أفلح وأنجح، وإن فسدت فقد خاب وخسر، فإن انتقص من فريضته شيء قال الرب عز وجل: انظروا هل لعبدي من تطوع؟ فيكمَلُ بها ما انتقص من الفريضة، ثم يكون سائر عمله على ذلك"(1)
(4) وانطلاقا من هذه المعاني حفلت حياة الصحابيات بالكثير من الأمثلة على أداء الفرائض، والاستكثار من النوافل، وفيما يلي نتعرف بعض هذه الأمثلة في فرائض الإسلام وأركانه، واحدا بعد الآخر.
أولا: الصلاة:
لا يخفى على أحد ما للصلاة من منزلة في الإسلام، فهي عماد الإسلام وهي الصلة بين العبد وربه، وهي أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة، وهي الفريضة الوحيدة التي فرضت في السماء، وهي - كذلك- الفريضة الوحيدة التي لا تسقط في مرض، ولا تتعطل في سفر، ولا تتوقف في قتال.
<28>
وهذا كله يؤكد عظم منزلة الصلاة وأهميتها في دين الإسلام.
__________
(1) أخرجه الترمذي بهذا اللفظ، وحسنه (جـ 2 - ص270) كتاب الصلاة - باب ما جاء أن أول ما يحاسب به العبد يوم القامة الصلاة وقال عنه: حسن غريب، وأخرجه كذلك النسائي وابن ماجه وأحمد بألفاظ متقاربة.(1/17)
والذي يطالع القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة يدرك إلى أي مدى حظيت الصلاة بالعناية، سواء في الأمر بإقامتها، أو التحذير من التهاون فيها، أو الكيفية التي تؤدى بها، ويكفي أن نشير إلى أن الصلاة ذكرت في القرآن الكريم بهذا اللفظ 67 مرة، وهذا عدا ذكرها في صور أخرى غير المصدر.
ومن هنا أشار العلماء إلى أن الصلاة هي دليل الخير في العبد من عدمه، وأن من حافظ على الصلاة سيكون- في الغالب الأعم- محافظا على ما سواها من أعمال الإسلام.
يقول الإمام أحمد بن حنبل - رضي الله عنه - : "قد جاء في الحديث "لا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة"(1)فكل مستخف بالصلاة مستهين بها، هو مستخف بالإسلام ومستهين به، وإنما حظهم من الإسلام على قدر حظهم من الصلاة، ورغبتهم في الإسلام على قدر رغبتهم في الصلاة"(2)
وفى ضوء هذه المعانى حرص المسلمون الأوائل على الاهتمام بأمر الصلاة ، وفى طليعة هؤلاء نذكر ما يتعلق بموضوع بحثنا ، وهو الصحابيات0
<29>
ففي الدلالة على اهتمام الصحابيات بأداء الصلاة المفروضة وحرصهن على ذلك نسوق هذه الأدلة:-
(1) عن أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - أن نساء المؤمنات كن يصلين الصبح مع النبي صلى الله عليه وسلم ثم يرجعن متلفعات بمروطهن(3)
__________
(1) الحديث ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (جـ1- ص 295) بلفظ: لا حق في الإسلام لمن ترك الصلاة على أنه كلام سيدنا عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وقال عنه: رواه الطبراني في الأوسط، ورجاله رجال الصحيح.
(2) رسالة الصلاة (ص 15) الإمام أحمد بن حنبل- طبعة ثالثة سنة 1396 هـ - المكتبة السلفية.
(3) متلفعات بمروطهن: أي متلففات بأكيستهن، واحدها مِرط بكسر الميم0(1/18)
لا يعرفهن أحد".(1)
(2) عن أم سلمى - رضي الله عنها - قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سلَم قام النساء حين يقضي تسليمه، وهو يمكث في مقامه يسيراً قبل أن يقوم، قالت أم سلمة: نرى - والله أعلم - أنه ذلك كان لكي ينصرف النساء قبل أن يدركهن الرجال"(2)
وقد اشتهر منذ جاءت الرسالة بأن صفوف الصلاة تبدأ بالرجال أولاً ثم الصبيان، ثم النساء، وأنه كان في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم باب خاص للنساء يدخلن منه ويخرجن، ولا يزال هذا الباب موجودا حتى الآن.
ومن الأحاديث التي ذكرناها - وأحاديث أخرى غيرها - يتضح لنا مدى حرص الصحابيات على أداء فريضة الصلاة، وصار هذا الحرص رمزا تتحدث عنه كتب السنة، وقدوة وأسوة تصلح لكل زمان ومكان. لكن الصحابيات - رضوان الله عليهن - لم يكتفين بأداء الفرائض،
<30>
بل زدن على ذلك الحرص على أداء النوافل بأنواعها، وأوردت لنا كتب السنة بعضا من الأخبار تتعلق بهذا، ونختار منها ما يلي:-
(1) عن أنس - رضي الله عنه - قال: "دخل النبي صلى الله عليه وسلم فإذا حبل ممدود بين الساريتين، فقال: ما هذا الحبل؟ قالوا هذا حبل لزينب، فإذا فترت (أي تعبت في صلاتها) تعلقت (أي به) فقال النبي صلى الله عليه وسلم لا، حلوه، ليصل أحدكم نشاطه، فإذا فتر فليقعد"0(3)
والحديث يدل على الاجتهاد في الصلاة، والتفاني في الطاعة.
(
__________
(1) أخرجه مسلم، واللفظ له ( جـ1 - ص 445) كتاب المساجد ومواضع الصلاة استحباب التبكير بالصبح في أول وقتها، وهو التغليس، وأخرجه البخاري بنحوه (جـ1 - ص157) كتاب الصلاة باب - باب في كم تصلي المرأة من الثياب0
(2) أخرجه البخاري (جـ1 - ص157) كتاب الأذان - باب صلاة النساء خلف لرجال
(3) أخرجه البخاري (جـ1 - ص 200) كتاب التهجد - باب ما يكره من التشديد في العبادة 0(1/19)
2) وقد مر بنا في حديث سابق أن السيدة زينب - رضي الله عنها - حدَّثها سيدنا زيد بن حارثة بشأن زواج النبي صلى الله عليه وسلم منها فقالت: "ما أنا بصانعة شيئا حتى أوامر ربي (أي أستخير ربي لأرى أمره) فقامت إلى مسجدها. وهو دليل على حرص الصحابيات على صلاة الاستخارة، التي تعلموها من رسول الله صلى الله عليه وسلم كما كن يتعلمن السورة من القرآن.
(3) وعن تطويلهن في الصلاة، وتدبرهن للقرآن الكريم؛ ورد عن القاسم أنه قال: "كنت إذا غدوت بدأت ببيت عائشة أسلم عليها، فغدوت يوما فإذا هي قائمة تسبح وتقرأ: (فَمَن الله عَلَينا وَوَقَانَا عَذَابَ السموم)(1) وتدعو وتبكي وترددها، فقمت حتى مللت القيام، فذهبت إلى السوق لحاجتي، ثم رجعت فإذا هي قائمة كما هي، تصلي وتبكي"(2)
<31>
(4) وجاء في وصف أم المؤمنين حفصة - رضي الله عنها - أنها كانت صوّامة قوَّامة، وهما لفظان يدلان على المبالغة، بمعنى أنها كانت كثيرة الصيام كثيرة القيام.
لقد كانت المرأة المسلمة في هذه العصور- والتي تلتها- نموذجا يحتذى في الاجتهاد والتبتل في العبادة والإخلاص لله تعالى، مع قيامها بسائر واجباتها نحو زوجها وأولادها، ومما ورد في هذا الشأن أن المرأة المسلمة كان إذا جنها الليل تسأل زوجها: هل لك حاجة تريدها منى؟ فإن كان له حاجة لم تتأخر في قضائها طاعة لربها، فإن لم تكن له حاجة استأذنته في أن تقوم ليلها عابدة لربها، وخلت بمحبوبها، تتلو كتابه، وتَصفُّ قدمها في محرابه، وترسل دموعها خشية منه، حتى يظنها الظان أن جريمة وقعت منها فهي تجتهد في الاستغفار والبكاء، ولننظر في هذا الموقف:-
__________
(1) سورة الطور الآية: (27)
(2) صفة الصفوة (جـ2- ص31) ابن الجوَزي.(1/20)
روى أن حفصة بنت سيرين اشترت جارية من السند، فقيل للجارية: كيف رأيت مولاتك؟ فذكرت كلاماً بالفارسية، تفسيره: إنها امرأة صالحة، إلا أنها أذنبت ذنبا عظيما، فهي الليل كله تبكي وتصلي(1)
<32>
ثانيا: الزكاة والصدقة:
(1) الزكاة هي الركن الثالث من أركان الإسلام، وقد ذكرت مقرونة بالصلاة في أكثر المواضع التي وردت في كتاب الله تعالى، وهو ما يدل على أهميتها كالصلاة في ضرورة الاهتمام بها، وأن الصلاة التي لا تثمر في سلوك صاحبها رحمة بالفقراء والمساكين، وقياماً بحق الله في المال هي صلاة لا يقيم اللهُ لها وزنا، ولا تفيد صاحبها شيئا.
يقول سيدنا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه:- "أمرتم بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، ومن لم يزك فلا صلاة له"(2)
وقال ابن زيد "افترضت الصلاة والزكاة جميعا، لم يفرق بينهما، وقرأ:- (فإن تَابوا وَأَقَامُوا الصلاةَ وآتَوا الزكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ في الدينِ)(3) وأبى أن يقبل الصلاة إلا بالزكاة، وقال: (رحم الله أبا بكر ما كان أفقهه يعنى بذلك قوله: لا أفرق بين شيئين جمعهما الله"(4)
(2) إن النفس الإنسانية مولعة بحب المال، وهو ما أشار القرآن الكريم إليه في أكثر من موضع فقال (وَتُحبونَ الْمَالَ حبا جَما)(5)وقال: (وإنه لحُبِ الْخَيْرِ لَشَدِيد)(6) ولكن القرآن الكريم والسنة النبوية يضعان أيدينا على جملة من الحقائق تجعل الإنسان يبذل مما بيده، وينفق مما لديه، طيعة بذلك نفسه، ومن أهم هذه الحقائق:-
<33>
(
__________
(1) صلاح الأمة في علو الهمة (جـ7 - ص 176) د/ سيد حسين العفاني.
(2) تفسير الطبري (جـ14 ص 153) طبعة دار المعارف - نقلا عن (فقه الزكاة) للدكتور يوسف القرضاوى0
(3) سورة التوبة- الآية، (11)0
(4) المرجع السابق0
(5) سورة الفجر- الآية (20)
(6) سورة العاديات- الآية (8)(1/21)
أ) أن المال الذي بأيدينا في الأصل إنما هو مال الله، ونحن مستخلفون فيه، وفي هذا يقول ربنا:- (وآتُوهُم مِن مَّالِ الله الذِي آتَاكُمْ)(1) وقال:- (وَأَنفِقُوا مما جَعَلَكُم مستخْلَفِينَ فِيهِ)(2)
(ب) إن كثرة المال بيد بعضنا وقلتها بيد بعضنا الآخر لون من الابتلاء اقتضته حكمة الله تعالى، ليرى شكر الغنى وصبر الفقير، وصدق الله إذ يقول:- (وَنبلوكُم بِالشرِ وَالْخَيْر فِتْنَة)(3) ويقول الإمام الحسن البصري رضي الله عنه:- " لو شاء الله لجعلكم أغنياء لا فقير فيكم، ولكنه ابتلى بعضكم ببعض".
(جـ) أن مردود الصدقة - وإن بدا أن عائده على الفقير - يعود في الحقيقة إلى صاحبه، وهو ما أشار إليه القرآن الكريم في قوِله تعالى:- (وَمَا تنفِقوا مِنْ خَيْر فَلأَنفسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إلا ابْتِغَاءَ وجْه اللًه وَمَا تنفِقُوا مِنْ خَيْر يُوف إِلَيْكُمْ وَأنتُمْ لا تظلَمُونَ)(4)
وفي الوقت نفسه أشار القرآن الكريم إلى أن مردود البخل بمال الله على عباد الله يكون على أصحابه أيضا، وفي هذا يقول ربنا: ( وَمَن يبْخَلْ فإنًمَا يبخَل عَن نفْسِهِ وَاللهُ الْغَني وَأَنتمُ الْفُقَرَاءُ)(5)
وقد أشار الإمام الشعبي رضي الله عنه إلى هذا المعنى فقال:- "من لم ير نفسه إلى ثواب الصدقة أحوج من الفقير إلى صدقته، فقد أبطل
<34>
صدقته، ضُرِب بها وجهه ".
(
__________
(1) سورة النور - الآية (33)
(2) سورة الحديد- الآية (7).
(3) سورة الأنبياء- الآية (35).
(4) سورة البقرة- الآية (272).
(5) سورة محمد- الآية (38).(1/22)
3) وفي ضوء هذه المعاني والمفاهيم التي تحدد العلاقة بين الإنسان ونعمة المال ينطلق المرء المسلم إلى مجالات الخير بشتى أنواعها، فيبذل من ماله وثرواته طيبة بها نفسه، فيكون لله شاكراً، وبتوجيهات القرآن الكريم والسنة عاملاً، وبحق إخوانه من المسلمين المبتلين قائما، وبأخلاق الإسلام من السخاء والجود والإيثار متحليا، وعن أخلاق أصحاب السوء من البخل والشح مترفعا.
(4) والمرأة المسلمة شأنها في ذلك كشأن الرجل- إن لم يكن أكثر - فهي مفطورة على حب المال كباقي خلق الله، وتزيد على ذلك محبتها للزينة والحلي، ومن ثم كانت دعوة النبي صلى الله عليه وسلم إلى كل امرأة مسلمة بضرورة الإكثار من الصدقة لتفك بذلك رقبتها من النار، ولتحمى نفسها من الوقوع في أسر المحبة للزينة والمتاع الذي قد يحملها على البخل بالواجب، وفي هذا يقول صلى الله عليه وسلم:- "يا معشر النساء تصدقن، فإني رأيتكن أكثر أهل النار. فقلن: ولم ذلك يا رسول الله؟ قال: تكثرن اللعن، وتكفرن العشير، وما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم منكن . "(1)
فلو لم يكن للصدقة من خصوصية في إفادة النساء في النجاة من
<35>
النار لما كان لأمر النبي صلى الله عليه وسلم النساء بها وتوجيههن إلى العناية بشأنها ما يقتضي تخصيصها بالذكر دون سائر الأعمال.
(5) وبعد هذا العرض الموجز لأهمية العناية بالزكاة والصدقة في حياة المرأة المسلمة ننظر في سيرة الصحابيات الجليلات رضوان الله عليهن، فنجد أنفسنا أمام نماذج رائعة حرصت على البذل والعطاء، وملأت سيرتهن العطرة الآفاق، ولندع الأمثلة تتكلم، والوقائع تتحدث.
(
__________
(1) أخرجه البخاري (جـ1 - ص255) كتاب الزكاة - باب الزكاة على الأقارب، وأخرجه مسلم (جـ1 - ص 86) كتاب الإيمان - باب بيان نقصان الإيمان بنقص الطاعات، وبيان إطلاق لفظ الكفر على غير الكفر بالله، ككفر النعمة والحقوق.(1/23)
أ) أول ما يلفت نظرنا في هذا المجال ما كانت تفعله أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، حيث ورد أنها كانت تطيب الدراهم، وتضع فيها المسك قبل أن تتّصدق بها، قيل لها: يا أم المؤمنين لم تفعلين هذا؟ فقالت: "إن الدراهم تقع في يد الله قبل أن تقع في يد السائل"(1)
وهذا موقف يدل على فقه في دين الله، تتعامل صاحبته مع الغيب على أنه واقع مشاهد، ومن ثم لا يحملها ذلك على استكثار ما تعطى، لأن الآخذ هو الله، كما يحملها ذلك على حب الفقير والترحيب به ؛لأنه يحمل زادها إلى الله تعالى، وفي ذلك ما يحافظ على تواضع الغنى، وحفظ كرامة الفقير.
(ب) وثاني ما يلفت نظرنا هو إخلاص هؤلاء الصحابيات عند الإنفاق؛ فلا حرص منهن على شهرة، ولا رغبة منهن في سمعة.
<36>
ومما يُذْكَرُ في هذا المقام أن زينب الثقفية امرأة عبد الله بن مسعود رضي الله عنهما كانت صناعا تبيع من صناعتها، فقالت لعبد الله: والله إنك شغلتني أنت وولدك عن الصدقة في سبيل الله (أي لأنها تعطيهم ما تكتسبه لا تنفق)، فسل النبي صلى الله عليه وسلم فإن كان لي في ذلك أجر وإلا تصدقت في سبيل الله، فقال ابن مسعود: وما أحب أن تفعلي إن لم يكن لك في ذلك أجر. فسألت النبي صلى الله عليه وسلم، فقال:- (أنفقي عليهم فإن لكِ أجر ما أنفقت عليهم)(2)
(
__________
(1) لهذا الموقف شاهد من حديث عبد الله بن مسعود قال:- " إن الصدقة تقع في يد الله قبل أن تقع في يد االسائل، ثم قرأ: "وهو الذي يقبل التوبة عن عباده" ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (جـ3 - ص111).
(2) حلية الأولياء (جـ2 - ص69) أبو نعيم.(1/24)
جـ) وثالث ما يلفت نظرنا هو هذا التنافس بينهن على الإنفاق في سبيل الله تعالى، فقد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لنسائه:- "أولكن يتبعني أطولكن يدا، قالت السيدة عائشة رضي الله عنها:- فكنا إذا اجتمعنا بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم نمد أيدينا في الحائط نتطاول، فلم نزل نفعل ذلك حتى توفيت زينب بنت جحش، وكانت امرأة قصيرة ولم تكن أطولنا يدا، فعرفت أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أراد بطول اليد الصدقة، وكانت زينب امرأة صناع اليدين، فكانت تدبغ وتخرز وتتصدق به فى سبيل الله"(1)
(د) وأما عن كثرة ما أنفقن في سبيل الله من أموالهن فالأمثلة كثيرة، ونختار منها ما يلي:-
(1) عن أم ذرة - وكانت تغشى عائشة - قالت:- "بعث إليها ابن الزبير بمال في غرارتين (جوالين) قالت: أراه ثمانين ومائة ألف،
<37>
فدعت بطبق - وهي يومئذ صائمة - فجعلت تقسمه بين الناس، فأمست وما عندها من ذلك درهم، فلما أمست قالت: يا جارية هلمي فطرى، فجاءتها بخبز وزيت، فقالت لها أم ذرة: أما استطعت مما قسمت اليوم أن تشترى لنا بدرهم لحما نفطر عليه؟ فقالت لها: لا تعنفيني، لو كنت ذكرتني لفعلت0(2)
(2) ولم يكن هذا التصرف من أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها لمرة واحدة فلم يتكرر، بل الثابت أنها كانت دائما تتصدق بكل ما لديها، فعن عروة بن الزبير رضي الله عنهما قال:- "كانت عائشة رضي الله عنها لا تمسك شيئا مما جاءها من رزق الله إلا تصدقت به"(3)
(3) وإلى جوار السيدة عائشة توجد أختها أسماء بنت أبى بكر رضي الله عنها، وهي نموذج آَخر في الجود والسخاء، يدل على مدى تنافس هذا الجيل الصالح من نساء الأمة في البذل والعطاء.
__________
(1) صفة الصفوة (جـ2- ص 49) ابن الجوزي.
(2) نفس المرجع (جـ2- ص29).
(3) أخرجه البخاري - كتاب المناقب - باب مناقب قريش (جـ - ص)(1/25)
فعن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما قال:- ما رأيت امرأتين قط أجود من عائشة وأسماء، وجودهما مختلف: أما عائشة فكانت تجمع الشيء حتى إذا اجتمع عندها قسمت، وأما أسماء فكانت لا تمسك شيئا لغد"(1)
<38>
(4) قال محمد بن كعب: "كان عطاء زينب (أي بنت جحش) رضي الله عنها اثنى عشر ألف درهم ،ولم تأخذه إلا عاما واحدا، حُمِلَ إليها فقسمته في أهل رحمها وفي أهل الحاجة حتى أتت عليه، فبلغ ذلك عمر فقال:- "هذه امرأة يراد بها خير". فوقف على بابها، وأرسل بالسلام وقال:- لقد بلغني ما فرقت" فأرسل إليها بألف درهم لتنفقها،- فسلكت بها طريق ذلك المال"0(2)
(6) لقد تربت هذه الأجيال على إيثار مرضاة الله تبارك وتعالى على كل شيء، وبذا هانت الدنيا عليهم، فأخرجوها من أيديهم طائعين؟ وانطلقت أقوالهم وأفعالهم تحكى هذا، وتتوارثه الأجيال؛ ولذا لا نعجب أن تنزل آيات القرآن الكريم، وتتوارد أحاديث النبي الأمين صلى الله عليه وسلم في ضرورة اقتفاء آثارهم، والسير على دربهم؛ لأن إيمانهم هو النموذج، وسلوكهم هو القدوة، وصدق الله:- (وَالسابِقُونَ الأولُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالذِينَ اتبَعُوهُم بِإِحْسَان رضيَ اللهُ عنهُمْ وَرَضوا عَنْهُ وَأَعد لهمْ جَناتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنهًارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)(3)
<39>
ثالثا: الصيام والحج:
(
__________
(1) ابن الجوزي - مرجع سابق (جـ2 - ص85).
(2) الإصابة في تمييز الصحابة (جـ7 - ص689) بتصرف يسير 0
(3) سورة التوبة - الآية (100)(1/26)
1) الصيام لون من ألوان الطاعة تَعَبَّدَنا الله تعالى به، يساعد المرء على أن يكون قوى الإرادة، وأن يضبط نفسه أمام تيار الشهوات، وينمى فيه ملكة المراقبة لله تبارك وتعالى، ويحقق صورة من صور الوحدة بين المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، حين يلزمهم جميعا بالصيام من مطلع الفجر إلى غروب الشمس، إضافة إلى دروس أخرى يستفيدها المسلمون بعبادة الصيام.
(2) ومن أهم المعاني التي يتضمنها الصيام أنه عبادة يتحقق فيها الإخلاص الكامل لله تعالى، ويتجرد فيها المرء من الرياء والنفاق، لأن تجويع المرء نفسه وحرمانه من شهواته لا يتصور أن يرائى بها أحداً من خلق الله، يتزلف بها إليها، أو يطلب منزلة لديه، ولذا قال الله تعالى في الحديث القدسي:- "كل عمل ابن آَدم له إلا الصوم، فإنه لي وأنا أجزى به "(1)
ومن ثم جوزى الصائمون بأن جعل الله لهم بابا في الجنة خاصا بهم اسمه الريان، فإذا دخلوا أغلق دونهم، وثبت في السنة ما يفيد شفاعة الصيام لأصحابه يوم القيامة.
(3) إزاء هذه المعاني حرص سلف الأمة الصالح على الإكثار من الصيام، فلم تخل أيامهم- إلا في النادر القليل- من الصيام لله رب العالمين.
<40>
ونسوق فيما يلي بعض الأمثلة على ذلك من حياة الصحابيات حتى يتأيد المقال بالمثال.
(أ) عن عثمان بن القاسم قال: خرجت أم أيمن مهاجرة إلى رسول الله صلى الله وسلم من مكة إلى المدينة وهي ماشية ليس معها زاد، وهي صائمة في يوم شديد الحر، فأصابها عطش شديد حتى كادت تموت من شدة العطش. قال: وهي بالروحاء أو قريبا منها. قالت: فلما غابت الشمس إذا أنا بحفيف شيء فوق رأسي، فرفعت رأسي فإذا أنا بدلو من السماء مدلى برشاء0(2) أبيض. قالت: فدنا منى حتى إذا كان بحيث أستمكن منه تناولته، فشربت منه حتى رويت.
__________
(1) أخرجه البخاري (جـ4 - ص42) كتاب اللباس - باب ما يذكر في المسك، وأخرجه مسلم (جـ2 - ص 806) كتاب الصيام - باب فضل الصيام.
(2) الرشاء هو الحبل 0(1/27)
قالت: فلقد كنت بعد ذلك في اليوم الحار أطوف في الشمس كي أعطش فما عطشت بعدها"(1)
وهذا الموقف جدير بالتأمل، لندرك إلى أي مدى كان الحرص على الصيام رغم انعدام الزاد ومشقة الطريق ومطاردة الأعداء لهذه الصحابية الجليلة التي خرجت بمفردها، رغبة في مرضات الله، وفرارا بدينها من الفتن، ومن ثم كانت هذه الكرامة التي ساقها الله إليها، تقديرا من الله تعالى لتضحياتها وجهادها في سبيل دينها.
(جـ) وفي الدلالة على دعوة هؤلاء الصحابيات أبناءهن إلى صيام النوافل ثبت عن الربيع بنت معوذ قولها: " كنا نصومه (أي يوم عاشوراء) ونصوم صبياننا الصغار، ونجعل لهم اللعبة من العهن
<41>
(الصوف)، فإذا بكى أحدهم على الطعام أعطيناه ذاك حتى يكون عند الإفطار" 0(2)
وبهذا توارثت الأجيال حب الصيام، وبدا الحرص عليه من الرجال والنساء، والكبار والصغار على السواء.
(4) وأما عن الحج وحرص الصحابيات على القيام به فيكفي أن نتأمل في هذه الأخبار:-
(أ) عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: قلت للنبي صلى الله عليه وسلم. ألا نغزو نجاهد معكم؟ فقالت- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لكِنَّ أحسن الجهاد وأجمله: الحج، حج مبرور. قالت عائشة: فلا أدع الحج بعد إذ سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم"0(3)
(ب) عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أن امرأة من خثعم قالت يا رسول الله: إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبى شيخا كبيرا لا يثبت على الراحلة، أفأحج عنه؟ قال: نعم، وذلك في حجة الوداع0(4)
__________
(1) صفة الصفوة جـ2- ص54.
(2) أخرجه البخاري (جـ1- 335).
(3) أخرجه البخاري (جـ1 - ص319) كتاب الحج - باب حج النساء. وأخرجه أحمد بهذا اللفظ (جـ6 - ص 39).
(4) أخرجه البخاري (جـ1 - ص564) كتاب الحج - باب وجوب الحج وفضله، وأخرجه مسلم (جـ2 - ص972) كتاب الحج - باب الحج عن العاجز لزمانة وهرم ونحوهما، أو للموت.(1/28)
فهذه امرأة شاركت بنفسها في أداء الحج، وزادت على ذلك أن
<42>
سألت عن إمكان حجها عن والدها الذي لا يستطيع الحج بنفسه، وهو موقف يدل على مدى حرص الصحابيات على أداء هذه الفريضة، ومساعدة الآخرين على أدائها.
(جـ) عن ابن عباس رضي الله عنهما أن امرأة رفعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صبيا، فقالت: ألهذا حج؟ قال: نعم، ولك أجر0(1)
وهذا الموقف يتضمن حرص الصحابيات على أن يورثوا أبناءهن الصلاح والتقى في صورة من صوره وهي الحج، رغم أنهم لازالوا صغاراً لم يجب عليهم الحج بعد، وهو ما يؤكد حرصهن على هذا الخير، كما هو شأنهن مع سائر أعمال الإسلام.
ونكتفي بهذا القدر من الحديث عن محافظة الصحابيات على أداء الفرائض والإكثار من النوافل، وننتقل إلى النقطة التالية" وهي الإكثار من ذكر الله تعالى.
<43>
المبحث الثالث
الإكثار من ذكر الله تعالى
(1) إذا كنا قد أشرنا إلى أركان الإسلام الرئيسة، وضربنا أمثلة من حياة الصحابيات على المحافظة على ما هو مفروض منها، والاستكثار من النوافل المتعلقة بها، فإنها تبقى عبادات قد حددت بأوقات معلومة وأزمان محدودة، لا تستوعب صفة الأوقات، ولا تنتظم جميع الأزمان.
(2) فإذا علمنا أن حاجة الإنسان إلى خالقه دائمة، وافتقاره إلى معونته دون انقطاع وجدنا التوجيه الإلهي للإنسان بضرورة أن يستعين الإنسان على ذلك بالإكثار من ذكر الله تعالى في جميع الأحوال والأوقات.
يقول الله تعالى:- (فَإِذَا قَضَيتمُ الصلاةَ فَاذْكُروا اللهَ قِيَامًا وَقعودا وَعَلَى جنُوبِكُمْ)0(2)
قال ابن عباس رضي الله عنهما في تعليق له على هذه الآيةْ. "أي بالليل والنهار، في البر والبحر، والسفر والحضر، والغنى والفقر، والسقم والصحة، والسر والعلانية، وعلى كل حال"0(3)
__________
(1) أخرجه مسلم (جـ2 - ص974) كتاب الحج - باب صحة حج الصبي، وأجر من حج معه.
(2) سورة النساء- الآية (103) 0
(3) تفسير ابن كثير (جـ3 - ص 495).(1/29)
وقْال تعالى:- ( فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)(1)
<44>
ومن مجموع الآيتين الكريمتين نجد أن أمر الله لنا بالذكر لا يتحدد بزمان ولا مكان، وهو ما يحقق الصلة الدائمة بين العبد ومولاه.
(3) وقد أشارت آيات القرآن الكريم وأحاديث النبي الأمين صلى الله عليه وسلم إلى أهمية الذكر في تحقيق الصلة الدائمة بين العبد ومولاه، وما يترتب على ذلك من حياة القلب في ظل طاعة الله.
يقول رب العزة:- (فَاذْكرُونِي أَذْكرْكمْ)(2). وفي الحديث القدسي:- "أنا مع عبدي حيثما ذكرني وتحركت بي شفتاه"(3). ويقول عليه الصلاة والسلام:- "مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكره مثل الحي والميت"0(4)
ويقول الإمام ابن تيمية:- "الذكر للقلب مثل الماء للسمك، فكيف يكون حال السمك إذا فارق الماء"0(5)
(4) بقى أن نشير إلى أن الذكر بأنواعه المختلفة من تسبيح وتهليل وقراءة للقرآن الكريم ودعاء... إلخ؛ كان دأب نساء السلف الصالح عامة، والصحابيات الجليلات خاصة.
وفيما يلي نتعرف بعض النماذج التي تدل على اجتهادهن في هذا المجال:-
<45>
(
__________
(1) سورة الجمعة - الآية (10).
(2) سورة البقرة- الآية (152)
(3) أخرجه البخاري (جـ4- ص304) كتاب التوحيد- باب قول الله تعالى: لا تحرك به لسانك - وأخرجه أحمد جـ2- 540)
(4) أخرجه البخاري (جـ4- ص 118) كتاب الدعوات- باب فضل ذكر الله عز وجل0
(5) الوابل الصيب من الكلم الطيب (39) ابن قيم الجوزية- طبعة خامسة سنة 1400 هـ - مكتبة الدعوة الإسلامية0(1/30)
أ) أخرج مسلم في صحيحه عن أم المؤمنين جويرية بنت الحارث رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج من عندها بكرة حين صلى الصبح وهي في مسجدها (أي موضع صلاتها)، ثم رجع بعد أن أضحى (وفي رواية لأحمد قريبا من نصف النهار) وهي جالسة، فقال: مازلت على الحال التي فارقتك عليها؟ قالت: نعم. قال النبي صلى الله عليه وسلم:- "لقد قلت بعدك أربع كلمات ثلاث مرات، لو وزنت بما قلت منذ اليوم لوزنتهن: سبحان الله وبحمده، عدد خلقه ورضا نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته "0(1)
فهذا نموذج من نماذج الاجتهاد في تسبيح الله تعالى في وقت من الأوقات الفاضلة، وهو أول النهار عقب صلاة الصبح.
(ب) وعن عائشة بنت سعد بن أبى وقاص عن أبيها رضي الله عنهما أنه دخل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على امرأة وبين يديها نوى أو حصى تسبح به، فقال:- "أخبرك بما هو أيسر عليك من هذا أو أفضل؟ فقال: سبحان الله عدد ما خلق في السماء، وسبحان الله عدد ما خلق في الأرض، وسبحان الله عدد ما خلق بين ذلك، وسبحان الله عدد ما هو خالق، والله أكبر مثل ذلك، والحمد لله مثل ذلك، ولا إله إلا الله مثل ذلك، ولا حول ولا قوة إلا بالله مثل ذلك"(2)
<46>
وهو نموذج آخر - يضم إلى السابق - في الدلالة على الاجتهاد في التسبيح والذكر لله تعالى، والاستعانة على إنجاز الأعداد الكبيرة منه باستخدام النوى أو الحصى.
(
__________
(1) أخرجه مسلم (جـ4 - ص2090) كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار - باب التسبيح أول النهار وعند النوم/ وأخرجه أحمد (جـ6 - ص 325).
(2) أخرجه أبو داود واللفظ له (جـ2 - ص376) كتاب الوتر- باب التسبيح بالحصى وأخرجه الترمذي وحسنه (جـ5 - ص 562) كتاب الدعوات- باب في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم كل صلاة.(1/31)
ب) ومن النماذج ما سبق ذكره بشأن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها فيما رواه عنها القاسم قال: كنت إذا غدوت بدأت ببيت عائشة أسلم عليها، فغدوت يوما فإذا هي قائمة تسبح وتقرأ:- "فمن الله علينا ووقانا عذاب السموم، وتدعو وتبكى وترددها، فقمت حتى مللت القيام، فذهبت إلى السوق لحاجتي، ثم رجعت فإذا هي قائمة كما هي، تصلى وتبكى"(1) وهذا نموذج يدل على الحرص على قراءة القرآن الكريم وتدبره في أفضل عمل وهو الصلاة، مع الجمع بين هذه القراءة والتسبيح والدعاء كما تدل على ذلك الرواية.
(4) لقد عاشت هذه الأجيال عصر نزول القرآن الكريم، واستمعوا إلى آياته وهي تدعوهم إلى كثرة ذكر الله تعالى في جميع الأحوال، كما شاهدوا رسول الله وهو يطبق ما جاء في الآيات على نفسه، فكان لا يفتر لسانه عن ذكر ربه، كما تقول لنا أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها:- "كان النبي صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحيانه"(2)
كما استمعوا إلى توجيهات نبيهم صلى الله عليه وسلم وهو يوجه أصحابه إلى
<47>
الاهتمام في حياتهم بذكر الله، باعتباره من أفضل الأعمال وأجلِّها، كهذا الرجل الذي قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم :- "يا رسول الله، إن شرائع الإسلام قد كثرت على، فأخبرني بشيء أتشبث به. قال: لا يزال لسانك رطبا من ذكر الله"0(3)
__________
(1) صفة الصفوة (جـ2- ص 31) ابن الجوزي.
(2) أخرجه البخاري (جـ1 - ص118) كتاب الأذان- باب هل يتتبع المؤذن فاه هنا وهناك، وهل يلتفت في الأذان. وأخرجه مسلم (جـ1 - ص 282)، كتاب الحيض- باب ذكر الله تعالى في حال الجنابة وغيرها.
(3) أخرجه الترمذي وحسنه - (جـ5 - ص458) كتاب الدعوات - باب ما جاء في فضل الذكر 0(1/32)
وقد تفاعل المجتمع كله - برجاله ونسائه - مع هذه التوجيهات القرآنية والنبوية، فغدا المجتمع بأسره حريصا على ذكر الله تعالى بصورة لا تقتصر على حركة اللسان به فحسب، ولكن ثناء على الله باللسان، وتصفية النفس والقلب من الأدران، واجتهادا في فعل الخير بالأبدان، وذلك في كل زمان ومكان.
<48>
الفصل الثاني:
الجانب الاجتماعي في حياة الصحابيات
ويشتمل على أربعة مباحث :
(1) مع الزوج0
(2) مع الأولاد0
(3) مع الأخوات المسلمات0
(4) في مواجهة أعداء الإسلام0
<49>
المبحث الأول
مع الزوج
(1) من العلاقات المهمة التي يوليها الإسلام عنايته العلاقة القائمة بين الزوجين، ويتضح ذلك من خلال اهتمام القرآن الكريم والسنة النبوية بكل جزئية في هذه الحياة منذ بدء تكوينها، وفي كل مرحلة من مراحلها.
(2) وقد أشار القرآن الكريم إلى منة الله تعالى على الخلائق بنعمة الزوجية، وبين أنها طريق إلى الاستقرار والسكن الذي ينشده الإنسان - رجلا كان أو امرأة -، وفي هذا يقول رب العزة: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِنْ أَنفُسِكمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بينَكُم مودةً وَرَحْمَهًّ إِن في ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوم يَتَفَكرُونَ)(1)
(3) ولضمان تحقيق السكن المشار إليه- كهدف من أهداف الحياة الزوجية- وضع الإسلام أيدينا على الواجبات التي يلزم كل طرف أن يقوم بها، والحقوق التي له في مقابل أداء هذا الواجب، وصدق الله إذ يقول: (وَلَهُنً مِثْلُ الذي عَلَيْهِن بِالْمَعْرُوف وَلِلرِجَال عَلَيْهِن دَرَجَة وَاللهُ عَزيز حَكِيم)(2)
(4) ولسنا في مقام التفصيل لتلك الحقوق والواجبات المتبادلة بين الزوجين لكننا- ونحن نتحدث عن حياة الصحابيات- في حاجة إلى
<50>
__________
(1) سورة الروم - الآية (20)0
(2) سورة البقرة - الآية (228)0(1/33)
التأكيد على دور المرأة المسلمة في تحقيق هذا السكن، وأنها تتحمل العبء الكبير في تهيئة الجو المناسب داخل البيت لزوجها الذي يكون مثقلاً بأعبائه خارجه.
وقد أكدت السنة النبوية على ذلك في أكثر من حوار بين رسول الله صلى الله عليه وسلم ونساء الصحابة.
ونختار من هذه الحوارات النماذج التالية:
(أ) عن الحصين بن محصن أن عمة له أتت النبي صلى الله عليه وسلم في حاجة ففرغت من حاجتها، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: (أذات زوج أنت؟ قالت: نعم. قال: (كيف أنت له)؟ قالت: ما آلوه (أي ما أقصر في حق له) إلا ما عجزت عنه. قال: (فانظري أين أنت منه، فإنما هو جنتك ونارك)(1) والحديث غنى عن التعليق، وهو يشير إلى أن الباب الذي ستلج منه المرأة المسلمة إلى الجنة هو ما تفعله في سبيل رضا زوجها ابتغاء مرضات الله تبارك وتعالى.
(ب) عن أسماء بنت يزيد الأنصارية رضي الله عنها أنها أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله: إن الله بعثك للرجال والنساء، فآمنا بك واتبعناك، ونحن معاشر النساء مقصورات مخدرات، قواعد بيوت، ومواضع شهوات الرجال، وحاملات أولادهم، وإن الرجال فضلوا بالجماعات وشهود الجنائز والجهاد، وإذا خرجوا للجهاد حفظنا
<51>
لهم أموالهم، وربينا لهم أولادهم، أفنشاركهم في الأجر يا رسول الله، فالتفت رسول الله عنها بوجهه إلى أصحابه، وقال: هل سمعتم مقالة امرأة أحسن سؤالا عن دينها من هذه؟
قالوا: لا يا رسول الله.
فقال: (انصرفي يا أسماء وأعلمي من وراءك من النساء: إن حسن تبعل إحداكن لزوجها، وطلبها لمرضاته، واتباعها لموافقته، يعدل كل ما ذكرت للرجال)0(2)
وقد حدد النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الشريف الكيفية التي ترقى بها المرأة إلى أرفع الدرجات وأسمى المراتب، وذلك في ثلاث نقاط:
1- حسن تبعلها لزوجها.
__________
(1) أخرجه أحمد في مسنده (جـ 4- ص 341).
(2) أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (جـ 6 - ص 421).(1/34)
2- طلبها لمرضاته.
3- اتباعها لموافقته.
وأكد صلى الله عليه وسلم أن قيام المرأة بتلك المهام يجعلها تنال ثواب الجماعة في المسجد وإن لم تحضرها، وثواب الجهاد وإن لم تشارك فيه.
وهو دليل يضاف إلى ما سبق في مدى ما تتحمله المرأة من مسئولية في تحقيق السكن والاستقرار في البيت، وهو ما ينبغي على كل امرأة
<52>
مسلمة أن توليه عنايتها، وتجعله محط نظرها.
(ج) وعلى سبيل التأكيد لعظم حق الزوج على زوجته جعل النبي صلى الله عليه وسلم طاعتها لزوجها في غير معصية الله في سياق واحد مع صلاتها وصيامها وسائر طاعاتها، فقال: (إذا صلت المرأة خمسها، وصامت شهرها، وحفظت فرجها، وأطاعت زوجها، قيل لها ادخلا لجنة من أي الأبواب شئت)0(1)
وأشار صلى الله عليه وسلم َ إِلى أن السجود لا يجوز لغير الله، ولو كان جائزاً لأحد من الخلق لكان ذلك من المرأة لزوجها، والحديث في هذا معروف، وهي إشارة نبوية إلى عظم حق الزوج على زوجته، وتأكيده في نفس كل امرأة مسلمة ترجو الله واليوم الآخر.
5- هذا وقد أشارت أحاديث أخرى إلى بعض تلك الحقوق على سبيل التفصيل، ومن ذلك ما أخرجه البزار عن ابن عباس أن امرأة من خثعم أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم،فقالت: يا رسول الله، أخبرني ما حق الزوج على الزوجة؛ فإني امرأة أيم، فإن استطعت وإلا جلست أيما. قال: (فإن حق الزوج على زوجته إن سألها نفسها وهي على ظهر بعير لا تمنعه، ومن حق الزوج على الزوجة أن لا تصوم تطوعا، فإن فعلت جاعت وعطشت ولا يقبل منها، ولا تخرج من بيتها إلا بإذنه، فإن فعلت لعنتها ملائكة الرحمة وملائكة العذاب حتى ترجع، قالت لا جرم، لا أتزوج أبدا0(2)
__________
(1) أخرجه أحمد في مسنده (جـ1 - ص 191).
(2) كره الهيثمي في مجمع الزوائد (جـ4 - ص 306- ص307) وقال عنه: رواه البزار، وفيه حين بن قيس المعروف بحنش وهو ضعيف، وقد وثقه حين بن نمير، وبقية رجاله ثقات.(1/35)
6- وبعد هذه التقدمة نعود إلى حياة الصحابيات لنرى كيف كانت
<53>
الواحدة منهن لزوجها، وسنجد أنفسنا أمام قدوات صالحات، ضربن في هذا المجال- كما في غيره- أعظم المثل في جعل بيت الزوجية واحة يستنشق من خلالها الزوج ما يعينه على القيام بأعبائه وتحمل مسئولياته، لا ما يعكر صفوه، أو يثقل كاهله.
ولندلف معا إلى الأمثلة والنماذج من حياة الصحابيات، ونحن ننحني إجلالا وإكبارا لهن، وذلك في النقاط التالية:
(أ) عناية الزوجة بنفسها وبيتها، وحسن استقبالها لزوجها:
إن السنة النبوية تعلمنا أن أفضل النساء هي التي تروق في نظر زوجها، فإذا نظر إليها سرته، وفي هذا يقول النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم: (خير النساء التي تسره إذا نظر، وتطيعه إذا أمر، ولا تخالفه في نفسها ولا مالها بما يكره)0(1)
ويستلزم هذا من المرأة المسلمة أن تكون حريصة على النظافة والنظام والجمال في نفسها وبيتها، وأن تعمل على التجديد والتحسين دائما في حياتها ليزداد تعلق زوجها بها، "فليس معنى أن الأخت الملتزمة ارتدت النقاب والإسدال أن تظل في بيتها كذلك، وإنما هي بين يدي زوجها ملكة جمال متوجة، تتزين وتتجمل، تغير في الملابس وتبدل، تغير في ترتيب أثاث بيتها وتلقى زوجها كل يوم بجديد. نعم، لا بأس أن تلقى الزوجة زوجها في يوم وفي يدها وردة لطيفة، وفي اليوم الآخر وبين يديها ثوب له جميل، واليوم الثالث وبين يديها أكلة شهية يحبها، وفي
<54>
اليوم الرابع مقابلة لطيفة من نوع جديد، وهكذا فتشعر زوجها بالجديد كل يوم في حياتها، فيحبها ولا تفتنه بنات الشوارع فعنده في بيته الأطهر والأنظف والأتقى والأجمل والأرق والأحسن)0(2)
__________
(1) أخرجه النسائي (جـ2 - ص72) وأخرجه أحمد (جـ2 - ص251 - 432 - ص438).
(2) صفات المسلمة الملتزمة (ص 37) محمد حسين يعقوب- طبعة أولى سنة 1996- مكتبة سوق الآخرة.(1/36)
والمرأة المسلمة - فوق ما ذُكِرَ - ترعى زوجها فتحسن استقباله عند قدومه عليها، وتتعهد شئونه.
وكلها- معان حرصت عليها الصحابيات الجليلات رضوان الله تعالى عليهن.
ففي الدلالة على حسن استقبال المرأة لزوجها عند قدومه عليها أسوق هذين الخبرين:-
(1) روى الفاكهي في كتاب (أخبار مكة) عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان عند أبي طالب، فاستأذنه أن يتوجه إلى خديجة فأذن له، وبعث بعده جارية يقال لها نبعة، فقال لها: انظري ما تقول له خديجة. قالت نبعة: فرأيت عجبا، ما هو إلا أن سمعت به خديجة فخرجت إلى الباب فأخذت بيده فضمتها إلى صدرها ونحرها، ثم قالت: بأبي وأمي، والله ما أفعل هذا لشيء،ومني أرجو أن تكون أنت النبي الذي ستبعث . . ..إلخ.(1)
(2) قصة امرأة الحطاب التي تعد نموذجا في حسن معاشرة المرأة
<55>
لزوجها، ويتضح ذلك من خلالة كلامها وأسلوب تعاملها معه، فهي تقول:- "إن زوجي إذا خرج يحتطب (يجمع الحطب من الجبل ليبيعه وينتفع بثمنه) أحس بالعناء الذي لقيه في سبيل رزقنا، وأحس بحرارة عطشه في الجبل تكاد تحرق حلقي، فأعد له الماء البارد حتى إذا ما قدم وجده، وقد نسقت متاعي وأعددت له طعامه، ثم وقفت أنتظره في أحسن ثيابي، فإذا ما ولج الباب (أي دخل) استقبلته كما تستقبل العروس زوجها الذي عشقته، مسلمة نفسي إليه، فإن أراد الراحة أعنته عليها، وإن أرادني كنت بين ذراعيه كالطفلة الصغيرة يتلهى بها أبوها.(2) أ. هـ .
__________
(1) أخبار مكة (جـ5 - ص 206)- باب ذكر شيء من خبر خديجة قبل زواجها من النبي صلى الله عليه وسلم.
(2) أورد هذه القصة الأستاذ عبد المتعال الجبري في كتابه (المرأة في التصور الإسلامي) ص 51، وذكرها مرفوعة إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن لما لم أعثر لها على سند اكتفيت بذكر الشق الذي يعبر عن حسن معاشرة المرأة لزوجها وأضربت صفحا عن الباقي0(1/37)
وفي الدلالة على تعهد المرأة المسلمة لشئون زوجها أسوق هذين الخبرين:-
(1) عن أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها- أنها كانت ترجلُ رسول الله صلى الله عليه وسلم (أي تسرح له شعره وتزينه)، وهو حينئذ مجاور في المسجد، يدنى لها رأسه وهي في حجرتها.(1)
(2) وعنها رضي الله عنها قالت:- "كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم
<56>
لإحرامه حين يحرم، ولحله قبل أن يطوف بالبيت "(2)
وبعد ذلك فلتتأمل الأخت المسلمة في مثل هذه الصور الجميلة من حسن معاشرة المرأة لزوجها لتكون نبراسا تستضيء به في حياتها، وبذلك تستديم عشرتها معه، وتطول صحبتها له في إطار من المودة والرحمة والمحبة.
(ب) خدمة الزوجة لزوجها:
من مظاهر حسن العشرة من الزوجة لزوجها أن تقوم بخدمته في بيته، فتعد له طعامه، وتنظف له ثيابه، وترتب له فراشه.... إلخ، وهي أمور- إن حرصت المرأة المسلمة عليها- كان لها أجر المجاهد في سبيل الله، كما سبق وأن أشرنا في التمهيد لهذا المبحث.
وقَد حرصت الصحابيات رضوان الله عليهن- على التفاني في هذا الجانب ونسوق- للتدليل على ذلك - هذين المثلين:
1- ذكر ابن الجوزي في (صفة الصفوة)(3) عن ابن أعبد قال: قال علي رضي الله عنه: يا بن أعبد، ألا أخبرك عنى وعن فاطمة؟ كانت ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأكرم أهله عليه، وكانت زوجتي فجرت بالرحى
<57>
حتى أثرت الرحى بيدها، واستقت بالقربة حتى أثرت القربة بنحرها، وقمَّت البيت (أي كنسته) حتى اغبرت ثيابها، وأوقدت تحت القدر حتى دنست ثيابها، وأصابها من ذلك ضر.
__________
(1) أخرجه البخاري - (جـ1 - ص 63) كتاب الحيض- باب غسل الحائض رأس زوجها وترجيله.
(2) أخرجه البخاري (جـ1 - ص 268) كتاب الحج - باب الطيب عند الإحرام، وأخرجه مسلم بنحوه (جـ2 - ص846) كاب الحج - باب الطيب للمحرم عند الإحرام.
(3) المرجع المذكور (جـ 2 - ص 13 - ص 14)(1/38)
وعن عطاء بن أبي رباح قال: إن كانت فاطمة ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لتعجن، وإن قصتها (مقدم شعرها) لتضرب الأرض والجفنة. أ. هـ
2- أخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: تزوجني الزبير وماله في الأرض من مال ولا مملوك ولا شئ غير فرسه. قالت: فكنت أعلف فرسه وأكفيه مؤنته، وأسوسه، وأدق النوى لناضحه، وأعلفه وأستقى الماء وأخرز غربه
( أي أملأ دلوه ) ، وأعجن . . . وكنت أنقل النوى من أرض الزبير التي أقطعه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي على ثلث فرسخ . . . .".
وفي رواية أخرى لمسلم في نفس القصة:- "قالت أسماء: كنت أخدم الزبير خدمة البيت، وكان له فرس . . ."(1)
فإذا كانت السيدة فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، والسيدة أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما لم تمنع إحداهما مكانتها من أبيها، ولا شرفها في قومها أن تقوم بخدمة زوجها خدمة شاملة (وإن صح
<58>
التعبير: خدمة شاقة لقلة الإمكانات المتاحة) أفلا يحمل ذلك المسلمة اليوم - وقد توفرت لديها كل الأسباب الميسرة، فلم تعد في حاجة إلى أن تعجن أو تعلف فرساً أو تدير رحى بيدها - أفلا يحملها ذلك على أن تقر عين زوجها بخدمتها له في بيته، إذا كانت بالفعل تبغي مرضات ربها من خلال رضا زوجها عنها؟
(ج) حرص الزوجة على إدخالها السرور على زوجها، وبعدها عن المنغصات:
من المفترض في الحياة الزوجية أن يسعى كل طرف لإدخال السرور على الآخر، وجلب السعادة له. وعلى الزوجة المسلمة أن تنظر بعين الحكمة إلى ما يجلب السرور لزوجها فتسعى إلى القيام به والحرص عليه، وإن أدى ذلك إلى تضحيتها بما تحبه في سبيل مرضاة زوجها، ولننظر معا في هذه الأمثلة:
__________
(1) أخرجه مسلم واللفظ له (جـ 4 - ص 1716) كتاب السلام- باب جواز إرداف المرأة الأجنبية إذا أعيت في الطريق، وأخرجه البخاري (جـ3 - ص 364) كتاب النكاح- باب الغيرة.(1/39)
1- أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها حين رأت حب رسول الله صلى الله عليه وسلم لمولاها زيد بن حارثة وهبته له في الحال دون تردد، كما قامت بكفالة ابن عمه على بن أبي طالب حين وجدت رغبة من رسول الله صلى الله عليه وسلم في أن يخفف عن عمه أعباء المعيشة بكفالة بعض أبنائه، فإذا بقلب وبيت السيدة خديجة يتسع لسيدنا على بن أبي طالب كأحد أبنائها أو يزيد-
وما حملها على مثل هذا التصرف إلا إدخال السرور على حبيبها
<59>
رسول الله صلى الله عليه وسلم.
2- حين اشتد برسول الله صلى الله عليه وسلم المرض؟ كانت إحدى زوجاته وهي السيدة صفية بنت حيي رضي الله عنها تأسى لمرضه، وتفتديه بروحها وحياتها وتقول له: (وددت أن الذي بك بي).
3- أخرج مسلم في صحيحه عن السيدة أسماء رضي الله عنها قالت - (جاء لي رجل فقال: يا أم عبد الله، إني رجل فقير، أردت أن أبيع في ظل دارك. قالت: إني إن رخصت لك أبى ذاك الزبير، فتعال فاطلب إلي والزبير شاهد. فجاء فقال: يا أم عبد الله، إني رجل فقير أردت أن أبيع في ظل دارك.
قالت: مالك بالمدينة إلا ظل داري؟ فقال لها الزبير: مالك أن تمنعي رجلاً فقيرا يبيع، فكان يبيع إلى أن كسب . . . ."(1)
فهذا موقف يعبر عن تقدير السيدة أسماء لزوجها الزبير بن العوام رضي الله عنهما، وهو يدل على سعيها إلى مرضاته ،وعدم اتخاذ مواقف من شأنها أن تحدث صداما بينه وبينها.
فإذا حدث للزوج ما يكدر صفوه، أو يعكر عليه حرصت الزوجة الصالحة على التلطف في هذا الموقف حتى تمر الأزمة بسلام، ولننظر معا في هذا الموقف:
<60>
__________
(1) أخرجه مسلم (جـ4 - ص 1717) كتاب السلام - باب جوار إرداف المرأة الأجنبية إذا أعيت في الطريق.(1/40)
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: مات ابن لأبي طلحة من أم سليم، فقالت لأهلها: لا تحدثوا أبا طلحة بابنه حتى أكون أنا أحدثه. قال: فجاء فقربت له عشاء، فأكل وشرب. فقال: ثم تصنعت له أحسن ما كانت تصنع قبل ذلك، فوقع بها. فلما رأت أنه قد شبع وأصاب منها قالت: يا أبا طلحة أرأيت لو أن قوما أعاروا عاريتهم أهل بيت فطلبوا عاريتهم، اللهم أن يمنعوهم؟ قال: لا. قالت: فاحتسب ابنك. فانطلق حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بما كان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بارك الله لكما في غابر ليلتكما)(1).
وقد استجاب الله دعاء نبيه، فولدت أم سليم من حملها في تلك الليلة ولدا سماه النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله، فكان من ذرية عبد الله هذا تسعة كلهم يحملون العلم والقرآن.
فلتأخذ الزوجة الصالحة من هذه المواقف زادا يجعلها تستجلب السعادة والسرور لزوجها وأولادها، وأن تكون حكيمة في معالجة الأمور التي من شأنها أن تدخل الحزن على أهل البيت، وليس من المعقول أو المنطقي أن تتحول الزوجة إلى أن تكون هي المشكلة في حياة زوجها، فتثير المشكلات لأتفه الأسباب، وتحول بيتها وحياتها إلى جحيم لا يطاق، ولن يكون نصيبها وقتئذٍ إلا الدعاء عليها. فعن معاذ
<61>
ابن جبل رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا تؤذي امرأة زوجها في الدنيا إلا قالت زوجته من الحور العين: لا تؤذيه - قاتلك الله - فإنما هو عندك دخيل، يوشك أن يفارقك إلينا"0(2)
(د) وقوف الزوجة وراء زوجها من أجل نصرة الحق، وعلو راية الإسلام:-
__________
(1) أخرجه مسلم (جـ8 - ص 1909، كتاب فضائل الصحابة - باب من فضائل أبي طلحة الأنصاري رضي الله تعالى عنه.
(2) أخرجه الترمذي، وحسنه (جـ3 - ص 468) كتاب الرضاع- باب رقم (19)، وأخرجه ابن ماجه (جـ1 - ص 649) كتاب النكاح - باب في المرأة تؤذى زوجها.(1/41)
إن العمل للإسلام هي رسالة كل مسلم في هذه الحياة - رجلاً كان أو امرأة - وبقيام كل منهما بهذه المهمة يتحقق العز، وتتحصل السعادة في الدنيا والآخرة، وصدق أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين قال: "إنا كنا أذل قوم، فأعزنا الله بالإسلام، فمهما نطلب العزة بغير ما أعزنا الله به أذلنا الله"0(1)
والمتتبع لتاريخ نشر الإسلام يجد أن الصحابيات- رضوان الله عليهن - وقفن خلقه الرجال، يشددن من أزرهم، ويقوين من عزمهم، حتى عم نور الله على العالمين.
وقد مر بنا حديث السيدة أسماء بنت يزيد في حديثها عن رعاية النساء في هذا العصر لأبناء المجاهدين، وقيامهن على شئونهم، وقول النبي صلى الله عليه وسلم لها: (إن حسن تبعل إحداكن لزوجها، وطلبها لمرضاته، واتباعها لموافقته يعدل كل ما ذكرت للرجال ".
<62>
وهذا موقف عام تشترك فيه كل الصحابيات دونما استثناء.
لكن الذي نود تأكيده هنا هو دور آخر - فوق ما ذكر - يتمثل في مساعدة الزوجة لزوجها في العمل على نصرة الحق، وعلو راية الإسلام، وذلك من خلال النماذج التالية من حياة الصحابيات:
__________
(1) أخرجه الحاكم في المستدرك (جـ1 - ص 130) حديث رقم (207).(1/42)
1- من أروع النماذج في هذا المجال أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها، والتي كانت ملاذا آمنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، قامت قبل الدعوة وتبليغ الوحي بمساعدة النبي صلى الله عليه وسلم على التعبد بغار حراء بما كانت تزوده به مما يحتاج إليه، وحين جاءه المَلَكُ، وجاء يرجف فؤاده قائلاً لها: لقد خشيت على نفسي، قالت له كلمتها المشهورة: كلا، والله لا يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقرى الضيف، وتعين على نوائب الحق. وأخذت بيده - رضي الله عنها - إلى ابن عمها ورقة بن نوفل، وحكى له ما حدث، فبشره بأن هذا هو الناموس (الوحي) الذي كان يأتي إلى موسى، وبشره بأنه سيكون نبي هذه الأمة، وبادرت السيدة خديجة رضي الله عنها قبل غيرها بالإيمان به، فكانت أول من آمن من الرجال والنساء على السواء. وبذلت السيدة خديجة من مالها ونفسها في صالح الدعوة الكثير والكثير، وتحملت الأذى في سبيلها، فحُبسِت مع زوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم في شعب أبي طالب ثلاث سنوات كاملة حتى أكلوا أوراق الشجر من الجوع والجهد، وظلت تنافح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتشد من أزره، فكانت نعم المعين والسند.
<63>(1/43)
قال ابن إسحاق:- وآمنت به خديجة بنت خويلد، وصدقت بما جاءه من الله، ووازرته على أمره": كانت أول من آمن بالله سبحانه وبرسوله، وصدق بما جاء منه، فخفف الله بذلك عن نبيه صلى الله عليه وسلم ، لا يسمع شيئا مما يكرهه من رد عليه وتكذيب له، فيحزنه ذلك، إلا فرج الله عنه بها إذا رجع إليها، تثبته وتخفف عليه، وتصدقه وتهون عليه أمر الناس "(1) وشاء الله تعالى أن ترحل السيدة خديجة رضي الله عنها من الدنيا بعد خروج المسلمين من الحصار بثلاثة أيام فقط، فحزن النبي صلى الله عليه وسلم لفراقها أشد الحزن، وسمى العام الذي توفيت فيه مع عمه أبي طالب بعام الحزن، حيث كان عمه سنداً له في الخارج، والسيدة خديجة سنده في الداخل، فما إن ماتا حتى نال المشركون منه ما لم يكن بإمكانهم فعله من قبل.
فما أجمل أن تترسم كل أخت مسلمة خطى هذه السيدة الفاضلة التي طوقت أعناق الرجال والنساء بمعروفها، حين بذلت النفس والنفيس في سبيل دعوة الحق، وقدمت كل شيء لنصرة دين الله تعالى، فاستحقت الثناء الجميل من الله تعالى، والذكر الطيب على ألسنة الناس حتى يرث الله الأرض ومن عليها، وصدق ربنا عز وجل: (إِنا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً)(2)
<64>
__________
(1) سيرة ابن هشام (جـ1 - ص250)- بتحقيق محمد فهمي السرجاني - المكتبة التوفيقية.
(2) سورة الكهف- الآية (30).(1/44)
2- ولئن كانت السيدة خديجة رضي الله عنها قد أسهمت في نصرة الدعوة عند ظهورها، فإن النموذج الثاني في نصرة الإسلام - حين أينعت ثماره - هي أم المؤمنين السيدة عائشة الصديقة بنت الصديق رضي الله عنها، وذلك من خلال تبليغها للإسلام، ونقلها لأحاديث النبي المصطفي سيد الأنام. وقد حوت كتب السنة الكثير والكثير من الأحاديث المسندة إلى أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، كما حفلت كتب السير بالكثير مما اختص به النبي صلى الله عليه وسلم مما نقل إلينا عن طريقها أيضا، فأسهمت بذلك - رضي الله عنها - في إقامة الدعائم لهذا الدين، حتى وصلت أنواره إلى العالمين.
3- ومما يندرج في هذا السياق أيضا ما تعمل فيه الزوجة المسلمة فكرها مع زوجها لصالح الدعوة والتشاور معا للوصول إلى أفضل النتائج في هذا المضمار.
ويدل على ذلك ما أشارت به السيدة أم سلمهّ رضي الله عنها في صلح الحديبية، حين وقَّعَ المسلمون الصلح بينهم وبين الكفار، ودعا النبي أصحابه إلى نحر هديهم وحلق رءوسهم، فلم يلتفت إلى هذا الأمر أحد، ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على السيدة أم سلمة حزينا، يقول لها: هلك الناس، لقد أمرتهم بأمر فلم يأتمروا. فأشارت عليه - رضي الله عنها - بأن يخرج إلى الناس، ويقوم أمامهم بحلق شعره ونحر هديه، ولا يتكلم أمامهم بشيء. وأخذ النبي صلى الله عليه وسلم بمشورتها0
<65>
فبادر الناس إلى الحلق والذبح حين رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل ذلك0(1)
وهكذا بمشاركة هذه الزوجة الصالحة ومشورتها أقال الله المسلمين من عثرتهم، وفرج عنهم كربتهم.
__________
(1) الحديث بطوله في صلح الحديبية أخرجه الأمام البخاري (جـ2 - ص119 وما بعدها) كتاب الشروط - باب الشروط في الجهاد، والمصالحة مع أهل الحرب وكتابة الشروط.(1/45)
وهكذا ينبغي أن تكون الزوجة المسلمة عونا لزوجها على الخير، وسندا له على تحمل مسئولياته في الدعوة إلى الله تبارك وتعالى، وذلك حتى تشاركه في الأجر، فإن من جهز غازيا فقد غزا، كما علمتنا ذلك السنة النبوية، ولن يجد الرجل من يعينه على أداء مهماته الدعوية أفضل من زوجته التي هي أقرب الناس إليه، وألصق الناس به.
هذا ولا تزال هناك بعض الجوانب المهمة التي تتعلق بالزوجة مع زوجها، ونشير إليها هنا بإجمال مع تأييدها ببعض النماذج من حياة الصحابيات.
(أ) فمن ذلك أن الزوجة لا تأذن لأحد بالدخول لبيت زوجها إلا بإذنه، ومما يروى في ذلك أنه لما مرضت السيدة فاطمة الزهراء رضي الله عنها أتى سيدنا أبو بكر رضي الله عنه يستأذن عليها، فقال علي رضي الله عنه: يا فاطمة، هذا أبو بكر يستأذن عليك، فقالت: أتحب
<66>
أن آذن له؟ قال: نعم، قال: فأذنت له . . . . .) (1)
(ب) ومن الواجب على الزوجة المسلمة أن تصون عرضها، وتحفظ زوجها في غيبته، وأن تقدر غيرته عليها، فلا تتعرض للرجال بما يخدش حياءها، أو ينغص على زوجها.
ومما يروى في هذا أن السيدة أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها كانت تحمل النوى على رأسها، فلقيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه أصحابه، فهم أن ينيخ ناقته لتركب خلفه. قالت - رضي الله عنها-: فاستحييت أن أسير مع الرجال، وذكرت الزبير وغيرته، وكان أغير الناس، فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم أني قد استحييت(2)0ونكتفي بهذا القدر من الحديث عن المرأة مع زوجها، وننتقل إلى المبحث التالي عن المرأة مع أولادها.
والله تعالى ولي التوفيق
<67>
المبحث الثاني
مع الأولاد
(
__________
(1) رواه البيهقي في السنن الكبرى (جـ6 - ص 301) حديث رقم 12515.
(2) أخرجه البخاري (جـ3 - ص264، كتاب النكاح- باب الغيرة وأخرجه مسلم بنحوه (جـ4 - ص1716) كتاب السلام - باب جواز إرداف المرأة الأجنبية إذا أعيت في الطريق.(1/46)
1) تعد مرحلة الطفولة من أهم مراحل العمر في حياة الإنسان، ولهذا كانت هذه المرحلة في عالم الإنسان طويلة بالنسبة لسائر المخلوقات، وذلك لعدة أسباب:
أ- أنها المرحلة التي يسهل فيها التوجيه والتربية، وصدق من قال:
إِنَّ الغُصونَ إِذا مَيَّلْتَهاَ اعْتَدَلَتْ ... وَلَا تَلِينُ إِذَا قَوَّمْتَهَا الْخُشُبُ
ب- أن ما يتعلمه الإنسان في صغره، وما يتلقاه من توجيه وتهذيب خلاله يحدد شخصيته في مستقبله، فإن من شب على شيء شاب عليه.
ج- أن أثر التوجيه والتربية لإنسان في صغره يمتد معه طيلة حياته، فغالبا ما يكون المرء في مستقبله على نحو ما كان في ماضيه، فإذا تعرض لهزة ما من الهزات، فسرعان ما يعود إلى أصوله، وينتمي إلى جذوره.
وقد شبه بعض العلماء مراحل الإنسان العمرية بالشجرة، لها جذور وفروع وأغصان، فإذا تعرضت للذبول بسبب نقص الماء مثلاً، فإن الأغصان والفروع تذبل قبل الجذور، وإذا أدركناها بالماء عادت إلى
<68>
الانتعاش، وسرت الحياة من جديد في كل أجزاء الشجرة.
إذا علمنا ذلك أدركنا أهمية مرحلة الطفولة، وضرورة الاعتناء بها، حتى يشب الأبناء في مستقبلهم رجالا يملأون سمع الدنيا وبصرها.
(2) وللأم في هذا المجال دور مهم ورئيس، باعتبار أن معظم ما يقضيه الطفل في مراحله الأولى يكون بين يدي أمه، فهو يتربى على يديها أكثر مما يتربى على يدي والده، ولهذا قالوا:
الأُمُّ مَدْرَسَةٌ إِذاَ أَعْدَدْتَهَا ... أَعْدَدْتَ شَعْباً طَيَّبَ اْلأَعْرَاقِ
واعترافا بفضل الأم ودورها المهم في هذا المجال يقول سيدنا معاوية رضي الله عنه - وهو أحد دهاة العرب وساستها- (أنا الذي ربتني هند)، ويعني بذلك أمه، وهو في هذا لا ينكر دور الأب، ولكنه يشير إلى أن جذور التربية قد بدأت مع أمه في بيتها، فأعاد الأمور إلى أصولها.(1/47)
وقد أشار إلى هذا المعنى كذلك الحاكم الفرنسي المشهور نابليون فقال: "إنني مدين لأمي بكل ما حزته من الفخار، وما فزت به من العظمة، لأن نجاحي كان ثمرة مبادئها القويمة، وآدابها السامية"0(1)
(3) ومن خلال ما عرضناه يتضح لنا دور الأم في تربية وإعداد
<69>
أولادها، وحمايتهم أمام كيد الأعداء والمتربصين بهم من دعاة الشر ورفقاء السوء من شياطين الإنس والجن، فهي تقف على ثغرة من ثغور الإسلام، وكلما حاول أعداء الإسلام المساس بفلذات أكبادها وثمرات فؤادها لم يظفروا بمرادهم، لأن أمهم ربتهم على مكارم الأخلاق، وأخذت بأيديهم إلي معالي الأمور.
والمرأة المسلمة في هذا المقام همتها عالية، وتنظر إلى طفلها تستشرف فيه المستقبل، فلعل طفلها هذا يكون مركب الإنقاذ لأمة طال تعثرها أو يكون عالما يبدد ظلمات الجهل التي أحاطت بها، أو يكون داعية هدى لمن ضلوا عن الطريق، ولذلك تبذل قصارى جهدها في تربية أبنائها، فتقدم أعظم خدمة لأمتها.
(4) وقد ضربت الصحابيات أعظم المثل في عنايتهن بأبنائهن، وفيما يلي نتعرف على جوانب هذه العناية مع تدعيمها بالأمثلة من حياتهن.
(أ) حرص الصحابيات على أن يبلغ أبناؤهن مبلغ الرجال، وتضحياتهن في سبيل ذلك بكل شيء:-
أورد ابن سعد في الطبقات عن أم سليم رضي الله عنها قالت: آمنت برسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء أبو أنس - وكان غائبا - فقال: أصبوت ؟ فقالت: ما صبوتُ، ولكني آمنت. وجعلت تلقن أنسا: قل: لا إله إلا الله. قل: أشهد أن محمداً رسول الله .. ففعل، فقال لها أبوه: لا
<70>
تفسدي على ابني. فتقول: إني لا أفسده. فخرج أبو أنس فلقيه عدو له فقتله. فقالت: لا جرم، لا أفطم أنسا حتى يدع الثدي، ولا أتزوج حتى يأمرني أنس.
__________
(1) ما قل ودل (ص 33) - قاسم عاشور - طبعة أولى سنة 2002 دار ابن حزم – ببيروت0(1/48)
وهذه المرأة الصالحة نفسها هي التي أخذت ولدها أنسا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن عشر سنين، فقالت: يا رسول الله إنه لم يبق رجل ولا امرأة من الأنصار إلا قد أتحفك بتحفة، وإني لا أقدر على ما أتحفك به إلا ابني هذا، فخذه فيخدمك ما بدا لك.(1)
وقالت يوما لرسول الله : يا رسول الله: أنس خادمك، ادع الله له، فقال؟ اللهم أكثر ماله وولده وبارك له فيما أعطيته.(2)
لقد أحسنت هذه الصحابية صنعا مع ولدها منذ نعومة أظفاره، فحرصت على أن تلقنه الشهادة مع أول عهده بالنطق، ثم حرصت على أن يبلغ مبلغ الرجال، ويقوم بتزويج أمه بعد إذنه، وهو ما فعله أنس حين زوج أمه لأبي طلحة بعد أن أسلم، ثم أضافت هذه المرأة بعدا آخر في تربيتها لابنها وهو حرصها على اختيار الصحبة الصالحة له، فوهبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم ليخدمه، ويرتشف من معين الأدب
<71>
النبوي بملازمته له، وخدمته إياه، ثم أضافت - رضي الله عنها - بعدا آخر في حرصها على تنشئة ولدها نشأة صالحة، وذلك بطلبها الدعاء له من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وبهذا فتحت هذه الصحابية لولدها جميع أبواب الخير، لا بالكلام وإنما بالفعال، وقد انعكس ذلك كله بالخير على هذا الصحابي الجليل، فروى من الأحاديث الكثير، وامتد به العمر - استجابة لدعوة الرسول صلى الله عليه وسلم ينشر الخير هو وذريته التي جاوزت المائة، وهو فضل يذكر فيشكر لهذه الأم، التي نرجو من كل امرأة مسلمة أن تقفو أثرها، وتحذو حذوها في عنايتها بأبنائها، وحسن تربيتها لهم.
(ب) حرص الصحابيات على تربية أبنائهن على حب الإسلام والدفاع عنه والاتصاف بالشجاعة في مواجهة الخصوم:
__________
(1) ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (جـ1 - ص 271).
(2) أخرجه البخارى (جـ4 - ص 110) كتاب الدعوات- باب الدعاء بكثرة المال مع البركة، وأخرجه مسلم (جـ4 - ص1928) كتاب فضائل الصحابة - باب من فضائل أنس بن مالك رضي الله عنه.(1/49)
إن مواقف الشجاعة والبطولة في الدفاع عن الإسلام والذود عن حياضه كثيرة جدا، وقد قامت الصحابيات في كثير من هذه المواقف بدور فعال في دفع أبنائهن دفعا إلى نصرة الإسلام، وأصيب منهم - في سبيل ذلك - من أصيب، وقتل منهم من قتل، دون أن يتسلل إلى نفوسهن اليأس، أو يبتلين بالعجز، والمواقف شاهدة على ذلك، ونختار منها ما يلي:
(1) من هؤلاء الصحابيات خنساء بنت عمرو بن الحارث، المشهورة بالخنساء، والتي شهدت حرب القادسية بقيادة سعد بن أبى
<72>
وقاص ومعها أبناؤها الأربعة الذين بقوا لها من الدنيا، بعد أن امتد بها العمر، وطال بها السن.
ويحفظ التاريخ ما قالته الخنساء لأبنائها قبل المعركة، ويقف إجلالا وإكبارا لتلك المرأة العظيمة التي ربت أولادها على العزة والكرامة: يا بني أسلمتم طائعين، وهاجرتم مختارين، ووالله الذي لا إله إلا هو إنكم بنو امرأة واحدة، ما خنت أباكم، ولا فضحت خالكم، ولا هجنت حسبكم، ولا غيرت نسبكم، وقد تعلمون ما أعد الله للمسلمين من الثواب الجزيل في حرب الكافرين، واعلموا أن الدار الباقية خير من الدار الفانية، اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون، فإذا رأيتم الحرب قد شمرت عن ساقها فيمموا وطيسها، وجالدوا رئيسها، تظفروا بالغنم والكرامة في دار الخلد والمقامة.
وانطلق الأبناء الأربعة على هدى هذه الكلمات النيرات التي سمعوها من أمهم، وأبلوا في المعركة بلاء حسنا، حتى استشهدوا واحدا وراء الآَخر.
وحين علمت السيدة الجليلة باستشهاد أبنائها الأربعة لم تجزع ولم تلن، وإنما قالت كلمات لا تزال تتردد في مسامع الدنيا إلى يومنا هذا، وهي: "الحمد لله الذي شرفني بقتلهم، وأرجو من ربي أن يجمعني بهم في مستقر رحمته"(1)
<73>
(
__________
(1) أنظر (الإصابة في تمييز الصحابة) (جـ7 - ص 616) والاستيعاب (جـ4 - ص 1829، ص 3317) 0(1/50)
2) والموقف الثاني للسيدة أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما مع ولدها عبد الله بن الزبير حين حاقت به المكاره، وحوصر بواسطة الحجاج بن يوسف داخل مكة، وتفرق عنه أكثر من كان معه - وقد كان بويع قبل ذلك بالخلافة وظل ينادى بأمير المؤمنين فترة من الزمن في كثير من البلدان الإسلامية- وحين رأى عبد الله بن الزبير هذا الذي حدث دخل على أمه وقال لها. يا أماه خذلني الناس حتى ولدىّ وأهلي، فلم يبق معي إلا اليسير ممن ليس عنده من الدفع أكثر من صبر ساعة، والقوم يعطونني ما أردت من الدنيا، فما ترين؟
قالت له الأم الصبورة ذات القلب الكبير. أنت - والله - يا بنى أعلم بنفسك، إن كنت تعلم أنك على حق وإليه تدعو فامض له، فقد قتل عليه أصحابك، ولا تمكن من رقبتك غلمان بنى أمية يلعبون بها، وإن كنت إنما أردت الدنيا فبئس العبد أنت، أهلكت نفسك وأهلكت من قتل معك، وإن قلت: كنت على حق، فلما وهن أصحابي ضعفت، فهذا ليس فعل الأحرار ولا أهل الدين، وكم خلودك في الدنيا؟ القتل أحسن.
وجعلت تذكره بأبيه الزبير، وجده أبى بكر الصديق، وجدته صفية بنت عبد المطلب، وخالته عائشة زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم، وترجيه القدوم عليهم إذا هو قتل شهيداً فسرت هذه الكلمات في نفس ولدها كالماء السلسبيل يتخلل جميع أجزاء النبات، فقام وقبل رأسها، واستودعا
<74>
الله سبحانه وتعالى، وقال لها - ليزداد يقينه من صبرها وثباتها -: أخاف أن يمثلوا بجثتي بعد موتى؟ فنطق لسانها بكلمة صارت مثلاً يضرب في مواطن الشجاعة والثبات، وقالت: يا بني، إن الشاة لا يضرها سلخها بعد ذبحها0 (1)
__________
(1) انظر (البداية والنهاية) للحافظ ابن كثير (جـ8 - ص 330) 0(1/51)
وهكذا نتعلم من هذا الموقف والذي قبله أن الأخت المسلمة تقتفى أثر هؤلاء الصحابيات في تربية أبنائهن على حياة الجد والتضحية لأجل الإسلام، وأنه لا مكان - في هذا المجال - للميوعة والدعة التي لا تثمر سوى أجيال هشة، لا تقوى على الثبات، فضلا عن التضحية.
(ج) رعاية الصحابيات للعدل بين أولادهن حتى تكون الألفة والمحبة سائدة بينهم:
أخرج أبو نعيم عن الشعبي قال: تزوج سيدنا على أسماء بنت عميس بعد أبي بكر - رضي الله عنهم جميعا - فتفاخر ابناها محمد بن أبي بكر وعبد الله بن جعفر، فقال كل واحد منهما: أنا خير منك، وأبي خير من أبيك. فقال على لأسماء: اقضي يبنهما. فقالت لابن جعفر: أما أنت يا بني فما رأيت شابا من العرب كان خيرا من أبيك، وأما أنت يا بني - تعنى محمد بن أبي بكر - فما رأيت كهلا من العرب خيرا من أبيك.
<75>
فقال لها: ما تركت لنا شيئا، ولو قلت غير هذا لمقتك.(1)
وهنا تعطينا تلك الصحابية الجليلة رضي الله عنها نموذجا في الحكمة عند التعامل مع الأولاد، بحيث لا يشعر أحدهم بتفضيل والديه لغيره عليه، فإن ذلك من شأنه - إذا روعى - أن يحدث تآلفا وانسجاما بين كل الأبناء، ولو لم يراع ذلك لأحدث صدعا في محيط الأسرة، ونشبت الخلافات بين أطرافها.
فما أعظم هذه اللفتات التربوية التي تستفيدها الأخت المسلمة لتربي أبناءها على أساسها، فتسعد كما سعد هذا الجيل، الذي قل أن يجود الزمان بمثله.
(د) رعاية الصحابيات لأبنائهن في أمر الطاعات، والأخذ بأيديهم نحو الخيرات:
(
__________
(1) حلية الأولياء (جـ2 - ص75) أبو نعيم0(1/52)
1) عن الربيع بنت معوذ رضي الله عنها قالت: في شأن صيامهم يوم عاشوراء "كنا نصوم، ونصوم صبياننا الصغار، ونجعل لهم اللعبة من العهن (أي الصوف)، فإذا بكى أحدهم على الطعام أعطيناه ذاك حتى يكون عند الإفطار"(1)،وبالتأمل في هذا الخير القليل في مبناه، الكثير في معناه، يتضح لنا
<76>
أن تعهد النساء المسلمات من هذا الجيل لأولادهن حتى يشبوا على الطاعة كان أمرا شائعا بينهن، ودلالة الخبر على ذلك من عدة وجوه:
أ- قول الربيع رضي الله عنها (كنا) بصيغة الجمع، وهو ما يدل على أن ذلك لم يكن تصرفا خاصا بها.
ب- قولها (كنا نصوم يوم عاشوراء . . .) وهو من قبيل صيام التطوع، فإذا أعانت المرأة ولدها على صيام التطوع دل ذلك على حبها الخير لهم، وقيامهم بما فرضه الله من طاعات؛ وما سنه رسول الله صلى الله عليه وسلم من نوافل ومستحبات.
ج- ذكرها للصيام يدل على ما سواه من أبواب الخير كالصلاة والإنفاق وسائر الطاعات، إذ لا خصوصية للقيام تستدعى الاهتمام به دون سواه.
د- لجوء الصحابيات إلى صنع ألعاب من الصوف يتلهى بها الأولاد حتى لا يشعروا بالجوع ويتموا صومهم، دليل على أن اللعب عندهم لم يكن مقصودا لذاته، وإنما لإعانة هؤلاء الأولاد على اعتياد الطاعات وممارستها في صغرهم، ليشبوا عليها في كبرهم، فلا يجدون صعوبة في الالتزام بها.
(2) ولم يكن الصيام فقط هو مجال تعويد الأطفال على فعل الخيرات، فقد دلت السنة على أن امرأة رفعت للنبي صلى الله عليه
<77>
وسلم صبيا لها، فقالت. ألهذا حج؟ قال: نعم، ولك أجر0(2)
.
__________
(1) أخرجه البخاري (جـ1 - ص 335) كتاب الصوم - باب صوم الصبيان، وأخرجه مسلم (جـ2 - ص 798) كتاب الصوم - باب من أكل في عاشوراء فليكف بقية يومه0
(2) أخرجه مسلم (جـ2 - ص974) كتاب الحج - باب صحة حج الصبي، وأجر من حج به .(1/53)
فهذه امرأة تبغي مشاركة صبيها لها في الخير بأداء الحج، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم عن مدى جواز الحج لمثل هذا الصبي، فأجابها بجواز حجه(1) وزادها بقوله: ولك أجر؟ ليدفع بذلك صلى الله عليه وسلم كل أم أن تقوم بدورها في دلالة أبنائها على وجوه الخيرات جميعها، وأن ذلك يعد ثقلا في موازين حسناتها، فإن الدال على الخير كفاعله، ومن دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه من غير أن ينقص من أجورهم شيء.
<78>
المبحث الثالث
مع الأخوات المسلمات
(1) ... إذا كانت المرأة المسلمة ذات زوج تقوم بأداء حقوقه، وذات أولاد تقوم على تعهدهم وتربيتهم - على النحو الذي سبقت الإشارة إليه - فإن ثمة حقوقا أخرى لباقي أفراد المجتمع، ولابد للمرأة المسلمة - سواء كانت زوجة أو بلا زوج - أن تقوم بدورها في أداء الحقوق اللازمة لأخواتها المسلمات، وقد أشارت السنة النبوية إلى هذه الحقوق، ومما جاء فيها- على سبيل المثال - قوله صلى الله عليه وسلم:- "حق المسلم على المسلم ست. قيل ما هن يا رسول الله:- إذا لقيته فسلم عليه، وإذا دعاك فأجبه، وإذا استنصحك فانصح له، وإذا عطس فحمد الله فسمته(2) وإذا مرض فعده ، وإذا مات فاتبعه"0(3)
والحديث - وإن تناول حق المسلم الرجل على أخيه - فإن المرأة تؤدى من هذه الحقوق ما يتناسب مع طبيعتها، وما يتفق وتعاليم الشرع، ولا تعفى بأية حال من حقوق في عنقها تؤديها.
<79>
(
__________
(1) لكن هذا لا يغني عن حجة الإسلام، التي يشترط فيها البلوغ، فإذا بلغ الصبي فعليه أن يؤدي فرض الحج عليه
(2) هكذا في رواية مسلم (فسمته) وفي رواية أحمد (فشمته) وهما بمعنى واحد، أي تقول للعاطس - يرحمك الله0
(3) أخرجه مسلم (جـ4 - ص 1705) كتاب السلام- باب من حق المسلم للمسلم رد السلام، وأخرجه أحمد (جـ2 - ص 372) .(1/54)
2) وفي ضوء هذه المعاني تنطلق المرأة المسلمة - المحبة لدينها، الراغبة في طاعة ربها- وهي حريصة على أن تقدم الخير لكل أفراد المجتمع بحب وتفانٍ وإخلاص.
وقد وصفت المرأة المسلمة الملتزمة على لسان أحد الدعاة المعاصرين بقوله:- "الأخت الملتزمة الخير منها مأمول، والشر عنها معزول، كالأم في الحنان، وكالبنت في الطاعة، والوالد في السعي، وكالشقيقة في الصحبة.
الأخت الملتزمة الناس منها في راحة، ونفسها منها في تعب، أعمالها أكثر من أوقاتها، شعارها: فإذا فرغت فانصب، وإلى ربك فارغب.
الأخت الملتزمة كالنحلة العاملة، لا تأكل إلا طيبا، ولا تعطى إلا طيبا، وإذا حطت على عود لا تخدشه ولا تكسره، لها شوكة ولكن شوكتها على الأعداء.
الأخت الملتزمة تصل من قطعها، وتعطي من منعها، وتعفو عمن ظلمها، وتدعو لأخواتها بظهر الغيب.
الأخت الملتزمة تكون لأخواتها كالأرض الذلول تحتمل الكبير والصغير، وكالسحاب يظل القريب والبعيد، وكالمطر يسقى من يحب ومن لا يحب.
الأخت الملتزمة هينة لينة سمحة، تعرف كيف تقول للنساء: أنا
<80>
أحبكن في الله. ليست فظة ولا غليظة ولا صخابة ولا نمامة ولا كذابة، وإنما محبة لله، أمة له"(1)أ0هـ
(
__________
(1) صفات المسلمة الملتزمة (ص 40 - ص 41) بتصرف يسير - محمد حسين يعقوب0(1/55)
3) ... إن الأخت المسلمة - بحرصها على هذه المعاني- تنال عند الله تعالى عظيم الأجر، وتبوئ نفسها في أعلى الدرجات وأرفع المنازل، وتدخر لنفسها عند الله أعظم الثواب بخدمتها للناس، وسعيها في قضاء حوائجهم، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم:- "من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا، نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسر على معسر، يسر الله عليه في الدنيا والآخرة ومن ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه . . . "(1)
هذا فضلا عما يحصله المسلم- بمثل هذه الأعمال - من طيب الذكر، وجميل الأحدوثة في الحياة وبعد الممات.
وصدق من قال:-
النّاسُ بِالنّاسِ مَا دَامَ الْحَيَاءُ بِهمْ ... وَالّعُسْرُ وَالْيُسْرُ سَاعَاتٌ وَأَوْقَاتٌ
قَدْ مَاتَ قَوْمٌ ومَا مَاتَتْ مَكَارِمُهُمْ ... وَعَاشَ قَوْمٌ وَهُمْ فِي النَّاسِ أَمْواَتُ
(4) ... وفيما يلي نتعرف بعض النماذج المضيئة في خدمة المرأة المسلمة لأخواتها من خلال سلوك الصحابيات رضوان الله عليهن:-
<81>
(أ) أخرج أبو نعيم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال.- لما زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة عليا دخل، فلما رآه النساء وثبن وبينهن وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم سترة، فتخلفت أسماء بنت عميس رضي الله عنهما؟ فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: كما أنت على رسلك، من أنت؟ قالت: التي أحرس ابنتك، فإن الفتاة ليلة يبنى بها، لابد لها من امرأة تكون قريبة منها، إن عرضت لها حاجة أو أرادت شيئا أفضت بذلك إليها فسُر النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك، ودعا لها بأن يحرسها الله عز وجل فقال:- فإني أسأل إلهي أن يحرسك من بين يديك ومن خلفك وعن يمينك وعن شمالك من الشيطان الرجيم"0(2)
__________
(1) أخرجه مسلم (جـ4 - ص 2074) كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار - باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن وعلى الذكر.
(2) حلية الأولياء (جـ2 - ص 75).(1/56)
ولئن كانت القصة قد وردت في مساعدة المرأة لأختها ليلة عرسها حتى لا تستوحش، فإن الحكم ينسحب على جميع الأحوال التي تحتاج المرأة المسلمة فيها إلى أختها لتكون إلى جوارها، وما أكثر هذه الأحوال التي تبين أصالة المعدن، وصدق المحبة فيما بين المسلمة وأخواتها.
(5) ... ومن الواجب على المرأة المسلمة في هذا المقام ألا تسمح للشيطان بأن يفسد عليها محبتها ومودتها لسائر أخواتها المسلمات، ولتتأكد بأن الشيطان لن يدع متحابين حتى يحاول جاهدا أن يوقع بينهما، وصدق الله العظيم إذ يقول:- (إنمَا يرِيد الشيطان أَن يوقع
<82>
بينَكم العداوة وَالبغضاءَ)(1) ويقول سبحانه:- (وقل لِعِبادي يقولوا التي هي أَحسَن إن الشيطَانَ ينزغ بينهم)(2)
ويستلزم هذا من المرأة المسلمة أن تبني علاقتها مع سائر الأخوات المسلمات على التسامح والتغافر وإقالة العثرات والتماس الأعذار.
ولنتأمل في هذا الموقف:-
قالت السيدة عائشة رضي الله عنها:- دعتني أم حبيبة عند موتها فقالت: قد كان يكون بيننا ما يكون بين الضرائر، فغفر الله لي ولك ما كان من ذلك، فقلت: غفر الله لك ذلك كله، وتجاوز وحلَك من ذلك كله؟ فقالت؟- سررتني سرك الله، وأرسلت إلى أم سلمة فقالت لها مثل ذلك0(3)
<83>
المبحث الرابع
في مواجهة أعداء الإسلام
(1) أشار القرآن الكريم إلى نوايا أعداء الإسلام بشأن الإسلام والمسلين في كثير من الآيات.
فعلى سبيل المثال يقول الله تعالى في نيتهم نحو الإسلام:-
(يرِيدونَ أَن يطفئوا نورَ اللهِ بأفوَاههِم وَيَأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كَرهَ الكَافِرونَ)(4)
ويقول:- (إن الذيِنَ كفَروا ينفقون أموَالهم ليصدوا عَن سبيلِ اللهِ)(5)
__________
(1) سورة المائدة - الآية (91)
(2) سورة الإسراء - الآية (53).
(3) صفة الصفوة (جـ2 - ص 46)
(4) سورة التوبة - الآية (32).
(5) سورة الأنفال - الآية (36).(1/57)
وفي نيتهم نحو المسلمين يقول ربنا:- (وَلا يزالونَ يقَاتلونكم حتى يَردوكم عَن دِينِكم إنِ استطَاعوا)(1)
(2) وتتَعدد أسلحة هؤلاء الأعداء في الوصول إلى مرادهم، ما بين غزو عسكري، وتضليل فكرى، وحصار اقتصادي، وتدمير أخلاقي . . . إلخ".
<84>
ولسنا بصدد التعرض لجواب هذا الغزو ومظاهره في حياتنا المعاصرة، فهو أظهر من الشمس في ضحاها .
(3) ويتحمل المسلمون جميعا - رجالا ونساء - مسئولية وأمانة الدفاع عن الإسلام في مواجهة هذه الحملات الشرسة، التي تريد أن تستأصل الإسلام من جذوره، وترفع راية الجاهلية في بلاد الإسلام.
(4) وبخصوص بحثنا عن الصحابيات ودورهن في مواجهة أعداء الإسلام نشير إلى جهادهن في هذا المجال قد سار في اتجاهين رئيسين:-
الاتجاه الأول: تمثل في محافظة هؤلاء الصحابيات - رضوان الله عليهن - على دينهن، والتضحية في سبيل ذلك بكل شيء.
ومن أروع الأمثلة على ذلك السيدة سمية بنت خياط أم عمار بن ياسر رضي الله عنهم جميعا، هذه المرأة المسلمة التي تحملت العذاب مع عائلتها من مشركي مكة في صدر الدعوة، ثم كان مسك الختام في حياتها أن قتلت بيد عدو الله أبي جهل، لتتبوأ الصدارة في شهداء هذه الأمة، فهي أول شهيدة في الإسلام على الإطلاق.
"ولعلها رسالة مبعوثة من هذا الزمن البعيد، من سمية - وهي امرأة - إلى بنات جنسها من النساء حتى لا يفرطن في دينهن، ولا يتنازلن عن أية جزئية منه، فأعداء الإسلام لا يستخدمون سلاحا فتاكا ولا معولا هداما أشد من المرأة لهدم الإسلام وتفتيت صرحه والقضاء
<85>
__________
(1) سورة البقرة - الآية (217).(1/58)
عليه، فالمرأة المسلمة المؤمنة حينما ترى على رأس الشهداء في الإسلام امرأة مثلها، فإنها ستخجل وتستحي أن تصبح أداة في يد الشياطين والأبالسة لتهدم دينا جاء إلى الحياة على أجساد الشهداء، وبنى صرحه بدم الصادقين من أهل التضحية والفداء والشهداء، وعلى رأس هؤلاء جميعا: امرأة هي "سمية" أول الشهداء في الإسلام"(1)
ويقع في هذا الاتجاه أيضا مشاركة الصحابيات للمسلمين في هجرتهم من مكة إلى الحبشة مرتين، ثم إلى المدينة المنورة فرارا بدينهن، وحفاظا على إسلامهن.
الاتجاه الثاني: ويتمثل في الوقوف أمام هؤلاء الأعداء في مواجهة صريحة وحاسمة للدفاع عن هذا الدين، ويتضح ذلك جليا من خلال المشاركات المتعددة للصحابيات في معارك المسلمين الأولى، وإظهار بعضهن لبطولات أسهمت في نصر الإسلام والمسلمين.
ونضرب لذلك بعض الأمثلة:-
(أ ) ... أول ما يطالعنا في هذا المجال موقف السيدة نسيبة بنت كعب أم عمارة رضي الله عنها، وندعها تحكى ما حدث منها يوم أحد، فهي تقول: "رأيتني وقد انكشف الناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما بقى إلا في نفر ما يتمون عشرة، وأنا وابناي وزوجي بين يديه، نذب عنه والناس يمرون به منهزمين، ورآني لا ترس معي، فرأى رجلا موليا
<86>
معه ترس، فقال لصاحب الترس: ألق ترسك إلى من يقاتل، فألقى ترسه فأخذته، فجعلت أترس به عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم فيقبل رجل على فرس فيضربني، وترست له، فلم يصنع سيفه شيئا وولى، فأضرب عرقوب فرسه، فوقع على ظهره، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يصيح:- يا بن أم عمارة: أمك أمك، فقالت: فعاونني عليه حتى أوردته شعوب (أي المنية). "(2)
(
__________
(1) الصفوة في حياة خيار النسوة (ص 294) خالد عبد العليم.
(2) انظر (سير أعلام النبلاء) (جـ2 0
ص279) والطبقات الكبرى لابن سعد (جـ8 ص9413).(1/59)
ب) والنموذج الثاني للسيدة أسماء بنت يزيد بن السكن، والتي شاركت المسلمين في معركة اليرموك، وقتلت بعمود خيمتها - الذى لم تجد أمامها سواه - تسعة من الروم "(1) (جـ) ومن الأمثلة - كذلك - ما قامت به السيدة صفية بنت عبد المطلب عمة النبي صلى الله عليه وسلم حين أراد أحد اليهود الذين نقضوا العهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة الخندق، أراد أن يصعد الحصن الذي به نساء المسلمين وذراريهم - مستغلا انشغال المسلمين بمواجهة المشركين عند الخندق - فإذا بالسيدة صفية بنت عبد المطب رضي الله عنها تتصدى لهذا اليهودي بعمود من أعمدة الحصن، وتضربه به ضربة يخر من هولها ميتا، فأثارت الرعب في نفوس اليهود الذين جاءوا من خلفه، وارتدوا على أعقابهم مذعورين"(2)
<87>
(د) ومن المجاهدات في سبيل الله أم حرام بنت ملحان خالة أنس بن مالك رضي الله عنها، وقد خرجت مع زوجها عبادة بن الصامت رضي الله عنه في غزو المسلمين لقبرص، وهناك ماتت ودفنت، وقبرها معروف في جزيرة قبرص يقولون هذا قبر المرأة الصالحة - رحمها الله-"(3)
وإلى جانب مشاركة الصحابيات في قتال أعداء الإسلام - إذا لزم الأمر - كما اتضح لنا من الأمثلة السابقة شاركت الصحابيات بدور أكبر في عملية إمداد المجاهدين بما يحتاجون إليه من طعام أو شراب، ومداواة جرحاهم.... إلخ، وفي الدلالة على ذلك نورد هذين الخبرين:-
(
__________
(1) ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (جـ6 - ص213)، (جـ9 ص260)0
(2) أنظر (صلاح الأمة في علو الهمة) (جـ7 - ص 168) - د. سيد حسين العفاني0
(3) انظر (صفة الصفوة) (جـ2 - ص70)0(1/60)
أ) عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال:- "لما كان يوم أحد انهزم الناس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ولقد رأيت عائشة بنت أبي بكر وأم سليم، وإنهما لمشمرتان أرى خدم سوقهما، وقال غيره: تنقلان القرب عن متونها، ثم تفرغانه في أفواه القوم ثم ترجعان فتملأنها، ثم تجيئان فتفرغانها في أفواه القوم"0(1)
(ب) عن أم عطية رضي الله عنها قالت: "غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع غزوات، أخلفهم في رجالهم فأصنع لهم الطعام، وأداوى
<88>
الجرحى، وأقوم على المرضى"0(2)
لقد اشتهر جهاد الصحابيات في الدفاع عن الإسلام، وهو ما حمل الإمامين البخاري ومسلم على إفراد العديد من الأبواب للدلالة على ذلك، ومن هذه الأبواب في صحيح البخاري: باب جهاد النساء، وباب غزو المرأة في البحر،وباب غزو النساء وقتالهن مع الرجال، وباب مداواة الجرحى في الغزو، وباب حمل النساء القرب في الغزو . . إلخ، ومنها في صحيح مسلم: باب غزوة النساء مع الرجال، وباب النساء الغازيات.
(5) إن أعداء الإسلام لا يخفون نواياهم نحو استخدام المرأة المسلمة المعاصرة كسلاح هدام للقيم والمبادئ الإسلامية، وقد ذكرنا طرفا من أقوالهم بهذا الشأن في التمهيد لهذا البحث.
لأن مطالعة المرأة المسلمة لجهاد هؤلاء الصحابيات الفضليات ليؤكد في نفسها أهمية اتخاذ نفس الخط، والسير على نفس المنهاج، حتى تكتب في عداد المقبولين.
ولئن كان جهاد الأعداء بالسلاح قد انسحب - نسبيا - من أرض المعركة، فهناك ما هو أشد خطورة منه في الواقع المعاصر، ويتمثل ذلك في الغزو الفكري والإعلامي وغيرهما من الفتن التي وصفها الله تعالى في كتابه بأنها أشد وأكبر من القتل.
<89>
__________
(1) أخرجه البخاري (جـ2 - ص 150) كتاب الجهاد والسير - باب غزو النساء وقتالهم مع الرجال0
(2) أخرجه مسلم (جـ3 - ص 1447) كتاب الجهاد والسير - باب النساء الغازيات يوضخ لهن ولا يسهم، والنهي عن قتل صبيان أهل الحرب.(1/61)
وإن المرأة المسلمة مطالبة أن تحذو حذو سمية وأم عمارة في التمسك بدينها، ومقاومة حملات التغريب والتشكيك التي يقودها أعداء الإسلام ومن يدور في فلكهم من المتأسلمين، وفي الوقت نفسه تؤدى دورا إيجابيا في مجتمعها بحماية أبنائها وبنات جنسها من هذه الضلالات، وذلك بما تقدمه لهم من علم نافع وعمل صالح، وهي على يقين من أن جهدها محفوف بعناية الله، ومحروس بتوفيق الله، وأن جهد أعداء الإسلام - مهما كان عظيما - مآله الخسران والبوار، وصدق الله إذ يقول:- (فأمْا الزْبَذ فيَذهب جفَاءً وَأَمْا مَا ينفع الناسَ فَيَمكث في الأَرضِ)(1)
ومن ثم لا تدخر وسعا في فعل الخير والدعوة إليه رجاء أن يهدي الله الخلق، ويأخذ بأيديهم إليه.
<90>
الفصل الثالث
العفة في حياة الصحابيات
ويشتمل على مبحثين
(أ) المحافظة على ارتداء الحجاب
(ب) البعد عن الاختلاط بالرجال
<91>
تمهيد
(1) إذا كان أعداء الإسلام قد اجتهدوا على المرأة المسلمة لتكون أداة إفساد وتخريب في المجتمع المسلم، فإن أولى الخطوات التي اتخذت في هذا الطريق كانت دعوتهم إلى تبرج المرأة وإظهار مفاتنها أمام الرجال الأجانب بحيث تصبح سلعة رخيصة يتهافت عليها الجياع، ويشيع من ورائها كل فساد، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يحذرنا من هذا المصير - فيقول:- " اتقوا الدنيا واتقوا النساء، فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء"0(2)
ويقول :- "ما تركت بعدي فتنة هي أضر على الرجال من النساء"(3)
(
__________
(1) سورة الرعد - الآية (17).
(2) أخرجه مسلم (جـ4 - ص2098) كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار - باب أكثر أهل الجنة الفقراء، وأكثر أهل النار النساء، وبيان الفتنة بالنساء
(3) أخرجه البخاري (جـ3 - ص 297) كتاب النكاح - باب ما يتقى من شؤم المرأة وأخرجه مسلم واللفظ له (جـ4 - ص 2097) كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار - باب أكثر أهل الجنة الفقراء . . . إلخ.(1/62)
2) وقد تعاون شياطين الجن والإنس على كشف سوأة المسلمة، وصولا إلى أغراضهم الخبيثة، وهو ما أخبرنا به القرآن الكريم، وما نطقت به ألسنتهم، وانطلقت به كلماتهم.
ففي القرآن الكريم ما يشير إلى دور الشيطان في الدعوة إلى كشف العورات، والتحذير من الانصياع له في هذا المجال، فيقول رب
<92>
العزة:- (يا بَني آدَم لا يفتِنَنكم الشيطان كَما أخرجَ أبَوَيكم من الجنة ينزع عنهما لبَاسهمَا لِيريَهمَا سَوءَاتهِمَا إنه يَراكم هو وقَبيِله في حَيث لا تَرونهم إنا جعَلنا الشياطِين أَولِيَاءَ لِلْذِينَ لا يؤمِنون)(1)وأما دعاة الشيطان وأبواقه من الإنس فقد انطلقت كلماتهم تحكى ما في قلوبهم ونواياهم من دعوة المرأة المسلمة إلى خلع حجابها وإظهار مفاتنها.
ومن أقوالهم في هذا الشأن "لن تستقيم حالة الشرق، ما لم يرفع الحجاب عن وجه المرأة ويغطى به القرآن"0(2)
ومن أقوالهم كذلك " ليس هناك طريق لهدم الإسلام أقصر مسافة من خروج المرأة سافرة ومتبرجة"(3) ويقول أحد شعرائهم - وهو محمد صادق الزهاوي - يخاطب المرأة المسلمة العراقية فيقول:-
مَزِّقي يا بنةَ الْعِراقِ الحِجَاباَ ... وَأَسْفِري فَالْحَيَاةُ تَبْغي انْقِلاَبَاَ
مَزِّقِيهِ وَأَحْرِقِيهِ بِلاَ ريْثٍ ... فَقَدْ كَانَ حَارِساً كذَابَاَ(4)
وفي الدلالة على النوايا الخبيثة لدى أعداء الإسلام من وراء هذه
<93>
__________
(1) سورة الأعراف - الآية (27).
(2) المرأة ومكانتها في الإسلام (ص 9) أحد عبد العزيز الحصين - طبعة سنة 1981.
(3) قضية المساواة بين الجنسين في الفكر الوضعي المعاصر (ص 51) رسالة ماجستير مخطوطة للباحث/ حشمت فايز أبو المجد - كلية الدعوة الإسلامية بالقاهرة.
(4) أحمد عبد العزيز الحصين (ص 98 مرجع سابق).(1/63)
الدعوة يقول محمد طلعت حرب باشا في كتاب له بعنوان (المرأة والحجاب): "إن رفع الحجاب والاختلاط، كلاهما أمنية تتمَناها أوروبا من قديم الزمان لغاية في النفس، يدركها كل من وقف على مقاصد أوروبا بالعالم الإسلامي"0(1)
(3) ولم يكتف أعداء الإسلام بهذا الكلام النظري، وإنما شجعوا - بكل الوسائل الممكنة- على التمكين للرذيلة، والتشجيع على العرى والفضيحة، وذلك من خلال قنوات عديدة، تصب جميعها في هذا الإطار.
فداعيات التحرر وزعيمات النهضة في المجتمعات المسلمة من النساء اللاتي بادرن بخلع الحجاب وإعلان السفور، وقد أطلقت أسماؤهن - تكريما لهن - على أكبر الشوارع وأعظم الميادين.
وبيوت الأزياء العالمية تتفنن في إغراق البلاد الإسلامية بأحدث موضات الملابس لشتى المناسبات، وتفسح وسائل الإعلام المختلفة مساحات واسعة لهذه الجهات.
والمصايف التي تمتد على طول بلاد المسلمين وعرضها - دون رقيب أو حسيب - وسيلة من الوسائل التي تشجع النساء على التخلص من ثيابهن، حتى يظهرن شبه عاريات، وتعرض مثل هذه الصور في أفلام ومسلسلات لتصبح واقعا يقر به الجميع.
<94>
(4) وأخيراً - وليس آخرا - استخدموا السياسة للوصول إلى تحقيق أغراضهم الخبيثة، فعقدت الأمم المتحدة عدة مؤتمرات للمرأة والسكان وانصبت أعمال هذه المؤتمرات على إقرار كل ما يخالف تعاليم الإسلام بشأن المرأة والأسرة.
(5) وقد ترتب على هذا الواقع المر أن انتشرت الفواحش، وتعددت أشكال العلاقات الآثمة بين الذكور والإناث، ما بين مخادنة أو مخاللة أو زواج عرفي، وتعالت الأصوات من كثرة حوادث الاغتصاب، وانتشرت في مجتمعاتنا بصورة غير مسبوقة ظاهرة اللقطاء وأولاد الزنا.
والسبب في ذلك كله يرجع - بالأصالة - إلى تخلي المرأة عن حجابها، ولجوئها إلى الاختلاط الحر بمجتمع الرجال، مما أفقدها خصوصيتها، وأشاع الفوضى والاضطراب في كافة أنحاء المجتمع.
(
__________
(1) المرجع السابق (186).(1/64)
6) ومن هنا كانت دعوة الإسلام إلى ضرورة التزام المرأة المسلمة بالعفة، وبعدها عن إثارة الفتن بين الرجال بملبسها أو صوتها أو مشيتها، وهو ما صرحت به آيات القرآن الكريم، وأحاديث النبي الأمين صلى الله عليه وسلم.
وقد ضربت الصحابيات الجليلات - رضوان الله عليهن - أروع الأمثلة في الالتزام بهذه الواجبات، وهو ما سنحاول إلقاء الضوء عليه في المبحثين التاليين إن شاء الله تعالى.
<95>
أولا: المحافظة على ارتداء الحجاب
(1) ورد الأمر في كتاب الله تعالى وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم بضرورة التزام المرأة المسلمة بحجاب يحول فيما بينها وبين افتتان الآخرين بها.
وقد اقترنت دعوة الإسلام إلى الحجاب ببيان الفضائل المرتبطة به، والنتائج الإيجابية المترتبة عليه.
(أ) ففي سورة الأحزاب يأمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بدعوة أزواجه وبناته ونساء المؤمنين إلى ارتداء الحجاب، فيقول تعالى:-(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ 0000)(1)وبالتأمل في هذه الآية الكريمة نجد أن الأمر بالحجاب لا فرق فيه بين بيت النبي صلى الله عليه وسلم وسائر بيوت المسلمين، وأن هذا الحجاب هو عنوان العفة (ذلك أدنى أن يعرفن) أي بأنهن عفائف مصونات، وهو طريق الصيانة والمحافظة على صاحبته (فلا يؤذين) أي لا يتعرض لهن فاسق أو فاجر بأذى، فتحمى نفسها وغيرها.
(ب ) ... وفي سورة النور يقول رب العزة:-
<96>
(
__________
(1) سورة الأحزاب - الآية (59).(1/65)
وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)(1)
وبالتأمل في هذه الآية نجد أن الأمر في بدايتها توجه به الله إلى المؤمنات، مما يدل على أن الحجاب دليل الإيمان، كما قرن الله تعالى بين الأمر بغض البصر وحفظ الفرج وبين الأمر بارتداء المسلمة الحجاب، وهو ما يدل على أن الحجاب يعين على هذه الفضائل ويوصل إليها، وفي تذييل الآية بقوله (لَعلكم تفلحون) تأكيد على أن التزام الحجاب هو طريق الفلاح والنجاح.
(جـ) وفي سورة الأحزاب يقول رب العزة في النهي عن التبرج - وهو ضد الحجاب :- (وَقَرن في بُيوتكن وَلا تَبرجْنَ تَبَرجَ الجَاهِلِيْة الأولَى)(2) . فيصف التبرج بأنه جاهلية تنفيرا منه، والقاعدة أن النهي عن الشيء أمر بضده، فتكون الآية دعوة إلى الحجاب، وقد ختمت بقوله تعالى (وَيطَهِرَكم تَطهِيرًا) للتدليل على أن الحجاب - مع
<97>
سائر الأوامر الواردة في الآية - هو طريق الطهر وسبيل العفاف.
(
__________
(1) سورة النور - الآية (31).
(2) سورة الأحزاب - الآية (33)0(1/66)
2) وإذا كانت للحجاب هذه الفضائل والإيجابيات، فإن التبرج مدعاة إلى الفساد والإفساد، فساد المرأة في نفسها، وإفسادها لأخلاق الرجال من حولها، وهو علامة على قلة الحياء، وانعدام الغيرة، وموت الإحساس، ومن ثم أوضحت السنة شدة عقوبة من تسول لها نفسها التخلق به، والارتماء في أحضانه، فقال عليه الصلاة والسلام:- "صنفان من أهل النار لم أرهما: قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات، مميلات مائلات، رءوسهن كأسنمة البخت المائلة(1)، لا يدخلن الجنة، ولا يجدن ريحها، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا"0(2)
(3) وبعد هذا العرض لأهمية التزام الحجاب نسوق من حياة الصحابيات ما يدل على التزامهن به، وحرصهن عليه.
(1) عن صفية بنت شيبة قالت:- "بينما نحن عند عائشة قالت فذكرنا نساء قريش وفضلهن، فقالت عائشة رضي الله عنها: إن لنساء قريش فضلا، وإني والله ما رأيت أفضل من نساء الأنصار أشد تصديقا لكتاب الله ولا إيمانا بالتنزيل، لقد أنزلت سورة النور
<98>
(
__________
(1) أسنمة البخت: البخت نوع من الإبل، والسنام أعلى ما فيها، وهو تشبيه لما تصنعه المتبرجات برءوسهن من أشكال وصور تشبه ما يعلو الجمل من شعر 0
(2) أخرجه مسلم (جـ3 - ص 1680) كتاب اللباس والزينة - باب النساء الكاسيات العاريات المائلات المميلات.(1/67)
وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ) انقلب رجالهن إليهن يتلون عليهن ما أنزل الله إليهم فيها، ويتلو الرجل على امرأته وابنته وأخته وعلى كل ذي قرابته، فما منهن امرأة إلا قامت إلى مرطها المرحل "(1) فاعتجرت به(2) تصديقا وإيمانا بما أنزل الله من كتابه، فأصبحن وراء رسول الله صلى الله عليه وسلم معتجرات، كأن على رءوسهن الغربان"(3) وفي رواية أخرى للبخاري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت:- "يرحم الله نساء المهاجرات الأول، لما أنزل الله (وليضربن بخمرهن على جيوبهن) شققن مروطهن فاختمرن بها"(4) وبالنظر في الروايتين نجد أن نساء الأنصار (كما في الرواية الأولى) ونساء المهاجرين (كما في الرواية الثانية) - وهن يشكلن مجموع النساء في عصر النبوة - هذا المجموع لم تتخلف واحدة منهن عن المبادرة إلى ارتداء الحجاب حين نزلت آياته، وكان للرجال دورهم في دعوة النساء إلى ذلك بتلاوة ما أنزل الله في كتابه بشأن الحجاب، ودعوة كل ذي قرابة لهم إلى تطبيقه والعمل به.
(ت ) ... وعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت:- "إن كان
<99>
__________
(1) المرط هو الكساء والمرحل الذي نقشت فيه تصاوير الرحال
(2) فاعتجرت به:- أي لفته على رأسها، وردت طرفه على وجهها ،
(3) ذكر هذا الأثر الحافظ ابن كثير في تفسيره لسورة النور، وأسنده إلى ابن حاتم (جـ3 - ص 284)، وقد رواه أبو داود مختصرا (جـ2 - ص 415) كتاب اللباس - باب في قول الله تعالى (يدنين عليه من جلابيبهن).
(4) أخرجه البخاري (جـ3 - ص 169) كتاب التفسير - باب تفسير سورة النور.(1/68)
رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلى الصبح، فينصرف النساء متلفعات (وفي رواية متلففات) بمروطهن، ما يعرفن من الغلس(1)"(2)
(4) وإلى جوار هذا السلوك العام وردت مواقف فردية تعكس اهتمام مجتمع الصحابيات بشأن الحجاب، ونختار منها ما يلي:-
(أ) ما سبق ذكره في شأن السيدة عائشة رضي الله عنها حين قالت:-
"كنت أدخل بيتي الذي دفن فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي، فأضع ثيابي وأقول: إنما هو زوجي وأبي، فلما دفن عمر معهم فوالله ما دخلت إلا وأنا مشدودة علي ثيابي حياء من عمر"0(3)
(ب) ما عُرف في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم من أنه أجلى يهود بني قينقاع من المدينة بسبب امرأة مسلمة ذهبت إلى سوقهم لشراء ذهب، فجعل اليهود يريدونها على كشف وجهها فأبت، فعمد الصائغ إلى طرف ثوبها فعقده إلى ظهرها، فلما قامت انكشفت سوأتها فضحكوا منها فصاحت، فوثب رجل من المسلمين إلى الصائغ فقتله، فعمد اليهودي إلى قتل هذا المسلم، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم
<100>
والمسلمون، وقاموا بإجلاء هذا الفريق من اليهود عن المدينة.
(جـ) عن ثابت بن قيس رضي الله عنه قال:- "جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم يقال لها أم خلاد -وهى منتقبة - تسأل عن ابنها وهو مقتول، فقال لها بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم جئت تسألين عن ابنك وأنت منتقبة! فقالت: "إن أرزأ(4) ابني فلن أرزأ حيائي"0(5)
(
__________
(1) الغلس:- ظلمة آخر الليل إذا اختلطت بضوء الصباح0
(2) أخرجه البخاري (جـ1 - ص 109) كتاب الصلاة - باب وقت الفجر وأخرجه مسلم واللفظ له (جـ1 - ص 446) كتاب المساجد ومواضع الصلاة - باب استحباب التبكير بالصبح في أول وقتها . . . . إلخ.
(3) أخرجه أحمد في مسنده (جـ6 - ص 202).
(4) الرزء: المصيبة 0
(5) أخرجه أبو داود (جـ2- ص 6) كتاب الجهاد - باب فضل قتال الروم على غيرهم من الأمم.(1/69)
د) عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال. قال رسول الله صلى الله عليه وسلمَ:- "من جرَ ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة، فقالت أم سلمة رضي الله عنها. فكيف يصنع النساء بذيولهن؟ قال: يريخين شبراً، فقالت إذن تنكشف أقدامهن، قال. فيرخينه ذراعا لا يزدن عليه"0(1)
والشاهد من الحديث حرص أم سلمة رضي الله عنها أن تسأل عما يتعلق بثياب المرأة من حيث الطول، حتى لا تقع في دائرة الكبر الذي يمقت الله صاحبه إذا جر ثوبه خيلاء، فقالت: فكيف يصنع النساء لذيولهن؟ قال: يرخين شبرا، أي ترخي من ثوبها شبرا بعد منتصف الساق، لكنها رضي الله عنها وجدت أن هذا القدر لن يكفي لستر
<101>
أقدام المرأة - وهي الحريصة على ألا ينكشف منها شيء - فقالت. إذن تنكشف أقدامي، فقال عليه الصلاة والسلام. فيرخينه ذراعا لا يزدن عليه.
وهو موقف يدل على مدى حرص الصحابيات الجليلات على ألا يرى أحد منهن شيئا.
(هـ) عن ابن عباس رضي الله عنهما أن السيدة فاطمة الزهراء بنت النبى صلى الله عليه وسلم لما مرضت مرض الموت، وكانت عندها أسماء بنت عميس رضي الله عنها تعودها، قالت فاطمة رضي الله عنها: "إني قد استقبحت ما يصنع بالنساء بعد موتهن، إنه يطرح على المرأة الثوب فيصفها، وأني سأموت، وأستحي أن أحمل في جنازتي على السرير ظاهرة أمام الناس، ويعرف الناس طولي وعرضي - وكانت النعوش لم تُعرف بعد - فقالت أسماء:- "إني رأيت الناس في الحبشة يصنعون نعوشا يحملون فيها النساء لئلا يظهر منهن شيء، وبوسعي أن أصنع لك واحدا تحملين فيه، فقالت فاطمة؟ فأرينيه، فأتت أسماء ببعض من جريد النخل الرطب، وجعلت على السرير نعشا، فأتت فاطمة رضي الله عنها، وقالت:- ما أحسن هذا وأجمله . ." فكانت رضي الله عنها أول من حُملت في نعش في الإسلام.
(
__________
(1) أخرجه الترمذي، وقال عنه حسن صحيح (جـ4 - ص 223) كتاب اللباس - باب ما جاء في جر ذيول النساء .(1/70)
5) ولا يملك المرء إلا أن ينحني إجلالا وإكبارا لهذه المواقف
<102>
العظيمة التي تدل على حياء نساء الصحابة، سواء كن أحياء أو أمواتا،- كما في هذا الموقف الأخير - وسواء كان الأجنبي عنهن حيا أو ميتا - كما في موقف أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها حين كانت ترعى حرمة عمر وهو ميت كما كانت ترعى حرمته وهو حي - وسواء كانت في ظروف عادية أو استثنائية كما في حالة أم خلاد رضي الله عنهن جميعا.
فما أجمل أن تترسم الأخت المسلمة خطى هؤلاء السلف الصالح، حتى تكون يوم القيامة في زمرتهم، فإن من َتشبه بقوم فهو منهم، ومن أحبهم حشر معهم.
<103>
المبحث الثاني
البعد عن الاختلاط بالرجال
(1) سبقت الإشارة في التمهيد إلى نوايا أعداء الإسلام تجاه المرأة المسلمة، وحرصهم على إفسادها وصولا إلى إفساد المجتمع الإسلامي كله، ومن ثم كان تشجيعهم لها على التبرج والاختلاط بمجتمع الرجال دون قيود أو حدود.
وقد رأينا موقف الإسلام من رذيلة التبرج، واستعرضنا ما جاء في الكتاب والسنة من أدلة تدعو إلى الحجاب، وسقنا من حياة الصحابيات ما يدعم هذا الخلق ويؤكده في نفس كل امرأة مسلمة ترجو الله واليوم الآخر.
(2) وكما كان للإسلام موقفه الواضح من التبرج، فله - كذلك - موقفه الواضح من إشاعة الاختلاط بحيث تزول الحدود الفاصلة بين الرجال والنساء، وهو ما يسعى أعداء الإسلام ومؤيدوهم إلى إشاعته وسط المسلمين، وهو ما سنحاول أن نلقى الضوء عليه في السطور القادمة، ونعقب على ذلك بذكر مواقف الصحابيات الجليلات، تأييدا للمقال بالمثال.
(3) لقد اقتضت حكمة الخالق تبارك وتعالى أن يتنوع الجنس
<104>
الإنساني إلى ذكر وأنثى، وذلك لما يرتبط بهذا التنوع من مصالح تعود على الطرفين، وألقى في قلب كل نوع محبة الآخر والأنس به والقرب منه، وفي هذا يقول رب العزة:-
((1/71)
زين لِلناسِ حب الشهَوَاتِ من النسَاءِ وَالبنِينَ. . . . .)(1) فجعل على رأس الشهوات المحببة إلى النفس شهوة الجنس.
وحتى يبقى الارتباط قويا بين الذكر والأنثى - تحقيقا للمصالح المرتبطة بذلك - أضفى الله على المرأة من ملامح الجمال والحسن ما يميزها عن الرجل، وما يجعله يميل إليها ويهواها، لكنها - في الوقت نفسه - أقل قوة من الرجل وأضعف جسما، وهذا من شأنه أن يجعلها دائما مفتقرة إلى حماية الذكور لها، وقد أودع الله في قلب الرجال الغيرة على ما تحت أيديهم من النساء، وبهذا يتكامل الخلق، ويتحقق التكاثر، وتبنى الأسر، وتنمو المجتمعات.
(4) وحتى يبقى هذا الارتباط في إطار من المشروعية رغب الإسلام في الزواج، ويسر أسبابه، وبارك خطواته من أول لبنة توضع في بنائه حتى يكتمل ويرتفع بإذن الله تعالى، ومن عجز عن الزواج لسببٍ ما من الأسباب فليتجمل بالصبر، وليتخلق بالعفاف حتى يجعل الله له من ضيقه مخرجا، وصدق الله إذ يقول:- (وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ)(2).
<105>
(5) وحتى تبقى هذه الرابطة المقدسة - أعني رابطة الزوجية - دون أن يمسها سوء يجب أن يطمئن كل طرف من أطرافها إلى الآخر، وألا يتطلع أحد منها إلى علاقات أخرى لا يقرها شرع الله وراء هذا الارتباط، وذلك لا يتأتى إلا في جو من البعد عن الإثارة والفتنة التي تحدث نتيجة الاختلاط الحر بين الرجال والنساء، مع ما يصاحب ذلك من تبرج المرأة وإظهارها لمفاتنها.
يقول الأستاذ سيد قطب رحمه الله: "إن من حق الزوج كما أن من حق المرأة أن يطمئن كلاهما إلى رفيقه، وألا يتعرض للإغراء الذي تنحرف معه عواطفه نحو شريكه، إن لم يقده الانحراف إلى الانزلاق والخطيئة، مما يهدد ذلك الرباط المقدس، ويطير عن جوه الثقة الكاملة والاطمئان.
__________
(1) آل عمران - الآية (14)0
(2) سورة النور - الآية (33) .(1/72)
هذا الانحراف في العواطف، والانزلاق إلى ما هو أبعد، واقع كل يوم وكل لحظة في المجتمعات التي ينطلق فيها الاختلاط"0(1)
(6) لأجل ذلك تحدث العلماء عن ضرر شيوع الاختلاط، وتكلموا عن الآثار السيئة المترتبة عليه.
يقول الإمام ابن القيم:- "لا ريب أن تمكين النساء من اختلاطهن بالرجال: أصل كل بلية وشر، وهو من أعظم أسباب نزول العقوبات العامة، كما أنه من أسباب فساد أمور العامة والخاصة، واختلاط
<106>
الرجال بالنساء سبب لكثرة الفواحش والزنا . ."0(2)
والواقع يؤيد هذا الكلام بشهادة من عاينوا ثمرات الاختلاط في بلادهم.
تقول الصحفية الأمريكية هيلسيان ستانسبري:- "امنعوا الاختلاط فقد عانينا منه في أمريكا الكثير. لقد أصبح المجتمع الأمريكي مجتمعا معقدا، مليئا بكل صور الإباحية والخلاعة . . . . إن الاختلاط والإباحية والحرية في المجتمع الأوربي والأمريكي هدد الأسر، وزلزل القيم والأخلاق، فالفتاة الصغيرة تحت سن العشرين في المجتمع الحديث تخالط الشبان، وترقص، وتشرب الخمر، وتتعاطى المخدرات باسم المدنية والحرية والإباحية. . . وهي تلهو وتعاشر من تشاء تحت سمع عائلتها وبصرها، بل تتحدى والديها ومدرسيها والمشرفين عليها . . تتحداهم باسم الحرية والاختلاط، تتحداهم باسم الإباحية والانطلاق . . . "(3)
(7) وبعد هذه المقدمة ندلف إلى حياة الصحابيات لنرى كيف كان سلوكهن فيما يتعلق بهذا الأمر:-
(أ) عن حمزة بن أبي أسيد الأنصاري عن أبيه أنه سمع رسول الله
<107>
__________
(1) السلام العالمي والإسلام (56) - دار الشروق0
(2) الطرق الحكمية في السياسة الشرعية (ص407) بتحقيق د/ محمد جميل غازي - مطبعة المدني - بدون تاريخ
(3) نقلا عن (روائع البيان في تفسير آيات الأحكام) (ص 389- 390) طبعة ثانية سنة 1977م - منشورات مكتبة الغزالي - دمشق.(1/73)
صلى الله عليه وسلم يقول - وهو خارج من المسجد فاختلط الرجال مع النساء في الطريق - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للنساء. استأخرن، فإنه ليس لكن أن تحققن(1) الطريق، عليكن بحافات الطريق، فكانت المرأة تلتصق بالجدار، حتى إن ثوبها ليتعلق بالجدار: من لصوقها به"0(2)
(ب) في المسجد الذي هو مجمع الصالحين، وفي الصلاة التي هي صلة بين العبد وربه، لا يحل للنساء أن يصلين أمام الرجال أو في محاذاتهم- إذا لم يكن لهن مكان خاص - وإنما يقف الرجال أولا ثم الصبيان، ثم النساء، وكلما كانت المرأة أبعد عن الرجال فهي أقرب إلى الله تعالى، فخير صفوف الرجال أولها، وخير صفوف النساء آخرها.
(ج) كان من هدى النبي صلى الله عليه وسلم إذا انتهي من صلاته أن يمكث في مقامه بعض الوقت قبل أن يقوم، لتتمكن النساء من الانصراف قبل أن يختلط بهن الرجال، وفي هذا تقول " أم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها:- "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سلم قام النساء حين يقضى تسليمه، وهو يمكث في مقامه يسيرا قبل أن يقوم، قالت:- نرى- والله أعلم - أن ذلك كان لكي ينصرف النساء قبل أن يدركهن الرجال "(3)
<108>
(د) وفى المسجد أيضا خصص رسول الله صلى الله عليه وسلم للنساء بابا يدخلن منه ويخرجن بعيدا عن اختلاطهن بالرجال, وحرص الرجال من جانبهم على عدم الدخول من هذا الباب.
عن نافع عن بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: - "لو تركنا هذا الباب للنساء؛ قال نافع فلم يدخل منه بن عمر حتى مات "0(4)
(
__________
(1) ليس لكن أن تحققن الطريق:- أي ليس لكن أن تمشيين في وسطها
(2) أخرجه أبو داود (جـ2 - ص 713) كتاب الأدب - باب في مشي النساء مع الرجال في الطريق.
(3) أخرجه البخاري (جـ1 - ص157) كتاب الصلاة - باب صلاة النساء خلف الرجال0
(4) أخرجه أبو داود(ج1-ص124) كتاب الصلاة- باب اعتزال النساء المساجد عن الرجال0(1/74)
ج)ومع كل هذه الاحتياطات التى تحول دون اختلاط النساء بالرجال فى أطهر الأماكن وأشرفها أكدت السنة على أن صلاة المرأة فى بيتها أفضل, ووردت فى ذلك عدة أحاديث
(و)أخرج البخارى فى صحيحه أن أم المؤمنين عائشة رضى الله عنها كانت تطوف حرجة من الرجال, لا تخالطهم(1). أى معتزلة فى مكان بعيد عن الرجال لا تختلط فيه معهم.
(8)ومن خلال ما سقناه من أدلة ومواقف نجد أن الاختلاط يمنع فى أماكن الطاعة والعبادة, ففى غيرها من الأماكن أولى, من أجل أن نحافظ على العفة التى تتأثر - لا محالة-بجو الاختلاط الحر, وقد قال أحد الحكماء فى هذا:- "العفة حجاب يمزقه الاختلاط"(2)
<109>
وسمعت أحد الدعاة المعاصرين يتكلم عن هذه القضية، وهو الشيخ إبراهيم عزت رحمه الله، فكان مما قال:- "إن المرأة إذا خرجت إلى المجتمعات المختلطة عادت وعواطفها مستهلكة".
(9) ومن البدهي أننا لا نعني بهذا الكلام أن تظل المرأة حبيسة الجدران، بل لها أن تحرج لمالها إليه حاجة لا تستغني عنها إذا راعت في الخروج التستر والحشمة، والبعد عن الإغراء والفتنة، وابتعدت عن مخالطة الرجال على النحو الذي يخدش حياءها.
__________
(1) أخرجه البخارى (ج1-ص281)كتاب الحج- باب طوف النساء مع الرجال0
(2) المرأة فى التصور الإسلامى (ص142) عبد المتعال الجبرى- طبعة عاشرة سنة 1994- مكتبة وهبة 0(1/75)
ولعل فيما ورد في القرآن الكريم من قصة سيدنا موسى مع المرأتين في سورة القصص ما يوضح مثل هذه الأمور، وفيها يقول رب العزة:- (وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا)(1). ولا يتسع، المجال للتفصيل فيما تحويه القصة، ولكن الروح العامة التى يسيطر عليها هو ما نؤكده من ضرورة محافظة المرأة على سترها وحيائها، وأن تبتعد عن مزاحمة الرجال، فإذا دعت إلى
<110>
محادثة الرجال أو التعامل معهم ضرورة، فينبغي ألا تنسى أنها امرأة، وأنه قد يطمع فيها بعض ذوي النفوس الضعيفة، فلتحافظ على نفسها وعلى غيرها، وذلك حتى لا تحدث فتنة تتجرع مرارتها النساء قبل الرجال.
<111>
الفصل الرابع
العلم في حياة الصحابيات
ويشتمل على مبحثين
(1) الحرص على طلب العلم0
(2) توظيف العلم في خدمة الدعوة0
<112>
تمهيد
(1) لا يوجد دين أشاد بالعلم، ورفع من قدره وأعلى من منزلته مثل الدين الإسلامي.
__________
(1) سورة القصص - الآيات (23: 25).(1/76)
ويتضح ذلك - جليا- من خلال النصوص الكثيرة التي وردت في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ويكفي أن نشير في هذا المقام إلي أن كلمة (علم) وردت بتصريفاتها المختلفة في عدد من آيات القرآن الكريم يقترب من التسعمائة آية، في الوقت الذي وردت فيه عدة آيات تذم الجهل وتحذر منه، وكان النداء الأول الذي ربط الأرض بوحي السماء أمرا من الله بالقراءة (اقرأ باسم رَبِكَ الذِي خَلَقَ)(1)
وتلا هذا الأمر الإلهي آيات محدودات تسمو بقيمة العلم، وتشيد بالقلم.
وأول قسمَ كان في كتاب الله تعالى كان قَسَما بالقلم، وذلك في سورة تسمى باسمه، وهي سورة القلم . وإلى جانب ما ورد في القرآن الكريم بشأن العلم لا يخلو كتاب من كتب السنة في القديم أو الحديث إلا وهو يشتمل على جزء كبير منه يحوى أقوال النبي صلى الله عليه وسلم المشتملة على مسائل العلم وآدابه(2)
...
<113>
(2) من هنا فقد وردت نصوص كثيرة تحث المسلم على أن يستكثر من العلم، ويستزيد منه، فإذا تَحصل له شيء منه علمه لغيره، وأفاد الآخرين.
قال تعالى:- (وقل رب زِدني علما)(3)
وقال سبحانه وتعالى:- (وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ)(4)
__________
(1) سورة العلق - الآية (1) .
(2) لمزيد من الاطلاع على عناية الإسلام بالعلم يراجع كتاب (مفتاح دار السعادة) للإمام ابن القيم، ومقدمة كتاب (المجموع شرح المهذب) للإمام النووي، وكتاب (إحياء علوم الدين) للإمام أبي حامد الغزالي، وغير ذلك كثير.
(3) سورة طه الآية (114)
(4) سورة التوبة - الآية: (122)(1/77)
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:- "من خرج في طلب العلم كان في سبيل الله حتى يرجع"0(1)
وفي التعليل لكون طلب العلم لونا من ألوان الجهاد - بل هو في قمته - يقول الإمام ابن القيم:- "إنما جُعِلَ طلب العلم من سبيل الله لأن به قوام الإسلام كما أن قوامه بالجهاد، فقوام الدين بالعلم والجهاد، ولهذا كان الجهاد نوعين: جهاد باليد والسنان ، وهذا المشارك فيه كثير ، والثانى الجهاد بالحجة والبيان، وهذا جهاد الخاصة من أتباع ...
<114>
الرسل، وهو جهاد الأئمة، وهو أفضل الجهادين، لعظم منفعته، وشدة مئونته، وكثرة جهاد أعدائه . . . .)(2)
(3) والملاحظ في هذا المجال أن الإسلام جعل طلب العلم فريضة لازمة على كل منتسب إليه، رجلا كان أو امرأة حرا كان أو عبدا، ففي الحديث:- "طلب العلم فريضة على كل مسلم"(3)
ولئن كانت كلمة (مسلم) تعني كل من أقر بالإسلام - ذكراً كان أو أنثى - فإن ثمة روايات تذكر الآتي بالنص، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم :- "ثلاثة لهم أجران: رجل من أهل الكتاب، آمن بنبيه وآمن بمحمد صلى الله عليه وسلم والعبد المملوك إذا أدى حق الله وحق مواليه، ورجل كانت عنده أمة، فأدبها فأحسن تأديبها، وعلمها فأحسن تعليمها، ثم أعتقها فتزوجها، فله أجران "(4)
__________
(1) أخرجه الترمذي، وحسنه (جـ5 - ص 29) كتاب العلم- باب فضل طلب العلم.
(2) مفتاح دار السعادة (جـ1 - ص70) نشر مكتبة الفاروق الحديثة - بدون تاريخ
(3) أخرجه ابن ماجه (جـ1 - ص81) المقدمة - باب فضل العلماء والحث على طلب العلم، وقد روي هذا الحديث من عدة طرق تبلغ رتبة الحسن كما قال الشيخ جمال/ الدين المزي.
(4) أخرجه البخاري (جـ1 - ص 29) كتاب العلم - باب تعليم الرجل أمته وأهله .(1/78)
وبالتأمل في هذا الحديث نجد أن الإسلام قد بلغ في أمر تعليم النساء العلم مبلغا عظيما، وذلك حين تجاوز تعليم الحرائر إلى الحث على تعليم الإماء، وقرن أجر تعليمهن بأجر عتقهن والتزوج بهن، ولفت النظر بذكر الإماء إلى أهمية العناية بتعليم النساء بصفة عامة، ولذا ترجم الإمام البخاري لهذا الحديث حين أورده بقوله : باب تعليم الرجل أمته وأهله".
<115>
(4) وقد أثمرت هذه التوجيهات القرآنية والنبوية ثمرتها في مجتمع الصحابيات الجليلات رضوان الله عليهن، فالتف الجميع - رجالا ونساء - حول النبي صلى الله عليه وسلم يتعلمون منه، ويستفتونه في أمور دينهم ودنياهم.
وفيما يلي نتعرف على اهتمام الصحابيات بهذا الجانب المهم في الإسلام، وذلك في المبحثين التاليين:-
(أ) الحرص علي طلب العلم0
(ب) توظيف العلم في خدمة الدعوة0
<116>
المبحث الأول
الحرص على طلب العلم
(1) تتعدد المظاهر الدالة على اهتمام الصحابيات عامة بطلب العلم والحرص عليه، ويمكن إجمال هذه المظاهر فيما يلي:-
(1) ما ورد من كثرة الأسئلة التي وردت منهن لرسول صلى الله عليه وسلم، وبعض هذه الأسئلة يتعلق بأمور عامة، وبعضها يتعلق بأمور خاصة جدا، كسؤال إحداهن عن كيفية غسلها من المحيض، وسؤال الأخرى عن وجوب الغسل على المرأة إذا احتلمت . . . الخ وأمثال هذا في السنة كثير.
وقد أثنت السيدة عائشة رضوان الله عليها على الصحابيات من الأنصار، واللاتي لم يمنعهن حياؤهن من الفقه في دين الله، فقالت:- (نعم النساء نساء الأنصار، لم يمنعهن الحياء أن يتفقهن في الدين"(1).
(ب) ما ثبت من رغبة النساء في أن يحدد لهن رسول صلى الله عليه وسلم وقتا خاصا بهن، وذلك حين لاحظن استئثار الرجل بمعظم وقته صلى الله عليه وسلم.
<117>
__________
(1) أخرجه البخاري (ج1 - ص 37) كتاب العلم - باب الحياء في العلم، وأخرجه مسلم (جـ1 - ص 261) كتاب الحيض- باب استحباب استعمال المغتسلة من الحيض فرصة من مسك في موضع الدم(1/79)
فعن أبي سعيد الخدري رضيَ الله عنه قال:- "قالت النساء للنبي صلى الله عليه وسلم:- "غلبنا عليك الرجال، فاجعل لنا يوما من نفسك، فوعدهن يوما لقيهن فيه، فوعظهن وأمرهن؟ فكان فيما قال لهن:- ما منكن امرأة تقدم ثلاثة من ولدها إلا كان حجابا من النار، فقالت امرأة: واثنتين؟ فقال: واثنتين"(1)
(أ) ما ورد من أن الصحابية كانت تنتظر عودة زوجها أو وليها لتسأله: ماذا أنزل الله من الآيات في هذا اليوم، وماذا تعلمت من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
وقد مر بنا منذ صفحات قلائل ما ورد بشأن آيات الحجاب في سورة النور، وما ذكر من أن الرجال حين سمعوا الآيات رجعوا إلى ذويهم، فقرأوا عليهن ما أنزل الله تعالى من الآيات، فأصبحن خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم متلففات بأكسيتهن في صلاة الصبح ما يعرفهن أحد.
وهذه المظاهر تشترك فيها عامة الصحابيات دون استثناء واحدة منهن.
(2) وإلى جانب هذه المظاهر العامة التي تدل علي عناية الصحابيات بطلب العلم، توجد روايات تخص بعضهن بالذكر، ونختار منها ما يلي :-
(أ) ما ورد من كثرة مرويات عدد من الصحابيات عن رسول
<118>
الله صلى الله عليه وسلم لأحاديثه الشريفة، وعلى رأس هؤلاء أمهات المؤمنين رضوان الله عليهن، والسيدة أسماء بنت أبى بكر، وغيرهن كثير.
__________
(1) أخرجه البخاري (جـ1 - ص30) كتاب العلم - باب هل يجعل للنساء يوم على حدة في العلم؟.(1/80)
وقد خصص الإمام أحمد بن حنبل الجزء الأخير من مسنده لروايات النساء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبلغت سدس ما حواه المسند من الأحاديث، والتي يبلغ عددها قرابة أربعين ألف حديث، وبذلك تبلغ مرويات النساء ما يقارب سبعة آلاف حديث، وقد بلغت مرويات السيدة عائشة وحدها: عشرة ومائتان وألفان (2210) حديث؟ وتعد من المكثرين في الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم الذين زادت مروياتهم عن ألف حديث، ويليها في المرتبة الثانية السيدة أم سلمة رضي الله عنها، ولها من الأحاديث: ثمانية وسبعون وثلاثمائة (378).
(ب) ومن الأمثلة البارزة من النساء الصحابيات في مجال العلم بشتى صنوفه وألوانه أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - والتي شهد لها بهذا التفوق الكثير من مشاهير الصحابة ومن تلاهم.
وفيما يلي نتعرف على بعض ما قيل في غزارة علم السيدة عائشة رضي الله عنها:-
(1) فعن غزارة علمها بالنسبة لنساء عصرها يقول سمعان بن عيينة قال الزهرى: "لو جمع علم عائشة إلى علم جميع أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وجميع النساء كان علم عائشة رضي الله عنها أكثر".
(2) وعن علمها بالحديث روي عن أبي موسى الأشعري رضي الله
<119>
عنه قوله:- "ما أشكِلَ علينا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث قط، فسألنا عائشة عنه إلا وجدنا عندها منه علما"
(3) وعن علمها بالفرائض (أي المواريث) عن مسروق قال:- "نحلف بالله لقد رأينا الأكابر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألون عائشة عن الفرائض".
((1/81)
4) وعن علمها بالطب روى عن هشام بن عروة قال. كان عروة يقول لعائشة: يا أمتا لا أعجب من فقهك، أقول زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم وابنة أبي بكر، لكن أعجب من علمك بالطب - قال: فضربت على منكبه وقالت: أي عروة. إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسقم في آخر عمره، فكانت تقدم عليه وفود العرب من كل وجه فتنعت له الأنعات (أي تضع له الوصفات الطبية) فكنت أعالجها فمن ثم (أي كنت أقوم بعملها، فتعلمت الطب من ذلك).
(5) وعن علمها بالفقه قال عطاء بن أبي رباح:- "كانت عائشة أفقه الناس".
(6) وعن علمها بالشعر ورد عن عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه قال:- "ما رأيت أحدا أروى لشعر من عروة فقيل له: ما أرواك يا أبا عبد الله؟ قال: وما روايتي من رواية عائشة؟ ما كان ينزل بها شيء إلا أنشدت فيه شعرا".
وهكذا لم تدع أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بابا من أبواب العلم إلا وطرقته، ولم يكن ما تعلمه في كل مجال منها محدودا أو
<120>
قليلاً بل فاق غيرها بكثير، وها هو عروة بن الزبير ابن أختها أسماء بنت أبي بكر يقول عنها:- "لقد صحبت عائشة، فما رأيت أحدا قط كان أعلم بآية نزلت، ولا بفريضة، ولا بسنة، ولا بشعر، ولا أروى له، ولا بيوم من أيام العرب، ولا بنسب، ولا بكذا، ولا بكذا ولا بقضاء، ولا طب منها"(1).
(جـ) ولم تكن السيدة عائشة وحدها صاحبة السبق في مجال العلم - وإن تفوقت على من سواها - بل إن هناك من النساء من اشتهرن بالفتيا والحديث كثيرات أمثال: السيدة أم سلمة، والسيدة حفصة، والسيدة أسماء بنت أبي بكر، والسيدة أم سليم، والسيدة فاطمة بنت قيس، والسيدة أم أيمن، والسيدة زينب بنت أبي سلمة . . . إلخ".
__________
(1) راجع هذه الآثار في (الإصابة في تمييز الصحابة) لابن حجر، وراجع (صفة الصفوة) لابن الجوزي وغيرهما من الكتب التي ترجمت لأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها(1/82)
وهكذا نجد أن نساء الصحابة لم يقل اهتمامهن بالعلم عن الرجال، لأن الإمام لم يفرق في هذا بالعلم عن الرجال لأن الإسلام لم يفرق فى هذا الأمر بين ذكر وأنثى.
وقد استمر عطاء النساء في المجال العلمي على مدار الأجيال من غير انقطاع، وإنما اكتفينا بما يتعلق ببحثنا من ذكر الصحابيات رضوان الله عليهن.
والأمل معقود في نساء الأمة أن يسلكن طريق أمهات المؤمنين وصالحات خير القرون في الاهتمام بتعلم العلوم الشرعية، والدخول من هذا الباب إلى خدمة الإسلام في جميع المجالات، فإنه لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها.
<121>
المبحث الثاني
توظيف العلم فى خدمة الدعوة
(1) العلم فى الإسلام ليس مقصودا لذاته، فلن يسأل الله أحدا عن القدر الذي عَلِمَهُ، أو الكم الذي حصله، وإنما العبرة بالعمل والتطبيق.
يقول الإمام الشافعي رحمه الله:- "ليس العلم ما حفظَ، العلم ما نفع " (1)
ويقول سفيان بن عيينة رضي الله عنه:- "إن أنا عملت بما أعلم فأنا أعلم الناس، وإن لم أعلم بما أعمل فليس في الدنيا أحد أجهل مني"(2) وقد ذم الله تعالى في كتابه اليهود حين حملوا التوراة علما وأهملوها تطبيقا، وقال عنهم- وعمن يسير سيرتهم-: (مثل الذين حملوا التْوْرَاةَ ثم لم يَحملوها كَمَثَلِ الحمَار يحمل أَسفَارًا )(3)
<122>
(2) ومن هنا وجب على من يتصدى لطلب العلم أن يكون هدفه ومقصده مرضاة الله تبارك وتعالى، وهذا لن يكون إلا إذا استهدف الإنسان من وراء ذلك العمل وليس الشهرة أو تحقيق المنزلة الدنيوية.
وقد قيل في هذا:- "من خرج إلى العلم يريد العلم لم ينفعه العلم، ومن خرج إلى العلم يريد العمل به نفعه قليل العلم"(4)
__________
(1) الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع (جـ1 - ص90) الخطيب البغدادي .
(2) اقتضاء العلم العمل ص 37) الخطيب البغدادي.
(3) سورة الجمعة - الآية (5).
(4) المرجع السابق (ص 31).(1/83)
وقيل أيضا:- "ليس العالم من يعرف الحلال من الحرام، وإنما العالم من يعرف الحلال فيلتزمه، ويعرف الحرام فيجتنبه".
(3) وقد فهمت الصحابيات الجليلات رضوان الله عليهن هذا المعنى، فلم يسألن رسول الله صلى الله عليه وسلم تكثرا من العلم فقط، وإنما للوصول بهذا العلم إلى الجنة.
ويتضح ذلك من خلال الكثير مما سقناه من أمثلة، والتي كان يتضح فيها حرصهن على اكتساب الأجر وتحصيل الثواب.
ومما يدل على عمق هذا المفهوم لدى الصحابيات الجليلات ما ورد عن عطاء قال: "كان فتى يختلف إلى أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، فيسألها وتحدثه، فجاء ذات يوم يسألها فقالت: يا بني هل عملت بعد ما سمعت مني؟ فقال؟ لا والله يا أمة. ففالت: يا بني فبما(1)(2) تستكثر من حجج الله علينا وعليك؟(2) " ...
<123>
(4) وتحقق صلاح الإنسان في نفسه - على ضوء ما تعلمه من العلم - هو أول هدف من أهداف الدعوة الإسلامية، وهو دليل النجاح وطريق الفلاح إلى إصلاح الغير، فإن فاقد الشيء لا يعطيه.
ولذلك جمع الله تعالى بين الدعوة إليه والاستقامة على منهجه فقال:- (فَلذَلِكَ فَادع وَاستَقِم كَمَا أمرت)(3)
(5) لكن هذا الصلاح الذاتي لا يكفي، بل لابد وأن تضم إليه المرأة المسلمة جهودها في إصلاح غيرها ممن حولها، وهو ما أمرنا به ربنا، وما دعانا إليه نبيا دون أن يفرق في ذلك بين رجل وامرأة.
يقول الله تعالى:- (قلْ هذه سبيلي أَدعو إلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَة أَنَا وَمَنِ اتبَعني)(4)
ولم تقل الآية: أنا والرجال فقط، فيصبح هذا التكليف عاما للرجال والنساء على السواء.
__________
(1) هكذا في الأصل، ولعلها (فلم)
(2) نفس المرجع (ص 60).
(3) سورة الشورى- الآية (15).
(4) سورة يوسف - الآية (108)(1/84)
ويقول تعالى:- (وَالمؤمنونَ والمؤمناَت بَعضهم أَوليَاء بَعض يأمرونَ بالمَعروفِ وَيَنهونَ عَنِ المنكرَ وَيقيمونَ الصلاةَ وَيؤتَونَ الزًكَاةَ وَيطِيعونَ اللْهَ وَرَسوله أولئِكَ سَيرَحمهم اللًه إن اللْهَ عَزِيز حَكِيم) (1)
وقد نصت الآية الكريمة على وجوب الدعوة إلى الله على الرجال والنساء وبشكل واضح، وليس استنتاجا من النص. ...
<124>
وفي الحديث:- "بلغوا عني ولو آية"(2). وهو أمر يشمل الجميع دون تفريق.
(6) وإلى جانب هذه الأوامر العامة بالقيام بواجب الدعوة نجد أمرا خاصا للنساء، وذلك في قوله تعالى - (وَاذكرن مَا يتلى في بيوتكن من آيَاتِ اللْه وَالحِكمَةِ)(3)
فهذا التوجيه لنساء النبي صلى الله عليه وسلم ينسحب على كل امرأة مسلمة بعدهن، فتجتهد الواحدة في أن تكون داعية خير، ودلالة هدى، فإن الدال على الخير كفاعله.
(7) وبعد هذا التأصيل لبيان أهمية القيام بالدعوة في حياة المرأة المسلمة ندلف إلى الأمثلة والمواقف من حياة الصحابيات لنرى كيف حافظت نساء هذا الجيل على أن يصل نور الله إلى العالمين.
(1) من أدلة حب الصحابيات لدعوة الناس إلى الخير، ودلالتهم على الهدى ما سبقت الإشارة إليه من أن السيدة أم سليم رضي الله عنها حين خطبها أبو طلحة رغبت في إسلامه، وقالت له: ما مثلك يُرَد، ولكنك امرؤ مشرك، فإن أسلمت فذلك مهري . . . . إلخ".
ما أجمل أن تترسم الأخت المسلمة خطى هذه المرأة الصالحة في اغتنام الفرص، وذلك كحب الناس لها، أو حاجة الناس إليها لتأخذ بأيديهم إلى الطاعة، وتدلهم على الاستقامة.
<125>
(
__________
(1) سورة التوبة - الآية (71)
(2) أخرجه البخاري (جـ2 - ص 258) كتاب أحادث الأنبياء - باب ما ذكر عن بني إسرائيل
(3) سورة الأحزاب - الآية (34) .(1/85)
ب) إذا كانت الدعوة تستلزم التضحية، وتستوجب الصبر على تحمل المكاره، فإن الصحابيات - رضوان الله عليهن - أخذن بنصيب موفور من هذا الجانب، وقد سبقت الإشارة إلى أن أول شهيدة في الإسلام هي السيدة سمية بنت خياط، أم عمار بن ياسر رضي الله عنهم جميعا، وقد قتلها أبو جهل حين جهرت بالحق في وجهه، واستمسكت بدينها رغم التعذيب الذي نالها وزوجها وولدها.
ولا ننسى في مجال التضحية تحمل الصحابيات للأذى والتعذيب النفسي والجسدي بالحصار الظالم في شعب أبي طالب لثلاث سنوات متوالية، وهجرة بعضهن إلى الحبشة مرتين ثم إلى المدينة، فرارا بدينهن من الفتن.
ولننظر معا في هذا الموقف الذي يجمع بين حب المرأة المسلمة لدعوة غيرها إلى الإسلام، وتحملها الأذى في سبيل الله عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:- "وقع في قلب أم شريك الإسلام فأسلمت وهي بمكة، وكانت تحت أبي العسكر الدوسي، ثم جعلت تدخل على نساء قريش سرا، فتدعوهن وترغبهن في الإسلام، حتى ظهر أمرها لأهل مكة، فأخذوها وقالوا: لولا قومك لفعلنا بك وفعلنا، لكنا سنردك إليهم.
قالت: فحملوني على بعير ليس تحتي شيء، ثم تركوني ثلاثا لا يطعمونني، ولا يسقونني، وكانوا إذا نزلوا منزلا أوثقوني في الشمس واستظلوا هم منها، وحبسوني عن الطعام والشراب، فبينما هم قد
<126>
نزلوا منزلا وأوثقوني في الشمس إذا أنا ببرد شيء على صدري، فتناولته فإذا هو دلو من ماء، فشربت منه قليلا ثم نزع مني فرفع، ثم عاد فتناولته فشربت ثم رفع، ثم عاد فتناولته ثم رفع مرارا، ثم تركت فشربت حتى رويت، ثم أفضت سائره على جسدي وثيابى، فلما استيقظوا إذا هم بأثر الماء، ورأوني حسنة الهيئة، فقالوا لي: انحللت فأخذت سقاءنا فشربت منه؟ قلت: لا والله، ولكنه كان من الأمر كذا وكذا- قالوا: لئن كنت صادقة لدينك خير من ديننا، فلما نظروا إلى أسقيتهم وجدوها كما تركوها، فأسلموا عند ذلك "(1)
__________
(1) صفة الصفوة (جـ2 - ص53) ابن الجوزي.(1/86)
وهكذا تكون بركة الدعوة والتضحية في سبيلها.
(جـ) وإذا كانت الدعوة تستلزم لسانا عذبا يجيد عرض مبادئها، ويحسن دلالة الناس عليها، فإن من الأمثلة الرائدة من الصحابيات في هذا المجال أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، والتي تدل النصوص على امتلاكها لزمام البيان، وقدرتها على انتقاء أطيب الكلام.
عن الأحنف بن قيس قال:- "سمعت خطبة أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب؟ فما سمعت الكلام من في مخلوق أحسن ولا أفخم من في عائشة، رحمة الله عليهم أجمعين"(1)
وعن سفيان قال: سأل معاوية زيادا: أي الناس أبلغ قال: أنت يا
<127>
أمير المؤمنين؟ قال: أعزم عليك. قال. إذا عزمت على فعائشة. فأيده معاوية وصدقه، وقال "ما فتحت بابا قط تريد أن تغلقه إلا أغلقته، ولا أغلقت بابا قط تريد أن تفتحه إلا فتحته"(2).
فما أجمل - أختي المسلمة - أن تعيشي للإسلام، وتعتبري نفسك وقفا لله تعالى، فتجتهدي في إصلاح نفسك، وتعملي على إصلاح غيرك، وبذلك تنالين السعادة في الدارين، مع الذين أثنى الله عليهم في كتابه فقال:- (وَالذِينَ يمسكونَ بالكتاب وَأقَاموا الصْلاة إنْا لا نضِيع آْجْرَ المحسنِين)(3).
<128>
الخاتمة
وبعد:-
فهذا آخر ما يسره الله تبارك وتعالى لي من الكتابة حول (حياة الصحابيات) ولا شك أن في الإمكان توسعة الموضوع وإثرائه بصورة أكبر مما هي عليه، ولكن ضيق الوقت وكثرة الأسماء لم تسمح بأكثر من هذا.
وقد حاولت في هذه الدراسة أن أجمع بين التأصيل النظري والتطبيق الفعلى من حياة هؤلاء الصحابيات الجليلات، وهو ما أحسبه نافعا بإذن الله تعالى.
وأدعو الله عز وجل أن يقيل عثراتنا، وأن يغفر زلاتنا، وأن يرحم آباءنا وأمهاتنا ومشايخنا، وأن يبارك في زوجاتنا وأولادنا، وأن يتقبل منا أعمالنا، ويجعلها خالصة لوجهه الكريم.
__________
(1) نفس المرجع (جـ 2- ص36) .
(2) نفس المرجع والصفحة
(3) سورة الأعراف - الآية (17)(1/87)
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
المهندسين - جيزة
10 شوال سنة 1434 هـ الموافق 3/ 11/ 2003 م
المؤلف
أ. د/ طلعت محمد عفيفي سالم
عميد كلية الدعوة الإسلامية بالقاهرة
جامعة الأزهر
<129>
فهرس الموضوعات
المقدمة........................................................................................ 3
التمهيد....................................................................................... 9
الفصل الأول:- (العبادة في حياة الصحابيات)
ويشتمل على ثلاثة مباحث .........................................16
المبحث الأول:- ترك المعصية؟ والورع عن مواقعة الشبهات ..................................21
المبحث الثاني:- المحافظة على أداء الفرائض، والإكثار من النوافل. ........................... 26
المبحث الثالث:- الإكثار من ذكر الله تعالى ................................................. 43
الفصل الثاني:- (الجانب الاجتماعي في حياة الصحابيات)
ويشتمل على أربعة مباحث ................................................................. 48
المبحث الأول:- مع الزوج ................................................................. 49
المبحث الثاني:- مع الأولاد ................................................................. 67
المبحث الثالث:- مع الأخوات المسلمات.................................................... 78
المبحث الرابع:- في مواجهة أعداء الإسلام .................................................. 83
الفصل الثالث:- (العفة في حياة الصحابيات)
ويشتمل على مبحثين:- .................................................................... 90
المبحث الأول:- المحافظة على ارتداء الحجاب................................................ 95(1/88)
المبحث الثاني: البعد عن الاختلاط بالرجال................................................ 103
الفصل الرابع:- (العلم في حياة الصحابيات)
ويشتمل على مبحثين ..................................................................... 111
المبحث الأول:- (الحرص على طلب العلم).................................................116
المبحث الثاني:- (توظيف العلم في خدمة الدعوة)......................................... 121
الخاتمة..................................................................................... 128
الفهرس: ................................................................................. 129
وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب(1/89)