"""""" صفحة رقم 342 """"""
فهو لها ثم سيرها إلى أهلها بنجد . وكانت حاملا بيزيد فولدته بالبادية ، وأرضعته سنتين ثم أخذه معاوية رضي الله تعالى عنه منها بعد ذلك . والأرواح جمع ريح قال ذو الرمة :
إذا هبت الأرواح من نحو جانب . . . به أهل حبي هاج قلبي هبوبها
هوى تذرف العينان منه وإنما . . . هوى كل نفس حيث حل حبيبها
فقد أباع وأحسن ، فمن قال : هبت الأرياح فقد أخطأ ووهم ، والصواب هبت الأرواح ، كما قال ذو الرمة . وقد تقدم عن ميسون ، والعلة في ذلك أن أصل ريح روح ، لاشتقاقها من الروح . وروي هذا الخبر على غير هذا الوجه ، فأوردته لتحصل منه الفائدة . وهو : قيل : لما اتصلت ميسون بنت بحدل بمعاوية ، ونقلها من البدو إلى الشام ، كانت تكثر الحنين إلى أناسها ، والتذكر لمسقط رأسها فاستمع عليها معاوية ذات يوم ، وهي تنشد الأبيات المتقدمة ، فلما سمع معاوية الأبيات ، قال : ما رضيت ابنة بحدل حتى جعلتني علجاً عنوفاً ، هي طالق .
وحكى ابن خلكان وغيره ، في ترجمة الإمام أبي الحسن طاهر بن أحمد بن بابشاذ النحوي ، أنه كان يوماً على سطح جامع مصر يأكل شيئاً ، وعنده بعض أصحابه ، فحضرهم قط ، فرموا له لقمة ، فأخذها في فيه وغاب عنهم ، ثم عاد إليهم فرموا له لقمة ثانية ، فأخذها وذهب ثم عاد ، فرموا له شيئاً فأخذه وذهب ثم عاد ، ففعل ذلك مراراً كثيرة ، وهم يرمون له وهو يأخذ ويغيب ثم يعود من فوره ، فتعجبوا منه فتبعوه فإذا هو يأخذ ذلك الطعام ، ويدخل به إلى خربة ، فيها شبه البيت الخراب ، وفي سطح ذلك البيت قط أعمى ، فإذا هو يضع الطعام بين يديه ، فتعجبوا من ذلك . فقال الشيخ ابن بابشاذ : إذا كان هذا حيواناً أخرس ، قد سخر الله له هذا القط ، وهو يقوم بكفايته ولم يحرمه الرزق ، فكيف يضيع مثلي ؟ ثم قطع الشيخ علائقه ، وترك خدمة السلطان ولزم بيته وترك جميع أشغاله توكلا على الله تعالى ، إلى أن مات في شهر رجب سنة تسع وستين وأربعمائة . وبابشاذ كلمة أعجمية يتضمن معناها الفرح والسرور .
وحكمه : تقدم بعضه في باب السين المهملة ، في لفظ السنور ، وسيأتي إن شاء الله تعالى ، بعضه في باب الهاء ، في لفظ الهر .
وتعبيره : سيأتي إن شاء الله تعالى ، أيضاً في باب الهاء . القطا : طائر معروف ، واحده قطاط ، والجمع قطوات وقطيات ، وممن ذكر أن القطا من الحمام الرافعي في كتاب الحج والأطعمة ، ومن أهل اللغة ابن قتيبة ، وأنشد قول النابغة الذبياني :
واحكم كحكم فتاة الحي إذ نظرت . . . إلى حمام شراع وارد الثمد
قال الأصمعي : هذه زرقاء اليمامة نظرت إلى قطا . قال البطليوسي ، في الشرح : وليس في بيت النابغة دليل على أنه أراد بالحمام القطا ، وإنما علم ذلك بالخبر المروي عن زرقاء اليمامة ، أنها نظرت(2/342)
"""""" صفحة رقم 343 """"""
إلى قطا فقالت :
يا ليت ذا القطا لنا . . . ومثل نصفه معه
إلى قطاة أهلنا . . . إذا لنا قطا مائه
قال : وقوله واحكم كحكم فتاة الحي ، أي أصب في أمرك كإصابة فتاة الحي ، فهو من الحكم الذي يراد به الحكمة لا من الحكم الذي يراد به القضاء ، قال الله تعالى : " ولما بلغ أشده أتيناه حكماً وعلماً " أي حكمة . قال : وكان الأصمعي يروي شراع بالشين المعجمة ، يريد الذي شرع في الماء . وروى غيره سراع بالسين المهملة ، والثمد الماء القليل انتهى . وكانت عدة الحمام الذي رأته ستاً وستين فتمنت ، أن يكون لها هذا الحمام ، ومثل نصفه وهو ثلاثة وثلاثون ، ومجموع ذلك تسع وتسعون ، فإذا ضم إلى حمامتها كان مائة . وقد تقدمت الإشارة إلى ذلك ، في باب الحاء المهملة في الحمام . ويقال للقطاة : أم ثلاث ، لأنها أكثر ما تبيض ثلاث بيضات قال الشاعر :
وأم ثلاث إن شببن عققنها . . . وإن متن كان الصبر منها على نصب
يقول : إن شئت فراخها فارقتها ، فكان ذلك عقوقاً لها ، وإن متن لم تصبر إلا وهي حزينة قلقة . والنصب : التعب والبلاء ، ويقال للقطا والحمام وأنواعها أمهات الجوازل ، والجوازل فراخها الواحد جوزل قال ذو الرمة :
سوى ما أصاب الذئب منه وسربه . . . أطافت به من أمهات الجوازل
وقد تقدم قريب من هذا في باب الجيم . وسميت القطا بحكاية صوتها فإنها تقول ذلك ، ولذلك تصفها العرب بالصدق ، قال الكميت في وصفها :
لا تكذب القول إن قالت القطا صدقت . . . إذ كل في نسبة لا بد ينتحل
وأنشد أبو عمر بن عبد البر في التمهيد ، قول الشاعر . قال المبرد : وأظنه توبة بن الحمير :
كأن القلب حين يقال يغدى . . . بليلى العامرية أو يراح
قطاة غرها شرك فباتت . . . تجاذبه وقد علق الجناح
فلا في الليل نالت ما ترجى . . . ولا في الصبح كان لها براح
ثم قال : وقوله : غرها قد تصحف عليه ، فقال : غرها من الغرور ، وليس كذلك ، إنما هو عزها أي غلبها ، كما قالت العرب من عز بز ومن غلب سلب . وغلق الجناح بالغين المعجمة من قولهم : لا يغلق الرهن على راهنه وقد تصحف بالعين المهملة انتهى .(2/343)
"""""" صفحة رقم 344 """"""
نكتة : ذكر الحريري في الدرة ، أن ليلى الأخيلية ، وهي المذكورة في الشعر كانت تتكلم بلغة بهراء ، وذلك أنهم يكسرون حرف المضارعة ، فيقولون أنت تعلم ، وأنها استأذنت على عبد الملك بن مروان وبحضرته الشعبي ، فقال له : أتأذن لي يا أمير المؤمنين في أن أضحكك منها ؟ فقال : افعل . فلما استقر بها المجلس ، قال لها الشعبي : يا ليلى ما بال قومك لا يكتنون ؟ فقالت له : ويحك أما نكتني ؟ بكسر حرف المضارعة ، فقال لها : لا والله ، لو فعلت لاغتسلت فخجلت من ذلك ، واستغرق عبد الملك في الضحك . وفي غير رواية ابن هشام ، في أبيات هند بنت عتبة أم معاوية بن أبي سفيان رضي الله تعالى عنهم :
نحن بنات طارق . . . نمشي على النمارق
مشى القطا النواتق
كما ذكره الزبير بن بكار ، وقاله السهيلي في الروض الأنف ، والمراد بالطارق النجم تريد أن أبانا نجم في شرفه وعلوه ، قال الله تعالى : " والسماء والطارق " يعني النجم يطرق ليلا ويخفى نهاراً . قال الثعلبي : أنشد أبو القاسم الحسن بن محمد المفسر ، قال : أنشدني أبو الحسن الكازروني ، قال : أنشدني ابن الرومي :
يا راقد الليل مسروراً بأوله . . . إن الحوادث قد تطرقن أسحارا
لا تفرحن بليل طاب أوله . . . فرب آخر ليل أجج النارا ثم فسره تعالى بأنه النجم الثاقب أي المضيء . قال أبو زيد : كانت العرب تسمي الثريا النجم الثاقب ، وقيل : هو زحل سمي به لارتفاعه ، وروى ابن الجوزي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، قال : الطارق نجم في السماء السابعة ، لا يسكنها غيره من النجوم ، فإذا أخذت النجوم أمكنتها من السماء ، هبط وكان معها ، ثم رجع إلى مكانه من السماء السابعة ، وهو زحل فهو طارق حين ينزل ، وطارق حين يصعد ، والنواتق الكثيرات الأولاد ، كأنها ترمي بالأولاد رمياً والنتق الرمي والنفض والحركة ، والقطا نوعان : كدري وجرني ، وزاد الجوهري نوعاً ثالثاً وهو الغطاط ، فالكدري غبر اللون رقش البطون والظهور صفر الحلوق قصار الأذناب ، وهي ألطف من الجونية ، والجونية سود بطون الأجنحة والقوادم ، وظهرها أغبر أرقط تعلوه صفرة ، وهي أكبر من الكدري تعدل جونية بكدريتين ، وإنما سميت الجونية لأنها لا تفصح بصوتها إذا صوتت ، وإنما تغرغر بصوت في حلقها . والكدرية فصيحة تنادي باسمها . ولا تضع القطاة بيضها ، إلا أفراداً ، وفي طبعها أنها إذا أرادت الماء ارتفعت من أفاحيصها أسراباً لا متفرقة عند طلوع الفجر ، فتقطع إلى حين طلوع الشمس مسيرة سبع مراحل ، فحينئذ تقع على الماء ، فتشرب نهلا ، والنهل شرب الإبل والغنم أول مرة فإذا شربت ، أقامت حول الماء متشاغلة ، إلى مقدار ساعتين أو ثلاث ثم تعود إلى الماء ثانية ، وهذا يبعد ما حكاه الواحدي المفسر في شرحه لديوان أبي الطيب المتنبي في قوله :
وإذا المكارم والصوارم والقنا . . . وبنات أعوج كل شيء يجمع(2/344)
"""""" صفحة رقم 345 """"""
إن أعوج فحل كريم كان لبني هلال بن عامر ، وإنه قيل لصاحبه : ما رأيت من شدة عدوه ؟ فقال : ضللت في بادية وأنا راكبه ، فرأيت صب قطا يقصد الماء ، فتبعته وأنا أغض من لجامه ، حتى توافينا الماء دفعة واحدة . قلت : وهذا أغرب شيء يكون ، فإن القطا شديد الطيران ، وإذا قصدت الماء اشتد طيرانها أكثر ، ثم ما كفاه حتى قال : وأنا أغض من لجامه ، ولولا ذلك لكان سبق القطا .
وتوصف القطا بالهداية ، والعرب تضرب بها المثل في ذلك ، لأنها تبيض في القفر ، وتسقي أولادها من البعد في الليل والنهار ، فتجيء في الليلة المظلمة ، وفي حواصلها الماء ، فإذا صارت حيال أولادها ، صاحت : قطا قطا فلم تخط بلا علم ولا إشارة ولا شجرة ، فسبحان من هداها لذلك قال الشاعر :
والناس أهدى في القبيح من القطا . . . وأضل في الحسنى من الغربان
وقال أبو زياد الكلابي : إن القطا تطلب الماء من مسيرة عشرين ليلة ، وفوقها ودونها والجونية منها ، تخرج إلى الماء قبل الكدرية قال عنترة :
وأنت التي كلفتني دلج السرى . . . وجون القطا بالجلهتين جثوم
وقال الشاعر في وصفها :
أما القطاة فإني سوف أنعتها . . . نعتاً يوافق معنى بعض ما فيها
سكاء مخضوبة في ريشها طرف . . . سود قوادمها صهب خوافيها
وقال مزاحم العقيلي في القطاة وفرخها :
فلما دعته بالقطاة أجابها . . . بمثل الذي قالت له لم تبدل
وأنشد ياقوت في معجم البلدان لأبي العباس الصيمري :
كم مريض قد عاش من بعد يأس . . . بعد موت الطبيب والعواد
قد يصاد القطا فينجو سليماً . . . ويحل القضاء بالصياد
ذكر أنه كان بين أبي الفضل المعروف بابن القطا الشاعر المشهور بالبغدادي ، وبين الحيص بيص التميمي الشاعر مناظرات ، منها أنهما حضرا على سماط الوزير ، فأخذ أبو الفضل قطاة مشوية(2/345)
"""""" صفحة رقم 346 """"""
وقدمها إلى الحيص بيص ، فقال الحيص بيص للوزير : يا مولاي هذا الرجل يؤذيني ، قال : كيف ؟ قال : يشير إلى قول الشاعر :
تميم بطرق اللؤم أهدى من القطا . . . ولو سلكت سبل المكارم ضلت
أرى الليل يجلوه النهار ولا أرى . . . جلال المخازي عن تميم تجلت
ولو أن برغوثاً على ظهر قملة . . . يكر على صفي تميم لولت
ولأبي الفضل نوادر منها : أنه قعد يوماً يأكل مع زوجته طعاماً فقال لها : اكشفي رأسك . ففعلت ، فقرأ سورة الإخلاص ، فقالت : ما الخبر ؟ فقال : إذا كشفت المرأة رأسها لم تحضر الملائكة ، وإذا قرئت سورة الإخلاص هربت الشياطين ، وأنا أكره الزحمة على المائدة . فائدة : العرب تصف القطا بحسن المشي لتقارب خطاها ، ومشيها يشبه مشي النساء الخفرات بمشيتهن . ومن أحسن ما رأيت في ذلك قول هند بنت عتبة يوم أحد في غير رواية ابن هشام :
نحن بنات طارق . . . نمشي على النمارق
مشي القطا النواتق
إلى آخر الرجز كما رواه الزبير بن بكار كما سبق . قال السهيلي ، في الروض : يقال : إنهال تمثلت بهذا الرجز وإنه لهند بنت طارق بن فياض الأودية ، قالته في حرب الفرس لإياد ، فعلى هذا يكون إنشاده بنات طارق بالنصب على الاختصاص . كما قال :
نحن بني ضبة أصحاب الجمل .
وإن كانت أرادت النجم ، فبنات مرفوع لأنه خبر مبتدأ ، أي نحن شريفات رفيعات كالنجوم . قال : وهذا التأويل عندي بعيد لأن طارقاً وصف للنجم لطروقه ، فلو أرادته لقالت : نحن بنات الطارق . إلا أني رأيت الزبير بن بكار قال ، في كتاب أنساب قريش : حدثني يحيى بن عبد الملك الهرمزي ، قال : جلست ليلة وراء الضحاك بن عثمان الجذامي ، في مسجد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، وأنا متقنع ، فذكر الضحاك وأصحابه قول هند يوم أحد نحن بنات طارق ، ثم قالوا : ما طارق ؟ فقلت : النجم فالتفت الضحاك وقال : يا أبا زكريا كيف ذلك ؟ فقلت : قال الله تعالى : " والسماء والطارق ، وما أدراك ما الطارق ، النجم الثاقب " كأنها قالت : نحن بنات النجم ، فقال : أحسنت انتهى . ومرادها بالقطا النواتق الكثيرات الأولاد ، قال الجوهري : نتقت المرأة إذا كثر ولدها ، فهي ناتق ومنتاق . ومن هذا الحديث الذي رواه ابن ماجه أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " عليكم بالأبكار فإنهن أعذب أفواهاً ، وأنتق أرحاماً وأرضى باليسير " .(2/346)
"""""" صفحة رقم 347 """"""
وحكمها : حل الأكل بالإجماع ، وعد الرافعي والأصحاب ، في كتاب الحج ، القطا من الحمام فأوجبوا على المحرم إذا قتل الواحدة ، شاة وإن كان لا مثل لها من النعم . قال الشيخ محب الدين الطبري : وكذلك عدها من الحمام الجوهري والمشهور خلافه .
الأمثال : قالوا : أنسب من قطاة . وهو من النسبة ، وذلك أنها إذا صوتت فإنها تنتسب ، لأنها تصوت باسم نفسها فتقول : قطا قطا . وقالوا : أصدق من القطاة وأقصر من إبهام القطاة . وقالوا : لو ترك القطا ليلا لنام . وسببه أن عمرو بن امامة نزل على قوم عن مراد فطرقوه ليلا فأثاروا القطا من أماكنها فرأتها امرأة طائرة ، فنبهت زوجها فقال : إنما هذه القطا ، فقالت : لو ترك القطا ليلا لنام . يضرب لمن حمل على مكروه من غير إرادته . وقيل : قالته امرأة يقال لها حذام لما رأت القطا طار ليلا قالت :
ألا يا قومنا ارتحلوا وسيروا . . . فلو ترك القطا ليلا لنام
فلم يلتفتوا إلى قولها وأخلدوا إلى مضاجعهم . فقام فيهم رجل وقال :
إذا قالت حذام فصدقوها . . . فإن القول ما قالت حذام
فنفر القوم وارتحلوا والتجؤوا إلى واد قريب منهم ، فاعتصموا به حتى أصبحوا وامتنعوا من عدوهم . يضرب هذا البيت لمن ظهر منه الصدق . وحذام مبني على الكسر مثل أمس . وقالوا : بيض القطا يحضنه الأجدل وقد تقدم . وقالوا : ليس قطا مثل قطى ، أي ليس الأكابر مثل الأصاغر .
الخواص : إذا أحرقت عظام القطا ، وأخذ من رمادها وأغلي بالزيت الحار ، وطلي به رأس الأقرع وموضع داء الثعلب أنبت الشعر . وقال ابن زهر : إنه جربه . ولحمها عسر الهضم رديء الغذاء ، وإذا أخذ رأسها ويبس وصرفي خرقة كتان جديدة ، وعلق على فخذ امرأة وهي نائمة أخبرت بجميع ما في نفسها ، وبما فعلته فإن خلطت في الكلام فارم به عنها ، لئلا تتوسوس ، وإذا شق بطن قطاتين ذكر وأنثى وطبخ بطنهما وأخذ دسمهما وجعل في قارورة ودهن به إنسان ، وهو لا يعلم أحب الداهن حباً شديداً . خاتمة : روى ابن حبان وغيره من حديث أبي ذر رضي الله تعالى عنه ، وابن ماجه من حديث جابر رضي الله تعالى عنه ، أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " من بنى لله مسجداً ولو كمفحص قطاة ، بنى الله تعالى له في الجنة بيتاً " . وفي صحيح مسلم أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " من بنى لله مسجداً ، بنى الله له بيتاً في الجنة مثله " . مفحص القطاة بفتح الميم موضعها الذي تجثم فيه ، وتبيض كأنها تفحص عنه الزاب ، أي تكشفه ، والفحص البحث والكشف ، وخصصت القطاة(2/347)
"""""" صفحة رقم 348 """"""
بهذا لأنها لا تبيض في شجر ولا على رأس جبل ، إنما تجعل مجثمها على بسيط الأرض دون سائر الطيور ، فلذلك شبه به المسجد ، ولأنها توصف بالصدق كما تقدم . فكأنه أشار بذلك إلى الإخلاص في بنائه ، كما قال سيدي الشيخ ، العارف بالله تعالى ، أبو الحسن الشاذلي رحمه الله تعالى : خالص العبودية الاندماج في طي الأحكام من غير شهوة ولا إرادة ، وهذا شأن هذا الطائر . وقيل : إنما شبه بذلك لأن أفحوصها يشبه محراب المسجد في استدارته وتكوينه ، وقيل : خرج ذلك مخرج الترغيب بالقليل عن الكثير ، كما خرج التحذير بالقليل عن الكثير قوله ( صلى الله عليه وسلم ) : " لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده ، ويسرق الحبل فتقطع يده " . ولأن الشارع يضرب المثل في الشيء بما لا يكاد يقع كقوله ( صلى الله عليه وسلم ) : " ولو سرقت فاطمة بنت محمد " . وهي رضوان الله عليها لا يتوهم منها سرقة . وكقوله ( صلى الله عليه وسلم ) : " اسمعوا وأطيعوا ولو عبداً حبشياً " . يعني فأطيعوه ، وقد ثبت عنه ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال : " الأئمة من قريش " . وقيل : المراد طاعة من ولاه الإمام عليكم وإن كان عبداً حبشياً .
التعبير : القطا في المنام يدل على الصدق والفصاحة والألفة والأنس ، وربما دلت القطاة على امرأة معجبة بنفسها ، وهي ذات جمال غير الفة والله تعالى أعلم .
القطا : بتشديد الطاء ، قال القزويني : سمكة عظيمة ذكروا أن عظم ضلعها يتخذ منه قنطرة يعبر الناس عليها وشحمه إذا طلي به البرص يزول .
القطامي : الصقر تضم قافه وتفتح وهو من أعظم الطيور التي يصاد بها وهو عزيز الوجود . قطرب : طائر يجول الليل كله لا ينام ، وقالوا : أجول من قطرب وأسهر من قطرب . وقطرب لقب محمد بن المستنير النحوي صاحب المثلث وغيره ، كان من أهل العربية ، وكان حريصاً على الاشتغال والتعلم ، فكان يبكر إلى سيبويه قبل حضور أحد من التلامذة ، فقال له يوماً : ما أنت إلا قطرب ليل فبقي عليه هذا اللقب . توفي سنة ست ومائتين .
والقطرب والقطروب ، قال ابن سيده : إنه الذكر من السعالي ، وقيل : هما صغار الجن ، وقيل : القطارب صغار الكلاب واحدها قطرب ، والقطرب دويبة لا تستريح نهارها سعياً . وقال الإمام محمد بن ظفر : القطرب حيوان يكون بالصعيد من أرض مصر ، يظهر للمنفرد من الناس ، فربما صده عن نفسه إذا كان شجاعاً ، وإلا لم ينته حتى ينكحه ، فإذا نكحه هلك . وهم إذا رأوا من ظهر له القطرب قالوا : أمنكوح أم مروع ؟ فإن قال : منكوح أيسوا من حياته ، وإن قال : مروع عالجوه . قال : وقد رأيت أهل مصر يلهجون بذكره انتهى .
والقطرب الفأر والذئب الأمعط والسفيه ونوع من الماليخوليا وفي الحديث " لا يلقين أحدكم جيفة ليل قطرب نهار " . وهذا من كلام ابن مسعود رضي الله تعالى عنه . رواه عنه آدم بن أبي(2/348)
"""""" صفحة رقم 349 """"""
إياس العسقلاني في كتاب الثواب ، موقوفاً عليه . وقيل : مرفوعاً وقالوا في معناه : إن القطرب لا يستريح في النهار ، والمراد لا ينامن أحدكم الليل كله كأنه جيفة ، ثم يكون بالنهار كأنه قطرب ، لكثرة جولانه وطوفانه في أمر دنياه ، فإذا أمسى ، كان كالا تعباً ، فينام ليله كله حتى يصبح كالجيفة لا يتحرك .
القشعبان : كمهرجان دويبة كالخنفساء قاله في العباب .
القعود : من الإبل ما اتخذه الراعي للركوب وحمل الزاد ، والجمع أقعدة وقعد وقعدان وقعائد ، وقيل : القعود القلوص ، وقيل البكر قبل أن يثني ثم هو جمل والقعود الفصيل .
القعيد : بفتح القاف الجراد الذي لم يستو جناحاه ، والقعيد من الوحش الذي يأتيك من ورائك وهو خلاف النطيح .
القعقع : كفلفل طائر أبلق ضخم من طير الماء طويل المنقار قاله الجوهري رحمه الله تعالى .
زاد ابن سيده : وفيه بياض وسواد .
القلو : بالكسر الحمار الخفيف في السير .
القلقاني : طائر كالفاختة . قاله الجوهري وغيره . القلوص : من النوق الشابة ، وهي بمنزلة الجارية من النساء ، وجمعها قلص وقلائص مثل قدوم وقدائم قال الراجز :
متى تقول القلص الرواسما . . . يحملن أم قاسم وقاسما
نصب القلص كما ينصب بالظن وهي لغة سليم ومنه قول عمر بن أبي ربيعة :
أما الرحيل فدون بعد غد . . . فمتى تقول الدار تجمعنا
وقال العدوي : القلوص أول ما يركب من إناث الإبل إلى أن تثني ، فإذا أثنت فهي ناقة وقد تقدم في باب العين المهملة في الكلام على العير قول سالم بن دارة :
لا تأمنن فزاريا خلوت به . . . على قلوصك واكتبها بأسيار
روى ابن المبارك ، في الزهد والرقائق ، عن القاسم مولى معاوية ، قال : أقبل أعرابي إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) على قلوص له صعب ، فسلم فجعل كلما دنا إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ليسأله : نفر به القلوص ، وجعل أصحاب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يضحكون ، ففعل ذلك ثلاث مرات ، ثم وقصه فقتله . فقيل : يا رسول الله(2/349)
"""""" صفحة رقم 350 """"""
إن الأعرابي قتله قلوصه ، حين صرعه . فقال ( صلى الله عليه وسلم ) : " نعم وأفواهكم ملأى من دمه " . كذا رواه ابن المبارك مرسلا ، وهو في الإحياء في الآفة العاشرة من آفات اللسان .
وفي سنن أبي داوود عن إسحاق بن عبد الله بن الحارث مرسلا ، أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) " اشترى ببضعة وعشرين قلوصاً حلة فأهداها إلى ذي يزن " .
وفي كامل ابن عدي ، في ترجمة عمارة بن زادان الصيدلاني ، عن ثابت عن أنس بن مالك أن ذا يزن أهدى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) حلة ، قومت بعشرين بعيراً ، فلبسها ( صلى الله عليه وسلم ) ثم كساها عمر رضي الله تعالى عنه ، ثم قال : " إياك أن تخدع عنها " . وروى الحاكم عن أبي الزبير عن جابر ، قال : " استأجرت خلية رضي الله تعالى عنها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) سفرتين إلى جرش ، كل سفرة بقلوص " . ثم قال : صحيح الإسناد .
والمعروف من ذلك ما في طبقات ابن سعد . قال : لما بلغ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) خمساً وعشرين سنة ، قال له أبو طالب : أنا رجل لا مال لي ، وقد اشتد علينا الزمان ، وهذه عير قومك قد حضر خروجها إلى الشام ، وخلية بنت خوليد تبعث رجالا من قومك في عيرها ، فلو جئتها فعرضت نفسك عليها ، لأسرعت إليك . وبلغ ذلك خديجة ، فأرسلت إليه ( صلى الله عليه وسلم ) وقالت : أنا أعطيك ضعف ما أعطي رجلا من قومك . وفي رواية أن أبا طالب أتاها ، فقال لها : هل لك أن تستأجري محمداً ، فقد بلغنا أنك استأجرت فلاناً ببكرين ، ولسنا نرضى لمحمد دون أربع بكرات . فقالت خديجة رضي الله عنها : لو سألت ذلك لبعيد بغيض فعلنا ، فكيف وقد سألت لحبيب قريب فقال أبو طالب : هذا رزق ساقه الله إليك .
فخرج ( صلى الله عليه وسلم ) مع غلامها ميسرة ، وجعل عمومته يوصون به أهل العير حتى قدموا بصرى من الشام ، فنزلا في ظل شجرة فقال نسطور الراهب : ما نزل تحت هذه الشجرة قط إلا نبي . قال السهيلي : يريد ما نزل تحتها هذه الساعة إلا نبي ، ولم يرد ما نزل تحتها قط إلا نبي ، لبعد العهد بالأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين قبل ذلك . والشجرة لا تعمر في العادة هذا العمر الطويل إلا أن تصح رواية من قال في هذا الحديث : لم ينزل تحتها أحد بعد عيسى ابن مريم عليهما الصلاة والسلام . فتكون الشجرة على هذا مخصوصة بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام . وذكر أبو عمر بن عبد البر أن نسطوراً رآه ، وقد أظلته غمامة ، فقال : هذا نبي ، وهو آخر الأنبياء . ثم باع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) سلعته ، فوقع بينه وبين رجل تلاح ، فقال : احلف باللات والعزى ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : " ما حلفت بها قط وإني لأمر بهما فأعرض عنهما " . فقال الرجل : القول قولك . وكان ميسرة ، إذا كانت الهاجرة واشتد الحر ، يرى ملكين يظلان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من الشمس وكان الله تعالى قد ألقى عليه المحبة من ميسرة رضي الله عنه ، فكان كأنه عبد له ، وباعوا تجارتهم وربحوا ضعف ما كانوا يربحون ، فلما رجعوا وكانوا بمر الظهران تقدم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، وأخبر خديجة رضي الله تعالى عنها بالربح ، ثم قدم ميسرة رضي الله عنه فأخبرها(2/350)
"""""" صفحة رقم 351 """"""
بذلك ، وبما شاهده من رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، وبما قاله الراهب . فأضعفت لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ما سمت له . وقد تقدم للقلوص ذكر في لفظ الفلو في قوله ( صلى الله عليه وسلم ) : " إن الله يربي الصدقة للمتصدق كما يربي أحدكم فلوه أو قلوصه " . والقلوص أيضاً الأنثى من النعام .
القليب : كالسكين ، الذئب وكذلك القلوب كالخنوص قال الشاعر :
أيا أمنا أبكى على أم واهب . . . أكيلة قلوب بإحدى المذانب
القمري : طائر مشهور ، كنيته أبو زكرى وأبو طلحة ، وهو حسن الصوت والأنثى قمرية والذكر ساق حر ، والجمع قماري غير مصروف . قال ابن السمعاني في الأنساب : القمرة بلدة تشبه الجص لبياضها وأظنها بمصر ، منها الحجاج بن سليمان بن أفلح القمري مصري روى عن مالك بن أنس والليث بن سعد وغيرهما ، مات فجأة سنة ثمان وتسعين ومائة .
وروى عنه محمد بن سلمة المرادي وغيره . قال : والقمري طائر منسوب إلى هذه البلدة . هكذا ذكره صاحب المجمل . وقال ابن سيده : القمري طائر صغير من الحمام والأنثى قمرية وجمعها قماري وقمر . انتهى .
وكان عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضى الله تعالى عنهما ، لما طلق زوجته عاتكة بنت سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل ينشد :
أعاتك لا أنساك ما ذر شارق . . . وما ناح قمري الحمام المطوق
ولم أر مثلي طلق اليوم مثلها . . . ولا مثلها من غير جرم يطلق
أعاتك قلبي كل يوم وليلة . . . إليك بما تخفي النفوس معلق
لها خلق جزل ورأي ومنصب . . . وخلق سوي في الحياة ومنطق
فرق له أبوه وأمره أن يراجعها . والقصة في ذلك حسنة طويلة جداً ، مذكورة في الاستيعاب والتمهيد وغيرهما .
وقال القزويني : إذا ماتت ذكور القماري لم تتزاوج إناثها بعدها ، وتنوح عليها إلى أن تموت ، ومن العجب أن بيض القماري يجعل تحت الفواخت ، وبيض الفواخت تحت القماري . وذكر أن الهوام تهرب من صوت القماري . روى أبو المظفر بن السمعاني عن والده ، قال : أنشدنا سعيد بن المبارك النحوي لنفسه :
أرى الفضل مناح التأخر أهله . . . وجهل الفتى يسعى له في التقدم
كذاك أرى الخفاش ينجيه قبحه . . . ويحتبس القمري حسن الترنم
فائدة : كان الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه جالساً بين يدي الإمام مالك بن أنس(2/351)
"""""" صفحة رقم 352 """"""
رضي الله تعالى عنه ، فجاء رجل فقال لمالك : إني رجل أبيع القماري ، وإني بعت في يومي هذا قمرياً فرده علي المشتري ، وقال : قمريك لا يصيح ، فحلفت له بالطلاق أنه لا يهدأ من الصياح ، فقال له الإمام مالك : طلقت زوجتك ولا سبيل لك عليها وكان الإمام الشافعي يومئذ ابن أربع عشرة سنة ، فقال لذلك الرجل : أيما أكثر : صياح قمريك أم سكوته ؟ فقال : لا بل صياحه ، فقال : لا طلاق عليك . فعلم بذلك الإمام مالك ، فقال : يا غلام من أين لك هذا ؟ فقال : لأنك حدثتني عن الزهري ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ، عن أم سلمة أن فاطمة بنت قيس قالت : يا رسول الله إن أبا جهم ومعاوية خطباني ، فقال ( صلى الله عليه وسلم ) : " أما معاوية فصعلوك لا مال له وأما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه " . وقد علم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أن أبا جهم كان يأكل وينام ويستريح ، وقد قال ( صلى الله عليه وسلم ) : " لا يضع عصاه " على المجاز ، والعرب تجعل أغلب الفعلين كمداومته ، ولما كان صياح قمري هذا أكثر من سكوته ، جعلته كصياحه دائماً . فتعجب الإمام رضي الله تعالى عنه من احتجاجه ، وقال له : أفت فقد آن لك أن تفتي فأفتى من ذلك السن . غريبة : ذكر ابن خلكان وابن الأثير ، في تاريخهما ، أن بعض الملوك بقلاع الهند ، أهدى للسلطان محمود بن سبكتكين هدايا كثيرة من جملتها طائر على هيئة القمري ، من خاصيته أنه إذا حضر الطعام وفيه سم دمعت عيناه وجرى منهما ماء وتحجر ، فإذا حك ووضع على الجراحات الواسعة يختمها . ذكر ذلك ابن الأثير في حوادث سنة أربع وعشرين وأربعمائة ، وذكره ابن خلكان ، في ترجمة السلطان المذكور . ثم ذكر ابن خلكان في ترجمته ، عن إمام الحرمين عبد الملك بن الشيخ أبي محمد عبد الله الجويني ، أن السلطان المذكور كان حنفي المذهب ، وكان مولعاً بعلم الحديث ، وكان يسمع عنده الحديث ، وكان يسأل عن معناه ، فيجد أكثره موافقاً لمذهب الإمام الشافعي رحمه الله تعالى ، فجمع فقهاء المذهبين ، والتمس منهما الكلام في ترجيح أحد المذهبين ، فوقع الاتفاق على أن يصلى بين يديه ركعتين على مذهب الإمام الشافعي ، ثم على مذهب الإمام أبي حنيفة ركعتان ، فنيظر السلطان إلى ذلك ، ويختار الأحسن .
فصلى القفال المروزي بطهارة سابغة ، وشرائط معتبرة من الطهارة ، والسترة ، واستقبال القبلة ، وأتى بالأركان والهيآت ، والسنن والأبعاض والآداب ، على وجه الكمال ، وكانت صلاة لا يجوز الشافعي دونها .
ثم صلى ركعتين على ما يجوز أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه ، فلبس جلد كلب كان مدبوغاً ، ولطخ بعضه بالنجاسة ، وتوضأ بنبيذ التمر ، وكان ذلك في صميم الصيف ، فاجتمع عليه الذباب والبعوض وكان وضوؤه منكساً منعكساً ، ثم استقبل القبلة ، وأحرم بالصلاة من غير نية في(2/352)
"""""" صفحة رقم 353 """"""
الوضوء ، وكبر بالفارسية ، ثم قرأ بها دو برك سبز ثم نقر كنقرات الديك ، من غير فصل بينها ، ومن غير طمأنينة ، وتشهد وضرط في آخرهما ، وخرج من غير نية السلام ، وقال : أيها السلطان هذه صلاة أبي حنيفة فقال السلطان : لو لم تكن هذه صلاة أبي حنيفة لقتلتك ، لأن مثل هذه الصلاة لا يجوزها ذو دين ، فأنكرت الحنفية أن تكون هذه الصلاة جائزة عند أبي حنيفة ، فطلب القفال كتب أبي حنيفة ، فأمر السلطان بإحضارها ، وأمر نصرانياً أن يقرأ كتب المذهبين جميعاً ، فوجدت الصلاة التي صلاها القفال جائزة عند أبي حنيفة ، فأعرض السلطان عن مذهب أبي حنيفة ، وتمسك بمذهب الشافعي رضي الله عنهما . وتوفي السلطان بغزنة سنة اثنتين وعشرين وأربعمائة . وتفسير دو برك سبز ورقتان خضراوتان ، وهو معنى قوله تعالى : " مدهامتان " قلت : وقد ذكر أنه أتى بالسنن والأبعاض والآداب والهيآت ، فقوله : لا يجوز الشافعي دونها غير مستقيم ، والمشهور أنه أتى بما لا تصح الصلاة إلا به .
وحكمه : حل الأكل بالإجماع ، كالحمام لأنه نوع منه كما تقدم .
التعبير : القمرية في المنام امرأة دينة ، وقيل : القمري رجل قارئ لقصائد الشعر طيب الحنجرة . وقالت اليهود : من رأى قمرياً أو بلبلا ، أو ما أشبه ذلك ، نال خيراً ، وإن كان له مسافر قدم عليه ، وإن كان في غم فرج الله تعالى عنه ، وإن كانت له حاجة بعيدة قربت ، ومن رأى هذه الأشياء ، في زمن الربيع ، قضيت حاجته ، وإن رآها في غير زمن الربيع تأخرت حاجته إلى زمن الربيع . وتدل رؤيتها للحامل ، على وضع ذكر . والله تعالى أعلم .
القمعة : بالتحريك ذباب يركب الإبل والظباء إذا اشتد الحر ، يقال : الحمار يقمع أي يحرك رأسه . وقال الجاحظ : هو ضرب من ذباب الكلاب ، قال في الكفاية : القمع ذباب أزرق عظيم .
القمعوط والقمعوطة : دويبة حكاه ابن سيده . القمل : معروف واحدته قملة . ويقال لها أيضاً قمال . قاله ابن سيده ، والقمل جمع قملة ، وقد قمل رأسه قملا ، وكنية القملة أم عقبة ، وأم طلحة ويقال للذكر أبو عقبة ، والجمع بنات عقبة وبنات الدروز والدروز الخياطة ، سميت بذلك لملازمتها إياها . وقملة الزرع دويبة تطير كالجراد في خلقة الحلم ، وجمعها قمل ، قاله الجوهري . والقمل المعروف يتولد من العرق والوسخ إذا أصاب ثوباً أو بدناً أو ريشاً أو شعراً ، حتى يصير المكان عفناً ، وقال الجاحظ : ربما كان الإنسان قمل الطباع ، وإن تنظف وتعطر وبدل الثياب ، كما عرض لعبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه والزبير بن العوام رضي الله تعالى عنه ، حتى استأذنا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في لبس الحرير ، " فأذن لهما فيه " ولولا أنهما كانا في حد الضرورة ، لما أذن لهما فيه ، مع ما قد جاء في ذلك من التشديد . فلما كان في خلافة عمر رضي الله تعالى عنه رأى على بعض بني المغيرة من أخواله قميص حرير ، فعلاه بالدرة فقال المغيري : أو ليس عبد الرحمن بن عوف لبس الحرير ؟ قال عمر رضي الله تعالى عنه : وأنت مثل عبد الرحمن بن عوف لا أم لك ؟(2/353)
"""""" صفحة رقم 354 """"""
قال : ومن طبع القمل أنه يكون في شعر الرأس الأحمر أحمر ؟ رفي الشعر الأسود أسود ، وفي الشعر الأبيض أبيض ، ومتى تغير الشعر تغير إلى لونه . قال : وهو من الحيران الذي إناثه أكبر من ذكوره ، وقيل : إن ذكوره الصيبان ، وقيل : الصيبان بيضه ، كما تقدم في باب الصاد المهملة .
روى الحاكم ، في أوائل المستدرك ، من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه ، أنه قال : يا رسول الله من أشد الناس بلاء ؟ قال ( صلى الله عليه وسلم ) : " الأنبياء " . قال : ثم من ؟ قال عليه الصلاة والسلام : " العلماء " . قال : ثم من ؟ قال عليه الصلاة والسلام : " الصالحون كان أحدهم يبتلى بالقمل حتى يقتله ، ويبتلى أحدهم بالفقر حتى لا يجد إلا العباءة يلبسها ، ولأحدهم كان أشد فرحاً بالبلاء من أحدكم بالعطاء " . ثم قال : صحيح الإسناد على شرط مسلم .
والقمل يسرع إلى الدجاج والحمام ويعرض للقردة . وأما قملة النسر ، فهي التي تكون في بلاد الجبل ، وتسمى بالفارسية دره ، وهي إذا عضت قتلت ، وهي أعظم من القمل ، وإنما سميت قملة النسر لأنها تخرج منه .
فائدة : اختلف العلماء في القمل المرسل على بني إسرائيل ، فقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : هو السوس الذي يخرج من الحنطة . وقال مجاهد والسدي والكلبي رضي الله تعالى عنهم : هو الجراد الطيار الذي له أجنحة . وقيل : الدبا ، وهو الجراد الصغار الذي لا أجنحة له . وقال عكرمة رضي الله تعالى عنه : بنات الجراد ، وقال أبو عبيد : هو الحمنان ، وهو ضرب من القراد . وقال أبو زيد : البراغيث . وقال الحسن وسعيد بن جبير : دواب سود صغار . وقال عطاء الخراساني رضي الله تعالى عنه : هو القمل المعروف بإسكان الميم .
روي أن موسى عليه الصلاة والسلام ، مشى بعصاه إلى كثيب أعفر مهيل بقرية من قرى مصر تدعى عين شمس ، فضربه بعصاه ، فانتشر كله قملا في مصر ، فتتبع ما بقي من حروثهم وأشجارهم ونباتهم ، فأكله ولحس الأرض ، وكان يدخل بين ثوب أحدهم وجلده فيعضه ، وكان أحدهم يأكل الطعام ، فيمتلئ قملا ، فلم يصابوا ببلاء كان أشد عليهم من ذلك القمل ، فإنه أخذ بشعورهم وأبشارهم ، وأشفار عيونهم وحواجبهم ، ولزم عيونهم وجلودهم ، كأنه الجدري فمنعهم النوم والقرار فصرخوا وصاحوا إلى موسى عليه السلام : إنا نتوب فادع لنا ربك يكشف عنا هذا البلاء ، فدعا لهم موسى عليه السلام ، فرفع الله القمل عنهم بعدما أقام عليهم سبعة أيام ، من السبت إلى السبت . والقمل هو أحد الآيات الخمس ، قال الله تعالى : " فأرسلنا الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات يتبع بعضها بعضاً " وتفصيلها أن كل عذاب يمتد أسبوعاً ، وبين كل عذابين شهر . قال ابن عباس وسعيد بن جبير وقتادة ومحمد بن إسحاق رضي الله تعالى عنهم ، في تفسير هذه الآية : لما آمنت السحرة ، ورجع فرعون مغلوباً ، أبى هو وقومه إلا الإقامة على الكفر والتمادي في الشر ، فتابع الله عليهم الآيات وأخذهم بالسنين ونقص من الثمرات .(2/354)
"""""" صفحة رقم 355 """"""
فلما أتاهم موسى بالآيات الأربع : اليد والعصا والسنين ونقص الثمرات ، أبوا أن يؤمنوا وأصروا على كفرهم . فدعا عليهم موسى عليه الصلاة والسلام فقال : رب إن عبدك فرعون علا في الأرض وبغا وعتا ، وإن قومه قد نقضوا عهدك ، رب فخذهم بعقوبة تجعلها لهم ولقومي عظة ، ولمن بعدهم آية وعبرة ، فبعث الله عليهم الطوفان ، وهو الماء أرسل الله عليهم السماء ، وكانت بيوت بني إسرائيل وبيوت القبط مشتبكة ومختلطة ، فامتلأت بيوت القبط ، حتى قاموا في الماء إلى تراقيهم ، من جلس منهم غرق ، ولم يدخل بيوت بني إسرائيل من الماء قطرة . وركد الماء على أراضيهم ، لا يقدرون على حرث ولا غيره من الأعمال أسبوعاً من السبت إلى السبت ، وقال مجاهد وعطاء رضي الله تعالى عنهما : الطوفان الموت . وقال وهب : الطوفان الطاعون بلغة اليمن ، وقال أبو قلابة : الطوفان الجدري ، وهو أول ما عذب به ، فبقي في الأرض .
قال نحاة الكوفة : الطوفان مصدر لا يجمع كالرجحان والنقصان ، وقال أهل البصرة : هو جمع واحده طوفانة .
فقالوا لموسى عليه السلام : ادع لنا ربك يكشف عنا هذا البلاء ، فلئن كشف عنا هذا البلاء ، لنؤمنن لك ولنرسلن معك بني إسرائيل ، فدعا ربه فرفع عنهم الطوفان ، وأنبت لهم في تلك السنة شيئاً لم ينبته لهم قبل ذلك من الكلأ والزرع والثمر ، وأخصبت بلادهم ، فقالوا : ما كان هذا الماء إلا نعمة علينا وخصباً ، فلم يؤمنوا وأقاموا شهراً في عافية . فبعث الله تعالى عليهم الجراد ، فأكل عامة زرعهم وثمارهم وأوراق الشجر ، حتى أكل الأبواب وسقوف البيوت ، والخشب والثيات والأمتعة ، ومسامير الأبواب من الحديد ، حتى وقعت دورهم ، وابتلوا بالجوع ، فكانوا لا يشبعون ، ولم يصب بني إسرائيل من ذلك شيء ، فعجوا وضجوا إلى موسى عليه السلام ، وسألوه رفع ذلك عنهم ، فدعا له فكشف الله عنهم الجراد ، بعدما أقام أسبوعاً من السبت إلى السبت .
روي أن موسى عليه السلام برز إلى الفضاء فأشار بعصاه نحو المشرق والمغرب ، فرجعت الجراد من حيث جاءت . فأقاموا مصرين على كفرهم شهراً في عافية ، ثم بعث الله تعالى عليهم القمل ، وقد تقدم ذكره ، فعجوا وضجوا ، وسألوا رفع ذلك عنهم ، وقالوا : إنا نتوب ، فدعا موسى عليه الصلاة والسلام ربه أن يرفع ذلك القمل فرفع الله تعالى عنهم القمل بعدما أقام عليهم أسبوعاً ، من السبت إلى السبت ، فنكثوا وعادوا إلى أخبث أعمالهم ، فأقاموا شهراً في عافية ، فبعث الله عليهم الضفادع ، فامتلأت منها بيوتهم وأفنيتهم ، وكانت تدخل في فرشهم وبين ثيابهم ، وأطعمتهم وآنيتهم ، فلا يكشف أحد منهم طعاماً ولا إناء إلا وجد فيه الضفادع ، وكان الرجل يجلس في الضفادع إلى ذقنه ، و كم أن يتكلم فيثب الضفدع في فيه . وكانت تلقي نفسها في القدر وهي تغلي ، فتفسد طعامهم ، وتطفئ نيرانهم ، ولا يعجنون عجيناً إلا انشدخت فيه ، وإذا اضطجع أحدهم تركبه الضفادع ، حتى تكون عليه ركاماً ، حتى لا يستطيع أن ينصرف إلى شقه الآخر . فلقوا منها أذى شديداً ، فضجوا وصرخوا ، وصاحوا وسألوا موسى عليه السلام ، فقالوا : ادع لنا ربك يكشفها عنا ، فدعا ربه فرفع الله تعالى عنهم الضفادع ، بعدما أقامت عليهم أسبوعاً من السبت إلى السبت ، فأقاموا شهراً في عافية ، ثم نقضوا العهود وعادوا لكفرهم ، فأرسل الله تعالى عليهم الدم ، فسال النيل عليهم دماً ، وصارت مياههم دماً ، فما يستقون من الآبار إلا دماً(2/355)
"""""" صفحة رقم 356 """"""
عبيطاً أحمر ، فشكوا إلى فرعون ، فقالوا : ليس لنا شراب ، فقال : إنه قد سحركم . وكان فرعون يجمع بين القبطي والإسرائيلي على الإناء الواحد ، فيكون ما يلي الإسرائيلي ماء ، وما يلي القبطي دماً ، حتى كانت المرأة من آل فرعون تأتي المرأة من بني إسرائيل ، حين جهدهم العطش ، فتقول : اسقيني من مائك ، فتصب لها من قربتها فيعود في الإناء دماً ، حتى كانت تقول : اجعليه في فيك ثم مجيه في فمي ، فتأخذ في فيها ماء ، فإذا مجته في فيها صار دماً ، وإن فرعون اعتراه العطش حتى إنه اضطر إلى مضغ الأشجار الرطبة ، فإذا مضغها ، يصير ماؤها في فيه ملحاً أجاجاً ، فمكثوا كذلك أسبوعاً من السبت إلى السبت لا يشربون إلا الدم . وقال زيد بن أسلم : الدم الذي سلط عليهم كان الرعاف فأتوا موسى عليه السلام ، وقالوا : ادع لنا ربك يكشف عنا هذا الدم فنؤمن لك ، ونرسل معك بني إسرائيل ، فدعا لهم فرفع عنهم الدم ، فلم يؤمنوا . فذلك قوله عز وجل : " فلما كشفنا عنهم الرجز " وهو ما ذكره الله من الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم . وقال ابن جبير : الرجز الطاعون ، وهو العذاب السادس بعد الآيات الخمس حتى مات منهم سبعون ألفاً في يوم واحد .
روينا عن عامر بن سعد بن أبي وقاص ، أنه سمع أباه يسأل أسامة بن زيد رضي الله تعالى عنهما : أسمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقوله في الطاعون شيئاً ؟ فقال أسامة : سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول : " الطاعون رجز أرسل على بني إسرائيل أو على من قبلكم ، فإذا سمعتم به بأرض قوم فلا تقدموا عليه ، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فراراً منه " .
فسألوا موسى عليه السلام فدعا ربه فكشفه عنهم ، فتمادوا في كفرهم وطغيانهم إلى أن أغرق الله تعالى فرعون وملأه في اليم وقد تقدم ذكر غرقه ، في باب الحاء المهملة ، في لفظ الحصان .
قال سعيد بن جبير ومحمد بن المنكدر : كان ملك فرعون أربعمائة سنة ، وعاش ستمائة وعشرين سنة ، لا يرى مكروهاً ، ولو حصل له في تلك المدة جوع يوم ، أو حمى ليلة ، أو وجع ساعة ، لما ادعى الربوبية قط .
وقد ظفرت بهذه القصة مختصرة ، فأوردتها عقب هذا ، لتحصل الفائدة ، وهو أن موسى عليه السلام مشى بعصاه إلى كثيب أعفر مهيل ، فضربه فانتشر كله قملا في مصر ، ثم إنهم قالوا : ادع لنا ربك في كشف هذا عنا فدعا فكشف عنهم ، فرجعوا إلى طغيانهم ، فبعث الله عليهم الضفادع ، فكانت تدخل في فرشهم وبين ثيابهم ، وإذا هم الرجل أن يتكلم دخلت الضفادع في فيه وتلقي نفسها في القدر ، وهي تغلي . فقالوا : ادع لنا ربك يكشفها فكشف عنهم ، فرجعوا إلى كفرهم ، فبعث الله تعالى عليهم الدم ، فرجع ماؤهم الذي كانوا يشربونه دماً ، فكان الرجل منهم إذا استقى من البئر وارتفع إليه الدلو عاد دماً . وقيل : سلط الله تعالى عليهم الرعاف .(2/356)
"""""" صفحة رقم 357 """"""
فائدة أخرى : " نهى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أن تقصع القملة بالنواة " أي تقتل ، والقصع الدلك بالظفر وإنما خص النوى لأنهم كانوا يأكلونه عند الضرورة ، وقيل : لأن النواة كانت مخلوقة من فضلة طينة آدم عليه الصلاة والسلام . وفي الحديث : " أكرموا النخلة فإنها عمتكم " . وفي حديث آخر " نعمت العمة لكم النخلة " . وقيل : لأن النوى قوت الدواب ، وقال الجوهري في الحديث : إنه نهى عن قصع الرطبة ، وهو عصرها لتقشر .
الحكم : يحرم أكل القمل بالإجماع ، وإذا ظهر على بدن المحرم أو ثيابه لم يكره له تنحيته ، فإن قتله لم يلزمه شيء لكن يكره أن يفلي رأسه أو لحيته ، فإن فعل وأخرج منهما قملة فقتلها تصدق ولو بلقمة . قال الأكثرون : هذا التصدق مستحب ، وقيل : واجب لما فيه من إزالة الأذى عن الرأس واللحية ، وليس هذا التصدق فداء للقمل ، حتى يدل ذلك على حل الأكل ، وإنما التصدق في مقابلة الترفه الحاصل للمحرم . وأفاد الترمذي الحكيم أنه إذا وجد الجالس على الخلاء قملة ، لا يقتلها بل يدفنها . فقد روي أنه من قتل قملة وهو على رأس خلائه بات معه في شعاره شيطان فينسيه ذكر الله أربعين صباحاً . وقيل : من قتل قملة على رأس خلائه لن يكفي الهم ما عاش . وفي فتاوى قاضي خان ، لا بأس بطرح القملة حية والأدب أن يقتلها . فرع : يجوز لبس الثوب الحرير لدفع القمل ، لأنه لا يقمل بالخاصية ، ولذلك رخص النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لعبد الرحمن بن عوف والزبير بن العوام رضي الله تعالى عنهما في لبسه لذلك ، كما تقدم . رواه الشيخان والأصح أنه لا يختص بالسفر ، وفي وجه اختاره الشيخ أبو محمد الجويني وابن الصلاح يختص به ، لأن الرواية مقيمة بذلك . وقال مالك : لا يجوز لبسه مطلقاً لأن وقائع الأحوال عنده لا تعم وهو وجه بعيد عندنا .
فرع : إذا رأى المصلي في ثوبه قملة ، أو برغوثاً ؟ قال الشيخ أبو حامد : الأولى أن يتغافل عنها فإن لقاها بيده أو أمسكها حتى يفرغ فلا بأس ، فإن قتلها في الصلاة عفي عن دمها دون جلدها ، وإن قتلها وتعلق جلدها بظفره أو بثوبه بطلت صلاته . قال : ولا بأس بقتلها في الصلاة كما لا بأس بقتل الحية والعقرب ، فإن ألقى القملة بيده فلا بأس . قال القمولي : وينبغي أن يختص جواز إلقائها بغير المسجد ، والذي قاله صحيح متعين لقوله ( صلى الله عليه وسلم ) : " إذا وجد أحدكم القملة في المسجد فليصرها في ثوبه حتى يخرج من المسجد " . رواه أحمد في مسنده ، بإسناد صحيح . وفي المسند أيضاً عن شيخ من أهل مكة من قريش ، قال : وجد رجل في ثوبه قملة ، فأخذها ليطرحها في المسجد ، فقال له رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : " لا تفعل ردها في ثوبك حتى تخرج من المسجد " . وإسناده أيضاً صحيح . وقال البيهقي : إنه مرسل حسن . ثم روى عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه رأى قملة ، على ثوب رجل في المسجد ، فأخذها فدفنها في الحصا ، ثم قال " ألم نجعل الأرض كفاتاً أحياء وأمواتاً " قال : ويذكر نحو هذا عن مجاهد .
وعن ابن المسيب أنه يدفنها كالنخامة قال : وروينا عن مالك بن عامر ، أنه قال : رأيت معاذ(2/357)
"""""" صفحة رقم 358 """"""
بن جبل رضى الله تعالى عنه يقتل البراغيث والقمل في الصلاة ، وفي رواية رأيت معاذاً يقتل القمل في الصلاة ولكن لا يعبث .
وروى البزار والطبراني في معجمه الأوسط ، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه ، قال : إن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " إذا وجد أحدكم القملة في المسجد فليدفنها " . وقال أبو عمر بن عبد البر في التمهيد : وأما القملة والبرغوث فأكثر أصحابنا يقولون : لا يؤكل طعام مات فيه شيء منهما لأنهما نجسان ، وهما من الحيوان الذي عيشه من دم حيوان ، لا عيش لهما غير الدم ، ولهما دم فهما نجسان . وكان سليمان بن سالم القاضي الكندي من أهل إفريقية يقول : إن ماتت القملة في ماء طرح ولا يشرب ، وإن وقعت في عقيق ، ولم تخرج في الغربال ، لم يؤكل الخبز ، وإن ماتت في شيء جامد طرحت وما حولها كالفأرة . وقال غيره من أصحابنا وغيرهم : إن القملة كالنباب سواء ، وقال في التمهيد أيضاً : ذكر نعيم بن حماد ، عن ابن المبارك ، عن المبارك بن فضالة ، عن الحسن ، أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) " كان يقتل القمل في الصلاة أو قتل القمل في الصلاة " . قال نعيم : هذا أول حديث سمعته من ابن المبارك .
الأمثال : قالت العرب : غل قمل يضرب للمرأة السيئة الخلق . قال ابن سيده في الحديث : " النساء غل قمل " يقذفها الله في عنق من يشاء ثم لا يخرجها إلا هو ، وهذا بعض أثر . وفي الفائق في آخر باب الهاء مع الباء ، أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال : النساء ثلاث هينة لينة عفيفة مسلمة ، تعين أهلها على العيش ، ولا تعين العيش على أهلها ، وأخرى وعاء للولد ، وأخرى غل قمل يضعه الله في عنق من يشاء ، ويكفه عمن يشاء . والرجال ثلاثة : رجل ذو رأي وعقل ، ورجل إذا حز به أمر أتى ذا رأي فاستشاره ، ورجل حائر بائر لا يأتمر رشيداً ، ولا يطيع مرشداً . وقال الأصمعي : كانوا يغلون الأسير بالقيد وعليه الوبر فإذا طال الغل عليه قمل فيلقى منه جهداً . يضرب لكل من يلقى في شدة ، قال : وهذا هو السبب في قول حاتم الطائي : " لو غير ذات سوار لطمتني " ، وذلك أنه مر ببلاد نميرة في بعض الأشهر الحرم ، فناداه أسير لهم : يا أبا سفانة أكلني الإسار والقمل ، فقال : ويحك أسأت إذ نوهت باسمي في غير بلاد قومي ، فساوم القوم به ثم قال : أطلقوه واجعلوا يدي في الغل مكانه ففعلوا ، فجاءته امرأة ببعير لتفديه ، فقام فنحره فلطمته ، فقال : لو غير ذات سوار لطمتني ، يعني أني لا أقتص من النساء فعرف ففدى نفسه . الخواص : قال الجاحظ : القمل يعتري ثياب غير المجذومين ، قال ابن الجوزي : والحكمة في ذلك أنه لما تولع الجذام بأطرافهم صعب عليهم الحك ، فمنع الله عنهم ذلك لطفاً بهم ، كما أنه منع عن الأخرس السمع لطفاً به ، وإذا ألقيت القملة وهي حية أورثت النسيان . كذا رواه ابن عدي في كامله ، في ترجمة أبي عبد الله الحكم بن عبد الله الأيلي ، أنه روى بإسناد صحيح ، أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " ست خصال تورث النسيان : أكل سؤر الفأر ، القاء القملة وهي حية ، والبول في الماء الراكد ، وقطع القطار ، ومضغ العلك ، وأكل التفاح الحامض ، وبضد ذلك اللبان الذكر "(2/358)
"""""" صفحة رقم 359 """"""
وأشار إلى ذلك الجاحظ بقوله : وفي الحديث أن أكل التفاح الحامض ، وسؤر الفأر ، ونبذ القملة يورث النسيان .
قال : وفي حديث آخر " إن النبي يلقي القملة لا يكفى الهم " . وقيل : إن قراءة ألواح القبور ، والمشي بين المرأتين والنظر إلى المصلوب ، وأكل الكزبرة الخضراء ، وأكل الخبز الحار يورث النسيان ، وأكل الحلوى وشرب العسل ، وأكل الخبز البارد ، يورث الذكاء ، والعامة تزعم أن لبس النعال السود يورث النسيان .
وإذا أردت أن تعلم هل المرأة حامل بذكر أم أنثى ؟ فخذ قملة واحلب عليها من لبنها في كف إنسان ، فإن خرجت القملة من اللبن في حامل بجارية ، وإن لم تخرج في حامل بذكر وإن احتبس على إنسان بوله فخذ قملة من قمل بدنه ، واجعلها في إحليله فإنه يبول من وقته . وإن غسلت المرأة أصول شعرها بماء السلق منع القمل . ودهن القرطم إذا دهن به إنسان مات قمله ، وإن غسل البدن بخل وماء البحر قتل القمل ، وإذا مسح الرأس والبدن بزئبق مقتول بدهن سمسم منع القمل من الرأس والثياب .
التعبير : القمل في المنام على وجوه : فإذا كان في قميص جديد فإنه مال وهو للسلطان جند وأعوان ، وللوالي زيادة في ماله . ومن رأى القمل في ثوب خلق ، فهو دين يخشى زيادته ، والقمل على الأرض قوم ضعاف ، فإن دب إلى جانب إنسان فإنه يخالطهم ، ومن رأى القمل وكرهه فإنه يرى أعداء ولا يقدرون له على مضرة ، ومن رأى أنه قرصه القمل ، فإن قوماً ضعفاء يرمونه بكلام ، ومن حكه القمل ، فلا بد أن يطالب بدين . والقملة تعبر بامرأة ، لأن ابن سيرين أتاه رجل ، فقال : رأيت كأن إنساناً أخذ من كمي قملة فألقاها . فقال ابن سيرين : تطلق زوجتك على يده ، فكان كذلك . ومن رأى قملة طارت من صدره فإن أجيره أو غلامه أو ولده قد هرب ، والقمل الكثير مرض أو حبس ، لأنها أكثر ما تحدث على هؤلاء القوم . وربما دلت رؤية القمل على العيال . وتعبر رؤية القمل للملك بجيشه وأعوانه وللوزير بشرطته ، وللقاضي بالمتوصلين إليه . ومن رأى أنه رمى قملة ، فإنه مخالف لسنة من السنن ، لأن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) " نهى عن رمي القمل " ومن أكل قملة فإنه يغتاب إنساناً فإن وجد لها دماً ، فإنه يغتاب رجلا ذا مال . والقمل يعي بأقوام يمشون بالنميمة بين الأقرباء ، وقتل القمل في المنام قهر الأعداء . وقال جاماست : من التقط القمل فإنه يكذب عليه كذب فاحش والله أعلم .
القمقام : صغار القردان ، وضرب من القمل شديد التشبث بأصول الشعر ، الواحدة قمقامة ، وتسميه العامة الطبوع وقد تقدم .
الأمثال : قالت العرب : قمقامة حكت بجنب البازل . البازل من الإبل ما دخل في السنة التاسعة كما تقدم ، وهو أقواها يضرب للضعيف الذليل يحتك بالقوي العزيز .
قندر : قال القزويني : هو حيوان بري بحري يكون في الأنهار العظام ، يتخذ في البر إلى(2/359)
"""""" صفحة رقم 360 """"""
جانب البحر بيتاً له بابان ، يأكل لحم السمك . وخصيته تسمى الجندبادستر ، وقد تقدم في باب الجيم ، الكلام على ذلك . القندس : قال ابن دحية : إنه كلب الماء ، وفسر به حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه ، الذي رواه الجماعة ، غير النسائي ، أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " تقاتلون بين يدي الساعة قوماً نعالهم الشعر " . وفي رواية : أيلبسون الشعر ، ويمشون في الشعر ، وجوههم كالمجان المطرقة ، حمر الوجوه ، صغار الأعين ذلف الأنوف " . قال ابن دحية : قوله يلبسون الشعر ، إشارة إلى الشرابيش التي يدار عليها بالقندس ، والقندس كلب الماء وهو من ذوات الشعر كالمعز ، وذوات الصوف الضأن ، وذوات الوبر والإبل انتهى . وسيأتي ، إن شاء الله تعالى ، في باب الكاف حكم الكلب المائي . وقال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح : بحثنا عن القندس فلم يتبين لنا أنه مأكول أو غيره ، فينبغي أن يتورع عن الصلاة فيه ، ولنا وجهان فيما أشكل من الحيوان فلم يعلم أنه مأكول أو غيره .
القنعاب : كسنجاب العظيم من الوعول السمين .
القنفذ : بالذال المعجمة وبضم الفاء وفتحها البري منه ، كنيته أبو سفيان وأبو الشوك ، والأنثى أم دلدل ، والجمع القنافذ . ويقال لها : العساعس لكثرة ترددها بالليل ، ويقال للقنفذ : أنقد وهو صنفان قنفذ يكون بأرض مصر قدر الفار ، ودلدل يكون بأرض الشام والعراق في قدر الكلب القلطي ، والفرق بينهما كالفرق بين الجرذ والفأر .
قالوا : إن القنفذ ، إذا جاع يصعد الكرم منكساً ، فيقطع العناقيد ويرمي بها ، ثم ينزل فيأكل منها ما أطاق ، فإن كان له فراخ تمرغ في الباقي ليشتبك في شوكه ويذهب به إلى أولاده وهو لا يظهر إلا ليلا قال الشاعر :
قنافذ هداجون حول بيوتهم . . . بما كان إياهم عطية عودا
وهو مولع بأكل الأفاعي ولا يتألم لها ، وإذا لدغته الحية أكل السعتر البري ، فيبرأ وله خمسة أسنان في فيه ، والبرية منها تستفد قائمة وظهر الذكر لاصق ببطن الأنثى .
وروى الطبراني في معجمه الكبير والحافظ بن منير الحلبي وغيرهما ، عن قتادة بن النعمان ، قال : كانت ليلة شديدة الظلمة والمطر ، فقلت : لو أني اغتنمت الليلة شهود العتمة مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، ففعلت ، فلما رآني قال ( صلى الله عليه وسلم ) : " قتادة " . قلت : لبيك يا رسول الله ، ثم قلت : علمت أن شاهد الصلاة هذه الليلة قليل ، فأحببت أن أشهدها معك . فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : " إذا انصرفت فائتني " . فلما فرغت من الصلاة أتيت إليه فأعطاني عرجوناً كان في يده ، وقال : " هذا يضيء أمامك عشراً ومن خلفك عشراً " . ثم قال ( صلى الله عليه وسلم ) : " إن الشيطان قد خلفك في أهلك ، فاذهب بهذا العرجون فاستضئ به حتى تأتي بيتك فتجده في زاوية البيت فاضربه بالعرجون " . قال : فخرجت من المسجد ، فأضاء العرجون مثل الشمعة نوراً ، فاستضأت به وأتيت أهلي فوجدتهم قد(2/360)
"""""" صفحة رقم 361 """"""
رقدوا ، فنظرت إلى الزاوية فإذا فيها قنفذ ، فلم أزل أضربه بالعرجون حتى خرج . ورواه الإمام أحمد والبزار ورجال أحمد رجال الصحيح .
فائدة : روى البيهقي ، في أواخر دلائل النبوة ، عن أبي دجانة واسمه سماك بن خرشة قال : شكوت إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، أني نمت في فراشي ، فسمعت صريراً كصرير الرحى ودوياً كدوي النحل ، ولمعاً كلمع البرق ، فرفعت رأسي فإذا أنا بظل أسود يعلو ويطول في صحن داري فمسست جلده ، فإذا هو كجلد القنفذ فرمى في وجهي مثل شرر النار . فقال ( صلى الله عليه وسلم ) : " عامر دارك يا أبا دجانة " . ثم طلب ( صلى الله عليه وسلم ) دواة وقرطاساً ، وأمر علياً رضي الله تعالى عنه أن يكتب : بسم الله الرحمن الرحيم هذا كتاب من محمد رسول رب العالمين إلى من يطرق الدار من العمار والزوار ، إلا طارقاً يطرق بخير أما بعد فإن لنا ولكم في الحق سعة فإن كنت عاشقاً مولعاً ، أو فاجراً مقتحماً ، فهذا كتاب الله ينطق علينا وعليكم بالحق ، إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون ، ورسلنا يكتبون ما تمكرون ، اتركوا صاحب كتابي هذا وانطلقوا إلى عبدة الأصنام ، وإلى من يزعم أن مع الله إلها آخر ، لا إله إلا هو كل شيء هالك إلا وجهه ، له الحكم وإليه ترجعون حم لا ينصرون حم عسق تفرق أعداء الله وبلغت حجة الله ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم فسيكفيهم الله وهو السميع العليم . قال أبو دجانة رضي الله عنه : فأخذت الكتاب ، وأدرجته وحملته إلى داري وجعلته تحت رأسي فبت ليلتي ، فما انتبهت إلا من صراخ صارخ يقول : يا أبا دجانة أحرقتنا بهذه الكلمات فبحق صاحبك إلا ما رفعت عنا هذه الكلمات ، فلا عود لنا في دارك ولا في جوارك ولا في موضع يكون فيه هذا الكتاب ، قال أبو دجانة : فقلت : والله لا أرفعه حتى أستأذن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، قال أبو دجانة : فلقد طالت علي ليلتي بما سمعت ، من أنين الجن وصراخهم وبكائهم ، حتى أصبحت فغدوت فصليت الصبح مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وأخبرته بما سمعت من الجن ليلتي ، وما قلت لهم ؛ فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : يا أبا دجانة ارفع عن القوم ، فوالذي بعثني بالحق نبياً إنهم ليجدون ألم العذاب إلى يوم القيامة . قال البيهقي : وقد ورد في حرز أبي دجانة رضي الله عنه حديث طويل ، غير هذا موضوع ، لا تحل روايته . وهذا الذي رواه البيهقي ، رواه الديلمي الحافظ في كتاب الإنابة ، والقرطبي في كتاب التذكار في أفضل الأذكار .
الحكم : قال الشافعي : يحل أكل القنفذ لأن العرب تستطيبه ، وقد أفتى ابن عمر بإباحته وقال أبو حنيفة والإمام أحمد : لا يحل لما روى أبو داود وحده أن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما سئل عنه ، فقرأ : " قل لا أجد فيما أوحي إلي محرماً ، الآية فقال شيخ عنده : سمعت أبا هريرة رضي الله تعالى عنه يقول : ذكر القنفذ عند رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، فقال : " خبيث من الخبائث " . فقال ابن عمر رضي الله تعالى عنهما : إن كان قد قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) هذا فهو كما قال . قلت : والجواب أن رواته مجهولون . قال البيهقي : ولم يرو إلا من وجه واحد ضعيف لا يجوز الاحتجاج به . وما روي عن سعيد بن جبير ، أنه قال : جاءت أم حفيد رضي الله تعالى عنها بقنفذ إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، فوضعته بين يديه ، فنحاه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، ولم يأكله فهو مرسل . وقد روي مسنداً(2/361)
"""""" صفحة رقم 362 """"""
وليس فيه ذكر القنفذ . وقيل : أراد أنه خبيث الفعل دون اللحم ، لما فيه من إخفاء رأسه عند التعرض لذبحه ، وابداء شوكه عند أخذه ، وسئل مالك عنه ، فقال : لا أدري . وقال القفال : إن صح الخبر فهو حرام ، وإلا رجعنا إلى العرب هل تستطيبه أم لا . وقال الرافعي : يقال إن له كرشاً ككرش الشاة .
الأمثال : قالوا : أسرى من قنفذ وقالوا : ذهبوا إسراء قنفذ ، يعني ذهبوا ليلا ، لأن القنفذ يسري في الليل كثيراً وقد تقدم هذا في باب الهمزة في لفظ أنقد .
الخواص : مرارة البري منه ، إذا طلي بها موضع الشعر المنتوف ، لا ينبت فيه شعر أبداً . وإذا اكتحل بها أزالت البياض من العين ، وإذا خلطت بشيء من الكبريت وطلي بها البهق أزالته وإن ضرب من مرارته نفع من الجذام والسل والزحير ، وإن خلطت بدهن ورد وقطر في أذن من به صمم قديم أبرأه إذا داوم عليه أياماً ، ولحمه إذا أكل نفع من السل والجذام والبرص والتشنج ووجع الكلى ، وإن مسح بشحمه ودمه وبراثنه المعقود عن النساء حله ، وطحاله يسقى لمن به وجع الطحال ، بشراب العسل فإنه يبرئه ، وكليته تجفف ويسقى منها وزن درهم ، مسحوقاً بماء الحمص الأسود ، من به عسر البول فيبرأه سريعاً . وإن قتل قنفذ ، وقطع رأسه بسيف لم يقتل به إنسان ، وعلق على المجنون والمصروع والمختل أبرأه . وان قطع طرف رجله اليمنى وهو حي وعلقت على صاحب الحمى الحارة والباردة ، من غير أن يعلم ما هو ، مربوطاً في خرقة كتان ، أبرأه . وعينه اليمنى تغلى بشيرج ، وتجعل في إناء نحاس ، فمن اكتحل به لم يخف عليه شيء في الليل ، بل يراه كأنه نهار ، وشطار العيارين يفعلون ذلك . وعينه اليسرى تغلى بزيت وترفع في قارورة ، فإذا أردت أن تنوم إنساناً فخذ منه بطرف الميل ، وادنه إلى أنفه ، فإنه ينام من ساعته . وأظفار يده اليمنى يبخر بها المحموم ، فتذهب حماه . وطحاله إذا شوي وأكله من به وجع الطحال أبرأه ، والأول أسرع وهو ما تقدم . ومرارته تعجن بسمن عتيق ، وتتحمل بها المرأة في قبلها ، فإنها تلقي ما في جوفها . ودمه يطلى به على عضة الكلب ، يسكن ألمها ، ولحمه المملح ينفع من داء الفيل والجذام ، وهو جيد لمن يبول في فراشه . وجميع أصناف القنافذ بيضها أصفر جداً لا يؤكل ، وإذا أخذ بول القنفذ وسقي بشراب لمن أعياه مرضه ثلاثة أيام أبرأه . وإن علق قلبه على من به حمى الربع أبرأه ، وإذا طلي المجذوم بشحمه نفعه . وأما رؤيته في المنام فإنه يدل على المكر والخداع والتجسس ، والاحتقار والشر ، وضيق القلب وسرعة الغضب وقلة الرحمة ، وربما يدل على فتنة يشهر فيها السلاح ، والله تعالى أعلم .
القنفذ البحري : قال القزويني : مقدمه يشبه مقدم القنفذ البري ، ومؤخره يشبه السمك ، طيب اللحم جداً . قال ابن زهر : وشالج به عسر البول ، وريشه لين يشبه الشعر .
القنفشة : دويبة معروفة عند أهل البادية حكاه ابن سيده .
القهبى : بالفتح اليعقوب وقيل : العنكبوت .(2/362)
"""""" صفحة رقم 363 """"""
القهيبة : طائر يكون بتهامة فيه بياض وخضرة ، وهو نوع من الحجل ، قاله ابن سيده أيضاً .
القوافر : الضفادع ، وقد تقدم ما فيها في باب الضاد المعجمة .
القواع : بضم القاف الذكر من الأرانب .
القوب : الفرخ ، ومنه قولهم في المثل تخلصت قائبة من قوب فالقائبة قشر البيضة ، قال الكميت :
لهن وللمشيب ومن علاها . . . من الأمثال قائبة وقوب
وقال أعرابي من بني أسد لتاجر استخفره : إذا بلغت بك مكان كذا وكذا فبرئت قائبة من قوب أي أنا بريء من خفارتك .
قوبع : بضم القاف وفتح الباء الموحدة ، طائر أسود أبيض الذنب يكثر تحريك ذنبه . تقدم في آخر باب العين المهملة .
القوثع : بفتح الثاء المثلثة الظليم ، وقد تقدم في باب الظاء المعجمة .
القوق : بالضم طائر مائي طويل العنق قاله في العباب .
قوقيس : قال القزويني : إنه طائر بأرض الهند ، من شأنه أنه عند التزاوج يجمع حطباً كثيراً في عشه ، ولا يزال الذكر منه يحك منقاره بمنقار الأنثى ، حتى تأجج النار من حكهما في ذلك الحطب ، وتشتعل ويحترقان فيها ، فإذا سقط المطر على ذلك الرماد تولد منه دود ، ثم تنبت له أجنحة ثم يصير طيراً ، ثم يفعل كفعل الأول من الحك والاحتراق .
قوقي : بضم القاف الأولى وكسر الثانية ، صنف من السمك عجيب جداً ، على رأسه شوكة قوية ، يضرب بها . حكى الملاحون أن هذه السمكة ، إذا جاعت رمت نفسها إلى شيء من الحيوان فيبتلعها ، ثم إنها تضرب بشوكتها أحشاءه حتى تهلكه . وربما تخرج من شق بطنه تتغذى منه هي وغيرها ، وإذا قصدها قاصد في الماء ، تضربه بالشوكة فيهلك ، ولعلها تضرب السفينة بالشوكة فتخرقها ، وتغرق أهلها وتأكل منهم ، والملاحون يعرفون ذلك فيجعلون على السفينة جلد تلك السمكة ، فإن شوكتها لا تعمل فيه كذا قاله القزوني .
قيد الأوابد : الفرس الجواد ، قيل له ذلك لأنه يمنع الوحش الفوات لسرعته ، والأوابد الوحوش . قال امرؤ القيس :
بمنجرد قيد الأوابد هيكل
قيق : بكسر أوله طائر على قدر اليمامة ، وأهل الشام يسمونه أبا زريق ، وهو ألوف للناس(2/363)
"""""" صفحة رقم 364 """"""
فيه قبول للتعلم وسرعة إدراك لما يعلم . وقد تقدم في باب الزاي .
أم قشعم : بفتح القاف النسر والعنكبوت والضبع واللبوة والمنية والداهية والحرب والدنيا أيضاً . قال زهير :
فشد ولم ينظر بيوتاً كثيرة . . . إلى حيث ألقت رحلها أم قشعم
قيل : أراد أحد هذه الأشياء وقال آخر :
فخر صريعاً لليدين وللفم . . . إلى حيث ألقت رحلها أم قشعم
أبو قير : طائر معروف ، قاله ابن الأثير وغيره ، وقد تقدم .
أم قيس : هي بقرة بني إسرائيل ، وقد تقدم ذكرها في باب الباء ، وفي باب العين المهملة في العجل .
باب الكاف
الكاسر : العقاب ، يقال له كسر الطائر يكسر كسراً وكسوراً ، إذا ضم جناحيه يريد الوقوع وعقاب كاسر . قال الشاعر :
كأنه بعد كلال الزاجر . . . ومسحه مر عقاب كاسر
ويعدى فيقال : كسر جناحيه ، قال ابن سيده .
كاسر العظام : المكلفة وسيأتي إن شاء الله تعالى في باب الميم .
الكبش : فحل الضأن في أي سن كان ، وقيل : إذا أثنى ، وقيل : إذا أربع ، والجمع أكبش وكباش .
روى الجماعة عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه ، قال : ذبح النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يوم النحر كبشين أملحين أقرنين فسمى وكبر ووضع رجله على صفاحهما .
وروى أبو داود وابن ماجه عن جابر رضي الله تعالى عنه ، قال : ذبح النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يوم النحر كبشين أقرنين أملحين موجوأين فلما وجههما قال : " إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً " . إلى قوله : " وأنا من المسلمين اللهم منك وإليك عن محمد وأمته بسم الله والله أكبر " . ثم ذبح . قال الحاكم : صحيح على شرط مسلم . قوله : أملحين الأملح الني بياضه أكثر من سواده ، وقيل : هو النقي البياض . وفي الحديث الآخر ، في صحيح مسلم : " يطأ في سواد ويبرك في سواد وينظر في سواد " .(2/364)
"""""" صفحة رقم 365 """"""
ومعناه أن قوائمه وبطنه وما حول عينيه أسود . ونقل عن أصحاب الحديث ، أن معنى كونه ينظر في سواد ويبرك في سواد وبطأ في سواد أن ذلك يكون في ظل نفسه لسمنه .
وروى ابن سعد في طبقاته أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أهدي له ترس ، فيه تمثال كبش ، فوضع يده عليه فأذهب الله ذلك التمثال . وفي رواية أنه كان له ( صلى الله عليه وسلم ) ترس ، وفيه تمثال كبش . وفي رواية تمثال عقاب فكره النبي ( صلى الله عليه وسلم ) مكانه ، فأصبح وقد أذهبه الله تعالى .
وفي سنن أبي داود وابن ماجه ، عن أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه ، أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " أوحى الله تعالى إلى بعض الأنبياء قل للذين يتفقهون لغير الدين ، ويتعلمون لغير العمل ، ويطلبون الدنيا بعمل الآخرة ، وبلبسون للناس صوف الكباش ، وقلوبهم كقلوب الذئاب ، ألسنتهم أحلى من العسل ، وقلوبهم أمر من الصبر ، إياي يخادعون وبي يستهزؤون ، لأتيحن لهم فتنة تدع الحكيم حيران " .
وروى البيهقي ، في الشعب ، عن عمر رضي الله تعالى عنه ، قال : نظر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إلى مصعب بن عمي مقبلاً وعليه إهاب كبش ، قد تنطق به ، فقال : " أنظروا إلى هذا الذي نور الله قلبه ، لقد رأيته بين أبوين يغذوانه بأطيب الطعام والشراب ، ولقد رأيت عليه حلة اشتريت بمائتي درهم ، فدعاه حب الله وحب رسوله إلى ما ترون " انتهى .
وفي الصحيحين ، عن خباب بن الأرت قال : هاجرنا مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) نلتمس وجه الله عز وجل ، فوقع أجرنا على الله فمنا من مات لم يأكل من أجره شيئاً ، منهم مصعب بن عمير قتل يوم أحد فلم نجد له ما نكفنه به إلا نمرة كنا إذا غطينا بها رأسه خرجت رجلاه ، وإذا غطينا بها رجليه خرج رأسه . فأمرنا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أن نغطي رأسه ، وأن نجعل على رجليه من الأذخر .
ومنا من أينعت له ثمرته ، فهو يهدبها أي يجتنبها . وهو إشارة إلى ما فتح الله عليهم من الدنيا ، بعد وفاة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) .
والكبش هو الذبح العظيم الذي فدى الله به إسماعيل عليه الصلاة والسلام ، وإنما سمي عظيماً لأنه رعى في الجنة أربعين عاماً ، قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما . قال : وهو الكبش الذي قربه هابيل فتقبل منه . قال : ولو تمت تلك الذبيحة لصارت سنة ولذبح الناس أبناءهم ، واستشهد أبو حنيفة رحمه الله تعالى بهذه القصة ، على أن من نذر ذبح ولده ، يلزمه ذبح شاة . ومنع الجمهور ذلك لقوله ( صلى الله عليه وسلم ) : " لا نذر في معصية الله ولا نذر لابن آدم فيما لا يملك " .
وقد اختلف العلماء في الذبيح هل هو إسماعيل أو إسحاق عليهما الصلاة والسلام ، فذهب قوم إلى أنه إسحاق منهم عمر وعلي وابن مسعود والعباس وكعب وقتادة ومسروق وعكرمة وعطاء والزهري والسدي ، قالوا : كانت هذه القصة بالشام . وروي عن سعيد بن جبير أنه قال : أري إبراهيم عليه الصلاة والسلام ذبح إسحاق في المنام ، فسار به مسيرة شهر ، في روحة واحدة ، حتى(2/365)
"""""" صفحة رقم 366 """"""
أتى به المنحر في منى ، فلما أمره الله تعالى بذبح الكبش ذبحه ، وسار به مسيرة شهر في روحة واحدة ، طويت لهما الأودية والجبال . واحتجوا أيضاً بقوله تبارك وتعالى : " فبشرناه بغلام حليم فلما بلغ معه السعي ، قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك " . قالوا : وليس في القرآن أنه بشر بولد سوى ما قال في سورة هود " فبشرناها بإسحاق " . وممن ذهب إلى أنه إسحاق شيخ التفسير محمد بن جرير الطبري رحمة الله عليه وروي عن مالك . وقالت فرقة : الذبيح إسماعيل ، واحتجوا بأن الله تعالى ذكر البشارة بإسحاق ، بعد الفراغ من قصة الذبيح . فقال : " فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب " فكيف يأمره بذبح إسحاق وقد وعده بنافلة منه ؟ قال محمد بن كعب القرظي : سأل عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه رجلاً من علماء يهود ، وكان قد أسلم وحسن إسلامه ، أي ابني إبراهيم أمر بذبحه ؟ فقال : إسماعيل . ثم قال : يا أمير المؤمنين إن يهود لتعلم ذلك ، ولكنهم يحسدونكم يا معشر العرب ، على أن يكون أبوكم الذي أمر الله تعالى بذبحه ، ويزعمون أنه إسحاق أبوهم ، ومن الدليل عليه أن قرني الكبش ، كانا منوطين بالكعبة في أيدي بني إسماعيل إلى أن احترق البيت ، واحترق القرنان في أيام ابن الزبير والحجاج . قال الشعبي رحمه الله : رأيت قرني الكبش منوطين بالكعبة ، وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : والذي نفسي بيده ، لقد كان أول الإسلام وإن رأس الكبش لمعلق بقرنيه في ميزاب الكعبة قد وخش . يعني قد يبس . وقال الأصمعي : سألت أبا عمرو بن العلاء عن الذبيح ، إسحاق كان أو إسماعيل ؟ فقال : يا أصمعي أين ذهب عقلك متى كان إسحاق بمكة ؟ وإنما كان إسماعيل بمكة ، وهو الذي بنى البيت مع أبيه .
وقال محمد بن إسحاق : كان إبراهيم إذا زار هاجر وإسماعيل ، حمل على البراق فيغدو من الشام ويقيل بمكة ، ويروح من مكة فيبيت عند أهله بالشام ، حتى إذا بلغ إسماعيل معه السعي ، وأخذ بنفسه ورجاه لما كان يأمل فيه من عبادة ربه وتعظيم حرماته ، أمر في المنام أن يذبحه ، وذلك أنه رأى ليلة التروية كأن قائلاً يقول له : إن الله يأمرك بذبح ابنك هذا ، فلما أصبح روى في نفسه ، أي فكر أمن الله هذا أم من الشيطان . فمن ثم سمي يوم التروية . فلما أمسى رأى ما رأى في المنام ثانياً ، فلما أصبح عرف أنه من الله تعالى ، فمن ثم سمي يوم عرفة ، فهم بنحر ابنه ففداه الله تعالى بالكبش .
وروى البيهقي ، في البعث والنشور ، من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه ، قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : " لما فدى إسحاق بالكبش قال الله عز وجل : إن لك دعوة مستجابة . فقال له إبراهيم : تعجل دعوتك لا يدخل الشيطان فيها شيئاً . قال إسحاق : اللهم من لقيك من الأولين والآخرين لا يشرك بك شيئاً فاغفر له " . وكنية جماعة من الصحابيات رضي الله تعالى عنهن أم كبشة ، منهن أم كبشة بنت معد يكرب عمة الأشعث بن قيس .
روى الدار قطني عن معاوية بن حديج ، بحاء مهملة مضمومة ودال مهملة مفتوحة وبالجيم في آخره ، أن أم كبشة هذه سألت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنها آلت أن تطوف بالبيت الحرام حبواً ، فقال لها(2/366)
"""""" صفحة رقم 367 """"""
رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : " طوفي على رجليك سبعين : سبعاً عن يديك وسبعاً عن رجليك " . قلت والحكم المذكور غريب لم أر من صرح به من الفقهاء ، فلذلك ذكرته هنا ، وإن لم يكن له تعلق بالكتاب ، ثم رأيته بعد ذلك في آخر باب النذر من المحرر لمجد الدين بن تيمية من الحنابلة فقال : ومن نذر أن يطوف على أربع لزمه أن يطوف طواف نص عليه . يعني الإمام أحمد ، ثم رأيته في تاريخ مكة لأبي الوليد الأزرقي ، مروياً من حديث عمرو بن دينار عن عطاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه سئل عن امرأة نذرت أن تطوف على أربع قال : تطوف عن يديها سبعاً وعن رجليها سبعاً .
فائدة : روى البخاري ومسلم والترمذي والنسائي من حديث أي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال : " إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار جيء بالموت ، كأنه كبش أملح ، فيوقف بين الجنة النار ثم يذبح ، ويقال : يا أهل الجنة خلود بلا موت ، ويا أهل النار خلود بلا موت " . ثم قرأ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : " وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر " . وفي رواية الترمذي : فيقال هل تعرفون هذا ؟ فيقولون : نعم هذا الموت . فيضجع فيذبح ، فلولا أن الله تعالى قضى لأهل الجنة بالحياة والبقاء لماتوا فرحاً ، ولولا أن الله تعالى قضى لأهل النار بالحياة والبقاء لماتوا ترحاً . وإنما جيء بالموت على هيئة كبش ، لما جاء أن ملك الموت عليه السلام أتى آدم عليه الصلاة والسلام في صورة كبش أملح قد نشر من أجنحته أربعمائة جناح . قال ابن عباس والكلبي ومقاتل في قوله تعالى : " الذي خلق الموت والحياة " ، خلقهما جسمين ، جعل الموت في هيئة كبش أملح لا يمر على شيء ، ولا يجد ريحه شيء إلا مات . والحياة على هيئة فرس أنثى بلقاء وهي التي كان جبريل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام يركبونها ، خطوها مد البصر فوق الحمار ودون البغل ، لا تمر على شيء ولا تطأ شيئاً ، ولا يجد ريحها شيء إلا حي ، وهي التي أخذ السامري من ترابها فألقاه على العجل انتهى .
وهذه هي الحكمة في فداء الذبيح بكبش ليكون فدى من الموت بشكل الموت ، ولما سر بذبحه سر أهل الجنة أيضاً بذبحه منة عليهم . ونقل القرطبي عن كتاب خلع النعلين ، أن الذابح للكبش بين الجنة والنار ، يحيى بن زكريا عليهما الصلاة والسلام ، بين يدي رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إذ في اسمه إشارة إلى الحياة الأبدية . وذكر صاحب كتاب الفردوس ، أن الذي يذبحه جبريل عليه السلام .
فائدة أخرى : قال ابن عباس وابن عمر وابن عمرو وسعيد بن جبير والضحاك والحسن رضي الله تعالى عنهم ، في قوله تعالى " قل كونوا حجارة أو محديداً ، أو خلقاً مما يكبر في صدوركم " إن الذي يكبر في صدورهم الموت . قال السهيلي : وهو تفسير يحتاج إلى تفسير . قال : وقال بعض المتأخرين : إن الموت الذي يستعظمونه سيفنى حين يذبح بين الجنة والنار ، فكذلك أنتم تفنون . ورأيت في الحلية لأبي نعيم في ترجمة وهب بن منبه أنه قال : إن الله تعالى في(2/367)
"""""" صفحة رقم 368 """"""
السماء السابعة داراً يقال لها البيضاء تجتمع فيها أرواح المؤمنين ، فإذا مات الميت من أهل الدنيا تلقته الأرواح يسألونه عن أخبار الدنيا كما يسأل الغائب أهله إذا قدم عليهم .
فائدة أخرى : قال البوني في اللمعة النورانية ، من السر البديع : إذا كان الإنسان يخاف على نفسه من قتل أو عذاب أو غيره ، فليذبح كبشاً سميناً سليماً من العيوب ، كما في الأضحية ، يذبحه في موضع خال ذبحاً سريعاً موجهاً إلى القبلة ، ويقول عند الذبح : اللهم هذا لك ومنك ، اللهم إنه فدائي فتقبله مني . ويحفر لدمه حفرة ، ويردمها بالتراب ، حتى لا يطأ أحد على دمه ، ويبضعه ستين جزءاً : الجلد جزء ، والرأس جزء ، والبطن جزء ، إلى أن يأتي على الستين جزءاً ، ولا يأكل منه شيئاً لا هو ولا من تجب عليه نفقته ، ويفرقه على الفقراء والمساكين ، فإنه يكون فداء له ، ولا يناله مكروه من جهة الأمر الذي يخشاه . وهو متفق عليه ، مجرب معمول به ، والله تعالى المحسن لعبيده المنعم عليهم .
قال : وإن كان يخاف من أمر دون ذلك ، فليطعم ستين مسكيناً من أفضل الطعام ، ويشبعهم ويقول : اللهم إني أستكفي الأمر الذي أخافه بهم هؤلاء ، وأسألك بأنفسهم وأرواحهم وعزائمهم ، أن تخلصني مما أخاف وأحذر ، فإنه يفرج عنه . وهذا أيضاً متفق عليه ، معمول به مستفيض عند أهل الطريقة .
وحكم الكبش : تقدم ، ومنه أنه تحرم المناطحة بالكباش ، لما روى أبو داود والترمذي ، من حديث مجاهد عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : " نهى عن التحريش بين البهائم " . والتحريش الإغراء وتهييج بعضها على بعض ، كما يفعل بين الكباش والديوك وغيرها . وفي الكامل ، في ترجمة غالب بن عبد الله الجزري ، من حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " إن الله تعالى لعن من يحرش بين البهائم " . قال الحليمي : وهو حرام ممنوع منه ، لا يؤذن لأحد فيه ، لأن كل واحد من المتهارشين يؤلم صاحبه ويجرحه ، ولو أراد المحرش أن يفعل ذلك بيده ما حل له . وعن الإمام أحمد في ذلك روايتان : التحريم والكراهة .
الأمثال : قالوا : عند النطاح يظهر الكبش الأجم وهو الذي لا قرن له ، يضرب لمن غلبه صاحبه بما أعد له . وكان الحسن يقول : يا ابن آدم السكين تحد ، والتنور يسجر ، والكبش يعتلف . وروى السهيلي وغيره أن عبد الله بن الزبير ولما ولد قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : " هو هو " فلما سمعت بذلك أمه أسماء بنت الصديق رضي الله تعالى عنهما أمسكت عن ارضاعه فقال لها النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : " أرضعيه ولو بماء عينيك ، كبش بين ذئاب ، وذئاب عليها ثياب ، ليمنعن البيت أو ليقتلن دونه " . ومما قيل في ليالي صفين :
الليل داج الكباش تنتطح . . . نطاح أسد ما أراها تصطلح
فمن يقاتل في وغاها ما نجا . . . ومن نجا برأسه فقد ربح(2/368)
"""""" صفحة رقم 369 """"""
الخواص : خصية الكبش تشوى وتطعم ، لمن يبول في الفراش ، يبرأ من ذلك إذا داوم عليه ، وإن تعسر على المرأة الولادة ، فليؤخذ شحم كبش ، وشحم بقر ، وماء الكراث ، وتخلط جميعاً ، وتتحمل به المرأة فإنها تلد بسهولة ، وكليته إذا نزعت بعروقها ، وجففت في الشمس ، وأذيبت بدهن الزئبق ، وطلي به مكان نبت فيه شعر ، ومرارته إذا طلي بها الثديان انقطع اللبن .
روى الإمام أحمد ، بإسناد صحيح عن أنس رضي الله تعالى عنه أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان يصف من عرق النسا ألية كبش عربي أسود ليس بالعظيم ولا بالصغير ، تجزأ ثلاثة أجزاء فيذاب ويشرب منه كل يوم جزءاً . ورواه الحاكم وابن ماجه ولفظهما أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " شفاء عرق النسا أن يؤخذ ألية كبش فتذاب ثم تجزأ ثلاثة أجزاء ثم تشرب على الريق ثلاثة أيام في كل يوم جزء " . قال عبد اللطيف البغدادي : هذه المعالجة تصلح للأعراب الذين يعرض لهم هذا المرض من يبس .
التعبير : الكبش في الرؤيا ، رجل شريف القدر ، لأنه أشرف الدواب ، بعد ابن آدم ، لأنه كان فداء لإسماعيل عليه السلام . ومن رأى كبشاً ينطح فرج امرأة ، فإنها تأخذ بالمقراض ما على فرجها من الشعر . ومن رأى أنه أخذ ألية كبش ، أخذ مال رجل شريف القدر ، أو يزوج بابنته ، لأن ألية الكبش مال الرجل . ومن يتبعه من عقبه . ومن ذبح كبشاً لغير الأكل ، فإنه يقتل رجلاً عظيماً وإن ذبحه للأكل نجا من هم على يد رجل عظيم القدر ، وإن كان مريضاً فإنه يبرأ من مرضه .
وقال ارطاميدورس : الكبش يدل على رجل رئيس لتقدمه على الغنم ، وهو دليل خير لمن يركبه إذا كان الموضع مرتفعاًِ ، والكبش الأجم معزول ، ورجل ذليل أو خصي . ومن نكح كبشاً ، فرق بينه وبين ماله رجل عظيم ، ومن ركب كبشاً من مكان مستو من الأرض ، وكان من الأوباش الخداعين ، الذين يحبون الفتن والكلام ، فإنه يصلب لأن هذا الحيوان من حيوان عطارد ، ومن حمل كبشاً على ظهره فإنه يتقلد مؤنة رجل ضخم . ومن رأى نعجته صارت كبشاً ، فإن زوجته لا تحمل ، فإن لم تكن له زوجه نال قوة ونصرة على عدوه . وكبش الإنسان سلطانه وأميره ، وقد يكون كبشه كيسه ، فإذا حدث فيه شيء فانسبه إلى الكيس .
أتى شخص إلى ابن سيرين رحمه الله تعالى فقال : رأيت كبشين يتناطحان على فرج امرأتي .
فقال له : إن امرأتك قد أخفت بالمقراض شعر فرجها لتعذر الموسى . ومن ضحى بكبشين ، فإنه ينجو من جميع الهموم ، وإن كان مسجوناً خرج من السجن ، وإن كان في حرب سلم ، وإن كان عليه دين قضى ، وإن كان مريضاً شفي ، ومن رأى كبشين يتناطحان فإنهما ملكان يقتتلان ، فأيهما هزم صاحبه فهو الغالب . وتنسب السود من الكباش إلى العرب ، والبيض إلى العجم ، وإن تساويا في الألوان ، فانظر إلى الجهة التي كانت الثابت فيها ، كان أهلها منصورين ، ومهما أخذ الإنسان من أصوافها ، أو قرونها فهو مال يناله ، وقس على هذا والله تعالى أعلم .(2/369)
"""""" صفحة رقم 370 """"""
الكبعة : بفتح الكاف وإسكان الباء الموحدة ، دابة من دواب البحر ، قاله ابن سيده .
الكتفان : بضم الكاف وإسكان التاء المثناة فوق ، وبعدها فاء ، الجراد أول ما يطير ، الواحدة كتفانة ، ويقال : هو الجراد بعد الغوغاء ، أوله السرور ثم الدبى ثم الغوغاء ثم الكتفان .
الكتع : كرطب أردأ ولد الثعلب ، والجمع كتعان بكسر الكاف .
الكدر : بضم الكاف وإسكان الدال المهملة ، طير في ألوانها كدرة .
روى ابني هشام وغيره أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) " غزا قرقرة الكدر ، في النصف من المحرم ، على رأس ثلاثة عشر شهراً من مهاجرته ( صلى الله عليه وسلم ) ، وهي ناحية بأرض سليم على ثمانية برد من المدينة ، وحمل لواءه ( صلى الله عليه وسلم ) علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه ، واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم ، فأخذ ( صلى الله عليه وسلم ) نعمهم وقسم غنائمهم ، وهي خمسمائة بعير فأخرج ( صلى الله عليه وسلم ) خمسة ، وقسم أربعة أخماسه على المسلمين ، فأصاب كل واحد منهم بعيرين ، وكانوا مائتي رجل وصار يسار رضي الله تعالى عنه في سهم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، فأعتقه حين رآه يصلي ، وغاب ( صلى الله عليه وسلم ) عن المدينة خمسة عشرة ليلة " ، وقرقرة بفتح القافين أرض ملساء ، وقال البكري : هي بضم القاف وإسكان الراء وبعدهما مثلهما والمعروف في ضبطهما الفتح . الكركر : كجعفر طائر ببحر الصين ، يطير تحت طائر يقال له شنة يتوقع فرقه ، لأن غذاءه منه . وخرشنة طائراً أكبر من الحمام وهو لا يفرق إلا وهو طائر ، كذا ذكره القزويني .
الكركند : رأيت بخط إسماعيل بن محمد الأمير ، ما مثاله : روي أنه في جزائر الصين والهند الكركند حيوان طوله مائة ذراع فأكثر من ذلك ، له ثلاثة قرون : قرن بين عينيه ، وقرنان على أذنيه ، يطعن الفيل فيأخذه في قرنه ، ويبقى بين عينيه مدة ، ويبقى ولد الكركند في بطن أمه أربع سنين ، وإذا تم له سنة ، يخرج رأسه من بطن أمه ، فيرعى الشجر مما يصل إليه ، وإذا تم له أربع سنين ، وقع من بطن أمه وفر كالبرق ، حتى لا تدركه فتلحسه بلسانها ، لأن لسانها فيه شوك كبير غليظ ، إذا لحسته أزالت لحمه عن عظمه في لحظة واحدة . وملوك الصين إذا عذبوا أحداً سلموه إلى الكركند يلحسه فيبقى عظاماً ليس عليه من اللحم شيء انتهى .
وسماه الجاحظ الكركدن ، ويسمى الحمار الهندي ، ويسمى الحريش كما تقدم ، وهو عدو الفيل ومعادنه بلاد الهند والنوبة ، وهو دون الجاموس ، ويقال : إنه متولد بين الفرس والفيل ، وله قرن واحد عظيم في رأسه ، لا يستطيع لثقله أن يرفع رأسه ، وهذا القرن مصمت قوي الأصل ، حاد الرأس ، يقاتل به الفيل فلا يفيد معه ناباه ، وإذا نشر قرنه طولا ، تخرج منه الصور المختلفة بياض في سواد كالطاوس والغزال ، وأنواع الطير والشجر ، وصور بني آدم وغير ذلك من عجائب النقوش ، يتخذون منه صفائح على سرر الملوك ومناطقهم ، ويتغالون في أثمانها . وزعم أهل الهند أن الكركند ، إذا كان بأرض لم يدع شيئاً من الحيوانات ، إلا ما كان بينه وبينه مائة فرسخ ، من جميع الجهات هيبة له وهرباً منه . ويزعمون أنه ربما نطح الفيل فرفعه على قرنه ، ويقال : إن الأنثى تحمل كأنثى الفيل ثلاث سنين أو سبع سنين ، ويخرج ولدها نابت الأسنان والقرون ، قوي(2/370)
"""""" صفحة رقم 371 """"""
الحوافر . وقيل : إذا قاربت الأنثى أن تضع يخرج الولد رأسه منها ، فيرعى أطراف الشجر ثم يرجع . وقد أنكر الجاحظ هذا . وليس في الحيوان ذو قرن مشقوق الطرف غيره ، وهو يجتر كالبقر والغنم والإبل ، ويأكل الحشيش ، لكنه شديد العداوة للإنسان إذا شم رائحته ، أو سمع صوته طلبه ، فإذا أدركه قتله . ولا يأكل منه شيئاً ، ويقال للأنثى كركندة قاله الزمخشري .
وأما حكمه فلم أر أحداً تعرض له مع التتبع الشديد ، والسؤال العديد ، والظاهر حله ، لأكله الشجر ولكونه يجتر ، ولا يمنع من ذلك كونه يعادي الإنسان ، فالضبع يعاديه ويؤكل ، فإن ثبت أنه متولد من الفرس والفيل حرم ، وهو بعيد .
الخواص : على رأس قرنه شعبة مخالفة لانحناء القرن ، وهي لها خواص عجيبة ، وعلامة صحتها أن يرى منها شكل فارس ، ولا توجد تلك الشعبة إلا عند ملوك الهند . ومن خواصها حل كل عقد ، فلو أخذها صاحب القولنج بيده شفي في الحال . والمرأة التي ضربها الطلق ، إن أمسكتها بيدها تلد في الحال ، وإن سحق منها شيء يسير وسقي المصروع أفاق ، وحاملها يأمن من عين السوء ، ولا يكبو به الفرس ، وإذا تركت في الماء الحار عاد بارداً ، وعينه اليمنى تعلق على الإنسان تزول عنه الآلام كلها ، ولا يقربه الجن ولا الحيات ، واليسرى تنفع من النافض والحمى ، ويتخذ من جلده التجافيف فلا تعمل فيها السيوف . خاتمة : قال أبو عمر بن عبد البر في كتاب الأمم : أشرف حلى أهل الصين من قرن الكركند فإن قرونها متى قطعت ظهر منها صور عجيبة مختلفة ، فيتخذون منها مناطق تبلغ قيمة المنطقة أربعة آلاف مثقال ذهباً ، والذهب عندهم هين عليهم ، حتى يتخذوا منه لجم دوابهم وسلاسل كلابهم . قال : وأهل الصين بيض إلى الصفرة ، فطس الأنوف ، يبيحون الزنا ولا ينكرون شيئاً منه ، ويورثون الأنثى أكثر من الذكر ، ولهم عيد عند نزول الشمس الحمل ، يأكلون فيه ويشربون سبعة أيام . وإقليمهم واسع فيه نحو ثلاثمائة مدينة ، وفيه عجائب كثيرة . قال : والأصل في ذلك أن عامور بن يافث بن نوح عليه السلام نزلها ، وابتنى بها المدائن هو وأولاده ، وعملوا فيها العجائب وكانت مدة ملك عامور ثلاثمائة سنة ، ثم ملك بعده ابنه صاين بن عامور مائتي سنة ، وبه س الصين ، فجعل حينئذ تمثالا من ذهب على صورة أبيه على سرير من ذهب ، وعكف هو وقومه على عبادته ، وفعلوا بجميع ملوكهم ذلك ، وهم على دين الصابئين . قال : ووراء الصين أمم عراة منهم أمة يلتحفون بشعورهم ، وأمم لا شعر لهم ، وأمم حمر الوجوه شقر الشعور ، وأمم إذا طلعت الشمس هربوا إلى مغارات يأوون إليها إلى أن تغرب الشمس ، وأكثر ما يأكلون نبات يشبه الكمأة وسمك البحر ، ثم ذكر بعد هؤلاء يأجوج ومأجوج . قال : وأجمعوا على أنهم من ولد يافث بن نوح . ثم ختم الكتاب بأن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) سئل عن يأجوج ومأجوج ، هل بلغتهم دعوتك ؟ فقال ( صلى الله عليه وسلم ) : " مررت بهم ليلة أسري بي فدعوتهم فلم يجيبوا " .
وأما تعبير رؤيته في المنام : فإنه ملك عظيم جائر ، وقيل : إن رؤيته تدل على الحرب والمخادعة مع حقارته وعجمته ودناءة أصله ، وربما كان مسلطاً بماله وولده .
الكركي : طائر كبير معروف ، والجمع الكراكي ، وكنيته أبو عريان وأبو عينا وأبو العيزار(2/371)
"""""" صفحة رقم 372 """"""
وأبو نعيم وأبو الهيصم ، وذهب بعض الناس إلى أنه الغرنوق ، وهو أغبر طويل الساقين ، والأنثى منه لا تقعد للذكر عند السفاد ، وسفاده سريع كالعصفور ، وهو من الحيوان الذي لا يصلح إلا برئيس ، لأن في طبعه الحذر والتحارس في النوبة ، والذي يحرس يهتف بصوت خفي ، كأنه ينذر بأنه حارس ، فإذا قضى نوبته قام الذي كان نائماً يحرس مكانه حتى يقضي كل ما يلزمه من الحراسة ولها مشات ومصايف ، ومنها ما يلزم موضعاً واحداً ومنها ما يسافر بعيداً ، وفي طبعه التناصر ، ولا تطير الجاعة منه متفرقة ، بل صفاً واحداً ، يقدمها واحد منها ، كالرئيس لها وهي تتبعه ، يكون ذلك حيناً ، ثم يخلفه آخر منها مقدماً ، حتى يصير الذي كان مقدماً مؤخراً ، وفي طبعه أن أبويه إذا كبرا عالهما ، وقد مدح هذا الخلق أبو الفتح كشاجم حيث يقول مخاطباً لولده :
اتخذ في خلة الكراكي . . . أتخذ فيك خلة الوطواط
أنا إن لم تبرني في عناء . . . فببري ترجو جواز الصراط
ومعنى قوله خلة الوطواط ، أنه يبر ولده فلا يتركه بمضيعة ، بل يحمله معه حيثما توجه ، وقد كذب المحدثون جميع بن عمير التيمي في قوله : إن الكراكي تفرخ في السماء ولا تقع فراخها ، وله في السنن الأربعة ثلاثة أحاديث وحسن له الترمذي لكنه من عتق الشيعة .
قال القزويني : والكراكي لا يمشي على الأرض إلا بإحدى رجليه ، ويعلق الأخرى ، وإن وضعها وضعها وضعاً خفيفاً مخافة أن تخسف به الأرض . وسيأتي إن شاء الله تعالى ، في مالك الحزين طرف من هذا . ولملوك مصر وأمرائها في صيده تغال لا يدرك حده ، وإنفاق مال لا يستطاع حصره وعده ، فلذلك علت مملكتهم على كثير من الممالك ، ولن يهلك على الله إلا هالك أو متهالك .
وفي مصنف عبد الرزاق عن معمر عن قتادة عن أنس وأبي موسى ، أن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه كان نقش خاتمه كركي له رأسان ، قال ابن بطال : وهذا إن كان صحيحاً ، فلا حجة فيه لإباحة ذلك لترك الناس العمل به ، ولنهيه ( صلى الله عليه وسلم ) عن التصوير . فائدة : ذكر السهيلي عن رواية ابن إسحاق أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لما كان في بني سعد ، نزل عليه كركيان فشق أحدهما بمنقاره جوفه ، ومج الآخر في فيه بمنقاره ثلجاً ، أو برداً أو نحو هذا . قال : وهي رواية غريبة ذكرها يونس عنه . وفي أوائل المجالسة للدينوري ، أنه " أقبل عليه ( صلى الله عليه وسلم ) طيران أبيضان ، كأنهما نسران " . إلى آخره . وفي المستدرك : " فأقبل عليه ( صلى الله عليه وسلم ) طيران أبيضان كأنهما نسران " . وذكر الحديث بطوله .
وروى ابن أبي الدنيا وغيره ، بإسناد يرفعه إلى أبي ذر رضي الله عنه ، قال : قلت : يا رسول الله كيف علمت أنك نبي وبم علمت حتى استيقنت ؟ قال ( صلى الله عليه وسلم ) : " يا أبا ذر أتاني ملكان فوقع أحدهما بالأرض ، وكان الآخر بين السماء والأرض ، فقال أحدهما لصاحبه : أهو هو ؟ قال : هو هو . قال : فزنه برجل ، فوزنني برجل فرجحته . ثم قال : زنه بعشرة فوزنني بعشرة فرجحتهم . ثم قال : زنه بمائة فوزنني فرجحتهم . ثم قال : زنه بألف فوزنني فرجحتهم . ثم قال أحدهما(2/372)
"""""" صفحة رقم 373 """"""
لصاحبه : شق بطنه . فشق بطني ، فأخرج قلبي ، فأخرج منه مغمز الشيطان وعلق الدم ، ثم قال أحدهما لصاحبه : اغسل بطنه غسل الإناء ، واغسل قلبه غسل الملاء ، ثم قال أحدهما لصاحبه : خط بطنه ، فخاط بطني ، وجعل الخاتم بين كتفي كما هو الآن ، وولياً عني فكأني أعاين الأمر معاينة " .
قلت : وفي هذا الحديث من الفوائد أن خاتم النبوة لم يكن قبل ذلك ، واختلف العلماء في صفته على عشرين قولا حكاها الحافظ قطب الدين . ففي سيرة ابن هشام أنه كأثر المحجمة القابضة على اللحم . وفي الحديث أنه كان حوله خيلان فيها شعرات سود . وروي أنه كان كالتفاحة ، وكزر الحجلة ، مكتوب عليه لا إله إلا الله محمد رسول الله . وقد تقدم في باب الحاء المهملة ما وقع فيه للترمذي . وروى أنه كان كبيضة الحمامة .
وروى الحاكم والترمذي في المناقب عن أبي موسى رضي الله تعالى عنه ، قال : خرج أبو طالب إلى الشام ، وخرج معه النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في أشياخ من قريش ، فلما أشرفوا على الراهب ، هبطوا فحلوا رحالهم ، فخرج إليهم الراهب حتى جاء فأخذ بيد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وقال : هذا سيد الخلق أجمعين ، هذا رسول رب العالمين ، هذا يبعثه الله رحمة للعالمين . فقال له أشياخ قريش : ما أعلمك بهذا ؟ فقال : إنكم حين أشرفتم على العقبة لم يبق حجر ولا شجر إلا خر ساجداً لله تعالى ، وسلم على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، ولا يفعل ذلك إلا لنبي وإني لأعرفه بخاتم النبوة أسفل من غضروف كتفه مثل التفاحة .
ثم رجع فصنع لهم طعاماً ، فلما أتاهم به لم يجده وكان ( صلى الله عليه وسلم ) في رعية الإبل ، فقال : ارسوا إليه ، فأرسلوا إليه فأقبل ( صلى الله عليه وسلم ) وعليه غمامة تظله ، فلما دنا من القوم وجدهم قد سبقوه إلى فيء الشجرة ، فلما جلس ( صلى الله عليه وسلم ) مال فيء الشجرة عليه ، قال : فبينما هو قائم عليهم يناشدهم أن لا يذهبوا به إلى الروم ، فإن الروم إذا رأوه عرفوه بالصفة فيقتلونه ، فالتفت فإذا هو بسبعة من الروم قد أقبلوا ، فاستقبلهم وقال : ما جاء بكم ؟ قالوا : أخبرنا أن هذا النبي خارج في هذا الشهر ، فلم يبق طريق إلا وقد بعث إليه أناس ، وإنا قد أخبرنا يقيناً أنه في طريقك هذا . فقال : هل خلفتم أحداً هو خير منكم ؟ قالوا : لا وإنما اخترنا طريقك هذا لأجلك . قال : أفرأيتم أمراً أراد الله أن يقضيه ، هل يستطيع أحد من الناس أن يرده ؟ قالوا : لا . قال : فبايعوه ، فبايعوه وأقاموا معه . ثم قال : أنشدكم بالله أيكم وليه ؟ قالوا : أبو طالب ، فلم يزل يناشده حتى رده أبو طالب ، وبعث معه أبو بكر بلالا رضي الله عنهما ، وزوده الراهب من الكعك والزيت . قال الحاكم : صحيح على شرط الشيخين . وقال أبو عيسى : هذا حديث حسن غريب . ورجال سنده جميعهم مخرج لهم في الصحيح .
قال الحافظ الدمياطي : في هذا الحديث وهمان ، الأول قوله فبايعوه وأقاموا معه ، والثاني قوله وبعث معه أبو بكر وبلالا ، ولم يكونا معه ، ولم يكن بلال أسلم ولا ملكه أبو بكر بعد ، بل كان أبو بكر حينئذ لم يبلغ عشرين سنة ، ولم يملك بلالا إلا بعد ذلك بأكثر من ثلاثين عاماً .(2/373)
"""""" صفحة رقم 374 """"""
قال السهيلي : والحكمة في خاتم النبوة على جهة الاعتبار ، أنه ( صلى الله عليه وسلم ) لما ملئ قلبه حكمة ويقيناً ختم عليه ، كما يختم على الوعاء المملوء مسكاً أو دراً . وأما وضعه أسفل من غضروف الكتف ، فلأنه ( صلى الله عليه وسلم ) معصوم من وسوسة الشيطان ، وذلك الموضع منه يوسوس الشيطان لابن آدم ، لما روى ميمون بن مهران عن عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى ، أن رجلا سأل ربه سنة أن يريه موضع الشيطان منه ، فأري جسداً كالبلور ، يرى داخله من خارجه ، والشيطان في صورة ضفدع عند نغض كتفه ، يحاذي قلبه له خرطوم كخرطوم البعوضة ، قد أدخله إلى قلبه يوسوس له ، فإذا ذكر الله العبد خنس . وقد تقدم هذا في باب الضاد المعجمة في الضفدع منقولا عن الزمخشري .
قلت : وانشقاق الصدر حصل له ( صلى الله عليه وسلم ) مرتين : إحداهما في صغره وهي هذه ، والأخرى في كبره ليلة الإسراء . ففي الصحيحين من حديث أنس وأبي ذر أنه ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " فرج عني سقف بيتي ، وأنا بمكة ، فنزل جبريل ففرج صدري ثم غسله بماء زمزم ، ثم جاء بطشت من ذهب ممتلئ حكمة وإيماناً فأفرغه في صدري ثم أطبقه " .
وقال أنس بن مالك عن مالك بن صعصعة أنه ( صلى الله عليه وسلم ) حدثهم عن ليلة أسري به قال : " بينما أنا في الحطيم ، وربما قال في الحجر بين النائم واليقظان ، إذ نزل علي رجلان ، فأتيت بطشت من ذهب مملوء حكمة وإيماناً ، فشق صدري من النحر إلى مراق البطن ، واستخرج قلبي فغسل ، ثم حشي ثم أعيد " . وقال سعيد بن هشام : " ثم غسل البطن بماء زمزم ثم ملئ إيماناً وحكمة ثم أتيت بالبراق فركبته " . الحديث بطوله . وقال قوم : عرج به ( صلى الله عليه وسلم ) من دار أم هانئ أخت علي بن أبي طالب رضي الله عنهما .
الحكم : يحل أكله بلا خلاف ، وما أوهمه العبادي من جريان ، خلاف طير الماء الأبيض فيه شاذ مردود . وقال الأصحاب : ما كان من الطيور المأكولة أكبر من الحمام كالبط والكركي ، إذا قتلها المحرم أو قتلت في الحرم ، فيه قولان : أحدهما إيجاب الشاة إلحاقاً بالحمام من باب أولى ، لأنه أكبر شكلا من الحمام ، ويشهد له قول عطاء في عظام الطير شاة كالكركي والحبارى والأوز ، والقول الثاني اعتبار القيمة ، وهو القياس ، فإن الشاة في الحمام لا تباع النقل . ويشهد له قول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، ما كان سوى حمام الحرم ، ففيه ثمنه إذا أصابه المحرم .
الأمثال : قالوا : فلان أحرس من الكركي لأنه يقوم الليل كله على إحدى رجليه كما تقدم . ومن أحسن ما يحكى عن الإمام الزاهد القدوة أبي سليمان الداراني أنه قال : اختلفت إلى مجلس قاص فتكلم فأحسن في كلامه فأثر كلامه في قلبي ، فلما قمت لم يبق في قلبي منه شيء ، فعدت ثانياً فسمعت كلامه فبقي في قلبي أثر كلامه في الطريق ، ثم زال ثم عدت ثالثاً ، فبقي في قلبي أثر كلامه حتى رجعت إلى منزلي ، فلزمت الطريق . فحكيت هذه الحكاية ليحيى بن معاذ الرازي رحمه الله تعالى . فقال " عصفوراً اصطاد كركياً " أراد بالعصفور ذلك القاص وبالكركي أبا سليمان .(2/374)
"""""" صفحة رقم 375 """"""
الخواص : لحم الكركي بارد يابس لا دسم له أجرة صيد البازي ، ينفع أصحاب الكد لكنه سيء الهضم ، ويدفع ضرره إنضاجه بالأبازير الحارة ، وهو يولد دماً غليظاً ، ويوافق أصحاب الأمزجة الحارة ، لا سيما الشباب ، وأجود أكله في الشتاء ، ويختار أن يتحلى بعده بالحلوى العسلية ، فإنها مما يسهل خروجه ، ويجب أن لا يؤكل إلا بعد يوم أو يومين . وتشد في أرجلها الحجارة ، وتعلق ليرخص لحمها ، وتنضج في طبخها وتستمرئ عند أكلها ، وكذلك يفعل فيما لحمه كذلك غليظ عسر الاستمراء ، لا سيما إناثها ، ومرارته تنفع من القرع ، وإذا خلطت مع دماغه بزئبق ، وسعط بها الذي ينسى ، فإنه يذكر ما ينساه . ومن أحب أن لا ينبت في بدنه من الشعر فليأخذ جزءاً من الذراريح ، ومثله مخ كركي ويدفهما جميعاً ويطلي بهما أي موضع اختاره من بدنه ، فإنه لا يطلع فيه شعر .
التعبير : الكركي في المنام تدل رؤيته على رجل مسكين غريب ، ومن رأى كأنه راكب كركياً فإنه يفتقر ، ومن رأى أنه ملك كثيراً منها أو وهب له ، فإنه ينال رياسه ومالا ، ولحم الكركي لمن أراد المشاركة أو الزواج دليل خير ، لأنها لا تفترق في طيرانها ، وقيل : إن من رأى أنه أخذ كركياً صاهر قوماً سيئة أخلاقهم . وقالت النصارى والروم : من رأى كركياً سافر سفراً بعيداً ، وإن رآه ا مسافراً رجع إلى بلده . وقال ارطاميدورس : الكركي في الشتاء تدل على اللصوص ، وقطاع الطريق ، وهي دليل خير من أراد الأولاد ، لأنها تعين آباءها عند الكبر والله أعلم .
الكروان : بفتح الكاف والراء المهملة طائر يشبه البط لا ينام الليل ، سمي بضده من الكرى ، والأنثى كروانة وجمع كروان كروان بكسر الكاف كورشان وورشان على غير قياس قال بكر بن سوادة في خالد بن صفوان :
عليم بتنزيل الكتاب ملقن . . . ذكور بما أسداه أول أولا
ترى خطباء الناس يوم ارتجاله . . . كأنهم الكروان عاين أجدلا
وقال طرفة في أبياته التي كانت سبب قتله :
لنا يوم وللكروان يوم . . . تطير اليابسات ولا نطير
فأما يومهن فيوم سوء . . . تطاردهن بالحرب الصقور
وأما يومنا فنظل ركباً . . . وقوفاً ما نحل ولا نسير
فكتب له عمرو بن هند وللمتلمس كتابين إلى عامله المكعبر بقتلهما ، فقتل طرفة وسلم المتلمس لما قرئت عليه الصحيفة ، والقصة في ذلك مشهورة ، وتقدمت الإشارة إليها في القبرة . ووقع ذكره هذه الصحيفة في سنن أبي داود في آخر كتاب الزكاة ، وذلك أن عيينة بن حصن الفزاري والأقرع بن(2/375)
"""""" صفحة رقم 376 """"""
حابس التميمي قدما على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، فسألاه ، فأمر لها عليه الصلاة والسلام بما سألاه . وأملى عليه الصلاة والسلام معاوية رضي الله تعالى عنه ، فكتب لها بما سألاه ، فأما الأقرع فأخذ كتابه فلفه في عمامته ، وانطلق إلى قومه . وأما عيينه فأخذ كتابه وأتى به النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : يا محمد أتراني حاملا إلى قومي كتاباً لا أدري ما فيه كصيحفة المتلمس ؟ فقال ( صلى الله عليه وسلم ) : " من سأل وعنده ما يغنيه فإنما يستكثر من النار " قالوا : يا رسول الله وما الذي يغنيه ؟ قال ( صلى الله عليه وسلم ) : " قدر ما يغديه أو يعشيه " .
وحكمه : حل الأكل بالإجماع .
الأمثال : قالوا : أجبن من كروان لأنه إذا قيل له : أطرق كروان النعام في القرى التصق بالأرض ، فيلقى عليه ثوب فيصاد ، وهذا المثل يضرب للمعجب بنفسه ، قال الشاعر :
أمير أبي موسى يرى الناس حوله . . . كأنهم الكروان أبصر بازيا
وقالوا فيه :
شهدت بأن الخبز باللحم طيب . . . وإن الحبارى خالة الكروان
يضرب عند الشيء يتمنى ولا يقدر عليه .
الخواص : قال القزويني : إن لحمه وشحمه يحركان الباه تحريكاً عجيباً .
الكسعوم : كحلقوم الحمار لغة حميرية والميم زائدة فيه ، وكسع حي من حمير باليمن رماة منه قولهم : ندمت ندامة الكسعي وهو رجل من كسع اسمه مجاور بن قيس ، رأى نبعة فرباها ، حتى اتخذ منها قوساً فرمى الوحش عنها ليلا فأصاب ، وظن أنه أخطأ ، فكسر القوس ، فلما أصبح رأى ما أصمى من الصيد فندم . قال الشاعر :
ندمت ندامة الكسعي لما . . . رأت عيناه ما صنعت يداه
روى الطبراني وغيره من حديث عبد الرحمن بن سمرة أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " لا زكاة في الكسعة والجبهة والنخة " . فسره أبو عبيد وغيره ، بأن الكسعة الحمير ، والجبهة الخيل ، والنخة العبيد . وقال الكسائي : إنما هو النخة بضم النون وهي البقر العوامل .
الكعيت : البلبل جاء مصغراً كما تقدم وجمعه كعتان . عجيبة : ذكر الأزرقي ، في تاريخ مكة أن طائراً أصغر من الكعيت ، لونه لون الحبرة بريشة حمراء ، وريشة سوداء ، دقيق الساقين طويلهما ، له عنق طويل ، دقيق المنقار طويله ، كأنه من طير البحر ، أقبل يوم السبت ، يوم سبع وعشرين من ذي القعدة سنة ست وعشرين ومائتين ، حين طلعت الشمس ، والناس إذ ذاك في الطواف ، كثير من الحاج وغيرهم ، وعبر من ناحية أجياد ،(2/376)
"""""" صفحة رقم 377 """"""
حتى وقع في المسجد الحرام ، قريباً من زمزم مقابل الحجر الأسود ، فمكث ساعة طويلة ثم طار ، حتى صدم الكعبة في نحو وسطها بين الركن اليماني والحجر الأسود ، وهو إلى الحجر الأسود أقرب . ثم وقع على منكب رجل في الطواف عند الحجر الأسود ، من الحاج من أهل خراسان محرم ، فلبى وهو على منكبه الأيمن ، فطاف به الرجل أسابيع ، والناس يدنون منه وبنظرون إليه وهو ساكن غير مستوحش منهم ، والرجل الذي هو عليه يمشي في الطواف في وسط الناس ، وهم ينظرون إليه ويتعجبون ، وعينا الرجل تدمعان على خديه ولحيته .
قال عبد الله بن ربيعة : رأيته على منكبه الأيمن ، والناس يدنون منه وينظرون إليه ، فلا ينقل منهم ولا يطير ، فطفت أسابيع ثلاثة كل ذلك أخرج من الطواف فأركع خلف المقام ، ثم أعود وهو على منكب الرجل . قال : ثم جاء إنسان من أهل الطواف ، فوضع يده عليه فلم يطر وطاف به بعد ذلك ثم طار هو من قبل نفسه حتى وقع على يمين المقام ، ومكث ساعة طويلة وهو يمد عنقه ويقبضها إلى جناحه ، والناس ينظرون إليه ، فأقبل فتى من الحجبة فضرب بيده فيه فأخذه ليريه رجلا منهم كان يركع خلف المقام ، فصاح الطير في يده أشد صياح ، بصوت لا يشبهه أصوات الطيور ، ففزع منه وأرسله من يده فطار حتى أتى بين يدي دار الندوة ، خارجاً من الظلال ، قريباً من الأسطوانة الحمراء ، واجتمع الناس ينظرون إليه ، وهو مستأنس في ذلك كله غير مستوحش من الناس ، ثم طار من قبل نفسه فخرج من باب المسجد الذي بين دار الندوة ودار العجلة نحو قعيقعان ، وقد تقدم في باب الهمزة ، في الأديم ما ذكره الأزرقي مما يشبه هذا . الككم : طائر بأرض طبرستان حسن موشى حسن العينين جداً سمي باسم صياحه الذي يصيحه ، وربما اصطاد العصافير وصغار الطير مما يكون في الآجام والمياه وغيرها ، لكن لا في جميع السنة بل في فصل الربيع ، فإذا صاح اجتمعت عليه العصافير وصغار الطيور مما يكون في الآجام والمياه ، وغيرها فتزقه من أول النهار فإذا كان آخر النهار أخذ واحداً منها فأكله ، فذلك فعله في كل يوم إلى أن ينقضي فصل الربيع ، فإذا انقضى انعكست عليه ، فلا تزال تجتمع عليه وتطرده وتضربه ، وهو يهرب منها ولا يسمع له صوت ، إلى فصل الربيع الآخر . وذكر علي بن زيد الطبري صاحب فردوس الحكمة أن هذا الطائر لا يكاد يرى قدماه على الأرض ، بل يطأ على إحدى رجليه على البدن . وذكر الجاحظ أن الككم من عجائب الدنيا ، وأنه لا يطأ على الأرض بقدميه جميعاً خشية أن تنخسف من تحته ، كما تقدم في الكركي . ومثل هذا يأتي إن شاء الله تعالى في مالك الحزين والنحام .
الكلب : حيوان معروف ، وربما وصف به فقيل للرجل كلب وللمرأة كلبة ، والجمع أكلب وكلاب وكليب ، مثل أعبد وعباد وعبيد وهو جمع عزيز . والأكالب جمع أكلب قال ابن سيده : وقد قالوا في جمع كلب كلابات . قال الشاعر :
أحب كلب في كلابات الناس . . . إلي نهجاً كلب أم عباس
وكلاب اسم رجل من أجداد النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وهو كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن الياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان .(2/377)
"""""" صفحة رقم 378 """"""
وكلاب إما منقول من المصدر ، الذي هو في معنى المكالبة ، نحو كالبت العدو مكالبة وكلاباً ، وإما جمع كلب ، وسموه بذلك طلباً للكثرة كما سموا سباع ، وأنمار .
قيل لأبي الدقيش الأعرابي : لم تسمون أبناءكم بشر الأسماء نحو كلب وذئب ؟ . وعبيدكم بأحسنها نحو مرزوق ورباح ؟ فقال : إنما نسمي أبناءنا لأعدائنا وعبيدنا لأنفسنا . وكأنهم قصدوا بذلك التفاؤل بمكالبة العدد وقهره ، والكلبة أنثى الكلاب ، وجمعها كلبات ولا تكسر . والكلب حيوان شديد الرياضة كثير الوفاء ، وهو لا سبع ولا بهيمة ، حتى كأنه من الخلق المركب لأنه لو تم له طباع السبعية ما ألف الناس ، ولو تم له طباع البهيمية ما أكل لحم الحيوان ، لكن في الحديث إطلاق البهيمة عليه . روى مسلم أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " بينما امرأة تمشي بفلاة من الأرض ، اشتد عليها العطش ، فنزلت بئراً فشربت ثم صعدت ، فوجدت كلباً يأكل الثرى من العطش ، فقالت : لقد بلغ بهذا الكلب مثل الذي بلغ بي ، ثم نزلت البئر فملأت خفها وأمسكته بفيها ، ثم صعدت فسقته ، فشكر الله لها ذلك ، وغفر لها " . قالوا : يا رسول الله أو لنا في البهائم أجر ؟ قال : " نعم في كل كبد رطبة أجر " .
وهو نوعان : أهلي وسلوقي نسبة إلى سلوق ، وهي مدينة باليمن تنسب إليها الكلاب السلوقية ، وكلا النوعين في الطبع سواء ، وفي طبعه الاحتلام ، وتحيض إناثه وتحمل الأنثى ستين يوماً ، ومنها ما يقل عن ذلك وتضع جراها عمياً ، فلا تفتح عيونها إلا بعد اثني عشر يوماً ، والذكور تهيج قبل الإناث وهي تنزو إذا كمل لها سنة ، وربما تسفد قبل ذلك ، وإذا سفد الكلبة كلاب مختلفة الألوان أدت إلى كل كلب شبهه . وفي الكلب من اقتفاء الأثر ، وشم الرائحة ما ليس لغيره من الحيوانات ، والجيفة أحب إليه من اللحم الغريض . ويأكل العذرة ويرجع في قيئه ، وبينه وبين الضبع عداوة شديدة وذلك أنه إذا كان في مكان عال أو موضع مرتفع ، ووطئت الضبع ظله في القمر رمى بنفسه عليها مخذولا ، فتأخذه فتأكله ، وإذا دهن كلب بشحمها جن واختلط ، وإذا حمل الإنسان لسان ضبع لم تنبح عليه الكلاب ، ومن طبعه أن يحرس ربه ويحمي حرمه شاهداً وغائباً ، ذاكراً وغافلا ، نائماً ويقظان ، وهو أيقظ الحيوان عيناً في وقت حاجته إلى النوم ، وإنما غالب نومه نهاراً عند الاستغناء عن الحراسة ، وهو في نومه أسمع من فرس ، وأحذر من عقعق ، وإذا نام كسر أجفان عينيه ولا يطبقها ، وذلك لخفة نومه ، وسبب خفته أن دماغه بارد بالنسبة إلى دماغ الإنسان ، ومن عجيب طباعه أنه يكرم الجلة من الناس وأهل الوجاهة ، ولا ينبح أحداً منهم ، وربما حاد عن طريقه وينبح الأسود من الناس والدنس الثياب والضعيف الحال .
ومن طباعه البصبصة والترضي والتودد والتألف ، بحيث إذا دعي بعد الضرب والطرد رجع ، وإذا لاعبه ربه عضه العض الذي لا يؤلم ، وأضراسه لو أنشبها في الحجر لنشبت ، ويقبل التأديب والتلقين والتعليم ، حتى لو وضعت على رأسه مسرجة وطرح له مأكول لم يلتفت إليه ما دام على تلك الحالة ، فإذا أخذت المسرجة عن رأسه وثب إلى مأكوله ، وتعرض له أمراض سوداوية في زمن مخصوص ، ويعرض له الكلب بفتح اللام وهو داء يشبه الجنون ، وعلامة ذلك أن تحمر عيناه(2/378)
"""""" صفحة رقم 379 """"""
وتعلوهما غشاوة ، وتسترخي أذناه ، ويندلع لسانه ويكثر لعابه ، وسيلان أنفه ، ويطأطئ رأسه وينحدب ظهره ، ويتعوج صلبه إلى جانب ، ولا يزال يدخل ذنبه بين رجليه ويمشي خائفاً مغموماً كأنه سكران ، ويجوع فلا يأكل ، ويعطش فلا يشرب ، وربما رأى الماء فيفزع منه ، وربما يموت منه خوفاً ، وإذا لاح له شبح حمل عليه من غير نبح ، والكلاب تهرب منه ، فإن دنا منها غفلة ، بصبصت له وخضعت ، وخشعت بين يديه ، فإذا عقر هذا الكلب إنساناً عرض له أمراض رديئة ، منها أن يمتنع من شرب الماء حتى يهلك عطشاً ، ولا يزال يستقي حتى إذا سقي الماء لم يشربه ، فإذا استحكمت هذه العلة به ، فقعد للبول خرج منه شيء على هيئة الكلاب الصغار .
قال صاحب الموجز في الطب : الكلب حالة كالجذام تعرض للكلب والذئب وابن آوى وابن عرس والثعلب ، ثم ذكر غالب ما تقدم ، وقال غيره : الكلب جنون يصيب الكلاب فتموت وتقتل كل شيء عضته إلا الإنسان ، فإنه قد يعالج فيسلم . قال : وداء الكلب يعرض للحمار ويقع في الإبل أيضاً ، فيقال : كلبت الإبل تكلب كلباً وأكلب القوم إذا وقع في إبلهم . ويقال : كلب الكلب واستكلب ، إذا ضرى ، وتعود أكل الناس انتهى . وذكر القزويني ، في عجائب المخلوقات ، أن بقرية من أعمال حلب بئراً ، يقال لها بئر الكلب ، إذا شرب منها من عضه الكلب برئ ، وهي مشهورة . قال : وقد أخبرني بعض أهل القرية ، أن المكلوب إذا لم يجاوز أربعين يوماً ، وشرب منها برئ أما إذا جاوز الأربعين فإنه يموت ولو شرب منها . وذكر أنه شاهد ثلاثة أنفس مكلوبين ، شربوا منها فسلم اثنان ، وكانا لم يبلغا الأربعين ، ومات الثالث وكان قد جاوز الأربعين . وهذه البئر يشرب منها أهل الضيعة .
وأما السلوقي فمن طباعه أنه إذا عاين الظباء قريبة منه أو بعيدة عرف المقبل من المدبر ، ومشي الذكر من مشي الأنثى ، وبعرف الميت من الناس والمتلات ، حتى إن الروم لا تدفن ميتاً حتى تعرضه على الكلاب ، فيظهر لهم من شمها إياه علامة تستحل بها على حياته أو موته ، ويقال : إن هذا لا يوجد إلا في نوع منها يقال له القلطي ، وهو صغير الجرم قصير القوائم جداً ، ويسمى الصيني . وإناث السلوقي أسرع تعلماً من الذكور ، والفهد بالعكس كما تقدم ، والسود من الكلاب أقل صبراً من غيرها .
وفي كتاب فضل الكلاب على كثير ممن لبس الثياب ، لمحمد بن خلف المرزبان عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله تعالى عنه ، قال : رأى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) رجلا قتيلا ، فقال ( صلى الله عليه وسلم ) : " ما شأنه " ؟ قالوا : إنه وثب على غنم بني زهرة ، فأخذ منها شاة ، فوثب عليه كلب الماشية فقتله . فقال ( صلى الله عليه وسلم ) : " قتل نفسه ، وأضاع ديته ، وعصى ربه ، وخان أخاه وكان الكلب خيراً منه " .
وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : كلب أمين خير من صاحب خؤون . قال : وكان للحارث بن صعصعة ندماء لا يفارقهم ، وكان شديد المحبة لهم ، فخرج في بعض منتزهاته ، ومعه(2/379)
"""""" صفحة رقم 380 """"""
ندماؤه فتخلف منهم واحد ، فدخل على زوجته ، فأكلا وشربا ثم اضطجعا ، فوثب الكلب عليهما فقتلهما . فلما رجع الحارث إلى منزله وجدهما قتيلين . فعرف الأمر فأنشأ يقول :
وما زال يرعى ذمتي ويحوطني . . . ويحفظ عرسي والخليل يخون
فيا عجباً للخل يهتك حرمتي . . . ويا عجبا للكلب كيف يصون
وذكر الإمام أبو الفرج بن الجوزي في بعض مصنفاته ، أن رجلا خرج في بعض أسفاره فمر على قبة مبنية أحسن بناء ، بالقرب من ضيعة هناك ، وعليها مكتوب : من أحب أن يعلم سبب بنائها ، فليدخل القرية . فدخل القرية ، وسأل أهلها عن سبب بناء القبة ، فلم يجد عند أحد خبراً من ذلك ، إلى أن دل على رجل قد بلغ من العمر مائتي سنة ، فسأله فأخبره عن أبيه أنه حدثه أن ملكاً كان بتلك الأرض ، وكان له كلب لا يفارقه في سفر ولا حضر ، ولا نوم ولا يقظة ، وكانت له جارية خرساء مقعدة ، فخرج ذات يوم إلى بعض منتزهاته وأمر بربط الكلب لئلا يذهب معه ، وأمر طباخه أن يصنع له طعاماً من اللبن كان يهواه ، وأن الطباخ صنعه وجاء به فوضعه عند الجارية والكلب وتركه مكشوفاً ، وذهب فأقبلت حية عظيمة إلى الإناء ، فشربت من ذلك الطعام وردته وذهبت .
ثم أقبل الملك من منتزهه ، وأمر بالطعام فوضع بين يديه ، فجعلت الجارية تصفق بيديها ، وتشير إلى الملك أن لا يأكله فلم يعلم أحد ما تريد ، فوضع الملك يده في الصفحة ، وجعل الكلب يعوي ويصيح ، ويجذب نفسه من السلسلة ، حتى كاد أن يقتل نفسه ، فتعجب الملك من ذلك وأمر بإطلاقه فأطلق فغدا إلى الملك وقد رفع يده باللقمة إلى فيه فوثب الكلب وضربه على يده فأطار اللقمة منها فغضب الملك ، وأخذ خنجراً كان بجنبه ، وهم أن يضرب به الكلب ، فأدخل الكلب رأسه في الإناء ، وولغ من ذلك الطعام ، فانقلب على جنبه وقد تناثر لحمه . فعجب الملك ثم التفت إلى الجارية ، فأشارت إليه بما كان من أمر الحية . ففهم الملك الأمر وأمر بإراقة الطعام ، وتأديب الطباخ على كونه ترك الإناء مكشوفاً ، وأمر بدفن الكلب وببناء القبة عليه ، وبتلك الكتابة التي رأيتها . قال : وهي من أغرب ما يحكى . وفي كتاب النشوان عن أبي عثمان المديني ، أنه قال : كان في بغداد رجل يلعب بالكلاب ، فتركه ومشى حتى انتهى إلى قوم كان بينه وبينهم عداوة ، فصادفوه بغيرعدة فقبضوا عليه ، والكلب يراهم ، فأدخلوه الدار ودخل الكلب معهم فقتلوا الرجل وألقوه في بئر وطموا رأس البئر ، وضربوا الكلب ، فأخرجوه وطردوه ، فخرج يسعى إلى بيت صاحبه فعوى فلم يعبأوا به ، وافتقدت أم الرجل ابنها ، وعلمت أنه قد تلف ، فأقامت عليه المأتم وطردت الكلاب عن بابها ، فلزم ذلك الكلب الباب ولم ينطرد فاجتاز يوماً بعض قتلة صاحبه بالباب ، والكلب رابض ، فلما رآه وثب عليه ، فخمش ساقه ونهشه وتعلق به ، واجتهد المجتازون في تخليصه منه ، فلم يمكنهم ، وارتفعت للناس ضجة عظيمة ، وجاء حارس الحرب وقال : لم يتعلق هذا الكلب بالرجل إلا وله معه قصة ؟(2/380)
"""""" صفحة رقم 381 """"""
ولعله هو الذي جرحه .
وسمعت أم القتيل الكلام فخرجت فحين رأت الكلب متعلقاً بالرجل ، تأملت في الرجل ، فتذكرت أنه كان أحد أعداء ابنها وممن يتطلبه ، فوقع في نفسها أنه قاتل ابنها ، فتعلقت به فرفعوهما إلى أمير المؤمنين الراضي بالله ، فادعت عليه القتل ، فأمر بحبسه بعد أن ضربه فلم يقر ، فلزم الكلب باب الحبس ، فلما كان بعد أيام أمر الراضي بإطلاقه ، فلما خرج من باب الحبس ، تعلق به الكلب كما فعل أولا ، فتعجب الناس من ذلك وجهدوا على خلاصه منه ، فلم يقدروا على ذلك إلا بعد جهد جهيد ، فأخبر الراضي بذلك فأمر بعض غلمانه أن يطلق الرجل ، ويرسل الكلب خلفه ويتبعه فإذا دخل الرجل داره بادره ، وأدخل الكلب معه فمهما رأى الكلب يعمل يعلمه بذلك ، ففعل ما أمره به ، فلما دخل الرجل داره بادره غلام الخليفة ودخل وأدخل الكلب معه ، ففتش البيت فلم ير أثراً ولا خبراً وأقبل الكلب ينبح ، ويبحث عن موضع البئر التي طرح فيها القتيل ، فتعجب الغلام من ذلك ، وأخبر الراضي بأمر الكلب ، فأمر بنبش البئر فنبشوها ، فوجدوا الرجل قتيلا ، فأخذوا صاحب الدار إلى بين يدي الراضي ، فأمر بضربه فأقر على نفسه ، وعلى جماعته بالقتل . فقتل وطلب الباقون فهربوا .
وفي عجائب المخلوقات ، أن شخصاً قتل شخصاً بأصبهان وألقاه في بئر ، وللمقتول كلب يرى ذلك ، فكان يأتي كل يوم إلى رأس البئر ، وينحي التراب عنه ، ويشير إليها ، وإذا رأى القاتل نبح عليه ، فلما تكرر ذلك منه حفروا البئر ، فوجدوا القتيل بها ، ثم أخذوا الرجل وقرروه فأقر فقتلوه به .
وفي الإحياء ، عن بعض الصوفية ، قال : كنا بطرسوس فاجتمعنا جماعة وخرجنا إلى باب الجهاد فتبعنا كلب من البلد ، فلما بلغنا باب الجهاد ، وإذا نحن بدابة ميتة فصعدنا إلى موضع خال فقعدنا ، فلما نظر الكلب إلى الميتة ، رجع إلى البلد ، ثم عاد ومعه نحو من عشرين كلباً ، فجاء إلى تلك الميتة وقعد ناحية ، ووقعت الكلاب في الميتة ، فما زالت تأكل إلى أن شبعت ، وذلك الكلب قاعد ينظر إلى الميتة ، حتى أكلت وبقيت العظام ، فلما رجعت الكلاب إلى البلد ، قام ذلك الكلب إلى العظام فأكل ما بقي عليها من اللحم ثم انصرف .
وفي الشعب للبيهقي وغيرها عن الفقيه منصور اليمني الشافعي الضرير ، وله مصنفات في المذهب وشعر حسن أنه كان ينشد لنفسه :
الكلب أحسن عشرة . . . وهو النهاية في الخساسه
ممن ينازع في الريا . . . سة قبل إبان الرياسه
ثم قال البيهقي : وكان الشيخ الإمام القاضي أبو الطيب الطبري يقول : من تصدر قبل أوانه فقد تصدى لهوانه . وقال شعيب بن حرب : من رضي أن يكون ذنباً أبى الله إلا أن يجعله(2/381)
"""""" صفحة رقم 382 """"""
رأساً . ومن محاسن شعر الفقيه منصور اليمني المتقدم ذكره ، ووفاته في سنة ست وخمسين وثلاثمائة قوله :
لي حيلة فيمن ينم . . . وليس في الكذاب حيله
من كان يخلق ما يقو . . . ل فحيلتي فيه قليله
ولقد أجاد علي بن عبد الواحد البغدادي المعروف بصريع الدلاء في قوله :
من فاته العلم وأخطاه الغنى . . . فذاك والكلب على حد سوا
وهذا البيت آخر قصيدة له في المجون ، ذكر فيها من صنعة الغزل فنوناً ، ولو لم يكن له سواه لكفاه ، وهي طويلة طنانه عجز فحول الشعراء أن يزيدوا فيها بيتاً واحداً . وتوفي في رجب سنة اثنتي عشرة وأربعمائة فجأة بشرقة لحقته عند الشريف البطحاوي .
وذكر ابن خلكان أن الحسين بن أحمد المعروف بابن الحجاج الشاعر المشهور ، لما حضرته الوفاة أوصى بأن يدفن عند رجلي الإمام موسى بن جعفر أحد الأئمة الإثني عشر رضي الله عنهم على رأي الإمامية وأن يكتب على قبره " وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد " . قال : وابن الحجاج ذو خلاعة ومجون . وقيل : إنه دعي إلى دعوة وتأخر الطعام عنه فقال :
يا ذاهباً في داره جائيا . . . من غير معنى بل ولا فائده
قد جن أضيافك من جوعهم . . . فاقرأ عليهم سورة المائده
ودعوة الطعام بفتح الدال . وأما قول قطرب في مثلثته ، فقلت : عندي دعوة بضم الدال فمردود عليه انتهى .
فائدة : ذكر ابن عبد البر في كتابه بهجة المجالس وأنس المجالس ، أنه قيل لجعفر الصادق رضي الله عنه ، وهو أحد الأئمة الإثني عشر : كم تتأخر الرؤيا ؟ فقال : خمسين سنة لأن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) رأى كأن كلباً أبقع ولغ في دمه ، فأوله بأن رجلا يقتل الحسين ابن بنته رضي الله تعالى عنه . فكان الشمر بن ذي الجوشن قاتل الحسين ، وكان أبرص . فتأخرت الرؤيا بعده خمسين سنة ، كما تقدم في باب الهمزة في الأوز .
وفي هذا الكتاب أشياء تصلح للمذاكرة ، منها أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) رأى في منامه أنه دخل الجنة ، فرأى فيها عذقاً مدلى فأعجبه ، فقال : " لمن هذا " ؟ فقيل : هذا لأبي جهل . فشق عليه ( صلى الله عليه وسلم ) ذلك . فقال : " ما لأبي جهل والجنة ؟ والله لا يدخلها أبداً ، فإنه لا يدخلها إلا نفس مؤمنة " . فلما أتاه عكرمة بن أبي جهل رضي الله تعالى عنه مسلماً ، فرح به وقام إليه ، وتأول ذلك العذق عكرمة ابنه .(2/382)
"""""" صفحة رقم 383 """"""
ومنها أن بعض الشاميين كان عاملا لعمر رضي الله تعالى عنه ، فقال له : يا أمير المؤمنين رأيت كأن الشمس والقمر اقتتلا ، ومع كل واحد منهما فرقة من النجوم ، فقال له : مع أيهما كنت ؟ فقال : مع القمر . قال : مع الآية الممحوة ، لا عملت لي عملا أبداً ، فعزله . وقتل ذلك الرجل مع معاوية رضي الله عنه بصفين .
ومنها أن عائشة رضي الله تعالى عنها ، رأت ثلاثة أقمار سقطن في حجرها ، فقال لها أبو بكر رضي الله تعالى عنه : إن صدقت رؤياك ، فإنه يدفن في بيتك ثلاثة من خيار أهل الأرض . فلما دفن ( صلى الله عليه وسلم ) في بيتها قال لها أبو بكر رضي الله تعالى عنه : هذا أحد أقمارك ، وهو خيرها . وفيه أشياء كثيرة وكان الإمام أبو عمر يوسف بن عبد البر النمري القرطبي ، إمام عصره في الحديث والأثر وهو أحد نقلة المذاهب ، وتوفي هو والإمام الحافظ أبو بكر أحمد بن ثابت الخطيب البغدادي الشافعي حافظ المشرق في سنة ثلاث وستين وأربعمائة . ومما ينشد للشافعي رحمه الله تعالى :
ليت الكلاب لنا كانت مجاورة . . . وليتنا لا نرى ممن نرى أحدا
إن الكلاب لتهدا في مرابضها . . . والناس ليس بهاد شرهم أبدا
وفي الميزان للذهبي ، في ترجمة أحمد بن زرارة المدني بسند مظلم ، عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه ، قال : إن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " كيف أنتم إذا كان زمن يكون الأمير فيه كالأسد ، والحاكم فيه كالذئب الأمعط ، والتاجر فيه كالكلب الهرار ، والمؤمن بينهم كالشاة الولهاء بين الغنم ليس لها مأوى ، فكيف حال شاة بين أسد وذئب وكلب " .
وفي أمالي أبي بكر القطيعي ، عن أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه قال : صلى بنا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فمر بنا كلب فما بلغت يده رجله حتى مات . فلما انصرف رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من صلاته ، قال : " من الداعي على هذا الكلب آنفاً ؟ " فقال رجل من القوم : أنا يا رسول الله . فقال : " ما قلت " ؟ قال : قلت : اللهم إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت المنان بديع السموات والأرض ، يا ذا الجلال والإكرام اكفني هذا الكب بما شئت . فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : " لقد دعا الله باسمه الأعظم الذي إذا دعي به أجاب ، وإذا سئل به أعطى " والحديث في السنن الأربعة وفي مسند الإمام أحمد وكتابي الحاكم وابن حبان بغير قصة الكلب .
وأفاد الطبراني ، من حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما ، أن هذه الصلاة كانت صلاة العصر يوم الجمعة ، وأن الرجل المذكور الداعي على هذا الكلب سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه . فقال له النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : " يا سعد لقد دعوت في يوم وساعة بكلمات ، لو دعوت بهن على من في السموات والأرض استجيب لك فأبشر يا سعد " . وروى الإمام أحمد في الزهد ، عن جعفر بن سليمان ، قال : رأيت مع مالك بن دينار رضي الله تعالى عنه كلباً فقلت : ما تصنع بهذا يا أبا يحيى ؟ فقال : هذا خير من جليس السوء(2/383)
"""""" صفحة رقم 384 """"""
وفي مناقب الإمام أحمد ، أنه بلغه أن رجلا من وراء النهر عنده أحاديث ثلاثية ، فرحل الإمام أحمد إليه ، فوجد شيخاً يطعم كلباً ، فسلم عليه فرد عليه السلام ، ثم اشتغل الشيخ بإطعام الكلب ، فوجد الإمام في نفسه إذ أقبل الشيخ على الكلب ولم يقبل عليه ، فلما فرغ الشيخ من طعمة الكلب ، التفت إلى الإمام أحمد ، وقال له : كأنك وجدت في نفسك ، إذ أقبلت على الكلب ولم أقبل عليك ؟ قال : نعم . فقال الشيخ : حدثني أبو الزناد ، عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه ، أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " من قطع رجاء من ارتجاه قطع الله منه رجاءه يوم القيامة فلم يلج الجنة " . وأرضنا هذه ليست بأرض كلاب ، وقد قصدني هذا الكلب ، فخفت أن أقطع رجاءه فيقطع الله رجائي منه يوم القيامة . فقال الإمام أحمد : هذا الحديث يكفيني ثم رجع .
ويقرب من هذا ما في رسالة القشيري ، في باب الجود والسخاء ، أن عبد الله بن جعفر رضي الله عنهما ، خرج إلى ضيعة له ، فنزل على نخيل قوم ، وفيها غلام أسود يعمل فيها ، إذ أتى الغلام بغدائه ، وهي ثلاثة أقراص ، فرمى بقرص منها إلى كلب كان هناك فأكله ، ثم رمى إليه الثاني فأكله والثالث فأكله ، وعبد الله بن جعفر ينظر ، فقال : يا غلام كم قوتك كل يوم ؟ قال : ما رأيت . قال : فلم آثرت هذا الكلب ؟ فقال : إن هذه الأرض ليست بأرض كلاب ، وإنه جاء من مسافة بعيدة جائعاً ، فكرهت رده فقال له عبد الله : فما أنت صانع اليوم ؟ قال : أطوي يومي هذا . فقال عبد الله بن جعفر لأصحابه : ألام على السخاء وهذا أسخى مني ؟ ثم اشترى الغلام وأعتقه ، واشترى الحائط وما فيه ووهب ذلك له .
وتقدم في باب الحاء المهملة ، في الحمار ، أن الحاكم روى عن جابر رضي الله تعالى عنه ، أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " إذا سمعتم نباح الكلب ونهيق الحمار بالليل فتعوذوا بالله من الشيطان الرجيم ، فإنها ترى ما لا ترون وأقلوا الخروج إذا هدأت الرجل ، فإن الله تعالى يبث في الليل من خلقه ما شاء " .
غريبة : في كتاب البشر بخير البشر ، عن مالك بن نفيع أنه قال : ند بعير لي ، فركبت نجيبة لي وطلبته حتى ظفرت به ، فأخذته وانكفأت راجعاً إلى أهلي ، فأسريت ليلتي حتى كدت أصبح ، فأنخت النجيبة والبعير وعقلتهما ، واضطجعت في ذرا كثيب رمل ، فلما كحلني الوسن ، سمعت هاتفاً يقول : يا مالك يا مالك ، لو فحصت عن مبرك القعود البارك ، لسرك ما هنا لك ، قال : فثرت وأثرت البعير عن مبركه ، وحفرت فعثرت على صنم في صورة امرأة من صفاة صفراء كالورس ، مجلواً كالمرآة ، فأخرجته ومسحته بثوبي ونصبته قائماً فما تمالكت أن خررت له ساجداً . ثم قمت فنحرت البعير له ورششته بدمه ، وسميته غلاباً ثم حملته على النجيبة ، وأتيت به أهلي ، فحسدني عليه كثير من قومي ، وسألوني نصبه لهم ليعبدوه معي ، فأبيت عليهم وانفردت لعبادته ، وجعلت على نفسي كل يوم عتيرة ، وكانت لي ثلة من الضأن ، فأتيت على آخرها ، فأصبحت يوماً وليس لي ما أعتره ، وكرهت الاخلال بنذري ، فأتيته فشكوت إليه ذلك فإذا هاتف من جوفه يقول : يا مال يا مال ، لا تأس على مال ، سر إلى طوى الأرقم ، فخذ الكلب الأسحم ، الوالغ في(2/384)
"""""" صفحة رقم 385 """"""
الدم ثم صد به تغنم . قال مالك : فخرجت من فوري إلى طوى الأرقم ، فإذا كلب أسحم هائل المنظر ، قد وثب على قرهب ، يعني ثوراً وحشياً ، فصرعه وأنا أنظر إليه ، ثم بقر بطنه وجعل يلغ في دمه فتهيبته ، ثم تجاسرت فتقدمت عليه وهو مقبل على عقيرته ، لم يلتفت إلي فشددت في عنقه حبلا ، ثم جذبته فتبعني فأتيت راحلتي فأثرتها وقدتها ، إلى القرهب وأنختها فجررته وحملته عليها ، ثم قدتها وسرت قاصداً إلى الحي والكلب يلوذ بي ، فعنت لي ظبية فجعل الكلب يثب ويجاذبني الحبل ، فترددت في إرساله ثم أرسلته ، فمر كالسهم حتى اختطفها ، فأتيته فجاذبته إياها ، فأرسلها من يديه ، فاستقر بي السرور ، وأتيت إلى أهلي فعترت الظبية لغلاب ، ووزعت لحم القرهب وبت بخير ليلة . ثم باكرت به الصيد ، فلم يفته حمار ولا ماطلة ثور ، ولا اعتصم منه وعل ، ولا أعجزه ظبي ، فتضاعف سروري به ، وبالغت في إكرامه وسميته سحاماً . فلبثت كذلك ما شاء الله . فإني لذات يوم أصيد به ، إذ بصرت بنعامة على أدحيها ، وهي قريبة مني فأرسلته عليها فأجفلت أمامه ، وأتبعتها على فرس جواد ، فلما كاد الكلب أن يثب عليها ، انقضت عليه عقاب من الجو ، فكر راجعاً نحوي ، فصحت به فما كذب ، وأمسكت الفرس فجاء سحام حتى دخل بين قوائمها ، ونزلت العقاب أمامي على شجرة ، وقالت : سحام قال الكلب : لبيك . قالت : هلكت الأصنام ، وظهر الإسلام ، فأسلم تنج بسلام ، وإلا فليست بدار مقام . ثم طارت العقاب وتبصرت سحاماً فلم أره وكان آخر عهدي به .
قوله طوى أرقم ، الطوى بئر مطوية بالحجارة ، والأسحم الأسود وبه سمي الكلب سحاماً ، فهو فعال من ذلك . وقوله : بنعامة على أدحيها ، أي الموضع الذي فيه بيضها وقوله ما كذب أي ما توقف ولا انثنى .
فائدة : روى الحاكم في المستدرك ، عن عائشة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها ، قالت : قدمت امرأة من أهل دومة الجندل علي تبتغي رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، بعد موته بيسير ، تسأله عن شيء دخلت فيه ، من أمر السحر لم تعلم به ، قالت : فرأيتها تبكي حين لم تجد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، حتى إني لأرحمها من كثرة بكائها ، وهي تقول : إني أخاف أن أكون قد هلكت ، فسألتها عن قصتها ، فقالت : كان لي زوج قد غاب عني ، فدخلت علي عجوز فشكوت لها حالي ، فقالت : إن فعلت ما آمرك به فإنه يأتيك بعلك فقلت : إني أفعل . فلما كان الليل جاءتني بكلبين أسودين ، فركبت أحدهما ، وتركت الآخر ، فلم يكن بأسرع حتى وقفنا ببابل ، فإذا أنا برجلين معلقين بأرجلهما ، فقالا : ما حاجتك ؟ وما جاء بك ؟ فقلت : أتعلم السحر ؟ فقالا : إنما نحن فتنة فلا تكفري وارجعي . فأبيت وقلت : لا أرجع . قالا : فاذهبي إلى التنور فبولي فيه ، فذهبت إليه فاقشعر جلدي ففزعت منه ، ولم أفعل فرجعت إليهما ، فقالا لي : فعلت ؟ قلت : نعم . قالا : هل رأيت شيئاً . قلت : لم أر شيئاً . فقالا : لم تفعلي . ارجعي إلى بلادك لا تكفري ، فأبيت فقالا : اذهبي إلى ذلك التنور فبولي فيه فذهبت إليه فاقعشر جلدي وخفت ثم رجعت إليهما فقالا لي : ما رأيت ؟ إلى أن قالت : فذهبت في الثالثة فبلت فيه فرأيت فارساً مقنعاً بالحديد ، خرج مني حتى ذهب في السماء ، فأتيتهما فأخبرتهما فقالا : صدقت ، ذاك إيمانك خرج منك ، اذهبي .(2/385)
"""""" صفحة رقم 386 """"""
فقلت للمرأة : والله ما علمت شيئاً ، ولا قالا لي شيئاً فقالت لي : بلى لن تريدي شيئاً إلا كان . خذي هذا القمح فابذريه ، فأخذته فبذرته . وقلت له : اطلع فطلع ثم قلت استحصد فاستحصد ، ثم قلت : انطحن فانطحن ، ثم قلت : انخبز فانخبز . فلما رأيت أني لا أقول شيئاً إلا كان سقط في يدي فندمت ، والله يا أم المؤمنين ما فعلت قط ولا أفعله أبداً . فسألت أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فما دروا ما يقولون لها ، وكلهم هاب أن يفتيها بما لا يعلم إلا أنهم قالوا لها : لو كان أبواك حيين أر أحدهما لكانا يكفيانك . ثم قال الحاكم : صحيح انتهى .
قال هشام بن عروة ، وهو راوي الحديث ، عن أبيه عن عائشة رضي الله تعالى عنها ، أنهم كانوا أي الصحابة رضي الله عنهم أهل ورع وخشية لله ، وبعد من التكلف والجراءة على الله ، فلذلك أمسكوا عن الفتيا لها ولو جاءتنا اليوم لوجدت الأمر بخلاف ذلك . قال بعض الحنابلة : قلت : فقد بان بهذا أن السحر والإيمان لا يجتمعان في قلب ، ولا يصير ساحراً وفي قلبه إيمان ، فاعتبر بحال هذه المرأة المسكينة كيف ألقاها الشيطان والهوى والنفس الأمارة بالسوء ، في ورطة هلكة لا تجبر مصيبتها ، وهذا دأب المعاصي تنكس الرؤوس وتوجب الحبوس ، وتضاعف البؤس ، ولقد أحسن القائل حيث قال :
إذا ما دعتك النفس يوماً لحاجة . . . وكان عليها للخلاف طريق
فخالف هواها ما استطعت فإنما . . . هواها عدو والخلاف صديق تذنيب : للسحر حقيقة وتأثير وقيل لا ، والصحيح أن الصواب الأول ، دل عليه ظاهر القرآن والسنة . قال المازري : اختلف العلماء في القدر الذي يقع به السحر ، ولهم فيه اضطراب ، فقال بعضهم : لا يزيد تأثيره على قدر التفريق بين المرء وزوجه ، لأن الله تعالى إنما ذكر ذلك تعظيماً لما يكون عنده ، وتهويلا له في حقنا فلو وقع به أعظم منه لذكره ، لأن المثل لا يضرب عند المبالغة ، إلا بأعلى أحوال المذكور . ومذهب الأشعريين أنه يجوز أن يقع به أكثر من ذلك ، قال : وهذا هو الأصح ، لأنه لا فاعل إلا الله تعالى ، وما وقع من ذلك فهو عادة أجراها الله تعالى ، ولا تفترق الأفعال في ذلك وليس بعضها أولى من بعض ، ولو ورد الشرع بقصوره عن مرتبة ، لوجب المصير إليه .
ولكن لا يوجد شرع قاطع بوجوب الاقتصار على ما قال القائل الأول ، وذكر التفرقة بين الزوجين في الآية ليس بنص في منع الزيادة وإنما النظر في أنه ظاهر أم لا . فإن قيل : إذا جوزت الأشعرية خرق العادة على يد الساحر ، فبماذا يتميز عن النبي ؟ فالجواب أن العادة تنخرق على يد النبي والولي والساحر ، لكن النبي يتحدى الخلق بها ، ويستعجزهم عن الاتيان بمثلها ، ويخبر عن الله تعالى بخرق العادة بها لتصديقه ، فلو كان كاذباً لم تنخرق على يديه ، ولو خرقها الله على يد كاذب لخرقها على يد المعارضين للأنبياء ، وأما الولي والساحر فلا يتحديان الخلق ، ولا يستدلان على نبوة ، ولو ادعيا شيئاً من ذلك ، لم تنخرق العادة لهما .
وأما الفرق بين الولي والساحر ، فمن وجهين أحدهما ، وهو المشهور ، إجماع المسلمين على أن(2/386)
"""""" صفحة رقم 387 """"""
السحر لا يظهر إلا على يد فاسق ، والكرامة لا تظهر إلا على يد ولي ، ولا تظهر على يد فاسق ، وبهذا جزم إمام الحرمين ، وأبو سعيد المتولي وغيرهما . والثاني أن السحر يكون ناشئاً بفعل ومزج ومعاناة وعلاج ، والكرامة لا تفتقر إلى ذلك وفي كثير من الأوقات يقع ذلك اتفاقاً ، من غير أن يستدعيه أو يشعر به والله تعالى أعلم .
وأما ما يتعلق بالمسألة من فروع الفقه ، فتعلم السحر وتعليمه حرام على الصحيح . والصواب عدم جواز تعليمه لكل أحد يريد تعلمه ، وقال القاضي حسين وإبراهيم المروزي : إن كان في تعليمه ترك طاعة لله عز وجل لا يجوز ، وإن لم يكن فإن قصد بتعلمه دفع ضرر سحر الناس عن نفسه جاز ، وإن قصد تعلمه ليسحر الناس لم يجز انتهى . والخلاف فيما إذا كان لا يتوقف على اعتقاد كفر أو مباشرة محظور كترك صلاة وغيرها ، أما إذا توقف على ذلك فتعلمه حرام بالإجماع ، والسحر من الكبائر .
ومذهب مالك وأبي حنيفة وأحمد أن الساحر يكفر لقوله تعالى : " وما كفر سليمان " لأنهم إنما نسبوا سليمان عليه السلام إلى السحر لا إلى الكفر . ولقوله تعالى حكاية عن الملكين " إنما نحن فتنة فلا تكفر " ومذهب الشافعي أنه لا يكفر إلا أن يكون فيه قول أو فعل يقتضي الكفر . قال الرافعي : من اعتقد إباحته فهو كافر . وقال ابن الصباغ : إن اعتقد التقرب إلى الكواكب السبعة وإنها تجيب إلى ما يقترح منها ، فهو كافر . وعن القفال أنه لو قال : أنا أفعل السحر بقدرتي دون قدرة الله تعالى فهو كافر . فلو تاب الساحر قبلت توبته عند الشافعي رحمه الله . وقال مالك رحمه الله : السحر زندقة ، فإن قال : أنا أحسن السحر قتل ، ولا تقبل توبته كما لا تقبل توبة الزنديق . وعن أبي حنيفة رحمه الله مثله . وعن الإمام أحمد رحمه الله روايتان كالمذهبين . وقال أبو حنيفة رضي الله عنه : إن المرأة الساحرة تحبس ولا تقتل ، وأما الساحر الذمي فلا يقتل إلا أن يضر بالمسلمين فيقتل لنقضه العهد . وقال أبو حنيفة رضي الله عنه : يقتل مطلقاً ، ويقال للرجل المسحور مطبوب . يقال طب الرجل إذا سحر ، فكنوا بالطب عن السحر ، كما كنوا بالسليم عن اللديغ . قال ابن الأنباري : الطب من الأضداد ، يقال لعلاج الداء طب وللسحر طب ، وهو من أعظم الأدواء ، ورجل طبيب أي حاذق سمي طبيباً لحذقه وفطنته والله تعالى أعلم .
فائدة أدبية : دخل أبو العلاء المعري يوماً على الشريف المرتضى فعثر برجل ، فقال له الرجل : من هذا الكلب ؟ فقال أبو العلاء : الكلب من لا يعرف للكلب سبعين اسماً . فقربه المرتضى واختبره فوجده علامة . ثم جرى ذكر المتنبي يوماً فتنقصه الشريف المرتضى وذكر معايبه ، فقال المعري : لو لم يكن للمتنبي من الشعر إلا قوله :
لك يا منازل في القلوب منازل لكفاه فضلا وشرفاً ، فغضب الشريف المرتضى وأمر بسحبه برجله وإخراجه من المسجد ، ثم(2/387)
"""""" صفحة رقم 388 """"""
قال لمن يحضر مجلسه : تدرون أي شيء أراد هذا الأعمى بذكر هذه القصيدة وللمتنبي أجود منها ولم يذكره ؟ قالوا : لا . قال : إنما أراد أن يذمني بقوله فيها :
وإذا أتتك مذمتي من ناقص . . . فهي الشهادة لي بأني كامل
وسئل شيخ الإسلام تقي الدين بن دقيق العيد عن أبي العلاء المعري ، فقال : هو في حيرة . وهذا أحسن ما قيل فيه .
فائدة أخرى : قال أبو نواس محمد بن هانئ في طريدته :
أتعب كلباً أهله في كده . . . قد سعدت جدودهم بجده
فكل خير عندهم من عنده . . . وكل رفد نالهم من رفده
يظل مولاه له كعبده . . . يبيت أدنى صاحب من فهده
إذا عرى جلله ببرده . . . ذا غرة محجلا بزنده
يلذ منه العين حسن قده . . . يا حسن شدقيه وطول خده
قيل : دخل أبو بكر الخالدي على الخليفة ، فأنشده قصيدة امتدحه بها فأجازه ، وكان بين يديه صحن يشم أزرق ، فلمحه أبو بكر فأعطاه الخليفة إياه فخرج من عنده وهو مسرور ، فمر على أبي الفتح بن خالويه فهناه أبو الفتح بذلك ، فلما أصبح جاء إلى الخدمة ، فقال له الخليفة : كيف حالك وكيف كان مبيتك ؟ قال : بخير ودعا له ، وقال : بتنا ندعوا لمولانا أمير المؤمنين ، وبت أتفنن في الصحن وأتملى بحسنه ، فأضفته إلى صدقات مولانا ورفده ، وكل خير عندنا من عنده ، فتنمر أمير المؤمنين ، واستشاط غضباً وزجره ، فخرج من عنده حزيناً كئيباً ، فمر على ابن خالويه فسأله عن السبب وما الخبر فأخبره بما قال ، فقال له أبو الفتح : أو قلتها . فقال : نعم . فقال : أين أنت ؟ أتجعل أمير المؤمنين كلباً أين ذهب عقلك ؟ أو ما سمعت قول أبي نواس في طريدته :
فكل خير عندهم من عنده . . . وكل رفد نالهم من رفده
فكاد الخالدي أن يموت فزعاً ثم قال له : عرفني كيف المخلص ؟ قال : تمارض مدة ثم أظهر أنك شفيت ثم تأتي أمير المؤمنين ، فإذا سألك عن سبب مرضك ، فقل له : طالعت طريدة أبي نواس ، فلما فعل ذلك رضي عنه أمير المؤمنين .
فائدة أخرى : اختلفوا في قوله تعالى : " وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد لو اطلعت عليهم لوليت منهم فراراً ولملئت منهم رعباً " أكثر أهل التفسير على أن كلب أهل الكهف كان من جنس الكلاب . وروى عن ابن جريج أنه قال : كان أسداً ويسمى الأسد كلباً لأن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) دعا(2/388)
"""""" صفحة رقم 389 """"""
على عتبة بن أبي لهب " أن يسلط الله عليه كلباً من كلابه " فأكله الأسد . وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : كان كلباً أغبر .
وفي رواية عنه أحمر ، واسمه قطمير . وقال مقاتل : كان أصفر . وقال القرطبي : صفرته تضرب إلى الحمرة . وقال الكلبي : كان خلنجي اللون . وقيل : كان لونه لون السماء . وقيل : كان أبلق أبيض وأسود وأحمر . وقال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه : اسمه ريان . وقال الأوزاعي : مشير .
وقال سعيد الحمال : حران . وقال عبد الله بن سلام : بسيط . وقال كعب الأحبار : صيهاً ، وقال وهب : نقياً . وقصة الإمام مالك في ذلك مشهورة معروفة . وقال فرقة : كان رجلا طباخاً لهم ، حكاه الطبري . وقال فرقة : كان أحدهم . وكان قد قعد عند باب الغار طليعة لهم فسمي باسم الحيوان الملازم لذلك الموضع من الناس ، كما سمي النجم التابع للجوزاء كلباً ، لأنه منها كالكلب من الإنسان . وهذا القول يضعفه بسط الذراعين ، فإنه في العرف من صفة الكلب . وحكى أبو عمرو المطرزي في كتاب اليواقيت وغيره ، أن جعفر بن محمد الصادق قرأ : " وكالبهم " فيحتمل أنه يريد هذا الرجل .
وقال خالد بن معدان : ليس في الجنة من الدواب سوى كلب أهل الكهف ، وحمار العزيز ، وناقة صالح وقد تقدم في أوائل باب السين المهملة في السبع الكلام على قوله تعالى : " سبعة وثامنهم كلبهم " ونزيد هنا أن قوله تعالى : " قل رب أعلم بعدتهم ما يعلمهم إلا قليل " أن المثبت في حق الله تعالى الأعلمية ، وفي حق القليل العالمية ، فلا تعارض بينهما . قال ابن عطية المفسر : حدثني أبي أنه سمع أبا الفضل بن الجوهري ، في سنة تسع وستين وأربعمائة ، يقول : إن من أحب أهل الخير نال من بركتهم . كلب أحب أهل فضل وصحبهم ، فذكره الله في القرآن معهم . وأما الوصيد ، فاختلف المفسرون فيه فقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : الوصيد فناء الكهف ، وهو قول مجاهد رضي الله تعالى عنه ، وقال سعيد بن جبير : الوصيد التراب . وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أيضاً . وقال السدي : الباب . وهو رواية عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وأنشد في ذلك :
بأرض فضاء لا يسد وصيدها . . . علي ومعروفي بها غير منكر
أي بابها وقال عطاء : الوصيد عتبة الباب . وقال العتبي : هو البناء الذي من فوقه ومن تحته ، مأخوذ من قولهم أوصدت الباب وآصدته . أي أغلقته وأطبقته " لو اطلعت عليهم " يا محمد " لوليت منهم فراراً " ، أي هرباً " ولملئت منهم رعباً " ، لما ألبسهم الله ومن الهيبة ، حتى لا يصل إليهم واصل منعهم بالرعب ، لئلا يراهم أحد . وقيل : إنما ذلك من وحشة المكان الذي هم فيه .
وروى عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، أنه قال : غزونا مع معاوية غزوة المضيق نحو(2/389)
"""""" صفحة رقم 390 """"""
الروم فمررنا بالكهف الذي فيه أصحاب أهل الكهف الذين ذكرهم الله في القرآن ، فقال معاوية : لو كشف لنا عن هؤلاء فنظرنا إليهم ، فقلت له : ليس لك ذلك قد منع الله ذلك من هو خير منك ، فقال تعالى : " لو اطلعت عليهم لوليت منهم فراراً ولملئت منهم رعباً " فقال معاوية : لا أنتهي حتى أعلم علمهم . ثم بعث ناساً لينظروا ، فقال : اذهبوا فادخلوا الكهف ، فذهبوا فلما دخلوا الكهف ، بعث الله عليهم ريحاً فأخرجتهم .
وذكر الثعلبي وغيره أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) سأل الله أن يريه إياهم ، فقال تعالى : إنك لن تراهم ولكن ابعث إليهم أربعة من كبار أصحابك ليبلغوهم رسالتك ويدعوهم إلى الإيمان بك فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لجبريل : " كيف أبعث إليهم " . فقال له جبريل عليه السلام : أبسط كساءك واجلس على طرف من أطرافه أبا بكر ، وعلى الطرف الثاني عمر ، وعلى الطرف الثالث عثمان ، وعلى الطرف الرابع علياً ، ثم ادع الريح الرخاء المسخرة لسليمان ، فإن الله يأمرها أن تطيعك . ففعل ذلك ( صلى الله عليه وسلم ) ، فحملتهم الريح إلى باب الكهف فقلعوا منه حجراً ، فحمل عليهم الكلب ، فلما رآهم حرك رأسه وبصبص إليهم وأومأ إليهم برأسه ، أن ادخلوا فدخلوا الكهف . فقالوا : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، فرد الله إلى الفتية أرواحهم ، فقاموا بأجمعهم فقالوا : وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته ، فقالوا : معشر الفتية ، إن النبي محمد بن عبد الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقرأ عليكم السلام ، فقالوا : وعلى محمد السلام ما دامت السموات والأرض ، وعليكم بما أبلغتم ، وقبلوا دينه ، ثم قالوا : اقرؤوا على محمد ( صلى الله عليه وسلم ) منا السلام ، وأخذوا مضاجعهم وصاروا إلى رقدتهم إلى آخر الزمان ، عند خروج المهدي ، فيقال : إن المهدي يسلم عليهم ، فيحييهم الله ويردون عليه السلام ، ثم يرجعون إلى رقدتهم فلا يقومون حتى تقوم الساعة .
ثم ردتهم الريح فقال لهم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : " كيف وجدتموهم " ؟ فأخبروه الخبر فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : " اللهم لا تفرق بيني وبين أصحابي وأنصاري ، واغفر لمن أحبني ، وأحب أهل بيتي وخاصتي " .
واختلف في سبب مصيرهم إلى الكهف ، فقال محمد بن إسحاق : مرح أهل الإنجيل وعظمت فيهم الخطايا ، وأطغتهم الجن حتى عبدوا الأصنام ، وذبحوا للطواغيت ، وكانت فيهم بقايا على دين المسيح ، يعبدون الله ، وكان ملكهم اسمه دقيانوس ، وكان قد عبد الأصنام وذبح للطواغيت ، حتى نزل مدينة أصحاب الكهف ، وهي أفسوس ، فهرب منه أهل الإيمان ، وكان حين قدمها ، أمر أن يجمع له أهل الإيمان ، فمن وقع به خيره بين القتل وعبادة الأصنام ، فمنهم من يرغب في الحياة ، ومنهم من يأبى فيقتل .
ثم أمر بأجسادهم أن تعلق على سور المدينة وعلى كل باب ، فحزن هؤلاء الفتية ، وأقبلوا على الصلاة والصيام والتسبيح والدعاء ، وكانوا ثمانية من أشراف القوم ، فعثر عليهم الملك فقال لهم : اختاروا : إما أن تعبدوا آلهتنا ، وإما أن أقتلكم فقال مكسلمينا ، وهو أكبرهم : إن لنا إلهاً هو ملك السموات والأرض ، وهو أعظم وأجل من كل شيء ، وهو المعبود ، فلن ندعو من دونه إلهاً . فقال الملك : ما يمنعني أن أعجل لكم العقوبة إلا أنكم شباب ، وأحب أن أجعل لكم أجلا(2/390)
"""""" صفحة رقم 391 """"""
لعلكم تتذكرون فيه ، وتراجعون عقولكم . فأخذوا من بيوتهم نفقة ، وخرجوا إلى الكهف يعبدون الله ، فأتبعهم كلب كان لهم ، وقال كعب : بل مروا بكلب ، فنبح بهم فطردوه ، فعاد فطردوه مراراً ، وهو يعود فقام الكلب على رجليه ورفع يديه إلى السماء ، كهيئة الداعي ونطق فقال : لا تخافوا مني فإني أحب أحباء الله ، فناموا حتى أحرسكم .
وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : هربوا ليلا ، وكانوا سبعة ، فمروا براع معه كلب فأتبعهم على دينهم فجعلوا يعبدون الله في الكهف ، وجعلوا نفقتهم إلى فتى منهم ، يقال له تمليخا ، فكان يبتاع لهم طعامهم من المدينة ، وكان من أجملهم وأجلدهم ، وكان إذا دخل المدينة لبس ثياب المساكين ، واشترى طعامهم وتجسس لهم الأخبار ، فلبثوا كذلك زماناً ، ثم أخبرهم تمليخا أن الملك يتطلبهم ، ففزعوا لذلك وحزنوا ، فبينما هم كذلك عند غروب الشمس ، يتحدثون ويتدارسون ، إذ ضرب الله على آذانهم في الكهف ، وكلبهم باسط ذراعيه بباب الكهف ، فأصابه ما أصابهم ، فسمع الملك أنهم في جبل فألقى الله في نفسه أن يأمر بالكهف فيسد عليهم ، حتى يموتوا جوعاً وعطشاً وهو يظنهم أيقاظاً ، أراد الله بذلك أن يكرمهم ، وأن يجعلهم آية لخلقه .
وقد توفى الله أرواحهم وفاة النوم ، والملائكة تقلبهم ذات اليمين وذات الشمال ، ثم عمد رجلان مؤمنان كانا في بيت الملك ، فكتبا شأن الفتية وأسماءهم وأنسابهم ، في لوح من رصاص ، وجعلاه في تابوت من نحاس ، وجعلاه في البنيان .
وقال عبيد بن عمير : كان أصحاب الكهف فتية مطوقين مصورين ذوي ذوائب ، وكان معهم كلب صيد فخرجوا في عيد لهم وأخرجوا آلهتهم التي كانوا يعبدونها فقذف الله في قلوبهم الإيمان ، وكان أحدهم وزير الملك ، فآمنوا وأخفى كل واحد منهم إيمانه عن صاحبه ، فخرج شاب منهم حتى انتهى إلى ظل شجرة ، ثم خرج آخر فرآه فظن أن يكون على مثل أمره ، وجاء من غير أن يظهر له ذلك ، ثم خرج الآخرون واحداً بعد واحد حتى اجتمعوا تحت الشجرة . فقال بعضهم لبعض : ما جمعكم هاهنا ؟ ثم قالوا : ليخرج كل فتيين فيخلوا ثم يفش كل واحد منهما أمره إلى صاحبه ، فخرج فتيان فذكر كل واحد منهما لصاحبه أمره ، فأقبلا مستبشرين قد اتفقا على أمر واحد ، ثم فعلوا جميعاً كذلك فإذا هم جميعاً على الإيمان . فقال بعضهم لبعض : ائووا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته ، ويهيئ لكم من أمركم مرفقاً ، فدخلوا الكهف ومعهم كلبهم ، فناموا ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعاً ، فلما لم يجدوهم كتبوا أسماءهم وأنسابهم في لوح : فلان وفلان أبناء ملوكنا فقدناهم ، في شهر كذا في سنة كذا ، في مملكة فلان بن فلان . ووضعوا اللوح في خزانة الملك ، وقالوا : ليكونن لهذا شأن .
وقال السدي : لما خرجوا ، مروا براع معه كلب ، فقال الراعي : إني أتبعكم على أن أعبد الله معكم ، قالوا : سر فسار معهم ، وتبعهم الكلب فقالوا : يا راعي هذا الكلب ينبح علينا ، وينبه بنا فما لنا به من حاجة . فطردوه فأبى إلا أن يلحق بهم ، فرجموه فرفع يديه كالداعي ، وأنطقه الله تعالى فقال : يا قوم لم تطردونني لم تضربونني لم ترجمونني ؟ فوالله لقد عرفت الله قبل أن(2/391)
"""""" صفحة رقم 392 """"""
تعرفوه بأربعين سنة فتعجبوا من ذلك وزادهم الله بذلك هدى .
وقال محمد الباقر : كان أصحاب الكهف صياقلة ، واسم الكهف حيوم ، والقصة طويلة مشهورة في كتاب التفاسير والقصص مطولا ومختصراً ، وقد وقفت على جمل من ذلك . فمن ذلك ما ساقه الإمام أبو إسحاق محمد بن أحمد بن إبراهيم النيسابوري الثعلبي ، في كتابه الكشف والبيان في تفسير القرآن ، وربما يتكرر شيء مما تقدم ، فيما آتي به . قال : قوله تعالى : " أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجباً " يعني ليسوا من أعجب آياتنا ، فإن فيم خلقت من السموات والأرض وما فيهن من العجائب أعجب منهم . والكهف هو الغار في الجبل . واختلفوا في الرقيم ، فقال وهب : حدثني النعمان بن بشير الأنصاري أنه سمع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يذكر الرقيم ، قال : إن ثلاثة نفر خرجوا مرتادين لأهليهم ، فبينما هم يمشون إذ أصابتهم السماء ، فأووا إلى كهف ، فانحطت صخرة من الجبل ، فانطبقت على باب الكهف ، فأوصد عليهم ، فقال قائل منهم : اذكروا أيكم عمل عملا حسناً ، لعل الله برحمته أن يرحمنا ، فقال رجل منهم : إني قد عملت حسنة مرة ، كان لي أجراء يعملون عملا لي ، استأجرت كل رجل منهم في نهاره بأجرة معلومة ، فجاءني رجل منهم ذات يوم وسط النهار ، فاستأجرته بشطر أجرة أصحابه ، فعمل في بقية نهاره كما عمل رجل منهم في نهاره كله ، فرأيت علي من الذمام ، أن لا أنقصه عما استأجرت من أصحابه ، لما رأيت من جهده في عمله .
فقال رجل منهم : أتعطي هذا مثل ما أعطيتني ولم يعمل إلا وسط النهار ؟ فقلت : يا عبد الله لم أبخسك شيئاً من شرطك ، وإنما هو مالي أحكم فيه بما شئت . فغضب وترك أجره فوضعت حقه في جانب من البيت ما شاء الله ، ثم مرت بي بعد ذلك بقر فاشتريت له بها فصيلة من البقر ، فبلغت ما شاء الله ، فمر بي بعد حين رجل شيخ كبير لا أعرفه ، فقال لي : إن لي عندك حقاً فذكرنيه حتى عرفته ، قلت له : إياك أبغي ، وهذا حقك وعرضتها عليه جميعاً ، فقال : يا عبد الله لا تسخر بي إن لم تصدق علي فأعطني حقي قلت : والله ما أسخر بك إنها لحقك ، مالي فيها لشيء فدفعتها إليه جميعاً . اللهم إن كنت تعلم أني فعلت ذلك لوجهك فافرج عنا الحجر ، فانصدع الحجر ففرج حتى رأوا وأبصروا .
وقال الآخر : قد عملت حسنة مرة ، كان لي فضل ، وأصابت الناس شدة ، فجاءتني امرأة تطلب مني معروفاً ، فقلت لها : والله ما هو دون نفسك ، فأبت علي وذهبت ، ثم رجعت فذكرتني بالله عز وجل ، والله مطلع عليها فأبيت عليها وقلت لها : والله ما هو دون نفسك ، فأبت علي وذهبت ، وذكرت لزوجها فقال لها : أعطيه نفسك وأغيثي عيالك فرجعت إلي وأنشدتني بالله ، فأبيت عليها وقلت لها : والله ما هو دون نفسك فلما رأت ذلك ، أسلمت إلي نفسها ، فلما كشفتها وهممت بها ارتعدت من تحتي ، فقلت لها : ما شأنك ؟ فقالت : إني أخاف الله رب العالمين فقلت لها : خفته في الشدة ولم أخفه في الرخاء وتركتها وأعطيتها ما يحق علي بما كشفتها . اللهم إن كنت(2/392)
"""""" صفحة رقم 393 """"""
فعلت ذلك لوجهك فافرج عنا الحجر فانصدع حتى عرفوا وتبين لهم .
وقال الآخر : قد عملت حسنة مرة ، كان لي أبوان شيخان كبيران ، وكان لي غنم فكنت أطعم والداي وأسقيهما ، ثم أرجع إلى غنمي ، فأصابني يوماً غيث ، فحبسني حتى أمسيت ، فأتيت أهلي وأخذت محلبي ، فحلبت غنمي وتركتها قائمة ، ومضيت إلى أبواي ، فوجدتهما قد ناما ، فشق علي أن أوقظهما ، وشق علي أن أترك غنمي ، فما برحت جالساً ومحلبي على يدي ، حتى أيقظهما الصبح فسقيتهما . اللهم إن كنت فعلت ذلك لوجهك فافرج عنا . قال النعمان بن بشير : لكأني أسمع من رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول : " قال الجبل طاق طاق ففرج الله عنهم فخرجوا " .
وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : الرقيم واد بين عمان وأيلة دون فلسطين ، وهو الوادي الذي فيه أصحاب الكهف .
وقال كعب : هي قريتهم وهو على هذا التأويل من رقمة الوادي ، وهو موضع الماء منه ، تقول العرب : عليك بالرقمة ودع الضفة . والضفتان جانبا الوادي .
وقال سعيد بن جبير : الرقيم لوح من حجارة . وقيل : من رصاص كتبوا فيه أسماء أهل الكهف ، وهو على هذا التأويل بمعنى المرقوم أي الكتاب المرقوم . والرقم الخط والعلامة والرقم الكتابة . ثم ذكر صفتهم فقال تعالى : " إذ أوى الفتية إلى الكهف " أي رجعوا وصاروا إليه .
واختلفوا في سبب مصيرهم إلى الكهف ، فقال محمد بن إسحاق : مرح أهل الإنجيل وكثرت الخطايا فيهم ، وعظمت الذنوب وطغت فيهم الملوك ، حتى عبدوا الأصنام وذبحوا للطواغيت ، وفيهم بقايا على دين المسيح عيسى ابن مريم عليهما السلام ، متمسكين بعبادة الله وتوحيده .
فكان ممن فعل ذلك ملك من ملوكهم من الروم ، يقال له دقيانوس ، كان قد عبد الأصنام وذبح للطواغيت ، وقتل من خالفه في ذلك ممن أقام على دين المسيح ، وكان ينزل قرى الروم فكان لا يترك فيها أحداً مؤمناً إلا فتنه ، حتى يعبد الأصنام ويذبح للطواغيت ، حتى نزل مدينة أصحاب الكهف ، وهي أفسوس ، فلما نزلها كبر ذلك على أهل الإيمان فاستخفوا منه ، وهربوا في كل وجه . وكان دقيانوس قد أمر حين قدمها أن يتتبع أهل الإيمان في أماكنهم ، فيجمعوا له واتخذ شرطة من الكفار ، من أهلها فجعلوا يتتبعون أهل الإيمان ، في أماكنهم فيخرجونهم إلى دقيانوس ، فيقدمهم إلى الجامع الذي يذبح فيه للطواغيت ، فيخيرهم بين القتل وعبادة الأصنام والذبح للطواغيت ، فمنهم من يرغب في الحياة ، ومنهم من يأب أن يعبد غير الله تعالى فيقتل .
فلما رأى أهل ذلك البلد الشدة في الإيمان بالله جعلوا يسلمون أنفسهم للعذاب والقتل ، فيقطعون ويعلق ما قطع من أجسادهم على سور المدينة ونواحيها كلها ، وعلى كل باب من أبوب ، حتى عظمت الفتنة على أهل الإيمان منهم ، من أقر فترك ، ومنهم من صلب على دينه فقتل .(2/393)
"""""" صفحة رقم 394 """"""
فلما رأى ذلك الفتية ، حزنوا حزناً شديداً فصلوا وصاموا واشتغلوا بالتسبيح والدعاء لله تعالى ، وكانوا من أشراف الروم ، وكانوا ثمانية فتفرقوا ، وتضرعوا ، وجعلوا يقولون : " ربنا رب السموات والأرض ، لن ندعو من دونه إلهاً ، لقد قلنا إذا شططا " ، اللهم اكشف عن عبادك المؤمنين ، هذه الفتنة وادفع البلاء والغم عن عبادك ، الذين آمنوا بك ، حتى يعلنوا عبادتهم إياك ، فبينما هم على ذلك إذا أدركهم الشرطة ، وكانوا قد دخلوا في مصلى لهم ، فوجدوهم سجداً على وجوههم يبكون ويتضرعون إلى الله تعالى ، ويسألونه أن ينجيهم من دقيانوس وفتنته .
فلما رآهم أولئك الكفرة ، قالوا لهم : ما خلفكم عن أمر الملك ؟ انطلقوا إليه . ثم خرجوا من عندهم فرفعوا أمرهم إلى دقيانوس ، فقالوا : نجمع الجميع وهؤلاء الفتية من أهل بيتك يسخرون بك ويعصون أمرك فلما سمع ذلك منهم أتى بهم وأعينهم تفيض من الدمع ، معفرة وجوههم في التراب ، فقال لهم : ما منعكم أن تشهدوا الذبح للآلهة التي تعبد في الأرض ، وأن تجعلوا أنفسكم كغيركم ؟ فاختاروا إما أن تذبحوا لآلهتنا كما يذبح الناس ، وإما أن أقتلكم ؟ فقال مكسلمينا ، وكان أكبرهم : إن لنا إلهاً ملأت السموات والأرض عظمته " لن ندعو من دونه إلهاً ، لقد قلنا إذا شططاً " ولن نقر بهذا الذي تدعو إليه أبداً ، ولكنا نعبد الله ربنا ، له الحمد والشكر والتسبيح من أنفسنا خالصاً أبداً ، إياه نعبد وإياه نسأل النجاة والخير ، فأما الطواغيت وعبادتها فلن نعبدها أبداً ، اصنع ما بدا لك .
ثم قال أصحاب مكسلمينا لدقيانوس مثل ما قال له ، فلما قالوا ذلك أمر فنزع منهم الملبوس الذي كان عليهم من لبوس عظمائهم ، وقال : إن فعلتم ما فعلتم فإني سأؤخركم وأفرغ لكم وأنجزكم ما وعدتكم من العقوبة ، وما يمنعني أن أعجل ذلك لكم إلا أني أراكم شباباً حديثة أسنانكم ، فلا أحب أن أهلككم حتى أجعل لكم أجلا ، تتذاكرون فيه وتراجعون عقولكم ، ثم أمر بحلية كانت عليهم من ذهب وفضة فنزعت عنهم ، ثم أمر بهم فأخرجوا من عنده وانطلق دقيانوس إلى مدينة سوى مدينتهم التي هم بها قريبة منهم ، لبعض أموره فلما علم الفتية أن دقيانوس خرج من مدينتهم ، بادروا قدومه وخافوا إذا قدم مدينتهم أن يذكرهم فائتمروا بينهم ، أن يأخذ كل رجل منهم نفقة من بيت أبيه فيتصدقوا منها ، ثم يتزودوا بما بقي ثم ينطلقوا إلى كهف قريب من المدينة ، في جبل يقال له منحلوس ، فيمكثون فيه ويعبدون الله تعالى ، حتى إذا جاء دقيانوس ، أتوه فقاموا بين يديه ، فيصنع بهم ما شاء . فلما قال ذلك بعضهم لبعض ، عمد كل فتى منهم إلى بيت أبيه ، فأخذ نفقة فتصدقوا منها ، وانطلقوا بما بقي معهم من نفقتهم ، واتبعهم كلب كان لهم . حتى أتوا ذلك الكهف في الجبل فلبثوا فيه .
وقال كعب الأحبار : مروا بكلب فنبح عليهم فطردوه ، فعاد ففعلوا ذلك مراراً ، فقال لهم الكلب : ما تريدون مني ؟ لا تخشوا جانبي فأنا أحب أحباب الله . فناموا حتى أحرسكم . وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : هربوا ليلا من دقيانوس بن حلانوس حين دعاهم(2/394)
"""""" صفحة رقم 395 """"""
إلى عبادة الأصنام ، وكانوا سبعة فمروا براع معه كلب ، فتبعهم على دينهم ، فخرجوا من البلد فآووا إلى الكهف وهو قريب من البلدة ، فلبثوا فيه ، ليس لهم عمل إلا الصلاة والصيام والتسبيح والتكبير والتحميد ، ابتغاء وجه الله ، وجعلوا نفقتهم إلى فتى منهم ، يقال له تمليخا ، فكان على طعامهم يبتاع لهم أرزاقهم من المدينة سراً ، وكان من أجملهم وأجلدهم ، فكان تمليخا يصنع ذلك ، فإذا دخل المدينة يضع ثياباً كانت عليه حساناً ، ويلبس كثياب المساكين ، الذين يطعمون فيها ، ثم يأخذ ورقة ثم ينطلق إلى المدينة فيشتري لهم طعاماً وشراباً ، ويسمع ويتجسس لهم الخبر ، هل ذكر أصحابه بشيء أم لا ثم يرجع إلى أصحابه .
فلبثوا كذلك ما لبثوا ، ثم قدم دقيانوس الجبار المدينة فأمر العظماء ، فذبحوا للطواغيت ، ففزع لذلك أهل الإيمان ، وكان تمليخا بالمدينة يشتري لأصحابه الطعام والشراب ، فرجع لأصحابه وهو يبكي ومعه طعام قليل ، فأخبرهم أن الجبار دقيانوس قد دخل المدينة ، وأنهم قد ذكروا مع عظماء المدينة ، ليذبحوا الطواغيت ، فلما أخبرهم فزعوا ووقعوا سجداً يدعون الله تعالى ، ويتضرعون إليه ، ويتعوذون به من الفتنة ، ثم إن تمليخا قال لهم : يا أخوتاه ارفعوا رؤوسكم وأطعموا من رزق الله ، وتوكلوا عليه ، فرفعوا رؤوسهم وأعينهم تفيض من الدمع ، حزناً وخوفاً على أنفسهم ، فطعموا منه وذلك عند غروب الشمس ، ثم جلسوا يتحدثون ويتدارسون ، ويذكر بعضهم بعضاً ، فبينما هم على ذلك إذ ضرب الله على آذانهم في الكهف ، وكلبهم باسط ذراعيه بباب الكهف ، فأصابه ما أصابهم ، وهم مؤمنون موقنون ونفقتهم عند رؤوسهم .
فلما كان الغد تفقدهم دقيانوس والتمسهم فلم يجدهم ، فقال لبعض أصحابه : قد ساءني هؤلاء الفتية الذين ذهبوا ، لقد كانوا ظنوا بي غضباً عليهم لجهلهم ما جهلوا من أمري ، وما كنت لأجهل عليهم ، ولا على واحد منهم إن تابوا وعبدوا إلهي .
فقال له عظماء المدينة : ما أنت بحقيق أن ترحم قوماً فجرة مردة عصاة ، مقيمين على ظلمهم ومعصيتهم ، قد كنت أجلتهم أجلا ، ولو شاؤوا لرجعوا في ذلك الأجل ، ولكنهم لم يتوبوا . فلما قالوا له ذلك : غضب غضباً شديداً ، ثم أرسل إلى آبائهم فسأل عنهم ؟ ثم قال : أخبروني عن أبنائكم المردة الذين عصوني ؟ فقالوا له : أما نحن فلن نعصيك ، فلم تقتلنا بقوم مردة ذهبوا بأموالنا فأهلكوها بأسواق المدينة ، ثم انطلقوا فارتقوا إلى جبل يقال له منحلوس ، فلما قالوا له ذلك ، خلى سبيلهم ، وجعل ما يدري ما يفعل بالفتية ، فألقى الله في نفس دقيانوس أن يأمر بالكهف فيسد عليهم .
وأراد الله أن يذكرهم ويجعلهم آية ، ويستخلف من بعدهم ، وأن يبين لهم أن الساعة آتية لا ريب فيها ، وأن الله يبعث من في القبور ، ويدعوهم كما هم في الكهف يموتون عطشاً وجوعاً ، وليكن كهفهم الذي اختاروا قبراً لهم ، وهو يظن أنهم أيقاظ يعلمون ما يصنع بهم . وقد توفى الله أرواحهم وفاة النوم ، وكلبهم باسط ذراعيه بباب الكهف ، قد غشيه ما غشيهم ذات اليمين وذات الشمال .(2/395)
"""""" صفحة رقم 396 """"""
ثم إن رجلين مؤمنين كانا في بيت الملك دقيانوس ، يكتمان إيمانهما ، كان اسم أحدهما مندروس ، والآخر دوماس ، ائتمرا أن يكتبا أسماء الفتية وأنسابهم وخبرهم ، في لوح رصاص يجعلاه في تابوت من نحاس ، ثم يجعلا التابوت في البنيان ، وقالا : لعل الله يظهر على هؤلاء الفتية قوماً مؤمنين ، قبل يوم القيامة ، فيعلم من فتح عليهم خبرهم ، حين يقرأ هذا الكتاب . ففعلا ثم بنيا عليهم فبقي دقيانوس ما بقي ، ثم مات وقومه وقرون بعد ذلك كثيرة ، وخلفاء الملوك بعد الملوك . وقال عبيد بن عمير : كان أصحاب الكهف فتياناً مطوقين مسورين ذوي ذوائب ، وكان معهم كلب صيدهم فخرجوا في عيد لهم عظيم ، في زي وموكب ، وأخرجوا معهم آلهتهم التي يعبدونها من دون الله ، وقد قذف الله في قلوب الفتية الإيمان ، وكان أحدهم وزير الملك ، فآمنوا وأخفى كل واحد منهم الإيمان عن أخيه ، فقالوا في أنفسهم ، من غير أن يظهر بعضهم على بعض : نخرج من بين أظهر هؤلاء القوم ، لئلا يصيبنا عقاب بجرمهم ، فخرج شاب منهم حتى انتهى إلى ظل شجرة ، فجلس فيه ثم خرج آخر فرآه جالساً وحده ، فرجا أن يكون على مثل أمره ، من غير أن يظهر له ذلك ، فجلس إليه ثم خرج الآخرون فجاؤوا وجلسوا إليهما . واجتمعوا ، فقال بعضهم لبعض : ما جمعكم ؟ وقال آخر : ما حملكم ؟ وكل واحد يكتم عن صاحبه إيمانه ، مخافة على نفسه ، ثم قالوا : ليخرج كل فتيين منكم فيخلوا ثم ليفش كل واحد منهما لصاحبه أمره ، فخرج فتيان منهم ، فتوافقا . ثم تكلما ، فذكر كل واحد منهما أمره لصاحبه ، فأقبلا مستبشرين إلى أصحابهما ، فقالا : قد اتفقنا على أمر واحد ، فإذا هم جميعاً على أمر واحد ، وهو الإيمان ، وإذا كهف في الجبل قريب منهم ، فقال بعضهم لبعض : فأووا إلى الكهف ، ينشر لكم ربكم من رحمته ، ويهيئ لكم من أمركم مرفقاً ، فدخلوا الكهف ومعهم كلب صيدهم ، فناموا ثلاثمائة سنة وازدادوا تسعاً .
وفقدهم الملك وقومهم فطلبوهم فعمى الله عليهم آثارهم وكهفهم ، فلما لم يقدروا عليهم ، كتبوا أسماءهم وأنسابهم في لوح من رصاص : فلان وفلان أبناء ملوكنا ، فقدناهم في شهر كذا من سنة كذا في مملكة فلان ، ووضعوا اللوح في خزانة الملك وقالوا : ليكونن لهذا شأن ومات ذلك الملك وجاء قرن من بعد قرن .
وقال وهب بن منبه : جاء حواري عيسى ابن مريم إلى مدينة أصحاب الكهف ، فأراد أن يدخلها ، فقيل له : إن على بابها صنماً لا يدخلها إلا سجد له ، فكره أن يدخلها وأتى حماماً قريباً من تلك المدينة ، فكان فيه وكان يؤاجر نفسه من الحمامي في حمامه ، ويعمل فيه ورأى الحامي في حمامه البركة ، ودر عليه الرزق ، فجعل يقوم عليه وعلقه فتية من أهل المدينة ، فجعل يخبرهم خبر السماء والأرض ، وخبر الآخرة ، حتى آمنوا بالله وصدقوه . وكانوا على مثل حاله من حسن الهيئة ، وكان شرط على صاحب الحمام ، أن الليل لا يحول بيني وبينه أحد ، ولا بين الصلاة ، وكان على ذلك ، حتى أتى ابن الملك بامرأة ، فدخل بها الحمام ، فعيره الحمامي ، وقال له : أنت ابن الملك(2/396)
"""""" صفحة رقم 397 """"""
وتدخل مع هذه فاستحيا وذهب ، ثم رجع مرة أخرى ، فقال له مثل ذلك فسبه وانتهره ، ولم يلتفت إليه حتى دخلاه جميعاً فماتا معاً في الحمام .
فأتى الملك ، فقيل له : صاحب الحمام قتل ابنك ، فالتمس فلم يقدر عليه وهرب . فقال : من كان يصحبه ؟ فسموا الفتية فالتمسوا فخرجوا من المدينة ، فمروا على صاحب لهم في زرع ، وهو على مثل إيمانهم ، فذكروا له أنهم التمسوا ، فانطلق معهم ، وكان معه كلب ، حتى آواهم الليل إلى كهف ، فقالوا : نبيت هاهنا الليلة ثم نصبح ، فترون رأيكم فضرب الله على آذانهم ، فخرج الملك في أصحابه يطلبهم ، فتبعوهم حتى وجدوهم قد دخلوا الكهف ، فكلما أراد الرجل منهم دخوله ، أرعب فلم يطق أحد منهم أن يدخله ، فقال قائل من أصحاب الملك : أليس لو كنت تقدر عليهم قتلتهم . قال : بلى . قال : فابن عليهم باب الكهف ، واتركهم فيه يموتون جوعاً وعطشاً ، ففعل ذلك .
قال وهب : فمكثوا بعد ما سد عليهم باب هذا الكهف ، زماناً بعد زمان ، ثم إن راعياً أدركه المطر عند باب الكهف ، فقال في نفسه : لو فتحت باب هذا الكهف ، وأدخلت فيه غنمي من المطر ، فلم يزل يعالجه حتى فتحه ، ورد الله عليهم أرواحهم من الغد ، حين أصبحوا .
قال محمد بن إسحاق : ثم ملك أهل تلك البلاد رجل صالح ، يقال له تاودوسيوس ، فلما ملك بقي في ملكه ثمانية وثمانين سنة ، فتحزب الناس في ملكه ، وكانوا أحزاباً ، فمنهم من يؤمن بالله ويعلم أن الساعة حق ، ومنهم من يكذب بها ، فكبر ذلك على الملك الصالح ، وشكا إلى الله وتضرع إليه ، وحزن حزناً شديداً ، لما رأى أهل الباطل يزيدون ويظهرون على أهل الحق ، ويقولون : لا حياة إلا الحياة الدنيا ، وإنما تبعث الأرواح ولا تبعث الأجساد ، فأما الجسد فتأكله الأرض ، ونسوا ما في الكتاب . فجعل تاودوسيوس يرسل إلى كل من يظن فيه خيراً وأنه معه على الحق ، فجعلوا يكذبون بالساعة ، حتى كادوا يحولون الناس عن الحق وملة الحواريين ، فلما رأى ذلك الملك الصالح تاودوسيوس ، دخل بيته وأغلقه عليه ولبس مسحاً ، وجعل تحته رماداً ثم جلس عليه ، فدأب ليلا ونهاراً يتضرع إلى الله ويبكي مما يرى فيه الناس ، ويقول : أي رب قد ترى اختلاف هؤلاء ، فابعث إليهم من يبين لهم .
ثم إن الرحمن الرحيم الذي يكره هلكة العباد ، أراد أن يظهر الفتية أصحاب الكهف ، ويبين للناس شأنهم ويجعلهم آية تبين لهم ، وحجة عليهم ، ليعلموا أن الساعة آتية لا ريب فيها ، وأن الله يستجيب لعبده الصالح تاودوسيوس ، وأن يتم نعمته عليه ، وأن لا ينزع عنه ملكه ولا الإيمان الذي أعطاه ، وأن يعبد الله ولا يشرك به شيئاً ، وأن يجمع من كان ببلده من المؤمنين ، فألقى الله عز وجل في نفس رجل من أهل ذلك الجبل ، الذي به أهل الكهف أن يبني فيه حظيرة لغنمه ، فاستأجر عاملين ، فجعلا ينزعان تلك الأحجار ، ويبنيان بها تلك الحظيرة ، حتى فرغ ما على فم الكهف ، وفتح عليهم باب الكهف ، وحجبهم الله عن الناس بالرعب ، فيزعمون أن أشجع من يريد أن ينظر إليهم ، من يدخل من باب الكهف ، ثم يتقدم حتى يرى كلبهم دونهم ،(2/397)
"""""" صفحة رقم 398 """"""
إلى باب الكهف قائماً ، فلما نزعت الحجارة ، وفتح عليهم باب الكهف ، أذن الله ذو القدرة والعظمة والسلطان ، محي الموتى ، أن يجلسوا بين ظهراني الكهف ، فجلسوا فرحين مستبشرة وجوههم ، طيبة أنفسهم فسلم بعضهم على بعض ، حتى كأنما استيقظوا من ساعتهم التي كانوا يستيقظون فيها ، إذا أصبحوا من ليلتهم التي يبيتون فيها ، ثم قاموا إلى الصلاة ، فصلوا كالذي كانوا يفعلون ، لا يرى في وجوههم ، ولا في أبشارهم ، ولا في ألوانهم شيء يكرهونه ، إنما هم كهيئتهم حين رقدوا ، وهم يرون أن ملكهم دقيانوس الجبار في طلبهم .
فلما قضوا صلاتهم ، قالوا لتمليخا صاحب نفقتهم : ائتنا يا أخي بالذي قال الناس في شأننا ، عشية أمس عند الجبار ، وهم يظنون أنهم رقدوا كبعض ما كانوا يرقدون أمس ، وقد خيل إليهم أنهم ناموا كأطول ما كانوا ينامون في الليلة التي أصبحوا فيها ، حتى تساءلوا بينهم ، فقال بعضهم لبعض " كم لبثتم قالوا لبثنا يوماً أو بعض يوم قالوا ربكم أعلم بما لبثتم " وكل ذلك في أنفسهم يسير ، فقال لهم تمليخا : افتقدتم والتمستم بالمدينة ، وهو يريد أن يأتي بكم اليوم ، فتذبحون للطواغيت ، أو يقتلكم ، فما شاء الله بعد ذلك فعل . فقال لهم مكسلمينا : يا أخوتاه ، اعلموا أنكم ملاقو الله ، فلا تكفروا بعد إيمانكم إذا دعاكم غداً . ثم قال لتمليخا : انطلق إلى المدينة ، فتسمع ما يقال لنا بها اليوم ، وما الذي نذكر به عند دقيانوس ، وتلطف ولا تشعرن بنا أحداً ، وابتغ لنا طعاماً وائتنا به ، فإنه قد نالنا الجوع وزدنا على الطعام الذي تجيئنا به العادة ، فإنه كان قليلا وقد أصبحنا جياعاً .
ففعل تمليخا كما كان يفعل ، وخرج ووضع ثيابه ، وأخذ الثياب التي كان يتنكر فيها ، وأخذ ورقاً من نفقتهم ، التي كانت معهم ، التي ضربت بطابع دقيانوس ، وكانت كخفاف الربع ، فانطلق تمليخا خارجاً ، فلما مر بباب الكهف ، رأى الحجارة منزوعة عن باب الكهف ، فعجب منها ، ثم مر فلم يبال بها حتى أتى باب المدينة مستخفياً ، يصد عن الطريق تخوفاً من أن يراه أحد من أهلها ، فيعرفه فيذهب به إلى دقيانوس الجبار ، ولم يشعر بالعبد الصالح ، وأن دقيانوس وأهله قد هلكوا قبل ذلك بثلاثمائة سنة .
فلما رأى تمليخا باب المدينة ، رفع رأسه فرأى فوق ظهر الباب علامة تكون لأهل الإيمان ، فلما رآها عجب وجعل ينظر إليها مستخفياً ، فنظر يميناً وشمالا فلم ير أحداً ممن يعرفه . ثم ترك ذلك الباب ، وتحول إلى باب آخر من أبوابها ، فرأى مثل ذلك ، فجعل يخيل إليه أن المدينة ليست بالتي كان يعرفها ، ورأى ناساً كثيرين محدثين لم يكن يعرفهم قبل ذلك ، فجعل يمشي ويتعجب منهم ومن نفسه ، ويخيل إليه أنه حيران ثم رجع إلى الباب الذي أتى منه ، فجعل يتعجب منهم ومن نفسه ، ويقول : يا ليت شعري أما هذه عشية أمس كان المسلمون يخفون هذه العلامة ، ويستخفون بها فأما اليوم فإنها ظاهرة ، لعلي حالم ثم يرى أنه ليس بنائم . فأخذ كساءه وجعله على رأسه ، ثم دخل المدينة فجعل يمشي بين ظهراني سوقها فيسمع ناساً كثيرين يحلفون بالله ، ثم بعيسى ابن مريم فزاده عجباً ورأى كأنه حيران ، فقام مسنداً ظهره إلى جدار من جدران المدينة ، ويقول في نفسه : والله ما أدري ما هذا ؟ أما عشية أمس فليس على(2/398)
"""""" صفحة رقم 399 """"""
وجه الأرض إنسان يذكر عيسى ابن مريم إلا قتل ، وأما الغداة فأسمع كل إنسان يذكر أمر عيسى ابن مريم ولا يخاف . ثم قال في نفسه : لعل هذه المدينة ليست التي أعرفها ، أسمع كلام أهلها ولا أعرف أحداً منهم . والله ما أعلم مدينة أقرب من مدينتنا ، ثم قام كالحيران لا يتوجه وجهاً ، ثم لقى فتى من أهل المدينة ، فقال : يا فتى ما اسم هذه المدينة ؟ فقال : افسوس . فقال في نفسه : لعل بي مساً أو أمراً أذهب عقلي ، والله يحق لي أن أسرع إلى الخروج منها ، قبل أن أخرج منها ويصيبني سوء فأهلك .
هذا الذي حدث به تمليخا أصحابه حين تبين له حالهم . ثم إنه أفاق فقال : والله لو عجلت الخروج من المدينة ، قبل أن يفطن بي لكان أكيس بي ، فدنا من الذين يبيعون الطعام ، فأخرج الورق التي كانت معه ، فأعطاها رجلا منهم فقال : يا عبد الله بعني بهذه الورق طعاماً ، فأخذها الرجل ، ونظر إلى ضرب الورق ونقشها ، وعجب منها ثم طرحها إلى رجل من أصحابه ، فنظر إليها ، ثم جعلوا يتطارحونها بينهم ، من رجل إلى رجل ، وهم يعجبون منها ، ثم جعلوا يتشاورون من أجله ، ويقول بعضهم : إن هذا الرجل قد أصاب كنزاً خبيئاً في الأرض منذ زمان ودهر طويل ، فلما رآهم يتشاورون من أجله فرق فرقاً شديداً ، وحزن حزناً عظيماً ، وجعل يرتعد ويظن أنهم فطنوا به وعرفوه ، وإنما يريدون أن يحملوه إلى ملكهم دقيانوس ، وجعل أناس آخرون يأتونه فيتعرفونه ، فقال لهم ، وهو شديد الفرق : اقضوني حاجتي ، فقد أخذتم ورقي ، وإلا فامسكوا طعامك فلا حاجة لي فيه .
فقالوا له : من أنت يا فتى وما شأنك ؟ والله لقد وجدت كنزاً من كنوز الأولين وأنت تريد أن تخفيه منا ، فانطلق معنا وشاركنا فيه ، يخف عليك ما وجدت ، فإنك إن لم تفعل نأت بك السلطان فنسلمك إليه فيقتلك ، فلما سمع قولهم ، عجب في نفسه وقال : قد وقعت في كل شيء أحذر منه ، ثم قالوا : يا فتى والله إنك لا تستطيع أن تكتم شيئاً وجدته ، ولا تظن في نفسك أن ستخفى عليك . فجعل تمليخا لا يدري ما يقول ، وما يرجع إليهم وفرق حتى ما يحير إليهم جواباً .
فلما رأوه لا يتكلم أخذوا كساءه فطوقوه في عنقه ، ثم جعلوا يقودونه في سكك المدينة مكبلا ، حتى سمع به كل من فيها . فقيل : أخذ رجل عنده كنز ، واجتمع عليه أهل المدينة صغيرهم وكبيرهم ، فجعلوا ينظرون إليه ويقولون : والله ما هذا الفتى من أهل هذه المدينة ، وما رأيناه فيها قط وما نعرفه ، فجعل تمليخا ما يدري ما يقول لهم ، مع ما سمع منهم . فلما اجتمع عليه أهل المدينة ، فرق وسكت ولم يتكلم ، ولو قال إنه من أهل المدينة لم يصدق . وكان مستيقناً إن أباه وأخوته بالمدينة ، وأن حسبه في أهل المدينة ، من عظماء أهلها ، وأنهم سيأتونه إذا سمعوا ، وقد استيقن أنه عشية أمس ، كان يعرف كثيراً من أهلها ، وأنه لا يعرف اليوم من أهلها أحد .
فبينما هو قائم كالحيران ينتظر من يأتيه من أهله إما أبوه أو بعض أخوته ، فيخلصه من أيديهم ، إذ اختطفوه فانطلقوا به إلى رئيسي المدينة ومدبريها اللذين يدبران أمرها ، وهما رجلان صالحان ، اسم أحدهما أرموس والآخر اصطفوس ، فلما انطلق به إليهما ، ظن تمليخا إنما ينطلق به إلى دقيانوس الجبار ملكهم الذي هربوا منه . فجعل يلتفت يميناً وشمالا ، وجعل الناس يسخرون(2/399)
"""""" صفحة رقم 400 """"""
به ، كما يسخرون من المجنون والحيران ، وجعل تمليخا يبكي ثم رفع رأسه إلى السماء ، وقال : اللهم إله السماء وإله الأرض ، أفرغ علي اليوم صبراً ، وأولج معي روحاً منك ، تؤيدني به عند هذا الجبار ، وجعل تمليخا يبكي ويقول في نفسه : فرق بيني وبين أخوتي يا ليتهم يعلمون ما لقيت ، وأين يذهب به فلو أنهم يعلمون فيأتوني ، فنقوم جميعاً بين يدي هذا الجبار ، فإنا كنا توافقنا لنكونن معاً لا نكفر بالله ولا نشرك به شيئاً ، ولا نعبد الطواغيت من دون الله عز وجل ، فرق بيني وبينهم فلم أرهم ولم يروني ، وقد كنا توافقنا أن لا نفترق في حياة ولا موت أبداً ، يا ليت شعري ما هو فاعل بي أقاتلي أم لا ؟ هذا ما حدث به تمليخا أصحابه عن نفسه حين رجع إليهم ، ثم انتهي به إلى الرجلين الصالحين أرموس واصطفوس ، فلما رأى تمليخا أنه لم يذهب به إلى دقيانوس أفاق وسكن عنه البكاء ، فأخذ أرموس واصطفوس الورق فنظرا إليها وعجبا منها ، ثم قال له أحدهما : أين الكنز الذي وجدته يا فتى ؟ فهذا الورق يشهد عليك أنك قد وجدت كنزاً فقال له تمليخا : ما وجدت كنزاً ، ولكن هذا الورق ورق آبائي ، ونقش هذه المدينة وضربها . ولكني والله ما أدري ما شأني وما أدري ما أقول لكم فقال أحدهما : من أنت ؟ فقال له تمليخا : أما ما أرى ، فإني كنت أرى أني من أهل هذه المدينة . فقالوا له : من أبوك ومن يعرفك بها ؟ فأنبأهم باسم أبيه ، فلم يجدوا أحداً يعرفه ولا أباه . فقال له أحدهما : أنت رجل كذاب لا تخبر بالحق ، فلم يدر تمليخا ما يقول لهم ، غير أنه نكس رأسه إلى الأرض ، فقال بعض من حوله : هذا الرجل مجنون ، وقال بعضهم : ليس بمجنون ولكنه يحدق نفسه عمداً ، لكي يفلت منكم . فقال له أحدهما ونظر إليه نظراً شديداً : أتظن أنا نرسلك ونصدقك هذا مال أبيك ، ونقش هذا الورق وضربها ، أكثر من ثلاثمائة سنة ؟ وأنت غلام شاب تظن أنك تأفكنا وتسخر بنا ، ونحن شمط كما ترى ، وحولك سراة أهل المدينة ، وولاة أمرها وخزائن هذه البلدة بأيدينا ، وليس عندنا من هذا الضرب درهم ولا دينار . وإني لأظنني سآمر بك فتضرب وتعذب عذاباً شديداً ، ثم أوثقك حتى تقر بهذا الكنز الذي وجدت .
فلما قال له ذلك ، قال له تمليخا : أنبئوني عن شيء أسألكم عنه ، فإن فعلتم صدقتكم ما عندي ؟ قالوا : سل لا نكتمك شيئاً . قال : فما فعل الملك دقيانوس ؟ فقالوا له : ليس نعرف اليوم على وجه الأرض ملكاً يسمى دقيانوس ، ولم يكن إلا ملكاً قد هلك منذ زمان ودهر طويل ، وقد هلكت بعده قرون كثيرة .
فقال لهم تمليخا : فوالله ما يصدقني أحد من الناس بما أقول : لقد كنا فتية الملك ، وأنه أكرهنا على عبادة الأوثان والذبح للطواغيت ، فهربنا منه عشية أمس ، فنمنا ، فلما انتبهنا خرجت لأشتري لأصحابي طعاماً وأتجسس لهم الأخبار ، فإذا أنا كما ترون ، فانطلقوا معي إلى الكهف الذي في جبل منحلوس ، أريكم أصحابي ، فلما سمع أرموس واصطفوس ما يقول تمليخا ، قالا : يا قوم لعل هذه آية من آيات الله عز وجل ، جعلها الله لكم على يدي هذا الفتى ، فانطلقوا بنا معه(2/400)
"""""" صفحة رقم 401 """"""
يرينا أصحابه كما قال . فانطلق معه أرموس واصطفوس ، وانطلق معهما أهل المدينة كبيرهم وصغيرهم نحو أصحاب الكهف لينظروا إليهم .
ولما رأى الفتية أصحاب الكهف ، تمليخا قد احتبس عنهم بطعامهم وشرابهم ، عن القدر الذي كان يأتيهم فيه ، ظنوا أنه قد أخذ وذهب إلى ملكهم دقيانوس ، الذي هربوا منه . فبينما هم يظنون ذلك ويتخوفونه إذا سمعوا الأصوات ، وجلبة الخيل مصعدة نحوهم ، فظنوا أنهم رسل الجبار دقيانوس ، بعث إليهم ليؤتى بهم ، فقاموا حين سمعوا ذلك إلى الصلاة وسلم بعضهم على بعض ، وقالوا : انطلقوا بنا إلى أخينا تمليخا ، فإنه الآن بين يدي الجبار دقيانوس ، ينتظر متى نأتيه . فبينما هم يقولون ذلك وهم جلوس بين ظهراني الكهف فلم يروا إلا أرموس وأصحابه ، وقوماً وقوفاً على باب الكهف ، وقد سبقهم تمليخا فدخل عليهم وهو يبكي ، فلما رأوه يبكي بكوا معه ، ثم سألوه عن شأنه فأخبرهم بخبره وقص عليهم المسألة فعرفوا عند ذلك أنهم كانوا نياماً بإذن الله تعالى ذلك الزمان كله ، وإنما أوقظوا ليكونوا آية للناس وتصديقاً للبعث ، وليعلموا أن الساعة آتية لا ريب فيها .
ثم دخل على أثر تمليخا أرموس ، فرأى تابوتاً من نحاس مختوماً بخاتم من فضة ، فقام بباب الكهف ودعا رجالا من عظماء أهل المدينة ، ففتح التابوت عندهم فوجدوا فيه لو حين من رصاص ، مكتوباً فيهما : إن مكسلمينا وامليخا أو تمليخا مرطوكش ونوالس وسانيوس وبطنيوس وكشفوطط كانوا فتية ، هربوا من ملكهم دقيانوس الجبار ، مخافة أن يفتنهم عن دينهم ، فدخلوا في هذا الكهف ، فلما أخبر بمكانهم أمر بهذا الكهف فسد عليهم بالحجارة ، وأنا كتبنا شأنهم وخبرهم ليعلم من بعدهم إن عثر عليهم . فلما قرؤوه عجبوا وحمدوا الله عز وجل ، الذي أراهم آية البعث فيهم . ثم رفعوا أصواتهم بحمد الله وتسبيحه ثم دخلوا على الفتية الكهف فوجدوهم جلوساً بين ظهرانيه ووجوههم مشرقة لم تبل ثيابهم . فخر أرموس وأصحابه سجداً لله تعالى وحمدوا الله الذي أراهم آية من آياته ، ثم كلم بعضهم بعضاً وأنبأهم الفتية عن الذي لقوا من ملكهم دقيانوس الجبار . ثم إن أرموس وأصحابه بعثوا بريداً إلى ملكهم الصالح تاودوسيوس ، أن عجل لعلك تنظر إلى آية في آيات الله تعالى ، جعلها الله آية على ملكك وجعلها آية للعالمين ليكون ذلك نوراً وضياء وتصديقاً بالبعث ، فاعجل على فتية بعثهم الله وكان قد توفاهم منذ أكثر من ثلاثمائة سنة .
فلما أتى الملك الخبر قام من السدة التي كان عليها ورجع إليه عقله ، وذهب عنه همه ، ورجع إلى الله تعالى ، وقال : أحمد الله رب العالمين رب السموات والأرض ، وأعبدك وأسبح لك تطولت علي ورحمتني برحمتك ، فلم تطفئ النور الذي كنت جعلته لأبائي وللعبد الصالح قسطيطوس الملك ، فلما أنبئ به أهل المدينة ركبوا إليه وساروا معه حتى صعدوا نحو الكهف وأتوه ، فلما رأوا الفتية تاودوسيوس ، فرحوا به وخروا سجدا على وجوههم . وقام تاودوسيوس قدامهم ، ثم اعتنقهم وبكى ، وهم جلوس بين يديه على الأرض ، يسبحون الله تعالى ويحمدونه ، ثم قال الفتية لتاودوسيوس : نستودعك الله ، ونقرأ عليك السلام ، حفظك الله ومد ملكك ، ونعيذك بالله من(2/401)
"""""" صفحة رقم 402 """"""
شر الجن والإنس . فبينما الملك قائم ، رجعوا إلى مضاجعهم فناموا ، وتوفى الله أرواحهم .
وقام الملك فجعل ثيابه عليهم ، وأمر أن يجعل لكل واحد تابوت من ذهب . فلما أمسوا ونام ، أتوه في المنام ، وقالوا : إنا لم نخلق من ذهب ولا فضة ، ولكنا خلقنا من التراب وإلى التراب نصير . فاتركنا كما كنا في الكهف على التراب ، حتى يبعثنا الله ، فأمر الملك حينئذ بتابوت من ساج ، فجعلوا فيه . وحجبهم الله حين خرجوا من عندهم بالرعب ، فلم يقدر أحد أن يطلع عليهم ، وأمر الملك فجعل على باب الكهف مسجداً يصلى فيه . وجعل لهم عيداً عظيماً ، وأمر أن يؤتى كل سنة .
وقيل : إنهم لما أتوا باب الكهف ، قال لهم تمليخا : دعوني حتى أدخل على أصحابي فأبشرهم ، فإنهم إن رأوكم معي أرعبتموهم ، فدخل فبشرهم ، وقبض الله روحه وأرواحهم ، وعمي عليهم فلم يهتدوا إليهم . فهذا حديث أصحاب الكهف .
ويقال إن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) سأل ربه أن يريه إياهم ، فقال تعالى : إنك لن تراهم في دار الدنيا ، ولكن ابعث إليهم أربعة من خيار أصحابك ليبلغوهم رسالتك ويدعوهم إلى الإيمان بك . فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لجبريل : كيف أبعث إليهم ؟ فقال : ابسط كساءك ، واجلس على طرف من أطرافه أبا بكر ، وعلى الثاني عمر ، وعلى الثالث علياً ، وعلى الرابع أبا ذر ، ثم ادع الرخاء المسخرة لسليمان بن داود عليهما السلام ، فإن الله تعالى أمرها أن تطعيك . ففعل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ما أمر به ، فحملتهم الريح حتى انطلقت بهم إلى باب الكهف ، فلما دنوا من الباب قلعوا منه حجراً ، فقام الكلب فنبح عليهم حين أبصر الضوء ، وهر وحمل عليهم ، فلما رآهم حرك رأسه وبصبص بذنبه ، وأومأ برأسه أن ادخلوا الكهف ، فدخلوا فقالوا : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، فرد الله عليهم أرواحهم ، فقاموا بأجمعهم ، وقالوا : وعليكم السلام وعلى محمد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ما دامت السموات والأرض ، وعليكم بما بلغتم ثم جلسوا بأجمعهم يتحدثون ، فآمنوا بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) وقبلوا دين الإسلام . وقالوا : اقرؤوا محمداً منا السلام ، ثم أخذوا مضاجعهم وصاروا إلى رقدتهم ، إلى آخر الزمان ، عند خروج المهدي . ويقال إن المهدي يسلم عليهم فيحييهم الله ثم يرجعون إلى رقدتهم فلا يقومون إلى يوم القيامة .
وقد رأيت في كتاب الشفاء ، للإمام أبي الربيع سليمان بن سبع ، ما نصه : روي أن عيسى عليه السلام يعمر بعد الدجال ويأجوج ومأجوج أربعين سنة ، ويكون حواريوه أصحاب الكهف والرقيم ويحجون معه ، لأنهم لم يحجوا . انتهى ما نقله ابن سبع . ثم نرجع إلى سياق الثعلبي ، قال : ثم جلس كل واحد منهم على مكانه وحملتهم الريح ، فهبط جبريل على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وأخبره بما كان منهم . فلما أتوا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( صلى الله عليه وسلم ) : كيف وجدتموهم وما الذي أجابوا ؟ فقالوا : يا رسول الله دخلنا عليهم فسلمنا عليهم ، فقاموا بأجمعهم فردوا علينا السلام ، وبلغناهم رسالتك فأجابوا وأنابوا ، وشهدوا أنك رسول الله حقاً ، وحمدوا الله على ما(2/402)
"""""" صفحة رقم 403 """"""
أكرمهم بخروجك وتوجيه رسلك إليهم . وهم يقرؤونك السلام . فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : اللهم لا تفرق بيني وبين أصهاري وأحبابي ، واغفر لمن أحبني ، وأحب أهل بيتي وأحب أصحابي . فذلك قوله تعالى " إذ أوى الفتية إلى الكهف " أي صار يضم الفتية . قال الثعلبي : كان أصحاب الكهف صيارفة .
قوله عز وجل " إلى الكهف " هو غار بجبل منحلوس . وقيل : بناحيوس واسم الكهف حرم ، وقيل خدم . قوله تعالى : " فقالوا ربنا أتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدا " أي يسر لنا ما نلتمس من رضاك ، وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : رشداً أي مخرجاً من الغار في سلامة ، وقيل : صواباً . قوله تعالى : " فضربنا على آذانهم في الكهف ، وهذا من فصاحات القرآن ، التي أقرت العرب القصور عن الإتيان بمثله . ومعناه أنمناهم وألقينا وسلطنا عليهم النوم . كما يقال ضرب الله فلاناً بالفالج ، أي ابتلاه به وأرسله عليه . وقيل : معناه حجبناهم عن السمع ، وسددنا نفوذ الصوت إلى مسامعهم . وهذا وصف الأموات والنيام . وقال قطرب : هو كقول العرب ضرب الأمير على يد الرعية ، إذا منعهم من العبث والفساد ، وضرب السيد على يد عبده المأذون له في التجارة ، إذا منعه من التصرف . وقال الأسود بن يعفر ، وكان ضريراً ، في ذلك : ومن الحوادث لا أبالي أنني ضربت على الأرض بالأسداد قوله عز وجل " سنين عددا " أي معدودة وهي نعت السنين ، والعد المصدر والعدد الاسم المعدود كالنقض والنقض ، والقص والقصص ، والخبط والخبط .
وقال أبو عبيدة : هو نصب على المصدر . قوله تعالى : " ثم بعثناهم " يعني من بعد موتهم ، " لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمداً " وذلك حين تنازع المسلمون الأولون أصحاب الملك ، والمسلمون الآخرون الذين أسلموا حين رأوا أصحاب الكهف ، في قدر مدة لبثهم في الكهف . فقال المسلمون الأولون : لبثوا في الكهف ثلاثمائة سنين وتسع سنين ، وقال المسلمون الآخرون : بل لبثوا كذا وكذا . فقال الأولون : الله أعلم بما لبثوا . فذلك قوله تعالى : " ثم بعثناهم لنعلم أي الحزبين " أي : أي الفريقين أحصى ، أي أضبط وأحفظ ، لما لبثوا ، أي مكثوا في كهفهم نياماً أمداً ، غاية . وقال مجاهد : عدداً . وفي نصبه وجهان : أحدهما على التفسير والثاني مفعول لبثوا .
قوله عز وجل : " نحن نقص عليك " أي نقرأ وننزل عليك " نبأهم بالحق " ، أي خبر صحاب الكهف . " إنهم فتية " أي شباب وأحداث " آمنوا بربهم " ، حكم الله لهم بالفتوة ، حين آمنوا بلا واسطة . لذلك قال أهل اللسان : رأس الفتوة الإيمان . وقال الجنيد : الفتوة بذل الندى ، وكف(2/403)
"""""" صفحة رقم 404 """"""
الأذى ، وترك الشكوى . وقيل : الفتوة شيآن : اجتناب المحارم واستعمال المكارم . وقيل : الفتى من لا يدعي قبل الفعل ، ولا يذكي نفسه بعد الفعل . وقيل : ليس الفتى من يصبر على السياط ، إنما الفتى من يجوز على الصراط ، وليس الفتى من يصبر على المسكين إنما الفتى من يطعم المسكين . قوله تعالى : " وزدناهم هدى " أي إيماناً وبصيرة وإيقاناً . " وربطنا " أي شددنا " على قلوبهم " بالصبر ، وألهمناهم ذلك وقويناهم بنور الإيمان حين صبروا على هجران دار قومهم ، وفراق ما كانوا فيه من خفض العيش ، وفروا بدينهم إلى الكهف " إذ قاموا " بين يدي دقيانوس " فقالوا " حين عاتبهم على ترك عبادة الصنم : " ربنا رب السموات والأرض لن ندعو من دونه إلهاً " ، أي لا نعبد من دونه إلهاً ، " لقد قلنا إذا شططاً " ، قال ابن عباس ومقاتل رضي الله تعالى عنهم : جوراً . وقال قتادة ، رحمه الله تعالى : كذباً . وأصل الشطط والإشطاط مجاوزة القدر والإفراط . " هؤلاء قومنا " : بمعنى أهل بلدهم ، " اتخذوا " أي عبدوا " من دونه آلهة " يعني من دون الله الأصنام يعبدونها . " لولا " هلا " يأتون عليهم " على عبادتهم " بسلطان بين " ، أي حجة واضحة " فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا " ، بزعم أن له شريكاً وولداً . ثم قال بعضهم لبعض : " وإذ اعتزلتموهم " ، يعني قومهم " وما يعبدون إلا الله " ، أي واعتزلتم أصنامهم التي يعبدونها من دون الله . وكذلك هو في مصحف عبد الله : وما يعبدون من دون الله .
" فأووا إلى الكهف " أي صيروا إليه " ينشر لكم ربكم من رحمته ويهيئ لكم من أمركم مرفقا : " أي رزقاً رغداً . والمرفق ما يرتفق به الإنسان . وفيه لغتان مرفق بفتح الميم وكسر الفاء ، وهي قراءة أهل المدينة والشام وعاصم في بعض الروايات . ومرفق بكسر الميم وفتح الفاء وهي قراءة الباقين . قوله تعالى : " وترى الشمس إذا طلعت " أي وترى يا محمد الشمس " إذا طلعت تزاور " أي تتزاور . قرأ أهل الكوفة بالتخفيف على حذف إحدى التاءين ، وقرأ أهل الشام ويعقوب : تزور ، على وزن تحمر وكلها بمعنى واحد أي تميل وتعدل عن كهفهم ، " ذات اليمين " أي جانب اليمين . " وإذا غربت تقرضهم " . قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : تدعهم . وقال مقاتل بن حيان : تجاوزهم . وأصل القرض القطع " ذات الشمال وهم في فجوة منه " . أي متسع من الكهف . وجمعها فجوات وأفجاء وفجاء .
أخبرنا الله بحفظه إياهم في مضجعهم ، واختياره لهم أصلح المواضع للرقاد ، فأعلمنا أنه يراهم في فضاء من الكهف ، مستقبلا بنات نعش ، تميل عنهم الشمس طالعة وغاربة وجارية ، فلا تدخل عليهم فتؤذيهم بحرها ، وتغير من ألوانهم وتبلي ثيابهم ، وأنهم في متسع منه ينالهم فيه برد الريح ونسميها ، وتنفي عنهم كربة الغار وغمومه ، " ذلك " ما ذكرنا من أمر الفتية " من آيات الله " ، أي من عجائب صنع الله ودلالات قدرته .
قوله عز وجل : " من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً " لأن التوفيق والخذلان بيد الله عز وجل ، " وتحسبهم " يا محمد " أيقاظا " منتبهين جمع يقظ ويقظ ،(2/404)
"""""" صفحة رقم 405 """"""
مثل قولك رجل نجد ونجد للشجاع وجمعه أنجاد ، " وهم رقود " يعني نيام ، جمع راقد ، مثل قاعد وقعود . " ونقلبهم " بالتخفيف والتشديد ، " ذات اليمين وذات الشمال " ، مرة للجنب الأيمن ومرة للجنب الأيسر .
قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : كانوا يقلبون في السنة مرة ، من جانب إلى جانب لئلا تأكل الأرض لحومهم ، ويقال : إن يوم عاشوراء كان يوم تقلبهم ، وقال أبو هريرة : كان لهم في السنة تقليبتان " وكلبهم " ، قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : كان أحمر . وقال مقاتل : كان أصفر . وقال القرطبي : من شدة صفرته يضرب إلى الحمرة . وقال الكلبي : لونه كالخلنج . وقيل : لون الحجر ، وقيل : لون السماء .
وقال علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه : كان اسمه ريان . وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : قطمير . وقال الأوزاعي : مشير . وقال سعيد الحماد : حران . وقال عبد الله بن كثير : إن اسم كلبهم قطمور . وقال السدى . اسمه تون . وقال عبد الله بن سلام : بسيط . وقال كعب : صيهان . وقال وهب : اسمه نقياً . وقيل : قطفير . وقيل : قطيفير . وقال عروة : مما أخذ على العقرب ، أن لا يضر بأحد في ليل ولا نهار ، قال : " سلام على نوح " قال : ومما أخذ على الكلب أن لا يضر بأحد ، ممن حمل عليه ، إذ قال : " وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد " وقرأ جعفر الصادق : وكالبهم ، يعني صاحب الكلب باسط ذراعيه بالوصيد . وقال مجاهد والضحاك : الوصيد فناء الكهف ، وهي رواية علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس .
وقال سعيد بن جبير : الوصيد الصعيد ، وهو التراب وهي رواية عطية العوفي ، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما . وقال السير : الوصيد الباب ، وهي رواية عكرمة عن ابن عباس وأنشد قول الشاعر :
بأرض فضاء لا يسد وصيدها . . . علي ومعروفي بها غير منكر
أي بابها . وقال عطاء : الوصيد عتبة الباب . وقال العتبي : الوصيد البناء ، وأصله من قول العرب أصدت الباب وأوصدته ، إذا أغلقته وأطبقته . قوله تعالى : " لو اطلعت عليهم " يا محمد " لوليت منهم فراراً " لما ألبسهم الله تعالى من الهيبة ، حتى لا يصل إليهم واصل ، ولا تلمسهم يد لامس حتى يبلغ الكتاب أجله ، فيوقظهم الله تعالى من رقدتهم ، لإرادة الله عز وجل أن يجعلهم آية وعبرة لمن يشاء من خلقه ، ليعلموا أن وعد الله حق ، وأن الساعة لا ريب فيها " ولملئت منهم رعباً " أي خوفاً . وقرأ أهل الكوفة : لملئت بالتشديد ، قيل : إنما قال ذلك لوحشة المكان الذي هم فيه . وقال الكلبي وغيره : لأن أعينهم مفتحة كالمستيقظ الذي يريد أن يتكلم ، وهم نيام . وقيل : إن الله منعهم بالرعب ، لئلا يراهم أحد .(2/405)
"""""" صفحة رقم 406 """"""
وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، أنه غزا مع معاوية غزوة المضيق نحو الروم ، فمروا بالكهف الذي فيه أصحاب الكهف ، الذين ذكرهم الله في القرآن فقال معاوية : لو كشفت لنا عن هؤلاء فنظرنا إليهم ؟ فقال له ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : ليس لك ذلك ، قد منع الله ذلك من هو خير منك . قال الله تعالى : " واطلعت عليهم لوليت فراراً ولملئت منهم رعباً " فقال معاوية : لا أنتهي حتى أعلم علمهم ، فبعث ناساً ، فقال : اذهبوا فادخلوا الكهف ، فانظروا ففعلوا . فلما دخلوا الكهف ، بعث الله عليهم ريحاً فأخرجتهم .
قوله عز وجل " وكذلك بعثناهم ، يعني كما أنمناهم في الكهف ، ومنعنا من الوصول إليهم ، وحفظنا أجسامهم من البلى على طول الزمان ، وثيابهم من العفن على ممر الأيام بقدرتنا ، فكذلك بعثناهم من النومة التي تشبه الموت ، " ليتساءلوا بينهم " أي ليتحدثوا ويسأل بعضهم بعضاً ، " قال قائل منهم " يعني رئيسهم مكسلمينا : " كم لبستم " في نومكم ؟ وذلك أنهم استنكروا من أنفسهم طول نومهم . ويقال : إنهم راعهم ما فاتهم من الصلاة فقال ذلك . " قالوا : لبثنا يوماً أو بعض يوم ، لأنهم دخلوا الكهف غدوة ، فلما رأوا الشمس ، قالوا : أو بعض يوم ، توقياً من الكذب . وكان قد بقيت من الشمس بقية .
ويقال كان بعد زوال الشمس ، فلما نظروا إلى أظفارهم وأبشارهم ، تيقنوا أن لبثهم كان أكثر من يوم ، ف " قالوا : ربكم أعلم بما لبثتم " ويقال : إن رئيسهم لما سمع الاختلاف بينهم ، قال ذلك : " فابعثوا أحدكم " ، يعني تمليخا ، " بورقكم هذه إلى المدينة " ، والورق الفضة مضروبة كانت أو غير مضروبة ، والدليل عليه أن عرفجة بن سعد أصيب أنفه يوم الكلاب ، فاتخذ أنفاً من ورق وفيه لغات : بورقكم ساكنة الراء . وهي قراءة أبي عمرو وحمزة وخلف وأبي بكر . وبورقكم بكسر الراء وادغام القاف ، وهي قراءة بعض ، وبورقكم بفتح الواو وكسرا الراء ، وهي قراءة أكثر القراء .
ورق وورق مثل كبد وكبد وكلم وكلم ، والمدينة أفسوس ، وقيل : طرسوس ، ويقال : أرسوس كان اسمها في الجاهلية أفسوس ، فلما جاء الإسلام سموها طرسوس . فلينظر أيها أزكى طعاماً .
قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، وسعيد بن جبير رضي الله تعالى عنه : أحل ذبيحة لأن عامتهم كانوا مجوساً ، ومنهم قوم مؤمنون يخفون إيمانهم . وقال الضحاك : أطيب . وقال مقاتل وابن حيان : أجود ، وقال ابن شهاب : أرخص . وقال قتادة : أخير . وقال عكرمة : أفضل ، وأكثر . وأصل الزكاة : الزيات والنماء . قال الشاعر :
قبائلنا سبع وأنتم ثلاثة . . . كذا السغ أزكى من ثلاث وأطيب
" فليأتيكم برزق منه " أي قوت وطعام ، " وليتلطف " أي وليرفق في الشراء ، وفي طريقه وفي دخوله المدينة ، " ولا يشعرن " ولا يعلمن " بكم أحداً " من الناس " إنهم إن يظهروا(2/406)
"""""" صفحة رقم 407 """"""
عليكم فيعلموا بمكانكم يرجموكم " قال ابن جريج : يشتموكم ويؤذوكم بالقول . ويقال : يقتلوكم ويقال : كان من عادتهم القتل بالرجم ، وهو من أخبث القتل . ويقال : يضربوكم أو يعيدوكم في ملتهم أي دينهم الكفر ، ولن تفلحوا إذا أبداً إن عدتم إليهم . قوله عز وجل : " وكذلك أعثرنا عليهم " أي اطلعنا عليهم ، يقال : عثرت على الشيء : اطلعت عليه ، وأعثرت غيري وأطلعته عليه " ليعلموا أن وعد الله حق " يعني قوم تاودوسيوس ، " وأن الساعة لا ريب فيها إذ يتنازعون بينهم أمرهم " قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : يتنازعون في البنيان والمسجد ، فقال المسلمون : نبني عليهم مسجداً ، لأنهم على ديننا ، وقال المشركون : نبني عليهم بنياناً لأنهم من أهل نسبنا . وقال عكرمة : يتنازعون في الأرواح والأجساد .
فقال المسلمون : البعث للأجساد والأرواح ، وقال المشركون : البعث للأرواح دون الأجساد . فبعثهم الله تعالى من رقادهم ، وأراهم أن البعث للأجساد والأرواح . وقيل : يتنازعون في عددهم " فقالوا ابنوا عليهم بنياناً ربهم أعلم بهم ، قال الذين غلبوا على أمرهم " ، تاودوسيوس الملك وأصحابه " لنتخذن عليهم مسجداً " .
قوله عز وجل : " سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم ، وذلك أن السيد والعاقب وأصحابهما ، من نصارى نجران ، كانوا عند النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فجرى ذكر أهل الكهف ، فقال السيد : كانوا ثلاثة رابعهم كلبهم ، وكان السيد يعقوبياً ، وقال العاقب : كانوا خمسة سادسهم كلبهم ، وقال المسلمون : كانوا سبعة وثامنهم كلبهم . فحقق الله قول المسلمين وصدقهم بعدما حكى قول النصارى فقال : " سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم ويقولون خمسة سادسهم كلبهم رجماً بالغيب " أي قذفاً بالظن من غير يقين كقول الشاعر :
وأجعل قول الحق قولا مرجما
" ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم " قال بعضهم : هذه واو الثمانية ، وذلك أن العرب تقول واحد اثنان ثلاثة أربعة خمسة ستة سبعة وثمانية لأن العقد عندهم كان سبعة ، كما هو اليوم عندنا عشرة . ونظيره قوله تعالى : " التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر ، وقوله تعالى لأزواج النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : " ثيبات وأبكارا " وقال بعضهم : هذه واو الحكم والتحقيق ، فإن الله حكى اختلافهم فتم الكلام عند قوله " ويقولون سبعة " ثم حكى أن ثامنهم كلبهم ، الثامن لا يكون إلا بعد السبع . فهذا تحقيق قول المسلمين .
" قل رب أعلم بعدتهم ما يعلمهم إلا قليل " قال مجاهد وقتادة : قليل من الناس ، وقال(2/407)
"""""" صفحة رقم 408 """"""
عطاء وقتادة أيضاً : يعني بالقليل أهل الكتاب . وقال ابن عباس ، في قوله : " ما يعلمهم إلا قليل " قال : أنا من أولئك القليل ، وهم مكسلمينا وتمليخا ومرطونس وبنيونس وساربونس ودوانوانس وكندسلططنوس ، وهو الراعي . والكلب اسمه قطمير كلب أنمر فوق القلطي ، ودون الكردي . والقلطي كلب صيني .
قال محمد بن المسيب : وما بقي بنيسابور محدث إلا كتب عني هذا الحديث ، إلا من لم يقدر له . وكتبه علي أبو عمر والجبري زاد الإمام أبو الحسن في روايته فقال : قلت : وصدق ابن المسيب . فقد رأيت في تفسير أبي عمرو الجبري هذا الحديث ، مروياً عن ابن المسيب ، ثم قال : أعني الإمام أبا الحسن بسنده عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، قال : إن الله عز وجل عدهم حتى انتهى إلى السبعة ، وأنا من القليل الذين يعلمونهم هم سبعة يعني أصحاب الكهف .
قال الثعلبي : قوله تعالى : " فلا تمار فيهم إلا مراء ظاهراً " وهو ما نص عليه ، في كتابه العزيز من خبرهم ، يقول تعالى : حسبك ما قصصت عليك فلا تمار فيهم " ولا تستفت فيهم منهم أحداً " من أهل الكتاب . وقوله تعالى : " ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله " قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : يعني إن عزمت على أن تفعل غداً شيئاً ، أو تحلف على شيء أنت فاعله غداً ، فقل : إن شاء الله ، فإن نسيت الاستثناء ، ثم ذكرته فقله ، ولو بعد سنة ، وهذا تأديب من الله تعالى لنبيه ( صلى الله عليه وسلم ) ، حين سئل عن المسائل الثلاثة : أهل الكهف والروح وذي القرنين ، فوعدهم أن يجيبهم غداً ، ولم يقل إن شاء الله ولم يستثن .
روي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه ، أنه قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : " لا يتم إيمان العبد حتى يستثني في كل كلامه " . قوله عز وجل " واذكر ربك إذا نسيت " قال ابن عباس ومجاهد وأبو العالية والحسن رضي الله تعالى عنهم : معناه إذا نسيت الاستثناء ثم ذكرته فاستثن . وقال عكرمة رضي الله تعالى عنه : معناه واذكر ربك إذا غضبت . فقد روى وهب بن منبه ، قال : مكتوب في الإنجيل : يا ابن آدم اذكرني حين تغضب ، أذكرك حين أغضب ، وإلا أمحقك فيمن أمحق . وإذا ظلمت فلا تنتصر ، فإن نصرتي لك خير من نصرتك لنفسك . وقال الضحاك والسدي : هذا في الصلاة لقوله ( صلى الله عليه وسلم ) : " من نسي صلاة أو نام عنها ، فليصلها متى ذكرها " . وقال أهل الإشارة : معناه اذكر ربك ، إذا نسيت غيره . ويؤيده قول ذي النون المصري رحمه الله تعالى : من ذكر الله على الحقيقة نسي في جنب ذكره كل شيء ، فإذا نسي في جنب ذكره كل شيء ، حفظ الله له كل شيء ، وكان له عوضاً من كل شيء . وقيل : معناه واذكر ربك ، إذا تركت ذكره والنسيان هو الترك .
قوله عز وجل " وقل عسى أن يهديني رب لأقرب من هذا رشداً " أي يثبتني على طريق(2/408)
"""""" صفحة رقم 409 """"""
هو أقرب إليه وأرشد . وقيل : معناه لعل الله يهديني فيرشحني لأقرب مما وعدتكم وأخبرتكم ، أنه سيكون إن هو شاء . وقيل : إن الله أمره أن يذكره إذا نسي شيئاً ، ويسأله أن يذكره فيذكره ويهديه ، لما هو خير له من تذكره ما نسيه .
ويقال : إن هؤلاء القوم ، لما سألوه عن قصة أصحاب أهل الكهف ، على وجه العناد ، أمره الله أن يخبرهم أن الله سيؤتيه من الحجج والبيان على صحة نبوته ، وما دعاهم إليه من الحق زيادة على ما سألوه ، ثم إن الله تعالى فعل ذلك به حيث آتاه من علم غيوب المسلمين ، وخبرهم ما كان أوضح الحجج ، وأقرب إلى الرشد من خبر أصحاب الكهف . وقال بعضهم : هذا شيء أمر ( صلى الله عليه وسلم ) أن يقوله مع قوله : إن شاء الله إذا ذكر الاستثناء بعد ما نسيه ، فإذا نسي الإنسان " إن شاء الله " فتوبته من ذلك وكفارته أن يقول : عسى أن يهديني رب لأقرب من هذا رشداً .
وقوله تعالى : " ولبثوا " يعني أصحاب الكهف ، " في كهفهم ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعاً " قال بعضهم : هذا خبر عن أهل الكتاب أنهم قالوا ذلك ، وقالوا : لو كان خبراً من الله عن قدر لبثهم في الكهف ، لم يكن لقوله " قل الله أعلم بما لبثوا " وجه مفهوم ، فقد أعلم الله خلقه قدر لبثهم . وهذا القول قول قتادة ، يدل عليه قراءة عبد الله بن مسعود : فقالوا لبثوا في كهفهم . وقال مطر الوراق في هذه الآية : هذا شيء قالته اليهود ، فرد الله عليهم ، فقال : " قل الله أعلم بما لبثوا " .
وقال آخرون : هذا إخبار من الله تعالى عن قدر لبثهم في الكهف ، وقالوا : معنى قوله تعالى : " قل الله أعلم بما لبثوا " أن أهل الكتاب على عهد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، قالوا : إن للفتية من لدن دخلوا الكهف إلى يومنا هذا ثلاثمائة وتسع سنين ، فرد الله عليهم ذلك .
قال ( صلى الله عليه وسلم ) : " الله أعلم بما لبثوا بعد أن قبض أرواحهم إلى يومنا هذا لا يعلم ذلك غير الله وغير من أعلمه ذلك " . وقال الكلبي : قالت النصارى ، أهل نجران : أما الثلاثمائة فقد عرفناها ، وأما التسع فلا علم لنا بها . فنزلت " قل الله أعلم بما لبثوا له غيب السموات والأرض " أي يعلم ما غاب فيهما من العباد .
واختلفوا في قوله عز وجل : " ثلاثمائة سنين " فقرأ أهل الكوفة بغير تنوين ، بمعنى فلبثوا في كهفهم سنين ثلاثمائة . وقال الضحاك ومقاتل : نزلت " ولبثوا في كهفهم ثلاثمائة " فقالوا : أياماً أو أشهراً أو سنين . فلذلك قال : سنين . ولم يقل سنة انتهى . ما ساقه الإمام أبو إسحاق محمد بن أحمد الثعلبي ، من قصة أصحاب الكهف ، وقد ذكرها الحافظ أبو محمد بن جرير بن يزيد الطبري في تاريخه الكبير ، وفيها زيادة فوائد فلنأت بها .
قال : ومما كان في أيام ملوك الطوائف ما ذكره الله تعالى في كتابة العزيز من أمر الفتية ، الذين أووا إلى الكهف فضرب على آذانهم ، قال : وكان أصحاب الكهف فتية آمنوا بربهم ، كما وصفهم الله في تنزيله ، فقال لنبيه محمد ( صلى الله عليه وسلم ) : " أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من(2/409)
"""""" صفحة رقم 410 """"""
آياتنا عجباً " والرقيم هو الكتاب الذي كان القوم الذين منهم ، كان الفتية كتبوه في لوح بذكر خبرهم وقصصهم ، ثم جعلوه على باب الكهف الذي أووا إليه ، أو نقروه في الجبل الذي أووا إليه ، أو كتبوه في لوح وجعلوه في صندوق خلفوه عندهم ، إذا أوى الفتية إلى الكهف . وكان عدد الفتية فيما ذكر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما سبعة وثامنهم كلبهم . قال قتادة : ذكر لنا أن ابن عباس كان يقول : أنا من ذلك القليل الذي استثنى الله عز وجل كانوا " سبعة وثامنهم كلبهم " وكان اسم أحدهم تمليخا وهو الذي كان يلي شراء الطعام لهم الذي ذكر الله عز وجل عنهم أنهم قالوا . إذ هبوا من رقدتهم : " فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة فلينظر أيها أزكى طعاماً فليأتكم برزق منه " قال مجاهد في قوله تعالى " فابعثوا أحدكم بورقكم " اسمه تمليخ .
وأما ابن إسحاق ، فإنه قال : اسمه يمليخا . وكان ابن إسحاق يقول : عدد الفتية ثمانية فعلى قوله كان تاسعهم كلبهم . وإنه كان يسميهم فيقول : كان أحدهم ، وهو أكبرهم ، والذي كلم الملك عن سائرهم مكسلمينا ، والآخر مجسلمينا ، والثالث يمليخا ، والرابع مرطوس ، والخامس كفشطيوس ، والسادس ينيونس ، والسابع ميموس ، والثامن بطنيوس ، والتاسع طالوس ، وكانوا أحداثاً .
وعن مجاهد قال : لقد حدثت أنه كان على بعضهم من حداثة أسنانهم وضح الورق ، وكانوا من قوم يعبدون الأوثان من الروم فهداهم الله للإسلام ، وكانت شريعتهم شريعة عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام ، في قول جماعة من سلف علمائنا .
وعن عمرو يعني بن قيس الملائي ، في قوله تعالى : " إن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجباً " قال : كانت الفتية على دين عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام ، وكان ملكهم كافراً ، وكان بعضهم يزعم أن أمرهم ومصيرهم إلى الكهف ، كان قبل المسيح ، وأن المسيح أخبر قومه خبرهم وأن الله عز وجل بعثهم من رقدتهم ، بعدما رفع المسيح عليه السلام في الفترة التي بينه وبين محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ، والله أعلم ، أي ذلك كان .
فأما الذي عليه علماء الإسلام ، فعلى أن أمرهم كان بعد المسيح . وأما أنه كان في أيام ملوك الطوائف ، فإن ذلك لا يرفعه رافع من أهل العلم بأخبار الناس القديمة ، وكان لهم في ذلك الزمن ملك يقال له دقيانوس ، يعبد الأصنام فيما ذكر ، فبلغه عن الفتية خلافهم إياه في دينه ، فطلبهم فهربوا منه بدينهم ، حتى صاروا إلى جبل لهم ، يقال له منحلوس .
وكان سبب إيمانهم وخلافهم لقومهم ما ذكر عن وهب بن منبه ، أنه قال : جاء حواري عيسى ابن مريم إلى مدينة أصحاب الكهف ، فأراد أن يدخلها ، فقيل له : إن على بابها صنماً لا يدخل أحد إلا سجد له ، فكره أن يدخلها . فأتى حماماً كان قريباً من تلك المدينة ، فكان يعمل ،(2/410)
"""""" صفحة رقم 411 """"""
فيه يؤاجر نفسه من صاحب الحمام ، فرأى الرجل في حمامه البركة ودر عليه الرزق ، فجعل يعرض عليه الإسلام ، وجعل يسترسل إليه ، وعلقه فتية من أهل المدينة ، فجعل يخبرهم خبر السماء والأرض ، وخبر الآخرة حتى آمنوا بما يقوله وصدقوة ، وكانوا على مثل حاله في حسن الهيئة ، وكان يشترط على صاحب الحمام ، أن الليل لا يحول بيني وبينه أحد ، ولا بين الصلاة إذا حضرت ، فكان على ذلك ، حتى جاء ابن الملك بامرأة ، فدخل بها الحمام ، فعيره الحواري ، وقال له : أنت ابن الملك وتدخل معك هذه التي هي كذا وكذا . فاستحيا وذهب ، فرجع مرة أخرى ، فقال له مثل ذلك ، فسبه وانتهره ولم يلتفت إليه حتى دخل ، ودخلت معه المرأة فماتا في الحمام جميعاً .
فأتى الملك ، فقيل له : إن صاحب الحمام قد قتل ابنك فالتمس فلم يقدر عليه ، وهرب كل من كان يصحبه ، فسموا الفتية فالتمسوا فخرجوا من المدينة فمروا بصاحب لهم في زرع ، وهو على مثل أمرهم ، فذكروا له أنهم التمسوا ، فانطلق معهم ومعه الكلب حتى آواهم الليل إلى الكهف ، فدخلوا وقالوا : نبيت هاهنا الليلة ، ثم نصبح إن شاء الله فترون رأيكم . فضرب على آذانهم فخرج الملك في أصحابه يتبعونهم ، حتى وجدوهم قد دخلوا الكهف ، فكلما أراد رجل أن يدخل الكهف أرعب ، فلم يطق أحد أن يدخله فقال قائل : أليس لو كنت قدرت عليهم قتلتهم ؟ قال : بلى . قال : فابن عليهم باب الكهف ودعهم يموتون عطشاً وجوعاً . ففعل فغبر بعد ما بنى عليهم باب الكهف ، زمان بعد زمان . ثم إن راعياً أدركه المطر عند الكهف ، فقال : لو فتحت هذا الكهف وأدخلت غنمي من المطر ، فلم يزل يعالجه حتى فتح ، فأدخل فيه غنمه ، ورد الله تعالى إليهم أرواحهم في أجساد من الغد حين أصبحوا ، فبعثوا أحدهم بورق يشتري لهم طعاماً ، فلما أتى باب مدينتهم لم ير شيئاً ينكره ، حتى دخل على رجل فقال له : بعني بهذه الدراهم طعاماً ، فقال : ومن أين لك هذه الدراهم ؟ قال : خرجت أنا وأصحاب لي أمس فآوانا الليل حتى أصبحوا ، فأرسلوني . فقال : هذه الدراهم كانت على عهد الملك فلان ، فأنى لك بها ؟ فرفعه إلى الملك ، وكان ملكاً صالحاً ، فقال : من أين لك هذه الدراهم ؟ قال : خرجت أنا وأصحاب لي أمس حتى أدركنا الليل في كهف كذا وكذا فلما أصبحوا أمروني أن أشتري لهم طعاماً . قال : وأين أصحابك ؟ قال : في الكهف فانطلقوا معه حتى أتوا باب الكهف ، فقال : دعوني أدخل إلى أصحابي قبلكم ، فلما رأوه ودنا منهم ، ضرب الله على آذانه وآذانهم ، فجعلوا كلما دخل رجل أرعب ، فلم يقدروا أن يدخلوا إليهم . فبنوا عنده كنيسة واتخذوها مسجداً يصلون فيه .
وعن قتادة عن عكرمة قال : كان أصحاب الكهف أبناء ملوك الروم ، رزقهم الله الإسلام فتعوذوا بدينهم واغتالوا قومهم ، حتى انتهوا إلى الكهف ، فضرب الله على صماخهم فلبثوا دهراً طويلاً حتى هلكت أمتهم ، وجاءت أمة مسلمة ، وكان ملكهم مسلماً ، واختلفوا في الروح والجسد ، فقال قائل : تبعث الروح والجسد جميعاً ، وقال قائل : تبعث الروح لا غير ، فأما الجسد فتأكله الأرض ، فلا يكون شيئاً ، فشق على ملكهم اختلافهم ، فانطلق فلبس المسوح وجلس على(2/411)
"""""" صفحة رقم 412 """"""
الرماد ، ثم دعا الله تعالى فقال : أي رب قد ترى اختلاف هؤلاء ، فابعث لهم ما يبين لهم . فبعث الله أصحاب الكهف ، فبعثوا أحدهم يشتري لهم طعاماً ، فدخل السوق فجعل ينكر الوجوه ، ويعرف الطريق ويرى الإيمان بالمدينة ظاهراً فانطلق وهو مستخف ، حتى أتى رجلاً يشتري منه الطعام ، فلما نظر الرجل إلى الورق أنكرها . قال : حسبت أنه قال : كأنها أخفاف الربع ، يعني الإبل الصغار . فقال الفتى : أليس ملككم فلاناً ؟ قال : لا بل ملكنا فلان . فلم يزل ذلك بينهما حتى رفعه إلى الملك ، فسأله الملك فأخبره الفتى خبر أصحابه . فبعث الملك في الناس فجمعهم ، فقال : إنكم قد اختلفتم في الروح والجسد ، وإن الله قد بعث لكم آية ، فهذا الرجل من قوم فلان يعني ملكهم الذي مضى ، فقال الفتى : انطلقوا معي إلى أصحابي ، فلما أبصرهم ضرب على آذانه وآذانهم ، فلما استبطؤوه دخل الملك ودخل معه الناس ، فإذا أجساد لا ينكرون منها شيئاً غير أنها لا أرواح فيها فقال الملك : هذه آية بعثها الله لكم .
قال قتادة : وغزا ابن عباس مع حبيب بن مسلمة ، فمروا بالكهف فإذا فيه عظام ، فقال رجل : هذه عظام أهل الكهف . فقال ابن عباس رضي الله عنهما : لقد ذهبت عظامهم منذ أكثر من ثلاثماثة سنة . وقال وهب والسدي وغيرهما : وأسماؤهم مكسلمينا وهو أكبرهم ورئيسهم ، وأمليخا وهو أجملهم وأعبدهم وأنشطهم ، ومرطونس ، ويوناس ، وساربنوس ، وبطنيوس وكندسلططنوس ، وكلبهم قطمير يكتب ذلك للنوم ولبكاء الأطفال .
ومما يكتب لنوم الصبيان وبكائهم : أعوذ بكلمات الله التامات التي نام بها أصحاب الكهف والرقيم ، الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى ، اللهم الق النوم والسكينة على حامل هذا الكتاب ، بألف لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .
فائدة أخرى : وقد تقدمت قبل ذلك ، وهي عن عمرو بن دينار أنه قال : مما أخذ على العقرب أن لا تضر أحداً في ليل أو نهار أن يصلي على نوح ( صلى الله عليه وسلم ) . ومما أخذ على الكلب ، أن لا يضر أحداً حمل عليه في ليل أو نهار ، إذ قرأ " وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد " ، إلى هنا انتهى ما تقدم .
وقال القرطبي في كتاب التذكار في أفضل الأذكار : بلغنا عمن تقدم أن في سورة الرحمن آية تقرأ على الكلب إذا حمل على الإنسان ، وهي قوله تعالى : " يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السموات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان " فإنه لا يؤذيه بإذن الله تعالى . وفي تاريخ الإسلام للذهبي في سنة ثلاثمائة أن ممشاد الدينوري رحمه الله تعالى ، خرج من داره فنبحه كلب ، فقال : لا إله إلا الله فمات الكلب مكانه . الحكم : يحرم أكل الكلاب بجميع أنواعها إلا ابن آوى ، فإنه من جنس الكلاب وفيه خلاف سبق في باب الهمزة . وروى ابن عبد البر ، في التمهيد ، عن الشعبي ، أنه سئل عن رجل(2/412)
"""""" صفحة رقم 413 """"""
يتداوى بلحم الكلاب فقال : لا شفاه الله . وعلى مقتني الكلب المباح اقتناؤه ، أن يطعمه أو يرسله ، أو يدفعه لمن يريد الانتفاع به ، ولا يحل حبسه ليهلك جوعاً .
فرع : لو كان لإنسان كلب محترم مضطر ، ومع غيره شاة ، جاز له مكالبته عليها لإطعامه ويضمنها له .
فرع : لو عض كلب كلب شاة فكلبت نحرت ، ولا يؤكل لحمها . قال أبو حيان التوحيدي من أصحابنا في كتاب الإمتاع : إذا كلب الجمل نحر ، ولا يؤكل لحمه انتهى . والظاهر أن ذلك خشية الإيذاء .
فرع : لو غصب نجاسة تنفع ككلب معلم ، وجلد ميتة وسرجين ، فهل له كسر بابه ونقب جداره ، إذا لم يصل إليها إلا بذلك ؟ الظاهر أنه يجوز له ذلك ، كالمال لأنها حق ، ويجوز الدفع عنها كالمال والله أعلم .
تنبيه : الكلاب كلها نجسة المعلمة وغيرها الصغير والكبير وبه قال الأوزاعي وأبو حنيفة وأحمد وإسحاق وأبو ثور وأبو عبيدة ولا فرق بين الكلب المأذون في اقتنائه وغيره ، ولا بين كلب البدوي والحضري لعموم الأدلة .
وفي مذهب مالك رحمه الله تعالى أربعة أقوال : طهارته ، ونجاسته ، وطهارة سؤر المأذون في اتخاذه دون غيره ، وهذه الثلاثة عن مالك . والرابع عن عبد الملك بن الماجشون أنه يفرق بين البدوي والحضري ، وقال الزهري ومالك وداود : إنه طاهر وإنما يغسل الإناء من ولوغه تعبداً ويحكى هذا عن الحسن البصري وعروة بن الزبير ، محتجين بقوله تعالى : " فكلوا مما أمسكن عليكم " ولم يذكر غسل موضع إمساكها .
وبحديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما ، قال : كانت الكلاب تقبل وتدبر في مسجد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وتبول ، فلم يكونوا يرشون شيئاً من ذلك ذكره البخاري في صحيحه . واحتج أصحابنا بحديث أبي هريرة رضية الله تعالى عنه أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليرقه وليغسله سبع مرات ، إحداهن بالتراب " . قالوا : ولو لم يكن نجساً لما أمر بإراقته لأنه حينئذ يكون اتلاف مال . وأما حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما ، فقال البيهقي : أجمع المسلمون على أن بول الكلاب نجس ، وعلى وجوب الرش من بول الصبي ، والكلب أولى . فكان حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قبل الأمر بالغسل من ولوغ الكلب ، أو أن بولها خفي مكانه فمن تيقنه لزمه غسله .
فرع : اختلف الأصحاب في موضع عض الكلب من الصيد ، والأصح أنه لا يعفى عنه ، كما لو أصاب ثوباً أو إناء ، فلا بد من غسله وتعفيره . والثاني يعفى عنه ، والثالث يكفي غسله بالماء مرة ، والرابع أنه طاهر ، والخامس يجب تقويره ، والسادس إن أصاب عرقاً نضاخاً بالدم حرم(2/413)
"""""" صفحة رقم 414 """"""
أكله ، والنضاخ الفوار . قال الله عز وجل : " أفيهما عينان نضاختان " ، وأحكام التتريب وشروطه مبسوطة في كتب الفقه . روى مسلم عن أبي ذر رضي الله تعالى عنه ، قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : " يقطع الصلاة الحمار والمرأة والكلب الأسود " . قيل لأبي ذر رضي الله تعالى عنه : ما بال الكلب الأسود من الكلب الأحمر من الكلب الأصفر ؟ قال : يا ابن أخي سألت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) مثل ما سألتني ، فقال : " الكلب الأسود شيطان " . فحمله بعض العلماء على ظاهره ، وقال : الشيطان يتصور بصورة الكلب الأسود . ولذلك قال ( صلى الله عليه وسلم ) : " اقتلوا منها كل أسود بهيم " . وقيل : لما كان الكلب الأسود أشد ضرراً من غيره وأشد ترويعاً ، كان المصلي إذا رآه اشتغل عن صلاته ، فانقطعت عليه لذلك . ولذلك تأول الجمهور قوله ( صلى الله عليه وسلم ) " يقطع الصلاة المرأة والحمار " بأن ذلك مبالغة الخوف على قطعها وإفسادها من الشغل بهذه المذكورات . وذلك لأن المرأة تفتن ، والحمار ينهق ، والكلب الأسود يروع ويشوش الفكر ، فلما كانت هذه الأمور ، آيلة إلى القطع ، جعلها قاطعة . وذهب ابن عباس وعطاء رضي الله تعالى عنهم ، إلى أن المرأة التي تقطع الصلاة ، إنما هي الحائض لما تستصحبه من النجاسة . واحتج أحمد رحمه الله بحديث الكلب الأسود على أنه لا يجوز صيده ولا يحل ، لأنه شيطان . واختاره أبو بكر الصيرفي من أصحابنا . وقال الشافعي رحمه الله ومالك وأبو حنيفة وجماهير العلماء رحمة الله تعالى عليهم : يحل صيده كغيره . وليس المراد بالحديث ، إخراجه عن جنس الكلاب ، ولهذا إذا ولغ في إناء أو غيره وجب غسله وتعفيره كولوغ الكلب الأبيض .
وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن مغفل رضي الله تعالى عنه ، قال : أمر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بقتل الكلاب ثم قال : " ما بالهم وبال الكلاب " . ثم رخص ( صلى الله عليه وسلم ) في كلب الصيد وكلب الغنم . فحمل الأصحاب الأمر بقتلها على الكلب الكلب والكلب العقور ، واختلفوا في قتل ما لا ضرر فيه منها . فقال القاضي حسين وإمام الحرمين والماوردي ، في باب بيع الكلاب ، والنووي في أول البيع ، من شرحي المهذب ومسلم : لا يجوز قتلها . وقال في باب المحرمات الإحرام : إنه الأصح ، وإن الأمر بقتلها منسوخ . وعلى الكراهة اقتصر الرافعي في الشرح وتبعه في الروضة وزاد أنها كراهة تنزيه لا تحريم .
لكن ، قال الشافعي في الأم ، في باب الخلاف ، في ثمن الكلاب : واقتلوا الكلاب التي لا نفع فيها حيث وجدتموها ، وهذا هو الراجح في المهمات ولا يجوز اقتناء الكلب الذي لا منفعه فيه . وذلك لما في اقتنائها من مفاسد الترويع والعقر للمار . ولعل ذلك لمجانبة الملائكة لمحلها ، ومجانبة الملائكة أمر شديد لما في مخالطتهم من الإلهام إلى الخير والدعاء إليه .
واختلف الأصحاب في جواز اتخاذ الكلب لحفظ الدرب والدور على وجهين : أصحهما(2/414)
"""""" صفحة رقم 415 """"""
الجواز ، واتفقوا على جواز اتخاذه للزراعة والماشية والصيد ، لكن يحرم اقتناء كلب الماشية قبل شرائها ، وكذلك كلب الزرع والصيد لمن لا يزرع ولا يصيد ، فلو خالف واقتنى نقص من أجره كل يوم قيرطان . وفي رواية : قيراط ، وكلاهما في الصحيح .
وحمل ذلك على نوع من الكلاب ، إذ بعضها أشد أذى من بعض أو لمعنى فيها ، أو يكون ذلك مختلفاً باختلاف المواضع ، فيكون القيراطان في المدائن ونحوها ، والقيراط في البوادي أو يكون ذلك في زمنين . فذكر القيراط أولاً ثم زاد في التغليظ ، فذكر القراطين . والمراد بالقيراط مقدار معلوم عند الله عز وجل ينقص من أجر عمله . واختلفوا في المراد بما نقص منه . فقيل : مما مضى من عمله ، وقيل : من مستقبله ، وقيل : قيراط من عمل الليل ، وقيراط من عمل النهار ، وقيل : قيراط من عمل الفرض ، وقيراط من عمل النفل .
وأول من اتخذ الكلب للحراسة نوح عليه السلام ، روى القاسم بن سلمة ، بإسناده عن علقمة عن عبد الله رضي الله تعالى عنه أنه قال : أول من اتخذ الكلب للحراسة نوح عليه السلام ، وذلك أنه قال : يا رب أمرتني أن أصنع الفلك وأنا في صناعته أصنع أياماً ، فيجيئون في الليل فيفسدون كل ما عملت ، فمتى يلتئم لي ما أمرتني به فقد طال علي أمدي . فأوحى الله إليه : يا نوح اتخذ كلبا يحرسك ، فاتخذ نوح عليه السلام كلباً ، وكان يعمل بالنهار وينام بالليل . فإذا جاء قومه ليفسدوا بالليل عمله نبحهم الكلب فينتبه نوح عليه السلام فيأخذ الهراوة ويثب لهم فيهربون منه . فالتأم له ما أراد . قال الحافظ أبو عمرو بن الصلاح ، في مناسكه في قوله ( صلى الله عليه وسلم ) " لا تصحب الملائكة رفقة فيها كلب ولا جرس " : فإن وقع ذلك من جهة غيره ، ولم يستطع إزالته فليقل : اللهم إني أبرأ إليك مما فعله هؤلاء ، فلا تحرمني ثمرة صحبة ملائكتك وبركتهم ومعونتهم أجمعين . وأما قوله ( صلى الله عليه وسلم ) : " لا تدخل الملائكة بيتاً فيه كلب ولا صورة " . فقال العلماء : سبب امتناعهم من البيت الذي فيه صورة ، كونها معصية فاحشة ، وفيها مضاهاة لخلق الله تعالى ، وبعضها في صورة ما يعبد من دون الله تعالى وسبب امتناعهم من البيت الذي فيه الكلب كثرة أكله النجاسات ، ولأن بعض الكلاب يسمى شيطاناً . كما جاء في الحديث والملائكة ضد الشياطين ، ولقبح رائحة الكلب ، والملائكة تكره الرائحة الخبيثة ، ولأنها منهي عن اتخاذها فعوقب متخذها بحرمانه دخول الملائكة بيته ، وصلاتها فيه ، واستغفارها له ، وتبركها عليه في بيته ، ودفعها أذى الشياطين .
والملائكة الذين لا يدخلون بيتاً فيه كلب ولا صورة هم ملائكة يطوفون بالرحمة والتبرك والاستغفار ، وأما الحفظة والموكلون بقبض الأرواح فيدخلون في كل بيت ، ولا تفارق الحفظة بني آدم في حال من الأحوال ، لأنهم مأمورون بإحصاء أعمالهم وكتابتها .
قال الخطابي : وإنما لا تدخل الملائكة بيتاً فيه كلب ولا صورة ، مما يحرم اقتناؤه من الكلاب والصور ، فأما ما ليس اقتناؤه بحرام من كلب الصيد ، والزرع والماشية ، والصورة التي تمتهن في(2/415)
"""""" صفحة رقم 416 """"""
البساط والوسادة وغيرهما ، فلا يمتنع دخو الملائكة بسببه . وأشار القاضي إلى نحو ما قال الخطابي ، قال النووي : والأظهر أنه عام في كل كلب وكل صورة ، وأنهم يمتنعون من الجميع لإطلاق الأحاديث . ولأن الجرو الذي كان في بيت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) تحت السرير ، كان له فيه عذر ظاهر ، فإنه لم يعلم به ومن هذا امتنع جبريل عليه السلام من دخول البيت بسببه ، فلو كان العذر في وجود الكلب والصورة لا يمنعهم لم يمتنع جبريل عليه السلام .
قال الجاحظ : روي أن جماعة من الصحابة رضي الله تعالى عنهم ذهبوا إلى بيت رجل من الأنصار ليعودوه في مرض ، فهرت في وجوههم كلاب من دار الأنصاري ، فقال الصحابة : لا تدع هؤلاء من أجر فلان شيئاً ، كل كلب من هؤلاء ينقص من أجره كل يوم قيراطاً . فدل هذا على أن القيراط بتعدد بتعدد الكلاب ، وقد سئل الشيخ الإمام تقي الدين السبكي عن ذلك فأجاب بأنه لا يتعدد كما لو ولغت الكلاب في الإناء ، فإن الأصح عدم تعدد الغسلات ، وقد قالوا بتعدد القيراط إذا صلى على جنائر دفعة واحدة .
وقال الغزالي في منكرات الشرع من الإحياء : من كان له كلب عقور على باب داره ، يؤذي الناس يجب منعه منه ، وإن كان لا يؤذي إلا بتنجيس الطريق وكان يمكن الاحتراز عن نجاسته لم يمنع منه ، وإن كان يضيق الطريق ببسط ذراعيه فيمنع منه ، بل يمنع صاحبه أن ينام على الطريق ، أو يقعد قعوداً يضيق الطريق ، فكلبه أولى بالمنع . ولا يصح بيع جميع الكلاب عندنا ، خلافاً لمالك ، فإنه أباح بيعها ، حتى قال سحنون : ويحج بثمنها . وقال أبو حنيفة : يجوز بيع غير العقور . والأصح عدم صحة إجارة الكلاب المعلمة ، لأن اقتناءها لهذه المنافع إنما جوز لأجل الحاجة ، وما جوز للحاجة لا يجوز أخذ العوض عليه ، ولأنه لا قيمة لعينه ، فكذلك منفعته . وقال صاحب التلخيص : لا تجوز لأنها منفعة مقصودة ، واختاره الروياني وابن أبي عصرون ، وبناهما الماوردي على اختلاف أصحابنا في أن منفعة الكلب ، هل هي مملوكة أو مستباحة ؟ وفيها وجهان : فعلى الأول يجوز إجارته ، وعلى الثاني لا .
ومن أحكامه : أن من كان في داره كلب عقور فاستدعى إنساناً فعقره وجب عليه ضمانه على الأصح في تصحيح النووي . وقيل : لا قطعاً ، وهو المجزوم به في أصل الروضة ، لأن للكلب اختياراً ، ويمكن دفعه بعصا وغيرها ، هذا إذا لم يعلم الداخل أنه عقور ، فإن علم ذلك فلا ضمان جزماً ، وكذلك لو كان مربوطاً فسار إليه المستدعي جاهلاً بحاله ، فلا ضمان أيضاً ، ومن له كلب عقور ولم يحفظه فقتل إنساناً في ليل أو نهار ، ضمنه لتفريطه . وفي معناه الهرة المملوكة التي تأكل الطيور كما سيأتي ، إن شاء الله تعالى في باب الهاء . وقيل : لا ضمان فيها لأن العادة لم تجر بربطها . فرع : لو سرق قلادة من عنق كلب ، أو سرقها مع الكلب ، قطع وحرز الكلب كحرز الدواب . إذا وقع في الغنيمة كلب ينتفع به للاصطياد ، أو الماشية والزرع . حكى الإمام عن العراقيين أن للإمام أن يسلمه إلى واحد من المسلمين ، لعلمه بحاجته إليه ، ولا يحسب عليه ، واعترض بأن الكلب منتفع به ، فليكن حق اليد فيه لجميعهم كما لو مات وله كلب لا يستبد به بعض الورثة . الموجود في كتاب العراقيين ، انه إن أراده بعض الغانمين أو أهل الخمس ، ولم ينازعه(2/416)
"""""" صفحة رقم 417 """"""
غيره سلم إليه ، وإن تنازعوا فإن وجدنا كلاباً وأمكنت القسمة عمداً قسم ، وإلا أقرع بينهم . وهذا هو المذهب ، وهاهنا المعتبر قيمتها عند من يرى لها قيمة ويعتبر منافعها ، كما في الوصية من الروضة .
تتمة : قوله تعالى : " تعلمونهن مما علمكم الله " ، أي من العلم الني كان علمكم الله دل على أن للعالم فضيلة ليست للجاهل ، لأن الكلب إذا علم تحصل له فضيلة على غير المعلم ، والإنسان إذا كان له علم أولى أن يكون له فضل على غيره كالجاهل ، لاسيما إذا عمل بما علم . كما قال علي رضي الله تعالى عنه : لكل شيء قيمة ، وقيمة المرء ما يحسنه . وقال لقمان لابنه ، واسمه ثاران : وقيل : أنعم يا بني لكل قوم كلب ، فلا تكن كلب قومك . وروى الإمام أحمد ، في مسنده ، والبزار والطبراني ، من حديث عبد الله بن عمر ، أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " ضاف رجل رجلاً من بني إسرائيل ، وفي داره كلبة مجح ، فقالت الكلبة : لا والله لا أنبح ضيف أهلي قال : فعوت جراؤها في بطنها فقيل : ما هذا ؟ فأوحى الله إلى رجل منهم : هذا مثل أمة تكون من بعد يقهر سفاؤها حلماءها " . والمجح بالجيم المكسورة قبل الحاء المهملة . قيل : هي الحامل التي قرب ولادتها .
وفي صحيح مسلم وسنن أبي داود عن أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه ، أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أتي بامرأة مجح على باب فسطاط ، فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : " لعله يريد أن يلم بها " . فقالوا : نعم . فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : لقد هممت أن ألعنه لعناً يدخل معه قبره كيف يورثه وهو لا يحل له كيف يستخدمه وهو لا يحل له " .
الأمثال : قال الله تعالى : " واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين لو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث " ، قال ابن عباس ومجاهد وغيرهما رضي الله تعالى عنهم أجمعين : هو رجل من الكنعانيين الجبارين اسمه بلعم بن باعوراء ، وقيل بلعام بن باعر ، وقال عطية عن ابن عباس : أصله من بني إسرائيل ولكنه كان مع الجبارين .
وقال مقاتل : هو من مدينة بلقاء ، وكانت قصته على ما ذكره ابن عباس والسدي وغيرهما أن موسى ( صلى الله عليه وسلم ) لما قصد حرب الجبارين ، ونزل أرض كنعان من أرض الشام ، أتي قوم بلعم وكانوا كفاراً ، وكان بلعم عنده اسم الله الأعظم ، وكان مجاب الدعوة ، فقالوا له : إن موسى رجل حديد ، ومعه جنود كثيرة ، وإنه قد جاء ليخرجنا من بلادنا ، ويقتلنا ويحلها بني إسرائيل ، وأنت رجل مجاب الدعوة ، فاخرج وادع الله أن يردهم عنا . فقال : ويلكم نبي الله ومعه الملائكة والمؤمنون كيف أدعو عليهم ، وأنا أعلم من الله ما أعلم ؟ وإني إن فعلت هذا ذهبت دنياي وآخرتي ؟ فراجعوه وألحوا عليه ، فقال : حتى أؤامر ربي(2/417)
"""""" صفحة رقم 418 """"""
وكان لا يدعو بشيء ، حتى ينظر ما يؤمر به في المنام ، فوامر بالدعاء عليهم ، فقيل له في المنام : لا تدع عليهم . فقال لهم : إني قد آمرت ربي وإني نهيت . فأهدوا له هدية فقبلها ، ثم راجعوه فقال : حتى أؤمر ربي فآمره ، فلم يجز إليه بشيء . فقال : قد وأمرت فلم يجز إلي بشيء . فقالوا : لو كره ربك أن تدعو عليهم ، لنهاك كما نهاك المرة الأولى ، فلم يزالوا يتضرعون إليه حتى فتنوه فافتتن ، وأتاناً له متوجهاً إلى جبل يطلع منه على عسكر بني إسرائيل ، يقال له حسان ، فما سار عليها غير كثير حتى ربضت به فنزل عنها ، وضربها حتى إذا أذلقها الضرب ، قامت فركبها فلم تسر به كثيراً حتى ربضت ، ففعل بها مثل ذلك ، فقامت فركبها فلم تسر به كثيراً حتى ربضت ، فضربها حتى أذلقها ، فأذن الله تعالى لها بالكلام ، فكلمته حجة عليه ، فقالت : ويحك يا بلعم أين تذهب ألا ترى الملائكة أمامي يردوني عن وجهي هذا أتذهب إلى نبي الله والمؤمنين ، تدعو عليهم ؟ فلم ينزع فخلى الله سبيلها فانطلقت حتى إذا أشرفت على جبل حسان ، جعل يدعو عليهم بالاسم الأعظم الذي كان عنده ، فاستجيب له ووقع موسى عليه السلام وبنو إسرائيل في التيه .
فقال موسى : يا رب بأي ذنب أوقعتنا في التيه . قال تعالى : بدعاء بلعام . قال موسى عليه السلام : يا رب فكما سمعت دعاءه علينا فاسمع دعائي عليه . فدعا موسى عليه أن ينزع الله تعالى منه الاسم الأعظم . فنزع الله منه المعرفة وسلخه منها ، فخرجت من صدره كحمامة بيضاء . قاله مقاتل .
وقال ابن عباس والسدي : لما دعا بلعام على موسى وقومه ، قلب الله لسانه ، فجعل لا يدعو عليهم بشيء من الشر إلا صرف الله به لسانه إلى قومه ، ولا يدعو بشيء من الخير ، إلا صرف الله به لسانه إلى بني إسرائيل ، فقال له قومه : يا بلعم أتدري ما تصنع ؟ إنما تدعو لهم وعلينا فقال : هذا ما أملك ، هذا شيء قد غلب الله عليه ، فنسي الاسم الأعظم واندلع لسانه على صدره . فقال لهم : قد ذهبت مني الآن الدنيا والآخرة ، فلم يبق إلا المكر والخديعة والحيلة ، فسأمكر لكم وأحتال عليهم ، جملوا النساء وزينوهن وأعطوهن السلع ، ثم أرسلوهن إلى العسكر يبتعنها فيه ، ومروهن أن لا تمنع امرأة نفسها من رجل أرادها ، فإنهم إن زنى واحد منهم كفيتموهم . ففعلوا .
فلما أتى النساء العسكر ، مرت امرأة من الكنعانيين اسمها كستى بنت صور برجل من عظماء بني إسرائيل ، يقال له زمري بن شلوم ، رأس سبط شمعون بن يعقوب ، فقام إليها فأخذ بيدها حين أعجبه جمالها ، ثم أقبل بها حتى وقف على موسى عليه السلام ، فقال : إني أظنك ستقول هذا حرام علي فقال مو ى : أجل هي حرام عليك لا تقربنها . قال : فوالله لا أطيعك في هذا ، ثم دخل بها قبة ، فوقع عليها ، فأرسل الله الطاعون على بني إسرائيل في الوقت .
وكان فنحاص بن العيزار بن هارون صاحب أمر موسى عليه السلام ، وكان رجلا قد أعطي بسطة في الخلق ، وقوة في البطش وكان غائباً ، حين صنع زمري بن شلوم ما صنع ، فجاء الطاعون يجوس بني إسرائيل ، فأخبر الخبر فأخذ حربته ، وكانت من حديد كلها ، ثم دخل عليهما القبة ، وهما متضاجعان ، فانتظمهما بحربته ، ثم خرج بهما رافعهما إلى السماء ، والحربة قد أخذها بذراعه ، واعتمد بمرفقه على خاصرته ، وأسند الحربة إلى الحيية وكان بكر العيزار ، فجعل يقول : اللهم هكذا نفعل بمن يعصيك ، فرفع الطاعون ، فحسب من هلك من بني إسرائيل بالطاعون فيما(2/418)
"""""" صفحة رقم 419 """"""
بين أصاب زمري المرأة إلى أن قتلهما فنحاص ، فوجد قد هلك منهم سبعون ألفاً في ساعة من النهار . فمن هنالك يعطي بنو إسرائيل ولد فنحاص من كل ذبيحة ذبحوها : القبة والذراع واللحى لاعتماده بالحربة على خاصرته ، وأخذه إياها بذراعه وإسناده إياها إلى الحيية ، والبكر من كل أموالهم وأنفسهم ، لأنه كان بكر العيزار . ويقال : إنه لما انتظمهما بالحربة وخرج بهما كانا في الحربة كحالهما في حالة الزنا . فكان ذلك آية .
وروي عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما ، وسعيد بن المسيب ، وزيد بن أسلم ، أن هذه الآية نزلت في أمية بن أبي الصلت ، وكان قد قرأ التوراة والإنجيل ، وكان يعلم أن الله تعالى يرسل رسولا من العرب ، فرجا أن يكون هو ذلك الرسول ، فلما أرسل الله تعالى محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) حسده وكفر به ، وكان صاحب حكمة وموعظة حسنة ، وكان قصد بعض الملوك ، فلما رجع مر على قتلى بدر ، فسأل عنهم من قتلهم ؟ فقيل قتلهم محمد ( صلى الله عليه وسلم ) . فقال : لو كان نبياً ما قتل أقرباءه . وسيأتي إن شاء الله تعالى له ذكر في الوعل أيضاً .
وقالت فرقة : إنها نزلت في رجل من بني إسرائيل ، كان قد أعطي ثلاث دعوات مستجابات ، وكانت له امرأة له منها ولد ، فقالت : اجعل لي منها دعوة ، فقال : لك منها واحدة فما تريدين ؟ قالت : ادع الله أن يجعلني أجمل امرأة في بني إسرائيل ، فدعا لها . فكانت كذلك . فلما علمت أنه ليس فيهم مثلها رغبت عنه ، فغضب الزوج ، ودعا عليها فصارت كلبة نباحة فذهبت فيها دعوتان ، فجاء بنوها وقالوا : ليس لنا على هذا قرار ، وقد صارت أمنا كلبة نباحة ، والناس يعيروننا بها ، ادع الله أن يردها إلى الحال التي كانت عليه ، فدعا الله لها فعادت كما كانت ، فذهبت فيها الدعوات كلها . والقولان الأولان أظهر .
وقال الحسن وابن كيسان : نزلت في منافقي أهل الكتاب الذين كانوا يعرفون النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، كما يعرفون أبناءهم . وقال قتادة : هذا مثل ضربه الله تعالى لكل من عرض عليه الهدى ، فأبى أن يقبله . قال الله تعالى : " ولو شئنا لرفعناه بها " أي وفقناه للعمل بها ، فكنا نرفع بذلك منزلته في الدنيا والآخرة . ولكنه أخلد إلى الأرض ، أي ركن إلى الدنيا وشهواتها ولذاتها .
قال الزجاج : خلد وأخلد واحد ، وأصله من الخلود وهو الدوام والمقام . يقال : أخلد فلان بالمكان ، إذا أقام به . والأرض هنا عبارة عن الدنيا لأن ما فيها من العقار والرباع كلها أرض وسائر متاعها مستخرج من الأرض . واتبع هواه انقاد إلى ما دعاه إليه الهوى ، فعوقب في الدنيا بأنه كان يلهث كما يلهث الكلب ، فشبه به صورة وهيئة . قال القتبي : كل شيء يلهث فإنما يلهث من إعياء أو عطش ، إلا الكلب فإنه يلهث في حال التعب وحال الراحة ، وفي حال الري وحال العطش ، فضربه الله مثلا لمن كذب بآيات الله . فقال : إن وعظته فهو ضال ، وإن تركته فهو ضال كالكلب ، إن طردته لهث وإن تركته على حاله لهث انتهى .
واللهث تنفس بسرعة ، وتحرك أعضاء الفم معه ، وامتداد اللسان وخلقة الكلب أنه يلهث على كل حال . قال الواحدي وغيره : وهذه الآية من أشد الآي على ذوي العلم ، وذلك أن الله(2/419)
"""""" صفحة رقم 420 """"""
تعالى أخبر أنه آتاه آياته من اسمه الأعظم ، والدعوات المستجابة والعلم والحكمة ، فاستوجب بالسكون إلى الدنيا واتباع الهوى تغيير النعمة عليه ، والانسلاخ عنها . ومن الذي يسلم من هاتين الحالتين إلا من عصمه الله تعالى نسأل الله التوفيق والهداية بمنه وكرمه . وروى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه ، قال : إن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " الذي يعود في هبته كالكلب يرجع في قيئه " . وفي رواية : " كمثل الكلب يقيء ثم يعود في قيئه فيأكله " .
قال عمر رضي الله تعالى عنه : حملت على فرس في سبيل الله فأضاعه الذي كان عنده ، فأردت أن أشتريه وظننت أن يبيعه برخص فسألت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، فقال : " لا تشتره ولو باعكه بدرهم ، ولا تعد في صدقتك فإن العائد في صدقته ، كالعائد في قيئه " . وقال الجاحظ : لكل جيفة كلب ، ولكل قدر طالب ، ولكل نحو راغب ، ولكل وسخ حامل ، ولكل صم جارع ، ولكل طعام آكل ، ولكل ساقط لاقط ، ولكل ثوب لابس ، ولكل فرج ناكح انتهى .
وقالت العرب : آلف من كلب وأبصر وأبخل وأطوع وأفحش وألأم وأبول فيجوز أن يراد به البول نفسه ويجوز أن يراد به كثرة الجراء ، فإن البول في كلام العرب يكنى به عن الولد . وبذلك عبر ابن سيرين رحمه الله تعالى عليه ، رؤيا عبد الملك بن مروان لما رأى أنه بال في محراب مسجد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أربع مرات ، فكتب إليه : إن صدقت رؤياك ، فسيقوم من أولادك أربعة في المحراب ، ويتقلدون الخلافة بعدك فوليها أربعة خلفاء من صلبه : الوليد وسليمان وهشام ويزيد . وقالوا : سمن كلبك يأكلك ، وهو قريب من قولهم : اتق إساءة من أحسنت إليه ، وقالوا : جوع كلبك يتبعك ، يضرب في معاشرة اللئام ، وقالوا : الكلاب على البقر ، برفعها ونصبها ، فالنصب على إضمار فعل تقديره خل كلاب الصيد ، أودع الكلاب على بقر الوحش لتصطادها ، والرفع على الابتداء ، وما بعده خبره . ومعنى المثل : إذا أمكنتك الفرصة فاغتنمها . ويقال : معناه خل بين الناس خيرهم وشريرهم ، واغتنم أنت طريق السلامة . وقد سئلت عن قول الأخطل :
قوم إذا استنبح الأضياف كلبهم . . . قالوا لأمهم بولي على النار
فتمسك البول بخلا أو تجود به . . . وما تبول لهم إلا بمقدار
والخبز كالعنبر الوردي عندهم . . . والقمح سبعون أردباً بدينار(2/420)
"""""" صفحة رقم 421 """"""
فقلت : هذا عكس قول شاعر الأنصار حيث يقول :
لله در عصابة نادمتهم . . . يوماً بجلق في الزمان الأول
أولاد جفنة حول قبر أبيهم . . . قبر ابن مارية الكريم المفضل
يغشون حتى ما تهر كلابهم . . . لا يسألون عن السواد المقبل
بيض الوجوه كريمة أحسابهم . . . شم الأنوف من الطراز الأول
ومن شعر العتابي رحمه الله تعالى :
طاف الخيال بنا ليلا فحيانا . . . أهلا به من ملم زار عجلانا
ما ضر زائرنا المهدى تحيته . . . في النوم إذ زارنا لو زار يقظانا
إني أهتدي وسواد الليل معتكر . . . على تباعد مسراه ومسرانا
إن الأماني قد خيلن لي سكناً . . . ردت تحيته قلبي كما كانا
حتى إذا هو ولى وانتبهت له . . . هاجت زيارته شوقاً وأحزانا
وقال علي بن محمد بن نصير في المعنى بيتاً مفرداً :
وكان خيالها يشفي سقاماً . . . فضنت بالخيال على الخيال
وقالوا : أشكر من كلب .
حكى محمد بن حرب ، قال : دخلت على العتابي فوجدته جالساً على حصير ، وبين يديه شراب في إناء ، وكلب رابض بالفناء بحياله ، يشرب كأساً ويولغه أخرى ، فقلت له : ما الذي أردت بما اخترت ؟ فقال : أسمع أنه يكف عني أذاه ، ويكفيني أذى من سواه ، ويشكر قليلي ويحفظ مبيتي ومقيلي ، وهو من بين الحيوان خليلي . قال ابن حرب : فتمنيت والله أن أكون كلباً له لأحوز هذا النعت منه .
الخواص : لحمه يعلو شحمه ، بخلاف لحم الشاة ، فإن شحمها يعلو لحمها ، فإذا ارتضعت الشاة من كلبة كان لحمها على صفة لحم الكلاب ، وفي ذلك قصة شهيرة لربيعة ومضر وأنمار وإياد ، تقدمت في باب الهمزة في الأفعى .
قال السهيلي : وفي الحديث " لا تسبوا ربيعة ومضر ، فإنها كانا مؤمنين " . قال : وإنما سمي ربيعة الفرس لأنه أعطي من ميراث أبيه الخيل ، وأعطي أخوه الذهب ، فسمي مضر الحمراء . ولا تقول العرب إلا ربيعة ومضر ولا يقولون مضر وربيعة أصلا .(2/421)
"""""" صفحة رقم 422 """"""
ومن خواص الكلب العجيبة ، أنه لا يلغ في دم مسلم . قال القاضي عياض ، في الشفاء : أفتى فقهاء القيروان وأصحاب سحنون بقتل إبراهيم الفزاري ، وكان شاعراً ماهراً متفنناً في كثير من العلوم ، وكان يحضر مجلس القاضي أبي العباس بن أبي طالب ، طلباً للمناظرة فضبطت عليه أمور منكرة من الاستهزاء بالله تعالى والأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، فقتل ثم صلب منكساً ، وأنزل وأحرق بالنار ، ولما رفعت خشبته وزالت عنها الأيدي ، استدارت وتحولت عن القبلة ، وجاء كلب فولغ في دمه . فقال يحيى بن عمر : صدق رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فإنه قال : " لا يلغ الكلب في دم مسلم " . وإذا قطع لسان كلب أسود ، وأخذه إنسان في يده ، لم تنبح عليه الكلاب ، وإن أخذت قرادة من أذن كلب ، وأمسكها إنسان في يده خضعت له الكلاب كلها حتى ذلك الكلب المأخوذة منه . وإن علقت أسنانه على صبي ، خرجت أسنانه من غير تعب ، وأنيابه إذا علقت على من به عضة الكلب الكلب سكن عنه وجعها ، وإذا علقت على من به اليرقان الظاهر نفعه ، وإن حمل إنسان معه ناب الكلب لم تنبحه الكلاب . وذكره إذا جفف وعلق على الفخد هيج الباه . ومن كان يلقى من القولنج شدة ، فليقم كلباً نائماً وليبل في مكانه ، فإنه يزول عنه من وقته ويموت الكلب . ونابه إذا علق على من يتكلم في نومه سكن ، ولبن الكلبة إذا طلي به الشعر حلقه ، وإن شرب بالماء سكن من وقته السعالي . وبوله إذا طلي به على الثآليل قلعها ، وقراده إذا نقع في نبيذ وشربه شارب سكر من وقته . وشعر الكلب الأسود البهيم ، إذا علق على المصروع نفعه ، ومن كان عنده عبد أبق وأحب أن لا يأبق ، فليأخذ جرو كلب صغيراً فيحرقه ثم يسحقه بزيت ، ويطلي به رأسه فإنه لا يأبق ، مجرب ، قاله القزويني وغيره . ولبن الكلبة إذا شرب نفع من السموم القاتلة ، ويخرج الأجنة والمشيمة ، ومن اكتحل بلبن كلبة سهر ليله كله . وزبله إذا سحق وعجن بماء الكزبرة ، وطلي به الأورام الحادة نفعها بإذن الله تعالى .
التعبير : الكلاب في الرؤيا عند المسلمين عبيد ، وفي الحديث " أن الكلب من الممسوخ " ، وأوله المعبرون برجل سفيه مجترئ على العاصي ، وإذا نبح فهو سفيه مشنع طمع ، فمن رأى كلباً عضه أو خدشه ، ناله من عدوه هم بقدر الألم ، وربما مرض ، وربما دلت رؤية الكلب على الانكلاب على الدنيا ، مع عدم الادخار ورؤية كلب أهل الكهف في المنام ، تدل على الخوف أو السجن أو الهرب أو الاختفاء ، ورؤيته في البلد دليل على تجديد ولاية ، وربما عل الكلب على الكفر والإياس من رحمة الله تعالى ، لقوله تعالى : " فمثله كمثل الكلب " الآية .
وكلب الصيد عز ورفعة ورزق ، وكلب الماشية رجل صاحل غيور على الأهل والجار ، قاله ابن المقري . ومن رأى كلباً مزق ثيابه ، فإن سفيهاً يغتابه ، وإن لم يسمع نباحه فهو عدو ، وتزول عداوته بشيء يسير .
والكلب يعبر برجل من الأهل ، فمن نازعه كلب نازعه رجل من أهله ، وربما عبر بالمشنع إذا نبح ، أو بسماع نواح ، أو بفتح بيت الخلاء . والكلبة امرأة دنيئة من قوم معاندين ، والجرو ولد(2/422)
"""""" صفحة رقم 423 """"""
محبوب ، فإن كان أبيض فهو مؤمن ، وإن كان أسود فهو يسود قومه ، وقيل : جرو الكلب لقيط سفيه ، والكلب الكلب سفيه أيضاً . ورؤية كلب الراعي تدل على فائدة من ملك أو وال ، والكلب الذي يصاد به ملك وولاية ، لمن رآه بذا كان أهلا لذلك ، أو يصير إليه شيء يستغني به لقوله تعالى : " وما علمتم من الجوارح مكلبين " والكلب الصيني يدل على مخالطة قوم من الأعجام غير مسلمين .
ومن رأى أنه يصيد بالكلاب ، فإنه يعطى بغيته ويناد مناه ، وقال ارسطاميدورس : من رأي كلاب الصيد خارجة فهي دليل خير لطالب الرزق والخدمة ، وإذا رآها داخلة من الصيد ، فإنها تدل على البطالة . والكلب الحارس في المنام يدل على صيانة الزوجة والمال . وقيل : الكلاب في المنام تدل على قوم أذلة . ومن رأى أنه صار كلباً ، فإن الله تعالى قد آتاه علماً فنسيه ، لقوله تعالى : " واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها " إلى قوله تعالى : " فمثله كمثل الكلب " الآية .
وقيل : الكلاب تعبر بغلمان الشرطة ، والكلب عدو ضعيف لتحوله عن جوهر السباع ، ثم يصير صديقاً بعد العداوة ، لقصة آدم عليه السلام ، لما أهبط إلى الأرض وقد تقدم طرف منها ، فجعل في التأويل عدواً ثم يرجع صديقاً .
ومن الرؤيا المعبرة أن سيدنا أبا بكر الصديق رضى الله تعالى عنه ، رأى كأن كلبة من مكة تهر على الناس ، فلما دنوا منها ، استلقت على ظهرها ودرت ثدياها لبناً ، فأخبر بذلك النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : " ذهب كلبهم ، وأقبل درهم ، وستلقونهم بعد ويسألونكم أرحامهم فإذا لقيتم أبا سفيان فلا تقتلوه " . فلما قدم المسلمون لفتح مكة ، قاتل بعضهم وكان ما أخبر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) . ومن الرؤيا المعبرة أيضاً أن رجلا أتى ابن سيرين ، فقال : رأيت كلبين يقتتلان على فرج زوجتي ، فقال : إنها أخذت المقراض ، وجزت شعر فرجها والله تعالى أعلم . خاتمة : ومن الفوائد المجربة أن يكتب في إناء حديد ، ويمسح بزيت ، ويسقى للمكلوب ، فإنه يشفى بإذن الله تعالى وهي هذه الأحرف : 1 ب ج م اع ه د باب اللد ، ويكتب أيضاً للحامل في إناء جديد ، ويغسل بماء ويسقى فإنه نافع إن شاء الله تعالى والله أعلم .
كلب الماء : تقدم في القاف أنه القندس . وقال في عجائب المخلوقات : كلب الماء معروف ، وهو حيوان مشهور يداه أطول من رجليه يلطخ بدنه بالطين ، فيحسبه التمساح طيناً ، ثم يدخل جوفه فيقطع أمعاءه ويأكلها ، ثم يمزق بطنه ويخرج . قال : ومن خواصه أن من كان معه شحم كلب الماء ، أمن من غائلة التمساح . وذكر بعضهم أن جلد الجندبادستر خصية هذا الحيوان . وقد تقدمت صفة ذلك في باب الجيم .
الحكم : سئل الليث بن سعد عن أكل لحم كلب الماء ؟ فقال : لا بأس به ، وقد تقدم في عموم السمك ، أنها تحل إلا أربعة ليس هذا منها . وقيل : لا يؤكل لأن شبهه في البر لا يؤكل .(2/423)
"""""" صفحة رقم 424 """"""
الخواص : دم كلب الماء يخلط بماء الكمون الكرماني ويشرب في الحمام ينفع من تقطير البول وعسره ، ودماغه ينفع من ظلمة العين اكتحالا ، ومرارته قدر عدسة منها ، سم قاتل . وقال ابن سينا : إن خصيته تنفع من نهش الحيات ، وجلده يتخذ منه جورب يلبسه المنقرس يذهب عنه ذلك ولبرأ .
الكلثوم : الفيل قاله ابن سيده . وقد تقدم حكمه في باب الفاء .
الكلكسة : قال قوم : إنه ابن عرس ، وقال قوم : إنه حيوان آخر غير ابن عرس ، وزبله إذا سحق وديف بالخل ، وطلي به مواضع النملة الظاهرة ، نفع نفعاً بيناً . وفي كتاب دمقراطيس ، أن الكلكسه تبيض من فيها .
الكميت : الفرس الشديد الحمرة ، ولا يقال كميت ، حتى يكون عرفه وغرته وذنبه سوداً ، وإن كانت حمراً فهو أشقر ، والورد فيما بين الكميت والأشقر ، والجمع وردان . والكميت من أسماء الخمر ، قال الشيخ صلاح الدين الصفدي ، وفيه تورية :
وحمراء لما ترشفتها . . . جنيت بها اللهو فيما جنيت
ونلت المسرات دون الورى . . . لأني سبقتهم بالكميت
الكندارة : سمكة لها سنام معروفة عند أهل البحر .
الكنعبة : الناقة العظيمة ، وسيأتي إن شاء الله تعالى ، حكم الناقة في باب النون .
الكعند والكعند : كجعفر ضرب من السمك ، قاله الجوهري وأنشد لجرير :
قوم إذا جعلوا في صيرهم بصلا . . . ثم اشتووا كنعداً من مالح جدفوا
الكندش : العقعق ، قال أبو المغطش الحنفي يصف امرأة :
منيت بزمردة كالعصا . . . ألصق وأخبث من كندش
ولفظ زمردة فارسي معرب أي امرأة الرجل .
الكهف : الجاموس المسن ، وقد تقدم حكمه في باب الجيم .
الكودن : البرذون البطيء ، وقال الجوهري : هو البرذون يوكف ويشبه به البليد ، وقال ابن سيده : الكودن البرذون ، وقيل : البغل . وفي حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) " لم يعط الكودن شيئاً " . وفي رواية : " أعطاه دون سهم العراب " . رواه الطبراني . وفي إسناده أبو(2/424)
"""""" صفحة رقم 425 """"""
بلال الأشعري وهو ضعيف .
الكوسج : سمكة في البحر لها خرطوم كالمنشار ، تفترس ، وربما التقمت ابن آدم وقصمته نصفين ، وهي القرش . ويقال لها : اللخم أيضاً ، ويقال : إنها إذا صيدت بالليل وجدوا في جوفها شحمة طيبة ، وإن صيدت نهاراً لم يجدوها .
وقال القزويني : الكوسج نوع من السمك ، وهو في الماء شر من الأسد في البر ، يقطع الحيوان في الماء بأسنانه ، كما يقطع السيف الماضي . قال : ورأيته وهو سمكة مقدار ذراع أو ذراعين ، وأسنانه كأسنان الناس ، تنفر منه الحيوانات البحرية ، وله أوان معين يكثر فيه بدجلة البصرة .
وحكمه عند الإمام أحمد تحريم الأكل . وقال أبو حامد من أصحابه : لا يؤكل التمساح ، ولا الكوسج لأنهما يأكلان الناس . ولأنه ذو ناب انتهى . ومقتضى مذهبنا أنه حلال ، ومن ألحقه بالقرش أجرى عليه حكمه الذي تقدم في باب القاف .
الكهول : قال الأزهري : هو بفتح الكاف وضم الهاء العنكبوت ، ومنه قول عمرو لمعاوية رضي الله تعالى عنهما : أتيتك وأمرك كحق الكهول . أي ضعيف كبيت العنكبوت . وضبطها الخطابي والزمخشري بغير ذلك ، لكن قالا : إنها العنكبوت أيضاً .
باب اللام
لأي : على وزن لعي هو الثور الوحشي ، والجمع آلاء على وزن ألعاء ، مثل جبل وأجبال . والأنثى لآة . وقال الفارسي : يجوز أن تكون ألفه منقلبة عن ياء من اللاي . وقال في المحكم : ويجوز أن تكون منقلبة عن واو من اللاو ، لأن الثور يوصف بالقوة كما قال ابن عقيل :
يمشي بها دب الزناد كأنه . . . فتى فارسي من سراويل رامح
وقد تقدم في باب الباء الموحدة ، في ذكر أدم أهل الجنة أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " أدامهم بالام ونون " . قالوا : ما هذا ؟ قال : ثور وحوت . قال السهيلي ، في أول الروض في لؤي : اسم جد النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ابن الأنباري : إنه تصغير اللأي ، وهو الثور الوحشي . وقال أبو حنيفة : اللأي البقرة ، قال : وسمعت أعرابياً يقول بكم لآك هذه .
اللباد : بضم اللام ، قاله الزبيدي في الأبنية ، اسم طائر يلبد في الأرض ، ولا يكاد يطير ، إلا أن يطار ، ولبد آخر نسور لقمان وهو ينصرف لأنه ليس بمعدول ، وخبره يأتي في باب النون في النسر إن شاء الله تعالى .(2/425)
"""""" صفحة رقم 426 """"""
الأمثال : قالوا : أهرم من لبد . قال الشاعر :
إن معاذ بن مسلم رجل . . . ليس لميقات عمره أمد
قد شاب رأس الزمان واكتهل ال . . . دهر وأثواب عمره جدد
قل لمعاذ إذا مررت به . . . قد ضج من طول عمرك الأبد
يا بكر حواء كم تعيش وكم . . . تسحب ذيل الحياة يا لبد
مصححاً كالظليم ترفل في . . . برديك مثل السعير تتقد
صاحبت نوحاً ورضت بغلة ذي ال . . . قرنين شيخاً لولدك الولد
فارحل ودعنا فإن غايتك ال . . . موت وإن شد ركنك الجلد
اللبوءة : بضم الباء وبعدها همزة : أنثى الأسد ، واللبأة واللبوة ، ساكنة الباء ، غير مهموزة لغتان فيها حكاهما ابن السكيت ، ويقال لها : العرس أيضاً .
قال عون بن أبي شداد العبدي : بلغني أن الحجاج بن يوسف الثقفي ، لما ذكر له سعيد بن جبير رحمة الله تعالى عليه ، بعد قتل عبد الرحمن بن الأشعث ، أرسل إليه قائداً من أهل الشام من خاصة أصحابه ، فبينما هم يطلبون ، إذا هم براهب في صومعة له ، فسألوه عنه فقال الراهب : صفوه لي . فوصفوه له ، فدلهم عليه ، فانطلقوا فوجدوه ساجداً يناجي ربه تعالى بأعلى صوته ، فدنوا منه وسلموا عليه فرفع رأسه ، فأتم بقية صلاته ، ثم رد عليهم السلام ، فقالوا له : إن الحجاج أرسل إليك فأجبه . فقال : ولا بد من الإجابة ؟ فقالوا : لا بد . فحمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، ثم قام يمشي معهم حتى انتهوا إلى دير الراهب ، فقال الراهب : يا معشر الفرسان أصبتم صاحبكم ؟ قالوا : نعم . فقال لهم : اصعدوا الدير ، فإن اللبوة والأسد يأويان حول الدير ، فعجلوا الدخول قبل المساء ففعلوا ذلك ، وأبى سعيد رضي الله عنه ، أن يدخل الدير فقالوا : ما نراك إلا تريد الهرب منا ؟ قال : لا ولكني لا أدخل منزل مشرك أبداً . فقالوا : إن لا ندعك فإن السباع تقتلك .
قال سعيد : فإن معي ربي يصرفها عني ، ويجعلها حراساً حولي تحرسني من كل سوء ، إن شاء الله تعالى . قالوا : فأنت من الأنبياء ؟ قال : ما أنا من الأنبياء ، ولكني عبد من عباد الله خاطئ مذنب . قالوا له : فاحلف لنا أنك لا تبرح . فحلف لهم . فقال لهم الراهب : اصعدوا الدير ، وأوتروا القسي لتنفروا السباع عن هذا العبد الصالح ، فإنه كره الدخول علي في الصومعة ، فدخلوا وأوتروا القسي فإذا هم بلبوة قد أقبلت ، فلما دنت من سعيد بن جبير ، تحككت به وتمسحت به ، ثم ربضت قريباً منه ، وأقبل الأسد فصنع مثل ذلك ، فلما رأى الراهب ذلك دخلت(2/426)
"""""" صفحة رقم 427 """"""
في قلبه هيبة ، فلما أصبحوا نزلوا إليه ، فسأله الراهب عن شرائع دينه وسنن نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) فقرر له سعيد ذلك كله ، فأسلم الراهب وحسن إسلامه .
وأقبل القوم على سعيد يعتذرون إليه ويقبلون يديه ورجليه ، ويأخذون التراب الذي وطئه بالليل يصلون عليه ، ويقولون : يا سعيد حلفنا الحجاج بالطلاق والعتاق ، إن نحن رأيناك لا ندعك حتى نشخصك إليه ، فمرنا بما شئت . فقال سعيد : امضوا لشأنكم فإني لائذ بخالقي ولا راد لقضاء ربي . فساروا حتى وصلوا إلى واسط ، فلما انتهوا إليها ، قال لهم سعيد رضي الله تعالى عنه : يا معشر القوم ، قد تحرمت بكم وصحبتكم ، ولست أشك أن أجلي قد قرب وحضر ، وأن المدة قد انقضت ودنت ، فدعوني الليلة آخذ أهبة الموت ، وأستعد لمنكر ونكير ، وأذكر عذاب القبر ، وما يحثى علي من التراب ، فإذا أصبحتم فالميعاد بيني وبينكم المكان الذي تريدون ، فقال بعضهم : لا نريد أثراً بعد عين . وقال بعضهم : إنكم قد بلغتم أمنكم ، واستوجبتم جوائزكم من الأمير ، فلا تعجزوا . عنه . وقال بعضهم : هو علي أدفعه إليكم إن شاء الله تعالى . فنظروا إلى سعيد وقد دمعت عيناه واغبر لونه ، وكان لم يأكل ولم يشرب ولم يضحك ، منذ لقوه وصحبوه ، فقالوا بأجمعهم : يا خير أهل الأرض ليتنا لم نعرفك ولم نرسل لك ، الويل لنا كيف ابتلينا بك فاعذرنا عند خالقنا ، يوم الحشر الأكبر ، فإنه القاضي الأكبر ، والعادل الذي لا يجوز . فلما فرغوا من البكاء والمجاوبة له ولهم ، قال كفيله : أسألك بالله يا سعيد إلا ما زودتنا من دعائك وكلامك ، فإنا لن نلقي مثلك أبداً .
فدعا لهم سعيد رضي الله تعالى عنه . ثم خلوا سبيله ، فغسل رأسه ومدرعته وكساءه ، وأقبل على الصلاة والدعاء والاستعداد للموت ، ليله كله ، وهم مختفون الليل كله فلما انشق عمود الصبح ، جاءهم سعيد بن جبير رضي الله تعالى عنه فقرع الباب ، فقالوا : صاحبكم ورب الكعبة ، فنزلوا إليه فبكى وبكوا معه طويلا ، ثم ذهبوا به إلى الحجاج فدخل عليه المتلمس فسلم عليه وبشره بقدوم سعيد بن جبير ، فلما مثل بين يديه قال له : ما اسمك . قال : سعيد بن جبير . فقال : بل أنت شقي بن كسير . قال سعيد : بل أمي كانت أعلم باسمي منك . فقال الحجاج : شقيت أنت وشقيت أمك . فقال سعيد : الغيب يعلمه غيرك . قال الحجاج : لأبدلنك بالدنيا ناراً تلظى . قال : لو علمت أن بيدك لاتخذتك إلهاً . قال فما قولك في محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ؟ قال : نبي الرحمة . قال : فما قولك في علي أفي الجنة هو أم النار ؟ قال : لو دخلتهما وعرفت أهلهما عرفت من فيهما . قال : فما قولك في الخلفاء ؟ قال : لست عليهم بوكيل قال : فأيهم أعجب إليك ؟ قال : أرضاهم لخالقه . قال : فأيهم أرضى للخالق ؟ قال : علم ذلك عند الذي يعلم سرهم ونجواهم . قال : فما بالك لا تضحك ؟ قال : أيضحك مخلوق خلق من الطين والطين تأكله النار ؟ قال : فما بالنا نضحك ؟ قال : لم تستو القلوب . قال : ثم إن الحجاج أمر باللؤلؤ والزبرجد والياقوت ، وغير ذلك من الجواهر ، فوضعت بين يدي سعيد ، فقال سعيد رضي الله تعالى عنه : إن كنت جمعت هذا لتفدى به من فزع يوم القيامة ، فصالح ، وإلا ففزعة واحدة(2/427)
"""""" صفحة رقم 428 """"""
تذهل كل مرضعة عما أرضعت ، لا خير في شيء جمع للدنيا إلا ما طاب وزكا .
ثم دعا الحجاج بآلات اللهو ، فضربت بين يدي سعيد فبكى سعيد . فقال الحجاج : ويلك يا سعيد . فقال سعيد : الويل لمن زحزح عن الجنة ، وأدخل النار . فقال : يا سعيد أي قتلة تريد أن أقتلك بها ؟ قال : اختر لنفسك يا حجاج ، فوالله لا تقتلني قتلة إلا قتلك الله مثلها في الآخرة . قال : فتريد أن أعفو عنك ؟ قال : إن كان العفو من الله فنعم ، وأما منك أنت فلا . فقال : اذهبوا به فاقتلوه . فلما أخرج من الباب ضحك ، فأخبر الحجاج بذلك ، فأمر برده فقال : ما أضحكك وقد بلغني أن لك أربعين سنة لم تضحك ؟ قال : ضحكت عجباً من جراءتك على الله ، ومن حلم الله عليك ، فأمر بالنطع فبسط بين يديه ، وقال : اقتلوه .
فقال سعيد : " كل نفس ذائقة الموت " . ثم قال : " وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً مسلماً وما أنا من المشركين " . قال : وجهوه لغير القبلة . فقال سعيد : " فأيما تولوا فثم وجه الله " فقال : كبوه لوجهه . فقال : " منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى " فقال الحجاج : اذبحوه . فقال سعيد : أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله . ثم قال : اللهم لا تسلطه على أحد يقتله بعدي . فذبح على النطع رحمة الله تعالى عليه ، فكان رأسه يقول بعد قطعه : لا إله إلا الله مراراً . وذلك في شعبان سنة خمس وتسعين . وكان عمر سعيد تسعاً وأربعين سنة ، وعاش الحجاج بعده خمس عشرة ليلة ، ولم يسلط على قتل أحد بعده . ولما بلغ الحسن البصري رضي الله تعالى عنه قتل سعيد بن جبير ، قال : اللهم أنت على فاسق ثقيق رقيب ، والله لو أن أهل المشرق والمغرب اشتركوا في قتله ، لكبهم الله تعالى في النار ، والله لقد مات وأهل الأرض من المشرق إلى المغرب محتاجون إلى علمه . ونقل أن سعيداً رضي الله تعالى عنه كان يقول : وشى بي واش ، وأنا في بلد الله الحرام ، أكله إلى الله ، يعني خالد القسري .
وروي أن الحجاج لما حضرته الوفاة ، كان يغيب ثم يفيق ، ويقول : ما لي ولسعيد بن جبير . وقيل : إنه كان في مدة مرضه كلما نام ، رأى سعيد بن جبير آخذاً بثوبه ، وهو يقول : يا عدو الله فيم قتلتني فيستيقظ مذعوراً .
وروي أن أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى ، رآه بعد موته في المنام ، وهو جيفة منتنة ، وأنه قال له : ما فعل الله بك ؟ فقال : قتلني الله بكل قتيل قتلته قتلة واحدة ، وقتلني بسعيد بن جبير سبعين قتلة .
فإن قيل ما الحكمة في أن الله تعالى قتل الحجاج بكل قتيل قتلة وقتله بسعيد سبعين قتلة . وقد قتل من هو أفضل من سعيد ، وهو عبد الله بن الزبير رضي الله تعالى عنهما ، لأنه صحابي ،(2/428)
"""""" صفحة رقم 429 """"""
وسعيد بن جبير تابعي والصحابي أفضل من التابعي .
فالجواب أن الحجاج لما قتل ابن الزبير ، كان له نظراء في العلم من الصحابة ، كابن عمرو وأنس بن مالك وغيرهما ، ولما قتل سعيداً لم يكن له نظير في العلم ، فضوعف عليه العذاب بسبب ذلك . ويشهد لهذا القول ما تقدم عن الحسن البصري ، لا لكونه أفضل من ابن الزبير والله أعلم .
التعبير : اللبوة في المنام بنت ملك ، فمن رأى أنه جامع لبوة نجا من شدة عظيمة ، ويعلو شأنه ويظفر بأعدائه ، فإن رأى ذلك ملك ، وكان في حرب ، فإنه يظفر بمن يحاربه ويملك بلاداً كثيرة . وقيل : إن اللبوة تعبيرها كالسبع والله أعلم .
اللجأ : بالجيم نوع من السلاحف يعيش في البر والبحر ، ولها حيلة عجيبة وتوصل في صيد ما تصيده من طائر وغيره ، وذلك أنها تغوص في الماء ثم تتمرغ في التراب ، ثم تكمن للطير في مواضع شربها ، فيختفي عليه لونها ، فتمسكه وتغوص به في الماء حتى يموت .
ويقال : إن اللجأة تضع بيضها في البر ، وأنها تحضنه بالنظر إليه . وقال أرسطاطاليس في النعوت : ما خرج من بيض اللجأة مستقبل البحر ، صار إلى البحر ، وما خرج منه مستقبل البر ، صار إلى البر وكلهن يردن الماء ، لأنهن من خلق الماء . قال : وهي تأكل الثعابين واللجأة البحرية لها لسان في صدرها من أصابته به من الحيوان قتلته . وقد تقدم ذكرها في باب السين .
الحكم : صرح بتحريمها وبعدم جواز أكلها البغوي والنووي في شرح المهذب .
الخواص : قال أرسطو : كبدها إذا أكل طرياً نفع من داء الكبد ، ولحمها إذا طبخ بخل صفة السكباج وشرب من مرقته من به استسقاء نفعه ، وأدبل بطنه ، وهو يشد الفؤاد ويذهب الرياح السوداوية والله أعلم .
التعبير : اللجأة في المنام امرأة عفيفة ، وسنة مقبلة ذات مال ، وربما دلت على الوقاية من الأعداء ، لاتخاذ الناس من ظهرها تجافيف يدفع الإنسان بها عن نفسه .
اللحكاء : قال الأزهري : هي بضم اللام وفتح الحاء المهملة والكاف ، وبالألف والمد ، ويقال له : اللحكة على مثال الهمزة واللمزة ، وحكى ابن قتيبة ، في أدب الكاتب ، الحلكاء بفتح الحاء وإسكان اللام وبالمد ، وحكى في المقصور والممدود ، الحلكا بضم الحاء وفتح اللام المشددة وبالقصر ، شحمة الأرض تغوص في الرمل كما يغوص طير الماء في الماء . وقال غيره : الحلكة بالهاء وهي فيما ذكروا دويبة كأنها سمكة تكون في الرمل ، فإذا أحست بالإنسان ، دارت في الرمل وغاصت فيه . وقال غير الأزهري : الحلكة بتقديم الحاء على اللام ، وكذلك الحلكاء على مثال العنقاء .
وحكى صاحب جامع اللغة فيها القصر أيضاً . وقال الجوهري : اللحكة أظنها مقلوبة من الحلكة . قال ابن الصلاح ، في مشكل الوسيط الذي ضبطناه ، عن الأزهري ، صاحب كتاب(2/429)
"""""" صفحة رقم 430 """"""
تهذيب اللغة ، الموثوق به : إنها مقصورة ، وهي دويبة ملساء كأنها شحمة مشربة بحمرة ، وبقال لها الحلكة مثل الهمزة انتهى . وقال الماوردي ، في الحاوي : اللحكاء تشبه السمك وهي عريضة من أعلى ، دقيقة من أسفل . وقال ابن السكيت ، في إصلاح المنطق : اللحكة دويبة شبيهة بالعظاءة ، زرقاء تبرق وليس لها ذنب طويل كالعظاءة وقوائمها خفية . وهذا القول أحسن من الذي نقله ابن الصلاح عن تهذيب الأزهري . وقد تقدم في حرف الحاء الحلكة . وقال الصيدلاني والروياني : إنها دويبة مثل الإصبع تجري في الرمل ثم تغوص فيه . وهذا يقوي قول الجوهري إنها مقلوبة من الحلكة ، لأنه فسرها بهذا فعلى ما قاله الأزهري من كونها ملساء كأنها شحمة مشربة بحمرة حسن تشبيه العرب أصابع النساء بها ، إلا أن الاشتقاق لا يساعده ، لأن الحلكة فيما يظهر شله السواد ، مأخوذ من قولهم : أسود حالك ، ولما كانت زرقاء لشدة سوادها سموها بهذا الاسم . والعرب تسميها بنات النقا لأنها تسكن نقيات الرمل .
الحكم : لا يحل أكلها لأنها من أنواع الوزغ .
اللخم : بضم اللام وإسكان الخاء المعجمة ، ضرب من السمك ضخم يقال له الكوسج ، وهو القرش كما تقدم . وأنشد ابن سيده لبعض الأدباء :
لصيد اللخم في البحر . . . وصيد الأسد في البر
وقضم الثلج في القر . . . ونقل الصخر في الحر
وإقدام على الموت . . . وتحويل إلى القبر
لأشهى من طلاب العز . . . ممن عاش في الفقر
وحكمه : حل الأكل فيما يظهر ، وقد قال أبو السعادات المبارك بن محمد بن الأثير ، في كتابه نهاية غريب الحديث ما نصه : في حديث عكرمة رضي الله تعالى عنه ، اللخم حلال ، وهو ضرب من سمك البحر يقال اسمه القرش . وقد تقدم الكلام على القرش في باب القاف .
اللعوس : الذئب سمي بذلك لسرعة أكله .
اللعوة : بفتح اللام الكلبة ، قالت العرب : أجوع من لعوة .
اللقحة : بالكسر والفتح ، لغتان مشهورتان والكسر أشهر ، والجمع لقح بكسر اللام وفتح القاف كبركة وبرك ، وهي الناقة ذات اللبن ، وقيل القريبة العهد من النتاج ، وناقة لقوح إذا كانت غزيرة اللبن .
روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " تقوم الساعة والرجل يحلب اللقحة فما يصل الإناء إلى فيه حتى تقوم الساعة ، والرجلان يتبايعان الثوب فلا يتبايعانه حتى تقوم الساعة ، والرجل يليط حوضه فما يصدر حتى تقوم الساعة " . وفيه من حديث النواس(2/430)
"""""" صفحة رقم 431 """"""
بن سمعان في صفة الدجال : " ويبارك في الرسل يعني اللبن حتى إن اللقحة من الإبل لتكفي الفئام من الناس ، واللقحة من الغنم لتكفي الفخذ من الناس ، واللقحة من البقر لتكفي القبيلة من الناس " . الفئام الجماعة الكثيرة مأخوذ من الكثرة ، والفخذ بالذال المعجمة الجماعة من الأقارب ، وهم دون البطن والبطن دون القبيلة . قال ابن فارس : الفخذ هنا بإسكان الخاء المعجمة لا غير بخلاف الفخذ التي هي العضو فإنها تكسر وتسكن .
وكان للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) عشرون لقحة بالغابة وهي على بريد من المدينة بطريق الشام ، كان يراح إليه ( صلى الله عليه وسلم ) كل ليلة بقربتين عظيمتين من لبن ، وكان أبو ذر رضي الله تعالى عنه فيها ، وكان ( صلى الله عليه وسلم ) يفرقها على نسائه وهي التي استاقها العرنيون وقتلوا راعيها يسارا ففعل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بهم ما فعل .
وروى الحاكم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رجلا أهدى إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لقحة ، فأثابه منها ست بكرات فتسخطها ، فقال ( صلى الله عليه وسلم ) : " من يعذرني من فلان ؟ أهدى إلي لقحة فأثبته منها ست بكرات فتسخطها لقد هممت أن لا أقبل هدية إلا من قرشي أو أنصاري أو ثقفي أو دوسي " ثم قال : صحيح الإسناد .
وروى هو وأحمد والبيهقي ، عن ضرار بن الأزور رضي الله تعالى عنه ، قال : أهديت إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لقحة ، فأمرني أن أحلبها فحلبتها فجهدت حلبها ، فقال ( صلى الله عليه وسلم ) : " لا تفعل دع داعي اللبن " . وروى البزار عن بريرة أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أمر بحلاب لقحة ، فقام رجل فقال له ( صلى الله عليه وسلم ) " ما اسمك " ؟ فقال : مرة . فقال ( صلى الله عليه وسلم ) : " اقعد " . فقام آخر ، فقال له ( صلى الله عليه وسلم ) : " ما اسمك " ؟ قال يعيش . فقال ( صلى الله عليه وسلم ) له : " احلب " . ورواه مالك عن يحيى بن سعيد أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال للقحة تحلب : " من يحلب هذه " ؟ فقال رجل ، فقال له النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : " ما اسمك " ؟ قال له الرجل : مرة . فقال له رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) " اجلس " ثم قال : " من يحلب هذه " ؟ فقام رجل ، فقال له النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : " ما اسمك " ؟ قال : حرب . قال " اجلس " . ثم قال ( صلى الله عليه وسلم ) : " من يحلب هذه " ؟ فقام رجل فقال له ( صلى الله عليه وسلم ) : " ما اسمك " ؟ قال : يعيش فقال له ( صلى الله عليه وسلم ) : " احلب " .
ثم روى عن يحيى بن سعيد أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال لرجل : ما اسمك ؟ قال : جمرة . قال ابن من ؟ قال : ابن شهاب . قال : ممن ؟ قال : من الحرقة . قال : أين مسكنك ؟ قال بحرة النار . قال : بأيها ؟ قال : بذات لظى . فقال له عمر رضي الله تعالى عنه أدرك أهلك فقد احترقوا . قال : فكان كما قال عمر رضي الله تعالى عنه .
وفي السيرة أنه ( صلى الله عليه وسلم ) لما خرج إلى بدر ، مر برجلين فسأل عن اسمهما ، فقال له أحدهما : مسلخ والآخر مخذل ، فعدل عن طريقهما ، وليس هذا من الطيرة التي نهى ( صلى الله عليه وسلم ) عنها ، بل من باب ، كراهة الاسم القبيح . فقد كان ( صلى الله عليه وسلم ) يكتب إلى أمرائه : " إذا أبردتم إلي بريداً ، فأبردوه حسن(2/431)
"""""" صفحة رقم 432 """"""
الاسم حسن الوجه " . وفي حديث البزار ومالك زيادة ، رواها ابن وهب وهي : فقام عمر فقال : لا أدري أقول أم أسكت ؟ فقال له رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : " قل " قال : فكيف نهيتنا عن الطيرة وتطيرت ؟ فقال ( صلى الله عليه وسلم ) : " ما تطيرت ولكني آثرت الاسم الحسن " .
وروى أبو داود والترمذي والحاكم وقال : صحيح عن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " الطيرة شرك وما منا إلا من تطير ولكن الله تعالى يذهبه بالتوكل " . قال الخطابي : معناه وما منا إلا من يعتريه التطير ، ويسبق إلى قلبه الكراهة فيه فحذفه اختصاراً للكلام ، واعتماداً على فهم السامع . قال البخاري : كان سليلا بن حرب ينكر هذا ، ويقول : هذا ليس من قول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وكأنه من كلام ابن مسعود رضي الله عنه .
قال الإمام عبد الصمد : لما رأيت في أطواق الذهب لجار الله العلامة أبي القاسم محمود الزمخشري قوله : رزق مبسوط ومقدر ، وشرب صاف ومكدر ، ورجل يحسو الماء القراح ، وآخر درت له اللقاح ، وما أوتي هذا من عجز ووهن ، وما أوتي ذاك من فضل وذكاء فإن ، ولكن تقدير من بيده الملكوت ، وإليه الكتاب الموقوت ، ذكرت هذين البيتين :
لم أوت من طلب ولا . . . جد ولا هم شريف
لكنه قدر يزو . . . ل من القوي إلى الضعيف
وما أحسن قول القائل حيث قال :
أنفق ولا تخش إقلالا فقد قسمت . . . على العباد من الرحمن أرزاق
لا ينفع البخل مع دنيا مولية . . . ولا يضر مع الإقبال إنفاق
اللقوة : العقاب الأنثى ، واللقوة بالكسر مثله . قال أبو عبيد : سميت لقوة لسعة أشداقها ، وقيل : لاعوجاج منقارها ، واللقوة مرض يميل به الوجه إلى جانب . واللقوة الناقة السريعة اللقاح ، ولقوة لقب الحجاج بن يوسف الثقفي البغدادي المعروف بابن الشاعر . روى عنه مسلم وأبو داود ووفاته سنة تسع وخمسين ومائتين .
اللقاط : بالتشديد طائر معروف ، سمي بذلك لأنه يلقط الحب .
وحكمه : الحل ، قال العبادي : اللقاط حلال ، إلا ما استثناه النص . قال ، في شرح المهذب : يعني به ذا المخلب وفيما قاله نظر ، لأن المراد به ما يلقط الحب وذو المخلب ، لم يدخل في اسم اللقاط حتى يصح استثناؤه منه ، لكن يحتمل أنه أراد بالمستثنى الغراب الزرعي والاستثناء المنقطع لا تصح إرادته هنا ، لأن الرافعي رحمه الله قد نقل بعد ذلك ، عن البوشنجي ، أن اللقاط حلال ، بغير استثناء .(2/432)
"""""" صفحة رقم 433 """"""
ولعل أبا عاصم أراد بالمستثنى بالنص غراب الزرع ، والغداف الصغير فإنهم يلقطان الحب ، ويأكلان الزرع . كما قاله الماوردي في الحاوي ، وفيهما وجهان أصحهما في الروضة تحريم الغداف وحل الزرعي . وقد تقدم طرف من هذا في أحكام الغراب ، لكن كلام الرافعي يقتص حلهما ، فمن قال بتحريمهما استثناهما من اللقاط ، ولم يحمل الأمر الوارد بقتل الغراب على الأبقع وحده ، بل عليه وعلى غيره . ونقل الجاحظ هذا الاحتمال عن صاحب المنطق ، فقال : قال صاحب المنطق : الغراد جنس من الأجناس التي أمر بقتلها في الحال والحرم ، وهذا صريح في أن الجميع فواسق ، وأن قتل جميعها مستحب .
وقد صرح في الحاوي باستحباب قتل الغراب الأسود الكبير ، وألحقه بالأبقع وجعل النهي علة تحريمه ، ومن قال : يحل اللقاط مطلقاً لم يستثن شيئاً ، وحمل الأمر بقتل الغراب على الأبقع لأنه قد ورد التقييد ، في بعض الروايات بالغراب الأبقع . وهذا إنما يستقيم إذا قلنا : إن ذكر بعض أفراد العموم تخصيص ، والصحيح أنه ليس بتخصيص . والغراب الأبقع ، وإن كان يلقط الحب ، فهو غير وارد على البوشنجي ، لأن غالب أكله الخبائث ، بخلاف الزرعي والغداف الصغير والله تعالى أعلم .
اللقلق : طائر أعجمي طويل العنق وكنيته عند أهل العراق أبو خديج ، وعبر عنه الجوهري بالقاف ، وهو اسم أعجمي قال : وربما قالوا : اللغلغ ، والجمع اللقالق ، وهو يأكل الحيات ، وصوته اللقلقة ، وكذلك كل صوت فيه حركة واضطراب . ويوصف بالفطنة والذكاء ، قال القزويني ، في الأشكال : قال الرئيس : من ذكاء هذا الطائر أنه يتخذ له عشين يسكن في كل واحد منهما بعض السنة ، وأنه إذا أحس بتغير الهواء عند حدوث الوباء ، ترك عشه وهرب من تلك الديار ، وربما ترك بيضه أيضاً . قال : ومما يتوصل به إلى طرد الهوام اتخاذ اللقلق ، فإن الهوام تهرب من مكان هو فيه ، لفزعها منه وإذا ظهرت قتلها .
الحكم : في حله وجهان : أحدهما ، وبه قال الشيخ أبو محمد : يحل كالكركي ورجحه الغزالي ، والثاني يحرم ، وصححه البغوي وجزم به العبادي ، واحتج بأنه يأكل الحيات ، ويصف في الطيران . وقد قال ( صلى الله عليه وسلم ) : " كل ما دف ودع ما صف " . يقال : دف الطائر في طيرانه إذا حرك جناحيه ، كأنه يضرب بهما ، وصف إذا لم يتحرك ، كما تفعل الجوارح . ومنه قوله تعالى : " أولم يروا إلى الطير فوقهم صافات " . والأصح في شرح المهذب والروضة أنه حرام . واللقلق من طير الماء وقد تقدم استثناؤه .
الخواص : إذا ذبح فرخ من فراخه وطلي به بدن المجذوم نفعه نفعاً بيناً ، وإذا أخذ من دماغه وزن دانق ومن أنفحة الأرنب مثله ، وأذيبا على النار ، فمن طعم منه باسم آخر هيج روحانية المحبة في قلبه . وقال هرمس : من حمل عظم اللقلق معه زال همه ، وإن كان عاشقاً سلا ومن حمل(2/433)
"""""" صفحة رقم 434 """"""
حبة عينه اليمنى لم ينم ، ومن حمل حبة عينه اليسرى نام ، ولم يتنبه ما لم تحل عنه ، ومن حمل عينه ودخل الماء ، لم يغرق ، وإن لم يحسن السباحة .
التعبير : اللقلق في المنام يدل على قوم يحبون المشاركة فإذا رآها إنسان مجتمعة في مكان ، فإنهم لصوص وقطاع طريق وأعداء محاربة ، وقيل : رؤية اللقلق تدل على تردد . ومن رأى اللقالق متفرقة فإنها دليل خير إن كان مسافراً أو أراد السفر ، لأنها تظهر في الصيف ، وتدل رؤياها على قدوم المسافر إلى وطنه والمقيم على سفره والله أعلم .
اللهق : الثور الأبيض وقد تقدم ما في الثور في باب الثاء المثلثة .
اللهم : الثور المسن ، وقد تقدم والجمع لهوم .
اللوب والنوب : الأول بضم اللام ، والثاني بضم النون ، جماعة النحل ومنه حديث ريان بن قسور رضي الله تعالى عنه قال : رأيت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وهو نازل بوادي الشوحط ، فكلمته فقلت : يا رسول الله إن معنا لوباً لنا ، يعني نحلا كانت في غيلم لنا ، فيه طرم وشمع ، فجاء رجل فضرب ميتين ، فأنتج حياً وكفنه بالثمام ، يعني قدح ناراً بالزندين ، ونحسه يعني دخنه ، فطار اللولب هارباً ، وأدلى مشواره في الغيلم ، فاشتار العسل فمضى به ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : " ملعون من سرق شرو قوم فأضربهم أفلا تبعتم أثره وعرفتم خبره " . قال : قلت : يا رسول الله إنه دخل في قوم لهم منعة ، وهم جيرتنا من هذيل . فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : " صبرك صبرك ترد نهر الجنة ، وإن سعته كما بين العقيقة والسحيقة يتسبب جرياً بعسل صاف من قذاه ما تقيأه لوب ولا مجه نوب " انتهى .
الغيلم البئر وأراد بها هاهنا الخلية .
والطرم العسل ذكره السهيلي في مقتل خبيب وأصحابه ، بعد أحد . وذكره أبو عمر بن عبد البر وابن الأثير أبو السعادات ، ونقلا عن ابن ماكولا ، أنه قال : ذكره عبد الغني بن سعيد وغيره بإسناد ضعيف .
اللوشب : ككوكب الذئب ، وقد تقدم ما في الذئب في باب الذال المعجمة . اللياء : سمكة في البحر يتخذ من جلدها الترسة فلا يحيك فيها شيء من السلاح ، ولا يقطع ، وفي الحديث أن فلاناً أهدى لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بودان لياء مقشى . ومنه حديث معاوية رضي الله تعالى عنه أنه دخل عليه وهو يأكل لياء مقشى .
الليث : الأسد ، وجمعه ليوث . وهو أيضاً ضرب من العناكب يصطاد الذباب ، وهو أصغر من العنكبوت . والليث من الرجل : الشجاع وبنو ليث بطن من العرب ، وبه سمي ليث بن سعد بن عبد الرحمن بن الحارث ، إمام أهل مصر في الفقه . ولد بقلقشندة وهي قرية في أسفل مصر سنة أربع وتسعين . قال الشافعي : الليث أفقه من مالك ، إلا أن أصحابه لم يقوموا به ، وقال عثمان بن صالح : كان أهل مصر ينتقصون عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه ، حتى نشأ فيهم الليث بن سعد فحدثهم بفضائل عثمان رضي الله تعالى عنه . فكفوا عن ذلك .(2/434)
"""""" صفحة رقم 435 """"""
وكان أهل حمص ينتقصون علياً رضي الله تعالى عنه ، حتى نشأ فيهما إسماعيل بن عياش فحدثهم بفضائل علي رضي الله تعالى عنه فكفوا عن ذلك .
وحج الليث ، فقدم المدينة فبعث إليه الإمام مالك بن أنس بطبق رطب ، فجعل على الطبق ألف دينار ورده إليه ، وكان الليث رحمه الله يستغل في كل سنة عشرين ألف دينار فينفقها وما وجبت عليه زكاة قط . وقالت له امرأة : يا أبا الحارث إن لي ابناً عليلا واشتهى عسلا ، فقال : غلام أعطها مطراً من عسل ، والمطر مائة وعشرون رطلا . فقيل له في ذلك ، فقال : سألت على قدر حاجتها ، ونحن أعطيناها على قدر نعمتنا . واشترى قوم منه ثمره ثم استقالوه ، فأقالهم وأعطاهم خمسين ديناراً ، وقال : إنهم كانوا قد أملوا فيها أملا فأحببت أن أعرضهم عن أملهم . وكان رضي الله تعالى عنه حنفي المذهب ، وولي القضاء بمصر وتوفي بها في شعبان سنة خمسن وسبعين ومائة . وقبره في القرافة الصغرى مشهور . وقلقشندة بفتح القاف ولام وقاف وشين معجمة مفتوحة ونون ساكنة ودال مهملة وهاء آخرها بينها وبين مصر مقدار ثلاثة فراسخ كذا قاله ابن خلكان .
وحكى : عبد الله بن أبي عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر ، قال : كان بأرض اليمامة رجل من ربيعة يقال له جحدر بن مالك العجلي ، وكان شاعراً فحلا فاتكاً قد أمر على أهل حجر وما يليها . فبلغ ذلك الحجاج ، فكتب إلى عامله على اليمامة يوبخه ويلومه على تغلب جحدر في ولايته ويأمر بالتجرد في طلبه والبعث به إليه ، إن ظفر به . فلما أتى العامل كتابه دس إليه فتية من قومه ، ووعدهم أن يوفدهم معهم ، فمكثوا لذلك أياماً حتى إذا أصابوا منه غرة شدوا عليه فأوثقوه . وقدموا به على العامل . فبعث به إلى الحجاج فلما جاوزوا بجحدر حجراً أنشأ يقول : لقد ما هاجني فازددت شوقاً بكاء حمامتين تغردان
تجاوبتا بلحن أعجمي . . . على غصنين من غرب وبان
فقلت لصاحبي وكنت أحزو . . . ببعض القول ماذا تحزوان
فقالا : الدار جامعة قريباً . . . فقلت وأنتما متمنيان
فكان البان أن بانت سليمى . . . وفي الغرب اغتراب غير دان
إذا جاوزتما نخلات حجر . . . وأندية اليمامة فانعياني
وقولا جحدر أمسى رهيناً . . . يعالج وقع مصقول يماني
كذا المغرور بالدنيا سيردى . . . وتهلكه المطامع والأماني
فلما قدم به على الحجاج ، قال له : أنت جحدر ؟ قال : نعم ، أصلح الله الأمير . قال : فما حملك على ما صنعت ؟ قال : جرادة الجنان ، وكلب الزمان ، وجفوة السلطان . قال : وما الذي بلغ من أمرك فيجرأ جنانك ، ويكلب زمانك ويجفوك سلطانك ؟ قال : لو بلاني الأمير لوجدني من صالح الأعوان ، وأهم الفرسان ، وأما جرادة جناني فإني لم ألق فارساً قط ، إلا كنت عليه في نفسي(2/435)
"""""" صفحة رقم 436 """"""
مقتدراً ، فقال له الحجاج بن يوسف : إنا قاذفون بك في جب ليث ، فإن هو قتلك كفانا مؤنتك ، وإن أنت قتلته خلينا عنك وأحسنا جائزتك قال : نعم ، أصلح لله الأمير قربت المحنة ، وأعظمت المنة ، أنت أهل ذلك ، إذا شئت فأمر به . فقيد وحبس . وكتب إلى عامله على كسكر يأمره بالبعثة إليه بأسد ضار ، فبعث إليه بأسد قد أضر بأهل كسكر ، في صندوق يجره ثوران ، فلما قدم به على الحجاج ، أمر به فأدخل في جب وسد بابه وجوعه ثلاثة أيام ، ثم أتى بجحدر وأمكن من سيف قاطع ، وجلس الحجاج والناس ينظرون إليهما فلما نظر الأسد إلى جحدر ، وقد أقبل ومعه السيف يرسف في قيوده ، تهيأ وتمطى فأنشد جحدر يقول :
ليث وليث في مجال ضنك . . . كلاهما ذو أنف وفتك
وسورة في وصلة ومحك . . . أن يكشف الله قناع الشك
من ظفري بحاجتي ودركي . . . فذاك أحرى منزل بترك
فوثب إليه الأسد وثبة شديدة فتلقاه جحدر بالسيف ، فضرب هامته ففلقها حتى خالط ذباب السيف لهواته ، وتخضبت ثيابه من دمه ، فوثب وهو يقول :
يا جمل إنك لو رأيت كريهتي . . . في يوم هيج مسدف وعجاج
وتقدمي لليث أرسف موثقاً . . . كيما أكابره على الإحراج
جهم كأن جبينه لما بدا . . . طبق الرحا متعجر الأثباج
يسمو بناظرتين تحسب فيهما . . . لما أجالهما شعاع سراج
فكأنما خيطت عليه عباءة . . . برقاء أو قطع من الديباج
قرنان مختصران قد مخضتهما . . . أم المنية غير ذات نتاج
ففلقت هامته فخر كأنه . . . أطم تساقط مائل الأبراج
ثم انثنيت وفي ثيابي شاهد . . . مما جرى من شاخب الأوداج
أيقنت أني ذو حفاظ ماجد . . . من نسل أملاك ذوي ألواج
مما يغار على النساء حفيظة . . . إذ لا يثقن بغيرة الأزواج
فقال له الحجاج : يا جحدر إن أحببت المقام معنا فأقم ، وإن أحببت الانصراف إلى بلادك فانصرف . فقال : بل أختار صحبة الأمير والكينونة معه ، ففرض له في شرف العطاء ، وأقام ببابه فكان من خواص أصحابه . وسيأتي إن شاء الله تعالى في باب الهاء في الهزبر ما قاله بشر بن أبي عوانة ، لما قتل الأسد ، وقد أحسن إبراهيم بن محمد المغربي رحمه الله حيث قال :(2/436)
"""""" صفحة رقم 437 """"""
حملنا من الأيام ما لا نطيقه . . . كما حمل العظم الكثير العصائبا
وليل رجونا أن يهب عذاره . . . فما اختط حتى صار بالفجر شائبا
الليل : ولد الكروان ، قالوا : فلان أجبن من ليل . وقال ابن فارس ، في المجمل : يقال إن بعض الطير يسمى ليلا ، ولا أعرفه . وسيأتي إن شاء الله تعالى في حرف النون أن النهار ولد الحبارى والله أعلم .
باب الميم
مارية : بتشديد المثناة التحتية القطاة الملساء ، وبالتخفيف البقرة الوحشية . وأما قولهم : خذه ولو بقرطي مارية . فهي مارية بنت ظالم بن وهب . وقيل : أم ولد جفنة . قال حسان بن ثابت رضي الله تعالى عنه :
أولاد جفنة حول قبر أبيهم . . . قبر ابن مارية الكريم المفضل
يقال إنها أهدت إلى الكعبة قرطيها ، وعليهما درتان كبيضتي الحمام ، لم ير الناس مثلهما ، ولم يدروا قدرهما ولا قيمتها . يضرب في الشيء الثمين ، أي لا يفوتنك بأي ثمن يكون . وسيأتي إن شاء الله تعالى ، بعد هذا بأوراق يسيرة ، في ترجمة المقوقس ، ذكر مارية القبطية ، أم ولد النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وقريبها مابور .
المازور : طائر مبارك ببحر المغرب ، يتيامن به أصحاب السفن ، يبيض عند سكون البحر ، على السواحل ، فإذا رأوا بيضه ، عرفوا أن البحر قد سكن . وهذا الطائر إذا كانت السفن قريبة من مكان مخوف ، أو دابة مضرة يأتي فيطير أمام المركب ، فيصعد وينزل كأنه يخبرهم حتى يدبروا أمرهم ، والملاحون يعرفونه . ذكره في تحفة الغرائب .
الماشية : الإبل والبقر والغنم ، والجمع المواشي ، سميت ماشية لرعيها وهي تمشي ، وقيل لكثرة نسلها ، يقال أمشى الرجل ، إذا كثرت ماشيته ، وفيه يقول الشاعر :
وكل فتى وإن أثرى وأمشى . . . ستخلفه عن الدنيا المنون
روى مسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " لا ترسلوا مواشيكم وصبيانكم إذا غابت الشمس حتى تذهب فحمة العشاء " . وفي سنن أبي داود والترمذي ، عن الحسن عن سمرة بن جنب رضي الله تعالى عنه أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " إذا أتى أحدكم على ماشية فإن كان فيها صاحبها فليستأذنه ، فإن أذن له فليحتلب وليشرب ، وإن لم يكن فيها أحد فليصوت ثلاثاً ، فإن أجابه أحد فليستأذنه ، فإن لم يجبه أحد فليحتلب وليشرب ولا يحمل " . قال الترمذي :(2/437)
"""""" صفحة رقم 438 """"""
حسن صحيح والعمل عليه عند بعض أهل العلم ، وبه قال أحمد وإسحاق وقال علي بن المديني : سماع الحسن من سمرة صحيح .
وفي الصحيحين عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " لا يحلبن أحد ماشية أحد إلا بإذنه ، أيحب أحدكم أن تؤتى مشربته فتكسر خزانته فينقل طعامه ، فإنما تخزن لهم ضروع مواشيهم أطعمتهم ، فلا يحلبن أحد ماشية أحد إلا بإذنه " .
ومن أحكام الماشية أنها إذا أفسدت زرعاً لغير مالكها ، ولم يكن معها ، فإن كان ذلك بالنهار لم يضمن ، وإن كان بالليل ضمن ، لما روى أبو داود وغيره عن حرام بن سعيد ابن محيصة ، قال : إن ناقة للبراء بن عازب رضي الله تعالى عنه ، دخلت حائط قوم فأفسدت ، فقضى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أن على أهل الأموال حفظ أموالهم بالنهار ، وعلى أهل المواشي ما أصابته مواشيهم بالليل . وقد تقدم في الغنم فرع له تعلق بهذا .
تذنيب : إذا اشترك أهل الزكاة في ماشية زكوا زكاة الرجل الواحد ، فلو كان أحدهم كافراً أو مكاتباً ، فلا أثر لخلطته وهي تسمى خلطة ملك ، وخلطة أعيان وخلطة اشتراك ، وإذا خلطا مجاورة فكذلك الحكم لقوله ( صلى الله عليه وسلم ) : " لا يجمع بين متفرق ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة " . ورواه البخاري ويشترط في هذه أن لا تتميز في المشرع والمسرح والمراح ، وهو موضع الحلب بفتح اللام . وكذا الراعي والفحل على الصحيح ، ولا تشترط النية على الصحيح ، لأن خفة المؤنة واتحاد المرافق لا يختلف بالقصد وعدمه ، والله تعالى أعلم .
مالك الحزين : قال الجوهري : إنه من طير الماء ، وقال ابن بري ، في حواشيه إنه البلشون .
قال : وهو طائر طويل العنق والرجلين انتهى .
قال الجاحظ : من أعاجيب الدنيا أمر مالك الحزين لأنه لا يزال يقعد بقرب المياه ، ومواضع نبعها من الأنهار وغيرها ، فإذا نشفت يحزن على ذهابها ، ويبقى حزيناً كئيباً ، وربما ترك الشرب حتى يموت عطشاً ، خوفاً من زيادة نقصها بشربه منها . قال : وقريب من هذا دودة تضيء بالليل كضوء الشمع ، وتطير بالنهار فيرى لها أجنحة ، وهي خضراء ملساء غذاؤها التراب ، لم تشبع منه قط ، خوفاً أن يفنى تراب الأرض فتهلك جوعاً . قال : وفيها خواص كثيرة ومنافع واسعة .
وهذا الطائر لما كان يقعد عند المياه التي انقطعت عن الجري ، وصارت مخزونة ، سمي مالكاً ، ولما كان يحزن على ذهابها سمي بالحزين ، وهو عطف بيان لمالك ، كما يقال : أبو حفص عمر . وقال التوحيدي ، في كتاب الامتناع والمؤانسة : مالك الحزين ينشل الحيتان من الماء فيأكلها ، وهي طعامه ، وهو لا يحسن السباحة ، فإن أخطأه الانتشال ، وجاع طرح نفسه على شاطئ البحر وفي بعض ضحضاحاته ، فإذا اجتمع إليه السمك الصغار ، أسرع إلى خطف ما استطاع منها . ولا يحتاج إلى تزاوج ولا سفاد .(2/438)
"""""" صفحة رقم 439 """"""
وحكمه : حل الأكل .
ومن خواصه : أن لحمه غليظ بارد يولد إدمان أكله البواسير ، وقد تقدم في خطبة الكتاب ، أن ضبط هذا كان من جملة الأسباب الباعثة على تأليفه ، خوفاً من تصحيف لفظه . وتحريفه ، والله تعالى الموفق .
المتردية : هي التي وقعت في بئر ، أو من مكان عال فماتت ، ولا فرق بين أن تقع بنفسها أو بسبب آخر ، فإنها متردية .
وحكمها : تحريم الأكل بالإجماع .
المجثمة : بفتح الجيم وتشديد الثاء المثلثة ، هي التي تلقى على الأرض مربوطة ، وتترك حتى تموت . قال القزويني : الجثوم للطير والناس بمنزلة البروك للبعير ، ومنه قوله تعالى : " جاثمين " أي بعضهم على بعض ، وجاثمين باركين على الركب أيضاً ، روى ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : " نهى عن الجلالة ، وعن المجثمة ، وعن الخطفة " .
المثا : الفراش وقد تقدم ما فيه في باب الفاء .
المربح : طائر من طير الماء قبيح الهيئة ، قاله ابن سيده . المرء : الرجل تقول هذا مرء صالح ، ورأيت مرءاً صالحاً ، ومررت بمرء صالح ، ولا يجمع على لفظه . وبعضهم يقول : المرؤون ، وربما سموا الذئب مرءاً . وذكر يونس أن قول الشاعر : وأنت امرء تعدو على كل غرة فتخطئ فيها تارة وتصيب يعني به الذئب ، والله تعالى أعلم .
المرزم : من طير الماء طويل الرجلين والعنق ، أعوج المنقار في أطراف جناحيه سواد ، أكثر أكله السمك .
وحكمه : حل الأكل .
المرعة : بضم الميم وفتح الراء والعين المهملتين ، كالهمزة . طائر حسن اللون ، طيب الطعم ، على قدر السماني ، وجمعها مرع بضم الميم وفتح الراء . قاله ثعلب وابن السكيت وهي تشبه الدراجة .
وحكمها : حل الأكل .
الخواص : قال ابن زاهر : إذا شق جوفها ، ووضع على الشوك والنصل الغائص في اللحم أخرجه من غير مشقة .
مسهر : قال هرمس : إنه طائر لا ينام الليل كله ، وهو في النهار يطلب معاشه وله في الليل(2/439)
"""""" صفحة رقم 440 """"""
صوت حسن يكرره ويرجعه يلتذ به كل من يسمعه ، ولا يشتهي النوم سامعه من لذة سماعه . ومن خواصه : أنه إذا جفف دماغه في ظل ، وأخذ منه وزن درهم ، وسعط به إنسان مع دهن اللوز ، لا ينام أصلا ، ويصيبه من الكرب أمر عظيم ، حتى يظنه من يراه أنه شارب خمر ومن أمسك رأس هذا الطائر في يده أو علقه عليه ، أذهب الوحشة والوسواس عنه ، وأورثه من الطرب ما يخرجه إلى حد الرعانة .
المطية : الناقة التي يركب مطاها ، أي ظهرها . وجمعها مطايا ومطي . وقال الجوهري : المطي واحد وجمع يذكر ويؤنث ، والمطايا فعالى ، وأصله فعائل ، إلا أنه فعل به ما فعل بخطايا . قال أبو العميثل : المطية تذكر وتؤنث ، ولما رأى الشيخ أبو الفضل الجوهري مدينة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنشد يقول :
رفع الحجاب لنا فلاح لناظري . . . قمر تقطع دونه الأوهام
وإذا المطي بنا بلغن محمداً . . . فظهورهن على الرجال حرام
قد زورتنا خير من وطئ الثرى . . . فلها علينا حرمة وذمام
الذمام بالذال المعجمة : الحرمة . وقال السهيلي ، في غزوة مؤتة :
وإذا المطي بنا بلغن محمداً
هو من شعر أبي نواس ، قال : وقد أحسن في ذلك ، وقد أساء الشماخ حيث قال :
إذا بلغتني وحملت رحلي . . . عرابة فاشرقي بدم الوتين
وعرابة هذا رجل من الأنصار ، وكان من الأجواد . قال عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما : رأيت رجلا طائفاً بالبيت الحرام حاملا أمه على ظهره وهو يقول :
إني لها مطية لا تذعر . . . إذا الركاب نفرت لا تنفر
ما حملت وأرضعتني أكثر . . . الله ربي ذو الجلال أكبر
وذكر ابن خلكان وغيره ، أن أمدح بيت قالته العرب ، قول جرير لعبد الملك بن مروان :
ألستم خير من ركب المطايا . . . وأنور العالمين بطون راح
وأهجى بيت قالته العرب قول الأخطل يهجو جريراً :
قوم إذا استنبح الأضياف كلبهم . . . قالوا لأمهم : بولي على النار
وأحكم بيت قالته العرب قول طرفة :
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا . . . ويأتيك بالأخبار من لم تزود(2/440)
"""""" صفحة رقم 441 """"""
وأحمق بيت قالته العرب ، قول القائل ، وهو الأعشى أبو محجن الثقفي :
إذا مت فادفني إلى جنب كرمة . . . تروي عظامي بعد موتي عروقها
ولا تدفنني في الفلاة فإنني . . . أخاف إذا ما مت أن لا أذوقها
وروى في حديث معاوية رضي الله تعالى عنه ، أنه قال لابن أبي محجن الثقفي : أبوك الذي يقول إذا مت فادفني ، البيتين فقال : أبي الذي يقول :
وقد أجود وما مالي بذي قنع . . . وأكتم السر فيه ضربة العنق
وأغزل بيت قالته العرب . قول جرير :
إن العيون التي في طرفها حور . . . قتلننا ثم لم تحيين قتلانا
يصرعن ذا اللب حتى لا حراك به . . . وهن أضعف خلق الله إنسانا فائدة : روى الطبراني في الدعوات ، من حديث ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " لا تسبوا الدنيا فنعمت مطية المؤمن ، عليها يبلغ الجنة وبها ينجو من النار " . وقال علي رضي الله تعالى عنه : لا تسبوا الدنيا ففيها تصلون ، وفيها تصومون ، وفيها تعملون ، فإن قيل : كيف يجمع بين هذا ، وبين قوله ( صلى الله عليه وسلم ) : " الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه وعالماً أو متعلماً " . فالجواب ما قاله شيخ الإسلام عز الدين بن عبد السلام ، في آخر الفتاوى الموصيلة : إن الدنيا التي لعنت هي المحرمة التي أخذت بغير حقها أو صرفت إلى غير مستحقها وقد تقدم في باب الباء الموحدة في ذكر البعوض ، ما قاله الشيخ أبو العباس القرطبي في ذلك وهو حسن فراجعه .
وفي الحديث : " بئس مطية الرجل زعموا " شبه ما يقدمه المتكلم أمام كلامه ، ويتوصل به إلى غرضه من قوله : زعموا كذا وكذا بالمطية التي يتوصل بها إلى الحاجة ، وإنما يقال زعموا في حديث لا سند له ولا ثبت فيه . وإنما يحكى على الألسن على سبيل البلاغ ، فذم من الحديث ما هذا سبيله .
وفي الكشاف وغيره أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " زعموا مطية الكذب " . وقال ابن عمر وشريح : لكل شيء كنية ، وكنية الكذب زعموا . قال ابن عطية : ولا يوجد زعم مستعملة في فصيح الكلام ، إلا عبارة عن الكذب ، أو قول انفرد به قائله ، وتبقى عهدته على الزاعم ، ففي ذلك ما ينحو إلى تضعيف الزعم ، وقول سيبويه زعم الخليل كذا إنما يجيء فيما تفرد الخليل به .
تتمة : قال شيخ الإسلام النووي : روينا بالإسناد الصحيح ، في جامع الترمذي وغيره ، عن(2/441)
"""""" صفحة رقم 442 """"""
أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " يوشك أن يضرب الناس آباط المطي في طلب العلم ، فلا يجدون عالماً أعلم من عالم المدينة " . قال الترمذي : حديث حسن . قال : وقد روي عن سفيان ابن عيينة أنه قال : هو مالك بن أنس انتهى .
والحديث المذكور رواه النسائي والحاكم ، في أوائل المستدرك من حديث ابن عيينة ، عن ابن جريج ، عن أبي الزبير ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه ، أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " يوشك أن تضربوا أكباد الإبل فلا تجدوا عالماً أعلم من عالم المدينة " ثم قال : صحيح على شرط مسلم ولم يخرجه انتهى .
قلت : إنما لم يخرجه مسلم لأنه سأل البخاري عنه فقال : له علة وهي أن أبا الزبير ، لم يسمع من أبي صالح ، ولما روى النسائي ، في السنن الكبرى هذا الحديث ، من رواية ابن عيينة ، عن ابن جريج عن أبي الزناد ، عن أبي هريرة عقبه بقوله : هذا خطأ . والصواب عن أبي الزبير عن أبي صالح عن أبي هريرة وقيل : عالم المدينة عبد الله بن عبد العزيز بن عبد الله بن عمر بن الخطاب العمري المدني الزاهد ، روى عنه ابن عيينة وابن المبارك وغيرهما . وكان من أزهد أهل زمانه وأشدهم تخلياً للعبادة . وروي أن الرشيد قال : والله إني أريد الحج كل سنة ، ما يمنعني من ذلك إلا رجل من ولد عمر رضي الله عنه يسمعني ما أكره يعني العمري . توفي العمري سنة أربع وثمانين ومائة بعد مالك بنحو ست سنين وهو ابن ست وستين سنة .
قال عمر بن شبة : حدثنا أبو يحيى الزهري ، قال : قال عبد الله بن عبد العزيز العمري عند موته : بنعمة ربي أحدث ، لو أن الدنيا أصبحت تحت قدمي ، لا يمنعني من أخذها إلا أن أزيل قدمي عنها ما أزلتها ، وكتب العمري إلى مالك وابن أبي ذئب وابن دينار وغيرهم بكتب ، أغلظ لهم فيها ، فجاوبه مالك جواب فقيه . قال ابن عبد البر ، في التمهيد : كتب العمري العابد إلى مالك يحضه على الانفراد والعمل ، ويرغبه به عن الاجتماع عليه في العلم ، فكتب إليه مالك أن الله عز وجل قسم الأعمال ، كما قسم الأرزاق ، فرب رجل فتح له في الصلاة ولم يفتح له في الصوم ، وآخر فتح له في الصدقة ولم يفتح له في الصيام ، وآخر فتح له في الجهاد ولم يفتح له في الصلاة ، ونشر العلم وتعليمه من أفضل أعمال البر ، وقد رضيت بما فتح الله لي فيه من ذلك ، وما أظن ما أنا فيه بدون ما أنت فيه ، وأرجو أن يكون كلانا على خير وبر . ويجب على كل واحد منا أن يرضى بما قسم الله له والسلام . وفي الإحياء ، في الباب السادس من أبواب العلم ، يحكى أن يحيى بن يزيد النوفلي ، كتب إلى مالك بن أنس : بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد في الأولين والآخرين من يحيى بن يزيد إلى مالك بن أنس ، أما بعد فقد بلغني أنك تلبس الرقاق ، وتأكل الرقاق ، وتجلس على الوطاء ، وتجعل على بابك حجاباً ، وقد جلست مجلس العلم ، وضربت إليك آباط المطي ، وارتحل إليك الناس ، فاتخذوك إماماً ورضوا بقولك ، فاتق الله يا مالك ، وعليك بالتواضع . كتبت إليك بالنصيحة مني كتاباً ، ما اطلع عليه إلا الله والسلام .(2/442)
"""""" صفحة رقم 443 """"""
فكتب إليه مالك بن أنس : بسم الله الرحمن الرحيم من مالك بن أنس إلى يحيى بن يزيد ، سلام عليك أما بعد فقد وصل إلي كتابك ، فوقع مني موقع النصيحة من المشفق ، أمتعك الله بالتقوى ، وجزاك وخولك بالنصيحة خيراً ، وسأل الله التوفيق ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم . وأما ما ذكرت ، من أني آكل الرقاق وألبس الرقاق وأجلس على الوطاء ، فنحن نفعل ذلك ونستغفر الله تعالى ، وقد قال سبحانه : " قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق " وإني لا أعلم أن ترك ذلك ، خير من الدخول فيه ، فلا تدعنا من كتابك فإنا ليس ندعك من كتابنا والسلام . وفيه أيضاً وروي أن الرشيد أعطاه ثلاثة آلاف دينار فأخذها ولم ينفقها ، فلما أراد الرشيد الشخوص إلى العراق ، قال لمالك : ينبغي أن تخرج معنا فإني عزمت أن أحمل الناس على الموطأ ، كما حمل عثمان رضي الله عنه الناس على القرآن . فقال له : أما حمل الناس على الموطأ فليس إلى ذلك سبيل ، فإن أصحاب محمد ( صلى الله عليه وسلم ) افترقوا بعده في الأمصار فحدثوا فعند أهل كل مصر علم ، وقد قال ( صلى الله عليه وسلم ) : " اختلاف أمتي رحمة " وأما الخروج معك فلا سبيل إليه ، قال ( صلى الله عليه وسلم ) : " المدينة خير لهم لو كانوا يعلمون " . وقال ( صلى الله عليه وسلم ) : " المدينة تنفي خبثها كما ينفي الكير خبث الحديد " . وهذه دنانيركم كما هي ، إن شئتم فخذوها وإن شئتم فدعوها . يعني إنما تكلفني الخروج معك ، ومفارقة المدينة بما اصطنعته لدي . فلا أوثر الدنيا على مدينة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) . وهذ يدل على زهده في الدنيا رحمه الله تعالى .
وفيه أيضاً أن الشافعي رحمه الله ، قال : شهدت مالكاً رحمه الله وقد سئل عن ثمان وأربعين مسألة ؛ فقال في اثنتين وثلاثين منها : لا أدري وهذا يدل على أنه كان يريد بعلمه وجه الله تعالى ، فإن من يريد غير وجه الله بعلمه لا تسمح نفسه بأن يقر على نفسه بأنه لا يدري . ولذلك قال الشافعي : إذا ذكر العلماء فمالك البحر ، وما أحد أمن علي من مالك .
وقيل : إن أبا جعفر المنصور منعه من رواية الحديث في طلاق المكره ، ثم دس عليه من سأله ؛ فروى عن ملأ من الناس : ليس على مكره طلاق . فضربه بالسياط . فانظر كيف اختار ضرب السياط ، ولم يترك رواية الحديث .
وفي الحلية أن الشافعي رحمه الله ، قال : قالت لي عمتي ، ونحن بمكة : رأيت في هذه الليلة عجباً فقلت لها : وما هو ؟ قالت : رأيت كأن قائلا يقول لي : مات الليلة أعلم أهل الأرض . قال الشافعي : فحسبنا ذلك فإذا هي ليلة مات مالك بن أنس رحمه الله تعالى .
وقال عبد الرحمن بن مهدي : لا أقدم على مالك أحداً . وكان مالك يقول : إذا لم يكن للإنسان في نفسه خير ، لم يكن للناس فيه خير . وفي الحلية أيضاً ، قال مالك : ما بت ليلة إلا رأيت فيها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) انتهى .
وكان مالك رحمه الله إماماً عالماً عابداً زاهداً ورعاً عارفاً بالله تعالى ، وكان مبالغاً في تعظيم علم الدين ، لا سيما حديث رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، فإنه كان إذا أراد أن يحدث توضأ وجلس على صدر(2/443)
"""""" صفحة رقم 444 """"""
فراشه ، وسرح لحيته وتمكن في الجلوس على وقار وهيبة ، ثم حدث . فقيل له في ذلك ، فقال : إني أحب أن أعظم حديث رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) . وكان يقول : العلم نور يجعله الله حيث شاء ، وليس هو بكثرة الرواية وقد مدحه بعض العلماء فقال :
يدع الكلام فلا يراجع هيبة . . . والسائلون نواكس الأذقان
سيما الوقار وعز سلطان التقى . . . فهو المهيب وليس ذا سلطان
توفي الإمام مالك رحمه الله تعالى ، في سنة تسع وسبعين ومائة . المعراج : دابة عظيمة عجيبة مثل الأرنب صفراء اللون ، على رأسها قرن واحد أسود ، لم يرها شيء من السباع والدواب إلا هرب . ذكرها القزويني في جزائر البحار .
المعز : بفتح الميم والعين المهملة وتسكينها لغتان : نوع من الغنم خلاف الضأن وهي ذوات الشعور والأذناب القصار ، وهو اسم جنس وكذلك المعيز والأمعوز والمعزى وواحد المعز ماعز ، مثل صاحب وصحب ، وتاجر وتجر ، والأنثى ماعزة والجمع مواعز . وأمعز القوم كثرت معزاهم . وكنيتها أم السخال . وفي حديث علي رضي الله عنه : وأنتم تنفرون منه نفور المعزى من وعوعة الأسد أي صوته ، ووعوعة الناس ضجتهم .
وروى البزار وابن قانع أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " أحسنوا إلى المعزى ، وأميطوا عنها الأذى ، فإنها من دواب الجنة " .
وفي الحديث : " استوصوا بالمعزى خيراً فإنه مال رقيق ، وأنقوا عطنه " . أي نقوا مرابضها مما يؤذيها من حجارة وشوك وغير ذلك ، وهي مع ذلك موصوفة بالحمق ، وتفضل على الضأن بغزارة اللبن وثخانة الجلد ، وما نقص من ألية المعز ، زاد في شحمه ، ولذلك قالوا : ألية المعز في بطنه . ولما خلق الله تعالى جلد الضأن رقيقاً غزر صوفه ، ولما خلق جلد المعز ثخيناً قلل شعره ، فسبحان اللطيف الخبير .
الخواص : لحمه يورث الهم والنسيان ، ويولد البلغم ، ويحرك السوداء ، لكنه نافع جداً لمن به الدماميل ، وقرن المعز الأبيض يسحق ويشد في خرقة ويجعل تحت رأس النائم ، فإنه لا ينتبه ما دام تحت رأسه . ومرارة التيس تخلط بمرارة البقر ، وتلطخ بها فتيلة ، وتجعل في الأذن تزيل الطرش وتمنع نزول الماء . وإذا اكتحل بمرارة التيس بعد نتف الشعر الذي في باطن الجفن منع من انباته ، ويمنع أيضاً من الغشاوة اكتحالا ، ومن العشا ويقلع اللحمة الزائدة التي يقال لها التوتة ، وينفع طلاء من الورم الذي يقال له داء الفيل . وأكل مخه يورث الهم والنسيان ويحرك السوداء . قال الرئيس ابن سينا : بعر المعزى يحلل الخنازير بقوة فيه ، وإذا احتملته المرأة بصوفة منع سيلان الدم من الفرج ويقطع النزيف .
ابن مقرض : بضم الميم وكسر الراء وبالضاد المعجمة ، دويبة كحلاء اللون ، طويلة الظهر(2/444)
"""""" صفحة رقم 445 """"""
ذات قوائم أربع أصغر من الفأر ، تقتل الحمام وتقرض الثياب ، ولذلك قالوا : ابن مقرض .
الحكم : حكى الرافعي في حله الوجهين ، في ابن عرس وقال : إنه الدلق ، قال في المهمات : الصحيح على ما يقتضيه كلام الرافعي الحل . وقد وقعت المسألة في الحاوي الصغير ، على الصواب فأباح ابن مقرض وحرم ابن عرس . وقد تقدم في باب الدال المهملة الكلام على الدلق مستوفى ، والله الموفق .
المقوقس : طائر معروف مطوق سواده في البياض ، كالحمام وهو لقب لجريج بن مينا القبطي ملك مصر ، وكان من قبل هرقل ، ويقال : إن هرقل عزله لما رأى ميله إلى الإسلام . وأهدى لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فرساً يقال له الزاز ، وبغلته الدلدل ، وحماراً أو غلاماً خصياً اسمه مابور . وقد ذكره ابن منده وأبو نعيم في أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) غلطاً في ذلك فإنه لم يسلم ومات على نصرانيته . ومنه فتح المسلمون مصر في خلافة عمر رضي الله تعالى عنه . ومابور المذكور كان ابن عم مارية القبطية ، وكان يأوي إليها فقال الناس : علج يدخل على علجة ، فبلغ ذلك النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فبعث علياً ليقتله ، فقال : يا رسول الله أقتله أم أرى رأي فيه ؟ فقال ( صلى الله عليه وسلم ) : " بل ترى رأيك فيه " فلما رأى الخصي علياً ، ورأى السيف في يده ، تكشف فإذا هو مجبوب ممسوح فرجع علي إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، وأخبره بذلك فقال ( صلى الله عليه وسلم ) : " إن الشاهد يرى ما لا يرى الغائب " .
وروى مسلم في آخر باب التوبة ، بعد حديث الإفك عن أنس رضي الله تعالى عنه ، أن رجلا كان متهماً بأم ولد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لعلي : " اذهب فاضرب عنقه " . فأتاه علي فإذا هو على ركى يتبرد فيها ، فقال له علي : اخرج فناوله يده فأخرجه فإذا هو مجبوب ليس له ذكر فكف علي عنه ثم أتى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، فقال : يا رسول الله إنه لمجبوب . والذي رواه الطبراني ، في هذه القصة عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما ، أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) دخل على مارية القبطية أم ولده إبراهيم ، وهي حامل به فوجد عندها نسيباً لها ، كان قد قدم معها من مصر فأسلم وحسن إسلامه ، وكان يدخل عليها وأنه رضي من مكانه من أم ولد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أن يجب نفسه فقطع ما بين رجليه ، حتى لم يبق لنفسه قليلا ولا كثيراً فدخل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يوماً على أم ولده إبراهيم ، فوجد قريبها عندها ، فوقع في نفسه من ذلك شيء كما يقع في أنفس الناس ، فرجع متغير اللون ، فلقي عمر رضي الله تعالى عنه ، فأخبره بما وقع في نفسه من قريب أم إبراهيم ، فأخذ عمر رضي الله تعالى عنه السيف ، وأقبل يسعى حتى دخل على مارية فوجد قريبها ذلك ، عندها فأهوى إليه بالسيف ليقتله ، فلما رأى ذلك منه كشف عن نفسه ، فلما رأى ذلك عمر رضي الله تعالى عنه ، رجع إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، فأخبره ، فقال له رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : " ألا أخبرك يا عمر أن جبريل أتاني فأخبرني أن الله عز وجل قد برأها وقريبها مما وقع في نفسي ، وبشرني أن في بطنها غلاماً مني وأنه أشبه الخلق بي ، وأمرني أن أسميه إبراهيم وكناني بأبي إبراهيم ، ولولا أني أكره أن أحول كنيتي التي عرفت بها ، لتكنيت بأبي إبراهيم كما كناني(2/445)
"""""" صفحة رقم 446 """"""
جبريل " . ثم مات الخصي في زمن عمر فجمع الناس لشهود جنازته وصلى عليه عمر ودفن بالبقيع .
وأهدى المقوقس أيضاً للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) قدحاً من قوارير ، كان ( صلى الله عليه وسلم ) يشرب فيه ، وثياباً من قباطي مصر ومطرفاً من مطرفاتهم ، وطرفاً من طرفهم ، وألف مثقال ذهباً وعسلا من عسل بنها . فأعجب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) العسل ودعا في عسلها بالبركة .
ووصلت الهدايا إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) سنة سبع وقيل سنة ثمان . وهلك المقوقس في ولاية عمرو بن العاص ودفن في كنيسة أبي يحنس على نصرانيته . وكان الرسول إليه من قبل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) حاطب بن بلتعة رضي الله تعالى عنه الذي شهد له بالإيمان ، وكان حاطب عاقلا لبيباً حازماً لا يخدع ، باع بعض أصحابه بيعة غبن فيها لغيبة حاطب فقال " صفقة لم يحضرها حاطب " ، فضرب ذلك مثلا في شراء كل صفقة ربح بائعها .
قال حاطب : لما بعثني النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إلى المقوقس ، جئته بكتاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فأنزلني في منزله ، وأقمت عنده ليالي ، ثم بعث إلي وقد جمع بطارقته ، فقال : إني سأكلمك بكلام أحب أن تفهمه مني . قال : فقلت : هلم . فقال : أخبرني عن صاحبك أليس هو نبياً ؟ قال : قلت : بلى . قال : هو رسول الله ؟ قلت : بلى هو رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) . قال : فما باله ، حيث كان هكذا لم يدع على قومه ، لما أخرجوه من بلده إلى غيرها ؟ فقلت له : فعيسى ابن مريم أتشهد أنه رسول الله ؟ قال : كذا . قلت : فما باله ، حيث أخذه قومه ، وأرادوا صلبه ، لم يدع عليهم بأن يهلكهم الله ، بل رفعه الله إليه في سماء الدنيا . قال : أحسنت أنت حكيم من حكيم .
المكاء : بضم الميم وبالمد والتشديد طائر يصوت في الرياض ، يسمى مكاء لأنه يمكو أي يصفر كثيراً ووزنه فعال كخطاف . والأصوات في الأكثر تأتي على فعال بتخفيف العين كالبكاء والصراخ والرغاء والنباح والجؤار ونحوه . وجمعه المكاكي وهذا الطائر يصفر ويصوت كثيراً . قال البغوي في تفسير المكاء : الصفير وهو في اللغة اسم طائر أبيض يكون بالحجاز له صفير ، وقال ابن السكيت في إصلاح المنطق : يقال : مكا الطائر ومكا الرجل يمكو مكواً ، إذا جمع يديه وصفر فيهما ، وكأنهم اشتقوا له هذا الاسم من الصياح . وجمعه المكاكي والمكاء الصفير قال الله تعالى : " وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية " أي صفيراً أو تصفيقاً . وقال ابن قتيبة : المكاء الصفير أي بالتخفيف والمكاء بالتشديد طائر يصفر في الرياض ويمكو أي يصفر . قال الشاعر :
إذا غزد المكاء في غير روضة . . . فويل لأهل الشاء والحمرات
قال البطليوسي في الشرح : إن المكاء إنما يألف الرياض فإذا غرد في غير روضة ، فإنما يكون ذلك لإفراط الجدب وعدم النبات ، وعند ذلك يهلك الشاء والحمير ، فالوبل لمن لم يكن له مال غيرهما .(2/446)
"""""" صفحة رقم 447 """"""
والحمرات في البيت : جمع حمر بضم الميم ، وحمر جمع حمار بمنزلة كتاب وكتب . ويجوز أن يكون جمع حمير كقضيب وقضب . وقولهم : حمير ليس بجمع ولكنه اسم للجمع ، بمنزلة العبيد والكتيب قال ابن عطية : والذي مر بي ، من أمر العرب ، في غير ما ديوان ، أن المكاء والتصدية كانا من فعل العرب قديماً قبل الإسلام ، على جهة التقرب به والتشرع . قال : ورأيت عن بعض أقوياء العرب ، أنه كان يمكو على الصفا فيسمع من حراء وبينهما أربعة أميال . انتهى . وكذلك كان مخرمة بن قيس بن عبد مناف يصفر عند البيت فيسمع من حراء ، وكان قبل مولد النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عام الفيل ، وكانت قريش تطوف بالبيت وهم عراة يصفرون ويصفقون .
وقال القزويني : المكاء من طير البادية يتخذ أفحوصاً عجيباً ، وبينه وبين الحية عداوة ، فأن الحية تأكل بيضه وفراخه . وحدث هشام بن سالم أن حية أكلت بيض مكاء ، فجعل المكاء يشرشر أي يرفرف على رأسها ويدنو منها ، حتى إذا فتحت فاها ألقى في فيها حسكة فأخذت بحلق الحية فماتت .
المكلفة : طائر ، قال الجاحظ : لما كانت العقاب سيئة الخلق تبيض ثلاث بيضات ، فتخرج فراخها فتلقى واحداً منها ، فيأخذه هذا الطائر الذي يتكلف به قيل له : المكلفة ويسمى كاسر العظام ، فيربيه كما تقدم .
واختلفوا في سبب فعل العقاب ذلك ، فقال بعضهم : لأنها لا تحضن إلا بيضتين ، وقال بعضهم : بل تحضن الثلاثة ، لكنها ترمي بفرخ من فراخها استثقالا للكسب على الثلاثة . وقال آخرون : ليس كذلك إلا لما يعتريها من الضعف عن الصيد كما يعتري النفساء من الوهن . وقيل : لأنها سيئة الخلق كما تقدم . ولا يستعان على تربية الولد إلا بالصبر . وقيل : لأنها كثيرة الشره وإذا لم تكن أم الفراخ تؤثر أولادها على نفسها ضاعت أولادها . قال هؤلاء : والفرخ الذي ترمي العقاب به من الثلاثة ، يحضنه طائر يقال له المكلفة ويسمونه كاسر العظام أيضاً ، فيربيه كما تقدم والله تعالى أعلم .
الملكة : كالسمكة حية طولها شي أو أكثر ، على رأسها خطوط بيض تشبه التاج ، فإذا انسابت على الأرض ، أحرقت كل شيء مرت عليه ، وإن طار طائر فوقها سقط عليها ، وإذا بدت تنساب هرب من بين يديها جميع الدواب . ومن أكل تلك الحية من السباع أو غيرها مات . وهي قليلة الظهور للناس .
ومن خواصها الغريبة أن من قتلها فقد حاسة الشم في الحال ، ولا يمكن بعد ذلك علاجه . المنارة : سمكة تخرج من البحر ، على شكل المنارة ، فترمي بنفسها على السفينة فتكسرها وتغرق أهلها ، فإذا أحس الناس بها ضربوا بالطسوس والبوقات لتبعد عنهم ، وهي محنة عظيمة في البحر . قاله أبو حامد الأندلسي .
المنخنقة : هي البهيمة المأكولة تنخنق بحبل حتى تموت ، وكانت العرب تفعله حرصاً على الدم ، لأن العرب كانوا يأكلون الدم ، ويسمونه الفصيد ، ويقولون : إن اللحم دم جامد . فحرم(2/447)
"""""" صفحة رقم 448 """"""
الله تعالى المنخنقة لما ينحبس فيها من الدم ، قال الرافعي : ويستثنى من المنخنقة الجنين فإنه مات بقطع النفس عنه وهو حلال .
فرع : لو ذبح بهيمة وقطع أوداجها ، ثم خنقها ومنع خروج الدم حتى ماتت بقطع النفس ، فيحتمل حلها ، لأنها لما قطعت أوداجها حصلت الذكاة الشرعية ، ولا أثر لحبس الدم كما لا أثر له في مصيد الجوارح إذا مات الصيد بالمثقل ، ولم تدرك ذكاته أو رماه بسهم فمات ، فإنه حلال وإن انحبس فيه الدم ، ويحتمل التحريم ، وهو ما أجاب به شيخنا الأسنوي رحمه الله تعالى ، لأن الحكمة في الذكاة خروج الدم ولم يوجد ، فأشبهت المنخنقة . وبالقياس على ما لو خنقها أولا ثم أسرع فقطع الأوداج والحياة مستقرة ، ثم ماتت بقطع النفس . والفرق بين هذا ، وبين مصيد الجوارح أن الذبح هناك غير مقدور عليه ، فانتفت حكمته لعدم القدرة عليه والقدرة هاهنا موجودة فافترق البابان ، ولأنا لو قلنا بحلها لم يكن لتحريم الخنق معنى ، لأنه يمكن التوصل إليه بهذا الطريق والله أعلم . المنشار : سمكة في بحر الزنج كالجبل العظيم من رأسها إلى ذنبها مثل أسنان المنشار من عظام سود ، كالأبنوس كل سن منها كذراعين وعند رأسها عظمان طويلان ، كل عظم مقدار عشرة أذرع ، تضرب بالعظمين ماء البحر يميناً وشمالا ، فيسمع له صوت هائل ، ويخرج الماء من فيها وأنفها فيصعد نحو السماء ، ثم يعود إلى المركب رشاشه كالمطر . وإذا دخلت تحت سفينة كسرتها ، فإذا رآها أهل السفن ضجوا إلى الله تعالى ، حتى يدفعها عنهم . كذا ذكره ، في عجائب المخلوقات ، وهي داخلة في عموم السمك والله أعلم .
الموقوذة : قال الزجاج : هي التي تقتل ضرباً ، يقال : وقذتها أقذها وقذاً ، وأوقذتها أوقذها إيقاذاً إذا أثخنتها ضرباً انتهى . قال الفرزدق يهجو جريراً :
كم عمة لك يا جرير وخالة . . . فدعاء قد حلبت علي عشاري
سعارة تقذ الفصيل برجلها . . . فطارة لقوادم الأبكار
قوله : فدعاء هي التي أصابها الفدع ، وهو ورم في القدم ، والعشار : النوق ، واحدها عشراء وهي التي مضى عليها تسعة أشهر ، وطعنت في العاشر ، وهي حامل . وقوله : تقذ الفصيل أي تضربه إذا دنا منها عند الحلب ، وفطارة مأخوذ من الفطر ، وهو الحلب بأطراف الأصابع ، فإن كان بجميع الأصابع فهو الصب ، وهو إنما يكون في الكبار من النوق ، وأما الصغار من النوق فإنما تحلب بأطراف الأصابع ، لصغر ضروعها . وفي معنى الموقوذة ما يرمى من الطير بالسهام التي لا نصل لها أو بحجر ونحوه فتموت . وقد سئل ابن عمر رضي الله تعالى عنهما عن الطير يموت بالبندقة ، فقال : هو وقيذ . قلت : الظاهر عدم جواز رمي الطير بالبندق ، إذا علم أنه يقتل غالباً ، وكذلك الطومار والحجر لأنه من باب اتلاف الحيوان لغير منفعة والله تعالى أعلم .
الموق : بالضم نمل له أجنحة وسيأتي إن شاء الله تعالى ما في النمل في باب النون .(2/448)
"""""" صفحة رقم 449 """"""
المول : العنكبوت الواحدة مولة ، وأنشدوا :
حاملة ذلول لا محموله . . . ملأى من الماء كعين الموله
المها : بالفتح جمع مهاة ، وهي البقرة الوحشية والجمع مهوات ، وقيل : المها نوع من البقر الوحشي إذا حملت الأنثى من المها هربت من البقر ، ومن طبعها الشبق ، والذكر لفرط شهوته يركب ذكراً آخر ، وهي أشبه بالمعز الأهلية ، وقرونها صلاب جداً ، وبها يضرب المثل في سمن المرأة وجمالها قال الشاعر :
خليلي إن قالت بثينة : ماله . . . أتانا بلا وعد ؟ فقولا لها : لها
سها وهو مشغول لعظم الذي به . . . ومن بات طول الليل يرعى السها سها
بثينة تزري بالغزالة في الضحى . . . إذا برزت لم تبق يوماً بها بها
لها مقلة نجلاء كحلاء خلقة . . . كأن أباها الظبي أو أمها مها
دهتني بود قاتل وهو متلفي . . . وكم قتلت بالود من ودها دها
فائدة : روى الطبراني ، في معجمه الكبير بإسناد رجاله ثقات ، عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما قال : نزل الركن الأسود من السماء ، فوضع على أبي قبيس ، كأنه مهاة بيضاء ، فمكث أربعين سنة ، ثم وضع على قواعد إبراهيم ( صلى الله عليه وسلم ) . وروى في الأوسط والكبير أيضاً ، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " الحجر الأسود من حجارة الجنة وما في الأرض من الجنة غيره وكان أبيض كالمهاة ولولا ما مسه من رجس الجاهلية ما مسه ذو عاهة إلا برئ " . وفي إسناده محمد بن أبي ليلى ، وفيه كلام . وروى هشام بن عروة بن الزبير عن أبيه ، قال : بينما عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه يطوف بالبيت ، إذا هو برجل يطوف ، وعلى عنقه مثل المهاة ، يعني حسناً وجمالا وهو يقول :
عدت لهذي جملا ذلولا . . . موطأ أتبع السهولا
أعد لها بالكف أن تميلا . . . أحذر أن تسقط أو تزولا
أرجو بذاك نائلا جزيلا
فقال له عمر رضي الله تعالى عنه : يا عبد الله من هذه التي وهبت لها حجك ؟ قال : امرأتي يا أمير المؤمنين ، وإنها لحمقاء مرغامة ، أكول قمامة ، لا تبقى لها خامة ، فقال رضي الله تعالى عنه : ما لك لا تطلقها ؟ قال : يا أمير المؤمنين إنها لحسناء لا تفرك ، وأم صبيان لا تترك . قال : فشأنك بها . وحكى الإمام أبو الفرج بن الجوزي ، في كتاب الأذكياء ، قال : قعد رجل على جسر بغداد فأقبلت امرأة من جهة الرصافة إلى الجانب الغربي ، فاستقبلها شاب فقال لها : رحم الله علي بن الجهم . فقالت المرأة : رحم الله أبا العلاء المعري ، وما وقفا ومرا مشرقاً ومغرباً ، قال : فتبعت(2/449)
"""""" صفحة رقم 450 """"""
المرأة وقلت لها : إن لم تقولي لي ما قلتما فضحتك فقالت : أراد قول علي بن الجهم :
عيون المها بين الرصافة والجسر . . . جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري
وأردت أنا قول أبي العلاء المعري :
فيا دارها بالحزن إن مزارها . . . قريب ولكن دون ذلك أهوال
فتركتها وانصرفت .
وقد تقدم حكمها وأمثالها في باب الباء الموحدة في الكلام على البقر الوحشي .
الخواص : منها يطعم لصاحب القولني ينفعه نفعاً بيناً ، ومن استصحب معه شعبة من قرن المهاة نفرت منه السباع ، وإذا بخر بقرنه أو جلده في بيت نفرت منه الحيات ، ورماد قرنه يذر على السن المتأكلة يسكن وجعها ، وشعره إذا بخر به البيت هرب منه الفأر والخنافس ، وإذا أحرق قرنه وجعل في طعام صاحب الحمى الربع ، فإنها تزول عنه بإذن الله تعالى ، وإذا شرب في شيء من الأشربة زاد في الباه ، وقوى العصب ، وزاد في الإنعاظ ، وإذا نفخ في أنف الراعف قطع دمه ، وإذا أحرق قرناه حتى يصيرا رماداً وديفا بخل ، وطلي به موضع البرص مستقبل الشمس ، فإنه يزول بإذن الله تعالى ، وإذا استف منه مقدار مثقال ، فإنه لا يخاصم أحداً إلا غلبه .
التعبير : المهاة في الرؤيا رجل رئيس كثير العبادة ، معتزل عن الناس ، ومن رأى عين المهاة ، نال رياسة أو امرأة سمينة جميلة قصيرة العمر ، ومن رأى رأسه تحول كرأس مهاة نال رياسة وغنيمة وولاية على ناس غرماء ، ومن رأى كأنه مهاة فإنه يعتزل الجماعة ، ويدخل في بدعة والله الموفق .
المهر : ولد الفرس والجمع أمهار ومهار ومهارة ، والأنثى مهرة بالضم والجمع مهر ومهرات . قال الربيع بن زياد العبسي :
ومجنبات ما يذقن عذوفا . . . يقذفن بالمهرات والأمهار
وقد أحسن مهيار الديلمي في وصف المهرة حيث قال :
قال لي العاذل : تسلو قلت : مه . . . إن أسباب هواها محكمه
مهرة تسمع في السرج لها . . . تحت من يعلو عليها حمحمه
وقيل لبعض الحكماء : أي المال أشرف ؟ قال : فرس يتبعها فرس في بطنها فرس .
وقال الجوهري ، في الحديث : " خير المال مهرة مأمورة ، وسكة مأبورة " ، أي كثيرة النتاج والنسل . والسكة الطريقة المصطفة من النخل ، والمأبورة الملقحة ، ومعنى الكلام خير المال نتاج أو زرع ، وملخص هذا أن الجوهري رحمه الله جعله في موضع حديثاً ، وفي موضع من كلام الناس . كذا قاله الإمام الحافظ شرف الدين الدمياطي ، في كتاب الخيل ، في آخر الباب الأول . قلت :(2/450)
"""""" صفحة رقم 451 """"""
وهذا عجيب من الجوهري مع سعة حفظه ، وغزارة علمه والصواب أنه حديث رواه أحمد والطبراني والله أعلم .
إشارة : كان أبو عبد الله محمد بن حسان البسري ، من الأولياء ذوي الكرامات الظاهرة ، والأحوال الباهرة ، وأنه خرج للغزاة مرة ، فبينما هو في فلاة من الأرض إذ مات مهره الذي كان يركبه ، فقال : اللهم أعرنا إياه فقام المهر حياً بإذن الله تعالى ، فلما وصل إلى بسر ، أخذ السرج عنه فسقط ميتاً .
وكان رحمه الله ، إذا كان شهر رمضان دخل بيتاً وقال لامرأته : طيني علي الباب وألقي إلي كل ليلة رغيفاً من الكوة ، فإذا كان يوم العيد فتحت الباب ودخلت فتجد الثلاثين رغيفاً في زاوية البيت فلا يأكل ولا يشرب ولا ينام رضي الله تعالى عنه .
وفي الأنساب لابن السمعاني ، أن أبا عبد الله المذكور منسوب إلى بصرى ، قرية من قرى الشام فأبدلت الصاد سيناً على قياس قولهم في السويق الصويق والسراط الصراط انتهى .
وقال ابن الأثير : هذا كله خطأ في النقل والنحو ، أما النقل فإنه منسوب إلى بسر قرية معروفة ، وأما النحو فإبدال الصاد سيناً ليس على إطلاقه إنما ذلك مع حروف معلومة ، وقد ذكره الحافظ أبو القاسم بن عطاء الدمشقي ، في تاريخ دمشق ، وقال : إنه من قرية بسر وهذا هو الصواب والله تعالى أعلم .
قلت : والحروف التي تبدل معها السين صاداً هي : الحاء والطاء والعين والقاف بشرط أن تكون السين متقدمة وأحد هذه الحروف متأخراً والله تعالى أعلم . ملاعب ظله : القرلي المتقدم ذكره ، في باب القاف ، وربما قيل له : خاطف ظله . قال الكميت :
وريطة فتيان كخاطف ظله . . . جعلت لهم منها خباء ممددا
كذا قاله الجوهري . قال : قال ابن سلمة : هو طائر يقال له الرفراف ، إذا رأى ظله في الماء أقبل إليه ليخطفه .
أبو مزينة : سمك في البحر على صورة الرجال ، يقال إنهم يظهرون بالإسكندرية والبرلس ورشيد على صورة بني آدم بجلود لزجة وأجساد متشاكلة ، لهم بكاء وعويل إذا وقعت في أيدي الناس ، وذلك أنهم ربما برزوا من البحر إلى البر ، يتمشون فيقع بهم الصيادون ، فإذا بكوا رحموهم وأطلقوهم كذا ذكره القزويني .
ابنة المطر : قال في المرصع : إنها دويبة حمراء تظهر عقب المطر ، فإذا نضب الثرى عنها ماتت .
أبو المليح : الصقر وحكمه ، تقدم في باب الصاد المهملة .(2/451)
"""""" صفحة رقم 452 """"""
ابن ماء : قال في المرصع : إنه نوع من طير الماء ، ويجمع على بنات ماء ، فإذا عرفته قلت : ابن الماء بخلاف ابن عرس وابن آوى ، لأنه لا يقع على أنواع من طير الماء ، ويطلق على كل ما يألف الماء من أجناس الطير ، وذلك يدل كل واحد منها على جنس مخصوص والله أعلم .
باب النون
الناب : المسنة من النوق ، والجمع النيب . وفي المثل : لا أفعل ذلك ما حنت النيب سميت بذلك لطول نابها ، ولا يقال للجمل : ناب ، وناب القوم سيدهم ، قاله الجوهري .
الناس : جمع إنسان . قال الجوهري : والناس قد يكون من الإنس والجن ، وقال كثير من المفسرين ، في قوله تعالى : " لخلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس " معناه أعجب من خلق المسيح الدجال ، ولم يذكر المسيح الدجال في القرآن ، إلا في هذه الآية على هذا القول . وقيل : ذكر في قوله تعالى " يوم يأتي بعض آيات ربك " ، والمشهور أنه طلوع الشمس من مغربها .
فرع : حلف لا يكلم الناس ، حنث إذا كلم واحداً ، كما لو قال : لا آكل الخبز ، فإنه يحنث بما أكل منه ، ولو حلف لا يكلم ناساً حمل على ثلاثة كذا صرح به الشيخان ، وفاقاً لابن الصباغ وغيره . وقال الماوردي والروياني : إذا حلف على معدود في نفي أو إثبات كالنساء والمساكين ، فإن كانت يمينه على الإثبات كقوله : لأكلمن الناس ، ولأتصدقن على المساكين لم يبر إلا بثلاثة ، اعتباراً بأقل الجمع . وإن كانت يمينه على النفي كقوله : لا أكلم الناس حنث بالواحد ، اعتباراً بأقل العدد ، وهو واحد ، والرق أن نفي الجمع ممكن وإثبات الجمع متعذر ، فاعتبر أقل الجمع في الإثبات وأقل العدد في النفي والله تعالى أعلم .
الناضح : البعير الذي يستقى عليه ، سمي بذلك لأنه ينضح الماء ، أي يصبه ، والأنثى ناضحة وسانية والجمع نواضح . روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أو عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه شك الأعمش قال : لما كان يوم غزوة تبوك أصاب الناس مجاعة فقالوا : يا رسول الله لو أذنت لنا فنحرنا نواضحنا فأكلنا وادهنا ؟ فقال ( صلى الله عليه وسلم ) : " افعلوا " . فقال عمر رضي الله تعالى عنه : يا رسول الله إن فعلت قل الظهر ، ولكن ادعهم بفضل أزوادهم ، ثم ادع لهم عليها بالبركة ، لعل الله أن يجعل في ذلك غنى . فقال ( صلى الله عليه وسلم ) : " نعم " . فدعا ( صلى الله عليه وسلم ) بنطع فبسطه ، ثم دعا بفضل أزوادهم فجعل الرجل يجيء بكف ذرة ، ويجيء الآخر بكف تمر ، ويجيء الآخر بكسرة ، حتى اجتمع شيء يسير . فدعا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بالبركة ، ثم قال : " خذوا في أوعيتكم " . فأخذوا في أوعيتهم حتى ما تركوا في العسكر وعاء إلا ملؤوه وأكلوا حتى شبعوا . وفضلت فضلة فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : " أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أني محمد رسول الله لا يلقى الله بها عبد غير شاك فيحجب عن الجنة " . وروى الحافظ أبو نعيم من طريق غيلان بن سلمة الثقفي قال : خرجنا مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في بعض أسفاره ، فرأينا منه عجباً ، جاء رجل فقال : يا رسول الله إنه كان لي حائط فيه عيشي(2/452)
"""""" صفحة رقم 453 """"""
وعيش عيالي ، ولي فيه ناضحان فمنعا بي أنفسهما ، وحائطي وما فيه ، ولا أقدر على الدنو منهما ، فنهض رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وأصحابه حتى أتى الحائط ، فقال لصاحبه : " افتح الباب " فقال : إن أمرهما عظيم ، فقال ( صلى الله عليه وسلم ) : " افتح الباب " فلما حرك الباب أقبلا ولهما جلبة ، فلما انفرج الباب ، نظرا إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فبركا ثم سجدا ، فأخذ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) برؤوسهما ثم دفعهما إلى صاحبهما ، وقال : " استعملهما وأحسن علفهما " . فقال القوم : تسجد لك البهائم أفلا تأذن لنا في السجود لك فقال ( صلى الله عليه وسلم ) : " إن السجود ليس إلا للحي الذي لا يموت ، ولو أمرت أحداً أن يسجد لأحد ، لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها " .
وروى الحافظ أبو نعيم الأصبهاني وأبو بكر البيهقي ، من حديث يعلى بن مرة ، قال : بينما نحن نسير مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، إذا مررنا بناضح يستقى عليه ، فلما رآه البعير جرجر ووضع جرانه وخطامه ، فوقف رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وقال : " أين صاحب هذا ؟ " فجاءه فقال ( صلى الله عليه وسلم ) : " بعنيه " فقال : بل نهبه لك ، وإنه لأهل بيت ما لهم معيشة غيره ، فقال ( صلى الله عليه وسلم ) : " إنه شكا إلي كثرة العمل وقلة العلف فأحسنوا إليه " وذكر نحوه الحاكم ، في المستدرك ، من طريق يعلى . وقال : صحيح ولم يخرجاه . وفي رواية : " إنه جاء وعيناه تذرفان " وفي رواية : " أنه سجد للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) " ، وفي رواية أنه ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " أتدرون ما يقول زعم أنه خدم مواليه أربعين سنة " . وفي رواية : " عشرين سنة حتى كبر فنقصوا من علفه وزادوا في عمله حتى إذا كان لهم غرض أرادوا أن ينحروه غداً " . وفي رواية يعلى : " في طريق مكة " ، وفي رواية أنه ( صلى الله عليه وسلم ) ، قال لأصحابه : " لا تنحروه وأحسنوا إليه حتى يأتي أجله " .
الناقة : الأنثى من الإبل ، قال الجوهري : الناقة تقديرها فعلة بالتحريك ، لأنها جمعت على نوق مثل بدنة وبدن ، وخشبة وخشب ، وفعلة بالتسكين لا تجمع على ذلك ، وقد جمعت في القلة على أنوق . ثم استثقلوا الضمة على الواو فقدموها . فقالوا : أونق . حكاها يعقوب عن بعض الطائيين ، ثم عوضوا من الواو ياء ، فقالوا : أينق ثم جمعوها على أيانق . وقد تجمع الناقة على نياق مثل ثمرة وثمار إلا أن الواو صارت ياء لكسرة ما قبلها ، وأنشد أبو زيد للقلاخ بن حزن :
أبعدكن الله من نياق . . . إن لم تنجين من الوثاق
وبعير منوق أي مذلل مروض ، وناقة منوقة .
وكنية الناقة أم بو وأم حائل وأم حوار وأم السقب وأم مسعود ويقال لها بنت الفحل وبنت الفلاة وبنت النحائب . روى الإمام أحمد ، ورجاله رجال الصحيح ، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه ، قال : كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يسير في سفر ، فلعن رجل ناقة ، فقال ( صلى الله عليه وسلم ) : " أين صاحب هذه الناقة ؟ " فقال الرجل : أنا . فقال ( صلى الله عليه وسلم ) : " أخرها فقد أجبت فيها " .
وروى مسلم وأبو داود والنسائي ، عن عمران بن حصين رضي الله تعالى عنه ، قال : بينما(2/453)
"""""" صفحة رقم 454 """"""
النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في بعض أسفاره ، وامرأة من الأنصار على ناقة فلعنتها ، فسمع ذلك رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، فقال : " خذوا ما عليها ودعوها فإنها ملعونة " . قال عمران : فكأني أراها الآن ورقاء تمشي في الناس ، ما يعرض لها أحد . وفي رواية : لا تصحبنا ناقة عليها لعنة الله . قال ابن حبان : إنما أمر ( صلى الله عليه وسلم ) بإرسالها ، لأنه عليه السلام تحقق إجابة الدعوة فيها ، فمتى علم استجابة الدعاء من لاعن ما أمرناه بإرسال دابته ، ولا سبيل إلى علم هذا لانقطاع الوحي فلا يجوز استعمال هذا الفعل لأحد أبداً . وقيل : إنما قال ( صلى الله عليه وسلم ) هذا زجراً لها ولغيرها . وقد كان سبق نهيها ونهي غيرها عن اللعن ، فعوقبت بإرسال الناقة . والمراد النهي عن مصاحبته لتلك الناقة في الطريق .
وأما بيعها وذبحها وركوبها في غير تلك الطريق ، وغير ذلك من التصرفات ، التي كانت جائزة قبل هذا فهي باقية على الجواز ، لأن النهي إنما ورد في المصاحبة ، فيبقى الباقي كما كان . والورقاء بالمد التي يخالط بياضها سواد ، والذكر أورق . وقد ورد في النهي عن اللعن أحاديث ، منها ما روى مسلم في صحيحه عن أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " لا يكون اللعانون شفعاء ولا شهداء يوم القيامة " . وفيه أيضاً عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " لا ينبغي لصديق أن يكون لعاناً " . وفي رواية الترمذي عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " ليس المؤمن بالطعان ولا باللعان ولا الفاحش ولا البذي " .
وفي سنن أبي داود عن أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه ، أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " إن العبد إذا لعن شيئاً صعدت اللعنة إلى السماء ، فتغلق أبواب السماء دونها ، فتهبط إلى الأرض فتغلق أبوابها دونها ، ثم تأخذ يميناً وشمالا ، فإذا لم تجد مساغاً رجعت إلى الذي لعن ، فإن كان أهلا لذلك نزلت عليه وإلا رجعت إلى قائلها " . وفي شعب البيهقي ، أن عبد الله بن أبي الهذيل كان إذا لعن شاة لم يشرب من لبنها ، وإذا لعن دجاجة لم يأكل من بيضها .
فائدة : وأما قوله تعالى : " ناقة الله " فهو إضافة خلق إلى خالق تشريفاً وتخصيصاً ، قيل : إن صالحاً عليه الصلاة والسلام أتى بالناقة من قبل نفسه ، وقال الجمهور : بل سألوه أن يدعو ربه أن يخرج لهم آية من صخرة يقال لها الكائبة ناقة عشراء ، فدعا الله فانشقت عن ناقة عظيمة ، يروى أنها كانت حاملا ، فولدت وهم ينظرون إليها سقباً قدرها ، فعقرها قدار بن سالف ، وهو أشقى الأولين . " تعاطى فعقر " أي قام على أطراف أصابع رجليه ، ثم رفع يديه فضربها .
روي أن سيد ثمود جندع بن عمرو قال : يا صالح أخرج لنا من هذه الصخرة ، لصخرة منفردة في ناحية الحجر ، يقال لها الكائبة ، ناقة مخترجة(2/454)
"""""" صفحة رقم 455 """"""
جوفاء وبراء عشراء . فصلى صالح ركعتين ، ودعا ربه ، فتمخضت الصخرة تمخض النتوج بولدها ، ثم تحركت فانصدعت عن ناقة مخترجة جوفاء وبراء وعشراء ، كما وصفوا ، لا يعلم ما بين جنبيها عظماً إلا الله تعالى ، وهم ينظرون ثم نتجت سقباً مثالها في العظم فآمن به جندع بن عمرو ورهط من قومه . فقال لهم صالح عليه السلام : هذه ناقة الله لها شرب يوم ولكم شرب يوم معلوم . فمكثت الناقة ، ومعها سقبها في أرض ثمود ، ترعى الشجر وتشرب الماء وكانت ترد الماء غباً ، فإذا كان يوم شربها ، وضعت رأسها في بئر في الحجر ، يقال لها بئر الناقة لا ترفع رأسها حتى تشرب كل ما فيها ، فلا تدع فيها قطرة ، ثم ترفع رأسها فتتفحج لهم ، فيحلبون منها ما شاؤوا من لبن ، فيشربون ويدخرون ويملؤون أوانيهم كلها . ثم تصدر من غير الفج الذي وردت منه ، لأنها لا تقدر أن تصدر من حيث جاءت . فإذا كان الغد كان يومهم ، فيشربون من الماء ما شاؤوا ، أو يدخرون ما شاؤوا فهم من ذلك في بر ودعة .
وكانت الناقة تصيف ، إذا كان الحر ، بظهر الوادي ، فتهرب منها المواشي إلى بطن الوادي ، في حره وجدبه ، وتشتو إذا كان الشتاء ببطن الوادي ، فتهرب مواشيهم إلى ظهر الوادي في البرد والجدب ، فأضر ذلك بمواشيهم للبلاء والاختبار ، فكبر ذلك عليهم فعتوا عن أمر ربهم ، وحملهم ذلك على عقر الناقة ، فعقرها قدار بن سالف ، وهو أشقى الأولين . وكان أحمر أزرق قصيراً ملتزق الخلق ، واسم أمه قديرة . روي أنه ولد على فراش سالف ، ولم يكن من ظهره ، فدعته امرأة يقال لها عنيزة ، وكانت عجوزاً مسنة ، وكانت ذات بنات حسان ، وذات مال من إبل وبقر وغنم .
وكان قدار عزيزاً منيعاً في قومه ، فقالت له : أعطيك أي بناتي شئت ، على أن تعقر الناقة . فانطلق قدار فكمن لها في أصل شجرة على طريقها ، فلما مرت به شد عليها بالسيف فعقرها ، فذلك قوله تعالى : " فتعاطى فعقر " أي قام على أطراف أصابع رجليه ، ثم رفع يديه فضربها ، فجرت ورغت رغاءة واحدة تحذر سقبها ، فانطلق السقب حتى أتى جبلا منيعاً ، يقال له صنو . وأتى صالح عليه السلام فقيل له : أدرك الناقة ، فقد عقرت ، فأقبل وخرجوا يتلقونه يعتذرون إليه . ويقولون له : يا نبي الله إنما عقرها فلان ، لا ذنب لنا . فقال : انظروا هل تدركون فصيلها ، فإن أدركتموه فعسى أن يرفع عنكم العذاب ، فخرجوا يطلبونه ، فلما رأوه على الجبل ذهبوا ليأخذوه ، فأوحى الله إلى الجبل فتطاول في السماء حتى ما يناله الطير . وقدار بضم القاف ثم دال مهملة مخففة ثم ألف ثم راء مهملة هكذا ذكره جميع أهل التواريخ وغيرهم . ووقع في المهذب ، في باب الهدنة ، أن اسمه العيزار بن سالف ، وهو وهم بلا خلاف . وكان عقر الناقة يوم الأربعاء ، فأصبحوا يوم الخميس ووجوههم مصفرة ، كأنما طليت بالخلوق ، صغيرهم وكبيرهم ذكرهم وإنثاهم فأيقنوا بالعذاب ، وكان صالح عليه الصلاة والسلام قد أخبرهم بذلك . وخرج هارباً منهم فشغلهم عنه ما نزل بهم ، من عذاب الله ، فجعل بعضهم يخبر بعضاً ما يرون في وجوههم ، فلما أمسوا صاحوا بأجمعهم ألا قد مضى يوم من الأجل ، فلما أصبحوا يوم الجمعة إذا وجوههم محمرة ، كأنما خضبت بالدماء ، فلما أمسوا صاحوا بأجمعهم ألا قد مضى يومان من الأجل ، فلما أصبحوا يوم السبت إذا وجوههم مسودة كأنما طليت بالقار ، فلما(2/455)
"""""" صفحة رقم 456 """"""
أمسوا صاحوا بأجمعهم ألا قد مضى الأجل وحضركم العذاب ، فلما كان يوم الأحد ، لما اشتد الضحى ، أتتهم صيحة من السماء فيها صوت كل صاعقة ، وصوت كل شيء له صوت يصوت به في الأرض ، فقطعت قلوبهم في صدورهم ، فأصبحوا في ديارهم جاثمين . وكان الذي آمن بصالح عليه الصلاة والسلام من ثمود أربعة آلاف ، فخرج بهم صالح إلى حضرموت ، فلما حضرها صالح مات ، فسميت حضرموت . ثم بنى الأربعة آلاف مدينة يقال لها حاضور . كذا قاله محمد بن إسحاق ووهب وجماعة . وقال قوم من أهل العلم : توفي صالح بمكة وهو ابن ثمان وخمسين سنة ، وأقام في قومه عشرين سنة .
وروى أحمد والطبراني والبزار بإسناد صحيح عن جابر رضي الله تعالى عنه أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " لا تسألوا نبيكم الآيات فإن قوم صالح سألوا نبيهم أن يبعث لهم آية فبعث الله لهم الناقة فكانت ترد من هذا الفج فتشرب ماءهم يوم ورودها وتصدر من هذا الفج فعتوا عن أمر ربهم فعقروا الناقة ، فقيل لهم : تمتعوا في داركم ثلاثة أيام أو قيل لهم : إن العذاب يأتيكم إلى ثلاثة أيام ، ثم جاءتهم الصيحة فأهلكت من تحت أديم السماء منهم في مشارق الأرض ومغاربها إلا رجلا واحداً كان في حرم الله تعالى فمنعه من عذاب الله عز وجل " . قالوا : يا رسول الله من هو . قال : " أبو رغال " . قيل : ومن أبو رغال ؟ قال : " جد ثقيف " . وفي رواية فلما خرج أصابه ما أصاب قومه فدفن ودفن معه غصن من ذهب . وأراهم ( صلى الله عليه وسلم ) قبر أبي رغال ، فنزل القوم فابتدروه بأسيافهم وحفروا عنه واستخرجوا ذلك الغصن .
وروى الطبراني عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما ، أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " أشقى الناس ثلاثة : عاقر ناقة ثمود وابن آدم الأول الذي قتل أخاه ، ما سفك على الأرض دم إلا لحقه منه إثم ، لأنه أول من سن القتل وقاتل علي بن أبي طالب " . رضي الله تعالى عنه .
وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لما نزل الحجر ، في غزوة تبوك ، أمرهم أن لا يشربوا من بئرها ، ولا يستقوا منها ، فقالوا : قد عجنا منها واستقينا . فأمرهم عليه الصلاة والسلام أن يطرحوا ذلك العجين ، ويهريقوا ذلك الماء ، وأمرهم أن يستقوا من البئر التي كانت تردها الناقة . وفي رواية جابر أنه ( صلى الله عليه وسلم ) قال لأصحابه : " لا يدخلن أحد منكم القرية ولا تشربوا من مائها ولا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين خشية أن يصيبكم مثل ما أصابهم " .
وروى مسلم عن أبي مسعود الأنصاري رضي الله تعالى عنه ، قال : جاء رجل بناقة مخطومة ، فقال : هذه في سبيل الله تعالى ، فقال له ( صلى الله عليه وسلم ) : " لك بها يوم القيامة سبعمائة ناقة مخطومة " .
وروى أحمد وأبو داود وابن حبان والحاكم عن أبي بن كعب قال : بعثني رسول الله ( صلى الله عليه وسلم )(2/456)
"""""" صفحة رقم 457 """"""
عاملا فمررت برجل ، فلما جمع لي ماله لم أجد عليه فيه إلا ابنة مخاض ، فقلت له : أد ابنة مخاض ، فإنها صدقتك . فقال : ذاك ما لا لبن فيه ولا ظهر ، ولكن هذه ناقة فتية سمينة فخذها فامتنع أبي بن كعب ، وترافعا إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال له : " ذاك الذي عليك فإن تطوعت فخير أجرك الله فيه وقبلناه منك " . قال : ها هي يا رسول الله قد جئتك بها فخذها ، فأمره رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بقبضها ودعا له في ماله بالبركة . وفي كامل ابن عدي وسنن البيهقي وشعب الإيمان عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه ، قال : إن رجلا أتى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : يا رسول الله أرسل ناقتي وأتوكل ، أم أعقلها وأتوكل ؟ فقال ( صلى الله عليه وسلم ) : " بل اعقلها وتوكل " .
وروى البيهقي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما ، قال : إن رجلا ادعى عليه عند النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بسرقة ناقة ، فقال : ما سرقتها . فقال ( صلى الله عليه وسلم ) : " احلف " فقال : والله الذي لا إله إلا هو ما سرقتها . فنزل جبريل على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : إنه سرقها ، ولكن غفر الله له كذبه ، بصدقه بلا إله إلا هو . فقال له النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : " أخذتها فردها إليه " فردها إليه . وفي رواية قال له النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : " إن الله غفر لك كذبك بصدقك بلا إله إلا الله " .
وروى الحاكم عن النعمان بن سعد قال : كنا جلوساً عند علي رضي الله تعالى عنه ، فقرأ " يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا " فقال : لا والله ما على أرجلهم يحشرون ولا يساقون سوقاً ، ولكن يؤتون بنوق من نوق الجنة ، لم تنظر الخلائق إلى مثلها ، رحالها الذهب وأزمتها الزبرجد ، فيقعدون عليها حتى يقرعوا باب الجنة . ثم قال : صحيح الإسناد .
وروى الحاكم أيضاً عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما ، قال : كنا جلوساً عند رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إذ دخل أعرابي جهوري الصوت بدوي على ناقة حمراء ، فأناخها بباب المسجد ، ودخل فسلم على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ثم قعد فلما قضى نحبه ، قالوا : يا رسول الله إن الناقة التي تحت الأعرابي سرقة قال ( صلى الله عليه وسلم ) : " أثم بينة " قالوا : نعم يا رسول الله . فقال ( صلى الله عليه وسلم ) : " يا علي خذ حق الله من الأعرابي إن قامت عليه البينة ، وإن لم تقم فرده إلي " فأطرق الأعرابي ساعة ، فقال له النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : " قم يا أعرابي لأمر الله وإلا فأدل بحجتك " . فقالت الناقة من خلف الباب : والذي بعثك بالحق والكرامة يا رسول الله إن هذا ما سرقني وما ملكني أحد سواه . فقال له النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : " يا أعرابي بالذي أنطقها بعذرك ما الذي قلت " ؟ قال : قلت : اللهم إنك لست برب استحدثناك ، ولا معك إله أعانك على خلقنا ولا معك رب فنشك في ربوبيتك ، أنت ربنا كما نقول ، وفوق ما يقول القائلون أسألك أن تصلي على محمد وأن تريني براءتي . فقال له النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : " الذي بعثني بالكرامة يا أعرابي لقد رأيت الملائكة يبتدرون أفواه الأزقة يكتبون مقالتك فأكثر الصلاة علي " . ثم قال الحاكم : رواته ثقات ، لكن فيهم يحيى بن عبد الله المصري ، لست أعرفه بعدالة ولا جرح . وقد تقدم في البعير حديث رواه الطبراني قريب من هذا .(2/457)
"""""" صفحة رقم 458 """"""
وفي المستدرك أيضاً ، في ترجمة صهيب رضي الله عنه ، عن كعب الأحبار ، عن صهيب بن سنان ، قال : كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يدعو : " اللهم إنك لست بإله استحدثناه ، ولا برب ابتدعناه ، ولا كان لنا قبلك من إله نلجأ إليه ، ونذرك ولا أعانك على خلقنا أحد فنشركه معك ، تباركت وتعاليت " قال كعب الأحبار : كان نبي الله ( صلى الله عليه وسلم ) يدعو به ، ثم قال : صحيح الإسناد .
في المستدرك أيضاً ، من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) نزل بأعرابي فأكرمه ، فقال له النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : " يا أعرابي سل حاجتك " . فقال : يا نبي الله ناقة نرحلها ، وأعنزاً يحلبها أهلي . فقال ( صلى الله عليه وسلم ) : " أعجز هذا أن يكون مثل عجوز بني إسرائيل " . قالوا : يا رسول الله ، وما عجوز بني إسرائيل ؟ قال ( صلى الله عليه وسلم ) : " إن بني إسرائيل خرجوا من مصر ، فضلوا الطريق ، وأظلم عليهم ، فقالوا : ما هذا ؟ قال علماؤهم : إن يوسف عليه الصلاة والسلام ، لما حضرته الوفاة ، أخذ علينا موثقاً من الله ، أن لا نخرج حتى ننقل عظامه معنا ، فقال موسى عليه الصلاة والسلام : فمن يعلم موضع قبره ؟ قالوا : عجوز لبني إسرائيل ، فبعث إليها فأتته فقال : دليني على قبر يوسف ، قالت : وتعطيني ما أسألك ؟ فقال : وما سؤالك ؟ قالت : أكون معك في الجنة . فكره أن يعطيها ذلك ، فأوحى الله إليه أن أعطها حكمها ، ففعل " . ورواه الطبراني وأبو يعلى الموصلي بنحوه . وفي رواية ، في غير المستدرك أنها كانت مقعدة عمياء ، وأنها قالت لموسى : لا أخبرك عن موضع قبره حتى تعطيني أربع خصال : تطلق رجلي وبصري وشبابي وأكون معك في الجنة . فأوحى الله إليه أن أعطها ما سألتك ، فإن ما تعطي علي ، ففعل . فانطلقت بهم إلى مستنقع ماء ، فاستخرجته من شاطئ النيل ، في صندوق من مرمر ، فلما فكوا تابوته طلع القمر ، وأضاءت الطريق مثل النهار ، فاهتدوا وحملوه معهم إلى الشام فدفنه موسى عليه السلام عند آبائه إبراهيم وإسحاق ويعقوب صلى الله عليهم وسلم . وعاش يوسف بعد أبيه يعقوب ثلاثاً وعشرين سنة ، وتوفي وهو ابن مائة وعشرين سنة .
وفي المستدرك وغيره ، عن معاذ رضي الله تعالى عنه ، أنه سمع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يقول : " من قاتل في سبيل الله قدر فواق ناقة وجبت له الجنة " . وفواق الناقة ما بين الحلبتين من الراحة وتضم فاؤه وتفتح .
وفي الحديث أيضاً : " عيادة المريض قدر فواق الناقة " . وفي أخبار معن بن زائدة الشيباني أن رجلا قال له : احملني أيها الأمير ، فأمر له بناقة وفرس وبغل وحمار وجارية . ثم قال : لو علمت إن الله خلق مركوباً يحمل عليه غير هذا لحملتك عليه . وقد أمرنا لك من الخز بجبة وقميص وعمامة ودراعة وسراويل ومنديل ومطرف ورداء وكساء وجورب وكيس . ولو علمنا شيئاً آخر يتخذ من الخز غير هذا لأعطيناك إياه . قال بعضهم : رحم الله معناً ، لو كان يعلم أن الغلام يركب لأمر له به ، ولكنه كان عربياً محضاً لم يتدنس بقاذورات العجم . وذكر ابن خلكان في ترجمته أنه جلس يوماً فرأى راكباً فقال : ما أحسب هذا يريد غيري ، فلما وصل أنشد قائلا :(2/458)
"""""" صفحة رقم 459 """"""
أصلحك الله قل ما بيدي . . . فما أطيق العيمال إذ كثروا
ألح دهر رمى بكلكله . . . فأرسلوني إليك وانتظروا
فقال : يا فلان ناقتي الفلانية وألف دينار ، فدفعهما إليه وهولا يعرفه . ومحاسن معن كثيرة ، وتولى الولايات العظيمة ، وتولى في آخر عمره سجستان ، فبينما هو ذات يوم في داره والصناع يعملون بين يديه ، اندس بينهم قوم من الخوارج فقتلوه وهو يحتجم وهربوا ، فتبعهم ابن أخيه يزيد بن مزيد بن زائدة فقتلهم عن آخرهم . وكان قتله في سنة إحدى أو اثنتين أو ثمان وخمسين ومائة رحمه الله . ورثاه الشعراء بمراث كثيرة ، فمن المراثي النادرة أبيات الحسن بن مطر الأزدي ، وهي في الحماسة منها :
ألما على معن وقولا لقبره . . . سقتك الغوادي مربعاً ثم مربعا
فيا قبر معن كيف واريت جوده . . . وقد كان منه البر والبحر مترعا
ويا قبر معن أنت أول حفرة . . . من الأرض خطت للمكارم مضجعا
بلى وقد وسعت الجود والجود ميت . . . ولو كان حياً ضقت حتى تصدعا
فتى عيش في معروفه بعد موته . . . كما كان بعد السيل مجراه مربعا
ولما مضى معن مضى الجود وانقضى . . . وأصبح عرنين المكارم أجدعا
وحكمها : كالإبل .
الأمثال : قالوا : " لا ناقتي فيها ولا جملي " وأصل المثل للحارث بن عبادة . وقيل : أول من قاله صدوف بنت حليس العذرية ، وخبرها مشهور في الأمثال . ومما أنشد في ذلك قول الراعي :
وما هجرتك حتى قلت معلنة . . . لا ناقة لي في هذا ولا جمل
وقال الطغرائي في لاميته :
فيم الإقامة بالزوراء لا سكني . . . بها ولا ناقتي فيها ولا جملي
يضرب عند التبري من الظلم أو الإساءة وأطال فيه أصحاب الأمثال ، وقالوا : " استنوق الجمل " أي صار ناقة ، يضرب للرجل يكون في حديث أرصفة شيء ثم يخلطه بغيره . وينتقل(2/459)
"""""" صفحة رقم 460 """"""
منه إليه . قال الجوهري : وأصله أن طرفة بن العبد ، كان عند بعض الملوك ، والمسيب بن عبس ينشد شعراً في وصف جمل ، ثم حوله إلى نعت ناقة ، فقال طرفة : قد استنوق الجمل .
وخواصها : كالإبل أيضاً .
التعبير : الناقة في الرؤيا امرأة ، فإن كانت من البخت فهي أعجمية ، وإن كانت غير بختية فهي امرأة عربية . فمن رأى كأنه حلب ناقة تزوج امرأة صالحة ، ومن كان متزوجاً وحلب ناقة رزق ولداً ذكراً ، وربما رزق بنتاً . ومن رأى ناقة ومعها فصيلها ، فإنه يدل على ظهور آية وفتنة عامة . وقال ابن سيرين : الناقة المحدوجة سفر في بر ، ومن ركب ناقة مهرية في منامه سافر وقطع عليه الطريق . ومن حلب النوق في منامه فإنه يلي ولاية يجمع فيها الزكاة . ومن الرؤيا المعبرة أن ابن سيرين رحمه الله ، أتاه رجل فقال له : رأيت رجلا يحلب من النوق البخت لبناً ، ثم حلبها دماً . فقال ابن سيرين : هذا رجل يتولى على الأعاجم ويجيبهم الزكاة وهي اللبن ، ثم يظلمهم ويأخذ أموالهم غصباً ، وهو الدم ، فكان كذلك . ولحم النوق يدل على وفاء النذر لقول الله تعالى : " كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه " وهو لحم الجزور . وقيل : لحم الجزور في الرؤيا مصيبة ، وقيل مرض ، وقيل : رزق ، لقول الله تعالى : " والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تكلون ، ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون ، وتحمل أثقالكم " ومن عقر ناقة في منامه ندم على أمر فعله ، وناله منه مصيبة لقول الله تعالى : " فعقروها فأصبحوا نادمين " .
وقيل : ركوب الناقة نكاح امرأة ، فإن ركبها مقلوباً أتى امرأة في دبرها . ومن رأى ناقة صارت بغلة أو بعيراً ، فإن زوجته لا تحمل أبداً . ومن ماتت ناقته ماتت امرأته ، أو بطل سفره ، وربما دلت الناقة على امرأة كثيرة الخصام ، لكثرة رغائها . ومن رأى ناقة دخلت مدينة ، فإنها فتنة لقول الله تعالى : " إنا مرسلو الناقة فتنة لهم " فإذا عقرت ناقة في مدينة ، أصاب أهلها نكبة والله أعلم .
الناموس : البعوض وقد تقدم في باب الباء الموحدة ، وقال أبو حامد الأندلسي : الناموس دويبة تلسع الناس ، وقال الجوهري : وناموس الرجل سره الذي يطلعه على باطن أمره ، ويخصه بما يستره عن غيره . قال الزبيدي : وهو مشتق من نمس بالكلام إذا أخفاه ، يقال : نمس الصائد إذا اختفى في الدريئة انتهى .
وأهل الكتاب يسمون جبريل عليه السلام الناموس الأكبر ، لأنه يخفي الكلام حين يلقيه إلى الرسل عن الحاضرين ، وفي الحديث أن ورقة بن نوفل قال لخديجة رضي الله تعالى عنها ، وهو ابن عمها ، وكان نصرانياً : لئن كان ما تقولين حقاً ، إنه ليأتيه الناموس الذي كان يأتي موسى .(2/460)
"""""" صفحة رقم 461 """"""
وقد تقدم هذا في باب الفاء ، في الفاعوس ، وتقدم في الفاعوس الكلام على لفظ الناموس . وما جاء على وزن فاعول ولام الفعل منه سين .
الناهض : فرخ العقاب ، وقد تقدم ما في العقاب في باب العين المهملة .
النباج : كرمان الهدهد الكثير القرقرة وسيأتي ما فيه في باب الهاء .
النبر : بالكسر دويبة شبيهة بالقراد لكنها أصغر منه إذا دبت على البعير تورم مدبها ، والجمع نبار وأنبار . قال الراجز شبيب بن البرصاء :
كأنها من بدن وإيقار . . . دبت عليها ذربات الأنبار
ويروى : عاربات الأنبار ، والأنبار أيضاً ضرب من السباع ، قاله ابن سيده . قال البطليوسي ، في الشرح : ويروى هذا البيت بالفاء ، وهو أفعال من الشيء الوافر ، ويروى بالقاف يريد أنها أوقرت بالشحوم ومعنى الرواية الأولى ، أن هذه من سمنها ووفورها دبت عليها الأنبار فلسعتها ، وقوله ذربات ، في معناها وجهان : أحدهما أنها الحديدة اللسع مأخوذة من قولهم : سكين ذرب ومذرب ، أي حادة ، والثاني أنها مسمومة ، يقال : ذربت السهم إذا سقيته السم ويقال للسم الذرب انتهى . النجيب : من الإبل والخيل ، ومن الرجال الكريم ، والجمع نجباء وأنجاب والنجائب جمع نجيبة ، روى أبو داود عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال : إن عمر رضي الله تعالى عنه أهدي نجيبة فطلبت منه بثلاثمائة دينار ، فسأل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في أن يبيعها ، ويشتري بثمنها بدناً . فنهاه عن ذلك ، وقال : " بل انحرها " . وكذلك رواه الإمام أحمد والبخاري في تاريخه . وفي المثل : أنجبت المرأة إذا ولدت النجباء والمنتجب المختار من كل شيء .
روى الحاكم في المستدرك ، عن عبد الله بن الوليد ، عن عبد الله بن عبيد بن عمير ، قال : لقد حج الحسن بن علي رضي الله تعالى عنهما خمساً وعشرين حجة ماشياً ، وأن النجائب لتقاد بين يديه . وفي الحلية سئل محمد بن علي بن الحسين ، المعروف بالباقر أحد الأئمة الإثني عشر ، على رأي الإمامية ، عن عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى ، فقال : أما علمت أن لكل قوم نجيبة ، وأن نجيبة بني أمية عمر بن عبد العزيز ، وأنه يبعث يوم القيامة أمة وحده .
وروى الإمام أحمد والبزار والطبراني وغيرهم باختصار ، عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه ، قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : " إنه لم يكن نبي إلا وقد أعطي سبعة رفقاء نجباء ووزراء ، وإني أعطيت أربعة عشر : حمزة وجعفر ، وعلي وحسن وحسين ، وأبو بكر وعمر وعثمان وعبد الله بن مسعود وأبو ذر والمقداد ، وعمار وسليمان وبلال " .(2/461)
"""""" صفحة رقم 462 """"""
وفي بعض طرق الطبراني مصعب بن عمير ، وفيه كثير الشواء ، وهو من صغار التابعين ، وثقه ابن حبان وضعفه الجمهور وبقية رجاله ثقات .
وفي الحديث : " إن الله يحب التاجر النجيب " أي الفاضل الكريم السخي . وقال ابن مسعود : سورة الأنعام من نجائب القرآن أي من أفاضل سوره .
النحام : طائر على خلقة الأوز ، واحدته نحامة يكون آحاداً وأزواجاً في الطيران ، وإذا أراد المبيت اجتمع رفوفاً فذكوره تنام ، وإناثه لا تنام ، وتعد لها مبايت ، فإذا نفرت من واحد ذهبت إلى آخر . ويقال : إن الأنثى تبيض من زق الذكر من غير سفاد ، فإذا باضت نفرت . وبقي الذكر عند البيض ، يفرق عليه فيقوم الفرق مقام الحضن ، فإذا تمت مدته خرجت الفراخ لا حراك بها فتأتي الأنثى فتنفخ في مناقيرها حتى تجري الريح فيها روحاً ، ثم يتعاون الذكر والأنثى على التربية . وفي الذكر غلظ طبع وقلة وفاء ، فإنه إذا رأى فراخه قد قويت على الطعم ضربها وطردها ، فتذهب الأم معها فلا تقرب الذكر إلى وقت السفاد .
الحكم : يحل أكله لأنه من الطيبات ، ولأن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أكله . روى ابن النجار ، في ذيل تاريخ بغداد ، في ترجمة سهل بن عبيد بن سورة الخراساني الأصبهاني أنه حدث عن إسماعيل بن هارون ، عن الصعق بن حزن ، عن مطر الوراق ، قال : أهدي للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) طير يقال له النحام فأكله واستطابه ، وقال : " اللهم أدخل إلي أحب خلقك إليك " وأنس رضي الله تعالى عنه بالباب ، فجاء علي رضي الله تعالى عنه ، فقال : يا أنس استأذن لي على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، فقال : إنه على حاجة ، فدفع صدره ودخل ، فقال رضي الله عنه : يوشك أن يحال بيننا وبين رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، فلما رآه ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " اللهم وال من والاه " .
وفي الكامل لابن عمي ، في ترجمة جعفر بن سليمان الضبعي ، أن الطير المشوي كان حجلاً . وفيه ، في ترجمة جعفر بن ميمون ، أنه كان حبارى . وفي المستدرك أن التي أهدته للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) أم أيمن رضي الله تعالى عنها .
قلت : حديث الطير خرجه الترمذي ، وقال : غريب . والبغوي في حسان المصابيح ، وخرجه الحربي ، وزاد بعد قوله : أهدي للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) طير ، وكان مما يعجبه أكله . وزاد بعد قوله فجاء علي بن أبي طالب فقال : استأذن لي على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقلت : ما عليه إذن ، ولكن أحب أن يكون رجلاً من الأنصار . ورواه الطبراني وأبو يعلى والبزار ، من عدة طرق كلها ضعيفة . وخرجه عمر بن شاهين ، ولم يذكر زيادة الحربي . وقال بعد قوله : فجاء علي فرددته : ثم جاء فرددته ، فدخل في الثالثة أو في الرابعة فقال له النبي ( صلى الله عليه وسلم ) " ما حبسك عني أوما أبطأك عني يا علي " ؟ قال : جئت فردني أنس ثم جئت فردني أنس ، فقال ( صلى الله عليه وسلم ) : " يا أنس ما حملك على ما صنعت " ؟ قال : رجوت أن يكون رجلاً من الأنصار . فقال ( صلى الله عليه وسلم ) : " يا أنس أوفي الأنصار خير من علي أو أفضل من علي " ؟ .(2/462)
"""""" صفحة رقم 463 """"""
وعن سفينة مولى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : أهدت امرأة لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) طيرين بين رغيفين ، فقدمتهما إليه ، فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : " اللهم ائتني بأحب خلقك إليك وإلى رسولك " . ثم ذكر معنى الحديث . قال الحاكم : وقد رواه عن أنس جماعة أكثر من ثلاثين نفساً . ثم صحت الرواية عن علي وأبي سعيد وسفينة وهو من الأحاديث المستدركة على المستدرك . قال الذهبي في تلخيصه : لقد كنت زمناً طويلاً أظن أن حديث الطير لم يجسر الحاكم أن يودعه في مستدركه فلما علقت هذا الكتاب ، رأيت الهول من الموضوعات التي فيه والله أعلم . النحل : ذباب العسل ، وقد تقدم في باب الذال المعجمة ، في لفظ الذباب ، أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال في تفسير سورة النساء : " الذباب كله في النار إلا النحل " . وواحدة النحل نحلة كنخل ونخلة وقرأ يحيى بن وثاب : " وأوحى ربك إلى النحل " ، بفتح الحاء . والجمهور بالإسكان . قال الزجاج : سميت نحلاً لأن الله تعالى نحل الناس العسل ، الذي يخرج منها ، إذ النحلة العطية وكفاها شرفاً قول الله تعالى : " وأوحى ربك إلى النحل " ، فأوحى سبحانه إليها وأثنى عليها فعلمت مساقط الأنواء من وراء البيداء ، فتقع هناك على كل حرارة عبقة ، وزهرة أنقة ، ثم تصدر عنها بما تحفظه رضاباً وتلقطه شراباً .
قال القزويني ، في عجائب المخلوقات : يقال ليوم عيد الفطر يوم الرحمة ، إذ فيه أوحى الله إلى النحل صنعة العسل ، فبين سبحانه أن في النحل أعظم اعتبار ، وهو حيوان فهيم ذو كيس وشجاعة ، ونظر في العواقب ، ومعرفة بفصول السنة . وأوقات المطر ، وتدبير المرتع والمطعم ، والطاعة لكبيره ، والاستكانة لأميره وقائده ، وبديع الصنعة وعجيب الفطرة .
قال أرسطو : النحل تسعة أصناف : منها ستة يأوي بعضها إلى بعض . قال : وغذاؤها من الفضول الحلوة والرطوبات التي يرشح بها الزهرة والورق ، ، ويجمع ذلك كله ويدخره ، وهو العسل وأوعيته ، ويجمع مع ذلك رطوبات دسمة ، يتخذ منها بيوت العسل ، وهذه الدسومات هي الشمع ، وهو يلقطها بخرطومه ويحملها على فخذيه ، وينقلها من فخذيه إلى صلبه ، هكذا قال .
والقرآن يدل على أنها ترعى الزهر ، فيستحيل في جوفها عسلاً وتلقيه من أفواهها ، فيجتمع منه القناطير المقنطرة قال الله تعالى : " ثم كلي من كل الثمرات فاسلكي سبل ربك ذللاً يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس " وقوله : " من كل الثمرات " ، المراد به بعضها ، نظيره قوله تعالى : " وأوتيت من كل شيء " يريد البعض واختلاف الألوان في العسل بحسب اختلاف النحل والمرعى ، وقد يختلف طعمه لاختلاف المرعى . ومن هذا المعنى قول زينب رضي الله تعالى عنها للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) جرست نحلة العرفط ، حين شبهت رائحته برائحة المغافير والحديث مشهور في الصحيحين وغيرهما .
ومن شأنه في تدبير معاشه أنه إذا أصاب موضعاً نقياً بنى فيه بيوتاً من الشمع أولاً ، ثم بنى(2/463)
"""""" صفحة رقم 464 """"""
البيوت التي تأوي فيها الملوك ، ثم بيوت الذكور التي لا تعمل شيئاً . والذكور أصغر جرماً من الإناث وهي تكثر المادة داخل الخلية ، وإن طارت فهي تخرج بأجمعها وترتفع في الهواء ثم تعود إلى الخلية . والنحل تعمل الشمع أولاً ، ثم تلقي البزر لأنه لها بمنزلة العش للطير ، فإذا ألقته قعدت عليه وحضنته ، كما يحضن الطير ، فيكون من ذلك البزر دود أبيض ، ثم ينهض الدود وتغذي نفسها ثم تطير ، وهي لا تقعد على أزهار مختلفة بل على زهر واحد ، وتملأ بعض البيوت عسلاً وبعضها فراخاً ، ومن عادتها أنها إذا رأت فساداً من ملك ، إما أن تعزله وإما أن تقتله ، وأكثر ما تقتل خارج الخلية . والملوك لا تخرج إلا مع جميع النحل ، فإذا عجز الملك عن الطيران ، حملته . وسيأتي إن شاء الله تعالى بيان ذلك ، في آخر الكتاب ، في لفظ اليعسوب .
ومن خصائص الملك أنه ليس له حمة يلسع بها ، وأفضل ملوكها الشقر ، وأسوؤها الرقط بسواد . والنحل تجتمع فتقسم الأعمال فبعضها يعمل العسل ، وبعضها يعمل الشمع ، وبعضها يسقي الماء ، وبعضها يبني البيوت ، وبيوتها من أعجب الأشياء لأنها مبنية على الشكل المسدس الذي لا ينحرف ، كأنه استنبط بقياس هندسي . ثم هو في دائرة مسدسة ، لا يوجد فيها اختلاف ، فبذلك اتصلت حتى صارت كالقطعة الواحدة ، وذلك لأن الأشكال من الثلاث إلى العشر ، إذا جمع كل واحد منها إلى أمثاله لم يتصل ، وجاءت بينها فروج ، إلا الشكل المسدس ، فإنه إذا جمع إلى أمثاله اتصل ، كأنه قطعة واحدة وكل هذا بغير مقياس منها ولا آلة ولا بركار ، بل ذلك من أثر صنع اللطيف الخبير وإلهامه إياها ، كما قال : " وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتاً ومن الشجر ما يعرشون ، الآية . فتأمل كمال طاعتها وحسن امتثالها لأمر ربها ، كيف اتخذت بيوتاً في هذه الأمكنة الثلاثة الجبال والشجر وبيوت الناس حيث يعرشون ؛ أي حيث يبنون العروش ، فلا ترى للنحل بيتاً في غير هذه الأمكنة الثلاثة البتة . وتأمل كيف كانت أكثر بيوتها في الجبال ، وهي المتقدمة في الآية ثم الأشجار وهي دون ذلك ، ثم فيما يعرش الناس وهي أقل بيوتها . فانظر كيف أداها حسن الامتثال إلى أن اتخذت البيوت قبل المرعى . فهي تتخذها أولاً ، فإذا استقر لها بيت خرجت منه فرعت وأكلت من الثمرات ، ثم أوت إلى بيوتها ، لأن ربها سبحانه وتعالى أمرها باتخاذ البيوت أولاً ، ثم الأكل بعد ذلك ، وقال في الإحياء : انظر إلى النحل كيف أوحى الله إليها ، حتى اتخذت من الجبال بيوتاً ، وكيف استخرج من لعابها الشمع والعسل ، وجعل أحدهما ضياء والآخر شفاء .
ثم لو تأملت عجائب أمرها في تناولها الأزهار والأنوار ، واحترازها من النجاسات والأقذار ، وطاعتها لواحد من جملتها ، وهو أكبرها شخصاً وهو أميرها ، ثم ما سخر الله لأميرها من العدل والإنصاف بينها ، حتى إنه ليقتل منها على باب المنفذ ، كل ما وقع منها على نجاسة ، لقضيت من ذلك العجب ، إن كنت بصيراً في نفسك ، وفارغاً من هم بطنك وفرجك ، وشهوات نفسك ، في معاداة أقرانك ، وموالاة إخوانك .
ثم دع عنك جميع ذلك ، وانظر إلى بنيانها بيتاً من الشمع ، واختيارها من جميع الأشكال ،(2/464)
"""""" صفحة رقم 465 """"""
الشكل المسدس ، فلا تبني بيتها مستديراً ولا مربعاً ولا مخمساً ، بل مسدساً لخاصية في الشكل المسدس ، يقصر فهم المهندس عن درك ذلك ، وهو أن أوسع الأشكال وأحواها المستدير ، ومما يقرب منه فإن المربع تخرج منه زوايا ضائعة ، وشكل النحل مستدير مستطيل ، فترك المربع حتى لا تبقى الزوايا فارغة .
ثم لو بناها مستديرة لبقيت خارج البيوت فرج ضائعة ، فإن الأشكال المستديرة ، إذا اجتمعت لم تجتمع متراصة ، بحيث لا يبقى بعد اجتماعها فرجة ، إلا المسدس . وهذه خاصية هذا الشكل ، فانظر كيف ألهم الله تعالى النحل على صغر جرمه ذلك لطفاً به وعناية بوجوده ، فيما هو محتاج إليه ليهنأ عيشه . فسبحانه ما أعظم شأنه وأوسع لطفه وامتنانه .
وفي طبعه أنه يهرب بعضه من بعض ، ويقاتل بعضه بعضاً في الخلايا ، ويلسع من دنا من الخلية ، وربما هلك المسلوع ، وإذا هلك شيء منها داخل الخلايا ، أخرجته الأحياء إلى خارج ، وفي طبعه أيضاً النظافة ، فلذلك يخرج رجيعه من الخلية ، لأنه منتن الريح .
وهو يعمل زماني الربيع والخريف ، والذي يعمله في الربيع أجود . والصغير أعمل من الكبير ، وهو يشرب من الماء ما كان صافياً عذباً ، يطلبه حيث كان ، ولا يأكل من العسل إلا قدر شبعه ، وإذا قل العسل في الخلية ، قذفه بالماء ليكثر ، خوفاً على نفسه من نفاذه ، لأنه إذا نفد ، أفسد النحل بيوت الملوك وبيوت الذكور ، وربما قتلت ما كان منها هناك .
قال حكيم من اليونان لتلامذته : كونوا كالنحل في الخلايا ، قالوا : وكيف النحل في الخلايا ؟ قال : إنها لا تزك عندها بطالاً إلا نفته وأبعدته ، وأقصته عن الخلية ، لأنه يضيق المكان ، ويفني العسل ، ويعلم النشيط الكسل . والنحل يسلخ جلده كالحيات ، وتوافقه الأصوات اللذيذة المطربة ويضره السوس . ودواؤه أن يطرح له في كل خلية كف ملح ، وأن يفتح في كل شهر مرة ، ويدخن باخثاء البقر .
وفي طبعه أنه متى طار من الخلية يرعى ثم يعود ، فتعود كل نحلة إلى مكانها لا تخطئه .
وأهل مصر يحولون الخلايا في السفن ويسافرون بها إلى مواضع الزهر والشجر ، فإذا اجتمع في المرعى فتحت أبواب الخلايا ، فيخرج النحل منها ويرعى يومه أجمع ، فإذا أمسى عاد إلى السفينة وأخفت كل نحلة منها مكانها من الخلية لا تتغير عنه .
روى الإمام أحمد والحاكم والترمذي والنسائي ، من حديث أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه ، أنه قال : كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، إذا نزل عليه الوحي ، سمع عنده دوي كدوي النحل ، فنزل عليه ( صلى الله عليه وسلم ) يوماً ، فمكثنا ساعة ، ثم سري عنه فاستقبل القبلة ورفع يديه فقال : " اللهم زدنا ولا تنقصنا ، وأكرمنا ولا تهنا ، وأعطنا ولا تحرمنا ، وآثرنا ولا تؤثر علينا ، وأرضنا وارض عنا " . ثم قال ( صلى الله عليه وسلم ) : " لقد أنزل الله علي عشر آيات ، من أقامهن دخل الجنة ، . ثم قرأ : " قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون " الآيات . قال : صحيح الإسناد .(2/465)
"""""" صفحة رقم 466 """"""
قال النحاس : معنى أقامهن ، عمل بهن ولم يخالف ما فيهن ، كما يقال : فلان يقوم بعمله . وروى البيهقي من حديث أنس رضي الله تعالى عنه مرفوعاً ، لما خلق الله جنة عدن وغرس أشجارها بيده قال لها : تكلمي ، فقالت : " قد أفلح المؤمنون " .
وروى ابن ماجه ، عن أبي بشر بكر بن خلف قال : حدثني يحيى بن سعيد ، عن موسى بن أبي عيسى الطحان ، عن عون بن عبد الله ، عن أبيه أو عن أخيه عن النعمان بن بشير رضي الله تعالى عنه ، أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " إن مما تذكرون من جلال الله التسبيح والتهليل والتحميد ، ينعطفن حول العرش لهن دوي كدوي النحل ، تذكر بصاحبها . أما يحب أحدكم أن يكون له أو لا يزال له من يذكر به " ؟ ورواه الحاكم ، وقال : صحيح على شرط مسلم . والدوي صوت ليس بالعالي .
وفي حديث الإيمان : يسمع دوي صوته ولا يفقه ما يقوله .
وفي المستدرك عن أبي سبرة الهذلي ، قال : قال عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما فحدثني حديثاً عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فهمته وكتبته بيدي : بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما حدث به عبد الله بن عمرو عن محمد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : " إن الله لا يحب الفاحش ولا المتفحش ، ولا سوء الجوار ولا قطيعة الرحم " . ثم قال ( صلى الله عليه وسلم ) : " إنما مثل المؤمن كمثل النحلة ، وقعت فأكلت طيباً ، ثم سقطت ولم تفسد ولم تكسر ، ومثل المؤمن كمثل القطعة الذهب الأحمر ، أدخلت النار فنفخ عليها فلم تتغير ووزنت فلم تنقص . فذلك مثل المؤمن " . ثم قال : صحيح الإسناد .
وفي المعجم الأوسط للطبراني بإسناد حسن ، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه ، قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : " مثل بلال كمثل النحلة ، غدت تأكل من الحلو والمر ثم هو حلو كله " .
وروى الإمام أحمد وابن أبي شيبة والطبراني أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " المؤمن كالنحلة تأكل طيباً وتضع طيباً ، وقعت فلم تكسر ولم تفسد " . وفي شعب البيهقي ، عن مجاهد ، قال : صاحبت عمر رضي الله تعالى عنه من مكة إلى المدينة فما سمعته يحدث عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إلا هذا الحديث : " إن مثل المؤمن كمثل النحلة إن صاحبته نفعك ، وإن شاورته نفعك ، وإن جالسته نفعك وكل شأنه منافع ، وكذلك النحلة كل شأنها منافع " . قال ابن الأثير : وجه المشابهة بين المؤمن والنحلة ، حذق النحل وفطنته ، وقلة أذاه وخفارته ومنفعته ، وقنوعه وسعيه في النهار ، وتنزهه عن الأقذار ، وطيب أكله ، فإنه لا يأكل من كسب غيره ، ونحوله وطاعته لأميره .
وإن للنحل آفات تقطعه عن عمله ، منها : الظلمة والغيم والريح والدخان والماء والنار ، وكذلك المؤمن له آفات تفتر به عن علمه منها : ظلمة الغفلة ، وغيم الشك ، وريح الفتنة ، ودخان الحرام ، وماء السعة ، ونار الهوى انتهى .(2/466)
"""""" صفحة رقم 467 """"""
وفي مسند الدارمي ، عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه ، أنه قال : كونوا في الناس كالنحلة في الطير إنه ليس في الطير شيء إلا وهو يستضعفها ، ولو تعلم الطير ما في أجوافها البركة ، ما فعلت ذلك بها . خالطوا الناس بألسنتكم وأجسادكم وزايلوهم بأعمالكم وقلوبكم فإن للمرء ما اكتسب ، وهو يوم القيامة مع من أحب .
وفيه أيضاً ، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، أنه سأل كعب الأحبار كيف تجد نعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في التوراة ؟ فقال كعب : نجده محمد بن عبد الله ، يولد بمكة يهاجر إلى طيبة ويكون ملكه بالشام ، ليس بفحاش ولا صخاب في الأسواق ، ولا يكافئ بالسيئة السيئة ، ويعفو ويصفح ، أمته الحمادون ، يحمدون الله في كل سراء وضراء يوضئون أطرافهم ويأتزرون أوساطهم يصفون في صلاتهم كما يصفون في قتالهم ، دويهم في مساجدهم كدوي النحل ، يسمع مناديهم في جو السماء .
غريية : ذكر ابن خلكان ، في ترجمة عبد المؤمن بن علي ملك الغرب ، أن أباه كان يعمل الطين فخاراً ، وأنه كان في صغره نائماً في دار أبيه ، وأبوه يعمل في الطين ، فسمع أبوه دوياً في السماء ، فرفع رأسه فرأى سحابة سوداء من النحل قد هوت مطبقة على الدار ، فاجتمعت كلها على ولده وهو نائم ، فغطته وأقامت عليه مدة ، ثم ارتفعت عنه وما تألم منها . وكان بالقرب منهم رجل يعرف الزجر فأخبره أبوه بذلك ، فقال : يوشك أن يجتمع على ولدك جميع أهل المغرب فكان كذلك . وكان من أمر ولده ما اشتهر من ملك المغرب الأعلى والأدنى ، ومات عبد المؤمن في جمادى الآخرة سنة ثمان وخمسين وخمسمائة . وقد تقدمت الإشارة إلى ذكر موته ، في باب الجيم ، في الجفرة وجمهور الناس على أن العسل يخرج من أفواه النحل ، وروي عن علي رضي الله تعالى عنه قال : تحقيراً للدنيا أشرف لباس ابن آدم فيها لعاب دودة ، وأشرف شرابه فيها رجيع نحلة وظاهر هذا أنه من غير الفم ، كذا نقله عنه ابن عطية .
والمعروف عنه أنه قال : إنما الدنيا ستة أشياء : مطعوم ومشروب وملبوس ومركوب ومنكوح ومشموم ، فأشرف المطعوم العسل ، وهو مذقة ذباب ، وأشرف المشروب الماء ، ويستوي فيه البر والفاجر ، وأشرف الملبوس الحرير ، وهو نسج دودة ، وأشرف المركوب الفرس ، وعليه تقتل الرجال ، وأشرف المشموم المسك ، وهو دم حيوان ، وأشرف المنكوح المرأة ، وهو مبال في مبال . والمحقق أن العسل يخرج من بطونها ، لكن لا يدري أمن فمها أو من غيره ، لكن لا يتم صلاحه إلا بحمي أنفاسها . فقد صنع ارسطاطالبس بيتاً من زجاج لينظر إلى كيفية ما تصنع فأبت أن تعمل حتى لطخته من باطن الزجاج بالطين كذا قاله الغزنوي وغيره .
وروينا في تفسير الكواشي الأوسط ، أن العسل ينزل من السماء فيثبت في أماكن من الأرض فيأتي النحل فيشربه ، ثم يأتي الخلية ، فيلقيه في الشمع المهيأ للعسل في الخلية ، لا كما يتوهمه بعض(2/467)
"""""" صفحة رقم 468 """"""
الناس من أن العسل من فضلات الغذاء ، وأنه قد استحال في المعدة عسلاً ، هذه عبارته . والله أعلم .
لطيفة : اعلم أن الله تعالى جمع في النحلة السم والعسل دليلاً على كمال قدرته ، وأخرج منها العسل ممزوجا بالشمع . وكذلك عمل المؤمن ممزوجاً بالخوف والرجاء . وفي العسل ثلاثة أشياء : الشفاء والحلاوة واللين ، وكذلك المؤمن ، قال الله تعالى : " ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله " ويخرج من الشاب خلاف ما يخرج من الكهل والشيخ ، وكذلك حاد المقتصد والسابق ، وأمرها الله تعالى بأكل الحلال ، حتى صار لعابها شفاء ودواء . وكل الذباب في النار إلا النحل . ودواء الأطباء مر ، ودواء الله حلو وهو العسل . وهي تأكل من كل الشجر ، ولا يخرج منها إلا حلواً ، ولا يغيرها اختلاف مأكلها . والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه وقوله تعالى : " فيه شفاء للناس " ، لا يقتضي العموم لكل علة ، وفي كل إنسان ، لأنه نكرة في سياق الإثبات ، بل هو خبر عن أنه يشفي كما يشفي غيره من الأدوية في حال دون حال .
وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما ، أنه كان لا يشكو شيئاً إلا تداوى بالعسل ، حتى كان يدهن به الدمل والقرحة والقرصة ، ويقرأ هذه الآيات ، وهذا يقتضي أنه كان يحمله على العموم . وروى ابن ماجه والحاكم عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه ، أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " العسل شفاء من كل داء ، والقرآن شفاء لما في الصدور " ، فعليكم بالشفاءين القرآن والعسل وروى ابن ماجه أيضاً عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " من لعق من العسل ثلاث غدوات من كل شهر لم يصبه عظيم من البلاء " . وحكى النقاش عن أبي وجرة أنه كان يكتحل بالعسل ويتداوى به من كل سقم .
وروي أيضاً عن عوف بن ملك رضي الله تعالى عنه أنه مرض فقال : ائتوني بماء فإن الله تعالى يقول : " ونزلنا من السماء ماء مباركاً " ثم قال : وائتوني بعسل وقرأ الآية ، ثم قال : ائتوني بزيت فإنه من شجرة مباركة . فخلط الجميع ثم شربه فشفي .
وروى البخاري ومسلم والترمذي والنسائي عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه ، قال : جاء رجل إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : إن أخي استطلق بطنه ، فقال عليه الصلاة والسلام : " اسقه عسلاً " ، فسقاه ، ثم جاءه فقال : يا رسول الله إني قد سقيته عسلاً ، فلم يزده إلا استطلاقاً فقال عليه الصلاة والسلام : " اسقه عسلا " . ثلاث مرات ، ثم جاء الرابعة فقال ( صلى الله عليه وسلم ) " اسقه عسلاً " . قال : قد سقيته فلم يزده إلا استطلاقاً ، فقال عليه الصلاة والسلام : " صدق الله وكذب بطن أخيك اسقه عسلاً " فسقاه فبرئ .(2/468)
"""""" صفحة رقم 469 """"""
فائدة : قد اعترض في هذا الحديث ، وفي قوله ( صلى الله عليه وسلم ) " عليكم بهذا العود الهندي " يعني الكست ، فإن فيه سبعة أشفية : منها ذات الجنب ، وقوله ( صلى الله عليه وسلم ) : " الحمى من فيح جهنم فاطفؤها بالماء " ، وقوله ( صلى الله عليه وسلم ) : " إن في الحبة السوداء الشفاء من كل داء إلا السام " يعني الموت . وقوله ( صلى الله عليه وسلم ) : " الكمأة من المن وماؤها شفاء للعين " .
أما من في قلبه مرض من الملحدة فقال : الأطباء مجمعون على أن العسل مسهل ، فكيف يوصف لمن به الإسهال ؟ ومجمعون أيضاً على أن استعمال المحموم الماء البارد مخاطرة ، وقرب من الهلاك ، لأنه يجمع المسام ويحقن البخار المتحلل ، ويعكس الحرارة إلى داخل الجسم ، فيكون سبباً للتلف ، وينكرون أيضاً مداواة ذات الجنب بالقسط مع ما فيه من الحرارة الشديدة ، ويرون ذلك خطراً ، وهذا الذي قاله المعترض الملحد جهالة بينة وهو فيها كما قال الله تعالى : " بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه " ، ونحن نشرح الأحاديث المذكورة في هذا الموضع ، ونذكر ما قاله الأطباء في ذلك ليظهر جهل هذا المعترض .
اعلم أن علم الطب من أكثر العلوم احتياجاً إلى التفصيل حتى إن المريض يكون الشي الواحد دواء له في ساعة ، ثم يصير داء له في الساعة التي تليها بعارض يعرض له ، من غضب يحمي مزاجه فيتغير علاجه ، أو هواء يتغير ، أو غير ذلك مما لا يحصى كثرة . فإذا وجد الشفاء بشيء في حالة ما لشخص ما ، لم يلزم منه الشفاء به في سائر الأحوال ولجميع الأشخاص ، والأطباء مجمعون على أن المرض الواحد يختلف علاجه ، باختلاف السن والزمان والعادة ، والغذاء المتقدم ، والتدبير المألوف ، وقوة الطباع .
فإذا عرفت هذا ، فاعلم أن الإسهال يحصل من أنواع كثيرة منها الإسهال الحادث من التخم والهيضات . وقد أجمع الأطباء ، في مثل هذا ، على أن علاجه بأن تترك الطبيعة وفعلها ، فإن احتاجت إلى معين على الإسهال ، أعينت مادامت القوة باقية ، وأما حبسها فضرر عندهم . واستعجال مرض ، فيحتمل أن يكون هذا الإسهال لهذا الشخص المذكور في الحديث ، كان من امتلاء هيضة ، فدواؤه ترك الإسهال على ما هو عليه ، أو تقويته فأمره ( صلى الله عليه وسلم ) بأن يسقيه عسلاً فزاده إسهالاً ، فزاده عسلاً إلى أن فنيت المادة فوقف الإسهال . أو يكون الخلط الذي به ، كان يوافقه شراب العسل ، فثبت بما ذكرناه أن العسل جار على صناعة الطب ، وأن المعترض عليه ملحد جاهل بصناعة الطب ، ولسنا نقصد الاستظهار لتصديق الحديث ، بقول الأطباء ، بل لو كذبوه كذبناهم وكفرناهم . فلو وجدنا المشاهدة تصدق دعواهم لتأولنا كلامه ( صلى الله عليه وسلم ) حينئذ وخرجناه على ما يصح .
وقد ذكرنا هذا الجواب وما بعده ، عدة للحاجة إن اعتضدوا بمشاهدة ، وليظهر جهل(2/469)
"""""" صفحة رقم 470 """"""
المعترض ، وأنه لا يحسن الصناعة التي اعترض بها ، وانتسب إليها . وكذلك القول في الماء البارد للمحموم ، فإن المعترض تقول على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ما لم يقل ، فإن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لم يقل أكثر من قوله : " أطفئوها بالماء " ولم يبين صفته وحاله ، والأطباء يسلمون أن الحمى الصفراوية يدبر صاحبها يسقى الماء البارد الشديد البرودة ، ويسقونه الثلج ويغسلون أطرافه بالماء البارد ، فلا يبعد أنه ( صلى الله عليه وسلم ) أراد هذا النوع من الحمى .
وأما إنكاره الشفاء من ذات الجنب بالقسط فباطل أيضاً . فقد قال بعض الأطباء : إن ذات الجنب ، إذا حدثت من البلغم ، كان القسط من علاجها . وقد ذكر جالينوس وغيره من حذاق الأطباء ، أنه ينفع من وجع الصدر . وقال بعض قدماء الأطباء : إنه يستعمل حيث يحتاج إلى إسخان عضو من الأعضاء ، وحيث يحتاج إلى جذب خلط من باطن البدن إلى ظاهره . وهكذا قال الرئيس ابن سينا وغيره من فحول الأطباء ، وهذا يبطل ما زعمه هذا المعترض الملحد .
وأما قوله ( صلى الله عليه وسلم ) : " فيه سبعة أشفية " فقد أطبق الأطباء في كتبهم ، على أنه يدر الطمث والبول ، وينفع من السموم ، ويحرك شهوة الجماع ، ويقتل الدود وحب القرع ، الذي في الأمعاء ، إذا شرب بعسل ، ويذهب الكلف ، إذا طلي عليه . وينفع من برودة المعدة والكبد ، ومن الحمى الورد والربع وغير ذلك . وهو صنفان : بحري وهندي ، فالبحري هو القسط الأبيض ، وقيل هو أكثر من صنفين ونص بعضهم على أن البحري أفضل من الهندي ، وأقل حرارة منه ، وقيل : هما حاران يابسان لا الدرجة الثالثة ، والهندي أشد حرارة منه فيها . وقال الرئيس ابن سينا : القسط حار في الثالثة ، يابس في الثانية . وقد اتفق الأطباء على هذه المنافع التي ذكرناها في القسط ، وهو العود الهندي المذكور في الحديث ، فصار ممدوحاً شرعاً وطباً . وإنما عددنا منافع القسط من كتب الأطباء ، لأنه ( صلى الله عليه وسلم ) ذكر منها عدداً مجملا .
وأما قوله ( صلى الله عليه وسلم ) " في الحبة السوداء شفاء من كل داء إلا السام " فيحمل أيضاً على العلل الباردة على نحو ما سبق في القسط ، وهو ( صلى الله عليه وسلم ) قد يصف بحسب ما شاهده من غالب حاد أصحابه ، قال الإمام المازري ، وقال شيخ الإسلام محيي الدين النووي ، وذكر القاضي عياض كلام المازري الذي قدمناه ، ثم قال : وذكر الأطباء في منفعة الحبة السوداء ، التي هي الشونيز ، أشياء كثيرة ، وخواص عجيبة ، يصدقها قوله ( صلى الله عليه وسلم ) . فذكر جالينوس أنها تحلل النفخ ، وتقتل ديدان البطن ، إذا أكلت أو وضعت على البطن ، وتنفع الزكام إذا قليت وصرت في خرقة وشمت ، وتزيل العلة التي ينقش منها الجلد ، وتقطع الثآليل المعلقة والمنكسة والخيلان ، وتمر الطمث المنحبس ، إذا كان احتباسه من أخلاط غليظة لزجة ، وتنفع الصداع إذا طلي بها الجبين ، وتقطع البثور والجرب ، وتدر البول واللبن ، وتحلل الأورام البلغمية ، إذا تضمد بها مع خل . وتنفع من الماء العارض في العين إذا سقط بها مسحوقة بدهن ، وهي تنفع من انصباب المواد أيضاً ، ويتمضمض(2/470)
"""""" صفحة رقم 471 """"""
بها من وجع الأسنان ، وتنفع من نهش الرتيلاء . وإذا بخر بها طردت الهوام .
قال القاضي : وذكر جالينوس أن من خاصيتها إذهاب حمى البلغم والسوداء ، وتقتل حب القرع . وإذا علق الشونيز في عنق المزكوم ينفعه ، وينفع من حمى الربع . قال : ولا تبعد منفعته من أدوية حارة لخواص فيها فقد نجد ذلك في أدوية كثيرة فيكون الشونيز منها لعموم الحديث ، ويكون استعماله أحياناً منفرداً وأحياناً مركباً .
وأما قوله ( صلى الله عليه وسلم ) في الكمأة ، وهي بفتح الكاف وإسكان الميم وبعدها همزة مفتوحة : و " ماؤها شفاء للعين " قيل : هو نفس الماء مجرداً ، وقيل : معناه أن يخلط ماؤها بدواء يعالج به العين ، وقيل : إن كان لتبريد ما في العين من حرارة ، فماؤها مجرداً شفاء ، وإن كان لغير ذلك فيركب مع غيره . قال الإمام النووي : والصحيح ، بل الصواب أن ماءها مجرداً شفاء للعين مطلقاً ، فيعصر ماؤها ، ويجعل في العين منه . قال : وقد رأيت أنا وغيري في زماننا من كان أعمى وذهب بصره حقيقة ، فكحل عينيه بماء الكمأة مجرداً ، فبرئ وعاد بصره إليه . وهو الشيخ العدل الإمام الكمال الدمشقي صاحب فقه ورواية للحديث . وكان استعماله ماء الكمأة اعتقاداً في حديث النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وتبركاً به ، فشفاه الله لذلك .
ففي هذا الحديث والأحاديث المتقدمة بيان لما حواه النبي ( صلى الله عليه وسلم ) من علوم الدين والدنيا ، وصحة علم الطب ، وجواز التطبب في الجملة ، واستحبابه لما ذكر في الأحاديث الصحيحة من الحجامة وشرب الأدوية والسعوط ، وقطع العروق والرقى وغير ذلك من الأدوية ، ولا خفاء أن تعالى في مخلوقاته حكماً وأسراراً ، ولم يخلق جل جلاله داء إلا وخلق له دواء علمه من علمه وجهله من جهله والله أعلم .
وذهبت طائفة إلى أن هذه الآية " وأوحى ربك إلى النحل " إنما يراد بها أهل البيت من بني هاشم ، وأنهم النحل وأن الشراب هو القرآن ، وقد ذكر بعضهم هذا في مجلس أبي جعفر المنصور فقال له رجل : جعل الله طعامه وشرابه مما يخرج من بطون بني هاشم ، فأضحك الحاضرين وأبهت القائل .
فائدة أخرى : اعلم أن للعسل أسماء كثيرة منها السنوت كسفود وسنور ، وفي الحديث " عليكم بالسنى والسنوت " ومنها السلوى لأنه يسلي عن كل حلو ، قال خالد بن زهير الهذلي :
وقاسمها بالله جهد الأنتم . . . ألذ من السلوى إذا ما نشورها
ومن أسمائه الحافظ والأمين ، لأنه يحفظ ما يودع فيه ، فيحفظ الميت أبداً واللحم ثلاثة أشهر ، والفاكهة ستة أشهر . روى أصحاب الكتب الستة ، عن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها ، أن النبي ( صلى الله عليه وسلم )(2/471)
"""""" صفحة رقم 472 """"""
" كان يحب الحلواء ، ويشرب العسل " . قال العلماء : المراد بالحلواء هنا كل حلو ، وذكر العسل بعدها تنبيهاً على شرفه ومرتبته ومزيته ، وهو من باب ذكر الخاص بعد العام . والحلواء بالمد ، وفيه جواز أكل لذيذ الأطعمة والطيبات من الرزق ، وأن ذلك لا ينافي الزهد والمراقبة لا سيما إذا حصل ذلك اتفاقاً .
وفي تاريخ أصبهان ، في ترجمة أحمد بن الحسن ، عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما ، أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " أول نعمة ترفع من الأرض العسل " . وكان مالك بن الحارث بن عبد يغوث النخعي الكوفي ، المعروف بالأشتر من شيعة أمير المؤمنين علي رضي الله تعالى عنه ، وكان تابعياً رئيس قومه ، وله بلاء حسن في وقعه اليرموك ، وذهبت عينه يومئذ ، وكان فيمن شهد حصار عثمان رضي الله تعالى عنه ، وشهد وقعة الجمل وصفين . وكان عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه إذا رآه صرف نظره عنه وقال : كفى الله أمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) شره . ولاه علي رضي الله تعالى عنه مصر ، بعد قيس بن سعد بن عبادة بن دليم ، فلما وصل إلى القلزم شرب شربة عسل فمات .
فلما بلغ ذلك علياً رضي الله تعالى عنه ، قال : لليدين والفم . وقال عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه ، حين بلغه ذلك : إن لله جنوداً من العسل . وقيل : إن الذي قال ذلك معاوية بن أبي سفيان رضي الله تعالى عنهما . وهو الذي سمه . وقيل : إن الذي سمه كان عبداً لعثمان رضي الله تعالى عنه . وكانت وفاته في شهر رجب سنة سبع وثلاثين . روى له النسائي حديثين . وفي أخبار الحجاج بن يوسف أنه كتب إلى عامله بفارس : أرسل إلي من عسل خلار من النحل الأبكار ، ومن الدستفشار الذي لم تمسه النار . يريد بالأبكار فراخ النحل ، لأن عسلها أطيب وأصفى . وخلار موضع بفارس مشهور بجودة العسل والدستفشار كلمة فارسية معناها ما عصرته الأيدي .
الحكم : كره مجاهد قتل النحل ، ويحرم أكلها على الأصح ، وإن كان عسلها حلالا ، كالآدمية لبنها حلال ولحمها حرام . وأباح بعض السلف أكلها كالجرادة ، وهو وجه ضعيف في المذهب . ويحرم قتلها ، والدليل على الحرمة نهي النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عن قتلها . وفي الإبانة ، في كتاب الحج ، يكره قتلها ، وما ذكره الفوراني في الإنابة من الكراهة وذكره غيره من التحريم مفرع ، على منع الأكل ، فإن أبحناه جاز قتله كالجراد ، وكان القياس جواز قتل النحل ، لأنه من ذوات الإبر ، وما فيه من المنفعة يعارض بالضرر ، لأنه يصول ويلدغ الآدمي وغيره .
وقد ذكر الرافعي ، في كتاب الحج ، أنه يجوز قتل الصقر والبازي من الجوارح ونحوها كما تقدم في الكلام عليها ، في أماكنها ، وعلله بأن المنفعة فيها معارضة بالمضرة ، وهو اصطيادها طيور الناس ، فجعلوا المضرة التي فيها مبيحة لقتلها ، ولم يجعلوا المنفعة التي فيها عاصمة من القتل . إلا أنه ( صلى الله عليه وسلم ) " نهى عن قتل النحل " ، كما تقدم ، ولا شيء في قوله ( صلى الله عليه وسلم ) إلا طاعة الله بالتسليم لأمره ( صلى الله عليه وسلم ) .
وأما بيع النحل ، وهو في الكوارة فصحيح إن رؤى جميعه ، وإلا فهو بيع غائب ، فإن باعها(2/472)
"""""" صفحة رقم 473 """"""
وهي طائرة ففي التتمة يصح ، وفي التهذيب عكسه . وصورة المسألة أن تكون الأم في الكوارة كما قاله ابن الرفعة ، وإلا صح من الوجهين الصحة . والفرق بينها وبين باقي الطير من وجهين : أحدهما أنها لا تقصد بالجوارح بخلاف غيرها ، والثاني أنها لا تأكل في الغالب والعادة إلا مما ترعاه ، فلو توفق في صحة البيع على حبسها لربما أضر بها أو تعذر بسببه بيعها ، بخلاف غيرها من الطيور .
وقال أبو حنيفة : لا يصح بيع النحل كالزنبور وسائر الحشرات ، واحتج أصحابنا بأنه حيوان طاهر منتفع به ، فجاز بيعه كالشاة والحمام بخلاف الزنبور والحشرات ، فإنه لا منفعة فيها كدود القز ، ويبقى لها في الكوارة شيئاً من العسل ، فإن كان الاشتيار في الشتاء وتعذر الخروج ، يكون المبقي أكثر . فإن أغنى عن العسل غيره ، لم يتعين إبقاء العسل . وقد قيل تشوى دجاجة وتعلق على باب الكوارة لتأكل منها .
الأمثال : قالوا : أنحل من نحلة مأخوذ من النحول وهو الهزال ، وقالوا : أهدى من نحلة وقالوا : كلام كالعسل وفعل كالأسل وهي الرماح يضرب في اختلاف القول والفعل . الخواص : العسل حر يابس ، جيده الشهد وهو مدر للبول مسهل يهيج القيء . وهو معطش ويستحيل إلى الصفراء يولد دماً حاراً ، فإن طبخ بالماء ونزعت رغوته ذهبت حدته ، وقلت حلاوته ونفعه ، وكثر غذاؤه وإدراره للبول واطلاقه ، وأجوده الخريفي الصادق الحلاوة ، والكثير الربيعي المائل إلى الحمرة . ويدفع مضرته التفاح المز ، وكل ما أسرع إليه الفساد من لحم وغيره إذا وضع في العسل طالت مدة مقامه ، وإذا خلط العسل الذي لم يصبه ماء ولا نار ولا دخان بشيء من المسك واكتحل به نفع من نزول الماء في العين ، والتلطخ به يقتل القمل والصئبان ، ولعقه علاج لعضة الكلب الكلب ، والمطبوخ منه نافع من السموم ، ومن خاصية الشمع أن من استصحبه وقيل أكله أورثه الغم لكن لا يصيبه الاحتلام .
التعبير : النحل في الرؤيا خصب وغنى لمن قناه مع خطر ، ومن رأى كوارة نحل واستخرج منها عسلا نال مالا حلالا ، فإن أخذ العسل كله ولم يترك للنحل شيئاً ، فإنه يجوز على قوم ، فإن ترك للنحل شيئاً فإنه يعدل إن كان والياً أو طالب حق ، ومن رأى النحل يقع على رأسه نال ولاية ورياسة ، وإن رأى ذلك ملك نال ملكاً ، وكذلك إذا حل بيده . والنحل للفلاحين دليل خير ، وأما الجندي وغير الفلاحين فدليل مخاصمة ، وذلك لصوته ولدغه . والنحل يدل على العسكر ، لأنه أميره كما يتبع العسكر أميره . ومن قتل نحلا فهو عدو ، ولا يحمد قتل النحل للفلاح ، لأنه رزقه ومعاشه . والنحل يدل على العلماء وأصحاب التصنيف ، وربما دل على الكد والكسب والجباية .
وأما العسل فإنه في المنام مال حلال بلا تعب ، وهو شفاء من المرض لقوله تعالى : " يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس " ومن رأى أنه يطعم الناس العسل ، فإنه يسمعهم الكلام الحسن والقرآن بلحن طيب ، ومن رأى كأنه يلعق عسلا فإنه يتزوج ،(2/473)
"""""" صفحة رقم 474 """"""
لقوله ( صلى الله عليه وسلم ) لامرأة رفاعة رضي الله عنهما : " حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك " . وأكل العسل عناق حبيب وتقبيله .
وأما الشهد فإنه ميراث من حلال أو مال من شركة ، وقال ابن سيرين : الشهد رزق حلال لأن النار لا تمسه ، ومن رأى بين يديه شهداً موضوعاً ، فإن عنده علماً عزيزاً والناس يريدون سماعه منه ، والشهد إذا كان وحده ، فهو مال من غنيمة ، فإن كان في وعاء فهو رجل صاحب علم ومال حلال ، وهو للزاهد الغني مال وبر ودين ، ومن رأى كأنه يأكل الشهد وفوقه العسل ، فإنه ينكح أمة والله تعالى أعلم .
النحوص : بفتح النون وضم الحاء والصاد المهملتين الأتان الحائل ، والجمع نحص ونحاص .
النسر : طائر معروف وجمعه في القلة أنسر ، وفي الكثرة نسور ، وكنيته أبو الأبرد وأبو الإصبع وأبو مالك وأبو المنهال وأبو يحيى ، والأنثى يقال لها أم قشعم . وسمي نسراً لأنه ينسر الشيء ويبتلعه ، وهو عريف الطير ، ويقول في صياحه : ابن آدم عش ما شئت ، فإن الموت ملاقيك . كذا قاله الحسن بن علي رضي الله تعالى عنهما .
قلت : وفي هذا مناسبة لما خص النسر به من طول العمر ، يقال : إنه من أطول الطير عمراً ، وأنه يعمر ألف سنة ، وقصة لبد تأتي إن شاء الله تعالى ، في الأمثال . والنسر ذو منسر ، وليس بذي مخلب ، وإنما له أظفار حداد كالمخالب . والبازي والنسر يسفدان كما يسفد الديك . وزعم قوم أن الأنثى من هذا النوع ، تبيض من نظر الذكر إليها ، وهي لا تحضن وإنما تبيض في الأماكن العالية الضاحية للشمس ، فيقوم حر الشمس للبيض مقام الحضن ، وهو حاد البصر يرى الجيفة من أربعمائة فرسخ ، وكذلك حاسة شمه في النهاية ، لكنه إذا شم الطيب مات لوقته ، وهو أشد الطير طيراناً ، وأقواها جناحاً ، حتى إنه ليطير ما بين المشرق والمغرب في يوم واحد ، وإذا وقع على جيفة وعليها عقبان تأخرت ، ولم تأكل ما دام يأكل منها ، وكل الجوارح تخافه ، وهو شره نهم رغيب إذا وقع على جيفة وامتلأ منها ، لم يستطع الطيران حتى يثب وثبات ، يرفع بها نفسه طبقة بعد طبقة في الهواء حتى يدخل تحت الريح ، وربما صاده الضعيف من الناس في هذه الحالة ، والأنثى منه تخاف على بيضها وفراخها الخفاش ، فتفرش في وكرها ورق الدلب لينفر منه ، وهو من أشد الطير حزناً على فراق إلفه ، فإذا فارق أحدهما الآخر مات حزناً وكمداً . ومن غريب ما ألهم أنه إذا حملت أنثاه ، ذهب إلى الهند فأخذ من هناك حجراً كهيئة الجوزة ، إذا حرك سمع له حس حجراً آخر متحرك ، كصوت الجرس فإذا جعله عليها أو تحتها أذهب عنها العسر ، وهذا بعينه قاله القزويني في العقاب ، وقد تقدم في باب العين . وليس في سباع الطير أكبر جثة منه ، ويقال للنسر أيضاً أبو الطير قال الشاعر :
فلا وأبي الطير المريه في الضحى . . . على خالد لقد وقعت على لحم(2/474)
"""""" صفحة رقم 475 """"""
والنسر سيد الطير ، روى اليافعي ، في كتاب نفحات الأزهار ولمحات الأنوار ، عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه ، أنه قال : سمعت حبيبي رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول : " هبط علي جبريل فقال : يا محمد إن لكل شيء سيداً ، فسيد البشر آدم ، وسيد ولد آدم أنت ، وسيد الروم صهيب وسيد فارس سليمان ، وسيد الحبش بلال ، وسيد الشجر السدر ، وسيد الطير النسر ، وسيد الشهور رمضان ، وسيد الأيام يوم الجمعة ، وسيد الكلام العربية ، وسيد العربية القرآن ، وسيد القرآن سورة البقرة " .
وروى الطبراني ، في معجمه الأوسط ، عن عائشة رضي الله تعالى عنها أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " يا رب أخبرني بأكرم خلقك عليك " ؟ فقال جلا وعلا : الذي يسرع إلى هواي إسراع النسر هواه . والحديث يأتي إن شاء الله تعالى بتمامه في النمر .
وفي شعب الإيمان للبيهقي ، عن علي بن هارون العبدي ، قال : سمعت الجنيد رضي الله عنه يقول : حق الشكر أن لا يعصي الله فيما أنعم ، ومن كان لسانه رطباً بذكر الله تعالى ، دخل الجنة وهو يضحك . وقال : إن لله عباداً يأوون إلى ذكر الله ، كما يأوي النسر إلى وكره .
وفي الحلية ، في ترجمة وهب بن منبه وغيرها ، عن وهب بن منبه ، قال : إن بختنصر مسخ أسداً فكان ملك السباع ، ثم مسخ نسراً فكان ملك الطير ، ثم مسخ ثوراً فكان ملك الدواب . وكان مسخه سبع سنين ، وقلبه في ذلك كله قلب إنسان ، وهو في ذلك كله يعقل عقل الإنسان ، وكان ملكه قائماً . ثم رده الله إلى بشريته ، ورد عليه روحه ، فدعا إلى توحيد الله وقال : كل إله باطل إلا الله إله السماء . فقيل لوهب : أمات مسلماً ؟ فقال : وجدت أهل الكتاب قد اختلفوا فيه ، فقال بعضهم : آمن قبل أن يموت . وقال بعضهم : قتل الأنبياء ، وخرب بيت الله المقدس ، وأحرق كتبه ، فغضب الله عليه فلم يقبل منه التوبة انتهى .
قال السدي : إن بختنصر ، لما رجع إلى صورته ، ورد الله عليه ملكه ، كان دانيال وأصحابه ، من أكرم الناس عليه ، فحسدتهم المجوس ، وقالوا لبختنصر : إن دانيال إذا شرب لم يملك نفسه أن يبول ، وكان ذلك فيهم عاراً ، فجعل لهم طعاماً فأكلوا وشربوا ، وقال للبواب : انظر أول من يخرج للبول ، فاضربه بالطبر ، فإن قال : أنا بختنصر ، فقل : كذبت بختنصر أمرني بقتلك ، فكان أول من قام للبول بختنصر ، فلما رآه البواب ، شد عليه فقال : أنا بختنصر ، فقال البواب : كذبت بختنصر أمرني بقتلك ، ثم ضربه فقتله . هكذا قال أصحاب المبتدا . وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه أنه قال : إن نمرود الجبار ، لما حاج إبراهيم عليه الصلاة والسلام في ربه ، قال : إن كان ما يقوله إبراهيم حقاً ، فلا أنتهي حتى أصعد إلى السماء فأعلم ما فيها ، فعمد إلى أربعة أفراخ من النسور ، فرباها حتى شبت ، واتخذ تابوتاً ، فجعل له باباً من أعلاه وباباً من أسفله ، وقعد نمرود مع رجل في التابوت ، ونصب خشبات في أطراف التابوت ، وجعل على رؤوسها اللحم ، وربط التابوت بأرجل النسور وخلاها ، فطارت وصعدت طمعاً في اللحم ، حتى مضى يوم وأبعدت في الهواء ، فقال نمرود لصاحبه : افتح الباب الأعلى وانظر إلى السماء هل قربنا منها ؟ ففتح ونظر ، فقال : إن السماء كهيئتها ثم قال له : افتح(2/475)
"""""" صفحة رقم 476 """"""
الباب الأسفل ، وانظر إلى الأرض ، كيف تراها ؟ ففعل وقال : أرى الأرض مثل اللحة والجبال مثل الدخان ، فطارت النسور يوماً آخر وارتفعت ، حتى حالت الريح بينها وبين الطيران ، فقال لصاحبه : افتح البابين وانظر ففتح الأعلى ، فإذا السماء كهيئتها ، وفتح الأسفل فإذا الأرض سوداء مظلمة . ونودي : أيها الطاغية إلى أين تريد ؟ وقال عكرمة : كان معه في التابوت غلام ، قد حمل قوساً ونشاباً ، فرمى بسهم ، فعاد إليه السهم ملطخاً بدم سمكة ، قذفت بنفسها من بحر في الهواء ، وقيل بدم طائر أصابه السهم . فقال : كفيت إله السماء . قال : ثم إن النمرود ، أمر صاحبه أن يصوب الخشبات ، وينكس اللحم ففعل ، فهبطت النسور بالتابوت ، فسمعت الجبال هفيف التابوت والنسور ، ففزعت وظنت أنه قد حدث حادث من السماء ، وأن الساعة قد قامت ، فكادت تزول عن أماكنها . فذلك قوله تعالى : " وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال " قرأ ابن مسعود رضي الله عنه إن كاد بالدال المهملة وقرأ العامة بالنون وقرأ ابن جريج والكسائي لتزول بفتح اللام الأولى ورفع الثانية ، وقرأ العامة بكسر اللام الأولى ونصب الثانية . قال الجوهري : نسر صنم لذي الكلاع بأرض حمير ، وكان يغوث لمذحج ، ويعوق لهمدان من أصنام قوم نوح عليه السلام . قال الله تعالى : " ولا يغوث ويعوق نسرا " انتهى .
وإلى هذا أشار العباس رضي الله تعالى عنه ، عم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، لما أتى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) منصرفه من تبوك ، فقال : يا رسول الله إني أريد أن أمتدحك ، فقال له رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : " قل لا يفضض الله فاك " . فأنشد العباس رضي الله تعالى عنه يقول :
من قبلها طبت في الظلال وفي . . . مستودع حيث يخصف الورق
ثم هبطت البلاد لا بشر . . . أنت ولا مضغة ولا علق
بل نطفة تركب السفين وقد . . . ألجم نسراً وأهله الغرق
تنقل من صالب إلى رحم . . . إذا مضى عالم بدا طبق
وردت نار الخليل مكتتما . . . في صلبه أنت كيف يحترق
حتى احتوى بيتك المهيمن من . . . خندق علياء تحتها النطق
وأنت لما ولدت أشرقت الأر . . . ض وضاعت بنورك الأفق
فنحن في ذلك الضياء وفي النو . . . ر وسبل الرشاد نخترق
تتمة : روى الدارقطني ، عن عقبة بن عامر الجهني ، رضي الله تعالى عنه ، قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : " لما عرج بي إلى السماء الدنيا ، دخلت جنة عدن ، فوقعت في يدي تفاحة ، فلما وضعتها في يدي انقلبت حوراء عيناء مرضية ، أشفار عينها كمقادم النسور ، فقلت لها : لمن أنت . فقالت : للخليفة بعدك " .
الحكم : يحرم أكله لاستخباثه ، وأكله الجيف .(2/476)
"""""" صفحة رقم 477 """"""
الأمثال : قالوا : أعمر من نسر وقالوا : أتى الأبد على لبد وهذا اللبد الذي هو آخر نسور لقمان بن عاد . وكان لقمان بن عاد الأصغر ، قد سيره قومه ، وهم عاد الذين ذكرهم الله في كتابه العزيز ، إلى الحرم يستسقي لهم ، ومعه رهط من قومه ، فلما قدموا مكة نزلوا على معاوية بن بكر ، وهو بظاهر مكة خارج الحرم ، فأنزلهم وأكرمهم ، وكانوا أخواله وأصهاره ، فأقاموا عنده شهراً ، وكان مسيرهم شهراً . فلما رأى معاوية بن بكر طول مقامهم ، وقد بعثهم قومهم يتغوثون لهم ، من البلاء الذي أصابهم ، شق ذلك عليه ، فقال : هلك أخوالي وأصهاري ، وهؤلاء مقيمون عندي ، وهم ضيفي ، والله ما أدري كيف أصنع بهم . فشكا ذلك من أمرهم إلى قينتيه الجرادتين فقالتا : قل شعراً لا يدرون من قاله ، لعل ذلك يحركهم فقال شعراً يؤنبهم فيه ويذكرهم الأمر الذي وفدوا لأجله ، فلما غنتهم الجرادتان شعره ، قال بعضهم لبعض : إنما بعثكم قومكم يتغوثون بكم من البلاء الذي نزل بهم وقد أبطأتم عليهم ، فادخلوا هذا الحرم فاستسقوا لقومكم .
فقال مرثد بن سعد ، وكان قد آمن بهود عليه الصلاة والسلام سراً : إنكم والله لا تسقون بدعائكم ، ولكن إن أطعتم نبيكم ، وأنبتم إلى ربكم سقيتم . فأظهر إسلامه عند ذلك ، وقال شعراً يذكر فيه إسلامه . فقالوا لمعاوية بن بكر : احبس عنا مرثد بن سعد ، فلا يقدمن معنا مكة ، فإنه قد اتبع دين هود وترك ديننا .
ثم خرجوا إلى مكة يستسقون لعاد ، فلما ولوا إلى مكة خرج مرثد بن سعد من منزل معاوية بن بكر ، حتى أدركهم قبل أن يدعوا الله بشيء مما خرجوا له ، فلما انتهى إليهم ، قام يدعو الله ، ووفد عاد يدعون . فقال : اللهم أعطني سؤلي وحدي ولا تدخلني في شيء مما يدعوك به وفد عاد .
وكان قيل بن عتر رأس وفد عاد ، فقال وفد عاد : اللهم أعط ما سألك ، واجعل سؤلنا مع سؤله . فقال قيل : يا إلهنا إن كان هود صادقاً ، فاسقنا فإنا قد هلكنا . فأنشأ الله سحائب ثلاثاً : بيضاء وحمراء وسوداء ، ثم ناداه مناد من السحاب : يا قيل ، اختر لنفسك وقومك من هذه السحائب ، فقال قيل : اخترت السحابة السوداء ، فإنها أكثر السحائب ماء ، فناداه مناد : اخترت رماداً رمداً لا يبقي من آل عاد أحداً .
وساق الله السحابة السوداء التي اختارها قيل ، بما فيها من النقمة ، إلى عاد حتى خرجت عليهم من واد يقال له المغيث ، فلما رأوها استبشروا وقالوا : هذا عارض ممطرنا ، يقول الله عز وجل : " بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم " الآية .
وكان أول من أبصر ما فيها ، وعرف أنها ريح مهلكة ، امرأة من عاد ، يقال لها مهدو ، فلما تبينت ما فيها صاحت ثم صعقت ، فلما أفاقت ، قالوا لها : ماذا رأيت ؟ قالت : رأيت ريحاً فيها كشهب النار ، أمامها رجال يقرعونها فسخرها الله عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوماً فلم تدع من عاد أحداً إلا أهلكته . واعتزل هود ومن معه من المؤمنين في حظيرة ، ما يصيبه ومن معه ، من(2/477)
"""""" صفحة رقم 478 """"""
الريح إلا ما يلين عليهم ويلذ الأنفس ، وإنها لتمر من عاد بالظعن ، فتحملهم بين السماء والأرض وتدمغهم بالحجارة حتى هلكوا عن آخرهم . فلما هلكت عاد خير لقمان بين أن يعيش عمر سبع بقرات سمر من أظب عفر ، في جبل وعر لا يمسها القطر ، أو عمر سبعة أنسر ، كلما هلك نسر خلف من بعده نسر ، وكان قد سأل الله تعالى طول العمر ، فاختار النسور فكان يأخذ الفرخ حين خروجه من البيضة فيربيه فيعيش ثمانين سنة ، هكذا حتى هلك منها ستة فسمى السابع لبداً . فلما كبر وهرم وعجز عن الطيران ، كان يقول له لقمان : انهض لبد ، فلما هلك لبد مات لقمان . وروي أن الله تعالى أمر الريح فهالت عليهم الرمال ، فكانوا تحت الرمل سبع ليال وثمانية أيام ، لهم أنين تحت الرمل ، ثم أمر الله الريح فكشفت عنهم الرمل ، وأرسل طير أسود ، فنقلتهم إلى البحر فألقتهم فيه ، ولم تخرج ريح قط إلا بمكيال إلا يومئذ ، فإنها عتت عن الخزنة فغلبتهم فلم يعلموا كم كان مكيالها .
وفي الحديث أنها خرجت على قدر خرم الخاتم .
وروي عن علي رضي الله تعالى عنه ، أنه قال : إن قبر نبي الله هود عليه الصلاة والسلام بحضرموت ، في كثيب أحمر .
وقال عبد الرحمن بن سابط : بين الركن والمقام وزمزم اقبر تسعة وتسعين نبياً منهم هود وشعيب وصالح وإسماعيل صلى الله عليهم وسلم . وقد ذكرت العرب لبداً في أشعارها كثيراً فمن ذلك قول النابغة الذبياني :
أضحت خلاء وأضحى أهلها احتملوا . . . أخنى عليها الذي أخنى على لبد
وقد تقدم ما قاله الشاعر في ذكر لبد في باب اللام . الخواص : إذا جعل قلب النسر في جلد ذئب ، وعلق على إنسان ، كان محبوباً مهاباً مقضي الحاجة عند السلطان وغيره ، ولا يضره سبع أبداً . وإن عسر وضع امرأة فوضع تحتها ريشة من ريشه أسرعت الولادة . وإذا أخذ عظم كبير من عظامه وعلق على من يخدم الملوك والسلاطين أمن غضبهم ، وكان محبوباً عندهم . وعظم فخذه الأيسر إن علق على من به سجج قديم نفعه وأبرأه . وعقب ساقه إن علق على من به النقرس أبرأه الأيمن للأيمن والأيسر للأيسر . وإن دخن بريشة من ريشه في بيت فيه هوام طردها ، ولم يبق فيه شيء منها . وكبده إذا شويت واحترقت وشربت نفعت للباه منفعة عظيمة . وإن أخذ بيضه وضرب بعضه ببعض حتى يختلط ، ويمسح به الإحليل ثلاثة أيام قوي قوة عجيبة . ومرارته تنفع من الماء النازل في العين إذا اكتحل بها سبع مرات بماء بارد ، وطلي بها حول العين . وإن علق فكه الأعلى على عنق إنسان في خرقة لم يقربه شيء من الهوام .
التعبير : النسر في المنام ملك فمن رأى نسراً نازعه ، فإن سلطاناً يغضب عليه ويوكل به ظالماً ، لأن سليمان عليه الصلاة والسلام وكل النسر على الطير ، فكانت تخافه .(2/478)
"""""" صفحة رقم 479 """"""
ومن ملك نسراً مطاعاً أصاب ملكاً عظيماً ، ومن ملك نسراً فطار به ، وهو لا يخافه ، فإنه يعلو أمره ويصير جباراً عنيداً لما تقدم عن النمرود . ومن أصاب فرخ نسر ولد له ولد يكون عظيماً هادياً ، فإن رأى ذلك نهاراً ، فإنه يمرض ، فإن خدشه ذلك الفرخ طال مرضه . ورؤيت النسر المذبوح تدل على موت ملك من الملوك . ومن رأى النسر من النساء الحوامل فإنها ترى المراضع والدايات .
وقالت اليهود : النسر يفسر بالأنبياء الصالحين ، لأن في التوراة شبه الصالحين بالنسر ، الذي يعرف وطنه ويرفرف على فراخه ويزقها . وقال إبراهيم الكرماني : النسر يعبر بأكبر الملوك لأن الله تعالى خلق ملكاً على صورته ، وهو موكل بأرزاق الطير . وقال جاماست : من رأى نسراً أو سمع صياحه ، خاصم إنساناً .
وقال ابن المقري : من ملك نسراً أو تحكم عليه نال عزاً وسلطاناً ونصرة على أعدائه ، وعاش عمراً طويلا فإن كان الرائي من أهل الجهد والاجتهاد انقطع عن الناس واعتزلهم ، وعاش منفرداً لا يأوي إلى أحد . وإن كان ملكاً انتصر على أعدائه ، وربما صالحهم وأمن شرهم ومكايدهم وانتفع بما عندهم من السلاح والمال ، وإن كان من عوام الناس نال منزلة تليق به أو مالا وانتصر على أعدائه . وربما دلت رؤية النسر على البدعة والضلالة عن الهدى ، نعوذ بالله من ذلك لقوله تعالى : " ولا يغوث ويعوق ونسراً وقد أضلوا كثيراً " . ورؤية المؤنث منها نساء خواطئ ، وصغار أولاد زنا ، وكذلك العقاب . قال : وربما دلت رؤيتها على الموت لاقتناصها الأرواح ، وأكلها الميتة والجيفة . وربما دل النسر على الغيرة على العيال والله تعالى أعلم .
النساف : بفتح النون وتشديد السين طائر له منقار كبير ، قاله ابن سيده .
النسناس : قال في المحكم هو خلق في صورة الناس مشتق منهم لضعف خلقهم ، وقال في الصحاح : هو جنس من الخلق يثب أحدهم على رجل واحدة انتهى .
وقال المسعودي ، في مروج الذهب : إنه حيوان كالإنسان له عين واحدة ، يخرج من الماء ويتكلم . ومتى ظفر بالإنسان قتله . وفي كتاب القزويني ، قال في الأشكال : إنه أمة من الأمم ، لكل واحد منهم نصف بدن ونصف رأس ويد ورجل ، كأنه إنسان شق نصفين يقفز على رجل واحدة قفزاً شديداً ، ويعدو عدواً شديداً منكراً ويوجد في جزائر بحر الصين .
وفي المجالسة للدينوري ، عن ابن قتيبة عن عبد الرحمن بن عبد الله أنه قال : قال ابن إسحاق : النسناس خلق باليمن ، لأحدهم عين ويد ورجل ، يقفز بها ، وأهل اليمن يصطادونهم فخرج قوم لصيدهم ، فرأوا ثلاثة نفر منهم ، فأدركوا واحداً منهم فعقروه وتوارى اثنان في الشجر ، فذبح الذي عقر فقال أحدهم لصاحبه : إنه لسمين ، فقال أحد الاثنين : إنه كان يأكل الضرو فأخذوه فذبحوه . فقال الذي ذبحه : ما أنفع الصمت فقال الثالث : فأنا الصميت فأخذوه فذبحوه .(2/479)
"""""" صفحة رقم 480 """"""
قال ابن سيده : الضر والبطم ، وهو شجر الحبة الخضراء ، كذا يسميه أهل اليمن . وقال الميداني ، في باب الهمزة من الأمثال : قال أبو الدقيس : إن الناس كانوا يأكلون النسناس ، وهم قوم لكل منهم يد ورجل ونصف رأس ونصف بدن يقال : إنهم من نسل أرم بن سام أخي عاد وثمود ليست لهم عقول ، يعيشون في الآجام على ساحل بحر الهند والعرب ، يصطادونهم ويأكلونهم وهم يتكلمون بالعربية ، ويتناسلون ويتسمون بأسماء العرب ، ويقولون الأشعار . وفي تاريخ صنعاء أن رجلا تاجراً سافر إلى بلادهم ، فرآهم يثبون على رجل واحدة ، ويصعدون الشجر ، ويفرون من الكلاب خوفاً أن تأخذهم وسمع واحداً منهم يقول :
فررت من خوف الشراة شدا . . . إذ لم أجد من الفرار بدا
قد كنت قدما في زماني جلدا . . . فها أنا اليوم ضعيف جدا
وروى أبو نعيم ، في الحلية عن ابن أبي مليكة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، أنه قال : ذهب الناس وبقي النسناس . قيل : ما النسناس ؟ قال : الذين يتشبهون بالناس ، وليسوا بالناس .
وفي المجالسة للدينوري ، من كلام الحسن البصري ، أنه قال : ذهب الناس وبقي النسناس ، لو تكاشفتم ما تدافنتم . وهو في الفائق ونهاية ابن الأثير وغريب الهروي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه . وقيل : النسناس يأجوج ومأجوج . وقيل : خلق على صورة الناس أشبهوهم في شيء وخالفوهم في شيء وليسوا من بني آدم .
ومنه الحديث " إن حياً من عاد عصوا نبيهم فمسخهم الله نسناساً ، لكل واحد منهم يد ورجل من شق واحد ، ينقرون كما ينقر الطير ، ويرعون كما ترعى البهائم " . ونونها الأولى مكسورة وقد تفتح . وروى أحمد في الزهد ، عن مطرف بن عبد الله أنه قال : عقول الناس على قدر زمانهم . وقال : هم الناس والنسناس وأناس غمسوا في ماء الناس . قال الكريمي : سمعت أبا نعيم يقول : كثيراً ما يعجبني قول عائشة رضي الله تعالى عنها :
ذهب الذين يعاش في أكنافهم
لكن أبا نعيم يقول :
ذهب الناس فاستقلوا وصاروا . . . خلف في أراذل النسناس
في أناس نعدهم من عديد . . . فإذا فتشوا فليسوا بناس
كلما جئت أبتغي النيل منهم . . . بدروني قبل السؤال بياس
وبلوني حتى تمنيت أني . . . منهم قد أقلت رأساً براس
الحكم : قال القاضي أبو الطيب والشيخ أبو حامد : لا يحل أكل النسناس لأنه على خلقة الناس . ولذلك قال الشيخ محب الدين الطبري ، في شرح التنبيه : وأما هذا الحيوان ، الذي تسميه العامة بالنسناس ، فهو نوع من القردة ، لا يعيش في الماء فينبغي تحريم أكله ، لأنه يشبه القردة في(2/480)
"""""" صفحة رقم 481 """"""
الخلقة والخلق والذكاء والفطنة . وأما الحيوان البحري منه ففي حكمه وحل أكله وجهان : أحدهما يحل كغيره من السمك ، واختاره الروباني وغيره .
والثاني يحرم كما تقدم ، وبه قال الشيخ أبو حامد والقاضي أبو الطيب ، وهو عندهما مستثنى مما عدا السمك ، مما لا يعيش إلا في الماء . وترتيب الخلاف فيه : أنا إذا قلنا بتحريم ما عدا الحوت ، حرم النسناس . وإن قلنا بإباحته ، ففي النسناس وجهان : أحدهما التحريم كالضفدع والسرطان والتمساح . والثاني الحل ككلب الماء وإنسانه . وهذا هو الأقرب إلى نص الشافعي . ويشهد له قول صاحب المحكم ، وقول كراع في البحر المتقدم . والنسناس ، فيما يقال ، دابة في عداد الوحش ، تصاد وتؤكل . وهو على شكل الإنسان بعين واحدة ، ورجل واحدة ، ويد واحدة ، يتكلم كالإنسان انتهى . فأفاد قوله أنها تصاد وتؤكل أنها مستطابة ، وقد تقدم عن الدينوري عن أبي إسحاق أن النسناس يصاد ويؤكل . وقاله الميداني أيضاً كما تقدم .
التعبير : هو في الرؤيا رجل قليل العقل يهلك نفسه ويفعل فعلا يسقطه من أعين الناس والله أعلم .
النسنوس : طائر يأوي الجبال ، له هامة كبيرة .
النضو : بالكسر البعير المهزول ، والناقة نضوة والجمع فيهما أنضاء . وقد أنضتها الأسفار فهي منضاة وأنضى فلان بعيره أي أهزله ، وقد أحسن الوزير مؤيد الدين أبو إسماعيل الحسين بن علي الطغرائي صاحب لامية العجم ، وكان من أفراد الدهر ، وحامل لواء النظم والنثر ، في قوله : يقتلن أنضاء حب لا حراك به وينحرون كرام الخيل والإبل وأحسن الشارح لكلامه الشيخ صلاح الدين الصفدي في ذكره العددين المتحابين هنا ، وهما المائتان والعشرون ، فإنه عدد زائد أجزاؤه أكثر منه ، لأنها إذا جمعت كانت مائتين وأربعة وثمانين بغير زيادة ولا نقصان ، والمائتان والأربعة والثمانون علا ناقص أجزاؤه أقل منه ، لأنها إذا جمعت كانت جملتها مائتين وعشرين . فكل من العددين المتحابين أجزاؤه مثل الآخر .
بيان ذلك أن العدد التام هو الذي إذا جمعت أجزاؤه كانت مثله ، وهو الستة ، فإن أجزاءها البسيطة الصحيحة : النصف وهو ثلاثة ، والثلث هو اثنان ، والسدس وهو واحد . والعدد الناقص ما إذا جمعت أجزاؤها البسيطة الصحيحة كانت أقل منه ، كالثمانية فإن أجزاءها النصف والربع والثمن . وهي سبعة .
والعدد الزائد ما إذا جمعت أجزاؤه زادت عليه كالإثنى عشر فمجموع أجزائها ستة عشر ، وهي تزيد على الأصل . والمائتان والعشرون لها نصف ، وهو مائة وعشرة ، وربع وهو خمسة وخمسون ، وخمس وهو أربع وأربعون ، وعشر وهو اثنان وعشرون ، ونصف عشر وهو أحد عشر ، وجزء من أحد عشر وهو عشرون ، وجزء من اثنين وعشرين وهو عشرة ، وجزء من أربع وأربعين(2/481)
"""""" صفحة رقم 482 """"""
وهو خمسة ، وجزء من خمسة وخمسين وهو أربعة ، وجزء من مائة وعشرة وهو اثنان ، وجزء من مائتين وعشرين وهو واحد . وجملة ذلك مائتان وأربعة وثمانون . والمائتان والأربعة والثمانون ليس لها إلا نصف وهو مائة واثنان وأربعون ، وربع وهو أحد وسبعون ، وجزء من أحد وسبعين وهو أربعة ، وجزء من مائة واثنين وأربعين هو اثنان ، وجزء من مائتين وأربعة وثمانين وهو واحد ، وجملة ذلك من الأجزاء الصحيحة مائتان وعشرون .
فقد ظهر بهذا المثل تحاب العدين . وأصحاب الخواص يزعمون أن لذلك خاصية عجيبة في المحبة إذا جعل العدد الأقل والعدد الأكثر في شيء من المأكول وأطعم لمن يريد محبته ويجمع هذين العددين قولك : " فردكر " قال الشارح : وكنت بخلت بهذه الفائدة أن أودعها هذا الكتاب ، ثم رأيت إثباتها فيه والله أعلم .
النعاب : في فتاوى ابن الصلاح أنه اللقلق .
وحكمه : تحريم الأكل على الأصح كما تقدم والمعروف أنه الغراب . يقال : نعب الغراب وغيره ينعب نعباً ونعيباً ونعاباً وتنعاباً ونعباناً ، إذا صوت وقيل : إذا مد عنقه وحرك رأسه وصوت . وفي المجالسة للدينوري ، في أوائل الجزء العاشر ، عن الأخوص بن حكيم قال : كان من دعاء داود عليه الصلاة والسلام : يا رازق النعاب في عشه ، قال : وذلك أن الغراب إذ فقس عن فراخه ، خرجت بيضاً ، فإذا رآها كذلك نفر عنها ، فتفتح أفواهها فيرسل الله تبارك وتعالى لها ذباباً يدخل في أجوافها ، فيكون ذلك غذاء لها حتى تسود ، فإذا اسودت عاد الغراب فغذاها ، ويرفع الله تعالى الذباب عنها . وكذلك ذكره صاحب كتاب الحجة لبيان المحجة وغيره ، عن مجاهد وغيره . وقد تقدم في باب الحاء المهملة ، في لفظ الحمار الوحشي أن الحريري أشار إلى ذلك في المقامة الثالثة عشر بقوله :
يا رازق النعاب في عشه . . . وجابر العظم الكسير المهيض
أتح لنا اللهم من عرضه . . . من دنس الذم نقى رحيض
والذي رويناه في كتاب الترمذي ، عن أبي الدرداء رضي الله عنه ، أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " كان من دعاء داود عليه السلام : " اللهم إني أسألك حبك وحب من يحبك ، والعمل الذي يبلغني حبك ، اللهم اجعل حبك أحب إلي من نفسي ومن أهلي ومن الماء البارد " . قال : وكان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، إذا ذكر داود عليه السلام ، يقول : " كان أعبد البشر " . قال الترمذي : هذا حديث حسن .
وروينا في كتاب حلية الأولياء ، عن الفضيل بن عياض ، رحمه الله ، قال : قال داود عليه السلام : إلهي كن لابني سليمان كما كنت لي ، فأوحى الله تبارك وتعالى إليه : يا داود قل لابنك سليمان ، يكن لي كما كنت لي ، حتى أكون له كما كنت لك . وهذا الدعاء الذي رواه الترمذي ، عن داود عليه السلام ، روي أيضاً نحوه عن نبينا ( صلى الله عليه وسلم ) ،(2/482)
"""""" صفحة رقم 483 """"""
من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه ، قال : احتبس عنا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ذات غداة عن صلاة الصبح ، حتى كدنا نتراءى عين الشمس ، فخرج سريعاً فثوب بالصلاة ، فصلى وتجوز في صلاته ، فلما سلم دعا بصوته فقال لنا : " على مصافكم كما أنتم " . ثم انفتل إلينا فقال : " أما إني سأحدثكم ما حبسني عنكم الغداة ، إني قمت من الليل فتوضأت وصليت ما قدر لي ، فنعست في صلاتي حتى استثقلت ، فإذا أنا بربي تعالى في أحسن صورة ، فقال : يا محمد . فقلت : لبيك ربي . قال : فيم يختصم الملأ الأعلى ؟ قلت : رب لا أدري . قال تعالى : " في الكفارات والمرجات " . وفي روايه " قلت : في الكفارات والدرجات " . قال : فما هن ؟ قلت : مشي الأقدام إلى الجماعات ، والجلوس في المساجد بعد الصلوات ، وإسباغ الوضوء على المكروهات . قال : ثم فيم ؟ قلت : في إطعام الطعام ، ولين الكلام ، والصلاة بالليل ، والناس نيام . قال : سل . قلت : اللهم إني أسألك فعل الخيرات ، وترك المنكرات ، وحب المساكين ، وأن تغفر لي وترحمني ، وإذا أردت بعبادك فتنة فاقبضني إليك غير مفتون ، أسألك حبك وحب من يحبك ، وحب كل عمل يقربني إلى حبك " . فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : " إنها حق فادرسوها ثم تعلموها " . قال أبو عيسى : هذا حديث حسن صحيح .
النعام : معروف ، يذكر ويؤنث ، وهو اسم جنس مثل حمام وحمامة ، وجراد وجرادة ، وتجمع النعامة على نعامات . ويقال لها أم البيض وأم ثلاثين ، وجماعتها بنات الهيق ، والظليم ذكرها . قال الجاحظ : والفرس يسمونها اشتر مرغ ، وتأويله بعير وطائر . قال الشاعر :
ومثل نعامة تدعى بعيرا . . . تعاصينا إذا ما قيل طيري
فإن قيل احملي قالت : فإني . . . من الطير المرفه في الوكور
قال : ويقال لقدم البعير خف ، والجمع خفاف ومنسم والجمع مناسم . وكذلك يقال في النعامة ويقال لأنثى النعام قلوص ، كما يقال ذلك في الإبل ، وإنما قالوا ذلك لما رأوا فيها من شبه الإبل . قال : وتزعم الأعراب ، أن النعامة ذهبت تطلب قرنين ، فقطعوا أذنيها ، فلذلك سميت بالظليم انتهى . وكأنهم إنما سموها ظليماً لأنهم ظلموها ، حين قطعوا أذنيها ولم يعطوها ما طلبت ، وهذا بناء على اعتقادهم الفاسد .
والنعامة صمعاء ، يقال : خرج السهم متصمعاً إذا ابتلت قذذه من الدم . ويقال : أتانا بثريدة متصمعة إذا دققها وحدد رأسها ، وصومعة الراهب منه ، لأنها دقيقة من أعلى الرأس ، ورجل أصمع القلب إذا كان حديداً ماضياً ، ويقال للرجل أيضاً إذا كان قصير الأذنين لاصقتين بالرأس أصمع ، والمرأة صمعاء وبنو أصمع قبيلة من العرب منهم الأصمعي ، واسمه عبد الملك بن قريب ، وهو صاحب لغة ونحو وشعر ونوادر . فمن نوادره أنه قال : مررت في بعض سكك الكوفة ، فإذا برجل قد خرج من حش على كتفه جرة وهو يقول :
وأكرم نفسي أنني إن أهنتها . . . وحقك لم تكرم على أحد بعدي
فقلت له : أتكرمها بمثل هذا ؟ قال : نعم واستغني عن سفلة مثلك ، إذا سألته قال : صنع الله بك(2/483)
"""""" صفحة رقم 484 """"""
وترك . فقلت : تراه عرفني . فأسرعت فصاح بي يا أصمعي فالتفت فقال :
لنقل الصخر من قلل الجبال . . . أحب إلي من منن الرجال
يقول الناس : كسب فيه عار . . . وكل العار في ذل السؤال
وقال الأصمعي : سألت أعرابية عن ولد لها كنت أعرفه ، فقالت : مات وأنسى المصائب . ثم قالت :
وكنت أخاف الدهر ما كان آمناً . . . فلما تولى مات خوفي من الدهر
وقال : تلت لرجل من الأعراب أعرفه بالكذب : أصدقت قط ؟ فقال : لولا أني أصدق في هذا لقلت : لا . وقال الأصمعي للكسائي ، وهما عند الرشيد : ما معنى قول الراعي ؟
قتلوا ابن عفان الخليفة محرماً . . . ودعا فلم أر مثله مخذولا
فقال الكسائي : كان محرماً بالحج . فقال الأصمعي : فما أراد عدي بن زيد بقوله :
قتلوا كسرى بليل محرماً . . . فمضى فلم يمتع بكفن فهل كان محرماً بالحج وأي إحرام لكسرى ؟ فقال الرشيد للكسائي : يا علي إذا جاء الشعر فإياك والأصمعي . وروي أن الرشيد قال للأصمعي : ما أحسن ما مر بك في تقويم اللسان ؟ قال : أوصى رجل بعض بنيه فقال : يا بني أصلحوا من ألسنتكم ، فإن الرجل تنوبه النائبة ، فيتحمل فيها فيستعير من أخيه وأبيه ومن صديقه ثوبه ، ولا يجد من يعيره لسانه ، وأنشد في ذلك :
وما حسن الرجال لهم بزين . . . إذا لم يسعد الحسن اللسان
كفى بالمرء عيباً أن تراه . . . له وجه وليس له لسان
ويروى عن الأصمعي أنه قال : وجدني أبو عمرو بن العلاء ماراً في بعض أزقة البصرة فقال : إلى أين يا أصمعي ؟ فقلت : لزيارة بعض إخواني . فقال : يا أصمعي إن كان لفائدة أو عائدة ، وإلا فلا . وقد أنشدني في ذلك يوسف الحلبي :
يا أيها الإخوان أوصيكم . . . وصية الوالد والوالده
لا تنقلوا الأقدام إلا إلى . . . من لكم عنده فائده
إما لعلم تستفيدونه . . . أو لكريم عنده مائده
وكان من كلام الأصمعي : خير العلم ما أطفأت به الحريق ، وأخرجت به الغريق . وكان يقول : أحفظ ستة عشر ألف أرجوزة ، فيها ما عدد أبياتها المائة والمائتان . ومن عجيب ما يحكى قال أبو العيناء : كنا في جنازة الأصمعي ، فحدثني أبو قلابة الشاعر ، وأنشدني لنفسه :(2/484)
"""""" صفحة رقم 485 """"""
لعن الله أعظماً حملوها . . . نحو دار البلى على خشبات
أعظما تبغض النبي وأهل ال . . . بيت والطيبين والطيبات
قال : ثم حدثني أبو العالية الشاعر وأنشدني لنفسه أيضاً :
لا در در نبات الأرض إذ فجعت . . . بالأصمعي لقد أبقت لنا أسفا
عش ما بدا لك في الدنيا فلست ترى . . . في الناس منه ولا من علمه خلفا
وكانت وفاة الأصمعي في سنة ست عشرة مائتين بالبصرة .
والنعام ، عند المتكلمين على طبائع الحيوان ، ليست بطائر وإن كانت تبيض ، ولها جناح وريش ، ويجعلون الخفاش طيراً ، وإن كان يحبل ويلد ، وله أذنان بارزتان ، وليس له ريش لوجود الطيران فيه ، ومراعاة لقوله تعالى : " وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني " وهم يسمون الدجاجة طيراً ، وإن كانت لا تطير . وظن بعض الناس ، أن النعامة متولدة من جمل وطائر ، وهذا لا يصح . ومن أعاجيبها أنها تضع بيضها طولا ، بحيث لو مد عليها خيط ، لاشتمل على قدر بيضها ، ولم تجد لشيء منه خروجاً عن الآخر ، ثم إنها تعطي كل بيضة منه نصيبها من الحضن ، إذ كان كل بدنها لا يشتمل على عدد بيضها . وهي تخرج لعدم الطعم ، فإن وجدت بيض نعامة أخرى ، تحضنه وتنسى بيضها ، ولعلها أن تصاد فلا ترجع إليه ، ولهذا توصف بالحمق ، ويضرب بها المثل في ذلك قال ابن هرمة :
فإني وتركي ندى الأكرمين . . . وقد حي بكفي زناداً شحاحا
كتاركة بيضها بالعراء . . . وملبسة بيض أخرى جناحا
ويقال إنها تقسم بيضها أثلاثاً : فمنه ما تحضنه ، ومنه ما تجعل صفاره غذاء ، ومنه ما تفتحه وتجعله في الهواء حتى يتعفن ، ويتولد منه دود ، فتغذي بها فراخها إذا خرجت .
قال في الكفاية : يقال عار الظليم إذا صاح ، والزمار صياح الأنثى . وقال ابن قتيبة : يقال عريعر للذكر ، والأنثى زمر زماراً انتهى . وقد سمى الحريري ، في المقامات ، النعامة باسم صوتها . فقال : ما تقول فيمن أتلف زمارة في الحرم ؟ قال : عليه بدنة من النعم .
روي عن كعب الأحبار قال : لما أهبط الله تعالى آدم عليه الصلاة والسلام ، جاءه ميكائيل بشيء من حب الحنطة ، وقال : هذا رزقك ، ورزق أولادك من بعدك ، قم فاحرث الأرض ، وابذر الحب . قال : ولم يزل الحب من عهد آدم عليه السلام ، إلى زمن إدريس عليه السلام ، كبيضة النعامة ، فلما كفر الناس نقص إلى بيضة الدجاجة ، ثم إلى بيضة الحمامة ، ثم إلى قدر البندقة . وكان في زمن العزيز على قدر الحمصة .
والنعام من الحيوان الذي يزاوج ويعاقب الذكر والأنثى في الحضن ، وكل ذي رجلين ، إذا(2/485)
"""""" صفحة رقم 486 """"""
انكسرت له إحداهما ، استعان بالأخرى في نهوضه وحركته ، ما خلا النعامة فإنها تبقى في مكانها جاثمة حتى تهلك جوعاً قال الشاعر :
إذا انكسرت رجل النعامة لم تجد . . . على أختها نهضا ولا بأستها حبوا وليس للنعام حاسة السمع ، ولكن له شم بليغ ، فهو يدرك بأنفه ، ما يحتاج فيه إلى السمع ، فربما شم رائحة القناص من بعد ، ولذلك تقول العرب : هو أشم من نعامة ، كما تقول : هو أشم من ذرة . قال ابن خالويه ، في كتابه : ليس في الدنيا حيوان لا يسمع ولا يشرب الماء أبداً إلا النعام . ولا مخ له ومتى دميت رجل واحدة له لم ينتفع بالباقية . والضب أيضاً لا يشرب ، ولكنه يسمع . ومن حمقها أنها إذا أدركها القناص أدخلت رأسها في كثيب رمل ، تقدر أنها قد استخفت منه ، وهي قوية الصبر على ترك الماء ، وأشد ما يكون عدوها إذا استقبلت الريح ، وكلما اشتد عصوفها ، كانت أشد عدواً وتبتلع العظم الصلب والحجر والمدر والحديد فتذيبه وتميعه كالماء .
قال الجاحظ : من زعم أن جوف النعام إنما يذيب الحجارة ، لفرط الحرارة ، فقد أخطأ . ولكن لا بد مع الحرارة من غرائز أخر ، بدليل أن القدر يوقد عليها الأيام ولا تذيب الحجارة . وكما أن جوفي الكلب والذئب يذيبان العظم ، ولا يذيبان نوى التمر ، وكما أن الإبل تأكل الشوك وتقتصر عليه ، وإن كان شديداً كالسمر ، وهو شجر أم غيلان ، وتلقيه روثاً ، وإذا أكلت الشعير ألقته صحيحاً انتهى .
وإذا رأت النعامة في أذن صغير لؤلؤة أو حلقة اختطفتها . وتبتلع الجمر فيكون جوفها هو العامل في إطفائه ولا يكون الجمر عاملا في إحراقه ، وفي ذلك أعجوبتان إحداهما التغذي بما لا يتغذى به ، والثانية الاستمراء والهضم ، وهذا غير منكر ، لأن السمندل يبيض ويفرخ في النار كما تقدم . وأما قول الحريري في المقامة السادسة : فقلدوه في هذا الأمر الزعامة ، تقليد الخوارج أبا نعامه . فأبو نعامة هو قطري بن الفجاءة واسمه جعونة بن مازن المازني الخارجي ، خرج زمن مصعب بن الزبير فبقي عشرين سنة يقاتل ويسلم عليه بالخلافة ، وكان كلما سير إليه الحجاج جيشاً يستظهر قطري عليه . ويروى أن شخصاً قال للحجاج : أيها الأمير ، فقال الحجاج : إنما الأمير قطري بن الفجاءة ، الذي إذا ركب ، ركب لركوبه عشرون ألفاً لا يسألونه أين يريد وكان قطري مقداماً لا يهاب الموت ، وفي ذلك يقول مخاطباً لنفسه وهي من أبيات الحماسة :
أقول لها وقد طارت شعاعاً . . . من الأبطال ويحك لا تراعي
لأنك لو سألت بقاء يوم . . . على الأجل الذي لك لم تطاعي
فصبراً في مجال الموت صبراً . . . فما نيل الخلود بمستطاع
ولا ثوب البقاء بثوب عز . . . فيطوى عن أخي الخنع اليراع(2/486)
"""""" صفحة رقم 487 """"""
سبيل الموت غاية كل حي . . . وداعيه لأهل الأرض داعي
ومن لا يغتبط يسأم ويهرم . . . وتسلمه المنون إلى انقطاع
وما للمرء خير في حياة . . . إذا ما عد من سقط المتاع
وهذه الأبيات تشجع أجبن خلق الله تعالى . ثم توجه إلى قطري سفيان بن الأبرد الكلبي ، فظهر على قطري وقتله . ولا عقب لقطري ، إنما قيل لأبيه الفجاءة ، لأنه كان باليمن ، فقدم على أهله فجاءة فسمي بها . كذا قال ابن خلكان وغيره .
الحكم : يحل أكل النعام بالإجماع ، لأنه من الطيبات ، ولأن الصحابة رضي الله تعالى عنه قضوا فيه ، إذا قتله المحرم أو في الحرم ببدنة . روي ذلك عن عثمان وعلي وابن عباس وزيد بن ثابت ومعاوية رضي الله عنهم . رواه الشافعي والبيهقي ، ثم قال الشافعي : هذا غير ثابت عند أهل العلم بالحديث ، وهو قول الأكثر ممن لقيت . وإنما قلنا في النعامة بدنة بالقياس لا بهذا . واختلفوا في بيض النعام ، إذا أتلفه المحرم أو في الحرم ، فقال عمر وابن مسعود والشعبي والنخعي والزهري والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي : تجب فيه القيمة . وقال أبو عبيدة وأبو موسى الأشعري : يجب فيه صيام يوم أو إطعام مسكين . وقال مالك : يجب فيه عشر ثمن البدنة كما في جنين الحرة غرة من عبد أو أمة قيمة عشر دية الأم . دليلنا أنه جزء من الصيد ، لا مثل له من النعم ، فوجبت قيمته ، كسائر المتلفات التي لا مثل لها .
وأما حديث أبي المهزم ، الذي رواه ابن ماجه والدارقطني ، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه ، أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " في بيض النعامة يصيبه المحرم ثمنه " فهو ضعيف باتفاف المحدثين ، وبالغوا في تضعيفه حتى قال شعبة : أعطوه فلسا يحدثكم سبعين حديثاً .
وقد تقدم ذكر أبي المهزم في الجراد أيضاً ، لكن في مراسيل أبي داود ، من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) حكم في بيض النعام ، في كل بيضة صيام يوم . ثم قال أبو داود : أسند هذا الحديث والصحيح إرساله . واستدل له في المهذب ، بأنه خارج من الصيد يخلق منه مثله ، فضمن بالجزاء كالفرخ ، فإن كسر بيضاً لم يحل له أكله بلا خلاف .
وفي تحريمه على الحلال طريقان : أصحهما أنه لا يحرم ، لأنه لا روح فيه ، ولا يحتاج إلى ذكاة ، فإن كسر بيضاً مذراً لم يضمنه من غير النعامة ، لأنه لا قيمة له ، ويضمنه من النعامة لأن لقشره قيمة . وقال الشافعي : لا أكره لمن يعلم من نفسه في الحرب بلاء أن يعلم . والمراد بالإعلام أن يجعل في صدره ريش نعام ، كما فعله حمزة رضي الله تعالى عنه يوم بدر ، فإنه غرز ريش النعام في صدره . وفي كتاب مناقب الشافعي ، للحاكم أبي عبد الله ، بإسناده عن محمد بن إسحاق ، عن المزني ، قال : سئل الشافعي عن نعامة ابتلعت جوهرة لرجل آخر ، فقال : لست آمره بشيء ، ولكن إن كان صاحب الجوهرة كيساً عدا على النعامة فذبحها ، واستخرج جوهرته ثم ضمن لصاحب النعامة ما بين قيمتها حية ومذبوحة .(2/487)
"""""" صفحة رقم 488 """"""
الأمثال : قالوا : مثل النعامة لا طير ولا جمل . يضرب لمن لم يحكم له بخير ولا شر ، وقالوا : أروى من النعامة ، لأنها لا تشرب الماء ، فإن رأته شربته عبثاً . وقالوا : ركب جناح نعامة . يضرب لمن جد في أمر كانهزام أو غيره ، وقد تقدم في باب السين ، قول الشماخ في أبياته التي رثى بها عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه . قالت عائشة رضي الله تعالى عنها ، لما كان آخر حجة حجها عمر بأمهات المؤمنين رضي الله تعالى عنهن : مررت بالمحصب فسمعت رجلا على راحلة قد رفع عقيرته فقال :
جزى الله خيراً من إمام وباركت . . . يد الله في ذاك الأديم الممزق
فمن يسع أو يركب جناحي نعامة . . . ليحرك ما قدمت بالأمس يسبق
قضيت أمورا ثم غادرت بعدها . . . بوائق في أكمامها لم تفتق
فلم يدر ذلك الراكب من هو ، وكنا نتحدث بأنه من الجن . فرجع عمر رضي الله تعالى عنه من تلك الحجة فطعن فمات . وقالوا : تكلم فلان فجمع بين الأروى والنعامة إذا تكلم بكلمتين مختلفتين ، لأن الأروى يسكن الجبال ، والنعامة تسكن الفيافي ، فلا يجتمعان . وقالوا : أحمق من نعامة وأجبن من نعامة . وذلك أنها إذا خافت شيئاً ، لا ترجع إليه بعد ذلك أبداً .
الخواص : مرارته سم ساعة ، ومخ عظامه يورث آكله السل ، وذرقه إذا أحرق وسحق وطلي به على السعفة أبرأها من وقته ، وقشر بيض النعام إذا طرح في الخل بعد ما يخرج جميع ما فيه ، تحرك في الخل وزال من موضعه ، إلى موضع آخر . وإذا عمل من الحديد الذي يأكله النعام ، ويخرج منه سكين أو سيف ، لم يكل أبداً ولم يقم له شيء .
التعبير : النعامة في المنام امرأة بدوية ، وقيل : النعامة نعمة ، فمن ركب نعامة في منامه فإنه يركب خيل البريد ، وقيل : من ركب نعامة فإنه ينكح خصياً ، والنعامة تدل على الأصم لأنها لا تسمع ، وقيل : تدل على النعي لأنه مشتق من اسمها ، وربما دلت على النعمة . والنعامتان على نعمتين والثلاث نعامات على نعي الرائي وموته للاشتقاق والله أعلم .
النعثل : كجعفر ، الذكر من الضباع وكان أعداء عثمان رضي الله تعالى عنه يسمونه نعثلا . النعجة : الأنثى من الضأن والجمع نعاج ونعجات قال الشاعر :
من كان ذا بت فهذا بتي . . . مقيظ مصيف مشتى
تخذته من نعجات ست . . . سود نعاج من نعاج الدست
والدست الصحراء ، وكنيتها أم الأموال وأم فروة ، وتطلق على الأنثى من الظباء والبقر الوحشية . روى أحمد بن صالح السهمي ، عن ابن لهيعة عن موسى بن وردان عن أبي هريرة رضي الله تعالى(2/488)
"""""" صفحة رقم 489 """"""
عنه ، قال : مرت بالنبي ( صلى الله عليه وسلم ) نعجة ، فقال : " هذه التي بورك فيها ، وفي خروفها " . لكنه حديث منكر جداً . وربما كنى بالنعجة عن المرأة ، قال الله تعالى : " إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة " قرأ الحسن نعجة بكسر النون . قال في التمهيد سئل المبرد عن قول الله تعالى : " إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة " وهم الملائكة ، والملائكة لا أزواج لهم . فقال : نحن طول الزمان نفعل مثل هذا ، نقول : ضرب زيد عمراً ، وإنما هذا تقدير ، كان المعنى إذا وقع هكذا فيكف الحكم فيه ؟ ومثله قول عدي بن زيد للنعمان : أتدري ما تقول هذه الشجرة أيها الملك . فقال : وما تقول ؟ قال : تقول :
رب ركب قد أناخوا حولنا . . . يشربون الخمر بالماء الزلال
ثم أضحوا لعب الدهر بهم . . . وكذاك الدهر حال بعد حال
وقول آخر :
شكا إلي جملي طول السرى . . . صبراً جميلا فكلانا مبتلى
قال الزمخشري : فإن قلت : ما وجه قراءة ابن مسعود رضي الله تعالى عنه ولي نعجة أنثى قلت : يقال : امرأة أنثى للحسناء الجميلة ، والمعنى وصفها بالعراقة في لين الأنوثة وفتورها ، وذلك أصلح وأزيد في تكسرها وتثنيها ، ألا ترى إلى وصفهم لها بالكسول والمكسال . وقوله :
تمشي رويداً وتكاد تنعسف
وفي مسند أبي محمد الدارمي ، في باب سخاء النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، عن عبد الله بن أبي بكر ، عن رجل من العرب ، قال : زحمت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يوم حنين ، وفي رجلي نعل كثيفة ، فوطئت بها على رجل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، فنفحني نفحة بسوط كان في يده ، وقال : بسم الله لقد أوجعتني . قال : فبت لنفسي لائماً أقول : أوجعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، وبت بليلة كما يعلم الله . فلما أصبحنا ، إذا برجل يقول : أين فلان ؟ قال : فقلت : والله هذا الذي كان مني بالأمس . قال : فانطلقت وأنا متخوف . فقال لي رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : " إنك وطئت بنعلك على رجلي بالأمس فأوجعتني فنفحتك نفحة بالسوط فهذه ثمانون نعجة فخذها بها " .
الأمثال : قالوا : أعجل من نعجة إلى حوض وأحمق من نعجة على حوض ، لأنها إذا رأت الماء أكبت عليه تشرب ، فلا تنثني عنه إلا أن تزجر أو تطرد .
الخواص : قرن النعجة إذا أخذ وقرئ عليه ثلاث مرات : " يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضراً وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمداً بعيداً " . ووضع تحت رأس(2/489)
"""""" صفحة رقم 490 """"""
امرأة نائمة ، من غير أن تعلم ، وسئلت عن شيء أخبرت به ، ولا تكاد تكتم شيئاً مما تعلم . ومرارتها إذا أحرقت وخلطت بزيت ، وطلي بها الحواجب كثرت شعرها وسودته . ولبن النعاج إذا كتب به على قرطاس فلا تظهر عليه ، فإذا طرح في الماء ظهرت عليه كتابة بيضاء . وإن تحملت امرأة بصوف نعجة قطعت الحبل ، وقد تقدم .
التعبير : النعجة في المنام امرأة شريفة غنية إذا كانت سمينة ، لأنه قد كني عن النساء بالنعاج كما تقدم ، ومن أكل لحم نعجة ورث امرأة ، وصوفها ولبنها مال . ومن رأى نعجة دخلت منزله نال خصباً في تلك السنة . والنعجة الحامل خصب ومال يرتجى ، ومن صارت نعجته كبشاً فإن زوجته لا تحمل أبداً . وقس على هذا في جميع الإناث . والنعاج الكثيرة نساء صالحات ، وربما دلت رؤيتهن على الهموم والأفكار ، وفقد الأزواج وزوال المنصب لقوله تعالى : " إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة " الآية .
النعبول : بضم النون طائر قاله ابن دريد وغيره .
النعرة : مثال الهمزة ، ذباب ضخم أزرق العين له إبرة في طرف ذنبه يلسع بها ذوات الحوافر خاصة . سميت نعرة بضم النون وفتح العين المهملة لنعيرها وهو صوتها قال ابن مقبل :
ترى النعرات الخضر حول لباته . . . أحاد ومثنى أضعفتها صواهله
وربما دخلت في أذن الحمار ، فركب رأسه ولا يرده شيء . تقول منه : نعر الحمار بالكسر ، ينعر نعراً فهو نعر .
الحكم : يحرم أكله .
الأمثال : قالوا : فلان في أنفه أو أذنه نعرة ، يضرب للجامح الذي لا يستقر على شيء .
النعم : عند اللغوين الإبل والشاء ، يذكر ويؤنث .
قال الله تعالى : " نسقيكم مما في بطونها " وقال تعالى في موضع آخر : " مما في بطونه " والجمع أنعام وجمع الجمع أناعيم . وعند الفقهاء النعم يشمل الإبل والبقر والغنم . وقال ابن الأعرابي : النعم الإبل خاصة ، والأنعام الإبل والبقر والغنم .
وحكى القشيري ، في تفسير قوله تعالى : " أولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاماً فهم لها مالكون " أنها الإبل والبقر والغنم والخيل والبغال والحمير ، " فهم لها مالكون " أي ضابطون مطيعون كما قال الشاعر :(2/490)
"""""" صفحة رقم 491 """"""
أصبحت لا أحمل السلاح ولا . . . أملك رأس البعير إن نفرا
أي لا أضبطه وقوله تعالى : " والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام " قال ثعلب : معناه لا يذكرون الله على طعامهم ولا يسمعون ، كما أن الأنعام لا تفعل ذلك .
روى الشيخان وغيرهما ، من حديث سهل بن سعد رضي الله تعالى عنه ، أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، قال لعلي رضي الله تعالى عنه : " لأن يهدي الله بك رجلا واحداً خير لك من حمر النعم " . وهذا يدل على فضل العلم والتعليم وشرف منزلة أهله ، بحيث إنه إذا اهتدى به رجل واحد لا يعلم العلم ، كان ذلك خيراً له من حمر النعم ، وهي خيارها وأشرفها عند أهلها ، فما الظن بمن يهتدي به كل يوم طوائف من الناس .
والنعم كثيرة الفائدة ، سهلة الانقياد ، ليس لها شراسة الدواب ، ولا نفرة السباع ، ولشدة حاجة الناس إليها ، لم يخلق الله سبحانه وتعالى لها سلاحاً شديداً ، كأنياب السباع وبراثنها ، وأنياب الحشرات وابرها ، وجعل من شأنها الثبات والصبر على التعب والجوع والعطش . وخلقها ذلولا تقاد بالأيدي ، كما قال تعالى : " وذللناها لهم فمنها ركوبهم ومنها يأكلون " وجعل الله تعالى قرنها سلاحاً لها ، لتأمن به من الأعداء ، ولما كان مأكلها الحشيش ، اقتضت الحكمة الإلهية أن جعل له أفواها واسعة ، وأسناناً حداداً ، وأضراساً صلاباً ، لتطحن بها الحب والنوى .
فائدة : جعل الله تعالى الأنعام رفقاً بالعباد ونعمة عددها عليهم ومنفعة بالغة ، قال الله تعالى : " وذللناها لهم فمنها ركوبهم ومنها يأكلون ، ولهم فيها منافع ومشارب أفلا يشكرون " فكان أهل الجاهلية يقطعون طريق الانتفاع ، ويذهبون نعمة الله فيها ، ويزيلون المنفعة والمصلحة التي للعباد فيها بفعلهم الخبيث .
قاد الله تعالى : " ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام " فلفظ جعل في الآية لا يتجه أن يكون بمعنى خلق ، لأن الله تعالى خلق هذه الأشياء كلها ، ولا بمعنى صير لعدم المفعول الثاني ، وإنما هو بمعنى ما سن ولا شرع ، ولذلك تعدت إلى مفعول واحد .
والبحيرة هي الناقة ، كانت إذا ولدت خمسة أبطن بحروا أذنها ، أي شقوها وحرموا ركوبها ، والحمل عليها ، ولم يجزوا وبرها ، وتركوها تأكل حيث شاءت لا تطرد عن ماء ولا كلأ ، ثم نظروا إلى خامس ولدها ، فإن كان ذكراً نحروه فأكله الرجال والنساء ، وإن كان أنثى بحروا أذنها أي شقوها وتركوها ، وحرموا على النساء لبنها ومنافعها . وكانت منافعها للرجال خاصة ، فإذا ماتت حلت للرجال والنساء ، وقيل : كانت الناقة إذا تابعت اثنتي عشرة إناثاً سيبت ، فلم تركب ظهورها ، ولم يجز وبرها ولم يشرب لبنها إلا ضيف . فما نتجت بعد ذلك من أنثى بحر أذنها ، أي شق ثم خلى سبيلها مع أمها في الإبل ، فلم تركب ولم يجز وبرها ، ولم يشرب لبنها إلا ضيف ، كما(2/491)
"""""" صفحة رقم 492 """"""
فعل بأمها ، فهي البحيرة بنت السابئة . والبحر الشق . قيل : ومنه سمي البحر بحراً لشقه الأرض ، والبحيرة فعيلة بمعنى مفعولة .
والسائبة الناقة التي سيبت ، وذلك أن الرجل من أهل الجاهلية ، إذا مرض أو غاب قريبه نذر فقال : إن شفاني الله أو شفى مريضي ، أو رد غائبي ، فناقتي هي سائبة ثم يسيبها كالبحيرة ، فلا تحبس عن رعي ولا ماء ، ولا يركبها أحد . وقال علقمة : هي العبد يسيب ، أي لا ولاء عليه ، ولا عقل ولا ميراث .
وقد قال ( صلى الله عليه وسلم ) : " إنما الولاء لمن أعتق " . وقال سعيد بن المسيب : السائبة الناقة التي كانوا يسيبونها لآلهتهم لا يحمل عليها شيء ، والبحيرة الناقة التي يمنع درها للطواغيت ، فلا يحلبها أحد من الناس ، وقيل : السائبة الناقة إذا ولدت اثنتي عشرة أنثى سيبت . والسائبة فاعلة بمعنى مفعولة كقولهم : ماء دافق أي مدفوق وعيشة راضية أي مرضية .
روى محمد بن إسحاق عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنه قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لأكثم بن الجون الخزاعي رضي الله تعالى عنه : " يا أكثم رأيت عمرو بن لحي يجر قصبه في النار ، فما رأيت من رجل أشبه برجل منه به ولا بك منه ، ولقد رأيته في النار يؤذي أهل النار بريح قصبه " . قال أكثم : أيضرني شبهه يا رسول الله ؟ قال : " لا إنك مؤمن وهو كافر " .
وعمرو بن لحي هو أول من غير دين إسماعيل عليه الصلاة والسلام ، ونصب الأوثان ، وبحر البحيرة وسيب السوائب ووصل الوصيلة وحمى الحام . والوصيلة من الغنم ، كانت الشاة إذا ولدت ثلاثة بطون أو خمسة أو سبعة ، فإن كان آخرها جدياً ذبحوه لبيت الآلهة ، وأكل منه الرجال والنساء ، وإن كان عناقاً استحيوها . فإن كان جدياً وعناقاً استحيوا الذكر من أجل الأنثى ، وقالوا : هذه العناق وصلت أخاها فلم يذبحوه . وكان لبن الأنثى حراماً على النساء ، فإن مات منها شيء أكله الرجال والنساء جميعاً .
والحام هو الفحل من الإبل ، إذا لقح من صلبه عشرة أبطن ، وقيل : إذا ضرب عشر سنين ، وقيل : إذا ولد من ولد ولده ، وقيل : إذا ركب من ولد ولده ، قالوا : قد حمى ظهره ، فلا يركب ولا يحمل عليه شيء ، ولا يمنع من كلأ ولا ماء ، فإذا مات أكله الرجال والنساء ، فأعلم الله تعالى أنه لم يحرم من هذه الأشياء شيئاً بقوله عز وجل : " ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام " وإنما هذه كلها من أفعال الجاهلية التي نهى الله عنها .
النغر : بضم النون وفتح الغين المعجمة قال الجوهري : إنه طير كالعصافير ، حمر المناقير . والجمع نغران كصرد وصردان ، قال الخطابي : أنشدني أبو عمرو فقال :(2/492)
"""""" صفحة رقم 493 """"""
يحملن أوعية السلاح كأنما . . . يحملنه بأكارع النغران
ومؤنثه نغرة كهمزة ، وأهل المدينة يسمونه البلبل .
وفي الصحيحين عن أنس رضي الله تعالى عنه ، قال : كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أحسن الناس خلقاً ، وكان لي أخ لأمي فطيم يقال له عمير ، فكان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إذا جاءنا قال : " يا أبا عمير ما فعل النغير " ؟ . وعمير تصغير عمر أو عمرو ، والفطيم بمعنى المفطوم . قال شيخ الإسلام النووي رحمه الله تعالى ، في الحديث فوائد كثيرة منها : جواز تكنية من لم يولد له ، وتكنية الطفل وأنه ليس كذباً .
وفي الحديث : " بادروا بكنى أولادكم لا تسبق إليها ألقاب السوء " . وفيه جواز المزاح فيما ليس بإثم ، وجواز تصغير بعض المسميات ، وجواز التسجيع في الكلام الحسن بلا كلفة ، وملاطفة الصبيان وتأنيسهم ، وبيان ما كان عليه ( صلى الله عليه وسلم ) من حسن الخلق وكرم الشمائل ، والتواضع وزيارة أهل الفضل ، لأن أم سليم والدة أبي عمير وأنس رضي الله تعالى عنهما ، هي من محارمه ( صلى الله عليه وسلم ) . واستدل به بعض المالكية على جواز الصيد من حرم المدينة ، ولا دلالة فيه لذلك ، لأنه ليس في الحديث أنه من حرم المدينة ، بل نقول : إنه صيد من الحل وأدخل الحرم . ويجوز للحلال أن يفعل ذلك ، ولا يجوز له أن يصيد من الحرم ، فيفرق بين ابتداء صيده ، وبين استصحاب إمساكه . وقد صحت أحاديث كثيرة عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في تحريم صيد حرم المدينة ، فلا يجوز تركها بمثل هذا الاحتمال ومعارضتها به . وفي الحديث أيضاً دليل على جواز لعب الصغير بالطير الصغير .
قال العلامة أبو العباس القرطبي : لكن الذي أجاز العلماء أن يمسك له ، وأن يلهو بحبسه . وأما تعذيبه والعبث به فلا يجوز ، لأن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) نهى عن تعذيب الحيوان إلا لمأكله . وقال غيره : معنى قوله : يلعب به يتلهى بحبسه وإمساكه ، وفيه دليل على جواز حبس الطير في القفص والتلهي به لهذا الغرض وغيره .
ومنع ابن عقيل الحنبلي من ذلك ، وجعله سفهاً وتعذيباً ، لقول أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه : تجيء العصافير يوم القيامة ، تتعلق بالعبد الذي كان يحبسها في القفص عن طلب أرزاقها ، وتقول : يا رب هذا عذبني في الدنيا . والجواب : أن هذا فيمن منعها المأكول والمشروب . وقد سئل القفال عن ذلك ؛ فقال : إذا كفاها المؤنة جاز ، بل في الحديث دليل على جواز قصها للعب الصبيان بها .
وكان بعض الصحابة يكره ذلك . ورأيت لأبي العباس أحمد بن القاص مصنفاً حسناً على هذا الحديث ، وذكر فيه أن أبا حنيفة سمع صوت امرأة يضربها بعلها ، وهي تصيح ، فقال : صدقة مقبولة وحسنة مكتوبة . فقال له رجل من أصحابه : كيف ذاك يا أستاذ ؟ فقال لقوله ( صلى الله عليه وسلم ) : " أدب الجاهل صدقة عليه " . وأنا أعرفها جاهلة .(2/493)
"""""" صفحة رقم 494 """"""
وحكمه : حل الأكل لأنه من جنس العصافير .
النغض : بكسر النون وفتحها الظليم ، سمي بذلك لأنه يحرك رأسه ، قال الله تعالى : " فسينغضون إليك رؤوسهم " أي يحركونها استهزاء . قال الشاعر :
أنغض نحوي رأسه وأقنعا . . . كأنه يطلب شيئاً أنفعا النغف : بنون وغين معجمة مفتوحتين ثم فاء ، دود يكون في أنوف الإبل والغنم ، الواحدة نغفة . قاله الأصمعي . وقال أبو عبيدة : هو أيضاً الدود الأبيض ، يكون في النوى . وما سوى ذلك من الدود فليس بنغف . وقيل : هو دود طوال سود وخضر وغبر يقطع الحرث في بطون الأرض . روى مسلم عن النواس بن سمعان رضي الله تعالى عنه في حديثه الذي رواه في الدجال : " ويبعث الله تعالى يأجوج ومأجوج ، فيرسل عليهم النغف في رقابهم فيصبحون فرسى كموت نفس واحدة " . قوله : فرسى معناه قتلى ، الواحدة فريس من فرس الذئب الشاة وافترسها إذا قتلها .
وروى البيهقي ، في الأسماء والصفات ، في باب ما ذكر فيه الكف عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما ، أنه قال : لما خلق الله تعالى آدم عليه السلام ، نفضه نفض المزود فخرج منه مثل النغف ، فقبض قبضتين ، فقال جل وعلا لما في اليمين : هذه إلى الجنة ولا أبالي . ولما في الأخرى : هذه إلى النار ولا أبالي ، ثم قال : هذا موقوف . وروي بعده بأسطر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، قال : إن أخذ الميثاق على بني آدم ، كان بأرض عرفات .
النفار : بالفاء كجار العصفور سمي بذلك لنفوره .
النقاز : بالقاف والزاي طائر من صغار العصافير ، كأنه مشتق من النقز وهو الوثب .
النقاقة : الضفدع والنقيق صوتها . قالوا : أعطش من النقاقة . وذلك أنها إذا فارقت الماء ماتت .
النقد : بفتح النون والقاف صغار الغنم ، واحدتها نقدة وجمعها نقاد . وقال الجوهري : النقد بالتحريك جنس من الغنم قصار الأرجل قباح الوجوه ، تكون بالبحرين الواحدة نقحة .
الأمثال : قالوا : أذل من النقد . قال الأصمعي : أجود الصوف صوف النقد . قال الكذاب الحرمازي :
ففيم يا شر تميم محتدا . . . لو كنتم شاء لكنتم نقدا
أو كنتم قولا لكنتم فندا . . . أو كنتم ماء لكنتم زبدا
أو كنتم صوفاً لكنتم قردا(2/494)
"""""" صفحة رقم 495 """"""
النكل : الفرس القوي المجرب ، وفي الحديث " أن الله تعالى يحب النكل على النكل " بالتحريك ، يعني الرجل القوي المجرب على الفرس القوي المجرب . وهو كقوله ( صلى الله عليه وسلم ) في الحديث الآخر : " إن الله يحب الرجل القوي المبدئ المعيد على الفرس القوي المبدئ المعيد " . وقد تقدم ذكر هذا الحديث في باب الفاء في الفرس .
النمر : بفتح النون وكسر الميم ويجوز إسكان الميم مع فتح النون وكسرها كنظائره ، ضرب من السباع فيه شبه من الأسد ، إلا أنه أصغر منه ، وهو منقط الجلد نقطاً سوداً وبيضاً وهو أخبث من الأسد ، لا يملك نفسه عند الغضب حتى يبلغ من شدة غضبه أن يقتل نفسه . والجمع أنمار وأنمر ونمور ونمار . والأنثى نمرة . وكنيته أبو الأبرد وأبو الأسود وأبو جعدة وأبو جهل وأبو خطاف وأبو الصعب وأبو رقاش وأبو سهيل وأبو عمرو وأبو المرسال . والأنئى أم الأبرد وأم رقاش . قال الأصمعي : يقال : تنمر فلان أي تنكر وتغير ، لأن النمر لا تلقاه أبداً إلا متنكراً غضبان . قال عمرو بن معد يكرب :
قوم إذا لبسوا الحدي . . . د تنمروا حلقاً وقدا
يريد تشبهوا بالنمر لاختلاف ألوان القد والحديد . ومزاج النمر كمزاج السبع ، وهو صنفان : صنف عظيم الجثة صغير الذنب وبالعكس . وكله ذو قهر وقوة وسطوات صادقة ، ووثبات شديدة وهو أعدى عدو للحيوانات ، ولا تروعه سطوة أحد ، وهو معجب بنفسه ، فإذا شبع نام ثلاثة أيام ، ورائحة فيه طيبة بخلاف السبع ، وإذا مرض وأكل الفأر زال مرضه .
وذكر الجاحظ أن النمر يحب شرب الخمر ، فإذا وضع له في مكان شربه حتى يسكر فعند ذلك يصاد . وزعم قوم أن النمرة لا تضع ولدها إلا مطوقاً بحية ، وهي تعيش وتنهش إلا أنها لا تقتل . ومنزلته من السباع في الرتبة الثانية من الأسد ، وهو ضعيف الحزم شديد الحرص يقظان الحراك . وفي طبعه عداوة الأسد ، والظفر بينهما سجال ، وهو نهوش خطوف بعيد الوثبة ، فربما وثب أربعين ذراعاً صعوداً ، ومتى لم يصد لم يأكل شيئاً ، ولا يأكل من صيد غيره وينزه نفسه عن أكل الجيف . روى الطبراني في معجمه الأوسط ، عن عائشة رضي رضي الله تعالى عنها ، أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " إن موسى عليه السلام قال : يا رب أخبرني بأكرم خلقك عليك ، فقال : الذي يسرع إلى هواي إسراع النسر إلى هواه ، والذي يألف عبادي الصالحين كما يألف الصبي الناس ، والذي يغضب إذا انتهكت محارمي كغضب النمر لنفسه ، فإن النمر إذا غضب لا يبالي أقل الناس أم كثروا " . وفي إسناده محمد بن عبد الله بن يحيى بن عروة ، وهو متروك . وقد تقدم في النسر الإشارة إلى بعضه .
الحكم : يحرم أكله لأنه سبع ضار .
روى أبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " لا تصحب الملائكة رفقة(2/495)
"""""" صفحة رقم 496 """"""
فيها جلد نمر " . وفي رواية " وقعة " . قال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح ، في الفتاوى : جلد النمر نجس كله قبل الدباغ سواء كان مذكى أم لا ، فيمتنع استعماله امتناع نجس العين . ومعنى هذا أنه يحرم استعماله قطعاً فيما يجب فيه مجانبة النجاسة من صلاة وغيرها .
وهل يحرم على الإطلاق ؟ فيه وجهان : وأما بعد الدباغ فنفس الجلد طاهر ، والشعر الذي عليه نجس ، تبعاً لأصله ولأجل أنه غالب ما يستعمل منه . ورد الحديث بالنهي عنه مطلقاً وفي حديث آخر : " لا تركبوا النمور " . وفي حديث آخر أنه ( صلى الله عليه وسلم ) " نهى عن جلود السباع أن تفترش " ولا شك أن النمر من السباع . فهذه الأحاديث قوية معتمدة والتأويل المتطرق إليها غير قوي ، وإذا وجد الموفق مثل هذا عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في مثل هذا المضطرب فهو ضالته ومستروحه لا يرى عنه معدلا .
الأمثال : قالوا : شمر واتزر والبس جلد النمر " . يضرب لمن يؤمر بالجد والاجتهاد . وقالوا : لبس فلان لفلان جلد النمر " . يضرب في العداوة وكشفها .
الخواص : إذا دفن رأسه في موضع اجتمع فيه من الفأر شيء كثير ، ومرارته يكتحل بها تزيد في ضوء البصر ، وتمنع نزول الماء في العين ، وهي سم قاتل إن سقي منها أحد دانقاً لا يتخلص منها إلا أن يشاء الله تعالى ، ودماغه إذا أنتن لا يشم أحد من الناس رائحته إلا مات ، هكذا حكاه ارسطاطاليس ، في كتاب طبائع الحيوان .
وقيل : إن النمر يهرب من جمجمة الإنسان ، وشعره إذا بخر به البيت هربت العقارب منه ، وشحمه إذا أذيب وجعل في الجراحات العتيقة نظفها وأبرأها . ولحمه من أكل منه خمسة دراهم لا يضره سم الحيات والأفاعي .
وقال القزويني : إن جميع أجزائه تفعل فعل السم القاتل ، وخاصة مرارته ، وهذا هو الصواب . وقضيبه يطبخ ويشرب من مرقته ينفع من تقطير البول ، وأوجاع المثانة . وجلده إذا أدمن الجلوس عليه بلا حائل صاحب البواسير نفعه ، ومن حمل معه شيئاً من جلده ، يصير مهاباً عند الناس . ويده وبراثنه إذا دفنت في موضع لا يعيش فيه فأر ، وإذا نهش النمر إنساناً طلبه الفأر ليبول عليه ، فإن فعل ذلك مات ، وينبغي أن يحترس من ذلك ويصان ، قاله صاحب عين الخواص . وقال بعضهم : من مسح جلده بشحم الضبع ، ودخل على النمر فر النمر منه .
التعبير : النمر في المنام سلطان جائر ، أو عدو مجاهر ، شديد الشوكة ، فمن قتله قتل عدواً بهذه الصفة ، ومن أكل من لحمه نال مالا وشرفاً ، ومن ركبه نال سلطاناً عظيماً ، فإن رأى النمر ركبه ناله ضرر من سلطان أو عدو . ومن نكح نمرة تسلط على امرأة من قوم ظلمة ، ومن رأى نمراً في داره هجم على داره رجل فاسق . ومن رأى أنه صاد نمراً أو فهدا نال منفعة بقدر ضرر غضبه .
وقال ارطاميدورس : النمر يدل على رجل ويدل على امرأة . وذلك بسبب تغير لونه ، وهو(2/496)
"""""" صفحة رقم 497 """"""
ذو مكر وخديعة وربما دل على مرض ووجع العينين . ولبنه عداوة تضر شاربه والله تعالى أعلم النمس : بنون مشددة مكسورة ، وبالسين المهملة في آخره دويبة عريضة ، كأنها قطعة قديد ، تكون بأرض مصر ، يتخذها الناظور إذا اشتد خوفه من الثعابين ، لأن هذه الدويبة تقتل الثعبان وتأكله . قاله الجوهري .
وقال قوم : هو حيوان قصير اليدين والرجلين ، وفي ذنبه طول يصيد الفأر والحيات ويأكلها .
وقال المفضل بن سلمة : هو الظربان ، وقال الجاحظ : يزعمون أن بمصر دويبة يقال لها النمس ، تنقبض وتنطوي إلى أن تصير كالفأر ، فإذا انطوى عليها الثعبان زفرت ونفخت وانتفخت فيتقطع الثعبان . وقال ابن قتيبة : النمس ابن عرس وتسميته نمساً يحتمل أن يكون مأخوذاً من قولهم : نمس بالكلام أي أخفاه ، ونمس الصائد إذا اختفى في الدريئة ، لأنه لما كان يتماوت وتسكن أطرافه حتى تعضه الحية فيأكلها أشبه الصائد في اختفائه في الدريئة .
وحكمه : تحريم الأكل لاستخباثه والرافعي في كتاب الحج قال : إن النمس أنواع ، وبهذا يجمع بين هذه الأقوال المتباينة .
الخواص : إذا بخر برج الحمام بذنب النمس هرب الحمام منه . ومرارته تداف ببياض البيض ويضمد بها العين فتلقط الحرارة وتقطع الدمعة ، ودمه يسعط منه المجنون وزن قيراط مع لبن امرأة ويبخر به يفيق . وذكره يطبخ ويشرب من مرقته من كان به تقطير البول ووجع المثانة يبرئه . وعينه اليمنى إذا علقت في خرقة كتان على صاحب حمى الربع أبرأته ، وإن علقت عليه اليسرى عادت إليه ، ودماغه إذا هرس بماء الفجل ودهن ورد ، ودهن به إنسان جرب ومرض مكانه من وقته ، وحله أن يسحق خرؤه بدهن الزئبق ويطلى به ، وخرؤه إن غرق في ماء وسقي منه إنسان خاف الليل والنهار ، ويرى كأن الشياطين في طلبه .
التعبير : النمس في الرؤيا يدل على الزنا ، لأنه يسرق الدجاج ، والجماعة منه في التعبير نساء ، فمن نازع نمساً أو رآه في منزله فإنه ينازع إنساناً زانياً والله أعلم .
النمل : معروف الواحدة نملة والجمع نمال ، وأرض نملة ذات نمل ، وطعام منمول إذا أصابه النمل ، والنملة بالضم النميمة ، يقال رجل نمل أي نمام ، وما أحسن قول الأول :
اقنع بما تلقى بلا بلغة . . . فليس ينسى ربنا النملة
إن أقبل الدهر فقم قائماً . . . وإن تولى مدبراً نم له
وكنيته أبو مشغول والنملة أم نوبة وأم مازن ، وسميت النملة نملة لتنملها وهو كثرة حركتها ، وقلة قوائمها . والنمل لا يتزاوج ولا يتناكح إنما يسقط منه شيء حقير في الأرض فينمو حتى يصير بيضاً حتى يتكون منه ، والبيض كله بالضاد المعجمة الساقطة إلا بيض النمل ، فإنه بالظاء المشالة .
والنمل عظيم الحيلة في طلب الرزق ، فإذا وجد شيئاً أنذر الباقين ليأتوا إليه ، ويقال إنما(2/497)
"""""" صفحة رقم 498 """"""
يفعل ذلك منها رؤساؤها . ومن طبعه أنه يحتكر قوته من زمن الصيف لزمن الشتاء ، وله في الاحتكار من الحيل ما أنه إذ احتكر ما يخاف إنباته قسمه نصفين ، ما خلا الكسفرة فإنه يقسمها أرباعاً ، لما ألهم من أن كل نصف منها ينبت ، وإذا خاف العفن على الحب أخرجه إلى ظاهر الأرض ونشره ، وأكثر ما يفعل ذلك ليلا في ضوء القمر ، ويقال إن حياته ليست من قبل ما يأكله ولا قوامه ، وذلك لأنه ليس له جوف ينفذ فيه الطعام ، ولكنه مقطوع نصفين ، وإنما قوته إذا قطع الحب في استنشاق ريحه فقط . وذلك يكفيه .
وقد تقدم في العقعق والفأر عن سفيان بن عيينة أنه قال : ليس شيء يحتال لقوته إلا الإنسان والعقعق والنمل والفأر ، وبه جزم في الإحياء ، في كتاب التوكل . وعن بعضهم أن البلبل يحتكر الطعام ، ويقال : إن للعقعق مخابئ إلا أنه ينساها . والنمل شديد الشم ومن أسباب هلاكه نبات أجنحته ، فإذا صار النمل كذلك أخصبت العصافير لأنها تصيدها في حال طيرانها . وقد أشار إلى ذلك أبو العتاهية بقوله :
وإذا استوت للنمل أجنحة . . . حتى يطير فقد دنا عطبه
وكان الرشيد كثيراً ما ينشد ذلك عند نكبة البرامكة . وقد تقدمت الإشارة إليها في باب العين المهملة في لفظ العقاب ، وهو يحفر قريته بقوائمه وهي ست ، فإذا حفرها جعل فيها تعاريج لئلا يجري إليها ماء المطر ، وربما اتخذ قرية بسبب ذلك ، وإنما يفعل ذلك خوفاً على ما يدخره من البلل . قال البيهقي في الشعب : وكان عدي بن حاتم الطائي يفت الخبز للنمل ، ويقول : إنهن جارات ولهن علينا حق الجوار ، وسيأتي إن شاء الله تعالى ، في الوحش عن الفتح بن سخرب الزاهد ، أنه كان يفت الخبز لهن في كل يوم فإذا كان يوم عاشوراء لم تأكله . وليس في الحيوان ما يحمل ضعف بدنه مراراً غيره ، على أنه لا يرضى بأضعاف الأضعاف ، حتى إنه يتكلف لحمل نوى التمر ، وهو لا ينتفع به ، وإنما يحمله على حمله الحرص والشره . ويجمع غذاء سنين لو عاش ، ولا يكون عمره أكثر من سنة . ومن عجائبه اتخاذ القرية تحت الأرض ، وفيها منازل ودهاليز وغرف وطبقات معلقة ، يملؤها حبوباً وذخائر للشتاء ومنه ما يسمى الذر الفارسي ، وهو من النمل بمنزلة الزنابير من النحل ، ومنه أيضاً ما يسمى بنمل الأسد ، سمي بذلك لأن مقدمه يشبه وجه الأسد ومؤخره يشبه النمل .
فائدة : في الصحيحين وسنن أبي داود والنسائي وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " نزل نبي من الأنبياء عليهم السلام تحت شجرة ، فلدغته نملة فأمر بجهازه فأخرج من تحتها ، وأمر بها فأحرقت بالنار . فأوحى الله إليه : فهلا نملة واحدة " . قال أبو عبد الله الترمذي ، في نوادر الأصول : لم يعاتبه الله على تحريقها ، وإنما عاتبه على كونه أخذ البريء(2/498)
"""""" صفحة رقم 499 """"""
بغير البريء .
وقال القرطبي : هذا النبي هو موسى بن عمران عليه السلام ، وأنه قال : يا رب تعذب أهل قرية بمعاصيهم وفيهم الطائع ، فكأنه جل وعلا أحب أن يريه ذلك من عنده ، فسلط عليه الحر حتى التجأ إلى شجرة مستروحاً إلى ظلها ، وعندها قرية النمل فغلبه النوم ، فلما وجد لذة النوم لدغته نملة . فدلكهن بقدمه فأهلكهن ، وأحرق مسكنهن . فأراه الله تعالى الآية في ذلك عبرة لما لدغته نملة كيف أصيب الباقون بعقوبتها ، يريد الله تعالى أن ينبهه على أن العقوبة من الله تعم الطائع والعاصي فتصير رحمة وطهارة وبركة على المطيع ، وسوءاً ونقمة وعذاباً على العاصي . وعلى هذا ليس في الحديث ما يدل على كراهة ولا حظر في قتل النمل ، فإن من آذاك حل لك دفعه عن نفسك ، ولا أحد من خلق الله أعظم حرمة من المؤمن ، وقد أبيح لك دفعه عنك بضرب أو قتل على ماله من المقدار ، فكيف بالهوام والدواب التي قد سخرت للمؤمن ، وسلط عليها وسلطت عليه ، فإذا آذته أبيح له قتلها .
وقوله : " فهلا نملة واحدة " دليل على أن الذي يؤذي يقتل ، وكل قتل كان لنفع أو دفع ضر فلا بأس به عند العلماء ، ولم يخص تلك النملة التي لدغته من غيرها ، لأنه ليس المراد القصاص ، لأنه لو أراده لقال فهلا نملتك التي لدغتك ، ولكن قال : فهلا نملة ، فكأن نملة تعم البريء والجاني ، وذلك ليعلم أنه أراد تنبيهه لمسألة ربه تعالى في عذاب أهل قرية فيهم المطيع والعاصي .
وقد قيل : إن في شرع هذا النبي عليه السلام كانت العقوبة للحيوان بالتحريق جائزة ، فلذلك إنما عاتبه الله تعالى في إحراق الكثير لا في أصل الإحراق . ألا ترى قوله : فهلا نملة واحدة ، وهو بخلاف شرعنا فإن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) نهى عن تعذيب الحيوان بالنار . وقال : " لا يعذب بالنار إلا الله تعالى " . فلا يجوز إحراق الحيوان بالنار ، إلا إذا أحرق إنساناً فمات بالإحراق فلوارثه الاقتصاص بالإحراق للجاني .
وأما قتل النمل ، فمذهبنا لا يجوز لحديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) " نهى عن قتل أربع من الدواب : النملة والنخلة والهدهد والصرد " . رواه أبو داود بإسناد صحيح ، على شرط الشيخين . والمراد النمل الكبير ، السليماني كما قاله الخطابي والبغوي في شرح السنة . وأما النمل الصغير المسمى بالذر فقتله جائز ، وكره مالك رحمه الله قتل النمل ، إلا أن يضر ولا يقدر على دفعه إلا بالقتل ، وأطلق ابن أبي زيد جواز قتل النمل إذا آذت . وقيل : إنما عاتب الله هذا النبي عليه السلام لانتقامه بنفسه بإهلاك جمع آذاه واحد منهم ، وكان الأولى به الصبر والصفح ، لكن وقع للنبي عليه السلام ، أن هذا النوع مؤذ لبني آدم ، وحرمة بني آدم أعظم من حرمة غيره من الحيوان . فلو انفرد له هذا النظر ، ولم ينضم إليه التشفي الطبيعي ، لم يعاتب فعوتب على التشفي بذلك والله أعلم .(2/499)
"""""" صفحة رقم 500 """"""
روى الدارقطني والطبراني ، في معجمه الأوسط عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنه قال : لما كلم الله تعالى موسى عليه الصلاة والسلام ، كان يبصر دبيب النمل على الصفا في الليلة المظلمة من مسيرة عشرة فراسخ .
وروى الترمذي الحكيم ، في نوادره ، عن معقل بن يسار ، قال : قال أبو بكر رضي الله تعالى عنه ، وشهد به على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ذكر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) الشرك فقال : " هو فيكم أخفى من دبيب النمل وسأدلك على شيء إذا فعلته أذهب الله عنك صغار الشرك وكباره ، تقول : اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك شيئاً ، وأنا أعلم ، وأستغفرك لما تعلم ولا أعلم ، بقولها ثلاث مرات " . وروي أيضاً عن أبي إمامة الباهلي رضي الله تعالى عنه ، قال : ذكر لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) رجلان أحدهما عابد والآخر عالم ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : " فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم " . ثم قال : " إن الله وملائكته وأهل السموات وأهل الأرضين حتى النملة في جحرها ، وحتى الحوت في البحر ليصلون على معلمي الناس الخير " . قال الترمذي : حديث حسن صحيح .
وسمعت أبا عثمان الحسين بن حريث الخزاعي يقول : سمعت الفضيل بن عياض يقول : عالم عامل معلم يدعى كثيراً في ملكوت السموات . وروي أن النملة التي خاطبت سليمان عليه الصلاة والسلام أهدت إليه نبقة فوضعتها في كفه وقالت :
ألم ترنا نهدي إلى الله ماله . . . وإن كان عنه ذا غنى فهو قابله
ولو كان يهدى للجليل بقدره . . . لقصر عنه البحر حين يسائله
ولكننا نهدى إلى من نحبه . . . فيرضى به عنا ويشكر فاعله
وما ذاك إلا من كريم فعاله . . . وإلا فما في ملكنا من يشاكله
فقال سليمان عليه السلام : بارك الله فيكم . فهم بتلك الدعوة أشكر خلق الله ، وأكثر خلق الله توكلا على الله تعالى .
روي أن رجلا استوقف المأمون ليسمع منه فلم يقف له ، فقال : يا أمير المؤمنين إن الله استوقف سليمان بن داود عليهما السلام لنملة ليستمع منها ، وما أنا عند الله بأحقر من نملة ، وما أنت عند الله بأعظم من سليمان فقال له المأمون : صدقت ، ووقف له وسمع له وقضى حاجته . ومن شعر الإمام تاج الدين اليمني في منزل فيه نمل قوله :
ما لي أرى منزل المولى الأديب به . . . نمل تجمع في أرجائه زمرا
فقال : لا تعجبن من نمل منزلنا . . . فالنمل من شأنها أن تتبع الشعرا
فائدة أخرى : قال الإمام العلامة فخر الدين الرازي ، في تفسير قوله تعالى : " حتى إذا أتوا على وادي النمل قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم " الآية . وادي النمل بالشام كثير النمل . فإن قيل : لم أتى بعلى ؟ قلت : لوجهين أحدهما : أن إتيانهم كان من فوق ، فأتى بحرف(2/500)
"""""" صفحة رقم 501 """"""
الاستعلاء ، الثاني : أنه يراد به قطع الوادي وبلوغ آخره من قولهم : أتى على الشيء إذا بلغ آخره فتكلمت النملة بذلك ، وهذا غير مستبعد ، فإن حصول العلم والنطق لها ممكن في نفسه ، والله سبحانه قادر على كل الممكنات .
وحكي عن قتادة أنه دخل الكوفة ، فاجتمع عليه الناس ، فقال : سلوا عما شئتم ، وكان أبو حنيفة حاضراً ، وهو يومئذ غلام حدث ، فقال : سلوه عن نملة سليمان أكانت ذكراً أم أنثى ؟ فسألوه فأفحم ، فقال أبو حنيفة : كانت أنثى . فقيل له : كيف عرفت ذلك ؟ فقال : من قوله تعالى : " قالت " ولو كانت ذكراً لقال قال نملة ، لأن النملة مثل الحمامة والشاة ، في وقوعها على الذكر والأنثى ، قال : ورأيت في بعض الكتب أن تلك النملة ، إنما أمرت رعيتها بالدخول في مساكنها ، لئلا ترى النعم التي أوتيها سليمان وجنوده ، فتقع في كفران نعمة الله عليه . وفي هذا تنبيه على أن مجالسة أرباب الدنيا محظورة .
يروى أن سليمان قال لها : لم قلت للنمل ادخلوا مساكنكم أخفت عليها مني ظلماً ؟ قالت : لا ولكني خشيت أن يفتنوا بما يرون من جمالك وزينتك فيشغلهم ذلك عن طاعة الله .
قال الثعلبي وغيره : إنها كانت مثل الذئب في العظم ، وكانت عرجاء ذات جناحين . وذكر عن مقاتل أن سليمان عليه السلام سمع كلامها من ثلاثة أميال . وقال بعض أهل التذكير : إنها تكلمت بعشرة أنواع من البديع ، قولها : " يا " نادت " أيها " نبهت " النمل " سمت " ادخلوا " أمرت " مساكنكم " نعتت " ولا يحطمنكم " حذرت " سليمان " خصت " وجنوده " عمت " وهم " أشارت " لا يشعرون " اعتذرت . والمشهور أنه النمل الصغار . واختلف في اسمها فقيل : كان اسمها طاخية ، وقيل كان اسمها حزمى . قيل : كان نمل الوادي كالذئاب ، وقيل : كالبخاتي .
قال السهيلي ، في التعريف والإعلام : ولا أدري كيف يتصور للنملة اسم علم ، والنمل لا يسمي بعضه بعضاً ولا الآدمي يمكنه تسمية واحدة منها باسم علم ، لأنه لا يتميز للآدميين بعضاً من بعض ، ولا هم أيضاً واقعون تحت ملك بني آدم ، كالخيل والكلاب ونحوهما ، لأن العلمية فيم كان كذلك موجودة عند العرب .
فإن قلت : إن العلمية موجودة في الأجناس كثعالة وأسامة وجعار في الضبع ونحو هذا كثير ، فالجواب أن هذا ليس من أمر النمل ، لأنهم زعموا أنه اسم علم لنملة واحدة معينة من بين سائر النمل . وثعالة ونحوه مختص بواحد من الجنس ، بل كل واحد رأيته من ذلك الجنس فهو ثعالة ، وكذلك أسامة وابن آوى وابن عرس وما أشبه ذلك . فإن صح ما قالوا ، وله وجه فهو أن تكون هذه النملة الناطقة ، قد سميت بهذا الاسم في التوراة ، أو في الزبور ، أو في بعض الصحف ، أو سماها الله تعالى بهذا الاسم ، وعرفها به جميع الأنبياء قبل سليمان أو بعده ، وخصت بالتسمية لنطقها وإيمانها ، ومعنى قولنا : وإيمانها أنها قالت للنمل : " وهم لا يشعرون " ، وهو التفاتة مؤمن أي أن سليمان عليه السلام من عدله وفضله ، وفضل جنوده ، لا يحطمون نملة فما فوقها ، إلا وهم لا يشعرون .(2/501)
"""""" صفحة رقم 502 """"""
وقد قيل : إنما كان تبسم سليمان سروراً بهذه الكلمة منها ، ولذلك أكد التبسم بقوله : ضاحكاً ، إذ قد يكون التبسم من غير ضحك ولا رضا ، ألا تراهم يقولون : تبسم تبسم الغضبان ، وتبسم تبسم المستهزئ ، وتبسم تبسم الضحك ، وتبسم الضحك ، إنما هو من سرور ولا يسر نبي بأمر دنيا ، وإنما يسر بما كان من أمر الحين فقولها : وهم لا يشعرون إشارة إلى الدين والعدل انتهى .
فائدة أخرى : روى أبو داود والحاكم وصححه ، أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال للشفاء بنت عبد الله : " علمي حفصة رقية النملة كما علمتها الكتابة " . وفي صحيح مسلم ، أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أرخص في الرقية من النملة ، والنملة قروح تخرج في الجنب من البدن ، ورقيتها شيء كانت تستعمله النساء ، يعلم كل من سمعه أنه كلام لا يضر ولا ينفع ، وهو أن يقال : العروس تحتفل وتختضب وتكتحل ، وكل شيء تفتعل ، غير أن لا تعصي الرجل ، أراد النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بهذا المقال تأنيب حفصة ، لأنه ألقى إليها سراً فأفشته . فكان هذا من لغو الكلام ومزاحه . كقوله ( صلى الله عليه وسلم ) للعجوز : " لا تدخل الجنة عجوز " .
ورأيت في بعض الكتب ، بخط بعض الأئمة الحفاظ ، أن رقية النملة أن يصوم راقيها ثلاثة أيام متوالية ، ثم يرقيها بكرة كل يوم من الثلاثة ، عند طلوع الشمس ، فيقول : اقسطري وانبرجي فقد نوه بنوه بربطش ديبقت اشف أيها الجرب بألف لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم . ويكون في إصبعه زيت طيب ، يمسح به عليها ويتفل على الموضع عقب الرقية قبل المسح بالزيت فافهم .
روى الدارقطني والحاكم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " لا تقتلوا النملة فإن سليمان عليه السلام خرج ذات يوم يستسقي ، فإذا هو بنملة مستلقية على قفاها رافعة قوائمها ، تقول : اللهم إنا خلق من خلقك ، لا غنى لنا عن فضلك ، اللهم لا تؤاخذنا بذنوب عبادك الخاطئين ، واسقنا مطراً تنبت لنا به شجراً ، وتطعمنا به ثمراً ، فقال سليمان لقومه : ارجعوا فقد كفيتم وسقيتم بغيركم " . فوائد : قال الخلال : أخبرنا عبد الله بن أحمد بن حنبل ، قال : حدثنا أبي قال : حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث قال : حدثنا أبو عبد الله الكواز قال : حدثتني حبيبة مولاة الأحنف بن قيس ، أن الأحنف بن قيس رآها تقتل نملة فقال : لا تقتليها ، ثم دعا بكرسي فجلس عليه ، فحمد الله تعالى وأثنى عليه ثم قال : إني أحرج عليكن إلا خرجتن من داري فاخرجن فإني أكره أن تقتلن في داري ، قال : فخرجن فما رؤي فيه منهن بعد ذلك اليوم واحدة . قال عبد الله بن الإمام أحمد : رأيت أبي فعل ذلك حرج على النمل ، وأكثر علمي أنه جلس على كرسي كان يجلس عليه لوضوء الصلاة ، ثم رأيت النمل قد خرجن من بعد ذلك كبار سود فلم أرهن بعد ذلك .
ورأيت بخط بعض المشايخ لإذهاب النمل أن يكتب في إناء نظيف . هذه الأسماء ، وتغسل(2/502)
"""""" صفحة رقم 503 """"""
بماء وترش في بيت النمل ، فإنه يذهب ولا يطلع ، وهو : الحمد لله باهياً شراهيا سأريكم باهيا شراهيا . ورأيت أيضاً ، في بعض المصنفات ، أن يكتب على أربع شقف نيئات ، وتجعل في أربع أركان المكان الذي فيه النمل ، فإن النمل يرحل وربما مات ، وهو " وإذ قالت طائفة منهم : يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا " لا تسكنوا في منزلنا فتفسدوا ، " والله لا يصلح عمل المفسدين ، " ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا فماتوا " كذلك يموت النمل من هذا المكان وبذهب بقدرة الله .
ومما جرب أيضاً فوجدناه نافعاً أن يكتب على لوح ماعز ويوضع على قرية النمل ، فإنه يرحل وهو : ق و ل ه ا ل ح ق ول ه ا ل م ل ك الله الله الله وما لنا أن لا نتوكل على الله وقد هدانا سبلنا ، ولنصبرن على ما آذيتمونا ، وعلى الله فليتوكل المتوكلون . " قالت نملة : يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون " ، اهيا اهيا شراهيا أدونائى آل شدائى ارحل أيها النمل من هذا المكان بحق هذه الأسماء وبألف لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ف ق خ م م خ م ت .
ومن المجربات أيضاً أنك إذا كان لك حلواء أو عسل أو سكر أو ما هو شبيه بذلك وكان في إناء ، ومررت بيديك على شفته ، وقلت : هذا لوكيل القاضي ، أو هذا لرسول القاضي ، أو هذا لغلام القاضي . فإن النمل لا يقربه ، وقد فعل ذلك مراراً وشوهد فلا يصل الذر إليه .
الحكم : يكره أكل ما حملته النمل بفيها وقوائمها ، لما روى الحافظ أبو نعيم في الطب النبوي ، عن صالح بن خوات بن جبير ، عن أبيه عن جده رضي الله تعالى عنه ، أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) " نهى أن يؤكل ما حملت النمل بفيها وقوائمها " ، ويحرم أكل النمل لورود النهي عن قتله ، وقد تقدم .
ونقل الرافعي في البيع ، وجهاً عن أبي الحسن العبادي أنه يجوز بيع النمل بعسكر مكرم ، لأنه يعالج به السكر ، وبنصيبين لأنه يعالج به العقارب الطيارة ، وعسكر مكرم قرية من قرى الأهواز والسكر بفتح السين والكاف ومراده بالعقارب الطيارة الجراد .
الأمثال : قالوا : ما عسى أن يبلغ عض النمل ، يضرب لمن لا يبالي بوعيده ، وقالوا : أحرص من نملة وأروى من نملة لأنها تكون في الفلوات فلا تشرب ماء وقالوا : أضعف وأكثر وأقوى من النمل .
وحكي أن رجلا قال لبعض الملوك : جعل الله قوتك مثل قوة النمل ، فأنكر عليه فقال : ليس من الحيوان ما يحمل ما هو أكبر منه إلا النملة ، وقد أهلك الله بالنمل أمة من الأمم وهي جرهم . وفي سيرة ابن هشام ، في غزوة حنين عن جبير بن مطعم رضي الله تعالى عنه ، أنه قال : لقد(2/503)
"""""" صفحة رقم 504 """"""
رأيت قبل هزيمة القوم ، والناس يقتتلون ، مثل النجاد الأسود نزل من السماء حتى سقط بيننا وبين القوم ، فنظرت فإذا هو نمل أسود مبثوث قد ملأ الوادي ، فلم أشك أنها الملائكة ولم تكن إلا هزيمة القوم . الخواص : بيظ النمل وهو بالظاء المشالة كما تقدم ، إذا أخذ وسحق وطلي به موضع منع إنبات الشعر فيه ، وإذا نثر بيظه بين قوم تفرقوا شذر مذر ، ومن سقي منه وزن درهم لم يملك أسفله بل يغلبه الحبق أي الضراط ، وإن سدت قريته باخثاء البقر لم يفتحها بل يهرب من مكانه ، وكذلك يفعل روث القط وإذا سد جحر النمل بحجر المغناطيس مات ، وإذا دقت الكرويا وجعلت في جحر النمل منعتهن الخروج ، وكذلك الكمون . وإذا صب ماء السذاب في قرية النمل قتله ، وإذا رش به بيت هربت البراغيث منه ، وكذلك يفعل ماء السماق في البراغيث ، وإذا قطر شيء من القطران في قرية النمل متن والكبريت إذا دق ونثر في قريتها هلكت ، وإن علقت خرقة امرأة حائض حول شيء لم يقربه النمل . وإذا أخذت سبع نملات طوال وتركتها في قارورة مملوءة بدهن الزيبق ، وسددت رأسها ودفنتها في زبل يوماً وليلة ثم أخرجتها وصفيت الدهن عنها ، ثم مسحت به الإحليل وما فوقه هيج الباه ، وأكثر العمل وقوى الإنعاظ . مجرب .
التعبير : النمل في الرؤيا يعبر بناس ضعفاء أصحاب حرص ، والنمل يعبر أيضاً بالجند والأهل ، ويعبر بالحياة ، فمن رأى النمل دخل قرية أو مدينة فإنه جند يدخلها ، ومن سمع كلام النمل نال خصباً وخيراً ، ومن رأى النمل دخل منزله ومعه أحمال ثقيلة فإن الخصب والخير يدخل داره ، ومن رأى النمل على فراشه كثرت أولاده ، ومن رأى النمل خرج من داره نقص عدد أهله . ومن رأى النمل يطير من مكانه وفيه مريض ، فإن المريض يهلك أو يسافر من ذلك المكان قوم ويلقون شدة ، والنمل يدل على خصب ورزق لأنه لا يكون إلا في مكان فيه الرزق ، وإذا رأى المريض كأن النمل يدب على جسده فإنه يموت ، لأن النمل حيوان أرضي بارد . وقال جاماست : من رأى النمل يخرج من مكانه ناله هم والله تعالى أعلم .
النهار : ولد الحبارى ، قالت العرب : " أحمق من نهار " ، قال البطليوسي ، في شرح أدب الكاتب : قد اختلف اللغويون في النهار ، فقال قوم : هو فرخ القطاة ، وقال قوم : إنه ذكر البوم ، والأنثى صيف ، وقيل : إنه ذكر الحبارى ، والأنثى ليل ، وقيل : إنه فرخ الحبارى ، قال الشاعر :
ونهار رأيت منتصف اللي . . . ل وليل رأيت وسط النهار
وهذا القول هو الصواب والله أعلم .
النهاس : بتشديد النون الأولى ، وبالسين في آخر ، الأسد .
النهس : طائر يشبه الصرد ، إلا أنه غير ملمع يديم تحريك ذنبه ويصيد العصافير ، وجمعه نهسان كصرد وصردان . وقال ابن سيده : النهس ضرب من الصرد ، وسمي بذلك لأنه ينهس اللحم . والنهس أصله أكل اللحم بطرف الأسنان ، والنهش بالشين المعجمة أكله بجميعها والطير إذا أكل اللحم إنما يأكله بطرف منقاره فلذلك سمي نهساً .(2/504)
"""""" صفحة رقم 505 """"""
وفي مسند أحمد ومعجم الطبراني أن زيد بن ثابت قال : رأيت شرحبيل بن سعد وقد صاد نهساً بالأسواق ، فأخذه من يده وأرسله . والأسواق اسم موضع بحرم المدينة الذي حرمه رسول الله . وقد تقدم ذكره في الدبسي وإنما أرسله لأن صيد المدينة حرام كمكة .
الحكم : قال الشافعي : النهس حرام كالسباع التي تنهس اللحم .
النهام : بضم النون طائر ، قاله السهيلي في إسلام عمر رضي الله تعالى عنه ، وقال الجوهري : هو ضرب من الطير .
النهس : كجعفر الذئب ، وقيل : ولد الأرنب وقيل الضبع .
النهشل : الذئب والصقر أيضاً وقد تقدم كل منهما في بابه .
النواح : طائر كالقمري ، وحاله حاله إلا أنه أحر منه مزاجاً وأدمث صوتاً ، ولقد كاد أن يكون للأطيار الدمثة الشجية الأصوات ملكاً وهو يهيجها إلى التصويت لأنه أشجاهاً صوتاً ، وأطيبها نغماً . وجميعها تهوى استماع صوته وهو يطرب لغناء نفسه .
النوب : بضم النون النحل لا واحد له من لفظه ، وقيل واحدها نائب . قال أبو عبيدة : سميت نوباً لأنها تضرب إلى السواد . وقال أبو عبيد : سميت به لأنها ترعى ثم تنوب إلى موضعها ، قال أبو ذؤيب :
إذا لسعته النحل لم يرج لسعها . . . وخالفها في بيت نوب عواسل
أي لم يخف ولم يبال ، فاستعمل الرجاء بمعنى الخوف . ومنه قوله تعالى : " ما لكم لا ترجون الله وقارا " أي لا تخافون عظمة الله . وقوله تعالى : " وقال الذين لا يرجون لقاءنا " الآية ، أي لا يخافون . قال ابن عطية : والذي يظهر لي أن الرجاء في الآية وفي البيت على بابه ، لأن خوف لقاء الله مقترن أيضاً برجائه فإذا نفى سبحانه الرجاء عن أحد ، فإنما أخبر عنه بأنه يكذب بالبعت لنفي الخوف والرجاء انتهى . النورس : طير الماء الأبيض ، وهو زمج الماء ، وقد تقدم في باب الزاي .
النوص : بفتح النون الحمار الوحشي .
النون : الحوت وجمعه نينان وأنوان ، كما قالوا : حوت وحيتان وأحوات ، وقد تقدم في أول الكتاب في باب الباء الموحدة ، في لفظ بالام ، ما رواه مسلم والنسائي عن ثوبان رضي الله تعالى عنه قال : إن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) سأله بعض اليهود عن تحفة أهل الجنة فقال : " زيادة كبد الحوت " . وكان علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه يقول : سبحان من يعلم اختلاف النينان في البحار الغامرات . وروى الحاكم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، قال : أول شيء خلقه الله(2/505)
"""""" صفحة رقم 506 """"""
القلم ، فقال له : اكتب ، فقال : وما أكتب . قال : القدر ، فجرى من ذلك اليوم بما هو كائن إلى يوم الساعة . قال : وكان عرشه على الماء فارتفع بخار الماء فتفتقت منه السموات ، ثم خلق النون فبسطت الأرض عليه فالأرض على ظهر النون ، فاضطرب النون فمادت الأرض فأثبتت بالجبال ، وإن الجبال لتفخر على الأرض .
وقال كعب الأحبار : إن إبليس تغلغل إلى الحوت الذي على ظهره الأرض كلها فوسوس إليه ، وقال : أتدري ما على ظهرك يا لوتياء من الأمم والدواب والشجر والجبال وغير ذلك ، فلو نفضتهم فألقيتهم عن ظهرك أجمع لاسترحت ، فهم لوتياء أن يفعل ذلك ، فبعث الله إليه دابة ، فدخلت منخره ووصلت إلى دماغه فعج الحوت إلى الله تعالى منها ، فأذن الله لها فخرجت . قال كعب : فوالذي نفسي بيده لينظر إليها وتنظر إليه إن هم بشيء من ذلك عادت إليه كما كانت . وقال علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه : اسم الحوت يهموت . قال الراجز :
مالي أراكم كفكم سكوتا . . . والله ربي خالق يهموتا
وفي مسن الدارمي ، عن مكحول قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : " فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم " . ثم تلا هذه الآية : " إنما يخشى الله من عباده العلماء " ثم قال : " إن الله وملائكته وأهل سمواته وأرضه والنون في البحر ، يصلون على الذين يعلمون الناس الخير " .
وفي شعب البيهقي ، عن خولة بنت قيس ، امرأة حمزة وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قالا : إن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " من مشى إلى غريمه لحقه ، صلت عليه دواب الأرض ، ونون الماء وغرس الله له بكل خطوة شجرة في الجنة ، ولا غريم يلوي غريمه وهو قادر ، إلا كتب الله عليه في كل يوم إثماً " .
وروى أبو بكر البزار عن ابن عباس رضي الله عنهما ، قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : " من مشى إلى غريمه لحقه صلت عليه دواب الأرض ، ونون الماء وينبت له بكل خطوة شجرة في الجنة وذنب يغفر " .
وروى الدينوري ، في المجالسة في أول الجزء السادس ، عن الأوزاعي رحمه الله ، أنه قال : كان عندنا صياد يصطاد النينان ، فكان يخرج إلى الصيد ، فلا يمنعه مكان الجمعة عن الخروج ، فخسف به وببغلته ، فخرج الناس وقد ذهبت به بغلته في الأرض ، فلم يبقى منها إلا أذناها وذنبها .
وفيها أيضاً ، في أول الجزء العشرين ، عن زيد بن أسلم ، قال : جلس إلي رجل قد ذهبت يمينه من عضده ، فجعل يبكي ويقول : من رآني فلا يظلمن أحداً فقلت له : ما حالك قال : بينما أنا أسير على شط البحر ، إذ مررت بنبطي قد اصطاد سبعة أنوان ، فقلت : أعطني نوناً فأبى ،(2/506)
"""""" صفحة رقم 507 """"""
فأخذت منه نوناً وهو كاره ، فانقلب إلي النون وهو حي فعض إبهامي عضة يسيرة ، فلم أجد لها ألماً ، فانطلقت به إلى أهلي فصنعوه وأكلنا فوقعت الأكلة في إبهامي ، فاتفق الأطباء على أن أقطعها فقطعتها ، ثم عالجتها حتى قلت : قد برئت فوقعت الأكلة في كفي ، ثم في ساعدي ، ثم في عضدي ، فمن رآني فلا يظلمن أحداً .
وذو النون لقب نبي الله يونس بن متى عليه الصلاة والسلام ، لأنه ابتلعه الحوت " فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين " روى الترمذي عن سعد بن أبي وقاص ، المجاب الدعوة رضي الله تعالى عنه ، قال : سمعت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يقول : " إني لأعلمكم كله ما قالها مكروب إلا فرج الله كربه عنه ، ولا دعا بها عبد مسلم إلا استجيب له ، دعوة أخي يونس لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين " . وجمعت الظلمات لشدة تكاثفها عليه ، فإنها ظلمة بطن الحوت وظلمة الليل وظلمة البحر ، قيل : وظلمة حوت التقم الحوت الأول . واختلفوا في مدة مكثه في بطنه ، فقيل : سبع ساعات ، وقيل : ثلاثة أيام ، وقيل : سبعة أيام ، وقيل : أربعة عشر يوماً ، وقال السهيلي : أقام في بطنه أربعين يوماً ، يزدد به في ماء الدجلة .
ونقل الإمام أحمد ، في كتاب الزهد ، أن رجلا قال للشعبي : مكث يونس في بطن الحوت أربعين يوماً فقال الشعبي : ما مكث إلا أقل من يوم التقمه ضحى ، فلما كان بعد العصر وقاربت الشمس الغروب ، تثاءب الحوت فرأى يونس ضوء الشمس ، فقال : لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين ، قال : فنبذه وصار كأنه فرخ .
فقال رجل للشعبي : أتنكر قدرة الله ؟ قال : ما أنكر قدرة الله ، ولو أراد الله تعالى أن يجعل في بطنه سوقاً لفعل .
وروى البزار ، بإسناد جيد ، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه ، قال : سمعت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يقول : " لما أراد الله تعالى حبس يونس في بطن الحوت ، أوحى الله إلى الحوت أن لا تخدش له لحماً ، ولا تكسر له عظماً ، فأخذه ثم أهوى به إلى مسكنه في البحر ، فلما انتهى به إلى أسفل البحر ، سمع يونس حساً ، فقال في نفسه : ما هذا ؟ فأوحى الله إليه ، وهو في بطن الحوت ، أن هذا تسبيح دواب البحر ، فسبح وهو في بطن الحوت ، فسمعت الملائكة تسبيحه ، فقالوا : ربنا إننا نسمع صوتاً ضعيفاً بأرض غريبة ، فقال تعالى : ذاك عبدي يونس ، حبسته في بطن الحوت ، في بطن البحر . فقالوا : العبد الصالح الذي كان يصعد إليك منه في كل يوم وليلة عمل صالح . قال عز وجل : نعم فشفعوا له عند ذلك ، فأمر الله تعالى الحوت فقذفه في الساحل . كما قال الله تعالى : " فنبذناه بالعراء وهو سقيم " .
وروي أن الحوت مشى به في البحار كلها ، حتى ألقاه في نصيبين ، من ناحية الموصل ، فنبذه الله تعالى في عراء ، وهي الأرض الفيحاء التي لا شجر فيها ولا معلم . وهو سقيم كالطفل المنفوس ، مضغة لحم إلا أنه لم ينقص من خلقه شيء ، فأنعشه الله في ظل اليقطينة بلبن أروية(2/507)
"""""" صفحة رقم 508 """"""
تغاديه وتراوحه ، وقيل : بل كان يتغذى من اليقطينة ، فيجد منها ألوان الطعام وأنواع شهواته . والحكمة في إنبات الله اليقطينة عليه ، أن من خاصية اليقطين أن لا يقربه الذباب ، ومن خواصه أن ماء ورقه إذا رش به مكان لا يقربه ذباب أيضاً . فأقام عليه الصلاة والسلام تحتها إلى أن صح جسده ، لأن ورق الفرع أنفع شيء لمن يسلخ جلده عن جسده ، كيونس عليه السلام . وروي أنه عليه الصلاة والسلام كان يوماً نائماً ، فأيبس الله تعالى تلك اليقطينة . وقيل : أرسل الله تعالى عليها الأرضة ، فقطعت عروقها فانتبه عليه السلام فوجد حر الشمس ، فعز عليه شأنها وجزع ، فأوحى الله تعالى إليه : يا يونس جزعت ليبس يقطينة ، ولم تجزع لهلاك مائة ألف أو يزيدون ، تابوا فتيب عليهم . وما أحسن قول الجوهري ، صاحب الصحاح :
فها أنا يونس في بطن حوت . . . بنيسابور في ظل الغمام
فبيتي والفؤاد ويوم دجن . . . ظلام في ظلام في ظلام
وقول الآخر :
مغيث أيوب والكافي لي النون . . . ينيلني فرجاً بالكاف والنون
وقول آخر في المعنى :
ربما عسالج القوافي رجال . . . في القوافي فتلتوي وتلين
طاوعتهم عين وعين وعين . . . وعصتهم نون ونون ونون
قال الشيخ جمال الدين بن الحاجب : معنى قوله : عين وعين وعين ، يعني به نحو يد وغد ودد ، لأنها عينات مطاوعات في القوافي ، مرفوعة كانت أو منصوبة أو مجرورة ، لأن وزن يدفع ووزن غدفع ووزن ددفع ، وقوله : وعصتهم نون ونون ونون : الحوت يسمى نوناً ، والدواة تسمى نوناً والنون الذي هو الحرف وكلها نونات غير مطاوعة في القوافي ، إذ لا يلتئم واحد منها مع الآخر .
فائدة : روى الدينوري في المجالسة ، وأبو عمر بن عبد البر في التمهيد ، عن أبي العباس محمد بن إسحاق السراج ، قال : حدثنا هشيم عن علي بن زيد ، عن يوسف بن مهران ، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، قال : كتب صاحب الروم إلى معاوية رضي الله تعالى عنه يسأله عن أفضل الكلام ما هو ؟ وعن الثاني والثالث والرابع والخامس ، وكتب إليه يسأله عن أكرم الخلق على الله ، وعن أكرم الإماء على الله ، وعن أربعة من الخلق ، فيهم الروح لم يرتكضوا في رحم ، ويسأله عن قبر مشى بصاحبه ، وعن المجرة وعن القوس ، وعن مكان طلعت فيه الشمس ، لم تطلع عليه قبل ذلك ، ولم تطلع عليه بعده ؟ فلما قرأ معاوية الكتاب ، قال : أخزاه الله تعالى ، وما علمي بما هاهنا فقيل له : اكتب إلى ابن عباس فكتب إليه بذلك ، فكتب إليه ابن عباس رضي الله تعالى عنهما :(2/508)
"""""" صفحة رقم 509 """"""
إن أفضل الكلام لا إله إلا الله كلمة الإخلاص لا يقبل عمل إلا بها ، والتي تليها سبحان الله وبحمده صلاة الحق ، والتي تليها الحمد الله كلمة الشكر ، والتي تليها الله أكبر ، والخامس لا حول ولا قوة إلا بالله .
وأما أكرم الخلق على الله عز وجل فآدم عليه السلام ، خلقه الله بيده ، وعلمه الأسماء كلها ، وأما أكرم إمائه عليه ، فهي مريم التي أحصنت فرجها ، فنفخ فيه من روحه .
وأما الأربعة الذين لم يرتكضوا في الرحم ، فآدم وحواء وناقة صالح والكبش الذي فدى به إسماعيل عليه الصلاة والسلام ، وقيل : عصا موسى عليه السلام ، حين ألقاها ، فصارت ثعباناً مبيناً .
وأما القبر الذي سار بصاحبه ، فهو الحوت حين التقم يونس ، وأما المجرة فباب السماء ، وأما القوس فإنه أمان لأهل الأرض من الغرق ، بعد قوم نوح . وأما المكان الذي طلعت عليه الشمس ، ولم تطلع عليه قبله ولا بعده ، فهو المكان الذي انفلق في البحر لبني إسرائيل . فلما قدم عليه الكتاب ، أرسل به إلى صاحب الروم فقال : لقد علمت أن معاوية لم يكن له بهذا علم ، وما أصاب هذا إلا رجل من بيت النبوة .
باب الهاء
الهالع : النعام السريع في مضيه والأنثى هالعة .
الهامة : بتخفيف الميم على المشهور ، طير الليل وهو الصدى ، والجمع هام وهامات قال ذو الرمة :
قد أعسف النازح المجهول معسفه . . . في ظل أخضر يدعو هامة البوم
وقد تقدم أن الذكر من البوم يختص باسم الصدى والصيدح ، وتقدم أن هذه الأسماء تقع على طير الليل بطريق الاشتراك ، وتسمية هذه الطيور بالصدي والصودي ، لما تعتقده الأعراب من كونه عطشان ، لا يزال يقول : اسقوني .
والصدى العطش ، والصادي العطشان . ويقال : رجل صديان وامرأة صديا . والصدى أيضاً صوت يرجع من الصوت ، إذا خرج ووجد ما يحبسه من حجر ونحوه .
والعرب تقول : أصم الله صداه ، إذا دعوا على شخص بالخرس ، وللعنى لا جعل الله له صدى يرجع إليه بصوته ، وقد تقدم ذلك .
ويقع الصدى أيضاً على الدماغ لكونه متصوراً بصورة الصدى ، ولهذا سمي الدماغ هامة ، لأنه يشبه رأس الصدى ، لأن الصدى لما كان كبير الرأس ، واسع العين وفيه شبه برأس ابن آدم ، سموا الرأس هامة باسمه . والهامة هو الصدى ، وتسميته بالهامة يحتمل أن تكون للمعنى الذي(2/509)
"""""" صفحة رقم 510 """"""
لأجله سمي صدى ، وهو العطش .
ويجوز أن يراعى الاشتقاق على أن يكون قد اشتق من الهيام بضم الهاء ، وهو داء يصيب الإبل فتشرب ولا تروى ، ومنه قوله تعالى : " فشاربون شرب الهيم " وهو جمع أهيم كأحمر ، والهيم الإبل التي أصابها الهيام ، يقال : جمل أهيم وناقة هيماء وإبل هيم ، قال الشاعر :
بي اليأس أو داء الهيام أصابني . . . فإياك عني لا يكن بك ما بيا
وقال لبيد :
أجزت على معارفها بشعب . . . وأطلاح عن المهري هيم
وقيل : الهيم الأرض السهلة ذات الرمل ، ويحتمل أنه إنما سمي هامة باسم رأسه تشبيهاً بهامة الإنسان وهي رأسه قال الشاعر :
ونضرب بالسيوف رؤوس قوم . . . أزلنا هامهن عن الصدور
وعلى هذا يكون التجوز حاصلا من الجانبين ، وهذا قد وجد في كلام بعضهم الإيماء إليه ، وسمي بعضهم الهامة بالمصاص ، لأنه ينزل إلى الحمام فيمص دمها ، وإنما سموا بعض هذه الطيور بومة ، لأنها تصيح بهذا الحرف ، وبعضها يصيح بقاف وواو وقاف ، فيسمونها قوقة وأم قويق ، وكل هذا من جنس الهوام .
وروى مسلم وغيره ، عن جابر رضي الله تعالى عنه ، قال : إن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " لا صفر ولا هامة " . وفيه تأويلان : أحدهما أن العرب كانت تتشاءم بالهامة ، وهي هذا الطائر المعروف من طير الليل كما تقدم . وقيل : هو البومة كانت إذا سقطت على دار أحدهم قالوا : نعت إليه نفسه أو بعض أهله ، وهذا تفسير الإمام مالك بن أنس رحمه الله ، والثاني أن العرب ، كانت تعتقد أن روح القتيل ، الذي لم يؤخذ بثأره ، تصير هامة ، فتزقو عند قبره وتقول : اسقوني اسقوني من دم قاتلي فإذا أخذ بثأره طارت .
قال لبيد :
فليس الناس بعدك في نفير . . . وما هم غير أصداء وهام
وقيل : كانوا يزعمون أن عظام الميت ، وقيل روحه تصير هامة ، ويسمونها الصدى ، وهذا تفسير أكثر العلماء وهو المشهور ، ويجوز أن يكون المراد النوعين ، وأنه عليه الصلاة والسلام نهى عنهما جميعاً .
روى أبو نعيم ، في الحلية عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه ، قال : كنت عند كعب(2/510)
"""""" صفحة رقم 511 """"""
الأحبار ، وهو عند عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه ، فقال كعب : يا أمير المؤمنين ، ألا أخبرك بأغرب شيء قرأته في كتب الأنبياء عليهم السلام : أن هامة جاءت إلى سليمان بن داود عليهما الصلاة والسلام ، فقالت : السلام عليك يا نبي الله ، فقال : وعليك السلام يا هامة ، أخبريني كيف لا تأكليئ من الزرع ؟ قالت : يا نبي الله ، إن آدم أخرج من الجنة بسببه ، قال : فكيف لا تشربين الماء . قالت : يا نبي الله لأنه غرق فيه قوم نوح فمن أجل ذلك لا أشربه ، قال لها سليمان : كيف تركت العمران وسكنت الخراب ؟ قالت : لأن الخراب ميراث الله ، فأنا أسكن ميراث الله ، قال الله تعالى : " وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها فتلك مساكنهم لمن بعدهم إلا قليلا وكنا نحن الوارثين " .
فالدنيا ميراث الله كلها ، قال سليمان : فما تقولين إذا جلست فوق خربة ؟ قالت : أقول أين الذين كانوا يتنعمون فيها ؟ قال سليمان : فما صياحك في الدور ، إذا مررت عليها ؟ قالت : أقول : ويل لبني آدم كيف ينامون وأمامهم الشدائد ؟ قال سليمان عليه السلام : فما لك لا تخرجين بالنهار ؟ قالت : من كثرة ظلم بني آدم لأنفسهم ، قال : فأخبريني ما تقولين في صياحك ؟ قالت : أقول : تزودوا يا غافلين ، وتهيئوا لسفركم ، سبحان خالق النور . فقال سليمان عليه السلام : ليس في الطيور طير أنصح لابن آدم ، ولا أشفق عليه من الهامة ، وما في قلوب الجهال أبغض منها .
فرع في فتاوي قاضي خان : إذا صاحت الهامة فقال أحد : يموت رجل ، فقال بعضهم : يكون ذلك كفراً إنما يقال هذا على جهة التفاؤل انتهى . وهو قريب مما تقدم في العقعق .
والهوام حشرات الأرض وروى ابن حبان وأبو داود الطيالسي ، من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " إن هذه الهوام من الجن فإذا رأى أحدكم في بيته شيئاً منها فليحرج عليه ثلاث مرات " قال في النهاية : هو أن يقول لها : أنت في حرج إن عدت إلينا فلا تلومينا أن نضيق عليك بالتتبع والطرد والقتل .
وروى البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، قال : إن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان يعوذ الحسن والحسين يقول : " أعيذكما بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة ومن كل عين لامة " ، ثم يقول ( صلى الله عليه وسلم ) : " كان أبوكما إبراهيم عليه السلام يعوذ بها إسماعيل وإسحاق عليهما الصلاة والسلام " .
قال الخطابي : الهامة إحدى الهوام ذوات السموم كالحية والعقرب ونحوهما ، فإن قيل : في هذا الحديث دليل على أن للهامة حقيقة . فالجواب أن الهامة هنا بالتشديد ، وتلك بالتخفيف كما تقدم . والمراد هنا هوام الأرض من الحيات والعقارب ونحوهما ، كما قاله الخطابي ، أو المراد كل ما يهم بالأذى ، وهو اسم فاعل من هم يهم فهو هامة كأنه ( صلى الله عليه وسلم ) قال : أعيذكا من شر كل نسمة هامة بالأذى ، وقوله عليه الصلاة والسلام : " ومن كل عين لامة " معناه ذات لمم ، قال الخطابي : وكان(2/511)
"""""" صفحة رقم 512 """"""
أحمد بن حنبل رحمه الله يستدل بقوله " بكلمات الله التامة " على أن القرآن غير مخلوق ، ويقول : إن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لا يستعيذ بمخلوق ، وما من كلام مخلوق إلا وفيه نقص ، فالموصوف منه بالتمام هو غير مخلوق وهو كلام الله تعالى .
وفي الصحيحين وغيرهما ، عن كعب بن عجرة رضي الله تعالى عنه ، قال : في أنزلت هذه الآية " فمن كان منكم مريضاً أو به أذى من رأسه " أتيت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، فقال : " ادنه " فدنوت ثم قال : " ادنه " فدنوت ، فقال ( صلى الله عليه وسلم ) : " أيؤذيك هوامك " . قال ابن عوف : أظنه قال : نعم . فأمرني بفدية من صيام أو صدقة أو نسك ما تيسر .
وروى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه ، أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " إن لله مائة رحمة ، واحدة بين الجن والأنس والبهائم والهوائم فيها يتعاطفون ويتراحمون ، وبها تعطف الوحوش على أولادها ، وأخر تسعاً وتسعين رحمة ، يرحم الله بها عباده يوم القيامة " . وسيأتي هذا في باب الواو ، في لفظ الوحش إن شاء الله تعالى . وفي الإحياء ، في فضل الجمعة ، يقال : إن الطير والهوام يلقي بعضها بعضها في يوم الجمعة ، فتقول : سلام سلام يوم صالح ، وهو كذلك في قوت القلوب أيضاً .
وفي كتاب فردوس الحكمة ، آية في كتاب الله ، من قرأها يأمن من الهوام " إني توكلت على الله رب وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم " وقد تقدم نظير هذا في باب الباء الموحدة ، في البراغيث من رواية ابن أبي الدنيا ، في كتاب التوكل ، إن عامل إفريقية كتب إلى عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه ، يشكو إليه الهوام والعقارب ، فكتب إليه : وما على أحدكم إذا أمسى وأصبح أن يقول : " وما لنا أن لا نتوكل على الله وقد هدانا سبلنا " الآية .
وفي كتاب النصائح ، أن بعض السياحين ، كان مقداماً على كل هول يخافه المسافرون ، غير متحفظ من الهوام والسباع ، فتعجب منه قوم وخوفوه الغرر بنفسه ، فقال : إني على بصيرة من أمري ، وذلك أني سافرت تاجراً مع رفقة ، فكان سراق الأعراب ، يطوفون بنا كل ليلة ، وكنت أشد أصحابي ذكراً وأطولهم سهراً ، وكنت قد أكتريت مع رجل من الأعراب أعرفه بالصلاح والدين فلما رآني على هذه الحالة ، قال : صل على محمد ( صلى الله عليه وسلم ) مائة مرة ، ونم آمناً ، ففعلت ذلك ونمت ، فإذا رجل يوقظني فارتعت وقلت : من أنت ؟ فقال : اصطنعني واستتبني ، قلت : ما لك ؟ قال : هذه يدي قد احتبسها متاعك ، وإذا هو قد شق عدلا كنت نائماً عليه ، وأدخل يده لاستخراج الثياب منه ، فلم يستطيع إخراج يده فأيقظت المكاري وأخبرته وسألته أن يدعو له ، فقال : أنت(2/512)
"""""" صفحة رقم 513 """"""
أولى بالدعاء فإنه من أجلك أصيب ، فدعوت وأمن فأطلق عن الرجل ، فلا أنسى اسوداد يده من اختناق الدم فيها . وفيه أيضاً أنه صلوات الله وسلامه عليه ، قال : " من صلى علي يوم الجمعة ثمانين مرة غفر الله له ذنوب ثمانين سنة " قيل : يا رسول الله ، كيف نقول . قال ( صلى الله عليه وسلم ) : " قولوا اللهم صل على محمد عبدك ونبيك وحبيبك ورسولك النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم " .
روي أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه ، لما أتى إلى غار ثور مع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، سبق إلى دخوله ، فانبطح فيه وألقى نفسه ، فقال له النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : " لم فعلت هذا ؟ " قال : لأن هذه الغيران يكون فيها الهوام المؤذية ، فأحببت إن كان فيها شيء أن أقيك بنفسي وقيل : كان عليه رضي الله تعالى عنه برد ثمين فمزقه وحشا به الأحجرة فبقي جحران فسدهما بعقبيه .
والهامة في الرؤلا امرأة قوادة أو زانية .
وحكمها : تحريم الأكل .
الهبع : الفصيل الذي نتج في آخر النتاج ، يقال : ما له هبع ولا ربع ، والأنثى هبعة والجمع هبعات .
الهبلع : الكلب السلوقي ، قاله ابن سيده ، وقد تقدم ما في الكلب ، في باب الكاف .
الهجاة : الضفدع ، قاله ابن سيده أيضاً ، والمعروف الهاجة .
الهجرس : ولد الثعلب والجمع هجارس ، وقيل : هو ولد الدب ، وقال أبو زيد : هو القرد ، وفي الحديث أن عيينة بن حصن الفزاري مد رجله بين يدي رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، فقال أسيد بن حضير رضي الله عنه : يا عين الهجرس ، أتمد رجلك بين يدي رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ؟ وفي الاستيعاب ، في ترجمة أسيد بن حضير ، قال : جاء عامر بن الطفيل وأربد إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، فسألاه أن يجعل لهما نصيباً من تمر المدينة ، " فأبى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) " ، فقال عامر بن الطفيل : لأملأنها عليك خيلا جرداً ، ورجالا مرداً فقال ( صلى الله عليه وسلم ) : " اللهم أكفني شر عامر بن الطفيل " . فأخذ أسيد بن حضير الرمح ، وجعل يقرع رؤوسهما ويقول : أخرجا أيها الهجرسان ، فقاد عامر : من أنت ؟ قال : أنا أسيد بن حضير ، فقال : أبوك خير منك ، فقال : بل أنا خير منك ومن أبي ، مات أبي وهو كافر . فقيل للأصمعي : ما الهجرس ؟ قال : الثعلب .
فلما رجع عامر وأربد ، من عند رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، وكانا ببعض الطرق ، أرسل الله على أربد صاعقة فأحرقته وأحرقت بعيره ، وبعث الله على عامر الطاعون في عنقه ، فقتله في بيت امرأة سلولية ، من بني سلول . فجعل يقول : يا بني عامر " غدة كغدة البعير ، وموتا في سلولية " . وذكر سيبويه قول عامر : غدة كغدة البعير وموتا في بيت سلولية ، في باب ما ينصب على(2/513)
"""""" صفحة رقم 514 """"""
إضمار الفعل المتروك ، كأنه قال : اغد غدة . قلت : ومن الأوهام أن المستغفري ذكر في كتابه معرفة الصحابة عامر بن الطفيل ، وقال : إنه أسلم وسأل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أن يعلمه كلمات يعيش بهن ، فقال ( صلى الله عليه وسلم ) : " يا عامر أفش السلام وأطعم الطعام واستحي من الله حق الحياء ، وإذا أسأت فأحسن ، فإن الحسنات يذهبن السيآت " انتهى .
والصواب أن عامر بن الطفيل لم يؤمن بالله طرفة عين ، ولم يختلف أحد من أهل النقل ، في ذلك . وأما أربد المذكور ، فهو أخو لبيد الشاعر الذي عاش في الإسلام ستين سنة لم يقل فيها شعراً ، سأله عمر رضي الله تعالى عنه عن تركه الشعر ؟ فقال : ما كنت لأقول شعراً بعد أن علمني الله البقرة وآل عمران . فزاد عمر في عطائه خمسمائة درهم من أجل هذا القول . فكان عطاؤه ألفين وخمسمائة ، فلما كان زمن معاوية أراد أن ينقصه الخمسمائة ، فقال له : ما بال العلاوة فوق الفودين ؟ فقال له لبيد رضي الله تعالى عنه : آن أن أموت ويصير لك العلاوة والفودان . فرق له معاوية وتركها له ، ومات لبيد بعد ذلك بأيام قليلة ، وقد قيل : إنه قال في الإسلام بيتاً واحداً وهو : الحمد لله إذ لم يأتني أجلي حتى لبست من الإسلام سربالا وقيل : قال :
ولقد سئمت من الحياة وطولها . . . وسؤال هذا الناس كيف لبيد
الأمثال : قالوا : اسفد من هجرس وأغلم وأنزى .
الهجرع : الكلب السلوقي الخفيف ، قاله ابن سيده .
الهجين : من الخيل والناس ، الذي أبوه عربي وأمه غير عربية ، والهجان من الإبل البيض ، يستوي فيه الذكر والمؤنث ، يقال : بعير هجان ، وناقة هجان ، وإبل هجان ، وامرأة هجان ، أي كريمة .
الهدد : بضم الهاءين وإسكان الدال المهملة بينهما ، طائر معروف ذو خطوط وألوان كثيرة ، وكنيته أبو الأخبار وأبو ثمامة وأبو الربيع وأبو روح وأبو سجاد وأبو عباد . ويقال له الهداهد ، قال الراعي :
كهداهد كسر الرماة جناحه .
والجمع الهداهد بالفتح ، وهو طير منتن الريح طبعاً لأنه يبني أفحوصه في الزبل ، وهذا عام في جميع جنسه ، ويذكر عنه أنه يرى الماء في باطن الأرض ، كما يراه الإنسان في باطن الزجاجة ، وزعموا أنه كان دليل سليمان على الماء ، ولهذا السبب تفقده لما فقده . وكان سبب غيبة الهدهد عن سليمان عليه الصلاة والسلام ، أن سليمان عليه السلام ، لما فرغ من بناء بيت المقدس ، عزم على(2/514)
"""""" صفحة رقم 515 """"""
الخروج إلى أرض الحرم ، فتجهز واستصحب من الجن والإنس والشياطين والطير والوحش ، ما بلغ من عسكره مائة فرسخ ، فحملتهم الريح ، فلما وافى الحرم ، أقام به ما شاء الله أن يقيم ، وكان ينحر كل يوم ، طول مقامه بمكة خمسة آلاف ناقة ، ويذبح خمسة آلاف ثور ، وعشرين ألف شاة ، وأنه قال لمن حضره من أشراف قومه : إن هذا مكان يخرج منه نبي عربي من صفته كذا وكذا ويعطى النصر على من ناوأه ، وتبلغ هيبته مسيرة شهر ، القريب والبعيد عنده في الحق سواء ، لا تأخذه في الله لومة لائم . قالوا : فبأي دين يدين يا نبي الله ؟ قال : بدين الحنيفية ، وطرب لمن أدركه وآمن به قالوا : فكم بيننا وبين خروجه يا نبي الله ؟ قال : مقدار ألف عام ، فليبلغ الشاهد منكم الغائب فإنه سيد الأنبياء وخاتم الرسل . وأقام سليمان عليه السلام بمكة ، حتى قضى نسكه ، ثم خرج من مكة صباحاً ، وسار نحو اليمن ، فوافى صنعاء وقت الزوال ، وذلك مسيرة شهر ، فرأى أرضا حسناء تزهو خضرتها ، فأحب النزول فيها ليصلي ويتغذى ، فلما نزل ، قال الهدهد : إن سليمان قد اشتغل بالنزول ، فارتفع نحو السماء ، فنظر إلى طول الدنيا وعرضها ، يميناً وشمالاً ، فرأى بستاناً لبلقيس ، فمال إلى الخضرة فوقع فيه ، فإذا هو بهدد من هداهد اليمن ، فهبط عليه ، وكان اسم هدهد سليمان يعفور ، فقال هدهد اليمن ليعفور : من أين أقبلت وأين تريد ؟ قال : أقبلت من الشام مع صاحبي سليمان بن داود عليهما السلام فقال : ومن سليمان ؟ قال : ملك الجن والإنس والشياطين والطير والوحش والريح ، وذكر له من عظمة ملك سليمان وما سخر الله له من كل شيء ، فمن أين أنت ؟ فقال له الهدهد الأخر : أنا من هذه البلاد ، ووصف له ملك بلقيس ، وأن تحت يدها اثني عشرة ألف قائد ، تحت يد كل قائد مائة ألف مقاتل ، ثم قال : فهل أنت منطلق معي حتى تنظر إلى ملكها ؟ فقال : أخاف أن يتفقدني سليمان في وقت الصلاة ، إذا احتاج إلى الماء فقال الهدهد الثاني : إن صاحبك يسره أن تأتيه بخبر هذه الملكة ، فمضى معه ونظر إلى ملك بلقيس ، وما رجع إلى سليمان إلا بعد العصر .
وكان سليمان قد نزل على غير ماء ، فسأل الإنس والجن والشياطين عن الماء ؟ فلم يعلموا له خبراً فتفقد الطير ، ففقد الهدهد ، فدعا عريف الطير وهو النسر ، فسأله عن الهدهد فلم يجد عنده علمه ، فغضب سليمان عليه السلام عند ذلك ، وقال : " لأعذبنه عذاباً شديداً " الآية . ثم دعا بالعقاب وهو سيد الطير ، فقال له : علي بالهدهد الساعة ، فارتفع في الهواء فنظر إلى الدنيا كالقصعة في يد الرجل ، ثم التفت يميناً وشمالاً ، فإذا هو بالهدهد مقبلاً من نحو اليمن ، فانقض عليه العقاب يريده ، فناشده الله ، وقال : أسألك بحق النبي قواك وأقدرك علي إلا ما رحمتني ، ولم تتعرض لي بسوء ، فتركه ثم قال له : ويلك ثكلتك أمك ، إن نبي الله قد حلف ليعذبنك أو يذبحنك فقال الهدهد : أو ما ستثنى نبي الله قال : بلى ، قال : " أو ليأتيني بسلطان مبين " قال الهدهد : قد نجوت إذاً . ثم طار الهدهد والعقاب ، حتى أتيا سليمان عليه السلام ، فلما قرب منه(2/515)
"""""" صفحة رقم 516 """"""
الهدهد أرخى ذنبه وجناحيه يجرهما على الأرض تواضعاً ، فأخذ سليمان رأسه فمده إليه ، وقال : يا نبي الله اذكر وقوفك بين يدي الله عز وجل ، فارتعد سليمان وعفا عنه . ثم سأله عن سبب غيبته ، فأخبره بأمر بلقيس ، وقد تقدمت الإشارة إلى طرف من قصتها في باب الدال والعين المهملتين في الكلام على الدود والعفريت .
قال الزمخشري : وكان السبب في تخلفه وغيبته عن سليمان عليه السلام ، أنه حين نزل سليمان حلق الهدهد ، فرأى هدهداً واقفاً فوصف له ملك سليمان ، وما سخر له من كل شيء ، وذكر له صاحبه ملك بلقيس ، وأن تحت يدها اثني عشرة ألف قائد ، تحت كل قائد مائة ألف ، فذهب معه لينظر فما رجع إلا بعد العصر ، فدعا سليمان عليه السلام عريف الطير وهو النسر فلم يجد عنده علمه . فقال لسيد الطير ، وهو العقاب : علي به ، فارتفعت فنظرت فإذا هو مقبل ، فقصدته فناشدها الله تعالى ، وقال : بحق الذي قواك وأقدرك علي إلا ما رحمتني . فتركته ، وقالت : ثكلتك أمك إن نبي الله حلف ليعذبنك ، قال : أو ما ستثنى ؟ قالت : بلى قال : " أو ليأتيني بسلطان مبين " فلما قرب من سليمان ، أرخى ذنبه وجناحيه يجرهما على الأرض تواضعاً له ، فلما دنا منه أخذ رأسه فمده إليه فقال : يا نبي الله اذكر وقوفك بين يدي الله ، فارتعد سليمان وعفا عنه ثم سأله . وأما قوله : لأعذبنه ، فتعذيبه بما يحتمله حاله ليعتبر به أبناء جنسه .
وقيل : كان عذاب سليمان عليه السلام للطير ، أن ينتف ريشه وذنبه ويلقيه في الشمس ممعطاً ، لا يمتنع من النمل ولا من هوام الأرض ، وهو أظهر الأقاويل . وقيل : إنه يطلى بالقطران ويشمس ، وقيل : أن يلقى للنمل تأكله ، وقيل : إيداعه القفص ، وقيل : التفريق بينه وبين إلفه ، وقيل : إلزامه صحبة الأضداد .
وعن بعضهم أنه قال : أضيق السجون صحبة الأضداد ، وقيل : حبسه مع غير جنسه ، وقيل : الزامه خدمة أقرانه ، وقيل : تزويجه عجوزاً . فإن قلت : من أين أحل له تعذيب الهدهد ؟ قلت : يجوز أن يبيح الله له ذلك ، كما أباح ذبح البهائم والطيور للأكل وغيره من المنافع . وحكى القزويني أن الهدهد قال لسليمان عليه السلام : أريد أن تكون في ضيافتي قال : أنا وحدي ، قال : بل أنت وأهل عسكرك في جزيرة كذا في يوم كذا فحفر سليمان عليه السلام بجنوده فطار الهدهد فاصطاد جرادة فخنقها ورمى بها في البحر ، وقال : كلوا ، يا نبي الله من فاته اللحم ، ناله المرق . فضحك سليمان وجنوده من ذلك حولاً كاملاً . وفي ذلك قيل :
جاءت سليمان يوم العرض هدهدة . . . أهدت له من جراد كان في فيها
وأنشدت بلسان الحال قائلة . . . إن الهدايا على مقدار مهديها
لو كان يهدى إلى الإنسان قيمته . . . لكان يهدى لك الدنيا وما فيها
قال عكرمة : إنما صرف سليمان عليه السلام عن ذبح الهدهد ، لأنه كان باراً بأبويه ، ينقلا الطعام إليهما فيزقهما في حال كبرهما .(2/516)
"""""" صفحة رقم 517 """"""
قال الجاحظ : وهو وفاء حفوظ ودود ، وذلك أنه إذا غابت أنثاه ، فلم يأكل ولم يشرب ، ولم يشتغل بطلب طعم ولا غيره ، ولا يقطع الصياح حتى تعود إليه ، فإن حدث حادث أعدمه إياها لم يسفد بعدها أنثى أبداً ، ولم يزل صائحاً عليها ما عاش ، ولم يشبع بعدها أبداً بطعم ، بل يأل منه ما يمسك رمقه ، إلى أن يشرف على الموت ، فعند ذلك ينال منه يسيراً .
وفي الكامل ، وشعب الإيمان للبيهقي ، أن نافع بن الأزرق ، سأل ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، فقال : سليمان عليه السلام ، مع ما خوله الله من الملك وأعطاه ، كيف عنى بالهدهد مع صغره ؟ فقال له ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : إنه احتاج إلى الماء ، والهدهد كانت الأرض له كالزجاج كما تقدم . فقال ابن الأزرق لابن عباس : قف يا وقاف كيف يبصر الماء من تحت الأرض ، ولا يرى الفخ إذا غطى له بقدر أصبع من تراب . فقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : إذا نزل القضاء عمي البصر وأنشدوا في ذلك لأبي عمرو الزاهد :
إذا أراد الله أمراً بامرئ . . . وكان ذا عقل ورأي وبصر
وحيلة يفعلها في دفع ما . . . يأتي به محتوم أسباب القدر
غطى عليه سمعه وعقله . . . وسله من ذهنه سل الشعر
حتى إذا أنفذ فيه حكمه . . . رد عليه عقله ليعتبر
ونافع ابن الأزرق هو رأس فرقة من الخوارج ، يقال لها الأزارقة ، يكفرون علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه إذ حكم ، وهو قبل التحكيم عندهم إمام عدل ، ويكفرون الحكمين أبا موسى وعمراً . ويرون قتل الأطفال ولا يقيمون الحدود على من قذف محصناً ، ويقيمونها على قذف المحصنات وغير ذلك من الأقوال . وأنشد أبو الشيص في صفة الهدهد :
لا تأمنن على سري وسركم . . . غيري وغيرك أو طي القراطيس
أو طائر سوف أجليه وأنعته . . . ما زال صاحب تنقير وتدريس
سود براثنه ميل ذوائبه . . . صفر حمالقه في الحسن مغموس
البراثن بالباء الموحدة وبالثاء المثلثة وبالنون في آخره : أظفاره ، والذوائب ريشه ، والحمالق الأجفان .
قال أبو الحسن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ، صاحب دمية القصر ، وهي ذيل يتيمة الدهر ، قتل سنة سبع وستين وأربعمائة :
لا تنكري يا عز إن ذل الفتى . . . ذو الأصل واستعلى خسيس المحتد
إن البزاة رؤوسهن عواطف . . . والتاج معقود برأس الهدهد(2/517)
"""""" صفحة رقم 518 """"""
قيل : إن الإمام الحافظ أبا قلابة ، واسمه عبد الملك بن محمد الرقاشي ، رأت أمه وهي حامل به ، كأنها ولدت هدهداً . فقيل لها : إن صدقت رؤياك ، فإنك تلدين ولداً ذكراً كثير الصلاة فولدته ، فلما كبر كان يصلي كل يوم أربعمائة ركعة ، وحدث من حفظه ستين ألف حديث ، ومات سنة ست وسبعين ومائتين رحمه الله تعالى .
الحكم : الأصح تحريم أكله لنهي النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عن أكله ، لأنه منتن الريح ، ويقتات الدود .
وقيل : يحل أكله ، لأنه يحكى عن الشافعي وجوب الفدية فيه ، وعنده لا يفدى إلا المأكول . الأمثال : قال : أسجد من هدهد ، يضرب لمن يرمى بالأبنة ، وقالوا : أبصر من هدهد ، لما تقدم من رؤيته الماء تحت الأرض . الخواص : إذا بخر البيت بريشة من ريشه طرد الهوام عنه ، وعينه إذا علقت على صاحب النسيان ذكر ما نسيه ، وكذلك يفعل قلبه إذا شوي وأكل مع سذاب ، وهو نافع للحفظ والذكاء ، ولا ينسى شيئاً ، وهو أنفع من حب الفهم وأسلم . ومن أخذ عشرة هداهد ونزع ريشها وتركها في دار أو دكان خرب ذلك المكان ، ولم يعمر أبداً .
ومن أخذ مصران الهدهد وعلقه على من به النزيف نفعه ، ومن أخذ منقاره وهو ميت ، وخرز عليه جلدة لم يتلف له شيء ما دام عليه . وإن دخل به على سلطان رحب به وأكرمه وقضى حوائجه ، ومن أخذ تراب عش الهدهد وتركه في سجن خرج من فيه من وقته ، وإن أخذ من مخالب رجليه مخلباً واحداً وعلقه على صبي أو غيره لم يلحقه عين ولا يزال في عافية ما دام معلقاً عليه .
ومن أخذ ذنبه وشيئاً من دمه وعلقه على شجرة لم تحمل أبداً ، وإن علق على دجاجة بياضة لم تبض ، وإن علق على من به نزف الدم سكن عنه ، ومن أخذ لسانه وألقاه في شيء من دهن السمسم وجعله تحت لسانه ، وسأل إنساناً حاجة قضاها له ، وإذا حمل ريشه إنسان وخاصم غلب خصمه ، وقضيت حاجته ، وظفر بما يريد ولحمه إذا أكل مطبوخاً نفع من القولنج ، ودماغ الهدهد إذا أخرج وعمل في دقيق وعجن منه قرصة ، وجففت في الظل ، وأطعمت الإنسان ويقول المطعم : أطعمتك يا فلان بن فلان هدهداً ، وجعلتك تسمع قولي وتطيعني ، وتشهد لي كما شهد الهدهد لسليمان عليه السلام فإن المطعوم يحب المطعم حباً شديداً .
وإن أخذت قشرته وشددتهها على عضدك الأيسر ، وأخذت منقاره ولسانه وكتبت هذه الأسماء في رق ظبي وجعلتهما فيه ، وشددته بخيط صوف كحلي أو أسود أو أحمر ودفنته تحت باب من تريد موضع دخوله وخروجه فإنك تبلغ ما تريده منه من المحبة والعطف والقبول . وهي هذه الأسماء التي تكتبها : فطيطم مارنورمانيل وصعانيل .
ودم الهدهد إذا أخذ في صدفة وقطر في عين يطلع فيها الشعر أزاله ، وإذا ذبحت هدهداً ،(2/518)
"""""" صفحة رقم 519 """"""
وأخذت دماغه وجففته ، وسحقته ببعض من المصطكى ، ودققت معه إحدى وعشرين ورقة آس ، وخلطته وأشممته لمن تريد ، فإنه يحبك . وعينه اليمنى إذا علقتها عليك في خرقة جديدة وشددتها على عضدك الأيمن ، ودخلت على من شئت فإنه لا يراك أحد إلا أحبك ، وإذا أردت سواد الشعر ، فخذ مصران الهدهد وجففه ثم اسحقه بدهن سمسم وادهن به رأس من تريد أو لحيته ثلاثة أيام فإن شعره يسود سواداً عظيماً . ودمه وهو حار ، إذا قطر على البياض العارض ، في العين أذهبه ، وإن بخر بمخه برج الحام لم يقر به شيء يؤذيه ، وإن علق هدهد مذبوح بجملته في بيت أمن أهله من السحر ، ومن علق عليه لحيه الأسفل أحبه الناس ، وإن بخر المجنون بعرفه أبرأه ، ولحمه إذ بخر به معقود عن الباه ، أو مسحوراً أبرأه .
وقال جابر رحمه الله : إن قلب الهدهد إذا شوي وأكل مع سذاب فإنه ينفع للحفظ جداً . ومصران الهدهد إذا علق على من بها نزف الدم ، انقطع عنها . وإن أخفت ثلاث ريشات من الجناح الأيسر من الهدهد ، وكنس بها باب دار ثلاثة أيام ، قبل طلوع الشمس ، ويقول الكانس : كما انقطع هذا التراب من هذا المكان ، كذلك ينقطع فلان بن فلانة من هذا المكان ، فإنه يخرج منه ولا يعود إليه أبداً وإن أحرقت جناحه الأيسر ، ونثرت رماده على طريق من تريد فإنه إذا وطئه أحبك حباً شديداً . ومنقار الهدهد وريشه من جناحه الأيمن إذا خرز في جلد وعلقت ذلك عليك باسم من تريد ، واسم أمه ، أحبك حباً شديداً . وأطول ريشة في جناحيه الأيسر قبول .
التعبير : الهدهد في المنام ، رجل عالم غني يثنى عليه بالقبيح لنتن ريحه ، فمن رآه نال عزاً ومالاً فإن كلمه فإنه يأتيه خير من قبل السلطان لقوله تعالى : " وجئتك من سبأ بنبأ يقين " وقال ابن سيرين : من رأى هدهداً ، قدم له مسافر ، وقيل : الهدهد رجل حاسب صاحب دهاء يخبر السلطان بما يحدث من الأمور ، لأنه أخبر سليمان عليه السلام بأمر بلقيس ، وكان صادقاً في قوله ، وربما كانت رؤيته أماناً للخائف ، وقال ابن المقري : إن رؤيته تدل على هدم الدار العامرة ، أو الشيء العامر مأخوذ من اسمه هدهد ، وربما دلت على الرسول الصادق ، والقرب من الملوك والجاسوس ، أو الرجل العالم الكثير الجدال ، وربما دل على النجاة من الشدائد والعذاب ، وربما دل على المعرفة بالله تعالى ، وبما شرعه من الدين والصلاة ، وإن رآه ظمآن ، اهتدى إلى الماء ، والله تعالى أعلم . الهدي : هو ما يهدى إلى الحرم من النعم ، والهدى أيضاً مثله وقرئ " حتى يبلغ الهدي محله " بالتخفيف والتشديد ، وهما لغتان الواحدة هدية وهدية . وكان الهدي الذي مع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في الحديبية ونحره مائة بدنة . وقال المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم : سبعين بدنة والناس سبعمائة . فكانت البدنة عن عشرة وهذا غريب .
وعن مصعب بن ثابت ، قال : والله لقد بلغني أن حكيم بن حزام رضي الله تعالى عنه حضر يوم عرفة ومعه مائة رقبة ومائة بدنة ومائة بقرة ومائة شاة ، فقال : هذا كله لله تعالى ، فأعتق(2/519)
"""""" صفحة رقم 520 """"""
الرقاب ، وأمر بتلك فنحرت ، رواه الطياني مرسلاً .
وفي الصحيحين ، عن عائشة رضي الله عنها ، قالت : أهدى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) مرة غنماً ، وفيه استحباب تقليد الغنم ، وقال مالك وأبو حنيفة ، لا يستحب ، بل خصاً التقليد بالإبل والبقر فرع : اتفق العلماء على أن الهدي إذا كان تطوعاً فللمهدي أن يأكل منه ، وكذلك أضحية التطوع . لما روى جابر أنه ( صلى الله عليه وسلم ) أهدى في حجة الوداع مائة بدنة نحر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) منها بيده ثلاثاً وستين ، وأمر علياً فنحر ما بقي منها ، ثم أمر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أن يؤخذ من كل بدنة بضعة ، فتجعل في قدر فأكلا من لحمها وحسيا من مرقها .
واختلفوا في الهدي الواجب بالشرع ، مثل دم التمتع والقران والواجب بافساد الحج وفواته وجزاء الصيد ، فذهب قوم إلى أنه لا يجوز أن يأكل منه شيئاً وبه قال الشافعي ، وكذلك ما أوجبه على نفسه بالنذر ، وقال ابن عمر رضي الله تعالى عنهما : لا يأكل من جزاء الصيد والنذر ، ويأكل مما عداهما ، وبه قال الإمام أحمد وإسحاق . وقال مالك : يأكل من هدي التمتع ومن كل هدي وجب عليه ، إلا من فدية الأذى وجزاء الصيد والنذر . وقال أصحاب الرأي : يأكل من دم التمتع والقران ، ولا يأكل من كل واجب سواهما ، والله تعالى أعلم .
الهديل : ذكر الحمام قد تقدم ما في الحمام في باب الحاء المهملة ، قال جران العود :
كان الهديل الظالع الرجل وسطها . . . من البغي شريب يغرد منزف
والهديل صوت الحمام ، يقال : هدل القمري يهدل هديلاً ، والهديل فرخ كان على عهد نوح عليه الصلاة والسلام ، فصاده جارح من الطير ، فليس من حمامة إلا وتبكي عليه إلى يوم القيامة .
قال نصيب :
فقلت أتبكي ذات طوق تذكرت . . . هديلاً وقد أودى وما كان تبع
يقول لم يخلق تبع بعد .
الهرماس : بكسر الهاء من أسماء الأسد ، وقيل : هو الشديد من السباع ، والهرماس بن زياد الباهلي من الصحابة سكن البصرة وطال عمره ، وروى عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) حديث من أحدهما عن أبي داود والآخر رواه النسائي . والهرميس بكسر الهاء أيضاً الكركدن عند ابن سيده . قال : وهو أكبر من الفيل قال الشاعر :
والفيل لا يبقى على الهرميس
الهر : السنور ، والجمع هررة ، كقرد وقردة ، والأنثى هرة وتقدمت في خواص الأسد في(2/520)
"""""" صفحة رقم 521 """"""
الكلام على الفأرة ، أن الهرة خلقت من عطسة الأسد . روى الإمام أحمد والبزار ورجال الإمام أحمد ثقات ، من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) رأى رجلاً يشرب قائماً فقال ( صلى الله عليه وسلم ) : " قه أيسرك أن يشرب معك الهر " قال : لا . قال : " فقد شرب معك الشيطان " . وفي تاريخ ابن النجار ، في ترجمة محمد بن عمر الحنبلي ، عن أنس رضي الله تعالى عنه ، قال : كنت جالساً عند عائشة رضي الله تعالى عنها أبشرها بالبراءة ، فقالت : والله لقد هجرني القريب والبعيد ، حتى هجرتني الهرة ، وما عرض علي طعام ولا شراب ، فكنت أرقد وأنا جائعة ، فرأيت الليلة في منامي فتى فقال : ما لك حزينة ؟ فقلت : مما ذكر الناس . فقال : ادعي بهذه الكلمات يفرج عنك . فقلت : وما هي ؟ فقال : قولي : دعاء الفرج يا سابغ النعم ، ويا دافع النقم ، ويا فارج الغمم ، ويا كاشف الظلم ، ويا أعدل من حكم ، ويا حسيب من ظلم ، ويا ولي من ظلم ، ويا أول بلا بداية ، ويا آخر بلانهاية ، ويا من له اسم بلا كنية ، أجعل لي من أمري فرجاً ومخرجاً . قالت : فانتبهت وأنا ريانة شبعانة ، وقد أنزل الله براءتي وجاءني الفرج . وفي الحديث الصحيح ، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال : إن الشيطان عرض للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) في صلاته ، قال عبد الرزاق : في صورة هر ، قال ( صلى الله عليه وسلم ) : " فشد علي يقطع علي صلاتي ، فأمكنني الله منه فذعته أي خنقته ولقد هممت أن أوثقه في سارية من سواري المسجد حتى تصبحوا تنظرون إليه . فذكرت قول أخي سليمان : رب أغفر لي وهب لي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي فرده الله خاسئاً " .
وروى ابن أبي خيثمة ، عن ميمونة بنت سعيد ، مولاة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، وهو في الاستيعاب ، عن سليمان الفارسي ، خدم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أوصى بالهر ، وقال : " إن امرأة عذبت في هرة ربطتها " الحديث ، وهو في الصحيحين .
وفي الزهد للإمام أحمد : رأيتها في النار وهي تنهش قبلها ودبرها . والمرأة المعذبة كانت كافرة ، كما رواه البزار في مسنده ، والحافظ أبو نعيم في تاريخ أصبهان ، ورواه البيهقي في البعث والنشور ، عن عائشة رضي الله تعالى عنها ، فاستحقت التعذيب بكفرها وظلمها .
وقال القاضي عياض في شرح مسلم : يحتمل أن تكون كافرة . ونفى النووي هذا الاحتمال ، وكأنهما لم يطلعا على نقل في ذلك .
وفي مسند أبي داود الطيالسي ، من حديث الشعبي ، عن علقمة قال : كنا عند عائشة رضي الله تعالى عنها ، ومعنا أبو هريرة ، فقالت : يا أبا هريرة أنت الذي تحدث عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أن امرأة عذبت بالنار من أجل هرة ؟ قال أبو هريرة : نعم سمعته من رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) . فقالت عائشة : المؤمن أكرم على الله من أن يعذبه من أجل هرة ، إنما كانت المرأة مع ذلك كافرة يا أبا هريرة ، إذا حدثت عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فانظر كيف تحدث . وقد تقدم في الفرس ، ما أنكرته عائشة على أبي هريرة .(2/521)
"""""" صفحة رقم 522 """"""
وروى ابن عساكر ، في تاريخه عن بعض أصحاب الشبلي ، أنه رآه في النوم ، بعد موته فقال له : ما فعل الله بك ؟ فقال : أوقفني بين يديه وقال : يا أبا بكر أتدري بماذا غفرت لك ؟ فقلت : بصالح عملي . فقال : لا . قلت : باخلاصي في عبوديتي ، قال : لا . قلت : بحجي وصومي وصلاتي . قال : لم أغفر لك بذلك . فقلت : بهجرتي إلى الصالحين ، وإدامة أسفاري في طلب العلوم . فقال : لا . فقلت : يا ربي هذه المنجيات التي كنت أعقد عليها خنصري ، وظني أنك بها تعفو عني وترحمني . فقال : كل هذه لم أغفر لك بها ، فقلت : إلهي فبماذا ؟ قال : أتذكر حين كنت تمشي في دروب بغداد ، فوجدت هرة صغيرة ، قد أضعفها البرد ، وهي تنزوي من جدار إلى جدار من شدة البرد والثلج ، فأخذتها رحمة لها ، فأدخلتها في فرو كان عليك وقاية لها من ألم البرد ؟ فقلت : نعم . فقال : برحتمك لتلك الهرة رحمتك .
وأبو بكر الشبلي اسمه دلف بن جحدر ، وقيل جعفر بن يونس الخراساني ، كان سيداً صالحاً محدثاً ، مالكي المذهب ، صحب الجنيد رضي الله تعالى عنه ، وكان في ابتداء أمره والياً على دنبارند ، فتاب في مجلس خير النساج ، وكانت له خطفات وسكرات وغرقات توجب تلك الغرقات شطحات ، فقام عفره فيها ودخل على الجنيد يوماً فوقف بين يديه وصفق وأنشد يقول :
عودوني الوصال والوصل عذب . . . ورموني بالصد والصد صعب زعموا حين أزمعوا أن ذنبي . . . فرط حبي لهم وما ذاك ذنب
لا وحق الخضوع عند التلاقي . . . ما جزا من يحب ألا يحب
فأجابه الجنيد رحمه الله تعالى :
وتمنيت أن أرا . . . ك فلما رأيتكا
غلبت دهشة السرو . . . ر فلم أملك البكا
ومن شعر الشبلي رحمه الله تعالى :
مضت الشبيبة والحبيبة فانبرى . . . دمعان في الأجفان يزدحمان
ما أنصفتني الحادثات رمينني . . . بمودعين وليس لي قلبان
توفي الشبلي ، رحمه الله في سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة ، وله سبع وثمانون سنة .
وفي كامل ابن عدي ، في ترجمة أبي يوسف صاحب أبي حنيفة ، أنه روى عن عروة ، عن عائشة رضي الله تعالى عنها ، أنها قالت : كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) تمر به الهرة فيصفي لها الإناء فتشرب ، ثم يتوضأ بفضلها . قال : وكان أبو يوسف يقول : من طلب غرائب الحديث كذب ، ومن طلب المال بالكيمياء افتقر ، ومن طلب الدين بالكلام تزندق .(2/522)
"""""" صفحة رقم 523 """"""
وفي آخر كتاب مناقب الشافعي رضي الله تعالى عنه ، للحاكم أبي عبد الله ، بإسناده إلى محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ، قال : سمعت الشافعي يقول : اختصم رجلان إلى بعض القضاة ، في هرة ادعى كل منهما أنها له ، وأن عنده أولادها ، فحكم القاضي أن توسط بين داريهما ثم ترسل فأي دار دخلت فهي لصاحبها . قال الشافعي : فانجفل الناس ، وانجفلت معهم ، فلم تدخل الهرة دار واحد منهما . قال الشافعي : فبطل قضاؤه .
غريبية : ذكر أن مروان الجعدي المنبوز بالحمار ، آخر خلفاء بني أمية ، لما ظهر السفاح بالكوفة ، وبويع له بالخلافة ، وجهز العساكر إليه ، فانهزم منهم ، حتى وصل إلى أبي صير ، وهي قرية عند الذيوم . . قال : ما اسم هذه القرية ؟ قيل : أبو صير . قال : فإلى الله المصير ، ثم دخل الكنيسة التي بها ، فبلغه أن خادماً له نم عليه ، فأمر به فقطع رأسه ، وسل لسانه وألقي على الأرض ، فجاءت هرة فأكلته . ثم بعد أيام ، هجم عل الكنيسة التي كان نازلا بها عامر بن إسماعيل ، فخرج مروان من باب الكنيسة ، وفي يده سيف ، وقد أحاطت به الجنود ، وخفقت حوله الطبول ، فتمثل ببيت الحجاج بن الحكم السلمي وهو :
متقلدين صفائحاً هندية . . . يتركن من ضربوا كأن لم يولد
ثم قاتل حتى قتل ، فأمر عامر برأسه فقطع في ذلك المكان ، وسل لسانه وألقي على الأرض ، فجاءت تلك الهرة بعينها فخطفته فأكلته . فقال عامر : لو لم يكن في الدنيا عجب إلا هذا ، لكان كافياً ، لسان مروان في فم هرة وقال في ذلك شاعرهم :
قد يسر الله مصراً عنوة لكم . . . وأهلك الكافر الجبار إذ ظلما
فلاك مقوله هر يجر جره . . . وكان ربك من ذي الظلم منتقما
ودخل عامر بعد قتله الكنيسة ، فقعد على فرش مروان ، وكان مروان ، حين الهجوم على الكنيسة ، يتعشى ، فلما سمع الوجبة ، وثب عن عشائه ، فأكل عامر ذلك الطعام ، ودعا بابنة مروان ، وكانت أسن بناته ، فقالت : يا عامر إن دهراً أنزل مروان عن فرشه ، وأقعدك عليه ، حتى تعشيت بعشائه ، واستصبحت بمصباحه ، ونادمت ابنته ، لقد أبلغ في موعظتك ، وأجمل في إيقاظك . فاستحيا عامر وصرفها وكان قتل مروان في سنة ثلاث وثلاثين ومائة .
الحكم : يحرم أكل الهر على الصحيح ، والثاني ، وبه قال الليث بن سعد ، يحل أكله . واختاره أبو الحسن البوشنجي ، وهو من أئمة أصحابنا ، وهو حيوان طاهر لما روى الإمام أحمد والدارقطني والحاكم والبيهقي ، من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه ، أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) دعي إلى دار قوم فأجاب ، ودعي إلى دار آخرين فلم يجب ، فقيل له في ذلك ، فقال : " إن في دار فلان كلباً " . فقيل له : وإن في دار فلان هرة ، فقال ( صلى الله عليه وسلم ) : " الهرة ليست بنجسة إنما هي من الطوافين(2/523)
"""""" صفحة رقم 524 """"""
عليكم والطوفات " .
قال الإمام النووي ، في شرح المهذب : وبيع الهرة الأهلية جائز بلا خلاف عندنا ، إلا ما حكاه البغوي ، في شرح مختصر المزني ، عن ابن القاص ، أنه قال : لا يجوز ، وهذا شاذ باطل مردود ، والمشهور جوازه وبه قال جماهير العلماء .
قال ابن المنذر : أجمعت الأمة على جواز اتخاذها ، ورخص في بيعها ابن عباس والحسن وابن سيرين والحكم وحماد ومالك والثوري والشافعي وإسحاق وأبو حنيفة ، وسائر أصحاب الرأي . وكرهت طائفة بيعها منهم : أبو هريرة وطاوس ومجاهد وجابر بن زيد . وقال ابن المنذر : إن ثبت عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) النهي عن بيعه ، فبيعه باطل ، وإلا فجائز .
احتج من منعه بحديث ابن الزبير ، قال : سألت جابراً رضي الله تعالى عنه عن ثمن الكلب والسنور ، فقال : نهى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عن ذلك . رواه مسلم .
وفي سنن أبي داود والترمذي وابن ماجه من حديث جابر رضي الله تعالى عنه أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) " نهى عن ثمن الهر " .
واحتج أصحابنا بأنه طاهر منتفع به ووجد فيه جميع شروط البيع ، فجاز بيعه كالحمار والبغل ، والجواب عن الحديثين من وجهين أحدهما : جواب أبي العباس بن القاص والخطابي والقفال وغيرهم ، أن المراد الهرة الوحشية ، فلا يصح بيعها ، لعدم الانتفاع بها ، إلا على الوجه الضعيف القائل بجواز أكلها ، والثاني أن المراد نهي تنزيه . فهذان الجوابان هما المعتمدان . وأما ما ذكره الخطابي وابن عبد البر ، أن الحديث ضعيف فغلط منهما لأن الحديث في صحيح مسلم بإسناد صحيح كما تقدم بيانه ، في باب السين المهملة .
وفي السنن الأربعة ، من حديث كبشة بنت كعب بن مالك ، وكانت تحت بعض ولد أبي قتادة ، أن أبا قتادة رضي الله تعالى عنه ، دخل فسكبت له وضوءاً ، فجاءت هرة فشربت منه ، فأصفى لها الإناء حتى شربت . قالت كبشة : فرآني أنظر إليه ، فقال : أتعجبين يا ابنة أخي . فقلت : نعم . فقال : إن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " إنها ليست بنجس إنها من الطوافين عليكم والطوافات " . والطوافون الخدم ، والطوافات الخادمات ، جعلها بمنزلة المماليك في قوله تعالى : " ويطوف عليهم ولدان مخلدون " . ومنه قول إبراهيم النخعي : إنما الهرة كبعض أهل البيت . كذا نقله الزمخشري .
وفي المستدرك وسنن ابن ماجه وكامل بن عدي عن عبد الرحمن بن أبي الزناد ، عن أبيه عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه ، أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " الهرة لا تقطع(2/524)
"""""" صفحة رقم 525 """"""
الصلاة إنما هي من متاع البيت " .
فرع : إذا كان للإنسان هرة تأخذ الطيور ، وتقلب القدور ، فأفلتت وأتلفت ، فهل على صاحبها ضمان ما أتلفت ؟ وجهان ، أصحهما : نعم . سواء أتلفت ليلا أو نهاراً ، لأن مثل هذه الهرة ينبغي أن تربط ويكف شرها . وكذا الحكم في كل حيوان يولع بالتعدي ، أما إذا لم يعهد منها ذلك ، فالأصح لا ضمان ، لأن العاثة جرت بحفظ الطعام عنها ، لا بربطها . وأطلق إمام الحرمين في ضمان ما تتلفه الهرة أربعة أوجه : أحدها يضمن ، والثاني لا ، والثالث يضمن ليلا لا نهاراً ، والرابع عكسه : لأن الأشياء تحفظ عنها ليلا .
وإذا أخذت الهرة حمامة أو غرها وهي حية ، جاز فتل أذنها وضرب فمها ، لترسلها فإذا قصدت الحمام فأهلكت بالدفع ، فلا ضمان فإذا كانت الهرة ضارية بالإفساد فقتلها إنسان في حال إفسادها دفعاً جاز ولا ضمان عليه ، كقتل الصائل دفعاً ، وينبغي تقييد ذلك ، بما إذا لم تكن حاملا لأن في قتل الحامل قتل أولادها ، ولم يتحقق منهم جناية .
وأما قتلها في غير حالة الإفساد ، ففيه وجهان : أصحهما عدم الجواز ويضمنها . وقال القاضي حسين : يجوز قتلها ولا ضمان عليه فيها ، وتلحق بالفواسق الخمس فيجوز قتلها ، ولا يختص بحال ظهور الشر ، وسؤرها طاهر لطهارة عينها ، ولا يكره ، فلو تنجس فمها ثم ولغت في ماء قليل ، فثلاثة أوجه : الأصح أنها إن غابت واحتمل ولوغها في ماء يطهر فمها ، ثم ولغت لم تنجسه ، والثاني تنجسه مطلقاً ، والثالث عكسه وغير الماء من المائعات كالماء .
الأمثال : قالوا : أبر من هرة ، أرادوا بذلك أنها تأكل أولادها من شدة الحب لهم قال الشاعر :
أما ترى الدهر وهذا الورى . . . كهرة تأكل أولادها
وقالوا : فلان لا يعرف هر من بر ، قال ابن سيده : يعني لا يعرف الهر من الفار . وقال الزمخشري : لا يعرف من يكرهه ممن يبره ، وما أحسن قول أحمد بن فارس صاحب المجمل في اللغة ، وكانت وفاته سنة ثلاث عشرة وثلاثمائة :
إذا ازدحمت هموم الصدر قلنا . . . عسى يوماً يكون لها انفراج
نديمي هرتي وأنيس نفسي . . . دفاتر لي ومعشوقي السراج قال شيخنا اليافعي رحمه الله تعالى : أخبرني بعض الصالحين من أهل اليمن ، أن هرة كانت تأتي الشيخ العارف الأهدل بالدال المهملة ، فيطعمها من عشائه ، وكان اسمها لؤلؤة ، فضربها خادم الشيخ ذات ليلة فماتت ، فرمى بها الخادم في خرابة ، لئلا يعلم الشيخ بذلك ، فلما جاء الشيخ سكت عنه ليلتين أو ثلاثاً ، ثم قال : أين لؤلؤة ؟ فقال : ما أدري ، فقال الشيخ : ما تدري ، ثم ناداها(2/525)
"""""" صفحة رقم 526 """"""
لؤلؤة لؤلؤة ، فجاءت تجري إليه ، فأطعمها على العادة . والخواص تقدمت في باب السين في لفظ السنور .
تتمة : قال الصاحب بن عباد أنشدني أبو الحسن بن أبي بكر الحسن بن علي العلاف البغدادي المقري الأديب قصيدة والده في الهر الذي كنى به عن ابن المعتز حين قتله المقتدر ، فخشي من المقتدر ونسبها إلى الهر ، وعرض به في أبيات منها .
وقيل : إنما كنى بالهر عن المحسن بن الوزير أبي الحسن علي بن الفرات أيام محنته لأنه لم يجسر أن يذكره ويرثيه ، وقيل : كان له هر يأنس به ، فكان يدخل أبراج الحمام التي لجيرانه ويأكل فراخها ، فأمسكه أربابها فذبحوه ، فرثاه بقصيدة . وقال ابن خلكان : وهي من أحسن الشعر وأبدعه . وعددها خمسة وستون بيتاً ، وطولها يمنع من الإتيان بجميعها ، فنأتي بمحاسنها ، وفيها أبيات مشتملة على حكم فنأتي بها وأولها :
يا هر فارقتنا ولم تعد . . . وكنت عندي بمنزلة الولد
فكيف ننفك عن هواك وقد . . . كنت لنا عدة من العدد
تطرد الأذى وتحرسنا . . . بالغيب من حية ومن جرد
وتخرج الفأر من مكامنها . . . ما بين مفتوحها إلى السد
يلقاك في البيت منهمو مدد . . . وأنت تلقاهمو بلا مدد
لا عدد كان منك منفلتا . . . منهم ولا واحد من العدد
لا ترهب الصيف عند هاجرة . . . ولا تهاب الشتاء في الجمد
وكان يجري ولا سداد لهم . . . أمرك في بيتنا على سدد
حتى اعتقدت الأذى لجيرتنا . . . ولم تكن للأذى بمعتقد
وحمت حول الردى لظلمهم . . . ومن يحم حول حوضه يرد
وكان قلبي عليك مرتعدا . . . وأنت تنساب غير مرتعد
تدخل برج الحمام متئدا . . . وتبلغ الفرخ غير متئد
وتطرح الريش في الطريق لهم . . . وتبلع اللحم بلع مزدرد
أطعمك الغي لحمها فرأى . . . قتلك أربابها من الرشد
حتى إذا داوموك واجتهدوا . . . وساعد النصر كيد مجتهد
كادوك دهراً فما وقعت وكم . . . أفلت من كيدهم ولم تكد
فحين أخفرت وانهمكت وكا . . . شفت وأسرفت غير مقتصد
صادوك غيظاً عليك وانتقموا . . . منك وزادوا ومن يصد يصد(2/526)
"""""" صفحة رقم 527 """"""
ثم شفوا بالحديد أنفسهم . . . منك ولم يرعووا على أحد
فلم تزل للحمام مرتصدا . . . حتى سقيت الحمام بالرصد
ومنها :
لم يرحموا صوتك الضعيف كما . . . لم ترث منها لصوتها الغرد
أذاقك الموت ربهن كما . . . أذقت أفراخه يدا بيد
كأن حبلا حوى بجودته . . . جيدك للخلق كان من مسد
كأن عيني تراك مضطرباً . . . فيه وفي فيك رغوة الزبد
وقد طلبت الخلاص منه فلم . . . تقدر على حيلة ولم تجد
فما سمعنا بمثل موتك إذ . . . مت ولا مثل عيشك النكد
فجدت بالنفس والبخيل بها . . . أنت ومن لم يجد بها يجد
عشت حريصاً يقوده طمع . . . ومت ذا قاتل بلا قود
يا من لذيذ الفراخ أوقعه . . . ويحك هلا قنعت بالغدد
ألم تخف وثبة الزمان كما . . . وثبت في البرج وثبة الأسد
عاقبة الظلم لا تنام وإن . . . تأخرت مدة من المدد
أردت أن تأكل الفراخ ولا . . . يأكلك الدهر كل مضطهد
هذا بعيد من القياس وما . . . أعزه في الدنو والبعد
لا بارك الله في الطعام إذا . . . كان هلاك النفوس في المعد كم دخلت لقمة حشا شره . . . فأخرجت روحه من الجسد
ما كان أغناك عن تسؤرك ال . . . برج ولو كان جنة الخد
ومنها :
قد كنت في نعمة وفي دعة . . . من العزيز المهيمن الصمد
تأكل من فأر بيتنا رغدا . . . وأين بالشاكرين للرغد
وكنت بددت شملهم زمنا . . . فاجتمعوا بعد ذلك البدد
فلم يبقوا لنا على سبد . . . في جوف أبياتها ولا لبد
وفرغوا قعرها وما تركوا . . . ما علقته يد على وتد
وفتتوا الخبز في السلال وكم . . . تفتتت للعيال من كبد
ومزقوا من ثيابنا جددا . . . فكلنا في المصائب الجدد
وكان ابن العلاف ينادم المعتضد بالله ، فبات ليلة في دار المعتضد مع جماعة من ندمائه ، فجاء خادم ليلا فقال : إن أمير المؤمنين يقول لكم : أرقت الليلة فقلت :(2/527)
"""""" صفحة رقم 528 """"""
ولما انتبهنا للخيال الذي سرى . . . إذ الدار قفرى والمزار بعيد
وقد ارتج علي تمامه فمن أجازه بما يوافق غرضي أجزته ، فارتج على الجماعة ، وكانوا كلهم أفاضل ، فقال ابن العلاف :
فقلت لعيني عاودي النوم واهجعي . . . لعل خيالا طارقاً سيعود
فعاد الخادم إلى المعتضد ، ثم رجع إلى ابن العلاف ، وقال : يقول أمير المؤمنين : أحسنت ، وأمر لك بجائزة سنية وكانت وفاة ابن العلاف سنة ثماني عشرة وثلاثمائة وعمره مائة سنة .
التعبير : الهر في الرؤيا خادم حافظ ، فان خطف شيئاً فهو لص الدار ، وخدشه وعضه خيانة الخادم ، وقال ابن سيرين : عض الهر مرض سنة ، وكذلك خدشه ، والهر إذا لم يكن يأمو فهو سنة فيها راحة لمن رآه ، والهر الوحشي سنة فيها تعب ونصب ، ومن باع هرة فإنه ينفق ماله ، وقالت اليهود : الهر يعبر بالغمازين واللصوص لأن فيها المنفعة والمضرة .
وقال أرطاميدورس : الهر في المنام امرأة خداعة صخابة ، وعض الهر مرض في تلك السنة .
ومن الرؤيا المعبرة أن ابن سيرين أتته امرأة فقالت : رأيت كأن سنوراً أدخل رأسه في بطن زوجي فأخذ منه قطعة ، فقال ابن سيرين : قد سرق لزوجك ثلاثمائة درهم وستة عشر درهماً ، قالت : صدقت ، فمن أين لك هذا ؟ قال : من هجاء حروفه في حساب الجمل فالسين ستون والنون خمسون والواو ستة والراء مائتان ، فصار المبلغ ثلاثمائة وستة عشر درهماً ، فاتهموا عبداً كان في جوارهم ، فضربره فأقر بالمال ، ومن رأى كأنه أكل لحم سنور ، فإنه يتعلم السحر والله تعالى أعلم .
الهرنصانة : بالكسر دودة تسمى السرفة ، وقد تقدمت ، في باب السين المهملة .
هرثمة : من أسماء الأسد ، حكاه ابن سيده وغيره .
الهرهير : نوع من السمك ، وقال المبرد : إنه مركب من السلحفاة ، ومن أسود سالح ، قال : وهو من أخبث الحيات ، ينام ستة أشهر ثم لا يسلم سليمه انتهى . والظاهر أنه مشترك بين الحية والسمك .
الهرزون والهرزان : الظليم ، وقد تقدم في باب الظاء .
الهزار : بفتح الهاء العندليب ، وقد تقدم في باب الصاد المهملة في الكلام على الصعوة قول الشاعر :
الصعو يرتع في الرياض وإنما . . . حبس الهزار لأنه يترنم
الهزبر : بكسر الهاء وفتح الزاي وإسكان الباء الموحدة وبالراء المهملة في آخره الأسد ، كذا(2/528)
"""""" صفحة رقم 529 """"""
حكاه الجوهري . وقال غيره : إنه حيوان على شكل السنور الوحشي ، وفي قده إلا أن لونه يخالف لونه وهو من ذوات الأنياب ، ويوجد في بلاد الحبشة كثيراً ، لكن يؤيد ما حكاه الجوهري ما قاله بشر بن أبي عوانة لما قتل الأسد :
أفاطم لو شهدت ببطن جب . . . وقد لاقى الهزبر أخاك بشراً
إذا لرأيت ليثاً رام ليثا . . . هزبرا أغلبا لاقى هزبراً
تبهنس إذ تقاعس عنه مهري . . . فقلت له : عقرت اليوم مهراً
أنل قدمي بطن الأرض إني . . . وجدت الأرض أثبت منك ظهراً
وقلت له وقد أبدى نصالا . . . محددة ولحظا مكفهراً
يدل بمخلب وبحد ناب . . . وباللحظات تحسبهن جمراً
وفي يمناي ماضي العزم أبغي . . . بمضربه قراع الموت أثراً
فأنت تروم للأشبال قربا . . . ومطلبي لبنت العم مهراً
فلما ظن أن النصح غش . . . وخال مقالتي زوراً وهجراً مشى ومشيت من أسدين راما . . . مراما كان يطلباه وعراً
هززت له الحسام فخلت أني . . . سللت به لدى الظلماء فجراً
وجدت بضربة جاءته شفعاً . . . بساعد ماجد تركته وتراً
فخز مجندلا فحسبت أني . . . هدمت له بناء مشمخراً
وقلت له يعز علي أني . . . قتلت مناسبي جلداً وقهراً
ولكن رمت شيئاً لم يرمه . . . سواك فلم تطق يا ليث صبراً
فلا تجزع فقد لاقيت حراً . . . يحافر أن يعاب فمت حراً
وأبو الهزبر الملك المؤيد صاحب اليمن داود بن الملك المظفر يوسف بن عمر ، كانت دولته بضعاً وعشرين سنة ، وكان عالماً فاضلا شجاعاً ، وكان عنده من الكتب نحو مائة ألف مجلد ، وكان يحفظ التنبيه وغيره وأبوه الملك المظفر ، وولده الملك المجاهد كانا في العلم أرفع منه درجة ، وأذكر قريحة ، وأشهر فضلا ، تغمدهم الله برحمته .
الهرعة : القملة ، قيل : مكتوب على عرش بلقيس :
ستأتي سنون هي المعضلات . . . يراع من الهرعة الأجدل
وفيها يهين الصغير الكبير . . . وذو العلم يسكته الأجهل
الهف : جنس من السمك صغار ، وهو الحساس المتقدم ذكره في باب الحاء المهملة .
الهقل : بكسر الهاء الفتى من النعام ، وبه لقب محمد بن زياد الهقل الدمشقي ، كاتب الأوزاعي ، وكان يسكن بيروت ، فغلب عليه هذا اللقب . قال ابن معين : ما كان بالشام أوثق منه ، وكان أعلم الناس بمحاسن الأوزاعي وفتياه ، توفي سنة تسع وسبعين . وروى له الجماعة(2/529)
"""""" صفحة رقم 530 """"""
سوى البخاري وفي المثل قالوا : أشم من هقل .
الهقلس : كعملس الذئي ، وقد تقدم الكلام على الذئب في باب الذال المعجمة مستوفى قال الكميت :
ونسمع أصوات الفراعل حوله . . . يعاوين أولاد الذئاب الهقالسا
يعني حول الماء الذي ورده .
الهمج : جمع همجة وهو ذباب صغار كالبعوض ، يسقط على وجوه الغنم والحمير وأعينها ، اشتقوا من اسمه ما يؤكد به . فقالوا : همج هامج كقولهم : ليل لائل ، وصيف صائف ، ووتد واتد ، ويوم أيوم ، وجاهلية جهلاء ، ويقال للرعاع من الناس الحمقى إنما هم الهمج .
قال علي رضي الله تعالى عنه : سبحان من أدمج قوائم الذرة والهمجة . وقال لكميل بن زياد : يا كميل القلوب أوعية ، وخيرها أوعاها للخير ، والناس ثلاثة : عالم رباني ، ومتعلم على سبيل نجاة ، وهمج رعاع أتباع كل ناعق .
والرباني الراسخ في العالم بعلمه . وقال صاحب قوت القلوب ، في تفسير قول علي كرم الله وجهه : هذا الهمج الفراش الذي يتهافت في النار ، لجهله واحدته همجة ، والرعاع الخفيف الطياش الذي لا عقل له ، يستفزه الطمع ، ويستخفه الغضب ، ويزدهيه العجب ، ويستطيله الكبر . قال : ثم بكى علي وقال : هكذا يموت العلم بموت حامله انتهى كلامه .
الهمع : بفتح الهاء والميم : الصغير من الظباء خاصة .
الهمل : بالتحريك الإبل بلا راع ، مثل النفش إلا أن النفش لا يكون إلا ليلا ، والهمل يكون ليلا ونهاراً . ويقال : إبل همل وهاملة وهمال وهوامل ، وتركتها هملا أي سدى ، إذا أرسلتها ترعى ليلا ونهاراً بلا راع . وفي المثل : اختلط المرعي بالهمل . والمرعى الذي له راع . قاله الجوهري . وما أحسن ما صنع الطغرائي في ختمه لاميته بقوله :
ترجو البقاء بدار لاثبات لها . . . فهل سمعت بظل غير منتقل
قد رشحوك لأمر لو فطنت له . . . فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل
أشار به إلى قوله تعالى : " أيحسب الإنسان أن يترك سدى " أي معطلا لا يؤمر ولا ينهى . يقال : أسديت حاجتي أي ضيعتها وابل سدى ، أي ترعى حيث شاءت بلا راع كذا فسره الثعلبي وغيره .
الهملع : بالتحريك مع تشديد اللام الذئب قال الشاعر .
والشاء لا تمشي مع الهملع(2/530)
"""""" صفحة رقم 531 """"""
أي لا تنمو مع رؤية الذئب ، والمشاء هو نماء المال وزيادته . يقال : مشى الرجل وأمشى ، إذا نما ماله وكثرت ماشيته ، وقيل في قوله تعالى : " أن امشوا واصبروا على آلهتكم " إنه من المشاء لا من المشي . قاله السهيلي ، قبل خروج النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إلى الطائف ، وأفاد بعده بسطرين أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال لخديجة رضي الله تعالى عنه : " إن الله أعلمني أن سيزوجني معك في الجنة مريم ابنة عمران ، وكلثم أخت موسى ، وآسية امرأة فرعون " . فقالت : بالرفاء والبنين . وذكر أيضاً في الحديث ، أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أطعم خديجة رضي الله تعالى عنها ، من عنب الجنة .
الهمهم : الأسد قاله ابن سيده ، وقد تقدم ما في الأسد .
الهنبر : مثل الخنصر ، ولد الضبع . قال أبو زيد من أسماء الضبع أم هنبر في لغة فزارة ، قال الشاعر القتال الكلابي :
يا قاتل الله صبياناً تجيء بهم . . . أم الهنيبر من زندلها واري
وقال أبو عمرو : الهنبر الجحش ، ومنه قيل للأتان : أم الهنبر .
وقالوا في المثل : أحمق من أم الهنبر .
الهودع : بفتح الهاء والدال المهملة وبالعين المهملة في آخره : النعامة وقد تقدم ما فيها .
الهوذة : بفتح الهاء وسكون الواو وبعدها ذال معجمة ضرب من الطير ، وقال قطرب : هي القطاة ، والجمع هوذ وبذلك سمي هوذة بن علي الحنفي ، الذي أرسل إليه النبي ( صلى الله عليه وسلم ) سليط بن عمرو العامري فأكرمه وأنزله وكتب إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ما أحسن ما تدعو إليه وأجمله ، وأنا خطيب قومي وشاعرهم ، فاجعل لي بعض الأمر ، فأبى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) . ولما قدم سليط على هوذة ومعه كتاب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، وكان فيه : بسم الله الرحمن الرحيم ، من محمد رسول الله إلى هوذة بن علي . سلام على من اتبع الهدى ، واعلم أن ديني سيظهر إلى منتهى الخف والحافر ، فأسلم تسلم وأجعل لك ما تحت يديك .
فلما قرأ الكتاب ، أنزله وحياه ، ورده رداً دون رد ، وأجاز سليط بن عمرو بجائزة ، وكساه أثواباً من نسج هجر . وكتب إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ما تقدم . فلما انصرف النبي ( صلى الله عليه وسلم ) من فتح مكة ، جاءه جبريل فأخبره أنه قد مات على نصرانيته ، والله تعالى أعلم .
الهوزن : بفتح الهاء وإسكان الواو وفتح الزاي . طائر ، قاله ابن سيده ، وبإبدال الواو ياء رجل من أعراب فارس ، وهو القائل فيما حكى الله عنه " قالوا : ابنوا له بنياناً فألقوه في الجحيم " في قصة إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام ، ورميه في النار . وهو الذي جاء فيه الحديث الذي انفرد به مسلم ، عن محمد بن زياد ، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه ، أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال :(2/531)
"""""" صفحة رقم 532 """"""
" بينا رجل يمشى قد أعجبته جمته وبرداه ، إذ خسف الله به الأرض فهو يتجلجل فيها حتى تقوم الساعة " .
الهلابع : بضم الهاء الذئب ، من قولهم : رجل هلابع أي حريص على الأكل .
الهلال : بكسر الهاء الحية مطلقاً ، وقيل : الذكر من الحيات ، والهلال أيضاً الجمل الذي جرب حتى أداه ذلك إلى الهزال ، والهلال الهلال المعروف .
الهيثم : بفتح الهاء فرخ الحبارى ، ومنه سمي الرجل هيثماً ، وقال الجوهري : إنه فرخ العقاب ، وقيل : فرخ النسر أيضاً ، قاله في كفاية المتحفظ .
الهيجمانة : الذر ، وقد تقدم لفظ الذر في باب الذال المعجمة .
الهيطل : الثعلب ، وقد تقدم لفظ الثعلب في باب الثاء المثلثة .
الهيعرة : الغول والمرأة الفاجرة والخفة والطيش .
الهيق : بفتح الهاء وسكون الياء المثناة تحت قبل القاف : ذكر النعام وكذلك الهيقم ، والميم زائدة قال الراجز :
أشم من هيق وأهدى من جمل
وقال آخر :
وهو يشم كاشتمام الهيق
الهيكل : بفتح الهاء الفرس الطويل الضخم .
أبو هارون : طير في حنجرته أصوات شجية تفوق النوائح ، وتروق فوق كل مغن ، لا يسكت بالليل البتة ، يصيح إلى وقت الصباح ، ويجتمع عليه الطير لالتذاذها بسماع صوته ، وربما يمر به العاشق فلا يستطيع المرور بل يقعد ويبكي على صوته الشجي ، والله أعلم .
باب الواو
الوازع : الكلب لأنه يزع الذئب عن الغنم ، أي يطرده . وقد تقدم ما فيه في باب الكاف .
الواق واق : تقم في بابا السين مهملة ، في الكلام على السعلاة عن الجاحظ ، أنه نتاج ما بين بعض النبات وبعض الحيوان ، والله تعالى أعلم . الواقي : كالقاضي : الصرد ويقال له : الواق بكسر القاف ، سمي بذلك لحكاية صوته ، وأنشد ابن قتيبة لبعض الشعراء ، وهو المرقش السدوسي :
ولقد عدوت وكنت لا . . . أعدو على واق وحاتم(2/532)
"""""" صفحة رقم 533 """"""
فإذا الأشائم كالأيا . . . من والأيامن كالأشائم
وكذاك لا خير ولا . . . شر على أحد بدائم
لا يمنعنك من بغا . . . ء الخير تعقاد التمائم
قد خط ذلك في السطو . . . ر الأوليات القدائم
الواقي الصرد ، والحاتم الغراب ، وقال خيثم بن عدي : وليس بهياب إذا شد رحله يقول عداني اليوم واق وحاتم
ولكنه يمضي على ذاك مقدماً . . . إذا صد عن تلك الهناة الخثارم
يعني بالخثارم العاجز الضعيف الرأي المتطير ، والواق أيضاً طير من طير الماء أبيض ينطق بهذه الحروف .
وفي حله الخلاف في طير الماء الأبيض ، وقد تقدم أن الأصح حلها ، إلا اللقلق كما قاله الرافعي .
الوبر : بفتح الواو وتسكين الباء الموحدة دويبة أصغر من السنور طحلاء اللون لا ذنب لها تقيم في البيوت ، وجمعها وبورو وبارو وبارة ، والأنثى وبرة ، وقول الجوهري : لا ذنب لها أي لا ذنب طويل ، وإلا فالوبر له ذنب قصير جداً والناس يسمون الوبر بغنم بني إسرائيل ، ويزعمون أنها مسخت لأن ذنبها مع صغره ، يشبه ألية الخروف ، وهو قول شاذ لا يلتفت إليه ولا يعول عليه .
فائدة : روى البخاري ، في كتاب الجهاد ، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال : أتيت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وهو بخيبر بعدما افتتحوها ، فقلت : يا رسول الله أسهم لي ، فقال بعض بني سعيد بن العاص : لا تسهم له يا رسول الله فقال أبو هريرة رضي الله تعالى عنه : هذا قاتل ابن قوقل . فقال ابن سعيد بن العاص : واعجبا لوبر تدلى علينا من قدوم ضان ، ينعي علي قتل رجل مسلم ، أكرمه الله على يدي ، ولم يهنى على يديه . قال : فلا أدري أسهم له أم لم يسهم له . وابن سعيد المذكور هو أبان ، كما سيأتي إن شاء الله تعالى .
قال بعض شراح البخاري : الوبر دويبة يقال إنها تشبه السنور ، وأحسب أنها تؤكل . وضان اسم جبل ويروى ضال باللام . قوله : ينعى معناه يعيب ، يقال : نعيت على فلان فعله إذا عبته عليه ، وخرجه البخاري أيضاً في غزوة خيبر ، فقال : إن أبان بن سعيد أقبل إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، فسلم عليه فقال أبو هريرة : يا رسول الله هذا قاتل ابن قوقل ، فقال أبان لأبي هريرة : واعجبا لك وبر تردى من قدوم ضان ينعي علي امرءاً أكرمه الله تعالى بيدي ومنعه أن يهينني بيده .
قال بعض الشارحين : قدوم جبل لدوس ، وهي قبيلة أبي هريرة رضي الله تعالى عنه .(2/533)
"""""" صفحة رقم 534 """"""
قال البكري ، في معجمه : هكذا رواه الناس عن البخاري قدوم ضان بالنون إلا الهمداني فإنه رواه من قدوم ضال بالكلام ، وهو الصواب إن شاء الله تعالى ، والضال السدر البري . وأما إضافة هذه النسبة إلى الضان فلا أعلم لها معنى ، وكذلك قال شيخ الإسلام الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد في شرح الإلمام .
وقال ابن الأثير ، في النهاية : والوبر دويية على قدر السنور وجمعها وبر و بار ، وإنما شبهه بالوبر تحقيراً له . ورواه بعضهم بفتح الباء من وبر الإبل تحقيراً له أيضاً . والصحيح الأول . وابن قوقل بقافين مفتوحين ، اسمه النعمان رجل مسلم قتله أبان بن سعيد في حال كفره وكان إسلام أبان بين الحديبية وخيبر ، وهو الذي أجار عثمان رضي الله تعالى عنه يوم الحديبية حين بعثه النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إلى مكة .
وحكمه : حل الأكل لأنه يفدى في الإحرام والحرم ، وهو كالأرنب يعتلف النبات والبقول . وقال الماوردي والروياني : إنه حيوان في عظم الجرذ إلا أنه أنبل منه وأكبر ، والعرب تأكله . وقيل : هو دويبة سوداء على قدر الأرنب وأكبر من ابن عرس ، وعبارة الرافعي قريبة من ذلك . وقال مالك : لا بأس بأكله ، وبه قال عطاء ومجاهد وطاووس وعمرو بن دينار وابن المنذر وأبو يوسف . وكرهه الحكم وابن سيرين وحماد وأبو حنيفة والقاضي من الحنابلة ، وقال ابن عبد البر : لا أحفظ في الوبر شيئاً عن أي حنيفة وهو عندي مثل الأرنب لا بأس بأكله ، لأنه يقتات البقول والنبات والله أعلم .
الوج : كوج الطائف ، القطا والنعام وقد تقدم ما فيهما في بابيها القاف والنون .
الوحرة : بفتح الواو والحاء والراء دويبة حمراء تلزق بالأرض كالعظاء ، والجمع وحر ، قاله الجوهري . وقال غيره : هي بفتح الحاء وسكونها وهي وزغة شبيهة بسام أبرص تلصق بالأرض ، أو ضرب من العظاء لا تطأ طعاماً ولا شراباً إلا سمته ، وهي على شكل سام أبرص . روى الترمذي ، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه ، أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " تهادوا فإن الهدية تذهب وحر الصدور لا تحقرن جارة لجارتها ولو فرسن شاة " . ثم قال : غريب من هذا الوجه ، وقوله : " لا تحقرن جارة لجارتها " إلى آخره رواه البخاري في صحيحه ، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أيضاً بزيادة " يا نساء المسلمات " ووحر الصدر غشه ووساوسه . وقيل : الحقد والغيظ ، وقيل : العداوة ، وقيل : أشد الغضب ، وقيل : الغل اللاصق به كما تلصق الوحرة بالأرض . وكذلك رواه البخاري ، في كتاب الأدب ، والبيهقي من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه بإسناد جيد أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " تهادوا تحابوا فإنه يضعف الحب ويذهب بغوائل الصدور " . وفي حديث(2/534)
"""""" صفحة رقم 535 """"""
الملاعنة " إن جاءت به أحمر قصيراً مثل الوحرة فقد كذب عليها " . وفي الحديث : " من أحب يذهب كثيراً من وحر صدره فليصم شهر الصبر وثلاثة أيام من كل شهر " .
الوحش : كل شيء من دواب البر مما لا يستأنس ، والجمع وحوش ، يقال : حمار وحش وثور وحش ، وكل فيء لا يستأنس من الناس فهو وحش . وقد تقدم في أول الباب الذي قبله ، الحديث الذي رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " إن لله عز وجل مائة رحمة ، قسم منها رحمة بين جميع الخلائق ، فبها يتراحمون ، وبها يتعاطفون ، وبها تعطف الوحش على أولادها ، وأخر تسعة وتسعين رحمة يرحم بها عبادة يوم القيامة " ؛ وإنما خص النبي ( صلى الله عليه وسلم ) الوحش بالذكر ، لنفورها وعدم استئناسها . وروي أن النيي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " يقول الله سبحانه وتعالى : ابن آدم وعزتي وجلالي لئن رضيت بما قسمت لك أرحتك وأنت محمود ، وإن لم ترض بما قسمت لك سلطت عليك الدنيا تركض فيها كركض الوحش ثم لا يكون لك إلا ما قسمت لك وأنت مذموم " . وروى الترمذي من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه مرفوعاً : " من سعادة ابن آدم رضاه بما قسم الله " .
وفي الإحياء : أن الله تعالى أوحى إلى داود عليه الصلاة والسلام : يا داود تريد وأريد ، ولا يكون إلا ما أريد ، فإن سلمت لما أريد كفيتك ما تريد ، وإن لم تسلم لما أريد أتعبتك فيما تريد ، ثم لا يكون إلا ما أريد . وقال أبو القاسم الأصبهاني ، في الترغيب والترهيب : قال قيس بن عبادة : بلغني أن الوحش كانت تصوم عاشوراء ، وقال الفتح بن سخرب ، وكان من الزهاد : كنت أفتت للنمل خبزاً في كل يوم فإذا كان يوم عاشوراء لم تأكله .
تتمة مشتملة على فوائد حسنة : قال شيخ الإسلام محي الدين النووي ، في الأذكار ، في باب أذكار المسافر ، عند إرادة الخروج من بيته : يستحب له عند إرداته الخروج من بيته أن يصلي ركعتين ، لحديث المقطم بن المقداد الصحابي أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " ما خلف أحد عند أهله أفضل من ركعتين يركعهما عندهم حين يريد السفر " . رواه الطبراني . قال بعض أصحابنا : يستحب أن يقرأ في الأولى منهما بعد الفاتحة قل أعوذ برب الفلق ، وفي الثانية قل أعوذ برب الناس ، وإذا سلم قرأ آية الكرسي ، فقد جاء أن من قرأ آية الكرسي ، قبل خروجه من منزله ، لم يصبه شيء يكرهه حتى يرجع ويستحب أن يقرأ سورة لإيلاف قريش فقد قال السيد الجليل ، أبو الحسن القزويني ، الفقيه الشافعي صاحب الكرامات الظاهرة والأحوال الباهرة ، والمعارف المتظاهرة : إنه أمان من كل سوء . وقال أبو طاهر بن جحشويه : أردت سفراً ، وكنت خائفاً منه فدخلت على القزويني ، أسأله الدعاء ، فقال لي ابتداء من قبل نفسه : من أراد سفراً ففزع من عدو أو وحش ، فليقرأ لإيلاف قريش ، فإنها أمان من كل سوء . فقرأتها فلم يعرض لي عارض حتى الآن انتهى . قوله المقطم الصحاي وهم ، لا يعرف في الصحابة من اسمه المقطم .
والحديث المذكور مرسل ، فإن راويه إنما هو المقطم بن المقدام الصنعاني رواه الطبراني في كتاب المناسك ، وقد وقع هذا الاسم في الأذكار مصحفاً كما ترى صحف الصنعاني فجعله(2/535)
"""""" صفحة رقم 536 """"""
الصحابي وربما ظن أن ذلك تصحيف من النساخ ، حتى وجد كذلك بخط الشيخ محي الدين النووي . هكذا أفادنا هذه الفائدة شيخنا الحافظ العلامة زين الدين بن عبد الرحيم العراقي رحمه الله وأحسن إليه قال : والصنعاني المذكور نسبة إلى صنعاء الشام لا إلى صنعاء اليمن .
تتمة أخرى : قوله تعالى : " وإذا الوحوش حشرت " أي جمعت وقوله تعالى : " ما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون " اختلف العلماء في حشر البهائم والوحش والطير ؛ فقال عكرمة : حشرها موتها . وقال أبي بن كعب : حشرت أي اختلطت . وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : حشر كل شيء الموت ، غير الجن والإنس فإنهما يوفيان يوم القيامة . وقال الجمهور : الجميع تحشر وتبعث حتى الذباب ويقتص لبعضها من بعض ، فيقتص للجماء من القرناء ، ثم يقول الله تعالى : كوني تراباً فعند ذلك يتمنى الكافر أن يكون تراباً فذلك قوله عز وجل حكاية عن الكافر : " يا ليتني كنت تراباً ، قاله أبو هريرة وعمرو بن العاص وعبد الله بن عمرو ابن عباس رضي الله تعالى عنهم في إحدى الروايات والحسن البصري ومقاتل وغيرهم .
ورأيت في بعض التفاسير أن المراد بالكافر هنا إبليس لعنه الله وذلك أنه عاب آدم عليه السلام كونه خلق من تراب ، وافتخر عليه كونه خلق من نار ، فإذا عاين يوم القيامة ما فيه آدم وبنوه المؤمنون من الثواب والراحة والرحمة ، ورأى ما هو فيه من الشدة والعذاب ، تمنى أن يكون تراباً كالبهائم والوحش والطير .
قال أبو هريرة رضي الله تعالى عنه : فيقول التراب للكافر : لا ولا كرامة لك من جعلك مثلي ، ثم يجول ذلك التراب في وجوه الكفار فذلك قوله تعالى : " ووجوه يومئذ عليها غبرة ترهقها قترة " أي ظلمة وكآبة وكسوف وسواد ، فإن قيل : ما الفرق بين الغبرة والقترة ؟ قيل : إن القترة ما ارتفع من الغبار فلحق بالسماء ، والغبرة ما كان أسفل في الأرض قاله ابن زيد .
روى الجماعة : من حديث رافع بن خديج ، قال : كنا مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في سفر ، فند منا بعير ، فرماه رجل بسهم ، فقال ( صلى الله عليه وسلم ) : " إن لهذه البهائم أوابد كأوابد الوحش فما غلبكم منها فاصنعوا به هكذا " .
تتمة أخرى : قال الشيخ قطب الدين القسطلاني : مما حفظت من دعاء والدتي أم محمد آمنة ، ووفاتها في صفر سنة ست وخمسين وستمائة ، وهو ينفع للوقاية من الأعداء ، وممن يخاف شره : اللهم بتلألؤ نور بهاء حجب عرشك من أعدائي احتجبت ، وبسطوة الجبروت ممن يكيدني استترت ، وبطول حول شديد قوتك من كل سلطان تحصنت ، وبديموم قيوم دوام أبديتك من كل شيطان استعذت ، وبمكنون السر من سرسرك من كل هم وغم تخلصت ، يا حامل العرش عن(2/536)
"""""" صفحة رقم 537 """"""
حملة العرش ، يا شديد البطش يا حابس الوحش ، احبس عني من ظلمني . واغلب من غلبني ، " كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز " .
وقد فكرت في معنى قولها يا حابس الوحش ، فظهر لي فيه أنها أرادت قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ، في قصة الحديبية ، " حبسها الفيل " ، والقصة في ذلك مشهورة ، وقد تقدمت .
وقال الشيخ قطب الدين أيضاً : ومما حفظته من دعاء والدتي ، وهو من الأدعية التي تنفع في الحجب من الأعداء : اللهم إني أسألك بسر الذات بذات السر ، هو أنت أنت هو لا إله إلا أنت احتجبت بنور الله ، وبنور عرش الله ، وبكل اسم من أسماء الله ، من عدوي وعدو الله ، ومن شر كل خلق الله ، بمائة ألف ألف لا حول ولا قوة إلا بالله ، ختمت على نفسي وديني وأهلي ومالي وولدي ، وجميع ما أعطاني ربي ، بخاتم الله القدوس المنيع ، الذي ختم به أقطار السموات والأرض ، حسبنا الله ونعم الوكيل حسبنا الله ونعم الوكيل ، حسبنا الله ونعم الوكيل ، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم . ومما جرب في الحجب عن الأعداء أيضاً ويمنع من شر كل سلطان وشيطان ، وسبع وهامة ، أن يقول : سبع مرات عند طلوع الشمس : أشرق نور الله وظهر كلام الله وأثبت أمر الله ونفذ حكم الله استعنت بالله وتوكلت على الله ، ما شاء الله ، لا حول ولا قوة إلا بالله ، تحصنت بخفي لطف الله ، وبلطيف صنع الله ، وبجميل ستر الله ، وبعظيم ذكر الله ، وبقوة سلطان الله ، دخلت في كنف الله ، واستجرت برسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، برئت من حولي وقوتي ، واستعنت بحول الله وقته ، اللهم استرني في نفسي وديني وأهلي ومالي وولدي ، بسترك الذي سترت به ذاتك ، فلا عين تراك ، ولا يد تصل إليك ، يا رب العالمين احجبني عن القوم الظالمين بقدرتك يا قوي يا متين ، وصلى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه أجمعين ، وسلم تسليماً كثيراً دائماً أبداً إلى يوم الدين ، والحمد رب العالمين .
الودع : واحدته ودعة وهو حيوان في جوف البحر ، إذا قذف إلى البر مات ، وله بريق ولون حسن ، وتصلب كصلابة الحجر ، فيثقب ويؤخذ منه القلائد ، يتحلى بها النساء والصبيان . وفي داله الفتح والسكون قال الشاعر :
إن الرواة بلا فهم لما حفظوا . . . مثل الجمال عليها يحمل الودع
لا الودع ينفعه حمل الجمال له . . . ولا الجمال بحمل الودع تنتفع
واسمها مشتق من ودعته أي تركته ، لأن البحر ينضب عنها ويدعها ، فهي ودع بالتحريك وإذا قلت الودع بالتسكين ، فهو من باب ما سمي بالمصدر .
الوراء : ولد البقرة وقد تقدم ما في البقرة في باب الباء الموحدة .
الورد : الأسد قيل له ذلك تشبيهاً بلون الورد الذي يشم ، ولذلك قيل للفرس ورد ، وهو(2/537)
"""""" صفحة رقم 538 """"""
بين الكميت الأشقر . والأنثى وردة والجمع ورد بالضم مثل جون وجون .
ومن الأحاديث الموضوعة ، ما ذكره ابن عدي وغيره ، في ترجمة الحسن بن علي بن زكريا بن صالح العدوي البصري ، الملقب بالذئب ، عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه ، أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " ليلة أسري بي إلى السماء سقط إلى الأرض من عرقي فنبت منه الورد ، فمن أراد أن يشم رائحتي فليشم الورد " .
الورداني : بالراء المهملة طائر متولد بين الورشان والحمام ، وله غرابة لون وظرافة قد قاله الجاحظ .
الورشان : بالشين المعجمة هو ساق حر المتقدم في باب السين المهملة ، وهو ذكر القمارى ، والجمع وراشين ويجمع أيضاً على ورشان بكسر الراء ككروان جمع للطائر ، وقيل : إنه طائر يتولد بين الفاختة والحمامة وبعضهم يسميه الورشين وفي ذلك يقول ابن عنين ملغزاً :
يا علماء القريض إني . . . أعجزني في القريض كشف
فخبروني عن اسم طير . . . النصف ظرف والنصف حرف
وكنيته أبو الأخضر وأبو عمران وأبو النائحة . وهو أصناف منها : النوب وهو أسود حجازي ، إلا أنه أشجى صوتاً منه ، ومزاجه بارد رطب بالنسبة إلى مزاج الحجازيات ، وصوته بين أصواتها كصوت العود بين الملاهي ، والورشان يوصف بالحنو على أولاده ، حتى إنه ربما قتل نفسه إذا رآها في يد القانص . قال عطاء : إنه يقول : لدوا للموت ، وابنوا للخراب . وهذه لام العاقبة مجازاً قال الشاعر :
له ملك ينادي كل يوم . . . لدوا للموت وابنوا للخراب
حكى القشيري ، في رسالته ، في باب كرامات الأولياء ، أن عتبة الغلام كان يقعد فيقول : يا ورشان إن كنت أطوع لله مني فتعال فاقعد على كفي فيجيء الورشان فيعقد على كفه .
وحكمه : حل الأكل لأنه من الطيبات .
تتمة : كان عثمان بن سعيد أبو سعد ، لمقرئ المصري المعروف بورش ، قصيراً سميناً أشقر أزرق العينين ، شديد البياض ، حسن الصوت بالقراءة ، ولذلك لقبه شيخه نافع بالورشان ، فكان يقول له : اقرأ يا ورشان افعل يا ورشان وكان لا يكرهه ويعجبه ، ويقول : استاذي نافع سماني به فغلب عليه ، ثم حذف بعض الاسم فقيل له ورش . قال ورش : خرجت من مصر لأقرأ على نافع فلما دخلت المدينة ، فإذا به لا يطيق أحد القراءة عليه لكثرة الطلبة ، وكان لا يقرئ أحداً إلا ثلاثين آية .
قال : فتوسلت إليه ببعض أصحابه ، فجئت إليه معه ، فقال : هذا رجل جاء من مصر ليقرأ(2/538)
"""""" صفحة رقم 539 """"""
عليك خاصة ، لم يجئ تاجراً ولا حاجاً ، فقال له نافع : أنت ترى ما ألقى من أبناء المهاجرين والأنصار ، فقال : أريد أن تحتال له في وقت ، فقال لي نافع : يا أخي يمكنك أن تبيت في المسجد ؟ قلت : نعم . فبت فيه . فلما كان الفجر جاء نافع فقال : ما فعل الغريب ؟ فقلت : نعم ها أنا يرحمك الله . فقال : اقرأ فقرأت ، وكنت حسن الصوت بالقراءة ، فاستفتحت أقرأ فملا صوتي مسجد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فلما انتهيت إلى رأس الثلاثين آية ، أشار إلي أن أسكت ، فسكت ، فقام إليه شاب من الحلقة فقال : يا معلم الخير نحن معك بالمدينة ، وهذا هاجر إليك ليقرأ عليك ، وقد وهبته من نوبتي عشر آيات ، وأنا أقتصر على عشرين . فقال : اقرأ ، فقرأتها . ثم قام فتى أخر فقال كقول صاحبه ، فقرأت عشر آيات وقعدت حتى إذا لم يبق أحد ممن له قراءة ، قال لي : اقرأ فقرأ خمسين آية حتى قرأت عليه ختمات قبل أن أخرج من المدينة .
وتوفي ورش بمصر سنة سبع وتسعين ومائة ومولده سنة عشرين ومائة .
الأمثال : قالوا : بعلة الورشان يأكل رطب المشان بالإضافة ، ولا تقبل الرطب المشان وهو نوع من التمر ، والمشان ضرب من الرطب ، والسبب في ذلك أن قوماً استحفظوا عبداً لهم رطب نخلهم ، فكان يأكله ، فإذا عوتب على سوء الأثر فيه يقول : أكله الورشان ، فقيل ذلك يضرب لمن يظهر شيئاً ، والمراد منه شيء آخر .
الخواص : دمه يقطر في العين التي أصابتها طرفة أو ضربة فيحلل دمها المجتمع ، وكذا يفعل الحمام أيضاً وقال هرمس : من داوم على أكل بيضه زاد جماعه وأورثه العشق .
التعبير : الورشان رجل غريب مهين ، ويدل على أخبار ورسل ، لأنه أخبر نوحاً عليه الصلاة والسلام بنقص الماء ، لما كان في السفينة . وقيل : الورشان امرأة صدوق والله أعلم .
الورقاء : الحمامة التي يضرب لونها إلى خضرة ، والورقة سواد في غبرة ، ومنه قيل للرماد أورق وللذئبة ورقاء والجمع ورق كأحمر وحمر .
وفي الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه ، قال : جاء رجل من بني فزارة إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : إن امرأتي ولدت غلاماً أسود فقال له النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : " هل لك من إبل ؟ " قال : نعم . قال : " فما ألوانها ؟ " قال : حمر . قال : " فهل فيها من أورق ؟ " قال : إن فيها الورقاء قال : " فأني أتاها ذلك ؟ " قال : عسى أن يكون نزعه عرق ، قال : " هو ذاك " .
قال السهيلي ، قي قصة سواد بن قارب : ومن هذا الباب خبر سوداء بنت زهرة بن كلاب وذلك أنها حين ولدت ورآها أبوها ورقاء ، أمر بوأدها ، وكانوا يئدون من البنات ما كان على هذه الصفة ، فأرسلها إلى الحجون لتدفن هناك . فلما حفر لها الحافر ، وأراد دفنها سمع هاتفاً يقول : تدفن الصبية وخلها في البرية ، فالتفت فلم ير شيئاً فعاد لدفنها ، فسمع الهاتف فعاد إلى أبيها وأخبره بما سمع ، فقال : إن لها لشأناً وتركها . فكانت كاهنة قريش . فقالت يوماً : يا بني زهرة إن(2/539)
"""""" صفحة رقم 540 """"""
فيكم نذيرة تلد نذيراً ، فاعرضوا في بناتكم . فعرضوا عليها ، فقالت في كل واحدة منهن قولاً ظهر عليها بعد حين ، حتى عرضت عليها آمنة بنت وهب ، فقالت : هذه النذيرة وستلد نذيراً . وهو خبر طويل ذكر الزبير بن بكار منه يسيراً . وقال الغزالي ، في الإحياء : روي أن أبا الحسين النوري كان مع جماعة في دعوة فجرت بينهم مسألة في العلم ، وأبو الحسين ساكت ثم رفع رأسه وأنشدهم :
رب ورقاء هتوف في الضحي . . . ذات شجو هتف في فنن
ذكرت إلفاً وخدنا صالحاً . . . فبكت حزناً فهاجت حزني
فبكاي ربما أرقها . . . وبكاها ربما أرقني
ولقد تشكو فما أفهمها . . . ولقد أشكو فما تفهمني
غير أني بالجوى أعرفها . . . وهي أيضاً بالجوى تعرفني
قال : فما بقي أحد من القوم ، إلا قام وتواجد ، ولم يحصل لهم هذا الوجد من العلم ، الني خاضوا فيه وإن كان العلم حقاً ، وقد شبه بها الرئيس أبو علي الحسين بن عبد الله بن الحسين بن سينا النفس حيث قال :
هبطت إليك من المحل الأرفع . . . ورقاء ذات تعزز وتمنع
محجوبة عن كل مقلة عارف . . . وهي التي سفرت ولم تتبرقع
وصلت على كره إليك وربما . . . كرهت فراقك وهي ذات تفجع
أنفت وما ألفت فلما واصلت . . . ألفت مجاورة الخراب البلقع وأظنها نسيت عهوداً بالحمى . . . ومنازلاً بفراقها لم تقنع
حتى إذا اتصلت بهاء هبوطها . . . من ميم مركزها بذالت الأجرع
علقت بها ثاء الثقيل فأصبحت . . . بين المعالم والطلول الخضع
تبكي وقد نسيت عهوداً بالحمى . . . بمدامع تهمي ولما تقلع
حتى إذا قرب المسير إلى الحمى . . . ودنا الرحيل إلى الفضاء الأوسع
وغدت تغرد فوق ذروة شاهق . . . والعلم يرفغ كل من لم يرفع
وتعود عالمة بكل خفية . . . في العالمين فخرقها لم يرقع
فهبوطها إذا كان ضربة لازب . . . لتكون سامعة لما لم تسمع
فلأي شيء أهبطت من شاهق . . . سام إلى قعر الحضيض الأوضع
إن كان أهبطها الإله لحكمة . . . طويت عن الفطن اللبيب الأروع
أو عاقها الشرك الكثيف وصدها . . . قفص عن الأوج الفسيح الأرفع
فكأنها برق تأنق بالحمى . . . ثم انطوى فكأنه لم يلمع
وكان الرئيس أبو علي نادرة عصره وعلامة دهره وهو أحد فلاسفة المسلمين وله وصايا في الطب ، كثيرة ، نظماً ونثراً فمن المنسوب إليه من ذلك :(2/540)
"""""" صفحة رقم 541 """"""
اسمع بني وصيتي واعمل بها . . . فالطب معقود بنص كلامي
لا تشربن عقيب أكل عاجلاً . . . فتقود نفسك للأذى بزمام
واجعل غذاءك كل يوم مرة . . . واحذر طعاماً قبل هضم طعام
واحفظ منيك ما استطعت فإنه . . . ماء الحياة يراق في الأرحام
وينسب إليه أيضاً :
لقد طفت في تلك المعاهد كلها . . . وسرحت طرفاً بين تلك المعالم
فلم أر إلا واضعاً كف حائر . . . على ذقن أو قارعا سن نادم
قال الشيخ كمال الدين بن يوسف : إن مخدومه سخط عليه ، فاعتقله ومات في السجن سنة ثمان وعشرين وأربعمائة .
الورل : بفتح الواو والراء المهملة وباللام في آخره ، دابة على خلقة الضب إلا أنه أعظم منه ، والجمع أورالد وورلان والأنثى ورلة . كذا قاله ابن سيده .
وقال القزويني : إنه العظيم من الوزغ ، وسام أبرص طويل الذنب سريع السير ، خفيف الحركة . وقال عبد اللطيف البغدادي : الورل والضب والحرباء ، وشحمة الأرض والوزغ ، كلها متناسبة في الخلق ، فأما الورل وهو الحرذون فليس في الحيوان أكثر سفاداً منه ، وبينه وبين الضب عداوة ، فيغلب الورل الضب ويقتله ، لكنه لا يأكله كما يفعل بالحية ، وهو لا يتخذ بيتاً لنفسه ولا يحفر له جحراً بل يخرج الضب من جحره صاغراً ، ويستولي عليه ، وإن كان أقوى براثن منه لكن الظلم يمنعه من الحفر ، ولهذا يضرب بالورل المثل في الظلم ، ويكفي في ظلمه أنه يغصب الحية جحرها ويبلعها ، وربما قتل فوجد في جوفه الحية العظيمة ، وهو لا يبتعلها حتى يشدخ رأسها ويقال إنه يقاتل الضب .
والجاحظ يقول : إن الحرذون غير الورل ، ووصفه بأنه دابة تكون غالباً بناحية مصر ، مليحة موشاة بألوان كثيرة ، ولها كف ككف الإنسان مقسومة أصابعها إلى الأنامل ، وهو يقوى الحيات ويأكلها أكلاً ذريعاً ، ويخرجها من جحرها ويسكن فيه وهو أظلم ظالم .
فائدة : قال أهل اللغة : لا تلتقي الراء مع اللام إلا في أربع كلمات : الورل ، وهو الحيوان المذكور ، وأرل اسم جبل ، وغرلة وهي القلفة ، وجرل وهو ضرب من الحجارة .
الحكم : مقتضى ما تقدم من أكله الحيات أنه يحرم ، وهذا هو الظاهر من قول الأقدمين ورجع الرافعي أنه يرجع فيه إلى استطابة العرب وعدمها ، لقوله تعالى : " يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات " ، وليس المراد الحلال وإن كان قد ورد الطيب بمعنى الحلال ، الحمل عليه يخرج الآية عن الإفادة ، والعرب أولى باعتبار ذلك لأن الدين عربي والنبي ( صلى الله عليه وسلم ) عربي وإنما يرجع في ذلك إلى سكان البلاد والقرى دون آجلاف البوادي ، الذين يأكلون ما دب ودرج(2/541)
"""""" صفحة رقم 542 """"""
من غير تمييز ، مع اعتبار حالة اليسار والثروة دون المحتاجين . وأصحاب الضرورات ، وحالتي الخصب والرفاهية دون حالتي الجدب والشدة . وقال بعضهم : المعتبر هنا العرب الذين كانوا في عهد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، لأن الخطاب كان لهم . وقال ابن عبد البر ، في التمهيد : ذكر عبد الرزاق قال : أخبرني رجل من ولد سعيد بن المسيب قال : أخبرني يحيى بن سعيد قال : كنت عند سعيد بن المسيب ، فجاءه رجل من غطفان ، فسأله عن الورل فقال : لا بأس به ، وإن كان معكم منه شيء فاطعمونا منه . قال عبد الرزاق : والورل يشبه الضب .
وقد ذكر في كتاب رفع التمويه فيما يرد على التنبيه ، ما حاصله أنه فرخ التمساح ، وقال : لأن التمساح يبيض في البر فإذا خرجت فراخه نزل بعضها في البحر ، وبقي بعضها في البر فما نزل إلى البحر صار تمساحاً ، وما بقي في البر صار ورلاً . قال : فعلى هذا يكون في حله الوجهان كما في التمساح .
وهذا الذي قاله لا أعتقد صحته ، وذلك لأن الورل ليس على صفات التمساح ، لأن جلده يخالف جلده في النعومة وأيضاً فإنه لو كان من التمساح لأخذ في الكبر حتى يصير في حجمه ، والورل في المقدار لا يزيد على ذراع ونصف أو ذراعين ، والتمساح يبلغ عشرة أذرع وأكثر .
تنبيه مهم : إعلم أنه تقدم في هذا الكتاب حيوانات لم تتعرض الأصحاب لها بالحل ولا بالحرمة ، وذلك نحو البلنصى والدبل والقرعبلان والقرز والقنفشة والورل وغير ذلك ، إلا أنهم أعطوا قواعد كلية عامة وقواعد خاصة ، وذلك لما أيسوا من الطمع في حصر أنواع الحيوانات . فمن قواعدهم الخاصة : تحريم كل ذي ناب من السباع ، ومخلب من الطير ، وكل ما يقتات من النجاسات والخبائث ، وكل ما نهي عن قتله أو أمر بقتله ، أو تولد بين مأكول وغيره ، وكل نهاش والحشرات بأسرها ، إلا الضب واليربوع والقنفذ وابن عرس والدلدل .
ومن قواعدهم الخاصة أيضاً تحليل كل ذات طوق ولقاط وطيور الماء كلها ، إلا اللقلق كما تقدم . ومن هذه القواعد يؤخذ تحريم الورل لأنه من الحشرات ، ولم يستثنوه . وكذا غيره من الحشرات كالخلد والربارب وفأرة البيش والإبل ومما يدل على منع أكل الورل قول الجاحظ وغيره : إن الورل يقوي على الحيات ويأكلها أكلاً ذريعاً ويخرجها من جحرها ويسكن فيه قال : وبراثن الورل أقوى من براثن الضب إلا أن الورل يخرج الحية من جحرها ، ولا يحفر خوفاً منه على براثنه .
ثم المعنى بقولهم ما أمر بقتله لمعنى فيه كالفواسق الخمس أما ما أمر بقتله لمعنى في غيره فلا يحرم ، ومن ذلك الدابة المأكولة إذا وطئت فإنه يجب ذبحها ولا يحرم أكلها على الصحيح ، وإن ورد الأمر بقتلها لأن ذلك ليس لمعنى فيها ، بل هو في غيرها وهو تعبير الزاني وتذكره الفاحشة برؤيتها . وقد أمر عمر رضي الله تعالى عنه بقتل الديكة لأنهم كانوا يتهارشون بها وأمر بقتل الحمام لأنهم كانوا يلعبون بها ، ويؤذون الناس بصعودهم الأسطحة والرمي بالأحجار .(2/542)
"""""" صفحة رقم 543 """"""
وقولهم : ما نهي عن قتله فحرام ، يعنون به ما نهي عن قتله إكراماً له . قال : الخطابي : نهى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عن قتل الهدهد كرامة له ، لأنه أطاع نبياً لا أنه حرام ونقله عنه العبادي وقضيته ترجيح وجه القائل بحل الصرد لأن النهي عن قتله لأمر خارج عنه لا لمعنى فيه ، ولما كانت هذه القواعد غير تامة لجميع الحيوان ، ذكر الأصحاب قاعدة عامة وهي الاستطابة والاستخباث وعليها مدار الباب . قال الرافعي : من الأصول المرجوع إليها في التحريم والتحليل الاستطابة والاستخباث . ورآه الشافعي والأصل العظيم المعتمد فيه قوله تعالى : " يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات " وليس المراد بالطيب هنا الحلال . وإن كان قد يرد الطيب بمعنى الحلال ، لأن الحمل عليه يخرج الآية عن الإفادة .
قال الأئمة : ويبعد الرجوع إلى طبقات الناس ، وتنزيل كل قوم على ما يستطيبونه يستخبثونه ، لأن ذلك يوجب اختلاف الأحكام في الحلال والحرام ، وذلك يخالف موضوع الشرع في حمل الناس على شرع واحد ، ورأوا العرب أولى الأمم بأن يؤخذ باستطابتهم واستخبائهم لأنهم المخاطبون أولاً والدين عربي والنبي ( صلى الله عليه وسلم ) عري ، وإنما يرجع إلى سكان البلاد والقرى دون أجلاف سكان البوادي الذين يأكلون ما دب ودرج من غير تمييز ، مع اعتبار حالة اليسار والثروة المحتاجين وأصحاب الضرورات ، وحالتي الخصب والرفاهية دون حالتي الجدب والشدة وقال بعضهم : المعتبر الرجوع إلى عادة العرب الذين كانوا في عهد سيدنا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لأن الخطاب كان لهم . ويشبه أن يقال : يرجع في كل زمان إلى العرب الموجودين فيه . ويدل لهذا التوجيه ما تقدم في باب العين المهملة ، في لفظ العضاري ، عن أبي عاصم العبادي ، أنه حكى عن الأستاذ أبي طاهر الزيادي أنه قال : كنا نرى العضاري حراماً ونفتي بتحريمه ، حتى ورد علينا الأستاذ الحسن الماسرجيني فقال : إنه حلال ، فبعثنا منه جواباً إلى البادية وسألنا العرب عنه فقالوا : هذا الجراد المبارك ، فرجعوا إلى قول العرب فيه . وإذا اختلف المرجوع إليهم فاستطابته طائفة واستخبثته طائفة اتبعنا الأكثرين ، فإن استوت الطائفتان ، قال المارودي في الحاوي ، وأبو الحسن العبادي : إنه يتبع قريش ، لأنهم قطب العرب وفيهم النبوة ، فإن اختلفت قريش أو لم يحكموا بشيء ، اعتبر أقرب الحيوانات شبهاً به . والشبه يكون تارة في الصورة وتارة في الطبع من السلامة والعدوان ، وأخرى في طعم اللحم ، فإن تساوى الشبه أو لم يوجد ما يشبه ففيه وجهان انتهى .
زاد في الحاوي هما من اختلاف أصحابنا في أصول الأشياء ، قبل ورود الشرع هل هي على الإباحة أو الحظر ؟ أحد الوجهين أنها على الإباحة حتى يرد الشرع بالحظر انتهى . قال أبو العباس : إذا وجد حيوان لا يعرف حاله عرض على العرب ، فإن سموه باسم ما يحل حل ، وإن سموه باسم ما يحرم حرم ، وإن لم يكن له اسم عندهم اعتبر بأقرب الأشياء شبهاً من الذي يحل يحرم . وعلى هذا نص الشافعي ، رحمه الله تعالى .
وقال الرافعي : وفي استصحاب حكم ما ثبت تحريمه في شرع من قبلنا قولان أحدهما : نعم(2/543)
"""""" صفحة رقم 544 """"""
أخذا بما كان إلى أن يظهر ناسخ ، والثاني لا بل اعتماد ظاهر الآية المقتضية للحل أولى ، والخلاف على ما ذكر الموفق بن طاهر رحمه الله تعالى ، مبني على أن شرع من قبلنا هل هو شرع لنا فيه اختلاف أصولي ، والأوفق لسياق كلام الأصحاب أنه لا يستصحب حكم شرع من قبلنا ، وعلى لذا فلا تفريع . وعلى القول بالاستصحاب فذلك إذا ثبت بالكتاب أو السنة ، أنه كان حراماً في شرع من قبلنا ، أو شهد به اثنان أسلما منهم ، ممن يعرف التبديل ، ولا يعتمد فيه قول أهل الكتاب انتهى كلام الرافعي .
قال في الحاوي : ولو كان الحيوان ببلاد العجم ، اعتبر في أقرب بلاد العرب عند من جمع الأوصاف المعتبرة فإن اختلفوا فيه اعتبر حكمه فيا أقرب بلاد الشرائع للإسلام ، وهي النصرانية فإن اختلفوا فيه فعلى ما ذكرناه من الوجهين يعني في الأشياء قبل ورد شرع انتهى .
قلت : ولا بد من التنبيه هنا على أمرين : أحدهما أنا إذا قلنا باستصحاب شرع من قبلنا ، كما هو اختيار ابن الحاجب وغيره من الأصوليين ، فله شرطان أحدهما : ألا يختلف في تحريمه وتحليله شريعتان ، فإن اختلفتا بأن كان حراماً في شريعة إبراهيم عليه السلام وحلالاً في شريعة غيره ، فيحتمل أن نأخذ بالشريعة المتأخرة ، ويحتمل التخيير ، إن لم نقل بأن الثانية ناسخة للأولى ، وإن ثبت كون الثانية ناسخة للأولى ، وجهل كونه حراماً في الشريعة السابقة أو اللاحقة ، وقف . ويحتمل الرجوع إلى الإباحة الأصلية فيأتي الوجهان السابقان . الأمر الثاني أن يكون التحريم أو التحليل ثابتاً قبل تحريفهم وتبديلهم ، فإن استحلوا أو حرموا بعد النسخ ، فلا عبرة به والله أعلم . الأمثال : قالوا : أجبر من ورل وأسرع من تملظ الورل وهو الأكل بطرف اللسان ، كذلك يأكل الورل وقالوا : أشرد وأضل وأظلم من ورل .
الخواص : شعره إذا شد على عضد امرأة لم تحمل ما دام ذلك عليها ، ولحمه وشحمه يسمن النساء ، وفيه قوة جذب الشوك من البدن ، وجلده يحرق ويخلط رماده بدردي الزيت ويطلى به عضو الخدر يذهب خدره ، وزبله ينفع من الكلف والنمش طلاء .
التعبير : الورل في المنام يدل على عدو خسيس الهمة ذي مهانة وقصور حجة الله تعالى أعلم .
الوزغة : بفتح الواو والزاي والغين المعجمة دويبة معروفة ، وهي وسام أبرص جنس ، فسام أبرص كباره واتفقوا على أن الوزغ من الحشرات المؤذيات ، وجمع الوزغة وزغ وأوزاغ ووزغان وازغان على البدل حكاه ابن سيده .
روى البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجه ، عن أم شريك رضي الله تعالى عنها ، أنها(2/544)
"""""" صفحة رقم 545 """"""
استأمرت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في قتل الوزغان ، فأمرها بذلك . وفي الصحيحين أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أمر بقتل الوزغ ، وسماه فويسقاً . وقال : كان ينفخ النار على إبراهيم عليه الصلاة والسلام . وكذلك رواه الإمام أحمد في مسنده . وفي الحديث الصحيح ، من رواية أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال : إن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " من قتل وزغة من أول ضربة فله كذا وكذا حسنة ، ومن قتلها في الضربة الثانية ، فله كذا وكذا حسنة دون الأولى ، ومن قتلها في الثالثة فله كذا وكذا حسنة دون الثانية " . وفيه أيضاً " إن من قتلها في الأولى فله مائة حسنة ، وفي الثانية دون ذلك ، وفي الثالثة دون ذلك وروى الطبراني عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " أقتلوا الوزغة ولو في جوف الكعبة " لكن في إسناده عمر بن قيس المكي ، وهو ضعيف . وفي حديث عائشة رضي الله تعالى عنها ، لما أحرق بيت المقدس وكانت الأوزاغ تنفخه .
وفي سنن ابن ماجه عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنه كان في بيتها رمح موضوع ، فقيل لها : ما تصنعين بهذا ؟ فقالت : أقتل به الوزغ ، فإن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) اخبرنا أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، لما ألقي في النار لم يكن في الأرض دابة إلا أطفأت عنه النار غير الوزغ ، فإنه كان ينفخ عليه النار ، فأمر ( صلى الله عليه وسلم ) بقتله . وكذلك رواه الإمام أحمد في مسنده .
وفي تاريخ ابن النجار في ترجمة عبد الرحيم بن أحمد بن عبد الرحيم الفقيه الشافعي عن عائشة رضي الله تعالى عنها ، أنها قالت : سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول : " من قتل وزغة محا الله عنه سبع خطيآت " .
وفي الكامل ، في ترجمة وهب بن حفص ، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " من قتل وزغة فكأنما قتل شيطاناً " .
وروى الحاكم في كتاب الفتن والملاحم من المستدرك ، عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه ، أنه قال : كان لا يولد لأحد مولود إلا أتي به للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) فيدعو له ، فأدخل عليه مروان بن الحكم فقال : هو الوزغ ابن الوزغ المعلون ابن الملعون . ثم قال : صحيح الإسناد . وروى بعده بيسير عن محمد بن زياد قال : لما بايع معاوية لابنه يزيد قال مروان : سنة أبي بكر وعمر ، فقال عبد الرحمن بن أبي بكر : سنة هرقل وقيصر فقال له مروان : أنت الذي أنزل الله فيك والذي قال لوالديه أف لكما فبلغ ذلك عائشة رضي الله عنها فقالت : كذب والله ما هو به ، ولكن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، لعن أبا مروان ومروان في صلبه .(2/545)
"""""" صفحة رقم 546 """"""
ثم روى الحاكم عن عمرو بن مرة الجهني رضي الله تعالى عنه ، وكانت له صحبة ، قال : إن الحكم بن أبي العاص استأذن على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، فعرف صوته فقال ( صلى الله عليه وسلم ) : " ائذنوا له لعنة الله عليه وعلى من يخرج من صلبه إلا المؤمن منهم ، وقليل ما هم يشرفون في الدنيا ، ويضيعون في الآخرة ذوو مكر وخديعة يعطون في الدنيا وما لهم في الآخرة من خلاق " قال ابن ظفر . وكان الحكم بن أبي العاص يرمى بالداء العضال وكذلك أبو جهل .
وأما تسمية الوزغ فوسقاً ، فنظيره الفواسق الخمس التي تقتل في الحل والحرم ، وأصل الفسق الخروج ، وهذه المذكورات خرجت عمن خلق معظم الحشرات ونحوها بزيادة الضرر والأذى .
وأما تقييد الحسنات في الضربة الأولى بمائة ، وفي الثانية بسبعين ، كما في بعض الروايات ، فجوابه أنه كقوله في صلاة الجماعة بسبع وعشرين وبخمس وعشرين ، وأن مفهوم العدد لا يعمل به فذكر السبعين لا يمنع المائة فلا تعارض بينهما . أو لعله ( صلى الله عليه وسلم ) أخبر أولاً بالسبعين ، ثم تصحف الله تعالى بالزيادة علينا ، فأعلم به ( صلى الله عليه وسلم ) حين أوحى الله إليه بعد ذلك ، أو أنه يختلف باختلاف قاتلي الوزغ ، بحسب نياتهم وإخلاصهم ، وكمال أحوالهم ونقصها ، فتكون المائة للأكمل منهم والسبعون لغيره .
قال يحيى بن يعمر : لأن أقتل مائة وزغة أحب إلي من اعتق مائة رقبة ، وإنما قال ذلك لأنها دابة سوء ، زعموا أنها تسقى من الحيات وتمج في الإناء فينال الإنسان المكروه العظيم بسبب ذلك ، وسبب كثرة الحسنات في المبادرة أن تكرر ضربات في القتل ، يدل على عدم الاهتمام بأمر صاحب الشرع ، إذ لو قوي عزمه واشتدت حميته ، لقتلها في المرة الأولى لأنه حيوان لطيف لا يحتاج إلى كثرة مؤن في الضرب ، فحيث لم يقتلها في المرة الأولى دل ذلك على ضعف عزمه ، فلذلك نقص أجره من المائة إلى السبعين . وعلل عز الدين بن السلام كثرة الحسنات في الأولى بأنه إحسان في القتل فيدخل تحت قوله ( صلى الله عليه وسلم ) " إذا قتلتم فأحسنوا القتلة " . أو أنه مبادرة إلى الخير فيدخل تحت قوله تعالى : " فاستبقوا الخيرات " قال : وعلى كلا المعنيين فالحية والعقرب أولى بذلك لعظم مفسدتهما .
وذكر أصحاب الآثار أن الوزغ أصم قالوا : والسبب في صممه ما تقدم من نفخه النار على إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، فصم لأجل ذلك وبرص . ومن طبعه أنه لا يدخل بيتاً فيه رائحة الزعفران ، وتألفه الحيات كما تألف العقارب الخنافس ، وهو يلقح بفيه ويبيض كما تبيض الحيات ، ويقيم في جحره زمن الشتاء ، أربعة أشهر لا يطعم شيئاً .
وقد تقدم في حرف السين المهملة ما يتعلق بأحكامها وخواصها وقد أحسن في وصف الوزغة وغيرها الأدب الشاعر كمال الدين علي بن محمد بن المبارك الشهير بابن الأعمى ، صاحب(2/546)
"""""" صفحة رقم 547 """"""
المقامة البحرية ، ووفاته في المحرم سنة اثنتين وتسعين وستمائة . وكان والده خطيب بيت المقدس حيث قاد يذم دار سكناه :
دار سكنت بها أقل صفاتها . . . أن تكثر الحشرات في حجراتها
الخير عنها نازح متباعد . . . والشر دان من جميع جهاتها
من بعض ما فيها البعوض عدمته . . . كم أعدم الأجفان طيب سناتها
وتبيت تسعدها براغيث متى . . . غنت لها رقصت على نغماتها
رقص بتنقيط ولكن قافه . . . قد قدمت فيه على أخواتها
وبها ذباب كالضباب يسد ع . . . ين الشمس ما طربي سوى غناتها
أين الصوارم والقنا من فتكها . . . فينا وأين الأسد من وثباتها
وبها من الخطاف ما هو معجز . . . أبصارنا عن حصر كيفياتها
تغشى العيون بمرها ومجيئها . . . وتصم سمع الخلد من أصواتها
وبها خفافيش تطير نهارها . . . مع ليلها ليست على عاداتها
شبهتها بقنافذ مطبوخة . . . نزع الطهاة بنضجها شوكاتها
فاقت على سمر القنا في لونها . . . وسماتها وشياتها وصفاتها
وبها من الجرذان ما قد قصرت . . . عنه العتاق الجرد في حملاتها
فترى أبا غزوان منها هارباً . . . وأبا الحصين يروغ عن طرقاتها
وبها خنافس كالطنافس أفرشت . . . في أرضها وعلت على جنباتها
لو شم أهل الحرب منتن فسوها . . . أردى الكماة الصيد عن صهواتها
وبنات وردان وأشكال لها . . . مما يفوت العين كنه ذواتها
متزاحم متراكم متحارب . . . متراكب في الأرض مثل نباتها
وبها قراد لا اندمال لجرحها . . . لا يفعل المشراط مثل أداتها
أبدا تمص دماءنا فكأنها . . . حجامة لبدت على كاساتها
وبها من النمل السليماني ما . . . قد قل ذر الشمس عن ذراتها
لا يدخلون مساكناً بل يحطمو . . . ن جلودنا فالعفو من سطواتها
ما راعني شيء سوى وزغاتها . . . فنعوذ بالرحمن من نزغاتها
سجعت على أوكارها فظننتها . . . ورق الحمام سجعن في سحراتها
وبها زنابير تظن عقاربا . . . لا برء للمسموم من لدغاتها
وبها عقارب كالأقارب رتعاً . . . فينا حمانا الله لدغ حماتها
وكأنما حيطانها كغرابل . . . أطلعن أرؤسهن من طاقاتها
كيف السبيل إلى النجاة ولا نجا . . . ة ولا حياة لمن رأى حياتها(2/547)
"""""" صفحة رقم 548 """"""
السم في نفساتها والمكر في . . . لفتاتها والموت في لسعاتها منسوجة بالعنكبوت سماؤها . . . والأرض قد نسجت ببراقاتها
فلقد رأينا في الشتاء سماءها . . . والصيف لا تنفك من صعقاتها
فضجيجها كالرعد في جنباتها . . . وترابها كالوبل من حسياتها
والبوم عاكفة على أرجائها . . . والآل يلمع في ثرى عرصاتها
والنار جزء من تلهب حرها . . . وجهنم تعزى إلى لفحاتها
قد رممت من قبل يلقى آدم . . . مع أمنا حواء في عرفاتها
شاهدت مكتوباً على أرجائها . . . ورأيت مسطوراً على عتباتها
لا تقربوا منها وخافوها ولا . . . تلقوا بأيديكم إلى هلكاتها
أبداً يقول الداخلون ببابها . . . يا رب نج الناس من آفاتها
قالوا : إذا ندب الغراب منازلاً . . . يتفرق السكان من ساحاتها
وبدارنا ألفا غراب ناعق . . . كذب الرواة فأين صدق رواتها
دار تبيت الجن تحرس نفسها . . . فيها وتنفر باختلاف لغاتها
صبراً لعل الله يعقب راحة . . . للنفس إذ غلبت على شهواتها
كم بت فيها مفرداً والعين شو . . . قاً للصباح تسح من عبراتها
وأقول : يا رب السموات العلا . . . يا رازقاً للوحش في فلواتها
أسكنتني بجهنم الدنيا ففي . . . أخراي هب لي الخلد في جناتها
واجمع بمن أهواه شملي عاجلاً . . . يا جامع الأرواح بعد شتاتها
والوزغ في الرؤيا رجل معتزلي يأمر بالمنكر وينهي عن المعروف ، خامل الذكر ، وكذلك العظاء . وربما دل الوزغ على العدو المجاهر بالشر ، والكلام السوء ، والتنقل من الأمكنة .
الوصع : بفتح الواو والصاد المهملة ، وبالعين المهملة في آخره الصعوة ، وقد تقدم الكلام عليها ، في باب الصاد المهملة . وقيل : هو طائر أصغر من العصفور .
وفي الحديث أن إسرافيل عليه الصلاة والسلام له جناح بالمشرق وجناح بالمغرب ، وإن العرش على منكب إسرافيل ، وإنه ليتضاءل الأحيان من عظمة الله تعالى ، حتى يصير مثل الوصع . يروى بفتح الصاد المهملة وسكونها . وقال ابن الأثير : إنه أصغر من العصفور والجمع وصعان .
وفي أول التعريف والاعلام للسهيلي ، أن أول من سجد من الملائكة لآدم إسرافيل عليه الصلاة والسلام ، ولذلك جوزي بولاية اللوح المحفوظ . قاله محمد بن الحسن النقاش .
الوطواط : الخفاش وقد تقدم ما فيه في باب الخاء المعجمة .(2/548)
"""""" صفحة رقم 549 """"""
وروى الحافظ بن عساكر ، في تاريخه بسنده إلى حماد بن محمد ، أنه قال : كتب رجل إلى ابن عباس ، يسأله عن شيء ليس له لحم ولا دم تكلم ، وعن شيء ليس له لحم ولا دم سعى ، وعن شيء ليس له لحم ولا دم تنفس ، وعن اثنين ليس لهما لحم ولا دم خوطبا وأجابا ، وعن رسول الله ليس من الجن ولا من الإنس ولا من الملائكة ، وعن نفس ماتت ثم عاشت بها نفس غيرها وعن موسى عليه السلام كم أرضعته أمه قبل أن تلقيه في اليم ، وفي أي بحر ، وفي أي يوم ألقته وكم كان طول آدم عليه السلام ، وكم عاش ، ومن كان وصيه ، وعن طير لا يبيض ويحيض . فقال : الأول النار قالت : " هل من مزيد " ، والثاني عصا موسى عليه السلام ، والثالث الصبح ، والرابع السماء والأرض ، " قالتا أتينا طائعين " ، والخامس الغراب الذي بعثه الله إلى ابن آدم ، والسادس البقرة التي ذكرها الله تعالى في القرآن ، وأرضعت موسى أمه قبل أن تلقيه في اليم ثلاثة أشهر ، وألقته في بحر القلزم ، وكان ذلك يوم الجمعة ، وكان طول آدم عليه السلام ستين ذراعاً ، وعاش ألف سنة إلا ستين سنة ، وكان وصيه شيث . والطير الوطواط الذي نفخ فيه عيسى عليه السلام ، فكان طائراً بإذن الله عز وجل .
وحكمه : تحريم الأكل للنهي عن قتله كما تقدم في باب الخاء المعجمة .
الأمثال : قالوا : أبصر من الوطواط بالليل أي أعرف ويسمون الجبان وطواطا .
التعبير : الوطواط تدل رؤيته على الغي والضلالة عن الحق ، وربما دلت رؤيته على ولد الزنا لأنه من الطير ، وليس بطائر ، وهو يرضع كما يرضع الآدمي ، وربما دلت رؤيته على زوال النعم ، والبعد من المألوفات ، لأنه من الممسوخين ، وهذا بعيد . وربما دلت رؤيته على إقامة الحجة والبينة لقوله تعالى : " وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها " الآية . وهذا أظهر الأقاويل عندي والله أعلم .
الوعوع : وبقال له أيضاً الوع ، ابن آوى ، وقد تقدم الكلام عليه في أواخر باب الهمزة .
الوعل : بفتح الواو وكسر العين المهملة ، الأروى المتقدم في باب الهمزة وهو التيس الجبلي ، والأنثى تسمى أروية وهي شاة الوحش ، والجمع أوعال ووعول .
وذكر ابن عدي ، في كامله ، في ترجمة محمد بن إسماعيل بن طريح ، أنه قال : حدثني أبي ، عن جدي ، أنه حضر أمية بن أبي الصلت حين حضرته الوفاة ، فأغمي عليه ثم أفاق فرفع رأسه فنظر حيال باب البيت ، وقال : لبيكما لبيكما ها أنا ذا لديكما ، لا عشيرتي تحميني ، ولا مالي يفديني ، ثم أغمي عليه ثم أفاق فرفع رأسه وقال :
كل حي وإن تطاول دهراً . . . آيل أمره إلى أن يزولا
ليتني كنت قبل ما قد بدا لي . . . في رؤوس الجبال أرعى الوعولا
ثم فاضت نفسه .(2/549)
"""""" صفحة رقم 550 """"""
وعن شهر بن حوشب ، قال : لما حضرت عمرو بن العاص الوفاة ، قال له ابنه : يا أبتاه إنك كنت تقول لنا : ليتني كنت ألقى رجلا عاقلا لبيباً عند نزول الموت به ، حتى يصف لي ما يجد ، وأنت ذلك الرجل ، فصف لي الموت ، فقال : يا بني والله كأن السماء قد أطبقت على الأرض ، وكأن جنبي في تخت ، وكأني أتنفس من سم إبرة ، وكأن غصن شوك يجذب من قدمي إلى هامتي ، ثم أنشأ يقول :
ليتني كنت قبل ما قد بدا لي . . . في رؤوس الجبال أرعى الوعولا
ومن غريب ما اتفق . أن عبد الملك بن مروان لما احتضر ، وكان قصره يشرف على بردى ، فنظر إلى غسال يغسل الثياب ، فقال : ليتني كنت مثل هذا الغسال ، أكتسب ما أعيش به يوماً بيوم ، ولم أل الخلافة . وتمثل بقول أمية بن أبي الصلت :
كل حي وإن تطاول دهراً .
البيتين المتقدم ذكرهما .
فاتفق له كما اتفق لأمية من الموت عقب ذلك ، فلما بلغ ذلك أبا حازم ، قال : الحمد لله الذي جعلهم في وقت الموت يتمنون ما نحن فيه ، ولم يجعلنا نتمنى ما هم فيه .
وفي الاستيعاب ، في ترجمة الفارعة بنت أبي الصلت ، أخت أمية بن أبي الصلت ، أنها قدمت على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، بعد فتحه للطائف ، وكانت ذات لب وعفاف وجمال ، وكان ( صلى الله عليه وسلم ) يعجب بها ، فقال لها ( صلى الله عليه وسلم ) يوماً : " هل تحفظين من شعر أخيك شيئاً ؟ " فأخبرته خبره ، وما رأت منه ، وقصت قصته في شق جوفه ، وإخراج قلبه ، ثم عوده إلى مكانه وهو قائم ، وأنشدت له شعره الذي أوله :
باتت همومي تسري طوارقها . . . أكف عيني والدمع سابقها
نحو ثلاثة عشر بيتاً منها قوله :
ما أرغب النفس في الحياة وإن . . . تحيا طويلا فالموت لاحقها
يوشك من فر من منيته . . . يوماً على غرة يوافقها
من لم يمت غبطة يمت هرما . . . للموت كأس والمرء ذائقها
ثم قالت : وإنه قال عند وفاته :
إن تغفر اللهم تغفر جما . . . وأي عبد لك ما ألما
ثم قال :
كل حي وإن تطاول دهراً(2/550)
"""""" صفحة رقم 551 """"""
البيتين ثم مات . فقال ( صلى الله عليه وسلم ) : " إن مثل أخيك كمثل الذي آتاه الله آياته فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين " .
وفي طباع الوعل أنه يأوي إلى الأماكن الوعرة الخشنة ، ولا يزال مجتمعاً ، فإذا كان وقت الولادة تفرق ، وإذا اجتمع في ضرع أنثى لبن امتصته . والذكر إذا ضعف عن النزو أكل البلوط فتقوى شهوته ، وإذا لم يجد الأنثى انتزع المني بالامتصاص بفيه ، وذلك إذا جد به الشبق ، وفي طبعه أنه إذا أصابه جرح ، طلب الخضرة التي في الحجارة فيمتصها ويجعلها على الجرح فيبرأ . وإذ أحس بالقناص ، وهو في مكان مرتفع ، استلقى على ظهره ثم يزج نفسه فينحدر ، ويكون قرناه ، وهما في رأسه ، إلى عجزه يقيانه ما يخشى من الحجارة ويسرعان به لملوستهما على الصفا .
وفي الحديث عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنه قال عن المدينة : " لو رأيت الوعول تجرش ما بينها ما هجتها " . أراد لو رأيتها ترعى كلأها ماهجتها لأن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) حرم صيدها . وفي الترغيب والترهيب ، وغريب أبي عبيدة وغيره من حديث أبي هريرة أيضاً أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، قال : " والذي نفسي بيده لا تقوم الساعة حتى يظهر الفحش والبخل ويخون الأمين ويؤتمن الخائن وتهلك الوعول وتظهر التحوت " . قالوا : يا رسول الله ما الوعول وما التحوت ؟ قال : " الوعول وجوه الناس وأشرافهم والتحوت الذين كانوا تحت أقدام الناس لا يعلم بهم " وبعضه في الصحيح ، وإنما شبههم بالوعول وضرب بها المثل لأنها تأوي رؤوس الجبال والله تعالى أعلم .
وروى الإمام أحمد وأبو داود والترمذي . عن العباس بن عبد المطلب رضي الله تعالى عنه ، قال : كنا جلوساً بالبطحاء ، في عصابة فيهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فمرت سحابة ، فنظر إليها فقال ( صلى الله عليه وسلم ) : " أتدرون ما اسم هذه ؟ " قلنا : نعم ، هذا السحاب . قال ( صلى الله عليه وسلم ) : " وهو المزن والعنان " . ثم قال عليه الصلاة والسلام . " أتدرون كم بعد ما بين السماء والأرض ؟ " قلنا : لا . قال ( صلى الله عليه وسلم ) : " إما واحدة ، وإما اثنتان ، وإما ثلاث وسبعون سنة ، والسماء فوقها ، كذلك " . حتى عد عليه الصلاة والسلام سبع سموات ، وفوق السماء السابعة بحر بين أسفله وأعلاه ، كما بين سماء إلى سماء ، وفوق البحر ثمانية أوعال بين أضلافها وركبها ، كما بين سماء إلى سماء ، ثم على ظهورهن العرش ، من أسفله إلى أعلاه ، مثل ما بين سماء إلى سماء " ، قال الترمذي : هذا حديث حسن غريب . قال الجاحظ الذهبي : وهو كما قال الترمذي حسن غريب ، وقد أخرجه الحافظ الضياء أيضاً ، في كتاب المختار له ، ورواه الحاكم في المستدرك عن سماك بن حرب ، وقرأ " إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء " .
وفي التمهيد لابن عبد البر ، عن أسد ب ؟ ن موسى ، عن حماد بن سلمة ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه عروة بن الزبير رضي الله تعالى عنهما ، قال : حملة العرش أحدهم على صورة إنسان ، والثاني(2/551)
"""""" صفحة رقم 552 """"""
على صورة ثور ، والثالث على صورة نسر ، والرابع على صورة أسد . وفي تفسير الثعلبي أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " هم اليوم أربعة ، فإذا كان يوم القيامة أمدهم الله بأربعة آخرين " .
وفي سنن أبي داود ، من حديث جابر رضي الله تعالى عنه ، أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " أذن لي أن أحدث عن ملك من ملائكة الله من حملة العرش ، ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام " .
وحكمه : الحل بالإجماع ، قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : في الوعل إذا قتله المحرم ، أو قتل في الحرم شاة . وذكر القزويني ، في الأشكال عن ابن الفقيه ، أنه قال : رأيت بجزيرة رانج حيوانات غريبة الأشكال ، من ذلك وعول كالتيوس الجبلية ، ألوانها حمر منقطعة ببياض ، ولحمها حامض انتهى .
فإن صح هذا القول ، فالذي يظهر الحل إلحاقاً بمماثله من المأكول ، عملا بالمشاكلة الصورية ، والله تعالى أعلم .
الأمثال : قالوا : أزهى من وعل وأحمق من ناطح الصخرة أي الوعل ، وأنشدوا قول الأعشى :
كناطح صخرة يوماً ليوهنها . . . فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل
أراد كوعل ناطح ، فحذف الموصوف وأبقى الصفة .
وخواصه : تقدمت في باب الهمزة ، في لفظ الأروى ، لكن منها أيضاً أن مخه جيد للمرأة التي بها نزف الدم ، تتحمل به في صوفة . ولحمه وشحمه يسحقان ويلقى عليهما صبر وسعد وقرنفل وزعفران وعسل ، يخلط الجميع ويسقى منه وزن مثقال ، بماء الكرفس لمن به حصاة في مثانته يبرأ بإذن الله تعالى .
الوقواق : كفطفاط طائر حكاه ابن سيده ولعله القاق المتقدم في باب القاف .
بنات وردان : بفتح الواو وتسمى فالية الأفاعي ، وهي دويبة تتولد في الأماكن الندية وأكثر ما تكون في الحمامات والسقايات ، ومنها الأسود والأحمر والأبيض والأصهب ، وإذا تكونت تسافدت وباضت بيضاً مستطيلا ، وهي تألف الحشوش واحدها حش بفتح الحاء المهملة وضمها . قال الجاحظ : أصل الحش القطعة من النخل ، وهي الحشان بكسر الحاء المهملة وتشديد الشين ، وذلك أن أهل المدينة ، كانوا إذا أراد أحدهم قضاء الحاجة ، دخل النخل . فكنوا عن مكان الخراء بالحش ، كما كنوا عنه بالخلاء ، وقالوا لمن يذهب إلى الخراء : ذهب إلى البزار ، وذهب إلى المستراح وإلى الحش والخلاء والمخرج والمتوضأ والمذهب والغائط وقضاء الحاجة . وقالوا : ذهب(2/552)
"""""" صفحة رقم 553 """"""
ينجو ، كما قالوا : ذهب يتغوط كل ذلك هرباً من أن يقولوا ذهب إلى الخراء . وقد وصف بعض الشعراء بنات وردان حيث قال : بنات وردان جنس ليس ينعته . . . خلق كنعتي في وصفي وتشبيهي
كمثل أنصاف بسر أحمر تركت . . . من بعد تشقيقه أقماعه فيه
وحكمها : تحريم الأكل لاستقذارها ، ولا يصح بيعها كسائر الحشرات التي لا ينتفع بها ، لكنها إذا وقعت في الماء الطهور لا تنجسه ، ويعفى عن ذلك ، وكذا كل ما ليست له نفس سائلة أي دم يسيل عند قتله وقد تقدم في الذباب هذا الحكم .
فرع : قال الأصحاب : ما لا يظهر فيه منفعة ولا مضرة ، كبنات وردان والخنافس والجعلان والدود والسرطان والرحم والنعامة والعصافير والذباب يكره قتله ولا يحرم ، وعد الرافعي رحمه الله منه : الكلب غير العقور ، قال : ولا يجوز قتل النمل والنحل والخطاف والضفدع ، وقد تقدم شيء من هذا الحكم في أماكنه .
الخواص : قال ارسطاطاليس : إذا طبخت بنات وردان بزيت وقطر منه في الأذن الوجعة سكن ألمها وتبرأ من ذلك ، وينفع هذا الزيت من القروح ، التي في الساقين ، وفي جميع الأعضاء ، والله تعالى أعلم .
باب الياء
يأجوج ومأجوج : يهمزان ولا يهمزان ، لغتان قرئ بهما ، فمن همزهما جعلهما مشتقين من أجة الحر وهي شدته وقوته ، ومنه أجيج النار وهو توقدها وحرارتها ، والتقدير في ياجوج يفعول ، وفي ماجوج مفعول إذا ترك همزهما ، قاله الأزهري . ويحتمل أن يكونا مفعولين ، وإنما لم يصرفا للتعريف والتأنيث ، لأنهما اسما القبيلتين ، والأكثرون على أنهما اسمان أعجميان غير مشتقين ، ولذلك لا يهمزان ولا يصرفان للعجمة والتعريف .
قال سعيد الأخفش : ياجوج من يج وماجوج من مج ، وقال قطرب : من لم يهمز فياجوج فاعول مثل داود وجالوت ، ويكون من يج ، وماجوج فاعول من مج ، والأسماء الأعجمية مثلها لا تهمز نحو هاروت وماروت وجالوت وطالوت وقارون . قال : ويجوز أن يكون الأصل الهمز ، فخففا إذا لم يهمزا كسائر ما يهمز ، وإن كانا أعجميين ، فإن العرب تلفظ بألفاظ مختلفة ، ويجوز أن يكونا من الأجة ، وهي الاختلاط كما قال تعالى في صفتهم : " وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض " جاء في تفسيره : أي مختلطين ، ولعل يج الذي ذكره الأخفش وقطرب مخفف الهمز من أج وإلا فإن يج لا يعرف في كلام العرب لعزة مخرج الجيم والياء ، والحاصل أنه يجوز همزهما وتركه كما تقدم . وبهما قرئ في السبع والأكثرون على ترك الهمز كما تقدم .
وسموا بذلك لكثرتهم وشدتهم وقيل : من الأجاج وهو الماء الشديد الملوحة ، قال مقاتل :(2/553)
"""""" صفحة رقم 554 """"""
هم من ولد يافث بن نوح عليه الصلاة والسلام . وقال الضحاك : هم من الترك ، وقال كعب الأحبار : احتلم آدم عليه السلام فاختلط ماؤه بالتراب فأسف فخلقوا من ذلك .
قلت : وفيه نظر ، لأن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لا يحتلمون .
وروى الطبراني ، من حديث حذيفة بن اليمان رضي الله تعالى عنه ، أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " يأجوج أمة لها أربعمائة أمير ، وكذلك مأجوج ، لا يموت أحدهم حتى ينظر إلى ألف فارس من ولده ، صنف منهم كالأرز طولهم مائة وعشرون ذراعاً ، وصنف منهم يفترش أذنه ويلتحف بالأخرى ، لا يمرون بفيل ولا خنزير إلا أكلوه ، ويأكلون من مات منهم ، مقدمتهم بالشام وساقتهم بخراسان ، يشربون أنهار المشرق وبحيرة طبرية ، ويمنعهم الله من مكة والمدينة وبيت المقدس " .
ومال وهب بن منبه : يأجوج ومأجوج يأكلون الحشيش والشجر والخشب ، وما ظفروا به من الناس ولا يقدرون أن يأتوا مكة والمدينة وبيت المقدس . وقال علي رضي الله تعالى عنه : يأجوج ومأجوج صنف منهم في طول الشبر وصنف منهم مفرط الطول ، لهم مخالب الطير ، وأنياب كأنياب السباع ، وتداعي الحمام ، وتسافد البهائم ، وعراء الذئب ، وشعورهم تقيهم الحر والبرد ، ولهم آذان عظام إحداها وبرة يشتون فيها ، والأخرى جلدة يصيفون فيها ، يحفرون السد الذي بناه ذو القرنين ، حتى إذا كادوا ينقبونه يعيده الله كما كان ، حتى يقولوا : ننقبه غدا إن شاء الله ، فينقبونه ويخرجون وتتحصن الناس منهم بالحصون ، فيرمون إلى السماء فيرد إليهم السهم ملطخاً بالدم ، ثم يهلكهم الله بالنغف في رقابهم . والنغف هو الدود كما تقدم .
فائدة : سئل شيخ الإسلام محي الدين النووي رحمه الله تعالى عن يأجوج ومأجوج هل هم من ولد آدم وحواء ، وكم يعيش كل واحد منهم ؟ فأجاب أنهم أولاد حواء وآدم عند أكثر العلماء ، وقيل : إنهم من ولد آدم من غير حواء ، فيكونون أخوتنا من الأب ، ولم يثبت في قدر أعمارهم شيء انتهى . وقد تقدم في الكركند ما نقله الحافظ أبو عمر بن عبد البر ، من الإجماع على أنهم من ولد يافث بن نوح عليه السلام ، وأن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) سئل عن يأجوج ومأجوج ، هل بلغتهم دعوتك ، فقال ( صلى الله عليه وسلم ) : " جزت عليهم ليلة أسري بي فدعوتهم فلم يجيبوا " .
وروى الشيخان والنسائي ، من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه ، قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : " يقول الله تعالى يوم القيامة : يا آدم ، فيقول : لبيك وسعديك الخير في يديك ، فيقول عز وجل : أخرج بعث النار ، قال : وما بعث النار ؟ قال : من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون إلى النار ، وواحد إلى الجنة . قال : ففلك حين يشيب الصغير ، وتضع كل ذات حمل حملها ، وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ، ولكن عذاب الله شديد " ، قال : فاشتد ذلك على أصحاب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، فقالوا : يا رسول الله أينا ذلك الرجل ؟ فقال ( صلى الله عليه وسلم ) : " أبشروا فإن من يأجوج(2/554)
"""""" صفحة رقم 555 """"""
ومأجوج تسعمائة وتسعة وتسعين ومنكم رجل ، الحديث .
قال العلماء إنما خص آدم عليه السلام بالذكر لأنه أب للجميع .
وروى الجماعة إلا أبا داود ، من حديث زينب بنت جحش رضي الله تعالى عنها ، أنها قالت : خرج رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يوماً فزعاً محمراً وجهه الشريف ، يقول : " لا إله إلا الله ، ويل للعرب من شر قد اقترب ، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه وحلق بأصبعيه الإبهام والتي تليها . قالت : يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون ؟ قال : " نعم إذا كثر الخبث " . أشار ( صلى الله عليه وسلم ) بذلك إلى أن الذي فتحوا من السد قليل ، وهم مع ذلك لا يلهمهم الله أن يقولوا غدا نفتحه إن شاء الله تعالى ، فإذا قالوها خرجوا . وقوله ( صلى الله عليه وسلم ) : " ويل للعرب " كلمة تقولها العرب ، لكل من وقع في هلكة .
وفي مسند الإمام أحمد من حديث أبي سعيد الخدري رضى الله تعالى عنه ، قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : " ويل واد في جهنم يهوي الكافر فيه أربعين خريفاً قبل أن يبلغ قعره " وقيل الويل الشر ، وقوله ( صلى الله عليه وسلم ) : " فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج " .
الردم هم الحاجز الحصين المتراكم الذي جعل بعضه فوق بعض ، والمراد به الردم الذي عمله الإسكندر بين الصدفين وهما الجبلان . وقوله في هذا الحديث إن زينب رضي الله تعالى عنها قالت : أنهلك ؟ هو بكسر اللام على اللغة الفصيحة المشهورة ، وحكي فتحها وهو ضعيف أو فاسد ، قاله النووي رحمه الله وقوله ( صلى الله عليه وسلم ) : نعم لأن ما استفهم عنه بإثبات كان جوابه نعم ، استفهم عنه بنفي كان جوابه بلى . ولذلك كانت " بلى " فى جواب " ألست بربكم " " ونعم " في جواب هل وجدتم فلذلك قال ( صلى الله عليه وسلم ) لزينب رضي الله تعالى عنها : " نعم " حين قالت : أنهلك وفينا الصالحون .
وقوله ( صلى الله عليه وسلم ) : " إذا كثر الخبث " هو بفتح الخاء المعجمة والباء الموحدة . وفسره الجمهور بالفسوق والفجور ، وقيل : المراد به الزنا خاصة ، وقيل : أولاد الزنا ، والظاهر أن المراد به المعاصي مطلقاً ومعناه أن الخبث إذا كثر فقد يحصل الهلاك العام ، وإن كان هناك صالحون ، والله تعالى أعلم .
وروى البزار ، من حديث يوصف ابن مريم الحنفي قال : بينما أنا قاعد مع أبي بكرة ، إذا جاء رجل فسلم عليه ثم قال : أما تعرفني ؟ فقال أبو بكرة : ومن أنت ؟ قال : تعلم رجلا أتى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فأخبره أنه رأى الردم ؟ فقال له أبو بكرة : أنت هو ؟ وقال : نعم . فقال : اجلس فحدثنا ، قال رضي الله تعالى عنه : انطلقت إلى أرض ليس لأهلها إلا الحديد يعملونه ، فدخلت(2/555)
"""""" صفحة رقم 556 """"""
بيتاً فاستلقيت فيه على ظهري ، وجعلت رجلي على جداره ، فلما كان غروب الشمس ، سمعت صوتاً لم أسمع مثله ، فرعبت فقال لي رب البيت : لا تذعرن فإن هذا لا يضرك ، هذا صوت قوم ينصرفون هذه الساعة من عند هذا السد ، أفيسرك أن تراه ؟ قلت : نعم . قال : فغدوت إليه ، فإذا لبنه من حديد ، كل واحدة مثل الصخرة ، وإذا كأنه البرد المحبرة ، وإذا المسامير مثل الجذوع فأتيت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فأخبرته ، فقال : " صفه لي " . فقلت : كأنه البرد المحبرة . فقال ( صلى الله عليه وسلم ) : " من سره أن ينظر إلى رجل قد أتى الردم فلينظر إلى هذا " . فقال أبو بكرة : صدق انتهى . وهذا الردم هو الذي بناه الإسكندر على يأجوج ومأجوج كما تقدم ، وذلك أنه لما بلغ الجبلين وجد من دونهما قوماً ، كما قال الله تعالى : " لا يكادون يفقهون قولا ، بفتح الياء والقاف أو يفقهون بفتح الياء وكسر القاف على اختلاف القراءتين ، فعلى الأول لا يفقهون عن أحد لغته ولا يعرفون غير لغتهم ، وعلى الثانية لا يفهم لغتهم غيرهم ، فشكوا إليه إفساد يأجوج ومأجوج في الأرض ، وذلك أنهم كانوا يخرجون إلى أرض هؤلاء المساكين ، فلا يدعون فيها شيئاً أخضر إلا أكلوه ولا يابساً إلا احتملوه .
وقيل : إنهم كانوا يلوطون ، وقيل : إنهم كانوا يأكلون الناس ، فقالوا له : نحن نجعل لك خرجاً ، أي جعلا من أموالنا ، على أن تجعل بيننا وبينهم سداً فرد عليهم جعلهم ، وطلب منهم المعونة بالعمل بأبدانهم ، ثم انصرف إلى ما بين الصدفين ، فقاس ما بينهما فوجد بعد ما بينهما مائة فرسخ ، فأمر بحفر الأساس حتى بلغ الماء ، ثم جعل عرضه خمسين فرسخاً ، وجعل حشوه الصخر ، وطبقه بالنحاس المذاب ، فصار كأنه عرق من جبل تحت الأرض .
وقيل إنه حشا ما بين الصدفين قطع الحديد ، ونسج بين طبقات الحديد الحطب والفحم ووضع المنافيخ ، فلما حمي الحديد أفرغ عليه النحاس المذاب ، فاختلط والتصق بعضه ببعض حتى صار جبلا صلداً من حديد وقطر ، وشرفه بزبر الحديد والنحاس المذاب ، وجعل خلاله عرقاً من نحاس أصفر ، فصار كأنه بردة محبرة من صفرة النحاس وحمرته ، وسواد الحديد ، فلم يطيقوا الظهور عليه لملاسته ولا قدروا على نقبه لشدته وتماسكه . ومن وراء السد البحر ، فهم بين السد والبحر محصورون وهم يمطرون التنانين في أيام الربيع ، كما يمطرنا الغيث لحينه فيأكلونها إلى مثله من القابل وتعمهم على كثرتهم والله تعالى أعلم .
اليامور : قال ابن سيده : هو جنس من الأوعال أو شبيه به له قرن واحد متشعب في وسط رأسه . وقال غيره : إنه الذكر من الأيل له قرنان كالمنشارين ، أكثر أحواله تشبه أحوال البقر الوحشي يأوي إلى المواضع التي التفت أشجارها ، وإذا شرب الماء ظهر به نشاط فيعدو ويلعب بين الأشجار ، وربما ينشب قرناه في شعب الأشجار فلا يقدر على خلاصهما فيصيح ، والناس ، إذا سمعوا صياحه ذهبوا إليه وصادوه ، وقد تقدم ما فيه . وهو حلال كالأيل ، ومن خواص جلده أنه إذا جلس عليه صاحب البواسير زالت عنه .(2/556)
"""""" صفحة رقم 557 """"""
اليؤيؤ : طائر كنيته أبو رياح ، وهو الجلم وهو من جوارح الطير يشبه الباشق ، وقد تقدم الكلام عليه ، في باب الصاد المهملة ، في لفظ الصقر والجمع اليآيئ وكذا جاء في الشعر قال أبو نواس في طريدته :
حفظ المهيمن يؤيؤي ورعاه . . . ما في اليآيئ يؤيؤ شرواه
كذا استدل به الجوهري واعترض عليه بأنه مولد .
وكان محمد بن زياد الزيادي يلقب باليؤيؤ ، وهو من أئمة أهل البصرة ، روى عن حماد بن زيد وغيره ، وروى له ابن ماجه والبخاري كالمقرون بغيره توفي في حدود سنة خمسين ومائتين ، وضعفه ابن منده ، وذكره ابن حبان في الثقات ، وقال : كان يؤيؤ الحديث .
وهذا بناء غريب ، لم يحفظ منه إلا خمسة : اليؤيؤ والجؤجؤ وهو صدر السفينة والطائر واليؤيؤ وهو الأصل يقال : فلان يؤيؤ الكرم أي أصله ، والدؤدؤ ليلة خمس وست وسبع وعشرين . واللؤلؤ وفيه أربع لغات قرئ بهن في السبع لؤلؤ بهمزتين ، ولولو بغير همز ، وبهمز أوله دون ثانيه ، وعكسه .
وحكمه : تحريم الأكل كما تقدم .
الخواص : دماغه يجفف ويسحق مع السكر الطبرزذي ، ويخلط معه بعر الضب ويكتحل به ، يزيل البياض الذي في العين بإذن الله تعالى . ومرارته تداف بماء الشهدانج ، ويسعط بها من به الصداع ينفعه نفعاً بيناً إن شاء الله تعالى .
اليحبور : ولد الحبارى ، وقد تقدم ما في الحبارى ، وفي باب الحاء المهملة .
اليحمور : دابة وحشية نافرة ، لها قرنان طويلان كأنهما منشاران ، ينشر بهما الشجر ، فإذا عطش وورد الفرات ، يجد الشجر ملتفة ، فينشرها بهما . وقيل : إنه اليامور نفسه ، وقرونه كقرون الأيل يلقيها في كل سنة وهي صامتة لا تجويف فيها ، ولونه إلى الحمرة ، وهو أسرع من الأيل وقال الجوهري : اليحمور حمار الوحش .
وحكمه : الحل كيف كان .
الخواص : دهنه ينفع من الاسترخاء الحاصل في أحد شقي الإنسان إذا استعمل مع دهن البلسان . فائدة : في كتاب العرائس ، للإمام العلامة أبو الفرج بن الجوزي قال : إن بعض طلبة العلم خرج من بلاده ، فرافق شخصاً في الطريق ، فلما كان قريباً من المدينة التي قصدها قال له ذلك الشخص : قد صار لي عليك حق وذمام ، وأنا رجل من الجان ، ولي إليك حاجة ، فقال : وما هي ؟ قال : إذا أتيت إلى مكان كذا وكذا ، فإنك تجد فيه دجاجاً بينها ديك ، فاسأل عن صاحبه(2/557)
"""""" صفحة رقم 558 """"""
واشتره منه واذبحه ، فهذه حاجتي إليك . فقال له : يا أخي ، وأنا أيضاً أسألك حاجة ، قال : وما هي ؟ قال : إذا كان الشيطان مارداً لا تعمل فيه العزائم ، وألح بالآدمي منا ، ما دواؤه ؟ قال : دواؤه أن يؤخذ له وتر قدر شبر من جلد يحمور ، ويشد به إبهاما المصاب من يديه شداً وثيقاً ، ثم يؤخذ له من دهن السذاب البري فيقطر في أنفه الأيمن أربعاً وفي الأيسر ثلاثاً ، فإن الماسك به يموت ولا يعود إليه أحد بعده .
قال : فلما دخلت المدينة ، أتيت ذلك المكان فوجدت الديك لعجوز فسألتها بيعه ، فأبت فاشتريته منها بأضعاف ثمنه ، فلما اشتريته وملكته ، تمثل لي من بعيد ، وقال لي بالإشارة : اذبحه فذبحته . فعند ذلك خرج علي رجال ونساء ، فجعلوا يضربونني ويقولون : يا ساحر فقلت : لست بساحر . فقالوا : إنك منذ ذبحت الديك ، أصيبت عندنا شابة بجني ، وأنه منذ مسكها لم يفارقها ، فطلبت منهم وتراً قدر شبر من جلد يحمور ، وشيئاً من دهن السذاب البري ، فأتوا بهما فشددت إبهامي يدي الشابة شداً وثيقاً ، فلما فعلت بها ذلك صاح ، وقال : أنا علمتك على نفسي ثم قطرت من الدهن في أنفها الأيمن أربعاً ، وفي الأيسر ثلاثاً ، فخر ميتاً من وقته وساعته ، وشفى الله تلك الشابة ، ولم يعاودها بعده شيطان انتهى .
اليحموم : طائر حسن اللون ، يشبه لون الحبرة الموشاة ، وهو كثير بنخلة من أرض الحجاز ، وأظنه من نوع اليعاقيب والحجل .
وحكمه : حل الأكل ، لأنه مستطاب ، واليحموم أيضاً اسم فرس النعمان بن المنذر ، واليحموم أيضاً الدخان الأسود ، وقيل : هو المراد بقوله تعالى : " وظل من يحموم " تقول العرب : أسود يحموم ، إذا كان شديد السواد ، وقيل : اليحموم جبل في جهنم يستظل به أهل النار لا بارد ولا كريم ، أي لا بارد الثرى ولا كريم المنظر ، وقيل : اليحموم اسم من أسماء النار . وقال الضحاك : النار سوداء وأهلها سود ، وكل شيء فيها أسود نعوذ بالله من شرها .
اليراعة : طائر صغير إذا طار بالنهار كان كبعض الطير ، وإذا طار بالليل كان كأنه شهاب ثاقب ، أو مصباح طيار ، وقال أبو عبيدة : اليراع الهمج بين البعوض والذباب ، يركب الوجه ولا يلدغ واليراعة أيضاً النعامة .
الأمثال : قالوا : أخف من يراعة ، فيجوز أن يراد به الطائر الذي يطير بالليل ، وأن يراد به القصبة ، والجمع يراع فيهما .
اليربوع : بفتح الياء المثناة تحت ، ويسمى الدرص ، بفتح الدال وكسرها وإسكان الراء المهملتين وبالصاد المهملة آخره ، وذا الرميح كما تقدم في آخر باب الراء المهملة ، حيوان طويل الرجلين قصير اليدين جداً ، وله ذنب كذنب الجرذ يرفعه صعداً في طرفه شبه النوارة ، لونه كلون الغزال . قال أصحاب الكلام في طبائع الحيوان : إن كل دابة حشاها الله خبثاً في قصيرة اليدين ، لأنها إذا خافت شيئاً ، لاذت بالصعود ، فلا يلحقها شيء وهذا الحيوان يسكن بطن(2/558)
"""""" صفحة رقم 559 """"""
الأرض ، لتقوم رطوبتها له مقام الماء ، وهو يؤثر النسيم ويكره البحار أبداً ، يتخذ جحره في نشز من الأرض ، ثم يحفر بيته في مهب الرياح الأربع ويتخذ فيه كوى ، وتسمى النافقاء والقاصعاء والراهطاء ، فإذا طلب من إحدى هذه الكوى نافق أي خرج من النافقاء ، وإن طلب من النافقاء خرج من القاصعاء ، وظاهر بيته تراب وباطنه حفر ، وكذلك المنافق ظاهره إيمان وباطنه كفر .
قال الجاحظ وغيره : واسم المنافق لم يكن في الجاهلية لمن أسر الكفر وأظهر الإيمان ، ولكن الباري جل وعلا اشتق له هذا الاسم من هذا الأصل من نافقاء اليربوع ، لأنه لما أبطن الكفر وأظهر الإيمان وورى بشيء عن شيء ، ودخل في باب الخديعة ، وأوهم الغير خلاف ما هو عليه ، أشبه في ذلك فعل اليربوع انتهى . وفي طبعه ، أنه يطأ في الأرض اللينة ، حتى لا يعرف أثر وطئه كما يفعل الأرنب ، وهو يجتر ويبعر ، وله كرش وأسنان وأضراس ، في الفك الأعلى والأسفل ، قال الجاحظ والقزويني : اليربوع من نوع الفأر . زاد القزويني : هو من الحيوان الذي له رئيس مطاع ينقاد إليه ، وإذا كان فيها يكون من بينها في مكان مشرف ، أو على صخرة ينظر إلى الطريق ، من كل ناحية ، فإن رأى ما يخافه عليها صر بأسنانه وصوت ، فإذا سمعته انصرفت إلى أجحرتها ، فإن قصر الرئيس حتى أدركها أحد وصاد منها شيئاً ، اجتمعت على الرئيس فقتلته وولت غيره . وهي إذا خرجت لطلب المعاش ، خرج الرئيس أولا يتشوف ، فإن لم ير شيئاً يخافه ، صر بأسنانه وصوت إليها فتخرج . والواو والياء في اليربوع زائدتان ، فكان ينبغي أن يكتب في باب الراء المهملة ، لكنه قد يخفى على بعض الناس فكتب هنا .
الحكم : يحل أكله لأن العرب تستطيبه وتحله ، قال عطاء وأحمد وابن المنذر وأبو ثور وقال أبو حنيفة : لا يؤكل لأنه من الحشرات ، دليلنا أن الصحابة رضي الله عنهم أوجبوا فيه جفرة إذا قتله أو أصابه المحرم ، وأن الأصل الإباحة إلا ما خص بالتحريم .
الأمثال : قالوا : أضل من ولد اليربوع وقالوا : كالمشتري القاصعاء باليربوع يضرب للذي يدع العين ويتبع الأثر ، لأن القاصعاء جحر اليربوع الذي يقصع فيه أي يدخل والجمع قواصع .
الخواص : دم اليربوع يؤخذ فيطلى على الشعر الذي ينبت في الجفن ، بعد أن ينتف يذهب بإذن الله تعالى .
التعبير : اليربوع في الرؤيا يدل على رجل حلاف كذاب ، فمن نازعه نازع إنساناً كذلك . اليرقان : هو عود يكون في الزرع ثم ينسلخ ، فيكون فراشاً ، يقال : زرع ميروق قاله ابن سيده .
اليسف : الذباب ، وقد تقدم في باب الذال المعجمة مستوفى .(2/559)
"""""" صفحة رقم 560 """"""
اليعر : بفتح الياء المثناة تحت ، وبالعين المهملة الجدي يشد عند زبية الأسد ، وعند مأوى الذئب ويغطي رأسه ، فإذا سمع الضبع صوته جاء في طلبه فوقع في الزبية ، ومنه قولهم : " فلان أذل من اليعر " ، واليعر أيضاً دابة تكون بخراسان تسمن على الكد ، وقيل : هي بالغين المعجمة .
قالوا في أمثالهم : أسمن من يغر . ذكره حمزة وغيره .
اليعفور : الخشف وولد البقرة الوحشية أيضاً ، وقال بعضهم : اليعافير تيوس الظباء ، قال بشر بن أبي حازم :
وبلدة ليس بها أنيس . . . إلا اليعافير وإلا العيس
وفي حديث سعد بن عبادة رضي الله تعالى عنه أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، خرج على حماره يعفور ليعوده . قيل : سمي يعفور للونه ، وهي العفرة ، كما قيل في أخضر يخضور ، وقيل : سمي به تشبيهاً في عدوه باليعفور وهو الظبي والله تعالى أعلم .
اليعقوب : ذكر الحجل قال الجواليقي : وهو عربي صحيح ، وأما يعقوب اسم نبي الله ( صلى الله عليه وسلم ) فهو أعجمي كيوسف ويونس واليسع . وقال الجوهري : يعقوب اسم رجل لا ينصرف في المعرفة للعجمة والتعريف ، واليعقوب ذكر الحجل مصروف ، لأنه عربي لم يغير ، وإن كان مزيداً في أوله فليس على وزن الفعل ، ويوصف اليعقوب بكثرة العدو وشدته قال الشاعر :
عاد يقصر دونه اليعقوب
والجمع اليعاقيب ، قال الشاعر :
أودى الشباب الذي مجد عواقبه . . . فيه نلذ ولا لذات للشيب
ويروى أيضاً :
أودى الشباب حميداً ذو التعاجيب . . . أودى وذلك شأو غير مطلوب
ولى حثيثاً وهذا الشيب يطلبه . . . لو كان يدركه ركض اليعاقيب
يروى ركض بالرفع والنصب ، فمن رفعه جعله فاعل يدركه ، وأراد به أن هذا الطائر ، على سرعة طيرانه لا يدرك الشباب إذا ولى ، فكيف يدركه غيره ؟ ومن نصبه نصبه بفعل مضمر تقديره ولى يركض ركض اليعاقيب ، وجعله من جملة صفة الشباب ، وجعل فاعل يدركه ضمير الشيب المستتر فيه ، ويصير في البيت تقديم وتأخير ، وتقديره : ولى الشباب حثيثاً يركض ركض اليعاقيب ، وهذا الشيب يطلبه لو كان يدركه ، والمراد باليعاقيب : ذكور القبج ، وقال بعضهم : إنه هنا العقاب ، والمشهور الأول . واليعقوب والقبج والحجل راجع إلى نوع واحد ، ووصفه أبو علي بن رشيق(2/560)
"""""" صفحة رقم 561 """"""
بأبيات منها :
ما أغربت في زيها . . . إلا يعاقيب الحجل
جاءتك مثقلة الترا . . . ئب بالحلى وبالحلل
صفر العيون كأنها . . . باتت بتبر تكتحل
وتخالها قد وكلت . . . بالنوت والصوت الزجل وكأنما باتت أصا . . . بعها بحناء تعل
من يستحل لصيدها . . . فأنا امرؤ لا أستحل
ومن حكمه : أنه يجب الجزاء بقتل المتولد بين اليعقوب والدجاج ، قاله الرافعي ، في الحج وهذا يرد قول من قال : إن المراد في البيتين الأولين هو العقاب ، فإن التناسل لا يقع بين الدجاج والعقاب ، وإنما يقع التناسل بين حيوانين بينهما تشاكل وتقارب في الخلق كالحمار الوحشي والأهلي والظبي والشاة ، فإذا عرف هذا فالمراد الدجاج البري ، وهو في الشكل واللون قريب من الدجاج الإنسي .
اليعملة : الناقة النجيبة المطبوعة على العمل ، والجمع يعملات ، ومنه قول عبد الله بن رواحة لزيد بن أرقم رضي الله تعالى عنهما :
يا زيد زيد اليعملات الذبل . . . تطاول الليل هديت فانزل
وقيل : بل قال ذلك في غزوة مؤتة لزيد بن حارثة رضي الله تعالى عنه .
اليمام : قال الأصمعي : هو الحمام الوحشي ، الواحدة يمامة ، وقال الكسائي : هي التي تألف البيوت ، واليمامة اسم جارية زرقاء ، كانت تبصر الراكب من مسيرة ثلاثة أيام ، قال الجاحظ : إنها كانت من بنات لقمان بن عاد ، وأن اسمها عنز ، وكانت هي زرقاء ، وكانت الزباء زرقاء ، وكانت البسوس زرقاء ، وهي أول من اكتحل بالإثمد من العرب وهي التي ذكرها النابغة في قوله :
واحكم كحكم فتاة الحي إذ نظرت . . . إلى حمام شراع وارد الثمد
وقد تقدم في حرف الحاء .
فائدة : قال في ابتلاء الأخيار بالنساء الأشرار : النساء اللاتي يضرب بهن المثل خمس وهي : زرقاء اليمامة والبسوس ودغة وظلمة وأم قرفة . أما الزرقاء فيقال : أبصر من زرقاء اليمامة ، وهي امرأة من بني نمير ، كانت باليمامة تبصر الشعرة البيضاء في الليل ، وتنظر الراكب من مسيرة ثلاثة أيام ، وكانت تنذر قومها بالجيوش إذا غزتهم ، فلا يأتيهم جيش إلا وقد استعدوا له ، فاحتال عليها بعض من غزاهم ، فأمر أصحابه فقطعوا شجراً وأمسكوها بأيديهم ، أمام معسكره فنظرت(2/561)
"""""" صفحة رقم 562 """"""
الزرقاء فقالت : إني أرى الشجر قد أقبلت إليكم فقال لها قومها : قد خرفت ، وذهب عقلك ، ورق بصرك ، كيف تأتي الشجر ؟ قالت : هو ما أقول لكم . فكذبوها فصبحتهم الخيل ، وأغاروا عليهم ، وقتلوا الزرقاء ، وقوروا عينيها ، فوجدوا عروق عينيها قد غرقت في الإثمد من كثرة ما تكتحل به .
وأما البسوس فيقال : أشأم من البسوس ، وهي خالة جساس بن مرة بن ذهل بن شيبان ، ولها كانت الناقة التي قتل من أجلها كليب بن وائل ، وبها ثارت حرب بكر وتغلب التي يقال لها حرب البسوس .
وأما دغة فيقال : أحمق من دغة وهي امرأة من بني عجل تزوجت من بني العنبر .
وأما ظلمة فيقال : أزنى من ظلمة وهي امرأة من هذيل زنت أربعين سنة ، وقادت أربعين عاماً ، فلما عجزت عن الزنا والقيادة ، اتخذت تيساً وعنزاً ، فكانت تنزي التيس على العنزة ، فقيل لها : لم تفعلين ذلك . قالت : لأسمع أنفاس الجماع بينهما .
وأما أم قرفة ، فيقال : أمنع من أم قرفة ، وهي امرأة مالك بن حذيفة بن بدر الفزاري ، وكانت تعلق في بيتها خمسين سيفاً ، كل سيف منها لذي محرم لها .
وقد سئل ابن سيرين عن النساء فقال : مفاتيح أبواب الفتن ومخازن الحزن ، إن أحسنت المرأة إليك منت عليك ، تفشي سرك وتهمل أمرك ، وتميل إلى غيرك . وقيل : النساء ريحان بالليل شوك بالنهار . وقيل لبعض الحكماء : مات عدوك فقال : وودت أنكم قلتم تزوج . وقيل : العجز في ثلاث خصال : قلة اكتراثه في مصلحته ، وقلة مخالفته لشهوته ، وقبوله من امرأته فيما لا يعلمه . وقال بعض الحكماء : لا تأمنن قارئاً على صحيفة ، ولا شاباً على امرأة . وقال غيره : لا مصيبة أعظم من الجهل ، ولا شر أشر من النساء انتهى .
الحكم : يحل أكل اليمام وبيضه بالاتفاق ، وقد تقدم في باب الحاء المهملة في الحمام .
الأمثال : قالوا : كن مع الناس يمامة يعني أرفق بهم ولا تنفرهم . وخواصه وتعبيره كالحمام .
اليهودي : حوت في البحر ، وقد تقدم الكلام عليه في باب الشين المعجمة .
اليوصي : بفتح الياء والواو وكسر الصاد المهملة المشددة ، طائر بالعراق أطول جناحاً من الباشق ، وأخبث صيداً وهو الحر .
وحكمه : الحرمة كما تقدم ، في باب الحاء المهملة .(2/562)
"""""" صفحة رقم 563 """"""
اليعسوب : اسم مشترك يقع على طائر نحو الجرادة ، له أربعة أجنحة لا يقبض له جناحاً أبداً ولا يرى أبداً يمشي إنما يرى واقفاً على رأس عود ، أو طائراً وقال الجوهري : هو أطول من الجرادة لا يضم جناحه ، إذا وقع شبهت به الخيل المضمرة قال بشير :
أبو ظبية شعث تطيف بشخصه . . . كوالح أمثال اليعاسيب ضمرا
ثم قال : والياء فيه زائدة ، لأنه ليس في الكلام فعلول غير صعفوق .
وذكر ابن خلكان ، في ترجمة الحسن بن عبد الله العسكري ، قال : مرض صخر بن عمرو بن الشريد ، وطال مرضه وكانت أمه وزوجته سليمى يمرضانه فسئلت زوجته يوماً عن حاله ، وكانت قد ضجرت منه ، فقالت : لا هو حي فيرجى ولا ميت فيبكى ، فسمعها صخر فأنشد قائلا :
أرى أم صخر لا تمل عيادتي . . . وملت سليمى مضجعي ومكاني
وما كنت أخشى أن أكون جنازة . . . عليك ومن يغز بالحدثان
لعمري لقد نبهت من كان نائماً . . . وأسمعت من كانت له أذنان
وأي امرئ ساوى بأم حليلة . . . فلا عاش إلا في شقا وهوان
أهم بأمر الحزم لو أستطيعه . . . وقد حيل بين العير والنزوان
فللموت خير من حياة كأنها . . . معرس يعسوب برأس سنان
وفي حديث مصعب : " لولا ظمأ الهواجر ما باليت أن أكون يعسوباً " . قال ابن الأثير : المراد هاهنا فراشة مخضرة تطير في الربيع ، وقيل : وهو طائر أعظم من الجرادة ، ولو قيل : إنه النحل لجاز ، واليعسوب اسم فرس للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) وأخرى للزبير رضي الله تعالى عنه ، وقيل : إنها إحدى الأفراس الثلاثة التي كانت للمسلمين يوم بدر على اختلاف فيه . واليعسوب يطلق على الغرة المستطيلة في وجه الفرس ، وعلى دائرة عند مربض الفرس ، وعلى ضرب من الحجلان ، حكاه الدمياطي ، في كتاب الخيل . والمربض بكسر الميم وبالضاد المعجمة مكان الفرس .
وفي الحديث : " صلوا في مرابض الغنم ولا تصلوا في أعطان الإبل " . والمرابض المبارك ، وربض الأسد أي رقد . وقال الجاحظ : اليعاسب هي كبار الذباب انتهى .
واليعسوب ملك النحل وأميرها الذي لا يتم لها رواح ولا إياب ولا عمل ولا مرعى إلا به ، فهي مؤتمرة بأمره سامعة له مطيعة ، وله عليها تكليف وأمر ونهي وهي منقادة لأمره ، متبعة لرأيه ، يدبرها كما يدبر الملك أمر رعيته ، حتى إنها إذا أوت إلى بيوتها ، وقف على باب البيت فلا يدع واحدة تزاحم أخرى ، ولا تتقدم عليها ، في العبور بل تعبر بيوتها واحدة بعد واحدة بعد واحدة بغير تزاحم ولا تصادم ، ولا تراكم كما يفعل الأمير إذا انتهى بعسكره إلى معبر ضيق لا يجوزه إلا(2/563)
"""""" صفحة رقم 564 """"""
واحد بعد واحد . وأعجب من ذلك أن أميرين منهما ، لا يجتمعان في بيت ، ولا يتأمران على جمع واحد ، بل إذا اجتمع منها جندان وأميران قتلوا أحد الأميرين وقطعوه واتفقوا على الأمير الواحد من غير معاداة منهم ، ولا أذى من بعضهم لبعض ، بل يصيرون يداً واحدة .
روى ابن السني ، في عمل اليوم والليلة ، عن أبي أمامة الباهلي رضي الله تعالى عنه ، عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال : " إن أحدكم إذا أراد أن يخرج من المسجد ، تداعت جنود إبليس واجتمعت كما تجتمع النحل على يعسوبها ، فإذا قام أحدكم على باب المسجد ، فليقل : اللهم إني أعوذ بك من إبليس وجنوده ، فإنه إذا قالها لم تضره " .
ومن لفظ اليعسوب ، قيل للسيد يعسوب قومه . وقال علي رضي الله تعالى عنه ، لما رأى عبد الرحمن بن عتاب بن أسيد مقتولا ، يوم الجمل : هذا يعسوب قريش ، ثم قال : جدعت أنفي وشفيت نفسي . وكان عبد الرحمن يقاتل ذلك اليوم ويقول :
أنا ابن عتاب بسيف ولول . . . والموت دن الجمل المجلل
وقاتل قتالا شديداً في ذلك اليوم ، وقطعت يده يومئذ ، وكان فيها خاتم ، فاختطفها نسر فطرحها باليمامة ، فعرفت بخاتمه فصلوا عليه . وبالجملة ، فقد اتفقوا على أن يده احتملها طائر في وقعة الجمل ، فألقاها بالحجاز ، فصلوا عليها ودفنوها .
واختلفوا في الطائر ما هو وفي أي مكان ألقاها ؟ فقيل : حملها نسر وألقاها باليمامة في ذلك اليوم كما تقدم . وقال ابن قتيبة : حملتها عقاب ، فألقتها في ذلك اليوم باليمامة . وقال الحافظ أبو موسى وغيره : ألقاها بالمدينة . وقال الشيخ ، في شرح المهذب : ألقاها بمكة . وفي صحيح مسلم ، من حديث النواس بن سمعان الطويل ، أن الدجال تتبعه كنوز الأرض ، كيعاسيب النحل أي تظهر له وتجتمع عنده كما تجتمع النحل على يعسوبها .
ولما مات أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه ، قام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه ، على باب البيت الذي هو مسجى فيه ، فقال : كنت والله يعسوباً للمؤمنين ، وكنت كالجبل لا تحركه العواصف ، ولا تزيله القواصف . فمثله علي كرم الله وجهه باليعسوب في سبقه للإسلام غيره ، لأن اليعسوب يتقدم النحل إذا طارت فتتبعه ، والعواصف الريح المهلكة في البر ، والقواصف الريح المهلكة في البحر . قال الله تعالى : " ولسليمان الريح عاصفة " وقال الله تعالى : " فيرسل عليكم قاصفاً من الريح فيغرقكم بما كفرتم " .
وفي كامل ابن عدي ، في ترجمة عبد الله بن واقد الواقفي ، وفي ترجمة عيسى بن عبد الله بن محمد بن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه ، أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال لعلي رضي الله تعالى عنه : " أنت يعسوب المؤمنين والمال يعسوب الكفار " . وفي رواية : يعسوب الظلمة وفي رواية : يعسوب(2/564)
"""""" صفحة رقم 565 """"""
المنافقين ، أي يلوذ بك المؤمنون ، ويلوذ الكفار والظلمة والمنافقون بالمال كما تلوذ النحل بيعسوبها . ومن هنا قيل لأمير المؤمنين علي كرم الله وجهه أمير النحل .
وهذا ما انتهى إليه الغرض ، مما يحصل به في هذا الشأن الاكتفاء ، وختم بملك النحل الذي استخرج الله من لعابه الشمع والعسل ، وجعل أحدهما ضياء والآخر شفاء وابتدئ بملك الوحش الذي منه الشجاعة تقتفى . وصلى الله وسلم على سيدنا محمد المصطفى ، ورضي الله عن آله وعترته وصحبه أهل الفضل والوفا ، وحسبنا الله وكفى .
قال مؤلفه ، فقير رحمة الله تعالى : وكان الفراغ من مسودته في شهر رجب الفرد سنة ثلاث وسبعين وسبعمائة جعل الله ذلك خالصاً لوجهه الكريم ، وموجباً للفوز في دار النعيم ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .(2/565)